مقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله تعالى، والصّلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي علّمنا الله سبحانه على يديه الكتاب والحكمة.
وبعد
لعل من الواضحات التي لا لبس فيها ما نراه الآن من اشتداد الحرب على العقيدة الموحدة لله تعالى، والشريعة المطهرة، هذه الحرب تأتي من كل مكان من الخارج، ومن الداخل، أما من الخارج فهذا أمر لا يثير كثيرا من ضيقنا بل يشحذ همتنا، ثم لأنك لا تنتظر من عدوك خلاف ما حذرك الله منه: {وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ حَتََّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} (120) [البقرة: 120].
ثم يأتي الردّ القاطع بضلال هؤلاء الأعداء وأنهم ليسوا على شيء من الهدى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ}.
ثم يأتي التحذير الشديد والوعيد الأكيد لكل من ظنّ أنّ في اتباعهم صلاح أو فلاح، وأنّ ترك بعض الدين لمظنّة بعض الهدى عندهم ليس إلّا تكذيبا لرب العالمين، وصدا عن سبيله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} فالعلم النافع كله في دين الله تعالى، ظاهرا لا غموض فيه، بينا لا لبس فيه، إلا هو: كتاب الله تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولعل بعض الطيبين يعتقد أن هؤلاء الأعداء قد يكون عندهم بعضا من حسن النيّة تجاهنا، فحسم القرآن ذلك وحكم عليه بالبطلان التامّ حين بدأ الآية بالنفي {وَلَنْ تَرْضى ََ}.
فيعتقد بعضنا حسن النيّة تجاههم حتى ولو كانوا يأمرون بما يخالف الدين وينهون عن
صريح الدين، بما نسميه الآن: بالحرب الفكرية، ويتحججون بقوله تعالى: {لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (8) [الممتحنة: 8].(1/7)
فيعتقد بعضنا حسن النيّة تجاههم حتى ولو كانوا يأمرون بما يخالف الدين وينهون عن
صريح الدين، بما نسميه الآن: بالحرب الفكرية، ويتحججون بقوله تعالى: {لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (8) [الممتحنة: 8].
فالله تعالى جعل من كمال دينه الإحسان إلى الخلق كلهم حتى الدواب، وهنا يبيّن لنا رفع الحرج عنا إن نحن عاملنا من لم يقاتلنا أو يساعد على قتالنا أو إخراجنا من ديارنا أن نعامله بالحسنى والعدل، أما الذين يجتمعون لقتالنا ماديا ومعنويا لا برّ لهم ولا قسط معهم.
ويرى كل الخلق كيف يتعامل المسلم مع أهل الكتاب في بلاد الإسلام خصوصا الشرقية منها، حيث ترى الإحسان والفضل وحسن الجوار، بخلاف هؤلاء الذين لا يأمن المسلم على نفسه أو ماله وسطهم وهي دول تدعي الديموقراطية وحرية الرأي.
أقول: نحن لا نحزن كثيرا إن جاء الضرر من هؤلاء الأعداء الخلص، إنما نحزن حين يأتي من أبناء جلدتنا، ممّن يتحدثون بألسنتنا وقلوبهم مع عدونا.
وهذا الفريق أخطر على الإسلام من الكافر الصريح لأن هؤلاء المنافقون يحاربون الشريعة تارة بحجة تشددها، ويحاربون العقيدة بحجة تميزها وتفريقها بين الخلق، ويحاربون السلوك والأخلاق بحجة عدم تعسير الحياة على الناس، فالفضيلة عائق أمام الحرية والإبداع والانطلاق إلى العالمية ورضى أسيادهم علينا، ولا يهم بعد ذلك عندهم رضى الله تعالى!!
لأنهم في البدء لا يعرفون الله تعالى ولا يقدرونه حق قدره، فأسقطوا هذا الجهل على الدين فأصبحوا يتكلمون فيه بلا علم، إنما بأفكار لها في الغرب والشرق، وثمارها لأمة الإسلام حنظلا، حتى لا تقف على أرض العقيدة، ولا تستظل بظل الشريعة ولا تتحرك بنور الفضيلة. فلا يبقى حصن أمامهم إلّا وقد هدموه فينشأ ناشئ الفتيان منا مسخ، لا هو مسلم مستقيم ولا هو إنسان عاقل، فلا ينتفع به في دين ولا دنيا ولا يعرف منفعته من مضرته، بل لا يبقى له من الإسلام إلّا الاسم ولا من العقل إلّا القشر!!
وأعداء الله تعالى الآن لا يعرضون ولا يلمحون في حربهم الشريعة والعقيدة، بل حرب صريحة مكشوفة.
فهم يكيلون للحدود الإسلامية شتى ألوان الصفات التي إذا قرأها القارئ اقشعر بدنه وظنّ في هذه الأمة من صفات الهمجية الكثير، فهي تقطع الرقاب، والأيدي، وترجم بالحجارة العشاق وأهل الحب أو تجلدهم، وتقطع رقاب المفكر الذي يدعو إلى ترك الإسلام والردة، لأن الاعتقاد أمر شخصي لا دخل لأحد فيه!(1/8)
وأن الحفاظ على عفة البنات وظهر النساء موروث فرعوني لا قيمة له، مع أنهم يقدسون الفراعنة وينسبون كل فضيلة لهم، ولكنه الهوى!!
إذا الحرب علانية والمجاهرة بالعداء ظاهر، وليست سرا أو تورية!!
والمنافقون إخوانهم يسيطرون على الأقلام والصحف، وعلى الإذاعات والسينما والمسارح التي كلها أبواق لتشكيل الإنسان وفق المخطط المدروس بدقة، وهي وسائل الثقافة الآن وللأسف.
ولكن!! إياك ثم إياك!! أن تظن ظن السوء بربك أو بدينك، بتسرب اليأس والقنوط إلى نفسك من النصر أو الإصلاح!!
فإن من ظنّ السوء بالخالق أن تعتقد أنه لا ينصر رسله ويعلي رسالتهم، وهو قد وعدنا بالنصر والعزة فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) [التوبة: 33] و [الفتح: 38] و [الصف: 9] وكلها سور مدنية، حتى لا يعتقد بعضهم أن الظهور كان على أهل مكة، ودينهم الوثني فحسب، لكن على دين أهل الكتاب وكتبهم التي حرفوها كذلك، وأهل الكتاب في ذلك الوقت هم القوى العظمى عند البشر.
لكن تعالوا ننظر إلى الآية السابقة لها من سورة التوبة وهي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} (32) [التوبة: 32].
فهم يبذلون الجهد والمال لإطفاء نور الحق، ولكن كيف يطفئون نورا أذن الله له أن يشرق؟ وهو القرآن الكريم، كلام الله تعالى وروح منه، ولا حياة إلّا بالروح، ومن أذن الله له بالحياة كيف يمته مخلوق؟
ونور الله تعالى أيضا الدلالات والحجج والبراهين على صحة توحيده وأنه الحق، ولا حق سواه، فهم في شغل لتكذيب الحق، العناد والكبر، أساس تكذيبهم.
فإذا كان يوم القيامة {وَنَزَعْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنََا هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلََّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} (75) [القصص: 75].
وانظر إلى قوله تعالى {بِأَفْوََاهِهِمْ} لتعلم خطر صناعة الإعلام المعاصر من صحافة وإذاعة وتلفاز ودشات «وشبكات النت» وغير ذلك من شتى أنواع الدعايات التي تبث التكذيب والتضليل للصد عن سبيل الله تعالى، ونحن أولى بهذه الوسائل لنشر دين الله تعالى وهو الحق المبين.(1/9)
ثم تأمل قوله تعالى {وَيَأْبَى اللََّهُ} لتعلم وتتيقن أن الدين منتصر، وأن هذا الإباء فيه ما فيه من أسماء الحق تعالى وصفاته ما لا يحصي معناه إلّا الله تعالى.
فكيف ينهزم هذا الدين؟ وإن تخاذل أصحابه عن نصره؟!
ثم تأمل معنى {أَنْ يُتِمَّ} فهو يتضمن الكمال المقصود في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً} [المائدة: 3].
وهذا تمّ في حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم، ويتضمن أيضا الانتشار في بقاع الأرض شرقا وغربا شمالا وجنوبا، سهلا وجبلا، ويشمل الغني والفقير، والقوي والضعيف، والرجال والنساء، كلهم يدخلون في دين الله تعالى ويكون الدين أحبّ إليهم من أنفسهم، يعيشون ليرفعوا راياته وينشروا أنوار الحق فيه، وتهون النفس استشهادا في سبيله وتراق الدماء محبة له.
ثم تأمل قوله تعالى في الآية (33) {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} نرى أولا أهم أسباب الظهور:
إن هذه الرسالة المحمدية على الهدى التام، والتي بيانها في قوله تعالى: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
فهو يهدي للطريقة الأقوم، والسبيل الأعدل، والأسدد قولا وفعلا والأصوب حكما:
1 - في العقيدة: حيث التوحيد الخالص، والتنزيه التام لله تعالى، والتعظيم الكامل مع التوقير الحق الوافر له سبحانه.
2 - في الشريعة: بأقسامها من عبادات ومعاملات إلخ. حيث لا تجد شيئا منها إلّا وهو صالح ومصلح للإنسان، ولو فتشت سنين عدة، وأرجعت بصرك مرارا ما وقفت على شرع مثل هذا الشرع، يقود الإنسان إلى ربه بأحكم تشريع وأيسره.
3 - في الأخلاق: حيث العفة، الطهارة، والتزكية، والاستقامة، مما يصنع إنسانا يتحرك بنور الله إلى نور الله، فهو يتكلم بطاعته، ويفعل ما يرضي خالقه تعالى.
ومع هذا يحاسب نفسه ويظن بها الظنون، حتى لا تحرقها نار الكبر، ولا تفتنها شهوة العجب، بل بين الخوف والرجاء يسير ويتحرك.
ولو استعرضنا بعض المعاني في قوله تعالى {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} لصنعنا مجلدة ضخمة، ولكن من تأمل هذه الشريعة الغراء لوقف على صدق ما نقول (1).
__________
(1) انظر تفسير الآية للعلامة الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 372).(1/10)
إذا فهذه الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم كاملة الهدى في تمام، وتامّة الحق مع كمال.
{وَدِينِ الْحَقِّ} هنا لبيان أن خلافه باطل، لا حق فيه، وإن ادعى أصحابه ذلك، والحجة والبرهان تثبتان اشتمال دين الله على الحق وأنه لا حق إلّا في دين الله تعالى.
ثم قف وتأمل قوله تعالى {لِيُظْهِرَهُ}: هذا الظهور كان مع كمال الدين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أظهره على أهل مكة ثم جزيرة العرب من نصارى نجران ويهود المدينة، وغيرهم من الطوائف والوفود التي أقبلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم داخلة في دين الله تعالى أفواجا.
ثم هذا الظهور والعلو في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وانتصاره على المرتدين والمكذبين، ثم أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما، حيث الفتوحات شرقا وغربا، إلى الفتوحات الكبرى التي جعلت دين الله تعالى يظهر من شرق الصين إلى غرب إفريقيا وجنوبها، إلى جنوب أوروبا وغربها وشرقها إلى بلاد البلقان، إلى أوساط روسيا ثم اليابان شرق آسيا، فشبه القارة الهندية، ثم الجزر الأندونيسية وما يحيط بها ثم استراليا.
ثم بعد ذلك أمريكا الشمالية والجنوبية إلى حيث لا توجد بقعة على الأرض إلّا وينادى فيها «لا إله إلّا الله محمد رسول الله».
وهذا الإقبال على الدين الحق والدخول فيه تراه في حال القوة، كما تراه عند ضعف المسلمين كما هو الحال الآن ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
فقد أسلم في أمريكا وحدها بعد أحداث 11سبتمبر (2001م) عشرون ألفا (1) فضلا عن نفاد كل ما يوجد من كتب بالمكاتب الفرنسية وغيرها والتي تتحدث عن الإسلام.
ولو ترك الأمر للدعاة ينشرون دين الله تعالى، دون قيد أو تخويف أو حبس أو تعطيل لرأينا عجبا، وقد نرى أحيانا ونسمع ما لا يصدقه عقل من إسلام أوروبيين وأمريكيين حتى أهل القبائل البسيطة في إفريقيا.
ثم ماذا نعم، ثم ماذا بعد هذه المقدمة التي أرجو من الله تعالى أن يصدقنا فيها النية والتي ما أردت من ورائها إلّا رجاء الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا على ديننا، ويرد كيد المنافقين والمرجفين
__________
(1) نشر هذا في عدة صحف عربية ودولية وعلى مواقع في شبكة الأنترنت.(1/11)
أردت أخي القارئ الكريم أن نصل إلى اليقين بعظمة ديننا وصلاحه لكل زمان ومكان ولكن لا بد أن نسعى لتعلمه وتعليمه، ونشره (1).
ومن هذا المنطلق كان انشغالي بعلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ومن وقت طويل، لما خص الله به تعالى ابن القيم رحمه الله تعالى من فهم وعلم وصدق.
وهنا أردت أن أضم كلامه في كل باب من أبواب الدين مع بعضه حتى يكون كلام هذا الإمام مجموعا تحت عينيك مما يسهل البحث في الموضوع الواحد. فكانت أول ثمار هذه الشجرة الطيبة:
مصنفات المحقق
(1) كتاب: «بدائع التفسير»:
وكان من أوائل هذا الجهد الذي أسأل الله تعالى أن يتقبله مني وينفعني والمسلمين به.
وهو «في خمس مجلدات» (2)، وقد حاولت قدر جهدي إخراج كلام الإمام ابن القيم في التفسير مستوفيا، وجعل التفسير في طبعته الجديدة التي أقوم بها الآن أكثر رونقا وفائدة للقارئ، مع إنزاله على أسطوانة لأجهزة الحاسوب (الكمبيوتر).
وهذا التفسير يجعل قارئه يكوّن نظرة شاملة دقيقة لمنهج مدرسة سلفية كبرى في التفسير منذ الطبري إلى ابن كثير فابن تيمية، لأن قواعد هذا العلم وأدواته استقاها ابن القيم رحمه الله تعالى من شيخه كما هو موضح في مقدمة بدائع التفسير (3).
هذا وترى إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسيره ينحى منحى التربية والسلوك وما «يشكّل» الوضع الاجتماعي بما يوافق الأخلاق الإسلامية، فلا تكاد تمر بك آية إلّا وتحتها من ألوان الأدب العالية، ما يجعلك تحقق من أهم معاني قوله تعالى {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) بل تجزم أن تفسير ابن القيم للقرآن لا يخرج عن كونه بيانا لهذه الآية الكريمة.
وتأمل حديثه عن تحويل القبلة في سورة البقرة والفوائد المستخلصة من غزوة بدر.
__________
(1) وتقوم بذلك بالطريقة التي تحبب الناس في ديننا لا تكرههم فيه، وتيسر على الناس لا تشدد عليهم، وأن يرى على وجوهنا البشر والسماحة لا العبس والضيق، بما يشعر الآخرين بخلاف مقصدنا.
(2) ونحن الآن بصدد إعادة طبعه طبعة جديدة تشتمل على أكثر من [200] موضعا، مع فهرسة شاملة وافية.
(3) وسيأتي الكلام عن ذلك عند الحديث عن «البدائع في علوم القرآن».
(4) كما سبق الإشارة إلى ذلك.(1/12)
وتأمل كلامه عن قصة يوسف، وغير ذلك من المواضع المبهرة الدالة على عقل راجح، وفكر مشرق، يفخر به المسلمون، والذي لو تدبره الناس وتدارسوه لاستغنوا عن كثير من الجهالات، التي بهرت أجيالا كاملة من شباب الأمة، وليس هذا إلّا بسبب جهلنا بديننا وابتغائنا العزة في غيره.
(2) كتاب: «جامع الفقه»
ثم كان كتابي: «جامع الفقه» (1) وهو في سبع مجلدات وقد اعتنى به إخواني في دار الوفاء، لإخراجه في صورة مبهرة من فهارس وطباعة.
وهذا الكتاب رتب وفق كتب المذهب الحنبلي، حتى يسهل الوقوف على مسائل الفقه في يسر، مع سهولة ذلك أيضا من خلال الفهارس، وقد جعلت في أوله باب النية اقتداء بالإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه وقد لقي هذا استحسانا من كثرة وافرة من أهل العلم وطلابه والحمد لله رب العالمين.
(3) كتاب: «جامع الآداب»:
وهو في أربع مجلدات جمعت فيه أبواب الأخلاق والسلوك، كما وضحته في مقدمته (2).
(4) «جامع السيرة»:
جمعت فيه السيرة النبوية في مجلد، بما يمكّن القارئ من الوقف على أهم الأحداث التي تمّت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبيّنت في مقدمته ذلك، وبيان أنه مع صغر حجمه لكنه من دقائق السيرة وفقهها (3).
(5) «المختار من الفتاوى»:
وسوف يصدر بحول الله تعالى في مجلدين كبيرين وقد رتبته على أبواب العلم:
__________
(1) أصدرته «دار الوفاء» في سبع مجلدات لصاحبها أخي وصديقي المحترم المهندس عاصم شلبي وهو مثال للأخوة والرجولة جزاهم الله خيرا.
(2) وسوف يعاد تحقيقه على الصورة المثلى إن شاء الله تعالى مع إعادة بعض الترتيب، حيث خرج في ظل أحوال حالت بيني وبين مكتبتي نسأل الله العافية والسلامة.
(3) واعتنت بنشرها دار الوفاء، جزاهم الله خيرا.(1/13)
أولها: العقيدة، الفقه وهكذا وهو على صورة سؤال وجوابه.
وقد انتقيت فيه أهم المسائل التي هي أقرب إلى الواقع الآن، بحيث يصبح مرجعا يسيرا لهذه الأبواب على غرار الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عليه، وفصلت ذلك في مقدمته (1).
(6) ثم كان: «البدائع في علوم القرآن»:
وهو كتاب لطيف حاولت بعون الله تعالى جمع ما تكلم فيه ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه العلم الشريف.
وجعلت هذا العمل كالمقدمة لكتابي الكبير «بدائع التفسير» بحيث يضم إليه لتكون مكتبة التفسير وعلومه لهذا الإمام الجليل.
وإليك التفصيل:
1 - فصل في:
أتعريف «علوم القرآن» من حيث التركيب:
يتكوّن هذا التركيب الإضافي من جزءين:
«علوم» وهو المضاف.
و «القرآن» وهو المضاف إليه.
والمقصود من الجزء الأول منه وهو «علوم» وهو جمع «علم» ويقصد به:
تلك المسائل التي يبحث عنها في هذا العلم.
أما المضاف إليه وهو «القرآن الكريم»:
فهو كلام رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين جبريل، على قلب خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين.
ولفظ «القرآن» مصدر مرادف للقراءة، لقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذََا قَرَأْنََاهُ}
__________
(1) يقوم الآن الأخوة الكرام «بدار المعرفة» بنشره هو و «البدائع في علوم القرآن».(1/14)
{فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18) [القيامة: 1817].
وقال بعض أهل العلم أنه من القرء بمعنى الجمع أو من قرنت الشيء بالشيء
إلخ (1).
وبذلك يدخل تحت هذا المعنى: علم التفسير وشروطه، وشروط المفسر، وإعجاز القرآن، والقراءات، وأسباب التنزيل، والناسخ والمنسوخ، إلى آخر تلك المباحث المتعلقة بهذا التعريف من حيث كونه مركبا إضافيا.
وأما من ناحية معنى «علوم القرآن» كعلم، فيراد به:
تلك الأبحاث الدالة على الفن المدون تحته أبحاث نزول القرآن وبدء الوحي ومكانه وزمانه، إلى آخره.
وعلى هذا فعلم «علوم القرآن» من ناحية كونه مركب إضافي، أو من ناحية كونه علما فهو العلم الذي مداره دراسة ما يتعلق بهذا الكتاب العظيم. ولن نخوض في قضايا منطقية مفتعلة حول بعض الأبحاث المتعلقة بالتعريف وكونه للكليات لا للجزئيات فنحن نبحث الأمر على قواعده الأولى، قبل أن يخالط الماء الخبث، ودخول الريب على العقول.
2 - إذا فعلم «علوم القرآن» يندرج تحته كمّ هائل من العلوم، جعله غير واحد من أهل العلم كباب مستقل، كما سيأتي.
فهل لهذه العلوم حصر أم متجددة؟
ذهب بعض أهل العلم (2) إلى أن علوم القرآن الكريم تبلغ (77450) سبعون ألف وسبعة آلاف وأربعمائة وخمسون علما.
يعني: على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، لأن لكل كلمة ظهرا وبطنا، وحدا ومطلعا.
وهذا في المفردات، أما باعتبار التراكيب وما بينها من روابط فهي لا تحصى، ولا يعلمها إلّا الله تعالى.
__________
(1) انظر لسان العرب مادة قرأ، وكتاب العلم للشافعي 12، والرسالة ص 14ومقدمة تفسير ابن عطية (281).
(2) الإمام أبي بكر ابن العربي رحمه الله تعالى.(1/15)
وذهب إلى ذلك كثير من الباحثين خاصة أرباب الإشارات، ومال له أيضا السيوطي في الإتقان.
والمتتبع بحياد ما دوّن مفصلا في هذا الفن يعلم أن الأمر فيه من المبالغة ما يفوق حد العقل والواقع.
وليس معنى هذا أنه علم حصر واحترق لا! بل يفتح الله تعالى على عباده من الأفهام التي تستنبط وتفصل في هذه العلوم، ما قد يكون له حظ وافر من قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنََا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (109) [الكهف: 109].
كما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله تعالى.
3 - وحتى يتعايش القارئ الكريم مع ما ذكر، نذكر أشهر وأهم تلك العلوم التي اشتهر عن علماء هذا الفن وضعها تحت ظلاله:
1 - علم بدء الوحي وكيفيته.
2 - علم معرفة المكي والمدني.
3 - علم معرفة أول ما نزل وآخره.
4 - علم معرفة أسباب النزول.
5 - علم معرفة الناسخ والمنسوخ.
6 - علم معرفة جمع القرآن وترتيبه.
7 - علم نقل القرآن وروايته وتحمله وكتابته.
8 - علم الوقف والابتداء وجميع أبحاث علم القراءات.
9 - علم آداب تلاوته.
10 - علم معرفة غريب القرآن.
11 - علم لغة القرآن وهل فيه غير العربية.
12 - علم المحكم والمتشابه.
13 - علم المجمل والمبين.
14 - علم العام والخاص.(1/16)
15 - علم المطلق والمقيد.
16 - علم حقيقته ومجازه.
17 - علم إعجاز القرآن.
18 - علم أقسام القرآن.
19 - علم قصص القرآن.
20 - علم التفسير وأدوات المفسر (1).
* * * إذا فأبحاث «علوم القرآن» لا تترك صغيرة ولا كبيرة تتعلق بهذا الكتاب المبارك إلّا وقد أفاضت في دراسته وبحثه.
وهنا نذكر أن جل هذه الأبحاث أساسها اللغة العربية حيث هي لغة القرآن الكريم، وهي الضابط للباحث، والمتتبع لكتاب مثل الإتقان وبدقيق النظر في كل فصوله يلحظ ذلك جليا.
فكان لزاما على أهل هذا الفن وهذا ما صنعوه يرحمهم الله تعالى الإحاطة بعلوم هذه اللغة المباركة إفرادا وتركيبا، مع التحقيق النحوي والبلاغي والصرفي، إلى آخر هذا الأبحاث الرئيسية والتي تتولد منها عشرات الأبحاث الفرعية حيث يؤدي ثماره يانعة مزينة للناظرين قريبة للطالبين.
4 - أما الحديث عن فائدة دراسة «علوم القرآن» ففي غاية البيان، ولا بأس بذكر بعضها:
فمن أهمها التسلح بأدوات صحيحة الأصل والمعنى لخوض فهم هذا القرآن الكريم.
وهذا علم التفسير ينبئك عن هذا: فلو لم يعرف المفسر ما ذكرناه آنفا من أبحاث تتعلق بهذا الفن كالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه إلخ كيف يتكلم عن تفسير القرآن لو لم يقف عليها مبنى ومعنى.
وهكذا لن يستطيع أحد الخوض في غمار هذا النور والسباحة بين شطآن نهره العذب إلّا
__________
(1) هذا ما قدرت عليه الذاكرة، وبعون الله وبحمده، أنتهي الآن في معجم «علوم القرآن»، وحيث رتبته «ألف باء» ولم أذكر فيه إلّا الغالب في تعريف المصطلح، مع الدقة في التعريف والإيجاز مع سهولة التناول والأسلوب، إن شاء الله تعالى.(1/17)
وقد أعد العدة وهي تجهزه بهذه الفنون.
فلو أراد الكتابة أو الحديث عن تاريخ القرآن، لاحتاج إلى علم القراءات وعلم تدوين القرآن ونقله وحمله وتواتره وحفاظه من الصحابة ومن بعدهم وكتابة المصاحف إلى آخر تلك الأبحاث.
والذي يريد أن يتكلم في إعجاز القرآن، لن يجد فنا من هذه الفنون المدونة في هذا العلم إلّا واحتاج إليها، خاصة لو نظرنا إلى الإعجاز يتوسع كما يراه بعضهم.
ومنه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وسيأتي الكلام عليه في موضعه، والله الموفق.
* * * ولما كان القرآن الكريم هو الكتاب الحق، والتنزيل الصدق، وهو الفرقان المبين، والذكر الحكيم، وهو أحسن الحديث، وأصدق القول، وهو الحكمة البالغة، والشفاء التام، والرحمة التامة، والهدى الكامل، وهو الصراط المستقيم، وحبل الله المتين، وهو البيان الباهر، والروح والبصائر، وهو القول الفصل والبرهان المهيمن، والنور المنزل، وهو القرآن العظيم الكريم، المجيد، المبارك، وهو حق اليقين، والنبأ العظيم.
أقول لما كان القرآن الكريم كذلك وفوق ذلك: كان هو مفجر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع الله تعالى فيه علم كل شيء، وأبان فيه الحق ليتبع ضده ليجتنب، فترى صاحب كل علم حق منه يغترف، وعليه يعتمد فالأحكام يستنبطها الفقيه منه، وصاحب العقيدة لا يخرج عنه، وصاحب اللغة به يحتمي، والنحوي كان له القرآن هو الميزان ليميّز بين خطأ القول من الصواب، وصاحب البلاغة هو له مرآة الحسن النظم والبيان، وصاحب التاريخ كان يضرب في صحراء الأسطورة حتى هداه القرآن على القصص الحق والخبر الصدق، وهو دواء القلوب لأرباب السلوك.
فقد صدق الله حين قال: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
فصل من القضايا التي أخذت حظا وافرا من البحث والتحقيق قضية «نشأة العلوم» ومتى كان بدء تدوينها.
وقد أفاض كثير من أهل العلم من أصحاب السير والتاريخ والتراجم بوضع كم وافر من الكتب التي تتحدث عن ذلك.(1/18)
ومن أهم العلوم التي كان لها حفظ وافر من ذلك التقيد: 1علم الفقه.
2 - علم أصول الفقه.
3 - علم النحو والصرف.
4 - علم الاعتقاد.
5 - علم قواعد الحديث.
6 - علم التفسير.
7 - علم القرآن.
وكان لكل علم منها موضع نظر كبير عند أهل العلم في بيان أول من تكلم فيه منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ثم التابعين إلخ.
ثم بيان أول من دون شيئا في هذا العلوم.
فمثلا: المتأمل في تاريخ تدوين علم «أصول الفقه» لا يكاد يقف على كتاب في أصول الفقه إلّا ويجد هذا الأمر إما باستفاضة أو اختصار.
وقد اشتهر عند الخاصة والعامة أن أول من وضع كتابا في أصول الفقه هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (1).
* * * أما علم «علوم القرآن» فله شأن آخر نبحثه في هذه الوقفات:
الوقفات الثلاثة فى علم علوم القرآن
1 - الوقفة الأولى في بدء كتابة وتدوين العلوم:
قد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة غير القرآن، كما جاء في الحديث الصحيح.
ثم أذن صلى الله عليه وسلم بالكتابة كما في حديث أبي شاه (2).
__________
(1) الإمام الكبير شيخ الإسلام الحجة، ناصر الحديث، فقيه الملة، أحد عجائب علماء الإسلام، انظر ترجمته رحمه الله تعالى ومصادرها في: سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 5).
(2) انظر في النهي عن الكتابة ثم الإذن في كتابة الحديث، في بحث رائع للدكتور / محمد عجاج الخطيب في «السنة قبل التدوين» (303) وما بعدها.(1/19)
فكان بجوار كتّاب الوحي المعظم، كان هناك كتّاب للحديث الشريف، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ثم كان بدأ التدوين آخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني تقريبا.
ولما كان نزول الوحي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأساس في بناء قواعد هذا الدين، وكانت السنة مبينة ومفسرة له، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة للتطبيق العملي الذي يرضى الله تعالى، كان كل ذلك كافيا للصحابة عن تدوين العلم بصورته اللاحقة بعد ذلك.
هذا مع تتابع أنوار الوحي والنبوة، ولهما من التأثير ما لا يحيط بأسراره إلّا الله تعالى، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم مقدمين في كل فضيلة سابقين لكل كمال، وهذا في جميع أنواع العلوم، وكان للقرآن الكريم حفظا وفهما وتفسيرا وإحاطة تامة بظاهره.
الحظ الوافر عندهم.
وكانوا أعلم الخلق بالأحكام والآداب والاعتقاد.
وهم مع كل هذا: الأعلى إخلاصا، والأطهر أفئدة، والأقوى فهما، والأدق استنباطا، والأصح دليلا، والأسلم قولا.
حتى ترى جملة من كلامهم يأخذ العالم في شرحها في أكثر من مائة صفحة أو يزيد (1).
حسبك ما قاله الإمام أحمد رضي الله عنه: «أصول السنة عندنا ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم».
واتفق العلماء أن خروج البدع والمبتدعة، سببه ترك ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تراه واضحا لكبار علمائنا من زمن الصحابة إلى وقتنا هذا، وحيث ينبهون على خطورة هذا المنهج الذي يبحث في الدين دون الوقوف على أحوال وأقوال الصحابة، ولله درّ الإمام مالك رحمه الله تعالى في هذا الملحظ حيث كان عمل أهل المدينة عنده بمكان (2).
إذا فمع علم كثير من الصحابة رضي الله عنهم بالكتابة لم يكونوا بحاجة للتدوين كما مرّ بنا.
__________
(1) كما صنع مثلا ابن القيم في شرح خطاب عمر في إعلام المؤمنين، وهو الآن تحت الطبع بتحقيقي بحول الله وقوته.
(2) وانظر على سبيل المثال: مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 23).(1/20)
2 - الوقفة الثانية: كتابة الوحي:
قد تكلم جمهرة من أهل العلم في هذا الموضوع حتى أصبح سيلا جرف أمامه كل شك وريب وشبهة، أراد بعضهم منذ العهد الأول إلى الآن أن يغرسها في طريق المسلمين، فكان ما سبق من الله تعالى من حفظ كتابه أول وأعظم سند حيث يقول ربنا تبارك وتعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (9) [الحجر: 9].
حيث شمل الحفظ: حفظه من التلاشي، وحفظه من الزيادة فيه أو النقصان منه، حيث سخّر الله تعالى له من يحفظه وينقله متواترا، حيث سلم من كل اختلاف حدث فيما سبق من كتب منزلة، حين وكّل حفظها إليهم.
وتأمل الصحابة رضي الله عنهم وهم يتلونه بعد ما سمعوه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرهم عليه، وإذا حدث أي خلاف حول حرف منه رجعوا إليه صلى الله عليه وسلم فبين الصواب، وأزال شبهة الخلاف فيه، حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى، وكان حفاظه من الشهرة بمكان، أتاح لجمهرة من الأمة لا يعلم عددها في كل مصر أن تتوارث هذا الحفظ والنقل، والمتدبر في كتب تراجم القراء يرى عجبا في هذا الشأن، وكذا كتب القراءات.
حيث يرى دقة ضبطهم، مما يحير العقول، ومما لا يقدر عليه أحد إلّا عن طريق ما وصل إليه العلم الآن عن طريق الحاسوب من حيث الحصر والإحاطة لكل حرف مخرجه ودرجة تفخيمه أو ترقيقه أو مده {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
{أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) [النساء: 82].
وليس على ما أعتقد أن كتابا على ظهر الأرض حظي بمثل هذا المقام مثل «القرآن الكريم».
وفي هذا خير رد على كيد أهل الكفر والنفاق: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) [فصلت: 26].
فمع تفننهم في صرف شباب الأمة عن الدين باللهو والفجور وتزين الشهوات، إلّا أنك ترى تكاثر حفاظه والعاملين به، مع توافر البواعث الصارفة، ولكن: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلََّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَمََا يُبْدِئُ الْبََاطِلُ وَمََا يُعِيدُ} (49) [سبأ].(1/21)
فمهما كان الاستهزاء واللغو والصد، وتكميم الأفواه الناطقة بالحق، والداعية للحق، وتخويفهم وترهيبهم، ما هي في النهاية إلّا جعجعات بلا طحين، مثل الزبد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً} [الرعد: 17].
3 - الوقفة الثالثة: أمتى نشأ مصطلح «علوم القرآن»؟
لعلنا في حاجة إلى التفرقة بين ظهور هذا المصطلح بتعريفه المبين في أول هذه المقدمة، وبيان ظهور جل مباحثه منذ العهد الأول.
وقد تكلم كثير من الباحثين في بدء ظهور هذا المصطلح «علوم القرآن» منهم السيوطي في الإتقان، والزرقاني في «مناهل العرفان».
ووافق الزرقاني السيوطي وكلاهما تبعا للبلقيني في أن أول من تحدث بهذا هو الإمام الكبير الشافعي رضي الله عنه في حكاية (1) وردت من كتاب «تاريخ الشافعي» في القضية التي أثارها المبتدعة حول قولهم بخلق القرآن، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلََّا كَذِباً}
[الكهف: 5].
فقد جاء فيها أن الرشيد سأل الشافعي: كيف علمت يا شافعي بكتاب الله عزّ وجلّ؟
إلى أن قال ولكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره إلخ.
وإن ثبت هذا، فيكون درة نفيسة، ويكون من فضل الله تعالى الذي لا حد له أن يجري على لسان الشافعي هذا التركيب حتى يزيده فضلا وشرفا.
فهو كما مرّ اشتهر بوضع أول القواعد لأصول الفقه وذلك في كتابه الأشهر «الرسالة».
وهذا لا يمنع البوح بما في نفسي منذ زمن أن الرسالة نفسها إحدى قواعد: (علوم القرآن) كما هي قواعد لعلم: «أصول الفقه».
__________
(1) لم يسعفني الوقت على تحقيق سندها وصحتها، ولعل هذا استوفيه في مقدمة «معجم علوم القرآن» إن شاء الله تعالى.(1/22)
والقارئ الرشيد والباحث الموافق، لو تتبع الرسالة (1) لوجد من بزور هذا العلم ما لا يخفى مع اشتهار سبب كتابة هذه الرسالة نفسها.
وذلك أن الإمام «عبد الرحمن بن مهدي» (2) والذي وصفه الشافعي بقوله: «لا أعلم له نظيرا في الدنيا» سأل الشافعي أن يضع كتابا يحوي «معاني القرآن»، يجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة.
وهنا نلحظ قوله «معاني القرآن» فالبدء كان لخدمة القرآن حتى يفهم، والمتأمل في «الرسالة» يلمس الآتي وهي:
إن المتأمل في أبواب الرسالة للشافعي رحمه الله تعالى يلحظ من القواعد ذات الصلة الوثيقة بعلوم القرآن مثل:
علم القرآن.
القرآن كله بلسان العرب.
العربي والعجمي فيه.
ترجمة القرآن.
معنى إنزاله على سبعة أحرف.
البيان في القرآن.
المجمل والمفسر.
العلم بالقرآن ودرجات الناس فيه.
العام والظاهر في الكتاب.
حكم النسخ.
ناسخ القرآن ومنسوخه.
تخصيص الكتاب بالحديث.
العام في القرآن والخاص.
فلو أضفنا ذلك إلى ما سبق ذكره عن سبب تأليف الرسالة، لتجمع لدينا من القرائن ما يجعلنا نميل إلى أن أول من أظهر هذا المصطلح «علوم القرآن» هو الإمام الشافعي
__________
(1) أرجو من الله زيادة توفيق وإسباغ سكينة حتى أقف على تحقيق هذه المسائل بحوله وقوته تعالى.
(2) الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ، انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (9/ 192).(1/23)
رحمه الله تعالى، وإن لم يكن أول من وضع فيه كتابا مستقلا.
وكما يقول الدكتور عبد المنعم النمر في معرض الحديث عن الرسالة (1): «ولا شك أن الشافعي لم يبتكر معاني القرآن، ولا القول في الإجماع، ولا الناسخ والمنسوخ ولكنه نظم ذلك وغربله متداخلا فيه برأيه، فأضاف وأشار للقواعد المتداولة وبيّن ما يقبل وما لا يقبل حسب رأيه.
فلا يعقل أن الشافعي ابتكر كل ذلك في رسالته ولكنه تحدث فيما يتداول بين علماء زمانه، فقبل ورفض، وأضاف ونظم، واعتبر علماء زمانه ومن بعدهم هذا أول تنظيم لعلم أصول الفقه» أ. هـ.
وذهب الشيخ أحمد شاكر مذهب الفخر الرازي: أن الرسالة أول كتاب ألّف في أصول الفقه، بل وفي أصول الحديث (2).
ويقول الشيخ أحمد شاكر: وكتاب الرسالة بل كتب الشافعي أجمع كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجّنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة» أ. هـ.
أضف إلى ذلك المباحث المشتركة بين أصول الفقه، وعلوم القرآن نجد قرب هذا الاستنتاج من الصواب (3).
فصل هذا من ناحية أول ظهور لهذا المصطلح، فكيف لأول ظهور لمألف بهذا العنوان «علوم القرآن»؟
المتأمل لما سبق يلحظ أن كثيرا من علماء القرن الثاني كتبوا في أبحاث احتواها من بعد علم «علوم القرآن». وكما سبق، أن جل أبحاث «علوم القرآن» كغيرها من العلوم الشرعية كالفقه والحديث، كانت دائرة على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم، مع اختلاف في الألفاظ تارة أو في السعة والضيق تارة أخرى.
وقد يكون من أشهر هذه الأبحاث:
__________
(1) الاجتهاد (118).
(2) مقدمة الرسالة.
(3) هذا مبحث عظيم الشأن أفصله إن شاء الله تعالى في معجم علوم القرآن.(1/24)
مسألة الناسخ والمنسوخ.
المحكم والتشابه.
ثم القراءات.
وأسباب النزول وأماكنه.
معاني القرآن وتفسيره.
نقله وحفظه وكتابته.
رسم المصحف.
والقصص القرآني.
وحيث إن علم «علوم القرآن» يرتبط ارتباطا وثيقا بالقرآن، كان لزاما أن يكون جلّ مباحثه تدور في العصر الأول زمن نزول الوحي المبارك، ثم تناقلها التابعون عن الصحابة رضي الله عنهم وهلم جرا (1)، وإن كانت الأمانة تلزمنا تتبع تاريخ هذا العلم الشريف عند الصحابة والتابعين بأكثر من هذا، حيث يستلزم ذلك قراءة كتب السنة كلها، وكذلك كتب الآثار وغيرها مما يتيح للقارئ الوقف بصدق على بذور هذا العلم الشريف.
وكما أن أسس هذا العلم الشريف في الكتاب العزيز، هي كذلك مبثوثة بين طيات الأحاديث المطهرة.
ولعلماء القرنين الثاني والثالث جهودا مشكورة في إظهار بعض مباحثه متفردة.
نلحظ ذلك مثلا في:
الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224).
الناسخ والمنسوخ لعلي بن المديني (334).
بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن. للإمام أحمد رضي الله عنه (2).
بعض مؤلفات العلامة ابن قتيبة (276هـ) وبخاصة: تأويل مشكل القرآن، ففيه نفائس.
__________
(1) وهذا ما نرجو من الله تعالى تيسيره في معجم علوم القرآن، حيث نسأل الله تعالى صرف الهم وتيسير الأمر.
(2) سنحاول بعون الله تعالى أن نسرد توثيقا لهذه المؤلفات ومدى صلتها بهذا العلم الشريف.(1/25)
فصل
أول المصنفات المستقلة في هذا الفن
ذهب العلامة السيوطي رحمه الله تعالى إلى أن أول مصنف في هذا العلم «الإمام بدر الدين الزركشي» بكتابه «البرهان في علوم القرآن».
وكان من قبل يذهب إلى أن أول ذلك الأمر للعلامة جلال الدين البلقاني بكتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم».
وذهب العلامة الزرقاني في مناهل العرفان إلى أن أول من وضع كتابا يشمل هذا الفن هو العلامة علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي (ت 430هـ) بكتابه «البرهان في علوم القرآن» (1).
ولكن قد يرى بعض الباحثين بعد ما ذهب إليه العلامة السيوطي في قوليه، وكذا ما ذهب إليه الزرقاني، لأسباب:
أولا: أن الذهبي رحمه الله تعالى قال في ترجمة ابن المرزبان (2) المتوفى (307هـ):
«وقع لي قطعة من تأليفه، وله كتاب «الحاوي في علوم القرآن».
وكذلك ذكر الذهبي في ترجمة ابن الأنباري (3) (ت 328هـ) قال: صنف في «علوم القرآن والغريب» إلخ.
وقد ذكره بعض مترجميه بعنوان «عجائب علوم القرآن».
يتبين لنا من هذا سبق ابن المرزبان أولا، ويليه ابن الأنباري في الكتابة المستقلة في هذا العلم باسم «علوم القرآن» والله تعالى أعلم.
ثانيا: ما ذكره العلامة الزرقاني عن «الحوفي» عليه ملاحظة:
حيث ذكر كتاب الحوفي باسم «البرهان في علوم القرآن» ولم أقف على من ذكره بهذا الاسم غيره، حيث ذكر كل من ترجم له باسم «البرهان في تفسير القرآن».
وهو كما يقول العلامة الزرقاني يأخذ في بيان الإعراب والناحية النحوية واللغوية، ثم بيان القول في المعنى والتفسير، وبيان التفاسير المأثورة والمعقولة للآية، ثم بيان الوقف
__________
(1) انظر الإتقان (1/ 5) ومناهل العرفان (1/ 3534).
(2) الإمام العلامة الأنباري أبو محمد محمد بن خلف بن المرزبان، انظر ترجمته ومصادرها في السير (14/ 264).
(3) الإمام الحافظ اللغوي أبو بكر محمد بن القاسم، سير أعلام النبلاء (15/ 274).(1/26)
والتمام، ثم بيان القراءات إن وجدت وهكذا.
ومن هنا يتبيّن أنه تفسير موسع ضم أنواعا من علوم القرآن، لكن ليس مستقلا في علوم القرآن.
ولعلنا نصيب إذا قلنا إن نضج هذا العلم وتمامه، كان على يدي العالمين الكبيرين الزركشي والسيوطي في «البرهان» و «الإتقان» (1).
هذا مع افتقادنا لكتب حملت هذا العنوان لكننا لم نستطع الوقوف عليها كما سبق عند ابن المرزبان، وابن الأنباري، والله تعالى أعلم.
فصل علوم القرآن والرد على الشبهات
قد لا نبالغ إذا قلنا أن علوم القرآن من أعظم حصون الشريعة، ومن حوائط الصد الصلبة القوية ضد أعداء الدين، من الكفار والمنافقين الذين يلبسون على المسلمين أمرهم ويقدحون في دينهم (2)، حتى وصل الحال بالمطالبة بإلغاء أبواب كاملة من الدين بل وآيات من الذكر الحكيم.
أصبح الحديث عن تلك الأبواب والتي هي من أركان الدين كالجهاد مثلا قرينة لوصم المتحدث بالإرهاب.
وهكذا يتعرض الإسلام لخطر تقطيع أركانه مثل ما حدث للأديان السابقة التي أصحبت تعبد الصور والصلبان والنيران والحيوانات، مع عدم تطبيق أبنائه له في أكثر حياتهم، يظهر لنا أن الخطب جلل.
ولهذا لا بد من نشر هذه العلوم الإسلامية، حتى يتحصن المسلم ضد هؤلاء وهؤلاء.
وتستطيع مادة «علوم القرآن» الرد الوافر على الشبهات المثارة والتي قد يقع فيها بعض المسلمين بحسن نية وقلّة روية.
ويتبع ذلك أهمية الوقوف على أقوال السلف في هذا العلم وغيره من العلوم، حتى ينضبط الميزان، ويصحح القول.
__________
(1) لعل الله تعالى يسير زيادة تفصيل في هذه المسألة في معجم علوم القرآن.
(2) وهذا قد ظهر جليا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001) والذي دمرت فيها بعض المباني بأمريكا.(1/27)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير، وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك، فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دلّ عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم.
وأيضا: فلم يبق مسألة في الدين إلّا وقد تكلم فيها السلف (1).
وكلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في غاية الضبط، حيث ترى الآن بعض من يتصدى لصعود جبل العلم والفتوى والدعوة، وزاده ليس سوى الضجيج والادعاء والتعالم ولعل غرضه الشهرة والمال.
حتى ترى وتسمع هذا الكم من الكتب والشرائط لا تسمع فيها إلّا صراخا وكتبا ملئت كلاما لا يساوي مداده، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
ومن الأمثلة على ذلك الكلام في بعض القضايا التي لعل من المفيد الإشارة إلى بعضها:
(1) نزول القرآن الكريم لا خلاف بين سلفنا الصالح رضي الله عنهم على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلام الله صفة من صفاته، يجب وصفه بكل صفات الجمال والجلال، والحكمة.
ومنذ ظهور البدع والفرق وهي تحاول جاهدة تغير هذا الاعتقاد في القرآن، وتحويل المتفق عليه إلى متنازع فيه، فرأينا كلامهم على كون القرآن كلام الله النفسي، وكونه مخلوقا (2)، هذا حتى تنزع هيبة القرآن من القلوب وهيمنة القرآن على الكتب، وتقديم العمل بالقرآن على ما يزينه الشيطان في صور شتى تحت رايات شتى بأسماء شتى، حتى يتشتت العقل المسلم، ويضطرب سلوكه.
__________
(1) مجموع الفتاوي (13/ 2524).
(2) ولعلماء الإسلام منذ الصحابة مرورا بالتابعين ثم عصر الإمام أحمد، مرورا بابن القيم إلى عصرنا هذا ردودا منثورة ومجموعة في مئات الكتب.(1/28)
ويستوهم بعضنا إن ظن أن كثيرا من القضايا التي هزمها السلف قد اندثرت، بل كثير منها يطل بين الفينة والفينة.
فنرى من يدعو إلى كون القرآن نصا لغويا يحتمل كل الإسقاطات التي يتحملها أي نص من وضع بشري.
ويسمى ذلك «بالوعي العلمي» متهما كل السابقين بأنهم أصحاب الفكر الرجعي، باستنادهم إلى التراث، لأن نشر مثل هذا الوعي العلمي في زعمه يسحب البساط من تحت أقدام هذه القوة المنتفعة بالوضع الاجتماعي المتردي.
ويجعل من تهذيب العلوم الإسلامية للناشئة ضربا من ضروب الارتزاق على أكتاف ناشئة جهلاء، وسيلا من سبل الشهرة.
ثم يضع لنا أسسا لصلاحية الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى حيث يكون أولها الموضوعية التي يعرفها المتخصصون هكذا (1)!!.
وهذه كما ترى «عينة» مما تفيض به أقلام هؤلاء المغرورين، ولعله لم يصب من يريد عزل الدرس الديني عن الواقع الإسلامي، وتجريد الفكر المحرك للدعوة من هذه القضايا، وبالتالي تفرغ الدعوة كلها من الدافع فتهون عليها النتائج.
بل استخدام هذه العلوم الشرعية خير وسيلة والله أعلم يرد على كل صاحب هوى يقدح تارة في الفقه، وأخرى في أصوله، وثالثة في التفسير، ورابعة في اللغة والنحو والصرف، وهلم جرا.
وما وضع علماء سلفنا هذه العلوم إلّا للدفاع عن الدين، ولا معنى لقولهم «غربلوهم بالعلم» في مواجهة المبدعة، إلّا باستخدام هذه العلوم حيث التسلح بالفهم الصحيح بالدليل الصحيح حتى يدحض الله تعالى الباطل، وسنرى مثالا لذلك.
فصل سوف يرى القارئ علاج ابن القيم لكثير من الشبهات بالاستناد على علوم القرآن الكريم. حيث ناقش رحمه الله تعالى:
__________
(1) وهذه من مدرسة قديمة دائما ما ترى خلف أسوارها أعناق المستشرقين الذين يخرجون تلاميذ نجباء في ضلالهم، أغبياء في درسهم، وينسون أنهم دائما صدى صوت. وهناك قائمة طويلة بأسماء هؤلاء سنخرجها قريبا، تصريحا لا تلميحا.(1/29)
قضية النسخ، حيث أشبعها بحثا وبيان حكمتها، ومعنى النسخ عند سلفنا الصالح، والفرق بين معناه عند المتقدمين والمتأخرين.
وكذلك مسائل المتشابهة في القرآن، وبيان معناه الصحيح عند المتقدمين، بخلاف كثير من المتأخرين الذين جعلوه مطية لنفي الصفات أو تأويلها أو تحريفها أو تعطيلها.
ويعرج على القصص القرآني وبيان حكمته واستخراج العبر والقواعد النافعة، التي هي صراط مستقيم للباحث عن الحق.
ثم قضية الإعجاز العلمي في القرآن (1)، وتظهر أهمية هذه المسألة في وقتنا الحالي حيث انتشر هذا الأمر بين الموافق الداعي له والذي جعله من أهم أسباب الإقبال على الإسلام في الغرب.
حتى بالغ بعضهم وجعل جميع الآيات القرآنية المتكلمة عن الطبيعة والكون، ذات تفسير عصري متاح.
وأسقط جميع ما وصل إليه العلم على هذه الآيات.
وفي المقابل نرى فريقا أنكر ذلك أشد الإنكار، ومنعه منعا باتا.
وكعادة الأمة المسلمة التي جعلها الله سبحانه وسطا، نرى فريقا يتوسط في الأمر فليس الأمر عنده ممنوعا وليس مطلقا (2)، بل له ضوابط قوية وشديدة حتى لا يتحول الكلام عن القرآن الكريم كتاب الهداية والبصائر إلى كتاب في الكيمياء أو الطبيعة أو الفلك. ونحن نذهب مذهبهم هذا حيث إن الآيات ذات الإشارات الكونية فيها من أسباب الهداية
__________
(1) ألفت نظر القارئ الكريم أنني ناقشت هذه القضية والسابق لها باستفاضة لكن لظروف الطبع، أجلت وضعها هنا، وسترى كل ذلك إن شاء الله مبينا بالأدلة والمناقشة العلمية في كتابي «معجم علوم القرآن الكريم» وكذلك مناقشة أكثر من عشرة كتب تكلمت عن القرآن وعلومه وفيها ما فيها من الأخطاء.
(2) من المكثرين الآن الدكتور / زغلول النجار، وهو مع جودة قوله، لكن نرى كثيرا من المتخصصين مثله يرفض كثيرا من قوله. وكذلك د / أحمد شوقي إبراهيم، يفسر كثيرا من آيات القرآن بنفس المنهج وإن لم يكن مستفيضا كالأول، بل ويخطّئ كثيرا من أقوال السلف في التفسير ويتهمهم بالجهل، وهو نفسه فسّر قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} يقول: هذا ليس مطلق النفي، بل يفيد أن بعض الأبصار تدركه منها نبينا صلى الله عليه وسلم (إذاعة القرآن الكريم في مصر صباح (7/ 10/ 2000)، وهذا لم يذهب إليه أحد من أهل التفسير، ولعله اختلط عليه الفرق بين الإدراك والنظر إليه سبحانه وتعالى، وأن أهل السنة متفقون على الرؤية كما هو معلوم.(1/30)
ما لا يحصى، وإليه يشير كثير من المفسرين والعلماء إلى قوله تعالى في أول ما نزّل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) وما فيها من إشارات.
وقد يلحظ كثير من الباحثين مدى تحميل قضية إعجاز القرآن، وما لا تحتمله الأدلة القرآنية ذاتها.
وليس من المفيد الحرص على التوسع في هذا الباب من أبواب إعجاز القرآن، لترغيب غير المسلمين وبخاصة الغربيين في الإسلام.
فإن معرفة الأخلاق في القرآن وتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبه بهذه الآداب كفيل بدخول الناس أفواجا في دين الله تعالى.
وهذا ما سطّره التاريخ عن السيرة النبوية وحياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
نعم قد يقول القائل: «لكل مقام مقال» ومقام اليوم العلم وبخاصة العلم التجريبي من طب وفلك إلخ.
ونحن نتفق معه تماما، ولكن متى كان مقام الأخلاق غائبا لزم هنا أن يبدأ به، وما نراه من انحدار الأخلاق حتى بين بعض المسلمين ناهيك عن الغرب والشرق، لحري بنا أن نبدأ به. فالناس في الغرب في حاجة ماسة وملحة لمعرفة التوحيد والعبادات والأخلاق، على أن يكون الإعجاز العلمي مدخلا من مداخل الحوار، ثم الكلام عن الإعجاز العلمي يفترق على أمور يصعب حصرها، لأنها علوم غير محدودة، ونظرياتها متجددة كل يوم وبعضها كل ساعة.
فالحديث عن ذكر الخلق وتكوين الجنين في القرآن، ومقارنته بما جاء في الطب الحديث، يختلف عن الكلام عن نهاية الشمس والقمر، بمقياس العلم مقارنة بما ورد في القرآن الكريم.
فالمثال الأول مسلم به، حتى لينبهر به الباحث الغربي ويسلم بدقته.
لكن المثال الثاني يختلف عليه علماء المسلمين أنفسهم (1) ولا نذهب بعيدا إذا قلنا إن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كان يفسّر كثيرا من الآيات تفسيرا عضويا قائما على الطب
__________
(1) قد ذهب الدكتور زغلول النجار مذهبا في تفسير «إذا الشمس كورت» وكيفية النهاية. فما لبث أن اعترض دكتور صبري الدمرداش عليه كما في جريدة الأخبار (13/ 9/ 2002) وسوف نزيد الأمر بحثا في معجم علوم القرآن إن شاء الله تعالى.(1/31)
والطبيعة، كما في شرحه لقوله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (21) [الذاريات] وكيف لم نضع ما قاله ضمن كتابنا «بدائع التفسير» وذلك بعد عرضه على طائفة من أهل الطب والعلوم الطبيعية. وليس هذا بقدح، فهو رحمه الله تعالى ينبّه بما قاله على هدف وضعه نصب عينيه في كل كتبه ألا وهو تعريف العبد بالمعبود والمخلوق بالخالق سبحانه وتعالى، وهذا باب من أبواب المحبة للخالق سبحانه، ومن أسرار بدء أول نزول القرآن سورة {اقْرَأْ} (1) وانظر الفصل الآتي بعنوان: «منهج ابن القيم في التفسير وموقفه من التفسير العلمي» والله تعالى أعلم.
وأيضا من المسائل التي أشبعها ابن القيم بحثا: مسألة التأويل، فسترى كيف صنع التأويل بالنصوص. وكيف قوّم ابن القيم المعوج من معنى التأويل عند بعضهم، وكيف أبان وجهة الحق في رد التأويل الباطل لآيات الصفات، وتبيانه الفرق بين التأويل الصحيح والباطل ومعناه عند السلف الصالح (2).
__________
(1) انظر التحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 434)، وانظر «بدائع التفسير» (1/ 9997)
(2) وقد وقفت على كتاب «تأويل ما أشكل على المفسرين» لمحمد عبد المنعم مراد (صحفي وكاتب مصري) وهو كما يرى القارئ عنوان هائل ضخم، تحتاج دلالته لعمل فريق من العلماء سنوات طوال.
يدعي صاحبه أنه أزاح الإشكال عن أخطاء وقع فيها المفسرون وأتوا بما لا يليق بكتاب الله تعالى وهذا جهد مشكور ونية حسنة. ولا دخل لنا بالنية وهنا، لكن كلامنا عن هذا الجهد:
فصاحبه أورد في أول الأمر (ص 7): فهو يزيل الإشكال بذكر التأويل الصحيح للآية مستعينا بأحسن طرق التفسير ألا وهي تفسير القرآن بالقرآن، ثم يورد الآية رقم (102) من سورة البقرة، يتبعها بآيات رقم (172) الأعراف، (101) التوبة، (87) الحجر، (7) الإسراء إلخ. هذه الآيات فماذا يفهم القارئ!؟
تأتي الإجابة ص (218191) ناقلا كلام المفسرين دون ذكر المصدر ثم رد العلامة د / أبو شهبة واستشهاده بكلام ابن كثير في بطلان ما أورده المفسرون في الآية رقم (102) من سورة البقرة. وهكذا في سائر الآيات، فهو لم يأت بجديد سوى النقل.
ثم يذكر تفسير الإمام الطبري للآية (27) من سورة إبراهيم {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية ثم يعقبها بقوله: إن العلماء بهذا التفسير (يقصد تفسيرهم الثبات في الآخرة بالثبات في القبر عند السؤال) يضيعون على الناس جمال المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآيات (2724).
ولم يبين لنا جمال المثل وسر إنكاره أقوال المفسرين. لكننا لا يخفى علينا السر، فهو صاحب كتاب «عذاب القبر افتراء على الله ورسوله!!».
فهو يرى أن عذاب القبر لم يشر إليه القرآن من قريب أو بعيد، تصريحا أو تلميحا فأصبح من الواجب عليّ وعلى كل مسلم أن ينفي عن كتاب الله ما ليس فيه، وأن يطهّر العقيدة الواضحة الجلية مما ليس فيها» ص (3) ونقول له ليس معنى تفسير آية بقول ما أن هذا القول من القرآن حتى ننفيه عن كتاب الله!(1/32)
ثم يحدثنا ابن القيم رحمه الله تعالى عن المجاز ومذهبه فيه
إلى آخر تلك الأبحاث البديعة الجيدة، وكما أشرت مرارا وتكرارا إلى الرغبة في بيان كثير من هذه المسائل التي كثر الحديث عنها مؤخرا، والمتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه، لأننا نعلم يقينا أنه الحصن الحصين لنا، ولكنني لم أشأ الإطالة لظروف الطبع ثم لمشاغل الوقت التي نسأل الله السلامة منها.
__________
وأما تطهير العقيدة الواضحة الجلية مما ليس فيها!! هل هذا يمكن إلّا بالوقوف على صحيح السنة، وإذا صح الحديث فهو الفقه وهو العقيدة!!
ثم يورد المؤلف مباحث كثيرة تحت عناوين مثل:
قصة النبي آدم عليه السّلام
كم لبثتم.
إنك لا تسمع الموتى.
البرزخ إلخ.
ثم يرد على ابن كثير تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذََابِ} أي: أشده ألما وأعظمه نكالا وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور
(74) فهو ينكر كيف يستشهد بالآية المكية على عذاب القبر في البرزخ، لأنه ورد ذكره في المدينة!! وهذا الاعتراض لا يحتاج لرد؟!
وهو ينكر أشد الإنكار على من يصدق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يظل خمسة عشر عاما لا يعرف عن عذاب القبر شيئا حتى تأتي يهودية تعلمنا ذلك؟!
وهذا رد عقلي يصادم العقل نفسه والنقل نفسه!!
فالغيب لا دخل للعقل فيه شيء إلّا الإيمان!
وأما النقل فطالما صح السند، يبحث بعد ذلك في المعنى وعدم التعارض والجمع بين الأدلة إلى تلك المسائل العلمية!!
أما أن نرد الصحيح لأن العقل لا يقبله فهذا مذهب ليس بجديد على من لم يفهم معنى الإيمان!!
ثم يختم كتابه بقوله: «وعذاب القبر لا يستحق الجدل، لأن أمره هين، وذلك لأن من عذب في قبره، فإن مصيره جهنم وساءت مصيرا!!» هكذا!! يحلل الكاتب ويهون الأمر، ونقول له ليس أمر عذاب القبر بهيّن، واتفق أهل السنة على أن من عذب في قبره إنما يعذب بمقدار وليس شرطا أن يكون مصيره النار!!
ولا أجد غير قول الإمام الشافعي أهديه لهذا الكاتب لعله يهدئ ويتأمل حين يخط قلما عن دين الله تعالى: يقول الشافعي: «ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرف غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه. أه والله تعالى أعلم.(1/33)
فصل في منهج ابن القيم في التفسير
وإليك أولا هذه الدرة من كلام ابن القيم حتى نبني هذا الفصل على قاعدة من كلامه:
في بيان معنى تيسير القرآن للذكر وبيان معنى التفسير أنزل الله سبحانه الكتاب شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، ولذلك كانت معانيه أشرف المعاني، وألفاظه أفصح الألفاظ وأبينها، وأعظمها مطابقة لمعانيها المرادة منها كما وصف سبحانه به كتابه في قوله: {وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}
[الفرقان: 33].
فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره وبيانه.
والتفسير أصله في الظهور والبيان، وباقيه في الاشتقاق الأكبر: الإسفار، ومنه أسفر الفجر إذا أضاء ووضح، ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره، ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه. فلا بد من أن يكون التفسير مطابقا للمفسر مفهما له، وكلما كان فهم المعنى منه أوضح وأبين كان التفسير أكمل وأحسن. ولهذا لا تجد كلاما أحسن تفسيرا ولا أتم بيانا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمّاه سبحانه بيانا وأخبر أنه يسره للذكر وتيسيره للذكر يتضمن أنواعا من التيسير:
إحداها: تيسير ألفاظه للحفظ.
الثاني: تيسير معانيه للفهم.
الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال.
ومعلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له بل كان معسرا عليه.
فهكذا إذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه فهذا من أشد التعسير، وهو مناف للتيسير (1).
1 - لمعرفة منهج المفسر أهمية عظيمة (2)، شغلت كثيرا من أهل العلم، فهذا يكتب عن
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 332).
(2) أردت ختم هذا الفصل من مقدمة كتابي «بدائع التفسير» حتى تصحيح مقدمة «بدائع علوم القرآن» كالمقدمة الواحدة للعملين في طبعة التفسير الجديدة.(1/34)
منهج الطبري، وذاك عن القرطبي إلخ، وقد اتسع المقام في هذا الباب وهو أمر جيد خاصة وهو يعتبر مفتاح لأي تفسير.
ومن فوائد هذه المناهج وهي كثيرة:
معرفة مدرسة المؤلف الفقهية ومدى تحرره في فهم النص وتقيده بالمذهب إن كان من أصحابه.
ثم معرفة الجانب العقدي عنده، وإن كان من أهل السنة أم من غيرهم ولماذا؟ ومعرفة أيضا مدى تأثر المؤلف بغيره من أهل العلم وإضافاته عليهم وتعقيباته مما قد يكون للقارئ رأيا راجحا في مسألة ما وبيان مرجوح في أخرى. إلى غير ذلك من الفوائد الجمة المسطورة في غير هذه العجالة اليسيرة إنما توسع في بيانها بتفصيل كثير من العلماء كفضيلة العلامة الدكتور / محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم «التفسير والمفسرون»، ومن المعاصرين البارع الدكتور / فهد الرومي في كتابه الشيق الفائق القيمة «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر» وغيرهم من أهل العلم.
2 - ويتوقف ذلك معرفة المنهج من الوقوف على تفسير ما، ثم النظر في مقدمة صاحبه، فهي غالبا تكون بالإضافة لكونها مفتاح الكتاب بلورة لمنهج المؤلف وإبرازا لأهم عناصره، خصوصا لو اشترط المفسر ذلك.
وهذه المقدمات توفر كثيرا من العناء في هذا الشأن كمقدمة ابن جرير الطبري، أو القرطبي أو ابن كثير ومقدمة العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير.
فهذه المقدمات عظيمة الفائدة طريق سهل غالبا في الوقوف على منهج المفسر، بالإضافة إلى دراسة تفسيره، واستخراج الباحث من بطون سطوره وخبايا حروفه كثيرا مما لم يذكره المؤلف في مقدمة تفسيره، وهو مكمل لمعرفة منهجه، بل قد لا تكون مبالغة إذا قلنا إن المقدمة لا تفي أبدا لمعرفة المنهج، بل لا بد من الولوج والغوص في بحر المؤلف لاستخراج الدرر الكامنة، فالباب لا يفي لمعرفة المنزل إنما هو للدخول والاستدلال على العنوان.
3 - لكن الأمر يختلف مع عالمنا الكبير ابن القيم، فهو أولا لم يضع تفسيرا مستقلا كما بينت من قبل، فضلا أنه لم يضع مقدمة للتفسير كما صنع شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، يستطيع بها الباحث معرفة نقاط أساسية في بيان منهجه. مثل ما كتبه رحمه الله تعالى في (بيان أحسن طرق التفسير) (1/ 110) من دقائق التفسير فهي أسس هامة للمنهج الصائب الموفق،
ومع صغرها فقد حوت النفائس، وأمتعت النفوس، وهذا نلحظه أيضا من خلال ما سطّره قلمه رحمه الله تعالى على آيات الذكر الحكيم.(1/35)
3 - لكن الأمر يختلف مع عالمنا الكبير ابن القيم، فهو أولا لم يضع تفسيرا مستقلا كما بينت من قبل، فضلا أنه لم يضع مقدمة للتفسير كما صنع شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، يستطيع بها الباحث معرفة نقاط أساسية في بيان منهجه. مثل ما كتبه رحمه الله تعالى في (بيان أحسن طرق التفسير) (1/ 110) من دقائق التفسير فهي أسس هامة للمنهج الصائب الموفق،
ومع صغرها فقد حوت النفائس، وأمتعت النفوس، وهذا نلحظه أيضا من خلال ما سطّره قلمه رحمه الله تعالى على آيات الذكر الحكيم.
ومما لا ينازع فيه تأثر ابن القيم بشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى، تأثر المتبع المدقق لا المقلد. وبالتالي يندرج هذا التأثر في التأليف كما هو في الفكر، مع الفارق بين الشيخين الذي ينزل كلا منهما منزلته. وأيضا طريقته في التفسير مع توحد المنبع.
4 - وبتتبع ما سطره الإمام ابن القيم خلال كتبه عن آيات الذكر الحكيم إيضاحا وتفسيرا قد نتمكن من الوقوف على أهم هذه الأسس والمبادئ الأساسية لمنهجه قدر الاستطاعة.
وقد تقدم في باب من كتب عن ابن القيم من المعاصرين ما سطره غير واحد منهم عن منهج ابن القيم، كالدكتور البقري والمتولي وغيرهم، وأفرد له الأستاذ محمد أحمد السنباطي مؤلفا مستقلا هو «منهج ابن القيم في التفسير» واستند على ما جمع من قبل فيما عرف ب «التفسير القيم».
5 - يتكون كتاب الأستاذ السنباطي من ثلاثة أبواب:
الباب الأول: التعريف بابن القيم وهو مكوّن من:
الفصل الأول: ترجمته ووفاته ونشاطه العلمي.
الفصل الثاني: البيئة العلمية حول ابن القيم.
الباب الثاني: مكوّن من:
الفصل الأول: المدرسة الحنبلية السلفية ومنهجها.
الفصل الثاني: الصراع الفكري بين المدرسة مع المذاهب الأخرى في مشكلتي الصفات والأفعال.
الباب الثالث: منهج ابن القيم في التفسير مكون من تمهيد في التعريف بالتفسير القيم ص (81).
الفصل الأول: منهجه حول الوحدة الموضوعية للسورة، نماذج من الفاتحة والمعوذتين، ثم مقارنة بينه وبين شيخه في طريقة التفسير (88).
ثم ذكر من تأثر بابن القيم في طريقته في التفسير كالإمام محمد عبده، ورشيد رضا رحمهما الله تعالى، والشيخ محمود شلتوت رحمه الله تعالى، والشيخ محمد محمد المدني، والدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ أبو الأعلى المودودي رحمهم الله تعالى، هذا ما قرره
الأستاذ السنباطي.(1/36)
ثم ذكر من تأثر بابن القيم في طريقته في التفسير كالإمام محمد عبده، ورشيد رضا رحمهما الله تعالى، والشيخ محمود شلتوت رحمه الله تعالى، والشيخ محمد محمد المدني، والدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ أبو الأعلى المودودي رحمهم الله تعالى، هذا ما قرره
الأستاذ السنباطي.
الفصل الثاني: تصدير ابن القيم النص القرآني كأصل للمعاني وأولوية تفسيره بالنص.
المبدأ الأول: العودة بالنص القرآني إلى معناه المستعمل في العصر الأول.
المبدأ الثاني: تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وأقوال الصحابة.
الفصل الثالث: منهجه في التعرض للنحويات والبلاغيات والقراءات.
المبدأ الأول: عبادته بإبراز ما يتضمنه النص القرآني من أسرار بلاغية.
المبدأ الثاني: اهتمامه بالقراءات وعنايته بالنحويات التي ترتبط بها المعاني.
الفصل الرابع: منهجه في تفسير آيات الصفات والأفعال.
الفصل الخامس: موقفه من الإسرائيليات.
هذا ملخص ما سطره الأستاذ السنباطي عن منهج ابن القيم في التفسير، ويهمنا الباب الثالث (15681).(1/37)
أهم قواعد منهج ابن القيم
أولا: القواعد: 1تفسير القرآن بالقرآن.
2 - تفسير القرآن بالسنة المطهرة.
3 - تفسير القرآن بتتبع أقوال الصحابة.
4 - النظر في أقوال التابعين مع ترجيح أصح الأقوال.
5 - النظر اللغوي والبلاغي للآية القرآنية.
ثانيا: هذه القواعد أو هذا المنهج هو منهج أهل السنة في التأليف عامة والتفسير خاصة، وهي القواعد التي لخصها ونقحها غير واحد من العلماء في مقدمة تفاسيرهم، بدءا بابن جرير الطبري، ثم شدّ يده عليها ابن تيمية رحمه الله في مقدمته المشهورة، ومن ثمّ نهجها ابن كثير، وغيره من العلماء وهي السمة البارزة لعلماء المدرسة السلفية منذ العهد الأول مرورا بعالمها المبجل سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وقدّس روحه، وجعلنا وإياه من أهل رحمته وفردوس جنته.
ثم هلم جرا إلى عصرنا الحاضر، كل من تمسك بمنهج أهل السنة تراه لا يخرج مداد قلمه إلّا ويبني على قواعد هذه المدرسة، ولما لا، والله تعالى يقول: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (109) [التوبة: 109].
وكتبهم خاصة شيخ الإسلام وتلميذه خير شاهد على ذلك، بل أهم ما يؤكدون عليه النظر في تفسير القرآن بالقرآن، ولهذا ابن القيم رحمه الله تعالى: «وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير» التبيان في أقسام القرآن (187).
ثالثا: ليس معنى هذا المنهج أن ابن القيم يأتي أولا في تفسير الآية بأختها من القرآن ثم يفسرها من السنة إلخ ليس بهذا الأسلوب الذي نراه عند كثير ممن وضع تفسيرا للقرآن، لكن هذا منهج بالاستقراء تراه بارزا في مؤلفاته «فابن القيم رحمه الله تعالى يبرز
الأدلة من الكتاب والسنة، ويستنبط الأحكام الشرعية منها بأسلوب سهل مبسط خال من التعقيد بنوعية اللفظي والمعنوي، متطلبا نشر التشريع وبث التوحيد، ردّا إلى الله ورسوله، وإلى أن يرد الناس منابع الشريعة الأولى خالية من كل وضر، خالصة من كل شائبة» (1) ولو وضعنا هذا المنهج أساسا للدعوة الآن لاستطاع المخلصون بعون الله تعالى أن يعودوا بالأمة إلى نفس المنابع الطاهرة الطيبة، ويخرجوها من حالتها البائسة التعسة. إذا ابن القيم هدفه العودة إلى المنابع: الأول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة الكرام وأئمة التابعين الأعلام، فهل طبق ذلك في التفسير؟(1/38)
ثالثا: ليس معنى هذا المنهج أن ابن القيم يأتي أولا في تفسير الآية بأختها من القرآن ثم يفسرها من السنة إلخ ليس بهذا الأسلوب الذي نراه عند كثير ممن وضع تفسيرا للقرآن، لكن هذا منهج بالاستقراء تراه بارزا في مؤلفاته «فابن القيم رحمه الله تعالى يبرز
الأدلة من الكتاب والسنة، ويستنبط الأحكام الشرعية منها بأسلوب سهل مبسط خال من التعقيد بنوعية اللفظي والمعنوي، متطلبا نشر التشريع وبث التوحيد، ردّا إلى الله ورسوله، وإلى أن يرد الناس منابع الشريعة الأولى خالية من كل وضر، خالصة من كل شائبة» (1) ولو وضعنا هذا المنهج أساسا للدعوة الآن لاستطاع المخلصون بعون الله تعالى أن يعودوا بالأمة إلى نفس المنابع الطاهرة الطيبة، ويخرجوها من حالتها البائسة التعسة. إذا ابن القيم هدفه العودة إلى المنابع: الأول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة الكرام وأئمة التابعين الأعلام، فهل طبق ذلك في التفسير؟
نعم وهذا هو:
رابعا: ولو نظرنا إلى السور التي نكاد نقف على تفسير شبه كامل لها مثل الفاتحة والعنكبوت، وهناك عدد لا بأس به من سورة القيامة إلى آخر التفسير خاصة الفلق والناس. نرى أن ابن القيم يذهب إلى التفسير الموضوعي للسورة، أي: «إبراز الوحدة الموضوعية المتكاملة للسورة القرآنية، تلك الوحدة التي تربط بين أركان السورة بعضها إلى بعض، لتخدم الأهداف التي أنزلت من أجلها، والتي يمكن أن تكون أساسا لفهم آياتها» (2). فلو نظرنا في تفسيره لسورة القيامة (5/ 71):
1 - لنراه يبدأ ببيان ما في الإقسام في قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ (1) وَلََا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوََّامَةِ} (2) من معان كثبوت الجزاء ومستحق الجزاء، وأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة والقرآن والمعاد، ثم يقول: «وهو سبحانه يقسم على هذه الأمور الثلاثة ويقررها أبلغ تقرير (لما)؟ يقول: «لحاجة النفوس إلى معرفتها والإيمان بها» فهو رحمه الله تعالى يخلص إلى نتيجة هي الفيصل بين الكفر والإيمان، وبين الحق والباطل. فنفس لا تؤمن بالجزاء ولا تثبت الرسالة والقرآن والمعاد كيف يكون حالها؟ بل ولو تدبر أحد آيات ذم الكفر والكافرين وأهل العناد أجمعين لرأيت إفسادهم في الأرض برا وبحرا مبنيا على إنكارهم هذه الأمور الضرورية يقول تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} إلى قوله {وَلِتَصْغى ََ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ}
__________
(1) بكر أبو زيد (86)، والوضر: وسخ الدّسم واللبن. وليتأمل القارئ هذه الفقرة جيدا من كلام الشيخ بكر، ويعجب للذين لا يزالون يصرون على أن يؤلفوا لمجرد التأليف ويكتبوا لمجرد التصدر دون اعتبار جماهير المسلمين التي يجب جذبها للعمل في الصف الإسلامي لا مجرد المشاهدة، كما سبق بيان التنبيه على ذلك.
(2) منهج ابن القيم في التفسير (84)، وضرب الأستاذ السنباطي لذلك مثالا بالفاتحة والمعوذتين.(1/39)
{الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام: 113112] ويقول تعالى في وصف أهل النار: {وَكُنََّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (46) إلى قوله تعالى ذكره: {كَلََّا بَلْ لََا يَخََافُونَ الْآخِرَةَ} (53) [المدثر: 46 53] فهذا في حق من لم يؤمن بالآخرة، بالجزاء والحساب. ونظائره كثيرة فيمن لم يؤمن بالرسالة والقرآن، وبمقدار إفساد من لم يؤمن بذلك، ترى خلافه عند المؤمنين بالبعث، والحساب، والرسالة، والنبي، والقرآن، استقامة، صلاحا وإصلاحا، عقيدة وسلوكا وخلقا.
2 - فأنت ترى ابن القيم يضع القرآن حيث يجب أن يوضع، منهاجا شاملا تامّا كاملا لحياة الإنسان، لسعادة الدنيا والآخرة، ثم يبدأ بعد ذلك في تفسير أهمية هذا القسم، وأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم الإقسام به في غير آية منها {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}
[يونس: 53].
3 - ثم يبيّن المراد بالنفس اللوامة ناظرا في نظائر القرآن، وفاحصا لأقوال الصحابة والترجيح بين ذلك، وبيان اللوم المحمود والمذموم، ثم بيان الإنكار على المنكر للجمع والحساب، ثم الترجيح بين الأقوال في معنى {بَلى ََ قََادِرِينَ عَلى ََ أَنْ نُسَوِّيَ بَنََانَهُ} (4) [القيامة:
4] وبيان القدرة في خلق اليد، وبيان إعجازها، ثم يبيّن أثر عدم الإيمان بالآخرة في الإنسان يقول: «ثم أخبر سبحانه عن سوء حال الإنسان، وإصراره على المعصية والفجور، وأنه لا يرعوي ولا يخاف يوما يجمع الله فيه عظامه، ويبعثه حيّا، بل هو مريد للفجور فيفجر في الحال، ويريد الفجور في غد وما بعده، وهذا ضد الذي يخاف الله والدار الآخرة، فهذا لا يندم على ما مضى منه، ولا يقلع في الحال ولا يعزم في المستقبل على الترك، بل هو عازم على الاستمرار، وهذا ضد التائب المنيب» ثم نبّه سبحانه على الحامل له على ذلك، هو استبعاده ليوم القيامة اه إلخ. وهذا هو عين المراد من القرآن: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنََا لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} (10) [الإسراء]. فمراد القرآن بيان السبيل والمنهج لمن شاء أن يستقيم، ثم يستمر التفسير على هذا النحو، نظرا في القرآن والسنة، تدبرا وفهما، ثم ترجيحا ولأقوال الصحابة والتابعين، واختيار الأنسب والأوفق لمراد القرآن الكريم.
وهو يدفعك لذلك ويحثك بقوة فيقول عند الكلام عن الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (23) [القيامة].
يقول: «وأنت إذا أجرت هذه الآية من تحريفها عن موضعها وجدتها منادية نداء صريحا، أن الله سبحانه وتعالى يرى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلّا تحريفها الذي
يسميه المحرفون تأويلا وهذا الذي أفسد الدين والدنيا ثم يقول: فاسمع الآن أيها السني تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية» اه.(1/40)
يقول: «وأنت إذا أجرت هذه الآية من تحريفها عن موضعها وجدتها منادية نداء صريحا، أن الله سبحانه وتعالى يرى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلّا تحريفها الذي
يسميه المحرفون تأويلا وهذا الذي أفسد الدين والدنيا ثم يقول: فاسمع الآن أيها السني تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية» اه.
فهو ينادي عليك ببيان المنهج الصائب في التفسير فالتزمه.
ومع هذا ينقد ويرجح بين أقوال السلف شأنه شأن العلماء المتبعين بنظر، لا بتقليد مضل، انظر مثلا (5/ 116) «بدائع التفسير» من سورة النازعات و (5/ 118) هام جدا في بيان المتوسعين في نقل التفسير ونقدهم.
4 - وينظر خلال ذلك في علاقة الألفاظ ونسقها في إظهار المعنى، يقول مثلا: «فلفظ «يفجر» اقتضت «أمامه» بلا واسطة حرف، ولا اسم موصول، فأعطيت ما تضمنته لفظا، واقتضى ما تضمنه الفعل من ذكر الحرف والموصول، فأعطته معنى، فهذا وجه هذا القول لفظا ومعنى والله أعلم» (5/ 76).
فابن القيم ينظر إلى اللفظ ودوره في المعنى: لأنه ليس في القرآن لفظة مهملة (بدائع الفوائد: 2/ 229).
فاللغة هنا لخدمة القرآن الذي نزل بها، لا لإخراج القرآن عن المراد منه، حتى يضع بعضهم تفاسير فيها كل شيء إلّا التفسير. فابن القيم يسخّر اللغة تسخيرا بارعا شيقا صحيحا لخدمة القرآن، فهو ليس المستكثر الممل حتى ليخيل للقارئ أن القرآن إنما كتاب للنحو، والصرف، وعلوم البلاغة، ودقائق وخفايا القضايا المتعلقة بذلك لا غير، ولا هو المقل حتى يظن بعده عن هذا العلم. «وربما توارت شهرة ابن القيم بأنه لغوي لأن اللغة في ذاتها لم تكن قصد ابن القيم، وإنما الدرس القرآني بما فيه من موضوعات دخل بعضها فيما يسمى ب «علم الكلام» كان مقصد ابن القيم من أبحاثه اللغوية، فدراسته للغة دراسة مجالها التطبيقي هو النصوص القرآنية والأحاديث النبوية» (1).
__________
(1) «ابن القيم اللغوي» للبقري (59).(1/41)
عرف القرآن
وهنا يضع ابن القيم رحمه الله تعالى قاعدة أصيلة وعظيمة عند التعامل مع القرآن الكريم، يقول: «وينبغي أن يتفطن هنا لأمر لا بدّ منه، وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عزّ وجلّ ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام، فيكون الكلام بدله معنى ما. فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن، فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر، وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالْأَرْحََامَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] بالجر أنه قسم، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} [البقرة: 217] أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في «به» ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير، بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه، والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به، بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي، فتدبر هذه القاعدة، ولتكن منك على بال، فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه» (3/ 2827) بدائع الفوائد.
ويقول أيضا في معرض بيان معنى الآية رقم (2827) من الأنعام: «وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلا، ومعناها أجل وأعظم مما فسروا به، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ب «بل»، ولا للأمر الذي بدا لهم وكانوا يخفونه، وظنوا أن الذي بدا لهم العذاب.
فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: {مََا كََانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قدروا مضافا محذوفا وهو خبر (ما
كانوا يخفون من قبل)، فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه» عدة الصابرين (185).(1/42)
فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: {مََا كََانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قدروا مضافا محذوفا وهو خبر (ما
كانوا يخفون من قبل)، فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه» عدة الصابرين (185).
بل تراه يذم من أعرض عن النحو فلم يفهم التفسير يقول: «وأنه لم يقدر المعنى حق قدره، فلا لصناعة النحو وفق، ولا لفهم التفسير رزق» بدائع الفوائد (1/ 133)، وانظر أيضا (1/ 206).
وسيأتي مزيد في بيان تعظيمه للقرآن وأدوات تفسيره عند الكلام عن الإسرائيليات، إن شاء الله تعالى.
فليتدبر المسلم مقدار عظم هذه النصيحة ولا يحيد عنها، وينظر في كتاب الله بها ثم ينتظر مدد الله وفيضه.
5 - وهنا نقف على نتيجة هامة هي نظر ابن القيم في القرآن نظرة المصلح المربي المتبصّر، فهو لا تكاد تمر عليه آية أو يمر بها إلّا استخرج منها قواعد هامة لإصلاح الفرد والجماعة، ويؤكد على علاقتين هامتين ضروريتين:
(1) علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى.
(2) علاقة العباد بعضهم مع بعض.
أما علاقة العبد بربه فأكاد أجزم أن مدار كتب ابن القيم عليها قامت، ولها دعت، وانظر إلى أي آية يظن القارئ أنها بعيدة عن ذلك، تراه يستنبط منها ما ينفع العبد في علاقته مع ربه، انظره مثلا عند كلامه على آيات الربا في سورة البقرة فضلا على فتوحات الله عليه في سورة الفاتحة، وهذا أظن التأكيد عليه من نافلة القول.
أما علاقة العبد بغيره من أفراد البشر مسلمين كانوا أم كفارا، فتراه يخرج من الآيات ما به يستقيم حال الفرد وحال المجتمع بتنوع أفراده، وتأمل ما سطره في «تحفة الودود» أو في «أحكام أهل الذمة» مثلا جليّا لذلك، يندفع به ما يراد أن يلصق بالمسلمين الآن من اتهامات بالدموية والقتل لا غير. ويا ليت الأمر جاء من الأعداء فقط لقل الخطب، إنما هي فتنة تبثها أقلام مأجورة وأفواه مطعومة، وعقول مسقاة من نبع واحد إلا هو النفاق، ولكن يتكلمون بألسنتنا ومن جلدتنا.
6 - تفسير الصحابة رضي الله عنهم:
أولا: منزلة الصحابة رضي الله عنهم من المكانة بما لا يحتاج لبيان، فهم من الشأن والرفعة لا يعلو عليهم أحد سوى الأنبياء عليهم السّلام. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرجون عن قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولََئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ
وَالصََّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} (69) [النساء] فهم الجامعة الإسلامية حقا والجماعة المؤمنة الأولى الذين تربوا على يد خير الناس صلى الله عليه وسلم.(1/43)
أولا: منزلة الصحابة رضي الله عنهم من المكانة بما لا يحتاج لبيان، فهم من الشأن والرفعة لا يعلو عليهم أحد سوى الأنبياء عليهم السّلام. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرجون عن قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولََئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ
وَالصََّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً} (69) [النساء] فهم الجامعة الإسلامية حقا والجماعة المؤمنة الأولى الذين تربوا على يد خير الناس صلى الله عليه وسلم.
وقد اهتم إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى أيما اهتمام بأمر اتباع الصحابة، بل بيان وجوب ذلك في أكثر من موضع من كتبه أهمها ما ذكره في «إعلام الموقعين» (4/ 155).
وبيان الدلالة على اتباعهم مطلقا مجتمعين ومنفردين، والرد على من خالف ذلك. وهذا ما أدين به لرب العالمين ولا نحيد عنه إلى يوم الدين، فإن الصحابة رضي الله عنهم خير الناس وأتقاهم وأعلمهم بعد رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم.
«وقد نهج ابن القيم رحمه الله تعالى في مسائل العلم منهج الاسترواح والتطلب من كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فإن لم يجد أخذ بأزمة أقوال الصحابة رضي الله عنهم: لأنهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها دينا، وأصحها فهوما.
وهذه صفة بارزة وسمة ظاهرة في جميع مباحثه في العقائد والأحكام، ولهذا أفاض رحمه الله تعالى بالاستدلال لهذا الأصل ووجوب الأخذ به والعمل بموجبه» (1) وهذا الفصل في وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم يعض عليه بالنواجذ فقد لا تجده في غير مكانه.
ثانيا: موقف ابن القيم من تفسير الصحابة رضي الله عنهم. بعد أن عرفنا مكانتهم في مصنفاته العقدية والفقهية، نرى فيما استطعنا جمعه من تفسيره أنه رحمه الله تعالى يجعل هذا من الأصول العظيمة في التفسير، وإليك بعض الشذرات.
يقول مثلا في «التبيان في أقسام القرآن» (229):
«الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا الأحوص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك في قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) قال: المطهرون الملائكة، وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع، قال الحاكم (2): تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع، ومن لم يجعله مرفوعا فلا ريب أنه عنده أصح من تفسير من بعد الصحابة، والصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن ويجب الرجوع إلى تفسيرهم» فهنا أوجب الرجوع إلى تفسيرهم كما أوجب فيما سبق اتباعهم وطاعتهم.
__________
(1) بكر أبو زيد (89).
(2) راجع ص (300) من سورة الأعراف.(1/44)
وقال في موضع آخر من طريق الهجرتين (356) في الحديث عن أصحاب الأعراف:
«وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة».
ويقول رحمه الله تعالى في تفسير معنى اللهو من الآية (3) سورة لقمان: «وصح عن ابن عمر رضي الله عنها أيضا أنه الغناء» ثم ذكر قولي الحاكم ثم قال: «وهذا وإن كان فيه نظر قول الحاكم أن تفسيرهم في حكم المرفوع فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عزّ وجلّ من كتابه فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل» بدائع التفسير (3/ 405).
وهو يجمع بين أقوالهم، وبين أن أكثر اختلافهم في التفسير اختلاف تنوع، راجع (5/ 105) المرسلات.
7 - ويقول رحمه الله تعالى:
«وقد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع، أو الموقوف؟ على قولين:
الأول اختيار أبي عبد الله الحاكم. والثاني هو الصواب، ولا نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نعلم أنه قاله» اه.
وقد قال الحاكم أيضا في مستدركه (2/ 258): «ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند» ولم يعقب الذهبي بشيء، إذا ابن القيم يصوب أن تفسيرهم موقوف، ولكن يوجب اتباعهم فيه لأنهم أعلم الأمة بتفسير القرآن كلام الرحمن، وإن كان المقام لا يسع هنا الترجيح بين أقوال أهل العلم في هذه المسألة، ولكني أظن أن تخريج هذه المسألة مبني على أن النبي صلى الله عليه وسلم هل تناول تفسير القرآن كله للصحابة أم لا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إن تناول تفسير القرآن كله لهم، فلا شك أن ما قالوه يكون مرفوعا، وما صح سنده يكون العمدة. والله أعلم.
وفي المسألة قولان أحدهما: بالإيجاب، والآخر: بالنفي، وقد ناقش ذلك الدكتور / محمد الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه الهام «التفسير والمفسرون» (1/ 50). واتهم الفريقين بالغلو (1/ 53)، وتوسط بين القولين بأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن الكثير من معاني القرآن لأصحابه، كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يبيّن كل معاني القرآن، وذكر قول ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير (1/ 25) قال: «التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله» (1/ 55).(1/45)
وجعل الدكتور / الذهبي على رأس القائلين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تناول بيان القرآن كله ابن تيمية رحمه الله تعالى التفسير والمفسرون (1/ 51)، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ أقوام كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟! ولهذا كان نزاع الصحابة في القرآن قليلا جدّا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم» دقائق التفسير (1/ 9190).
وانظر مقدمة القرطبي لتفسيره: باب كيفية التعلم والفقه (1/ 34).
8 - ثم المتتبع لتراجم القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعبد الله ابن مسعود، وسالم ومعاذ وأبي بن كعب، وغيرهم كعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ثم التابعين وأشهرهم مجاهد أقول: «المتتبع لتراجمهم يلمس مقدار ما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتلقي ابن مسعود رضي الله عنه سبعين سورة من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبعد أن يسألوه ليتعلموا ويتفقهوا وهذا كثير يصعب حصره، وإنما المتتبع لتفاسير السلف الأوائل يراه واضحا، فهل يعقل أن يسألوه صلى الله عليه وسلم عن النعيم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (8) [التكاثر: 8] ثم يتركون السؤال عن غيرها مما خطره أكبر ومعناه أهم، كالأحكام والعقائد، وانظر عدة الصابرين (190). انظر فتح الباري (8/ 663) فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر فصل في أحسن طرق التفسير لابن تيمية رحمه الله تعالى (1/ 111110) دقائق التفسير. ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن، فكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به، وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه» درء تعارض العقل والنقل (1/ 207).
وتفسير ابن جرير، وعبد الرزاق، وغيرهم من الأوائل، دال على كثرة ما نقلوه في التفسير عن خير أمة أخرجت للناس: صحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وانظر مقدمة ابن كثير لتفسيره (1/ 3).(1/46)
9 - وإني أتبع قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن القرآن للصحابة، وأن الصحابة والتابعين فسروا القرآن كله.
فإذا لا عجب أن نرى استحضار ابن القيم لآراء الصحابة رضي الله عنهم عن تفسيره، وهو لا ينقل فقط، بل يرجح وينقح بين آرائهم، مثلا انظر تفسيره لمعنى «اللمم» الآية (32: النجم) في (4/ 301) من بدائع التفسير، وينقد من يخالف أقوالهم وبشدة كما عند تفسيره «للطائر» من قوله تعالى الآية (13) الإسراء. يقول: «هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه، سلكتموها في الجسم والطبع والعقل وهذا لا يعرفه أهل اللغة وهو خلاف حقيقة اللفظ وما فسره به أعلم الأمة بالقرآن، ولا يعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة» (شفاء العليل:
61) وهذا سيصادف القارئ كثيرا وإذا ثبت النقل عنهم فإنك تراه لا يحيد عن قولهم رضي الله عنهم.
مسألة لقد اعتراني كثير من التحير في مسألة «تفسير النبي صلى الله عليه وسلم» من ناحية كيف يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعدل بعض المفسرين عنه أو ذكر ما يعارضه، حتى ولم يتفق معنا بعض الباحثين في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، لكن لا يخرج الأمر عن بيان المجمل في الكتاب، كالصلوات وهيئاتها مثلا.
فكل ما ورد عنه في هذا الباب تفسير للقرآن، فالسنة مفسرة للقرآن ومبينة وموضحة له.
ومما يؤيد ذلك ما صح عن الصحابة رضي الله عنهم في طريقة تعلمهم للقرآن على يد النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر غير واحد من الصحابة كابن مسعود وعثمان بن عفان وزيد وابن عمر، كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والإيمان معا، علما وعملا.
ولكن لا يشترط لصحة ما ذكرنا أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كل كلمة من القرآن، لأنهم أهل اللسان الذي نزل به، وأفهامهم أنقى الفهوم وأصفى أفئدة، فلم يكونوا بحاجة لمثل هذا التفصيل، مع ورود ما يشبهه عنهم مثل بيانه صلى الله عليه وسلم معنى الظلم في الآية (82) من الأنعام. وهكذا.
لكن اعتراضنا على من صح عنده كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعدل عنه، وليس هذا إلّا كصنيع بعض الفقهاء في ترك السنة لأقوال شيخهم، وهذا فصّلناه في كتاب «جامع الفقه» (1).
__________
(1) وسوف أضع بابا في موضوع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ضمن «معجم علوم القرآن» بحول الله وقوته.(1/47)
فصل موقف ابن القيم من الإسرائيليات:
10 - للعلماء موقف مما روي من أقاويل أهل الكتاب، يقفون به موقف الاحتياط والحذر وغالبا الرفض، وذلك مبناه على قوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» عن ابن عمرو (صحيح الجامع: 2834).
ولهذا يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: «هذه الأحاديث الإسرائيليات تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
الثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
الثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه ويجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني»
(تفسير ابن كثير 1/ 3)، ثم ضرب أمثلة لذلك، كأسماء أصحاب الكهف وكلبهم، ونوع الشجرة التي أكل منها آدم إلخ.
ويذكر كثير من المفسرين ذلك ظنّا أن هذا من العلم النفيس، فحشوا كتبهم به وهو غث وغش فصرفوا المسلمين عن مقاصد الكتاب الهادي المنير، إلى (خزعبلات) وأباطيل أهل الكتاب، وغفلوا أن الله تعالى إنما سكت عن أسماء كثير من الأماكن والأشخاص ليعلمنا أنها ليست مقاصد الكتاب العزيز، فما الذي يفيد في تعين اسم ذي القرنين، وموطنه، وأماكن رحلاته، ثم تراهم يقفون عند هذا، ويغفلون عن قاعدة هامة من قواعد صلاح الأمم واستقامة الحياة قاعدة العدل والإحسان وانتقاد الظلم، كما في قوله تعالى: {قُلْنََا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قََالَ أَمََّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى ََ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذََاباً نُكْراً (87) وَأَمََّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُ جَزََاءً الْحُسْنى ََ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنََا يُسْراً} (88) [الكهف] فلا يعطون لمثل هذه الآية النفيسة ما تستحقه لأن ذلك على خلاف هوى الطغاة والجبابرة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهنا نقف على جوهرة ثمينة من جواهر العلم النفيس لابن كثير ولم لا وهو ممن أزهر وأثمر ببستان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يقول ابن كثير في أحسن ما
يكون في عرض الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم.(1/48)
وهنا نقف على جوهرة ثمينة من جواهر العلم النفيس لابن كثير ولم لا وهو ممن أزهر وأثمر ببستان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يقول ابن كثير في أحسن ما
يكون في عرض الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم.
«فأما من حكي خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكبر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور.
والله الموفق للصواب» (تفسير ابن كثير: 1/ 3).
هذه القاعدة الهامة تراها واضحة عند ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو لا يذكر الأقوال تكثرا، ولا يسرد الآراء عجبا، بل يرجح ما به يقع القارئ على الصواب ويسهل العمل به.
