مقدمة
تنبّه الباحثون إلى أثر القرآن الكريم في نشأة العلوم العربية عامة، وفي نشأة علوم النقد والبلاغة بصفة خاصة. وحاولوا في أبحاث كثيرة الكشف عن هذا الأثر وتحديد ملامحه وأبعاده. واختلفت زوايا التركيز بين الباحثين تبعا لاختلاف زاوية الاهتمام.
ولم يحظ أهم مبحث من مباحث البلاغة، وهو مبحث «المجاز» بدراسة مستقلة تعنى بتقصي ظروف نشأته، وأثر القرآن في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ. ولقد أشار الباحثون إلى أثر المعتزلة بصفة خاصة في انضاج مفهوم «المجاز» من خلال سعيهم الدائب لنفي التصورات الشعبية عن الذات الالهية وعن أفعالها.
غير أن هذه الاشارات جاءت مجملة في سياق موضوع أعم هو موضوع الصورة الأدبية في النقد العربي. وأهم هذه الاشارات الفصل الذي خصصه الدكتور مصطفى ناصف للمؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، وذلك في كتابه عن «الصورة الادبية» وكذلك ما أشار اليه الدكتور جابر عصفور في تمهيده للفصل الخاص بالأنواع البلاغية للصورة، وذلك في كتابه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي». وكان لهذه الإشارات على عموميتها الفضل في تنبيه الباحث إلى أهمية الموضوع، وضرورة التوفّر على دراسته دراسة تفصيلية تهدف إلى الكشف عن تلك العلاقة الوثيقة بين الفكر الاعتزالي وبين بحث المجاز في القرآن.
وهي علاقة كان لها أثرها دون شك في توجيه مبحث المجاز وجهة خاصة في دراسة الشعر والنثر على السواء.
ولكي يحقق الباحث هذه الغاية، كان عليه أن يعتمد بصفة أساسية على المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي، دون غيرها من المصادر التي تؤرّخ لهم أو تحكي آراءهم. وقد أتيح لتلك المصادر أن ترى النور منذ فترة قليلة لا تزيد على السنوات العشر. وأهم هذه المصادر مؤلفات القاضي عبد الجبار الأسدآبادي المتوفى عام
415 - هـ، وهي مؤلفات كثيرة ومتنوعة. وأهم هذه المؤلفات موسوعته الضخمة «المغني في أبواب التوحيد والعدل» التي تقع في عشرين جزءا ما تزال ستة أجزاء منها مفقودة، وهي الأجزاء: الأول، والثاني، والثالث، والعاشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، ولم يكن حجم هذه المؤلفات يمثّل صعوبة للباحث، وإنما. تركّزت الصعوبة الحقيقية في معاناة فهم هذه المادة المتشعبة بلغتها المعقدة التي كثيرا ما ألجأت الباحث إلى محاولة إعادة تركيب الجمل تقديما وتأخيرا، بل وإعرابها كلمة كلمة في أحيان كثيرة، حتى يطمئن إلى فهمه للفكرة التي يراد التعبير عنها. فإذا اضفنا إلى ذلك أن عملية تحقيق هذا الكتاب الضخم لا تكاد تتجاوز نسخ المخطوط الوحيد الذي تعتمد عليه في أغلب الأحيان، إلى شرح للمصطلحات أو بيان لأفكار المؤلف. إذا أضفنا ذلك كله أدركنا العبء المزدوج الذي كان على الباحث أن يقوم به. عبء الفهم وتقويم النص معا.(1/5)
ولكي يحقق الباحث هذه الغاية، كان عليه أن يعتمد بصفة أساسية على المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي، دون غيرها من المصادر التي تؤرّخ لهم أو تحكي آراءهم. وقد أتيح لتلك المصادر أن ترى النور منذ فترة قليلة لا تزيد على السنوات العشر. وأهم هذه المصادر مؤلفات القاضي عبد الجبار الأسدآبادي المتوفى عام
415 - هـ، وهي مؤلفات كثيرة ومتنوعة. وأهم هذه المؤلفات موسوعته الضخمة «المغني في أبواب التوحيد والعدل» التي تقع في عشرين جزءا ما تزال ستة أجزاء منها مفقودة، وهي الأجزاء: الأول، والثاني، والثالث، والعاشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، ولم يكن حجم هذه المؤلفات يمثّل صعوبة للباحث، وإنما. تركّزت الصعوبة الحقيقية في معاناة فهم هذه المادة المتشعبة بلغتها المعقدة التي كثيرا ما ألجأت الباحث إلى محاولة إعادة تركيب الجمل تقديما وتأخيرا، بل وإعرابها كلمة كلمة في أحيان كثيرة، حتى يطمئن إلى فهمه للفكرة التي يراد التعبير عنها. فإذا اضفنا إلى ذلك أن عملية تحقيق هذا الكتاب الضخم لا تكاد تتجاوز نسخ المخطوط الوحيد الذي تعتمد عليه في أغلب الأحيان، إلى شرح للمصطلحات أو بيان لأفكار المؤلف. إذا أضفنا ذلك كله أدركنا العبء المزدوج الذي كان على الباحث أن يقوم به. عبء الفهم وتقويم النص معا.
ونظرا لهذه الصعوبات، أحسّ الباحث أنه من الضروري أن يقف بالحدود الزمنية لبحثه عند القرن الرابع الهجري عصر القاضي عبد الجبار دون أن يتجاوزه، هذا القرن الذي يمثّل النضج النهائي للفكر الاعتزالي في عصر نهضته الثانية في بلاط الدولة البويهية. وكانت الإشارة للمؤلفات المتأخرة في بعض الاحيان تهدف إلى بيان الفكرة وتوضيحها دون التركيز على تحليلها في هذه المؤلفات.
ومن الطبيعي أن تفرض طبيعة المادة على الباحث طريقة التناول ومنهج العرض. وإذا كانت الأبحاث اللغوية والدلالية في مؤلفات المعتزلة قد جاءت متناثرة ومتفرقة، فقد كان على الباحث أن يحاول وضعها في نسق يحقق مبدأ الوحدة الفكرية التي حرص المعتزلة أنفسهم على تحقيقها، وإن حققوها بوسائلهم الخاصة التي خضعت في الغالب لمنهج التأليف القديم، ذلك المنهج الذي يعتمد على الاستطراد والاسهاب والتفريع. هذا علاوة على ما تميّز به المعتزلة خاصة من الجدل عن طريق الرد على اعتراضات الخصوم أو توهم اعتراضات يوردها المؤلف على نفسه.
وإذا كان المجاز وسيلة خاصة من وسائل الأداء اللغوي، فإن أي فهم لطبيعة المجاز ولوظيفته لا يمكن أن ينفصل عن تصور ما لطبيعة اللغة ودلالتها. وهذا التصور لطبيعة اللغة إنما يتمّ في ضوء تصور أعم لطبيعة النشاط العقلي في سعيه نحو المعرفة. ولقد كان لإعلاء المعتزلة من شأن العقل، هذا الإعلاء الذي ميّزهم عن غيرهم من المتكلمين، أثره في تنبههم للترابط بين مبحث المجاز وبين مجالات اللغة والمعرفة بشكل عام. ونتيجة لذلك كان من الطبيعي أن ينقسم البحث إلى
تمهيد وثلاثة فصول.(1/6)
وإذا كان المجاز وسيلة خاصة من وسائل الأداء اللغوي، فإن أي فهم لطبيعة المجاز ولوظيفته لا يمكن أن ينفصل عن تصور ما لطبيعة اللغة ودلالتها. وهذا التصور لطبيعة اللغة إنما يتمّ في ضوء تصور أعم لطبيعة النشاط العقلي في سعيه نحو المعرفة. ولقد كان لإعلاء المعتزلة من شأن العقل، هذا الإعلاء الذي ميّزهم عن غيرهم من المتكلمين، أثره في تنبههم للترابط بين مبحث المجاز وبين مجالات اللغة والمعرفة بشكل عام. ونتيجة لذلك كان من الطبيعي أن ينقسم البحث إلى
تمهيد وثلاثة فصول.
يتناول التمهيد نشأة الفكر الاعتزالي ويحاول أن يفسّرها في ضوء الظروف الاجتماعية للمجتمع الاسلامي أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري، وذلك لإدراك العلاقة بين الواقع والفكر الاعتزالي بأبعاده المتعددة. ويتناول الفصل الأول العلاقة بين المعرفة والدلالة اللغوية عند المعتزلة، ويكشف عن أثر الفكر الديني الاعتزالي في صوغ اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، وجعلها آخر هذه الأنواع. وكانت الشروط التي وضعها المعتزلة لصحة الدلالة اللغوية بمثابة مدخل طبيعي لمناقشة مفهوم المجاز عند المعتزلة، كان من الضروري الإشارة إلى التطور التاريخي لمفهوم الانتقال في الدلالة وذلك منذ المراحل الأولى لنشأة علم التفسير، وبيان العلاقة بين نضج المفاهيم البلاغية عامة، وبين تأويل النص القرآني لخدمة الخلافات العقائدية بين الفرق المختلفة. غير أن هذه العلاقة بين المجاز والتأويل كانت في حاجة لفصل خاص الفصل الثالث للكشف بشكل أعمق عن هذه العلاقة على المستويين المعرفي والديني على السواء.
ولقد اعتمد البحث بشكل رئيسي على المقارنة بين المعتزلة والأشاعرة خاصة، وهي مقارنة تهدف إلى الكشف بعمق عن خصوصية الفكر الاعتزالي دون أن تتجاوز ذلك إلى بيان الأصول الفكرية للأشاعرة، فذلك أمر يحتاج إلى بحث مستقل.
وكل ما يرجوه الباحث، أن يكون قد وفق في الكشف عن جانب هام من جوانب تراثنا الديني الاسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.(1/7)
تمهيد الإطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي(1/9)
لا تطمح هذه الصفحات لرصد العوامل التاريخية لنشأة الفكر الاعتزالي، بقدر ما تحاول تفهم هذه الظروف بغية فهم الفكر الاعتزالي نفسه في إطار ظروفه البيئية والتاريخية، وذلك ايمانا بأن الفكر لا ينشأ من فراغ، أو مستقلا عن الظروف الموضوعية الاجتماعية والسياسية التي يكون هذا الفكر نفسه استجابة لها ومحاولة للتصدي لها تغييرا أو تأييدا. ومن جهة أخرى فتفسير الفكر الاعتزالي بعوامل التأثير الثقافي الأجنبي وهو ما درج عليه كثير من المستشرقين وبعض الدارسين العرب هو نفي لفعالية هذه الظروف الموضوعية، أو إعطاء دور سلبي لها في أحسن الفروض. وإنكار هذا التأثير الاجنبي وهو ما حاوله بعض الباحثين المتحمسين من العرب رد فعل يناقض الحقيقة التاريخية والعلمية.