فلا يترك القارئ متحيرا، مدعيا أن له حق الاختيار.(1/49)
بيان تعظيمه للقرآن الكريم
11 - ولهذا نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يعرض تماما عن ذكر الإسرائيليات، فهو يعلم مقدار ما أفسدت هذه الآفات في عقائد المسلمين ورغبتها في تحويل الإسلام إلى رهبانية وقصص وحكايات لصرفهم عن المقصد الأسمى: إلا هو العلم الصحيح النافع مع العمل الصائب. وقد ضرب الأستاذ السنباطي مثلا لإعراض ابن القيم بتفسير آيات آداب الضيافة من سورة الذاريات (2524) وما دار بين الملائكة وخليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام.
(منهج ابن القيم: 154).
وينقد ابن القيم بشدة من يعتمد الإسرائيليات في احتجاجه دون التفات لمعارضة لأصول الدين أو للصحيح من الآثار، يقول في معرض قبول التوبة وعودة العبد بعدها خيرا مما كان: (فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أولا انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوي الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة، وهذا بخلاف ما يظن من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذي كان له من قبل الجناية، واحتجوا في ذلك بأثر إسرائيلي مكذوب أن الله قال لداود عليه السّلام: «يا داود أما الذنب فقد غفرناه وأما الود فلا يعود». وهذا كذب قطعا)
(طريق الهجرتين: 217216). بل نرى ابن القيم يعرض بالكلية عن ذكر ما فيه مساس وعدم صون للكتاب الكريم، أو ما يشوب سير أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم مما قد لا يحذر منه كثير من المؤلفين (كحاطب ليل) يقول في بيان قوله تعالى ذكره: {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} [الأحزاب: 36]: «أخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تخير بعد ذلك، فقد ضل ضلالا بعيدا. وأما زعم بعض من لم يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره، أنه ابتلي في شأن زينب بنت جحش، وأنه رآها فقال: «سبحان مقلب القلوب» فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق، وصنف بعضهم كتابا في العشق وذكر فيه عشق الأنبياء وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله ما لا يتحمله ونسبته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برأه الله منه» (بدائع التفسير: 3/ 426325) فأنت ترى موضع الكتاب المعظم عند ابن القيم
ومكانة النبي المكرم صلى الله عليه وسلم بل لو عدنا ونظرنا في تكملة آيات سورة القيامة بل وغيرها من السور ترى تردد عبارة «ومن أسرار الآية كذا» «وهذا من أسرار القرآن» راجع مثلا سورة القيامة (5/ 79).(1/50)
(طريق الهجرتين: 217216). بل نرى ابن القيم يعرض بالكلية عن ذكر ما فيه مساس وعدم صون للكتاب الكريم، أو ما يشوب سير أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم مما قد لا يحذر منه كثير من المؤلفين (كحاطب ليل) يقول في بيان قوله تعالى ذكره: {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} [الأحزاب: 36]: «أخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تخير بعد ذلك، فقد ضل ضلالا بعيدا. وأما زعم بعض من لم يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره، أنه ابتلي في شأن زينب بنت جحش، وأنه رآها فقال: «سبحان مقلب القلوب» فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق، وصنف بعضهم كتابا في العشق وذكر فيه عشق الأنبياء وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله ما لا يتحمله ونسبته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برأه الله منه» (بدائع التفسير: 3/ 426325) فأنت ترى موضع الكتاب المعظم عند ابن القيم
ومكانة النبي المكرم صلى الله عليه وسلم بل لو عدنا ونظرنا في تكملة آيات سورة القيامة بل وغيرها من السور ترى تردد عبارة «ومن أسرار الآية كذا» «وهذا من أسرار القرآن» راجع مثلا سورة القيامة (5/ 79).
ويقول أيضا: «فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله، وأن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبدا» (بدائع الفوائد: 1/ 74).
ومنه أيضا (1/ 117): «وهذا باب قد فتحه الله لي ولك فلجه وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه جمعا وإفرادا وتقديما وتأخيرا إلى غير ذلك من أسراره».
ومنه (1/ 119): «فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله، والله الموفق للصواب» ويرد بشدة وقوة على من ينتصر لقاعدة نحوية على حساب القرآن «فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارا لقاعدة نحوية، هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى آية» (بدائع الفوائد: 1/ 45) وأخيرا ينقد ابن القيم من يطوع إلى بدعته خلافا لما عليه السلف يقول: «ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر، فأورنا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم، وكل طائفة من أهل البدع تجر القرآن إلى بدعها وضلالها وتفسره بمذاهبها وآرائها والقرآن بريء من ذلك وبالله التوفيق» (شفاء العليل: 61).
وهذا قليل من كثير مما يؤكد على تعظيم الإمام للقرآن والذود عن تفسيره بغير وجه صحيح.
وهو مع هذا يرد ويناقش، لا يقلد رأي أحد مهما كان، فهو يعلم أن كل أحد يؤخذ منه ويرد، إلّا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
راجع مثلا: كلامه عن آية الذرية (172) الأعراف أو كلامه عن الشك من الآية (94) سورة يونس أو معنى الصراط الآية (56) من سورة هود.
ومقصده رحمه الله تعالى في كل هذا الوصول للحق بطريق الحق، والله حسبه، وكل يؤخذ منه ويرد إلّا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلم، فرحمه الله تعالى وأثابه فوق نيته.
فصل هذه نظرة متعلقة بالأبحاث العلمية والكونية والطبية وغيرها من العلوم التجريبية مما تكلم عن بعضها ابن القيم رحمه الله تعالى وفيها بعض التأملات:(1/51)
أولا: القرآن الكريم كلام رب العالمين المنزل على قلب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كتاب هداية وبيان، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات، من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام: صراط الله المستقيم. والقرآن مليء بالحث على التفكر والتدبر والنظر في السموات والأرض وفيما خلق الله من جبال وأنهار وبحار وأشجار وكواكب ونجوم إلى سائر مخلوقات الله تعالى جامدة أو حية. وفي أيام الذين خلوا من قبل. وهذا يكاد لا تخلو منه سورة من السور وإن غلب ذلك على السور المكية كالأنعام والنحل وغيرها، مثلا: يقول الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيََاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (21) [الذاريات] وكقوله: {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمََاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبََالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (20) [الغاشية] إلى كثير من الآيات التي تكلم عنها جمع من العلماء بما عرف بالتفسير العلمي.
يقول العلامة الدكتور / محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى في معنى التفسير العلمي:
نريد بالتفسير العلمي: «التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها» «التفسير والمفسرون» (2/ 454).
وللحديث عن التفسير العلمي في القرآن، وموقف المؤيدين منه والمعارضين، مقام ليس هنا، وإلّا طال المقال عن ضرورة الحال. ومن أحسن من كتب وجمع وحلل الآراء في هذه المسألة مع الاختصار أيضا فضيلة الأستاذ الدكتور / فهد الرومي في كتابه الممتع البديع «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر» في الفصل الثالث «المنهج العلمي التجريبي في التفسير» (2/ 702545) وقد رجح المؤلف حفظه الله بين الآراء بأقوال جيدة ونظرات ثاقبة (2/ 602) وأرى والله أعلم حسن ما ذهب إليه، وهو عدم رفض وإنكار التفسير العلمي بشرط ضرورية للخوض فيه. ثم يقول بعد ذكره هذه الشروط: «أقول: لا رفض للتفسير العلمي مطلقا، ولا تأييد وتسليم له مطلقين، بل جمعا بين حقيقتين: حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيتين، ومن هنا كنا متفقين كما أسلفنا على أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية، وإنما يقع التصادم عند ما ندعي حقيقة علمية في الكون وهي ليست حقيقة علمية، أو ندعي حقيقة قرآنية، وهي ليست حقيقة قرآنية» (2/ 603). وقد نبّه الأستاذ المؤلف للفرق بين أمرين هامين وهما: «التفسير العلمي» و «الإعجاز العلمي». أما أولهما فهو مثار البحث والمناقشة، وأما ثانيهما فأحسبه أمرا مسلما لا جدال فيه ولا إشكال (2/ 600) اه.(1/52)
وهي تفرقة وإن كانت لا تنكر، لكنها قد تخفى على أجيال يلبس عليها دينها ويشوش فكرها بحجة لا مكان للدين في الحقل العلمي والمعملي المعاصر، وتفهيمهم أن الدين هو عبادات داخل المسجد فقط ولا علاقة له بالدنيا، ولا مكان له بالخارج، وهو لحية كثة وقميص قصير ومسبحة طويلة فهو عندهم «دروشة» فأكثر منها إن شئت أودع.
ففصلوا بين الدين والدنيا، بين القرآن والسنة، والحكم وواقع الناس. فالإعجاز العلمي كان ولا يزال وسوف يستمر إلى ميراث الله الأرض ومن عليها «ذلكم أن كتابا أنزل قبل أربعة عشر قرنا من الزمان وعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية كخلق السموات والأرض وخلق الإنسان ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازا علميا للقرآن. هذه النتيجة المتولدة على أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية لم أر بين علماء المسلمين من أنكرها لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة وما يسطر في الصحف ما هو إلّا عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي» (2/ 601600) المصدر نفسه.
فالله عزّ وجلّ لا تخفى عليه خافية، ولا يكون إلّا ما أراد وقدر وقضى، فهو خالق كل صانع وصنعته فهو أنزل القرآن وعلمه، وخلق الإنسان وعقله، وقرآنه هو الدال عليه سبحانه، وهو كتابه المقروء والكون كتابه المنظور.
فهذا كتاب بيان وهدى يدلك أن الكون له خالق واحد لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم.
ونبهنا في القرآن على ما في كثير من الكون من آيات يراها الناس بين الحين والآخر ليزدادوا إيمانا وتسليما حين يرون إعجاز القرآن العلمي، وهذا ينفع المؤمنين مع إيمانهم وتصديقهم أصلا بالقرآن، وإلّا فأكثر هذه الإعجازات العلمية أظهرت على أيدي غير مؤمنين فلم تنفعهم شيئا وكانت حجة عليهم لا لهم. فالعبرة بالإيمان والتصديق أن القرآن حق، ثم تأتي الآيات الكونية لنرى في أنفسنا والآفاق ما يزيدنا إيمانا ويتبين لنا أنه الحق. والله أعلم وبه أؤمن وله أسلم وأسأله أن يتوفاني على ما توفى عليه عباده الصالحين.
ثانيا: «ابن القيم والتفسير العلمي» بعد بيان الفرق بين التفسير العلمي، والإعجاز العلمي للقرآن، نستطيع أن نقف بعون الله على موقف ابن القيم رحمه الله تعالى من الأمرين وهو ما يأتي في الكلام على منهجه رحمه الله تعالى.(1/53)
ابن القيم والتفسير العلمي
بيّنا من قبل في الفصل ص (52) الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، وأن الإعجاز العلمي موجود إلى قيام الساعة، أما تفسير القرآن تفسيرا علميّا فمرفوض والتتبع لمؤلفات ابن القيم رحمه الله تعالى والتي منها تمّ جمع تفسيره يلحظ الآتي:
أولا: إن ابن القيم رحمه الله تعالى يحث المسلمين على التفكر والتدبر والنظر في الكون وإلى ما خلق الله من شيء، ليزدادوا إيمانا وتسليما. وهذا واضح في جلّ كتبه خاصة «مفتاح دار السعادة» الذي لا نظير له. فهو يتكلم عن صنع الإنسان وبديع صنعه والكلام على أعضاء الإنسان عضوا عضوا، ثم ينتقل إلى الكلام عن سائر المخلوقات من شمس وقمر ونجوم وكواكب واختلاف الليل والنهار، ثم الحيوانات والحشرات إلى سائر المخلوقات، وفي كل هذا يذكر الحكمة في الخلق والإعجاز في الصنع.
ثانيا: يضع ابن القيم رحمه الله فرقا بينا في النظر في الآيات وأنه نوعان:
الأول: نظر إليها بالبصر الظاهر فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلومها وسعتها، وهذا نظر يشارك الإنسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود بالأمر.
والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته، خاشعا لعظمته، عان لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه» (مفتاح دار السعادة: 217).
ثم يسرد بعد ذلك ابن القيم سائر المخلوقات ثم يتكلم عن الحكمة في خلقها وعجيب صنعها وقدرة تدبيرها. يذكر الأرض مثلا وما فيها من أرزاق للعباد، فظهرها وطن لهم وبطنها وطن لهم بعد موتهم إلخ. مستشهدا في ذلك بالآيات القرآنية، وأحيانا كثيرة بالأحاديث النبوية فيتكلم بتوسع تارة وبإيجاز أخرى، وهو في كل هذا حاد للأرواح إلى بلاد الأفراح، متزودا للمعاد بهدي خير العباد، متسلحا ببدائع الفوائد، سائرا في طريق
أعلام الموقعين عن رب العالمين، يخطو على مدارج السالكين، بمفتاح دار السعادة، مغيثا للهفان مؤنسا للسائر في طريق الهجرتين مرسلا على أعداء السنة صواعق مرسلة (1). رحمه الله تعالى. ولو تتبعنا ما ذكره لطال المقام فانظر مفتاح دار السعادة ففيه البيان.(1/54)
ثم يسرد بعد ذلك ابن القيم سائر المخلوقات ثم يتكلم عن الحكمة في خلقها وعجيب صنعها وقدرة تدبيرها. يذكر الأرض مثلا وما فيها من أرزاق للعباد، فظهرها وطن لهم وبطنها وطن لهم بعد موتهم إلخ. مستشهدا في ذلك بالآيات القرآنية، وأحيانا كثيرة بالأحاديث النبوية فيتكلم بتوسع تارة وبإيجاز أخرى، وهو في كل هذا حاد للأرواح إلى بلاد الأفراح، متزودا للمعاد بهدي خير العباد، متسلحا ببدائع الفوائد، سائرا في طريق
أعلام الموقعين عن رب العالمين، يخطو على مدارج السالكين، بمفتاح دار السعادة، مغيثا للهفان مؤنسا للسائر في طريق الهجرتين مرسلا على أعداء السنة صواعق مرسلة (1). رحمه الله تعالى. ولو تتبعنا ما ذكره لطال المقام فانظر مفتاح دار السعادة ففيه البيان.
ويقول رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيََاتِنََا فِي الْآفََاقِ} [فصلت: 53] «أي أن القرآن حق، فأخبر أنه لا بدّ أن يريهم من آياته المشهودة ما يبيّن لهم أن آياته المتلوة حق» الفوائد ص (23).
ثالثا: هل الكلام على هذه الآيات وما فيها من علوم كونية، يعتبر هذا تفسيرا علميّا أم بيانا للإعجاز العلمي في القرآن؟
بالنظر إلى ما رجحه كثير من أهل العلم المحققين برفض التفسير العلمي للقرآن بدءا من السابقين أمثال الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات (2/ 8079) وانتهاء بالدكتور الذهبي رحمه الله تعالى (2/ 469) نقرر أن ابن القيم لا يفسر الآيات تفسيرا علميّا بمفهوم أصحابه، لقيام هذه العلوم على نظريات لا قرار لها ولا بقاء، قد تكون اليوم صائبة وغدا طائشة، بل بعض هذه النظريات تهدم كثيرا من سابقتها مع اشتهارها واستمرارها مدة، كنظرية النسبية «لأينشتين») (وغيرها من النظريات العلمية في شتى المجالات وكيف هدمت سابقتها، وفربط تفسير الآيات بمثل هذا عين الخطأ.
لكن لو ذهبنا إلى أن ابن القيم قد أشار إلى الإعجاز العلمي في القرآن في سائر الآيات التي فسرها غيره تفسيرا علميّا، لو ذهبنا لذلك فقد والله أعلم وفقنا.
مثال: تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيََاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (21) [الذاريات]. في ما يقرب من أربعين فصلا، وأكثر من (120) صفحة في «التبيان في أقسام القرآن» من (422294) عن بديع صنع الله تعالى في الأرض، ثم الإنسان، تكلم عن الأذنين وسر شقهما في جانبي الوجه والأنف واللسان والأسنان
وعن الحمل وتفاوت مدته وعن الجنين وأحواله ثم سائر أعضاء الإنسان، وفائدة كل عضو وخصائصه وبعض خصائصه التشريحية وهو يحسن في أحيان كثيرة، لكن يخالفه الطب الحديث الدقيق في كثير مما تكلم هو عنه. وأقول خالفه الطب لا خالف الطب لأنه متقدم وهذا التقدم الطبي حديث فقد يتحدث عن الطحال مثلا بخلاف ما وصل إليه العلم
__________
(1) وصيف لطيف أدرج فيه المؤلف عناوين متفرقة من مؤلفات ابن القيم رحمه الله تعالى.(1/55)
الآن لأنه يتكلم عنه بما وصله من علم من أطباء عصره وهذا مشهور عند المسلمين في تلك القرون وقبلها أيضا، فهو لا يلام ولكن يشكر سعيه ويحمد فعله، ويثاب من فضل الله على قدر نيته، وهي حسنة إن شاء الله تعالى. وهو في هذا على خلاف من يحارب الإسلام الآن مدعيا مخالفته للتقدم والمدنية والحضارة. والتقدم عندهم خروج عن الالتزام، والمدنية مسايرة أخلاق الغرب، والحضارة حضارة الفراعنة، حتى يعتزون بها ويتحمسون لها أكثر من تحمسهم لدينهم الإسلام، هذا إن كانوا أصلا مؤمنين به.
الخلاصة: إننا نرى ابن القيم رحمه الله تعالى وهو المدافع حتى النهاية عن القرآن وعن التشريع كما سبق بيانه مرارا ينأى بنفسه عن ربط القرآن بتطورات العلم من نظريات أو اختراعات. إنما يبيّن إعجاز القرآن كلام الرحمن في تعليم الإنسان ما لم يعلم، وها هو الإنسان يلمس ذلك الآن، شهد بذلك العدو المعاند قبل الصديق المساند. والله أعلم.
وهذه قضية كبيرة كمسلم أميل إلى ما مال إليه علماء الأمة كالشاطبي متبعا إياهم في تنزيه القرآن عن هذا الأمر.(1/56)
فصل في ترجمة الإمام ابن القيم
1 - الإمام الشيخ المفسر اللغوي، الفقيه الأصولي، العارف، الموسوعي، شيخ الإسلام، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قيم الجوزية. من ص (17) «ابن القيم» لبكر أبو زيد.
ولد رحمه الله تعالى سنة (691هـ) وتوفي رحمه الله تعالى سنة (751هـ) (1).
2 - نشأ رحمه الله تعالى في بيت علم ودين، فأبوه رحمهما الله تعالى شيخ صالح عابد، كان قيم المدرسة الجوزية، ومن الصالحين الزاهدين.
أخذ ابن القيم عن أبيه الفرائض، ووجوده بجوار أبيه في جو المدرسة الجوزية يسمع ويرى الأقوال والأخلاق الحميدة من أهل العلم كان له عظيم الأثر في تخلقه بمكارم الأخلاق، والتعبد الصحيح والزهد القويم، مع ما أكرمه الله به من فراسة نادرة وفطنة وذكاء، مع ما عاصره من صفات وأخلاق العلماء لا شك نتج عنها مزيج فكري وسلوكي على درجة كبيرة من السمو والنبل.
يقول ابن رجب من «الذيل» (2/ 448): «كان رحمه الله تعالى ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتألّه ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله تعالى، والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك» اه. وبمثل هذا أخي القارئ ينشأ العلماء الربانيون فما كان نتيجة هذا السلوك مع الله تعالى، يقول ابن رجب تلميذه «ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله» اه.
__________
(1) ليست هذه ترجمة بالمعنى المشاع، إنما هي قطفات وثمار من حياته المباركة، تكوّن صورة موضحة للقارئ عن ابن القيم رحمه الله تعالى.(1/57)
3 - ويقول صديقه وتلميذه ابن كثير رحمه الله تعالى: «سمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولما دعا الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الديار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علما جمّا، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا، وكثرة الابتهال، وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة، يطيلها جدّا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك، رحمه الله تعالى) اه. البداية والنهاية (7/ 657).
ما شاء الله أرأيت أخي القارئ ثمرة التربية المستقيمة والنشأة القويمة: علم نافع، وسلوك صالح، وخلق عال، وسمت حسن، فجعل الله له ذكرا حسنا، وسيرة عطرة، وهكذا يجب أن يكون طالب العلم على هذا النهج الذي به تستقيم الحياة، غير منهج الأدعياء المحرفين للحق، تحت مسمى «يسر الإسلام» ولا يقصدون إلّا الترخّص الجاف، وتضييع أمر الله بمنع نشره وإقامته، وهكذا فلا عجب إذا أن يلوم من هذا حاله على الشباب تمسكه بالدين والخلق المستقيم، وهل رأيت من تاريخ الإسلام من أفتى «بالنقاب» مثلا ليس من الإسلام؟! إي والله هكذا!!! هل رأيت من يحارب المتمسك ويترك المتفلت المتهتك، فأصبح دعاة التوحيد والاستقامة متشددين متزمتين متطرفين في نظرهم ولبسوا على الناس دينهم بكذبهم هذا!! و {لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
وإذا لم نقارن بين أخلاق علماء الأمة الصالحين وسيرتهم العطرة أمثال عالمنا ابن القيم رحمه الله وبين بعض علماء العصر فلا فائدة من ترجمتهم، أو ذكر سيرتهم والله أعلم.
4 - أما مشايخه رحمهم الله فكثيرون، نحيلك توفيرا لوقتك لكتاب الأستاذ العلامة الشيخ «بكر أبو زيد» حفظه الله تعالى «ابن القيم حياته وآثاره وموارده» (183161).
5 - ولكن لا يطيب الكلام عن مشايخه أو يحسن ذلك دون ذكر الإمام الكبير المجدد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه.
فقد لازمه إلى وفاته رحمهما الله تعالى، وأثّر ابن تيمية في ابن القيم رحمهما الله تعالى كأثر الماء في البذر، والشمس في الإنبات، وقد لا أبالغ إن قلت: والروح في الجسد،
وهذا ظاهر واضح عند كل من ترجم له رحمه الله تعالى.(1/58)
فقد لازمه إلى وفاته رحمهما الله تعالى، وأثّر ابن تيمية في ابن القيم رحمهما الله تعالى كأثر الماء في البذر، والشمس في الإنبات، وقد لا أبالغ إن قلت: والروح في الجسد،
وهذا ظاهر واضح عند كل من ترجم له رحمه الله تعالى.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى له أثر عظيم على الأمة كلها في وقته، فهو المحارب بسيفه وقلمه ولسانه وبعد وقته بعلمه الذي ما زال ينتفع به، ولكن الكلام عن ابن تيمية رحمه الله تعالى كتحصيل حاصل، فإنني أستحي أن أترجم له.
ولكن هل تميّز ابن القيم بشيء عن شيخه أم كان له كالظل!؟.
لا شك أن شجرة ابن تيمية أثمرت ثمارا يانعة، أحلاها وأصفاها ابن القيم رحمه الله تعالى، ومع هذا فقد برزت شخصية ابن القيم الاجتهادية والتأليفية بلا شك متفردة متميّزة.
يقول العلامة بكر أبو زيد: «فقد اجتهد وأبدع وخالف شيخه في أشياء، ولا يمنع الحب اتباع الحق» من ص (156139). فأنت ترى في علاقة هذين الإمامين التواضع والحب والبذل من جانب شيخ الإسلام، والوفاء والإخلاص من جانب ابن القيم.
تلمس هذا في كثرة ذكر ابن القيم شيخ الإسلام بقوله كثيرا: «قال لي شيخ الإسلام كذا، وحكى لي كذا وسألته عن كذا».
فيا لها من صحبة مباركة وزمالة نافعة.
وقد ذكره أكثر من «500» مرة في كتبه، تتبعت ذلك أثناء الفهرسة.
وانظر «134» بكر أبو زيد، ويقول الشيخ بكر: «فلا غرو أن يجد ابن تيمية الأستاذ الوفاء من تلميذه رحمه الله تعالى وتحمله معه المحن والأذى» المصدر نفسه (136).
6 - ومن المناسب عند الكلام عن هذين الإمامين ذكر بعض ما لقياه من أعدائهم، فمنهجهما القائم على الكتاب والسنة منهج سلف الأمة، لا بدّ أن يجلب عليهما عداء المقلدة والمتعصبة والجهلة، فتعرضا للأذى: تارة بالحبس، وتارة بالنفي، وكان نصر الله حليفهما.
وما زال منهجهما له أعداؤه من الطائفة نفسها، وما زال الله ينصرهما بنشر علمهما وبثه بين الناس، ويكفي أن تقارن بين ما نفع الله به الناس من كتبهم وعلمهم، وما أفسد الآخرون بمداد أقلامهم في إفساد العقائد والشرائع والأخلاق فيتبين لك بهذه المقارنة أي الفريقين أحق بالاتباع والذكر الحسن.
7 - من علامات الخير بطالب العلم أن يوفق في مشايخه ويرزق علماء أتقياء من أهل السنة والجماعة، ثم يكرمه الله تعالى بغرس حسن يعلمهم من علمه فتستمر الأرض في
الإنبات والزرع في الإثمار، فلا يخلو بذلك مكان ولا زمان من قائم بأمر الله تعالى.(1/59)
7 - من علامات الخير بطالب العلم أن يوفق في مشايخه ويرزق علماء أتقياء من أهل السنة والجماعة، ثم يكرمه الله تعالى بغرس حسن يعلمهم من علمه فتستمر الأرض في
الإنبات والزرع في الإثمار، فلا يخلو بذلك مكان ولا زمان من قائم بأمر الله تعالى.
وهكذا الحال مع عالمنا ابن القيم رحمه الله تعالى فشيخه ابن تيمية، وهو شيخه الكبير وأستاذه الأول، فكان ما كان من حال ابن القيم.
وقد لازم ابن القيم شيخ الإسلام «سبعة عشر عاما» وكان ابن القيم حينئذ في الواحدة والعشرين تقريبا. وكان سنه عند وفاة شيخه رحمه الله تعالى «ثمانية وثلاثين» وعاش بعده «ثلاثا وعشرين سنة».
وأيضا من أساتذته:
1 - العلامة إسماعيل أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الفراء الحراني، الفقيه الحنبلي الإمام الزاهد، شيخ المذهب توفي سنة (729هـ) قرأ عليه الفقه، كما في الدرر الكامنة (3/ 401)، وترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (2/ 408).
2 - وسليمان تقي الدين أبو الفضل بن حمزة بن أحمد بن عمر بن قدامة المقدسي قاضي القضاة ومسند الشام، سمع الحديث، توفي سنة (715هـ) الدرر الكامنة (3/ 400) وترجمته في الذيل (2/ 364).
وأكرمه الله بتلامذة نجباء أعلام، منهم:
1 - الإمام الحافظ إسماعيل عماد الدين أبو الفداء بن عمر بن كثير القرشي الشافعي، صاحب الشيخ وكان من أحبابه، ونقل عنه في تفسيره، مثلا عند الآية رقم (35و 36) من البقرة، والعجيب أن صاحب كتاب «ابن كثير ومنهجه في التفسير» لم يشر إلى ابن القيم ضمن شيوخ ابن كثير، أو حتى أقرانه، انظر ص (6946)، وتوفي ابن كثير سنة (774هـ) رحمه الله تعالى (1).
2 - الإمام العلامة الشيخ ابن رجب عبد الرحمن زين الدين أبو الفرج بن أحمد
الحنبلي يقول ابن رجب: «لازمته قبل موته، وأخذ العلم عنه خلق كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له، كابن عبد الهادي وغيره، توفي رحمه الله (785هـ) (2)».
__________
(1) انظر كتاب الأستاذ العلامة بكر أبو زيد (139) وما بعدها وانظر أشهر مشايخه في كتاب العلامة بكر أبو زيد (178161). في الدرر الكامنة (1/ 373)، وشذرات الذهب (6/ 231)، والبداية والنهاية (7/ 657).
(2) شذرات الذهب (6/ 339)، وانظر كوكبة من تلامذته ذكرهم العلامة الشيخ «بكر أبو زيد» (183179).(1/60)
فصل مكتبة ابن القيم
1 - إن الكتاب والشيخ بالنسبة للعالم وطالب العلم هما الماء والهواء، لا غنى عنهما، فهو منهوم لا يشبع، فالكتاب كروحه، إن فارقه كان كالميت، فهو رفيقه وأنيسه ومعلمه، فلطالب العلم جناحان: المشايخ والكتب فبهما يحلّق في سماء العلم والمعرفة، ويسبح في بحورهما ويغوص في أعماقهما.
والكتاب والمكتبة لهما تاريخ كبير عند المسلمين فلا تجد أمة من الأمم صنفت فيها ما صنفه علماء المسلمين في شتى فروع العلم، المتعلق بالشريعة أو حتى التطبيقي (الطب، هندسة، فلك) إلخ. ولا تخلو ترجمة عالم من ذكر مكتبته غالبا (1).
نعم، الكتاب وحده لا يصنع عالما فاهما مجربا إنما وحده يصنع صحافيا، وهذا ذمه العلماء.
فلا بد من التلقي عن المشايخ، هذا حتمي، ولكن التلقي دون المذاكرة والمراجعة والبحث والتنقيب في الكتب سرعان ما ينضب منبعه، ويجف عطاؤه، ويذبل زرعه، فالكتاب وقود العقل، ونور القلب، وموقظ الفكر. فهو البداية والنهاية والعبرة والتجربة والتاريخ
2 - قال الإمام الكبير ابن عبد البر رحمه الله تعالى: وسئل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن دواء للحفظ فقال: «إدمان النظر في الكتب». (جامع بيان العلم وفضله: 583).
وأنشد أبو عبد الله بن الأعرابي «صاحب الغريب» حين عاتبه أبو أيوب أحمد بن محمد أبي شجاع عن تأخره من زيارته وادعائه أن عنده جلساء من الأعراب، وليس بين يديه شيء إلّا الكتب يطالعها، فقال ابن الأعرابي:
__________
(1) وانظر بحثا مفيدا في الكتب والمكتبات عند المسلمين في كتاب «تاريخ الكتاب» تأليف د / ألكسندر ستيبتشفيتش. (1/ 250233)، مترجم سلسلة عالم المعرفة الكويت.(1/61)
لنا جلساء ما نملّ حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت أموات فما كنت كاذبا ... وإن قلت أحياء فلست مفندا (1)
يقول ابن جماعة: «ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكن شراء، وإلّا فإجارة أو عارية: لأنها آلة التحصيل» (2).
3 - من هذا الباب كان حرص إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى عظيما في اقتناء الكتب، فمع ما تلقاه من العلماء ومصاحبته شيخ الإسلام، يبيّن أثر الكتاب في عمله، فهو يشكو في أكثر من موضع بعده عن كتبه، ويبيّن أن هذا كتبه في سفر مرتحلا عنها، انظر مثلا آخر تفسير سورة الكافرون. ولله دره حين ألف «زاد المعاد» من خمسة أجزاء وهو في سفرة سافرها.
فهو شديد الصحبة للعلماء، شديد الصحبة للكتاب، وانظر إلى أول معرفته بشيخ الإسلام، وقد كان وقتها ابن القيم تجاوز العشرين بقليل وهو سن التأهل والفتوى والتأليف كيف حمل قبل هذا اللقاء من فكر تبين خطؤه يقول عن هذه المرحلة:
يا قوم والله العظيم نصيحة ... من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت من ... تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله ... من ليس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حران فيا ... أهلا بمن قد جاء من حران (3)
ثم توالى فتح الله عليه بتلك الصحبة المباركة، يقول ابن كثير: «واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف» (4).
وهذا يلاحظ في تتبع مصادره الوفيرة، يقول الشيخ بكر أبو زيد: «كتابه «اجتماع الجيوش» يقع في خمس وثلاثين ومائة صحيفة ينقل من أكثر من مائة كتاب، و «أحكام أهل
__________
(1) المصدر نفسه (580).
(2) تذكرة السامع والمتكلم (164).
(3) النونية (1/ 330).
(4) البداية والنهاية (7/ 658)(1/62)
الذمة» نحوا من ثلاثين كتابا و «الروح» كذلك وهكذا» (بتصرف من «ابن القيم حياته، آثاره وموارده» ص 61).
فلا عجب إذا حين نرى هذا الإبداع وذاك الإشعاع من مؤلفاته، فهي مائدة حوت من صنوف الطيبات: لأنها نبتت من حلال (1).
__________
(1) انظر في ترجمته رحمه الله تعالى:
البداية والنهاية، لابن كثير (7/ 657).
الدرر الكامنة، لابن حجر (3/ 400).
ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (2/ 447).
بغية الوعاة، للسيوطي (1/ 62).
ابن القيم حياته وآثاره، للعلامة بكر أبو زيد.(1/63)
فصل مؤلفات ابن القيم مرتبة على الحروف
من المعلوم أن ابن القيم من المكثرين من التأليف، وقد أخطأ بعض المترجمين أو الوراقين في نسبة بعض ما ليس من كتبه إليه. وهذا إن كان عن قصد، فهو جريمة، وخيانة للأمة. حتى قد ترى نسبة مؤلّفين متناقضين لعالم واحد. وقد يكون لتقارب الزمن، أو الأسلوب، أو الاسم سبب لهذا اللبس في أحيان كثيرة.
ولابن القيم رحمه الله تعالى «ثمانية وتسعون» مؤلفا (1)، وقد وضع الشيخ «بكر» اثنتي عشرة نقطة هامة وضرورية لدراسة مؤلفات ابن القيم رحمه الله تعالى وهي:
1 - ذكرها مرتبة على الحروف.
2 - تحرير اسم الكتاب كاملا.
3 - الإشارة إلى أوهام النقلة في ذلك.
4 - الإشارة إلى عبث الوراقين ونحوهم.
5 - الإشارة إلى موضع ذكره عند المؤلفين السابقين.
6 - الإشارة إلى المطبوع ذكره في مؤلفات ابن القيم.
7 - الإشارة إلى المطبوع منها مع بيان بعض الطبعات المعتمدة.
8 - الإشارة إلى أماكن النسخ الخطية لما لم يطبع منها.
9 - جعل رقما متسلسلا لكتبه ليفيد المجموع العددي لها خالية من المكرر والمنسوب خطأ.
10 - إذا تكرر الكتاب ذكر كل اسم في حرفه المناسب له.
__________
(1) كما بين ذلك فضيلة الشيخ «بكر أبو زيد» في كتابه «ابن القيم حياته» ما بين ص (309199).
ولهذا أحيل القراء الكرام إلى هذا المبحث، تجنبا للإطالة والتكرار، وأكتفي هنا بذكر ما وصلنا من كتبه الصحيحة النسبة إليه. وأنبه مرة أخرى أنه لا يستغني باحث، أو قارئ عما كتبه الشيخ «بكر أبو زيد» عن هذا الإمام العلم.(1/64)
11 - إذا تحقق من نسبة الكتاب خطأ فلا يدخله في الرقم التسلسلي بل يميزه بعلامة.
12 - بيان المباحث التي كان ابن القيم يتمنى لو أفردها بمؤلف مستقل
ولهذا فقد اقتصرت على ذكر ما وصلنا من مؤلفاته رحمه الله تعالى، ومن أراد مزيدا عن حصر مؤلفاته وغيرها من الأمور فليرجع إلى كتاب الأستاذ «بكر أبو زيد». وقد ذكرت مؤلفاته المطبوعة مسلسلة على حروف المعجم، مع بيان المطبوع منها والتعليق على الطبعات قدر المستطاع وبالله التوفيق.
1 «اجتماع الجيوش الإسلامية»:
طبع في الهند سنة (1314هـ) وصور في دار الفكر سنة (1401هـ) وهذه هي التي اعتمدت عليها في جمعي التفسير. ثم وصلتني نسخة جديدة طبع الرياض لسنة (1408هـ) بتحقيق الدكتور / عواد عبد الله المعتق. وهي تعد من أحسن كتبه المطبوعة تحقيقا وإخراجا.
فقد طبعت على ثلاث نسخ بالإضافة إلى المطبوعة، وهذا أمر عظيم في التحقيق. وقد قدم لها المحقق مقدمة جيدة في بيان موقف ابن القيم من الفرق، وهو الجزء الأول، ثم تحقيق الكتاب في الجزء الثاني وقد حزنت كثيرا لعدم حصولي على هذه النسخة في بداية العمل، خاصة أن الكتب التي جمعت التفسير هي عندي منذ أكثر من عشر سنوات. ولكن هذا العمل الجيد من الدكتور / عواد يمكن أن يختصر فيخرج القسم الأول لكتاب مستقل، ثم الثاني وهو «الكتاب» في جزء آخر مع اختصار كثير من التراجم. وقد استفدت منها بقدر اتساع الوقت وسوف أعتمدها إن شاء الله تعالى في الطبعة الثانية للتفسير.
ذكره العلامة «بكر أبو زيد» ص (201).
2 «أحكام أهل الذمة»:
طبع سنة (1401هـ) في مجلدين، دار القلم. بتحقيق د / صبحي الصالح رحمه الله تعالى وقد توفي الدكتور المحقق في المحرم من سنة (1407هـ) وهي طبعة جيدة جدا لكن تحتاج إلى تخريج للأحاديث بشكل دقيق. وهي التي اعتمدتها في عملي.
عند «بكر أبو زيد» ص (201).
* أخبار النساء. (انظر آخر الباب).
3 «إعلام الموقعين عن رب العالمين»:
وقد طبع في مكتبة الكليات الأزهرية سنة (1388هـ) بتحقيق / طه عبد الرءوف سعد.(1/65)
وهي تكاد تكون خالية من التصحيفات لكنها خالية أيضا من التخريجات، وطبع أيضا في إحدى مكتبات مصر تصويرا على طبعة الشيخ / عبد الرحمن الوكيل. وهي مليئة بالتصحيف والسقط، وقد صححت فيها أكثر من مائتين من الأخطاء. وهنا يجدر التنبيه على خطورة إعادة طبع الكتب دون إضافة جديد عليها من تحقيق، وتخريج، فضلا أن تطبع بعيوبها، وهي تحت الطبع الآن.
عند «بكر أبو زيد» (209).
4 «أسماء مؤلفات ابن تيمية»:
وهي طبعة دمشق، لسنة (1372هـ) بتحقيق الأستاذ / صلاح الدين المنجد.
ذكره «بكر أبو زيد» ص (208).
5 «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»:
اعتمدت على طبعة السنة المحمدية لسنة (1358هـ) بتحقيق الشيخ / حامد الفقي رحمه الله تعالى. وهي طبعة جيدة غير مستوفاة تخريج الأحاديث. وقد طبعه المكتب الإسلامي / بيروت في جزءين وهي جيدة جدا.
ذكره «بكر أبو زيد» ص (218).
6 «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان»:
طبع «الكليات الأزهرية» سنة (1396هـ) بتصحيح وتخريج العلامة / محمد جمال الدين القاسمي.
ذكره الشيخ «بكر أبو زيد» ص (220).
7 «بدائع الفوائد»:
وهو من أهم وأعظم كتب ابن القيم، طبع «المطبعة المنيرية» بتصحيح الشيخ منير الدمشقي رحمه الله تعالى، وقد راجع أصوله على غير نسخة بعد عرضها على جماعة من أهل العلم والفهم والذكاء (4/ 218).
عند «بكر أبو زيد» (222).
8 «التبيان في أقسام القرآن»:
طبع «دار المعرفة» بتحقيق الشيخ حامد الفقي، وهي طبعة جيدة ولكن ككثير من كتب
ابن القيم تحتاج لإعادة تحقيق.(1/66)
طبع «دار المعرفة» بتحقيق الشيخ حامد الفقي، وهي طبعة جيدة ولكن ككثير من كتب
ابن القيم تحتاج لإعادة تحقيق.
عند «بكر أبو زيد» (225).
وهذا الكتاب القيم يصلح لدراسة منهج ابن القيم في التفسير لاحتوائه كله على تفسيرات لآيات من سور شتى فهو كالتفسير المستقل، وقد ضمناه بدائع التفسير.
9 «تحفة الودود في أحكام المولود»:
طبع «دار الريان للتراث» بتحقيق د / عبد الغفار سليمان، وهي جيدة، وأعتمدها في التفسير.
عند «بكر أبو زيد» (229).
«التفسير القيم»: سبق ووضحت أن هذا الكتاب ليس من تأليفه رحمه الله تعالى.
10 «تهذيب سنن مختصر أبي داود»:
طبع «السنة المحمدية» سنة (1368هـ) بتحقيق الشيخ / حامد الفقي ومشاركة العلامة أحمد شاكر في الأجزاء الثلاثة الأول، وقد حققته ويطبع الآن.
عند «بكر أبو زيد» (234).
11 «جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام»:
طبع «المطبعة المنيرية» سنة (1357هـ) وصورت عليها طبعة «دار الطباعة المحمدية» وهي التي وقعت في يدي أولا وهي بتحقيق «الشيخ طه يوسف شاهين» وهي مسروقة حرفيّا عن الطبعة المنيرية كلمة كلمة، ولم تزد عن المنيرية إلّا في التصحيف والتحريف، وهذا مما يؤسف له. ثم أمدني بعض الأصدقاء بطبعة حديثة جيدة بتحقيق «محيي الدين مستو» ولكن تحتاج لتخريج أدق.
عند «بكر أبو زيد» (236).
12 «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»:
طبع مكتبة القرآن سنة (1408هـ) وهي المعتمدة، وأيضا طبعة «مكتبة المتنبي» والأخيرة رديئة جدا ثم وقع لي طبعة «الأستاذان يوسف علي بدوي، ومحيي الدين مستو» وهي جيدة.
ذكرها «بكر أبو زيد» (239).(1/67)
13 «الداء والدواء»:
طبع «مكتبة المدني» بتحقيق الدكتور / محمد جميل غازي رحمه الله تعالى (1) وهي خالية غالبا من التصحيف، لكن لم تخرج أحاديثها كالعادة، وقد طبع أيضا تحت اسم «الجواب الكافي».
عند «بكر أبو زيد» (244).
14 «الرسالة التبوكية»:
طبع «مكتبة التوعية» سنة (1408هـ). وهي جيدة.
عند «بكر أبو زيد» (250).
15 «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»:
طبع «مكتبة التراث» دون تحقيق.
عند «بكر أبو زيد» (242).
16 «الروح»:
طبع «دار الندوة الجديدة» دون تحقيق. وقد وصلني محققا في جزءين من عمل د / بسام العموش، مكتبة ابن تيمية، الرياض، وهي جيدة، ولكن أدخل مقدمته (1/ 166) كأنها من أصل الكتاب دون إشارة إلى بداية الكتاب (1/ 167). مع عدم الفهرسة للجزء الأول وهو مع ذلك اعتمد على مخطوطات جيدة.
عند «بكر أبو زيد» (253).
17 «زاد المعاد في هدي خير العباد»:
طبع بتحقيق الأستاذين شعيب وعبد القادر الأرناءوط في «خمسة أجزاء» وهي أجود ما أخرج من كتب ابن القيم.
عند «بكر أبو زيد» (620).
__________
(1) كان من كبار الدعاة وأسلم على يديه الكثير، وقاد مركز التوحيد بالعزيز بالله بمنطقة الزيتون بالقاهرة حتى وفاته، وكان فصيحا بليغا متواضعا، أخذت عنه أشياء في الدعوة وعلوم القرآن والتفسير، وله ترجمة جيدة في كتاب العلامة محمد المجذوب (علماء ومفكرون عرفتهم) (3/ 176)، وكانت حياته بين (19881936م).(1/68)
18 «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»:
تصوير دار المعرفة بيروت سنة (1398هـ) دون تحقيق، وهي مصورة على الطبعة الأولى للطبعة الحسينية لسنة (1323هـ)، ونصفه الأول على مخطوطة العلامة الألوسي، والنصف الثاني على مخطوطة دار الكتب المصرية كما ورد في آخر الكتاب (307).
عند «بكر أبو زيد» (266).
19 «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة»:
طبع «دار العاصمة» الرياض (1408هـ) بتحقيق الشيخ علي بن محمد، في أربعة أجزاء في طبعة جيدة. وقد عقد مقارنة بين الكتاب الأصلي وبين مختصره للموصلي (1/ 117)، وأن الكتاب لم يصلنا كاملا، ويدل على ذلك كلامه عن الطاغوت الثالث والرابع في المختصر، وهذا مما لم يصلنا.
عند «بكر أبو زيد» (284).
20 «طريق الهجرتين وباب السعادتين»:
طبع «المكتبة السلفية» سنة (1400هـ) الطبعة الثالثة بإشراف الأستاذ / محب الدين الخطيب. وهي دون تحقيق، وهي المعتمدة من أعماله.
وقد طبع في دار ابن القيم سنة (1409هـ) على الطبعة الأولى، وامتازت بالتحقيقات.
عند «بكر أبو زيد» (272).
21 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»:
طبع مكتبة المدني سنة (1985م). بتحقيق الشيخ الدكتور / محمد جميل غازي رحمه الله تعالى، وهي خالية من التخريج.
عند «بكر أبو زيد» (274).
22 «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين»:
طبع «دار ابن كثير» دمشق، الثانية (1407هـ) وهي جيدة لكنها غير محققة.
«بكر أبو زيد» (276).
23 «الفروسية»:
طبع دار الصحابة مصر سنة (1411هـ) وهي جيدة وقد طبع بأسماء أخرى.
عند «بكر أبو زيد» (280).(1/69)
24 «الفوائد»:
طبع المكتبة القيمة بمصر سنة (1400هـ)، وهي تحتاج لتخريج وتحقيق جديدين.
«بكر أبو زيد» (284).
* الفوائد المشوق (أنظر آخر هذا الباب).
25 «كتاب الصلاة وحكم تاركها»:
طبع المكتب الإسلامي / بيروت سنة (1401هـ). الأولى بتحقيق / تيسير زعتر، وقد أجاد في إخراجها.
عند «بكر أبو زيد» (243).
26 «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية»:
وهي المعروفة بالقصيدة النونية، طبع دار الفاروق الحديثة مصر، وهي كثيرة التحريف.
عند «بكر أبو زيد» (287)،
27 «الكلام على مسألة السماع»:
طبع «دار العاصمة» الرياض سنة (1409هـ) الطبعة الأولى، تحقيق راشد عبد العزيز الحميد.
عند «بكر أبو زيد» (242).
28 «الكلم الطيب والعمل الصالح»:
وهو المعروف باسم «الوابل الصيب» طبع دار الريان / بيروت سنة 1408هـ. وطبع المكتبة السلفية / القاهرة ثم طبع «دار البيان» / بتحقيق الأرناءوط، وهي أجودهم.
عند «بكر أبو زيد» (293).
29 «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين»:
وهو من أمتع كتب ابن القيم، وينبغي الاهتمام بتدريسه خاصة للنشء، لمعرفة السلوك القويم والطريق الصحيح والمثمر للسائرين إلى الله تعالى. وهو مليء بالنقد العلمي الدقيق المنصف للمؤلف، فهو لم يجامل الهروي أو يتحامل عليه. طبع «السنة المحمدية» سنة (1375هـ) بتحقيق الشيخ / حامد الفقي رحمه الله تعالى وإليه يرجع الفضل بعد الله لإظهار
كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وراجع كلامي على طريقتي في التحقيق عند مبحث «التفسير القيم». وقد كنت بدأت في تخريجه منذ سبع سنوات وتوقفت بسبب العمل في التفسير ولعل الله ييسر إخراجه.(1/70)
وهو من أمتع كتب ابن القيم، وينبغي الاهتمام بتدريسه خاصة للنشء، لمعرفة السلوك القويم والطريق الصحيح والمثمر للسائرين إلى الله تعالى. وهو مليء بالنقد العلمي الدقيق المنصف للمؤلف، فهو لم يجامل الهروي أو يتحامل عليه. طبع «السنة المحمدية» سنة (1375هـ) بتحقيق الشيخ / حامد الفقي رحمه الله تعالى وإليه يرجع الفضل بعد الله لإظهار
كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وراجع كلامي على طريقتي في التحقيق عند مبحث «التفسير القيم». وقد كنت بدأت في تخريجه منذ سبع سنوات وتوقفت بسبب العمل في التفسير ولعل الله ييسر إخراجه.
عند «بكر أبو زيد» (295).
30 «مفتاح دار السعادة ومنشور ألوية العلم والإرادة»:
طبع مكتبة حميد وسنة (1399هـ) بتصحيح محمود حسن ربيع، وللأسف أنه أسوأ الكتب إخراجا من ناحية التحقيق أو التخريج مع أهميته العظمى، وفوائده الجزيلة.
عند «بكر أبو زيد» (300)، وقد طبع بتحقيق أخي علي حسن عبد الحميد، طبعة جيدة، لدار ابن عفان.
31 «المنار المنيف في الصحيح والضعيف:
طبع «مكتبة المطبوعات الإسلامية / سورية سنة (1403هـ) بتحقيق الشيخ / عبد الفتح أبو غدة، وهي جيدة جدا.
عند «بكر أبو زيد» (303).
32 «هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى»:
طبع المكتبة القيمة سنة (1407هـ) الرابعة.
عند «بكر أبو زيد» (308).
هذا ما وصلنا من كتبه رحمه الله تعالى وهي «اثنان وثلاثون كتابا» من «ثمانية وتسعين» كما ذكر العلامة بكر أبو زيد (309).(1/71)
فصل
كتابين منسوبين الى ابن القيم
الفوائد المشوق إلى علوم القرآن (1)
واخبار النساء
لقد شكك كثير من أهل العلم في نسبة كتابين إلى ابن القيم:
الأول: أخبار النساء. وقد أنكر أو تردد كثير من أهل العلم نسبته لابن القيم منهم:
1 - الأستاذ المحقق محمد منير الدمشقي، الذي له من الفضل الكثير في نشر كتب علوم الشريعة السمحة.
2 - الأستاذ عبد الغني عبد الخالق.
3 - الأستاذ أحمد عبيد.
4 - والزركلي.
5 - والعلامة «بكر أبو زيد» وقد فصل ذلك تفصيلا في كتابه الممتع «ابن قيم الجوزية حياته، آثاره، موارده» (208202) بما يغني عن ذكره هنا إلّا اختصارا وبتصرف.
يقول الأستاذ «بكر أبو زيد»: (ولا يسعنا هنا بعد هذا، وبعد الدراسة والفحص لمادة الكتاب إلّا التقرير بأن كتاب «أخبار النساء» المذكور ليس لابن القيم لأمور:
1 - بالتتبع لم يذكره أحد من المترجمين في مسرد كتبه.
2 - أنه لم يشر إليه في شيء من كتبه لا سيما «روضة المحبين» مع اشتراك المناسبة وهي: شأن النساء.
3 - عدم إشارته فيه لأحد من شيوخه أو كتبه كعادته غالبا.
4 - غرابة الأسلوب: الوضع، والطريقة، والمنهج في هذا الكتاب، وبعد ذلك على سلوك ابن القيم في التأليف). اه.
ثم بيّن فضيلة الشيخ منشأ هذا الوهم والخطأ إلى عبث الوراقين أو الوهم والغلط في الخلط بين ابن قيم الجوزية وبين ابن الجوزي. ومع هذا يشكك أيضا فضيلة الشيخ في نسبة
__________
(1) ولعل فيما جمعناه من «بدائع علوم القرآن» غنية حميدة إن شاء الله تعالى.(1/72)
الكتاب إلى ابن الجوزي نفسه والفرق بينه وبين أحكام النساء، ولكن هل يختلف الأمر بالنسبة للفوائد المشوق؟ وأحاول جاهدا بيان الصواب في هذه القضية إن شاء الله تعالى وبه التوفيق:
أولا: التعريف بكتاب «الفوائد المشوق»:
1 - اسم الكتاب: «الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان».
2 - موضوعه: معرفة ما تضمنه الكتاب العزيز من أنواع البيان، وأصناف البديع، وفنون البلاغة وعيون الفصاحة. أي: هو كتاب بلاغي في المقام الأول. يحتوي الكتاب على مائتين وستين صفحة، عدا الفهرس.
3 - طبع هذا الكتاب لأول مرة بتصحيح الأستاذ بدر الدين النعساني وعنه ذكره الأستاذ حامد الفقي والأستاذ أحمد عبيد (1).
ثانيا: إن وسائل إثبات صحة نسبة الكتاب لمؤلفه، هي عديدة نذكر منها:
1 - أن يذكر المؤلف مؤلفاته في ثنايا كتبه، وقد ذكر ابن القيم (22) كتابا لنفسه (2)، وهذا على الغالب، وإلا فانتفائه لا ينفي صحة النسبة من طرق أخرى.
2 - أن يذكر مؤلفاته مترجموه خاصة تلامذته المعاصرين له أو القريبين من عصره وبتتبع ذلك يمكن الوقوف على صحة النسبة إليه غالبا (3).
3 - إيلاف أسلوب المؤلف، من حيث استناده على الكتاب والسنة في الاستدلال وكذا اللغة، وأي فنون اللغة يغلب على أسلوبه، ومدى تعصبه أو تجرده لمذهبه الفقهي، ومقدار وضوح عقيدة المؤلف وطريقته، كخطإ من نسب «دفع شبه التشبيه» لابن القيم، وهو لابن الجوزي. وأيضا موارد المؤلف في عموم كتبه له دور هام، إلى غير ذلك من الأدوات والأساليب المرجحة لصحة أو بطلان النسبة.
__________
(1) «ابن القيم» لبكر أبو زيد (290).
(2) المصدر نفسه (197).
(3) وقد وفق فضيلة الشيخ «بكر» للوقوف على ذلك بالنسبة لمؤلفات ابن القيم بقدر يشكر عليه، فقد ذكر من ترجم له وما ذكره من كتب، فوقف على (98) مؤلفا له كما مرّ من قبل.(1/73)
ثالثا: محاولة تطبيق ما سبق على «الفوائد المشوق»:
1 - لم يشر ابن القيم قط «للفوائد المشوق» بالاسم، أو بالإشارة إلى موضوعه وهو حري بذلك لشغفه وتطلعه لإنشاء تفسير بديع للقرآن الكريم كما مرّ في المقدمة، وهو كتاب لو صحت نسبته إليه لكان عجبا من علوم القرآن.
2 - لم يشر أحد من المترجمين لابن القيم خاصة معاصريه وتلامذته كالصفدي، أو ابن رجب مثلا، وانظر تفصيل ذلك في كتاب «بكر أبو زيد» (194189) فقد ذكر ستة عشر مترجما له من الصفدي ت (763هـ) إلى ابن بدران ت (1346هـ) لم يذكر أحدهم «الفوائد المشوق» ضمن كتبه.
3 - يقول الأستاذ بكر أبو زيد (290) «الفوائد المشوق طبع لأول مرة بتصحيح الأستاذ محمد بدر الدين النعساني وعنه ذكره الأستاذ حامد الفقي والأستاذ أحمد عبيد وقال بعد ذكره له: «وذكر في «كشف الظنون» كتابا اسمه «الإيجاز» ولعله هذا).
وقد قال عن الإيجاز: ص (221): «الإيجاز»: لم أر من ذكره قبل صاحب «كشف الظنون» (1/ 206).
وتبعه البغدادي في «هدية العارفين» (2/ 158) «ولم أره عند غيرهما» اه. وهذا كله في بحث صحة أو بطلان نسبة الكتاب من ناحية «السند» إلى ابن القيم، ثم إليك المزيد وهو هام جدا وعليه مدار الأمر.
4 - وقد كان أن دعاني أخي وحبيبي في الله «عبد الرحمن فودة» المدرس المساعد بكلية دار العلوم لسماع مناقشة رسالة الدكتوراة لأخ كريم هو «زكريا سعيد علي» وكانت المفاجأة أن الرسالة عنوانها «بلاغة القرآن عند المفسرين حتى نهاية القرن السادس» (1411هـ 1991م) وقد كنت قاربت الانتهاء من تحقيق أكثر من نصف الكتاب وقد تضمنت رسالته دراسة مبدعة حول كتاب «الفوائد المشوق» نلخصها فيما يلي:
ذهب الباحث إلى نقض نسبة الكتاب لابن القيم من ناحية السند قريبا مما ذهبت إليه (1).
__________
(1) قد حاولت الحصول على نسخة من الرسالة فلم أستطع، لمدة عام كامل، ثم وقفت عليها في مكتبة الكلية المذكورة وقفة سريعة لم تمكني من دراسة البحث جيدا، حتى تفضل الأستاذ الباحث مشكورا بإرسال نسخة منها أعدها للطبع وسمّاها «المقدمة في علم البيان» مقدمة تفسير ابن النقيب، وهذه تحتوي على النصف الأول من الكتاب المتعلق ب «ما يتعلق بالمعاني من المبالغة» وهو إلى القسم الرابع والعشرين من أقسامه.(1/74)
ب من ناحية المتن ابتدأ الباحث رده صحة هذه النسبة بذكر قضية «المجاز» عند ابن القيم، وأنه في مقام العداء له ووصفه (كما مختصر الصواعق) بأنه الطاغوت الثالث الذي وضعه الجهمية (284) وهذا لم يصلنا مع «الصواعق» المطبوع و «الهجوم الضاري» من ابن القيم على مسألة تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز وهو مما يتنافى تماما مع ما ذكر في «الفوائد المشوق». الذي أخذ حجما ضخما من ص (879) اه. وهذا هام جدا من ناحية مخالفة المنهجين تماما لما يقطع ببطلان هذا التقسيم وبين ما يثبته ويدلل عليه بهذه السعة كما في الفوائد المشوق. وهذا كما مرّ من الأسباب النافية لصحة نسبة كتاب يخالف محتواه العقدي لمؤلف على النقيض من هذه العقيدة.
ج يقول الباحث «ومما لفت نظري في الكتاب الموسوم بالفوائد المشوق عند ذكره للزمخشري أنه يتبع ذلك بصيغة الترحم عليه: رحمه الله وهذا مما لا يمكن أن يصدر عن واحد مثل ابن القيم السلفي المعتقد خاصة بالنسبة لواحد من رأس المعتزلة وهم عنده من فرق المبتدعة والضلالة.
وهذا الترحم يشعر في كلام السابقين شيئا من الحب والوفاء في نفس المترحم على المترحم عليه» ص (8) باختصار يسير.
وهذه الفقرة بعينها من أضعف نقاط البحث، وكنت أرجو أن يغض طرف قلمه عن مثل هذا، وتنزيه ابن القيم عن هذا الخلق، مع وقوفنا في خندق واحد معه رحمه الله تعالى، ضد المعتزلة وأمثالهم فيما خالفوا فيه أهل السنة. فقد ذكر ابن القيم الزمخشري في أكثر من خمسة عشر موضعا في المجموع من تفسيره «بدائع التفسير» مثل: (1/ 261و 277و 310 و 378و 378و 428) و (2/ 297و 223و 311) و (3/ 27و 111) إلخ.
وفي كثير منها ينقل قولا له مع تقدير رأيه أو ما ذهب إليه ثم قد ذكر ابن القيم كثيرا من علماء الأمة دون ذكر الترحم فهذا ليس شرطا أو قيدا.
وانظر موضع ترجمته في السير (20/ 151) يقول الذهبي: «الزمخشري العلامة، كبير المعتزلة، صاحب الكشاف رحل، وسمع، وحج، وجاور وتخرج به أئمة أثنى عليه أبو السعادات بن الشجري وكان داعية إلى الاعتزال، الله يسامحه» اه. هكذا يكون الإنصاف. والله أعلم.
ثم أحيل أخي الباحث إلى كتاب الأستاذ الدكتور العلامة محمد محمد أبو موسى حفظه الله تعالى: «البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري» ص (30). ثم سائر الكتاب. وانظر أيضا
من ص (63) وموقف الزمخشري من أهل السنة وتعقيب ورد الشيخ الجليل «أبو موسى».(1/75)
ثم أحيل أخي الباحث إلى كتاب الأستاذ الدكتور العلامة محمد محمد أبو موسى حفظه الله تعالى: «البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري» ص (30). ثم سائر الكتاب. وانظر أيضا
من ص (63) وموقف الزمخشري من أهل السنة وتعقيب ورد الشيخ الجليل «أبو موسى».
د استشهاد صاحب «الفوائد المشوق» بعدة أحاديث لا يخفى وهنها عن ابن القيم وهو صاحب «المنار المنيف» وهذه الأحاديث بين الضعيف والموضوع ولن نتعرض للأحاديث الضعيفة، حيث إن من أهل العلم من يجيز الاحتجاج بها، أما المكذوبة فهو زور وبهتان كقوله: «إياكم وخضراء الدمن» وقوله: «المعدة بيت الداء» فهو من كلام الحارث بن كلدة، ولا يصح رفعه. أما قوله: «خضراء الدمن» فقد قال الألباني:
«ضعيف جدا». وقوله: «أصحابي كالنجوم» موضوع فهذا مما لا يفوت ابن القيم معرفته من (119) اه. وهذا من الباحث نظر جيد، وممّن نبّه على هذا الأمر أي هذه العلة في دفع صحة نسبة الكتاب فضيلة الشيخ «بكر» في كتابه ص (291).
ثم يصل الباحث إلى أهم النقاط التي رجحت عندي صحة ما ذهب إليه في نفي صحة نسبة هذا الكتاب لابن القيم، ثم وهذا هام جدا بيان صاحب هذا العمل الممتع.
هـ يقول الباحث: (ولمعرفة ذلك هداني الله للإجابة عن السؤال من خيط رفيع جدا، وهو عنوان القسم «الحادي والعشرين» من أقسام فنون المعاني (136) جعل صاحب الفوائد المشوق عنوانه «الاحتجاج النظري» وقال فيه: وبعض أهل هذا الشأن يسميه «المذهب الكلامي» إلخ، وتذكرت أن هذا الكلام قد مرّ بي من قبل في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ) عند قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} [آل عمران:
154] يقول أبو حيان: «هذا النوع عند علماء البيان يسمى «الاحتجاج النظري» وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول» إلخ.
وقد حاولت معرفة من استخدم مصطلح الاحتجاج النظري من علماء البيان، فلم أعثر على ذكره إلّا لدى شيخ أبي حيان «ابن النقيب» كما نص السيوطي.
يقول: وسمّاه ابن النقيب «الاحتجاج النظري» كما في شرح عقود الجمان في علم البيان للسيوطي ص (123).
وهنا طرقني السؤال: إذا لم يكن أحد غير ابن النقيب استخدم مصطلح «الاحتجاج النظري» فلم لا يكون الكتاب المسمى بالفوائد المشوق هو نفسه كتاب «ابن النقيب»؟ وبتتبع ما وصلت إليه يدي من كتب البلاغة التي بين أيدينا اليوم فلم أجد في واحد منها إطلاق تسمية «الاحتجاج النظري» على «المذهب الكلامي» إلّا في «الفوائد المشوق»).
ويقول الباحث: «فلماذا إذا لا يكون هذا الكتاب إلّا مقدمة ابن النقيب في علم
البيان، والتي ذكرها أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط عند حديثه عن الوجه الثالث من الوجوه التي يكون كلام الله عزّ وجلّ هو «وجه الفصاحة والبلاغة» «ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله محمد بن سليمان النقيب، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير» البحر (2/ 227):.(1/76)
ويقول الباحث: «فلماذا إذا لا يكون هذا الكتاب إلّا مقدمة ابن النقيب في علم
البيان، والتي ذكرها أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط عند حديثه عن الوجه الثالث من الوجوه التي يكون كلام الله عزّ وجلّ هو «وجه الفصاحة والبلاغة» «ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعها ما جمعه شيخنا الأديب الصالح أبو عبد الله محمد بن سليمان النقيب، وذلك في مجلدين قدمهما أمام كتابه في التفسير» البحر (2/ 227):.
ز ثم يقول الباحث ص (14): (قال أبو حيان: وفي قوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] نوع من البديع يسمى «التتميم» وهو إرداف الكلام بكلمة ترفع عنه اللبس وتقربه للفهم البحر المحيط (2/ 117) وهذا التعريف يتطابق مع ما في الفوائد المشوق ص (90).
وهذا التعريف للتتميم لم أجده في واحد من كتب البلاغة التي بين أيدينا إلّا في الكتاب وفي تفسير البحر المحيط).
ح يقول الباحث (15): «ومن التقارب الكبير بين ما في البحر المحيط وبين ما في «الفوائد المشوق» ما ذكره أبو حيان عند قوله تعالى: {وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} [غافر: 28 29] قال أبو حيان: وقال صاحب التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا «استدراج المخاطب» البحر المحيط (7/ 462461) وقابل بالفوائد المشوق (213 214) وصاحب التحرير والتحبير هذا هو نفسه شيخ أبي حيان (ابن النقيب) والتحرير والتحبير تفسيره الكبير للقرآن واسمه «التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير» (كشف الظنون: 1/ 358)، وهذا التشابه الكبير بين ما في تفسير البحر المحيط وكتاب «الفوائد المشوق» وانفراد صاحب هذا الكتاب بمصطلح «الاحتجاج النظري» جعلني أطمئن بعض الاطمئنان إلى ما هجست به نفسي أن ما بين يدي من كتاب «الفوائد المشوق» هو نفسه مقدمة شيخ أبي حيان «ابن النقيب» (1)).
ط يقول الباحث (17): «غير أن هذا لم يكن كافيا عندي للوصول إلى درجة اليقين،
__________
(1) وقد ذكر غير واحد هذه المقدمة بالإضافة لأبي حيان، منهم الزركشي، يقول عند حديثه عن «معرفة كون اللفظ والتركيب أحسن وأفصح» يقول الزركشي: «ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة، وأجمعها ما جمعه الشيخ شمس الدين محمد ابن النقيب في مجلدين، في مقدمة تفسيره» البرهان في علوم القرآن (1/ 311). وذكرها أيضا ابن السبكي في مصادره في تأليف «عروس الأفراح» (1/ 31).(1/77)
فعدت ألتمس ذكر «ابن النقيب» ومن نقل عنه لعليّ أجد فيه ما يشفي. وقد كان بحمد الله وتوفيقه، وهو ما وقع من نص عند السيوطي في حديثه عن «التورية» من فنون البديع.
يقول السيوطي «حكى بعضهم في التورية قولا نادرا فقال: هي أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى، ثم يرددها بعينها، ويعلقها بمعنى آخر، نحو {مِثْلَ مََا أُوتِيَ رُسُلُ اللََّهِ اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ} [الأنعام: 124] فجاء بلفظ الجلالة مضافا إليه، ثم جاء به مبتدأ مثل قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجََالٌ} [التوبة: 108] الأول: متعلق ب (تقوم)، والثاني: خبر رجال. كذا أورده الأندلسي نقلا عن ابن النقيب في تفسيره».
(قلت: السيوطي الظاهر أن هذا القول تصحف على ناقله، فإن هذا هو النوع المسمى ب «الترديد» السابق في الإطناب فتحرف على الناقل «الترديد» ب «التورية» ثم رأيت في «المصباح» لابن مالك التمثيل بالآية الأولى للترديد فصح ما قلته (اه. شرح عقود الجمان (115).
وهذا ما علقته بهامش نسختي على الفوائد المشوق، فرحم الله السيوطي فقد شفى نفسي بكلامه هذا).
ي يقول الباحث: «(وبالبحث تبين أن مراد السيوطي «بالأندلسي» هنا أبا جعفر الأندلسي، وأن هذا النص موجود بالفعل في شرحه على بديعة رفيقه ابن جابر الشهيرة ب «بديعية العميان»، فتطلبت هذا الشرح المعروف ب «الحلة السّيرا في مدح خير الورى» وجدت له عدة نسخ مخطوطة بدار الكتب المصرية، وعثرت بتوفيق الله على ما نقله السيوطي منها. وثبت لي أن الأندلسي هذا هو أبو جعفر الأندلسي أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الغرناطي (ت 779هـ).
وبعد أن ساق أبو جعفر حد «التورية» المشهور من «أنها إطلاق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، والمراد البعيد»، قال: «وهذا الذي قررناه في حد التورية هو الذي درج عليه الناس، وقد ذكر ابن النقيب في مقدمة تفسيره قولا نادرا في التورية فقال: «التورية أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر وذلك نحو قوله: {حَتََّى نُؤْتى ََ مِثْلَ مََا أُوتِيَ} الآية» الحلة السّيرا في مدح خير الورى ورقة (152) مخطوط بدار الكتب المصرية: 282بلاغة (1).
__________
(1) قلت: وقد طبع شرح الحلة في مؤسسة الثقافة الإسكندرية باسم «طراز الحلة وشفاء الغلة» بتحقيق(1/78)
وهذا النص الذي سقته يزيد فائدة على نص السيوطي السابق أنه قرر أن ذلك القول في مقدمة تفسير ابن النقيب، فأصبح شبه متقرر عندي أن ما بين يدي من مطبوعة «الفوائد المشوق» ما هي إلّا مقدمة الشيخ ابن النقيب وهذا القول النادر الذي نسبه أبو جعفر الأندلسي إلى ابن النقيب في تعريف التورية في الحقيقة ليس إلّا نتاج تحريف ناسخ مقدمة ابن النقيب، والصواب كما ذهب إليه السيوطي أنه «الترديد» لا «التورية» فهذا حده المعروف به في كتب علماء البلاغة (1) وأنه تصحف على الناسخ من «الترديد» إلى «التورية» وهذا يكشف لنا عن أن هذا التصحيف في أصل مقدمة ابن النقيب المخطوط كان قديما جدا من زمن أبي جعفر الأندلسي، وهو تصحيف «مبارك» له من الفضل عليّ في توثيق نسبة هذا الكتاب ما له!! اه. من ص 1918).
11 - ثم اعتمد الباحث أيضا على أن ما ذكره المؤلف للفوائد المشوق كمقدمة لتفسيره، والتصريح بغرضه من الكتاب وهو «إثبات ما وقع في الكتاب العزيز من فنون الفصاحة وعيون البلاغة» إلخ راجع الفوائد المشوق (5، 7، 8، 46، 225). كل هذا يقوي عندي أن هذا مقدمة بين يدي تفسير للقرآن الكريم، ومن كل ما سبق أجدني مطمئنا إلى أن ما نشر تحت عنوان «الفوائد المشوق» أو «كنوز العرفان» المنسوب لابن القيم هو في حقيقته مقدمة الشيخ «ابن القيم» في علوم البلاغة والتي جعلها أمام تفسيره الكبير للقرآن الكريم اه (2).
وأخيرا
هذا أخي المسلم جهدي القليل الذي أسأل الله تعالى البركة فيه بقبوله، يرفع به درجاتي.
والبركة فيه بالانتفاع به، والعمل به.
__________
د. / رجاء السيد الجوهري الأستاذة المساعدة للأدب بكلية التربية جده «م. ع. س»، وهذا النص في المطبوع برقم (448)، وهذه المسألة أوضح أسباب نسبة الكتاب لابن النقيب، وهذا لا شك قاطع لقول كل خطيب، وهو أقرب لليقين.
(1) انظر: تحرير التحبير: (253)، وبدائع القرآن: (96)، والبرهان في علوم القرآن (3/ 301)، والإتقان (3/ 270).
(2) انتهى ما ذكره الباحث ولا تستطل هذا النقل فهو هام بل ضروري للفصل في هذا النزاع، ثم حاولت قدر الاستطاعة نقله كاملا باختصار غير مخل لتعم الفائدة لمن لم يتحصل على نسخة من كتاب الأخ الباحث.(1/79)
وأشهد الله تعالى، ما صنعت هذا العمل وما سبق وما لحق إن شاء الله تعالى إلّا حبا في الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالحين. راجيا أن يكون لبنة صحيحة في بناء عظيم قام عليه كبارنا الأوائل، جعلنا الله تعالى دعاة بناء لا دعاة هدم، وكل رجاء أن تنالني دعوة بالعفو والعافية. ولا شك أن هناك زلات، أرجو تنبيهي عليها. وهناك هنات أرجو الدعاء لي بالمغفرة والتوبة.
سبحانك الله وبحمدك لا إله إلّا أنت.
ربّ اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين.
ربّ بارك في أهل بيتي وزهور عمري نعمة ربي:
«فاطمة ومريم وسلمى».
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه أبو الزهراء: يسري السيد محمد الكولي بالهرم.
هاتف: 0101334080أول رجب سنة 1423سبتمبر سنة 2002.(1/80)
ضرورة الوحي
مكانة الوحي
لا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقة الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية، فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق (1).
مراتب الوحي
النبوى
مراتب الوحي مراتب عديدة:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (2).
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته» (3).
الثالثة: أنه (كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له (4)، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك
__________
(1) بدائع الفوائد (1/ 118).
(2) رواه البخاري (3) في بدء الوحي، باب: (3)، ومسلم (160/ 252) في الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) الطبراني في الكبير (8/ 194) (7694)، وقال الهيثمي في المجمع (4/ 74): «فيه قدامة بن زائدة بن قدامة، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات». والحديث حسنه الألباني.
(4) مسلم (8/ 1) في الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى.(1/81)
حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها (1). ولقد جاءه الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها (2).
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهنا وقع له مرتين كما ذكر الله في سورة النجم [النجم: 7، 13] (3).
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران (4)، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن، وثبوتها لنبينا (هو في حديث الإسراء؟).
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، هذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى (5)؟.
مراتب الهداية الخاصة والعامة والفرق بين الإلهام والوحي والتحديث
المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة، بل منه إليه. وهذه أعلى مراتبها، كما كلم موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء: 164] فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه. وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية. ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر «كلم» وهو «التكليم» رفعا لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام، أو إشارة، أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم.؟ فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز. قال الفراء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما
__________
(1) البخاري (2) في بدء الوحي، باب: (2)، ومسلم (2333/ 86) في الفضائل، باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي.
(2) البخاري (4592) في التفسير، باب: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ}
[النساء: 95].
(3) مسلم (177/ 287) في الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} [النجم: 13].
(4) يشير المصنف إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء].
(5) زاد المعاد (1/ 8077).(1/82)
بأي طرق وصل. ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، كالإرادة. يقال: فلان أراد إرادة، يريدون حقيقة الإرادة. ويقال: أراد الجدار، ولا يقال:
إرادة، لأنه مجاز غير حقيقة، هذا كلامه. وقال تعالى: {وَلَمََّا جََاءَ مُوسى ََ لِمِيقََاتِنََا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون. وفي هذا التكليم الثاني سأل النظر، لا في الأول وفيه أعطي الألواح، وكان عن مواعدة من الله له. والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة، وفيه قال الله له: {يََا مُوسى ََ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النََّاسِ بِرِسََالََاتِي وَبِكَلََامِي} [الأعراف: 144] أي بتكليمي لك بإجماع السلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه: أنه ناداه وناجاه. فالنداء من بعد، والنجاء من قرب.
تقول العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء، أو نجاء. وقال له أبوه آدم في محاجته: «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده؟» (1). وكذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة أو السابعة، على اختلاف الرواية (2). قال: «وذلك بتفضيله بكلام الله»، ولو كان التكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معني، ولا كان يسمى «كليم الرحمن». وقال تعالى: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} [الشورى: 51] ففرق بين تكليم الوحي، والتكليم بإرسال الرسول، والتكليم من وراء حجاب.
فصل المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء، قال الله تعالى: {إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء 163] وقال: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ} الآية [الشورى: 51] فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم، وجعله في آية النساء قسيما للتكليم، وذلك باعتبارين، فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.
والوحي في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي، ويقال في فعله: وحى، وأوحى، قال رؤبة:
__________
(1) البخاري (6614) في القدر، باب: تحاج آدم وموسى عند الله، ومسلم (2652/ 13) في القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(2) البخاري (349) في الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ومسلم (162/ 259) في الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات.(1/83)
وحى لها القرار فاستقرت
فصل المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري، فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء، لا تكون لغيرهم.
ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشري رجلا، يراه عيانا ويخاطبه. وقد يراه على صورته التي خلق عليها. وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثم يفصم عنه، أي يقلع، والثلاثة حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم (1).
فصل المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث. وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب» (2).
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين. ابن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا. وعلق وجودهم في هذه الأمة ب «إن» الشرطية مع أنها أفضل الأمم، تضم لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدّث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
والمحدّث: هو الذي يحدّث في سره وقلبه بالشيء، فيكون كما يحدث به.
قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث، لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه قد سلّم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول، فاستغنى به عما منه (3).
__________
(1) البخاري (2) في بدء الوحي، باب: (2)، (3215) في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2333/ 87) في الفضائل، باب: عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحي.
(2) البخاري (3689) في فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2398/ 23) في فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه.
(3) لعل مراده: فاستغنى الصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي عما منه هو من التحديث والله تعالى أعلم.(1/84)
قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، تضبط رده، فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: «حدثني قلبي عن ربي» فصحيح أن قلبه حدثه، ولكن عمّن؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: «حدثني قلبي عن ربي» كان مسندا الحديث إلى من يعلم أنه حدثه به، وذلك كذب. قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوّه به يوما من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك، بل كتب كاتبه يوما «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب» فقال: «لا، امحه، واكتب:
هذا ما رأى عمر بن الخطاب، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر، والله ورسوله منه بريء» وقال في الكلالة: «أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان»، فهذا قول المحدث بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح، والسماعي مجاهر بالقحة والفرية، يقول: «حدثني قلبي عن ربي».
فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين، وأعط كل ذي حقّ حقه، ولا تجعل الزغل والخالص شيئا واحدا.
فصل المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام معناه، قال الله تعالى: {وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلًّا آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنََا مَعَ دََاوُدَ الْجِبََالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنََّا فََاعِلِينَ} (79) [الأنبياء: 78، 79] فذكر هذين النبيين الكريمين، وأثنى عليهما بالعلم والحكم. وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة. وقال علي بن أبي طالب وقد سئل: «هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس؟» فقال: «لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقل وهو الديات وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر».
وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «والفهم الفهم فيما أدلي إليك» فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوت مراتب
العلماء، حتى عدّ ألف بواحد. فانظر إلى فهم ابن عباس، وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} وما خص به ابن عباس من فهمه منها «أنها نعي الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله» (1)، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصحابة، وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا، وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره، ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه مثال الذين يظنون النقص بالشريعة، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.(1/85)
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوت مراتب
العلماء، حتى عدّ ألف بواحد. فانظر إلى فهم ابن عباس، وقد سأله عمر ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} وما خص به ابن عباس من فهمه منها «أنها نعي الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله» (1)، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصحابة، وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا، وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره، ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه مثال الذين يظنون النقص بالشريعة، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.
فصل المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام. وهو تبين الحق وتمييزه من الباطل بأداته وشواهده وأعلامه، بحيث يصير مشهودا للقلب، كشهود العين للمرئيات.
وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها، قال الله تعالى: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدََاهُمْ حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ إِنَّ اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (115) [التوبة: 115]، فهذا الإضلال عقوبة منه لهم، حين بين لهم، فلم يقبلوا ما بينه لهم، ولم يعملوا به، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة، وشبهات في هذا الباب، وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده. والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر طبع، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصََارَهُمْ كَمََا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (110) [الأنعام] فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه، بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه موضع عظيم.
وقال تعالى: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} [فصلت: 17] فهذا هدي بعد البيان والدلالة، وهو شرط لا موجب، فإنه إن يقترن به هدي آخر بعده لم يحصل به كمال
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير.(1/86)
الاهتداء، وهو هدي التوفيق والإلهام.
وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية، وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه، ولهذا يدعو عبادة بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة ويحضهم على التفكر في هذه وهذه. وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل، وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، قال الله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4) [إبراهيم] فالرسل تبين، والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
فصل المرتبة السابعة: البيان الخاص، وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة. وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب، فلا تتخلف عن الهداية البتة. قال تعالى في هذه المرتبة: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى ََ هُدََاهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}
[النحل: 37] وقال: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [القصص: 56] فالبيان الأول شرط، وهذا موجب.
فصل المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع. قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23) [الأنفال]، وقال تعالى: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ إِنَّ اللََّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشََاءُ وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلََّا نَذِيرٌ} (23) [فاطر: 2319]، وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ، فإن ذلك حاصل لهم، وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب، فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما. فسماع لفظه حظ الآذان، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب، فإنه سبحانه نفي عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله تعالى: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لََاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 32]، وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه، أو تمكنه منها. وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب
وغفلته وإعراضه، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: {مََا ذََا قََالَ آنِفاً أُولََئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16].(1/87)
فصل المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع. قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23) [الأنفال]، وقال تعالى: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ إِنَّ اللََّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشََاءُ وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلََّا نَذِيرٌ} (23) [فاطر: 2319]، وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ، فإن ذلك حاصل لهم، وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب، فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما. فسماع لفظه حظ الآذان، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب، فإنه سبحانه نفي عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله تعالى: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لََاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 32]، وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه، أو تمكنه منها. وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب
وغفلته وإعراضه، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: {مََا ذََا قََالَ آنِفاً أُولََئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16].
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام: أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن ومرتبة الإفهام أعم. فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه، ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر، وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه وتعلقاته وإشاراته، ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة.
فصل المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا (7) فَأَلْهَمَهََا فُجُورَهََا وَتَقْوََاهََا}
[الشمس: 87]، وقال النبي لحصين بن منذر الخزاعي لما أسلم: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» (1).
وقد جعل صاحب المنازل بين: «الإلهام» هو مقام المحدثين. قال: وهو فوق مقام الفراسة، لأن الفراسة ربما وقعت نادرة، واستصعبت على صاحبها وقتا، أو استعصت عليه، والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام، فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم، فكل مؤمن قد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان. فأما التحديث: فالنبي (قال فيه: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر» (2) يعني من المتحدثين. فالتحديث إلهام خاص، هو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين، كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:
7]، وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوََارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111] وإما من غير المكلفين، كقوله تعالى: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ}
[النحل: 68]، فهذا كله وحي إلهام.
فصل قال: وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع. إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن.
__________
(1) الترمذي (3483) في الدعوات، باب: (70) وقال: «غريب».
(2) سبق تخريجه ص (5) رقم (2).(1/88)
فليس كل خبر نبأ، وهو نبأ خبر عن غيب معظم.
ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه، إما بواسطة سمع، أو هو الإعلام بلا واسطة.
قلت: أما حصوله لغير الأنبياء، وهو الذي خص به موسى، إذ كان المخاطب هو الحق عزّ وجلّ.
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع، فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها. أعلاها: أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا. فإن هذا يقع لغير الأنبياء، فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام، فلما اكتوى تركت خطابه، فلما ترك الكي عاد إليه خطاب الملك. وهو نوعان:
أحدهما: خطاب يسمعه بأذنه، وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.
والثاني: خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك وروحه، كما في الحديث المشهور:
«إن للملك لمّة بقلب ابن آدم، وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد» (1)، ثم قرأ: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. قيل في تفسيرها: قوّوا قلوبهم، وبشروهم بالنصر. وقيل: احضروا معهم للقتال، والقولان حق، فإنهم حضروا معهم القتال، وثبتوا قلوبهم.
ومن هذا الخطاب: واعظ الله عزّ وجلّ في قلوب عباده المؤمنين، كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى ضرب مثلا:
صراطا مستقيما، وعلى كنفتي الصراط سوران، لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوق الصراط، فالصراط المستقيم:
الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مؤمن» (2)، فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام
__________
(1) الترمذي (2988) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة، وقال: «حسن غريب» وضعفه الألباني، ورواه النسائي في الكبرى (11051) في التفسير.
(2) الترمذي (2295) في الأمثال، ما جاء في مثل الله تعالى لعباده، وصححه الألباني.
رواه الإمام أحمد (16976) في مسند الشاميين.(1/89)
الإلهي بواسطة الملائكة.
وأما وقوعه بغير واسطة: فمما لم يتبين بعد، والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل، والله أعلم.
فصل النوع الثاني من الخطاب المسموع: خطاب الهواتف من الجان، وقد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا، وقد يكون شيطانا. وهذا أيضا نوعان:
أحدهما: أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه.
والثاني: أن يلقي في قلبه عند ما يلم به. ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسي ويمنيه، ويأمره وينهاه، كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ إِلََّا غُرُوراً} (120) [النساء]، وقال: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ} [البقرة: 268]، وللقلب من هذا الخطاب نصيب، وللأذن أيضا منه نصيب، والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة.
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني، أو ملكي؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟
والشيطان يقذف في النفس وحيه. ويلقي في السمع خطابه، فيقول المغرور المخدوع: «قيل لي، وخوطبت» صدقت، لكن الشأن في القائل لك والمخاطب. وقد قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه: «إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك» فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟.
فصل النوع الثالث: خطاب حالي، تكون بدايته من النفس، وعوده إليها فيتوهمه من خارج، وإنما هو من نفسه، منها بدأ وإليها يعود.
وهذا كثيرا ما يعرض للسالك، فيغلط فيه، ويعتقد أنه خطاب من الله، كلمه به منه إليه.
وسبب غلطه: أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة، وانقطعت علقها من الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لها. فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها، وتصير في محل تلك العلائق والشواغل، فتملأ القلب. فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة، ويتفق تجرد الروح، فتتشكل تلك
المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء. ويحلف أنه رأى وسمع، وصدق. لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها عن الشواغل.(1/90)
وسبب غلطه: أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة، وانقطعت علقها من الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لها. فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها، وتصير في محل تلك العلائق والشواغل، فتملأ القلب. فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة، ويتفق تجرد الروح، فتتشكل تلك
المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء. ويحلف أنه رأى وسمع، وصدق. لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها عن الشواغل.
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب، ومن سمّع نفسه غيرها فإنما هو غرور، وخدع وتلبيس، وهذا الموضع مقطع القول، وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه، والله الموفق للصواب.
فصل قال: «الدرجة الثانية: إلهام يقع عيانا. وعلامة صحته: أنه لا يخرق سترا، ولا يجاوز حدا، ولا يخطئ أبدا».
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى: أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب. وهذا معاينة ومكاشفة. فهو فوقه في الدرجة، وأتم منه ظهورا، ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين، وذكر له ثلاث علامات:
إحداهما: «أنه لا يخرق سترا» أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه، خيرا كان أو شرا، أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس، بل يستر نفسه، ويستر من كوشف بحاله.
الثانية: «أنه لا يجاوز حدا» يحتمل وجهين:
احداهما: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي، وتجاوز حدود الله، مثل الكهان، وأصحاب الكشف الشيطاني.
الثاني: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية، مثل أن يتحسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها، فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف، فهو شيطاني لا رحماني.
الثالثة: أنه لا يخطئ إلا نادرا، بخلاف الشيطان، فإن خطأه كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد: «ما ترى؟» قال: أرى صادقا وكاذبا. قال: «لبّس عليك» (1)، فالكشف الشيطاني لا بد أن يكذب، ولا يستمر صدقه البتة.
__________
(1) أخرجه مسلم (2925/ 87) في الفتن وأشراط الساعة، باب: «ذكر ابن صياد»، والترمذي (2247) في الفتن، باب: ما جاء في ذكر ابن صائد.(1/91)
فصل قال «الدرجة الثالثة: إلهام يجلو عين التحقيق صرفا، وينطلق عن عين الأزل محضا، والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها».
عين التحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة، بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود، وتعود الرسوم أعداما محضة، فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا، بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس، فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة. والناطق عن هذا الكشف: أن كل الخلق عنه في حجاب. وعندهم: أن العلم والعقل والحال حجب عليه، وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب، وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب، فلذلك تمتنع الإشارة إليه، والعبارة عنه. فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول، وهذا أمر وراء الحس والعقل.
وحاصل هذا الإلهام: أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم، لكن في الشهود لا في الوجود. وأما الاتحادية، القائلون بوحدة الوجود: فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود، ويجعلون صاحب المنازل منهم، وهو بريء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة، والله أعلم.
فصل المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرؤيا الصادقة. وهي من أجزاء النبوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» (1).
وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور: إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة، وذلك نصف سنة، ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة، من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك: جزء من ستة وأربعين جزءا. وهذا حسن، لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة: «إنها جزء من سبعين جزءا» (2).
__________
(1) البخاري (6988) في التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ومسلم (2263/ 6) في أول الرؤيا، وأبو داود (5018) في الأدب، باب: ما جاء في الرؤيا.
(2) رواه مسلم (4205) في الرؤيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وابن ماجة (3887) وراجع: فتح الباري (12/ 380) ففيه فوائد قيمة.(1/92)
وقد قيل في الجمع بينهما: إن ذلك بحسب حال الرائي، فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين، ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين، والله أعلم.
والرؤيا: مبدأ الوحي، وصدقها بحسب صدق الرائي. وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا، وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (1). وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها، فيتعرض المؤمنون بالرؤيا. وأما في زمن قوة نور النبوة: ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا.
ونظير هذه الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة، ولم تظهر عليهم، لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم. وقد نص أحمد على هذا المعنى. وقال عبادة بن الصامت: «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام»، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قيل: وما المبشرات، يا رسول الله؟ قال:
«الرؤيا الصالحة، يراها المؤمن أو ترى له» (2). وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان» (3).
والرؤيا كالكشف، منها رحماني، ومنها نفساني، ومنها شيطاني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة، فيراه في المنام».
والذي هو من أسباب الهداية: هو الرؤيا التي من الله خاصة.
ورؤيا الأنبياء وحي، فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليه السّلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم: فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها.
__________
(1) مسلم (2263/ 6) في أول الرؤيا، وأحمد (2/ 269)، وقال الشيخ أحمد شاكر (7630): «إسناده صحيح».
(2) مسلم (479/ 207) في الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأبو داود (876) في الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود.
(3) البخاري (1158) في التهجد، باب: فضل من تعار من الليل فصلى، مسلم (1165/ 207) في الصيام، باب: فضل ليلة القدر، والحث على طلبها.(1/93)
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة، أو تواطأت؟.
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي، بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمة لم يعرف الرائي اندراجها فيه، فيتنبه بالرؤيا على ذلك. ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة.
وأصدق الرؤيا رؤيا الأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين. وعكسه رؤيا العتمة، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام».
وللرؤيا ملك موكل بها، يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله، فيضربها لكل أحد بحسبه. وقال مالك: «الرؤيا من الوحي وحي» وزجر عن تفسيرها بلا علم. وقال:
«أتتلاعب بوحي الله؟».
ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها، يخرجها ذكرها عن المقصود. والله أعلم (1).
مسألة فإن قيل: فالله تعالى لا يكلم عباده؟
قيل: بلى، قد كلمهم، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب منه إليه بلا واسطة، كموسى. ومنهم من كلمه على لسان رسوله الملكي، وهم الأنبياء. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلّغته رسله عنه (2).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 5237).
(2) مدارج السالكين (1/ 26).(1/94)
قلم تعبير الرؤيا
قلم التعبير: هو كاتب وحي المنام، وتفسيره، وتعبيره، وما أريد منه، وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين، وهو يعتمد طهارة صاحبه ونزاهته، وأمانته، وتحريه للصدق، والطرائق الحميدة، والمناهج السديدة، مع علم راسخ، وصفاء باطن، وحس مؤيد بالنور الإلهي، ومعرفة بأحوال الخلق وهيأتهم وسيرهم وهو من ألطف الأقلام، وأعمها جولانا، وأوسعها تصرفا، وأشدها تشبثا بسائر الموجودات: علويها وسفليها، وبالماضي والحال والمستقبل، فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته وكرسي مملكته وسلطانه (1).
بيان إن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد، بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق، وغير المطابق.
فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من الله، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس.
والرؤيا الصحيحة أقسام:
منها: إلهام يلقيه الله سبحانه في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
ومنها: مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.
ومنها: التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم.
ومنها: عروج روحه إلى الله سبحانه، وخطابها له.
ومنها: دخول روحه إلى الجنة، ومشاهدتها، وغير ذلك. فالتقاء أرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات (2).
__________
(1) التبيان (210/ 211).
(2) الروح (211210).(1/95)
بيان إن العبد إذا نفذ فيها (1)، وكمل اطلاعه، جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورا عجيبة، يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة، سريعة وبطيئة، ويقول سامعها: هذه علم غيب. وإنما هي معرفة ما غاب من غيره بأسباب انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره، والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك، وحرم بذل المال في ذلك، وحرم أخذه به، صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه، بخلاف علم عبارة الرؤيا، فإنه حق لا باطل، لأن الرؤيا مستندة إلى الوحي المنامي، وهي جزء من أجزاء النبوة، ولهذا كلما كان الرائي أصدق، كانت رؤياه أصدق، وكلما كان المعبر أصدق وأبر وأعلم، كان تعبيره أصح، بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين، فإن صناعتهم لا تصح. من صادق ولا بار، ولا متقيد بالشريعة بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر، وأبعد عن الله ورسوله ودينه، كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا، بخلاف علم الشرع والحق، فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين، كان علمه به ونفوذه فيه أقوى، وبالله التوفيق (2).
__________
(1) أي الرؤيا.
(2) زاد المعاد (5/ 789).(1/96)
نزول القرآن الكريم
وقت نزول القرآن
لما كمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون، أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه، واختصه بكرامته وجعله أمينه بينه وبين عباده. ولا خلاف أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين، واختلف في شهر المبعث، فقيل: لثمان مضين من ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قول الأكثرين. وقيل: بل كان ذلك في رمضان، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، قالوا: أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته، أنزل عليه القرآن، وعلى هذا ذهب جماعة، منهم يحيى الصرصري، حيث يقول في نونيته:
وأتت عليه أربعون فأشرقت ... شمس النبوة منه في رمضان.
والأولون قالوا: إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم أنزل منجما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة.
وقالت طائفة: أنزل فيه القرآن، أي في شأنه وتعظيمه، وفرض صومه. وقيل: كان ابتداء المبعث في شهر رمضان (1).
أول ما نزل من القرآن
وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (2). قيل: وكان ذلك ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، والله أعلم.
ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه الملك، وهو بغار حراء، وكان يحب الخلوة فيه، فأول ما أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) [العلق]. هذا قول عائشة والجمهور.
__________
(1) زاد المعاد (1/ 77، 78).
(2) أخرجه البخاري (3) في بدء الوحي، ومسلم (160/ 252) في الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/97)
وقال جابر: أول ما أنزل عليه: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1).
والصحيح قول عائشة لوجوه:
أحدها: أن قوله: «ما أنا بقارئ» صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا.
الثاني: الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار، فإنه إذا قرأ في نفسه، أنذر بما قرأه، فأمره بالقراءة أولا، ثم بالإنذار بما قرأه ثانيا.
الثالث: أن حديث جابر، وقوله: أول ما أنزل من القرآن {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) قول جابر، وعائشة أخبرت عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك.
الرابع: أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولا قبل نزول {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1)، فإنه قال: «فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني دثروني، فأنزل الله: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1)، وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1)، فدل حديث جابر على تأخر نزول {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1)، والحجة في روايته، لا في رأيه، والله أعلم (1).
فصل أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) [المدثر] فنبأه بقوله: (اقرأ)، وأرسله ب (يا أيها المدثر)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين (2).
فصل وأقام ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا، ثم نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) [الحجر]، فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه، وعلى المسلمين، حتى أذن الله لهم بالهجرتين (3).
__________
(1) زاد المعاد (84، 85).
(2) زاد المعاد (1/ 158).
(3) زاد المعاد (1/ 86).(1/98)
مثال لأوقات النزول وقت نزول فرض الحج لما نزل فرض الحج، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر، وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلََّهِ} [البقرة: 196]، فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فرضية الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه، وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء.
فإن قيل: فمن أين لكم تأخير نزول فرضه إلى التاسعة، أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر (سورة آل عمران)، وناظر أهل الكتاب، ودعاهم إلى التوحيد، والمباهلة. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلََا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ بَعْدَ عََامِهِمْ هََذََا} [التوبة: 28]، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية.
ونزول هذه الآيات والمناداة بها، إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف، والله أعلم (1).
وقت نزول سورة براءة [ثبت] أنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من أحد من الكفار جزية إلا بعد نزول سورة (براءة) في السنة الثامنة من الهجرة، فلما نزلت آية الجزية، أخذها من المجوس، وأخذها من أهل الكتاب، وأخذها من النصارى (2).
__________
(1) زاد المعاد (2/ 101، 102).
(2) زاد المعاد (3/ 151).(1/99)
أسباب النزول
أمثلة من أسباب النزول
من سورة البقرة
لما نزل التشديد في أكل مال اليتيم، عزلوا طعامهم عن طعام الأيتام وشرابهم من شرابهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ قُلْ إِصْلََاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخََالِطُوهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ} [البقرة: 220]، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم (1).
من سورة آل عمران
وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران، أولها: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ} [آل عمران: 121] إلى آخر القصة (2).
من سورة النساء
في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً}
[النساء: 128]، أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها، فيريد طلاقها، فتقول: لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي، فذلك قوله: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا أَنْ يُصْلِحََا بَيْنَهُمََا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (3) (4).
من سورة المائدة
قال ابن سعد: وفي هذه الغزوة (5) سقط عقد لعائشة، فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم (6).
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 495، 496) وانظر سنن النسائي (3610) وأحمد (2845).
(2) زاد المعاد (3/ 211).
(3) البخاري (5206) في النكاح، باب: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً} [النساء: 128]، ومسلم (3021/ 13) في أول التفسير.
(4) زاد المعاد (5/ 150).
(5) أي غزوة المريسيع، وانظر الطبقات لابن سعد (2/ 65).
(6) المائدة: (6) وهو المشهور في سبب نزول الآية وذكره غير واحد من المحققين.(1/100)
وذكر الطبراني في «معجمه» من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: ولما كان من أمر عقدي ما كان، قال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس، ولقيت من أبي بكر ما شاء الله، وقال لي: يا بنية، في كل سفر تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم (1). وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى، ونحن نشير إلى قصة الإفك.
وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة، نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ثم رجعت، ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها، فظنوها فيه، فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن، لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضا، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج، لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين، لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس بها داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها، فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش، لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في الصحيح «صحيح أبي حاتم» وفي «السنن» فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع، وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناس، تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبيّ متنفسا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه، ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة، أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار
__________
(1) الطبراني في الكبير (23/ 121) (159).(1/101)
أصحابه في فراقها، فأشار عليه عليّ رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء فعليّ لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين لتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس، فأشار بحسم الداء، وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها، وعلم من عفتها وبراءتها، وحصانتها وديانتها ما هي فوق ذلك، وأعظم منه، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده، ودفاعه عنه، أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء، وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها بها أرباب الإفك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه، وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا، وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها أن يبتليها بالفاحشة، وهي تحت رسوله، ومن قويت معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عند الله في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: {سُبْحََانَكَ هََذََا بُهْتََانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
وتأمل ما في تسبيحهم لله، وتنزيههم لهم في هذا المقام من المعرفة به، وتنزيهه عما لا يليق به، أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا، فمن ظن به سبحانه هذا الظن، فقد ظن به ظن السوء، وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها، كما قال تعالى: {الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26]، فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم، وفرية ظاهرة.
فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها، وسأل عنها، وبحث، واستشار، وهو أعرف بالله، وبمنزلته عنده، وبما يليق به، وهلا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، كما قاله فضلاء الصحابة؟
فالجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببها لها، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواما، ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها، لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها وقضاها، وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله، وأهل بيته، والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها
ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذلّ له، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفت هذا المقام حقه، لما قال لها أبوها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.(1/102)
فالجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببها لها، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواما، ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها، لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها وقضاها، وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله، وأهل بيته، والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها
ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذلّ له، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفت هذا المقام حقه، لما قال لها أبوها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.
أيضا: فكان من حكمة حبس الوحي شهرا، أن القضية محصت وتمحضت، واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، والصديق وأهله، وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء، فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحكم وأضعافها بل أضعاف أضعافها.
وأيضا: فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده، وكرامتهم عليه، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون فيه عمل، ولا ينسب إليه، بل يكون هو وحده المتولي لذلك، الثائر لرسوله وأهل بيته.
وأيضا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى، والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بها سوءا قط، وحاشاه، وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك، قال: «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» (1)، فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته، ورفقه، وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفي مقام الصبر والثبات، وحسن الظن بالله حقه، حتى جاءه الوحي بما أقر عينه، وسرّ قلبه، وعظم قدره، وظهر لأمته احتفال ربه به، واعتناؤه بشأنه.
ولما جاء الوحي ببراءتها، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك، فحدوا ثمانين ثمانين
__________
(1) البخاري (4141) في المغازي، باب: حديث الإفك، ومسلم (2770/ 56) في التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.(1/103)
ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبيّ، مع أنه رأس أهل الإفك، فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد، وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحيكه، ويخرجه في قالب من لا ينسب إليه، وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار، أو بالبينة، وهو لم يقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين (1).
قد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فنزلت آية التيمم (2) (3).
من سورة المائدة
وعن طرق ابن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، آية تقرءونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت ونعلم ذلك اليوم الذي نزلت فيه، لاتخذناه عيدا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً}
[المائدة: 3]. فقال عمر بن الخطاب: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم الجمعة، ونحن واقفون معه بعرفة (4) (5).
من سورة الأنعام
لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا، كفر بالجميع، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كما قال تعالى: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتََابَ الَّذِي جََاءَ بِهِ مُوسى ََ نُوراً وَهُدىً لِلنََّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرََاطِيسَ تُبْدُونَهََا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مََا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلََا آبََاؤُكُمْ قُلِ اللََّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91) [الأنعام]، قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف
__________
(1) زاد المعاد (3/ 258).
(2) مسلم (367/ 109) في الحيض، باب: التيمم.
(3) تهذيب السنن (1/ 48)
(4) رواه البخاري (43) في الإيمان، ومسلم (5332) في التفسير.
(5) زاد المعاد (1/ 62).(1/104)
يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟» (1) وكان حبرا سمينا، فغضب عدو الله وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عز وجل: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ} الآية [النساء: 153] (2).
وجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، ما أنزل على بشر من شيء، فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته، وجعل يقول: «ولا على أحد» (3).
وذهب جماعة منهم مجاهد إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة، وكذبوا بالرسل، وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى.
وهذا اختيار ابن جرير، قال: وهو أولى الأقاويل بالصواب، لأن ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود، ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا، مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم، وموسى، وزبور داود، والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان، وقوله: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} موصول به غير مفصول عنه، قلت:
ويقوي قوله أن السورة مكية، فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة (4).
من سورة إبراهيم
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ} (27) [إبراهيم] قد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأله: «من ربك وما دينك ومن نبيك؟» (5).
وفي الصحيح عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره
__________
(1) ابن جرير (7/ 177)، والدر المنثور (3/ 29).
(2) تفسير ابن جرير (6/ 6)، والدر المنثور (2/ 238).
(3) ابن جرير (7/ 177).
(4) هداية الحيارى (276، 277).
(5) البخاري (1280) في الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر، ومسلم (5117) في الجنة وصفة نعيم أهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار.(1/105)
وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم» (1)، وذكر الحديث. زاد البخاري: «وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين». هكذا في البخاري: «وأما المنافق والكافر» بالواو. وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه ابن ماجة والإمام أحمد: كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتولى عنه أصحابه جاء ملك وفي يده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا منزلك لو كفرت بربك، وأما الكافر والمنافق فيقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله إلا الثقلين». فقال بعض الصحابة:
يا رسول الله، ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ} (27) [إبراهيم] (2).
وفي حديث البراء بن عازب الطويل: «وأما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح»، وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحه في جسده في قبره»، وذكر الحديث، وفي لفظ: «فإذا كان كافرا جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه». فذكر الحديث إلى قوله: «ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان: بأسوإ أسمائه، فإذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه، قال: يرمى به من السماء، ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ}
[الحج]. قال: «فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فيجلسانه وينتهرانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه، لا أدري. فيقولان: لا دريت، فيقولان: ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولان له: لا دريت
__________
(1) البخاري (1252) في الجنائز، ومسلم (5112) في الجنة وصفة نعيم أهلها.
(2) رواه الإمام أحمد (3367)، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 50): «رجاله رجال الصحيح».(1/106)
وذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ} [إبراهيم] وذكر الحديث (1) (2).
من سورة الأحزاب
وقد ثبت في «صحيح مسلم»: عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه» (3).
وفي رواية له عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه»، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «قد علمت أنه كبير» (4).
وفي لفظ لمسلم: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة رضي الله عنها: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه حتى يدخل عليك» (5).
وساقه أبو داود في سننه (6) سياقة تامة مطولة، فرواه من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنى سالما، وأنكحه ابنة أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، وكان تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه، حتى أنزل الله تعالى مع ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبََائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللََّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبََاءَهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوََالِيكُمْ}
[الأحزاب: 5]، فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي، ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت: يا رسول الله:
إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا،
__________
(1) رواه أحمد (4/ 287)، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 53): «رجاله رجال الصحيح» وراجع أحكام الجنائز للألباني (156).
(2) الروح (84، 85).
(3) مسلم (1453/ 2926) في الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(4) السابق.
(5) مسلم (1453/ 29) في الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(6) أبو داود (2061) في النكاح، باب: فيمن حرم به.(1/107)
وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بنات إخوتها، وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة رضي الله عنها أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرا، خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس (1).
المعوذتين
قال ابن عباس وعائشة: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هاتان السورتان فيه (2).
قال البغوي: وقيل كانت مغروزة بالدبر، فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين، وهما أحد عشر آية: سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال. قال: وروي أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام، فنزلت المعوذتان (3).
ما نزل من القرآن بموافقة عمر رضي الله عنه قد كان أحدهم (4) يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته، كما رأى عمر في أسرى بدر أن تضرب أعناقهم، فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزل القرآن بموافقته، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ}
[التحريم: 5]، فنزل القرآن بموافقته، ولما توفي عبد الله بن أبيّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول الله، إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) مسلم (1453/ 29) في الرضاع، باب: رضاعة الكبير.
(2) ذكره ابن كثير مطولا في تفسيره عن الثعلبي، وقال ابن كثير: هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعض نكارة شديدة تفسير ابن كثير (8/ 538) لكن قصة سحره صلى الله عليه وسلم ثابتة صحيحة، في البخاري وغيره، كما سيأتي.
(3) بدائع الفوائد (2/ 224).
(4) أي الصحابة رضي الله عنهم.(1/108)
فأنزل الله عليه: {وَلََا تُصَلِّ عَلى ََ أَحَدٍ مِنْهُمْ مََاتَ أَبَداً وَلََا تَقُمْ عَلى ََ قَبْرِهِ} [التوبة: 84] (1) (2).
وكذلك: من فراسته التي تفرد بها عن الأمة أنه قال: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
وقال: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب.
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقال لهن عمر: {عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فنزلت كذلك.
وشاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أسارى يوم بدر، فأشار بقتلهم، ونزل القرآن بموافقته (3).
__________
(1) البخاري (1366) في الجنائز، باب: ما يكره من الصلاة على المنافقين، والترمذي (3097) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة، والنسائي (1966) في الجنائز، باب: الصلاة على المنافقين.
(2) إعلام الموقعين (1/ 120).
(3) الطرق الحكمية (33).(1/109)
المكي والمدني
مثال المكي
عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكل مما قتل الله؟
فأنزل الله: {وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية [الأنعام: 121]
هذا الحديث له علل:
إحداهما: أن عطاء بن السائب اضطرب فيه، فمرة وصله، ومرة أرسله.
الثانية: أن عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره، واختلف في الاحتجاج بحديثه، وإنما أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر.
الثالثة: أن فيه عمران بن عيينة، أخو سفيان بن عيينة، قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج بحديثه فإنه يأتي بالمناكير.
الرابعة: أن سورة الأنعام مكية باتفاق، ومجيء اليهود إلى صلى الله عليه وسلم ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة، وأما مكة فإنما كان جداله مع المشركين عباد الأصنام (1).
ومنها: قوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ََ وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ فِي إِمََامٍ مُبِينٍ} (12) [يس].
قال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت في بني سلمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى اقرب المسجد، وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا.
واحتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، قال:
كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية {إِنََّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ََ وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ} [يس: 12].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» (2) وقد روى مسلم في
__________
(1) تهذيب السنن (4/ 113).
(2) صحيح الترمذي (3456) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة يس، وقال: «حسن غريب»، وابن ماجة (785).(1/110)
صحيحه نحوه من حديث جابر وأنس (1).
وفي هذا القول نظر، فإن سورة يس مكية، وقصة بني سلمة بالمدينة، إلا أن يقال: هذه الآية وحدها مدنية (2)، وأحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة ودلت عليها وذكروا بها عندها، إما من النبي صلى الله عليه وسلم وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول.
ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك: نزلت مرتين. والمقصود أن خطاهم إلى المسجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم. قال عمر بن الخطاب: لو كان الله سبحانه تاركا لابن آدم شيئا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر. وقال مسروق: ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة (3).
وكذلك وأما قوله: إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نجران: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فلا أظن ذلك محفوظا، وقد كتب إلى هرقل «بسم الله الرحمن الرحيم»، وهذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك، وقد وقع في هذه الرواية هذا، وقال ذلك قبل أن ينزل عليه: {طس تِلْكَ آيََاتُ الْقُرْآنِ وَكِتََابٍ مُبِينٍ} (1) [النمل]. وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكية باتفاق (4).
فصل
مثال المدني
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة. وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة، واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللََّهَ عَلى ََ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) [الحج].
__________
(1) مسلم (665/ 280) في المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل كثرة الخطا إلى المساجد.
(2) قال القرطبي: «هي مكية بإجماع، إلا أن فرقة قالت: إن قول الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ}
مدنية، (6/ 5445) وانظر بدائع التفسير (3/ 467).
(3) شفاء العليل (1/ 116/ 117).
(4) زاد المعاد (3/ 642).(1/111)
وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة، والسورة مكية (1).
وهذا غلط لوجوه: أحدها: أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلََّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللََّهُ} [الحج: 40]، وهؤلاء هم المهاجرون.
الثالث: قوله تعالى: {هََذََانِ خَصْمََانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]. نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين.
الرابع: أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ} فمشترك.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد، وغيره. ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة، فأمر به في مكة بقوله: {فَلََا تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَجََاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن {جِهََاداً كَبِيراً} [الفرقان: 52]، فهذه سورة مكية، والجهاد فيها هو التبليغ، وجهاد الحجة، وأما الجهاد المأمور به في سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف.
السادس: أن الحاكم روى في «مستدركه» (2) من حديث الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر:
أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وهي أول آية نزلت في القتال. وإسناده على شرط «الصحيحين»، وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية، والله أعلم (3).
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله تعالى: «وهى مكية سوى ثلاث آيات: من قوله تعالى: {هََذََانِ خَصْمََانِ} إلى تمام ثلاث آيات [الحج 2119]، قاله ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس أيضا أنهن أربع آيات، إلى قوله تعالى: {عَذََابَ الْحَرِيقِ} [الحج 24]. وقال ابن عباس والضحاك أيضا هى مدنية وقاله قتادة أيضا إلا أربع آيات: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ} إلى قوله: {عَذََابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فهن مكيات. وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني وهذا هو الأرجح لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن {يََا أَيُّهَا النََّاسُ} مكية، و {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
مدنية. أ. هـ. تفسير القرطبي (5/ 4393). انظر كتابي: بدائع التفسير (3/ 211).
(2) الحاكم في المستدرك (3/ 7)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
(3) زاد المعاد (1/ 70، 71).(1/112)
جمع القرآن الكريم
كتّاب الوحي
كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس بن شماس، وحنظلة بن الربيع الأسيدي، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنه أول من كتب له، ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت، وكان ألزمهم لهذا الشأن، وأخصهم به (1).
جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد
جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بها لما كان ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف، فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره (2).
فائدة جمع عثمان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم (3).
تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد من أهم السياسات الشرعية
قال ابن عقيل في «الفنون»: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام.
__________
(1) زاد المعاد (1/ 117).
(2) الطرق الحكمية (21).
(3) إغاثة اللهفان (1/ 368).(1/113)
فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: «إلا ما وافق الشرع» أي: لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح.
وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة.
فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن.
ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة (1).
__________
(1) الطرق الحكمية (14، 15).(1/114)
القراءات
القراءة بالأحرف السبعة وغيرها
لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام، وصحت في العربية، وصح سندها، جازت القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل بها، على أصح الأقوال (1).
الجمع بين القراءات
وكذلك (2): أن صاحبها ينبغي أن يستحب للمصلي والتالي أن يجمع بين القراءات المتنوعة في التلاوة في الصلاة وخارجها، قالوا: ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارئ في الصلاة ولا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة وتدبر، وإنما يفعل ذلك القراء أحيانا ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات، وإحاطته بها واستحضاره إياها، والتمكن من استحضارها عند طلبها، فذلك تمرين وتدريب لا تعبد مستحب لكل تال وقارئ، ومع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه، بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرف شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرة وبهذا مرة جاز ذلك، وكذلك الداعي إذا قال: «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» مرة، ومرة قال «كبيرا» جاز ذلك. وكذلك الداعي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة بلفظ هذا الحديث، ومرة بلفظ الآخر، وكذلك إذا تشهد، فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود، وإن شاء بتشهد ابن عباس، وإن شاء بتشهد ابن عمر، وإن شاء بتشهد عائشة رضي الله عنهم أجمعين. وكذلك في الاستفتاح إن شاء استفتح بحديث علي، وإن شاء بحديث أبي هريرة، وإن شاء باستفتاح عمر، وإن شاء فعل هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع إن شاء قال: «اللهم ربنا لك الحمد»، وإن شاء قال: «ربنا لك الحمد»، وإن شاء قال «ربنا ولك الحمد». ولا يستحب لأحد أن يجمع بين ذلك كله.
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 327).
(2) في الرد على بعض المتأخرين من القائلين باستحباب الجمع بين القراءات.(1/115)
وقد احتج غير واحد من الأئمة، منهم الشافعي رحمه الله تعالى على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح والسنن وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (1). فجوز النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بكل حرف من تلك الأحرف، وأخبر أنه شاف كاف، ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، كما كان الصحابة يفعلون (2).
النهي عن التنطع والغلو في النطق بالحرف
قال محمد بن قتيبة في «مشكل القرآن»: «وقد كان الناس يقرءون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف. وزلّوا فأخلوا، ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين. فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره. ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة، ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة، هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، بإفراطه في المد والهمز والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى، وتضييقه ما فسحه.
ومن العجب أنه يقرئ الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها. ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة، إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟ وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتمّ بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين، منهم بشر بن الحارث، والإمام أحمد بن حنبل، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم. وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها. فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا، وفي مائة آية شهرا، وفي السبع الطوال حولا، ورأوه عند قراءته مائل الشدقين، دار الوريدين، راشح الجبين، توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها» (3).
__________
(1) البخاري (4992) في فضائل القرآن، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (818/ 270) في المسافرين، باب: بيان أن القرآن على سبعة أحرف، وبيان معناه.
(2) جلاء الأفهام (191190).
(3) تأويل مشكل القرآن (6059) وأشار محققه إلى أنه يقصد حمزة بن حبيب الزيات، وقد قال الذهبي:
الإمام القدوة شيخ القراءة، قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا إلا بأثر، السير (7/ 91).(1/116)
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القراء العالمين، بل كانت سهلة رسلة.
وقال الخلال في «الجامع» عن أبي عبد الله، أنه قال: لا أحب قراءة فلان، يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة، وكرهها كراهية شديدة، وجعل يعجب من قراءته، وقال: لا يعجبني، فإن كان رجل يقبل منك فانهه.
وحكي عن ابن المبارك، عن الربيع بن أنس، أنه نهاه عنها.
وقال الفضل بن زياد: إن رجلا قال لأبي عبد الله: فما أترك من قراءته؟ قال: الإدغام والكسر، ليس يعرف في لغة من لغات العرب.
وسأله عبد الله ابنه عنها، فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع.
وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به.
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة؟ قال: أكرهه أشد كراهة، إنما هي قراءة محدثة، وكرهها شديدا حتى غضب.
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها، فقال: أكرهها أشد الكراهة. قيل له: ما تكره منها؟
قال: هي قراءة محدثة، ما قرأ بها أحد.
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها، وقال: كرهها ابن إدريس وأراه قال:
وعبد الرحمن بن مهدي. وقال: ما أدري إيش هذه القراءة؟ ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة.
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد، وعنه رواية أخرى: أنه لا يعيد.
والمقصود: أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف.
ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته (1).
مثال للقراءات
قال الله تعالى: {قََالُوا سُبْحََانَكَ مََا كََانَ يَنْبَغِي لَنََا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيََاءَ وَلََكِنْ مَتَّعْتَهُمْ}
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 162160).(1/117)
{وَآبََاءَهُمْ حَتََّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكََانُوا قَوْماً بُوراً} (18) [الفرقان].
وفيها قراءتان: أشهرهما: (نتّخذ) بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل، وهي قراءة السبعة.
والثانية: (نتّخذ) بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع.
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال (1):
فأما قراءة الجمهور، فإن الله سبحانه إنما سألهم: هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دوني أولياء، حتى يقولوا: {مََا كََانَ يَنْبَغِي لَنََا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيََاءَ} [الفرقان: 18]، وإنما سألهم: هل أمرتم عبادي هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قبل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، وإنما هم آثروه وارتضوه، أو لم نأمرهم بعبادتنا، كما قال في الآية الأخرى عنها: {تَبَرَّأْنََا إِلَيْكَ مََا كََانُوا إِيََّانََا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63].
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول. وقالوا: الجواب يصح على ذلك، ويطابق. إذ المعنى: ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا، ولا يحسن منا؟
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر، وهو قوله: {مِنْ أَوْلِيََاءَ}، فإن زيادة «من» لا يحسن إلا مع قصد العموم، كما تقول: ما قام من رجل، وما ضربت من رجل. فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص، فإنه لا يحسن زيادة «من» فيه، وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك، فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم، ولا يليق بهم أن يعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الجواب على هذا: أن تقرأ: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أولياء من دونك، أو من دونك أولياء.
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه:
أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك، ونتخذ غيرك وليا ومعبودا.
__________
(1) انظر المحتسب لابن جني (2/ 120119) وبدائع التفسير (3/ 285).(1/118)
فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا؟ أي إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة غير الله تعالى، فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم؟ وهذا جواب الفراء.
وقال الجرجاني: هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر، وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه، وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد. يدل على هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلََائِكَةِ أَهََؤُلََاءِ إِيََّاكُمْ كََانُوا يَعْبُدُونَ (40) قََالُوا سُبْحََانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنََا مِنْ دُونِهِمْ}
[سبأ: 40، 41] فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود.
ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن تتخذ من دونك وليا يعبدنا، وهذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية.
قال: يقولون: ما توليناهم، ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتمل أن يكون قولهم: {مََا كََانَ يَنْبَغِي لَنََا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيََاءَ} [الفرقان: 18] أن يريدوا معشر العبيد، لا أنفسهم. أي نحن وهم عبيدك، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء. ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم. كما يقول الرجل لمن أتى منكرا: ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا، أي أنت مثلي عبد محاسب، فإذا لم يحسن من مثلي أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضا.
قال: ولهذا الإشكال قرأ من قرأ: (نتّخذ) بضم النون: وهذه القراءة أقرب في التأويل.
لكن قال الزجاج: هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحد وليّا، ولا يجوز: ما اتخذت أحدا من ولي، لأن «من» إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع.
تقول: ما من أحد قائما، وما من رجل محبا لما يضره، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره.
قال: ولا وجه عندنا لهذا البتة، ولو جاز هذا لجاز في: {فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ} (47) [الحاقة]: ما أحد عنه من حاجزين. فلو لم تدخل «من» لصحت هذه القراءة.
قال صاحب النظم: العلة في سقوط هذه القراءة: أن «من» لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه، فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول «من»، كقوله: {مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحََانَهُ} [مريم: 35]، فقوله {مِنْ وَلَدٍ} لا مفعول دونه سواه، ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد، لم يحسن فيه دخول «من» لأن فعل الاتخاذ مشغول بأحد.
وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى، وأجروها على قواعد العربية.
قالوا: وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته، فقرأ بها زيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو جعفر، ومجاهد، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن علي، وأبو رجاء، والحسن،
وحفص بن حميد، ومحمد بن علي، على خلاف عن بعض هؤلاء. ذكر ذلك أبو الفتح ابن جني. ثم وجهها بأن يكون «من أولياء» في موضع الحال، أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت «من» زائدة لمكان النفي. كقولك: اتخذت زيدا وكيلا، فإذا نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما.(1/119)
قالوا: وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته، فقرأ بها زيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو جعفر، ومجاهد، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن علي، وأبو رجاء، والحسن،
وحفص بن حميد، ومحمد بن علي، على خلاف عن بعض هؤلاء. ذكر ذلك أبو الفتح ابن جني. ثم وجهها بأن يكون «من أولياء» في موضع الحال، أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت «من» زائدة لمكان النفي. كقولك: اتخذت زيدا وكيلا، فإذا نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما.
وما أعطيته من درهم. وهذا في المفعول فيه.
قلت: يعني أن زيادتها مع الحال، كزيادتها مع المفعول.
ونظير ذلك أن تقول: ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا، فإذا أكدت، قلت: من متثاقل.
فإن قيل: فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى، فأيهما أحسن؟
قلت: قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى المقصود، والبراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضّمّ: يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء، وعلى قراءة الجمهور: يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم، ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه، بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا، فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا، فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟ وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر، فتأمله.
والمقصود: أنه على القراءتين: فهذا الجواب من الملائكة، ومن عبد من دون الله من أوليائه، وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر (1).
__________
(1) إغاثة اللهفان (3/ 242239).(1/120)
فواتح السور
بيان دلالات فواتح السور وعظم شأنها
قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ (1) مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) [القلم]: الصحيح أن «ن» و «ق» و «ص» من حروف الهجاء التي يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور، وهي أحادية، وثنائية، وثلاثية، ورباعية، وخماسية، ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط في أول سورة إلا وعقبها بذكر القرآن، إما مقسما به، وإما مخبرا عنه، ما خلا سورتين: سورة «كهيعص، ون». كقوله: {الم (1) ذََلِكَ الْكِتََابُ} [البقرة]، {الم (1) اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ} [آل عمران]، {المص (1) كِتََابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف] {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ} (1) [الرعد] وهكذا إلى آخره.
ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها، وجلالتها، إذ هي مباني كلامه وكتبه، التي تكلم سبحانه بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده، وعرفهم بواسطتها نفسه، وأسماءه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، ووعيده، ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن، والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها، بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسهم، بأسهل طريق، وقلة كلفة ومشقة، وأوصله إلى المقصود، وأدله عليه. وهذا من أعظم نعمه عليهم، كما هو من أعظم آياته. ولهذا عاب سبحانه على من عبد إلها لا يتكلم، وامتن على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم. فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهي أولى أن يقسم بها من الليل والنهار، والشمس والقمر، والسماء والنجوم، وغيرها من المخلوقات.
فهي دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته، وحكمته وكماله، وكلامه، وصدق رسله.
وقد جمع سبحانه بين الأمرين أعني القرآن ونطق اللسان وجعل تعليمهما من تمام نعمته وامتنانه. كما قال: {الرَّحْمََنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسََانَ * عَلَّمَهُ الْبَيََانَ}
[الرحمن: 41]، فهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها
انتظمت مصالح العبادة في المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان، وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة؟ وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدي بها من ضلالة، وأقيم بها من حق، وهدم بها من باطل؟ فآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان. ولولا عجائب صنع الله، ما ثبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب.(1/121)
وقد جمع سبحانه بين الأمرين أعني القرآن ونطق اللسان وجعل تعليمهما من تمام نعمته وامتنانه. كما قال: {الرَّحْمََنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسََانَ * عَلَّمَهُ الْبَيََانَ}
[الرحمن: 41]، فهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها
انتظمت مصالح العبادة في المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان، وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة؟ وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدي بها من ضلالة، وأقيم بها من حق، وهدم بها من باطل؟ فآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان. ولولا عجائب صنع الله، ما ثبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب.
فسبحان من هذا صنعه في هواء يخرج من قصبة الرئة، فينضم في الحلقوم، ويفرش في أقصى الحلق، ووسطه، وآخره، وأعلاه، وأسفله، وعلى وسط اللسان وأطرافه وبين الثنايا، وفي الشفتين، والخيشوم. فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له، فإذا هو حرف، فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض، فإذا هي كلام دال على أنواع المعاني، أمرا ونهيا، وخبرا، واستخبارا ونفيا، وإثباتا، وإقرارا، وإنكارا، وتصديقا، وتكذيبا، وإيجابا، واستحبابا، وسؤالا، وجوارا، إلى غير ذلك من أنواع الخطاب، نظمه ونثره، ووجيزه، ومطوله، على اختلاف لغات الخلائق (1).
كل ذلك صنعته تبارك وتعالى، في هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره، في مجار قد هيئت، وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، فهذا شأن الحرف المخلوق.
وأما الحرف الذي به تكون المخلوقات فشأنه أعلى، وأجل.
وإذا كان هذا شأن الحروف فحقيق أن تفتتح بها السور، كما افتتحت بالأقسام لما فيها من آيات الربوبية وأدلة الوحدانية، فهي دالة على كمال قدرته سبحانه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال رحمته، وعنايته بخلقه، ولطفه وإحسانه. وإذا أعطيت الاستدلال بها حقه استدللت بها على المبدأ والمعاد، والخلق والأمر، والتوحيد والرسالة، فهي من أظهر أدلة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن القرآن كلام الله، تكلم به حقا وأنزله على رسوله وحيا، وبلغه كما أوحي إليه صدقا، ولا تهمل الفكرة في كل سورة افتتحت بهذه الحروف، واشتمالها على آيات هذه المطالب وتقريرها، وبالله التوفيق (2).
__________
(1) أصبح البحث في هذا الأمر علما مستقلا من علوم اللغة تبحث في علم الأصوات الذي بدوره يبحث في الصوت الإنساني ومخارجه وبيان الصامت والمتحرك وأصوات العلة والبر والتقييم إلخ ومن أشهر علمائه في عصرنا الدكتور رمضان عبد التواب رحمه الله تعالى، انظر له «المدخل إلى علم اللغة».
(2) التبيان (206203).(1/122)
مقاصد السور والآيات فصل
تأمل سر {الم} كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين. وترتيب (1) في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها مدار كلام الأمم الأولين والآخرين، مع تضمنها سرا عجيبا، وهو أن للألف البداية واللام التوسط، والميم النهاية، فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه فمشتملة على تخليق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، فتأمل ذلك من البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها، وهي الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق و [الإصمات] (2)، والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحروف فمن ذلك «ق»، والسورة مبنية على الكلمات القافية (3) من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد،
__________
(1) لعلها: وترتيبها
(2) ذكر المؤلف أربعة، والإصمات خامس هذه الصفات، إلى جانب صفة القلقلة.
(3) التي تشتمل على حرف «القاف»، وما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله على الغالب، وليس مطردا والله أعلم.(1/123)
وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقديم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة، وسر آخر وهو: أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة «ص» من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً} [ص: 5] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير «ص» وبسورة «ق» غير حرفها، وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم (1).
بيان بعض ما تشير إليه دلالة الآيات والسور
دلالة السور والآيات على الغزوات
سورة الأنفال (سورة بدر)، وفي أحد آخر سورة (آل عمران) من قوله:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121) [آل عمران: 121] إلى قبيل آخرها بيسير، وفي قصة الخندق، وقريظة، وخيبر صدر سورة (الأحزاب)، وسورة (الحشر) في بني النضير، وفي قصة الحديبية وخيبر سورة (الفتح) وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح صريحا في سورة (النصر).
بعض الحكم والغايات في وقعة أحد من خلال سورة آل عمران وبيان مطابقة أسباب النزول للواقع
قد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمهاتها وأصولها في سورة «آل عمران»، حيث
__________
(1) بدائع الفوائد (3/ 174173).(1/124)
افتتح القصة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121) [آل عمران: 121]، إلى تمام ستين آية.
فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية، والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللََّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتََّى إِذََا فَشِلْتُمْ وَتَنََازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا أَرََاكُمْ مََا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيََا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفََا عَنْكُمْ وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (152) [آل عمران: 152].
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة، وتحرزا من أسباب الخذلان.
ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم، جرت بأن يدالوا مرة، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما، دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائما، لم يحصل المقصود من البعثة، والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: أن هذا من أعلام الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال:
نعم. قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، يدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى.
قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة (1).
ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم. قال الله تعالى: {مََا كََانَ اللََّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ََ مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتََّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشََاءُ فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا}
__________
(1) أخرجه البخاري (7) في بدء الوحي، ومسلم (1773/ 74) في الجهاد، باب: كتاب النبي إلى هرقل.(1/125)
{وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (179) [آل عمران: 179] أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، كما ميزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة. وقوله: {وَلََكِنَّ اللََّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشََاءُ} استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه، كما قال: {عََالِمُ الْغَيْبِ فَلََا يُظْهِرُ عَلى ََ غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلََّا مَنِ ارْتَضى ََ مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 2726] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظم الأجر والكرامة.
ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون، فهم عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائما، وأظفرهم بعدوهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا، لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة، والكسرة، والهزيمة، ذلوا وانكسروا، وخضعوا، فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده، ويجبره، وينصره، كسره أولا، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها(1/126)
ومالكها وراحمها كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَلََا تَهِنُوا وَلََا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدََاءَ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكََافِرِينَ} (141) [آل عمران]، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال:
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر، يقسمها دولا بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة، فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين، فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.
ثم ذكر حكمه أخرى، وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة
الشهادة. وقوله: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذي انخذلوا عن نبيه يوم أحد، فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه.(1/127)
ثم ذكر حكمه أخرى، وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة
الشهادة. وقوله: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، تنبيه لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذي انخذلوا عن نبيه يوم أحد، فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه.
ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب، ومن آفات النفوس، وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم، وهو عدوهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي محق الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعدوانهم، ثم أنكر عليهم حسبانهم، وظنهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله، والصبر على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه، فقال:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} (142) [آل عمران]، أي: ولما يقع الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه، ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه، فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (143).
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه، فيلحقون إخوانهم، فأراهم الله ذلك يوم أحد، وسببه لهم، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى:
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (143) [آل عمران].
ومنها: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم، ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو حي لا يموت، فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم من دينه لما صرخ الشيطان: إن محمدا قد قتل، فقال: {وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى ََ عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللََّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللََّهُ الشََّاكِرِينَ} (144) [آل عمران] والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم.(1/128)
ومنها: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم، ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو حي لا يموت، فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم من دينه لما صرخ الشيطان: إن محمدا قد قتل، فقال: {وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى ََ عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللََّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللََّهُ الشََّاكِرِينَ} (144) [آل عمران] والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم.
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلا لا بد أن تستوفيه، ثم تلحق به، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا، وإن تنوعت أسبابه، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم أخبر سبحانه أن جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا وقتل معهم أتباع لهم كثيرون، فما وهن من بقي منهم لما أصابهم في سبيله، وما ضعفوا وما استكانوا، وما وهنوا عند القتل، ولا ضعفوا، ولا استكانوا، بل تلقوا الشهادة بالقوة والعزيمة والإقدام، فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلة، بل استشهدوا أعزة كراما مقبلين غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، فقال: {وَمََا كََانَ قَوْلَهُمْ إِلََّا أَنْ قََالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا ذُنُوبَنََا وَإِسْرََافَنََا فِي أَمْرِنََا وَثَبِّتْ أَقْدََامَنََا وَانْصُرْنََا عَلَى الْقَوْمِ الْكََافِرِينَ (147) فَآتََاهُمُ اللََّهُ ثَوََابَ الدُّنْيََا وَحُسْنَ ثَوََابِ الْآخِرَةِ وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (148) [آل عمران]. لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق أو تجاوز لحد، وأن النصرة منوطة بالطاعة، قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم، ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا، فوفوا المقامين حقهما:
مقام المقتضي، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقام إزالة المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف.
ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم أن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد.
ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاه فهو المنصور.
ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم،
والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفا ورعبا، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك، لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.(1/129)
ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم،
والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفا ورعبا، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك، لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة، ولزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة، ففارقتهم النصرة، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم بسوء عواقب المعصية، وحسن عاقبة الطاعة.
ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين. قيل للحسن:
كيف يعفوا عنهم، وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا، ومثلوا بهم، ونالوا منهم ما نالوه؟ فقال: لولا عفوه عنهم، لاستأصلهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم.
ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين، أي: جادين في الهرب والذهاب في الأرض، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم، والرسول يدعوهم في أخراهم: إليّ عباد الله، أنا رسول الله، فأثابهم بهذا الهرب والفرار، غمّا بعد غم: غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل.
وقيل: جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه، فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه (1)، والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِكَيْلََا تَحْزَنُوا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا مََا أَصََابَكُمْ} [آل عمران:
153] تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السبب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح التي أصابتهم، ثم غم القتل، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ثم غم
__________
(1) هذا القول وإن كان من لطائف الفهم، إلا أنه بعيد، خاصة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن منهم ذلك عن عمد، ولكن بدر منهم ما يبدر من البشر في مثل هذه الحالة، والله أعلم.(1/130)
ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله: «بغم»، من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب، والمعنى:
أثابكم غمّا متصلا بغم، جزاء على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وترك استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتهم له في لزوم مركزهم، وتنازعهم في الأمر، وفشلهم، وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه، فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها، ولولا أن تداركها بعفوه، لكان أمرا آخر، ومن لطفه بهم، ورأفته، ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم، كانت من موجبات الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها أمر متعين، لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا بعدها، ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها:
وربّما صحّت الأجسام بالعلل (1)
ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه ورحمة، والنعاس في الحرب علامة النصرة والأمن، كما أنزله عليهم يوم بدر، وأخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس، فهو ممن أهمّته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله، بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره يضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في «سورة الفتح»، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ الظََّانِّينَ بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً} (6) [الفتح]، وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية
__________
(1) عجز بيت للمتنبي، وصدره:
لعلّ عتبك محمود عواقبه(1/131)
والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، بكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.
فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته، وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة، والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فمن ظن به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة، وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثا، ولا خلقها باطلا، {ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النََّارِ} [ص: 27]، وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وآيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن بهم ظن السوء.
ومن ظن به أن يترك خلقه سدى، معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة، ولا
إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه، ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين. وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء.(1/132)
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة، ولا
إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه، ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين. وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحق، لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة لم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أي يصرح لهم بالحق الذي يبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل،، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظن به ظن السوء، فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال:
إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان، وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهرة التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهر كلام المتهوكين (1)
الحيارى، هو الهدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.
ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه كان معطّلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة
__________
(1) التهود: كالتهور، وهو إتيان الأمور بلا رؤية.(1/133)
على الفعل، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا، فقد به ظن السوء.
ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات والأرض، ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا سمع له، ولا بصر، ولا علم له، ولا إرادة، ولا كلام يقول به، وأنه لم يكلم أحدا من الخلق، ولا يتكلم أبدا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل، كما أنه أعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به أنه يحب الكفر، والفسوق، والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان، والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلّده في العذاب، كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه، فقد ظن به ظن السوء.
وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رسله، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أن له ولدا، أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجعونهم، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن
به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.(1/134)
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن
به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.
ومن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه، أو من فعل لأجله شيئا لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يغضب على عبده، ويعاقبه ويحرمه بغير جرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه، وسأله واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله.
ومن ظن به أنه يثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.
ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليا، ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا، أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء، وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه.
ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته، وابتلاء بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية، وظلموا أهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرهم لهم، وغضبهم إياهم حقهم، وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعداءهم عليهم أبدا، أو أنه لا يقدر على ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئة، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، سواء قالوا: إنه قادر على أن ينصرهم، ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غير قادر على ذلك، فهم قادحون في قدرته، أو في حكمته وحمده، وذلك من ظن السوء به، ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار. فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا هي داخلة تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم، وكل مبطل، وكافر، ومبتدع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل
كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنه تعتبا على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم من ذلك؟(1/135)
ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته، وابتلاء بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية، وظلموا أهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرهم لهم، وغضبهم إياهم حقهم، وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعداءهم عليهم أبدا، أو أنه لا يقدر على ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئة، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، سواء قالوا: إنه قادر على أن ينصرهم، ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غير قادر على ذلك، فهم قادحون في قدرته، أو في حكمته وحمده، وذلك من ظن السوء به، ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار. فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا هي داخلة تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم، وكل مبطل، وكافر، ومبتدع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل
كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنه تعتبا على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم من ذلك؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، والمنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله: {وَطََائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللََّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجََاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: {هَلْ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، وقولهم: {لَوْ كََانَ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مََا قُتِلْنََا هََاهُنََا} [آل عمران: 154]، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ} [آل عمران: 154]، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعا لهم يسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ}، فلا يكون إلا ما سبق به قضاءه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس أم لم يشاءوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى
دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء، أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم، وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد، سواء كان لهم من الأمر شيء، أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله، وأن يشاء ما لا يقع.(1/136)
والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله: {وَطََائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللََّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجََاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: {هَلْ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، وقولهم: {لَوْ كََانَ لَنََا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مََا قُتِلْنََا هََاهُنََا} [آل عمران: 154]، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ} [آل عمران: 154]، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعا لهم يسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلََّهِ}، فلا يكون إلا ما سبق به قضاءه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس أم لم يشاءوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى
دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء، أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم، وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد، سواء كان لهم من الأمر شيء، أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله، وأن يشاء ما لا يقع.
فصل ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير، هي ابتلاء ما في صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما، والمنافق ومن في قلبه مرض، لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه.
ثم ذكر حكمة أخرى: وهو تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزين الشيطان، واستيلاء الغفلة ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة، لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جندا عليهم، ازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه، ولا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه، أو تنصره، فهو يمد عدوه فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر، أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه، وهو يطيقه إنما هو جند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به.
ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضا، عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها، ثم كرر عليهم سبحانه: أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم، وبسبب أعمالهم، فقال:
{أَوَلَمََّا أَصََابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهََا قُلْتُمْ أَنََّى هََذََا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165) [آل عمران]. وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك من السور المكية، فقال:(1/137)
{وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (30) [الشورى]، وقال: {مََا أَصََابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللََّهِ وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا:
النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله، والثاني عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه وختم الآية الأولى بقوله: {إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
بعد قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب، فذكر السبب، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر، والثاني ينفي القول بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله:
{لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} (29) [التكوير].
وفي ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرف عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه، وكشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله: {وَمََا أَصََابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ فَبِإِذْنِ اللََّهِ} [آل عمران: 166] وهو الإذن الكوني القدري، لا الشرعي الديني كقوله في السحر: {وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} [البقرة: 102].
ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير، وهي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تمييزا ظاهرا، وكان من حكمة هذا التقدير تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا رد الله عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر وما لهما وعاقبتهما.
ثم عزى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية، وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلََّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (170) [آل عمران]، فجمع لهم الحياة الدائمة منزلة القرب منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته. وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم، التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم
وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهي: منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحّدوا ويتكلوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم، لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا، وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعزّ جلاله (1).(1/138)
ثم عزى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية، وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلََّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (170) [آل عمران]، فجمع لهم الحياة الدائمة منزلة القرب منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته. وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم، التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم
وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهي: منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحّدوا ويتكلوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم، لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا، وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعزّ جلاله (1).
باب منه: قال الله تعالى: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [الأنفال: 17].
قلت: اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، وإضافته إلى الرب تعالى. وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد. وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده، وهذا غلط منهم في فهم القرآن. فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال. فيقال: ما صليت إذ صليت، وما صمت إذ صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق. فإن خصوه بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده وأفعاله جميعا، أو رميه وحده: تناقضوا، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد، فهذه الآية نزلت (2) في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي، وهو الحذف، ومن الله سبحانه وتعالى نهايته، وهو الإيصال، فأضاف
__________
(1) زاد المعاد (3/ 244218).
(2) ذكر ذلك ابن إسحاق (2/ 46) والطبراني في الكبير (3/ 203) من حديث حكيم ابن حزام رضي الله عنه، وقال الهيثمي «إسناده حسن» (6/ 84) ورواه في الكبير أيضا (11/ 285) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.(1/139)
إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه، ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.
ونظير هذا: قوله في الآية نفسها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]، ثم قال: {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} فأخبره: هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم، ولم يكن ذلك من رسوله. ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة، كدفع المشركين، وتولى دفعهم، وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه وبه، وهو خير الناصرين.(1/140)
الأمثال في القرآن الكريم
قيمة المثل في القرآن
قد أخبر الله سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها والتفكر فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها (1).
حكمة ضرب المثل في القرآن
ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس وقد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر، أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر، والله أعلم (2).
أصول وقواعد من أمثال القرآن الكريم لعلم التعبير
أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن حسن الاستدلال بها، وكذلك من فهم القرآن فإنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن، فالسفينة: تعبر بالنجاة لقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَصْحََابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15] وتعبر بالتجارة، والخشب بالمنافقين، والحجارة بقساوة القلب، والبيض بالنساء واللباس أيضا بهن، وشرب الماء بالفتنة، وأكل لحم الرجل بغيبته، والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال.
والفتح يعبر مرة بالدعاء ومرة بالنصر. وكما لملك يرى في محلّة لا عادة له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها، والحبل يعبر بالعهد والحق والعضد، والنعاس قد يعبر بالأمن.
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 252).
(2) بدائع الفوائد (4/ 9).(1/141)
والبقل والبصل والثوم والعدس، يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار.
والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الزنا، والطفل الرضيع يعبر بالعدو لقوله تعالى:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]. والنكاح بالبناء.
والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم: 18].
والنور يعبر بالهدى، والظلمة بالضلال، ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب لحابس ابن سعد الطائي وقد ولاه القضاء، فقال له: يا أمير المؤمنين، إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم بينهما نصفين، فقال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلست تعمل لي عملا، ولا تقتل إلا في لبس من الأمر، فقتل يوم صفين.
وقيل لعابر: رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي، فقال تموت، واحتج بقوله تعالى:
{فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (10) [القيامة].
وقال رجل لابن سيرين: رأيت معي أربعة أرغفة خبز، فطلعت الشمس، فقال: تموت إلى أربعة أيام، ثم قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنََاهُ إِلَيْنََا قَبْضاً يَسِيراً} (46) [الفرقان]، وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزق أربعة أيام، وقال له آخر: رأيت كيسي مملوءا أرضة فقال: أنت ميت، ثم قرأ:
{فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مََا دَلَّهُمْ عَلى ََ مَوْتِهِ إِلََّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14].
والنخلة: تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة، والحنظلة: تدل على ضد ذلك.
والصنم: يدل على العبد السوء الذي لا ينفع. والبستان: يدل على العمل، واحتراقه:
يدل على حبوطه لما تقدم في أمثال القرآن.
ومن رأى أنه ينقض غزلا أو ثوبا ليعيده مرة ثانية، فإنه ينقض عهدا، وينكثه. والمشي سويا في طريق مستقيم، يدل على استقامته على الصراط المستقيم. والأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه. وإذا عرضت له طريقتان ذات يمين وذات شمال، فسلك أحدهما، فإنه من أهلها، وظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويفتضح به، وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر.
وغرقه في الماء: فتنة في دينه ودنياه. وتعلقه بحبل بين السماء والأرض: تمسكه بكتاب
الله وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارق العصمة، إلّا أن يكون ولي أمرا، فإنه قد يقتل أو يموت (1).(1/142)
وغرقه في الماء: فتنة في دينه ودنياه. وتعلقه بحبل بين السماء والأرض: تمسكه بكتاب
الله وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارق العصمة، إلّا أن يكون ولي أمرا، فإنه قد يقتل أو يموت (1).
فصل تدبر الأمثال التي وقعت في القرآن (2)
إنّ ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون: تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر كقوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً فَلَمََّا أَضََاءَتْ مََا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ الصَّوََاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 17 19]، إلى قوله: {إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]، فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين: مثلا ناريا، ومثلا مائيا لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة، فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه: روحا ونورا وجعل قابليه أحياء في النور، ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات.
وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي، وأنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وآمنوا به، وخالطوا المسلمين، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم، فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر، ثم عمي، وعرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام، ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع له.
ولهذا قال: {فَهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]، ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيّب، وهو المطر الذي يصوب، أي: ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم وعقولهم، اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق،
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 252250).
(2) رتبت هذه الأمثلة المباركة وفق ترتيب سور القرآن العظيم.(1/143)
فلضعفه وخوره جعل إصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه.
وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (51) [المدثر].
ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، اقرءوا شيئا غير هذا، وترى قلوبهم مولية، وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم.
وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد، وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عنهم جدا، وأنكرته قلوبهم، وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه لهم بالماء، فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم.
مثل المقلّدين
ومنها قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمََا لََا يَسْمَعُ إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (171) [البقرة]، فتضمن هذا المثل ناعقا: أي مصوتا بالغنم وغيرها، ومنعوقا به، وهو الدواب، فقيل: الناعق: العابد، وهو الداعي للصنم، والصنم هو المنعوق به المدعو، وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه.
هذا قول طائفة منهم: عبد الرحمن بن زيد وغيره.
واستشكل صاحب «الكشاف» (1)، وجماعة معه هذا القول، وقالوا: قوله: {إِلََّا دُعََاءً وَنِدََاءً} لا يساعد عليه، لأن الأصنام لا تسمع دعاء، ولا نداء، وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن «إلا» زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء، قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة (2)
__________
(1) الزمخشري في تفسيره (1/ 107).
(2) الحراجيج: النوق، والشعر لذي الرمة في وصف إبل، وشطره:
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا(1/144)
أي ما تنفك مناخة، وهذا جواب فاسد، فإن «إلا» لا تزاد في الكلام.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو.
الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء، وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء، وقيل: المعنى: ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فالراعي هو داعي الكفار، والكفار هم البهائم المنعوق بها.
قال سيبويه (1): «المعنى: ومثلك يا محمد، ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به. وعلى قوله: فيكون المعنى: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها». ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق (2)، فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء،، وإن جعلته من التشبيه المفرق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق، والله أعلم.
مثل المنفقين في سبيل الله
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنََابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللََّهُ يُضََاعِفُ لِمَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ} (261) [البقرة]، شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد، أو جميع سبل الخير من كل بر، كمن بذر بذرا، فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، والله يضاعف ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها، فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص، والتثبيت عند النفقة، وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع، ولا متعبة نفسه ترجف يده، وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه، وبحسب طيب المنفق وزكاته.
__________
(1) الكتاب، لسيبويه (1/ 212) بألفاظ متقاربة.
(2) هو التشبيه الذي وجه الشبه فيه صورة منزعة من متعدد ويسمى التمثيلي، والمركب عكسه.(1/145)
وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية، فمغله بحسب بذره، وطيب أرضه، وتعاهد البذر بالسقي، ونفي الدغل والنبات الغريب عنه. فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار، ولا لحقته جائحة، جاء أمثال الجبل. وكان مثله كمثل جنة بربوة، وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والريح، فتتربي الأشجار هناك أتم تربية، فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع، فرواها ونماها، فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل، فإن لم يصبها وابل، فطل: مطر صغير القطر، يكفيها لكرم منبتها، يزكو على الطل، وينمي عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل.
فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا، ومنهم من يكون إنفاقه طلا، والله لا يضيع مثقال ذرة.
فإن عرض لهذا العامل ما يغرق أعماله، ويبطل حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت.
فإن كان يوم استيفاء الأعمال، وإحراز الأجور وجد هذا العامل عمله، قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة، فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته.
فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها، والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف، فهو أحوج ما كان إلى نعمته، ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحة، بل هم في عياله، فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته، فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم، فيه من جميع الفواكه والثمر، وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها. وهو ثمر النخيل والأعناب، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يوما، وقد وجده محترقا كله كالصريم، فأي حسرة أعظم من حسرته.
قال ابن عباس: هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره.
وقال مجاهد: هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت.
وقال السدي: هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه.(1/146)
وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية، فقالوا: الله أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: قل يا بن أخي، ولا تحقر نفسك، قال: ضرب مثلا لعمل، قال: «لأي عمل؟ قال:
لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها (1).
قال الحسن: هذا مثل قل والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
فإن عرض لهذا الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء، فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب، والمن والأذى يبطل الثواب الذي كانت سببا له، فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان، وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل، هو المطر الشديد، فتركه صلدا لا شيء عليه.
وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته، فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي، فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر، والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر، فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء، وينبت الكلأ، وكذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر، فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه، فبرز من تحته حجر صلد لا نبات فيه، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه، وبالله التوفيق.
مثل من أنفق ماله في غير طاعة الله عزّ وجلّ
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (116) مَثَلُ مََا يُنْفِقُونَ فِي هََذِهِ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهََا صِرٌّ أَصََابَتْ حَرْثَ}
__________
(1) البخاري (4918) في التفسير، وانظر الدر المنثور (2/ 47).(1/147)
{قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (117) [آل عمران]، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر، وكسب الثناء وحسن الذكر، لا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله، بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
واختلف في الصر، فقيل: البرد الشديد، وقيل: النار، قاله ابن عباس.
قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب.
وقيل: الصر: الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها.
والأقوال الثلاثة متلازمة، فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث، كما تحرقه النار، وفيه صوت شديد: وفي قوله: {أَصََابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم: هو ظلمهم، فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة، حتى أهلكت زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم، ونفقاتهم، وأتلفتها.
مثل فيمن انسلخ من آيات الله
ومنها قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطََانُ فَكََانَ مِنَ الْغََاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا وَلََكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذََلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) [الأعراف]، فشبه سبحانه من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا.
وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرها وحرصا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض، يتشمم ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات، وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنيا، والجيف القذرة المروحة (1) أحب إليه من اللحم الطري، والعذرة أحب
__________
(1) راح الشيء، وأروح: أنتن.(1/148)
إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هو عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة، وثياب دنية، وحال رزية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته قوته، وإذا رأي ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع: وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته، واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله، والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه: نظير لهف الكلب الدائم، واللهف واللهث شقيقان، وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع (1).
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر، وترك اللهث، وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثري من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا، يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده وتوجب له دوام اللهث، فهكذا مشبهه: شدة الحرص، وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة، فهو يلهف، وإن تركته ولم تعظه، فهو يلهف.
قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به.
وقال ابن عباس: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد إلى خير، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق، دعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طرد أو ترك.
وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه، أو لم تحمل عليه.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (9/ 129).(1/149)
وقال أبو محمد بن قتيبة: «كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض والعطش» (1)
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب، إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث.
ونظيره قوله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى ََ لََا يَتَّبِعُوكُمْ سَوََاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صََامِتُونَ} (193) [الأعراف].
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى:
فمنها: قوله: {آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا}، فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه.
ثم قال: فانسلخ منها، أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم، ولم يقل: فسلخناه منها، لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه.
ومنها: قوله: سبحانه {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطََانُ} أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون:
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} (60) [الشعراء]، وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم، الذي يعرفون الحق، ويعلمون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا}، فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه، ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه:
قال ابن عباس: ولو شئنا لرفعناه بعمله بها.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنََاهُ} عائد على الكفر، والمعنى: لو شئنا لرفعنا
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (369).(1/150)
عنه الكفر بما معه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه. وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية، وهذا من لوازم المراد (1).
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
وقوله: {وَلََكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}، قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض. وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ. والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته. وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود، وهو الدوام والبقاء، ويقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به، قال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} (17) [الواقعة]، أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا.
وقيل: هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم، وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السن، فلا تنافي بين القولين.
وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوََاهُ}، قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق (2): اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا، وأطاع شيطانه، وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني: الذين حاربوا موسى وقومه، وقال يمان: اتبع امرأته، لأنها هي التي حملته على ما فعل.
فإن قيل: الاستدراك ب «لكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو نفي ما أثبت، كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه، ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته.
فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنا لم نرفع، ولكنه أخلد، فكيف استدرك بقوله: {وَلََكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا}؟
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني، وذلك أن مضمون قوله: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا} أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي
__________
(1) راجع الطبري (9/ 127).
(2) أبو روق، هو عطية بن الحارث، صاحب التفسير، صدوق، انظر تهذيب التهذيب (7/ 224).(1/151)
رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه.
وقال الزمخشري (1): المعنى: ولو لزم آياتنا، لرفعناه بها، فذكر المشيئة، والمراد ما هي تابعة له، ومسببة عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها، قال: ألا ترى إلى قوله:
{وَلََكِنَّهُ أَخْلَدَ}، فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون: {وَلَوْ شِئْنََا}
في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ}
ولكنا لم نشأ» اه. فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة، مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا، فأين قوله: ولو شئنا من قوله: ولو لزمها، ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله، وهو الحق، بطل أصله.
وقوله: «إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات» من أفسد الكلام، وأبطله، بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة، وسبب لا مسبب، وموجب مقتضي لا مقتضي، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.
مثل الحياة الدنيا
ومنها قوله تعالى: {إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ مِمََّا يَأْكُلُ النََّاسُ وَالْأَنْعََامُ حَتََّى إِذََا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهََا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهََا أَنَّهُمْ قََادِرُونَ عَلَيْهََا أَتََاهََا أَمْرُنََا لَيْلًا أَوْ نَهََاراً فَجَعَلْنََاهََا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) [يونس]، شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها وتعجبه، فيميل إليها ويهواها اغترارا بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها، فتعشب ويحسن نباتها، ويروق منظرها للناظر، فيغتر به، ويظن أنه قادر عليها مالك لها، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرا منها.
فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات، والجنة سليمة منها قال: {وَاللََّهُ يَدْعُوا إِلى ََ دََارِ السَّلََامِ} [يونس: 25]، فسمّاها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعم بالدعوة إليها، وخص بالهداية من يشاء، فذاك عدله، وهذا فضله.
__________
(1) تفسير الكشاف (2/ 104).(1/152)
مثل المؤمنين والكافرين
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]، فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع، وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق، أصم عن سماعه، فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر: بصير القلب كبصير العين.
وسميع الأذن، فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا}.
المثال المائي والناري في حق المؤمنين
وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في «سورة الرعد»، ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ} (17) [الرعد]، شبه الوحي لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها، وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا، فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات، ليقلعها ويذهبها، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاط فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها، وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}، وهو الخبث الذي يخرجه عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتمييزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به، فيرمي ويطرح ويذهب جفاء. فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء
والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي استقى منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه، ينتفع به غيره، ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يدرهما، ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما، والله الموفق.(1/153)
ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}، وهو الخبث الذي يخرجه عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتمييزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به، فيرمي ويطرح ويذهب جفاء. فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء
والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي استقى منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه، ينتفع به غيره، ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يدرهما، ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما، والله الموفق.
مثل في بطلان أعمار الكفار
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عََاصِفٍ لََا يَقْدِرُونَ مِمََّا كَسَبُوا عَلى ََ شَيْءٍ ذََلِكَ هُوَ الضَّلََالُ الْبَعِيدُ} (18) [إبراهيم]، فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف، فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور، لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف، فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه، فلذلك قال: {لََا يَقْدِرُونَ مِمََّا كَسَبُوا عَلى ََ شَيْءٍ} لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرا من ثواب، ولا فائدة نافعة، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه.
والأعمال أربعة: فواحد مقبول، وثلاثة مردودة.
فالمقبول: الخالص الصواب. فالخالص: أن يكون لله لا لغيره، والصواب: أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله.
والثلاثة المردودة ما خالف ذلك.
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نار عذابا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.(1/154)
مثل في الكلمة الطيبة
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهََا ثََابِتٌ وَفَرْعُهََا فِي السَّمََاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهََا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهََا وَيَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (25) [إبراهيم]، فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين يقولون: الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرض لله ثمرة هذه الكلمة.
وفي تفسير علي بن أبي طالحة عن ابن عباس (1)، قال: {كَلِمَةً طَيِّبَةً}: شهادة أن لا إله إلا الله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهو المؤمن، {أَصْلُهََا ثََابِتٌ}: قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن، {وَفَرْعُهََا فِي السَّمََاءِ}، يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وقال الربيع بن أنس: {كَلِمَةً طَيِّبَةً}: هذا مثل الإيمان، فالإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله.
والتشبه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين.
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء (2).
لا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها.
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه، في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالواحدانية طائعة سالكة سبل
__________
(1) الطبري (13/ 203)، البيهقي في الأسماء والصفات (135) والطبراني في الدعاء (3/ 257).
(2) انظر الدرر المنثور للسيوطي (5/ 20).(1/155)
ربه ذللا غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا.
فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ}
[فاطر: 10] فأخبر سبحانه أن العامل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا، متصفا بموجبها، قائما قلبه ولسانه وجوارحه، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت.
ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (1).
ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} يعني بالشجرة الطيبة المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض، والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم، فيبلغ عمله وقوله السماء، وهو في الأرض.
وقال عطية العوفي في قوله: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب، وعمل صالح يصعد إلى الله.
وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهََا ثََابِتٌ وَفَرْعُهََا فِي السَّمََاءِ}، قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده، لا شريك له. {أَصْلُهََا ثََابِتٌ}، قال: أصل عمله ثابت في الأرض، {وَفَرْعُهََا فِي السَّمََاءِ}، قال: ذكره في السماء، ولا اختلاف بين القولين.
__________
(1) صحيح البخاري بالفتح (1/ 175) في كتاب العلم، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن من الشجر لشجرة» الحديث(1/156)
والمقصود بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة، فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته.
فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، كذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به، فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة، والأخلاق الزكية والسمت الصالح، والهدي والدل المرضي. فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور. فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر والهدي، والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت، وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض، ما لها من قرار.
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع، والعمل الصالح، والعود بالتذكر على التفكر على التذكر، وإلا أوشك أن تيبس.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم» (1).
وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك. ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها، وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلبهم.
ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أن يخالطه دغل ونبت
__________
(1) عند أحمد من قوله «جددوا إيمانكم» دون أوله (8695)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 57): «إسناده جيد وفيه سمير بن نهار وثقه ابن حبان»، ورواه الحاكم (1/ 4) وانظر الصحيحة للألباني (1585).(1/157)
غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه، كمل الغرس والزرع واستوى، وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى.
وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له، أو يضعف الأصل، ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته، ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به، فإنه يفوته ربح كبير وهو لا يشعر، فالمؤمن دائما سعيه في شيئين: سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، فيسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم، والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق، وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم، وأن التفاوت الذي بين علومهم، وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل، والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله، ومن يختص برحمته.
مثل الكلمة الخبيثة
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة، فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلا عرق ثابت، ولا فرع عال، ولا ثمرة زاكية، فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مغدق، ولا أعلاها مونق، ولا جنى لها، ولا تعلو بل تعلى، ويقول الله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مََا لَهََا مِنْ قَرََارٍ} [إبراهيم: 26].
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم، وجده كذلك، فالخسران الوقوف معه، والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه.
قال الضحاك: ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة، كذلك الكافر لا يعمل خيرا، ولا يقوله، ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}، يعني: الكافر،
{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مََا لَهََا مِنْ قَرََارٍ}، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر، ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملا، فلا يقبل عمل المشرك، ولا يصعد إلى الله، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء، يقول: ليس له عمل صالح في الدنيا والآخرة.(1/158)
وقال ابن عباس: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}، يعني: الكافر،
{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مََا لَهََا مِنْ قَرََارٍ}، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر، ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملا، فلا يقبل عمل المشرك، ولا يصعد إلى الله، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء، يقول: ليس له عمل صالح في الدنيا والآخرة.
وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، ولا يستقر ولا عمله على الأرض، ولا يصعد إلى السماء.
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم، فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا، ولا في السماء مصعدا، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى توافي بها القيامة.
وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي: استؤصلت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين: أصحاب الكلم الطيب، والكلم الخبيث. فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت، فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم، وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.
مثل في تثبيت المؤمن
تحت قوله: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}
[إبراهيم: 27]، كنز عظيم من وفق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه، عبده ورسوله: {وَلَوْلََا أَنْ ثَبَّتْنََاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} (74) [الإسراء]، وقال تعالى لأكرم خلقه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلََائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: «وهو يسألهم ويثبتهم» (1): وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الرُّسُلِ مََا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤََادَكَ} [هود: 120].
__________
(1) لم أجده في الصحيحين، ولكنه في المسند (2/ 368) وعند الترمذي (2557) في صفة الجنة، باب: ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار، بلفظ: «وهو يأمركم ويثبتهم» وقال: حسن صحيح، كلاها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والله تعالى أعلم.(1/159)
فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مََا يُوعَظُونَ بِهِ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 66].
فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا، والقول الثابت: هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس، وأشجعهم قلبا، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار، وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به، فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل. فما منح العبد منحة أفضل من منحه القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم، ويوم معادهم، كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر» (1).
وقد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح، فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: «يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك بيده مطراق فأقعده، فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقال له: هذا منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض له، فيقال له: اسكن، ثم يفسح له في قبره، وأما الكافر [أو] المنافق: فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما
__________
(1) حديث صحيح عند مسلم (5/ 723722) وقد سبق تخريجه، فلا تغتر أخي القارئ بكلام الجهال منكري الأمر، والذي خالف كل من تكلم في باب العقيدة من أهل السنة، ولا تنسى أنك في زمان كثر فيه القول بلا علم.(1/160)
إذ كفرت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين» (1)، قال بعض أصحابه: يا رسول الله، ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل (2) عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ} (27) [إبراهيم: 27].
وفي المسند نحوه من حديث البراء بن عازب (3).
وروى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قبض روح المؤمن فقال: «يأتيه آت يعني في قبره فيقول: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟
فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فتنهره، فيقول: ما ربك وما دينك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام ونبيي محمد، فيقال له: صدقت». وهذا حديث صحيح (4).
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ} إذا قيل له في القبر: من ربك، وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث (5).
وقال الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وذكر قبض روح المؤمن، قال: فترجع روحه في جسده، ويبعث إليه ملكان شديدا الانتهار، فيجلسانه، وينتهرانه ويقولان: من ربك؟ فيقول: الله، وما دينك؟ فيقول:
الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله،
__________
(1) أحمد (3/ 3، 4)، والحديث رواه مسلم (2867/ 67) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه.
(2) أصابه الخوف والرعب.
(3) أحمد (4/ 287، 288)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 53): «رجال أحمد رجال الصحيح».
(4) سبق تخريجه.
(5) مسلم (2872/ 75) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه.(1/161)
فيقولان له: وما يدريك؟ قال: فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فذلك قول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}. رواه ابن حبان في صحيحه، والإمام أحمد.
وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه: قال: «إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه مدبرين، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، وكان الصيام عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة المعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من عند رأسه، فتقول الصلاة: ما قلبي مدخل، فيؤتى عن يمينه، فتقول الزكاة: ما قلبي مدخل، فيؤتى عن يساره، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، فيؤتى من عند رجله، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس من مثلت له الشمس قد دنت للغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك عنه، فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقال: إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعما تسألوني؟ فيقال له: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالبيّنات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حييت، على ذلك مت، على ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له فيه، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورا، ثم تجعل نسمته في النسيم الطيب، وهي طير خضر، تعلق بشجر الجنة، ويعاد الجسد إلى ما بدأ منه من التراب» (1)، وذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}
[إبراهيم: 27] ولا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي، والشاهد، والحاكم، بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس، وبالله التوفيق.
التمثيل بالعبد المملوك
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنََاهُ مِنََّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمََا أَبْكَمُ لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى ََ مَوْلََاهُ أَيْنَمََا يُوَجِّهْهُ لََا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (76) [النحل].
__________
(1) ابن حبان (3103).(1/162)
وهذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم بنفي علته، وموجبه.
فإن القياس نوعان: قياس طرد: يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه، وقياس عكس: يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.
فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان، فالله سبحانه هو المالك لكل شيئ، ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا، وليلا ونهارا يمينه ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار (1).
والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمنين والكفار، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا، والكافر بمنزلة عبد مملوك، عاجز لا يقدر على شيء، لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد العقلاء؟
والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلََا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلََا تَضْرِبُوا لِلََّهِ الْأَمْثََالَ إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} (74) [النحل: 7473]، ثم قال: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ} [النحل: 75] ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا. والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا نبّه عليه المثل، وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته، لا أن الآية اختصت به، فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس، وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه، ولما يعبد من دونه أيضا، فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم، لا يعقل، ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء
__________
(1) يشير للحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنفق ينفق عليك» إلخ، رواه البخاري (4316) في التفسير، ومسلم (1659) في الزكاة ورواه غيرهما. ومعنى سحاء: أي دائمة العطاء والفيض، لا حد لما تجود به، سبحانه وتعالى.(1/163)
البتة وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإن أمره بالعدل، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به، معلم له، راض به، آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل، بل أمره وشرعه عدل كله.
وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» (1)، فقضاؤه هو أمره الكوني، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فلا يأمر إلا بحق وعدل، وقضاؤه قدره القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم، فالقضاء غير المقضيّ، والقدر غير المقدّر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قول رسوله شعيب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللََّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (56) [هود]، فقوله:
{مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا} نظير قوله: «ناصيتي بيدك»، وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، نظير قوله: «عدل فيّ قضاؤك»، فالأول: ملكه، والثاني: حمده، وهو سبحانه له الملك، وله الحمد، وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها، ولم يتسبب إليها شيئا، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه، ويثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة، والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3712)، وقال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده صحيح»، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 139): «رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان».
ورواه الحاكم (1/ 509/ 510) وصححه على شرط مسلم وتعقبه الذهبي وابن حبان (2372) وأبو يعلى (9/ 196).(1/164)
طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدا منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به (1).
ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل، عن ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، قال: الحق، وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ} (14) [الفجر]، وهذا اختلاف عبارة، فإن كونه بالمرصاد، هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم، ويحضكم عليه.
وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها، فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المقدر، وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل، وبين كونه على صراط مستقيم، وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية، فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم، ومن مقتضاه وموجبه فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه: كل شيء تحت قدرته وقهره، وفي ملكه وقبضته، وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية، وقد فرق شعيب بين قوله: {مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا}، وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد، وهو قول أئمة التفسير، ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير (2) يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].
وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعه على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم، فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله، وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه
__________
(1) تفسير الطبري (12/ 61).
(2) ديوان جرير (507).(1/165)
حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله، وبالله التوفيق.
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء، أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق.
في تشبيه من أعرض عن مثل الشرك
ومنها قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفََاءَ لِلََّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ} (31) [الحج]، فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله، وتعلق بغيره، ويجوز لك في هذا التشبيه أمران: أحدهما: أن تجعله تشبيها مركبا، ويكون قد شبه من أشرك بالله، وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة، فصور حاله بصورة حال من خرّ من السماء، فاختطفته الطير في الهوى، فتمزق مزقا في حواصلها، أو عصفت به الريح، حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة. وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
والثاني: أن يكون من التشبه المفرّق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به، وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض، وإليها يصعد منه، وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد، والآلام المتراكمة، والطير الذي تخطف أعضاءه، وتمزقه كل ممزق، بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه أزا، وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه. فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق، هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان، وأبعده من السماء.
قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله
ومنها قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (74) [الحج]، حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي
يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟.(1/166)
ومنها قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لََا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (74) [الحج]، حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي
يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟.
وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات، والإحاطة بجميع المعلومات، والمغني عن جميع المخلوقات، وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإله الحق، وأذلها وأصغرها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه، وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء لإلهيتهم. أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا، واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه، ثم سوّى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: {ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، قيل: الطالب: العابد، والمطلوب: المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز، وعلى هذا فقيل: الطالب الإله الباطل، والمطلوب: الذباب يطلب منه ما استلبه منه، وقيل: الطالب: الذباب، والمطلوب: الإله، فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه.
والصحيح: أن اللفظ يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود، المستلب والمستلب، فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز، فما قدّره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه.
تمثيل أعمال الكافرين بالسراب
ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللََّهَ عِنْدَهُ فَوَفََّاهُ حِسََابَهُ وَاللََّهُ سَرِيعُ الْحِسََابِ (39) أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ} (40) [النور]، ذكر سبحانه للكافرين مثلين، مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة.(1/167)
وذلك لأن المعرضين عن الهدي والحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له.
وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عزّ وجلّ فيها: {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (23) [الفرقان]، وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والمعالم.
فمحل السراب: أرض قفرة لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى. وتأمل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً}، والظمآن الذي قد اشتد عطشه، فرأى السراب، فظنه ماء، فتبعه فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه، فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول، ولغير الله جعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا، وأحوج ما كانوا إليهم فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثمّ (1) فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم.
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة: «ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون:
كنا نعبد عزيرا ابن الله. فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا:
نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟
قالوا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟
فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون» (2) وذكر الحديث. وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل، فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا.
وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله، أو على غير أمره بطل العمل
__________
(1) أي هناك.
(2) مسلم (267) في الإيمان.(1/168)
ببطلانه، وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه، بل صار معذبا بفوات نفعه، وبحصول ضد النفع، فلهذا قال تعالى: {وَوَجَدَ اللََّهَ عِنْدَهُ فَوَفََّاهُ حِسََابَهُ وَاللََّهُ سَرِيعُ الْحِسََابِ}. فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.
النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس، وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج، ظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان.
وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة، وهو الماء، والظلمات المضادة للنور، نظير المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين، وهو المثل المائي، والمثل الناري، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة. فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر، ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة. وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي، فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.
ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه.
فهذا حال المغضوب عليهم، والأول حال الضالين.
وحال الطائفتين مخالف حال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: {* اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ الْمِصْبََاحُ فِي زُجََاجَةٍ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللََّهُ أَحْسَنَ مََا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللََّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشََاءُ بِغَيْرِ حِسََابٍ} (38) [النور: 3835] فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم: وهم أهل النور، والضالين: وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم: وهم أهل الظلمات المتراكمة، والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة،
وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم.(1/169)
فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة،
وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم.
وهكذا أمواج الشكوك، والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.
فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين، وليطابق بينهما المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور، فإنه سبحانه ولى الذي آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله» (1). فالله سبحانه خلق الخلق، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيا به قلبه وروحه كما يحيى به بدنه بالروح التي ينفخها فيه، فهما حياتان:
حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور.
ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى:
{يُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} [النحل: 2]، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} [غافر: 15]، وقال تعالى: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا} [الشورى: 52]، فجعل وحيه روحا ونورا، فمن لم يحيه بهذا الروح، فهو ميت، ومن لم يجعل نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور.
مثل في بيان حال الكفار
ومنها قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44) [الفرقان]، فشبه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم
__________
(1) رواه الإمام أحمد (6854)، وقال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده صحيح» والحاكم (1/ 3130).(1/170)
قبول الهدى والانقياد، وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها تهتدي، وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا، والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل، فلا يستجيبون ولا يهتدون، ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه، وما ينفعها فتؤثره، والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما أعطى وجعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضل من البهائم، فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي، حيث لا دليل معه.
مثل في الذين اتخذوا أولياء من دون الله تعالى
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} (41) [العنكبوت]، فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء هم أضعف منهم، فهم في ضعفهم، وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا، وهو أوهن البيوت وأضعفها.
وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء، فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلّا ضعفا، كما قال تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلََّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبََادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (82) [مريم]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لََا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} (75) [يس]، وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمََا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمََّا جََاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمََا زََادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (101) [هود].
فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليّا يتعزز به، ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصود.
وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ}؟(1/171)
فالجواب: أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه، يفيدهم عزا وقدرة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.
مثل في ضلال المشركين
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ شُرَكََاءَ فِي مََا رَزَقْنََاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوََاءٌ تَخََافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) [الروم]، وهذا دليل قياسي احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها، معلوم لها، فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيد وإمائكم شركاء في المال والأهل. أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء، أتخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخاف الشريك شريكه.
وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا. والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.
مثل الموحد والمشرك
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (29) [الزمر]، هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك
والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون.(1/172)
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (29) [الزمر]، هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك
والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون.
والرجل المتشاكس: الضيق الخلق، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين. والموحد لما كان يعبد الله وحده، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه، مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟
وهذا من أبلغ الأمثال، فإن الخالص لمالك واحد، يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه، ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
مثل المغتاب
ومنها قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلََا تَجَسَّسُوا وَلََا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ رَحِيمٌ} (12) [الحجرات]، وهذا من أحسن القياس التمثيلي، فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته، كأنه بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت.
ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه، كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ولما كان مقتضى الأخوة: التراحم والتواصل والتناصر، فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن، كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه. والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه، ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه، متفكها بغيبته وذمه، متحليا بذلك، شبه بمن يأكل لحم أخيه بعد تقطيعه، ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا، ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل، وحسن موقعه، ومطابقة المعقول فيه المحسوس، وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في
أولها، أن يحب أحدهم ذلك، فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهم أشد شيء نفرة عنه، فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة، عما هو نظيره ومشبهه، وبالله التوفيق.(1/173)
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل، وحسن موقعه، ومطابقة المعقول فيه المحسوس، وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في
أولها، أن يحب أحدهم ذلك، فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهم أشد شيء نفرة عنه، فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة، عما هو نظيره ومشبهه، وبالله التوفيق.
مثل من حمّل الكتاب ولم يعمل به
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (5) [الجمعة]، فقاس من حمّله سبحانه كتابه، ليؤمن به ويتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم، ولا اتباع له، وتحكيم له، وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره.
فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته.
مثل للكفار ومثلان للمؤمنين
ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا مِنَ اللََّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النََّارَ مَعَ الدََّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قََالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهِ مِنْ رُوحِنََا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} (12) [التحريم] فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
فتضمن مثل الكفار: أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من أسباب الاتصال، فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان، لنفعت الوصلة التي
كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا: {وَقِيلَ ادْخُلَا النََّارَ مَعَ الدََّاخِلِينَ} قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فوق اتصال النبوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا.(1/174)
فتضمن مثل الكفار: أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من أسباب الاتصال، فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان، لنفعت الوصلة التي
كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا: {وَقِيلَ ادْخُلَا النََّارَ مَعَ الدََّاخِلِينَ} قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فوق اتصال النبوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا.
قال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحََامُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) [الممتحنة: 3] وقال تعالى: {يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ} (19) [الانفطار]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 123]، وقال: {وَاخْشَوْا يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلََا مَوْلُودٌ هُوَ جََازٍ عَنْ وََالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ}
[لقمان: 33]. وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة: أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله، أو يشفع لهم عند الله.
وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما: امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله، فتأتي عامة، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأتا نوح ولوط اتصالهما بهما، وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني: للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف من النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد.
فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها.
والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها.
والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذا الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار
الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأتا نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.(1/175)
ثم في هذا الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار
الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما لم ينفع امرأتا نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة، وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه، مع كونها الصديقة المصطفاة على نساء العالمين، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال الكاذبون إن كانت قبلها، كما في ذكر التمثيل بامرأتي نوح ولوط تحذير لها وحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.
مثل في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره
ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره: {فَمََا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (51) [المدثر]، شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة، ففرت منه، وهذا من بديع القياس والتمثيل، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر، وهي لا تعقل شيئا، فإذا سمعت صوت الأسد، أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم، وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها. وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة، فإنها لشدة نفورها، قد استنفر بعضها بعضا، وحضه على النفور، فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد. فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه، ومن قرأها بتفتح الفاء (1) فالمعنى: أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته.
__________
(1) قرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: (مستنفرة) بفتح الفاء، والباقون بكسر الفاء، انظر السبعة في القراءات لابن مجاهد.(1/176)
فصل في الفوائد والحكم من ضرب الأمثال
كم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه. فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى، ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي، دون ضرب الأمثال، وتبين جهة القبح المشهودة بالحسّ والعقل.
والقرآن مملوء بهذا لمن تدبره، كقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ شُرَكََاءَ فِي مََا رَزَقْنََاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوََاءٌ تَخََافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) [الروم] يحتج سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى بذلك، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر، والسمح نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (29) [الزمر] احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة، وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له، فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق، لا يستويان.
وكذل قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُبْطِلُوا صَدَقََاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ََ كَالَّذِي يُنْفِقُ مََالَهُ رِئََاءَ النََّاسِ وَلََا يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوََانٍ عَلَيْهِ تُرََابٌ فَأَصََابَهُ وََابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لََا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِمََّا كَسَبُوا وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ} (264) [البقرة] ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل، والمن والأذى المبطل للصدقات ب «صفوان» وهو الحجر الأملس عليه تراب: غبار قد لصق به، فأصابه مطر شديد فأزال ما عليه من التراب «فتركه صلدا»: أملس لا شيء عليه. وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه. ف «الصفوان» وهو الحجر. كقلب المرائي والمانّ والمؤذي. و «التراب» الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته. و «الوابل»: المطر الذي به حياة الأرض. فإذا صادفها لينة قابلة: نبت فيها الكلأ، وإذا صادف الصخور والحجارة الصم: لم ينبت فيها شيئا، فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر، فصادفه رقيقا، فأزاله، فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات.(1/177)
وهذا يدل على أن قبح «المن، والأذى، والرياء» مستقر في العقول، فلذلك نبهها على شبهه ومثاله.
وعكس ذلك قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصََابَهََا وََابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهََا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (265) [البقرة] فإن كانت هذه الجنة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح، وقد أصابها مطر شديد. فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس. فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه الله، لا لجزاء من الخلق، ولا لشكور، بل بثبات من نفسه، وقوة على الإنفاق، لا يخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها، ويداه ترتعشان، ويضعف قلبه، ويخور عند الإنفاق. بخلاف نفقة صاحب التثبيت والقوة.
ولما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين، كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والقوة والتثبيت: كمثل الوابل. ومثل نفقة الآخر كمثل الطل، وهو المطر الضعيف.
فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلته، وكمال الإخلاص والقوة واليقين فيه وضعفه. أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا، واستقباح فعل الأول؟ (1)
الخلاصة فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا، قالوا: وقد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلالهم بالنظير على النظير (2).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 240، 241).
(2) إعلام الموقعين (1/ 246200).(1/178)
المحكم والمتشابه
المحكم أصل للمتشابه
إن الله سبحانه قسم الأدلة السمعية إلى قسمين: محكم ومتشابه، وجعل المحكم أصلا للمتشابه، وإمّا له يرد إليه، فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم.
وقد اتفق المسلمون على هذا، وأن المحكم هو الأصل، والمتشابه مردود إليه (1).
المتشابه وأنواع الإحكام
الله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام: مريضة، وقاسية، ومخبتة. وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.
وأما النوع الثاني: فلا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه، لقوته مع لينه، أو يكون ثابتا مع ضعف وانحلال.
والثاني: هو القلب المريض، والأول هو الصحيح المخبت. وهو جمع الصلابة والصفاء واللين فيبصر الحق بصفائه، ويشد فيه بصلابته، ويرحم الخلق بلينه، كما في أثر مروي: «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أصلبها وأرقها وأصفاها» (2)، كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: {أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم، واشتدوا على الكفار بصلابتها وتراحموا فيما بينهم بلينها.
وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن، وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع. وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بضعف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة، ولضعفها ومرضها، فذلك مثل
__________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 772).
(2) قال العلامة الألباني رحمه الله تعالى: «أخرجه الطبراني من المعجم الكبير، (المنتقى منه)، وإسناده قوي، رجاله كلهم ثقات أثبات غير نقية، وهو صدوق كثير التحديث عن الضعفاء، ولكن هناك قد صرح بالحديث» السلسلة الصحيحة (1691).(1/179)
الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين، فذلك مثل القلب العليم الرحيم. فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة والشبهة، وبالرحمة خرج عن القسوة.
ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات.
فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب، وهم كل الأمة، فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم، كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون: {آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} [آل عمران: 7]. وكلا الوصفين موضع شبهة. فكان حظهم منه الإيمان، وحظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة الافتتان.
ولهذا جعل سبحانه إحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات. فالإحكام هاهنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك، ونسخ ما يلقي الشيطان هاهنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك.
والنسخ هاهنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه.
وللنسخ معنى آخر وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284].
فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت، فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا. ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها، فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: {رَبَّنََا لََا تُؤََاخِذْنََا إِنْ نَسِينََا أَوْ أَخْطَأْنََا} [البقرة: 286]، إلى آخرها. فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك، وذاك رفع لما ألقاه غير الملك، في أسماعهم أو في التمني.
وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين، وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق، وهذا كثير في كلامهم جدا.
وله معنى رابع، وهو الذي يعرفه المتأخرون، وعليه اصطلحوا، وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له، فهذه أربعة معان للنسخ (1).
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 368).(1/180)
والإحكام له ثلاثة معان:
أحدهما: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه، كقوله: {مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} [آل عمران: 7].
والثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: {فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] وهذا الإحكام يعم جميع آياته، وهو إثباتها وتقريرها وبيانها، ومنه قوله {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} [هود: 1].
الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة، كما يقول السلف كثيرا: هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ. فالحكم هنا هو المنزل من عند الله أحكمه الله، أي فصله من اشتباهه بغير المنزل، وفصل منه ما ليس منه بإبطاله.
وتارة يكون في إبقاء المنزل واستمراره فلا ينسخ بعد ثبوته.
وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله، وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به (1).
التحذير ممن يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة
سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، فقال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم» متفق عليه (2).
بيان خطأ الأخذ بالمتشابه في رد المحكم
ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن، وردها بذلك وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم، فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به، استخرجوا من المحكم وصفا متشابها، وردوه به.
فلهم طريقان في رد السنن:
__________
(1) سيأتي الكلام في النسخ قريبا.
(2) إعلام الموقعين (4/ 496).(1/181)
أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن.
الثاني: جعلهم المحكم متشابها، ليعطلوا دلالته.
وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كالشافعي، والإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، والبخاري، وإسحاق، فعكس هذه الطريقة، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه، ويبينه لهم. فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله. فلا اختلاف فيه، ولا تناقض. وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب.
المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام، المبينة بأقصى غاية البيان: أن الله موصوف بصفات الكمال، من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة، وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك.
والعلم بمجيء الرسول بذلك، وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب، فليس يقصر عنه، فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك، وفرض على الأمة تصديقة فيه فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به.
فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ومن قوله:
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، ومن قوله: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) [الإخلاص: 1].
ثم استخرجوا من هذه النصوص المحكمة المبينة احتمالات وتحريفات جعلوها به من قسم المتشابه (1).
__________
(1) في معنى المحكم والمتشابه أكثر من عشرة أقوال ذكرها السيوطي في الإتقان في الباب الثالث والأربعين، ثم ذكر الاختلاف في معرفة المتشابه هل مما يمكن الاطلاع عليه أم لا!! ومدار الخلاف على فهم قوله تعالى: {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وهل قوله تعالى {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}
معطوفا، ويقولون «حال أو مبتدأ خبره يقولون والواو للاستئناف. إلخ ثم بين اختيار الجمهرة من العلماء إلى أن أولى العلم مما يعلم تأويله، وذهب إلى ذلك النووي في شرحه على مسلم وقال ابن الحاجب: وهو الأظهر. وفي المسألة تفصيل انظرها في موضعه، الإتقان (2/ 2).(1/182)
المثال الثاني: ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به: من إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ} [الحديد:
4]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقوله: {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ وَلََا أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْثَرَ إِلََّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مََا كََانُوا}
[المجادلة: 7]، ونحو ذلك، ثم تخيلوا وتحملوا، حتى ردوا نصوص العلو والفوقية بمتشابه.
المثال الثالث: رد القدرية النصوص الصريحة المحكمة في قدرة الله على خلقه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله: {وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوها آخر أخرجوها به من قسم المحكم، وأدخلوها في المتشابه.
المثال الرابع: رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرا مختارا فاعلا بمشيئته بمتشابه قوله: {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [الإنسان 30]، {وَمََا يَذْكُرُونَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [المدثر: 56]، وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:
39]، وأمثال ذلك، ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يردها ما صيروها به متشابهة.
المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشافعة للعصاة، وخروجهم من النار بالمتشابه من قوله: {فَمََا تَنْفَعُهُمْ شَفََاعَةُ الشََّافِعِينَ} (48) [المدثر]، وقوله: {رَبَّنََا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النََّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وقوله:
{وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً خََالِداً فِيهََا} [النساء: 14]، ونحو ذلك، وفعلوا فيها فعل من ذكرناه سواء.
المثال السادس: رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها وصحتها إلى أعلى الدرجات، في رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في عرصات القيامة. وفي الجنة المتشابه من قوله: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103]، وقوله لموسى {لَنْ تَرََانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} [الشورى: 51]، ثم أحالوا المحكم متشابها وردوا الجميع.
المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوق العدد على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به، كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقوله:
{فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) [يس]، وقوله: {فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقوله: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا} [الإسراء:(1/183)
المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوق العدد على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به، كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقوله:
{فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) [يس]، وقوله: {فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقوله: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا} [الإسراء:
16]، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا} [أول المجادلة]، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيََاءُ}. [آل عمران: 181].
وقوله: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا» (1).
وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158].
وقوله: «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله» (2)، وقوله: «إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي» الحديث (3).
وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف، فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله: {لََا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76].
المثال الثامن: رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة والكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة وغاية محمودة، وجودها خير من عدمها، ودخول لام التعليل في شرعه وقدره أكثر من أن يعد فردوها بالمتشابه من قوله: {لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} (23) [الأنبياء]، ثم جعلوها كلها متشابهة.
المثال التاسع: رد النصوص الصحيحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا وقدرا، كقوله: {بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، {بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52]، {بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51]، {بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ} [الحج: 10]، {بِمََا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيََاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، {ذََلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا عَلَى الْآخِرَةِ}
[النحل: 107]، {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمََالَهُمْ} (9) [محمد: 9]، {ذََلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً} [الجاثية: 35]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ} [المائدة: 16]، وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26]، وقوله:
__________
(1) البخاري (6321) في الدعوات، باب: الدعاء نصف الليل.
(2) البخاري (3340) في الأنبياء، باب: قول الله عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} [هود: 25].
(3) مسلم (395/ 38) في الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، والترمذي (2953) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة فاتحة الكتاب.(1/184)
{وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً فَأَنْبَتْنََا بِهِ جَنََّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (9) [ق]، وقوله: {فَأَنْزَلْنََا بِهِ الْمََاءَ فَأَخْرَجْنََا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ} [الأعراف: 57]، وقوله: {فَأَنْشَأْنََا لَكُمْ بِهِ جَنََّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ}
[المؤمنون: 19]، وقوله: {قََاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللََّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وقوله في العسل:
{فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ} [النحل: 69]، وقوله في القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسببية، فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله: {هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ} [فاطر: 3]، وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} [الأنفال: 17]، وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملتكم، ولكن الله حملكم» (1) ونحو ذلك. وقوله: «إني لا أعطي أحدا، ولا أمنعه» (2)، وقوله للذي سأله عن العزول عن أمته: «اعزل عنها، فسيأتيها ما قدر لها» (3)، وقوله: «لا عدوى ولا طيرة» (4)، وقوله: «فمن أعدى الأول؟» (5)، وقوله: «أرأيت إن منع الله الثمرة» (6)، ولم يقل:
منعها البرد والآفة التي تصيب الثمار، ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب وخالقه يتصرف فيه، بأن يسلبه سببيته إن شاء، ويبقيها عليه إن شاء، كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل عليه السّلام.
ويا لله العجب أترى من أثبت الأسباب، وقال: إن الله خالقها أثبت خالقا غير الله؟! وأما قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}
[الأنفال: 17] فغاب عنهم فقه الآية وفهمها، والآية من أكبر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب بها خاص لأهل بدر، وكذلك القبضة التي رمي بها النبي صلى الله عليه وسلم فأوصلها الله سبحانه إلى جميع وجوه المشركين، وذلك خارج عن قدرته صلى الله عليه وسلم، وهو الرمي الذي نفاه عنه، وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الحذف. وكذلك القتل الذي نفاه عنهم، هو قتل لم تباشره أيديهم، وإنما باشرته أيدي الملائكة، فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس، وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك.
__________
(1) البخاري (6623) في الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ}
[المائدة: 89].
(2) البخاري (844) في الأذان، باب: الذكر بعد الصلاة.
(3) مسلم (1439/ 134) في النكاح، باب: حكم العزل.
(4) البخاري (5775) في الطب، باب: لا عدوى، ومسلم (2220/ 101) في السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(5) البخاري (5775) في الطب، باب: لا عدوى، ومسلم (2220/ 101) في السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(6) النسائي (4526) في البيوع، باب: شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها على أن يقطعها ولا يتركها إلى أوان إدراكها.(1/185)
ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص، لم يكن فرق بين ذلك وبين كل قتل وكل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم، فإن الله خالق الجميع، وكلام الله ينزه عن هذا.
وكذلك قوله: «ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم»، لم يرد أن الله حملهم بالقدر، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم متصرفا بأمر الله منفذا له، فالله سبحانه أمره بحمله، فنفذ أوامره، فكأن الله هو الذي حملهم، وهذا معنى قوله: «والله إني لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنعه»، ولهذا قال: «وإنما أنا قاسم»، فالله سبحانه هو المعطي على لسانه، وهو يقسم ما قسمه بأمره.
وكذلك قوله في العزل: «فسيأتيها ما قدر لها»، ليس فيه إسقاط الأسباب، فإن الله سبحانه إذا قدر خلق الولد، سبق من الماء ما يخلق منه الولد، ولو كان أقل شيء، فليس من كل الماء يكون الولد، ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد البتة، وليس سببا له؟ وأن الزوج أو السيد إن وطئ أو لم يطأ، فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب؟
المثال العاشر: رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد على أن الله سبحانه تكلم ويتكلم وكلم ويكلم، وقال ويقول، وأخبر ويخبر، ونبأ وينبئ، وأمر ويأمر، ونهى وينهى، ورضي ويرضى، ويعطي، ويبشر وينذر ويحذر، ويوصل لعباده القول، ويبين لهم ما يتقون، ونادى وينادي، وناجى ويناجي، ووعد وأوعد، ويسأل عباده يوم القيامة ويخاطبهم، ويكلم كلّا منهم ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب، ويراجعه عبده مراجعة.