ولكن الأساس في التأثير الفكري بين ثقافتين أو حضارتين، أن الأفكار الواردة على الثقافة والحضارة من الصعب أن تمارس تأثيرها الفعّال والمثمر في هذه الحضارة ما لم تكن الظروف الموضوعية الاجتماعية والسياسية مهيأة لتلقي هذه البذور واحتضانها، وتهيئة المناخ الملائم لها لكي تنمو وتزدهر وتؤتي أكلها.
هذا الأساس يصدق على الفكر الاعتزالي، وعلى ظروف نشأته في الفكر الاسلامي. وإذا كانت المبادئ الفكرية للمعتزلة بعد تطورها ونضجها قد أمكن تلخيصها في مبدأين رئيسيين هما «أن الله واحد وأنه العدل في قضائه الرحيم بخلقه» وهما ما أطلق عليهما مبدأي «التوحيد والعدل» فإن باقي أفكار المعتزلة، أو مبادئها الخمسة يمكن أن ترتدّ في التحليل النهائي إلى هذين المبدأين. فمبدأ «الوعد والوعيد» داخل في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل وكذا الكلام في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ومعنى ذلك
أن مبدأ «العدل» يتضمن كل مبادئ المعتزلة عدا التوحيد ومنها القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو القول الذي تجمع المصادر على أن واصل بن عطاء خالف به أستاذه الحسن البصري، وانفصل بسببه عن حلقته مكوّنا حلقة جديدة كانت اللبنة الأولى في بناء المذهب الاعتزالي.(1/11)
هذا الأساس يصدق على الفكر الاعتزالي، وعلى ظروف نشأته في الفكر الاسلامي. وإذا كانت المبادئ الفكرية للمعتزلة بعد تطورها ونضجها قد أمكن تلخيصها في مبدأين رئيسيين هما «أن الله واحد وأنه العدل في قضائه الرحيم بخلقه» وهما ما أطلق عليهما مبدأي «التوحيد والعدل» فإن باقي أفكار المعتزلة، أو مبادئها الخمسة يمكن أن ترتدّ في التحليل النهائي إلى هذين المبدأين. فمبدأ «الوعد والوعيد» داخل في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل وكذا الكلام في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ومعنى ذلك
أن مبدأ «العدل» يتضمن كل مبادئ المعتزلة عدا التوحيد ومنها القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو القول الذي تجمع المصادر على أن واصل بن عطاء خالف به أستاذه الحسن البصري، وانفصل بسببه عن حلقته مكوّنا حلقة جديدة كانت اللبنة الأولى في بناء المذهب الاعتزالي.
والواقع أن هذا الخلاف بين واصل وأستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة، والحكم عليه، يظلّ مجرد خلاف فقهي ما لم ننظر إليه في ظل الظروف التاريخية التي طرحت هذا السؤال على علماء العالم الاسلامي، والتي حددت في نفس الوقت طبيعة الاجابات التي طرحت عليه من كافة الإتجاهات السياسية والدينية في ذلك الوقت.
(1) تعدّ الفتنة التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان مفتاح كل الخلافات السياسية والعقائدية في المجتمع الاسلامي. ويحدّد الأشعري (ت 330هـ) هذه البداية بقوله «وكان الاختلاف بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في الامامة. ولم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر رضوان الله عليه وأيام عمر إلى أن وليّ عثمان ابن عفان رضوان الله عليه وأنكر قوم عليه في آخر أيامه أفعالا فصار ما أنكروه عليه اختلافا إلى اليوم، ثم قتل رضوان الله عليه، وكانوا في قتله مختلفين، فأمّا أهل السنّة والاستقامة فإنهم قالوا: كان رضوان الله عليه مصيبا في أفعاله، قتله قاتلوه ظلما وعدوانا، وقال قائلون بخلاف ذلك، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم»
وإذن فقد كانت نقطة البداية هي الخلاف حول الإمامة وشروطها ومدى السلطة المخوّلة للخليفة. وقد أثار قتل عثمان على أيدي الثوار من الأمصار وعلى رأسهم ثوار مصر قضية شرعية الخروج على الإمام والثورة على الخليفة. ولقد حدّدت ظروف الفتنة منذ بدايتها طبيعة القوى التي اشتركت في الثورة، ومن ثمّ ساهمت في الجدل الفكري والعقائدي حول الإمامة والخلافة. ولقد بدأت هذه القوى تتشكّل ملامحها حين أباح عثمان لأعلام قريش «أن يتملّكوا الضياع ويشيدوا القصور في الولايات الاسلامية المفتوحة كالعراق والشام ومصر، كما سمح لهم أن يستبدلوا بأملاكهم في الحجاز أملاكا في تلك الأمصار» وكانت هذه السياسة مخالفة تمام المخالفة لسياسة الخليفة عمر بن الخطاب الذي حظّر على الصحابة مغادرة المدينة أو الإقامة في الأمصار خوفا عليهم أن تفتنهم الدنيا وتشغلهم عن أمور الدين. وكان من الطبيعي أن تثير هذه السياسة المتساهلة إلى جانب مجاملة
عثمان لأقاربه وتساهله معهم غضب أتقياء الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري اللذين لم يخفيا غضبهما. ولم تتسم سياسة عثمان إزاء هذين الصحابيين بالحلم والكياسة، بل قابل اعتراضهما على سياسته بالشدّة والنفي حتى صارا من أشدّ المعارضين لخلافته.(1/12)
وإذن فقد كانت نقطة البداية هي الخلاف حول الإمامة وشروطها ومدى السلطة المخوّلة للخليفة. وقد أثار قتل عثمان على أيدي الثوار من الأمصار وعلى رأسهم ثوار مصر قضية شرعية الخروج على الإمام والثورة على الخليفة. ولقد حدّدت ظروف الفتنة منذ بدايتها طبيعة القوى التي اشتركت في الثورة، ومن ثمّ ساهمت في الجدل الفكري والعقائدي حول الإمامة والخلافة. ولقد بدأت هذه القوى تتشكّل ملامحها حين أباح عثمان لأعلام قريش «أن يتملّكوا الضياع ويشيدوا القصور في الولايات الاسلامية المفتوحة كالعراق والشام ومصر، كما سمح لهم أن يستبدلوا بأملاكهم في الحجاز أملاكا في تلك الأمصار» وكانت هذه السياسة مخالفة تمام المخالفة لسياسة الخليفة عمر بن الخطاب الذي حظّر على الصحابة مغادرة المدينة أو الإقامة في الأمصار خوفا عليهم أن تفتنهم الدنيا وتشغلهم عن أمور الدين. وكان من الطبيعي أن تثير هذه السياسة المتساهلة إلى جانب مجاملة
عثمان لأقاربه وتساهله معهم غضب أتقياء الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري اللذين لم يخفيا غضبهما. ولم تتسم سياسة عثمان إزاء هذين الصحابيين بالحلم والكياسة، بل قابل اعتراضهما على سياسته بالشدّة والنفي حتى صارا من أشدّ المعارضين لخلافته.
وإذا كانت سياسة عثمان أثارت ضدّه بعض الصحابة، فإنها من جانب آخر أثارت سخط مسلمي الأمصار الأخرى كالكوفة والبصرة ومصر. وقد كان من شأن سياسته الاقتصادية المتساهلة، وتهاونه مع أقاربه، أن تكوّنت طبقة من الأرستقراطية الدينية والقرشية في مقابل أهل الأمصار وفقراء المقاتلين الذين وقع عليهم الغبن على يد ولاة عثمان وحكامه «باستئثارهم بالفيء والغنائم لأنفسهم وخزائن دولتهم وحرمان المقاتلين منها، مدّعين أن الفيء لله وليس للمحارب إلّا أجر قليل يدفع إليه»
ولا نريد الخروج عن مهمة هذا البحث بتتبع الجذور الاقتصادية والسياسية للفتنة بقدر ما تهمنا الإشارة إليها لتحديد طبيعة القوى التي أسهمت فيها ومن ثمّ أسهمت في الحوار الفكري حول قضاياها. والذي يكشف عن طبيعة هذه القوى «اختلاف الوفود التي أتت من الولايات الإسلامية لخلع عثمان، على من توليه خلفا له، حتى قال أهل البصرة نولي الزبير، وقال أهل الكوفة نولي طلحة» وتمسك أهل البصرة بالزبير، وأهل الكوفة بطلحة، وكلاهما من أثرياء الصحابة ينمّ عن طبيعة القوى التي تساندهما، وهي قوى لها أسبابها للثورة ضد عثمان الذي رفع أسرته فوق قريش كلها بما فيها الصحابة.
أما ثوار مصر الذين اشتركوا في الثورة، فقد كان لهم منحى آخر، إذ ذهبوا إلى المطالبة بتولية علي بن أبي طالب. ولقد قام عبد الله بن سبأ بدور خطير في الثورة ضد عثمان، وفي تأليب الأمصار ضده. وعلاقة عبد الله بن سبأ بأبي ذر الغفاري في الشام، واعتراضهما معا على سياسة معاوية يؤكّد الأساس الاقتصادي للفتنة، والثورة. وقد وجد عبد الله بن سبأ لدعوته في مصر صدى لم يجده في كل من الكوفة والبصرة. وكان يخطب في المصريين قائلا «أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهذا علي وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر». ومن الواضح أن عبد الله بن سبأ قد استغلّ بعض الأفكار الدينية اليهودية كالقول بوصاية علي للدعوة للثورة ضد عثمان.
ولكن هذا لا يجعلنا نلجأ لتفسير حركة التاريخ بالهوى الفردي كما يذهب إلى
ذلك كل من قالوا بأن عبد الله بن سبأ سعى للفتنة لحقده على الإسلام ورغبته في الكيد لأهله.(1/13)
ولكن هذا لا يجعلنا نلجأ لتفسير حركة التاريخ بالهوى الفردي كما يذهب إلى
ذلك كل من قالوا بأن عبد الله بن سبأ سعى للفتنة لحقده على الإسلام ورغبته في الكيد لأهله.
وقد كان أهل الشام تحت أمرة معاوية بن أبي سفيان من القوى المساندة لعثمان بحكم أن معاوية من المستفيدين بخلافته، ولذلك كان من الطبيعي أن لا يستطيع أهل الشام المشاركة في الثورة على عثمان. ولقد احتفظ معاوية بقواه العسكرية في حالة حياد، حتى ليغلب على الظن أنه تماطل في إرسال العون إلى عثمان بالمدينة حتى قتله الثوار، ثم ثار بعد ذلك مطالبا بدمه وقاتله ومرتديا قميصه الملطّخ بالدم. وقد بلغ من ذكاء معاوية السياسي أنه لم يتدخل في الحرب بين علي وطلحة والزبير مكتفيا بالمساندة الكلامية لطلحة والزبير، وذلك حتى تقضي إحدى القوتين على الاخرى، ثم ينشط هو بقواته الكاملة للقضاء على القوة المنتصرة. من الصعب إذن التيقن مما إذا كان معاوية والقوى التي ساندته يعمل لحساب بني أمية منذ أول الفتنة، أم أنه كان يعمل لحساب عثمان حتى قتل ثم تحوّل ليعمل لحساب نفسه بعد ذلك، وكلا الأمرين على أي حال سواء في الدلالة على الجذور الاقتصادية والاجتماعية للفتنة وما ترتّب عليها من خلاف سياسي وديني.
نجحت الثورة في تحقيق هدفها، واستطاع الثوار والمصريون على رأسهم ان يفرضوا علي بن أبي طالب خليفة على المسلمين بعد عثمان. ولكن الفتنة كانت قد كسرت فيما كسرت إجماع أهل الحل والعقد في الدولة الاسلامية، أعني الصحابة أنفسهم. وقد تجلّى ذلك في أن البيعة لعلي لم ينعقد عليها الإجماع الذي انعقد لسابقيه، وإن انعقد عليها إجماع من نوع جديد، هو إجماع عامة المسلمين الذين كانوا يشكّلون جماهير الثورة ضد عسف حكّام عثمان وولاته.
وقد كان على علي أن يواجه كل القوى المناهضة له، ومنها زعامات لها قدرها وشرفها الديني مثل طلحة والزبير والسيدة عائشة. ومن الطبيعي أن يكون دم الخليفة المقتول هو الستار الذي يخفي حقيقة الصراع وأبعاده. وكانت موقعة «الجمل» التي انتهت بانتصار علي بن أبي طالب هي المواجهة العسكرية الاولى للقوى المتصارعة. وظلّ معاوية في انتظار ما تسفر عنه الأحداث. وحين انتصرت القوى الموالية لعلي، خرج معاوية مرتديا نفس الرداء ومطالبا بقاتل عثمان وثأره.
وليس من قبيل الصدفة أن يوجد في معسكر علي كل من عمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن سبأ المعترضين على سياسة عثمان ومعاوية، والذين تعرّضوا للنفي والتشريد، رغم جلال قدر بعضهم وصلتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبتهم الطويلة له.(1/14)
وفي هذا الصراع الدموي كانت ثمّة قوة أخرى اعتزلت هذا الصراع، وخشيت الخوض في الفتنة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعمران ابن الحصين وأبي بكرة وغيرهم ممن وقف موقف الحياد في النزاع، وحجتها في ذلك الحديث الشريف الذي رواه أبو بكرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، إلّا إذا نزلت أو وقعت فمن كان له ابل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه» فالقعود هنا يعني التحرّج عن الخوض في هذا الصراع الذي لا يعرف المحق فيه من المبطل. ولقد تطوّر هذا التوقف فيما بعد بعد انتهاء الأمر الى معاوية إلى نزعة تبريرية أطلق عليها اسم الإرجاء وأطلق على أصحابها اسم المرجئة. وإذا كان القعود الذي حاول أن يتزيا بالدين ويعتصم به كانت له مبرراته في الصراع بين علي وغيره من الصحابة وفيهم زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، السيدة عائشة، فإنه بعد ذلك تحوّل الى طاقة تبريرية وصلت إلى حد القول رواية عن الرسول «وكن حلس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ بإثمي وإثمك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» «أي افعل هذا في زمن الفتنة، واختلاف الناس على التأويل وتنازع سلطانين كل واحد منهما يطلب الأمر ويدّعيه لنفسه بحجة. يقول فكن حلس بيتك في هذا الوقت ولا تسل سيفا ولا تقتل أحدا فإنك لا تدري من المحق من الفريقين ومن المبطل واجعل دمك دون دينك» ومن شأن هذا المنطق السلبي أن يضيف للظلم قوة عن طريق الانتقاص من قوى الحق بهذه السلبية، وهو ما عبّر عنه الرسول بقوله: «الساكت عن الحق شيطان أخرس». ولكن المرجئة في الواقع لم تظل على سلبيتها هذه، بل شاركت في اواخر العصر الأموي في الثورة وكان لها دورها الذي لا ينكر في القضاء على الأمويين كما سنشير بعد قليل.
وننتهي من ذلك كله إلى أن الفتنة تمخّضت عن وجود ثلاث قوى أساسية في الصراع هي قوة العلويين في مواجهة قوة الأمويين. وبينهما القاعدون أو المتحرّجون أو معتزلة الصراع الذين تطوروا إلى المرجئة فيما بعد. ولقد أدّت مهزلة التحكيم المعروفة إلى انقسام القوة الكبرى التي كانت تقف خلف علي إلى ما عرف بالشيعة والخوارج. وكان من شأن هذا الانقسام بمستوييه العسكري والفكري أن ينتهي إلى انتصار الأمويين، واستيلائهم على السلطة وانفرادهم بها. وتنازل الحسن بن علي لمعاوية عن حقه في الخلافة، وتنازل بالتالي عن حقوق كل القوى التي كانت تقف خلف أبيه وتسانده. وكان هذا الاستسلام من جانب الزعامة الأساسية يعني التسليم بسلطان الأمويين المطلق في كافة الولايات الاسلامية.(1/15)
ولقد اعتبر المسلمون فيما يقول نيكلسون «انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصارا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتى قضى عليها وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها وأقاموا على أنقاضها دعائم الاسلام لذلك لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية وغطرستهم وكبرياءهم وإثارتهم الأحقاد القديمة، ونزوعهم للروح الجاهلية، ولا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الاسلام إلّا سعيا وراء مصالحهم الشخصية.
ولا غرو فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكا كسرويا. وليس أدلّ على ذلك من قوله فيما يروي اليعقوبي «أنا أول الملوك».
(2) لم يكف الخوارج وكذلك الشيعة عن نضالهم السياسي والعسكري ضد الحكم الأموي. وفي مواجهة الأفكار التبريرية للمرجئة كان لا بدّ من التسلح بالفكر الديني الذي يلتزم النص القرآني لمواجهة الصراع الفكري جنبا إلى جنب مع الصراع السياسي والعسكري. وكانت قضية الإمامة والحكم على الإمام الجائر هي أساس الحوار الفكري والعقائدي الذي تمايزت به القوى السياسية، واصطبغت من خلاله بالصبغة الدينية والعقائدية.
«والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر، وينكرون إمامة عثمان رضوان الله عليهم في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لمّا أجاب إلى التحكيم، ويكفّرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري، ويرون أن الإمامة في قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مستحقا لذلك، ولا يرون إمامة الجائر» وهو موقف واضح وصريح ويتسم بالشجاعة والجرأة وقليل من المغالاة خصوصا في إنكارهم إمامة علي لقبوله التحكيم. ومن جانب آخر فرأيهم في الخلافة وفي جواز أن تكون في قريش أو غيرها، ورأيهم في إنكار إمامة الجائر، كل ذلك يتطابق تطابقا كاملا مع سعيهم الدائب لإزالة حكم بني أمية بالسيف حتى كانوا فيما يقال يتهافتون على الموت تهافت الفراش على النار.
ولقد كان من الطبيعي أن يستقطب الفكر السياسي الثوري للخوارج «الطبقات المعدمة الرقيقة الحال في المجتمع الاسلامي، التي راقتها كثيرا ميول الخوارج الديموقراطية واحتجاجهم على مظالم الحكام والولاة» كما انضم إليهم أيضا «اولئك العرب الخلّص من رجال الصحراء وبخاصة بعض القبائل العربية
ذات الخطر والشأن مثل قبيلة تميم وأبطال القادسية ورؤساء الجند».(1/16)
ولقد كان من الطبيعي أن يستقطب الفكر السياسي الثوري للخوارج «الطبقات المعدمة الرقيقة الحال في المجتمع الاسلامي، التي راقتها كثيرا ميول الخوارج الديموقراطية واحتجاجهم على مظالم الحكام والولاة» كما انضم إليهم أيضا «اولئك العرب الخلّص من رجال الصحراء وبخاصة بعض القبائل العربية
ذات الخطر والشأن مثل قبيلة تميم وأبطال القادسية ورؤساء الجند».
أمّا المرجئة وهم مفكرو الحزب الأموي فلم يتناولوا مسألة الإمامة تناولا صريحا. وليس في أقدم مصادر الفرق والمقالات أيّ إشارة لرأي لهم في هذا الخلاف المستعر حولهم، بل كانت القضية التي شغلتهم هي تعريف الايمان والكفر وتأويل آيات الوعيد. وتتفق كل فرق المرجئة على أن الايمان هو المعرفة بالله والتصديق دون العمل، أو هو المعرفة والتصديق والإقرار باللسان. وكلهم تقريبا لا يجعلون العمل شرطا من شروط الايمان. هذا التعريف للايمان من شأنه أن يحكم على الحاكم الجائر بأنه مؤمن، لا كافر كما حكمت الخوارج، وذلك تأسيسا على أن التصديق بالقلب والإقرار باللسان كافيان للحكم على الايمان. وما دام الحاكم مهما اشتد ظلمه مؤمنا، فلا يحق لأحد الخروج عليه.
«وأجمعت المرجئة بأسرها أن الدار دار الايمان، وحكم أهلها الايمان، إلّا من ظهر منه خلاف الايمان» ويجمع المرجئة أيضا على تأويل آيات الوعيد الواردة في القرآن الكريم على أساس أن فيها استثناء مضمرا، أو أنها خاص وردت مورد العام. وهو مسلك تبريري يفتح الباب على مصراعيه للمظالم والمفاسد، ما دام الايمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل، وما دام باب الغفران مفتوحا بلا حدود ولا ضوابط، «وما دامت لا تضر مع الايمان معصية» ولا شك أن المرجئة بهذا التحرّج والخشية من اتخاذ موقف صريح وواضح يعدّون امتدادا طبيعيا لأولئك الذين اعتزلوا صراع علي وطلحة والزبير، وتوقفوا في الحكم على عثمان.
وكان من الطبيعي في مجال الصراع الفكري أن يقرن الخوارج بين الايمان والعمل، وأن ينكروا ما يقول المرجئة من أن الايمان هو التصديق بالقلب أو الإقرار باللسان دون العمل. ومن الصعب على الباحث أن يحدّد بدقة الفترة التي بدأ الخوارج فيها يساهمون في الجدل الفكري، إلى جانب تحمّلهم عبء المقاومة العسكرية. ويشير بعض الباحثين إلى أن الخوارج بدءوا هذه المساهمة في خلافة عبد الملك بن مروان حيث مزجوا بين آرائهم في الإمامة وهي آراء سياسية ذات صبغة دينية، وبين الابحاث الدينية البحتة، أو التي تبدو كذلك «فقالوا إن العمل بأوامر الدين من صلاة وصيام وصدق وعدل جزء من الايمان، وليس الايمان الاعتقاد بالله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم فحسب. فمن اعتقد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله ثم لم يعمل بما يفرضه الدين وارتكب الكبائر فهو كافر».