وهذه كلها أنواع الكلام والتكليم، وثبوتها بدون صفة التكلم له ممتنع، فردها الجهمية مع إحكامها صراحتها وتعيينها للمراد منها، بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
المثال الحادي عشر: ردوا محكم قوله: {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وقوله:
{وَلََكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:
102] وقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء: 164] وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النََّاسِ بِرِسََالََاتِي وَبِكَلََامِي} [الأعراف: 144]، وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (40) [التكوير] والآيتان حجة عليهم، فإن صفات الله جل جلاله داخلة في مسمى اسمه، فليس الله اسما لذات لا سمع لها، ولا
بصر لها، ولا حياة لها، ولا كلام لها، ولا علم، وليس هذا رب العالمين، وكلامه تعالى، وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته، داخلة في مسمى اسمه، فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق، وكل ما سواه مخلوق.(1/186)
102] وقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} [النساء: 164] وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النََّاسِ بِرِسََالََاتِي وَبِكَلََامِي} [الأعراف: 144]، وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (40) [التكوير] والآيتان حجة عليهم، فإن صفات الله جل جلاله داخلة في مسمى اسمه، فليس الله اسما لذات لا سمع لها، ولا
بصر لها، ولا حياة لها، ولا كلام لها، ولا علم، وليس هذا رب العالمين، وكلامه تعالى، وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته، داخلة في مسمى اسمه، فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق، وكل ما سواه مخلوق.
وأما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض لا إنشاء. والرسالة تستلزم تبليغ كلام المرسل، ولو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولا، ولهذا قال غير واحد من السلف: من أنكر أن يكون الله متكلما، فقد أنكر رسالة رسله، فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم.
فالجهمية وإخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه، ثم صيّروا الكل متشابها، ثم ردوا الجميع، فلم يثبتوا لله فعلا يقوم به يكون به فاعلا، كما لم يثبتوا له كلاما يقوم به يكون به متكلما. فلا كلام له عندهم ولا أفعال، بل كلامه وفعله عندهم مخلوق، منفصل عنه، وذلك لا يكون صفة له، لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به، لا بما لم يقم به.
المثال الثاني عشر: وقد تقدم ذكره مجملا فنذكره هاهنا مفصلا: رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعا:
أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة «من» المعينة لفوقية الذات، نحو: {يَخََافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مََا يُؤْمَرُونَ} (50) [النحل].
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: {وَهُوَ الْقََاهِرُ فَوْقَ عِبََادِهِ} [الأنعام: 18].
الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو: {تَعْرُجُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم» (1).
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10].
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللََّهُ إِلَيْهِ} [النساء:
158]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا، كقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}
__________
(1) أخرجه البخاري (522) في مواقيت الصلاة، ومسلم (1001) في المساجد، ورواه غيرهما.(1/187)
[النحل: 102]. وهذا يدل على شيئين: على أن القرآن ظهر منه لا من غيره، وأنه الذي تكلم به لا غيره.
الثاني: على علوه على خلقه، وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده، من أعلى مكان إلى رسوله.
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38] وقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لََا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِهِ وَلََا يَسْتَحْسِرُونَ} (19) [الأنبياء]، ففرق بين من له عموما، ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصا، وقوله النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه «أنه عنده على العرش» (1).
التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء، وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين، إما أن تكون «في» بمعني «على»، وما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حمل النص على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقرونا بأداة «على»، مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحبا في الأكثر لأداة «ثم» الدالة على الترتيب والمهملة، وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع، ولا يحتمل غيره البتة.
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا» (2).
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا (3)، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حسا إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به، وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة، في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع إصبعه إلى السماء، ويقول: «اللهم اشهد» ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله، ودعا إليه، واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه.
__________
(1) أخرجه البخاري (2955) في بدء الخلق، ومسلم (4931) في التوبة.
(2) حديث صحيح، رواه غير واحد بألفاظ متقاربة، رواه أبو داود الصحيح (1337) وابن ماجة (3117) وغيرهما.
(3) سبق تخريجه.(1/188)
الرابع عشر: التصريح بلفظ «الأين»، الذي هو عند الجهمية بمنزلة «متى» في الاستحالة، ولا فرق بين اللفظين عندهم البتة، فالقائل: أين الله؟ ومتى كان الله؟ عندهم سواء، كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته وأعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلا بوجه: «أين الله؟» (1) في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان، وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر، وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان، فقال في كتاب في باب: عتق الرقبة المؤمنة، وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية، وبيضت وجوه المحمدية فلما وصفت الإيمان قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة»، وهي إنما وصفت كون ربها في السماء، وأن محمدا عبده ورسوله، فقرنت بينهما في الذكر، فجعل الصادق المصدق مجموعها هو الإيمان.
السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره به من أنه فوق السموات، فقال: {يََا هََامََانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبََابَ (36) أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى ََ إِلََهِ مُوسى ََ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كََاذِباً} (37) [غافر: 36، 37]، فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء. وعند الجهمية: لا فرق بين الإخبار بذلك، وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب، وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به، وكذب موسى في إخباره بذلك، إذ من قال عندهم: إن ربه فوق السموات فهو كاذب، فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون، مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء.
ولذلك سماهم أئمة السنة: فرعونية، قالوا: وهم شر من الجهمية، فإن الجهمية يقولون: إن الله في كل مكان بذاته، وهؤلاء عطلوه بالكلية، وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض. فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه، كان قولهم خيرا من قولهم.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى، وبين الله، ويقول له موسى: «ارجع إلى ربك، فسله التخفيف» (2)، فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى، فيأمره بالرجوع إليه سبحانه
__________
(1) يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي وصفعه لجاريته فأراد أن يعتقها فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها:
«أين الله؟» قالت: في السماء، قال من أنا، قالت: أنت رسول الله إلخ.
أخرجه مسلم (836) في المساجد، ورواه غير واحد من أئمة الحديث.
(2) مسلم (162/ 259) في الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.(1/189)
فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى عدة مرار.
الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه، وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر. والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة، التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد، فتمتنع الرؤية، ولا في القرب، فلا تمكن الرؤية، لا تعقل الأمم غير هذا. فإما أن يروه سبحانه من تحتهم تعالى الله أو من خلفهم، أو من أمامهم، أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم، ولا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا، وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم، كما في حديث جابر الذي في المسند وغيره: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم» (1)، ثم قرأ قوله: {سَلََامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (85) [يس] ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية أصلهم، وصرحوا بذلك، وركبوا النفيين معا، وصدق أهل السنة بالأمرين معا، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية، ونفى علو الرب على خلقه، واستواءه على عرشه، مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة، وإذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه. فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، ورده زعيمهم المتأخر بقوله: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1)، وبقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ثم ردوا تلك الأنواع كلها متشابهة، فسلطوا المتشابه على المحكم، وردوه به، ثم ردوا المحكم متشابها، فتارة يحتجون به على الباطل، وتارة يدفعون به الحق، ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر، ولا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص، فإذا كانت متشابهة، فالشريعة كلها متشابهة، وليس فيها شيء محكم البتة!
ولازم هذا القول لزوما لا محيد عنه أن ترك الناس بدونها خير لهم من إنزالها إليهم فإنها أوهمتهم، وأفهمتهم غير المراد، وأوقعتهم في اعتقاد الباطل، ولم يتبين لهم ما هو
__________
(1) ابن ماجة (184) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وضعفه الألباني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 100، 101): «رواه البزار وفيه الفضل بن عيسي الرقاشي وهو ضعيف»، ويغني عنه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب كما سبق.(1/190)
الحق في نفسه، بل أحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم وأفكارهم ومقايسهم. فنسأل الله مثبت القلوب تبارك وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه، وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، ألّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه قريب مجيب.
المثال الثالث عشر: رد الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة والثناء عليهم، ورضاء الله عنهم، ومغفرته، وتجاوزه عن سيئاتهم، ووجوب محبة الأمة، واتباعهم لهم واستغفارهم لهم، واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (1)، ونحوه.
كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم، كفعل إخوانهم من الخوارج، حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم، وإن ارتكبوا بعض الذنوب التي تقع مكفرة بالتوبة النصوح والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم، وبالامتحان في البرزخ، وفي موقف القيامة، وبشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة، وبصدق التوحيد، وبرحمة أرحم الراحمين. فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب، فإن عجزت هذه الأسباب عنها، فلا بد من دخول النار، ثم يخرجون منها.
فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد وردوا المحكم من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم الذي يحتمل أن يكونوا قصدوا به طاعة الله، فاجتهدوا، فأداهم اجتهادهم إلى ذلك، فحصلوا فيه على الأجر المنفرد، وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم، وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا، ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب، فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص، وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها، فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم، وتقديم الرأي على الشرع، والهوى على الهدى، وبالله التوفيق.
المثال الرابع عشر: رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا من وجوب الطمأنينة وتوقف أجزاء الصلاة، وصحتها عليها، كقوله: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها
__________
(1) أخرجه البخاري (1739) في الحج، باب: الخطبة أيام منى، ومسلم (1679/ 29) في القسامة، باب: تغليط تحريم الدماء والأعراض والأموال.(1/191)
صلبة في ركوعه وسجوده» (1)، وقوله لمن تركها: «وصل فإنك لم تصل» (2) وقوله: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» (3)، فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة، ونفى مسماها الشرعي بدونها، وأمر بالإتيان بها، فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77].
المثال الخامس عشر: رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله:
«إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (4)، وقوله: «تحريمها التكبير» (5)، وقوله: «لا يقبل الله صلاة أحدكم، حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» (6)، وهي نصوص في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلََّى} (15). [الأعلى].
المثال السادس عشر: رد النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فرضا، بالمتشابه من قوله: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وليس ذلك في الصلاة، وإنما هو بدل عن قيام الليل، وبقوله للأعرابي: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (7)، وهذا يحتمل: أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسئ في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها، فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه، فلا يترك له المحكم الصريح.
__________
(1) أبو داود (855) في الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (265) في الصلاة، باب: ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود.
(2) البخاري (793) في الأذان، باب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، ومسلم (397/ 45) في الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
(3) سبق تخريجه في الحاشية السابقة.
(4) أبو داود (61) في الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذي (238) في أبواب الصلاة باب: ما جاء في تحريم الصلاة وتحليلها، وقال: «حسن».
(5) رواه أبو داود (857) في الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه، وضعفه الألباني رحمه الله تعالى.
(6) سبق تخريجه.
(7) إعلام الموقعين (2/ 320304)(1/192)
الناسخ والمنسوخ
حكمة النسخ في القرآن
إذا كان الرب تعالى لا حجر عليه بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ويبتلي عباده بما يشاء ويحكم ولا يحكم عليه، فما الذي يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنه، أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى.
بل أي شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك في الشريعة الواحدة في وقتين مختلفين بحسب المصلحة وقد بين ذلك سبحانه وتعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (106) [البقرة: 106] فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه في مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء ويثبت (1) فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء ويثبت منها ما يشاء.
فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارض الرسول الذي جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته وتجحد رسالته بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم، وبالله التوفيق يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية (2) تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام في أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم فمن ذلك:
أنهم يقولون في صلاتهم ما ترجمته هكذا: اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل.
__________
(1) قال تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} (39) [الرعد: 39] وهي مذكورة بعد بيان أن الرسل لا تأتي بشيء من نفسها إنما بالوحي، وأن الآجال مقدرة في كتابه يقول تعالى عن ذلك {وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} [الرعد: 38] فهذا المحور إما لكتب الآجال أو نسخ ما في شرائع والله أعلم.
(2) يعني اليهود لعنهم الله تعالى.(1/193)
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا: اردد حكامنا كالأولين ومسراتنا كالابتداء وابن أورشليم قرية قدسك وأعزنا بابتنائها سبحانك يا باني يورشليم.
فهذا قولهم في صلاتهم مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السّلام لم يقولا شيئا من ذلك ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامهم كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم أحصا وصوم كدليا التي جعلوها فرضا لم يصمها موسى، ولا يوشع بن نون، وكذلك صوم صلب هامان، ليس شيء من ذلك في التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.
هذا مع أن في التوراة ما ترجمته: لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا (1).
حكم نسخ القرآن بالسنة
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» (2): هذا الحكم متفق عليه بين الأمة، حتى عند من قال: إن الزيادة على النص نسخ (3)، والقرآن لا ينسخ بالسنة، فإنه اضطر إلى قبول هذا الحكم وإن كان زائدا على ما في القرآن، سواء سماه نسخا أو لم يسمه. كما اضطر إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، مع أنه زيادة على نص القرآن، وذكرها هذا مع حديث أبي القعيس في تحريم لبن الفحل على أن المرضعة والزوج صاحب اللبن قد صارا أبوين للطفل، وصار الطفل ولدا لهما، فانتشرت الحرمة من هذه الجهات الثلاث، فأولاد الطفل وإن نزلوا أولاد ولدهما، وأولاد كل واحد من المرضعة والزوج من الآخر ومن غيره، إخوته وأخواته من الجهات الثلاث، فأولاد أحدهما من الآخر إخوته وأخواته لأبيه وأمه، وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه، وأولاد المرضعة من غيره إخوته وأخواته لأمه، وصار آباؤها أجداده وجداته، وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته فحرمة الرضاع تنتشر من هذه الجهات الثلاث فقط (4).
__________
(1) إغاثة اللهفان [2/ 327، 326].
(2) البخاري (5099) في النكاح، باب: {وَأُمَّهََاتُكُمُ اللََّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، ومسلم (1444/ 2) في الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
(3) انظر ما كتبناه في المقدمة عن مسألة النسخ.
(4) زاد المعاد (5/ 556).(1/194)
أمثلة على النسخ
[1] قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (278) [البقرة]، فأمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا وهو ما لم يقبض ولم يأمرهم برد المقبوض، لأنهم قبضوه قبل التحريم فأقرهم عليه، بل أهل قباء صلوا إلى القبلة المنسوخة بعد بطلانها ولم يعيدوا ما وصلوا، بل استداروا في صلاتهم وأتموها، لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم، وفي هذا الأصل ثلاثة أقوال للفقهاء وهي لأصحاب أحمد، هذا أحدها وهو أصحها، وهو اختيار شيخنا رضي الله عنه.
والثاني: أن الخطاب إذا بلغ طائفة ترتب في حق غيرهم ولزمهم كما لزم من بلغه، وهذا اختيار كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم.
الثالث: الفرق بين الخطاب الابتدائي والخطاب الناسخ، فالخطاب الابتدائي يعم ثبوته من بلغه وغيره، والخطاب الناسخ لا يترتب في حق المخاطب إلا بعد بلوغه، والفرق بين الخطابين أنه في الناسخ مستصحب لحكم مشروع مأمور به، بخلاف الخطاب الابتدائي، ذكره القاضي أبو يعلى في بعض كتبه (1).
ونصوص القرآن والسنة تشهد للقول الأول، وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة وإنما أشرنا إليها إشارة.
قال أبو القاسم (2): وفي الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس يعني قوله للبراء: «لقد كنت على قبلة» (3).
وقالت طائفة: ما صلى إلى بيت المقدس إلا منذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
__________
(1) هو الإمام العلامة شيخ الحنابلة، محمد بن الحسن بن محمد بن خلف البغدادي الحنبلي صاحب التصانيف المبهرة منها «مسائل الإيمان» و «العدة» في أصول الفقه وانظر منه (3/ 780) وما بعدها.
انظر السير (18/ 89)، وطبقات الحنابلة (2/ 230193).
(2) هو العلامة السهيلي، انظر الروض الأنف (4/ 114113).
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 8886)، والحديث في كنز العمال معزولا لأبي نعيم (8/ 28). وانظر الإصابة (1/ 238).(1/195)
فعلى هذا يكون في القبلة نسخان، نسخ سنة بسنة، ونسخ سنة بقرآن، وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروي عنه من طرق صحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس (1)، فلما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى القبلتين جميعا لم يبن توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة، ولذلك والله أعلم قال الله تعالى في الآية الناسخة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} [البقرة: 150]، أي من أي جهة جئت إلى الصلاة وخرجت إليها فاستقبل الكعبة مستدبرا بيت المقدس أو لم تكن، لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه. قال وتدبر قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} وقال لأمته: {وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، ولم يقل: «حيث ما خرجتم»، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان إمام المسلمين، فكان يخرج إليهم في كل صلاة ليصلي بهم، وكان ذلك واجبا عليه إذ كان الإمام المقتدى به، فأفاد ذكر الخروج في خاصته هذا المعنى ولم يكن غيره هكذا يقتضي الخروج، ولا سيما النساء ومن لا جماعة عليه.
قلت: ويظهر في هذا معنى آخر وهو أن قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، خطاب عام له ولأمته، يقتضي أمرهم بالتوجه إلى المسجد الحرام في أي موضع كانوا من الأرض وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} خطاب بصيغة الإفراد والمراد هو والأمة كقوله: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ} [الأحزاب: 1]، ونظائره.
وهو يفيد الأمر باستقبالها من أي جهة ومكان خرج منه وقوله: {وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يفيد الأمر باستقبالها في أي موضع استقر فيه وهو تعالى لم يقيد الخروج بغاية، بل أطلق غايته كما عم مبدأه، فمن حيث خرج إلى أي مخرج كان من صلاة أو غزو أو حج أو غير ذلك فهو مأمور باستقبال المسجد هو والأمة، وفي أي بقعة كانوا من الأرض فهو مأمور هو والأمة باستقباله.
فتناولت الآيتان أحوال الأمة كلها، في مبدأ تنقلهم من حيث خرجوا وفي غايته إلى حيث انتهوا وفي حال استقرارهم حيثما كانوا، فأفاد ذلك عموم الأمر بالاستقبال في الأحوال الثلاث التي لا ينفك منها العبد، فتأمل هذا المعنى ووازن بينه وبين ما أبداه أبو
__________
(1) راجع تفسير الطبري (2/ 19).(1/196)
القاسم يتبين لك الرجحان، والله أعلم بما أراد من كلامه، وإنما هو كد أفهام أمثالنا من القاصرين.
فقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة وكان أولى بهذا الخطاب لأن مبدأ التوجه على يديه كان، وكان شديد الحرص على التحويل.
وقوله: {وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ} يتناول أماكن الكون كلها له وللأمة، وكانوا أولى بهذا الخطاب لتعدد أماكن أكوانهم وكثرتها بحسب كثرتهم واختلاف بلادهم وأقطارهم، واستدارتها حول الكعبة شرقا وغربا ويمنا وعراقا، فكان الأحسن في حقهم أن يقال لهم:
{وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ} أي من أقطار الأرض في شرقها وغربها وسائر جهاتها، ولا ريب أنهم أدخل في هذا الخطاب منه صلى الله عليه وسلم، فتأمل هذه النكت البديعة فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا، والله أعلم.
قال أبو القاسم: وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات، لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس: اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم، وأهل الريب والنفاق اشتد إنكارهم له، لأنه كان أول نسخ نزل، وكفار قريش قالوا: ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا. وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود، فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: {لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} على الاستثناء المنقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون، وقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (147) [البقرة] أي من الذين شكوا وامتروا. ومعنى {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي الذي أمرتك به من التوجه إلى البيت الحرام هو الحق الذي كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر في ذلك. فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، وقال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب «الناسخ والمنسوخ»، قال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب، قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته، قال: فسرت معه وهو ولي عهد، قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان وهو جالس فيه: والله إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون والنصارى لعجبا كذا رأيته، والصواب اليهود قال خالد بن يزيد: أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله
على محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرأ التوراة، فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزله الله عليهم ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل رفعه، فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم.(1/197)
ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب «الناسخ والمنسوخ»، قال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب، قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته، قال: فسرت معه وهو ولي عهد، قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان وهو جالس فيه: والله إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون والنصارى لعجبا كذا رأيته، والصواب اليهود قال خالد بن يزيد: أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله
على محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرأ التوراة، فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزله الله عليهم ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل رفعه، فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم.
وروى أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: إن موسى كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام فكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه. وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة، انتهى.
قلت: وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوفيق من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد.
أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبدا.
وهم مقرون بذلك ومقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بني إسرائيل وهي الصخرة.
إنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة، وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حللوه وحرموه فقد ح لله هو وحرمه في السماء. فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك.
وأما قبلة اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة، إنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.
وأما السامرة فإنهم يصلون إلى طور لهم بأرض الشام يعظمونه ويحجون إليه، ورأيته أنا وهو في بلد نابلس وناظرت فضلاءهم في استقباله. وقلت: هو قبلة باطلة مبتدعة، فقال مشار إليه في دينهم: هذه هي القبلة الصحيحة، واليهود أخطئوها لأن الله تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا، ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله، فقلت له: هذا خطأ قطعا على التوراة، لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل، فهم المخاطبون بها وأنتم فرع عليهم فيها، وإنما تلقيتموها عنهم، وهذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم وأنا رأيتها وليس هذا فيها، فقال لي: صدقت، إنما هو في توراتنا خاصة، قلت له: فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها وهم الذين تلقوها عن الكليم وهم متفرقون في أقطار الأرض قد
كتموا هذا النص وأزالوه وبدلوا القبلة التي أمروا بها وحفظتموها أنتم وحفظتم النص بها! فلم يرجع إلى الجواب.(1/198)
وأما السامرة فإنهم يصلون إلى طور لهم بأرض الشام يعظمونه ويحجون إليه، ورأيته أنا وهو في بلد نابلس وناظرت فضلاءهم في استقباله. وقلت: هو قبلة باطلة مبتدعة، فقال مشار إليه في دينهم: هذه هي القبلة الصحيحة، واليهود أخطئوها لأن الله تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا، ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله، فقلت له: هذا خطأ قطعا على التوراة، لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل، فهم المخاطبون بها وأنتم فرع عليهم فيها، وإنما تلقيتموها عنهم، وهذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم وأنا رأيتها وليس هذا فيها، فقال لي: صدقت، إنما هو في توراتنا خاصة، قلت له: فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها وهم الذين تلقوها عن الكليم وهم متفرقون في أقطار الأرض قد
كتموا هذا النص وأزالوه وبدلوا القبلة التي أمروا بها وحفظتموها أنتم وحفظتم النص بها! فلم يرجع إلى الجواب.
قلت: وهذا كله مما يقوي أن يكون الضمير في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا}
راجعا إلى {وَلِكُلٍّ} أي هو موليها وجهه، ليس المراد أن الله موليه إياها لوجوه هذا أحدها.
الثاني: أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه في الآية وإن كان مذكورا فيما قبلها، ففي إعادة الضمير إليه دون «كلّ» رد الضمير إلى غير من هو أولى به، ومنعه من القريب منه اللاحق به.
الثالث: أنه لو عاد الضمير عليه تعالى لقال: هو موليه إياها، هذا وجه الكلام كما قال تعالى: {نُوَلِّهِ مََا تَوَلََّى} [النساء: 115] فوجه الكلام أن يقال: ولاه القبلة، لا يقال: ولي القبلة إياه، فتأمله.
وقول أبي القاسم: أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثا ردا على الطوائف الثلاث، ليس بالبين ولا في اللفظ إشعار بذلك.
والذي يظهر فيه أنه أمر به في كل سياق لمعنى يقتضيه فذكره أول مرة ابتداء للحكم ونسخا للاستقبال الأول فقال: {قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم، حيث يجدونه في كتبهم كذلك. ثم أخبر عن عبادتهم وكفرهم، وأنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته، ولا هو أيضا بتابع قبلتهم، ولا بعضهم بتابع قبلة بعض، ثم حذره من اتباع أهوائهم، ثم كرر معرفة أهل الكتاب به، كمعرفتهم بأبنائهم، وأنهم ليكتمون الحق عن علم.
ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه، فلا يلحقه فيه امتراء.
ثم أخبر أن لكل من الأمم وجهة هو مستقبلها وموليها وجهة، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات.
ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ، ثم أعاد الأمر به غير مكرر له تكررا محضا، بل في ضمنه أمرهم باستقبالها حيثما كانوا، كما أمرهم باستقبالها أولا حيثما كانوا عند النسخ وابتداء شرع الحكم، فأمرهم باستقبالها حيثما كانوا عند شرع الحكم وابتداءه وبعد.
المحاجة والمخاصمة والحكم لهم وبيان عنادهم ومخالفتهم مع علمهم فذكر الأمر
بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له فتأمله، والله أعلم (1).(1/199)
المحاجة والمخاصمة والحكم لهم وبيان عنادهم ومخالفتهم مع علمهم فذكر الأمر
بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له فتأمله، والله أعلم (1).
[2] عن البراء وهو ابن عازب قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها، وإن صرمة بن قيس الأنصاري أتى امرأته، وكان صائما، فقال: عندك شيء؟ قالت: لا، لعلي أذهب فأطلب لك شيئا، فذهبت، وغلبته عينه، فجاءت فقالت: خيبة لك، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، وكان يعمل يومه في أرضه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيََامِ الرَّفَثُ إِلى ََ نِسََائِكُمْ} قرأ إلى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] (2).
وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (3).
وقد اختلف السلف في هذه الآية على أربعة أقوال:
أحدها: أنها ليست بمنسوخة، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها منسوخة، كما قاله سلمة والجمهور.
والثالث: أنها مخصوصة، خص منها القادر الذي لا عذر له، وبقيت متناولة للمرضع والحامل.
الرابع: أن بعضها منسوخ، وبعضها محكم (4).
[3] قال صالح بن أحمد: قال أبي: لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في السفر، الذي قال الله تعالى فيه: {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 106]، فأجازها أبو موسى الأشعري، وقد روي عن ابن عباس «أو آخران من غيركم من أهل الكتاب»، وهذا موضع ضرورة لأنه في سفر، ولا نجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت في هذا المعنى. اه.
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد فذكر هذا المعنى قلت: فإن كان
__________
(1) بدائع الفوائد (4/ 173168).
(2) أبو داود (2314) في الصوم، باب: مبدأ فرض الصيام.
البخاري والترمذي (2894).
والنسائي (2139).
وأبو داود (1970).
(3) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة.
(4) تهذيب السنن (3/ 208، 207).(1/200)
ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم؟ قال: نعم، إذا كان على الضرورة، قلت:
أليس يقال: هذه الآية منسوخة؟ قال: من يقول؟ وأنكر ذلك، وقال: هل يقول ذلك إلا إبراهيم؟
وقال في رواية ابنيه عبد الله وحنبل: تجوز شهادة النصراني واليهودي في الميراث، على ما أجاز أبو موسى في السفر، وأحلفه.
وقال في رواية أبي الحارث: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني في شيء إلا في الوصية في السفر، إذا لم يكن يوجد غيرهم. قال الله تعالى: {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، فلا تجوز شهادتهم إلا في هذا الموضع، وهذا مذهب قاضي العلم والعدل شريح، وقول سعيد بن المسيب، وحكاه أحمد عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري.
قال المروزي: حدثنا ابن نصير قال: حدثني يعلى بن الحارث، عن أبيه، عن غيلان بن جامع، عن إسماعيل بن خالد عن عامر قال: شهد رجلان من أهل دقوقا على وصية مسلم، فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر: ما اشترينا به ثمنا قليلا. ولا كتمنا شهادة الله إنّا إذا لمن الآثمين، ثم قال: إن هذه القضية ما قضي فيها مذ مات رسول الله إلى اليوم.
وذكر محمد بن إسحاق عن أبي النضر، عن باذان (1) مولى أم هانئ عن ابن عباس، عن تميم الداري في قوله عز وجلّ: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهََادَةُ بَيْنِكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}
[المائدة: 106]، قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام، فأتيا الشام، وقدم زيد بن أبي مريم مولى بني سهم ومعه جام من فضة، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما.
قال تميم: فلما مات أخذنا الجام فبعناه بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا ماله إلى أهله فسألوا عن الجام؟ فقلنا: ما دفع إلينا غير هذا، فلما أسلمت تأثمت من ذلك فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم البينة فلم يجيبوا، فأحلفهم بما يعظم به على أهل دينهم، فأنزل الله عز وجلّ: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهََادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106]، فحلف عمرو بن
__________
(1) هو محمد بن السائب الكلبي وضاع.
والحديث عند الترمذي (5/ 241) (3059).
وقال غريب، ولا يصح إسناده.
وانظر الطبري (7/ 100) وابن كثير (2/ 120) و «بدائع التفسير» (2/ 125).(1/201)
العاص وأخو سهم، فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء (1).
وروى يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة بالتجارة، فخرج معهم رجل من بني سهم، فتولى بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جاما من فضه مخوصا بالذهب، فتفقده أولياؤه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفهما: ما كتمنا، ولا أضعنا، ثم عرف الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا بالله: إن هذا لجام السهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا، إنا إذا لمن الظالمين، فأخذا الجام، وفيهما نزلت هذه الآية (2).
والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف، قالت عائشة رضي الله عنها: سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالا فحللوه، وما وجدتم حراما فحرموه.
وصح عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (3): هذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين، ثم قال تعالى: {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 106]، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمر الله عز وجلّ أن يشهد رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: لا نشتري بشهادتنا ثمنا، وقد تقدم أن أبا موسى حكم بذلك.
وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن شرحبيل، قال: لم ينسخ من سورة المائدة شيء. وقال وكيع: عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، قال: من أهل الكتاب. وفي رواية صحيحة عنه: من غير أهل ملتكم.
وصح عن شريح قال: لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية، ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافرا.
وصح عن إبراهيم النخعي: (من غيركم): من غير أهل ملتكم. وصح عن سعيد بن جبير: (أو آخران من غيركم)، قال: إذا كان في أرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل
__________
(1) أخرجه البخاري (5/ 480) في الوصايا، والترمذي (5/ 242).
وأبو داود (10/ 16) (التحفة).
(2) الحاكم في المستدرك (2/ 311) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) الطبري (7/ 108).(1/202)
الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر، فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا، حلف أولياء الميت أنه كذا وكذا، واستحقوا.
وصح عن الشعبي: {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، قال: من اليهود والنصارى.
وصح ذلك عن مجاهد قال: من غير أهل الملة. وصح عن يحيى مثله، وصح عن ابن سيرين ذلك.
فهؤلاء أئمة المؤمنين: أبو موسى الأشعري، وابن عباس، وروى نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، وذكر ذلك أبو محمد بن حزم (1)، وذكره أبو يعلى عن ابن مسعود، ولا مخالف لهم من الصحابة.
ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل، وشريح، وعبيدة، والنخعي، والشعبي، والسعيدان، وأبو مجلز، والأوزاعي.
وبعد هؤلاء: كأبي عبيد، وأحمد بن حنبل، وجمهور فقهاء أهل الحديث، وهو قول جميع أهل الظاهر.
وخالفهم آخرون. ثم اختلفوا في تخريج الآية على ثلاث طرق:
أحدها: أن المراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ}، أي من غير قبيلتكم، وروى ذلك عن الحسن، وروى عن الزهري أيضا.
والثاني: أن الآية منسوخة، وهذا مروي عن زيد بن أسلم وغيره.
والثالث: أن المراد بالشهادة فيها: إيمان الوصي بالله تعالى للورثة، لا الشهادة المعروفة.
قال القائلون بها: أما دعوى النسخ فباطلة، فإنه يتضمن أن حكمها باطل، لا يحل العمل به، وأنه ليس من الدين، وهذا ليس بمقبول إلا بحجة صحيحة لا معارض لها ولا يمكن أحدا قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية مخالف لها، ولا يمكن الجمع بينه وبينها، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ، وإلا فما معه إلا مجرد الدعوى الباطلة، ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن: إنه لا منسوخ في المائدة، وقاله غيرها أيضا من السلف، وعمل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده.
ولو جاز قبول دعوى النسخ بلا حجة لكان لكل من احتج عليه بنص يقول: هو
__________
(1) المحلى (9/ 406405).(1/203)
منسوخ، وكأن القائل لذلك لم يعلم أن كون النص منسوخا: أن الله سبحانه حرم العمل به، وأبطل كونه من الدين والشرع ودون هذا مفاوز تنقطع فيها الأعناق.
قالوا: وأما قول من قال: المراد بقوله: (من غيركم)، أي: من غير قبيلتكم، فلا يخفى بطلانه وفساده، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار، هذا مما لا شك فيه، والذي قال من غير قبيلتكم، زلة عالم غفل عن تدبر الآية (1).
[4] قال الله تعالى في سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُحِلُّوا شَعََائِرَ اللََّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرََامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلََائِدَ} [المائدة: 2]، وقال في سورة البقرة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ قُلْ قِتََالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} [البقرة: 217]، فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام، وليس في كتاب الله ولا سنن رسوله ناسخ لحكمهما، ولا أجمعت الأمة على نسخه، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى: {وَقََاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ونحوها من العمومات، فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه، ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم: «بعث أبا عامر في سرية إلى (2) أوطاس في ذي القعدة»، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام (3).
[5] عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشرا (4)، وأخرجه النسائي وابن ماجة (5).
وهذا يدل على أن ابن مسعود يرى نسخ الآية في البقرة بهذه الآية، التي في الطلاق وهي قوله: {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وهذا على عرف السلف في
__________
(1) الطرق الحكمية (195192). وانظر تتمة الأقوال في الآية في بدائع التفسير (2/ 129).
(2) في عام أوطاس، وهو عام الفتح، وغزوة أوطاس متصلة بفتح مكة وهو موضع بين مكة والطائف. وقيل هي غزوة حنين، انظر زاد المعاد (3/ 465).
(3) زاد المعاد (3/ 341).
(4) أبو داود (2307) في الطلاق، باب: في عدة الحامل.
(5) ابن ماجة (2030) في الطلاق، باب: الحامل والمتوفى عنها زوجها(1/204)
النسخ، فإنهم يسمون التخصيص والتقييد نسخا، وفي القرآن ما يدل على تقديم آية الطلاق في العمل بها، وهو أن قوله تعالى {أَجَلَهُنَّ} مضاف إليه، وهو يفيد العموم، أي هذا مجموع أجلهن، لا أجل لهن غيره، وأما قوله:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234]، فهو فعل مطلق لا عموم له، فإذا عمل به في غير الحامل كان تقييدا بآية الطلاق، فالحديث مطابق للمفهوم من دلالة القرآن. والله أعلم (1).
__________
(1) تهذيب السنن (3/ 202).(1/205)
الاستدلال في القرآن الكريم
الاستدلال على الله تعالى بالآيات الأفقية والنفسية
إن الله سبحانه أخبر وخبره الصدق وقوله الحق أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق (1). فقال تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيََاتِنََا فِي الْآفََاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أي القرآن.
فإنه هو المتقدم في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52] ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت] فشهد سبحانه لرسوله بقوله: أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا. ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء، فإن من أسمائه «الشهيد» الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
فإن قلت: قد فهمت الاستدلال بكلماته والاستدلال بمخلوقاته، فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته، فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا؟.
قلت: أجل هو لعمر الله كما ذكرت، وشأنه أجل وأعلى، فإن الرب تعالى هو المدلول عليه، آياته هي الدليل والبرهان.
فاعلم أن الله سبحانه في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته، فهو الدليل (2) لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات، وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالتعطيل
__________
(1) انظر ما كتبناه في المقدمة عن التفسير العلمي، وإعجاز القرآن الكريم.
(2) انظر تعليقنا الآتي على وصفه تعالى بالكمال.(1/206)
والجحود: أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل كمال (1)، المنتزه عن كل عيب ونقض.
فالكمال كله، والجمال والجلال والبهاء، والعزة والعظمة والكبرياء كله من لوازم ذاته، يستحيل أن يكون على غير ذلك. فالحياة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له، والسمع والبصر والإرادة، والمشيئة والرحمة والغنى، والجود والإحسان والبر، كله خاص له قائم به. وما خفي على الخلق كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه، بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه.
ومن كماله المقدس: اطلاعه على كل شيء، وشهادته عليه، بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله، ولا ذرة من ذراته، باطنا وظاهرا، ومن هذا شأنه: كيف يليق بالعباد أن يشركوا به وأن يعبدوا معه غيره؟ وأن يجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه. ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلي كلمته، ويرفع شأنه، ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر، ساع في الأرض بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته على كل شيء، وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء. ومن ظن به، وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق من معرفته، وإن عرف منه بعض صفاته، كصفة القدرة، وصفة المشيئة.
والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة هم الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك، فيبديه ويعبده لمن له فهم وقلب واع عن الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44) لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ} (47) [الحاقة] أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل؟ بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ}
__________
(1) يجري على ألسنة بعض المسلمين قولهم: «الكمال لله تعالى» وإن كان المعنى حق وصدق كما يبين ابن القيم هنا إلا إن لفظة الكمال لم أقف عليها في السنة أو عند سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى وإن دلت جميع الأسماء والصفات على معناها كالحكيم والعليم والله تعالى أعلم.(1/207)
{يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ} [الشورى: 24] هاهنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرا جازما غير معلق:
أنه {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24]، وقال تعالى:
{وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قََالُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه ويؤيده؟ ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟
وهذا في القرآن كثير جدا، يستدل بكماله المقدس، وأوصافه وجلاله على صدق رسله، وعلى وعده ووعيده. ويدعو عباده إلى ذلك، كما يستدل باسمائه وصفاته على وحدانيته، وعلى بطلان الشرك، كما في قوله:
{هُوَ اللََّهُ الَّذِي لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلََامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبََّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (23) [الحشر] وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن.
الاستدلال بأسماء الله وصفاته على بطلان وصفه تعالى بما لا يليق
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة، وأن كماله المقدس يمنع من شرعها، كقوله: {وَإِذََا فَعَلُوا فََاحِشَةً قََالُوا وَجَدْنََا عَلَيْهََا آبََاءَنََا وَاللََّهُ أَمَرَنََا بِهََا قُلْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (28) [الأعراف]، وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش والقول عليه بلا علم: {كُلُّ ذََلِكَ كََانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (38) [الإسراء]، فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو يكرهه، وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا. فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به، وما يحبه ويبغضه، ويثيب عليه ويعاقب عليه. ولكن هذه الطريق لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة. فلذلك كانت طريقة الجمهور الدلالات بالآيات المشاهدة، فإنها أوسع تناولا. والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض، ويرفع درجات من يشاء، وهو العليم الحكيم.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه هو الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود، وهو الحكم والدليل، وهو الدعوى والبينة، قال تعالى: {أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شََاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] أي من ربه، وهو القرآن.(1/208)
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسله {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى ََ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبََاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللََّهِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} (52) [العنكبوت] فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي عن كل آية ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب.
ثم قال: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض) فإذا كان الله سبحانه عالما بجميع الأشياء، كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام، محيط بالمشهود به.
فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم، وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته، وقدرته وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه وأمره، ورحمته عند ذكر إرسال رسوله، وحمله عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم، وسمعه عند ذكر دعائهم ومسألته، وعزته وعلمه عند قضائه وقدره.
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابة، وارتباطها بالخلق والأمر، والثواب والعقاب.
الاستدلال على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتََابِ} (43) [الرعد]، فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. ولا بد أن تعلم هذه الشهادة، وتقوم بها الحجة على المكذبين له، وكذلك قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهََادَةً قُلِ اللََّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، وكذلك قوله: {لََكِنِ اللََّهُ يَشْهَدُ بِمََا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلََائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} (166) [النساء]، وكذلك قوله {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3) [يس]، وقوله: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (252) [البقرة]، وقوله: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1]، وقوله:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ} [الفتح: 29]، فهذا كله شهادة منه لرسوله، قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم. فكونه سبحانه شاهدا لرسوله، معلوم بسائر أنواع الأدلة عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها.
ومن نظر في ذلك وتأمله، علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة.(1/209)
وأعدلها وأظهرها وصدقه بسائر أنواع التصديق: بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه، وبفعله وإقراره، وبما فطر عليه عباده، من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا يليق به.
وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد. ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} (28) [الفتح]، فيظهره ظهورين: ظهورا بالحجة، والبيان، والدلالة. وظهورا بالنصر والظفر والغلبة، والتأييد، حتى يظهره على مخالفيه. ويكون منصورا.
وقوله: {لََكِنِ اللََّهُ يَشْهَدُ بِمََا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلََائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} (166) [النساء]، فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره، من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله. كما قال في الآية الأخرى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ وَأَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (14) [هود]، وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله وهو معلوم له، كما يعلم سائر الأشياء، فإن كل شيء معلوم له من حق وباطل وإنما المعنى: أنزله مشتملا على علمه (1). فنزوله مشتملا علمه، هو آية كونه من عنده، وأنه حق وصدق. ونظير هذا قوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 6]، ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال: {افْتَرََاهُ} [الفرقان: 4] (2).
__________
(1) وقال في الصواعق المرسلة «أنزله وفيه علم لا يعلمه البشر» (3/ 877).
(2) مدارج السالكين (3/ 471466).(1/210)
من أساليب القرآن الكريم
التحدي
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (23) [البقرة]: إن حصل لكم ريب في القرآن وصدق من جاء به وقلتم: إنه مفتعل، فأتوا ولو بسورة واحدة تشبهه. وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف، ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك. حتى إن الذي راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه، فإنهم أتوا بشيء يستحيي العقلاء من سماعه ويحكمون بسماجته وقبح ركاكته وخسته.
فهو كمن أظهر طيبا لم يشم أحد مثل ريحه قط، وتحدى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرة طيب مثله، فاستحى العقلاء وعرفوا عجزهم، وجاء الحمقان بعذرة منتنة خبيثة، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئت به، فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانا وعظمة وجلالة؟
وأكد تعالى هذا التوبيخ والتقريع والتعجيز بأن قال: {وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [البقرة: 23] كما يقول المعجز لمن يدعي مقاومته: اجهد علي بكل من تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك، ولا تبق منهم أحدا حتى تستعين به، فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم وأحمقه وأسخفه عقلا إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله. والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق أمّيّهم وكتابيهم وعربهم وعجمهم، ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدا فيعدلون معه إلى الحرب بقتل المحاربة الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بصورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار أيتام الأولاد، وقتل النفوس، والإقرار بالعجز عن معارضته.
وتقرير النبوة بهذه الآية وجوه متعددة، هذا أحدها.
وثانيا: إقدامه صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر وإسجاله على الخلائق إسجالا عاما إلى يوم القيامة(1/211)
أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا. فهذا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى، وإلا فعلم البشر وقدرته يضعفان عن ذلك.
وثالثهما: النظر إلى نفس ما تحدى به وما اشتمل عليه من الأمور التي تعجز قوى البشر على الإتيان بمثله، الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفراد إعجازه.
وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمله وفهمه، وبالوجهين الأولين يكون معجزة لكل من بلغه خبره ولو لم يفهمه ولم يتأمله. فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف فيه قصور من المتكلمين، وتقصيرهم في بيان إعجازه، وأنهم لن يوفوه معشار حقه، حتى قصر بعضهم الإعجاز على صرف (1) الدواعي عن معارضته مع القدرة عليها، وبعضهم قصر الإعجاز على مجرد فصاحته وبلاغته، وبعضهم على مخالفة أسلوب نظمه لأساليب نظم الكلام، وبعضهم على ما اشتمل عليه من الإخبار بالغيوب، إلى غير ذلك من الأقوال القاصرة التي لا تشفي ولا تجدي (2)، وإعجازه فوق ذلك ووراء ذلك كله، فإذا ثبتت النبوة بهذه الحجة القاطعة فقد وجب على الناس تصديق الرسول في خبره وطاعة أمره، وقد أخبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن المعاد والجنة والنار فثبتت صحة ذلك يقينا (3).
__________
(1) انظر المقدمة في هذه المسألة.
(2) لكن هذه الأنواع من أنواع الإعجاز حق وما ذهب إليه ابن القيم من إن إعجاز القرآن فوق كل هذا حق أيضا، وفوق كل ذي علم عليم.
(3) بدائع الفوائد (4/ 136134).(1/212)
القرآن الكريم محكم جامع
سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (8) [الزلزلة] ومن هذا قوله تعالى:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) [المائدة]، فدخل في الخمر كل مسكر، جامدا كان أو مائعا، من العنب أو من غيره، ودخل في الميسر كل أكل مال بالباطل، وكل عمل محرم يوقع العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة. ودخل في قوله:
{قَدْ فَرَضَ اللََّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمََانِكُمْ وَاللََّهُ مَوْلََاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) [التحريم: 2] كل يمين منعقدة.
ودخل في قوله: {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ} [المائدة: 4] كل طيب (1) من المطاعم والمشارب والملابس والفروج.
ودخل في قوله: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها، حتى اللطمة والضربة والكسعة (2) كما فهم الصحابة.
ودخل في قوله: {قُلْ إِنَّمََا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوََاحِشَ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَمََا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطََاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (33) [الأعراف] تحريم كل فاحشة، ظاهرة وباطنة، وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض، وكل شرك بالله، وإن دق في قول أو عمل أو إرادة، بأن يجعل لله عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد، وكل قول على الله لم يأت به نص عنه، ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل، أو إيجاب أو إسقاط، أو خبر عنه باسم أو صفة، نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله، فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه.
__________
(1) والطيب هو ما أحله الشرع والخبيث ما حرمه.
(2) الكسعة: الحمير والكسع: الضرب باليد أو الرجل إنسانا أو غيره.(1/213)
ودخل في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصََاصٌ} [المائدة: 45] وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه، وليس هذا تخصيصا، بل هو مفهوم من قوله: {قِصََاصٌ}، وهو المماثلة.
ودخل في قوله: {وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ} [البقرة: 233] وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته، على كل وارث قريب أو بعيد.
ودخل في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] جميع الحقوق التي للمرأة، وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم، ويجعلونه معروفا لا منكرا، والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالة (1) (2).
بيان فساد إضافة الشر إلى الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك» (3)
معناه أجل وأعظم من قول من قال: والشر لا يتقرب به إليك، وقول من قال: والشر لا يصعد إليك، وأن هذا الذي قالوه وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه، فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق، فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، وإن دخل في مخلوقاته كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مََا خَلَقَ} (2) [الفلق]، وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به، كقوله: {وَالْكََافِرُونَ هُمُ الظََّالِمُونَ} [البقرة]، وقوله: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} [التوبة]، وقوله:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هََادُوا} [النساء: 160] وقوله: {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقوله:
{وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا هُمُ الظََّالِمِينَ} (76) [الزخرف] وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره، وإنما المقصود التمثيل، وتارة يحذف فاعله، كقوله تعالى حكاية عن مؤمن الجن: {وَأَنََّا لََا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرََادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} (10) [الجن] فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: {صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ}
__________
(1) وهذا كله يدخل تحت قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقوله تعالى: {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ}
[الأنعام: 38].
(2) إعلام الموقعين (1/ 412، 413).
(3) بدائع الفوائد (2/ 215، 214).(1/214)
[الفاتحة: 7]، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبا إلى من قام به، والغضب محذوفا فاعله.
ومثله قول الخضر في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهََا} [الكهف: 79] وفي الغلامين: {فَأَرََادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغََا أَشُدَّهُمََا وَيَسْتَخْرِجََا كَنزَهُمََا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] مثل قوله: {وَلََكِنَّ اللََّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ} [الحجرات: 7]، فنسب هذا التزيين المحبوب إليه، وقال: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، فحذف الفاعل المزين.
ومثله قول الخليل: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (82) [الشعراء] فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة.
وهذا كثير في القرآن، ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب «الفوائد الملكية»، وبينا هناك السر في مجيء {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ} و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ}، والفرق بين الموضعين وأنه حديث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح، وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما، وذلك من أسرار القرآن. ومثله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا} [فاطر: 32] وقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتََابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}
[الشورى: 14]، وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتََابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الْأَدْنى ََ} [الأعراف:
169] وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل والشر ليس إليه (1).
التدرج في التكليف
تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف، ثم التيسير في آخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران: الأجر على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه. فمن ذلك أمر الله تعالى ورسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء ثم خففها وتصدق بجعلها خمسا (2). ومن ذلك: أنه أمر أولا بصبر الواحد إلى العشرة، ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين (3).
__________
(1) بدائع الفوائد (2/ 215، 214).
(2) سبق تخريجه ص (118).
(3) في سورة الأنفال (6665).(1/215)
ومن ذلك: أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع، ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر (1).
ومن ذلك: أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك، خففه عنهم (2). ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشرا (3).
وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر، فقد يقع في الابتلاء بالقضاء والقدر يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه وحكمه تسهيل الثاني بالأول وتلقي الثاني بالرضا وشهود المنة والرحمة. وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا، فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدا، الذي ربما عجزوا عنه ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذلة ويسهل عليهم. وقد يفعل بعض الحمالين قريبا من هذا، فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجونه إليها، ثم يحط تلك الأشياء، فيسهل حمل الباقي عليهم.
والمقصود أن هذا الباب من الحكمة خلقا وأمرا، ويقع في الأمر والقضاء والقدر أيضا ضد هذا، فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له. وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة، وكذلك المحرمات. ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين، فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر. ومن هذا أنهم أمروا بالصيام وخيروا فيه بين الصوم عينا وبين التخيير بينه وبين الفدية، فلما ألفوه أمروا بالصوم عينا. ومن هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم، فلما توطنت نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضا.
وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده بل لا بد منه اقتضاء حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولا، ثم يرقبه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه.
ولهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ولا يزداد إلا شدة لأنه كالمرض في أوله وتزايده، فالعاقل يستكين له أولا وينكسر ويذل لربه، ويمد عنقه خاضعا ذليلا لعزته، حتى إذا مر به معظمه وعمرته وأذن ليله بالصباح، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب.
__________
(1) سبق بيانه.
(2) سورة المجادلة (12).
(3) آية التخفيف في سورة البقرة (234) والآية المنسوخة (240).(1/216)
ومن تأمل هذا في الخلق انتفع به انتفاعا عظيما ولا حول ولا قوة إلا بالله (1).
العطف في القرآن الكريم
الكلام على واو الثمانية (2):
قولهم: إن الواو تأتي لثمانية ليس عليه دليل مستقيم، وقد ذكروا ذلك في مواضع، فلنتكلم عليها واحدا واحدا.
الموضع الأول: قوله تعالى: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] فقيل: الواو في {وَالنََّاهُونَ} واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذكروا في الآية وجوها أخر، منها: أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه، ويترك بعضه. ومنها: أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل، وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلها بالعطف.
ومنها: أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وكل هذه الأجوبة غير سديدة، وأحسن ما يقال فيها: إن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد، فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغيرها في نفسها، وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها. وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها، وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة. وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض، بحسب هذين المقامين، فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد، حسن إسقاط حرف العطف، وإن أريد الجمع بين الصفات أو التنبيه على تغايرها، حسن إدخال حرف العطف. فمثال الأول: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ}
[التوبة: 112] وقوله: {مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ} [التحريم: 5]، ومثال الثاني قوله تعالى:
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} [الحديد: 3].
وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى:
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي}
__________
(1) بدائع الفوائد (3/ 185183).
(2) انظر تحقيق المسألة والأقوال فيها في كلامنا على جزء اللغة لابن القيم، وراجع المغني لابن هشام (402) والواو المزيدة للعلائي (142).(1/217)
{الطَّوْلِ} [غافر: 31]، فأتي بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الأخيرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب، فكان في عطف أحدهما على الآخر، ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران، ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه. أحدهما يتعلق بالإساءة والاعتراض وهو المغفرة. والثاني يتعلق بالإحسان والإقبال على الله، والرجوع إليه وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحسن العطف هاهنا هذا التغاير الظاهر وكلما كان التغاير أبين، كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطف في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ}
[الحديد: 3]، وترك في قوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلََامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [غافر: 3]، فترك العطف بينهم لنكتة بديعة، وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول، وطوله لا ينافي شدة عقابه، بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» (1). فأوليته وآخريته أبديته.
فإن قلت فما تصنع بقوله: {وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه، فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة.
قلت: هذا سؤال حسن، والذي حسن دخول الواو هاهنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة، وقد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصفتان الأخريان كالأولين في المقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول، فكما حسن العطف بين الأولين حسن بين الأخريين.
فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها، كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة، حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته، مطلوب تعيينه، لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر، بل لا بد أن يظهر أمر بالمعروف بصريحه ونهيه عن المنكر بصريحه، وأيضا فحسن العطف هاهنا ما تقدم من التضاد، فلما كان
__________
(1) مسلم (2713/ 61) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.(1/218)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد، والآخر طلب الإعدام، كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ}، إلى قوله: {ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً} [التحريم: 5]، فقيل: هذه واو الثمانية، لمجيئها بعد الوصف السابع، وليس كذلك، ودخول الواو هاهنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء، وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما، فتعين العطف لأن المقصود أن يزوجه بالنوعين: الثيبات والإبكار.
الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] قيل: المراد إدخال الواو هاهنا لأجل الثمانية. وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: هذا. والثاني: أن يكون دخول الواو هاهنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم: سبعة ثم ابتدأ قوله: {وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، وذلك يتضمن تقرير قولهم (سبعة)، كما إذا قال لك: زيد فقيه فقلت: ونحوي، وهذا اختيار السهيلي. وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله: {وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس داخلا في المحكي بالقول، والظاهر خلافه. والله أعلم.
الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} [الزمر: 71]، لما كانت سبعة. وهذا في غاية البعد، ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها، بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة، وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها، ففتحت في وجوههم، لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه. وأمّا الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله، وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها، ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب، أتي بالواو العاطفة هنا الدالة على أنها جاءوها بعد ما فتحت أبوابها، وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدره، كعادتهم في حذف الأجوبة (1).
وكذلك القاعدة أن الشيء لا يعطف على نفسه لأن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل، لأنك إذا قلت: قام زيد وعمرو، فهي بمعنى قام زيد وقام عمرو. والثاني غير الأول فإذا وجدت مثل قولهم: كذبا ومينا، فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني وإن خفي عنك. ولهذا
__________
(1) بدائع الفوائد (3/ 5551).(1/219)
يبعد جدا أن يجيء في كلامهم: جاءني عمر وأبو حفص، ورضي الله عن أبي بكر وعتيقه، فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد، فإذا كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرا في العطف وتركه، فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد الصفات وهي متغايرة وإن لم تعطف فمن حيث كان في كل منهما ضمير هو الأول فعلى الوجه الأول تقول: زيد فقيه شاعر كاتب. وعلى الثاني: فقيه وشاعر وكاتب. كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر. وحيث لم تعطف اتبعت الثاني الأول، لأنه هو هو من حيث اتحد الحامل للصفات.
وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف نحو:
{السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلََامُ}، إلى آخرها. وجاءت معطوفة في موضعين: أحدهما في أربعة أسماء، وهي: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} والثاني في بعض الصفات بالاسم الموصول، مثل قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوََّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ََ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ََ} (4) [الأعلى]، ونظيره: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهََا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذََلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوََاجَ كُلَّهََا} [الزخرف: 1210].
فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء، وقرب بعضها من بعض وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة، انتقل ذهنك منها إلى الرحمة؟ وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر، وكذلك:
{الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]. وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها، وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها حقه. فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال واحتمال الأضداد لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين، فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة، هذا جواب السهيلي.
وأحسن منه أن يقال: لما كانت هذه الألفاظ دالة على معاني متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات، إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.
ووجه آخر وهو أحسن منها: وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم، وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد، من المزيد التقرير. وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة
إلى فهم ما نحن فيه: إذا كان لرجل مثلا أربع صفات: هو عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به، ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل فإذا قلت:(1/220)
ووجه آخر وهو أحسن منها: وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم، وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد، من المزيد التقرير. وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة
إلى فهم ما نحن فيه: إذا كان لرجل مثلا أربع صفات: هو عالم وجواد وشجاع وغني، وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به، ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل فإذا قلت:
زيد عالم، وكان ذهنه استبعد ذلك، فتقول: وجواد، أي: وهو مع ذلك جواد. فإذا قدرت استبعاده لذلك، قلت: وشجاع، أي وهو مع ذلك شجاع وغني، فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد، لا يحصل بدونه، تدرأ به توهم الإنكار.
وإذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في موصوف واحد فإذا قيل: هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره لأن الأولية والآخرية من المتضايفات. وكذلك الظاهر والباطن إذا قيل: هو ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابله، فقطع هذا الوهم بحرف العطف، الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية، فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه، فتأمل ذلك، فإنه من لطيف العربية ودقيقها.
والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلا قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل، حسن أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير، وكان لعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد، فعطف الصفات هاهنا أحسن، قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.
وأما قوله تعالى: {غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3) [غافر: 3]، فعطف في الاسمين الأولين دون الآخرين. فقال السهيلي: إنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال، فعله سبحانه في غيره لا في نفسه، فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين ولتنزلهما منزلة الجملتين لأنه يريد تنبيه العباد على أنه يفعل هذا ليرجوه ويؤملوه، ثم قال: {شَدِيدُ الْعِقََابِ} بغير واو لأن هذه راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات الأفعال، فصار بمنزلة قوله: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وكذلك قوله: {ذِي الطَّوْلِ} لأن لفظ: «ذي» عبارة عن ذاته، هذا جوابه (1)، وهو كما ترى غير شاف ولا كاف، فإن شدة عقابه من صفات الأفعال، وطوله من صفات الأفعال، ولفظة «ذي» فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل، كقوله: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقََامٍ}، بل لفظ الوصف بغافر وقابل أدل على الذات من الوصف بذي لأنها بمعنى صاحب كذا. فالوصف المشتق أدل على الذات من الوصف بها فلم يشف جوابه بل زاد السؤال سؤالا.
__________
(1) قد يكون غير شاق أو كاف بما يراه ابن القيم، لكن نظر جيد هذا كلام العلامة السهيلي رحمه الله تعالى.(1/221)
فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قسم، فابتدأها ب {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وهما اسمان مطلقان وصفتان من صفات ذاته وهما مجردان عن العطف. ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله، فأدل بينهما العطف. ثم ذكر اسمين آخرين بعدهما وجردهما من العاطف، فأما الأولان فتجردهما من العاطف لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله، وهما متلازمان فتجريدهما عن العطف هو الأصل، وهو موافق لبيان ما في الكتاب العزيز من ذلك ك {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} و {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} و {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وأما {غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ}، فدخل العاطف بينهما لأنهما في معنى الجملتين، وإن كان مفردين لفظا، فهما يعطيان معنى يغفر الذنب ويقبل التوب، أي: هذا شأنه ووصفه في كل وقت.
فأتى الاسم الدال على أن هذا وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك، فعطف أحدهما على الآخر على نحو عطف الجمل بعضها على بعض ولا كذلك الاسمان الأولان، ولما لم يكن الفعل ملحوظا في قوله: {شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ} إذ لا يحسن وقوع الفعل فيهما، وليس في لفظ: (ذي) ما يصاغ منه فعل، جرى مجرى المقردين من كل وجه، ولم يعطف أحدهما على الآخر كما لم يعطف في {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، فتأمله فإنه واضح.
وأما العطف في قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوََّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ََ} (3) [الأعلى]، فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال، وهي جملة، دخلت الواو عاطفة جملة على جملة وإن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد، فالفعل مراد مقصود، والعطف يصير كلّا منها جملة مستقلة مقصودة بالذكر، بخلاف ما لو أتي بها في خبر موصول واحد فقيل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوََاجَ كُلَّهََا} [الزخرف:
1210] كانت كلها في حكم جملة واحدة، فلما غاير بين الجمل بذكر الاسم الوصول مع كل جملة دل على أن المقصود وصفه بكل من هذه الجمل على حدتها (1).
__________
(1) بدائع الفوائد (1/ 193189).(1/222)
تقديم بعض الكلام على بعض
قال سيبويه (1): الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب، تقول: صمت رمضان وشعبان، وإن شئت شعبان ورمضان، بخلاف «الفاء» و «ثم»، إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كان جميعا يهمانهم ويغنيانهم. هذا لفظه.
قال السهيلي: وهو كلام مجمل يحتاج إلى بسط وتبيين، فيقال: متى يكون أحد الشيئين أحق بالتقدم، ويكون المتكلم ببيانه أعنى قال: والجواب: أن هذا الأصل يجب الاعتناء به لعظم منفعته في كتاب الله وحديث رسوله، إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر نحو: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} و {الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} و {اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} و {الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} في الأكثر. وفي بعضها الإنس والجن وتقديم السماء على الأرض في الذكر، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي ونحو {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ولم يجيء «عليم سميع» وكذلك «عزيز حكيم» و «غفور رحيم» وفي موضع واحد «الرحيم الغفور» إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر، وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة لأنه كلام الحكيم الخبير، وسنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلا يقف بك على الطريق الأوضح، فنقول:
ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حساب تقدم المعاني في الجنان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال.
فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخفة والثقل بأحد هذه الأسباب الخمسة أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك، نعم وربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل، لا بحسب المعنى كقولهم: ربيعة، ومضر، وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل، ولكن آثروا أخفه. لأنك لو قدمت مضر في اللفظ كثرت
__________
(1) الكتاب لسيبويه وانظر «الواو المزيدة».(1/223)
الحركات وتوالت، فلما أخرت، وقف عليها بالسكون، قلت: ومن هذا النحو الجن والإنس، فإن لفظ الإنس أخف، لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم جماعة (1). وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه: قدم الجن على الإنس في الأكثر الأغلب، وسنشير إليها في آخر الفصل إن شاء الله.
أما تقدم بتقدم الزمان، فكعاد وثمود، والظلمات والنور، فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل، قال سبحانه: {وَاللََّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ لََا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]، فالجهل ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور العلم ولذلك قال تعالى: {فِي ظُلُمََاتٍ ثَلََاثٍ} [الزمر: 6] فهذه ثلاث محسوسات: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة (2). وثلاث معقولات وهي عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة، إذ لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، وفي الحديث: «إن الله خلق عباده في ظلمة، ثم ألقي عليهم من نوره» (3).
ومن المتقدم بالطبع نحو {مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} [النساء: 3]، ونحو: {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7] وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع. كتقدم الحيوان على الإنسان، والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم {الْعَزِيزُ} على {الْحَكِيمُ} لأنه عز، فلما عز حكم، وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن نحو {يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة] لأن التوبة سبب الطهارة، وكذلك {كُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ} (222) [الشعراء] لأن الإفك سبب الإثم، وكذلك {كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12].
وأما ما تقدم «هماز» على «مشاء بنميم» فبالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان، والهماز: هو العياب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة. وأما تقدم «مناع للخير» على «معتد» فبالرتبة أيضا لأن المناع يمنع من نفسه،
__________
(1) أي راحته.
(2) يقول الأطباء أن الأقرب لمعنى الكلمات الثلاث: ظلمة البطن ثم الرحم ثم ما يسمى بالكيس الأميني) (وهو المحيط بالطفل ويحتوي على ماء، أما المشيمة فيها مجموعة أوعية دموية تشبه الطحال تنقل الغذاء للطفل والله أعلم.
(3) أحمد (2/ 176)، والترمذي (2642) في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: «حسن».(1/224)
والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره، ومن المتقدم بالرتبة {يَأْتُوكَ رِجََالًا وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ} [الحج: 27] لأن الذي يأتي راجلا يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: وددت أني حججت راجلا لأن الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن، فجعله ابن عباس من باب تقدم الفاضل على المفضول. والمعنيان موجودان. وربما قدم الشيء لثلاثة معان وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنى واحد من الخمسة.
ومما قدم للفضل والشرف {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرََافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]، ومنه تقديم {السَّمِيعُ} على {الْبَصِيرُ} و {سَمِيعٌ} على {بَصِيرٌ}. ومنه تقديم {الْجِنَّ} على {الْإِنْسِ} في أكثر المواضع لأن الجن تشتمل على الملائكة، وغيرهم مما اجتن عن الأبصار، قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافّات: 158].
وقال الأعشى:
وسخر من جن الملائك شيعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
وأما قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ} [الرحمن: 56]، وقوله: {لََا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلََا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، وقوله: {ظَنَنََّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللََّهِ كَذِباً}
[الجن: 5] فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال، لنزاهتهم عن العيوب وأنهم لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب، فلما لم يتناولهم عموم لفظ لهذه القرينة، بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم.
وأما تقديم السماء على الأرض فبالرتبة أيضا وبالفضل والشرف.
وأما تقديم الأرض في قوله: {وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ}
[يونس: 61] فبالرتبة أيضا، لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه وهم المخاطبون بقوله: {وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61] فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة بقوله: {عََالِمُ الْغَيْبِ} [الجن: 26].
وأما تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة، فهذا من باب تقديم السبب على المسبب لأن المال سبب تمام النعمة بالولد.
وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، فتقديم النساء على
البنين بالسبب، وتقدم الأموال على البنين بالرتبة.(1/225)
وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، فتقديم النساء على
البنين بالسبب، وتقدم الأموال على البنين بالرتبة.
ومما تقدم بالرتبة ذكر السمع والعلم حيث وقع، فإنه خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بما قرب كالأصوات وهمس الحركات، فإن من سمع حسّك وصوتك، أقرب إليك في العادة ممن يقول لك: إنه يعلم، وإن كان علمه تعالى متعلقا بما ظهر وبطن وواقعا على ما قرب وشطن، ولكن ذكر «السميع» أوقع في باب التخويف من ذكر «العليم» فهو أولى بالتقديم.
وأما تقديم «الغفور» على «الرحيم»، فهو أولى بالطبع لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة والسلامة تطلب قبل الغنيمة.
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص: «أبعثك وجها يسلمك الله فيه ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال». فهذا من الترتيب البديع بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة قبل الكسب.
وأما قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} في سبأ، فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، فإما الفضل والكمال وإما بالطبع لأنها منتظمة بذكر أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصهم والعموم بالطبع قبل الخصوص، كقوله: {فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ} [الرحمن: 68]، وكقوله: {وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} [البقرة: 98]، ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] لأن السجود أفضل و «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (1)، فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع؟
الجواب أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ}، ولم يقل:
اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثم قال لها: {وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ} أي صلّي مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات، يريد الصلاة لا الركوع بمجرده. فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود. لأن السجود أفضل حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في المسجد عبر
__________
(1) مسلم (215/ 482) في الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود.(1/226)
عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نظم بديع وفقه دقيق، وهذه نبذ تشير لك إلى ما وراء أو سدل وأنت صحيح (1).
قالوا: ومما ذكره بهذا الباب قوله: {طَهِّرََا بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْعََاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
[البقرة: 125]، بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير ولو كان مكان الطائفين الطواف، لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين، ألا ترى أنك تقول: تطوفون، كما تقول: طائفون، فاللفظان متشابهان.
فإن قيل: فهلا أتي بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: وطهرا بيتي للذين يطوفون.
قيل: إن الحكم يعلل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ الذين ينبئ عن الشخص والذات ولفظ الطواف بخفي معنى الفعل ولا يبينه، فكان لفظ الطائفين أولى بهذا الموطن ثم يليه في الترتيب القائمين لأنه في معنى العاكفين، وهو في معنى قوله: {إِلََّا مََا دُمْتَ عَلَيْهِ قََائِماً} [آل عمران: 75]، أي مثابرا ملازما وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهر به، ثم يليه بالرتبة لفظ الراكع لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين ولذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو ركوع، وأنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده فلذلك لم يجئ بلفظ جمع السلامة لأنه لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل، كما احتيج فيما قبله، ثم وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله لأن الركع هم السجود والشيء لا يعطف بالواو على نفسه.
ولفائدة أخرى وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر والمراد به هنا الجمع، فلو عطف بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت.
وفائدة ثالثة: أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة فلو عطفت هاهنا بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حياله.
فإن قيل: فلم قال: السجود على وزن «فعول»، ولم يقل: السّجد كالرّكع وفي آية
__________
(1) هكذا العبارة في الأصل وفيها مقصودة ولعل مقصوده: وهذه نبذة تشير إلى ما وراء الألفاظ وما أسدل عليها، تنتفع بها لو تيقظت أو ما شابه ولله أعلم.(1/227)
أخرى: {رُكَّعاً سُجَّداً}، ولم جمع «ساجد» على «السجود»، ولم يجمع «راكع» على «ركوع»؟.
فالجواب: إن السجود في الأصل مصدر كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن ولو قال: «السجد» في جمع «ساجد»، لم يتناول إلا المعنى الظاهر، وكذلك الركع، ألا تراه يقول: {تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح: 29]، وهذه رؤية العين وهي لا تتعلق إلا بالظاهر. والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت، والبيت لا يتوجه عليه إلا بالعمل الظاهر، وأما الخشوع والخضوع الذي تناوله لفظ الركوع دون لفظ اركع، فليس مشروطا بالتوجه إلى البيت، وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن جعل وصفا للركع ومتمما لمعناه إذا لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول لفظه أيضا السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت حسن انتظامه أيضا مع ما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذي ذكرهم بذكر البيت، فمن لحظ هذه المعاني بقلبه وتدبر هذا النظم البديع بلبه، ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصر بعين اليقين أنه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. تم كلامه (1).
قلت: وقد تولج رحمة الله مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأتى بأشياء حسنة، وبأشياء غيرها أحسن منها، فأما تعليله تقديم ربيعة على مضر، ففي غاية الحسن، وهذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صار كاسم واحد، فحسن فيهما ما ذكره.
وأما ما ذكره في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن، فمستدرك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع.
وأما قوله: إن الملائكة منهم أو هم أشرف فالمقدمتان ممنوعتان، أمّا الأول فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خلقوا منها هي النور، كما ثبت ذلك مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (2). وأما الجان فمادتهم النار بنص القرآن، ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعا ولا عقلا.
وأما المقدمة الثانية: وهي كون الملائكة خيرا وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر؟. والجمهور على تفضيل البشر (3)، والذين فضلوا الملائكة
__________
(1) أي السهيلي رحمه الله تعالى، وقد أبدع إبداعا.
(2) مسلم (2996/ 60) في الزهد والرقائق، باب: في أحاديث متفرقة.
(3) كما في حادي الأرواح وغيره.(1/228)
هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا: إنه تقديم الزمان لقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نََارِ السَّمُومِ} (27) [الحجر].
وأما تقديم الإنس على الجن في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ} [الرحمن: 56]، فلحكمة أخرى سوى ما ذكر، وهو: أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات، فيرد النفي عليه وعلم النفوس بطمث الإنس ونفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف، فجاء النفي على مقتضى ذلك، وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهم.
وأما قوله: {وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} (5) [الجن] فهذا يعرف سره من السياق، فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقََالُوا إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً} (1) الآيات [الجن].
وكان القرآن أول ما خوطب به الإنس ونزل على نبيهم، وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن، فجاء قول مؤمني الجن: {وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} (5) [الجن] بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن، وتقديمهم في التصديق والتكذيب.
وفائدة ثالثة، وهي: أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم، بعد أن رجعوا إليهم فأخبروهم بما سمعوا من القرآن وعظمته وهدايته إلى الرشد، ثم اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولا بخلاف ما سمعوه من الرشد، بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن يقولون على الله كذبا، فذكرهم الإنس هنا في التقديم أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبين لهم كذبهم، فبداءتهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغرض والتهمة، وألا يظن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنس عليهم، فإنهم أول ما أقروا بتقولهم الكذب على الله، وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحته.
وأما تقديم «عاد» على «ثمود» حيث وقع في القرآن فما ذكره من تقدمهم بالزمان، فصحيح وكذلك الظلمات والنور، وكذلك «مثنى» وبابه.
وأما تقديم «العزيز» على «الحكيم» فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر، فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحكمة وهي كمال العلم والإرادة، لمتضمنين اتساق صنعه وجريانه على أحسن الوجوه. وأكملها ووضعه الأشياء مواضعها وهو الظاهر من هذا (1) وهي من مسائل الخلاف الشهيرة.(1/229)
الاسم، فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة والحكمة كمال العلم وهو سبحانه الموصوف من كل صفة كمال بأكملها وأعظمها وغايتها، فتقدم وصف القدرة، لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته، وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبا وكانت متأخرة عن متعلق القدرة.
ووجه ثان: أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني.
ووجه الثالث: أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده، والحكمة تتعلق بغايته، فقدم الوسيلة على الغاية لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.
وأما قوله تعالى: {يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ففيه معنى آخر سوى ما ذكره، هو أن الطهر طهران: طهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي.
وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مكمل له معد مهيأ بحصوله، فكان أولى بالتقديم لأن العبد أول ما يدخل في الإسلام فقد تطهر بالتوبة من الشرك ثم يتطهر بالماء من الحدث.
وأما قوله: {كُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ} (222) [الشعراء: 222]، فالإفك: هو الكذب وهو في القول، والإثم: هو الفجور وهو في الفعل، والكذب يدعو إلى الفجور، كما في الحديث الصحيح:
«أن الكذب يدعو إلى الفجور وأن الفجور يدعو إلى النار» (1)، فالذي قاله صحيح.
وأما {كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12] ففيه معنى ثان غير ما ذكره، وهو أن العدوان مجاوزة الحد الذي حد للعبد، فهو ظلم في القدر والوصف، وأما الإثم فهو محرم الجنس، ومن تعاطى تعدى الحدود، تخطى إلى الجنس الآخر وهو الإثم.
ومعنى ثالث، وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدوانا عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور، فكان تقديمه هنا على الأثيم أولى لأنه في سياق ذمه والنهي عن طاعته، فمن كان معتديا على العباد ظالما لهم فهوى أحرى بأن لا يطيعه ويوافقه.
وفيه معنى رابع، وهو أنه قدمه على الأثيم ليقترن بما قبله وهو وصف المنع للخير،
__________
(1) مسلم (2607/ 103) في البر والصلة، باب: قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله.(1/230)
فوصفه بأنه لا خير فيه للناس وأنه مع ذلك معتد عليهم فهو متأخر عن المناع، لأنه يمنع خيره أولا ثم يعتدي عليهم ثانيا ولهذا يحمد الناس من يوجد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى وهذا هو حقيقة التصوف (1)، وهذا لا راحة يوجدها ولا أذى يكفه.
وأما تقديم «هماز» على «مشاء بنميم» ففيه معنى آخر غير ما ذكره، وهو أن همزه عيب للمهموز وإزراء به وإظهار لفساد حالة في نفسه فإن قاله يختص بالمهموز لا يتعداه إلى غيره، والمشي بالنميمة يتعداه إلى من ينم عنده، فهو ضرر متعد، والهمز ضرره لازم للمهموز إذا شعر به ما ينتقل من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدي المنتشر.
وأما تقديم «الرجال» على «الركبان» ففيه فائدة جليلة وهي أن الله شرط في الحج الاستطاعة ولا بد من السفر إليه لغالب الناس، فذكر نوعي الحجاج، لقطع توهم من يظن أنه لا يجب إلا على راكب، وقدم الرجال اهتماما بهذا المعنى وتأكيدا، ومن الناس من يقول: قدمهم جبرا لهم لأن نفوس الركبان تزدريهم وتوبخهم، وتقول: إن الله لم يكتبه عليكم ولم يرده منكم، وربما توهموا أنه غير نافع لهم، فبدأ بهم جبرا لهم ورحمة.
وأما تقديم غسل الوجه ثم اليد، ثم مسح الرأس ثم الرجلين في الوضوء، فمن يقول:
إن هذا الترتيب واجب وهو الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوبا لقرائن عديدة:
أحدها: أنه أدخل ممسوحا بين مغسولين، وقع النظير عن نظيره، ولو أريد الجمع المطلق، لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم، والممسوح بعدها، فلما عدل إلى ذلك، دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله.
الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به، وهو الوضوء فدخلت الواو لأجزائه بعضها على بعض، والفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض، فدخلت بعضها على بعض، والفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض، فدخلت الواو بين الأجزاء للربط فأفادت الترتيب إذ هو الربط المذكور في الآية ولا يلزمه من كونها لا تفيد الترتيب بين الأفعال لا ارتباط بينهما، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ} [البقرة: 110]، ألا تفيده بين أجزاء فعل مرتبطة بعضها ببعض، فتأمل هذا الموضع ولطفه، وهذا أحد
__________
(1) هذا من إنصاف العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث ينصف في أقواله ويأخذ الفائدة والحكمة حيث وجدت ومن تصفح مدارج السالكين وجد من ذلك الكثير، وانظر مقدمة «بدائع التفسير».(1/231)
الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب. وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه وهو قول ابن أبي موسى من أصحاب أحمد ولعله أرجح الأقوال (1).
الثالث: أن لبداءة الرب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء خاصة فيجب مراعاتها ألا تلغى وتهدر، فيهدر ما اعتبره الله، ويؤخر ما قدمه الله.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أن «ما قدمه الله فإنه ينبغي تقديمه ولا يؤخر» (2)، بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر ما أخره الله، فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا وقال: «نبدأ بما بدأ الله به». وفي رواية للنسائي: «ابدءوا بما بدأ الله به» (3) على الأمر، فتأمل بداءته بالصفا معللا ذلك بكون الله بدأ به فلا ينبغي تأخيره، وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء: نحن نبدأ بما بدأ الله به، ولا يجوز تأخير ما قدمه الله، ويتعين البداءة بما بدأ الله به وهذا هو الصواب لمواظبة المبين عن الله مراده على الوضوء المرتب، فاتفق جميع من نقل عنه وضوءه كلهم على إيقاعه مرتبا، ولم ينقل عنه أحد قط أنه أخل بالترتيب مرة واحدة فلو كان الوضوء المنكوس مشروعا لفعله ولو في عمره مرة واحدة، لتبين جوازه لأمته هذا بحمد الله أوضح (4).
وأما تقديم «النبيين» على «الصديقين» فلما ذكره، ولكون الصديق تابعا للنبي، فإنما استحق اسم «الصديق» بكمال تصديقه للنبي، فهو تابع محض، وتأمل تقديم الصديقين على الشهداء لفضل الصديقين عليهم، وتقديم «الشهداء» على «الصالحين» لفضلهم عليهم.
وأما تقديم «السمع» على «البصر»، فهو متقدم عليه حيث وقع في القرآن مصدرا أو فعلا أو اسما، فالأول كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤََادَ كُلُّ أُولََئِكَ كََانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا}
[الإسراء: 36]. الثاني: كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمََا أَسْمَعُ وَأَرى ََ} [طه: 46]. والثالث:
كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] {وَكََانَ اللََّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فاحتج بهذا من يقول: إن السمع أشرف من البصر، وهذا قول
__________
(1) انظر المقدمة.
(2) مسلم (1218/ 147) في الحج: باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود (1905) في الحج، باب: أمر الصفا والمروة.
(3) النسائي (2970) في الحج، باب: ذكر الصفا والمروة.
(4) ولو تأمل أهل التحقيق هذه المسألة، لكان كثير من الخلاف قد اضمحل، وكثير من النزاع تلاشى ولكن هي الآراء التي أفسدت كثيرا من الأحوال ولا حول ولا قوّة إلا بالله.(1/232)
الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل. ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجاج من الطرفين ولا أدري ما يترتب على هذا المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه، وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين (1).
وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة تفضيل البصر، ورد عليه، واحتج مفضلو السمع بأن الله تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع، وبأن بالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة، فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به، وهذا إنما يدرك بالسمع ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: «ثلاثة كلهم يدلي على الله بحجته يوم القيامة» فذكر منهم رجلا أصم يقول: «يا رب، لقد جاء الإسلام وأنا لا أسمع شيئا» (2). واحتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة من البصر، فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يدرك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع، فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه.
واحتجوا بأن فقد السمع ثلم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خلقه لا ينطق في الغالب، وأما فقد البصر فربما كان معينا على قوة إدراك البصيرة وشدة ذكائها، فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنا فيقوي إدراكها ويعظم ولهذا تجد كثيرا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد، والفطنة، وضياء الحس الباطن، ما لا تكاد تجده عند البصير، ولا ريب أن سفر البصر في الجهات والأقطار ومباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب وتشتيته ولهذا كان الليل أجمع للقلب والخلوة وأعون على إصابة الفكرة، قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر. ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام، من هو أعمى ولم يعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش، فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل البصر.
قال منازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران:
أحدهما: أن مدرك البصر النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو نعيم أهل
__________
(1) انظر هامش (3) في الصفحة السابقة، ورحم ابن القيم صاحب الفقه الحي، لا الآراء التي هي كالشوك في خلق العلم وأهله.
(2) أحمد (4/ 24)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 218، 219): «رجال أحمد رجال الصحيح».(1/233)
الجنة إليهم، ولا شيء أكمل من المنظور إليه سبحانه فلا حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها.
الثاني: أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع، فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم، فتفضيله عليه كفضيلة الغايات على وسائلها. وأما ما ذكرتم من سعة إدراكاته وعمومها، فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط، فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير، ويقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان بقي الترجيح بما ذكرناه.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونوّر ضريحه: وفصل الخطاب أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به، تم كلامه (1).
وقد ورد في الحديث المشهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: «هذان السمع والبصر» (2). وهذا يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد أنهما مني بمنزلة السمع والبصر.
والثاني: أن يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين.
وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدهما: التوزيع، فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.
والثاني: الشركة، فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتا لكل واحد منهما، فكل منهما بمنزلة السمع والبصر.
فعلى احتمال التوزيع والتقسيم تكلم الناس أيهما هو السمع وأيهما هو البصر، وبنوا ذلك على أي الصفتين أفضل، فهي صفة الصديق.
والتحقيق أن صفة البصر للصديق وصفة السمع للفاروق. ويظهر لك هذا من كون عمر محدثا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة أحد
__________
(1) وهذا الكلام من فتح الله تعالى عليه، رحمه الله، وحسمه للمسألة إرشاد للباحث إلى وسائل قطع النزاع.
(2) مجمع الزوائد (9/ 55)، وقال: «رواه الطبراني، وفيه فرات بن السائب وهو متروك».
فعمر»(1/234)
فعمر»
(1). والتحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق وهذا طريقة السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن، وأما الصديق فهو الذي كمل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول، ما باشر قلبه، فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره. وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد، وأعظم كراماته التي يكرم بها، وليس بعد درجة النبوة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولََئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدََاءِ وَالصََّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا هو الذي سبق به الصديق لا بكثرة صوم ولا بكثرة صلاة، وصاحب هذا يمشي رويدا ويجيء في الأول. ولقد تعناه من لم يكن سيره على هذا الطريق وتشميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمر إليه وإن كان يزحف زحفا ويحبو حبوا.
ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام. فليعد إليه.
فقيل: تقديم السمع على البصر له سببان، أحدهما: أن يكون السياق يقتضيه، بحيث يكون ذكرها بين الصفتين، متضمنا للتهديد والوعيد، كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة، كقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْكُمُ الْبَيِّنََاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (209) [البقرة]، وقوله: {مَنْ كََانَ يُرِيدُ ثَوََابَ الدُّنْيََا فَعِنْدَ اللََّهِ ثَوََابُ الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَكََانَ اللََّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (134) [النساء].
والقرآن مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي، وأبصر ما يفعلون، ولا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان:
أحدهما: قابلوها بقولهم: صدقت ثم عملوا بموجبها.
والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثم عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر، فقدم ما يتعلق به على ما يتعلق بالمبصر، وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى:
{إِنَّنِي مَعَكُمََا أَسْمَعُ وَأَرى ََ} [طه: 46]، هو يسمع ما يجيبهم ويرى ما يصنعه. وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختص منها بما هذا شأنه.
والسبب الثاني: أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام، مع غاية البعد بين السامع والمسموع، أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده. وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما
__________
(1) أخرجه البخاري (3210) في المناقب، ومسلم (46) ورواه غيرهما.(1/235)
نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. ولم يقولوا: أترون الله يرانا، فكان تقديم السمع أهم، والحاجة إلى العلم به أمس.
وسبب ثالث: وهو أن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرا في الخير والشر والصلاح والفساد، بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان، فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى، وبهذا يعلم تقديمه على العليم، حيث وقع.
وأما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى آخر غير ما ذكره وهو أن غالبا تذكر السموات والأرض في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته وربوبيته، ومعلوم أن الآيات في السموات أعظم منها في الأرض لسعتها وعظمها وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعلوها واستغنائها عن عمد تقلها أو علاقة ترفعها، إلى غير ذلك من عجائبها التي تعتبر الأرض وما فيها كقطرة في سعتها، ولهذا أمر سبحانه بأن يرجع الناظر البصر فيها كرة بعد كرة، ويتأمل استواءها واتساقها وبراءتها من الخلل والفطور، فالآية فيها أعظم من الأرض وفي كل شيء له آية سبحانه وبحمده.
وأما تقديم الأرض عليها في قوله: {وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} [يونس: 61]، وتأخيرها عنها في «سبأ» فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في «سبأ» في ضمن قول الكفار: {لََا تَأْتِينَا السََّاعَةُ قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عََالِمِ الْغَيْبِ لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3]، كيف قدم السموات هنا؟ لأن الساعة إنما تأتي من قبلها وهي غيب فيها ومن جهتها تبتدئ وتنشأ، ولهذا قدم صعق أهل السموات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68].
وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس [الآية 61]، فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيء، اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء، فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله، وأن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبدا.
وأما تقديم المال على الولد فلم يطرد في القرآن بل قد جاء مقدما كذلك في قوله:
{وَمََا أَمْوََالُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سبأ: 37]، وقوله: {أَنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ}
[التغابن: 15]، وقوله: {لََا تُلْهِكُمْ أَمْوََالُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللََّهِ} [المنافقون: 9] وجاء
ذكر البنين مقدما كما في قوله: {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا} [التوبة: 24]، وقوله: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].(1/236)
{وَمََا أَمْوََالُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سبأ: 37]، وقوله: {أَنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ}
[التغابن: 15]، وقوله: {لََا تُلْهِكُمْ أَمْوََالُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللََّهِ} [المنافقون: 9] وجاء
ذكر البنين مقدما كما في قوله: {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا} [التوبة: 24]، وقوله: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].
فأما تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة، فلأنها ينتظمها معنى واحد، وهو التحذير من الاشتغال بها والحرص على تحصيلها، حتى يفوته حظه من الله والدار الآخرة، نهى (1)
في موضع عن الالتهاء بها، وأخبر في موضع أنها فتنة، وأخبر في موضع آخر أن الذي يقرب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح لا أموالهم ولا أولادهم، ففي ضمن هذا النهي عن الاشتغال بها عما يقرب إليه. ومعلوم أن اشتغال الناس بأموالهم والتلاهي بها، أعظم من اشتغالهم بأولادهم. وهذا هو الواقع حتى إن الرجل ليستغرقه اشتغاله بماله عن مصلحة ولده وعن معاشرته وقربه.
وأما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة، وهي أن «براءة» متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها، أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن تصور المجاهد فراق أهله وأولاده وآبائه وإخوانه وعشيرته، تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله، فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر نفرت نفسه عن هذه أكثر وأكثر، ولا يكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال، فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.
وتأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر، يطلعك على عظمة هذا الكلام وجلالته، فبدأ أولا بذكر أصول العبد، وهم آباؤه المتقدمون طبعا وشرفا ورتبة، وكان فخر القوم بآبائهم ومحاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احتملوا القتل وسبي الذرية، ولا يشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة، ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم.
ثم ذكر الفروع وهم الأبناء لأنهم يتلونهم في الرتبة، وهم أقرب أقاربهم إليهم وأعلق بقلوبهم وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة.
ثم ذكر الإخوان وهم الكلالة وحواشي النسب، فذكر الأصول أولا ثم الفروع ثانيا، ثم النظراء ثالثا، ثم الأزواج رابعا لأن الزوجة أجنبية عنده، ويمكن أن يتعوض عنها بغيرها،
__________
(1) في المطبوعة «فهي».(1/237)
وهي إنما تراد للشهوة. وأما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم، ويرادون للنصرة والدفاع، وذلك مقدم على مجرد الشهوة.
ثم ذكر القرابة البعيدة خامسا وهي العشيرة وبنو العم فإن عشائرهم كانوا بني عمتهم غالبا وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير.
ثم انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادسا، ووصفها بكونها مقترفة أي مكتسبة لأن القلوب إلى ما اكتسبته من المال أميل وله أحب وبقدره أعرف لما حصل له فيه من التعب والمشقة، بخلاف مال جاء عفوا بلا كسب من ميراث أو هبة أو وصية، فإن حفظه للأول ومراعاته له وحرصه على بقائه أعظم من الثاني، والحس شاهد بهذا، وحسبك به.
ثم ذكر التجارة سابعا لأن محبة العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقترف، فقدم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها، ثم وصف التجارة بكونها مما يخشى كسادها، وهذا يدل على شرفها وخطرها، وأنه قد بلغ قدرها إلى أنها مخوفة الكساد.
ثم ذكر الأوطان ثامنا آخر المراتب لأن تعلق القلب بها دون تعلقه بسائر ما تقدم، فإن الأوطان تتشابه، وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأول من كل وجه ويكون خيرا منه، فمنها عوض. وأما الآباء والأبناء والأقارب والعشائر فلا يتعوض منها بغيرها، فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأول، فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم، فمحبة الوطن آخر المراتب، وهذا هو الواقع إلا لعارض يترجح عنده إيثار البعيد على القريب فذلك جزئي لا كلي فلا تناقض به، وأما عند عدم العوارض، فهذا هو الترتيب المناسب والواقع.
وأما آية آل عمران، فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها، قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرا وهو النساء، التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا، وهي القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله، ثم ذكر البنين المتولدين منهن، فالإنسان يشتهي المرأة للّذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته، ثم ذكر شهوة الأموال، لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل، وقدم أشرف أنواعها، وهو الذهب، ثم الفضة بعده، ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها. وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل، فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم، فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها
والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهََا جَمََالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (6) [النحل]. والانتفاع بها أكثر من الحرث، فإنها ينتفع بها ركوبا وأكلا وشربا ولباسا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية، إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع، وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة: ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل، فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه.(1/238)
وأما آية آل عمران، فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها، قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرا وهو النساء، التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا، وهي القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله، ثم ذكر البنين المتولدين منهن، فالإنسان يشتهي المرأة للّذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته، ثم ذكر شهوة الأموال، لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل، وقدم أشرف أنواعها، وهو الذهب، ثم الفضة بعده، ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها. وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل، فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم، فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها
والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهََا جَمََالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (6) [النحل]. والانتفاع بها أكثر من الحرث، فإنها ينتفع بها ركوبا وأكلا وشربا ولباسا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية، إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع، وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة: ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل، فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه.
ويتعلق بهذا نوع آخر من التقديم لم يذكره، وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث ما وقع في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله:
{إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [التوبة: 111]، وأما سائر المواضع فقدم فيها المال نحو قوله: {وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11] وقوله: {وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20]، وهو كثير فما الحكمة في تقديم المال على النفس، وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟ وهذا لم يتعرض له السهيلي رحمه الله.
فيقال أولا: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزا وجب عليه أن يكتري بماله، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، والأدلة عليها أكثر من أن تذكر هنا.
ومن تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد قطع بصحة هذا القول، والمقصود تقديم المال في الذكر، وإن ذلك مشعر بإنكار، وهم من يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادرا على أن يغزي بماله لا يجب عليه شيء، فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال فكيف يقال: لا يجيب به، ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس، لكان هذا القول أصح من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بين وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر.
وفائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب، وهي: أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله، إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه، نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها، وهي
بذل نفوسهم له. فهذا غاية الحب فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه، فإذا أحب شيئا بذل له محبوبه من نفعه وماله، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه وآثرها على محبوبه.(1/239)
وفائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب، وهي: أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله، إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه، نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها، وهي
بذل نفوسهم له. فهذا غاية الحب فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه، فإذا أحب شيئا بذل له محبوبه من نفعه وماله، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه وآثرها على محبوبه.
وهذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده، فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه، فر وتركهم فلم يرض الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها. وأيضا فبذل النفس آخر المراتب، فإن العبد يبذل ماله أولا يقي به نفسه، فإذا لم يبق له مال بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقا للواقع.
وأما قوله: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ} [التوبة: 111] فكان تقديم الأنفس هو الأولى لأنها هي المشتراة في الحقيقة وهي مورد العقد وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه وجعل ثمن هذا العقد رضاء وجنته، فكانت هي المقصود بعقد الشراء، والأموال تبع لها فإذا ملكها مشتريها ملك مالها، فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه شيء، فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها، فحسن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسنا لا مزيد عليه.
فلنرجع إلى كلام السهيلي رحمه الله وأما ما ذكره من تقديم الغفور على الرحيم فحسن جدا.
وأما تقديم الرحيم على الغفور في موضع واحد وهو «أول سبأ»، ففيه معنى غير ما ذكره، يظهر لمن تأمل سياق أوصافه العلى، وأسمائه الحسنى، في أول السورة إلى قوله:
{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}، فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله، مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كل حال وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد، فقال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ}، ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدا، فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدا، وقرن بين الملك والحمد على عادته تعالى في كلامه، فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما، فله كمال من ملكه وكمال ومن حمده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزا، والحمد مع الملك غاية الكمال، ونظير هذا العزة والرحمة، والعفو والقدرة، والغنى والكرم. فوسط الملك بين الجملتين، فجعله
محفوفا بحمد قبله وحمد بعده، ثم عقب هذا الحمد والملك باسم {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الدالين على كمال الإرادة وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم، وأنه يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم، فالمراد ظاهر والحكمة باطنه، والعلم ظاهر والخبرة باطنه، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله والحكمة باطن الإرادة وكمالها. فتضمنت الآية إثبات حمده وملكه، وحكمته وعلمه على أكمل الوجود.(1/240)
{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}، فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله، مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كل حال وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد، فقال: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ}، ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدا، فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدا، وقرن بين الملك والحمد على عادته تعالى في كلامه، فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما، فله كمال من ملكه وكمال ومن حمده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزا، والحمد مع الملك غاية الكمال، ونظير هذا العزة والرحمة، والعفو والقدرة، والغنى والكرم. فوسط الملك بين الجملتين، فجعله
محفوفا بحمد قبله وحمد بعده، ثم عقب هذا الحمد والملك باسم {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الدالين على كمال الإرادة وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم، وأنه يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم، فالمراد ظاهر والحكمة باطنه، والعلم ظاهر والخبرة باطنه، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله والحكمة باطن الإرادة وكمالها. فتضمنت الآية إثبات حمده وملكه، وحكمته وعلمه على أكمل الوجود.
ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العلوي والسفلي، فقال: {يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا} [الحديد: 4] ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه، وهما الرحمة والمغفرة، فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتم الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم، ويهب لهم ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته، فقال:
{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، فتضمنت هذه الآية سعة علمه ورحمته ومغفرته، وهو سبحانه يقرن بين سعة العلم والرحمة كما يقرن بين العلم والحلم، فمن الأول قوله:
{رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] ومن الثاني: {وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:
12] فما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن رحمة إلى علم. وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك (1).
فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسنان مع العلم، وقدم الرحيم في هذا الموضع لتقدم صفة العلم فحسن ذكر «الرحيم» بعده ليقترن به فيطابق قوله: {رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشر وتضمن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدما على جلب الخير، قدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع. ولما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله قدم على الغفور.