وإذن فالصراع السياسي بين الخوارج والأمويين، وازاه صراع فكري حول
قضيتين أساسيتين، هما قضية الإمامة، وقضية الحكم على مرتكب الكبيرة، أو الإمام الجائر إذا استخدمنا لغة الخوارج. والمعسكران اللذان أسهما في الحوار هما الخوارج والمرجئة. ولمّا كان المرجئة هم ممثلو الحزب الأموي فقد امتنعوا عن الخوض في أحقية الإمامة أو شروطها، لأن واقع الخلفاء الأمويين ومسلكهم العملي إزاء عامة المسلمين اتّسم بالعسف والجور، الأمر الذي منع مفكريهم من الخوض في قضية الإمامة، لأنها بكل المعايير ستكون قضية خاسرة. وبناء على ذلك تحوّلوا بالقضية الى خلاف فقهي حول تعريف الايمان والكفر وعلاقتهما بالعمل. وتصدّى الخوارج للرد على هذه النزعة التبريرية التي تخلّ في النهاية بمعايير الثواب والعقاب، وتؤدي إلى نوع من الفوضى الأخلاقية والاجتماعية، نتيجة لفتح باب الغفران على مصراعيه.(1/17)
وإذن فالصراع السياسي بين الخوارج والأمويين، وازاه صراع فكري حول
قضيتين أساسيتين، هما قضية الإمامة، وقضية الحكم على مرتكب الكبيرة، أو الإمام الجائر إذا استخدمنا لغة الخوارج. والمعسكران اللذان أسهما في الحوار هما الخوارج والمرجئة. ولمّا كان المرجئة هم ممثلو الحزب الأموي فقد امتنعوا عن الخوض في أحقية الإمامة أو شروطها، لأن واقع الخلفاء الأمويين ومسلكهم العملي إزاء عامة المسلمين اتّسم بالعسف والجور، الأمر الذي منع مفكريهم من الخوض في قضية الإمامة، لأنها بكل المعايير ستكون قضية خاسرة. وبناء على ذلك تحوّلوا بالقضية الى خلاف فقهي حول تعريف الايمان والكفر وعلاقتهما بالعمل. وتصدّى الخوارج للرد على هذه النزعة التبريرية التي تخلّ في النهاية بمعايير الثواب والعقاب، وتؤدي إلى نوع من الفوضى الأخلاقية والاجتماعية، نتيجة لفتح باب الغفران على مصراعيه.
غير أن البعد السياسي لهذه الخلافات الدينية لا ينبغي أن يلفتنا عن الوجه المتصل بالتقوى الدينية، تلك التقوى التي جعلت كثيرا من المسلمين والذين لم يكونوا من الخوارج لا يستريحون لسلوك كثير من خلفاء بني أمية، هؤلاء الخلفاء الذين قتلوا آل بيت رسول الله وهدموا بيت الله ونبشوا القبور ومثّلوا بالجثث
الخ. كان أتقياء المسلمين إذن غير راضين عن أحوال الدولة، ولكنهم لم يكونوا يملكون سوى الصمت. وبديهي أن أفكار المرجئة «لم تكن تتفق وعاطفة أولئك الورعين الذين لا يرون في سياسة وصول الأمويين للحكم، وفي رجالاتهم وعمالهم، إلّا عدم تقوى، بل كفرا». ولقد حاول الأمويون الدفاع عن سياستهم القائمة على العسف والظلم، وكان طبيعيا أن يحاولوا استغلال التصور الديني القائم على التقوى أيضا الذي يرى أن كل شيء في هذا الكون إنما هو خاضع لإرادة الله ومشيئته، تلك الإرادة الحرّة التي لا يمكن أن تحدّ منها الإرادة الانسانية. حاول الأمويون أن يستغلوا هذا التصور لتثبيت دعائم سلطانهم على أساس ديني مكين.
ولمّا كان من الصعب على وجدان المسلم التقي أن يحدّ من قدرة الله وإرادته، وأن يضع الإرادة الانسانية كمقابل للإرادة الإلهية فقد كان من الطبيعي أن يتلقى العلماء المسلمون الردّ على ذلك من علماء الكلام أو اللاهوت المسيحيين «فدمشق المركز العقلي للاسلام في عصر الخلافة الأموية، كانت في الوقت نفسه مركز التفكير النظري في القدر، وفي المذهب الجبري أيضا، ومن هناك انتشر هذا التفكير سريعا في ميدان أكثر اتساعا».
ولقد كان من الطبيعي أن يكون للموالي في هذا الصراع الفكري، وفي التأثّر بالأفكار اللاهوتية المسيحية أو اليهودية دور ليس للعرب الخلّص بحكم ثقافتهم
المزدوجة أولا، وبحكم المكانة التي وضعتهم فيها الدولة الأموية بسبب طبيعتها العربية لا الاسلامية. وكان من الطبيعي ان يمثّل الموالي قطاعا كبيرا من قطاعات الثورة ضد الحكم الأموي، ومن ثمّ انضموا للأحزاب المناوئة لهذا الحكم والتي كانت تمنحهم حقوقا مساوية لحقوق العرب الخلّص تحت راية التعاليم الاسلامية «وقد سبق الخوارج إلى ذلك، فقبلوا الموالي في جماعتهم وفي جيشهم، وجعلوهم على قدم المساواة مع العرب. وقد ترسّم الشيعة خطى الخوارج في ذلك ونجحوا أكثر منهم بكثير».(1/18)
ولقد كان من الطبيعي أن يكون للموالي في هذا الصراع الفكري، وفي التأثّر بالأفكار اللاهوتية المسيحية أو اليهودية دور ليس للعرب الخلّص بحكم ثقافتهم
المزدوجة أولا، وبحكم المكانة التي وضعتهم فيها الدولة الأموية بسبب طبيعتها العربية لا الاسلامية. وكان من الطبيعي ان يمثّل الموالي قطاعا كبيرا من قطاعات الثورة ضد الحكم الأموي، ومن ثمّ انضموا للأحزاب المناوئة لهذا الحكم والتي كانت تمنحهم حقوقا مساوية لحقوق العرب الخلّص تحت راية التعاليم الاسلامية «وقد سبق الخوارج إلى ذلك، فقبلوا الموالي في جماعتهم وفي جيشهم، وجعلوهم على قدم المساواة مع العرب. وقد ترسّم الشيعة خطى الخوارج في ذلك ونجحوا أكثر منهم بكثير».
ويبدو أن إعلان مقولة «الجبر» كنوع من التبرير الديني، كان القصد منه أن توحي إلى أتقياء المسلمين «أن الله قد حكم أزلا ان تصل هذه الأسرة إلى الحكم وأن ما يعملون ليس إلا أثرا أو نتيجة لقدر إلهي محكم» ولذلك وقف خلفاء بني أمية موقفا غاية في العنف من أولئك المفكرين الأوائل الذين قالوا بحرية الإرادة الانسانية وبمسئولية الانسان عن فعله. فالخليفة عبد الملك بن مروان لم يتورع عن قتل معبد الجهني (ت 80هـ) ولم يتورع خالد بن عبد الله القسري أن يذبح الجعد بن درهم (ت 120هـ) أسفل المنبر بعد صلاة العيد. وكلاهما ذهب إلى «القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر» أما غيلان الدمشقي (ت 99هـ) فقد قتله هشام بن عبد الملك أيضا. وتنسب المصادر إلى معبد الجهني أنه أخذ فكرته في القدر عن معلّم نصراني لا تتفق في تحديد اسمه، أما الجعد بن درهم فقد «كان يقيم بدمشق إذ كانت له دار بالقرب من القلاسين إلى جانب الكنيسة». وجدير بالذكر أن الجعد بن درهم كان مؤدّبا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وذلك أيام كان واليا على الجزيرة وقبل أن يتولى الخلافة وفي هذا دلالة على ثقافته وسمعته الطيبة.
ولقد كان من الطبيعي أن ترتبط مقولة «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر بمقولة «العدل» ومسئولية الانسان عن أفعاله منذ البداية، وذلك رغم التعارض الظاهري بينهما. ويبدو هذا التعارض في توهّم أن القول بحرية الإرادة الانسانية يعني الحدّ من حرية الإرادة الالهية، أو التعارض معها على الأقل.
ولقد كان الوجدان المسلم أقرب إلى التسليم بحرية الإرادة الالهية حرية مطلقة، وباعتبار الارادة الانسانية محكومة بإرادة الله القادر على كل شيء وخاضعة لها. وبدت أفكار معبد الجهنى والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي غريبة على التفكير الديني حتى «تبّرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر، وجابر ابن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى،
وعقبة بن عامر الجهني وأقرانهم». لكن هذا التعارض الظاهري بين «العدل» و «التوحيد» لم يكن قائما في ذهن مؤسسيه الأوائل، على أساس أن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي حاول تبرير قبحه برفع مقولة «الجبر» كان، بالتالي، ينسب كل مظاهر الظلم والشر إلى الإرادة الالهية باعتبارها هي الإرادة النافذة. وثمة حادثة لها دلالتها في هذا الصدد بصرف النظر عن الصدق الحرفي لوقائعها. وليس من قبيل الصدفة ان تقع هذه الواقعة في عهد عبد الملك بن مروان أيضا، إذ يروى أنه لمّا قتل عمرو بن سعيد «أمر برمي رأسه إلى جمهور المخلصين له الذين كانوا ينتظرون أمام القصر عودته، كما أمر باعلامهم أن «أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ» ومعنى ذلك أن كل مظالم بني أمية كانت تنسب تحت مقولة الجبر إلى الإرادة الالهية. وكان على الذين يحملون لواء المعارضة، بعد أن أعلنوا مقولة «الاختيار» ضد «الجبر» أن ينفوا عن الله إرادة الظلم والقتل والعسف. هذا النفي كان من شأنه أن يؤدي إلى التفرقة بين الصفة الانسانية والصفة الإلهية، وإلى نفي مشابهة الله للبشر ذاتا وفعلا، ما دام البشر بإرادتهم المختارة هم الذين يفعلون الشر.(1/19)
ولقد كان الوجدان المسلم أقرب إلى التسليم بحرية الإرادة الالهية حرية مطلقة، وباعتبار الارادة الانسانية محكومة بإرادة الله القادر على كل شيء وخاضعة لها. وبدت أفكار معبد الجهنى والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي غريبة على التفكير الديني حتى «تبّرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر، وجابر ابن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى،
وعقبة بن عامر الجهني وأقرانهم». لكن هذا التعارض الظاهري بين «العدل» و «التوحيد» لم يكن قائما في ذهن مؤسسيه الأوائل، على أساس أن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي حاول تبرير قبحه برفع مقولة «الجبر» كان، بالتالي، ينسب كل مظاهر الظلم والشر إلى الإرادة الالهية باعتبارها هي الإرادة النافذة. وثمة حادثة لها دلالتها في هذا الصدد بصرف النظر عن الصدق الحرفي لوقائعها. وليس من قبيل الصدفة ان تقع هذه الواقعة في عهد عبد الملك بن مروان أيضا، إذ يروى أنه لمّا قتل عمرو بن سعيد «أمر برمي رأسه إلى جمهور المخلصين له الذين كانوا ينتظرون أمام القصر عودته، كما أمر باعلامهم أن «أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ» ومعنى ذلك أن كل مظالم بني أمية كانت تنسب تحت مقولة الجبر إلى الإرادة الالهية. وكان على الذين يحملون لواء المعارضة، بعد أن أعلنوا مقولة «الاختيار» ضد «الجبر» أن ينفوا عن الله إرادة الظلم والقتل والعسف. هذا النفي كان من شأنه أن يؤدي إلى التفرقة بين الصفة الانسانية والصفة الإلهية، وإلى نفي مشابهة الله للبشر ذاتا وفعلا، ما دام البشر بإرادتهم المختارة هم الذين يفعلون الشر.