وأما قوله تعالى: {يََا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرََّاكِعِينَ} (43) [آل عمران] فقد
__________
(1) انظر الدرر المنثور للسيوطي (7/ 274) عن هارون بن رئاب بلفظ «حملة العرش ثمانية» وقال: أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب. وذكره ابن كثير (4/ 78) عن شهر بن حوشب.(1/241)
أبعد النجعة فيما تعسفه من فائدة التقديم، وأتى بما ينبو اللفظ عنه. وقال غيره: السجود كان في دينهم قبل الركوع، وهذا قائل ما لا علم له به.
والذي يظهر في الآية والله أعلم بمراده من كلامه أنها اشتملت على مطلق العبادة وتفصيلها، فذكر الأعم ثم ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص. فذكر القنوت أولا وهو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء، وأنواع الطاعة. ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يشرع وحده كسجود الشكر والتلاوة، ويشرع في الصلاة، فهو أخص من مطلق القنوت.
ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة، فلا يسن الإتيان به منفردا فهو أخص مما قبله.
ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه، وهما طريقتان معروفتان من الكلام: النزول من الأعم إلى الأخص وعكسها وهو الترقي من الأخص، إلى ما هو أعم منه الى ما هو أعمّ.
ونظيرها: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}
[الحج: 77] فذكر أربعة أشياء، أخصها: الركوع، ثم السجود أعم منه، ثم العبادة أعم من السجود، ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله والذي يزيد هذا وضوحا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْقََائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة، وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة، ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج، وهو أعم من الطواف، لأنه يكون في كل مسجد ويختص بالمساجد لا يتعداها ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثنى شرعا.
وإن شئت قلت: ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد ثم الصلاة التي تكون في البلد كله بل في كل بقعة، فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله رحمه الله مزيد السبق وفضل التقدم (1).
__________
(1) بدائع الفوائد (1/ 8161).(1/242)
دخول الشرط على الشرط
صور دخول الشرط على الشرط
دخول الشرط على الشرط له صور:
إحداها: إن خرجت ولبست فأنت طالق، لا يحنث إلا بهما كيفما كانا.
الثانية: إن لبست فخرجت، لم يحنث إلا بخروج بعد لبس.
الثالثة: إن لبست ثم خرجت، لا يحنث بخروجها بعد لبسها لا معه، ويكون متراخيا، هذا بناء على ظاهر اللفظ، وأما قصده فيراعى ولا يلتفت إلى هذا.
الرابعة: إن خرجت لا إن لبست، يحنث بالخروج وحده، ولا يحنث باللبس.
ويحتمل هذا التعليق أمرين: أحدهما: أن يجعل الخروج شرطا ويبقى أن يكون اللبس شرطا، فحكمه ما ذكرنا. الثاني: أن يجعل الخروج مع عدم اللبس شرطا فلا يحنث بخروج معه لبس، ويكون المعنى إن خرجت لا لابسة أو غير لابسة. فإن خرجت لابسة لم يحنث.
الخامسة: إن خرجت بل إن لبست، فلا يحنث إلا باللبس دون الخروج. ويحتمل هذا التعليق أيضا أمرين: أحدهما: هذا. والثاني: أن يكون كل منهما شرطا، فيحنث بأيهما وجد، ويكون الإضراب إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء، فكأنه يقول: لا أقتصر على جعل الأول وحده شرطا، بل أيهما وجد فهو شرط. فعلى التقدير الأول يكون إضراب إلغاء ورجوع، وعلى الثاني: إضراب اقتصار وإفراد.
السادسة: إن خرجت أو إن لبست يحنث بأيهما وجد.
السابعة: إن لبست لكن إن خرجت، فالشرط الثاني قد لغا الأول بلكن، لأنها للاستدراك.
الثامنة: وهي أشكلها: إن لبست إن خرجت، وهذه مسألة دخول الشرط على الشرط، ويحتمل التعليق في ذلك أمرين: أحدهما: أن يجعل كل واحد منهما شرطا مستقلا فيكون كالمعطوف بالواو سواء ولا إشكال. والثاني: أن يجعل أحدهما شرطا في الآخر.
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة فقال أصحاب مالك: هو تعليق للتعليق. ففي هذا الكلام تعليقان: أحدهما: إن لبست فأنت طالق، ثم علق هذه الجملة المعلقة
بالخروج. فكأنه قال: شرط نفوذ هذا التعليق الخروج، فعلى هذا لا يحنث حتى يوجد الخروج بعد اللبس، وممن نص عليها ابن شاش في «الجواهر».(1/243)
واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة فقال أصحاب مالك: هو تعليق للتعليق. ففي هذا الكلام تعليقان: أحدهما: إن لبست فأنت طالق، ثم علق هذه الجملة المعلقة
بالخروج. فكأنه قال: شرط نفوذ هذا التعليق الخروج، فعلى هذا لا يحنث حتى يوجد الخروج بعد اللبس، وممن نص عليها ابن شاش في «الجواهر».
وقال أبو اسحاق في «المهذب». وقد صور المسألة: إن كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق. ثم كلمت زيدا طلقت. وإن كلمت زيدا أولا، ثم دخلت الدار، لم تطلق لأنه جعل دخول الدار شرطا في كلام زيد، فوجب تقديمه عليه، وهكذا عكس قول المالكية.
ورجح أبو المعالي قول المالكية في نهايته، وقد وقع هذا التعليق في كتاب الله عز وجلّ في مواضع.
أحدها: قوله حكاية عن نوح {وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] وهذا ظاهر في أن الشرط الثاني شرط في الشرط الأول، والمعنى: إن أراد الله أن يغويكم لم ينفعكم نصحي إن أردته، وهذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق.
الموضع الثاني: قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرََادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهََا خََالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]. قالوا: فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية لأن إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم متأخرة عن هبتها، فإنها تجري مجرى القبول في هذا العقد، والإيجاب هو هبتها. ونظير هذا أن يقول: إن وهب لي شيئا إن أردت قبوله أخذته، فإرادة القبول متأخرة عن الهبة، فلا يكون شرطا فيها. قال الأولون: يجوز أن تكون إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقدمة، فلما فهمت المرأة منه ذلك وهبت نفسها له، فيكون كالآية الأولى. وهذا غير صحيح، والقصة تأباه فإن المرأة قامت وقالت: يا رسول الله، إني وهبت لك نفسي.
فصعد فيها النظر وصوبه، ثم لم يتزوجها وزوجها غيره (1).
الموضع الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلََا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (87) [الواقعة]. المعنى: فلولا ترجعونها، أي تردون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين مملوكين إن كنتم صادقين. وهنا: الثاني شرط للأول، والمعنى: إن كنتم صادقين في قولكم فهلا تردونها إن كنتم غير مدينين. ويدل عليه قول الشاعر، أنشده عبد الله بن مالك:
__________
(1) البخاري (5635) في النكاح، باب: السلطان ولي، ومسلم (1425/ 76) في النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد.(1/244)
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجنوا ... منا معاقل عز زانها الكرم
ومعلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر، فالذعر شرط فيها. ومن هذا قول الدريدي:
فإن عثرت بعدها إن والت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا
ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد النجاة من الأولى، ف «والت» شرط في الشرط الثاني. وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطين وأتيت بالجواب كان جوابا للأول خاصة، والثاني جرى معه مجرى الفضلة والتتمة كالحال وغيرها من الفضلات، قاله ابن مالك.
وأحسن من هذا أن يقال: ليس الكلام بشرطين يستدعيان جوابين، بل هو شرط واحد وتعليق واحد اعتبر في شرطه قيد خاص جعل شرطا فيه، وصار الجواب للشرط المقيد فهو جواب لهما معا بهذا الاعتبار. وإيضاحه أنك إذا قلت: إن كلمت زيدا إن رأيته فأنت طالق. جعلت الطلاق جزاء على كلام مقيد بالرؤية لا على كلام مطلق، وكأنه قال: إن كلمته ناظرة إليه فأنت طالق، وهذا يبين لك حرف المسألة، ويزيل عنك إشكالها جملة، وبالله التوفيق (1).
__________
(1) بدائع الفوائد (3/ 248245)(1/245)
الروابط بين الجملتين
الروابط بين الجملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازما لم يفهم قبل دخولها وهي أربعة أقسام:
أحدها: ما يوجب تلازما مطلقا بين الجملتين، إما بين ثبوت وثبوت أو بين نفي ونفي أو بين نفي وثبوت وعكسه في المستقبل خاصة وهو حرف الشرط البسيط ك «إن»، فإنها تلازم بين هذه الصور كلها تقول: إن اتقيت الله أفلحت، وإن لم تتق الله لم تفلح، وإن أطعت الله لم تخب، وإن لم تطع الله خسرت ولهذا كانت أمّ الباب وأعم أدواته تصرفا.
القسم الثاني: أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة تكون في الماضي خاصة وهي «لما» تقول: لما قام أكرمته، وكثير من النحاة يجعلها ظرف زمان. وتقول: إذا دخلت على الفعل الماضي فهي اسم، وإن دخلت على المستقبل فهي حرف. ونص سيبويه على خلاف ذلك، وجعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين.
ومثال الأقسام الأربعة: لما قام أكرمته، ولما لم يقم لم أكرمه، ولما لم يقم أكرمته، ولما قام لم أكرمه.
القسم الثالث: أداة تلازم بين امتناع الشيء لامتناع غيره، وهي «لو»، نحو: لو أسلم الكافر نجا من عذاب الله.
القسم الرابع: أداة تلازم بين امتناع الشيء ووجود غيره، وهي «لولا»، نحو: لولا أن هدانا الله لضللنا، وتفصيل هذا الباب يرسم عشر مسائل:
المسألة الأولى: المشهور أن الشرط والجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل، فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى، كقولك: إن مت على الإسلام دخلت الجنة. ثم للنحاة فيه تقديران، أحدهما: أن الفعل ذو تغير في اللفظ، وكان الأصل: إن تمت مسلما تدخل الجنة. فغير لفظ المضارع إلى الماضي، تنزيلا له منزلة المحقق. والثاني: أنه ذو تغير في المعنى وأن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال وبقي لفظه على حاله.
والتقدير الأول أفقه في العربية، لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام
المستقبل، وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقن، نحوى {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ} [النحل: 1] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر: 68] ونظائره، فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد، فليفهم مثله المقارن لأداة الشرط. وأيضا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى. وأيضا فإنهم إذا أعربوا الشرط أتوا بأداته، ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء، فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل، وكان حقه أن يكون مستقبلا لفظا ومعنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى الماضي لما ذكرنا، فعدلوا عن صيغة إلى صيغة. وعلى التقدير الثاني، كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولا ماضيين، ثم أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلين، والترتيب والقصد يأبى ذلك فتأمله.(1/246)
والتقدير الأول أفقه في العربية، لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام
المستقبل، وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقن، نحوى {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ} [النحل: 1] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر: 68] ونظائره، فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد، فليفهم مثله المقارن لأداة الشرط. وأيضا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى. وأيضا فإنهم إذا أعربوا الشرط أتوا بأداته، ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء، فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل، وكان حقه أن يكون مستقبلا لفظا ومعنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى الماضي لما ذكرنا، فعدلوا عن صيغة إلى صيغة. وعلى التقدير الثاني، كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولا ماضيين، ثم أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلين، والترتيب والقصد يأبى ذلك فتأمله.
المسألة الثانية: قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}
[المائدة: 116] فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ، وهو ماضي المعنى قطعا لأن المسيح إما أن يكون صدر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء، أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة.
وعلى التقديرين: فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي. وغلط على الله من قال: إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه، والتقدير: إن أكن أقول هذا، فإنك تعلمه. وهذا تحريف للآية لأن هذا الجواب إنما صدر منه بعد سؤال الله له عن ذلك، والله لم يسأله، وهو بين أظهر قومه ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين، فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارا لقاعدة نحوية، هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية.
وقال ابن السراج في «أصوله»: يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين، تقديرهما: إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي، يثبت أنك علمته، وكل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل، فيحسن عليه.
وهذا الجواب أيضا ضعيف جدا، ولا ينبئ عنه اللفظ، وليت شعري ما يصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه» (1) هل يقول عاقل: إن الشرط هنا مستقبل؟ أما التأويل الأول فمنتف هنا قطعا، وأما الثاني فلا يخفي وجه التعسف فيه، وأنه لم يقصد أنه يثبت في المستقبل أنك أذنبت في الماضي فتوبي، ولا قصد هذا المعنى، وإنما المقصود المراد ما دل عليه الكلام: إن كان صدر منك ذنب فيما مضى فاستقبليه بالتوبة، لم يرد إلا هذا الكلام.
__________
(1) البخاري (4750) في التفسير، باب: {وَلَوْلََا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مََا يَكُونُ لَنََا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهََذََا سُبْحََانَكَ هََذََا بُهْتََانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، ومسلم (2770/ 56) في التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.(1/247)
وإذا ظهر فساد الجوابين فالصواب أن يقال: جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل: هل كان كذا؟ ولا يتضمن لنفي قول من قال: قد كان كذا، فهذا يقتضي الاستقبال وتارة يكون مقصوده ومضمنه جواب سائل: هل وقع كذا؟ أو رد قوله: قد وقع كذا؟ فإذا علق الجواب هنا على شرط، لم يلزم أن يكون مستقبلا لا لفظا ولا معنى، بل لا يصح فيه الاستقبال بحال، كمن يقول لرجل: هل أعتقت عبدك؟ فيقول:
إن كنت قد أعتقته، فقد أعتقه الله، فما للاستقبال هنا معنى قط. وكذلك إذا قلته لمن قال:
صحبت فلانا؟ فيقول: إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرا. وكذلك إذا قلت له: هل أذنبت؟ فيقول: إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته، وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا؟ وهو يعلم أنه علم بقوله له، فيقول: إن كنت قلته فقد علمته. فقد عرفت أن هذه المواضع كلها، مواضع ماض لفظا ومعنى، ليطابق السؤال الجواب، ويصح التعليق الخبري لا الوعدي، فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال، وأما التعليق الخبري فلا يستلزمه.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكََاذِبِينَ * وَإِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصََّادِقِينَ} (27) [يوسف]، وتقول: إن كانت البينة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت. وهذه دقيقة خلت عنها كتب النحاة والفضلاء، وهي كما ترى وضوحا وبرهانا، ولله الحمد.
المسألة الثالثة: المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة «إن» لا يعلق عليها إلا محتمل الوجود والعدم، كقولك: إن تأتني أكرمك. ولا يعلق عليها محقق الوجود، فلا نقول: إن طلعت الشمس أتيتك. بل تقول: إذا طلعت الشمس أتيتك. و «إذا» يعلق عليها النوعان، واستشكل هذا بعض الأصوليين فقال: قد وردت «إن» في القرآن في معلوم الوقوع قطعا، كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمََّا نَزَّلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا} [البقرة: 23]، وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه. وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ} [البقرة: 24]، ومعلوم قطعا انتفاء فعلهم.
وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق. والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب وعلى منوالهم، فكل ما كان في عادة العرب حسنا أنزل القرآن على ذلك الوجه، أو قبيحا لم ينزل في القرآن، فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه بين الناس حسن تعليقه ب «إن» من قبل الله ومن قبل غيره، سواء كان معلوما للمتكلم أو للسامع أم لا.(1/248)
وكذلك يحسن من الواحد منا أن يقول: إن كان زيد في الدار فأكرمه مع علمه بأنه في الدار، لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه فهذا هو الضابط لما تعلق على «إن» فاندفع الإشكال.
قلت: هذا السؤال لا يرد، فإن الذي قاله القوم أن الواقع ولا بد لا يعلق ب «إن» وأما ما يجوز أن يقع ويجوز ألا يقع، فهو الذي يعلق بها وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع. وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: {وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهََا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسََانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى، «بإذا» وأتى في إصابة السيئة «بإن»، فإن ما يعفو الله عنه أكثر، وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الدال على تحقيق الوقوع، وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولا بد، وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم، وأنها مذوقة لهم والذوق هو أخص أنواع الملابسة وأشدها، وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافا إليه، فقال: {مِنََّا رَحْمَةً} [الشورى: 48] وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم؟ وكيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف «إن» دون الجملة الثانية.
وأسرار القرآن كثر وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلََّا إِيََّاهُ} [الإسراء: 67]، كيف أتى بإذا هاهنا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا بخلاف قوله: {لََا يَسْأَمُ الْإِنْسََانُ مِنْ دُعََاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} (49) (1) [فصلت]، فإنه لم يقيد مس الشر هنا بل أطلقه، ولما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة «إذا».
وتأمل قوله تعالى: {وَإِذََا أَنْعَمْنََا عَلَى الْإِنْسََانِ أَعْرَضَ وَنَأى ََ بِجََانِبِهِ وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ كََانَ يَؤُساً} (83) [الإسراء]، كيف أتى هنا بإذا المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس، فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له، فكان الإتيان بإذا هاهنا أدل على المعنى المقصود من «إن»، بخلاف قوله: {وَإِذََا} [2] مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعََاءٍ عَرِيضٍ، فإنه بقلة صبره وضعف احتماله متى توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء، فإذا تحقق وقوعه كان يئوسا.
__________
(1) في المطبوعة «وإن مسه الشر فذو دعاء عريض».
(2) في المطبوعة «وإن».(1/249)
ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدا في كتابه.
فإذا قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهََا نِصْفُ مََا تَرَكَ} [النساء: 176]، والهلاك محقق؟ قلت: التعليق ليس على مطلق الهلاك بل على هلاك مخصوص وهو هلاك لا عن ولد.
فإن قلت: فما تصنع بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (172) [البقرة: 172] وقوله: {فَكُلُوا مِمََّا ذُكِرَ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيََاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (118) [الأنعام] وتقول العرب: إن كنت ابني فأطعني. وفي الحديث في السلام على الموتى: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (1) واللحاق محقق وفي قول الموصي: إن مت فثلث مالي صدقة.
قلت: أما قوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ}، الذي حسن مجيء «إن» هاهنا الاحتجاج والإلزام، فإن المعنى: إن عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها، فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه، وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج كما تقول للرجل: إن كان الله ربك وخالقك فلا تعصه. وإن كان لقاء الله حقا فتأهب له. وإن كانت الجنة حقا فتزود إليها. وهذا أحسن من جواب من أجاب بأن «إن» هنا قامت مقام «إذا»، وكذا قوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيََاتِهِ مُؤْمِنِينَ} وكذا قولهم: إن كنت ابني فأطعني، ونظائر ذلك.
وأما قوله: «إنا إن شاء الله بكم لاحقون» فالتعليق هنا ليس لمطلق الموت، وإنما هو للحاقهم بالمؤمنين ومصيرهم إلى حيث صاروا. وأما قول الموصي: إن مت فثلث مالي صدقة فلأن الموت وإن كان محققا، لكن لما لم يعرف تعين وقته وطال الأمد وانفردت مسافة أمنية الحياة، نزل منزلة المشكوك، كما هو الواقع الذي يدل عليه أحوال العباد. فإن عاقلا لا يتيقن الموت ويرضى بإقامته على حال لا يحب الموت عليها أبدا، كما قال بعض السلف: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت.
وعلى هذا حمل بعض أهل المعاني: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ تُبْعَثُونَ} (16) [المؤمنون] فأكد الموت باللام، وأتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت، وأتى في البعث بالفعل ولم يؤكده.
__________
(1) مسلم (974/ 102) في الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.(1/250)
المسألة الرابعة: قد تعلق الشرط بفعل محال ممتنع الوجود، فيلزمه محال آخر وتصدق الشرطية دون مفرديها، أما صدقها فلاستلزام المحال المحال، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما، وعليه: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (81) [الزخرف: 81]، ومنه قوله {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء: 22]. ومنه: {قُلْ لَوْ كََانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمََا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (42) [الإسراء] ونظائره كثيرة.
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران أحدهما: بيان استلزم إحدى القضيتين للأخرى. والثاني: أن اللازم منتف فالملزوم كذلك، فقد تبين من هذا الشرط تعلق به المحقق الثبوت والممتنع الثبوت والممكن الثبوت.
المسألة الخامسة: اختلف سيبويه ويونس في الاستفهام الداخل على الشرط فقال سيبويه: يعتمد على الشرط وجوابه، فيتقدم عليهما ويكون بمنزلة القسم، ونحو قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} (34) [الأنبياء] وقوله: {أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ} [آل عمران:
144]. وقال يونس: يعتمد على الجزاء، فتقول: إن مت أفأنت خالد. والقرآن مع سيبويه والقياس أيضا كما يتقدم القسم ليكون جملة الشرط والجزاء مقسما عليها ومستفهما عنها، ولو كان كما قال يونس، لقال: فإن مت أفهم الخالدون.
المسألة السادسة: اختلف الكوفيون والبصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء، ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جزاء، نحو: أقوم إن قمت. فقال ابن السراج: الذي عندي أن الجواب محذوف يغني عنه الفعل المتقدم، قال: وإنما يستعمل هذا على وجهين إما أن يضطر إليه شاعر، وإما أن يكون المتكلم به محققا بغير شرط ولا نية.
فقال: أجيئك، ثم يبدو له ألا يجيئه إلا بسبب، فيقول: إن جئتني، فيشبه الاستثناء ويغني عن الجواب ما تقدم.
وهذا قول البصريين، وخالفهم أهل الكوفة، وقالوا: المتقدم هو الجزاء، والكلام مرتبط به. وقولهم في ذلك هو الصواب، وهو اختيار الجرجاني، قال: الدليل على أنك إذا قلت:
آتيك إن أتيتني كان الشرط متصلا «بآتيك»، وأن الذي يجري في كلامهم لا بد من إضمار الجزاء ليس على ظاهره، وأما إن عملنا على ظاهره وتوقفنا أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء، صار من ذلك شيئان ابتداء كلام ثان.
ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الإيمان، من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه، وبين أن يقف ثم يأتي بالشرط، وأنه إذا قال لعبده: أنت حر إن
شاء الله، فوصل، لم يعتق، ولو وقف ثم قال: إن شاء الله، فإنه يعتق.(1/251)
ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الإيمان، من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه، وبين أن يقف ثم يأتي بالشرط، وأنه إذا قال لعبده: أنت حر إن
شاء الله، فوصل، لم يعتق، ولو وقف ثم قال: إن شاء الله، فإنه يعتق.
فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة، فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط، هذا كلامه.
قلت: ولم يكن به حاجة في تقرير الدليل إلى الوقف بين الجملة الأولى وجملة الشرط، فالدلالة قائمة ولو وصل، فإنه إذا قال: أنت حر، فهذه جملة خبرية ترتب عليها حكمها عند تمامها، وقوله: إن شاء الله، ليس تعليقا لها عندكم، فإن التعليق إنما يعمل في الجزاء، وهذه ليست بجزاء، وإنما هي خبر محض والجزاء عندكم محذوف. فلما قالوا: إنه لا يعتق، دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق.
هذا تقرير الدلالة ولكن ليس هذا باتفاق، فقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن الشرط إنما يعمل في تعليق الحكم إذا تقدم على الطلاق، فتقول: إن شاء الله فأنت طالق.
فأما إن تقدم الطلاق ثم عقبه بالتعليق فقال: أنت طالق إن شاء الله، طلقت ولا ينفع التعليق، وعلى هذا فلا يبقى فيما ذكر حجة. ولكن هذا المذهب شاذ والأكثرون على خلافه، وهو الصواب، لأنه إما جزاء لفظا ومعنى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين، إما أن يكون جزاء في المعنى، وهو نائب الجزاء المحذوف ودل عليه، فالحكم تعلق به على التقديرين، والمتكلم إنما بنى كلامه عليه.
وأما قول ابن السراج: إنه قصد الخبر جزما، ثم عقبه بالجزاء. فليس كذلك بل بنى كلامه على الشرط كما لو قال له: عليّ عشرة إلا درهما. فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر درهما. ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء. ومن هنا قال بعض الفقهاء: إن الاستثناء لا ينفع في الطلاق لأنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فقد أوقع الثلاثة ثم رفع منها واحدة.
وهذا مذهب باطل فإن الكلام مبني على آخره مرتبط أجزاؤه بعضها ببعض، كارتباط التوابع من الصفات وغيرها بمتبوعاتها، والاستثناء لا يستقل بنفسه فلا يقبل إلا بارتباطه بما قبله، فجرى مجرى الصفة والعطف.
ويلزم أصحاب هذا المذهب ألا ينفع الاستثناء في الإقرار لأن المقر به لا يرفع ثبوته، وفي إجماعهم على صحته دليل على إبطال هذا المذهب، وإنما احتاج الجرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل لأنه إذا وقف عتق العبد ولم ينفعه الاستثناء وإذا وصل لم يعتق، فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت، والوصل هو المؤثر في
الحكم لا تقدم الجزاء وتأخره، فإنه لا تأثير له بحال كما ذكره ابن السراج: أنه إنما يأتي في الضرورة، ليس كما قال فقد جاء في أفصح الكلام وهو كثير جدا، كقوله تعالى:(1/252)
ويلزم أصحاب هذا المذهب ألا ينفع الاستثناء في الإقرار لأن المقر به لا يرفع ثبوته، وفي إجماعهم على صحته دليل على إبطال هذا المذهب، وإنما احتاج الجرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل لأنه إذا وقف عتق العبد ولم ينفعه الاستثناء وإذا وصل لم يعتق، فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت، والوصل هو المؤثر في
الحكم لا تقدم الجزاء وتأخره، فإنه لا تأثير له بحال كما ذكره ابن السراج: أنه إنما يأتي في الضرورة، ليس كما قال فقد جاء في أفصح الكلام وهو كثير جدا، كقوله تعالى:
{وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وقوله: {فَكُلُوا مِمََّا ذُكِرَ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيََاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (118) [الأنعام: 118] وقوله: {قَدْ بَيَّنََّا لَكُمُ الْآيََاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (118) [آل عمران] وهو كثير، فالصواب المذهب الكوفي، والتقدير إنما يصار إليه عند الضرورة، بحيث لا يتم الكلام إلا به، فإذا كان الكلام تاما بدونه فأي حاجة بنا إلى التقدير؟ وأيضا، فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر والمفعول والحال ونظائرها.
فإن قيل: الشرط له التصدير وصفا، فتقديم الجزاء عليه يخل بتصديره، قلنا هذه هي الشبهة التي منعت القائلين بعدم تقديمه.
وجوابها: إنكم إن عنيتم بالتصدير أنه لا يتقدم معموله عليه، والجزاء معمول له فيمتنع تقديمه فهو نفس المتنازع فيه، فلا يجوز إثبات الشيء بنفسه، وإن عنيتم به أمرا آخر لم يلزم منه امتناع التقديم، ثم نقول: الشرط والجزاء جملتان قد صارتا بأداة الشرط جملة واحدة، وصارت الجملتان بالأداة كأنهما مفردان فأشبها الفردين في باب الابتداء والخبر، فكما لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ فكذلك تقديم الجزاء، وأيضا فالجزاء هو المقصود والشرط قيد فيه وتابع له، فهو من هذا الوجه رتبته التقديم طبعا، ولهذا كثيرا ما يجيء الشرط متأخرا عن المشروط لأن المشروط هو المقصود وهو الغاية، والشرط وسيلة، فتقديم المشروط هو تقديم الغايات على وسائلها ورتبتها التقديم ذهنا وإن تقدمت الوسيلة وجودا، فكل منهما له التقدم بوجه، وتقدم الغاية أقوى، فإذا وقعت في مرتبتها فأي حاجة إلى أن نقدرها متأخرة؟ وإذا انكشف الصواب فالصواب أن تدور معه حيثما دار.
المسألة السابعة: «لو» يؤتى بها للربط لتعلق ماض بماض، كقولك: لو زرتني لأكرمتك ولهذا لم تجزم إذا دخلت على مضارع، لأن الموضع للماضي لفظا ومعنى، كقولك: لو يزورني زيد لأكرمته فهي في الشرط نظير «إن» في الربط بين الجملتين لا في العمل ولا في الاستقبال، وكان بعض فضلاء المتأخرين وهو تاج الدين الكندي ينكر أن تكون «لو» حرف شرط، وغلّط الزمخشري في عدها في أدوات الشرط. قال الأندلسي في «شرح المفصل»: فحكيت ذلك لشيخنا أبي البقاء، فقال: غلط تاج الدين في هذا التغليظ، فإن «لو» تربط شيئا بشيء كما تفعل إن.
قلت: ولعل النزاع لفظي، فإن أريد بالشرط الربط المعنوي الحكمي، فالصواب ما قاله
أبو البقاء والزمخشري، وإن أريد بالشرط ما يعمل في الجزءين فليست من أدوات الشرط (1).(1/253)
قلت: ولعل النزاع لفظي، فإن أريد بالشرط الربط المعنوي الحكمي، فالصواب ما قاله
أبو البقاء والزمخشري، وإن أريد بالشرط ما يعمل في الجزءين فليست من أدوات الشرط (1).
المسألة الثامنة: المشهور أن «لو» إذا دخلت على ثبوتين نفتهما، أو نفيين أثبتتهما، أو نفلي وثبوت، أثبتت المنفي ونفت المثبت، وذلك لأنها تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، وإذا امتنع النفي صار إثباتا فجاءت الأقسام الأربعة، وأورد على هذا أمور.
أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} ومقتضى ما ذكرتم أن تكون كلمات الله تعالى قد نفدت، وهو محال لان الأول ثبوت وهو كون أشجار الأرض أقلاما والبحار مدادا لكلماته، وهذا منتف، والثاني وهو قوله: {مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} فيلزم أن يكون ثبوتا.
الثاني: قول عمر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فعلى ما ذكرتم يكون الخوف ثابتا لأنه منفي، والمعصية كذلك لأنها منفية أيضا.
وقد اختلف أجوبة الناس عن ذلك، فقال أبو الحسن بن عصفور: «لو» في الحديث بمعنى «إن» لمطلق الربط، فلا يكون نفيها إثباتا، ولا إثباتا نفيا، فاندفع الإشكال. وفي هذا الجواب ضعف بين، فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال، وإنما قصد ارتباط متضمن لنفي الجزاء ولا سيق الكلام إلا لهذا، ففي الجواب إبطال خاصية «لو» التي فارقت بها سائر أدوات الشرط. وقال غيره: «لو» في اللغة لمطلق الربط، وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة حكى هذا الجواب القرافي، وهو أفسد من الذي قبله بكثير، فإن اقتضاء «لو» لنفي الثابت بعدها وإثبات المنفي متلقى من أصل وضعها لا من العرف الحادث، كما أن معاني سائر الحروف من نفي أو تأكيد أو تخصيص أو بيان أو ابتداء أو انتهاء، إنما هو متلقى من الوضع لا من العرف فما قاله ظاهر البطلان.
الجواب الثالث: جواب الشيخ أبي محمد بن عبد السلام وغيره، وهو أن الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه، وقد يكون له سببان فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف السبب الأول كقولنا في زوج: هو ابن عم. لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب، فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر. وكذلك الناس هاهنا في الغالب، إنما لم يعصوا لأجل الخوف، فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا
__________
(1) انظر مناقشة ذلك في جزء اللغة من الموسوعة.(1/254)
لاتحاد السبب في حقهم. فأخبر عمر أن صهيبا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية الخوف والإجلال فلو انتفى الخوف في حقه، لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال. وهذا مدح عظيم له.
قلت: وبهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لها ابنة أخي من الرضاعة» (1)، أي فيها سببان يقتضيان التحريم فلو قدر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني، وهذا جواب حسن جدا.
الجواب الرابع: ذكره بعضهم بأن قال: جواب «لو» محذوف، وتقديره لو لم يخف الله لعصمه فلم يعصه بإجلاله ومحبته إياه، فإن الله يعصم عبده بالخوف تارة والمحبة والإجلال تارة، وعصمة الإجلال والمحبة أعظم من عصمة الخوف، لأن الخوف يتعلق بعقابه والمحبة والإجلال يتعلقان بذاته وما يستحقه تبارك وتعالى (2)، فأين أحدهما من الآخر. ولهذا كان دين الحب أثبت وأرسخ من دين الخوف، وأمكن وأعظم تأثيرا وشاهد ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه، وطاعة الخائف لمن يخافه، كما قال بعض الصحابة: إنه ليستخرج حبه مني من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف، وليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر وقد بسطته في كتاب «الفتوحات القدسية».
الجواب الخامس: أن «لو» أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم، ثم أنها قد تستعمل لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط، فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط، كما لو قال القائل: إن لم يكن زيد زوجا لم يرث. فتقول أنت: لو لم يكن زوجا لورث زيد. إن ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه، وتقول: لو لم يكن عالما لأكرم، أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهم أنه لو لم يكن عالما لما أكرم، فتربط بين عدم العلم والإكرام، فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك ليس بمناسب ولا من أغراض العقلاء، ولا يتجه كلامك إلا على عدم الربط، كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم، وإن ذلك في الأوهام قطع عمر هذا الربط، وقال: لو لم يخف الله لم يعصه، وكذلك لما كان الغالب على
__________
(1) البخاري (5101) في النكاح، باب: {وَأُمَّهََاتُكُمُ اللََّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، ومسلم (1449/ 15) في الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة.
(2) كذا الأصل، ولعل في الكلام حذفا تقديره: لذاته أعظم مما يستحقه بعقابه (من هامش المطبوعة).(1/255)
الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلاما، والبحار المذكورة كلها تكتب به الكلمات الإلهية، فلعل الوهم يقول: ما يكتب بهذا شيء إلا نفد كائنا ما كان، فقطع الله تعالى هذا الربط، ونفى هذا الوهم، وقال: ما نفدت.
قلت: ونظير هذا في الحديث أن زوجته لما توهمت أن ابنة عمه حمزة تحل له، لكونها بنت عمه، فقطع هذا الربط بقوله: إنها لا تحل، وذكر للتحريم سببين: الرضاعة، وكونها ربيبة له. وهذا جواب القرافي، قال: وهو أصلح من الأجوبة المتقدمة من وجهين، أحدهما: شموله للحديث والآية وبعض الأجوبة لا تنطبق على الآية. والثاني: أن ورود «لو» بمعنى «إن» خلاف الظاهر، وما ذكره لا يتضمن خلاف الظاهر.
قلت: وهذا الجواب فيه ما فيه، فإنه إن ادعى أن «لو» وضعت أو جيء بها لقطع الربط فغلط، فإنها حرف من حروف الشرط التي مضمونها ربط السبب بمسببه والملزوم بلازمه، ولم يؤت بها لقطع هذا الارتباط، ولا وضعت له أصلا فلا يفسر الحرف بضد موضوعه.
ونظير هذا قول من يقول: إن «إلا» قد تكون بمعنى الواو، وهذا فاسد، فإن الواو للتشريك والجمع، و «إلا» للإخراج وقطع التشريك، ونظائر ذلك. وإن أراد أن قطع الربط الموهم مقصود للمتكلم من أدلة، فهذا حق، ولكن لم ينشأ هذا من حرف «لو»، وإنما جاء من خصوصية ما صحبها من الكلام المتضمن لنفي ما توهمه القائل أو ادعاه، ولم يأت من قبل «لو» فهذا كلام هؤلاء الفضلاء في هذه المسألة، وإنما جاء الإشكال سؤالا وجوابا من عدم الإحاطة بمعنى الحرف ومقتضاه وحقيقته، وأنا أذكر حقيقة هذا الحرف ليتبين سر المسألة بعون الله.
فاعلم أن «لو» حرف وضع للملازمة بين أمرين يدل على أن الحرف الأول منهما ملزوم، والثاني لازم هذا وضع هذا الحرف وطبيعته وموارده في هذه الملازمة أربعة، فإنه ما أن يلازم بين نفيين أو ثبوتين، أو بين ملزوم مثبت ولازم منفي أو عكسه ونعني بالثبوت والنفي هنا الصوري اللفظي لا المعنوي.
فمثال الأول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفََاقِ} [الإسراء:
100] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جََاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللََّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللََّهَ تَوََّاباً رَحِيماً} (64) [النساء: 64] {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مََا يُوعَظُونَ بِهِ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}
[النساء] ونظائره.
ومثال الثاني: لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، ولو لم يخف الله لم يعصه.(1/256)
ومثال ثالث: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} [لقمان: 27].
ومثال الرابع: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
فهذه صورة وردوها على النفي والإثبات.
وأما حكم ذلك فأمران، أحدهما: نفي الأول لنفي الثاني لأن الأول ملزوم، والثاني لازم والملزوم عدم عند عدم لازمه. والثاني: تحقق الثاني لتحقق الأول لأن تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه.
فإذا عرفت هذا فليس في طبيعة «لو» ولا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزءين ولا إثباته، وإنما طبعها وحقيقتها الدلالة على التلازم المذكور، لكن إنما يؤتى بها للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققها، ومن هنا نشأت الشبهة فلم يؤت بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزءين أو نفيهما، فإذا دخلت على جزءين متلازمين قد انتفى اللازم منهما، استفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم لا من نفس الحرف.
وبيان ذلك أن قوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء: 22] لم يستفد نفي الفساد من حرف «لو»، بل الحرف دخل على أمرين قد علم انتفاء أحدهما حسا، فلازمت بينه وبين من يريد نفيه من تعدد الآلهة وقضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه فإذا كان اللازم منتف قطعا وحسا، انتفى ملزومه لانتفائه، لا من حيث الحرف. فهنا أمران، أحدهما: الملازمة التي فهمت من الحرف، والثاني: انتفاء اللازم المعلوم بالحس.
فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم والملزوم ب «لو» فمن هنا قالوا: إن دخلت على مثبتين صارا منتفيين، بمعنى: أن الثاني منهما قد علم انتفاؤه من خارج، فينتفي الأول لانتفائه. وإذا دخلت على منفيين أثبتتهما لذلك أيضا لأنها تدخل على ملزوم محقق الثبوت من خارج فيتحقق ثبوت ملزومه، كما في قوله: «لو لم تذنبوا» (1).
فهذا الملزوم وهو صدور الذنب متحقق في الخارج من البشر فتحقق لازمه وهو بقاء النوع الإنساني وعدم الذهاب به لأن الملازمة وقعت بين عدم الذنب وعدم البقاء، لكن عدم الذنب منتف قطعا، فانتفى لازمه وهو عدم الذهاب بنا فثبت الذنب وثبت البقاء وكذلك نفيه الأقسام الأربعة يفهم على هذا الوجه.
__________
(1) مسلم (2749/ 11) في التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار توبة.(1/257)
وإذا عرف هذا، فاللازم الواحد قد يلزم ملزومات متعددة كالحيوانية اللازمة للإنسان والفرس وغيرهما، فيقصد المتكلم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات واللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر، فيكون مقصوده أن الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك الملزوم الآخر، فلا يتوهم المتوهم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معين، فإن الملازمة حاصلة بدونه، وعلى هذا يخرجه: لو لم يخف الله لم يعصه، ولو لم تكن ربيبتي لما حلت لي.
فإن عدم المعصية له ملزومات فهي الخشية والمحبة والإجلال، فلو انتفى بعضها وهو الخوف مثلا لم يبطل اللازم لأن له ملزومات أخر غيره. وكذلك لو انتفى كون البنت ربيبة لما انتفى التحريم لحصول الملازمة بينه وبين وصف آخر وهو الرضاع، وذلك الوصف ثابت. وهذا القسم إنما يأتي في لازم له ملزومات متعددة فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ} [لقمان: 27]، فإن الآية سيقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلاما والبحار مدادا فكتبت بها كلمات الله، لنفدت البحار، والأقلام ولم تنفد كلمات الله، فالآية سيقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته وبين كون الأشجار أقلاما والبحار مدادا يكتب بها، فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقدير يكون في نفاد المكتوب، فثبوتها على غيره من التقادير أولى.
ونوضح هذا بضرب مثل يرتقى منه إلى فهم مقصود الآية.
إذا قلت لرجل لا يعطى أحدا شيئا: لو أن لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدا منها شيئا. فإنك إذا قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء، فلازمت بين عدم إعطائه وبين أعظم أسباب الإعطاء، وهو كثرة ما يملكه. فدل هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير، وإن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير. فافهم نظير هذا المعنى في الآية، وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى، على تقدير أن الأشجار أقلام، والبحار مداد يكتب بها، فإذا لم تنفد على هذا التقدير كان عدم نفادها لازما له، فكيف بما دونه من التقديرات؟
فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقت، ولا تكاد تجدها في الكتب، وإنما هي من فتح الله وفضله، فله الحمد والمنة ونسأله المزيد من فضله.
فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية، وجاءت النصوص بمقتضاهما معا من غير خروج عن موجب عقل ولا لغة ولا تحريف لنص، ولو لم يكن في هذا التعليق
إلا هذه الفائدة لساوت رحله، فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد ما لا ينفق إلا على تجارة، وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة، والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة، ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما، والله المعين.(1/258)
فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية، وجاءت النصوص بمقتضاهما معا من غير خروج عن موجب عقل ولا لغة ولا تحريف لنص، ولو لم يكن في هذا التعليق
إلا هذه الفائدة لساوت رحله، فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد ما لا ينفق إلا على تجارة، وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة، والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة، ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما، والله المعين.
المسألة التاسعة: في دخول الشرط على الشرط ونذكر فيه ضابطا مزيلا للإشكال إن شاء الله، فنقول: الشرط الثاني تارة يكون معطوفا على الأول، وتارة لا يكون، والمعطوف تارة يكون معطوفا على فعل الشرط وحده، وتارة يعطف على الفعل مع الأداة. فمثال غير المعطوف: إن قمت إن قعدت فأنت طالق. ومثال المعطوف على فعل الشرط وحده: إن قمت وقعدت. ومثال المعطوف على الفعل مع الأداة: إن قمت وإن قعدت فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب، وهي عشر صور.
أحدها: إن خرجت ولبست، فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا.
الثانية: إن لبست فخرجت، لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس، فلو خرجت ثم لبست، لم يحنث.
الثالثة: إن لبست ثم خرجت، فهذا مثل الأول وإن كان ثم للتراخي فإنه لا يعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده.
الرابعة: إن خرجت لا إن لبست، فيحتمل هذا التعليق أمرين، أحدهما: جعل الخروج شرطا ونفى اللبس أن يكون شرطا. الثاني: أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس، والمعنى: إن خرجت لا لابسة، أي غير لابسة. ويكون المعنى: إن كان منك خروج لا مع اللبس، فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده، وعلى الثاني لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه.
الخامسة: إن خرجت بل إن لبست، ويحتمل هذا التعليق أمرين، أحدهما: أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب، والثاني: أن يكون كل منهما شرطا فيحنث بأيهما وجد ويكون الإضراب عن الاقتصار، فيكون إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء كما تقول: أعطه درهما بل درهما آخر.
السادسة: إن خرجت أو إن لبست، فالشرط أحدهما، أيهما كان.
السابعة: إن لبست لكن إن خرجت، فالشرط الثاني وقع، لغا الأول لأجل الاستدراك بلكن.
الثامنة: أن يدخل الشرط على الشرط، ويكون الثاني معطوفا بالواو نحو: إن لبست وإن
خرجت. فهذا يحنث بأحدهما.(1/259)
الثامنة: أن يدخل الشرط على الشرط، ويكون الثاني معطوفا بالواو نحو: إن لبست وإن
خرجت. فهذا يحنث بأحدهما.
فإن قيل: فكيف لم تحنثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما وحنثتموه هاهنا بأيهما كان؟ قيل: لأن هناك جعل الشرط مجموعهما، وهنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه، وجعل لهما جوابا واحدا. وفيه رأيان، أحدهما: أن الجواب لهما جميعا، وهو الصحيح. والثاني: أن جواب أحدهما حذف لدلالة المذكور عليه، وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزءين.
التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء نحو قوله تعالى: {فَإِمََّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [طه:
123] فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني وهو وجوابه جواب الأول، فإذا قال: إن خرجت فإن كلمت أحدا فأنت طالق، لم تطلق حتى تخرج وتكلم أحدا.
العاشرة: وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف، نحو: إن خرجت إن لبست. واختلف أقوالهم فيها: فمن قائل: إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى، وأنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج. ومن قائل: بل المقدم لفظا هو المقدم معنى وذكر كل منهم حججا لقوله. وممن نص على المسألة الموفق الأندلسي في شرحه، فقال: إذا دخل الشرط على الشرط وعيد حرف الشرط توقف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول، كقولك: إن أكلت إن شربت فأنت طالق، فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل، لأنه تعلق على أكل معلق على شرب.
وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في «المهذب». وحكى ابن شاس في «الجواهر» عن أصحاب مالك عكسه. والوجهان لأصحاب الشافعي، ولا بد في المسألة من تفصيل، وهو أن الشرط الثاني إن كان متأخرا في الوجود عن الأول، كان مقدرا بالفاء وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني. مثاله: إن دخلت المسجد إن صليت فيه، لك أجر. تقديره: فإن صليت فيه، وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها. وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول، فهو في نية التقدم وما قبله جوابه، والفاء مقدرة فيه. ومثله قوله عز وجل: {وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] أي فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. وتقول: إن دخلت المسجد إن توضأت فصل ركعتين. تقديره: إن توضأت فإن دخلت المسجد فصل ركعتين، فالشرط الثاني هنا متقدم، وإن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود على الآخر، بل كان محتملا للتقدم والتأخر لم يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعا إلى تقدير المتكلم ونيته،
فأيهما قدر شرطا كان الآخر جوابا له، وكان مقدرا بالفاء، تقدم في اللفظ أو تأخر، وإن لم يظهر نيته ولا تقديره احتمل الأمرين، فمما ظهر فيه تقديم المتأخر قول الشاعر:(1/260)
وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في «المهذب». وحكى ابن شاس في «الجواهر» عن أصحاب مالك عكسه. والوجهان لأصحاب الشافعي، ولا بد في المسألة من تفصيل، وهو أن الشرط الثاني إن كان متأخرا في الوجود عن الأول، كان مقدرا بالفاء وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني. مثاله: إن دخلت المسجد إن صليت فيه، لك أجر. تقديره: فإن صليت فيه، وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها. وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول، فهو في نية التقدم وما قبله جوابه، والفاء مقدرة فيه. ومثله قوله عز وجل: {وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] أي فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. وتقول: إن دخلت المسجد إن توضأت فصل ركعتين. تقديره: إن توضأت فإن دخلت المسجد فصل ركعتين، فالشرط الثاني هنا متقدم، وإن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود على الآخر، بل كان محتملا للتقدم والتأخر لم يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعا إلى تقدير المتكلم ونيته،
فأيهما قدر شرطا كان الآخر جوابا له، وكان مقدرا بالفاء، تقدم في اللفظ أو تأخر، وإن لم يظهر نيته ولا تقديره احتمل الأمرين، فمما ظهر فيه تقديم المتأخر قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقل عز زانها الكرم
لأن الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذعر، ومنه قول ابن دريد:
فإن عثرت بعدها إن والت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا
ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد الذعر.
ومن المحتمل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرََادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهََا خََالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، يحتمل أن تكون الهبة شرطا، ويكون فعل الإرادة جوابا له، ويكون التقدير إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له، ويحتمل أن تكون الإرادة شرطا والهبة جوابا له، والتقدير: إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها، فهي خالصة له. يحتمل الأمرين، فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها، والله أعلم (1).
__________
(1) بدائع الفوائد (1/ 6043).(1/261)
القسم في القرآن
من أحكام القسم
وهو سبحانه يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته.
فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23]، وإما على جملة طلبية، كقوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 9392]. مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القسم.
والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك، كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها. فأما الأمور الظاهرة المشهورة، كالشمس، والقمر، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها.
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس.
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب وتارة يحذفه، كما يحذف جواب (راجع البدائع) لو كثيرا، كقوله تعالى: {كَلََّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (5) [التكاثر] وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} [الرعد: 31]، {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ} [الأنفال: 50] {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} [سبأ: 51] {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ وُقِفُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام لأن المراد أنك لو رأيت ذلك لرأيت هولا عظيما، فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دل عليه الشرط.
وهذه عادة الناس في كلامهم، إذا رأوا أمورا عجيبة وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم: لو رأيت ما جري يوم كذا بموضع كذا؟ ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعَذََابِ} (165) [البقرة] فالمعنى في أظهر الوجهين: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة، والجواب محذوف، ثم قال: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً}، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} [سبأ: 51]،
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ} [الأنفال: 50] أي لو ترى ذلك الوقت وما فيه.(1/262)
وهذه عادة الناس في كلامهم، إذا رأوا أمورا عجيبة وأرادوا أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم: لو رأيت ما جري يوم كذا بموضع كذا؟ ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذََابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعَذََابِ} (165) [البقرة] فالمعنى في أظهر الوجهين: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة، والجواب محذوف، ثم قال: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً}، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} [سبأ: 51]،
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ} [الأنفال: 50] أي لو ترى ذلك الوقت وما فيه.
وأما القسم، فإن الحالف قد يحلف على الشيء ثم يكرر القسم، فلا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف ما يحلف عليه. فيقول: والله إن لي عليه ألف درهم، ثم يقول: ورب السموات والأرض، والذي نفسي بيده، وحق القرآن العظيم، ولا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف المراد.
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء، ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة والتاء في أسماء الله، كقوله: {وَتَاللََّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنََامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وقد نقل: ترب الكعبة، وأما الواو فكثيرة (1).
أمثلة من قسم القرآن
من ذلك قوله في قصة لوط عليه السّلام ومراجعته قومه له: {قََالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعََالَمِينَ (70) قََالَ هََؤُلََاءِ بَنََاتِي إِنْ كُنْتُمْ فََاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (72) [الحجر: 7270] أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف عن السلف فيه نزاعا، أن هذا قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجلّ بحياته، وهذه مزية لا تعرف لغيره. ولم يوافق (2) الزمخشري على ذلك، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط، وأنه من قول الملائكة فقال: هو على إرادة القول، أي قالت الملائكة للوط عليه الصلاة والسلام: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل والاعتزال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لعمرك، أو حياتك، قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره.
والعمر والعمر واحد، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف، لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم، وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة.
فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به لمزيته على كل من أعمار بني آدم. ولا ريب أن عمره وحياته صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم والآيات، فهو أهل أن يقسم به. والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات (3).
__________
(1) التبيان (31).
(2) قال الزمخشري: وقيل الخطاب يعني في الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له) الكشاف (2/ 318317). وانظر الطبري (14/ 44).
(3) التبيان (429).(1/263)
باب منه: ومن ذلك قوله سبحانه: {فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوََارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذََا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ} (18) [التكوير]، أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة، من طلوعها، وجريانها، وغروبها. هذا قول على، وابن عباس، وعامة المفسرين. وهو الصواب.
والخنس جمع خانس، والخنس الانقباض والاختفاء، ومنه سمي الشيطان خناسا، لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبد ربه، ومنه قول أبي هريرة: فانخنست.
والكنس جمع كانس، وهو الداخل في كناسه، أي في بيته، ومنه تكنست المرأة إذا دخلت في هودجها ومنه كنس الظباء، إذا أوت إلى أكناسها.
والجواري جمع جارية، كغاشية وغواش. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وهذا قول مقاتل وعطاء وقتادة، وغيرهم، قالوا: الكواكب تخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى، وتكنس في وقت غروبها. ومعنى تخنس على هذا القول تتأخر عن البصر، وتتوارى عنه بإخفاء النهار لها.
وفيه قول آخر، وهو أن خنوسها رجوعها، وهي حركتها الشرقية، فإن لها حركتين حركة بفعلها وحركة بنفسها، فخنوسها حركتها بنفسها راجعة. وعلى هذا فهو قسم بنوع من الكواكب، وهي السيارة وهذا قول الفراء.
وفيه قول ثالث، وهو أن خنوسها وكنوسها اختفاؤها وقت مغيبها، فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها، وهذا قول الزجاج.
ولما كان للنجوم حال ظهور، وحال اختفاء، وحال جريان، وحال غروب أقسم سبحانه بها في أحوالها كلها. ونبه بخنوسها على حال ظهورها لأن الخنوس هو الاختفاء بعد الظهور، ولا يقال لما لا يزال مختفيا: إنه قد خنس. فذكر سبحانه جريانها وغروبها صريحا، وخنوسها وظهورها، واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع، فالطلوع أول جريانها.
فتضمن القسم طلوعها، وغروبها، وجريانها، واختفاءها، وذلك من آيات ودلائل ربوبيته.
وليس قول من فسرها بالظباء وبقر الوحش بالظاهر لوجوه:(1/264)
أحدها: أن هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية وعبرة.
والثاني: اشترك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة والعيان (1).
الثالث: أن البقر والظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقا، بل لا تزال ظاهرة في الفلوات.
الرابع: أن الذين فسروا الآية بذلك قالوا: ليس خنوسها من الاختفاء، قال الواحدي:
هو من الخنس في الأنف، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة، والبقر والظباء أنوفهن خنس، والبقرة خنساء، والظبي أخنس. ومنه سميت الخنساء (2) لخنس أنفها. ومعلوم أن هذا أمر خفي يحتاج إلى تأمل، وأكثر الناس لا يعرفونه. وآيات الرب التي يقسم بها لا تكون إلا ظاهرة جلية، يشترك في معرفتها الخلائق، وليس الخنس في أنف البقرة والظباء بأعظم من الاستواء والاعتدال في أنف ابن آدم، فالآية فيه أظهر.
الخامس: أن كنوسها في أكنتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوانات في بيته الذي يأوي فيه، ولا أظهر منه، حتى يتعين للقسم.
السادس: أنه لو كان جمعا للظبي لقال الخنس بالتسكين لأنه جمع أخنس، فهو كأحمر وحمر، ولو أريد به جمع بقرة خنساء، لكان على وزن «فعلاء» أيضا، كحمراء وحمر، فلما جاء جمعه على «فعّل» بالتشديد استحال أن يكون جمعا لواحد من الظباء والبقر. وتعين أن يكون جمعا لخانس، كشاهد وشهد، وصائم وصوم، وقائم وقوم، ونظائرها.
السابع: أنه ليس بالبين إقسام الرب تعالى بالبقر والغزلان، وليس هذا عرف القرآن ولا عادته. وإنما يقسم سبحانه من كل جنس بأعلاه، كما أنه لما أقسم بالنفوس أقسم بأعلاها، وهي النفس الإنسانية. ولما أقسم بكلامه أقسم بأشرفه وأجله، وهو القرآن. ولما أقسم بالعلويات أقسم بأشرفها وهي السماء، وشمسها وقمرها، ونجومها. ولما أقسم بالزمان أقسم بأشرفه، وهو الليالي العشر، وإذا أراد سبحانه أن يقسم بغير ذلك أدرجه في العموم، كقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِمََا تُبْصِرُونَ (38) وَمََا لََا تُبْصِرُونَ} (39) [الحاقة] وقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} [القيامة: 39] في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك.
__________
(1) انظر المقدمة في الكلام عن «الإعجاز في القرآن» في العلوم الطبيعية.
(2) هي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية الشاعرة الصحابية. توفيت سنة 24هـ.(1/265)
الثامن: أن اقتران القسم بالليل والصبح يدل على أنها النجوم، وإلا فليس باللائق اقتران البقر والغزلان والليل والصبح في قسم واحد. وبهذا احتج أبو إسحاق على أنها النجوم، فقال: هذا أليق بذكر النجوم منه بذكر الوحش.
التاسع: أنه لو أراد ذلك سبحانه لبيته وذكر ما يدل عليه، كما أنه لما أراد بالجواري السفن، قال {وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ} (32) [الشورى] وهنا ليس في اللفظ ولا في السياق ما يدل على أنها البقر والظباء. وفيه ما يدل على أنها النجوم من الوجوه التي ذكرناها وغيرها.
العاشر: أن الارتباط الذي بين النجوم التي هي هداية للسالكين ورجوم للشياطين وبين المقسم عليه وهو القرآن، الذي هو هدى للعالمين، وزينة للقلوب، وداحض لشبهات الشيطان أعظم من الارتباط الذي بين البقر والظباء والقرآن، والله أعلم (1).
باب منه: فكم من قسم في القرآن بها كقوله: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ} (1) [البروج]، {وَالسَّمََاءِ وَالطََّارِقِ} (1) [الطارق]، {وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا} (5) [الشمس]، {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ} (11) [الطارق]، {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا} (1) [الشمس]، {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (1) [النجم]، {النَّجْمُ الثََّاقِبُ} (3) [الطارق]، {فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (15) [التكوير]، وهي الكواكب التي تكون خنسا عند طلوعها. جواريا في مجراها ومسيرها، كنسا عند غروبها، فأقسم بها في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر.
وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته، لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه، وكلما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة، كان إقسامه به أكثر من غيره ولهذا يعظم سبحانه هذا القسم، كقوله: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (76) [الواقعة]، وأظهر القولين، أنه قسم بمواقع هذه النجوم التي في السماء، فإن اسم النجوم عند الإطلاق إنما ينصرف إليها، وأيضا فإنه لم تجر عادته سبحانه باستعمال النجوم في آيات القرآن ولا في موضع واحد من كتابه حتى تحمل عليه هذه الآية، وجرت عادته باستعمال النجوم في الكواكب في جميع القرآن.
وأيضا فإن نظير الإقسام بمواقعها هنا، إقسامه بهوى النجوم في قوله: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (1) [النجم]
__________
(1) التبيان (118115).(1/266)
وأيضا فإن هذا قول جمهور أهل التفسير، وأيضا فإنه سبحانه يقسم بالقرآن نفسه لا بوصوله إلى عباده.
هذه طريقة القرآن قال الله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1) [ص]، {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (2) [يس]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (1) [ق]، {حم (1) وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ} (2) [الدخان]، ونظائره.
والمقصود أنه سبحانه إنما يقسم من مخلوقاته بما هو من آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته (1).
__________
(1) مفتاح دار السعادة (5/ 2).(1/267)
ألفاظ القرآن ومقاصدها
بيان الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن
الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن عشرة أقسام:
القسم الأول: تعريفه سبحانه لعباده بأسمائه، وصفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله مثال (إن ربكم الله)، وأنه واحد لا شريك له، وما يتبع ذلك.
القسم الثاني: ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته، وآثار حكمته فيما خلق وذرأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريته وأصناف خليقته محتجا به على من ألحد في أسمائه وتوحيده، وعطله عن صفات كماله وعن أفعاله، وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك، والأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى الشيء اليسير منها.
القسم الثالث: ما اشتمل عليه بدء الخلق، وإنشاؤه، ومادته، وابتداعه له، وسبق بعضه على بعض، وعدد أيام التخليق، وخلق آدم، وإسجاد الملائكة، وشأن إبليس وتمرده وعصيانه، وما يتبع ذلك.
القسم الرابع: ذكر المعاد والنشأة الأخرى، وكيفيته وصورته، إحالة الخلق فيه من حال إلى حال، وإعادتهم خلقا جديدا.
القسم الخامس: ذكر أحوالهم في معادهم، وانقسامهم إلى شقي وسعيد، ومسرور بمنقلبه ومثبور به، وما يتبع ذلك.
القسم السادس: ذكر القرون الماضية والأمم الخالية، وما جرى عليهم، وذكر أحوالهم مع أنبيائهم، وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المثلات، وما حل بهم من العقوبات ليكون ما جرت عليه أحوال الماضيين عبرة للمعاندين فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.
القسم السابع: الأمثال التي ضربها لهم، والمواعظ التي وعظهم بها، ينبههم بها على قدر الدنيا، وقصر مدتها وآفاقها ليزهدوا فيها، ويتركوا الإخلاد إليها، ويرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم.(1/268)
القسم الثامن: ما تضمنه من الأمر والنهي والتحليل والتحريم وبيان ما فيه طاعته ومعصيته، وما يحبه من الأعمال والأقوال والأخلاق، وما يكرهه، ويبغضه منها، وما يقرب إليه، ويدني من ثوابه، وما يبعد منه، ويدني من عقابه، وقسم هذا القسم إلى فروض فرضها، وحدود حدها وزواجر زجر عنها، وأخلاق وشيم رغب فيها.
القسم التاسع: ما عرفهم إياه من شأن عدوهم ومداخله عليهم، ومكايده لهم، وما يريده بهم، وعرفهم إياه من طريق التحصن منه والاحتراز من بلوغ كيده منهم، وما يتداركون به ما أصيبوا به في معركة الحرب بينهم وبينه، وما يتبع ذلك.
القسم العاشر: ما يختص بالسفير بينه وبين عباده عن أوامره ونواهيه، وما اختصه به، من الإباحة والتحريم، وذكر حقوقه على أمته، وما يتعلق بذلك.
فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن، وإذا تأملت الألفاظ المتضمنة لها وجدتها ثلاثة أنواع:
أحدها: ألفاظ في غاية العموم، فدعوى التخصيص فيها: يبطل مقصودها، وفائدة الخطاب بها.
الثاني: ألفاظ في غاية الخصوص، فدعوى العموم فيها لا سبيل إليه.
الثالث: ألفاظ متوسطة بين العموم والخصوص (1).
من أنواع استعمال القرآن لبعض الألفاظ
إن في القرآن الكريم ألفاظا استعملت في معان لم تكن تعرفها العرب وهي أسماء الشريعة كالصلاة والزكاة، والصيام والاعتكاف ونحوها.
والأسماء الدينية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق ونحوها. وأسماء مجملة لم يرد ظاهرها، كالسارق والسارقة، والزاني والزانية، ونحوه. وأسماء مشتركة كالقرء، و «عسعس»، ونحوهما، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها.
فيقال: هذه الأسماء جارية في القرآن ثلاثة أنواع: نوع بيانه معه، فهو مع بيانه يفيد اليقين بالمراد منه، ونوع بيانه في آية أخرى، فيستفاد اليقين بالمراد من مجموع الاثنين، ونوع بيانه موكل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول.
__________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 686648).(1/269)
ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء: إن كل لفظ فهو مفيد لليقين بالمراد منه بمجرد من غير احتياج إلى لفظ آخر، متصل به، أو منفصل عنه، بل نقول: إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد تارة، والمقرون تارة ومنه ومن لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة، وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام (1).
خطأ تحميل اللفظ فوق ما يحتمله
العلم بمراد المتكلم يعرف تارة: من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتقدير.
وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ.
فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فتقول: قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصََابُ وَالْأَزْلََامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) [المائدة]، فلفظ الخمر عام في كل مسكر، فإخراج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به، وهضم لعمومه، بل الحق ما قاله صاحب الشرع: «كل مسكر خمر».
وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمها لها تقصير أيضا به، وهضم لمعناه، فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر، وأخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر، كما قال غير واحد من السلف: إنه ميسر، وقال علي كرم الله وجهه: هو ميسر العجم.
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله، فكما حمل لفظ قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً عَنْ تَرََاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وقوله في آية البقرة {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً حََاضِرَةً تُدِيرُونَهََا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] مسألة العينة (2) التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة، ولعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي، وأي تجارة.
__________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 754753).
(2) هي أن يشتري من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يبيعها له بأقل من الثمن الذي اشتراها به.(1/270)
وكما حمل قوله تعالى: {فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] على مسألة التحليل، وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، داخلا في اسم الزوج، وهذا في التجارة يقابل الأول في التقصير.
ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم، وقاعدته وآخيته، التي يرجع إليها، فلا تخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها.
ومن هذا لفظ الأيمان والحلف، أخرجت طائفة منه الأيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه، وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا، الأول: نقص من المعاني، والثاني: تحميل له فوق معناه.
ومن ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا كبيع الشيرج بالسمسم، والدبس بالعنب، والزيت بالزيتون، وكل ما استخرج من ربوي، وعمل منه بأصله، وإن خرج عن اسمه، ومقصوده وحقيقته. وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا إجماع، ولا ميزان صحيح.
وأدخلت فيه مسائل: مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا، وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح، ومفسدة الربا البحت التي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير، وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر، وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه، فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المال، وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل، وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.
ومن ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة. فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله، وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات. وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة، وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث، ونحو ذلك مما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين. وشهادة القاذف، وشهادة الأعمى على ما يتيقنه، وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم، وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت، وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك.
وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة، ولا فسق،
وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك.(1/271)
وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة، ولا فسق،
وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك.
والصواب: أن كل ما بين الحق فهو بينة، ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلا، بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق، ووضح بأي طريق كان، وجب تنفيذه، ونصره وحرم تعطيله وإبطاله.
وهذا باب يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصر التنبيه عليه، وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء (1).
من الألفاظ المكروهة
منها: أن يسمى أدلة القرآن والسنة ظواهر لفظية ومجازات، فإن هذه التسمية تسقط حرمتها من القلوب، ولا سيما إذا أضاف إلى ذلك تسمية شبه المتكلمين والفلاسفة قواطع عقلية فلا إله إلا الله، كم حصل بهاتين التسميتين من فساد في العقول، والأديان، والدنيا والدين (2).
وكذلك: وليحذر كل الحذر من طغيان «أنا»، «ولي»، «وعندي»، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس، وفرعون، وقارون، {قََالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] لإبليس، و {لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] لفرعون، و {إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] لقارون.
وأحسن ما وضعت «أنا» في قول العبد: أنا العبد المذنب، المخطئ، المستغفر، المعترف ونحوه. «ولي»، في قوله: لي الذنب، ولي الجرم، ولي المسكنة، ولي الفقر والذل:
«وعندي» في قوله «اغفر لي جدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي» (3) (4).
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 285282).
(2) زاد المعاد (2/ 473).
(3) البخاري (6399) في الدعوات، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت»، ومسلم (2719/ 70) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.
(4) زاد المعاد (2/ 475).(1/272)
بعض ألفاظ القرآن الكريم ومقاصدها كالطبع والختم والغشاوة والغطاء وغيرها
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (7) [البقرة].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} (23) [الجاثية].
وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
وقال تعالى: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ} [الأعراف: 101].
وقال تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
وقال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) [محمد: 24].
وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى ََ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (7) إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (10) [يس].
وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية، فحرفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها.
وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك وقهرها عليه، وأجبرها من غير فعل منها، ولا إرادة، ولا اختيار، ولا كسب البتة، بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب، ولا سبب من العبد يقتضي ذلك، بل أمره، وحال مع أمره بينه وبين الهدى، فلم ييسر إليه سبيلا، ولا أعطاه عليه قدرة، ولا مكنه منه بوجه.
وأراد بعضهم: بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ورضيه منه.
فهدى أهل السنة، والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(1/273)
قالت القدرية: لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان، وحال بينهم وبينه، إذ يكون لهم الحجة على الله، ويقولون كيف يأمرنا بأمر، ثم يحول بيننا وبينه، ويعاقبنا عليه، وقد منعنا من فعله؟ وكيف يكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه؟ وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ثم سد عليه الباب سدا محكما لا يمكنه الدخول معه البتة ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟، وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه، ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟
وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج، فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه، وعلمه، وإحسانه، ورحمته؟
قالوا: وقد كذّب الله سبحانه الذين قالوا قلوبنا غلف، وفي أكنة، وإنها قد طبع عليها، وذمهم على هذا القول فكيف ينسب إليه تعالى؟
ولكن القوم لما أعرضوا، وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالإلف، والطبيعة، والسجية أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه، وصار هذا وقرا في آذانهم، وختما على قلوبهم، وغشاوة على أعينهم، فلا يخلص إليها الهدى.
وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها، وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد. قالوا: ولهذا قال تعالى: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14) [المطففين].
وقال: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وقال: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ}
[الصف: 5].
وقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفََاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمََا أَخْلَفُوا اللََّهَ مََا وَعَدُوهُ وَبِمََا كََانُوا يَكْذِبُونَ} (77) [التوبة].
ولعمر الله إن الذي قاله هؤلاء، حقه أكثر من باطله وصحيحه أكثر من سقيمه، ولكن لم يوفوه حقه وعظموا الله من جهة، وأخلوا بتعظيمه من جهة فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة، وأخلوا بتعظيمه من جهة التوحيد، وكمال القدرة ونفوذ المشيئة.
والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران، والطبع، والختم من وجه، وبطلانه من وجه.
وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم، وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق بعد
أن عرفوه، كما قال تعالى: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} [الصف: 5].(1/274)
وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم، وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق بعد
أن عرفوه، كما قال تعالى: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} [الصف: 5].
وقال: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14) [المطففين].
وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصََارَهُمْ كَمََا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (110) [الأنعام].
وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق، فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ويثيب على الهدى بهدى بعده، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها، ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ} (17) [محمد].
وقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمََالَكُمْ} [الأحزاب:
7170].
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللََّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقََاناً وَيُكَفِّرْ} [الأنفال: 29].
ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل.
قال في ضد ذلك: {فَمََا لَكُمْ فِي الْمُنََافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللََّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمََا كَسَبُوا} [النساء: 88].
وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10].
وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق، والقرآن دل عليه، وهو موجب العدل، والله سبحانه ماض في العبد حكمه، عدل في عبده قضاؤه، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته، ومحبته، وذكره، وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصده عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدل منه فيه، وتكون عقوبته بالختم، والطبع والصد عن الإيمان، كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال:
{كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصََالُوا الْجَحِيمِ} (16) [المطففين].
فحجابه عنهم إضلال لهم، وصد عن رؤيته، وكمال معرفته كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان.
وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا.(1/275)
وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا، لكن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم، وإرادتهم وفعلهم، فإذا وقعت عقوبات لهم تكن مقدورة، بل قضاء جار ماض عدل فيهم. وقال تعالى: {وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (72) [الإسراء].
ومن هاهنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا، في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد، وأن ذلك محض عدل فيه.
وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية: إنه الممكن، فكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم.
ولا المراد به ما يقوله القدرية النفاة: إنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده، وهدايتهم وإضلالهم، وعموم مشيئته لذلك، وإن الأمر إليهم لا إليه.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» (1)، كيف ذكر العدل في القضاء مع الحكم النافذ، وفي ذلك رد لقول الطائفتين القدرية والجبرية، فإن العدل الذي أثبتته الجبرية مناف للحكمة والرحمة، ولحقيقة العدل.
والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا، ولم يعرفه إلا الرسل وأتباعهم. ولهذا قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللََّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (56) [هود].
فأخبر عن عموم قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.
وقال أبو إسحاق: أي: هو سبحانه، وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء فإنه لا يشاء إلا العدل.
وقال ابن الأنباري، لما قال: {هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا}، كان في معنى: لا يخرج من قبضته، وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة فأتبعه قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثم طريق، ثم ذكر وجها آخر فقال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل
__________
(1) رواه الإمام أحمد (1/ 391)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 139): «رجال أحمد الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان»، وصحّح إسناده الشيخ أحمد شاكر (3712).(1/276)
دابة، أتبع هذا قوله: إن ربي على صراط مستقيم، أي: لا تخفى عليه مشيئة، ولا يعدل عنه هارب، فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به: الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ} (14) [الفجر].
قلت: فعلى هذا القول الأول يكون المراد: أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل، ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب ما عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد، ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه، فيكون من باب: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1].
ومن باب: «ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» (1).
ومن باب: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (2) [الفاتحة]، أي: كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته، فهو المحمود على هذا التصرف، وله الحمد على جميعه.
وعلى القول الثاني، المراد به: التهديد والوعيد، وأن مصير العباد إليه وطريقهم عليه لا يفوته منهم أحد، كما قال تعالى: {قََالَ هََذََا صِرََاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (41) [الحجر].
قال الفراء: يقول مرجعهم إليّ فأجازيهم، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ} (14) [الفجر].
قال: وهذا كما تقول في الكلام: طريقك عليّ، وأنا على طريقك، لمن أوعدته.
وكذلك قال الكلبي والكسائي، ومثل قوله: {وَعَلَى اللََّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهََا جََائِرٌ} [النحل: 9] على أحد القولين في الآية.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقة، و «منها» أي: ومن السبيل ما هو جائر عن الحق {وَلَوْ شََاءَ لَهَدََاكُمْ} [النحل: 9].
فأخبر عن عموم مشيئته، وأن طريق الحق عليه موصلة إليه، فمن سلكه فإليه يصل، ومن عدل عنها فإنه يضل عنه.
والمقصود: أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده، والله يتصرف في خلقه بملكه، وحمده وعدله، وإحسانه فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه، يقول الحق، ويفعل العدل، {وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
فهذا العدل والتوحيد اللذان دل عليهما القرآن لا يتناقضان، وأما توحيد أهل القدر والجبر، وعدلهم فكل منهما يبطل الآخر، ويناقضه.
__________
(1) جزء من حديث صحيح سبق تخريجه ص (202).(1/277)
فصل
ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين، لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبتي القدر قطعا، وإلا تناقض أبين تناقض. فإنه زعم أن الضلال، والطبع، والختم، والقفل، والوقر، وما يحول بين العبد وبين الإيمان مخلوق لله، وهو واقع بقدرته ومشيئته، فقد أعطى: أن أفعال العباد مخلوقة، وأنها واقعة بمشيئته، فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدورا لله واقعا بمشيئته، والآخر كذلك، وإن لم يكن ذلك مقدورا ولا يصح دخوله تحت المشيئة، فهذا كذلك.
والتفريق بين النوعين تناقض محض.
وقد حكى هذا الفريق عن بعض القدرية: أبو القاسم الأنصاري في «شرحه الإرشاد»، فقال: ولقد اعترف بعض القدرية بأن الختم والطبع توابع غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم، قال: وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري، وبكر ابن أخته، قال: وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار، وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة، وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث.
فصل
وقالت طائفة منهم: الكافر هو الذي طبع على قلبه بنفسه في الحقيقة وختم على قلبه، والشيطان أيضا فعل ذلك، ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه لإقداره للفاعل على ذلك لا لأنه هو الذي فعله.
قال أهل السنة والعدل: هذا الكلام فيه حق وباطل، فلا يقبل مطلقا ولا يرد مطلقا.
فقولكم: إن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع، والختم كلام باطل، فإنه لم يقدر إلا على التزيين والوسوسة، والدعوة إلى الكفر، ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة، وهو أقل من ذلك وأعجز.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت داعيا ومبلغا وليس إليّ من الهداية شيء، وخلق إبليس مزينا، وليس إليه من الضلالة شيء» (1).
فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه
__________
(1) انظر الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 9)، وضعفه الألباني في الضعيف الجامع (2338).(1/278)
وسمعه، وطبع عليه، كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها عاقبه الله بالنار، فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع، وأسباب العقاب فعله، وتزيينها وتحسينها: فعل الشيطان، والجميع مخلوق لله.
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه، فلولا إقدار الله على ذلك لم يفعله.
وهذا حق، لكن القدرية لم توف هذا الموضع حقه. وقالت: أقدره قدرة تصلح للضدين، فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب، وإن دخلت قدرته الصالحة لها تحت مقدوره سبحانه، فمشيئته، واختياره، وفعله غير واقع تحت مقدور الرب. وهذا من أبطل الباطل، فإن كل ما سواه تعالى مخلوق له داخل تحت قدرته، واقع بمشيئته، ولو لم يشأ لم يكن.
قالت القدرية: لما أعرضوا عن التدبر، ولم يصغوا إلى التذكر، وكان ذلك مقارنا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم أضيفت أفعالهم إلى الله لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.
قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال، أن يضيف الرب إلى نفسه أمرا لا يضاف إليه البتة لمقارنته ما هو من فعله.
ومن المعلوم: أن الضد يقارن الضد، فالشر يقارن الخير، والحق يقارن الباطل، والصدق يقارن الكذب، وهل يقال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة، وإنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟ فإن قيل: قد ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له، وإن لم يكن له فيه تأثير، كقوله تعالى: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمََاتُوا وَهُمْ كََافِرُونَ} (125) [التوبة].
ومعلوم: أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس، بل قارن رجسهم نزولها، فنسب إليها.
قيل: لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما، وهما إحداث السورة الرجس، والثاني مقارنته لنزولها، بل هاهنا أمر ثالث، وهو أن السورة لما أنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها، والتصديق، والإذعان لأوامرها ونواهيها والعمل بما فيها.
فوطن المؤمنون أنفسهم على ذلك فازدادوا إيمانا بسببها فنسبت زيادة الإيمان إليها إذ هي السبب في زيادته.(1/279)
وكذب بها الكافرون وجحدوها، وكذبوا من جاء بها، ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره فازدادوا بذلك رجسا فنسب إليها إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة.
فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله، عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته.
على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه، وإنما هي منسوبة إليهم، والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة، والحكم المطلوبة.
والختم، والطبع، والقفل، والإضلال أفعال حسنة من الله وضعها في أليق المواضع بها إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها.
والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا، وإن نسبت إليه خلقا، فخلقها غيرها والخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدور.
وستمر بك هذه المسألة مستوفاة إن شاء الله في باب اجتماع الرضا بالقضاء، وسخط الكفر والفسوق والعصيان إن شاء الله.
قال القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء، ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان، لئلا تزول حكمة التكليف، عبر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والاعتراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر. وتلك الغاية في وصف لجاجهم، وتماديهم في الكفر.
قال أهل السنة: هذا كلام باطل فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان، وإرادته، ومحبته فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99].
وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمى ذلك إيمانا لأنه عن إلجاء واضطرار، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا}
[السجدة: 13].
وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى، وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً} [الرعد: 31].(1/280)
فقولكم لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل، فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه، وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم. ذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه، كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم وذرياتهم، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السفيل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب.
ولا يقال فلم يليق فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه، وربوبيته، ومن مقتضيات أسمائه وصفاته، وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والجيد والرديء؟
ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين، وتنويع المخلوقات وأخلاقها.
فقول القائل لم خلق الرديء والخبيث واللئيم؟ سؤال جاهل بأسمائه وصفاته، وملكه وربوبيته.
وهو سبحانه فرق بين خلقه أعظم تفريق، وذلك من كمال قدرته، وربوبيته، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن، ومنه ما لا يقبل شيئا منه، وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلّاق العليم. وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له، والقابل والمقبول كله مفعوله ومخلوقه، وأثر فعله وخلقه. وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية، ولم يهتدوا إليه، وبالله التوفيق.
قالت القدرية: الختم الطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى أسماعهم، وعلى قلوبهم.
قال أهل السنة: هذا هو قولكم: بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم ذلك، وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية، وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه، وإن عليه ختما، وإنه قد طبع على قلبه وختم عليه، بل هذا كذب على اللغات، وعلى القرآن.
وكذلك قول من قال إن ختمه على قلوبهم اطلاعه على ما فيها من الكفر.
وكذلك قول من قال إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به، وقول من قال: إنه إعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة، وقد بينا بطلان ذلك بما فيه كفاية (1).
__________
(1) سبق ذلك في فصل تحميل اللفظ ما لا يحتمل (213)(1/281)
قالت القدرية: لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعة من الإيمان، بل يجوز أن يجعل الله فيهم من غير أن يكون منعهم من الإيمان، بل يكون ذلك من جنس الغفلة، والبلادة، والعشا في البصر فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعميا عنه، ولو أنعم النظر، وتفكر وتدبر لما آثر على الإيمان غيره.
وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر فإن تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان، ومع هذا فهو أثر فعله، وإعراضه وغفلته وإيثار شهوته وكبره على الحق والهدى، فلما تمكن فيه واستحكم صار صفة راسخة، وطبعا، وختما وقفلا، ورينا، فكان مبدؤه حائلا بينهم وبين الإيمان، والإيمان ممكن معه لو شاءوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل.
ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل، ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذ الأسباب لم تستحكم، فإذا استمر على ميله، واستدعى أسبابه واستمكنت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى، والمحبة فيطبع على قلبه، ويختم عليه فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه، وكان الانصراف مقدورا له في أول الأمر، فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له كما قال الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة ... فلما تمكن منها غرق
فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم، ولما استعصى عليهم، ولقدروا عليه.
ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها، ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها، فإذا استحكمت العلة وصارت كالجزء من البدن عز على الطبيب استنفاذ العليل منها.
ونظير ذلك المتوحل في حمأة، فإنه ما لم يدخل تحتها فهو قادر على التخلص، فإذا توسط معظمها عز عليه وعلى غيره إنقاذه، فمبادئ الأمور مقدورة للعبد، فإذا استحكمت أسبابها وتمكنت لم يبق الأمر مقدورا له.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر، والله الموفق للصواب.
والله سبحانه جاعل ذلك كله، وخالقه فيهم بأسباب منهم، وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب
الهدى فيبقي على العدم الأصلي، وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية.(1/282)
والله سبحانه جاعل ذلك كله، وخالقه فيهم بأسباب منهم، وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب
الهدى فيبقي على العدم الأصلي، وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك لم تحصل الهداية.
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان، بأن يفك الذي ختم على القلب، وطبع عليه، وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع أن يمحوها، ويكتب عليه السعادة والإيمان.
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) [محمد]، وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا.
وكان عمر يقول في دعائه: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. فالرب تعالى فعال لما يريد، لا حجر عليه.
وقد ضل هاهنا فريقان:
القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدّرا للرب، ولا يدخل تحت فعله إذ لو كان مقدورا له، ومنعه العبد لناقض جوده ولطفه.
والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدر، أو علم شيئا فإنه لا يغيره بعد هذا، ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه.
والطائفتان حجرت على من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا، وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا. وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر، والمقصود: أنه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد أمكنه فك ذلك الختم والطابع، وفتح ذلك القفل، يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء، وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه. وإن كان فك الختم، وفتح القفل غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور، فإذا استحكم به المرض وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له.
ولكن لما ألف العلة وساكنها، ولم يحب زوالها، ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما
بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية.(1/283)
ولكن لما ألف العلة وساكنها، ولم يحب زوالها، ولا آثر ضدها عليها مع معرفته بما
بينها وبين ضدها من التفاوت فقد سد على نفسه باب الشفاء بالكلية.
والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالا، وهو يحسب أنه على هدى، فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه.
فإذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به وآثر عليه الضلال مع تكرر تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية، فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال، وسأل الله أن يقيل قلبه، وأن يقيه شر نفسه وفقه وهداه.
بل لو علم الله منه كراهية لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل إن لم يشفه منه أهلكه، لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء والهداية.
ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له، ورضاه به، وكراهته الهدى والحق، فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك، ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه.
فصل
فإن قيل: فإذا جوزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرائم والإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم قيل: هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته.
والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أن الطبع، والختم، والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره بالإيمان أو بينه له، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم ويختم عليها فلا تقبل الهدى بعد ذلك.
والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع، بل كان اختيارا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية، فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (7) [البقرة].
ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان
أكثرهم كفارا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم، وعلى أسماعهم. فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم.(1/284)
ومعلوم أن هذا ليس حكما يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان
أكثرهم كفارا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم، وعلى أسماعهم. فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم.
فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك.
فصل
وهنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن الإيمان، وهي: الختم، والطبع، والأكنة والغطاء، والغلاف، والحجاب، والوقر، والغشاوة، والران، والغل، والسد، والقفل، والصمم، والبكم، والعمي، والصد، والصرف، والشد على القلب، والضلال، والإغفال، والمرض، وتقليب الأفئدة، والحول بين المرء وقلبه، وإزاغة القلوب، والخذلان، والإركاس، والتثبيط، والتزيين، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم، وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها فتبقى على الموت الأصلي، وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية، وجعل القلب قلبا قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته، وجعل الصدر ضيقا حرجا لا يقبل الإيمان.
وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب: كالختم، والطبع، والقفل، والأكنة، والإغفال والمرض ونحوها.
ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى كالصمم والوقر.
ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والعشا.
ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي، وهو نتيجة البكم القلبي، فإذا بكم القلب بكم اللسان.
ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات، فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله.
وكأن هذا القائل حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد، والختم أن يكون بشمع أو طين، والمرض أن يكون حمى بنافض (1)، أو قولنج (2) أو غيرهما من أمراض البدن،
__________
(1) نافض: حمى الرعدة.
(2) وقد تكسر لامه أو هو مكسور اللام ويفتح القاف ويضم: مرض معوي مؤلم، يعسر معه خروج الثفل والريح.(1/285)
والموت: هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا، والعمى: ذهاب ضوء العين الذي تبصر به.
وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابا، فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محالها كانت بحسب تلك المحال، فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه، وكذلك الختم، والطابع الذي هو عليه هو بالنسبة إليه كالختم، والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما، وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين، وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته، بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن.
فلو قيل: إنها حقيقة في ذلك مجاز في الأجسام المحسوسة لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه، وكلاهما باطل، العمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب، ثم قال تعالى: {فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
والمعنى: أنه معظم العمى وأصله، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة» (1).
وقوله: «إنما الماء من الماء» (2).
وقوله: «ليس الغنى عن كثرة العرض (3) إنما الغنى غنى النفس» (4).
وقوله: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» (5).
وقوله: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (6).
ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات، إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء، وأحق ممن يسمونه بها، فهكذا قوله: {فَإِنَّهََا لََا تَعْمَى الْأَبْصََارُ وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وقريب من هذا قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ}
__________
(1) البخاري (2178، 2179) في البيوع، باب: بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596/ 101) في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلا بمثل.
(2) مسلم (343/ 80) في الحيض، باب: إنما الماء من الماء.
(3) العرض: هو ما يتموله الإنسان ويقتنيه من المال وغيره.
(4) البخاري (6446) في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس، ومسلم (1051/ 120) في الزكاة، باب:
ليس الغنى عن كثرة العرض.
(5) البخاري (1476) في الزكاة، باب: قول الله تعالى: {لََا يَسْئَلُونَ النََّاسَ إِلْحََافاً}، ومسلم (1039/ 101) في الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
(6) البخاري (6114) في الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم (2609/ 107) في البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب.(1/286)
{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [البقرة: 177].
وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة، وهكذا جميع ما نسب إليه. ولما كان القلب ملك الأعضاء، وهي جنوده، وهو الذي يحركها ويستعملها، والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا.
فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن، فقد تقدم الختم، قال الأزهري: وأصله التغطية، وختم البذر في الأرض إذا غطاه. قال أبو إسحاق: معنى ختم وطبع في اللغة واحدة، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} [محمد: 24]، وكذلك قوله: {طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16].
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما الأكنة ففي قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]، وهي جمع كنان، كعنان وأعنة، وأصله من الستر والتغطية، ويقال: كنه وأكنه وليسا بمعنى واحد، بل بينهما فرق، فأكنه إذا ستره وأخفاه، كقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، وكنه إذا صانه وحفظه، كقوله: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49]، ويشتركان في الستر. والكنان ما أكن الشيء وستره وهو كالغلاف، وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا: {قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} [فصلت: 5]، فذكروا غطاء القلب وهي الأكنة، وغطاء الأذن وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب.
والمعنى: لا نفقه كلامك ولا نسمعه ولا نراك، والمعنى: أنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول، ولا يراك. قال ابن عباس: قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي فيها السهام، وقال مجاهد: كجعبة النبل، وقال مقاتل: عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.
فصل
وأما الغطاء فقال تعالى: {وَعَرَضْنََا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكََافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكََانُوا لََا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} (101) [الكهف].
وهذا يتضمن معنيين:
أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله، وأدلة توحيده، وعجائب قدرته.(1/287)
والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن، وتدبره والاهتداء به، وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين.
فصل
وأما الغلاف فقال تعالى: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقد اختلف في معنى قولهم: {قُلُوبُنََا غُلْفٌ} فقالت طائفة: المعنى: قلوبنا أوعية للحكمة والعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به أو لا تحتاج إليك.
وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف، والصحيح قول أكثر المفسرين: إن المعنى: قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول، وعلى هذا فهو جمع أغلف كأحمر وحمر.
قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال: سيف أغلف، وقوس أغلف، ورجل أغلف غير مختون.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية فلا تعي، ولا تفقه ما تقول. وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم: {قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5]، وقوله تعالى: {كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]، ونظائر ذلك.
وأما قول من قال: هي أوعية للحكمة فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة، وليس له في القرآن نظير يحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل: قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غلف، أي أوعية للعلم؟
والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء، فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة. وهذا ظاهر جدا، فإن قيل: فالإضراب ب «بل» على هذا القول الذي قويتموه ما معناه؟
وأما على القول الآخر فظاهر، أي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة؟ وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف، فهم معذورون في عدم
الإيمان، فكذبهم الله وقال: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وفي الآية الأخرى:(1/288)
قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة؟ وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف، فهم معذورون في عدم
الإيمان، فكذبهم الله وقال: {بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وفي الآية الأخرى:
{بَلْ لَعَنَهُمُ اللََّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88].
فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله، إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة، والمعنى: لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب، والختم عليها.
فصل
وأما الحجاب ففي قوله تعالى كحكاية عنهم: {وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} [فصلت: 5].
وقوله: {وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً} (45) [الإسراء] على أصح القولين، والمعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به، ويبينه قوله: {وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25].
وهذه الثلاثة المذكورة في قوله: {وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} [فصلت: 5].
فأخبر سبحانه أن ذلك جعله، فالحجاب يمنع رؤية الحق، والأكنة تمنع من فهمه، والوقر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي: الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب، ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه. ووصفه بكونه مستورا، فقيل: بمعنى ساتر، وقيل: على النسب، أي ذو ستر، والصحيح: أنه على بابه، أي مستورا عن الإبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت، والنسب في مفعول لم يشتق من فعله، كمكان مهول، أي: ذي هول، ورجل مرطوب أي: ذي رطوبة، فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب، ومجروح، ومستور.
فصل
وأما الران فقد قال تعالى: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14) [المطففين].
قال أبو عبيدة: غلب عليها، والخمر ترين على عقل السكران، والموت يرين على الميت فيذهب به، ومن هذا حديث أسيفع جهينة، وقول عمر: «فأصبح قد رين به» أي غلب عليه وأحاط به الرين.(1/289)
وقال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب.
وقال الفراء: كثرت الذنوب والمعاصي منهم فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها.
قال أبو إسحاق: ران: غطى، يقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه.
قال: والرين كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغين.
قلت: أخطأ أبو إسحاق، فالغين ألطف شيء وأرقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان (1)
على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (2).
وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها. وقال مجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه فيموت القلب. وقال مقاتل: غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة.
وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه». وهو الران الذي ذكر الله: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14) [المطففين]. قال الترمذي: هذا حديث صحيح (3).
وقال عبد الله بن مسعود: كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله، فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب ومسببه، لكن السبب باختيار العبد، والمسبب خارج عن قدرته واختياره.
فصل
وأما الغل فقال تعالى {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى ََ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (7) إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ}
__________
(1) ليغان على قلبي: قال ابن الأثير الجزري في جامع الأصول (4/ 386) أي: ليغطى ويغش، والمراد به:
السهو، لأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات، أو نسي، عده ذنبا على نفسه، ففزع إلى الاستغفار، انتهى.
(2) مسلم (2702/ 41) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه.
(3) الترمذي (3334) في التفسير، باب: ومن سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (1) قال: «حسن صحيح»، والنسائي في الكبرى (11658) في التفسير، باب: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14).(1/290)
{فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} (9) [يس].
قال الفراء: حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله.
وقال أبو عبيدة: منعناهم عن الإيمان بموانع.
ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان.
فإن قيل: فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟
قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله، والمراد به: القلب، كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]
ومن هذا قولهم: إثمي في عنقك، وهذا في عنقك.
ومن هذا قوله: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق.
ومن هذا قال الفراء: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا، حبسناهم عن الإنفاق. قال أبو إسحاق: وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق، قال أبو علي: هذا مثل قولهم: طوقتك كذا وقلدتك كذا، ومنه: قلده السلطان كذا، أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق.
قلت: ومن هذا قولهم: قلدت فلانا حكم كذا وكذا، كأنك جعلته طوقا في عنقه.
وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلََالَ الَّتِي كََانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فشبهها بالأغلال لشدتها، وصعوبتها.
قال الحسن: هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم.
وقال ابن قتيبة: هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقض الغل اليد.
وقوله: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ}، قالت طائفة: الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر، لدلالة السياق عليها، قالوا: لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد، ولذلك سمي جامعة، وعلى هذا فالمعنى: فأيديهم، أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم هذا قول الفراء والزجاج.(1/291)
وقالت طائفة: الضمير يرجع إلى الأغلال، وهذا هو الظاهر، وقوله: فهي إلى الأذقان أي: واصلة وملزوزة إليها، فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.
وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال الفراء والزجاج: المقمح: هو الغاض بصره بعد رفع رأسه، ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه وقمح.
وقال الأصمعي: بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض، ولم يشرب.
قال الأزهري: لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم، ورءوسهم صعدا، كالإبل الرافعة رءوسها، انتهى.
فإن قيل: فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان؟ قيل أحسن وجه وأبينه، فإن الغل إذا كان في العنق، واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش، فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن، منع الرأس من تصويبه، وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبة لا يستطيع له حركة، ثم أكد هذا المنع والحبس بقوله:
{وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9].
قال ابن عباس: منعهم من الهدى لما سبق في علمه.
والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى، فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم، ومثلها بأحسن تمثيل وبغلّه.
وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها، وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا.
وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق، وتبين له، ثم جحده وكفر به، وعاداه أعظم معاداة وجدت المثل مطابقا له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف، والله المستعان.
فصل
وأما القفل فقال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) [محمد]
قال ابن عباس: يريد على قلوب هؤلاء أقفال. وقال مقاتل: يعني: الطبع على القلب، وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل، فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه، وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن.(1/292)
وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال، فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة، ولو قال: أم على القلوب أقفالها، لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة.
وفي قوله: {أَقْفََالُهََا} بالتعريف: نوع تأكيد، فإنه لو قال: «أقفال» لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الإسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب منزلة القفل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها، والله أعلم.
فصل
وأما الصمم والوقر ففي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18، 171]
وقوله: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى ََ أَبْصََارَهُمْ} (23) [محمد].
وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لََا يُبْصِرُونَ بِهََا وَلَهُمْ آذََانٌ لََا يَسْمَعُونَ بِهََا أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ} (179) [الأعراف].
وقوله: {وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
قال ابن عباس: في آذانهم صمم عن استماع القرآن، وهو عليهم عمى: أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون، أولئك ينادون من مكان بعيد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقال مجاهد: بعيد من قلوبهم.
وقال الفراء: نقول للرجل الذي لا يفهم: كذلك أنت تنادي من مكان بعيد. قال: وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون، انتهى.
المعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
فصل
وأما البكم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة 18، 171] والبكم: جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق. والبكم نوعان: بكم القلب، وبكم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب، ونطق اللسان، وأشدهما بكم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين، وصمم الأذن، فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطلق به ألسنتهم.(1/293)
والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، من سمعه وبصره وقلبه، وقد سدت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم.
ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لََا يُبْصِرُونَ بِهََا وَلَهُمْ آذََانٌ لََا يَسْمَعُونَ بِهََا} [الأعراف: 179].
وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنََا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصََاراً وَأَفْئِدَةً فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلََا أَبْصََارُهُمْ وَلََا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كََانُوا يَجْحَدُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ} [الأحقاف: 26].
فإذا أراد الله سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره، وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
فصل
وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى: {وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} [الجاثية: 33].
وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب، فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير الشر، فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه.
وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا، أو أبغضت كلامه ومجالسته، تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته، فتلك أثر البغض والإعراض عنه، وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول.
وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته، كالعمامة، ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشا غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.
فصل
وأما الصد فقال تعالى: {وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37].
قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول، حملا على زين، وقرأ الباقون (وصدّ) بفتح الصاد، ويحتمل وجهين أحدهما: أعرض، فيكون لازما، والثاني: صد غيره، فيكون متعديا، والقراءتان كالآيتين لا تتناقضان (1).
وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى: {وَقََالَ مُوسى ََ رَبَّنََا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ}
__________
(1) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: (وصدّ) بضم الصاد.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر: (وصدّ) بفتح الصاد. «السبعة في القراءات» لابن مجاهد.(1/294)
{زِينَةً وَأَمْوََالًا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى ََ أَمْوََالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُوا حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ} (88) [يونس]
فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع، ولهذا قال ابن عباس: يريد امنعها، والمعنى قسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. وهذا مطابق لما في التوراة أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر.
وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه، جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودا عليه. فهو حسن منه وأقبح شيئ منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه. فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما، والمقضى المقدر يكون ظلما وجورا وسفها هو فعل جاهل ظالم سفيه.
فصل
وأما الصرف فقال تعالى: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} (127) [التوبة].
فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف، وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له، فالمحل غير صالح، ولا قابل، فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة.
وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23) [الأنفال].
فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجة، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.
ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص، وهو الكبر والتولي والإعراض، فالأول مانع من الفهم، الثاني مانع من الانقياد والإذعان، فأفهام سيئة، وقصود رديئة، وهذه نسخة الضلال، وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى، وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح. والله المستعان.(1/295)
وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127] كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول، فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم. لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول كما قال: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللََّهُ}
[الصف: 5].
وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه.
ولتكن قصة إبليس منك على ذكره تنتفع بها أتم انتفاع، فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره، وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية، فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية، وفروعها صغيرها وكبيرها. وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من عقاب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه، وقد قال تعالى: {فَأَنََّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. وقال {فَأَنََّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] وقال: {فَمََا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (49) [المدثر: 49]. فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم؟
قيل: هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم، وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الردي وأسباب الفلاح، وجعل لهم أسماعا وأبصارا، فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى، وقالوا:
معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك، فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته.
فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم، فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا، فخلاهم، وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه، ومكنهم فيما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه
وهم معرضون، فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله، ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة، ولأنشأهم على غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، الطيب والخبيث، والملائكة والشياطين، والشاء والذئاب، ومعطيها آلاتها وصفاتها، وقواها وأفعالها، ومستعملها فيما خلقت له، فبعضها بطباعها، وبعضها بإرادتها ومشيئتها، وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس، وملكه التام، ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر(1/296)
فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم، فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا، فخلاهم، وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه، ومكنهم فيما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه
وهم معرضون، فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله، ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة، ولأنشأهم على غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، الطيب والخبيث، والملائكة والشياطين، والشاء والذئاب، ومعطيها آلاتها وصفاتها، وقواها وأفعالها، ومستعملها فيما خلقت له، فبعضها بطباعها، وبعضها بإرادتها ومشيئتها، وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس، وملكه التام، ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر
فصل
وأما الإغفال فقال تعالى: {وَلََا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ وَكََانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}
[الكهف: 28].
سئل أبو العباس ثعلب عن قوله: {أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا} [الكهف: 28] فقال: جعلناه غافلا، قال: ويكون في الكلام «أغفلته سميته غافلا، ووجدته غافلا».
قلت: الغفل: الشيء الفارغ، والأرض الغفل: التي لا علامة بها، والكتاب الغفل:
الذي لا شكل عليه، فأغفلناه: تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه، فهو إبقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا، فالغفلة وصفه، والإغفال فعل الله فيه بمشيئته، وعدم مشيئته لتذكره، فكل منهما مقتض لغفلته، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر.
فإن قيل: فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها؟
قيل: القرآن قد نطق بهذا، وبهذا قال تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41] {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125].
فإن قيل: فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر؟
قيل: الأثر وإن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي، فإذا أضيف إليه كان من باب إضافته الشيء إلى
دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبب، وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا.(1/297)
قيل: الأثر وإن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي، فإذا أضيف إليه كان من باب إضافته الشيء إلى
دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبب، وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا.
وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه وتفريطه في أمره، قال مجاهد: كان أمره فرطا أي ضياعا. وقال قتادة: أضاع أكبر الضيعة. وقال السدي: هلاكا. وقال أبو الهيثم: أمر فرط أي متهاون به مضيع، التفريط تقديم العجز. قال أبو إسحاق: من قدم العجز في أمر أضاعه وأهله. قال الليث: الفرط: الأمر الذي يفرط فيه، يقال: كل أمر فلان فرط. قال الفراء:
فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع ما لا ينبغي اتباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
فصل
وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَهُمُ اللََّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]
وقال: {فَلََا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32].
وقال: {يَرْتََابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكََافِرُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا}
[المدثر: 31].
ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله، فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه. فمرض المنافقين مرض شك وريب، ومرض العصاة مرض غي، وشهوة. وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا.
قال ابن الأنباري: أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان: فسد جسمه وتغيرت حاله، ومرضت الأرض: تغيرت وفسدت.
قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة، ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ، وعين مريضة النظر أي: فاترة ضعيفة، وريح مريضة: إذا هب هبوبها، كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة
أي: لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها. وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقصان، ومنه بدن مريض أي: ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته.(1/298)
راحت لأربعك الرياح مريضة
أي: لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها. وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقصان، ومنه بدن مريض أي: ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته.
وقال الأزهري: عن المنذري عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها. قال: والمرض: الظلمة، وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية ... فلا يضيء لها شمس ولا قمر
هذا أصله في اللغة، ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
فصل
وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصََارَهُمْ كَمََا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (110) [الأنعام: 110].
وهذا عطف على أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي نحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.
واختلف في قوله: {كَمََا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] فقال كثير من المفسرين:
المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة. قال ابن عباس، وفي رواية عطاء عنه: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي. قال: وهذا كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال 77].
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم. وهذا معنى حسن، فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التعليل كقوله: {وَأَحْسِنْ كَمََا أَحْسَنَ اللََّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
وقوله: {كَمََا أَرْسَلْنََا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيََاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مََا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152151].
والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية(1/299)
ووصولهم إليها، كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم لأنهم رأوها عيانا، وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (1).
وروى الترمذي من حديث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (2) قال: هذا حديث حسن.
وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلى بن زياد عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله عنها: دعوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيرا ما تدعو بها، قال: «إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» (3).
وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. قال ابن عباس: أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون.
فصل
وأما إزاغة القلوب فقال تعالى: {فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وقال عن عباده المؤمنين إنهم سألوه: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا} [آل عمران: 8].
وأصل الزيغ: الميل، ومنه زاغت الشمس إذا مالت، فإزاغة القلب: إمالته، وزيغه:
ميله عن الهدى إلى الضلال. والزيغ يوصف به القلب والبصر، كما قال تعالى: {وَإِذْ زََاغَتِ الْأَبْصََارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنََاجِرَ} [الأحزاب: 10] وقال قتادة ومقاتل: شخصت فرقا.
وهذا تقريب للمعنى، فإن الشخوص غير الزيغ، وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا
__________
(1) مسلم (2654/ 17) في القدر، باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء.
(2) الترمذي (2140) في القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
(3) أحمد (6/ 91).(1/300)
يطرق، ومنه شخص بصر الميت، ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء أخر، فمالت عنه وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.
وقال الكلبي: مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم.
وقال الفراء: زاغت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيرة تنظر إليه.
قلت: القلب إذا امتلأ رعبا شغله عن ملاحظة ما سوى المخوف، فزاغ البصر عن الوقوع عليه، وهو مقابله.
فصل
وأما الخذلان فقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللََّهُ فَلََا غََالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى وتركت صواحباتها: خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي لا تترك أمري للناس، وارفض الناس لأمري.
والخذلان: أن يخلي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها، والتوفيق ضده: ألا يدعه ونفسه، ولا يكله إليها بل يصنع له ويلطف به، ويعينه ويدفع عنه، ويكلأه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه فقد هلك كل الهلاك ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك» (1).
فالعبد مطروح بين الله، وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله، وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟
__________
(1) أبو داود (5090) في الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، وأحمد (4/ 42).(1/301)
قيل: لعمر الله إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا مع ضعفها، فإذا أعطت بيدها وسالمت الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدا لهم فهل الذنب كل الذنب إلا على الشاة! فكيف والراعي يحذرها ويخوفها وينذرها، وقد أراها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي ودخلت وادي الذئاب؟!
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب «المجالسة»: سمعت ابن أبي الدنيا يقول: إن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى، ويعطى كل واحد من ذلك ما لا يعطى غيره.
لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد القطان، ثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه أن قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر، فيقول: أتدرون ما تقول هؤلاء؟ فيقولون: لا، فيقول: تقول: كذا وكذا، فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب، إلى أن مروا على غنم، وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا، قال: تقول للسخلة؟ الحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان.
قال: فانتهينا إلى الراعي فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم، ولدت سخلة عام أول فأكلها الذئب بهذا المكان.
ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو، ويحنو عنقه إليها فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا، قال: فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه.
قال: فانتهينا إليهم فقلنا: يا هؤلاء إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه، قال: فأناخوا البعير وحطوا عنه فإذا هو كما قال.
فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح: {وَقََالَ الشَّيْطََانُ لَمََّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمََا كََانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلََا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مََا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمََا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمََا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظََّالِمِينَ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (22) [إبراهيم: 22].(1/302)
فصل
وأما الإركاس فقال تعالى: {* فَمََا لَكُمْ فِي الْمُنََافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللََّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمََا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (88) [النساء].
قال الفراء: أركسهم: ردهم إلى الكفر، وقال أبو عبيدة: يقال: ركست الشيء وأركسته، لغتان، إذا رددته، والركس: قلب الشيء على رأسه. أو رد أوله على آخره.
والارتكاس: الارتداد. قال أمية:
فأركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
ومن هذا يقال للروث: الركس لأنه رد إلى حال النجاسة، ولهذا المعنى سمي رجيعا، والركس والنكس والمركوس والمنكوس بمعنى واحد.
قال الزجاج: أركسهم: نكسهم وردهم. والمعنى: أنه ردهم إلى حكم الكفر من الذل والصغار.
وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله، وإن كان إركاسه كان بسبب كسبهم وأعمالهم، كما قال: {بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فهذا توحيده، وهذا عدله، لا ما تقوله القدرية المعطلة من أن التوحيد إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.
فصل
وأما التثبيط فقال تعالى: {وَلَوْ أَرََادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلََكِنْ كَرِهَ اللََّهُ انْبِعََاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقََاعِدِينَ} (46) [التوبة].
والتثبيط: رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله، قال ابن عباس: يريد خذلهم وكسلهم عن الخروج. وقال في رواية أخرى: حبسهم، قال مقاتل: وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين.
وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد فقال: {إِنَّمََا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتََابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (45) [التوبة: 45] {وَلَوْ أَرََادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلََكِنْ كَرِهَ اللََّهُ انْبِعََاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقََاعِدِينَ} (46) [التوبة: 46].
فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله، ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه، فإن من لم يرفع
به، وبرسوله، أو كتابه رأسا، ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا، فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.(1/303)
فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه ولم يريدوا الخروج في طاعة الله، ولم يستعدوا له ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه، فإن من لم يرفع
به، وبرسوله، أو كتابه رأسا، ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا، فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.
ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مََا زََادُوكُمْ إِلََّا خَبََالًا وَلَأَوْضَعُوا} [التوبة: 47].
والخبال: الفساد والاضطراب، فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم، فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف. قال ابن عباس: ما زادوكم إلا خبالا وعجزا وجبنا، يعني: يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم، وتعظيمهم في صدورهم. ثم قال: {وَلَأَوْضَعُوا خِلََالَكُمْ} أي: أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد. قال ابن عباس: يريد: ضعفوا شجاعتكم، يعني: بالتفريق بينهم لتفرق الكلمة فيجبنوا عن العدو. وقال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين. وقال الكلبي: ساروا بينكم يبغونكم العيب، قال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
أي مسرعين، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تبا لهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
أي: أسرع حتى كلت مطيته: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمََّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
قال قتادة: وفيكم من يسمع كلامهم، ويطيعهم. وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم.
ومعناه على هذا القول: وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت: فتضمن «سماعين» معنى «مستجيبين».
وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: المعنى: وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، أي: جواسيس. والقول هو الأول، كما قال تعالى: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:
41] أي: قابلون له، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين، فإن المنافقين، كانوا مختلطين بالمؤمنين، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم، فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة،
ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له. فالقول قول قتادة، وابن إسحاق. والله أعلم.(1/304)
41] أي: قابلون له، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين، فإن المنافقين، كانوا مختلطين بالمؤمنين، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم، فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة،
ولم يخالطها وأرصد بينهم عيونا له. فالقول قول قتادة، وابن إسحاق. والله أعلم.
فإن قيل انبعاثهم إلى طاعته طاعة له فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر، فيكون قعودهم محبوبا له فكيف يعاقبهم عليه؟
قيل: هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب، وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم.
فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح، وكل ممكن فهو جائز عليه، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه، والجميع بالنسبة إليه سواء، وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة، ولم يمنعهم بل هم منعوا أنفسهم، وثبطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد، ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم، فإنه أمرهم به، قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه.
ولا يخفى على من نوّر الله بصيرته، فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن.
فالجواب الصحيح: أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره، واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينا، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، فكان مكروها من هذا الوجه، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه. وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه.
وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم. وهذا الخروج المكروه له ضدان: أحدهما: الخروج المرضيّ المحبوب، وهذا الضد هو الذي يحبه، والثاني: التخلف عن رسوله، والقعود عن الغزو معه. وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا، وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد.(1/305)
فنقول للسائل: قعودهم مبغوض له،، لكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه وأحدهما أكره له من الآخر لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه، ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى، فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه، فإن مفسدة قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين، فتأمل هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟
قلت: قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا. وإن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله، وعن غير أهله، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله. وليس كل محل يصلح لذلك، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلت: وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة؟
قلت: يأباه كمال ربوبيته وملكه، وظهور أسمائه وصفاته، وفي الخلق والأمر. وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له، فإنه يحب أن يذكر، ويشكر، ويطاع، ويوحد، ويعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان، وهو محبته لجهاد أعدائه، والانتقام منهم، وإظهار قدر أوليائه وشرفهم، وتخصيصهم بفضله وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ولو تناهوا في العلم والمعرفة إلى الإحاطة بها، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفى عليهم كنقرة عصفور في بحر.
فصل
وأما التزيين فقال تعالى: {كَذََلِكَ زَيَّنََّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108].
وقال {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [فاطر: 8].
وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
أضاف التزيين إليه منه سبحانه خلقا ومشيئة وحذف فاعله تارة ونسبه إلى سببه ومن أجراه على يده تارة.
وهذا التزيين منه سبحانه حسن، إذ هو ابتلاء واختبار بعيد ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََا مََا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهََا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (7) [الكهف]. وهو من الشيطان قبيح.(1/306)
وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيئ العمل على حسنه، فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه المسيء من المحسن، فإذا آثر القبيح، واختاره، وأحبه ورضيه لنفسه زينه الله له، وأعماه عن رؤية قبيحه بعد أن رآه قبيحا.
وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه فربما رآه حسنا عقوبة له، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غية وظلمه ذهب ذلك النور فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم.
ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة وبالتعريف الأول، فتزيين الرب تعالى عدل وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه وإعراضه.
والرب سبحانه خالق الجميع والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين. والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبََارَكَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فصل
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته فكما قال تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة 41].
وقال: {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} [السجدة: 13] {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} [يونس: 99]
وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته تستلزم وجوده، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.
وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته. فقال: {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [الإنسان: 30]، {وَمََا يَذْكُرُونَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ}
[المدثر: 56].
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟
قيل: إن أريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه،
ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله، وفتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار.(1/307)
قيل: إن أريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه،
ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله، وفتح الطريق له فنعم هو مقدور بهذا الاعتبار.
وإن أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك أن القدرة نوعان:
قدرة مصححة وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف، وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له.
وقدرة مقارنة للفعل مستلزمة له لا يتخلف الفعل عنها، وهذه ليست شرطا في التكليف فلا يتوقف صحته وحسنه عليها، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ الله طاعته مقدور بالاعتبار الأول غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا قيل: هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان، أم لم يخلق له قدرة؟
قيل: خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل هي مناط الأمر والنهي، ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له لا يتخلف عنها، فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل: ولم يخلق هذه القدرة؟
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه، وقد عرفت جوابه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما إماتة قلوبهم ففي قوله: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ} [النمل: 80]
وقوله: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ وَجَعَلْنََا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النََّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمََاتِ لَيْسَ بِخََارِجٍ مِنْهََا} [الأنعام: 122].
وقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا} [يس: 70].
وقوله: {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22].
فوصف الكافر بأنه ميت، وأنه بمنزلة أصحاب القبور، وذلك أن القلب الحي هو الذي يعرف الحق، ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز
بين الحق والباطل، ولا إرادة للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.(1/308)
فوصف الكافر بأنه ميت، وأنه بمنزلة أصحاب القبور، وذلك أن القلب الحي هو الذي يعرف الحق، ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز
بين الحق والباطل، ولا إرادة للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحس بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.
وكذلك وصف سبحانه وتعالى كتابه ووحيه بأنه روح لحصول حياة القلب به، فيكون القلب حيا ويزداد حياة بروح الوحي، فيحصل له حياة على حياة، ونور على نور، نور الوحي على نور الفطرة قال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} [غافر: 15].
وقال: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا} [الشورى: 52].
فجعله روحا لما يحصل به من الحياة، ونورا لما يحصل به من الهدى والإضاءة، وذلك نور وحياة زائدة على نور الفطرة وحياتها، فهو نور على نور، وحياة على حياة.
ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها، وبصاحب الصيب الذي كان حظه منه الصواعق، والظلمات والرعد والبرق، فلا استنار بما أوقد من النار، ولا حيي بما في الصيب من الماء.
ولذلك ضرب هذين المثلين في سورة الرعد لمن استجاب له فحصل على الحياة والنور ولمن لم يستجب له، وكان حظه الموت والظلمة، فأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور، فقال تعالى: {اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ الْمِصْبََاحُ فِي زُجََاجَةٍ الزُّجََاجَةُ كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ نُورٌ عَلى ََ نُورٍ يَهْدِي اللََّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشََاءُ وَيَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ لِلنََّاسِ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (35) [النور: 35].
ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور: ولم يجعله له فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللََّهَ عِنْدَهُ فَوَفََّاهُ حِسََابَهُ وَاللََّهُ سَرِيعُ الْحِسََابِ (39) أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ} (40) [النور].
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله» (1).
__________
(1) أحمد (2/ 176)، وقال الشيخ أحمد شاكر (6644): «إسناده صحيح».(1/309)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمََاتِ مَنْ يَشَأِ اللََّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (39) [الأنعام].
وهذه الظلمات ضد الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن فإن نور الإيمان في قلبه، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، ومشيئته في الناس نور، وكلامه نور، ومصيره إلى نور، والكافر بالضد.
ولما كان النور من أسمائه الحسنى وصفاته، كان دينه نوا، ورسوله نورا، وكلامه نورا، وداره نورا يتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم ويظهر على وجوههم.
وكذلك لما كان الإيمان صفته، واسمه المؤمن لم يعطه إلا أحب خلقه إليه.
وكذلك الإحسان صفته، وهو المحسن ويحب المحسنين، وهو صابر يحب الصابرين، شاكر يحب الشاكرين، عفو يحب أهل العفو، حيي يحب أهل الحياء، ستير يحب أهل الستر، قوي يحب أهل القوة من المؤمنين، عليم يحب أهل العلم من عباده، جواد يحب أهل الجود، جميل يحب المتجملين، بر يحب الأبرار، رحيم يحب الرحماء، عدل يحب أهل العدل، رشيد يحب أهل الرشد، وهو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك، وأعطاه من الصفات ما شاء، وأمسكها عمن يبغضه وجعله على أضدادها، فهذا عدله، وذاك فضله، والله ذو الفضل العظيم.
فصل
وأما جعله القلب قاسيا فقال تعالى: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ لَعَنََّاهُمْ وَجَعَلْنََا قُلُوبَهُمْ قََاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
والقسوة: الشدة والصلابة في كل شيء، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئا، قال ابن عباس: قاسية عن الإيمان، وقال الحسن: طبع عليها.
والقلوب الثلاثة (1): قلب قاس وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق، ولا
__________
(1) جاء عن حذيفة رضي الله عنه موقوفا (القلوب أربعة: قلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب أجرد كأن فيه سراج يزهر فذاك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثله مثل قرحة يحدها قيح ودم، ومثله شجرة يسقيها ماء خبث وطيب، فأيما غلب عليها غلب) المسند (10705) عن أبي سعيد وفي كنز العمال وأشار إلى أنه رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة عن حذيفة، موقوفا، وابن أبي حاتم عن سلمان موقوفا. كنز العمال (1/ 244).(1/310)
تنطبع فيه، وضده القلب اللين المتماسك، وهو السليم من المرض الذي لا يقبل صورة الحق بلينه، ويحفظه بتماسكه، بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه لمعانه ورخاوته كالمائع الذي إذا طبعت فيه الشيء قبل صورته بما فيه من اللين ولكن رخاوته تمنعه من حفظها، فخير القلوب القلب الصلب الصافي اللين، فهو يرى الحق بصفائه ويقبله بلينه، ويحفظه بصلابته.
وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقدها وأصفاها» (1).
وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظََّالِمِينَ لَفِي شِقََاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 5453].
فذكر القلب المريض، وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه، فهذان القلبان شقيان معذبان.
ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به. قال الكلبي:
{فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فترق للقرآن قلوبهم.
وقد بين سبحانه حقيقة الإخبات، ووصف المخبتين في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصََّابِرِينَ عَلى ََ مََا أَصََابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} (35) [الحج: 3534].
فذكر للمخبتين أربع علامات وجل قلوبهم عند ذكره والوجل: خوف مقرون بهيبة ومحبة وصبرهم على أقداره، وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرا وباطنا، وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم.
وهذا إنما يتأتى للقلب المخبت، قال ابن عباس: «المخبتين»: المتواضعين، وقال مجاهد: المطمئنين إلى الله، وقال الأخفش: الخاشعين.
وقال ابن جرير: الخاضعين. وقال الزجاج: اشتقاقه من الخبت وهو المنخفض من الأرض، وكل مخبت متواضع، فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله.
فإن قيل: فإذا كان معناه التواضع والخشوع فكيف عدى بإلى في قوله: {وَأَخْبَتُوا إِلى ََ رَبِّهِمْ} [هود: 23]
__________
(1) انظر حلية الأولياء (1/ 79)، لم نقف إلا على أوله في أحمد (2/ 177).(1/311)
قيل: ضمن معنى أنابوا، واطمأنوا وتابوا، وهذه عبارات السلف في هذا الموضع.
والمقصود: أن القلب المخبت ضد القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتا إليه، وبعضها قاسيا، وجعل للقسوة آثارا وللإخبات آثارا.
فمن آثار القسوة: تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك من سوء الفهم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيان ما ذكر به، وهو ترك ما أمر به علما وعملا.
ومن آثار الإخبات: وجل القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه.
فصل
وأما تضييق الصدر، وجعله حرجا لا يقبل الإيمان فقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ}
[الأنعام: 125].
والحرج: هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم، يقال: رجل حرج وحرج أي:
ضيق الصدر، قال الشاعر:
لا حرج الصدر ولا عنيف
وقال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم، ما الحرجة فيكم؟ قالوا: الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.
وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: ايتوني رجلا من كنانة، وجعلوه راعيا فأتوه به، فقال عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ فقال: الشجرة تحدث بها الأشجار الكثيرة فلا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.
قال ابن عباس: يجعل صدره ضيقا حرجا، إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإن ذكر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك.
ولما كان القلب محلا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبد وسع صدره وشرحه فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيق صدره، وأحرجه فلم يجد محلا يدخل فيه فيعدل عنه، ولا يساكنه.
وكل إناء فارغ إذا دخل في الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق، إلا القلب
اللين، فكلما أفرغ الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى.(1/312)
وكل إناء فارغ إذا دخل في الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق، إلا القلب
اللين، فكلما أفرغ الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات قدرة الرب تعالى.
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» (1).
فشرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أن شرحه من أجل النعم، وتضييقه من أعظم النقم، فالمؤمن منشرح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدار منه على شهواتها ومحابها. فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له لفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له، فإنها سجن المؤمن، فإذا بعثه الله يوم القيامة رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فشرح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير.
وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره.
وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شرح صدره له، وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام.
فإن قلت: فما الأسباب التي تشرح الصدر والتي تضيقه؟
قلت: السبب الذي يشرح الصدر: النور الذي يقذفه الله فيه، فإذا دخله ذلك النور أنار وانشرح.
فإن قلت: فهل يمكنه اكتساب هذا النور أم هو وهبي؟
قلت: هو وهبي وكسبي: واكتسابه أيضا مجرد موهبة من الله تعالى فالأمر كله لله والحمد كله له والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء البتة، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابا، ومانحها من يشاء، ومانعها من يشاء، إذا أراد بعبده خيرا وفقه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده في الرغبة، والرهبة إليه فإنهما مادتا التوفيق فبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق.
فإن قلت: فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد.
__________
(1) انظر: الدرر المنثور (3/ 44) وعزاه لعبد بن حميد، ولم نقف عليه في الترمذي.(1/313)
قلت: نعم والله، وهما مجرد فضله ومنته، وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما ويحبسهما عمن لا يصلح لهما، فإن قلت: فما ذنب من لا يصلح؟
قلت: أكثر ذنوبه أنه لا يصلح لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، استحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم وجحد إلاهيته والشرك به والسعي في مساخطه أحب إليه من شكره وتوحيده والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه، وأي ذنب فوق هذا؟
فإذا أمسك الحكم العدل توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عدل فيه وانسدت عليه أبواب الهداية، وطرق الرشاد فأظلم قلبه فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، لو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالا وكفرا.
وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذا الآية، وما تضمنته من أسرار التوحيد والقدر والعدل وعظمة شأن الربوبية صار لقلبه عبودية أخرى، ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار، وأن الرب تعالى رب كل شيء ومليكه من الأعيان والصفات الأفعال، والأمر كله بيده والحمد له وأزمّة الأمور بيده ومرجعها كلها إليه.
ولهذه الآية شأن فوق عقولنا وأجل من أفهامنا، وأعظم مما قال فيها المتكلمون الذين ظلموها معناها، وأنفسهم كانوا يظلمون تالله لقد غلظ عنها حجابهم وكثفت عنها أفهامهم، ومنعتهم من الوصول إلى المراد بها أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها.
فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، لا التوحيد والعدل الذي يقوله معطلو الصفات، ونفاة القدر.
وتضمنت إثبات الحكمة والقدرة والشرع والقدر والسبب والحكم والذنب والعقوبة ففتحت للقلب الصحيح بابا واسعا من معرفة الرب تعالى بأسمائه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وحكمته في شرعه، وقدره، وعدله في عقابه، وفضله في ثوابه.
وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيوميته وإلهيته، وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ومردها إلى ممال حكمته، وأن المهدي من خصه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته، وأن الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته، ومحبته، كأنما يتصاعد في السماء، وليس ذلك في قدرته، وأن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره وجحد كمال ربوبيته، وكفر بنعمته، وآثر عبادة الشيطان على عبوديته، فسد عليه باب توفيقه وهدايته
وفتح عليه أبواب غيه وضلاله فضاق صدره، وقسا قلبه وتعطلت من عبودية ربها جوارحه، وامتلأت بالظلمة جوانحه.(1/314)
وتضمنت كمال توحيده وربوبيته وقيوميته وإلهيته، وأن مصادر الأمور كلها عن محض إرادته ومردها إلى ممال حكمته، وأن المهدي من خصه الله بهدايته وشرح صدره لدينه وشريعته، وأن الضال من جعل صدره ضيقا حرجا عن معرفته، ومحبته، كأنما يتصاعد في السماء، وليس ذلك في قدرته، وأن ذلك عدل في عقوبته لمن لم يقدره حق قدره وجحد كمال ربوبيته، وكفر بنعمته، وآثر عبادة الشيطان على عبوديته، فسد عليه باب توفيقه وهدايته
وفتح عليه أبواب غيه وضلاله فضاق صدره، وقسا قلبه وتعطلت من عبودية ربها جوارحه، وامتلأت بالظلمة جوانحه.
والذنب له حيث أعرض عن الإيمان، واستبدل به الكفر والفسوق والعصيان، ورضي بموالاة الشيطان، وهانت عليه معاداة الرحمن، فلا يحدث نفسه بالرجوع إلى مولاه، ولا يعزم يوما عن إقلاعه عن هواه، قد ضاد الله في أمره، بحب ما يبغضه ويبغض ما يحبه، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه، يغضب إذا رضي الرب، ويرضى إذا غضب.
هذا وهو يتقلب في إحسانه، ويسكن في داره، ويتغذى برزقه، ويتقوى على معاصيه بنعمه، فمن أعدل منه سبحانه عما يصفه به الجاهلون والظالمون إذا جعل الوحي على أمثال هذا من الذين لا يؤمنون.
فصل
وإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر.
وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان، وحقائق العبودية، وما يصححها، وما يفسدها، وتفاوتت معرفة الأسماء والصفات، والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور. قال تعالى: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ وَجَعَلْنََا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النََّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمََاتِ لَيْسَ بِخََارِجٍ مِنْهََا} [الأنعام: 122].
وقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].
فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور عن حقيقة المثل الأعلى مستويا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن، فيشهد بقلبه ربا عظيما قاهرا قادرا أكبر من كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. السموات السبع قبضة إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع والشجر على إصبع، والثري على إصبع، ثم يهزهن ثم يقول: «أنا الملك» (1).
__________
(1) البخاري (7513) في التوحيد، باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم (2786/ 19) في صفات المنافقين، باب: صفة القيامة والجنة والنار.(1/315)
فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد، يحيط ولا يحاط به، ويحصر خلقه ولا يحصرونه، ويدركهم ولا يدركونه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه.
ثم يشهده في علمة فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جواد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخص واحد منهم ثم أعطى الخلق كلهم مثل ذلك الجمال لكانت نسبته إلى جمال الرب سبحانه دون نسبة سراج ضعيف إلى ضوء الشمس.
ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش.
ولو كان جودهم على رجل واحد، وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر.
وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر.
وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته، فلو فرض البحر المحيط بالأرض مدادا تحيط به سبعة أبحر، وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلاما لفنى ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفذ، فهو أكبر في عمله من كل عالم، وفي قدرته من كل قادر، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غنى، وفي علوه من كل عال، وفي رحمته من كل رحيم.
استوى على عرشه، واستولى على خلقه، منفرد بتدبير مملكته، فلا قبض، ولا بسط ولا منع، ولا هدى، ولا ضلال، ولا سعادة، ولا شقاوة، ولا موت، ولا حياة، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، لا يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السموات والأرض، ولا له شركة في ملكها. ولا يحتاج إلى وزير، ولا ظهير، ولا معين، ولا يغيب فيخلفه غيره، ولا يعي فيعينه سواه، ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء.
فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به، وهو مشهد الإلهية فيشهد سبحانه متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وفصله في ثوابه، فيشهد ربا قيوما، متكلما آمرا ناهيا، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب. قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأقام على عباده الحجة البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدي من
يشاء منه نعمة وفضلا، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا، ينزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم. لم يخلقهم عبثا، ولم يتركهم سدى، بل أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم، فلله عليهم حكم وأمر في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة.(1/316)
فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به، وهو مشهد الإلهية فيشهد سبحانه متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وفصله في ثوابه، فيشهد ربا قيوما، متكلما آمرا ناهيا، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب. قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأقام على عباده الحجة البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدي من
يشاء منه نعمة وفضلا، ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا، ينزل إليهم أوامره، وتعرض عليه أعمالهم. لم يخلقهم عبثا، ولم يتركهم سدى، بل أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم، فلله عليهم حكم وأمر في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة.
وينكشف له في هذا النور عدله وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه، وبره في شرعه وأحكامه، وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف حكيم، قد بهرت حكمته العقول، وأقرت بها الفطر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة.
وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال وتنزيهه، سبحانه عن النقص والمثال، وأن كل كمال في الوجود فمعطيه وخالقه أحق به أولى، وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزّه متعال عنه.
وينكشف له في ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر، وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهده عيانا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به.
فمن أراد سبحانه هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكا، ولا منفذا، والله الموفق المعين.
وهذا الباب يكفي اللبيب في معرفة القدر والحكمة، ويطلعه على العدل والتوحيد اللذين تضمنهما قوله: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) [آل عمران] (1).
السلطان في القرآن
قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى: {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً سُبْحََانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ بِهََذََا أَتَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (68) [يونس]، يعني: ما عندكم من حجة بما قلتم إن هو إلا قول على الله بلا علم وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ} [النجم: 23]، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم وقال تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطََانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتََابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (157) [الصافات]. يعني حجة واضحة فأتوا بها إن كنتم صادقين في دعواكم. إلا موضعا
__________
(1) شفاء العليل (1/ 281225).(1/317)
واحدا اختلف فيه وهو قوله: {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} (29) [الحاقة]، فقيل:
المراد به القدرة والملك أي: ذهب عني مالي وملكي فلا مال لي ولا سلطان. وقيل: هو على بابه أي: انقطعت حجتي وبطلت فلا حجة لي.
والمقصود أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره فله بها سلطان على الجاهلين بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن، فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المخالف وإن أظهر العناد المكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل مقهور تحت سلطانها، بل سلطان الجاه إن لم يكن معه علم يستاس به فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود، ونحوها قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه فهو إمّا لضعف حجته وسلطانه وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها ظاهرة على الباطل قاهرة له (1).
وأيضا لما كان الغضب مركب الشيطان، فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان، أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه. فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية، ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه، وجاء مدد الإيمان والتوكل، فأبطل سلطان الشيطان، ف {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) [النحل].
قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة.
والصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم، ولا من جهة الحجة، ولا من جهة القدرة. والقدرة داخلة في مسمى السلطان، وإنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده، قد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين والمتوكلين، فقال في سورة الحجر: {قََالَ رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلََّا عِبََادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قََالَ هََذََا صِرََاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ إِلََّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغََاوِينَ} (42) [الحجر].
وقال في سورة النحل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}
__________
(1) مفتاح دار السعادة (6463).(1/318)
{إِنَّمََا سُلْطََانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (100) [النحل].
فتضمن ذلك أمرين: أحدهما: نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص والثاني: إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه.
ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: {قََالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلََّا عِبََادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 8382].
فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله، عز وجل، وأخلص له وتوكل عليه، لا يقدر على إغوائه وإضلاله، وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله، فهؤلاء رعيته فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم.
فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع، فكيف ينفيه في قوله:
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلََّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهََا فِي شَكٍّ} [سبأ: 2120].
وقيل: إن كان الضمير في قوله: {وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ} عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط، ويكون الاستثناء منقطعا: أي لكن امتحنّاهم بإبليس، لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، وإن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} وهو الظاهر، ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي، ويكون المعنى: وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة.
قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا، ولأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (1) وليس هو في وقت هذه المقالة.
مستيقنا أن ما قدره فيه يتم، وإنما قال ظانا، فلما اتبعوا وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم، فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين، يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء.
وعلى هذا فيكون السلطان هاهنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها، وهم الذين تولوه وأشركوا به، فيكون السلطان ثابتا لا منفيا، فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات.
__________
(1) قال تعالى في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا إِنََاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلََّا شَيْطََاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللََّهُ وَقََالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبََادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذََانَ الْأَنْعََامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللََّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطََانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللََّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرََاناً مُبِيناً} (119).(1/319)
فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم، حيث يقول لأهل النار {وَمََا كََانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقررا له، لا منكرا، فدل على أنه كذلك.
قيل: هذا سؤال جيد، وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع: هو الحجة والبرهان، أي: ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم، كما قال ابن عباس: ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم. أي: ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، وصدقتم مقالتي، واتبعتموني بلا برهان ولا حجة. وأما السلطان الذي أثبته في قوله: {إِنَّمََا سُلْطََانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال وتمكنه منهم، بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه، ولا يدعهم يتركونه، كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (83) [مريم: 83] قال ابن عباس: تغريهم إغراء. وفي رواية:
تشليهم إشلاء (1). وفي لفظ: تحرضهم تحريضا. وفي آخر: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
وفي آخر: توقدهم: أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته. قال الأخفش: توهجهم.
وحقيقة ذلك أن (الأز) هو التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز: لأن الماء يتحرك عند الغليان. ومنه الحديث: «لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (2) قال أبو عبيدة: «الأزيز» الالتهاب والحركة، كالتهاب النار في الحطب، يقال أز قدرك، أي ألهب تحتها بالنار وأيزت القدر إذا اشتد غليانها، فقد حصل للأز معنيان: أحدهما: التحريك، والثاني: الإيقاد والإلهاب، وهما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب.
فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك، ولكن ليس له على ذلك حجة وبرهان، وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم، لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم، بموافقته ومتابعته فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سلّط عليهم، عقوبة لهم.
وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللََّهُ لِلْكََافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
__________
(1) قال ابن جرير قال ابن زيد: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} فقرأ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36) قال تؤزهم أزا: تشليهم إشلاء على معاصى الله تبارك وتعالى وتغريهم عليها كما يغري الإنسان الآخر على الشيء ا. هـ. في القاموس: أشلى دابته: أراها المخلاة لتأتيه، والناقة: دعاها للحلب.
(2) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وابن خزيمة: عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.(1/320)
فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته.
والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا، حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ له عليه تسلط وقهرا، فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه يوجب سلطانه، والجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده، ومردها، وله الحجة البالغة، فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك: {فَلِلََّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمََاوََاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيََاءُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (37) [الجاثية] (1).
السمع في القرآن
والسمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به فهم المعنى، ويراد به القبول والإجابة.
والثلاثة في القرآن.
فمن الأول: قوله: {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ وَاللََّهُ يَسْمَعُ تَحََاوُرَكُمََا إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) [المجادلة].
وهذا أصرح ما يكون في إثبات صفة السمع لله، ذكر الماضي والمضارع واسم الفاعل، سمع ويسمع وهو سميع وله السمع، كما قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا} (2).
والثاني: سمع الفهم، كقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ} أي: لأفهمهم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23) [الأنفال] لما في قلوبهم من الكبر والإعراض عن قبول الحق، ففيهم آفتان، إحداهما: أنهم لا يفهمون الحق لجهلهم، ولو فهموه لتولوا عنه وهم معرضون عنه لكبرهم، وهذا غاية النقص والعيب.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 10198).
(2) البخاري معلقا (الفتح 13/ 372) في التوحيد، باب: {وَكََانَ اللََّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}، والنسائي (3460) في الطلاق، باب: الظهار، وابن ماجة (188) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، أحمد (6/ 46).(1/321)
والثالث: سمع القبول والإجابة: كقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مََا زََادُوكُمْ إِلََّا خَبََالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلََالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمََّاعُونَ لَهُمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالظََّالِمِينَ} (47) [التوبة: 47]، أي قابلون مستجيبون، ومنه قوله: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42] أي قابلون له مستجيبون لأهله، ومنه قول المصلى: «سمع الله لمن حمده»، أي أجاب الله حمد من حمده ودعاء من دعاه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمد، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم» (1) أي يجيبكم (2).
الصبر في القرآن
قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا.
ونحن نذكر الأنواع التي سيق فيها الصبر، وهي عدة أنواع:
أحدها: الأمر به كقوله: {وَاصْبِرْ وَمََا صَبْرُكَ إِلََّا بِاللََّهِ} [النحل: 127]. {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48].
الثاني: النهي عما يضاده، كقوله: {وَلََا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، وقوله: {وَلََا تَهِنُوا وَلََا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139]، وقوله: {وَلََا تَكُنْ كَصََاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]. وبالجملة فكل ما نهى عنه فإنه يضاد الصبر المأمور به.
الثالث: تعليق الفلاح به كقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا} [آل عمران: 200] فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله: {أُولََئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمََا صَبَرُوا} [القصص: 54]، وقوله: {إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ} [الزمر: 10] قال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال الله تعالى: {إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ}
[الزمر: 10]، قال: كالماء المنهمر.
الخامس: تعليق الإمامة في الدين به وباليقين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا لَمََّا صَبَرُوا وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يُوقِنُونَ} (24) [السجدة] فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
__________
(1) البخاري (796) في الأذان، باب: فضل: «اللهم ربنا لك الحمد» ومسلم (409/ 71) في الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين.
(2) مفتاح دار السعادة (8685).(1/322)
السادس: ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم، قال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ مَعَ الصََّابِرِينَ}
[الأنفال: 46]. قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته.
السابع: أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لهم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ (156) أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (157) [البقرة]. قال بعض السلف: وقد عزي على مصيبة نالته، فقال: ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها.
الثامن: أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدّة، وأمر بالاستعانة به، فقال، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ} [البقرة: 45]، فمن لا صبر له لا عون له.
التاسع: أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى، فقال تعالى: {بَلى ََ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هََذََا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلََافٍ مِنَ الْمَلََائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (125) [آل عمران] لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر».
العاشر: أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره، فما استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لََا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].
الحادي عشر: أنه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال:
{وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ (23) سَلََامٌ عَلَيْكُمْ بِمََا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدََّارِ} (24) [الرعد].
الثاني عشر: أنه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به، ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال: {وَإِنْ عََاقَبْتُمْ فَعََاقِبُوا بِمِثْلِ مََا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصََّابِرِينَ} (126) [النحل]. فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التي في الجواب.
الثالث عشر: أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (11) [هود]. وهؤلاء ثنية الله (1) من نوع الإنسان المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة، والفرح والفخر عند النعمة، ولا خلاص من هذا الذم إلا بالصبر والعمل الصالح، كما لا تنال المغفرة والأجر الكبير إلا بهما.
__________
(1) ثنية الله: أي الذين استثناهم الله.(1/323)
الرابع عشر: أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور، أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذََلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (43) [الشورى]، وقال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا أَصََابَكَ إِنَّ ذََلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
الخامس عشر: أنه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم وهي الكلمة الحسنى، وأخبر أنه إنما أنالهم ذلك بالصبر، فقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
السادس عشر: أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قََاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمََا وَهَنُوا لِمََا أَصََابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَمََا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكََانُوا وَاللََّهُ يُحِبُّ الصََّابِرِينَ} (146) [آل عمران].
السابع عشر: أنه سبحانه قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون، في موضعين من كتابه، في سورة القصص في قصة قارون، وأن الذين أوتوا العلم قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي: {وَيْلَكُمْ ثَوََابُ اللََّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً وَلََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الصََّابِرُونَ} (80) [القصص: 80]. وفي سورة حم السجدة، حيث أمر العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه وبينه عداوة حبيب قريب، ثم قال: {وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (35) [فصلت].
الثامن عشر: أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} (5) [إبراهيم: 5]، وقال تعالى في لقمان {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللََّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيََاتِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} (31) [لقمان]، وقال في قصة سبأ: {فَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ وَمَزَّقْنََاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوََاكِدَ عَلى ََ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} (33) [الشورى]. فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر.
التاسع عشر: أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: {إِنََّا وَجَدْنََاهُ صََابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ} [ص: 44]، فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا. وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.(1/324)
العشرون: أنه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن من أهل الحق والصبر، وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) [سورة العصر].
ولهذا قال الشافعي: لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم، وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم وقوة العمل، وهما الإيمان والعمل الصالح، وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر وأخيه ذلك وقاعدته وساقه الذي يقوم عليه إنما هو الصبر.
الحادي والعشرون: أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم، فقال تعالى: {ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} (18) [البلد]. وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان، والناس بالنسبة إليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الأقسام، وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه، ويليه من له صبر ولا رحمة عنده، ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له.
الثاني والعشرون: أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها، فقرنه بالصلاة، كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلََاةِ} [البقرة: 45].
وقرنه بالأعمال الصالحة عموما، كقوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} [هود: 11] وجعله قرين التقوى، كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90].
وجعله قرين الشكر كقوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وجعله قرين الحق، كقوله: {وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
وجعله قرين الرحمة، كقوله: {وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17].
وجعله قرين اليقين كقوله: {لَمََّا صَبَرُوا وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يُوقِنُونَ} (24) [السجدة: 24].
وجعله قرين الصدق كقوله: {وَالصََّادِقِينَ وَالصََّادِقََاتِ وَالصََّابِرِينَ وَالصََّابِرََاتِ} [الأحزاب: 35].
وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا، والله أعلم (1).
__________
(1) عدة الصابرين (7671).(1/325)
صلاة الله عز وجلّ على عباده في القرآن
صلاة الله سبحانه نوعان: عامة، وخاصة:
أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلََائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» (1) وفي حديث آخر أن امرأة قالت له: صل عليّ وعلي زوجي.
قال: «صلى الله عليك وعلى زوجك» (2).
النوع الثاني: صلاته الخاصة: على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال:
أحدها: أنها رحمته.
قال إسماعيل: حدثنا نصر بن علي، حدثنا محمد بن سواء، عن جويبر، عن الضحاك قال: صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء.
وقال المبرد: أصل الصلاة الرحمة، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رحمة، واستدعاء الرحمة من الله.
وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
والقول الثاني: أن صلاة الله مغفرته.
قال إسماعيل: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا محمد بن سواء، عن جويبر، عن الضحاك {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}، قال: صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء وهذا القول هو من جنس الذي قبله وهما ضعيفان لوجوه:
أحدها: أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: {وَبَشِّرِ الصََّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ (156) أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (157) [البقرة] فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما، هذا أصل العطف وأما قولهم:
وألفى قولها كذبا ومينا
__________
(1) البخاري (6359) في الدعوات، باب: هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أبو داود (1533) في الصلاة، باب: الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم.(1/326)
فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب.
الوجه الثاني: أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كل شيء، فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها ومقصودها، وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك، والشك جزء مسمى الريب، وتفسير المغفرة بالستر، وهي جزء مسمى المغفرة، وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان، وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير (1).
الفاجر في عرف القرآن
واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا، كقوله، تعالى: {إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجََّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (14) [الانفطار] وقوله تعالى: {كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الفُجََّارِ لَفِي سِجِّينٍ} (7) [المطففين]، وفي لفظ آخر في حديث البراء: «إن الكافر إذا كان في الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة شداد غضاب معهم ثياب نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه، فتنزع روحه كما ينزع السفود الكثير الشعب من صفوف المبتل، فإذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء» (2) (3).
القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء في القرآن وبيان انقسامها إلى كوني وديني
ما كان من الكوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه. وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته؟
وشرعه. وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله.
والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر وأحكامه جارية على خلقه قدرا وشرعا، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري.
__________
(1) جلاء الإفهام (82، 83).
(2) أبو داود (4753) في السنة، باب: في المسائلة في القبر وفي عذاب القبر، وأحمد (4/ 287)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 53): «رجال أحمد رجال صحيح».
(3) الروح (85).(1/327)
وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق، والأمران غير متلازمين. فقد يقضي ويقدر ما لا يأمره به ولا يشرعه، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره. ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر. وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي.
إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب الله نوعان: كوني قدري، كقوله تعالى: {فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]، وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69]
وشرعي ديني، كقوله: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ} [الإسراء: 23] أي أمر وشرع.
ولو كان قضاء كونيا لما عبد غير الله.
والحكم أيضا نوعان: فالكوني كقوله: {قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك.
والديني كقوله: {ذََلِكُمْ حُكْمُ اللََّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]، وقوله: {إِنَّ اللََّهَ يَحْكُمُ مََا يُرِيدُ} [المائدة: 1].
وقد يرد بالمعنيين معا كقوله: {وَلََا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26]. فهذا يتناول حكمه الكوني، وحكمه الشرعي.
والإرادة أيضا نوعان: فالكونية كقوله تعالى: {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقوله:
{وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، وقوله: {إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقوله:: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5].
والدينية كقوله: {يُرِيدُ اللََّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلََا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:
{وَاللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا، ولوقعت التوبة من جميع المكلفين.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة هل هما متلازمان أم لا؟
فقالت القدرية: الأمر يستلزم الإرادة، واحتجوا بحجج لا تندفع.
وقالت المثبتة: الأمر لا يستلزم الإرادة، واحتجوا بحجج لا تندفع.
والصواب: أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا، وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا، كإيمان من أمره، ولم يوفقه
للإيمان مراد له دينا ولا كونا. وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا. وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كونا وقدرا.(1/328)
والصواب: أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا، وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا، كإيمان من أمره، ولم يوفقه
للإيمان مراد له دينا ولا كونا. وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا. وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كونا وقدرا.
وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده، وإنما أحب منه عزمه على الامتثال وأن يوطن نفسه عليه. وكذلك أمره محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة. وأما أمره من علم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسوله، ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه فلم تحصل مصلحة الأمر منهم وحصلت من الأمر بالذبح.
وأما الكتابة: فالكونية كقوله: {كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (21) [المجادلة: 21]، وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ} (105) [الأنبياء].
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلََّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ} (4) [الحج].
والشرعية الأمرية كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيََامُ} [البقرة: 183].
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ} [النساء: 23].
إلى قوله: {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24].
وقوله: {وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
فالأولى كتابة بمعنى القدر، والثانية كتابة بمعنى الأمر.
فالأمر الكوني كقوله: {إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) [يس].
وقوله: {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (50) [القمر].
وقوله: {وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47].
وقوله: {مِنََّا وَكََانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} [مريم: 21].
وقوله: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا} [الإسراء: 16]
فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى قضينا ذلك وقدرناه.
وقالت طائفة: بل هو أمر ديني. والمعنى قضينا ذلك وقدرناه.
وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا، والقول
الأول أرجح لوجوه:(1/329)
وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا، والقول
الأول أرجح لوجوه:
أحدها: أن الإضمار على خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.
الثاني: أن ذلك يستلزم إضمارين: أحدهما: أمرناهم بطاعتنا، والثاني: فخالفونا أو عصونا، ونحو ذلك.
الثالث: أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه. كقولك: أمرته ففعل، وأمرته فقام، وأمرته فركب، لا يفهم المخاطب غير هذا.
الرابع: أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك، بل هو سبب للنجاة والفوز.
فإن قيل: أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك.
قيل: هذا يبطل بالوجه الخامس: وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين.
يوضحه الوجه السادس: أن الأمر لو كان الطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم.
ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال: أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها، فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم: نحن لم يرسل إلينا.
السابع: أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم، وإلا فقيل ذلك: هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم. قال تعالى: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ََ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهََا مُصْلِحُونَ} (117) [هود].
فإذا أرسل الرسل فكذبوهم يوم أراد إهلاكها، فأمر رؤساءها ومترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا دينيا، بالفسق في القرية، فاجتمع أهلها على تكذيبهم، وفسق رؤسائهم فحينئذ جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك.
والمقصود ذكر الأمر الكوني الديني، ومن الديني قوله: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ}
[النحل: 90].
وقوله: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} [النساء: 58]. وهو كثير.
وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى: {وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ}
[البقرة: 102] أي بمشيئته وقدره.(1/330)
وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى: {وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ}
[البقرة: 102] أي بمشيئته وقدره.
وأما الديني فكقوله: {مََا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهََا قََائِمَةً عَلى ََ أُصُولِهََا فَبِإِذْنِ اللََّهِ}
[الحشر: 5] أي بأمره ورضاه.
وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرََاماً وَحَلََالًا قُلْ آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللََّهِ تَفْتَرُونَ} (59) [يونس: 59].
وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكََاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مََا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللََّهُ} [الشورى: 21]
وأما الجعل الكوني فكقوله: {إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9].
وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]
وقوله: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً} [النحل: 72]، وهو كثير.
وأما الجعل الديني فكقوله: {مََا جَعَلَ اللََّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلََا سََائِبَةٍ وَلََا وَصِيلَةٍ وَلََا حََامٍ}
[المائدة: 103]، أي ما شرع ذلك ولا أمر به، وإلا فهو مخلوق له واقع بقدره ومشيئته.
وأما قوله: {جَعَلَ اللََّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ قِيََاماً لِلنََّاسِ} [المائدة: 97]. فهذا يتناول الجعلين. فإنه جعلها كذلك بقدره وشرعه. وليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه، بل إطلاق اللفظ وإرادة المشترك بين معنييه، فتأمله.
وأما الكلمات الكونية فكقوله: {كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (33) [يونس]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى ََ عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ بِمََا صَبَرُوا} [الأعراف:
137].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق» (1).
فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكون، ولو كانت الكلمات الدينية التي يأمر بها وينهى لكانت ما يجاوزهن الفجار والكفار.
وأما الديني فكقوله. {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} (6) [التوبة: 6] والمراد به القرآن.
__________
(1) أحمد (3/ 419)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 130): «رجال أحد إسنادي أحمد رجال صحيح».(1/331)
وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (1)، أي إباحته ودينه.
وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ مِنَ النِّسََاءِ} [النساء: 3].
وقلة اجتمع النوعان في قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]
فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحرم، وكلماته التي يخلق بها ويكون، فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه وتجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.
وأما البعث الكوني فكقوله: {فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ أُولََاهُمََا بَعَثْنََا عَلَيْكُمْ عِبََاداً لَنََا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}
[الإسراء: 5].
وقوله: {فَبَعَثَ اللََّهُ غُرََاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31].
وأما البعث الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقوله: {كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً فَبَعَثَ اللََّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213].
وأما الإرسال الكوني فكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (83) [مريم].
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} [الفرقان: 48].
وأما الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وقوله: {إِنََّا أَرْسَلْنََا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شََاهِداً عَلَيْكُمْ كَمََا أَرْسَلْنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ رَسُولًا} (15) [المزمل].
وأما التحريم الكوني فكقوله: {وَحَرَّمْنََا عَلَيْهِ الْمَرََاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12].
وقوله: {قََالَ فَإِنَّهََا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26].
وقوله: {وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا أَنَّهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} (95) [الأنبياء].
وأما التحريم الديني فكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ} [النساء: 23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] و {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مََا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]، و {وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا} [البقرة: 275].
وأما الإيتاء الكوني فكقوله: {وَاللََّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشََاءُ} [البقرة: 247]، وقوله:
{قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ} [آل عمران: 26] وقوله: {وَآتَيْنََاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}
[النساء: 54].
__________
(1) مسلم (1218/ 147) في الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود (1905) في المناسك، باب: صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وأحمد (5/ 73).(1/332)
وأما الإيتاء الديني كقوله: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقوله: {خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63].
وأما قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:
269]، فهذا يتناول النوعين، فإنه يؤتيها من يشاء أمرا ودينا وتوفيقا وإلهاما.
وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه الأمور، الديني منها، وأعداؤه واقفون مع القدر الكوني، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر، ودين الرسل وأتباعهم دين الأمر. فهم يدينون بأمره ويؤمنون بقدره، وخصماء الله يعصون أمره ويحتجون بقدره، ويقولون: نحن واقفون مع مراد الله نعم مع مراده الكوني لا الديني ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني، ولا يكون ذلكم عذرا لكم عنده، إذ لو عذر بذلك لم يذم أحدا من خلقه، ولم يعاقبه، ولم يكن في خلقه عاص ولا كافر. ومن زعم ذلك فقد كفر بالله وكتبه كلها وجميع رسله. وبالله التوفيق (1).
__________
(1) شفاء العليل (2/ 297287).(1/333)
تفسير القرآن وتأويله
حقيقة التأويل
هو إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف، وتبديل المعنى، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه، والله يعلم بطلانه (1).
وأيضا قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جََاءَتْ رُسُلُ رَبِّنََا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]. تأويل ما أخبرت به الرسل هو مجيء حقيقته ورؤيتها عيانا، ومنه تأويل الرؤيا وهو حقيقتها الخارجة التي ضربت للرائي في عالم المثال.
ومنه التأويل بمعنى العاقبة كما قيل في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذََلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] قيل: أحسن عاقبة، فإن عواقب الأمور هي حقائقها التي تؤول إليها.
ومنه التأويل بمعنى التفسير، لأن تفسير الكلام هو بيان معناه وحقيقته التي يراد منه، قالوا ومنه الأول لأنه أصل العدد ومبناه الذي يتفرع (2).
درجات التأويل
التأويل ثلاث درجات: قريب، وبعيد، ومتوسط، ولا تنحصر أفراده، والمعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتي مصيبا أو مخطئا، كمن قال لامرأته: إن خرجت من بيتي، فأنت طالق، أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي، فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق المعلق لغو، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي كأبي عبد الرحمن الشافعي، وبعض أهل الظاهر، كما صرح به صاحب «المحلى»، فقال:
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 410، 411).
(2) جلاء الأفهام (115، 116).(1/334)
والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم (1).
ما يدخل فيه التأويل والمجاز
المجاز والتأويل لا يدخل في النصوص، وإنما يدخل في الظاهر المحتمل له.
وهنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي: أن كون اللفظ نصا يعرف بشيئين: أحدهما: عدم احتماله لغير معناه وضعا كالعشرة، والثاني: ما اطرد استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلا، ولا مجازا، وإن قدر تطرق ذلك إلى بعض أفراده. وصار هذا بمنزلة خبر المتواتر لا يتطرق احتمال الكذب إليه، وإن تطرق إلى كل واحد من أفراده بمفرده.
وهذه عصمة نافعة تدلك على خطأ كثير من التأويلات السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها وتأويلها، والحالة هذه غلط، فإن التأويل إنما يكون الظاهر قد ورد شاذا مخالفا لغيره، ومن السمعيات، فيحتاج إلى تأويله لتوافقها، فأما إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة، صارت بمنزلة النص وأقوى، وتأويلها ممتنع فتأمل هذا (2).
الأقوال في التأويل وبيان خطورته
إذا سئل عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء، والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما وحديثا.
قال أبو حاتم الرازي: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: الأصل قرآن أو سنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح الإسناد فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر الفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، فإذا تكافأت الأحاديث.
فأصحها إسنادا أولاها، وليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع سعيد بن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال لأصل: لم؟ وكيف؟ وإنما يقال للفرع: لم؟ فإذا صح قياسه على الأصل وقامت به الحجة، رواه الأصم عن ابن أبي حاتم.
__________
(1) أعلام الموقعين (4/ 107).
(2) بدائع الفوائد (1/ 15).(1/335)
رأي الجويني في الكف عن التأويل
وقال أبو المعالي الجويني في «الرسالة النظامية، في الأركان الإسلامية»: ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى. والذي نرتضيه رأيا، وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة: فالأولى: الاتباع، وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها. ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين لهم على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع.
فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تعالى. وعند إمام القراء وسيدهم الوقوف على قوله تعالى: {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} [آل عمران: 7] من العزائم، ثم الابتداء بقوله: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ} [آل عمران: 7].
ومما استحسن من كلام مالك أنه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ}
[طه: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلتجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: {لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقوله: {وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا} [القمر: 14] وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا، انتهى كلامه.
رأي الغزالي في التأويل
وقال أبو حامد الغزالي: الصواب للخلف سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل، وما قاله الله ورسوله، بلا بحث وتفتيش.
وقال في كتاب «التفرقة»: الحق: الاتباع والكف عن تغيير الظاهر رأسا، والحذر عن اتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة، وحسم باب السؤال رأسا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث(1/336)
إلى أن قال: ومن الناس من يبادر إلى التأويل ظنا لا قطعا، فإن كان فتح هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بدع صاحبه، وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره، وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظواهر بغير برهان قاطع.
وقال أيضا: كل ما يحتمل التأويل في نفسه، وتواتر نقله، ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان، فمخالفته تكذيب محض، وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد، فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به، وإن كان البرهان يفيد ظنا غالبا، ولا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة، وإن عظم ضرره في الدين فهو كفر.
قال: ولم تجر عادة السلف بهذه المجادلات، بل شددوا القول على من يخوض في الكلام، ويشتغل بالبحث والسؤال.
وقال أيضا: الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف. والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع، وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها.
قال: وقال شيخنا أبو المعالي: يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك. انتهى.
وقال بعض أهل العلم: كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله، من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمََّا تَصِفُونَ}
[الأنبياء: 18].
قال الحسن: هي والله لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة، هل يأمن أن يتناول قوله تعالى: {وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152].
قال ابن عيينة: هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وقد نزه سبحانه نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلّا المرسلين فإنهم إنما يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به فقال تعالى: {سُبْحََانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمََّا يَصِفُونَ (180) وَسَلََامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (181) [الصافات]، وقال تعالى: {سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يَصِفُونَ (159) إِلََّا عِبََادَ اللََّهِ الْمُخْلَصِينَ} (160) [الصافات].
ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها، ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي، وجعلوها عيارا على كلام الله ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة. وأي بناء للإسلام هدموا بها، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى
الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك.(1/337)
ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها، ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي، وجعلوها عيارا على كلام الله ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة. وأي بناء للإسلام هدموا بها، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى
الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك.
فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرا له فيما تأوله هو، وقال: ما الذي حرم عليّ التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وقالوا: كيف نحن نعاقب على تأويلنا. وتؤجرون أنتم على تأويلكم؟
قالوا: ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر من نصوصه بالمعاد، ودلالة النصوص عليها أبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد؟
وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة (رضي الله عنهم)، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب، وطمت الوادي على القرى (1)، وتأولت الدين كله.
فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دلّ عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلّا بالتأويل؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلّا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلّا بالتأويل؟
التأويل عدوّ كل الأديان
وليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلّا رب العباد.
وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، ولكن سلطوا عليها التأويلات فأفسدوها، كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان. فالتحريف تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم بها، والتبديل تبديل لفظ بلفظ آخر، والكتمان جحده. وهذه الأدواء الثلاثة منها غيّرت الأديان والملل، وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد قط مثله في شيء من
__________
(1) طم الماء: غمر، وطم الإناء: ملأه، والقرى كغنى: ميل من التلاع، أو موقعه من الربو في الروضة.
(مصدر).(1/338)
الأديان، ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل. وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بالتأويل، ومن بابه دخلوا، وعلى أساسه بنوا، وعلى نقطه خطوا.
أصناف المتأولة
والمتأولون أصناف عديدة، بحسب الباعث لهم على التأويل، وبحسب قصور أفهامهم ووفورها. وأعظمهم توغلا في التأويل الباطل من فسد قصده وفهمه، فكلما ساء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد انحرافا.
فمنهم من يكون تأويله لنوع هوى من غير شبهة، بل يكون على بصيرة من الحق.
ومنهم من يكون تأويله لنوع شبهة عرضت له أخفت عليه الحق.
ومنهم من يكون تأويله لنوع هدى من غير شبهة، بل يكون على بصيرة من الحق.
ومنهم من يجتمع له الأمران: الهوى في القصد، والشبهة في العلم.
فتنة التأويل وبعض ما أحدثت
وبالجملة فافتراق أهل الكتابين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير، وهلم جرا بالتأويل. وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيليّة والنصيرية من باب التأويل. فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل. فإن محنته إما من المتأولين، وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل، وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل.
فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل! حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم؟
وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل، حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟
وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا، وأوقع الأمة فيما وقّعها فيه حتى الآن غير التأويل؟
وما الذي سفك دم علي رضي الله عنه، وابنه الحسين، وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم غير التأويل؟(1/339)
وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟
وما الذي أراق دم ابن الزبير، وحجر بن عدي، وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟
وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟
وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين، وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟
وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟
وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟
وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟
وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عبادة البيان الذي امتن الله في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان والتبيين. وهل فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له وبين رده وعدم قبوله، ولكن هذا رد جحود ومعاندة، وذاك رد خداع ومصانعة.
رأي ابن رشد في التأويل
قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى ب «الكشف عن مناهج الأدلة». وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة، إلى أن قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ}
[آل عمران: 7]، وهؤلاء أهل الجدل والكلام، وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا لهم، ونعوذ بالله من سوء الظن بالله بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزا من جهة الوضوح والبيان.
فما أبعد من مقصد الشارع من قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه، ثم قال: وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تأملت وجدت ليس يقوم عليها برهان.(1/340)
مثل من أوّل شيئا من القرآن
إلى أن قال: ومثال من أوّل شيئا من الشرع وزعم أن ما أوله هو الذي قصده الشرع:
مثال من أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو أكثرهم، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء الأعظم لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا للأقل من الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمها الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المنفعة لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواء آخر، مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت أمزجة كثير من الناس.
فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير النوع الأول.
فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين.
فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته، وغيروها وبدلوها عرض منه للناس أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس وهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جدا عن موضوعه الأول، ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» (1) يعني بالواحدة: التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله.
__________
(1) أبو داود (4597) في السنة، باب: شرح السنة، والترمذي (2641) في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: «هذا حديث غريب إلخ»، وابن ماجة (3992) في الفتن، باب: افتراق(1/341)
وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح.
وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد (1) فطم الوادي على القرى. هذا كلامه بلفظه.
ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين، وما نال الأمم قديما وحديثا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار، والله المستعان (2).
وأيضا إن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين: أهل المكر والمخادعة، والاحتيال في العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العمليات، وكل فساد في الدين بل والدنيا فمنشؤه من هاتين الطائفتين. فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي الله عنه وعاثت الأمة في دمائها، وكفر بعضها بعضا، وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء، وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه، ويبين أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده (3).
أمثلة للتأويل الفاسد
[1] من هذا إخباره سبحانه بأنه طبع على قلوب الكافرين، وختم عليها وأنه أصمها عن الحق وأعمى أبصارها عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ} [البقرة] والوقف التام هنا ثم قال: {وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ} [البقرة: 7] كقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} [الجاثية: 23].
وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنََا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللََّهُ عَلَيْهََا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
__________
الأمم، وفي الزوائد: «إسناد حديث عوف بن مالك فيه مقال إلخ»، وأحمد (3/ 145).
(1) يعني الغزالي.
(2) إعلام الموقعين (4/ 315305).
(3) إغاثة اللهفان (2/ 120، 121).(1/342)
وقال تعالى: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ} [الأعراف: 101]، {كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74]، {وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء.
وقال تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً} [الكهف: 57].
وقال تعالى: {وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37] قرأها الكوفيون «وصد» بضم الصاد، حملا على (زين). وقال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ} [غافر].
وقال: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]، ومعلوم أنه لم ينف هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة فإنه حجته على عباده.
والقدرية ترد هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن، وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له، كقول بعضهم: «المراد من ذلك تسمية العبد مهتديا وضالا» فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك، وهذا مما يعلم قطعا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه، وأنت تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة.
وليس في لغة أمة من الأمم، فضلا عن أفصح اللغات وأكملها، «هداه» بمعنى سماه مهتديا، «وأضله» سماه ضالا، وهل يصح أن يقال: «علمه» إذا سماه عالما، و «فهمه» إذا سماه فهما؟!
وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدََاهُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} [البقرة: 272]. فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا: ليس عليك تسميتهم مهتدين، ولكن الله يسمي من يشاء مهتديا.
وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لا تسميه مهتديا ولكن الله يسميه بهذا الاسم؟!
وهل فهم أحد من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6) [الفاتحة] وقوله: «اللهم اهدني من عندك» ونحوه، اللهم: سمني مهتديا؟(1/343)
وهذا من جناية القدرية على القرآن، ومعناه نظير جناية إخوانهم من الجهمية (1) على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها، وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها، وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم.
فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل فساد الدين وخراب العالم، وسنفرد إن شاء الله كتابا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين.
وأنت إذا وازنت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة والباطنية وأمثالهم كبير فرق.
والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول، والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى، فتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل، ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والإلغاز مع القول عليه بلا علم: إنه أراد هذا المعنى.
فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا، واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه.
وعليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته، وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل.
وتأول بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب، فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة، وهذا التأويل من أبطل الباطل (2).
[2] الذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبة، والفقهاء كلهم، وجمهور المتكلمين، والصوفية أنه سبحانه يكره بعض الأعيان والأفعال والصفات، وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات إبليس وذوات جنوده، ويبغض أعمالهم، ولا يحب ذلك
__________
(1) الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل آخذا ذلك عن الجعد بن درهم الذي قتله خالد القسري يوم الأضحى، ومما انفرد به جهم قوله: إن الجنة والنار تفنيان وإنّ الإيمان المعرفة فقط، وإن الإنسان مجبور، وإن ما تنسب إليه الأفعال على سبيل المجاز فقط، قتله سالم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني أمية.
(2) شفاء العليل (1/ 219216).(1/344)
وإن وجد بمشيئته.
قال تعالى: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الْفَسََادَ} [البقرة: 205]، وقال: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، وقال: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال: {لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقال: {وَلََا تَعْتَدُوا إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ}
[الزمر: 7].
فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور ورضاه بها بعد وقوعها. فهذا صريح في إبطال قول من تأول النصوص على أنه لا يحبها ممن لم تقع منه، ويحبها إذا وقعت، فهو يحبها ممن وقعت منه، ولا يحبها ممن لم تقع منه. وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله، بل هو سبحانه يكرهها ويبغضها قبل وقوعها، وحال وقوعها، وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث، والله منزه عن محبة القبيح والخبيث، بل أكره شيء إليه.
قال الله تعالى: {كُلُّ ذََلِكَ كََانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (38) [الإسراء].
وقد أخبر سبحانه أنه يكره طاعات المنافقين، ولأجل ذلك يثبطهم عنها، فكيف يحب نفاقهم ويرضاه ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين؟
ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر، ولذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلا.
فمن هذا الأصل قالوا: إن مشيئته هي عين محبته، وإن كل ما شاءه فهو محبوب له ومرضى له ومصطفى ومختار. فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل أن يقولوا: إنه يبغض الأعيان والأفعال التي خلقها ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه.
وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر، فحثوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها القدر والحكمة، وكابروا لأجلها صريح العقل، وسووا بين أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر، وقالوا هما سواء لا فرق بينهما إلا بمجرد الأمر والنهي، فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مسار للصدق والعدل والإحسان في نفس الأمر. ليس في هذا ما يقتضي حسنه، ولا في هذا ما يقتضي قبحه، وجعلوا هذا المذهب شعار لأهل السنة، والقول بخلاف قول أهل البدع من المعتزلة وغيرهم.(1/345)
ولعمر الله إنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة للعقل والشرع، ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه، وقد بينا بطلانه من أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح (1).
والمقصود أنه لما انضم القول به إلى القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له، وكل معدوم فهو مكروه له، وانضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم والغايات المطلوبة في أفعاله سبحانه وأنه لا يفعل شيئا لمعنى البتة، وانضم إلى ذلك إنكار الأسباب، وأنه لا يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع والغرائز، وأن تكون أسبابا أو يكون لها أثر، انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر والتزموا هذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا وفسادا، وهي من أدل شيء على فساد هذه الأصول وبطلانها، فإن فساد اللازم من فساد ملزومه.
فإن قيل: الكراهة والمحبة ترجع إلى المنافرة والملاءمة للطبع، وذلك محال في حق من لا يوصف بطبع ولا منافرة ولا ملاءمة.
قيل: قد دلت النصوص التي لا تدفع على وصفه تعالى بالمحبة والكراهة، فتبيينكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملاءمة الطبع ومنافرته باطل، وهو كنفي كل مبطل حقائق أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات اصطلاحية توصل بها إلى نفي وصف به نفسه، كتسمية الجهمية المعطلة صفاته إعراضا، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها.
وسموا أفعاله القائمة به حوادث، ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيه، وقالوا: لا تحله الحوادث، كما قالت المعطلة ولا تقوم به الأعراض.
وسموا علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وكونه قاهرا فوق عباده، تحيزا وتجسما، ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه واستوائه على عرشه.
وسموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه واليدين والإصبع جوارح وأعضاء، ثم نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء، {إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمََا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ََ} (23) [النجم].
فتوصلوا بالتشبيه والتجسيم والتركيب والحوادث والأعراض والتحيز إلى تعطيل صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وأخلوا تلك الأسماء من معانيها وعطلوها من حقائقها.
فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته: ما الفرق بينك وبين من
__________
(1) مفتاح دار السعادة.(1/346)
نفى كونه مريدا لاستلزام الإرادة حركة النفس إلى جلب ما ينفعها بالمسموع والمبصر، وانطباع صورة المرئي في الرائي وحمل الهواء الصوت المسموع إلى أذن السامع (1).
[3] ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة، أو مباحة، أو أنهما أيسر من ارتكابها من الحر، وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك في قوله: {إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (6) [المؤمنون: 30]، حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها، وتتأول القرآن على ذلك، كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها، وتأولت هذه الآية، ففرق عمر رضي الله عنه بينهما، وأدبها، وقال: ويحك، إنما هذا للرجال لا للنساء.
ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة.
قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] على ذلك، قال: وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن، فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين (2).
[4] إن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند الله على لسان رسوله، والحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة فاستدل بها على صفات صانعها، والعقل الذي طابت حياته بزرع الفكر، والقلب الذي حيى بحسن النظر بين التعظيم والاعتبار.
فأما الرسالة: فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا على وجه أزال الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ، وأبعده من الإجمال والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل. وكذلك كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوه كثيرة، ذكرتها في كتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة»، بل تأويل آيات الصفات بما
__________
(1) شفاء العليل (1/ 325323).
(2) إغاثة اللهفان (2/ 145).(1/347)
يخرجها عن حقائقها، كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصوده واحد، وهو إثبات حقائقه والإيمان بها.
وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم، وقالوا: فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير فإذا ساغ لكم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد؟
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي، وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات، مع كثرتها وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية.
قالوا: وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد، من جنسه أو أقوى منه.
وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها وظواهرها: الذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلا نرجع إليه، فلما طردناها كان أن الله ما تكلم بشيء قط ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئا، وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر والنهى، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب.
وقد ذكرنا في كتاب «الصواعق» أن تأويل آيات الصفات وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى في العالم ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته لأنه سبب لفساد العالم، وتعطيل الشرائع.
ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه.
فانظر إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته؟ وهل يبقي مع هذا السياق شبهة أصلا أنه إتيانه بنفسه؟ وكذلك قوله: {إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى أن قال: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً}
[النساء: 163، 164] ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون، وكذلك قوله: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، فنوع تكليمه إلى: تكليم
بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السّلام {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النََّاسِ بِرِسََالََاتِي وَبِكَلََامِي} [الأعراف: 144] ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو، ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب» (1)، ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين (2).(1/348)
فانظر إلى قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته؟ وهل يبقي مع هذا السياق شبهة أصلا أنه إتيانه بنفسه؟ وكذلك قوله: {إِنََّا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ كَمََا أَوْحَيْنََا إِلى ََ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى أن قال: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً}
[النساء: 163، 164] ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون، وكذلك قوله: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، فنوع تكليمه إلى: تكليم
بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السّلام {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النََّاسِ بِرِسََالََاتِي وَبِكَلََامِي} [الأعراف: 144] ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو، ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب» (1)، ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين (2).
__________
(1) البخاري (6، 8) في الأذان، باب: فضل السجود، والترمذي (2554) في صفة الجنة، باب: رقم (17) وقال: «حسن صحيح غريب إلخ».
(2) مدارج السالكين (3/ 354352).(1/349)
التفسير بالرأي
الرأي في الأصل مصدر، رأى الشيء يراه رأيا، ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول. كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى، ثم استعمل في الشيء الذي يهوى، فيقال: هذا هوى فلان، والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها، فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا، ورآه في اليقظة رؤية، ورأى كذا لما يعلم بالقلب، ولا يرى بالعين رأيا، ولكنهم خصوه بما يراه القلب، بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات أنه رأى، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها.
أقسام الرأي
وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام:
رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه.
والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به، وأفتوا به، وسوغوا القول به. وذموا الباطل، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.
والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه، حيث لا يوجد منه بدو لم يلزموا أحدا العمل به، ولم يحرموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه. كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس فقال لي:
عند الضرورة.
وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها.
كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه، وتعسر حفظه، فلم
يتعدوا في استعماله قدر الضرورة، ولم يبغوا بالعدل إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار، كما قال الله تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (173) [البقرة] فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكي، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها.(1/350)
كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه، وتعسر حفظه، فلم
يتعدوا في استعماله قدر الضرورة، ولم يبغوا بالعدل إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار، كما قال الله تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (173) [البقرة] فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكي، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها.
فالرأي الباطل أنواع:
أحدها: الرأي المخالف للنص: وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به، ولا القضاء وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها، واستنباط الأحكام منها. فإن من جهلها وقاس برأيه، فما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما، يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
فصل وأصل النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة، التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية، ومن ضاهاهم.
حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة، وآراءهم الباطلة، وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها، وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل.
فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعلوه على المخلوقات وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها. ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته: أنه ذبالة الأذهان، ونخالة الأفكار، وعفارة الآراء، ووساوس الصدور، فملئوا به الأوراق سوادا، والقلوب شكوكا والعالم فسادا.(1/351)
وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل. وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله! كما نفى بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيى بها من ضلالة، وكم هدم بها من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان.
وأكثر أصحاب الجحيم. هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم، ولا عقل بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنََّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مََا كُنََّا فِي أَصْحََابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع، وغيرت به السنن، وعم به البلاء وتربى عليه الصغير، وهرم فيه الكبير، فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها، على ذمه وإخراجه من الدين.
النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم، أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها، والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل، وفرعت وشقت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن يكون بالرأي المضارع للظن، قالوا:
وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله عز وجلّ ومعانيه، احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء.
ثم ذكر من طريق أسد بن موسى: ثنا شريك عن ليث عن طاوس عن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن.
ثم ذكر من طريق أبي داود، ثنا إبراهيم بن موسى الرازي، ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله، وقال: فسره الأوزاعي: يعني صعاب المسائل.
وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل؟
قال أبو عمر: واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل
وعابها، وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يكره لكم قيل وقال: وكثرة السؤال» (1).(1/352)
قال أبو عمر: واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل
وعابها، وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يكره لكم قيل وقال: وكثرة السؤال» (1).
وقال ابن أبي خيثمة. ثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، قال أبو بكر: هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد، وهو خلاف لفظ «الموطأ». قال أبو عمر: وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال».
فقال: أما كثرة السؤال، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.
وقال الله عز وجل: {لََا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيََاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء.
وقال الأوزاعي عن عبدة بي أبي لبابة: وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني، ويتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم.
قال: واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته» (2).
وروى ابن وهب أيضا قال: حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ذروني مما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء، فخذوا منه ما استطعتم» (3)
وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: «أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن».
وقال أبو عمر: وروى جرير بن عبد الحميد، ومحمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسالة، حتى قبض صلى الله عليه وسلم كلهن في القرآن: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}
__________
(1) البخاري (2408) في كتاب الاستقراض، باب: ما ينهى عن إضاعة المال، وأحمد (2/ 327)،
(2) البخاري (7289) في الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال إلخ، ومسلم (2358/ 132) في الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله إلخ
(3) مسلم (3244/ 412) في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، والترمذي (2679) في العلم، باب:
الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد (2/ 247).(1/353)
[البقرة: 222]، {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ} [البقرة: 217]، {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتََامى ََ} [البقرة:
220] (1) ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم.
قال أبو عمر: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث.
قلت: ومراد ابن عباس بقوله ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، المسائل حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها، وبين لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألون عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات، وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه، فأجابهم.
وقد قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيََاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْهََا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللََّهُ عَنْهََا وَاللََّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهََا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهََا كََافِرِينَ} (102) [المائدة].
وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟
على قولين، فقيل: إنها أحكام شرعية، عفا الله عنها، أي: سكت على تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها، ولو لم يسألوا، لكانت عفوا. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن الحج: أفي كل عام؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم» (2).
ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما» الحديث (3)، ومنه الحديث الآخر: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها» (4)، وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية، كقول عبد الله ابن حذافة: من أبي يا رسول الله؟ (5) وقول آخر: أين أبي يا رسول الله؟ قال: «في النار» (6).
__________
(1) الطبراني في الكبير (12288)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 164): «فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات».
(2) سبق تخريجهما في الصفحة السابقة، هامش (2، 3).
(3) سبق تخريجهما في الصفحة السابقة، هامش (2، 3).
(4) البيهقي في السنن الكبرى (10/ 12)، والحاكم في المستدرك (4/ 115) وسكت عنه هو والذهبي.
(5) البخاري (92) في العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، ومسلم (6078/ 138) في الفضائل، باب: توقيره صلّى الله عليه وسلّم وترك إكثار سؤاله إلخ.
(6) مسلم (203/ 347) في الإيمان، باب: بيان أن من مات على الكفر فهو في النار إلخ.(1/354)
والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين، وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
[المائدة: 101] أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسوؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه، مما يسألون عنه، وأما في أحكام التكليف، فإنه يسوؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْهََا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال، فسألتم عن تفصيلها وعلمها، أبدى لكم، وبين لكم، والمراد بحين النزول: زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله، ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا.
والقول الثاني: أنه من باب التهديد والتحذير، أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم ما سألتم عنه بما يسوؤكم، والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدى لكم. وقوله: {عَفَا اللََّهُ عَنْهََا} أي عن بيانها خبرا وأمرا، بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور رحيم، فعلى القول الأول: عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم، وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسوؤكم بيانها.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهََا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهََا كََافِرِينَ} (102) [المائدة] أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها، أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلما بينت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتهم، والتعرض لما تعرضوا له، ولم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا، لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر، أم لا؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوؤه، إن أبدى له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله فإنه سبحانه يكره إبداءها، ولذلك سكت عنها، والله أعلم.
الآثار عن التابعين في ذم الرأي
قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة، ونحن نذكر آثار التابعين، ومن بعدهم بذلك ليتبين مرادهم، قال الخشني: ثنا
محمد بن بشار، ثنا يحيي. بن سعيد القطان، عن مجالد، عن الشعبي. قال: لعن الله أرأيت، قال: يحيي بن سعيد: وثنا صالح بن مسلم، قال: سالت الشعبي عن مسألة من النكاح، فقال إن أخبرتك برأيي فبل عليه.(1/355)
قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة، ونحن نذكر آثار التابعين، ومن بعدهم بذلك ليتبين مرادهم، قال الخشني: ثنا
محمد بن بشار، ثنا يحيي. بن سعيد القطان، عن مجالد، عن الشعبي. قال: لعن الله أرأيت، قال: يحيي بن سعيد: وثنا صالح بن مسلم، قال: سالت الشعبي عن مسألة من النكاح، فقال إن أخبرتك برأيي فبل عليه.
قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين، وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن جمهورهم.
وقال الطحاوي: ثنا سليمان بن شعيب، ثنا عبد الرحمن بن خالد، ثنا مالك بن مغول، عن الشعبي قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذوه، وما كان رأيهم، فاطرحوه في الحش (1).
وقال البخاري: حدثنا سنيد بن داود، ثنا حماد بن زيد، عن زيد، عن عمرو بن دينار قال: قيل لجابر بن زيد إنهم يكتبون ما يسمعون منكم، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا!
قال إسحاق بن راهويه: قال سفيان بن عيينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا الحوطي، ثنا إسماعيل بن عياش، عن سوادة بن زياد وعمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو بصيرة: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله.
وقال البخاري: حدثني محمد بن محبوب، ثنا عبد الواحد، ثنا ابن الزبرقان بن عبد الله الأسيدي أن أبا وائل شقيق بن سلمة قال: إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت.
وقال أبان بن عيسى بن دينار، عن أبيه، عن ابن القاسم، عن مالك عن ابن شهاب، قال: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي.
وقال يونس عن أبي الأسود، وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل سمعت عروة بن الزبير يقول: ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا، حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم،
__________
(1) الحش بضم الحاء وفتحها وكسرها: البستان والمخرج أيضا لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين.(1/356)
فأخذوا فيهم بالرأي، فأضلوهم.
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي، وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا الرأي، وأخذوا فيه. وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: لم أسمع في هذا شيئا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، فقال: لا، ثم أعاد عليه: إني أرضى برأيك، فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره، فلا أجدك.
وقال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا مالك بن أنس، قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي، من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه.
وقال الفرياني: ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السختياني: مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال:
أيوب: قيل للحمار: مالك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل!
وقال الفرياني: ثنا العباس بن الوليد بن مزيد: أخبرني أبي، قال سمعت الأوزاعي يقول:
عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول.
وقال أبو زرعة: ثنا أبو مسهر، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا الرأي، والرأي يخطئ ويصيب.
وقد روى أبو يوسف، والحسن بن زياد، كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه.
وقال الطحاوي: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أشهب بن عبد العزيز، قال:
كنت عند مالك، فسئل عن البتة (1). فأخذت ألواحي، لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل، فعسى في العشى أقول: إنها واحدة. وقال معن بن عيسى القزاز: سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في قولي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة، فاتركوه. فرضي الله عن أئمة الإسلام، وجزاهم عن نصيحتهم خيرا، ولقد امتثل وصيتهم، وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم.
__________
(1) طلقها بتة وبتاتا أي بائنة.(1/357)
موقف أهل الرأي من السنة
وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ونظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه، وما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته، وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا ودلالة، وكان يوافق قولهم قبلوه ولم يستجيزوا رده، واعترضوا به على منازعيهم، وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم، دفعوه ولم يقبلوه، وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفا عند ذكر غائلة التقليد وفساده، والفرق بينه وبين الاتباع.
كلام أئمة الفقهاء عن الرأي
وقال بقي بن مخلد: ثنا سحنون والحارث بن مسكين، عن القاسم، عن مالك، أنه كان يكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلََّا ظَنًّا وَمََا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].
وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت بكل مسالة أفتيت فيها بالرأي سوطا، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي.
وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سنان، قال: سمعت الشافعي يقول: مثل الذي ينظر في الرأي، ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برأ، فأعقل ما يكون قد هاج به.
وقال ابن أبي داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل. وقال عبد الله بن أحمد أيضا: سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحب إليّ من الرأي، فقال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد، لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي (1).
النهي عن تفسير القرآن بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي
لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجلّ ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 114103).(1/358)
تركيب الكلام، ويكون الكلام به له معنى ما، فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن.
فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق. وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن.
مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالْأَرْحََامَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء] بالجر أنه قسم.
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرََامِ}
[البقرة: 217] أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في «به».
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {لََكِنِ الرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمََا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ} [النساء: 162] أن المقيمين مجرور بواو القسم، ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير.
بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به، بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم، فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي.
فتدبر هذه القاعدة، ولتكن منك على بال، فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه. وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير، فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله (1).
__________
(1) بدائع الفوائد (3/ 27، 28)(1/359)
من فوائد الإخبار عن المحسوس الواقع
إخبار الرب تبارك وتعالى عن المحسوس الواقع له عدة فوائد، منها:
أن يكون توطئة وتقدمة لإبطال ما بعده.
ومنها: أن يكون موعظة وتذكيرا.
ومنها: أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده وصدق رسوله وإحياء الموتى.
ومنها: أن يذكر في معرض الامتنان.
ومنها: أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ.
ومنها: أن يذكر في معرض المدح والذم.
ومنها: أن يذكر في معرض الإخبار عن اطلاع الرب عليه، وغير ذلك من الفوائد (1).
«عسى» من الله واجب
في حديث أبا (2) لبابة لما بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم ارتباطه، قال: «لو أتاني لاستغفرت له، وإذا فعل فلست أطلقه حتى يطلقه الله» (3) فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة:
102] إلى قوله: {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، فأطلقه النبي صلّى الله عليه وسلّم حينئذ.
وفي هذا ما يدل على صحة قول المفسرين: إن عسى من الله واجب، وفيه أن فاطمة جاءت تحله فقال: لا، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «فاطمة بضعة مني» (4) فإن قيل: فهل يبر الحالف بمثل هذا لو اتفق اليوم؟ قيل: لا، إما لأنه مختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وإما لأن فاطمة بضعة منه قطعا، والله أعلم (5).
__________
(1) بدائع الفوائد (4/ 10).
(2) هذا على لغة القصر، وعلى لغة التمام (أبي).
(3) دلائل النبوة للبيهقي (5/ 271، 272).
(4) البخاري (3714) في فضائل الصحابة ن باب: مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(5) بدائع الفوائد (3/ 212).(1/360)
تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد
استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، بتخصيص آية الميراث بقوله: «لا نورث، ما تركناه صدقة» (1)، والصديق أول من خصصه. قال ابن عقيل: وهذه بلاهة من هذا المستدل فإن الصديق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاها من النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو قطعي وليس النزاع فيه (2).
هل نقل من القرآن آحادا؟
الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين: أحدهما: كونه من القرآن، والثاني:
وجوب العمل به، ولا ريب أنهما حكمان متغايران فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة به وتحريم مسه على المحدث، وقراءته على الجنب، وغير ذلك من أحكام القرآن فإذا انتفت هذه الأحكام لعدم التواتر لم يلزم انتفاء العمل به، فإنه يكفي فيه الظن.
وقد احتج كل واحد من الأئمة الأربعة به في موضع، فاحتج به الشافعي وأحمد في هذا الموضع، واحتج به أبو حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود:
«فصيام ثلاثة أيام متتابعات».
واحتج به مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم، أنه السدس بقراءة أبي:
{وَإِنْ كََانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلََالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}
[النساء: 12]، فالناس كلهم احتجوا بهذه القراءة، ولا مستند للإجماع سواها.
قالوا: وأما قولكم إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا، قلنا: بل قرآنا صريحا. قولكم:
فكان يجب نقله متواترا، قلنا: حتى إذا نسخ لفظه، أو بقي، أما الأول: فممنوع، والثاني:
مسلم، وغاية ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه وبقي حكمه فيكون له حكم قوله: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» (3)، مما اكتفى بنقله آحادا، وحكمه ثابت، وهذا مما لا جواب عنه (4).
__________
(1) البخاري (6726) في الفرائض، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه صدقة»، ومسلم (4552/ 49) في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، وأحمد (1/ 4).
(2) بدائع الفوائد (4/ 44).
(3) ابن ماجة (2553) في الحدود، باب: الرجم، وأحمد (5/ 183).
(4) زاد المعاد (5/ 573).(1/361)
تفسير القرآن بالسنة
وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفسرة للقرآن ومترجمة عنه، وعلى هذا أكثر الأحكام، كقوله: «لا وصية لوارث» (1)، و «الرجم على المحصن» (2)، و «النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها» (3)، و «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (4)، «وقطع الموارثة بين أهل الإسلام وأهل الكفر» (5)، و «إيجابه على المطلقة ثلاثا: مسيس الزوج الآخر» (6) في شرائع كثيرة، لا يوجد لفظها في ظاهر الكتاب، ولكنها سنن شرعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فعلى الأمة اتباعها، كاتباع الكتاب. وكذلك الشاهد واليمين لما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهما. وإنما في الكتاب:
{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ} [البقرة: 282] علم أن ذلك إذا وجدتا، فإذا عدمتا قامت اليمين مقامهما، كما علم حين مسح النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخفين أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] معناه:
أن تكون الأقدام بادية.
وكذلك لما رجم المحصن في الزنا: علم أن قوله: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
[النور: 2] للبكرين.
وكذلك كل ما ذكرنا من السنن على هذا فما بال الشاهد واليمين ترد من بينهما، وإنما هي ثلاث منازل في شهادات الأموال اثنتان بظاهر الكتاب وواحدة بتفسير السنة له.
فالمنزلة الأولى: الرجلان.
__________
(1) البخاري (2747) في الوصايا، باب: لا وصية لوارث وأبو داود (3565) في البيوع، باب: في تضمين العارية، والترمذي (2120) في الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث.
(2) البخاري (6825) في الحدود، باب: سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟ ومسلم (4394/ 15) في الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا.
(3) البخاري (5109) في النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (3422/ 33) في النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح.
(4) البخاري (2645) في الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب إلخ، ومسلم (1445/ 9) في الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل.
(5) أبو داود (2909) في الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟ والترمذي (2107) في الفرائض، باب: ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، وقال «حسن صحيح»، وأحمد (2/ 178).
(6) البخاري (5265) في الطلاق، باب: من قال لامرأته: أنت عليّ حرام، وأحمد (1/ 214).(1/362)
والثانية: الرجل والمرأتان.
والثالثة: الرجل واليمين. فمن أنكر هذه لزمه إنكار كل شيء ذكرناه لا يجد من ذلك بدّا حتى يخرج من قول العلماء.
قال أبو عبيدة: ويقال لمن أنكر الشاهد واليمين، وذكر أنه خلاف القرآن: ما تقول في الخصم يشهد له الرجل والمرأتان، وهو واجد لرجلين يشهدان له؟
فإن قالوا: الشهادة جائزة. قيل: ليس هذا أولى بالخلاف، وقد اشترط القرآن فيه ألا يكون للمرأتين شهادة إلا مع فقد أحد الرجلين. فإنه سبحانه قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونََا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ} [البقرة: 282]، ولم يقل: واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو رجلا وامرأتين:
فيكون فيه الخيار، كما جعله في الفدية كما قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيََامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196]، ومثل ما جعله في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فهذه أحكام الخيار. ولم يقل ذلك في آية الدين. ولكنه قال فيها كما قال في آية الفرائض: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوََاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].
وكذلك الآية التي بعدها فقوله هاهنا: «إن لم يكن» كقوله في آية الشهادة: «فإن لم يكونا» كذلك قال في آية الطهور: {فَلَمْ تَجِدُوا مََاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] وفي آية الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] وكذلك في متعة الحج وكفارة اليمين: أن الصوم لا يجزى الواحد: فأي الحكمين أولى بالخلاف: هذا أم الشاهد واليمين، الذي ليس فيه من الله اشتراط منع، إنما سكت عنه، ثم فسرته السنة؟.
قال أبو عبيدة: وقد وجدنا في حكمهم ما هو أعجب من هذا، وهو قولهم في رضاع اليتيم الذي لا مال له، وله خال وابن عم موسران: إن الخال يجبر على رضاعه، لأنه محرم وإنما اشترط التنزيل غيره. فقال: {وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ} [البقرة: 233]، وقد أجمع المسلمون أن لا ميراث للخال مع ابن العم. ثم لم نجد هذا الحكم في السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أحد من سلف العلماء. وقد وجدنا الشاهد واليمين في آثار متواترة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن غير واحد من الصحابة ومن التابعين.
وقال الربيع: قال الشافعي: قال بعض الناس في اليمين مع الشاهد قولا أسرف فيه على نفسه، قال: أرد حكم من حكم بها، لأنه خالف القرآن. فقلت له: الله تعالى أمر بشاهدين أو شاهد وامرأتين؟ قال: نعم. فقلت: أحتم من الله ألا يجوز أقل من شاهدين؟ قال: فإن قلته؟ قلت: فقله، قال: قد قلته، قلت: وتحد في الشاهدين اللذين أمر الله بهما حدا؟ قال:
نعم، حران مسلمان بالغان عدلان. قلت: ومن حكم بدون ما قلت خالف حكم الله؟ قال:(1/363)
وقال الربيع: قال الشافعي: قال بعض الناس في اليمين مع الشاهد قولا أسرف فيه على نفسه، قال: أرد حكم من حكم بها، لأنه خالف القرآن. فقلت له: الله تعالى أمر بشاهدين أو شاهد وامرأتين؟ قال: نعم. فقلت: أحتم من الله ألا يجوز أقل من شاهدين؟ قال: فإن قلته؟ قلت: فقله، قال: قد قلته، قلت: وتحد في الشاهدين اللذين أمر الله بهما حدا؟ قال:
نعم، حران مسلمان بالغان عدلان. قلت: ومن حكم بدون ما قلت خالف حكم الله؟ قال:
نعم، قلت له: إن كان كما زعمت، خالفت حكم الله. قال: وأين؟ قلت: أجزت شهادة أهل الذمة، وهم غير الذين شرط الله أن تجوز شهادتهم وأجزت شهادة القابلة وحدها على الولادة، وهذان وجهان أعطيت بهما من جهة الشهادة، ثم أعطيت بغير شهادة في القسامة وغيرها. قلت: والقضاء باليمين مع الشاهد ليس يخالف حكم الله، بل هو موافق لحكم الله، إذ فرض الله تعالى طاعة رسوله، فإن اتبعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعن الله سبحانه قبلت، كما قبلت عن رسوله.
قال: أفيوجد لهذا نظير في القرآن؟ قلت: نعم، أمر الله سبحانه في الوضوء بغسل القدمين، أو مسحهما فمسحنا على الخفين بالسنة.
وقال تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145] فحرمنا نحن وأنت كل ذي ناب من السباع بالسنة.
وقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مََا وَرََاءَ ذََلِكُمْ} [النساء: 24].
فحرمنا نحن وأنت الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.
وذكر الرجم ونصاب السرقة، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبين عن الله معنى ما أراد خاصا وعاما.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التي يحكم بها الحاكم. وإنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التي يحفظ بها الإنسان حقه. فقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَدََايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كََاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلََا يَأْبَ كََاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمََا عَلَّمَهُ اللََّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللََّهَ رَبَّهُ وَلََا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كََانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لََا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجََالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونََا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدََاءِ} [البقرة: 282].
فأمرهم سبحانه بحفظ حقوقهم بالكتاب. وأمر من عليه الحق أن يملي الكاتب فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه. ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان. ثم نهى الشهداء المحتملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طلبوا لذلك.
ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة: ألا يكتبوها. ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع.(1/364)
ثم أمرهم إذا كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة.
كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم.
وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به الحاكم شيء.
فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين، فإن الحاكم يحكم بالنكول واليمين المردودة. ولا ذكر لهما في القرآن. فإن كان الحكم بالشاهد الواحد واليمين مخالفا لكتاب الله، فالحكم بالنكول، والرد اشد مخالفة.
وأيضا، فإن الحاكم يحكم بالقرعة بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة.
ويحكم بالقافة بالسنة الصريحة الصحيحة التي لا معارض لها.
ويحكم بالقسامة بالسنة الصحيحة الصريحة.
ويحكم بشاهد الحال إذا تداعى الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان.
ويحكم عند من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بوجود الآجر في الحائط، فيجعله للمدعي إذا كانت إلى جهته.
وهذا كله ليس في القرآن، ولا حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أحد من أصحابه.
فكيف ساغ الحكم به، ولم يجعل مخالفا لكتاب الله، ورد ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة، ويجعل مخالفا لكتاب الله؟ بل القول ما قاله أئمة الحديث: إن الحكم بالشاهد واليمين: حكم بكتاب الله، فإنه حق، والله سبحانه أمر بالحكم بالحق، فهاتان قضيتان ثابتتان بالنص.
أما الأولي: فلأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلفاءه من بعده حكموا به ولا يحكمون بباطل.
وأما الثانية: فلقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ} [المائدة: 49].
وقوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ} [النساء: 105] فالحكم بالشاهد واليمين مما أراد الله إياه قطعا.
وقوله: {فَلِذََلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنْ كِتََابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
وهذا مما حكم به، فهو عدل مأمور به من الله ولا بدّ. والذين ردوا هذه المسألة لهم طرق:
الطريق الأول: أنها خلاف كتاب الله، فلا تقبل. وقد بين الأئمة كالشافعي وأحمد
وأبي عبيد وغيرهم أن كتاب الله لا يخالفها بوجه، وإنها لموافقة لكتاب الله. وأنكر الإمام أحمد والشافعي على من رد أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن، وللإمام أحمد في ذلك كتاب مفرد سماه: (كتاب طاعة الرسول).(1/365)
الطريق الأول: أنها خلاف كتاب الله، فلا تقبل. وقد بين الأئمة كالشافعي وأحمد
وأبي عبيد وغيرهم أن كتاب الله لا يخالفها بوجه، وإنها لموافقة لكتاب الله. وأنكر الإمام أحمد والشافعي على من رد أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لزعمه أنها تخالف ظاهر القرآن، وللإمام أحمد في ذلك كتاب مفرد سماه: (كتاب طاعة الرسول).
والذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أنه ليس في سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل:
المنزلة الأولى: سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.
المنزلة الثانية: سنة تفسر الكتاب، وتبين مراد الله منه، وتقيد مطلقه.
المنزلة الثالثة: سنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب فتبينه بيانا مبتدأ.
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة.
وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة.
وقد أنكر الإمام أحمد على من قال: «السنة تقضي على الكتاب» فقال: بل السنة تفسر الكتاب وتبينه.
والذي يشهد الله ورسوله به: أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تناقض كتاب الله وتخالفه البتة.
كيف ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المبين لكتاب الله، وعليه أنزل، وبه هداه الله، وهو مأمور باتباعه، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده؟ ولو ساغ رد سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب، لردت بذلك أكثر السنن، وبطلت بالكلية.
فما من أحد يحتج عليه بسنة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته، إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية أو إطلاقها ويقول: هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل.
حتى إن الرافضة قبحهم الله سلكوا هذا المسلك بعينه في رد السنن الثابتة المتواترة، فردوا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه صدقة» (1)، وقالوا: هذا حديث يخالف كتاب الله، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وردت الخوارج من الأحاديث الدالة على الشفاعة وخروج أهل الكبائر من الموحدين
__________
(1) سبق تخريجه ص 361.(1/366)
من النار، بما فهموه من ظاهر القرآن.
وردت الجهمية أحاديث الرؤية مع كثرتها وصحتها بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103].
وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن.
وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن.
فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها، وإما أن يطرد الباب في قبولها ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن.
أما أن يرد ويقبل بعضها ونسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود فتناقض ظاهر، وما من أحد رد سنة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك.
وقد أنكر الإمام أحمد والشافعي وغيرهما على من رد أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع بظاهر قوله تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية [الأنعام: 145].
وقد أنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم على من رد سنته التي لم تذكر في القرآن ولم يدع معارضة القرآن لها، فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنته تخالف القرآن وتعارضه؟ (1)
منزلة السنة من القرآن
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، وتفسيرا له.
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام.
فلا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدا على القرآن، فهو تشريع مبتدأ من النبي صلّى الله عليه وسلّم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسوله الله صلّى الله عليه وسلّم لا يطاع في هذا القسم، لم يكن لطاعته معنى،
__________
(1) الطرق الحكيمة (8477).(1/367)
وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطََاعَ اللََّهَ} [النساء: 80].
وكيف يمكن أحدا من أهل العلم ألا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حدث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة.
فهلا قلتم: إنها نسخ للقرآن، وهو لا ينسخ بالسنة، وكيف أوجبتم الوتر، مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلف فيه، وكيف زدتم على كتاب الله فجوزتم الوضوء بنبيذ التمر بخبر ضعيف؟ وكيف زدتم على كتاب الله، فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح البتة، وهو زيادة محضة على القرآن؟
وقد أخذ الناس بحديث: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1)، وهو زائد على القرآن وأخذوا بحديث توريثه صلّى الله عليه وسلّم بنت الابن السدس مع البنت، وهو زائد على ما في القرآن، وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة، وهو زائد على ما في كتاب الله، وأخذوا بحديث: «من قتل قتيلا فله سلبه» (2)، وهو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم، وأخذوا كلهم بقضائه صلّى الله عليه وسلّم الزائد على ما في القرآن من أن أعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العلات (3)، الرجل يرث أخاه لأبيه، وأمه دون أخيه لأبيه. ولو تتبعنا هذا لطال جدا.
فسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجل في صدورنا، وأعظم، وأفرض علينا ألا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القرآن، بل على الرأس والعينين.
وكذلك فرض على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين، وإن كان زائدا على ما في القرآن، وقد أخذ به أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجمهور التابعين والأئمة، والعجب ممن
__________
(1) سبق تخريجه (362).
(2) أبو داود (2717) في الجهاد، باب: في السلب يعطي القاتل، وأحمد (3/ 114).
(3) بنو العلات: بنو أمهات من رجل واحد.(1/368)
يرده لأنه زائد على ما في كتاب الله. ثم يقضي بالنكول، ومعاقد القمط، ووجوه الآجر (1)
في الحائط، وليست في كتاب الله، ولا سنة رسوله، وأخذتم أنتم وجمهور الأمة بحديث:
«لا يقاد الوالد بالولد» (2) مع ضعفه، وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس، وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية، مع زيادته على ما في القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، وهو زائد على ما في القرآن، وأخذت الأمة بأحاديث الحضانة، وليست في القرآن، وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفى عنها في منزلها، وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسن والإثبات، وهي زائدة على ما في القرآن إذ ليس فيه الاحتلام، وأخذتم مع الناس بحديث: «الخراج بالضمان» (3) مع ضعفه، وهو زائد على القرآن، وبحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ وهو زائد على ما في القرآن، وأضعاف أضعاف ما ذكرنا.
بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة كانت على نص القرآن، لبطلت سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلها إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا هو الذي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه سيقع، ولا بد من وقوع خبره.
فإن قيل: السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانا له، وتارة تكون منشئه لحكم لم يتعرض القرآن له، وتارة تكون مغيرة لحكمه، وليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق، ولكن النزاع في القسم الثالث وهو ترجمته بمسألة الزيادة على النص.
وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي، وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ، ومن هاهنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا، كما لو زاد عشرين سوطا على الثمانين في حد القذف.
وذهب أبو بكر الرازي إلى أن الزيادة إن وردت بعد استقرار حكم النص منفردة عنه، كانت ناسخة، وإن وردت متصلة بالنص قبل استقرار حكمه لم تكن ناسخة، وإن وردت ولا
__________
(1) اللبن المحرق المعد للبناء.
(2) الترمذي (1400) في الديات، باب: ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا، وابن ماجة (2662) في الديات، باب: لا يقتل الوالد بولده.
(3) الترمذي (1285) في البيوع، باب: ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله إلخ، وقال: «حسن صحيح»، وأبو داود (3365) في البيوع، باب: فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا.(1/369)
يعلم تاريخها، فإن وردت من جهة يثبت النص بمثلها، فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معا أثبتناهما، وإن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها، وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما، فالواجب أن يحكم بورودهما معا، ويكونان بمنزلة الخاص والعام، وإذا لم يعلم تاريخها، ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما على الآخر، فإنهما يستعملان معا، وإن كان ورود النص من جهة توجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض، وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجز إلحاقها بالنص، ولا العمل بها.
وذهب أصحابنا إلى أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث إنه لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها لم يكن معتدا به بل يجب استئنافه، كان نسخا نحو ضم ركعة إلى ركعتي الفجر، وإن لم يغير حكم المزيد عليه، بحيث لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها كان معتدا به، ولا يجب استئنافه، لم يكن نسخا، ولم يجعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا، وإيجاب عشرين جلدة مع الثمانين نسخا، وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة، لا يكون نسخا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة، ولم يختلفوا أن إيجاب زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخا، ولم يختلفوا أيضا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخا.
الكلام عن الزيادة المغيرة لحكم شرعي
فالكلام معكم في الزيادة المغيرة في ثلاثة مواضع: في المعنى والاسم والحكم.
أما المعنى: فإنها تفيد معنى النسخ لأنه الإزالة. والزيادة تزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه، وتوجب استئنافه بدونها، وتخرجه عن كونه جميع الواجب، وتجعله بعضه، وتوجب التأثيم على المقتصر عليه، بعد أن لم يكن إثما، وهذا معنى النسخ، وعليه يرتب الاسم، فإنه تابع للمعنى فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليل شرعي، متراخ عن المزيد عليه، فإن اختل وصف من هذه الأوصاف، لم يكن نسخا، فإن لم تغير حكما شرعيا، بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا، كإيجاب عبادة بعد أخرى، وإن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه، فإن اختل وصف من هذه الأوصاف، لم يكن نسخا، فإن لم تغير حكما شرعيا، بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا، كإيجاب عبادة بعد أخرى، وإن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه، لم تكن نسخا، وإن غيرته، بل تكون تقييدا، أو تخصيصا.
وأما الحكم فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب، أو السنة المتواترة لم يقبل خبر
الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه، فيكون تخصيصا لا نسخا.(1/370)
وأما الحكم فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب، أو السنة المتواترة لم يقبل خبر
الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه، فيكون تخصيصا لا نسخا.
قالوا: وإنما لم يقبل خبر الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودة معه لنقلها إلينا من نقل النص إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا بالزيادة، فيقتصر النبي صلّى الله عليه وسلّم على إبلاغ النص منفردا عنها، فواجب إذا أن يذكرها معه، ولو ذكرها لنقلها إلينا من نقل النص، فإن كان النص مذكورا في القرآن، والزيادة واردة من جهة السنة، فغير جائز أن يقتصر النبي صلّى الله عليه وسلّم على تلاوة الحكم المنزل في القرآن، دون أن يعقبها بذكر الزيادة لأن حصول الفراغ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله: {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كان الحد هو الجلد والتغريب، فغير جائز أن يتلو النبي صلّى الله عليه وسلّم الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها، وأن الجلد هو كمال الحد، فلو كان معه تغريب لكان بعض الحد لا كماله، فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها، فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمام الحد وكماله، فغير جائز إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ. ولهذا كان قوله: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (1)
ناسخا لحديث عبادة بن الصامت: «الثيب بالثيب جلد مائة، والرجم» (2)، وكذلك لما رجم ماعزا، ولم يجلده كذلك يجب أن يكون قوله: {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
[النور: 2] ناسخا لحكم التغريب في قوله: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» (3)
والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم عقيب التلاوة، ولنقلها إلينا من نقل المزيد عليه إذ غير جائز عليهم أن يعلموا أن الحد مجموع الأمرين، وينقلوا بعضه دون بعض، وقد سمعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذكر الأمرين، فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد، فإن كانت قبل
__________
(1) البخاري (7260) في أول أخبار الآحاد، ومسلم (1697، 1698/ 25) في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى.
(2) مسلم (1690/ 12) في الحدود، باب: حد الزنى، وأبو داود (4416) في الحدود، باب: في الرجم، والترمذي (1434) في الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب، وابن ماجة (2550) في الحدود، باب: حد الزنى.
(3) مسلم (1690/ 13) في الحدود، باب: حد الزنى، وأبو داود (4415) في الحدود، باب: في الرجم، والترمذي (1434) في الحدود، باب: ما جاء في الرجم على الثيب.(1/371)
النص فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكرها، وإن كانت بعده، فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع، فإن كان المزيد عليه ثابتا بخبر الواحد جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخ به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخا، وكانت بيانا.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه، فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر، وهو زائد على ما في كتاب الله، مغير لحكمه فإن الله سبحانه جعل حكم عادم الماء التيمم، والخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ، فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكم شرعي غير مقارنة له، ولا مقاومة بوجه.
وقبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم شرعي، وهو اعتقاد كون الصلاة الخمس هي جميع الواجب، ورفع التأثيم بالاقتصار عليها، وإجراء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن، والذي نقلها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه، أو أوثق منه، أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله، وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته، وقبول قوله في هذه، والذي قال لنا: {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه، والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه، بل كلامه كله بيان عن الله، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه. بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه، وجدوا تصديقه في القرآن، ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدا: إن هذا زيادة على القرآن، فلا نقبله، ولا نسمعه، ولا نعمل به.
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجل في صدورهم، وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر، ولا فرق أصلا بين مجيء السنة بعدد الطواف، وعدد ركعات الصلاة، ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية فإن الجميع بيان لمراد الله أنه أوجب هذه العبادات على عباده على الوجه هذا.
فهذا هو الوجه المراد، فجاءت السنة بيانا للمراد في جميع وجوهها، حتى في التشريع المبتدأ، فإنها بيان لمراد الله من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله، فلا فرق بين بيان هذا المراد، وبين المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيان المراد من شيء، وذاك بيان المراد من أعم منه.
فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللََّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وقد
صرح النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن، معارض له.(1/372)
فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللََّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، وقد
صرح النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن، معارض له.
ويقال: لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن، وهل هذا إلا قلب للحقائق، فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضا، لا يسعنا مخالفته، فلو خالفناه لخالفنا القرآن، ولخرجنا عن حكمه ولا بد، ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معا.
يوضحه الوجه الثاني: أن الله سبحانه نصّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصب المبلغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو، ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا.
يوضحه الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وجاء البيان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمقادير ذلك وصفاته وشروطه، فوجب على الأمة قبوله إذ هو تفصيل لما أمر الله به، كما يجب علينا قبول الأصل المفصل، وهكذا أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، فإذا أمر الرسول بأمر كان تفصيلا، وبيانا للطاعة المأمور بها، وكان فرض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما.
أنواع بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم
يوضحه الوجه الرابع: أن البيان من النبي صلّى الله عليه وسلّم أقسام:
أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا.
الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله:
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] هو الشرك، وأن الحساب اليسير هو العرض، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى: هو جبريل.
كما فسر قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أنه طلوع الشمس من مغربها.
وكما فسر قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] بأنها النخلة.
وكما فسر قوله: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}
[إبراهيم: 27] أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك، وما دينك؟(1/373)
وكما فسر قوله: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ}
[إبراهيم: 27] أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك، وما دينك؟
وكما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب، وكما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بأن ذلك باستحلال ما أحلوه من الحرام، وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال، وكما فسر «القوة» التي أمر الله أن نعدها لأعدائه بالرمي، وكما فسر قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بأنه ما يجزى به العبد في الدنيا من النصب والهم والخوف واللأواء.
وكما فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم (1) وكما فسر «الدعاء» في قوله: {وَقََالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بأنه العبادة، وكما فسر «إدبار النجوم» بأنه الركعتان قبل الفجر، و «أدبار السجود» بالركعتين بعد المغرب، ونظائر ذلك.
الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله.
الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فنزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة، فجاء القرآن باللعان ونظائره.
الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي، وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة
بعد ما تضمّخ بالخلوق (2) فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة، ويغسل أثر الخلوق.
السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداء من غير سؤال، كما حرم عليهم لحوم الحمر، والمتعة، وصيد المدينة، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأمثال ذلك.
السابع: بيانه للأمور جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.
الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله، وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه.
التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه، وإن لم يأذن فيه نطقا.
العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه، أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة، وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مََا وَرََاءَ ذََلِكُمْ} [النساء: 24]، فالحل موقوف
__________
(1) يعني التي وردت في قوله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ} وقد ذكر تفسيره بذلك في حديث رواه أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم.
(2) ضرب من الطيب.(1/374)
على شروط النكاح، وانتفاء موانعه، وحضور وقته وأهلية المحل، فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن شيء منه زائدا على النص، فيكون نسخا له، وإن كان رفعا لظاهر إطلاقه، فهكذا كل حكم منه صلّى الله عليه وسلّم زائدا على القرآن هذا سبيله سواء بسواء وقد قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ثم جاءت السنة بأن القاتل والكافر والرقيق لا يرث، ولم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا، أعني في موجبات الميراث فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها، فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين، وعدم الرق والقتل.
فهلا قلتم: إن هذا زيادة على النص، فيكون نسخا، والقرآن لا ينسخ بالسنة، كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث لأنه زائد على القرآن.
والوجه الخامس: أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب، بل لا تجوز مخالفتها، فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم، والأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح منكم لا توجب رفع أحكام النصوص، فأين سمى الله ورسوله ذلك نسخا، وأين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءكم حديثي زائدا على ما في كتاب الله فردوه، ولا تقبلوه، فإنه يكون نسخا لكتاب الله؟ وأين قال الله: إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن، فلا تقبلوه، ولا تعملوا به، وردوه؟ وكيف يسوغ رد سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقواعد قعدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟!
الوجه السادس: أن يقال: ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم؟ أتعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة بطل بالكلية؟ أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط، أو قيد، أو حال أو مانع، أو ما هو أعم من ذلك؟
فإن عنيتم الأول، فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك، فلا تكون ناسخة، وإن عنيتم الثاني، فهو حق، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه، ولا رفعه، ولا معارضته، بل غايتها مع المزيد عليه كالشرط والموانع والقيود والمخصصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال الأول ورفعه رأسا.
وإذا كان نسخا بالمعنى الذي يسميه السلف نسخا، وهو رفع الظاهر بتخصيص، أو تقييد، أو شرط، أو مانع، فهذا كثير من السلف يسميه نسخا حتى سمي الاستثناء نسخا، فإن أردتم هذا المعنى، فلا مشاحة (1) في الاسم، ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن الناسخة
__________
(1) لا مجادلة.(1/375)
للقرآن بهذا المعنى، ولا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى، بل هو متفق عليه بين الناس، وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته، بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة، وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين، وهو رفع الحكم بجملته تارة، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، وزيادة شرط، أو مانع تارة كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين: مقبولا، ومردودا كما تبين، فليس الشأن في الألفاظ فسموا الزيادة ما شئتم فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه.
يوضحه الوجه السابع: أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد، لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ، وقد جوزتم اقترانها به، وقلتم: تكون بيانا أو تخصيصا، فهلا كان حكمها مع التأخير كذلك، والبيان لا يجب اقترانه بالمبين، بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل، وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق، فهو منتقض بجواز، بل وجوب تأخير الناسخ، وعدم الإشعار بأنه سينسخه، ولا محذور في اعتقاد موجب النص، ما لم يأت ما يرفعه، أو يرفع ظاهره، فحينئذ يعتقد موجبه كذلك، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
يوضحه الوجه الثامن: أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره، كما يعتقد المنسوخ مؤيدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه.
الوجه التاسع: أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا، وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه، كما صرح بذلك بعض أصحابكم وهو الحق، فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى ألا تكون نسخا، فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه، وعن غيره، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة.
الوجه العاشر: أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا، وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئا بعد شيء، وكل منها زائد على ما قبله، وكان ما قبله جميع الواجب، والإثم محطوط عمن اقتصر عليه، وبالزيادة تغير هذان الحكمان، فلم يبق الأول جميع الواجب، ولم يحط الإثم عمن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه إذ حكمه من الوجوب وغيره باق. فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد، لا تكون نسخا له، حيث لم ترفع حكمه بل هو باق على حكمه وقد ضم إليه غيره.(1/376)
يوضحه الوجه الحادي عشر: أن الزيادة إن رفعت حكما خطابيا كانت نسخا، وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه وحراحق لا ترفع حكم الخطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب.
يوضحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكره من كون الأول جميع الواجب، وكونه مجزئا وحده، وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه، إنما هو من أحكام البراءة الأصلية، فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أريد به، فإن معنى كون العبادة مجزئة: أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحط الذم عن فاعلها معناه: أنه قد خرج من عهدة الأمر، فلا يلحقه ذم، والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكما دل عليه لفظ المزيد.
هل يجوز تخصيص كلام الله بحديث؟
يوضحه الوجه الثالث عشر: أن تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مََا وَرََاءَ ذََلِكُمْ} [النساء: 24] بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (1) وعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر» (2)، وعموم قوله تعالى: {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا} [المائدة: 38] بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع في ثمر ولا كثر» (3)، ونظائر ذلك كثيرة، فإذا جاز التخصيص وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ، وهو نقصان من معناه، فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله، ولا نقصانه بطريق الأولى والأخرى.
عودة إلى حجج أن الزيادة لا توجب نسخا
الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة، ولا شرعا ولا عرفا ولا عقلا، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره، أو ماله، أو جاهه، أو علمه، أو ولده إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس.
بل تقول في الوجه الخامس عشر: أن الزيادة قررت حكم المزيد، وزادته بيانا وتأكيدا، فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان، قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114) [طه]، وقال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (362).
(2) سبق تخريجه ص (362).
(3) الترمذي (1449) في الحدود، باب: ما جاء لا قطع في الثمر ولا كثر، وابن ماجة (2593) في الحدود، باب: لا يقطع في ثمر ولا كثر.(1/377)
{وَمََا زََادَهُمْ إِلََّا إِيمََاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]، وقال: {وَزِدْنََاهُمْ هُدىً} (13) [الكهف]، وقال: {وَيَزِيدُ اللََّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [مريم: 76]، فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيده قوة وتأكيدا وثبوتا، فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء والشرط، كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد، ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول، والفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له.
الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد، ولا المنع منه، وذلك حقيقة النسخ، وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته.
الوجه السابع عشر: أنه لا بد في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ، وامتناع اجتماعهما، والزيادة غير منافية للمزيد عليه، ولا اجتماعهما ممتنع.
الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد، أو بانضمامها إليه، والقسمان محال، فلا يكون نسخا، أما الأول فظاهر فلأنها لا حكم لها بمفردها البتة، فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه.
وأما الثاني فكذلك أيضا لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد، كان الشيء ناسخا لنفسه، ومبطلا لحقيقته، وهذا غير معقول.
وأجاب بعضهم عن هذا: بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته، وهذا الجواب لا يجدي عليهم شيئا، والالزام قائم بعينه، فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه، وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزئ بعد أن كان مجزئا.
الوجه التاسع عشر: أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها، فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها، بل أولى لما تقدم.
الوجه العشرون: أن نسخ الزيادة للمزيد عليه، إما أن يكون نسخا لوجوبه أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحاله، ولا لإجزائها، لأنها مجزئة عن نفسها، ولا لعدم وجوب الزائد، لأنه رفع حكم عقلي، وهو البراءة الأصلية، فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب الله شيئا بعد الشهادتين، قد نسخ به ما قبله، والأمر الرابع غير متصور ولا معقول، فلا يحكم عليه.
فإن قيل: بل هاهنا أمر رابع معقول، وهو الاقتصار على الأول فإنه نسخ بالزيادة، وهذا غير الأقسام الثلاثة.(1/378)
فالجواب: أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه غيرتم التعبير عنه، وكسوتموه عبارة أخرى.
الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته، والناسخ رفعه، أو بالعكس، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص.
الوجه الثاني والعشرون: أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه، مستقل بإفادة حكمه، وقد أمكن العمل بالدليلين، فلا يجوز إلغاء أحدهما وإبطاله، وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه، فإن كل ما جاء من عند الله فهو حق يجب اتباعه، والعمل به ولا يجوز إلغاؤه، وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله بنص آخر ناسخ له، لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ، وهذا بحمد الله منتف في مسألتنا، فإن العمل بالدليلين ممكن، ولا تعارض بينهما، ولا تناقض بوجه، فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره الله ورسوله، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه. وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخا للقرآن وإثبات التغريب ناسخا للقرآن، فالوضوء بالنبيذ أيضا ناسخ للقرآن ولا فرق بينهما البتة، بل القضاء بالنكول ومعاقد القمط يكون ناسخا للقرآن، وحينئذ فنسخ كتاب الله بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت (1).
وإن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا نسخا له، وأما أن يكون هذا نسخا وذاك ليس بنسخ، فتحكم باطل، وتفريق بين متماثلين.
الوجه الرابع والعشرون: أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه، فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ لأنه زيادة على القرآن وإن لم يكن هذا نسخا فليس ذلك نسخا.
الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم (2)، وذلك
__________
(1) لا ينسخ شيء من كتاب الله بهذا، ولا بذاك، فهو المهيمن على كل كتاب، وكل كلام.
(2) أخرج مسلم عن أبي الزبير قال: سمعت جابرا يقول: كنا نستمتع بالقبض من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال البيهقي وهذا وإن كان في نكاح المتعة، ونكاح المتعة صار منسوخا فإنما نسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقا، فإنه لم يرد فيه نسخ. وفي حديث رواه الجماعة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «ما هذا؟» قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: «بارك الله لك، أو لم ولو بشاة»، وجزم الخطابي أنها كانت تساوي خمسة دراهم، واختاره الأزهري، ونقله عياض عن أكثر العلماء.(1/379)
زيادة على ما في القرآن، فإن الله سبحانه أباح استحلال البضع بكل ما يسمى مالا، وذلك يتناول القليل والكثير، فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف، وبخبر في غاية البطلان، فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة؟ وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخا.
الوجه السادس والعشرون: أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: «الطواف بالبيت صلاة» وذلك زيادة على القرآن، فإن الله إنما أمر بالطواف، ولم يأمر بالطهارة، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن، وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حد الزنا نسخا للقرآن.
الوجه السابع والعشرون: أنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد زائدا على كتاب الله، ولم تجعلوا ذلك نسخا له، وهو الصواب بلا شك، فهلا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن.
الوجه الثامن والعشرون: أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها بخبر الواحد، وهو زائد على كتاب الله تعالى قطعا، ولم يكن ذلك نسخا، فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين والتغريب، ولم تعدوه نسخا، وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف.
الوجه التاسع والعشرون: أنكم قلتم: لا يفطر المسافر، ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام، والله تعالى قال: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ} [البقرة:
184]، وهذا يتناول الثلاثة وما دونها، فأخذتم بقياس ضعيف، أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث، وهو زيادة على القرآن، ولم تجعلوا ذلك نسخا، فكذلك الباقي.
الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد من الأموال، مع أنه سارق حقيقة ولغة وشرعا، لقوله: «لا قطع في ثمر ولا كثر» (1) ولم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وهو زائد عليه.
الوجه الحادي الثلاثون: أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسح على العمامة، وقلتم: إنها زائدة على نص القرآن، فتكون ناسخة له، فلا تقبل، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن، ولا فرق بينهما، واعتذرتم
__________
(1) أبو داود (4388) في الحدود، باب: ما لا يقطع فيه، والترمذي (1449) في الحدود، باب: ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر.(1/380)
بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة، بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذار فاسد فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منهما، وتعدد طرقها، واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قولا وفعلا.
الوجه الثاني والثلاثون: أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة، وعيوب النساء مع أنه زائد على ما في القرآن، ولم يصح الحديث به صحته بالشاهد واليمين، ورددتم هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن.
الوجه الثالث والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أنه لا يحرم أقل من خمس رضعات، ولا تحرم الرضعة والرضعتان، وقلتم: هي زائدة على القرآن، ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم، أو ما يساويها، ولم تروه زيادة على القرآن، وقلتم: هذا بيان للفظ السارق، فإنه مجمل، والرسول بينه بقوله:
«لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم» (1)
فيا لله العجب كيف كان هذا بيانا، ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله: {وَأُمَّهََاتُكُمُ اللََّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله، أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء!
الوجه الرابع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمسح على الجوربين، وقلتم: هي زائدة على القرآن، وجوزتم الوضوء بالخمر المحرمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت، وهو بخلاف القرآن.
الوجه الخامس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصوم عن الميت والحج عنه، وقلتم هو زائد على قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ} (39) [النجم: 39]، ثم جوزتم أن تعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه، ولا تروه زائدا على قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ} (39)، وأخذتم بالسنة الصحيحة، وأصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ، ولم تقولوا هو زائد على قوله: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} (2)
{وَلََا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلََّا عَلَيْهََا} [الأنعام: 164] واعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا
__________
(1) مسلم (1684/ 2) في الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، والنسائي (4917) في قطع السارق، باب:
ذكر الاختلاف على الزهري، وابن ماجة (2585) في الحدود، باب: حد السارق، وأحمد (6/ 104).
(2) في الأنعام: 164، والإسراء: 15، وفاطر: 18، والزمر: 7، أما في النجم: {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ}.(1/381)
يفيد لأن عثمان البتى، وهو من فقهاء التابعين يرى أن الدية على القاتل وليس على العاقلة منها شيء، ثم هذا حجة عليكم أن تجمع الأمة على الأخذ بالخبر، وإن كان زائدا على القرآن.
الوجه السادس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اشتراط المحرم أن يحل حيث حبس، وقلتم: هو زائد على القرآن، فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة، والإحلال خلاف الإتمام، ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل، وهو على ما في القرآن قطعا.
الوجه السابع والثلاثون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوضوء من مس الفرج، وأكل لحوم الإبل، وقلتم: ذلك زيادة على القرآن لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط، ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة، وخبر ضعيف في إيجابه من القيء، ولم يكن إذ ذاك زائدا على ما في القرآن، إذ هو قول متبوعكم.
فمن العجب، إذا قال من قلدتموه قولا زائدا على ما في القرآن قبلتموه، وقلتم ما قاله لا بدليل، وسهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ، وإذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولا زائدا على ما في القرآن، قلتم: هذا زيادة على النص وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ بالسنة، فلم تأخذوا به، واستعصيتم خلاف ظاهر القرآن، فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه، وصعب خلافه إذا وافق قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم!
الوجه الثامن والثلاثون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة، ولم تروه زائدا على القرآن، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق، وقلتم: هو زائد على القرآن، فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة وما يرد منها، فإما أن تقبلوها كلها، وإن زادت على القرآن، وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن، وأما التحكم في قبول ما شئتم منها، ورد ما شئتم منها، فما لم يأذن به الله ولا رسوله، ونحن نشهد الله شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة واحدة صحيحة أبدا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها.
الوجه التاسع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القسم للبكر سبعا، يفضلها بها على من عنده من النساء، وللثيب ثلاثا إذا أعرس بهما، وقلتم: هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن، ومخالف له فلو قبلنا كنا قد نسخنا به القرآن، ثم أخذتم بقياس فاسد واه لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطّول غير خائف العنت، وإذا لم تكن تحته حرة، وهو خلاف ظاهر القرآن، وزائد عليه قطعا.(1/382)
الوجه الأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسقاط نفقة المبتوتة وسكناها، وقلتم: هو مخالف للقرآن، فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به، ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قرءان، وطلاقها طلقتان مع كونه زائدا على ما في القرآن قطعا.
الوجه الحادي والأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تخيير ولي الدم بين الدية، أو القود، أو العفو بقولكم: إنها زائدة على ما في القرآن، ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض، فلا قود عليه ولم تروا ذلك مخالفا لظاهر القرآن، والله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ويقول:
{فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
الوجه الثاني والأربعون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «لا يقبل مسلم بكافر» (1) وقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (2) وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن لأن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله بأنه: «لا قود إلا بالسيف» (3) وهو مخالف لظاهر القرآن، فإنه سبحانه قال: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا}
[الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
الوجه الثالث والأربعون: وقال أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أنه:
«لا جمعة إلا في مصر جامع»، وهو مخالف لظاهر القرآن قطعا، وزائد عليه، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحمد من أهل العلم في أن كل بيعين، فلا بيع بينهما حتى يتفرقا وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد.
الوجه الرابع والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف: «لا تقطع الأيدي في الغزو»، وهو زائد على القرآن، وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصراة، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه.
الوجه الخامس والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف بل باطل في أنه لا يؤكل الطافي
__________
(1) البخاري (111) في العلم، باب: كتابة العلم، وأحمد (1/ 79).
(2) أبو داود (2751) في الجهاد، باب: في السرية [ترد على أهل العسكر]، وابن ماجة (2683) في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد (1/ 119).
(3) ابن ماجة (2667) في الديات، باب: لا قود إلا بالسيف، وفي الزوائد: «في إسناده جابر الجعفي، وهو كذاب» وضعفه الألباني.(1/383)
من السمك، وهو خلاف القرآن، إذ يقول تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعََامُهُ} [المائدة:
96]، فصيده ما صيد منه حيا وطعامه قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هو ما مات فيه، صح ذلك عن الصديق وابن عباس وغيرهما، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال، مع موافقته لظاهر القرآن.
الوجه السادس والأربعون: أنكم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وهو زائد على ما في القرآن، ولم تروه ناسخا، ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح، وقلتم: وهو مخالف لما في القرآن زائد عليه وليس كذلك.
الوجه السابع والأربعون: أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل مع أنه زائد على القرآن، وحديث عدم القود على قاتل ولده، وهو زائد على ما في القرآن مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي صلّى الله عليه وسلّم لصفية، وجعل عتقها صداقها، فصارت بذلك زوجة، وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن، والحديث في غاية الصحة.
الوجه الثامن والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن، وهو: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه» (1)، فقلتم: هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسكران، وتركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به وقلتم: وهو خلاف ظاهر القرآن بقوله: {لََا تَأْكُلُوا أَمْوََالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبََاطِلِ} [النساء: 29] والعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان، فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن، وإلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماء، فخالفتم ظاهر القرآن من السنة الصحيحة الصريحة.
الوجه التاسع والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف وهو: «من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له» (2) ولم تقولوا: هو زائد على القرآن في قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ} (39) [النجم] وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت، وأنه لا ينقطع به، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]
__________
(1) الترمذي (1191) في الطلاق، باب: ما جاء في طلاق المعتوه، وقال: «هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف، ذاهب الحديث».
(2) أحمد (3/ 339).(1/384)
وخلاف ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع منه عمله إلا من ثلاث» (1).
الوجه الخمسون: رد السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجوب الموالاة حيث أمر الذي ترك لمعة (2) من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة، وقالوا: هو زائد على كتاب الله، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب الله في أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.
الوجه الحادي والخمسون: رد الحديث الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في: «أنه لا نكاح إلا بولي» (3) وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل، وقالوا: هو زائد على كتاب الله، فإن الله تعالى يقول: {فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وقال {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234]، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح، والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهد عدل» (4)، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي، ولا عدالة الشاهدين، فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن، فتكون ناسخة فلا تقبل.
الوجه الثاني والخمسون: أنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما: أنه باطل مناف للدين، والثاني: أنه صحيح مؤخر على الكتاب والسنة، فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس.
فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن موجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.
قيل: فهل قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين، وعرضة للخطأ، بخلاف قول من ضمنت لنا العصمة في أقواله، وفرض الله علينا اتباعه وطاعته.
__________
(1) مسلم (1631/ 14) في الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود (3880) في الوصايا، باب: في الصدقة عن الميت، والترمذي (1376) في الأحكام، باب: في الوقف.
(2) بقعة يسيرة من جسده لن ينلها الماء.
(3) أبو داود (2085) في النكاح، باب: في الولى، والترمذي (1101) في النكاح باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، وابن ماجة (1881) في النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي.
(4) موارد الظمآن (1247) في النكاح، باب: ما جاء في الولي والشهود، بدون لفظ مرشد.(1/385)
فإن قيل: القياس: بيان لمراد الله ورسوله من النصوص، وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدا على القرآن، بل تفسير له وتبيين.
قيل: فهلا قلتم أن السنة بيان لمراد الله من القرآن تفصيلا لما أجمله، وتبيينا لما سكت عنه، وتفسيرا لما أبهمه فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى، ونهى عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فكل ما جاءت به السنة، فإنها تفصيل لهذا المأمور به، والمنهى عنه، والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا.
وهكذا يتبين بالمثال التاسع عشر، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية، فقال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (1). وفي حديث: «إني لا أشهد على جور» (2) فسماه جورا، وقال: «أشهد على هذا غيري» (3) تهديدا له، وإلا فمن الذي يطلب هذا من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه جور، وأنه لا يصلح، وأنه على خلاف تقوى الله، وأنه خلاف العدل؟ وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه، وقامت به السموات والأرض وأسست عليه الشريعة، فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس عن وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فرد بالمتشابه من قوله: «كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين» (4) فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه كما يشاء، وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان (5).
تخصيص القرآن بالسنة
عن أبي إسحاق وهو السبيعي قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود، فقال:
أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب، فقال: ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقول امرأة، لا ندري أحفظت أم لا؟ (6).
__________
(1) البخاري (2587) في الهبة، باب: الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623/ 13) في الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(2) مسلم (1623/ 14) في الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، وأحمد (4/ 268).
(3) مسلم (1268/ 17) في الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، وأحمد (4/ 269).
(4) البيهقي في الكبرى (7/ 481)، والدارقطني (4/ 236).
(5) إعلام الموقعين (2/ 348323).
(6) البيهقي في الكبرى (7/ 475)، والدارقطني (4/ 27).(1/386)
قال أبو داود في «المسائل»: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر له قول عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة. فلم يصحح هذا عن عمر، وقال الدارقطني: هذا الكلام لا يثبت عن عمر، يعني قوله: سنة نبينا. ثم ذكر أحاديث الباب، ثم قال بعد انتهاء آخر الباب:
اختلف الناس في المبتوتة، هل لها نفقة، أو سكنى؟ على ثلاثة مذاهب، وعلى ثلاث روايات عن أحمد:
أحدها: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو ظاهر مذهبه، وهذا قول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وميمون ابن مهران، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، وأكثر فقهاء الحديث، وهو مذهب صاحبة القصة فاطمة بنت قيس، وكانت تناظر عليه.
والثاني: ويروى عن عمر وعبد الله بن مسعود: أن لها السكنى والنفقة. وهو قول أكثر أهل العراق، وقول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه، وعثمان البتي، والعنبري، وحكاه أبو يعلى القاضي في «مفرداته» رواية عن أحمد، وهي غريبة جدا.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وهذا قول مالك والشافعي وفقهاء المدينة السبعة، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وأسعد الناس بهذا الخبر من قال به، وأنه لا نفقة لها، ولا سكنى، وليس مع من رده حجة تقاومه، ولا تقاربه.
قال ابن عبد البر: أما من طريق الحجة وما يلزم منها، فقول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأرجح لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نصا صريحا، فأي شيء يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، الذي هو المبين على الله مراده؟ ولا شيء يدفع ذلك، ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
وأما قول عمر ومن وافقه، فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما. والحجة معهم، ولو لم يخالفهم أحد منهم لما قبل المخالف لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجة على عمر وعلى غيره. ولم يصح عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربه وسنة نبينا لقول امرأة، فإن أحمد أنكره، وقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة. وهذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية، فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع وترده السنة، ويخالفه فيه علماء الصحابة؟(1/387)
وقال إسماعيل بن إسحاق: نحن نعلم أن عمر لا يقول: «لا ندع كتاب ربنا» إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملا، لقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق، آخر كلامه.
والذين ردوا كلام فاطمة هذا ظنوه معارضا للقرآن، فإن الله تعالى قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وقال: {لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلََا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وهذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة، وأما إيجاب النفقة لها فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهنّ، كما قال القاضي إسماعيل لأن الله سبحانه وتعالى شرط في وجوب الإنفاق أن يكن من أولات الحمل، وهو يدل على أنها إذا كانت حائلا (1) فلا نفقة لها، كيف وإن القرآن لا يدل على وجوب السكنى للمتبوبة بوجه ما؟ فإن السياق كله إنما هو في الرجعية.
ويبين ذلك قوله تعالى: {لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} (1) [الطلاق: 1] وقوله:
{فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وهذا في البائن مستحيل، ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ} واللاتي قال فيهن: {فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
[الطلاق: 2] قال فيهن: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] و {لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وهذا ظاهر جدا.
وشبهة من ظن أن الآية في البائن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
قالوا: ومعلوم أن الرجعية لها النفقة حاملا كانت أم حائلا، وهذا لا حجة فيه، فإنه إذا أوجب نفقتها حاملا لم يدل ذلك على أنه لا نفقة لها إذا كانت حائلا، بل فائدة التقييد بالحمل التنبيه على اختلاف جهة الإنفاق بسبب الحمل قبل الوضع وبعده، فقبل الوضع لها النفقة حتى تضعه، فإذا وضعته صارت النفقة بحكم الإجارة ورضاعة الولد، وهذه قد يقوم غيرها مقامها فيه فلا تستحقها، لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ} [الطلاق: 6]، وأما نفقة حال الحمل فلا يقوم غيرها مقامها فيه، بل هي مستمرة حتى تضعه، فجهة الإنفاق مختلفة. وأما الحائل فنفقتها معلومة من نفقة الزوجات، فإنها زوجة ما دامت في العدة، فلا حاجة إلى بيان وجوب نفقتها.
__________
(1) في المطبوعة «حاملا».(1/388)
وأما الحامل فلما اختلفت جهة النفقة عليها قبل الوضع وبعده، ذكر سبحانه الجهتين والسببين. وهذا من أسرار القرآن ومعانيه التي يختص الله بفهمها من شاء.
وأيضا، فلو كان قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} في البوائن لكان دليلا ظاهرا على أن الحائل البائن لا نفقة لها لاشتراط الحمل في وجوب الإنفاق، والحكم المعلق بالشرط يعدم عند عدمه، وأما آية السكنى، فلا يقول أحد: إنها مختصة بالبائن لأن السياق يخالفه، ويبين أن الرجعية مرادة منها، فإما أن يقال: هي مختصة بالرجعية كما يدل عليه سياق الكلام، وتتحد الضمائر، ولا تختلف مفسراتها، بل يكون مفسر قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} هو مفسر قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} وعلى هذا فلا حجة في سكنى البائن. وإما أن يقال: هي عامة للبائن والرجعية.
وعلى هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيا للقرآن، بل غايته: أن يكون مخصصا لعمومه، وتخصيص القرآن بالسنة جائز واقع، هذا لو كان قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} عاما، فكيف لا يصح فيه العموم، لما ذكرناه؟
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نفقة لك ولا سكنى» (1) وقوله في اللفظ الآخر: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» (2) رواه الإمام أحمد والنسائي، وإسناده صحيح، وفي لفظ لأحمد: «إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى» (3)، وهذا يبطل كل ما تأولوا به حديث فاطمة، فإن هذا فتوى عامة، وقضاء عام في حق كل مطلقة، فلو لم يكن لشأن فاطمة ذكر في المبين لكان هذا اللفظ العام مستقلا بالحكم، لا معارض له بوجه من الوجوه. فقد تبين أن القرآن لا يدل على خلاف هذا الحديث، بل إنما يدل على موافقته، كما قالت فاطمة: بيني وبينكم القرآن.
ولما ذكر لأحمد قول عمر: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة تبسم أحمد وقال: أي شيء في القرآن خلاف هذا (4)؟
__________
(1) البخاري (5323، 5324) في الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس، ومسلم (1480/ 37) في الطلاق، باب: المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
(2) النسائي (3403) في الطلاق، باب: الرخصة في الطلاق الثلاث، وأحمد (6/ 373).
(3) أحمد (6/ 417).
(4) تهذيب السنن (3/ 193190).(1/389)
من تفسيرات النبي صلّى الله عليه وسلّم للقرآن
سئل صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: {يََا أُخْتَ هََارُونَ} [مريم: 28]، فقال: «كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قومهم» (1).
وفي الترمذي أنه سئل صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنََاهُ إِلى ََ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (147) [الصافات: 147]: كم كانت الزيادة؟ قال: «عشرة آلاف» (2).
وسأله صلّى الله عليه وسلّم أبو ثعلبة عن قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فقال: «ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عملكم» (3). ذكره أبو داود (4).
باب: منه قد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء بالأطهار، فلا التفات بعد ذلك إلى شيء خالفه، بل كل تفسير يخالف هذا فباطل (5).
تفسير الصحابة للقرآن والأقوال في الاحتجاج به
وقد اختلف في تفسير الصحابي، هل له حكم المرفوع، أو الموقوف، على قولين:
الأول: اختبار أبي عبد الله الحاكم، والثاني: هو الصواب، ولا نقول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لم نعلم أنه قاله (6).
__________
(1) مسلم (2135/ 9) في الأدب، باب: النهي عن التكني بأبي القاسم، والترمذي (3155) في تفسير القرآن، باب: ومن سورة مريم وقال: «صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس».
(2) الترمذي (3229) في تفسير القرآن، باب: من سورة الصافات، وقال: «حديث غريب»، وضعفه الألباني.
(3) أبو داود (4341) في الملاحم، باب: الأمر والنهي، وضعفه الألباني.
(4) إعلام الموقعين (4/ 496).
(5) زاد المعاد (5/ 620).
(6) طريق الهجرتين (383).(1/390)
لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع.
قال أبو عبد الله الحاكم في «مستدركه»: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع.
ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين لهم معاني القرآن، وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا.
وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له، وكما سأله الصديق عن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فبين له المراد، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فبين لهم معناها.
وكما سألته أم سلمة عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحََاسَبُ حِسََاباً يَسِيراً} (8) [الانشقاق]، فبين لها أنه العرض، وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف (1) التي في آخر السورة، وهذا كثير جدا.
فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم.
بعض تفسير الصحابة يخالف الأحاديث
فإن قيل: فنحن نجد لبعضهم أقوالا في التفسير تخالف الأحاديث المرفوعة الصحاح، وهذا كثير. كما فسر ابن مسعود الدخان بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه دخان يأتي قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدجال، وطلوع الشمس من مغربها.
وفسر عن عمر بن الخطاب قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:
6]، بأنها للبائنة والرجعية، حتى قال: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة، مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير.
__________
(1) هي آية الكلالة التي في آخر النساء لأنها نزلت في الصيف، أما الأولى فنزلت في الشتاء.(1/391)
وفسر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] أنها عامة في الحامل والحائل، فقال:
تعتد أبعد الأجلين، والسنة الصحيحة بخلافه.
وفسر ابن مسعود قوله: {وَأُمَّهََاتُ نِسََائِكُمْ وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية، فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها. والصحيح خلاف قوله، وأن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها والصفة راجعة إلى قوله: {وَرَبََائِبُكُمُ اللََّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسََائِكُمُ اللََّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}، وهو قول جمهور الصحابة.
وفسر ابن عباس: «السجل» بأنه كتاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم يسمى السجل، وذلك وهم، وإنما السجل الصحيفة المكتوبة، واللام مثلها في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، وفي قول الشاعر:
فخر صريعا لليدين وللفم (1)
أي يطوي السماء كما يطوي السجل على ما فيه من الكتاب: وهذا كثير جدا. فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع؟
قيل: الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء وصورتها ألا يكون في المسألة نص يخالفه، ويقول في الآية قولا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة، سواء علم استشهاره أو لم يعلم، وما ذكر من هذه الأمثلة فقد فقد فيه الأمران، وهو نظير ما روي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء.
فإن قيل: لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ، ولكان معصوما لتقوم الحجة بقوله، فإذا كان يفتي بالصواب تارة وبغيره أخرى، وكذلك تفسيره فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة والتفسير المعين من قسم الصواب؟ إذ صورة المسألة أنه لم يقم على المسألة دليل غير قوله، وقوله ينقسم، فما الدليل على أن هذا القول المعين من القسمين ولا بد؟
قيل: الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة، وهو أن من الممتنع أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض، ويمسك الباقون عن
__________
(1) هذا عجز بيت، وصدره: ضممت إليه بالسنان قميصه. مغني اللبيب (1/ 238) تحقيق: محي الدين.(1/392)
الصواب فلا يتكلمون به، وهذه الصورة المذكورة وأمثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب، والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب، واشتماله على ناطق بغيره فقط، فهذا هو المحال وبهذا خرج الجواب عن قولكم: لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ، فإن قوله لم يكن بمجرده حجة بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن (1).
ما أشكل على بعض الصحابة
وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحََاسَبُ حِسََاباً يَسِيراً} (8) [الانشقاق] معارضته لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذب» (2)، وبين لها أن الحساب اليسير، هو العرض، أي حساب العرض، لا حساب المناقشة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء، وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب، وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة.
وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولََئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (82) [الأنعام] أنه ظلم النفس بالمعاصي، وبين أنه الشرك، وذكر قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) [لقمان] مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك، فإن الله سبحانه لم يقل، ولم يظلموا أنفسهم بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ}، ولبس الشيء بالشيء: تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر.
ومن هذا قوله تعالى: {بَلى ََ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحََاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (81) [البقرة]، فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا، فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به، ومع أن سياق قوله: {وَكَيْفَ أَخََافُ مََا أَشْرَكْتُمْ وَلََا تَخََافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللََّهِ مََا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطََاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (81) [الأنعام]، ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن، ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى، فدل على أن الظلم: الشرك.
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 198195).
(2) مسلم (2876/ 79) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إثبات الحساب.(1/393)
وسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الكلالة وراجعه فيها مرارا، فقال «تكفيك آية الصيف» (1): واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها، وفهمها الصديق.
وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن لحوم الحمر الأهلية، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تحمس، وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم، وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية. وفهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنهي، وصرح بعلته من كونها رجسا.
وفهمت المرأة من قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدََاهُنَّ قِنْطََاراً} [النساء: 20] جواز المغالاة في الصداق، فذكرته لعمر، فاعترف به. وفهم ابن عباس من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها، حتى ذكره ابن عباس، فأقر به.
ولم يفهم عمر من قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها» (2) قتال مانعي الزكاة، حتى بين له الصديق فأقر به.
وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جُنََاحٌ فِيمََا طَعِمُوا إِذََا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] رفع الجناح عن الخمر، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم، فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما. وقد فهم من قوله تعالى: {وَلََا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
[البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو، حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد، والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقال الصديق رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لََا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب
__________
(1) مسلم (1617/ 9) في الفرائض، باب: ميراث الكلالة.
(2) البخاري (1399) في الزكاة، باب: وجوب الزكاة، ومسلم (21/ 33) في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله إلخ.(1/394)
من عنده» (1) فأخبرهم أن يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها.
وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود: هل عذبوا أو نجوا، حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين: {وَإِذْ قََالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللََّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} [الأعراف: 164]، فأخبر أنهم أنكروا فعلهم، وغضبوا عليهم وإن لم يواجهوهم بالنهي، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين، فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم.
وأيضا، فإن الله سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به، وعتوا عما نهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به.
وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في: {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} (1) السورة؟ قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره، فقال لابن عباس ما تقول أنت؟
قال: هو أجل رسول الله أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم.
وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله، بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله، ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار. فعلم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا من كل ذنب، فيقدم عليه مسرورا راضيا عنه، ويدل عليه أيضا قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]، وهو صلّى الله عليه وسلّم كان يسبح بحمده دائما، فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح، ودخول الناس في الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية، فأمره بتوفيتها. ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال، فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول: «اللهم اجعلني من التوابين،
__________
(1) أبو داود (4338) في الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي (2168) في الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، وأحمد (1/ 5).(1/395)
واجعلني من المتطهرين» (1)، فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها، وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها (2).
__________
(1) الترمذي (55) في الطهارة، باب: فيما يقال بعد الوضوء، وقال: «في إسناده اضطراب ولا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلخ».
وقال الشيخ أحمد شاكر:
«وقد أخطأ الترمذي فيما زعم من اضطراب الإسناد في هذا الحديث، ومن أنه لا يصح في الباب كبير شيء. وأصل الحديث صحيح مستقيم الإسناد، وإنما جاء الاضطراب في الأسانيد التي نقلها الترمذى منه أو ممن حدثه بها» وبعد أن ذكر عدة روايات للحديث قال:
كل الروايات التي ذكرنا ليس فيها قوله: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» إلا في رواية الترمذي وحدها. ولا يكفي ذلك في صحتها، لما علمت من الاضطراب والخطأ فيها، وإنما جاءت في حديث بهذا المعنى عن ثوبان مرفوعا، نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 239) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وقال في الأوسط: تفرد به مسور بن مورع، ولم أجد من ترجمه، وفيه أحمد بن سهيل الوراق، ذكره ابن حبان في الثقات. وفي إسناد الكبير: أبو سعيد البقال، والأكثر على تضعيفه، ووثقه بعضهم».
وانظر تخريج الحديث مفصلا في الإرواء رقم (96).
(2) إعلام الموقعين (1/ 437433).(1/396)
فضائل القرآن
مكانة القرآن بين الكتب المنزّلة
إذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب، وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها، وهذا حقيقة قول المسيح عليه السّلام: «أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل، ويفسر لكم كل شيء» وإذا تأملت قوله: «وكل شيء عده الله لكم به» وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار والثواب والعقاب، تيقنت صدق الرسولين الكريمين، ومطابقة الأخبار المفصلة من محمد صلّى الله عليه وسلّم للخبر المجمل من أخيه المسيح (1).
القرآن كثير الخير عظيم النفع
قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (77) فوصفه بما يقتضي حسنه، وكثرة خيره، ومنافعه، وجلالته، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، والله سبحانه وصف نفسه بالكرم، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره، وحسن منظره: من النبات، وغيره. ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الكلبي: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (77)، أي حسن كريم على الله. وقال مقاتل: كرمه الله وأعزه، لأنه كلامه.
وقال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد، لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة. وبالجملة فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير بسهولة ويسر (2).
القرآن كفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد
لما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}
__________
(1) هداية الحيارى (108).
(2) التبيان (225).(1/397)
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) [سورة العصر] أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه، فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية، ويخلص به من الخسران المبين، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد، في المعاش والمعاد. والموصل لهم إلى سبيل الرشاد، فالحقيقة والطريقة، والأذواق والمواجيد الصحيحة، كلها لا تقتبس إلا من مشكاته، ولا تستثمر إلا من شجراته (1).
القرآن باب الله الأعظم الذي منه الدخول
فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته، وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسبب الواصل بينه وبين عباده، إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول، فلا يغلق إذا غلقت الأبواب. وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، لا تفنى عجائبه، ولا تقلع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالاته، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكرا زادها هداية وتبصيرا، وكلما بجّست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا.
فهو نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والمنادى بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح، حي على الفلاح. نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم: {يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ} (31) [الأحقاف].
أسمع والله لو صادف آذانا واعية، وبصّر لو صادف قلوبا من الفساد خالية.
لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل.
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 6، 7).(1/398)
وا عجبا لها! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين، ونصوص حيث نبيه المرفوع؟ أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟.
وا عجبا! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها، ومقبولها ومردودها، وراجحها ومرجوحها، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان؟ وكلام من أوتي جوامع الكلم، واستولى كلامه على الأقصى من البيان.
كلا، بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرائق قصدها، يربى فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير.
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون، وتزاحموا عليها، وهيهات، أين السهى من شمس الضحى؟، وأين الثرى من كواكب الجوزاء؟، وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم، من النقل المصدق عن القائل المعصوم؟، وأين الأقوال التي أعلى درجاتها: أن تكون سائغة الاتباع، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع؟
وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر، من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر؟، وأين المذاهب التي إذا مات أربابها (1) فهي من جملة الأموات، من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسموات؟
سبحان الله! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر؟!،وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها. ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها. وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب (أربابها).(1/399)
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين. وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة. فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين. نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز. وقالوا: مالك عندنا من عبور، وإن كان ولا بد، فعلى سبيل الاجتياز: أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان. المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر، مبخوس حظه من المعقول، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول، وأهل الكتاب والسنة، المقدمون لنصوصها على غيرها، جهال لديهم منقوصون:
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمََا آمَنَ النََّاسُ قََالُوا أَنُؤْمِنُ كَمََا آمَنَ السُّفَهََاءُ أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهََاءُ وَلََكِنْ لََا يَعْلَمُونَ} (31) [البقرة: 13].
حرموا والله الوصول، بعدولهم عن منهج الوحي وتضييعهم الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها. حتى إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه، وقدموا على ما قدموه، {وَبَدََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مََا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فيا شدة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا!، ويا عظم المصيبة عند ما يتبين بوارق أمانيه خلبا وآماله كاذبة غرورا. فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟، وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر؟
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟، أو بالإشارات والشطحات، وأنواع الخيال؟
هيهات والله، لقد ظن أكذب الظن، ومنته نفسه أبين المحال. وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره، وتزود التقوى، وائتم بالدليل، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم (1).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 63).(1/400)
القرآن حق وصدق
ومن شهادته أيضا: ما أودعه في قلوب عباده: من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه ووحيه. فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب، والافتراء على رب العالمين، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته. بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك. وتدفعه الفطر والعقول السليمة، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى. كالأبوال والأنتان. فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، وعدم السكون إليه. ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره.
ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما: أنه حق وصدق. بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق. وأن الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأكملهم علما وعملا، ومعرفة. كما قال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (82) [النساء]، وقال تعالى:
{أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) [محمد] فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان. وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح، والألم، والحب، والخوف أنه من عند الله، تكلم به حقا، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد، وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه، بعد أن يدخل فيه؟ فقال: لا. فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، وقوله:
{وَلِيَعْلَمَ} [1] الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ [الحج: 54]، وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى ََ صِرََاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6) [سبأ]، وقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ََ} [الرعد: 19]، وقوله:
__________
(1) في المطبوعة: (ويرى) وهو خطأ.(1/401)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنََابَ} (27) [الرعد] يعني: أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية، بل الله هو الذي يهدي ويضل. ثم نبههم على أعظم آية وأجلها، وهي: طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللََّهِ} أي: بكتابه وكلامه، {أَلََا بِذِكْرِ اللََّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] فطمأنينة القلوب الصحيحة، والفطرة السليمة به، وسكونها إليه: من أعظم الآيات إذ يستحيل في العادة: أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل (1).
القرآن ذكر الله الأكبر
وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى: {اتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ وَأَقِمِ الصَّلََاةَ إِنَّ الصَّلََاةَ تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا تَصْنَعُونَ} (45) [العنكبوت] وفيها أربعة (2) أقوال:
أحدها: أن ذكر الله أكبر من كل شيء. فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره، فهو سر الطاعات وروحها.
الثاني: أن المعنى: أنكم إذا ذكرتموه ذكركم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له. فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: مضاف إلى المذكور.
الثالث: أن المعنى: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر:
محق كل خطيئة ومعصية، هذا ما ذكره المفسرون.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين:
إحداهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر.
والثانية: اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له، ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء (3) والمنكر (4).
__________
(1) مدارج السالكين (3/ 471، 472).
(2) هكذا في المطبوعة، وذكر ثلاثة فقط.
(3) ولعل في الآية معنى آخر: أن الصلاة هي أكبر الذكر. فقد قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلََاةَ لِذِكْرِي} [طه:
14]. وهى أكبر وأقوى وأشد ناه عن الفحشاء والمنكر.
(4) مدارج السالكين (2/ 426).(1/402)
القرآن فضل الله ورحمته
قال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ} (58) [يونس].
قال أبو سعيد الخدري: (فضل الله): القرآن، و (رحمته): أن جعلكم من أهله. وقال هلال بن يساف: بالإسلام الذي هداكم إليه، وبالقرآن الذي علمكم إياه، وهو خير مما تجمعون من الذهب والفضة، وكذلك قال: ابن عباس والحسن وقتادة: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن، وقالت طائفة من السلف: فضله: القرآن، ورحمته: الإسلام (1).
باب منه وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته هما القرآن والإيمان عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع، والعقار، والأثمان، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ} (58) [يونس] (2).
القرآن ذكر للعباد
أخبر تعالى عن القرآن بأنه ذكر للعالمين، وفي موضع آخر تذكرة للمتقين، وفي موضع آخر ذكر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولقومه، وفي موضع آخر ذكر مطلق، وفي موضع آخر ذكر مبارك، وفي موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر.
ويجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكرا عاما وخاصا، وكونه ذا ذكر، فإنه يذكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم، ويذكرهم بالمبدإ والمعاد، ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وحقوقه على عباده، ويذكرهم بالخير ليقصدوه، وبالشر ليجتنبوه.
ويذكرهم بنفوسهم، وأحوالها وآفاتها، وما تكمل به، ويذكرهم بعدوهم وما يريد منهم، وبماذا يحترزون من كيده، ومن أي الأبواب والطرق يأتي إليهم. ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إليه، وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفسا واحدا. ويذكرهم بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها ويذكرهم بأسه وشدة بطشه، وانتقامه ممن عصى أمره، وكذب رسله ويذكرهم بثوابه وعقابه.
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 31).
(2) إغاثة اللهفان (2/ 70).(1/403)
ولهذا يأمر سبحانه عباده أن يذكروا ما في كتابه، كما قال: {خُذُوا مََا آتَيْنََاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مََا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]، وإذا كان كذلك فأحق وأولى وأول من كان ذاكرا له من أنزل عليه، ثم لقومه، ثم لجميع العالمين وحيث خص به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره (1).
القرآن تبصرة للعباد
قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنََا لََا تُزِغْ قُلُوبَنََا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنََا وَهَبْ لَنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ} (8) [آل عمران]، وقال تعالى: {وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوََاحَ وَفِي نُسْخَتِهََا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (154) [الأعراف]، وقال تعالى: {هََذََا بَصََائِرُ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (20) [الجاثية]، وقال تعالى: {لَقَدْ كََانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111) [يوسف]، وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (57) [يونس].
فقوله {هََذََا بَصََائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} عام مطلق، وقوله: {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
خاص بأهل اليقين.
ونظير ذلك قوله: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (57).
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}، وقوله {يَهْدِي بِهِ اللََّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوََانَهُ سُبُلَ السَّلََامِ} [المائدة: 16].
ونظيره أيضا، قوله {هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (138) [آل عمران] وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمََا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ََ} [النجم: 23].
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس، والبصائر جمع بصيرة، وهي فعلية بمعنى مفعلة، أي مبصرة لمن تبصر، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] أي مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته. فمبصرة في الآية: بمعنى مرئية لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية، وتحيروا في معناها.
__________
(1) التبيان (129128).(1/404)
فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أي أريته إياه، كما يقال بصرته به، وبصر هو به.
فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: التي تبصر، والتبصرة مصدر، مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذا الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه.
فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين فهو في نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل، وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى.
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن لم يهتد به، فإنما يهتدي به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون.
والهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي هدى.
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما في الأثر: «من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا» ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى.
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أي بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به.
فالله الهادي، وكتابه الهدى الذي يهدى به على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل، وقابل، وآلة. فالفاعل: هو الله تعالى: والقابل: قلب العبد، والآلة: هو الذي يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدي خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا (1).
محتوى خطاب القرآن
تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله وله الحمد كله، أزمّة الأمور كلها بيده
__________
(1) إغاثة اللهفان (2/ 171169).(1/405)
ومصدرها منه ومردها إليه، مستويا على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلعا على أسرارهم وعلانيتهم، منفردا بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر. الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه. فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعلم لهم من العقوبة إن عصوه. ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء.
ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم. ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل. ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكّر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنى بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم ومصلح فسادهم والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده. وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه فهو مولاهم الحق ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟ (1).
__________
(1) الفوائد (30).(1/406)
فضل قارئ القرآن
ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب» (1).
في الأترج منافع كثيرة، وهو مركب من أربعة أشياء: قشر، ولحم، وحمض، وبزر، ولكل واحد منها مزاج يخصه فقشره حار يابس، ولحمه حار رطب، وحمضه بارد يابس، وبزره حار يابس.
ومن منافع قشره: أنه إذا جعل في الثياب منع السوس، ورائحته تصلح فساد الهواء والوباء، ويطيب النكهة إذا أمسكه في الفم، ويحلل الرياح. وإذا جعل في الطعام كالأبازير أعان على الهضم، قال صاحب «القانون»: وعصارة قشره تنفع من نهش الأفاعي شربا، وقشره ضمادا، وحراقة قشره طلاء جيد للبرص. انتهى.
وأما لحمه: فملطف لحرارة المعدة، نافع لأصحاب المرة الصفراء، قامع للبخارات الحارة. وقال الغافقي: أكل لحمه ينفع البواسير. انتهى.
وأما حمضه: فقابض كاسر للصفراء، ومسكن للخفقان الحار، نافع من اليرقان شربا واكتحالا، قاطع للقيء الصفراوي، مشه للطعام، عاقل للطبيعة، نافع من الإسهال الصفراوي، وعصارة حمضه يسكن غلمة النساء، وينفع طلاء من الكلف، ويذهب بالقوباء (2) ويستدل على ذلك من فعله في الحبر إذا وقع في الثياب قلعه، وله قوة تلطف وتقطع، وتبرد، وتطفئ حرارة الكبد، وتقوي المعدة، وتمنع حدة المرة الصفراء، وتزيل الغم العارض منها، وتسكن العطش.
وأما بزره: فله قوة محللة مجففة. وقال ابن ماسويه (3): خاصية حبه النفع من السموم القاتلة إذا شرب منه وزن مثقال مقشرا بماء فاتر، وطلاء مطبوخ.
وإن دق ووضع على موضع اللسعة نفع، وهو ملين للطبيعة، مطيب للنكهة، وأكثر هذا
__________
(1) البخاري (5020) في فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم (797/ 243) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضيلة حافظ القرآن.
(2) القوباء: داء في الجسد يتقشر منه الجلد، ويعرف عند العامة بالحزاز.
(3) هو يوحنا بن ماسويه البغدادي، طبيب سرياني، نشأ في بغداد، واتصل بهارون الرشيد، وعهد إليه بترجمة الكتب الطبية، وكان طبيب البلاط العباسي من أيام الرشيد حتى المتوكل، توفي بسامراء (243) هـ، تاريخ الحكماء (391380) للقفطي.(1/407)
الفعل موجود في قشره، وقال غيره: خاصية حبه النفع من لسعات العقارب إذا شرب منه وزن مثقالين مقشرا بماء فاتر، وكذلك إذا دق ووضع على موضع اللدغة. وقال غيره: حبه يصلح للسموم كلها، وهو نافع من لدغ الهوام كلها.
وذكر أن بعض الأكاسرة غضب على قوم من الأطباء، فأمر بحبسهم، وخيرهم أدما لا يزيد لهم عليه، فاختاروا الأترج، فقيل لهم: لم اخترتموه على غيره؟ فقالوا: لأنه في العاجل ريحان، ومنظره مفرح، وقشره طيب الرائحة، ولحمه فاكهة، وحمضه أدم، وحبه ترياق، وفيه دهن.
وحقيق بشيء هذه منافعه أن يشبه به خلاصة الوجود، وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن، وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح (1).
النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو
إنه صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2)، فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم (3).
القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه
قال الله عز وجلّ: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات. والقرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.
وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية: من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا.
فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه
__________
(1) زاد المعاد (4/ 285283).
(2) البخاري (2990) في الجهاد، باب: كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، ومسلم (1869) في الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إلخ.
(3) إعلام الموقعين (3/ 201).(1/408)
ومعرفة المراد منه. فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم: بين علوم لا ثقة بها، وإنما هي آراء وتقليد، وبين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا، وبين أمر صحيحة لا منفعة للقلب فيها وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها، ومع قلة نفعها. فهي: «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل» (1).
وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا، فليس عندهم إلا التكليف والتطويل والتعقيد، كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر، لا المغني ولا العمد
يحللون بزعم منهم عقدا ... وبالذي وضعوه زادت العقد
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك، ومن المحال ألا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله تعالى وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين المتشككين الشاكين، الذين أخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} (5) [طه]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلََا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (110) [طه: 110]. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، فهذا إنشاده وألفاظه في آخر كتبه. وهو أفضل أهل زمانه على الإطلاق في علم الكلام والفلسفة، وكلام أمثاله في مثل ذلك كثير جدا، قد ذكرنا في كتاب «الصواعق» وغيره.
__________
(1) من وصف المرأة الأولى لزوجها في حديث أم زرع الذي رواه البخاري (5189) في النكاح، باب:
حسن المعاشرة مع الأهل.(1/409)
وذكرنا قول بعض العارفين بكلام هؤلاء: آخر أمر المتكلمين الشك، وآخر أمر المتصوفين الشطح. والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين في هذه المطالب التي هي أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به، وجعله شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين.
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبا للرشد، مبغضا للغي، فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل لا يقبل إلا اللبن.
وعاد الفتى كالطفل ليس بقابل سوى المحض شيئا واستراحت عواذله (1).
فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده، ويسره وينشطه، ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه. وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى فينمو ويزيد، حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير، لا يحصل له به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل (2).
الآيات والسور التي يعتصم بها العبد من الشيطان ويستدفع بها شره ويحترز بها منه
وذلك عشرة أسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36) [فصلت]، وفي موضع آخر {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:
200] وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام. وتأمل سر
__________
(1) المحض: اللبن الخالص.
(2) إغاثة اللهفان (1/ 4644).(1/410)
القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة «هو» الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة «حم» لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه.
فإن الأمر بالاستعاذة في سورة «حم» وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى، والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وألا يسيء إليه، ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظ العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36) [فصلت]، وأما في سورة الأعراف، فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين، وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها، فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) [الأعراف]، وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين، وبين قوله في «حم» المؤمن {فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجلان يستبان:
فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد» (1).
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (2)، وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة، وتقدم قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء» (3).
__________
(1) البخاري (6115) في الأدب، باب: الحذر من الغضب.
(2) أبو داود (1463) في الصلاة، باب: في المعوذتين، والنسائي (5431) في الاستعاذة.
(3) أبو داود (5082) في الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، والترمذي (3575) في الدعوات، باب:
(117)، وقال: «حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه».(1/411)
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي، ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر الحديث فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان» (1)، وسنذكر إن شاء الله السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة، ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان» (2).
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (3)، وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» (4).
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن، إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} مع آية الكرسي، ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حم المؤمن، إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» (5)، وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته (6).
__________
(1) البخاري (2311) في الوكالة، باب: إذا وكل رجلا فترك الموكل شيئا فهو جائز.
(2) مسلم (780/ 212) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
(3) البخاري (5009) في فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، عن أبي مسعود.
(4) الترمذي (2882) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في آخر سورة البقرة، وقال: «حسن غريب».
(5) الترمذي (2879) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال:
«غريب»، وضعفه الألباني.
(6) بدائع القوائد (2/ 269267).(1/412)
باب: منه ليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقما إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر، ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك، وعدم استعماله والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به، وغلبت العوائد واشتد الإعراض، وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب، وتربى المرضى والأطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم، ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم، فعظم المصاب واستحكم الداء، وتركبت أمراض وعلل أعياهم علاجها، وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها، وقويت، ولسان الحال ينادي عليهم:
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الشفاء وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول (1)
العلاج بالقرآن
ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن، ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ثم يغسل وتسقى. وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلا كان به وجع (2).
هديه صلّى الله عليه وسلّم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم:
__________
(1) زاد المعاد (4/ 101).
(2) زاد المعاد (4/ 170).(1/413)
نعم والله وإني لأرقي، ولكن استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكروا له ذلك، فقال: «وما يدريك أنها رقية؟»، ثم قال: «قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما» (1).
وقد روى ابن ماجة في «سننه» من حديث علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الدواء القرآن» (2).
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] «ومن» هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض» هذا أصح القولين كقوله تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29]، وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهي: الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى: منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به ومحبته وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء
__________
(1) البخاري (5749) في الطب، باب النفث في الرقية، ومسلم (2201/ 65) في السلام، باب: جواز أخذ الأجر على الرقية بالقرآن والأذكار.
(2) ابن ماجة (3501) في الطب، باب: الاستشفاء بالقرآن، وفي الزوائد: «في إسناد الحارث الأعور، وهو ضعيف».(1/414)
أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير «مدارج السالكين» في شرحها. وحقيق بسورة هذا بعض شأنها، أن يستشفي بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ.
وبالجملة، فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي الهداية التي تجلب النعم، وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إن موضع الرقية منها: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) [الفاتحة]، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقار والطلب، والجمع بين أعلى الغايات، وهي عبادة الرب وحده، وأشرف الوسائل وهى الاستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه، وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربة من ماء زمزم، وأقرؤها عليه مرارا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فانتفع بها غاية الانتفاع.
وفي تأثير الرقى بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع، فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات نفوسها الخبيثة وسلاحها حماتها التي تلدغ بها، وهي لا تلدغ حتى تغضب، فإذا غضبت، ثار فيها السم، فتقذفه بآلتها، وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقى، فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن الله، ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفاعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحاني، والطبيعي، وفي النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس كانت أتم تأثيرا، وأقوى فعلا ونفوذا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة: فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه، وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتم، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها.(1/415)
وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان. قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ فِي الْعُقَدِ} (4) [الفلق] وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاما لها، وتمدها بالنفث والتفل الذي معه شيء من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوي كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآليتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه، وبعده من عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته، والله أعلم (1).
هديه صلّى الله عليه وسلّم في علاج لدغة العقرب بالرقية
روى ابن أبي شيبة في «مسنده»، من حديث عبد الله بن مسعود، قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي، إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره»، قال: ثم دعا بإناء فيه ماء وملح، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1)، والمعوذتين حتى سكنت (2).
ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين: الطبيعي والإلهي، فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي، وإثبات الأحدية لله، المستلزمة نفي كل شركة عنه، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها، أي تقصده الخليقة، وتتوجه إليه، علويها وسفليها، ونفي الوالد والولد والكفء عنه، المتضمن لنفي الأصل والفرع والنظير، والماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث
__________
(1) زاد المعاد (4/ 180176).
(2) الأحكام النبوية في الصناعة الطبية للكحال (1/ 65)، وبلفظ قريب السلسلة الصحيحة للألباني رقم (547).(1/416)
القرآن، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال.
وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد.
وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه، سواء كان في الأجسام أو الأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق، وهو الليل، وآيته وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن.
والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها نظرها.
والسورة الثانية: تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ولهذا أوصى النبي صلّى الله عليه وسلّم عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة، ذكره الترمذي في «جامعه» (1) وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة.
وقال: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (2). وقد ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم سحر في إحدى عشرة عقدة، وأن جبريل نزل عليه بهما، فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وكأنما أنشط من عقال.
وأما العلاج الطبيعي فيه، فإن في الملح نفعا لكثير من السموم، ولا سيما لدغة العقرب، قال صاحب «القانون»: يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب، وذكره غيره أيضا. وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة، والملح الذي فيه جذب وإخراج، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج، والله أعلم.
وقد روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال: «أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ
__________
(1) الترمذي (2903) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في المعوذتين، وقال: «حسن غريب».
(2) النسائى (5429) في الاستعاذة، باب: (1).(1/417)
بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك» (1).
واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا، وإن كان مؤذيا. والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار، أما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض.
أما الأول: فكما في «الصحيحين» من حديث عائشة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يده من جسده (2).
وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم»، وفيه: «من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يسمي، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح» (3).
وكما في «الصحيحين»: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (4). وكما في «صحيح مسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» (5).
وكما في «سنن أبي داود» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في السفر يقول بالليل: «يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد» (6).
وأما الثاني: فكما تقدم من الرقية بالفاتحة، والرقية للعقرب وغيرها.
__________
(1) مسلم (2709/ 55) في الذكر والدعاء، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره.
(2) البخاري (6319) في الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند المنام، ومسلم (2192/ 50) في السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث.
(3) انظر: الأذكار للنووي ص (108، 109) رقم (221)، وعزاء لابن السني.
(4) البخاري (5009) في فضائل القرآن، باب: فضل سورة البقرة، ومسلم (808/ 256) في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.
(5) مسلم (2708/ 54) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره.
(6) أبو داود (2603) في الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا نزل المنزل.(1/418)
فضل سورة الفاتحة
هي فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغني والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها، وأعطاها حقها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت.
ولما وقع بعض الصحابة على ذلك، رقى بها اللديغ، فبرأ لوقته، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«وما أدراك أنها رقية؟» (1).
ومن ساعده التوفيق، وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة، وما اشتملت عليه من التوحيد، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثبات الشرع والقدر والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحها، ودفع مفاسدها، وأن العافية المطلقة التامة، والنعمة الكاملة منوطة بها، موقوفة على التحقيق بها أغنته عن كثير من الأدوية والرقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه.
وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى، وعقل آخر، وإيمان آخر، وتالله لا يجد مقالة فاسدة، ولا بدعة باطلة إلا وفاتحة الكتاب متضمنة لردها وإبطالها بأقرب الطرق، وأصحها وأوضحها، ولا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية، وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها إلا وفي فاتحة الكتاب مفتاحه وموضع الدلالة عليه، ولا منزلا من منازل السائرين إلى رب العالمين إلا وبدايته ونهايته فيها.
ولعمر الله إن شأنها لأعظم من ذلك، وهي فوق ذلك، وما تحقق عبد بها، واعتصم بها، وعقل عمن تكلم بها، وأنزلها شفاء تاما، وعصمة بالغة، ونورا مبينا، وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغي ووقع في بدعة ولا شرك، ولا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا
__________
(1) سبق تخريجه ص (414).(1/419)
لماما، غير مستقر.
هذا، وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاح لكنوز الجنة، ولكن ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أن طلاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحققوا بمعانيها، وركبوا لهذا المفتاح أسنانا، وأحسنوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفة ولا استعارة، بل حقيقة، ولكن لله تعالى حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين، كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم.
والكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية تحول بين الإنس وبينها، ولا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني، معها منه أسلحة لا تقوم لها الشياطين، وأكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة، فلا يقاوم تلك الأرواح ولا يقهرها، ولا ينال من سلبها شيئا، فإن «من قتل قتيلا فله سلبه» (1) (2).
__________
(1) البخاري (4321) في المغازي، باب: قول الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} ومسلم (1751/ 41) في الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2) زاد المعاد (4/ 347، 348).(1/420)
فضل آية الكرسي
سئل صلّى الله عليه وسلّم: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال: {اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة 255]. ذكره أبو داود (1) (2).
وقد ذكر النسائي في (السنن الكبير) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» (3)، وهذا الحديث تفرد به محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة، ورواه النسائي عن الحسين بن بشر، عن محمد بن حمير. وهذا الحديث من الناس من يصححه، ويقول: الحسين بن بشر قد قال فيه النسائي: لا بأس به، وفي موضع آخر: ثقة. وأما المحمدان، فاحتج بهما البخاري في «صحيحه» قالوا: فالحديث على رسمه، ومنهم من يقول: هو موضوع.
وأدخله أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» وتعلق محمد بن حمير، وأن أبا حاتم الرازي قال: لا يحتج به، وقال يعقوب بن سفيان: ليس بقوي، وأنكر ذلك عليه بعض الحفاظ، ووثقوا محمدا، وقال: هو أجل من أن يكون له حديث موضوع، وقد احتج به أجل من صنف في الحديث الصحيح وهو البخاري، ووثقه أشد الناس مقالة في الرجال:
يحيى ابن معين.
وقد رواه الطبراني في «مجمعه» أيضا من حديث عبد الله بن حسن عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» (4). وقد روى هذا الحديث من حديث أبي أمامة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وفيها
__________
(1) أبو داود (1460) في الصلاة، باب: ما جاء في آية الكرسي.
(2) إعلام الموقعين (4/ 378).
(3) النسائي في الكبرى (9928) في عمل اليوم والليلة، باب: ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة.
(4) الطبراني في الكبير (3/ 83، 84) رقم (2733)، وقال الهيثمي فى المجمع (2/ 151): «إسناده حسن».(1/421)
كلها ضعف، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها واختلاف مخارجها، دلت على أن الحديث له أصل، وليس بموضوع. وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال: ما تركتها عقيب كل صلاة (1).
أجمع آية لمكارم الأخلاق
قد جمع الله له صلّى الله عليه وسلّم مكارم الأخلاق في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (199) [الأعراف] قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
وقد ذكر: أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: «ما هذا؟» قال: لا أدري حتى أسأل. ثم رجع إليه، فقال: «إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» (2) (3).
فضل سورة الملك
وسأله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك، حتى ختمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» (4). ذكره الترمذي، وقال ابن عبد البر: هو صحيح (5).
فضل سورة الزلزلة
وسأله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: أقرئني سورة جامعة، فأقرأه: {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ}، «أول الزلزلة»، حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أفلح الرويجل»، مرتين، ذكره أبو داود (6) (7).
__________
(1) زاد المعاد (1/ 303، 304).
(2) انظر: الدر المنثور (3/ 153) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ.
(3) مدارج السالكين (2/ 304).
(4) الترمذي (2890) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، وقال: «حسن غريب من هذا الوجه».
(5) إعلام الموقعين (4/ 378).
(6) أبو داود (1399) في الصلاة، باب: تحزيب القرآن، وضعفه الألباني.
(7) إعلام الموقعين (4/ 378).(1/422)
فضل المعوذتين
وفي المسند والسنن، عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة (1) ورواه أبو حاتم بن حبان في «صحيحه» (2)، والحاكم في «المستدرك» (3)، وقال: صحيح على شرط مسلم. ولفظ الترمذي «بالمعوذتين» (4).
وأيضا وقال له صلّى الله عليه وسلّم عقبة بن عامر: أقرأ سورة هود، وسورة يوسف؟ فقال: «لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} (1)». ذكره النسائي (5) (6).
باب: منه عن عقبة بن عامر قال: كنت أقود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقته، فقال لي: «ألا أعلمك سورتين، لم يقرأ بمثلهما؟» قلت: بلى، فعلمني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} (1)، فلم يرني أعجب بهما، فلما نزل للصبح قرأ بهما، ثم قال: «كيف رأيت يا عقبة؟» (7).
وفي رواية: «ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟» قلت: بلى، قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} (1)، فلما نزل صلى بهما الغداة، قال: «كيف ترى يا عقبة؟». رواه الإمام أحمد وأبو داود (8).
فضل سورة الإخلاص
وفي «معجم الطبراني»، و «مسند أبي يعلى الموصلي» من حديث عمر بن نبهان، وقد
__________
(1) أحمد (4/ 155)، وأبو داود (1523) في الصلاة، باب: في الاستغفار، والترمذي (2903) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في المعوذتين، وقال: «حسن صحيح»، والنسائي (1336) في السهو، باب: الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة.
(2) ابن حبان (موارد) (2347) في الأذكار، باب: قراءة المعوذات دبر الصلاة.
(3) الحاكم في المستدرك (1/ 253).
(4) زاد المعاد (1/ 304).
(5) النسائي (953) في الإمامة، باب: الفضل في قراءة المعوذتين.
(6) إعلام الموقعين (4/ 304).
(7) أحمد (4/ 144)، وأبو داود (1462) في الصلاة، باب: في المعوذتين.
(8) الصلاة (163).(1/423)
تكلم فيه، عن جابر يرفعه: «ثلاث من جاء بهن مع الإيمان، دخل من أي أبواب الجنة شاء، وزوج من الحور العين حيث شاء، من عفا عن قاتله، وأدى دينا خفيا، وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات، قل هو الله أحد». فقال أبو بكر رضي الله عنه: أو إحداهن يا رسول الله؟: قال: «أو إحداهن» (1) (2).
وأيضا وسأله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: إني أحب سورة: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1)، فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» (3) (4).
وأيضا في صحيح ابن حبان عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» (5)
والآية المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة آي القرآن، والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن (6) (7).
فضل سور: الإخلاص والكافرون والزلزلة
سورة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1): متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد، والوالد الذي هو من لوازم الصمدية، وغناه وأحديته، ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه، والتمثيل، والتنظير.
فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه، أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه. وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي
__________
(1) أبو يعلى (794)، والطبراني في الأوسط (3361)، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 105): «فيه عمر ابن نبهان وهو متروك».
(2) إعلام الموقعين (4/ 378).
(3) البخاري (774م) في الأذان، باب: الجمع بين السورتين في الركعة، وأحمد (3/ 141).
(4) زاد المعاد (1/ 304، 305).
(5) ابن حبان (843).
(6) أحمد (5/ 418)، والنسائي (996) في الافتتاح، باب: الفضل في قراءة: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}.
(7) إغاثة اللهفان (2/ 134).(1/424)
الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال، والشرك ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن.
فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهي، وإباحة.
والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه.
فأخلصت سورة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) الخبر عنه، وعن أسمائه، وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي، كما خلصت سورة {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} (1) من الشرك العملي الإرادي القصدي.
ولما كان العلم قبل العمل، وهو إمامه وقائده، وسائقه، والحاكم عليه ومنزله منازله، كانت سورة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) تعدل ثلث القرآن. والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر.
و {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} (1) تعدل ربع القرآن، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن عباس رضي الله عنه يرفعه: «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد، تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون، تعدل ربع القرآن». رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد (1).
ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه، لما لها فيه من نيل الأغراض، وإزالته، وقلعه منها أصعب، وأشد من قلع الشرك العلمي، وإزالته لأن هذا يزول بالعلم والحجة، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه، وضرره لأجل غلبة هواه، واستيلاء سلطان الشهوة، والغضب على نفسه، فجاء من التأكيد والتكرار في سورة {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} (1) المتضمنة لإزالة الشرك العملي، ما لم يجئ مثله في سورة {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1).
لما كان القرآن شطرين: شطرا في الدنيا وأحكامها، ومتعلقاتها، والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطرا في الآخرة، وما يقع فيها، وكانت سورة {إِذََا زُلْزِلَتِ}
قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة.
__________
(1) الترمذي (2894) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في إذا زلزلت، وقال: «حديث غريب»، والحاكم في المستدرك (1/ 566).(1/425)
وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها، كانت تعدل نصف القرآن، فأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والله أعلم.
ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الطواف، ولأنهما سورتا الإخلاص والتوحيد، كان يفتتح بهما عمل النهار، ويختمه بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد (1).
ما صح من أحاديث في فضائل السور والآيات
والذي صح في أحاديث السور: حديث فاتحة الكتاب، وأنه «لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها» (2).
وحديث البقرة، وآل عمران: أنهما «الزهراوان» (3).
وحديث: آية الكرسي وأنها «سيدة آي القرآن» (4).
وحديث الآيتين من آخر سورة البقرة «من قرأهما في ليلة كفتاه» (5).
وحديث سورة البقرة: «لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان» (6).
وحديث: العشر آيات من أول سورة الكهف «من قرأها عصم من فتنة الدجال» (7).
وحديث: قل هو الله أحد، وأنها «تعدل ثلث القرآن» (8). ولم يصح في فضائل سورة ما صح فيها.
وحديث المعوذتين، وأنه «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» (9).
__________
(1) زاد المعاد (1/ 318316).
(2) الترمذي (2875) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، وقال: «هذا حديث حسن صحيح»، والنسائي (914) في الافتتاح، باب: تأويل قول الله عز وجلّ: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، وأحمد (2/ 357).
(3) مسلم (804/ 252) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
(4) سبق تخريجة ص (421).
(5) سبق تخريجهما ص (412).
(6) سبق تخريجهما ص (412).
(7) مسلم (809/ 257) في صلاة المسافرين، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، وأبو داود (4323) في الملاحم، باب: خروج الدجال.
(8) سبق تخريجه ص (425).
(9) سبق تخريجه ص (411).(1/426)
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل على آيات لم ير مثلهن، ثم قرأهما» (1).
ويلي هذه الأحاديث وهو دونها في الصحة: حديث: «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن» (2).
وحديث: «قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» (3).
وحديث: «تبارك الذي بيده الملك، هي المنجية من عذاب القبر» (4) (5).
ما وضع في فضائل السور
«ذكر فضائل السور وثواب من قرأ سورة كذا فله أجر كذا»، من أول القرآن إلى آخره، كما ذكر ذلك الثعلبي والواحدي في أول كل سورة، والزمخشري في آخرها قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعوها (6).
__________
(1) مسلم (814/ 264) في صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة المعوذتين.
(2) الترمذي (2893) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في إذا زلزلت.
(3) سبق تخريجه ص (425).
(4) سبق تخريجه ص (422).
(5) المنار المنيف (113، 114).
(6) المنار المنيف (113).(1/427)
آداب القرآن الكريم
سماع القرآن الكريم
ومن منازل {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) [الفاتحة: 5].
وهو اسم مصدر كالنبات. وقد أمر الله به في كتابه، وأثنى على أهله، وأخبر أن البشرى لهم، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللََّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108] وقال: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:
16] وقال {وَلَوْ أَنَّهُمْ قََالُوا سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنََا لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46] {فَبَشِّرْ عِبََادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولََئِكَ الَّذِينَ هَدََاهُمُ اللََّهُ وَأُولََئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (18) [الزمر: 1817] {وَإِذََا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقال {وَإِذََا سَمِعُوا مََا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى ََ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمََّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83].
وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلا على علم الخير فيهم، وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم. فقال {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وأخبر عن أعدائي: أنهم هجروا السماع ونهوا عنه: فقال: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 22].
فالسماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلمه. وكم في القرآن من قوله {أَفَلََا يَسْمَعُونَ}؟ [السجدة: 26] وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهََا أَوْ آذََانٌ يَسْمَعُونَ بِهََا} [الحج: 46] (1).
السمع المستحب
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله واستماع كل ما يحبه الله، وليس بفرض.
والمكروه: عكسه. وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.
والمباح ظاهر (2).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 481).
(2) مدارج السالكين (1/ 177).(1/428)
أدب استماع القراءة
وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السمع وهو شهيد (1).
فضل سماع القرآن من الغير
قال القائل: المحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم وفيه غاية مطلوبهم، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ»، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنََا بِكَ عَلى ََ هََؤُلََاءِ شَهِيداً} (41) [النساء] قال: «حسبك الآن»، فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان (2).
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتمعوا أمروا قارئا أن يقرأ وهم يستمعون.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وربما بكى عمر.
ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبي موسى رضي الله عنه وهو يصلي من الليل فأعجبته قراءته فوقف واستمع لها، فلما غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فوقفت واستمعت لقراءتك». فقال: لو أعلم أنك كنت تسمع لحبرته لك تحبيرا (3).
والله سبحانه وهو الذي تكلم بالقرآن يأذن ويستمع للقارئ الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لله أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته» (4). والأذن بفتح الهمزة والذال، مصدر أذن يأذن: إذا استمع.
قال الشاعر:
أيها القلب تعلل بددن ... إن قلبي في سماع وأذن
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 387).
(2) البخاري (5050) في فضائل القرآن، باب قول المقرئ للقارئ حسبك، ومسلم (800/ 248) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:: فضل استماع القرآن.
(3) أبو يعلى (7279)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 174): «وفيه خالد بن نافع الأشعري وهو ضعيف».
(4) ابن ماجة (1340) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: في حسن الصوت بالقرآن، وفي الزوائد:
«إسناده حسن»، وأحمد (6/ 19)، والحاكم في المستدرك (1/ 571) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» وتعقبه الذهبي وقال: «بل هو منقطع»، وضعفه الألباني.(1/429)
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «زينوا القرآن بأصواتكم» (1) وغلط من قال: إن هذا من المقلوب وإن المراد زينوا أصواتكم بالقرآن، فهذا وإن كان حقا فالمراد تحسين الصوت بالقرآن.
وصح عنه أنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (2) ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه:
أحدها: أن ذلك المعنى إنما يقال فيه استغنى لا تغنى.
الثاني: أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث يجهر به، هذا لفظه، قال أحمد: نحن أعلم بهذا من سفيان وإنما هو تحسين الصوت به يحسنه ما استطاع.
الثالث: أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ ولو احتمله، فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم.