ومن المؤسف أن أقوال هؤلاء المفكرين الاوائل في حرية الإرادة والتوحيد لم تصلنا مفصلة باستثناء إنكار الجعد بن درهم أن يكون الله متكلّما وقوله بخلق القرآن، وهما القولان اللذان تجعلهما المصادر سببا لذبحه. أمّا غيلان الدمشقي فقد ذهب إلى جانب قوله «بالقدر خيره وشره من العبد في الإمامة أنها تصلح في غير قريش وكل من كان قائما بالكتاب والسنة كان مستحقا لها، وأنها لا تثبت إلّا بإجماع الأمّة» وهو قول يضعه في معسكر الخوارج ويخرجه من معسكر المرجئة الذي يضعه فيه مؤرخو المقالات كالأشعري والبغدادي والشهرستاني. ولكن علينا أن نلاحظ أن الإرجاء لم يثبت على أفكاره السلبية التبريرية في أوائل العصر الأموي، وإنما تحوّل بحكم عوامل كثيرة، من أهمها العنف الذي واجه به الأمويون كل مخالف في الرأي، ثم سوء معاملة الموالي، وجلّ مفكري المرجئة المتأخرين من الموالي. كل ذلك جعل أفكار المرجئة تتطور من السلبية إلى الايجابية، بل جعل المرجئة أنفسهم يشاركون في الثورة على بني أمية. ويقابلنا أول تقسيم لفرق المرجئة عند البغدادي حيث يقول «والمرجئة ثلاثة أصناف. صنف منهم قال بالإرجاء في الايمان وبالقدر على مذاهب القدرية المعتزلة، كغيلان وأبي شمر، ومحمد بن شبيب البصري وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الايمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم إذا من جملة الجهمية، والصنف الثالث منهم خارجون عن الجبرية والقدرية» أما الشهرستاني فإنه يضيف فرقة رابعة يطلق
عليها «مرجئة الخوارج» ولعل في ذلك ما يؤكّد ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن المرجئة حاولوا «تثوير» عقائدهم» «إذ تأثّرت بآراء الخوارج والشيعة في الثورة على الظلم، كما تبنّت بعض مبادئ القدرية في الحرية الانسانية».(1/20)
ومن المؤسف أن أقوال هؤلاء المفكرين الاوائل في حرية الإرادة والتوحيد لم تصلنا مفصلة باستثناء إنكار الجعد بن درهم أن يكون الله متكلّما وقوله بخلق القرآن، وهما القولان اللذان تجعلهما المصادر سببا لذبحه. أمّا غيلان الدمشقي فقد ذهب إلى جانب قوله «بالقدر خيره وشره من العبد في الإمامة أنها تصلح في غير قريش وكل من كان قائما بالكتاب والسنة كان مستحقا لها، وأنها لا تثبت إلّا بإجماع الأمّة» وهو قول يضعه في معسكر الخوارج ويخرجه من معسكر المرجئة الذي يضعه فيه مؤرخو المقالات كالأشعري والبغدادي والشهرستاني. ولكن علينا أن نلاحظ أن الإرجاء لم يثبت على أفكاره السلبية التبريرية في أوائل العصر الأموي، وإنما تحوّل بحكم عوامل كثيرة، من أهمها العنف الذي واجه به الأمويون كل مخالف في الرأي، ثم سوء معاملة الموالي، وجلّ مفكري المرجئة المتأخرين من الموالي. كل ذلك جعل أفكار المرجئة تتطور من السلبية إلى الايجابية، بل جعل المرجئة أنفسهم يشاركون في الثورة على بني أمية. ويقابلنا أول تقسيم لفرق المرجئة عند البغدادي حيث يقول «والمرجئة ثلاثة أصناف. صنف منهم قال بالإرجاء في الايمان وبالقدر على مذاهب القدرية المعتزلة، كغيلان وأبي شمر، ومحمد بن شبيب البصري وصنف منهم قالوا بالإرجاء في الايمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، فهم إذا من جملة الجهمية، والصنف الثالث منهم خارجون عن الجبرية والقدرية» أما الشهرستاني فإنه يضيف فرقة رابعة يطلق
عليها «مرجئة الخوارج» ولعل في ذلك ما يؤكّد ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن المرجئة حاولوا «تثوير» عقائدهم» «إذ تأثّرت بآراء الخوارج والشيعة في الثورة على الظلم، كما تبنّت بعض مبادئ القدرية في الحرية الانسانية».
ولقد يبدو في الجمع بين آراء القدرية أو الشيعة أو الخوارج وبين القول بالإرجاء نوع من التناقض. فالإرجاء أو التوقف عن الحكم على الحاكم الجائر أو مرتكب الكبيرة يعني السلبية إزاء معطيات الواقع اليومية، كما أنه يتناقض مع الخروج وحمل السيف وهو ما فعله جهم بن صفوان (ت 128هـ) حيث كان في صفوف الحارث بن سريج الذي خرج على هشام بن عبد الملك لأنه «فاجأ
الموالي بضريبة خراجية لا قبل لهم باحتمالها». ويبدو التناقض أشد مع جهم ابن صفوان بالذات لأنه جبري إلى جانب أنه مرجئ. ولكن هذا التناقض تخف حدته إذا نظرنا لثورة جهم وفكره في ظل السياسة المالية والضرائبية إزاء الموالي في العصر الأموي. وإذا استثنينا عصر عمر بن عبد العزيز من الخلفاء الأمويين، وجدنا سياستهم تتسم بالاستغلال. فقد ألغى الحجاج والي عبد الملك بن مروان رفع الجزية عمّن يدخل الاسلام من أهل الذمّة، ووضع بذلك مبدأ خطيرا يتناقض مع نصوص الاسلام الصريحة وذلك تلافيا للنقص في بيت المال. وكان من شأن هذا القرار أن يثير ثائرة الموالي المسلمين، الذين رفع عنهم الاسلام هذا القيد المادي.
فإذا أضفنا إلى ذلك سوء معاملة الموالي بشكل عام، واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية «لم يصلوا إلى التمتع بالحقوق المدنية للمواطنين ولا بالحقوق الحربية ومزاياها المادية، فاعتبروا موالي للقبائل العربية، ولم تتسع لهم الدولة الثيوقراطية إلّا على هذه الصورة، أعني صورة التبعية للقبائل العربية» إذا وضعنا في اعتبارنا كل ذلك، نجد من الطبيعي أن يشترك جهم بن صفوان في ثورة الحارث بن سريج وهي ثورة كانت موجهة أصلا ضد هشام بن عبد الملك الذي فرض على الموالي ضرائب جديدة لا قبل لهم باحتمالها. وكان عمر بن عبد العزيز قبل ذلك قد رفع عنهم الجزية وعاملهم معاملة المسلمين العرب بكل حقوقهم وواجباتهم.
وليس من الطبيعي أن يتحوّل جهم بن صفوان من التبرير إلى الثورة دون أن تتطور أفكاره. ومع ذلك فالمصادر التي بين أيدينا تكتفي بذكر المقالات كاملة دون بيان لتطورها عند نفس المفكر أو عند اتباعه الأمر الذي يجعلنا نظلّ في مجال التخمينات والافتراضات. ويفترض محمد عمارة أن جهم بن صفوان نقم على الأمويين «موقفهم الذي يرفض الاعتراف باسلام الموالي من أهل فارس وخراسان، بحجة أن اسلامهم غير خالص لله» ويضيف «فالجهمية كالأمويين كانوا جبرية
مرجئة وإن كان الخلاف بينهما قد كان في حقل الإرجاء، وعلى من يستفيد من هذا الإرجاء الحكام الأمويون؟ أم الجماهير التي أسلمت من موالي فارس وخراسان؟» وإذا كان هذا الافتراض على وجاهته قد فسّر إرجاء جهم، فإنه لم يفسّر جبريته، ومن ثمّ يحتاج ذلك إلى افتراض آخر ذي شقين: الشق الأول يكمن في الروح العدائية التي قوبل بها القول بالقدر عند معبد الجهني والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي من جانب الخلفاء الأمويين وأتقياء المسلمين معا، أمّا الشق الثاني فيكمن في ذلك التعارض القائم بين القول بالقدر والتوحيد المطلق. وإذا استعرضنا أقوال جهم في الجبر والتوحيد فسنلحظ على الفور أنه أوقع نفسه في التناقض الذي لا يمكن حلّه إلّا عن طريق القول بالجبر. والتوحيد عند جهم هو نفي مشابهة الله للأشياء «لا أقول أن الله سبحانه شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء» «وامتنع عن وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء، وموجود، وحي، وعالم، ومريد، ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر، وموجد، وفاعل، وخالق، ومحيي، ومميت.(1/21)
وليس من الطبيعي أن يتحوّل جهم بن صفوان من التبرير إلى الثورة دون أن تتطور أفكاره. ومع ذلك فالمصادر التي بين أيدينا تكتفي بذكر المقالات كاملة دون بيان لتطورها عند نفس المفكر أو عند اتباعه الأمر الذي يجعلنا نظلّ في مجال التخمينات والافتراضات. ويفترض محمد عمارة أن جهم بن صفوان نقم على الأمويين «موقفهم الذي يرفض الاعتراف باسلام الموالي من أهل فارس وخراسان، بحجة أن اسلامهم غير خالص لله» ويضيف «فالجهمية كالأمويين كانوا جبرية
مرجئة وإن كان الخلاف بينهما قد كان في حقل الإرجاء، وعلى من يستفيد من هذا الإرجاء الحكام الأمويون؟ أم الجماهير التي أسلمت من موالي فارس وخراسان؟» وإذا كان هذا الافتراض على وجاهته قد فسّر إرجاء جهم، فإنه لم يفسّر جبريته، ومن ثمّ يحتاج ذلك إلى افتراض آخر ذي شقين: الشق الأول يكمن في الروح العدائية التي قوبل بها القول بالقدر عند معبد الجهني والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي من جانب الخلفاء الأمويين وأتقياء المسلمين معا، أمّا الشق الثاني فيكمن في ذلك التعارض القائم بين القول بالقدر والتوحيد المطلق. وإذا استعرضنا أقوال جهم في الجبر والتوحيد فسنلحظ على الفور أنه أوقع نفسه في التناقض الذي لا يمكن حلّه إلّا عن طريق القول بالجبر. والتوحيد عند جهم هو نفي مشابهة الله للأشياء «لا أقول أن الله سبحانه شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء» «وامتنع عن وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء، وموجود، وحي، وعالم، ومريد، ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر، وموجد، وفاعل، وخالق، ومحيي، ومميت.
لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده، وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالت القدرية، ولم يسم الله متكلما به» وهذا الفصل الكامل بين صفات الله وصفات غيره بحيث لا يقع بينهما وصف مشترك يطلق على كليهما، هو الذي أدّى بجهم لكي يكون مخلصا لمبادئه إلى القول بالجبر. فكل الصفات التي أحسّ جهم أنها تطلق على الانسان أو الاشياء نفى أن تطلق على الله. وفي مقابل ذلك فقد وصف جهم الله بصفات نفى أن تطلق على الانسان ومنها الوصف بأنه قادر. ونفي القدرة عن الانسان، وجعلها من صفات الله أدّت بجهم إلى أن يقول «أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلّا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس انما تنسب اليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه إلّا أنه خلق للانسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا بذلك، كما خلق له طولا كان به طويلا، ولونا كان به متلونا».
القول بالجبر إذن عند جهم هو محاولة لتأكيد التوحيد وتثبيته، وعلينا أن نلاحظ إن صحّت رواية الأشعري السابقة أنه جبر لا ينفي فعالية الانسان نفيا كاملا كجبر الامويين، فللانسان قوة وإرادة، ولكنهما مخلوقتان لله، بمعنى أنهما خاضعتان للمشيئة الالهية التي لا يندّ شيء في العالم عن قدرتها. والدليل على ذلك ما يرويه الأشعري أيضا من أن جهما كان «ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو اتجاه يقرّبه من الخوارج الذين كان هذا المبدأ من أهم مبادئهم بعد
رأيهم في الإمامة ومحاربة الإمام الجائر.(1/22)
القول بالجبر إذن عند جهم هو محاولة لتأكيد التوحيد وتثبيته، وعلينا أن نلاحظ إن صحّت رواية الأشعري السابقة أنه جبر لا ينفي فعالية الانسان نفيا كاملا كجبر الامويين، فللانسان قوة وإرادة، ولكنهما مخلوقتان لله، بمعنى أنهما خاضعتان للمشيئة الالهية التي لا يندّ شيء في العالم عن قدرتها. والدليل على ذلك ما يرويه الأشعري أيضا من أن جهما كان «ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو اتجاه يقرّبه من الخوارج الذين كان هذا المبدأ من أهم مبادئهم بعد
رأيهم في الإمامة ومحاربة الإمام الجائر.
إذا كان المرجئة قد تطوّرت أفكارهم ومبادئهم مع ازدياد الضغط الأموي ضد الثوار والموالي حتى أنهم التقوا مع الخوارج في بعض أفكارهم الثورية، خصوصا رأيهم في الإمامة الذي عبّر عنه غيلان الدمشقي والذي أشرنا له سالفا، فإنهم من جانب آخر قد اقتربوا من الشيعة في قولهم بالمهدي المنتظر، فيروى عن الحارث بن سريج، الذي حارب جهم بن صفوان في صفة وكان متحدّثا باسمه في المفاوضات بينه وبين سلم بن أحوز أنه كان «يزعم أنه المهدي الذي أرسله الله لتخليص المضطهدين والأخذ بناصر المظلومين حتى انضم إليه في ثورته هذه أنصار من العرب، وسرعان ما استولى على المدن الواقعة على ضفاف نهر سيجون» غير أن أفكار الشيعة تحتاج لوقفة هادئة.
(3) أشرنا إلى دور عبد الله بن سبأ في الثورة على عثمان وفي الدعوة لعلي في الكوفة والبصرة ومصر. ويبدو أن عداء عبد الله بن سبأ لمسلك معاوية في الشام كان وراء ثورته على عثمان، فقد كان يقول لأبي ذر الغفاري «يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول المال مال الله؟ ألا أن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين». وقد ذهب عبد الله بن سبأ متأثرا في ذلك بمعتقداته اليهودية إلى القول بوصاية علي في أول الأمر، وبرجعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال في ذلك «إني لأعجب ممن يقول برجعة عيسى ولا يقول برجعة محمد» وقد قال الله عزّ وجلّ {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرََادُّكَ إِلى ََ مَعََادٍ} (سورة القصص 28:
85)».
وتطوّرت أفكار ابن سبأ مع تطور الفتنة، ففي البداية «زعم أنه كان نبيا، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قوما من غواة الكوفة وخاف (علي) إختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن، فلمّا قتل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن عليا، وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورة علي وأن عليا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم عليه السلام، وقال:
كذبت اليهود والنصارى في دعواها قتل عيسى كذلك كذبت النواصب والخوارج في دعواها قتل علي، وإنما رأت اليهود والنصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى، وكذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلا يشبه عليا فظنوا أنه علي، وعلي قد صعد إلى السماء، وأنه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وزعم بعض السبئية أن عليا في السحاب وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد
قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين. وقد روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن سبأ قيل له: ان عليا قد قتل، فقال: إن جئتمونا بدماغه في صرّة لم نصدّق بموته، لا يموت حتى ينزل من السماء، ويملك الأرض بحذافيرها».(1/23)
كذبت اليهود والنصارى في دعواها قتل عيسى كذلك كذبت النواصب والخوارج في دعواها قتل علي، وإنما رأت اليهود والنصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى، وكذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلا يشبه عليا فظنوا أنه علي، وعلي قد صعد إلى السماء، وأنه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وزعم بعض السبئية أن عليا في السحاب وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد
قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين. وقد روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أن ابن سبأ قيل له: ان عليا قد قتل، فقال: إن جئتمونا بدماغه في صرّة لم نصدّق بموته، لا يموت حتى ينزل من السماء، ويملك الأرض بحذافيرها».
وإذا حاولنا أن نعيد ترتيب هذه الوقائع في نسق تاريخي، فمن السهل أن نقدّر أن فكر عبد الله بن سبأ قد مرّ بثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي فكره إبّان الثورة على عثمان والدعوة لعلي حيث قال بوصاية علي للرسول صلى الله عليه وسلم مثلما كان يوشع ابن نون وصيا لموسى عليه السلام، وليس ببعيد أن يكون عبد الله بن سبأ قد ذهب في هذه المرحلة إلى رجعة النبي قياسا على ايمان المؤمنين برجعة عيسى عليه السلام مستدلّا بالآية التي أوردناها. أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الصراع الذي خاضه علي ضد طلحة والزبير أولا، ثم معاوية ثانيا، والخوارج ثالثا. في هذه المرحلة لا يستبعد أن يكون عبد الله بن سبأ قد رفع عليا إلى مرتبة النبوة وذلك لتأكيد حقه في الخلافة خصوصا بعد مهزلة التحكيم المشهورة. وتأتي المرحلة الثالثة بعد قتل علي على يد عبد الرحمن بن ملجم، فذهب ابن سبأ إلى وجود جزء إلهي في علي رضي الله عنه، وأنه لم يمت، وأنه سيعود ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، وسيملك الأرض وينتقم من أعدائه. وهذا الترتيب يستبعد أن يكون عبد الله ابن سبأ قد ادّعى كل هذه الشناعات في حياة علي، إذ ليس من المعقول أن يكتفي علي بنفيه إلى المدائن على حين حرق قوما من أتباعه. وما يورده البغدادي في هذا الصدد لا يكاد يتفق مع شخصية علي التي لا تعرف هوادة فيما يتصل بالدين. يقول «فنهاه ابن عباس عن ذلك (يعني عن قتل ابن سبأ) وقال له: إن قتلته اختلف عليك أصحابك، وأنت عازم على العود إلى قتال أهل الشام، وتحتاج إلى مداراة أصحابك» ولا أظنّ أن سوء الحال كان قد بلغ بعلي رضي الله عنه مبلغا يجعله يتجاوز عن مثل هذا التخريب العقائدي في الدين. ولو كان علي يداري أصحابه لتاب من قبوله التحكيم لكي يرضي الخوارج وهم القوة التي لم يكن يستهان بها قوة وعددا وشجاعة والذين أدّى انشقاقهم عليه إلى التعجيل بانتصار معاوية.
ولا شك أن هذه الأفكار على ما فيها من بعد عن الاسلام، كانت محاولة لرفع الروح المعنوية للشيعة، ودفعهم للتماسك والاستمرار ما دام إمامهم ما يزال حيا، وما دام باب الأمل مفتوحا وأنه سيعود يوما ما ليقودهم إلى النصر النهائي ضد الظلمة الجبارين. ولا ينبغي في نفس الوقت أن يغيب عن الأذهان أن هذا التفسير لنشأة الفكر الحلولي التجسيدي لا ينفي وجود المؤثّرات اليهودية والمسيحية، وخصوصا تلك المؤثّرات غير المباشرة، فالعقائد المسيحية واليهودية
موجودة في الجزيرة العربية، وفي المدينة خصوصا، منذ فترة باكرة وقبل البعثة النبوية «فعند اليهود والنصارى أن النبي ايليا قد رفع إلى السماء، وأنه لا بدّ أن يعود إلى الأرض في آخر الزمان لإقامة دعائم الحق والعدل، ولا شك أن ايليا هو الانموذج الأول لأئمة الشيعة المختفين الغائبين، الذين يحيون لا يراهم أحد، والذين سيعودون يوما كمهديين منقذين للعالم»(1/24)
ولا شك أن هذه الأفكار على ما فيها من بعد عن الاسلام، كانت محاولة لرفع الروح المعنوية للشيعة، ودفعهم للتماسك والاستمرار ما دام إمامهم ما يزال حيا، وما دام باب الأمل مفتوحا وأنه سيعود يوما ما ليقودهم إلى النصر النهائي ضد الظلمة الجبارين. ولا ينبغي في نفس الوقت أن يغيب عن الأذهان أن هذا التفسير لنشأة الفكر الحلولي التجسيدي لا ينفي وجود المؤثّرات اليهودية والمسيحية، وخصوصا تلك المؤثّرات غير المباشرة، فالعقائد المسيحية واليهودية
موجودة في الجزيرة العربية، وفي المدينة خصوصا، منذ فترة باكرة وقبل البعثة النبوية «فعند اليهود والنصارى أن النبي ايليا قد رفع إلى السماء، وأنه لا بدّ أن يعود إلى الأرض في آخر الزمان لإقامة دعائم الحق والعدل، ولا شك أن ايليا هو الانموذج الأول لأئمة الشيعة المختفين الغائبين، الذين يحيون لا يراهم أحد، والذين سيعودون يوما كمهديين منقذين للعالم»
وإذا كنا لا ننكر التأثير غير المباشر للفكر اليهودي أو المسيحي، ونربطه بواقع المجتمع الاسلامي، فاننا لا نتقبل ببساطة تلك الفكرة الساذجة التي ترى في هذه الأفكار محاولة مقصودة لهدم الاسلام من الداخل عن طريق اعتناقه وتخريبه بعقائد أجنبية «فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة ولم تمتد إلى العناصر الاسلامية غير السامية إلّا خلال ثورة المختار، بل إن قواعد نظرية الإمامة، والفكرة الثيوقراطية المناهضة لنظرية الحكم الدنيوية، وكذا الفكرة المهدية التي أدّت إليها نظرية الإمامة والتي تجلّت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي ان نرجعها كلها، كما رأينا، إلى المؤثرات اليهودية والمسيحية. كما أن الإغراق في تأليه علي، الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ، حدث في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسربت إليها بعد الأفكار الآرية، وانضم لهذه الحركة في بدء قيامها جموع غفيرة من العرب، حتى أن أول الواضعين لجزء من مبادئ التجسيم والحلول قوم لا شك أنهم من الجنس العربي الصميم»
ويؤكّد ابن خلدون فكرة التأثير غير المباشر حين يقول «وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم. ولا يعرفون من ذلك. (يعني من بدء الخليقة وأسرار الوجود) إلّا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب». ولا شك أن النزعة التجسيدية والتشبيهية كانت كامنة في نفوس بعض العرب الذين كانوا ما يزالون قريبي عهد بالجاهلية، وكان الانتماء لعلي بن أبي طالب باعتباره ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأقربهم إليه يعبّر عن عاطفة دينية عميقة خصوصا في ظروف تعرّض فيها المجتمع الاسلامي لمحنة التمزق الداخلي. ولم يكن معاوية بكل تاريخ أسرته في محاربة الاسلام بالذي يستطيع أن يجمع حوله قلوب المسلمين وإن استطاع أن يشتري سيوفهم.