وبعد هذا فإذا كان من التغني بالصوت ففيه معنيان: أحدهما: كجعله له مكان الغناء لأصحابه من محبته له ولهجه به كما يحب صاحب الغناء لغنائه، والثاني: أنه يزينه بصوته ويحسنه ما استطاع كما يزين المتغنى غناءه بصوته، وكثير من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشجي، فهؤلاء قتلى القرآن، لا قتلى عشاق المردان والنسوان (3).
المستمع للقرآن مستمع لله عز وجلّ
من قرئ عليه القرآن فليقدر نفسه، كأنما يسمعه من الله يخاطبه به. فإذا حصل له مع ذلك السماع به وله وفيه ازدحمت معاني المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه، وازدلفت إليه بأيهما يبدأ، فما شئت من علم وحكمة، وتعرف وبصيرة، وهداية وغيره (4).
سماع الناس القرآن يوم القيامة
حرام على قلب قد تربى على غذاء السماع الشيطاني: أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة فهن من قبل الصوت المشترك، لا من قبل المعنى الخاص.
__________
(1) أبو داود (1468) في الصلاة، باب: استحباب الترتيل في القراءة، والنسائي (1015) في الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت.
(2) البخاري (7527) في التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} (13).
(3) روضة المحبين (254252).
(4) مدارج السالكين (1/ 504).(1/430)
وليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله محبوبهم سبحانه وتعالى عيانا وسماع كلامه منه.
وذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا لا يحضرني الآن: هل هو موقوف أو مرفوع «إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن عز وجلّ فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك» (1).
وأيضا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه» (2)، وهذا إنما هو في السماع القرآني لا في السماع الشعري فإنه دائم بدوام المتكلم به، تزول الدنيا بأهلها وهو دائم لا يزول. وإذا سمعه المؤمنون في الجنة من الرحمن عز وجل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك، وتنسيهم لذة سماعه ما هم فيه من النعيم حتى يستفرغ جميع ما هم فيه من النعيم كما ينسيهم ذلك لذة نظرهم إلى وجهه (3).
الشهقة عند سماع القرآن
الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب:
أحدها: أن يلوح له عند السماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق.
وثانيها: أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا وحزنا على نفسه، وهذه شهقة خشية.
وثالثها: أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن.
ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه ويرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة أسف وحزن.
وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه، وفلاح له جماله، ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة، فشهق فرحا وسرورا بما لاح له.
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 412).
(2) البخاري (43) في الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله أدومه، ومسلم (785/ 221) في صلاة المسافرين باب: أمر من نسي في صلاته إلخ.
(3) حكم مسألة السماع (286، 287).(1/431)
وبكل حال، فسبب الشهقة قوة الوارد وضعف المحل عن الاحتمال. والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم، فإنه إذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه. هذا حكم الشهقة من الصادق، فإن الشاهق إما صادق وإما سارق وإما منافق (1).
عشق سماع القرآن
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقا ممدوحا مثابا عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن بحيث يغنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومراد المتكلم سبحانه منه، وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه، فمن أحب محبوبا أحب حديثه، والحديث عنه، كما قيل:
إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيه ... من لذيذ خطابي (2)
سماع القرآن يغني عن سماع الشيطان
وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن (3).
__________
(1) الفوائد (191، 192).
(2) روضة المحبين (199).
(3) إغاثة اللهفان (2/ 70).(1/432)
تدبر القرآن وكيفية ذلك
ورأس الأمر وعموده في ذلك، إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات الله، حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب. فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الأمير المطاع أمره، فحينئذ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنا وهو يباري الريح {وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَفْعَلُونَ} (88) [النمل].
فإن قلت: إنك قد أشرت إلى مقام عظيم فافتح لي بابه، واكشف لي حجابه، وكيف تدبر القرآن وتفهمه والإشراف على عجائبه وكنوزه؟ وهذه تفاسير الأئمة بأيدينا فهل في البيان غير ما ذكروه؟.
قلت: سأضرب لك أمثالا تحتذى عليها، وتجعلها إماما لك في هذا المقصد.
قال الله تعالى: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (24) إلى قوله تعالى {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 30].
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك، فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك.
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار. وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم عليه السّلام.
وكيف جمعت الضيافة وحقوقها.
وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة.
وكيف تضمنت علما عظيما من أعلام النبوة.
وكيف تضمنت جميع صفات الكمال، التي ردها إلى العلم والحكمة.
وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت وقوعه.
وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة.(1/433)
وتضمنت ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما.
وتضمنت بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله، وعلى اليوم الآخر.
وتضمنت أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة، وهم المؤمنون بها.
وأما من لا يخاف الآخرة ولا يؤمن بها، فلا ينتفع بتلك الآيات.
* فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملة:
قال الله تعالى: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (24) [الذاريات].
افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعه للاستفهام، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام، ولهذا قال بعض الناس: إن «هل» في مثل هذا الموضع بمعنى «قد» التي تقتضي التحقيق؟
ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف، ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به، وإحضار الذهن له، صدر له الكلام بأداة الاستفهام، لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به، فتارة يصدره بألا، وتارة يصدره بهل، فقول: هل علمت ما كان من كيت وكيت؟ إما مذكرا به، وإما واعظا له مخوفا، وإما منبها على عظمة ما يخبر به، وإما مقررا له.
فقوله تعالى: {وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ} (9) [طه]، و {وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:
21]، و {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْغََاشِيَةِ} (1) [الغاشية]، و {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (24) [الذاريات]، متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفة ما تضمنته.
ففيه أمر آخر:
وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة، فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا؟ أم لم يأتك إلا من قبلنا؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظم موقعه من جميع موارده، يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.
وقوله: {ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] متضمن لثنائه على خليله إبراهيم. فإن في {الْمُكْرَمِينَ} قولين:
أحدهما: إكرام إبراهيم لهم، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف.
والثاني: أنهم مكرمون عند الله كقوله تعالى: {بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وهو متضمن أيضا لتعظيم خليله ومدحه إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافا له، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم عليه السّلام.(1/434)
وقوله: {فَقََالُوا سَلََاماً قََالَ سَلََامٌ} [الذاريات: 25] متضمن بمدح آخر لإبراهيم، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية، تقديره:
سلمنا عليك سلاما. وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية، تقديره: سلام دائم أو ثابت أو مستمر عليكم، ولا ريب أن الجملة اسمية، تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي العدد والحدوث، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.
ثم قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]، وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح:
أحدهما: أنه حذف المبتدأ والتقدير: أنتم قوم منكرون، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من بعض الاستيحاش.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يواجه أحد بما يكرهه بل يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا».
والثاني: قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}، فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم، كما قال في موضع آخر: {نَكِرَهُمْ} [هود: 70]. ولا ريب أن قوله: {مُنْكِرُونَ} ألطف من أن يقول:
أنكرتم (1).
دعوة القرآن إلى تدبره وبيان أنواع التدبر
تدبر كلامه وما تعرف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا يسعى له ولا يليق به سبحانه وتدبر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له ويستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعال لما يريد، وأنه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، لا يخرج شيء عنها عن ذلك. وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله.
وإلى هذين الأصلين ندب عباده في القرآن، فقال في الأصل الأول: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ} [ص: 29]، {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) [يوسف]، {كِتََابٌ فُصِّلَتْ}
__________
(1) الرسالة التبوكية (7672).(1/435)
{آيََاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) [فصلت: 3].
وقال في الأصل الثاني: {قُلِ انْظُرُوا مََا ذََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ لَآيََاتٍ لِأُولِي الْأَلْبََابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللََّهَ قِيََاماً وَقُعُوداً وَعَلى ََ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191190]، {إِنَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (5) [الجاثية]، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 21]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم: 42]، {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ إِذََا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21) إلى قوله {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذََا دَعََاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذََا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (25) [الروم: 25].
ونوّع سبحانه الآيات في هذه السور فجعل خلق السموات والأرض واختلاف لغات الأمم وألوانهم آيات للعالمين كلهم، لا لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته، وجعل خلق الأزواج التي يسكن إليها الرجال وإلقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون، فإن سكون الرجل إلى امرأة وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم أمر باطن مشهود بعين الفكر والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دله فكره على أنه الإله الحق المبين، الذي أقرت الفطر بربوبيته وإلهيته وحكمته ورحمته، وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون، وهو سمع الفهم وتدبر هذه الآيات وارتباطها بما جعلت آية له مما أخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم، فهذه الآية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل وأصغى إليه، واستدل بهذه الآية عليه وجعل إراؤهم البرق وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به آيات لقوم يعقلون، فإن هذه أمور مرئية بالأبصار مشاهدة بالحس، فإذا نظر فيها ببصر قلبه وهو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته وإمكان ما أخبر به من إحياء الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها، وهذه أمور لا تدرك إلا ببصر القلب وهو العقل، فإن الحس دل على الآية والعقل دل على ما
جعلت آية له فذكر سبحانه الآية المشهودة بالبصر والمدلول عليه المشهود بالعقل، فقال:(1/436)
ونوّع سبحانه الآيات في هذه السور فجعل خلق السموات والأرض واختلاف لغات الأمم وألوانهم آيات للعالمين كلهم، لا لاشتراكهم في العلم بذلك وظهوره ووضوح دلالته، وجعل خلق الأزواج التي يسكن إليها الرجال وإلقاء المودة والرحمة بينهم آيات لقوم يتفكرون، فإن سكون الرجل إلى امرأة وما يكون بينهما من المودة والتعاطف والتراحم أمر باطن مشهود بعين الفكر والبصيرة، فمتى نظر بهذه العين إلى الحكمة والرحمة والقدرة التي صدر عنها ذلك دله فكره على أنه الإله الحق المبين، الذي أقرت الفطر بربوبيته وإلهيته وحكمته ورحمته، وجعل المنام بالليل والنهار للتصرف في المعاش وابتغاء فضله آيات لقوم يسمعون، وهو سمع الفهم وتدبر هذه الآيات وارتباطها بما جعلت آية له مما أخبرت به الرسل من حياة العباد بعد موتهم وقيامهم من قبورهم كما أحياهم سبحانه بعد موتهم وأقامهم للتصرف في معاشهم، فهذه الآية إنما ينتفع بها من سمع ما جاءت به الرسل وأصغى إليه، واستدل بهذه الآية عليه وجعل إراؤهم البرق وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به آيات لقوم يعقلون، فإن هذه أمور مرئية بالأبصار مشاهدة بالحس، فإذا نظر فيها ببصر قلبه وهو عقله استدل بها على وجود الرب تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته وإمكان ما أخبر به من إحياء الخلائق بعد موتهم كما أحيا هذه الأرض بعد موتها، وهذه أمور لا تدرك إلا ببصر القلب وهو العقل، فإن الحس دل على الآية والعقل دل على ما
جعلت آية له فذكر سبحانه الآية المشهودة بالبصر والمدلول عليه المشهود بالعقل، فقال:
{وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (24) [الروم] فتبارك الذي جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء لما في الصدور.
وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة. فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبََادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) [المائدة].
فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب، ولهذا قال ابن مسعود، لا تهذوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن همّ أحدكم آخر السورة. وروى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث. قال: لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها، أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كما تقرأ.
والتفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني، الأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه. قال الحسن البصري: أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا.
وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه وتعالى في كتابه إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى
عباده ندبهم إلى الفكر في آياته.(1/437)
وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه وتعالى في كتابه إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فبهذا تعرف إلى
عباده ندبهم إلى الفكر في آياته.
ونذكر لذلك أمثلة مما ذكرها الله سبحانه في كتابه ليستدل بها على غيرها.
فمن ذلك: خلق الإنسان وقد ندب سبحانه إلى التفكر فيه والنظر في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ} (5) [الطارق] وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (21) [الذاريات] وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلََا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ََ (37) ثُمَّ كََانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوََّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ (39) أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} (40) [القيامة: 4036]، وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مََاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنََاهُ فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (21) إِلى ََ قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنََا فَنِعْمَ الْقََادِرُونَ} (23) [المرسلات: 2320]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسََانُ أَنََّا خَلَقْنََاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذََا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (77) [يس: 77]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (14) [المؤمنون: 1412].
وهذا كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره، إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على قدرة خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه. وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.
قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ} (22) [عبس: 2217] فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط ولا لمجرد تعريفنا بذلك. بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب وإليه جرى ذلك الحديث.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت. كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف
مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها. وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه ولا آفة تتسلط عليه. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها. وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، واليابس واللين، وبيّن ذلك. ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال. وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به وكيف صورها فأحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ (1).(1/438)
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت. كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف
مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها. وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه ولا آفة تتسلط عليه. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها. وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار، واليابس واللين، وبيّن ذلك. ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال. وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها وهي محفوظة به وكيف صورها فأحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ (1).
ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى كما قال في المتلوة: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْهُدى ََ وَأَوْرَثْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ (53) هُدىً وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} (54) [غافر]، وقال عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (48) [الحاقة: 48]، وقال في آياته المشهودة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمََاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنََاهََا وَزَيَّنََّاهََا وَمََا لَهََا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى ََ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (8) [ق: 86] فالتبصرة آلة البصر و «التذكرة» آلة الذكر، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة. لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر، فاستدل بها على ما هي آيات له. فزال عنه الإعراض بالإنابة، والعمى بالتبصرة، والغفلة بالتذكرة. لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها، فترتب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره.
وقال تعالى في آياته المشهورة: {وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) [ق:
3736]، والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 189188). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك فصلا ممتعا فانظره.(1/439)
الثاني: رجل له قلب حيّ مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة: إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه، ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب، ليس حاضرا، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب ملق السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب. فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.
فإن قيل: فما موقع «أو» من هذا النظم على ما قررت؟
قيل: فيها سر لطيف، ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو. كما يقوله ظاهرية النحاة.
فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد مليء باستخراج العبر، واستنباط الحكم. فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار. فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور. وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيمانا وبصيرة حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه. حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. كمثل رجلين دخلا دارا. فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته. والآخر: وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته. لكن علم أن فيها أمورا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها. ثم خرجا. فسأله عما رأى في الدار؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه، لما عنا، من شواهده.
وهذه أعلى درجات الصدوقية. ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان.
فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان.
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة: ازداد بها نورا على نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها، وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقربون، وأصحاب يمين، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا، قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى ََ صِرََاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6) [سبأ] فكل مؤمن يرى هذا. ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون أخر.(1/440)
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة: ازداد بها نورا على نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهََا وََابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها، وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقربون، وأصحاب يمين، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا، قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى ََ صِرََاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6) [سبأ] فكل مؤمن يرى هذا. ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون أخر.
قال صاحب «المنازل»: «أبنية التذكر ثلاثة: الانتفاع بالعظة، والاستبصار بالعبرة، والظفر بثمرة الفكرة».
والانتفاع بالعظة: هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء. فيتحرك للعمل، طلبا للخلاص من الخوف، ورغبة في حصول المرجو.
و «العظة» هي الأمر والنهي، المعروف بالترغيب والترهيب.
و «العظة» نوعان: عظة بالمسموع، وعظة بالمشهود، فالعظة بالمسموع: الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد، والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحى إليهم وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا.
و «العظة» بالمشهود: الانتفاع بما يراه ويشهده في العلم من مواقع العبر، وأحكام القدر، ومجاريه، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله.
وأما استبصار العبرة: فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر، فهو يظفر بها بالتفكر. وتنصقل له وتنجلي بالتذكر. فيقوي العزم على السير بحسب قوة الاستبصار لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور. فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه. وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به والبصيرة فيه. والتذكر له.
وأما الظفر بثمرة الفكرة، فهذا موضع لطيف.
وللفكرة ثمرتان: حصول المطلوب تاما بحسب الإمكان، والعمل بموجب رعاية لحقه، فإن القلب حال التفكر كان قد كلّ بأعماله في تحصيل المطلوب.
فلما حصلت له المعاني وتخمرت في القلب، واستراح العقل: عاد فتذكر ما كان حصله وطالعه، فابتهج به وفرح به. وصحح في هذا المنزل ما كان فإنه في منزل التفكر لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر، الذي هو أعلى منه فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة وهي العمل بموجبه مراعاة لحقه، فإن العمل الصالح: هو ثمرة العلم النافع، الذي هو ثمرة التفكر.
وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي فطالب المال ما دام جادا في طلبه، فهو في كلال
وتعب، حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب، وقدم من سفر التجارة. فطالع ما حصله وأبصره، وصحح في هذا الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب، فإذا صح له وبردت غنيمته له، أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه، والله أعلم (1).(1/441)
وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي فطالب المال ما دام جادا في طلبه، فهو في كلال
وتعب، حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب، وقدم من سفر التجارة. فطالع ما حصله وأبصره، وصحح في هذا الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب، فإذا صح له وبردت غنيمته له، أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه، والله أعلم (1).
فوائد تدبر القرآن
التأمل في القرآن، هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله.
وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم، ولا تدبر. قال الله تعالى: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} (29) [ص]. وقال تعالى: {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) [محمد]. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]. وقال تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) [الزخرف].
وقال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع فيه الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغايتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما.
وتتل (2) في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله.
وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها.
وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال مصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة، تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 445440).
(2) تل الشيء في يده، بالمثناة الفوقية المفتوحة: وضعه فيها (لسان العرب: تلل).(1/442)
فهذه ستة أمور، ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها: فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها. وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقا، والباطل باطلا، وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا فيصير في شأن والناس في شأن آخر.
فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص.
وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم.
وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي.
وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه.
وعلى الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح.
وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه، وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات، في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل. وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام. وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب، والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره تقدم الركب وفاتك الدليل فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل، وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر
الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.(1/443)
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل. وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام. وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب، والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره تقدم الركب وفاتك الدليل فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل، وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر
الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
وبالجملة، فهو أعظم الكنوز، طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه.
نزه فؤادك عن سوى روضاته ... فرياضه حلّ لكل منزه
والفهم طلّسم لكنز علومه ... فاقصد إلى الطّلّسم تحظ بكنزه
لا تخش من بدع لهم وحوادث ... ما دمت في كنف الكتاب وحرزه
من كان حارسه الكتاب ودرعه ... لم يخش من طعن العدو ووخزه
لا تخش من شبهاتهم واحمل إذا ... ما قابلتك بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤ شبهاتهم ... إلا لضعف القلب منه وعجزه
يا ويح تيس ظالع يبغي مسا ... بقه الهزبر بعدوه وبجمزه
ودخان زبل يرتقي للشمس يس ... تر عينها لما سرى في أزه
وجبان قلب أعزل، قد رام يأس ... ر فارسا شاكي السلاح بهزه (1)
باب: منه فهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البر والفاجر، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر» (2).
والناس في هذا أربع طبقات: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس.
والثانية: من عدم القرآن والإيمان.
الثالثة: من أوتي قرآنا، ولم يؤت إيمانا.
الرابعة: من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا.
قالوا: فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرا، وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر. قالوا: وهذا
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 453451).
(2) البخاري (7560) في التوحيد، باب: قراءة الفاجر المنافق، ومسلم (797/ 243) في صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن.(1/444)
هدى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضل، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الترمذي، وصححه (1).
قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة، وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا، فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا، والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة، وفي صحيح البخاري عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كان يمد مدا (2).
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إليّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا ولا بد، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيها قلبك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمة على ابن مسعود، وكان حسن الصوت، فقال رتل فداك أبي وأمي، فإنه زين القرآن.
وقال ابن مسعود: لا تهذوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وقال عبد الله أيضا: إذا سمعت الله يقول {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: دخلت عليّ امرأة، وأنا أقرأ «سورة هود» فقالت يا
__________
(1) الترمذي (2910) في فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر، وقال:
«حسن صحيح غريب».
(2) البخاري (5045) في فضائل القرآن، باب: مد القراءة.(1/445)
عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر، وما فرغت من قراءتها (1).
علاج المدبر عن سماع القرآن
إذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق، فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن ولا أنت، غير هذه الأذواق التي ذكرناها.
فالقلب يعرض له حالتان: حالة حزن وأسف على مفقود، وحالة فرح ورضى بموجود، وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان.
وله بمقتضى الحالة الأولى: عبودية الرضاء، وهي للسابقين. والصبر، وهي لأصحاب اليمين.
وله بمقتضى الحالة الثانية: عبودية الشكر، والشاكرون فيها أيضا نوعان: سابقون وأصحاب يمين. فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين، بصوتين أحمقين فاجرين، هما للشيطان لا للرحمن: صمت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب، وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين.
وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت ويل عند مصيبة، وصوت مزمار عند نعمة» (2).
ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة، وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي، وقل مشربه من العين المحمدية، وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة. ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم، وكثافة حجبهم، وغلظة طباعهم، وثقل أرواحهم. وصادف ذلك تحريكا لسواكنهم وانقيادا للواعج الحب، وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى (3) ومعاهدها التي سبيت منها، والنفوس الطالبة المرتاضة السائرة لا بد لها من محرك يحركها، وحاد يحدوها. وليس لها من
__________
(1) زاد المعاد (1/ 340337).
(2) الترمذي (1005) في الجنائز، باب: ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، وقال: «هذا حديث حسن».
(3) إن الذي يتحرك عند سماع الغناء والموسيقى، ويطرب ويستيقظ ويتلذذ: هو النفس البهيمية، لا النفس الإنسانية. ولذلك استدلوا عليه بما تجده البهائم والطيور والوحوش عند سماعها للغناء والموسيقى والحداء، فهي تتحرك حركة بهيمية لا تجد من الإنسانية الكريمة المفكرة المميزة يقظة ورشدا تكبح به(1/446)
حادي القرآن عوض عن حادي السماع.
فتركب من هذه الأمور: إيثار منهم للسماع. ومحبة صادقة له. تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم، إذ هو مثير عزماتهم ومحرك سواكنهم، ومزعج بواطنهم.
فدواء صاحب مثل هذا الحال: أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة، مع الإمعان في تفهم معانيه، وتدبر خطابه قليلا قليلا، إلى أن ينخلع من قلبه سماع الأبيات، ويلبس محبة سماع الآيات، ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه، فحينئذ يعلم هو من نفسه: أنه لم يكن على شيء ويتمثل حينئذ بقول القائل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى ... إلى غاية ما فوقها لي طلب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعب (1)
هل الأفضل قلة القراءة مع التدبر أو الكثرة بدونه؟
قد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة أو السرعة مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين.
فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها.
واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره، والفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه كما قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب.
__________
جماحها، ولا حكمة تسكن حركتها بسكينة الاطمئنان إلى آثار أسماء الله وصفاته. فعندئذ يجد الشيطان الفرصة سانحة، فيركب النفس البهيمية وقد انسلخت من آيات ربها. ووهنت وضعفت بهذا الانسلاخ، فاتخذها عدوها مطية. فكانت معه من الغاوين، الذين ظنوا الفسوق طاعة، والفجور تقوى، والشرك توحيد، وكثيرا جدا بل ذلك نتيجة حتمية لهذا الانسلاخ وما استتبعه نعم كثيرا جدا ما زاد إبليس في إضلالهم وإغوائهم، فاتخذ لهم من آيات القرآن أغاني يوقعونها على نغم الموسيقى. فيزدادون عمى على عمى، وضلالا وخسرانا باتخاذهم آيات الله ودينه هزوا ولعبا. وهيهات أن يرجى لهم مع هذا وبعد هذا إنابة أو رجعة صحيحة إلى صراط الله المستقيم.
وكل ذلك من ثمرات التقليد الأعمى الخبيثة. ومن آثار ما رمى به المجوس واليهود والمشركون المسلمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
(1) مدارج السالكين (1/ 498، 499)(1/447)
وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه أقامه السهم (1).
وأيضا قراءة سورة بتدبر ومعرفة وتفهم، وجمع القلب عليها، أحب إلى الله تعالى من قراءة ختمة سردا وهذّا، وإن كثر ثواب هذه القراءة (2).
العلم بالقرآن أفضل العلوم
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم بالفضائل العلية، في أعلى الولايات الدينية وأشرفها وقدم بالعلم بالأفضل على غيره.
فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم إسلاما أو سنا» (3) وذكر الحديث، فقدم في الإمامة تفضيله على تقدم الإسلام والهجرة. ولما كان العلم بالقرآن أفضل من العلم بالسنة لشرف معلومه على معلوم السنة، قدم العلم به، ثم قدم العلم بالسنة على تقدم الهجرة وفيه من زيادة العمل ما هو متميز به، لكن إنما راعى التقديم بالعلم ثم بالعمل، وراعى التقديم بالعلم بالأفضل على غيره، وهذا يدل على شرف العلم وفضله وإن أهله هم أهل التقدم إلى المراتب الدينية (4).
تعلم قراءة القرآن
سأله صلّى الله عليه وسلّم رجل، فقال: ما يمنعني أن أتعلم القرآن إلا خشية ألا أقوم به، فقال: «تعلم القرآن واقرأه وارقد، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقال به، كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه على كل مكان، ومن تعلمه ورقد وهو في جوفه كمثل جراب وكى على مسك» (5) (6).
__________
(1) زاد المعاد (1/ 337، 338).
(2) المنار المنيف (29).
(3) مسلم (673/ 290) في المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة.
(4) مفتاح دار السعادة (80).
(5) الترمذي (2876) في فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال: «هذا حديث حسن»، وابن ماجة (217) في المقدمة، باب: فضل من تعلم القرآن وعلمه.
(6) إعلام الموقعين (4/ 390).(1/448)
المقصود من تعلم القرآن
ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (1) وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها، وتعلم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمى علمه وتعليمه.
فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة إليه، فتعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها، وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل (2).
تحسين الصوت بالقرآن
قال صاحب الغناء: وندب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى تحسين الصوت بالقرآن، فروى البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» (3). وعن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن» (4).
وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (5).
وقد قال الإمام أحمد في تفسيره: «يحسنه بصوته ما استطاع» وقال الشافعي: «نحن أعلم بهذا من سفيان» ينكر عليه قوله يستغنى به.
وإنما هو تحسين الصوت وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» (6) فإذا ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن والتغني به، جاز أن يحسن الصوت بالشعر ويتغنى به، وأي حرج في تحسين الصوت بالشعر.
قال صاحب القرآن: هذه الأدلة إنما تدل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله لا على فضل الصوت الحسن بالغناء، الذي هو مزمور الشيطان، ومن قاس هذا بهذا، وشبه أحدهما بالآخر فقد شبه الباطل بالحق، وقاس قرآن الشيطان على كتاب الرحمن. وهل هذا إلا نظير
__________
(1) البخاري (5027) في فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(2) مفتاح دار السعادة (80).
(3) الدارمي (2/ 474) في فضائل القرآن، باب: التغني بالقرآن.
(4) عبد الرزاق (4173)، والهيثمي في المجمع (7/ 174) وقال: «رواه البزار وفيه عبد الله بن محرز وهو متروك».
(5) سبق تخريجه ص (430)
(6) سبق تخريجه ص (429)(1/449)
قول من يقول: إذا أمر الله بالقتال في سبيله بالسيف والرمح والنشاب (1) دل ذلك على فضيلة الطعن والضرب والرمي، ثم يحتج بذلك على جواز الضرب والطعن والرمي في غير سبيل الله، بل على استحبابه، ونظير من قال: إذا أمر الله بإنفاق المال في سبيله. دلّ على فضيلة المال ثم يحتج بذلك على جواز إنفاق المال أو استحبابه في غير سبيله، ونظيره: قول من يقول: إذا أمر الله بالاستعفاف بالنكاح دل على فضيلة النساء، ثم يحتج بذلك على جواز ما لم يأمر به من ذلك، وكذلك كل ما يعين على طاعة الله ومحابه ومراضيه، ولا يدل ذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق، حتى يحتج على أنه محمود حال كونه معينا على غير طاعة الله من البدع والفجور والمعاصي.
إذا ثبت هذا فتحسين الصوت ندب إليه، وحمد الصوت الحسن لما تضمنه من الإعانة على ما يحبه الله من سماع القرآن، ويحصل به من تنفيذ معانيه إلى القلوب ما يزيدها إيمانا، ويقربها إلى ربها، ويدنيها من محابه، فالصوت الحسن بالقرآن منفذ لحقائق الإيمان، معين على إيصالها إلى القلوب، فكيف يجعل نظير الصوت الحسن بالغناء الذي ينبت النفاق في القلب، وأخف أنواعه وأقلها شرا: «ما وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن»، فالصوت الحسن من هذا ينفذ حقائق النفاق والفجور والفسوق إلى القلب ولهذا يظهر في الأفعال وعلى اللسان، فالسماع الشيطاني الذي يتقرب به أهله إلى الله، ينفذ الصوت الحسن فيه حقائق النفاق إلى القلب، والسماع الآخر الذي يعده أهله لهوا ولعبا، ينفذ ما يكرهه الله من شهوات الفسوق إلى القلب فالاعتبار بحقائق المسموع، والصوت الحسن آلة ومنفذ (2).
باب: منه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (3). إما أن يريد به الحض على أصل الفعل، هو نفس التغني به، أو على صفته وهو أن يكون تغنيه إذا تغنى به لا بغيره (4)، وهذا نظير ما حمل عليه قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ} [المائدة: 49]، هل هو أمر بأصل
__________
(1) النشاب: السهام.
(2) الكلام على مسألة السماع (317314).
(3) البخاري (7527) في التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ}، وأبو داود (1469) في الصلاة، باب: استحباب الترتيل في الصلاة، وأحمد (1/ 172).
(4) قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنى بالركباني [غناء الركباني وهو النشيد بالمد والتمطيط] إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني. (لسان العرب: غنا).(1/450)
الحكم، أو بصفته إذا حكم؟ فيه قولان، ونظيره: أمره صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء في السجود، هل هو أمر بأصل الدعاء أو المعنى إذا دعوتم فاجعلوا دعاءكم في السجود، فإنه «فمن أن يستجاب لكم» (1) فقوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، إن أريد به الحض على نفس الفعل كان ذما لمن ترك التغني به، وإن أريد به المعنى الثاني، وهو أنه إذا تغنى فليتغن بالقرآن، كان ذما لمن تغنى بغيره لا لمن ترك التغني به، وبين المعنيين فرق ظاهر، وقد يصح أن يرادا معا، وأنه ذم من ترك التغني به، ومن تغنى بغيره، والله أعلم (2).
وأيضا إن النبي صلّى الله عليه وسلّم ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن وتزيينه به، واستمعه هو وأصحابه فقال:
«زينوا القرآن بأصواتكم» (3)، وقال: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» (4)، وقال لأبي موسى: «لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك». فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (5) وقال: «لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» (6)، ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، وتقرن به من الألحان وآلات اللهو ما يقرن بالغناء حتى ولا عند من يقول بإباحة ذلك في الشعر بل المسلمون مجمعون على تحريمه (7).
مسألة قال صاحب السماع: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر عن ربه أنه يستمع للصوت الحسن، والنبي صلّى الله عليه وسلّم استمع صوت أبي موسى وأعجبه، وأثنى عليه، وقال: «قد أوتي هذا مزمارا من
__________
(1) مسلم (479/ 207) في الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأحمد (1/ 155)، وقال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده ضعيف من أجل عبد الرحمن بن إسحاق».
(2) الكلام (318314)، حكم سماع الغناء (201: 204).
(3) أبو داود (1468) في الصلاة، باب: استحباب الترتيل في القراءة، وابن ماجة (1342) في إقامة الصلاة، باب: حسن الصوت بالقرآن.
(4) البخاري (5024) في فضائل القرآن، باب الوصاة بكتاب الله عز وجلّ، ومسلم (792/ 232) في صلاة المسافرين، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن.
(5) سبق تخريجه ص (429).
(6) سبق تخريجه ص (429).
(7) الكلام على مسألة السماع ص (271)، حكم سماع الغناء (71).(1/451)
مزامير آل داود»، فقال له أبو موسى: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (1). أي: زينته وحسنته، ومنه البرد المحبر.
وقد روي أن داود كان يستمع لصوته الحسن الإنس والجن والطير والوحوش، وكان يحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات من قراءته (2).
قال صاحب القرآن: عجبا لكم أيها السماعاتية ولاستدلالكم، فلو أن المنكرين عليكم كرهوا حسن الصوت وعابوه وذموه مطلقا لكان في ذلك احتجاج عليهم، كيف وهم أخبر الناس في الصوت الحسن؟ لكن الشأن فيما يؤدي بالصوت.
فهذه الآثار التي ذكرتموها، وأكثر منها إنما تدل على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ومن نازع في هذا؟ فالاستدلال بها على تحسين الصوت بالغناء الذي هو قرآن الشيطان، ومادة النفاق ورقية الفواحش أفسد من قياس الربا على البيع، فإن بين الغناء والقرآن من التباين أعظم مما بين البيع والربا، ومما بين النكاح والسفاح، ومما بين الشراب الحلال والشراب الحرام.
فأين سماع المكاء والتصدية الذي ذمه الله في كتابه، وأخبر أنه سماع المشركين، من سماع أنبيائه ورسله وأوليائه وحزبه المفلحين؟.
وأين سماع المخانيث والقينات والفساق والمغنين من سماع الخلفاء الراشدين والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، واقتفوا طريقتهم المثلى، وسبيلهم الأقوم، وسلكوا منهاجهم الواضح؟ وكيف يقاس مؤذن الشيطان الداعي بحي على غير الفلاح، على مؤذن الرحمن الداعي إلى السعادة والنجاح، وقد تقدم ذكر الحديث الذي رواه الطبراني الكبير في معجمه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر، قال: اجعل لي مؤذنا قال: مؤذنك المزمار» (3).
فمن قاس قرآن الشيطان ومؤذنه على قرآن الرحمن ومؤذنه فالله حسيبه ومجازيه، وسيعلم يوم الحشر أي بضاعة أضاع، وعند الميزان أيثقل أم يخف بما قدم به من السماع، وهاهنا الناس أربعة أقسام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (429).
(2) انظر الرسالة القشيرية (2، 6)
(3) الطبراني في الكبير (8/ 245، 246) (7837)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 122): «وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف، وقد تقدم لهذا طرق في كتاب الإيمان».(1/452)
أحدها: من يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان.
والثاني: عكسه.
والثالث: من له نصيب من هذا وهذا.
والرابع: ليس له نصيب لا من هذا ولا من هذا.
فالاشتغال بسماع القرآن الرحماني، حال السابقين الأولين وأتباعهم ومن سلك سبيلهم.
والثاني حال المشركين والمنافقين والفجار والفساق والمبطلين ومن سلك سبيلهم.
والثالث حال مؤمن له مادتان: مادة من القرآن، ومادة من الشيطان، وهو للغالب عليه منهما.
والرابع حال الفارغ من ذوق هذا وهذا، فهو في شأن، وأولئك في شأن، فهذه الآثار التي تضمنت مدح الصوت الحسن بالقرآن، وما يحبه الله، ومن احتج بها على السماع الشيطاني فقد بخس حظه من العلم والمعرفة.
وأيضا، فإن العبد لو سمع كلام الله بلا واسطة، كما سمعه موسى بن عمران، لم يكن سماعه بعد الأصوات والألحان والغناء محركا لذلك مذكرا به، بل المأثور أن موسى مقت الآدميين وأصواتهم وكلامهم لما وقر في مسامعه من كلام ربه جلّ جلاله (1) (2).
هديه صلّى الله عليه وسلّم في قراءة القرآن، واستماعه وخشوعه، وبكائه عند قراءته، واستماعه وتحسين صوته به وتوابع ذلك
كان له صلّى الله عليه وسلّم حزب يقرؤه، ولا يخل به، وكانت قراءته ترتيلا لا هذّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا وكان يقطع قراءته آية آية. وكان يمد عند حروف المد، فيمد «الرحمن» ويمد «الرحيم»، وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته، فيقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وربما كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه، ونفثه» (3). وكان تعوذه قبل القراءة.
__________
(1) عزاه ابن كثير في تفسيره (1/ 589) لابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس موقوفا عليه وقال ابن كثير: إسناد ضعيف، فإن جويبرا ضعف، والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنه.
(2) الكلام على مسألة السماع (376، 383)، حكم سماع الغناء (245، 246، 251).
(3) أبو داود (764) في الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وابن ماجة (807) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: الاستعاذة في الصلاة، وضعفه الألباني.(1/453)
وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلّى الله عليه وسلّم لسماع القرآن منه، حتى ذرفت عيناه (1).
وكان يقرأ القرآن قائما، وقاعدا، ومضطجعا ومتوضئا، ومحدثا، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتغنى به، ويرجع صوته به أحيانا كما رجع يوم الفتح في قراءته: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (1) [الفتح]. وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه، آآآ ثلاث مرات، ذكره البخاري (2).
وإذا جمعت هذه الأحاديث إلى قوله: «زينوا القرآن بأصواتكم» (3)، وقوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (4)، وقوله: «زينوا القرآن بأصواتكم ليس منا من لم يتغن بالقرآن ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» (5) علمت أن هذا الترجيع منه صلّى الله عليه وسلّم كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة، لما كان داخلا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارا ليؤتسى به، وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: كان يرجع في قراءته، فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة، لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا.
وقد استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك، قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا (6)، أي: حسنته وزينته بصوتي تزيينا، وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجل رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع.
قلت: لا بد من كشف هذه المسألة، وذكر اختلاف الناس فيها، واحتجاج كل فريق، وما
__________
(1) البخاري (5049) في فضائل القرآن، باب: من أحب أن يستمع القرآن من غيره.
(2) البخاري (4835) في التفسير، باب {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (1).
(3) سبق تخريجه ص (451).
(4) سبق تخريجه ص (450).
(5) سبق تخريجه ص (451).
(6) سبق تخريجه ص (429).(1/454)
لهم وعليهم في احتجاجهم، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته.
فقالت طائفة: تكره قراءة الألحان، وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما، فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان: ما تعجبني وهو محدث.
وقال في رواية المروزي القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.
وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب قراءة الألحان بدعة.
وقال في رواية ابن عبد الله، ويوسف بن موسى، ويعقوب بن بختان، والأثرم، وإبراهيم بن الحارث: القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا، فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى.
وقال في رواية صالح: «زينوا القرآن بأصواتكم»، معناه: أن يحسنه.
وقال في رواية المروزي: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن»، وفي رواية قوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، فقال: كان ابن عيينة يقول:
يستغنى به. وقال الشافعي: يرفع صوته، وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة الفتح والترجيع فيها، فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان، وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه سئل عن الألحان في الصلاة، فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به، ليأخذوا عليه الدراهم.
وممن رويت عنه الكراهة، أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي.
وقال عبد الله بن يزيد العكبري: سمعت رجلا يسأل أحمد، وما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال: ما اسمك؟ قال محمد: قال: أيسرك أن يقال لك: يا موحمد ممدودا، قال القاضي أبو يعلى: هذه مبالغة في الكراهية.
وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي: أوصى إلى رجل بوصية، وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان، وكانت أكثر تركته أو عامتها، فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين، وأبا عبيد، كيف أبيعها؟ فقالوا: بعها ساذجة، فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان، فقالوا:
بعها ساذجة. قال القاضي وإنما قالوا ذلك لأن سماع ذلك منها مكروه، فلا يجوز أن يعارض عليه كالغناء.(1/455)
قال ابن بطال: وقالت طائفة: التغني بالقرآن، هو تحسين الصوت به، والترجيع بقراءته، قال: والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك، والنضر بن شميل، قال: وممن أجاز الألحان في القرآن: ذكره الطبري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، وقال: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى، فليفعل. وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن، فقال له عمر: أعرض عليّ سورة كذا، فعرض عليه، فبكى عمر، وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. قال: وأجازه ابن عباس، وابن مسعود، وروي عن عطاء بن أبي رباح، قال: وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان. وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان. وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان، وهذا اختيار ابن جرير الطبري.
قال المجوزون: واللفظ لابن جرير: الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت، والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه: ما روى سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن» (1)، ومعقول عند ذوي الحجا، أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به. وروي في هذا الحديث: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به». قال الطبري: «وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا، قال: ولو كان كما قال ابن عيينة، يعني: يستغني به عن غيره، لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى، والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، قال الشاعر:
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب.
وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن
__________
(1) سبق تخريجه ص (451).(1/456)
وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغني طويل الاستغناء، فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإقامة من قول العرب: غنى بمكان كذا: إذا أقام به، ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92]، واستشهاده بقول الآخر:
كلانا غنى عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فإنه إغفال منه، وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى: إذا استغنى كل فلان منهما عن صاحبه، كما يقال: تضارب الرجلان، إذا ضرب كل واحد صاحبه، وتشاتما، وتقاتلا.
ومن قال: هذا في فعل اثنين، لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد، فيقول: تغانى زيد، وتضارب عمر، وذلك غير جائز أن يقول تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد به قائله أنه أظهر الاستغناء، وهو غير مستغن، كما يقال: تجلد فلان: إذا أظهر جلدا من نفسه، وهو غير جليد، وتشجع، وتكرم.
فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب، كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن، وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال، وهذا لا يخفى فساده. قال: ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن، إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن، الذي هو إطلاق وإباحة، وإن كان كذلك، فهو غلط من وجهين، أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة، فإن الأذن مصدر قوله: أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن له: إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى:
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} (2) [الانشقاق]، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدي بن زيد: إن همي في سماع وأذن، بمعنى، في سماع واستماع.
فمعنى قوله: ما أذن الله لشيء، إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن.
وأما الإحالة في المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له، انتهى كلام الطبري.
قال أبو الحسن بن بطال: وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تعلموا القرآن وتغنوا به، واكتبوه، فوالذي نفسي بيده، لهو
أشد تفصيا من المخاض من العقل» (1).(1/457)
قال أبو الحسن بن بطال: وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تعلموا القرآن وتغنوا به، واكتبوه، فوالذي نفسي بيده، لهو
أشد تفصيا من المخاض من العقل» (1).
قال: وذكر عمر بن شبة، قال ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله: «يتغنى بالقرآن» يستغنى به، فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئا، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: كانت لداود نبي الله صلّى الله عليه وسلّم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي.
وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، تكون فيهن، ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع. وسئل الشافعي رحمه الله عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء لقال: «من لم يستغن بالقرآن»، ولكن لما قال: «يتغنى بالقرآن»، علمنا أنه أراد به التغني. قالوا: ولأن تزيينه، وتحسين الصوت به، والتطريب بقراءته أوقع في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه، ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع، ومعانية إلى القلوب، وذلك عون على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء، وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام لتكون الطبيعة أدعى له قبولا، وبمنزلة الطيب والتحلي، وتجمل المرأة لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح. قالوا: ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء، فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن، كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه، وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل، وعن السفاح بالنكاح، وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جدا.
قالوا: والمحرم، لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة، أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك، فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه، ولا تحول بين السامع وبين فهمه، ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها: لأخرجت الكلمة عن موضعها، وحالت بين السامع وبين فهمها، ولم يدر ما معناها، والواقع بخلاف ذلك.
قالوا: وهذا التطريب والتلحين، أمر راجع إلى كيفية الأداء، وتارة يكون سليقة وطبيعة، وتارة يكون تكلفا وتعملا، وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته، بل هي صفات لصوت المؤدي، جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه وإمالته، وجارية مجرى مدود القراء الطويلة والمتوسطة، لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف، وكيفيات الألحان والتطريب، متعلقة بالأصوات، والآثار في هذه الكيفيات، لا يمكن نقلها، بخلاف كيفيات أداء
__________
(1) أحمد (4/ 146)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 172): «ورجال أحمد رجال الصحيح».(1/458)
الحروف فلهذا نقلت تلك بألفاظها، ولم يمكن نقل هذه بألفاظها، بل نقل منها ما أمكن نقله، كترجيع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سورة الفتح بقوله: «آآآ». قالوا: والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين: مد وترجيع، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد «الرحمن» ويمد «الرحيم»، وثبت عنه الترجيع كما تقدم.
قال المانعون من ذلك: الحجة لنا من وجوه، أحدها: ما رواه حذيفة بن اليمان، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» (1). رواه أبو الحسن رزين في «تجريد الصحاح» ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2). واحتج به القاضي أبو يعلى في «الجامع»، واحتج معه بحديث آخر، أنه صلّى الله عليه وسلّم ذكر شرائط الساعة، وذكر أشياء، منها: «أن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء» (3).
قالوا: وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء، فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، وقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئا ينكره، رفع الخرقة عن وجهه.
قالوا: وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب، كما روى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن يطرب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا، وإلا فلا تؤذن». رواه الدارقطني (4).
وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المد، ليس فيها ترجيع.
قالوا: والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز، ومد ما ليس بممدود، وترجيع الألف الواحد ألفات، والواو واوات، والياء ياءات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن،
__________
(1) الطبراني في الأوسط (7223)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 172): «فيه راو لم يسم، وبقية أيضا».
(2) نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول (2/ 394) في الأصل الثالث والخمسون والمائتان.
(3) أحمد (3/ 494)، والبزار (2/ 241، 242) (1610)، والطبراني في الكبير (18/ 36) (60)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 248): «في إسناد أحمد عثمان بن عمير البجلي وهو ضعيف وأحد إسنادي الكبير رجاله رجال الصحيح».
(4) الدارقطني (1/ 239) (11)، والحديث ضعيف انظر: المجروحين (1/ 137) وقال: «ليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».(1/459)
وذلك غير جائز.
قالوا: ولا حد لما يجوز من ذلك، وما لا يجوز منه، فإن حد بحد معين، كان تحكما في كتاب الله تعالى ودينه، وإن لم يحد بحد، أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات، وكثرة الترجيعات، والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء، كما يفعل أهل الغناء بالأبيات، وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز، ويفعله كثير من قراء الأصوات، مما يتضمن تغيير كتاب الله، والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء، ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء، اجتراء على الله وكتابه، وتلاعبا بالقرآن، وركونا إلى تزيين الشيطان، ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام، ومعلوم: أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا، فالمنع منه، كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام، فهذا نهاية إقدام الفريقين، ومنتهى احتجاج الطائفتين.
وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغني على وجهين:
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خلى وطبعه، واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز، إن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا» (1)، والحزين ومن هاجه الطرب، والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان
__________
(1) سبق تخريجه ص (429).(1/460)
الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها، ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (1). وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدى من لم يفعله عن هديه صلّى الله عليه وسلّم وطريقته صلّى الله عليه وسلّم (2).
البكاء عند سماع القرآن
وأما بكاؤه صلّى الله عليه وسلّم، فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، يسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمه الله للميت، وتارة خوفا على أمته، وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق، ومحبة، وإجلال، مصاحب للخوف والخشية.
ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له، وقال: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» (3) وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى:
{فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنََا بِكَ عَلى ََ هََؤُلََاءِ شَهِيداً} (41) [النساء] (4) (5).
تلاوة القرآن
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتََابَ اللََّهِ} [فاطر: 29]، وقوله {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلََاوَتِهِ أُولََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} [البقرة: 121] المعنى: يتبعون كتاب الله حق اتباعه، وقال تعالى: {اتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ وَأَقِمِ الصَّلََاةَ} [العنكبوت: 45]، وقال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (450).
(2) زاد المعاد (1/ 493482).
(3) البخاري (1303) في الجنائز، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنا بك لمحزونون»، ومسلم (2315/ 62) في الفضائل، باب: رحمته الصبيان والعيال.
(4) البخاري (4582) في التفسير، باب: {فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنََا بِكَ عَلى ََ هََؤُلََاءِ شَهِيداً}، ومسلم (800/ 247) في صلاة المسافرين باب: فضل استماع القرآن.
(5) زاد المعاد (1/ 183).(1/461)
{إِنَّمََا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هََذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهََا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} [النمل: 91، 92]. فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى، فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة، وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع، يقال: اتل أثر فلان وتلوت أثره وقفوته وقصصته بمعنى: تبعت خلفه.
ومنه قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا (1) وَالْقَمَرِ إِذََا تَلََاهََا} (2) [الشمس]، أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها. ويقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا، أي: يتبع. وسمي تالي الكلام تاليا لأنه يتبع بعض الحروف بعضا لا يخرجها جملة واحدة، بل يتبع بعضها بعضا مرتبة، كلما انقضى حرف أو كلمة أتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى.
وهذه التلاوة وسيلة وطريقة، والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه، تصديقا بخبره، وائتمارا بأمره، وانتهاء بنهيه، وائتماما به، حيث ما قادك انقدت معه، فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه تلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة، فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقا (1).
شروط الانتفاع بالقرآن
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه (2)، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) [ق]، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
فقوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ} إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر، وقوله: {لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ}، فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا} [يس 69 70]، أي حي القلب. وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}، أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
وقوله: {وَهُوَ شَهِيدٌ}، أي شاهد القلب حاضر غير غائب. قال ابن قتيبة: استمع كتاب الله
__________
(1) مفتاح دار السعادة (45، 46).
(2) الضمير في لفظة «منه» يعود إلى الله عز وجلّ. وفي «إليه» يعود إلى المخاطب، بفتح الطاء.(1/462)
وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
فإن قيل: إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة «أو» في قوله:
{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ}، والموضع موضع واو الجمع لا موضع «أو» التي هي لأحد الشيئين؟ قيل:
هذا سؤال جيد، والجواب عنه أن يقال: خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه تام الفطرة، فإذا فكر بقلبه، وجال بفكره دله قلبه وعقله على صحة القرآن، وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قيل فيهم: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]
وقال في حقهم: {اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ الْمِصْبََاحُ فِي زُجََاجَةٍ الزُّجََاجَةُ كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ نُورٌ عَلى ََ نُورٍ يَهْدِي اللََّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشََاءُ} [النور: 35].
فهذا نور الفطرة على نور الوحي، وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي (1).
قال إمام أهل هذا السماع عثمان بن عفان رضي الله عنه «لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله» (2)، وفي وصفه القرآن: «لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء» (3) فهو قوت القلوب وغذاؤها، ودواؤها من أسقامها وشفاؤها (4).
__________
(1) الفوائد (605).
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (3/ 232).
(3) هذا جزء من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنها ستكون فتنة» أخرجه الترمذي في جامعه (5/ 199198) برقم (2906) وقال: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول. وفي الحارث مقال». وأحمد في مسنده (1/ 91) بنحوه، والدارمي في سننه (2/ 435)، وأورده ابن كثير في فضائل القرآن ذيل تفسير ابن كثير وقال: والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روى له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(4) حكم مسألة السماع (275).(1/463)
موانع الانتفاع بالقرآن
اعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان. والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي. فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح. فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان. فإنه صنور الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه. عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ، وهو جاسوس القلب. وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل. فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة. فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب، لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد. فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين (1)
ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح؟
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكر النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى ... سرورا، والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه ... أجاب اللهو: حى على السماح
__________
(1) تعليق مطابق للواقع وذلك حال الشباب.(1/464)
ولم نملك سوى المهجات شيئا ... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا.
وأيضا، فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا، وفإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسله: من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضا، فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة. وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاق قول الباطل، وعمل البغي، وهذا ينبت على الغناء.
وأيضا، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضا، فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.
وأيضا، فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضا، فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، عاقبتها سخط الرحمن. فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء. فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.(1/465)
وبالجملة، فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها، وبالله التوفيق (1).
باب: منه انظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها وتدبرها وتعقلها، وفهم ما أريد بكل آية، وحظك من الخطاب بها، وتنزيلها على أدواء قلبك والتقيد بها، كيف تدرك الخدمة أو أكثرها، أو ما قرأت منها، بسهولة وخفة، مستكثرا من القراءة. فإذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد، والنظر إلى ما يخصك منه والتعبد به، وتنزيل دوائه على أدواء قلبك، والاستشفاء به، لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها (2).
أسباب تفاوت الناس في فهم القرآن
في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (3). شبه صلّى الله عليه وسلّم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكاء واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر، وشبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته.
ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه، واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده:
أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه، وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوه
__________
(1) إغاثة اللهفان (251248).
(2) مدارج السالكين (1/ 258).
(3) البخاري (79) في العلم، باب: فضل من علم وعلّم، ومسلم (2282/ 15) في الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى والعلم.(1/466)
الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة للحفظ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط، فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية.
القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه».
والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم تفاوت فرب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب منه، وهذا يسقى، وهذا يزرع، فهؤلاء القسمان هم السعداء، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (4) [الحديد].
القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء. والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدي الله رأسا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهو وقود النار.
فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم، وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد، وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.
قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.
وقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ} [الرعد: 17]. شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من
الحياة، ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثم شبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا، وقلب صغير إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا، فقال: {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً}، هذا مثل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنه يستخرج منها زبد الشبهات الباطلة فيطفوا على وجه القلب، كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه راب يطفو ويعلو على الماء لا يستقر في أرض الوادي، كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطغت، فلا يستقر فيه، بل تجفى وترمى، فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق، كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء، وما يعقل عن الله أمثاله إلا العالمون.(1/467)
وقد قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ} [الرعد: 17]. شبه سبحانه العلم الذي أنزله على رسوله بالماء الذي أنزله من السماء لما يحصل لكل واحد منهما من
الحياة، ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثم شبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علما كثيرا كواد عظيم يسع ماء كثيرا، وقلب صغير إنما يسع علما قليلا كواد صغير إنما يسع ماء قليلا، فقال: {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً}، هذا مثل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنه يستخرج منها زبد الشبهات الباطلة فيطفوا على وجه القلب، كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه راب يطفو ويعلو على الماء لا يستقر في أرض الوادي، كذلك الشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم ربت فوق القلوب وطغت، فلا يستقر فيه، بل تجفى وترمى، فيستقر في القلب ما ينفع صاحبه والناس من الهدى ودين الحق، كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء، وما يعقل عن الله أمثاله إلا العالمون.
ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر فقال: {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17] يعني أن مما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه، وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها، فإنه يقذف ويلقى به، ويستقر الجوهر الخاص وحده. وضرب سبحانه مثلا بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلا بالنار لما فيها من الإضاء والإشراق والإحراق. فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما تلقي فيها وتميز جيدها من زبدها، كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه منه، فهذا بعض ما في المثل العظيم من العبر والعلم. قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ} (43) [العنكبوت] (1).
كيفية تلاوة القرآن
كان صلّى الله عليه وسلّم يقطع قراءته، ويقف عند كل آية فيقول: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (2)، ويقف {الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}، ويقف: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) (2).
وذكر الزهري: أن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت آية آية، وهذا هو الأفضل. الوقوف على رءوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد،
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1715).
(2) أبو داود (4001) في الحروف والقراءات، والترمذي (2927) في القراءات، باب: في فاتحة الكتاب، وقال: «غريب».(1/468)
والوقوف عند انتهائها، واتباع هدى النبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته أولى. وممن ذكر ذلك البيهقي في «شعب الإيمان» وغيره، ورجح الوقوف على رءوس الآي وإن تعلقت بما بعدها.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية يرددها حتى الصباح (1).
حكم قراءة الجماعة بصوت واحد
وهذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، وهي قراءة الجماعة بصوت واحد فكرهها طائفة، واستحبوا قراءة الإدارة، وهي [أن] (2) يقرأ هذا، ثم يسكت فيقرأ الآخر حتى ينتهوا، واستحبتها طائفة، وقالوا: تعاون الأصوات يكسو القراءة طيبا وتجلالة (3) وتأثيرا في القلوب، وتأمل هذا في تعاون الحركات بالآلات المطربة كيف يحدث لها كيفية أخرى؟ فإن الهيئة الاجتماعية لها من الحكم ما ليس لأفرادها، وفضلت طائفة وقالوا: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقون يستمعون فلم يكونوا يقرءون جملة، ولم يكونوا يديرون القراءة بل القارئ واحد، والباقون مستمعون، ولا ريب أن هذا أكمل الأمور الثلاثة، والله أعلم (4).
في كم يختم القرآن؟
سأله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن عمرو بن العاص، في كم أقرأ القرآن؟ فقال: «في شهر»، فقال:
أطيق أفضل من ذلك، فقال: «في عشرين»، فقال: أطيق أفضل من ذلك، فقال: «في خمس عشر»، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: «في عشرة»، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال:
«في خمس»، قال: أطيق أفضل من ذلك، قال: «لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث». ذكره أحمد (5) (6).
__________
(1) زاد المعاد (1/ 337).
(2) ساقطة من المطبوعة، للسياق.
(3) تجلالة: مبالغة من الجلالة.
(4) حكم مسألة السماع (291، 292).
(5) أحمد (2/ 163) وقال الشيخ أحمد شاكر (6516): «إسناده صحيح».
(6) إعلام الموقعين (4/ 380).(1/469)
دعاء ختم القرآن
نص الإمام أحمد رحمه الله على الدعاء عقيب الختمة فقال في رواية أبي الحارث: «كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده». وقال في رواية يوسف بن موسى، وقد سئل عن الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: نعم رأيت معمرا يفعله إذا ختم.
وقال في رواية حرب: «استحب إذا ختم الرجل القرآن أن يجمع أهله ويدعو». وروى ابن أبي داود في فضائل القرآن عن الحكم قال: «أرسل إليّ مجاهد وعنده ابن أبي لبابة:
أرسلنا إليك أنا نريد أن نختم القرآن، وكان يقول: إن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن ثم يدعو بدعوات».
وروى أيضا في كتابه عن ابن مسعود أنه قال: «من ختم القرآن فله دعوة مستجابة».
وعن مجاهد قال: «تنزل الرحمة عند ختم القرآن».
وروى أبو عبيد في كتاب «فضائل القرآن» عن قتادة قال: «كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره على أصحاب له، فكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يضع عليه الرقباء فإذا كان عند الختم جاء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فشهده.
ونص أحمد رحمه الله تعالى على استحباب ذلك في صلاة التراويح، قال حنبل:
سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: «إذا فرغت من قراءتك {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ} (1)، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه»، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة.
قال عباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركت الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا أشياء، وذكر عن عثمان بن عفان.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت: «أختم القرآن أجعله في التراويح وفي الوتر؟ قال اجعله في التراويح، حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا، ونحن في الصلاة، وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت كما أمرني وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه».
وإذا كان هذا من آكد مواطن الدعاء وأحقها بالإجابة فهو من آكد مواطن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم (1).
__________
(1) جلاء الأفهام (242، 243).(1/470)
وفي الترمذي عنه أنه سئل صلّى الله عليه وسلّم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الحال المرتحل» (1)، وفهم بعضهم من هذا أنه إذا فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة الكتاب، وثلاث آيات من سورة البقرة لأنه حل بالفراغ وارتحل بالشروع. وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة.
والمراد بالحديث الذي كلما حل من غزاة ارتحل في أخرى، أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلا له كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعا، وبالله التوفيق.
وقد جاء تفسير الحديث متصلا به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل، وهذا له معنيان: أحدهما: أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره، والثاني: أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى (2).
حكم قراءة القرآن بالفارسية
ومن العجب: تجويز قراءة القرآن بالفارسية (3).
النهي عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو
إن الله تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن، ومن أنزله ومن جاء به، ومن أنزل عليه (4).
وأيضا نهيه سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله (5).
حكم الوضوء لقراءة القرآن
قالوا (6): والسجود هو من جنس ذكر الله، وقراءة القرآن والدعاء ولهذا شرع في
__________
(1) الترمذي (2948) في القراءات، باب: (13)، وقال: «غريب».
(2) إعلام الموقعين (4/ 379).
(3) إعلام الموقعين (3/ 408).
(4) إعلام الموقعين (3/ 190).
(5) إعلام الموقعين (1/ 367).
(6) أي: المانعون من الوضوء.(1/471)
الصلاة وخارجها، فكما لا يشترط الوضوء لهذه الأمور وإن كانت من أجزاء الصلاة فكذا لا يشترط للسجود، وكونه جزءا من أجزائها لا يوجب ألا يفعل إلا بوضوء.
واحتج البخاري بحديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون، والمشركون والجن والإنس (1) ومعلوم أن الكافر لا وضوء له.
قالوا: وأيضا، فالمسلمون الذين سجدوا معه صلّى الله عليه وسلّم لم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالطهارة، ولا سألهم: هل كنتم متطهرين أم لا؟ ولو كانت الطهارة شرطا فيه للزم أحد الأمرين: إما أن يتقدم أمره لهم بالطهارة، وإما أن يسألهم بعد السجود، ليبين لهم الاشتراط، ولم ينقل مسلم واحدا منهما.
فإن قيل: فلعل الوضوء تأخرت مشروعيته عن ذلك، وهذا جواب بعض الموجبين.
قيل: الطهارة شرعت للصلاة من حين المبعث، ولم يصلّ قط إلا بطهارة، أتاه جبريل عليه السّلام فعلمه الطهارة والصلاة. وفي حديث إسلام عمر أنه لم يمكن من مس القرآن إلا بعد تطهره (2)، فكيف تظن أنهم كانوا يصلون بلا وضوء؟
قالوا: وأيضا فيبعد جدا أن يكون المسلمون كلهم إذ ذاك على وضوء!
قالوا: وأيضا، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن، فيقرأ السورة فيها السجدة فيسجد، ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته (3).
قالوا: وقد كان يقرأ القرآن عليهم في المجامع كلها، ومن البعيد جدا أن يكون كلهم إذ ذاك على وضوء، وكانوا يسجدون حتى لا يجد بعضهم مكانا لجبهته، ومعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ وغيره.
قالوا: وأيضا، فقد أخبر الله تعالى في غير موضع من القرآن: أن السحرة سجدوا لله سجدة، فقبلها الله منهم ومدحهم عليها، ولم يكونوا متطهرين قطعا، ومنازعونا يقولون مثل هذا السجود حرام، فكيف يمدحهم ويثني عليهم بما لا يجوز؟ فإن قيل: شرع من قبلنا ليس بشرع لنا. قيل: قد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا، وذلك منصوص عنهم أنفسهم في غير موضع.
__________
(1) البخاري (4862) في التفسير، باب: فاسجدوا لله واعبدوا.
(2) ابن هشام (1/ 371، 372).
(3) البخاري (1075) في سجود القرآن، باب: من سجد سجود القارئ، ومسلم (575/ 103) في المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة.(1/472)
قالوا: سلمنا، لكن ما لم يرد شرعنا بخلافه.
قال المجوزون: فأين ورد في شرعنا خلافه؟
قالوا: وأيضا فأفضل أجزاء الصلاة وأقوالها هو القراءة، ويفعل بلا وضوء، فالسجود أولى.
قالوا: وأيضا فالله سبحانه وتعالى أثنى على كل من سجد عن التلاوة، فقال تعالى:
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لََا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذََا يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ سُجَّداً} (107) [الإسراء]. وهذا يدل على أنهم سجدوا عقب تلاوته بلا فصل، سواء كانوا بوضوء أو بغيره لأنه أثنى عليهم بمجرد السجود عقب التلاوة، ولم يشترط وضوءا، وكذلك قوله تعالى: {إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُ الرَّحْمََنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا} [مريم: 58] (1).
حكم قراءة الحائض القرآن وإعلال حديث المنع
جواز قراءة القرآن لها، وهي حائض إذ لا يمكنها التعويض عنها زمن الطهر لأن الحيض، قد يمتد بها غالبه أو أكثره، فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها، وهذا مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن، وحديث: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» (2). لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث (3).
حكم مس المصحف للجنب وغيره
قال تعالى: {فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ} (78) [الواقعة]، اختلف المفسرون في هذا فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرََامٍ بَرَرَةٍ} (16) [عبس]، ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) [الواقعة]، فهذا يدل على
__________
(1) تهذيب السنن (1/ 54، 55).
(2) الترمذي (131) في الطهارة، باب: ما جاء في الجنب والحائض، وقال: «حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش، وابن ماجة (596) في الطهارة وسننها، باب: ما جاء في قراءة القرآن من غير طهارة، وقال الألباني: «منكر».
(3) إعلام الموقعين (3/ 30).(1/473)
أنه بأيديهم يمسونه، وهذا هو الصحيح في معنى الآية، ومن المفسرين من قال: إن المراد به أن المصحف لا يمسه إلا طاهر.
والأول أرجح لوجوه:
أحدهما: أن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تنزل به الشياطين، وأن محله لا يصل إليه فيمسه إلا المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق الله، وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسوه، كما قال تعالى: {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211)} {كِرََامٍ بَرَرَةٍ} (16) [الشعراء]، فنفي الفعل وتأتيه منهم، وقدرتهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه، فإن الفعل قد ينتفي عمن يحسن منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة، وكذلك قوله في سورة عبس: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرََامٍ بَرَرَةٍ} (16) [عبس]، فوصف محله بهذه الصفات بيانا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به، وتقرير هذا المعنى أهم وأجل وأنفع من بيان كون المصحف لا يمسه إلا طاهر.
الوجه الثاني: أن السورة مكية، والاعتناء في السور المكية إنما هو بأصول الدين، من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنة السور المدنية.
الوجه الثالث: أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر، وهذا إن جاز أن يكون باعتبار ما يأتي، فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الأخبار، يوضحه:
الرابع: وهو قوله: {فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ} (78)، والمكنون: المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (49) [الصافات]، وهكذا قال السلف. قال الكلبي: مكنون من الشياطين، وقال مقاتل: مستور، وقال مجاهد: لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق: مصون في السماء يوضحه.
الوجه الخامس: أن وصفه بكونه مكنونا نظير وصفه بكونه محفوظا فقوله: {فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ} (78) كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (22) [البروج] يوضحه.
الوجه السادس: أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين، وأبلغ في تعظيم القرآن، من كون المصحف لا يمسه محدث.
الوجه السابع: قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) بالرفع، فهذا خبر لفظا ومعنى، ولو كان نهيا لكان مفتوحا، ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس هاهنا
موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.(1/474)
الوجه السابع: قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) بالرفع، فهذا خبر لفظا ومعنى، ولو كان نهيا لكان مفتوحا، ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس هاهنا
موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.
الوجه الثامن: أنه قال {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ولم يقل إلا المتطهرون. ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال: إلا المتطهرون، كما قال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222) [البقرة]، وفي الحديث «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (1)، فالمتطهر فاعل التطهير، والمطهر الذي طهره غيره، فالمتوضئ متطهر والملائكة مطهرون.
الوجه التاسع: أنه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مكنونا كبير فائدة، إذ مجرد كون الكلام مكنونا في كتاب، لا يستلزم ثبوته، فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونا في كتاب، وهذا أمر مشترك، والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه، وما اختص به من الخصائص التي تدل على أنه منزل من عند الله، وأنه محفوظ مصون، لا يصل إليه شيطان بوجه ما، ولا يمس محله إلا المطهرون، وهم السفرة الكرام البررة.
الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك في قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) قال: المطهرون الملائكة وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع، قال الحاكم: تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع، ومن لم يجعله مرفوعا فلا ريب أنه عنده أصح من تفسير من بعد الصحابة، والصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم.
وقال حرب في مسائله: سمعت إسحاق في قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) قال:
النسخة التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، قال: الملائكة.
وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، إذ كانت الصحف التي في السماء لا يسمها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر، والحديث مشتق من هذه الآية.
__________
(1) رواه الترمذي (55) في أبواب الطهارة، باب: فيما يقال بعد الوضوء، عن أبي إدريس الخولاني عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء» قال الترمذي: «وهذا حديث في إسناده اضطراب. ولا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب كثير شيء. قال البخاري: أبو إدريس لم يسمع من عمر شيئا».(1/475)
وقوله: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» (1) رواه أهل السنن من حديث الزهري عن بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن في السنن، والفرائض، والديات: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر»، قال أحمد: أرجو أن يكون صحيحا، وقال أيضا: لا أشك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتبه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: هو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم، معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، ثم قال: وهو كتاب معروف عند العلماء، وما فيه فمتفق عليه إلا قليلا، وقد رواه ابن حبان في صحيحه، ومالك في موطئه، وفي المسألة آثار أخر مذكورة في غير هذا الموضع (2).
باب: منه قوله تعالى: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) [الواقعة]: الصحيح في الآية أن المراد به:
الصحف التي بأيدي الملائكة، لوجوه عديدة:
منها: أنه وصفه بأنه «مكنون»، و «المكنون» المستور عن العيون. وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة.
ومنها: أنه قال: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) وهم الملائكة. ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون. كما قال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ التَّوََّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[البقرة: 222] فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم. والأصل في الخبر: أن يكون خبرا صورة ومعنى.
ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين. ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء {وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210) وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ} (211) [الشعراء] وإنما تناله الأرواح المطهرة:
وهم الملائكة.
__________
(1) مالك في الموطأ (1/ 199) في القرآن، باب: الأمر بالوضوء من مس القرآن، قال ابن عبد البر: «لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد روى مسندا من وجه صالح». انظر: الحاكم في المستدرك (3/ 485) في معرفة الصحابة، باب: مناقب حكيم بن حزام، وقال: «حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.
(2) التبيان (230226).(1/476)
ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرََامٍ بَرَرَةٍ} (16) [عبس].
قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (97) أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس.
ومنها أن الآية مكية من سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار. وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي. وهو حكم مس المحدث المصحف.
ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا. بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون، مستور عن العيون عند الله، لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية. فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك.
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون، لكرامتها على الله، فهذه الصحف أولى ألا يمسها إلا طاهر (1).
النهي عن المراء في القرآن
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المراء في القرآن كفر» (2).
وفي الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم عنه فقوموا» (3).
وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (4).
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 418416).
(2) أبو داود (4603) في السنة، باب: النهي عن الجدال في القرآن.
(3) البخاري (5060) في فضائل القرآن، باب: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، ومسلم (2667/ 4) في العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن.
(4) البخاري (7188) في الأحكام، باب: الألد الخصم إلخ، ومسلم (2668/ 5) في العلم، باب:
الألد الخصم.(1/477)
وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (1)، ثم تلا تلك الآية: {مََا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلََّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] (2).
حكم التسمية بأسماء القرآن
ومما يمنع منه: التسمية بأسماء القرآن، وسوره مثل: طه، ويس، وحم.
وقد نص مالك على كراهة التسمية بيس. ذكره السهيلي، وأما ما يذكره العوام: أن «يس»، و «طه» من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام فغير صحيح، ليس ذلك في حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صحابي، وإنما هذه الحروف مثل: «الم»، و «حم»، و «الر»، ونحوها (3).
حكم قراءة القرآن للميت
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق: يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة. وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.
وقال الخلال في الجامع، كتاب القراءة عند القبور: أخبرنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا مت فضعني في اللحد، وقل: بسم الله، وعلى سنة رسول الله، وسن عليّ التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك، قال عباس الدوري: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة شيئا؟ فقال: لا وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
قال الخلال وأخبرني الحسين بن أحمد الوراق، حدثني علي بن موسى الحداد، وكان صدوقا، قال: كنت مع أحمد بن حنبل، ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد: يا هذا، إن القراءة عند القبر بدعة،
__________
(1) ابن ماجة (48) في المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل.
(2) تهذيب السنن (7/ 726).
(3) تحفة المودود (116، 117).(1/478)
فلما خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا، قال: نعم فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجلاج عن أبيه: أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال له أحمد: فارجع، وقل للرجل يقرأ.
وقال الحسن بن الصباح الزعفراني سألت الشافعي عن القراءة على القبر قال: لا بأس بها.
وذكر الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن.
قال: وأخبرني أبو يحيى الناقد سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها «تبارك» لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أبا علي خيرا فقد انتفعت بما قرأ. أخبرني الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: أنت فلان بن فلانة؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر، فأصابنا من روح ذلك أو غفر لنا أو نحو ذلك.
وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اقرءوا «يس» عند موتاكم» (1). وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله:
«لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» (2). ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه:
الأول: أنه نظير قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله».
الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: {يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ}
__________
(1) أبو داود (3121) في الجنائز، باب: القراءة عند الميت، والنسائي في الكبرى (10913) في عمل اليوم والليلة، باب: ما يقرأ على الميت، وانظر تخريجه مفصلا في: إرواد العليل (688).
(2) مسلم (916/ 1) في الجنائز، باب: تلقين الموتى لا إله إلا الله، وأبو داود (3117) في الجنائز، باب: في التلقين.(1/479)
{الْمُكْرَمِينَ} (27) [يس] فتستبشر الروح فتحب لقاء الله، فيحب الله لقائها، فإن هذه السورة قلب القرآن ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أن نظر إلى السماء وضحك وقال: {يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (27) [يس] وقضى.
الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرءون «يس» عند المحتضر.
الرابع: أن الصحابة لو فهموا من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرءوا «يس» عند موتاكم» (1) قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.
الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره، فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل، وقد انقطع من الميت (2).
وأيضا وبالجملة، فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه.
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.
فإن قيل: فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.
فالجواب: أن مورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار.
قيل له: ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوب بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على
__________
(1) سبق تخريجه في رقم 1.
(2) الروح (1210)(1/480)
من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت، بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل: لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت، فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر، فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل: فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة؟
قيل: هو صلّى الله عليه وسلّم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟
والقائل: إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك، قائل ما لا علم له به، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه، بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط.
وسر المسألة: أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه، وهذا عمل سائر الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء (1).
شرط الواقف قراءة قرآن عند قبر
ومن ذلك (2): أن يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، والناس لهم قولان:
أحدهما: أن القراءة لا تصل إلى الميت، فلا فرق بين أن يقرأ عند القبر أو بعيدا منه عند هؤلاء.
__________
(1) الروح (143142).
(2) أي: من شروط الواقفين المخالفة للشرع.(1/481)
والثاني: أنها تصل، ووصولها فرع حصول الثواب للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت، فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل ولم يقصد به التقرب إلى الله لم يحصل له ثواب، فكيف ينتقل عنه إلى الميت وهو فرعه؟ فما زاد بمجيئه إلى التربة إلا العناء والتعب، بخلاف ما إذا قرأ لله في المسجد أو غيره في مكان يكون أسهل عليه وأعظم لإخلاصه، ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل إليه.
وذاكرت مرة بهذا المعنى بعض الفضلاء، فاعترف به، وقال: لكن بقي شيء آخر، وهو أن الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ووصول بركة ذلك إليه، فقلت له:
انتفاعه بسماع القرآن مشروط بحياته، فلما مات انقطع عمله كله واستماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة، وقد انقطع بموته، ولو كان ممكنا لكان السلف الطيب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم إلى الخير وحرصهم عليه. ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فالذي لا شك فيه أنه لا يجب حضور التربة ولا تتعين القراءة عند القبر (1).
وأيضا فإذا شرط الواقف القراءة على القبر، كانت القراءة في المسجد أولى، وأحب إلى الله ورسوله، وأنفع للميت (2)، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى الله الأنفع لعبده، واعتبار ضده.
وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا، بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الأجر له باستماعه للقرآن في قبره، وهذا غلط، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته (3).
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود
وسمعته يقول (4) في نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: «إن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل، وانخفاض من العبد».
فمن الأدب مع كلام الله: ألا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حال القيام والانتصاب
__________
(1) إعلام الموقعين (4/ 230، 231).
(2) ليس القراءة للميت من هدى النبوة. المسألة فيها تفصيل كما في زاد المعاد!
(3) إعلام الموقعين (3/ 130).
(4) أي شيخ الإسلام ابن تيمية.(1/482)
أولى به» (1) (2).
سجدات القرآن
كان صلّى الله عليه وسلّم، إذا مر بسجدة، كبر وسجد، وربما قال في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» (3):
وربما قال: «اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، اجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود» (4). ذكرهما أهل السنن.
ولم يذكر عنه أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب، ولا نقل فيه عنه تشهد، ولا سلام البتة. وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه، فالمنصوص عن الشافعي: أنه لا تشهد فيه ولا تسليم، وقال أحمد: أما التسليم، فلا أدري ما هو؟
وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره.
وصح عنه صلّى الله عليه وسلّم، أنه سجد في {الم تَنْزِيلُ}، وفي {ص}، وفي {النَّجْمِ} وفي {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (1) [الانشقاق: 1]، وفي سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) [العلق].
وذكر أبو داود عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان (5).
__________
(1) في هذا نظر، فإنها حالة عز ورفعة لأنها ذل لله الأكبر، وانخفاض من العبودية لعظمة الربوبية وجلالها شرف ورفعة، ولعل السر في ذلك: أن المصلي حين قرأ قائما، تجلى للمتدبر الفقيه في كتاب ربه: ما لله عليه من النعم العظيمة المتتالية، وبالأخص، وقد شرف بالنعمة العظمى، نعمة مناجاة ربه فإنه يحسن عندئذ أنه يحمل من النعم ما ينوء به ظهره فيخر راكعا فيناسب ذلك أن يسبح بحمد ربه العظيم، الذي تجلت له عظمته في هذه النعم، ثم يشعر أن ربه سمع تسبيحه بحمد ربه ويتذكر نعمه، فيرفع من الركوع شاكرا لربه، قائلا: «سمع الله لمن حمده إلخ» فيحس إحساسا آخر أنه من الحمادين الشكارين، فيجد أن النعم قد زادت زيادة عظيمة فينوء ظهره أكثر من قبل فيخر ساجدا. والله أعلم.
وهو الموفق.
(2) مدارج السالكين (2/ 385، 386).
(3) أبو داود (1414) في الصلاة، باب: ما يقول إذا سجد، والترمذي (580) في الصلاة، باب: ما يقول في سجود القرآن، وقال: «حسن صحيح».
(4) الترمذي (579) في الصلاة، باب: ما يقول في سجود القرآن، وابن ماجة (1053) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: سجود القرآن.
(5) أبو داود (1401) في الصلاة، باب: تفريع أبواب السجود، وابن ماجة (1057) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: عدد سجود القرآن، وضعفه الألباني.(1/483)
وأما حديث أبي الدرداء، سجدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إحدى عشرة سجدة، ليس فيها من المفصل شيء: (الأعراف)، و (الرعد) و (النحل)، و (بني إسرائيل)، و (مريم)، و (الحج)، و (سجدة الفرقان)، و (النمل)، و (السجدة)، و (ص)، و (سجدة الحواميم). فقال أبو داود:
روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى عشرة سجدة، وإسناده واه (1).
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة. رواه أبو داود (2)، فهو حديث ضعيف، في إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد، لا يحتج بحديثه. قال الإمام أحمد: أبو قدامة مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين:
ضعيف. وقال النسائي: صدوق عنده مناكير. وقال أبو حاتم البستي: كان شيخا صالحا ممن كثر وهمه. وعبد الله ابن القطان بمطر الوراق، وقال: كان يشبهه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه. انتهى كلامه.
ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله. والثانية: طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله. وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن، والله المستعان.
وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) [العلق]، وفي {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (1) [الانشقاق] (3)، وهو إنما أسلم بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة بست سنين أو سبع، فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة لتعين تقديم حديث أبي هريرة لأنه مثبت معه زيادة علم خفيت على ابن عباس، فكيف وحديث أبي هريرة في غاية الصحة متفق على صحته، وحديث ابن عباس فيه من الضعف ما فيه. والله أعلم (4).
سجود التلاوة في الانشقاق
عمل أهل المدينة الذي كأنه رأي عين في سجودهم في: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} (1) أول
__________
(1) الترمذي (568) في الصلاة، باب: ما جاء في سجود القرآن، وابن ماجة (1056) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: عدد سجود القرآن، وفي الزوائد: «في إسناده عثمان بن فائد، وهو ضعيف».
(2) أبو داود (1403) في الصلاة، باب: من لم ير السجود في المفصل، وضعفه الألباني.
(3) مسلم (578/ 109) في المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة.
(4) زاد المعاد (1/ 364362).(1/484)
كانت مرادة، فهي ثابتة في نفس الأمر، أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة.
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن، وهم يعلمون ذلك من نفوسهم، ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته. فتدبر هذا المعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء (1).
جزاء المعرض عن القرآن
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124] أي عن الذكر الذي أنزلته، فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، كقيامي وقراءاتي، لا إلى المفعول. وليس المعنى: من أعرض عن أن يذكرني، بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره.
وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: من أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا قال تعالى:
{وَهََذََا ذِكْرٌ مُبََارَكٌ أَنْزَلْنََاهُ} [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: {ذََلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيََاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (58) [آل عمران]، وقال تعالى: {وَمََا هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ} (52) [القلم]، وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ} (41) [فصلت]، وقال تعالى: {إِنَّمََا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمََنَ} [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله، ونظيره في إضافة اسم الفاعل: {غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ} [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم، وكذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3) [غافر].
وقوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} فسرها غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ (124) قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قََالَ كَذََلِكَ أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا وَكَذََلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ََ} (126) [طه]، أي تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا، فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.
ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: {النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} فهذا البرزخ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذََابِ} [غافر: 46] فهذا في يوم القيامة الكبرى.
__________
(1) الفوائد (82).(1/485)
ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ فِي غَمَرََاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلََائِكَةُ بََاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ بِمََا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيََاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) [الأنعام] فقول الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون، المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبََارَهُمْ وَذُوقُوا عَذََابَ الْحَرِيقِ} (50) [الأنفال]، فهذه الإذاقة هي في البرزخ، وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبََارَهُمْ} وهو في القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره وكلاهما واقع وقت الوفاة.
وفي «الصحيح» عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثََّابِتِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قال: نزل في عذاب القبر (1).
والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.
والمقصود: أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه، لا يضل ولا يشقى، فإن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (97) [النحل] فأخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء، وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب بالآخرة وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (37) [الزخرف]، فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان بسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب أنه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه وإفلاسه قال: {يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (38) [الزخرف]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى:
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]. قيل: لا عذر لهذا وأمثاله من الضّلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط
__________
(1) البخاري (1369) في الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر.(1/486)
بإعراضه عن اتباع داعي الهدى فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلََّا يَكُونَ لِلنََّاسِ عَلَى اللََّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار:
{وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا هُمُ الظََّالِمِينَ} (76) [الزخرف]، وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ} (59) [الزمر] وهذا كثير من القرآن.
وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ (124) قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} (125) [طه]: اختلف فيه: هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر. والذين قالوا: هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنََا} [مريم: 38].
وقوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (22) [ق]، وقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلََائِكَةَ لََا بُشْرى ََ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} (22) [الفرقان]، وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهََا عَيْنَ الْيَقِينِ} (7) [التكاثر] ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة، كقوله تعالى: {وَتَرََاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا خََاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}
[الشورى: 45]، وقوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هََذِهِ النََّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هََذََا أَمْ أَنْتُمْ لََا تُبْصِرُونَ} (15) [الطور]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النََّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوََاقِعُوهََا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهََا مَصْرِفاً} (53) [الكهف]، والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا:
السياق لا يدل إلا عليه لقوله: {قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} (125) [طه]، وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله: {كَذََلِكَ أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا وَكَذََلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ََ} [طه: 126]، بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته، أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره تركه في العذاب (1).
__________
(1) مفتاح دار السعادة (4946).(1/487)
وأيضا قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَعْمى ََ (124) قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قََالَ كَذََلِكَ أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا وَكَذََلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى ََ} (126) [طه]، أي: تنسى في العذاب كما نسيت آياتي فلم تذكرها ولم تعمل بها. وإعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله، وهو أن يذكر الذي أنزله في كتابه، وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه، وأسمائه وصفاته وأوامره وآلائه، ونعمه، فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل، أو مضاف إضافة الأسماء المحضة، أي: من أعرض عن كتابي ولم يتله، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولا فهمه، فإن حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه منكدة معذبا فيها.
والضنك: الضيق والشدة والبلاء. ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح: أنها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ، فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدة وجهد وضيق. وفي الآخرة ينسى في العذاب. وهذا عكس أهل السعادة والفلاح، فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب (1).
سلط الله تعالى عليهم (2) من أزال ملكهم، وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم، كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعية لهم. وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد الشرق، سلط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها. وكذلك في أواخر المائة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد، سلط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاج، واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان، من الوزراء والكتاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر (3)، وبنيت في أيامهم
__________
(1) الوابل الصيب (59).
(2) أي: بنو إسرائيل.
(3) هم العبيديون المدعون كذبا وزورا أنهم فاطميون. وجدهم الذي دخل إلى المغرب، وأظهر دعوته هو(1/488)
القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخطب لهم على منبر بغداد (1).
__________
المدعو: عبيد الله المهدى. قال القاضي عبد الجبار المصري: اسم جد الخلفاء المصريين: سعيد، ويلقب بالمهدي. وكان أبوه يهوديا حدادا بسلمية، ثم زعم سعيد هذا أنه ابن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: القداح جد عبيد الله كان مجوسيا. ودخل عبيد الله المغرب. وادعى أنه علوي. ولم يعرفه أحد من علماء النسب. وكان باطنيا خبيثا، حريصا على إزالة ملة الإسلام. أعدم الفقه والعلم ليتمكن من إغراء الخلق. وجاء أولاده على أسلوبه، فأباحوا الخمر والفروج وأشاعوا الرفض وبثوا دعاتهم فأفسدوا عقائد جبال الشام، كالنصيرية، والدروزية، وكان القداح كذابا ممخرقا. وهو أصل دعاة القرامطة 1. هـ من النجوم الزاهرة (ج 4ص 75، 76).
(1) إغاثة اللهفان (2/ 269، 270).(1/489)
المحتويات
إهداء 5
مقدمة 7
فصل: علوم القرآن والرد على الشبهات 27
(1) نزول القرآن الكريم 28
فصل: في منهج ابن القيم في التفسير 34
في بيان معنى تيسير القرآن للذكر وبيان معنى التفسير 34
أهم قواعد منهج ابن القيم 38
عرف القرآن 42
فصل: موقف ابن القيم من الإسرائيليات: 48
بيان تعظيمه للقرآن الكريم 50
ابن القيم والتفسير العلمي 54
فصل: في ترجمة الإمام ابن القيم 57
فصل: مكتبة ابن القيم 61
فصل: مؤلفات ابن القيم مرتبة على الحروف 64
فصل: الفوائد المشوق إلى علوم القرآن 72
أولا: التعريف بكتاب «الفوائد المشوق»: 73
ثانيا: إن وسائل إثبات صحة نسبة الكتاب لمؤلفه، هي عديدة نذكر منها: 73
ثالثا: محاولة تطبيق ما سبق على «الفوائد المشوق»: 74
ضرورة الوحي 81
مكانة الوحي 81
مراتب الوحي 81
مراتب الهداية الخاصة والعامة والفرق بين الإلهام والوحي والتحديث 82
مسألة 94
قلم تعبير الرؤيا 95
نزول القرآن الكريم 97
وقت نزول القرآن 97
أول ما نزل من القرآن 97
مثال لأوقات النزول وقت نزول فرض الحج 99(1/490)
وقت نزول سورة براءة 99
أسباب النزول 100
أمثلة من أسباب النزول من سورة البقرة 100
من سورة آل عمران 100
من سورة النساء 100
من سورة المائدة 100
من سورة المائدة 104
من سورة الأنعام 104
من سورة إبراهيم 105
من سورة الأحزاب 107
المعوذتين 108
المكي والمدني 110
مثال المكي 110
مثال المدني 111
جمع القرآن الكريم 113
كتّاب الوحي 113
جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد 113
المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد من أهم السياسات الشرعية 113
القراءات 115
القراءة بالأحرف السبعة وغيرها 115
الجمع بين القراءات 115
النهي عن التنطع والغلو في النطق بالحرف 116
مثال للقراءات 117
فواتح السور 121
بيان دلالات فواتح السور وعظم شأنها 121
مقاصد السور والآيات 123
بيان بعض ما تشير إليه دلالة الآيات والسور 124
دلالة السور والآيات على الغزوات 124
بعض الحكم والغايات في وقعة أحد 124
الأمثال في القرآن الكريم 141
قيمة المثل في القرآن 141
حكمة ضرب المثل في القرآن 141
أصول وقواعد من أمثال القرآن الكريم لعلم التعبير 141(1/491)
فصل تدبر الأمثال التي وقعت في القرآن 143
مثل المقلّدين 144
مثل المنفقين في سبيل الله 145
مثل من أنفق ماله في غير طاعة الله عز وجلّ 147
مثل فيمن انسلخ من آيات الله 148
مثل الحياة الدنيا 152
مثل المؤمنين والكافرين 153
المثال المائي والناري في حق المؤمنين 153
مثل في بطلان أعمار الكفار 154
مثل في الكلمة الطيبة 155
مثل الكلمة الخبيثة 158
مثل في تثبيت المؤمن 159
التمثيل بالعبد المملوك 162
في تشبيه من أعرض عن مثل الشرك 166
قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله 166
تمثيل أعمال الكافرين بالسراب 167
مثل في بيان حال الكفار 170
مثل في الذين اتخذوا أولياء من دون الله تعالى 171
مثل في ضلال المشركين 172
مثل الموحد والمشرك 172
مثل المغتاب 173
مثل من حمّل الكتاب ولم يعمل به 174
مثل للكفار ومثلان للمؤمنين 174
مثل في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره 176
فصل في الفوائد والحكم من ضرب الأمثال 177
الخلاصة 178
المحكم والمتشابه 179
المتشابه وأنواع الإحكام 179
في الناسخ والمنسوخ 193
حكمة النسخ في القرآن 193
أمثلة على النسخ 195
الاستدلال في القرآن الكريم 206(1/492)
الاستدلال على الله تعالى بالآيات الأفقية والنفسية 206
الاستدلال بأسماء الله وصفاته 208
الاستدلال على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 209
من أساليب القرآن الكريم 211
التحدي 211
القرآن الكريم محكم جامع 213
بيان فساد إضافة الشر إلى الله تعالى 214
التدرج في التكليف 215
العطف في القرآن الكريم 217
تقديم بعض الكلام على بعض 223
دخول الشرط على الشرط 243
الروابط بين الجملتين 246
القسم في القرآن 262
من أحكام القسم 262
أمثلة من قسم القرآن 263
ألفاظ القرآن ومقاصدها 268
بيان الوجوه التي تنقسم إليها معاني ألفاظ القرآن 268
من أنواع استعمال القرآن لبعض الألفاظ 269
خطأ تحميل اللفظ فوق ما يحتمله 270
من الألفاظ المكروهة 272
بعض ألفاظ القرآن الكريم ومقاصدها كالطبع والختم والغشاوة والغطاء وغيرها 273
السلطان في القرآن 317
السمع في القرآن 321
الصبر في القرآن 322
صلاة الله عز وجلّ على عباده في القرآن 326
الفاجر في عرف القرآن 327
القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن 327
تفسير القرآن وتأويله 334
حقيقة التأويل 334
درجات التأويل 334
ما يدخل فيه التأويل والمجاز 335
الأقوال في التأويل وبيان خطورته 335(1/493)
رأي الجويني في الكف عن التأويل 336
رأي الغزالي في التأويل 336
التأويل عدو كل الأديان 338
أصناف المتأولة 339
فتنة التأويل وبعض ما أحدثت 339
رأي ابن رشد في التأويل 340
مثل من أوّل شيئا من القرآن 341
أمثلة للتأويل الفاسد 342
التفسير بالرأي 350
أقسام الرأي 350
الآثار عن التابعين في ذم الرأي 355
موقف أهل الرأي من السنة 358
كلام أئمة الفقهاء عن الرأي 358
النهي عن تفسير القرآن بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي 358
من فوائد الإخبار عن المحسوس الواقع 360
«عسى» من الله واجب 360
هل نقل من القرآن آحادا؟ 361
تفسير القرآن بالسنة 362
منزلة السنة من القرآن 367
الكلام عن الزيادة المغيرة لحكم شرعي 370
أنواع بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم 373
هل يجوز تخصيص كلام الله بحديث؟ 377
عودة إلى حجج أن الزيادة لا توجب نسخا 377
تخصيص القرآن بالسنة 386
من تفسيرات النبي صلّى الله عليه وسلّم للقرآن 390
تفسير الصحابة للقرآن والأقوال في الاحتجاج به 390
بعض تفسير الصحابة يخالف الأحاديث 391
ما أشكل على بعض الصحابة 393
فضائل القرآن 397
مكانة القرآن بين الكتب المنزّلة 397
القرآن كثير الخير عظيم النفع 397
القرآن كفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد 397
القرآن باب الله الأعظم الذي منه الدخول 398(1/494)
القرآن حق وصدق 401
القرآن ذكر الله الأكبر 402
القرآن فضل الله ورحمته 403
القرآن ذكر للعباد 403
القرآن تبصرة للعباد 404
محتوى خطاب القرآن 405
فضل قارئ القرآن 407
النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو 408
القرآن متضمن لأدوية القلب، وعلاجه من جميع أمراضه 408
الآيات والسور التي يعتصم بها العبد من الشيطان ويستدفع بها شره ويحترز بها منه 410
العلاج بالقرآن 413
هديه صلّى الله عليه وسلّم في رقية اللديغ بالفاتحة 413
هديه صلّى الله عليه وسلّم في علاج لدغة العقرب بالرقية 416
فضل سورة الفاتحة 419
فضل آية الكرسي 421
أجمع آية لمكارم الأخلاق 422
فضل سورة الملك 422
فضل سورة الزلزلة 422
فضل المعوذتين 423
فضل سورة الإخلاص 423
فضل سور: الإخلاص والكافرون والزلزلة 424
ما صح من أحاديث في فضائل السور والآيات 426
ما وضع في فضائل السور 427
آداب القرآن الكريم 428
سماع القرآن الكريم 428
السمع المستحب 428
أدب استماع القراءة 429
فضل سماع القرآن من الغير 429
المستمع للقرآن مستمع لله عز وجلّ 430
سماع الناس القرآن يوم القيامة 430
الشهقة عند سماع القرآن 431
عشق سماع القرآن 432
سماع القرآن يغني عن سماع الشيطان 432(1/495)
تدبر القرآن وكيفية ذلك 433
دعوة القرآن إلى تدبره وبيان أنواع التدبر 435
فوائد تدبر القرآن 442
علاج المدبر عن سماع القرآن 446
هل الأفضل قلة القراءة مع التدبر أو الكثرة بدونه؟ 447
العلم بالقرآن أفضل العلوم 448
تعلم قراءة القرآن 448
المقصود من تعلم القرآن 449
تحسين الصوت بالقرآن 449
مسألة 451
هديه صلّى الله عليه وسلّم في قراءة القرآن، واستماعه وخشوعه 453
البكاء عند سماع القرآن 461
تلاوة القرآن 461
شروط الانتفاع بالقرآن 462
موانع الانتفاع بالقرآن 464
أسباب تفاوت الناس في فهم القرآن 466
كيفية تلاوة القرآن 468
حكم قراءة الجماعة بصوت واحد 469
في كم يختم القرآن؟ 469
دعاء ختم القرآن 470
حكم قراءة القرآن بالفارسية 471
النهي عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو 471
حكم الوضوء لقراءة القرآن 471
حكم قراءة الحائض القرآن وإعلال حديث المنع 473
حكم مس المصحف للجنب وغيره 473
النهي عن المراء في القرآن 477
حكم التسمية بأسماء القرآن 478
حكم قراءة القرآن للميت 479
شرط الواقف قراءة قرآن عند قبر 482
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 483
سجدات القرآن 484
سجود التلاوة في الانشقاق 485
جزاء المعرض عن القرآن 485(1/496)