بعد انتهاء الصراع لصالح الحزب الأموي، واستسلام الحسن بن علي له فيما سمي بعام الجماعة على شرط أن يجعل الأمر بعده شورى للمسلمين، سكن الشيعة لبعض الوقت حتى بدأ معاوية يأخذ البيعة لابنه يزيد. ومع خلافة يزيد كان واضحا أن الدولة الدينية تتحوّل إلى ملك كسروي وراثي. وإذا أضفنا إلى ذلك
السيرة الخاصة ليزيد، والتي لم تكن مقبولة من أي مسلم تقي، أدركنا أن خروج الشيعة كان ضرورة حتمية للدفاع عن مصالحهم من جهة، ولإقامة حكم الاسلام من جهة أخرى. وبعد فشل ثورة الحسين وارتكاب الأمويين لمذبحة كربلاء، ثار عبد الله بن الزبير باعتباره ممثلا للقوى التي سبق أن ناهضت علي بن أبي طالب في موقعة الجمل. ومع ثورة عبد الله بن الزبير حاول أن يستعين بالخوارج، ولكنهم حاولوا امتحانه عن طريق سؤاله عن رأيه في عثمان، وحين وجدوه مخالفا لهم حيث قال: «أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو لأعدائه» لم يساعدوه، وكان ذلك في عصر عبد الملك بن مروان. وعلى الجانب الثاني حاول عبد الله بن الزبير أن يستعين بمحمد بن الحنفية على حرب الأمويين، ولكنه رفض. ولعل في هذه الواقعة دلالة على بداية الإحساس بضرورة التجمّع والتوحّد في وجه العدو المشترك. ومن ناحية أخرى يؤكّد ذلك أن الخلاف حول الحكم على المتحاربين في الفتنة ظلّ هو جذر الخلاف بين الفرق المختلفة، وهو خلاف لسنا بحاجة إلى تأكيد نشأته على يد الخوارج بعد التحكيم.(1/25)
بعد انتهاء الصراع لصالح الحزب الأموي، واستسلام الحسن بن علي له فيما سمي بعام الجماعة على شرط أن يجعل الأمر بعده شورى للمسلمين، سكن الشيعة لبعض الوقت حتى بدأ معاوية يأخذ البيعة لابنه يزيد. ومع خلافة يزيد كان واضحا أن الدولة الدينية تتحوّل إلى ملك كسروي وراثي. وإذا أضفنا إلى ذلك
السيرة الخاصة ليزيد، والتي لم تكن مقبولة من أي مسلم تقي، أدركنا أن خروج الشيعة كان ضرورة حتمية للدفاع عن مصالحهم من جهة، ولإقامة حكم الاسلام من جهة أخرى. وبعد فشل ثورة الحسين وارتكاب الأمويين لمذبحة كربلاء، ثار عبد الله بن الزبير باعتباره ممثلا للقوى التي سبق أن ناهضت علي بن أبي طالب في موقعة الجمل. ومع ثورة عبد الله بن الزبير حاول أن يستعين بالخوارج، ولكنهم حاولوا امتحانه عن طريق سؤاله عن رأيه في عثمان، وحين وجدوه مخالفا لهم حيث قال: «أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو لأعدائه» لم يساعدوه، وكان ذلك في عصر عبد الملك بن مروان. وعلى الجانب الثاني حاول عبد الله بن الزبير أن يستعين بمحمد بن الحنفية على حرب الأمويين، ولكنه رفض. ولعل في هذه الواقعة دلالة على بداية الإحساس بضرورة التجمّع والتوحّد في وجه العدو المشترك. ومن ناحية أخرى يؤكّد ذلك أن الخلاف حول الحكم على المتحاربين في الفتنة ظلّ هو جذر الخلاف بين الفرق المختلفة، وهو خلاف لسنا بحاجة إلى تأكيد نشأته على يد الخوارج بعد التحكيم.
الذي نريد التأكيد عليه هنا هو أن الشيعة رفعوا فكرة الدولة الدينية والإمام المقدّس في مواجهة الدولة الدنيوية التي أسسها الأمويون، وكان للضربات المتلاحقة التي وجهها الأمويون ضدهم، تلك الضربات التي بلغت قمتها المأساوية في التمثيل بسبط الرسول بكربلاء، أثرها في تأكيد فكرة المهدي المنتظر الذي ألحّ الشيعة على قداسته «وهكذا غلب الجانب الديني في التشيع على الجانب السياسي وتقدّم عليه، ووجد الشيعة في أقدم دولة ناوءوها وهي دولة الأمويين، الفرصة الأولى في أن يتجهوا في حركتهم اتجاها دينيا، وكان مسلك الأمويين دائما إذا تركنا جانبا مسألة الحق الشرعي في الخلافة عنوانا للمخازي والفضائح في نظر الأتقياء، لأنهم كانوا يضعون نصب أعينهم المصلحة الدنيوية للحكومة الاسلامية ويجعلونها في المحل الأول، بينما رأى الأتقياء تغليب المصلحة الدينية»
وإذا كان الشيعة قد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسية تندرج تحت كل منها فروع كثيرة، فإن الفرق الثلاث وهي الغالية والإمامية والزيدية تتفق في امامة علي وأحقيته للخلافة. ويعتبر عبد الله بن سبأ مؤسس «الغالية» لأنه غالى في علي حتى جعله إلها، أما مؤسس الامامية فهو المختار بن عبيد «الذي خرج وطالب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد بن الحنفية» عام 66هـ في عهد عبد الملك بن مروان. وكان محمد بن الحنفية بعد مقتل أخيه الحسين «قد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» ودون أن نتعرض لتفاصيل أفكار المختار أو «الكيسانية»
كما يسميها كتّاب الفرق، فإن فكرة الإمامة هي الفكرة الأساسية التي قامت عليها دعوة المختار. وواضح أن دعوة المختار كانت أول انشقاق في صفوف الشيعة وذلك عن طريق الدعوة لمحمد بن الحنفية، وكانت الإمامة قبل ذلك مقصورة على أولاد علي من فاطمة وهما الحسن والحسين وأعقابهما. وعلى يد المختار نمت فكرة عصمة الإمام وانفراده بعلم تأويل الشريعة، واختفائه ورجعته. والفارق بين السبئية والكيسانية يكمن في أن السبئية يعتبرون إمامهم شخصا مقدسا بطبيعته، أما الكيسانية فيعتبرونه رجلا رفيع المقام محيطا بعلوم ما وراء الطبيعة. وبصرف النظر عما تحكيه كتب المقالات من استنكار ابن الحنفية لمثل هذه الافكار، فإن الذي يهمنا هو بيان تطور فكرة الامامة لتلائم طبيعة الظروف المتغيرة في الدولة الاسلامية.(1/26)
وإذا كان الشيعة قد انقسموا إلى ثلاث فرق رئيسية تندرج تحت كل منها فروع كثيرة، فإن الفرق الثلاث وهي الغالية والإمامية والزيدية تتفق في امامة علي وأحقيته للخلافة. ويعتبر عبد الله بن سبأ مؤسس «الغالية» لأنه غالى في علي حتى جعله إلها، أما مؤسس الامامية فهو المختار بن عبيد «الذي خرج وطالب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد بن الحنفية» عام 66هـ في عهد عبد الملك بن مروان. وكان محمد بن الحنفية بعد مقتل أخيه الحسين «قد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» ودون أن نتعرض لتفاصيل أفكار المختار أو «الكيسانية»
كما يسميها كتّاب الفرق، فإن فكرة الإمامة هي الفكرة الأساسية التي قامت عليها دعوة المختار. وواضح أن دعوة المختار كانت أول انشقاق في صفوف الشيعة وذلك عن طريق الدعوة لمحمد بن الحنفية، وكانت الإمامة قبل ذلك مقصورة على أولاد علي من فاطمة وهما الحسن والحسين وأعقابهما. وعلى يد المختار نمت فكرة عصمة الإمام وانفراده بعلم تأويل الشريعة، واختفائه ورجعته. والفارق بين السبئية والكيسانية يكمن في أن السبئية يعتبرون إمامهم شخصا مقدسا بطبيعته، أما الكيسانية فيعتبرونه رجلا رفيع المقام محيطا بعلوم ما وراء الطبيعة. وبصرف النظر عما تحكيه كتب المقالات من استنكار ابن الحنفية لمثل هذه الافكار، فإن الذي يهمنا هو بيان تطور فكرة الامامة لتلائم طبيعة الظروف المتغيرة في الدولة الاسلامية.
والذي لا شك فيه أن المختار نجح في اثارة القلق في أرجاء الدولة الأموية. ولو استطاع مع ابن الزبير أن يكوّنا جبهة واحدة مع الخوارج، لكان للتاريخ قول آخر، ولكن اختلاف مصالح القوى كان كفيلا بأن يفرّق بينها.
أمّا الفرقة الثالثة من فرق الشيعة فهي الزيدية وهم ينتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين «وكان زيد بن علي بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي، وكان زيد بن علي يفضّل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور، فلمّا ظهر في الكوفة في أصحابه الذين بايعوه سمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر، فأنكر ذلك على من سمعه منه، فتفرّق عنه الذين بايعوه» وسنتعرض بعد قليل لفكر الشيعة الزيدية ومدى اتفاقه مع فكر المعتزلة في كثير من المبادئ والتفاصيل باستثناء فكرة النص على إمامة علي. والذي يهمنا الآن أن نلمح الطابع الواقعي لفكر الشيعة الزيدية، وهو طابع تخفف كثيرا من غلواء السبئية والكيسانية، وكذلك من غلواء الخوارج في تكفير عثمان وعلي بعد أن قبل التحكيم. وفي خلاف زيد بن علي مع أصحابه في تكفير أبي بكر وعمر ما يؤكّد لنا مرة ثانية أن الخلاف حول الحكم على الائمة والخلفاء ظلّ خلافا أساسيا يفرّق بين الاتجاهات المختلفة حتى داخل حزب واحد كالشيعة.
(4) يعدّ عصر عبد الملك بن مروان (8665هـ) عصر العواصف التي ملأت كل مدة خلافته تقريبا فهو الذي قتل عمرو بن سعيد كما سبقت الاشارة وألقى بجثته إلى اتباعه زاعما أنه قتله بقضاء الله السابق. وهو الذي قتل معبدا الجهني (80هـ) أول من قال بالقدر. وهو الذي فرض ضرائب جديدة على
الموالي أثقلت كواهلهم حتى خرج عليه الحارث بن سريج. وهو الذي ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال عنه الحسن البصري «ما زال النفاق مقموعا حتى عمم هذا عمامة وقلّد سيفا» هذا كله إلى جانب العصبيات القبلية التي أسهب المؤرخون في وصفها. وإذا كان يعدّ بحق «المؤسس الثاني للدولة الأموية»، فإنه من جانب آخر يعدّ مؤصل العداوة الأصيلة ضد الدولة الأموية. ويحسّ الباحث أن هذا العصر قد شهد تحولا في مشاعر أولئك المسلمين الأتقياء الذين تعايشوا بحكم الأمر الواقع مع خلفاء بني أمية.(1/27)
(4) يعدّ عصر عبد الملك بن مروان (8665هـ) عصر العواصف التي ملأت كل مدة خلافته تقريبا فهو الذي قتل عمرو بن سعيد كما سبقت الاشارة وألقى بجثته إلى اتباعه زاعما أنه قتله بقضاء الله السابق. وهو الذي قتل معبدا الجهني (80هـ) أول من قال بالقدر. وهو الذي فرض ضرائب جديدة على
الموالي أثقلت كواهلهم حتى خرج عليه الحارث بن سريج. وهو الذي ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال عنه الحسن البصري «ما زال النفاق مقموعا حتى عمم هذا عمامة وقلّد سيفا» هذا كله إلى جانب العصبيات القبلية التي أسهب المؤرخون في وصفها. وإذا كان يعدّ بحق «المؤسس الثاني للدولة الأموية»، فإنه من جانب آخر يعدّ مؤصل العداوة الأصيلة ضد الدولة الأموية. ويحسّ الباحث أن هذا العصر قد شهد تحولا في مشاعر أولئك المسلمين الأتقياء الذين تعايشوا بحكم الأمر الواقع مع خلفاء بني أمية.
وإذا كان القول بالقدر وبمسئولية الانسان وحريته في الاختيار، لم يجد صدى في قلوب أولئك الأتقياء الذين يميلون في الغالب إلى التسليم بقدرة الله القاهرة، فإن تستّر الأمويين وراء القول بالجبر كان كفيلا مع ازدياد جرائمهم برفع الغشاوة عن هذه العيون المؤمنة لتدرك المغزى السياسي لهذه الدعوى. ولا شك أن المؤمن العميق الايمان، وحتى الزاهد الورع، يؤمن ايمانا عميقا بالثواب والعقاب، وأنهما يكونان حسب العمل، فالثواب هو جزاء العمل الخيّر، والعقاب جزاء العمل الشرير ويستطيع المؤمن الورع أن يجمع دون أدنى تعارض بين ايمانه هذا، وبين الايمان بقدرة الله القاهرة وإرادته الشاملة التي لا يمكن لإرادة الانسان أن تتصدى لها أو تخالفها. ولذلك من السهل أن نفسّر كراهية الصحابة المتأخرين للقول بالقدر ونفورهم من قائله على أساس أنهم دون ادراك لمغزاه السياسي اعتبروه دعوة مناقضة للايمان الكامل. ومن ناحية أخرى فإن القول بالقدر كما سبقت الاشارة كان يحمل في طيّاته رائحة الفكر المسيحي الذي كان شائعا في دمشق، وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى نفور المسلم الورع. ولكن هذا النفور ولم يدم طويلا، إذ سرعان ما كشفت سياسة الخلفاء الأمويين عن طابعها اللاديني، وبذلك فقدت صمت هؤلاء المتدينين الورعين واستسلامهم للأمر الواقع، كما فقدت أيضا توقف المرجئة وتبريريتهم حتى تحول بعضهم إلى مشاكرين في الخروج على خلفائها كما رأينا في حالة جهم بن صفوان.
وإذا كانت المصادر الاعتزالية والشيعية ترد القول بالقدر إلى علي بن أبي طالب، وتربطه على لسانه بالوعد والوعيد، على أساس أن نفي قدرة الانسان واختياره تؤدي إلى إبطال الثواب والعقاب، وسقوط الوعد والوعيد، فإن ذلك يعدّ في نظر الباحث محاولة لتأصيل هذا الفكر ورده إلى الإمام الأول عند الشيعة، أو إلى صحابي جليل القدر عند المعتزلة. وقد يكون علي بن أبي طالب قد واجه هذا السؤال في عصره، وقد يكون قد أجاب عليه مثبتا مسئولية الانسان عن
فعله، لكن هذا الربط بين القول بالقدر والوعد والوعيد والثواب والعقاب هو بلا شك من اجتهاد المعتزلة والشيعة والزيدية. وواضح من هذه الرواية أن المعتزلة والشيعة معا يحاولون أن يلصقوا بخصومهم على لسان علي ما اتهموهم به من تهمة القدرية، ومن ثمّ يجعلون عليا يقول عن منكري القدر «تلك مقالة عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن وشهداء زور، وقدرية هذه الأمة ومجوسها»(1/28)
وإذا كانت المصادر الاعتزالية والشيعية ترد القول بالقدر إلى علي بن أبي طالب، وتربطه على لسانه بالوعد والوعيد، على أساس أن نفي قدرة الانسان واختياره تؤدي إلى إبطال الثواب والعقاب، وسقوط الوعد والوعيد، فإن ذلك يعدّ في نظر الباحث محاولة لتأصيل هذا الفكر ورده إلى الإمام الأول عند الشيعة، أو إلى صحابي جليل القدر عند المعتزلة. وقد يكون علي بن أبي طالب قد واجه هذا السؤال في عصره، وقد يكون قد أجاب عليه مثبتا مسئولية الانسان عن
فعله، لكن هذا الربط بين القول بالقدر والوعد والوعيد والثواب والعقاب هو بلا شك من اجتهاد المعتزلة والشيعة والزيدية. وواضح من هذه الرواية أن المعتزلة والشيعة معا يحاولون أن يلصقوا بخصومهم على لسان علي ما اتهموهم به من تهمة القدرية، ومن ثمّ يجعلون عليا يقول عن منكري القدر «تلك مقالة عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن وشهداء زور، وقدرية هذه الأمة ومجوسها»
وأقرب الشخصيات التي يمكن اعتبارها أساس نشأة الاعتزال هو الحسن البصري (ت 110هـ) أستاذ كل من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسسي المذهب الاعتزالي باتفاق المصادر القديمة. وينتمي الحسن البصري من حيث أصوله الاجتماعية إلى قطاع الموالي، فهو من «أهل ميسان» مولى لبعض الأنصار، «وكان اسم أمه خيره، مملوكة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله». ومن الطبيعي أن يكون الحسن بكل تقواه وورعه ناقما على بني أمية مظالمهم.
ولقد بلغت سطوة الأمويين على العراق أشدها في عصر عبد الملك بن موران حين ولّي الحجاج بن يوسف عليها بعد أن قضى على ثورة ابن الزبير وهدم الكعبة. ولا شك أن مشاعر المسلمين قد استاءت إزاء هذا الاعتداء على الكعبة ومهبط الوحي، غير أنهم كانوا يتّقون سطوة الحجاج. ولم يكن الحجاج يعرف أقدار الأتقياء، فقد أراد أن يقتل الحسن لقول قاله في غيبته، وما أكثر أقوال الحسن في الحجاج، «وأمر بالنطع والسيف فأحضرا، ووجه إليه، فلمّا دنا الحسن من الباب، حرّك شفتيه والحاجب ينظر إليه، فلمّا دخل قال له الحجاج: هاهنا، وأجلسه قريبا من فرشه، وقال له: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك قال موسى عليه السلام لفرعون إذ قال له: {فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ. قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ:} (طه: 5251):
علم علي وعثمان عند الله تعالى».
ولقد كان من شأن هذه القسوة في معاملة الحسن وأمثاله على قدرهم وورعهم أن تجعلهم أقرب إلى المهادنة والتقية، على الأقل في مواجهة الحجاج وأمثاله. وإن كانوا حين يخلون إلى تلاميذهم يعلنون رأيهم بصراحة. وقد روي أن الحسن تلا يوما: {إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ}
(الاحزاب: 72)، ثم قال: «إن قوما غدوا في المطارف العتاق، والعمائم الرقاق، يطلبون الامارات ويضيعون الأمانات، يتعرضون للبلاء وهم منه في عافية، حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفّة، وظلموا من تحتهم من أهل الذمّة أهزلوا دينهم
وأسمنوا براذينهم، ووسعوا دينهم، وضيقوا قبورهم».(1/29)
ولقد كان من شأن هذه القسوة في معاملة الحسن وأمثاله على قدرهم وورعهم أن تجعلهم أقرب إلى المهادنة والتقية، على الأقل في مواجهة الحجاج وأمثاله. وإن كانوا حين يخلون إلى تلاميذهم يعلنون رأيهم بصراحة. وقد روي أن الحسن تلا يوما: {إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ}
(الاحزاب: 72)، ثم قال: «إن قوما غدوا في المطارف العتاق، والعمائم الرقاق، يطلبون الامارات ويضيعون الأمانات، يتعرضون للبلاء وهم منه في عافية، حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفّة، وظلموا من تحتهم من أهل الذمّة أهزلوا دينهم
وأسمنوا براذينهم، ووسعوا دينهم، وضيقوا قبورهم».
وإشارة الحسن إلى إخافة أهل العفّة، وظلم أهل الذمّة، لها دلالتها في تحديد طبيعة الثورة النفسية التي تعتمل في نفس رجل من الأتقياء، يدرك الظلم ويلمس مظاهره الاجتماعية في الاثراء على حساب الدين وفقراء المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى. وجاء رجل يسأله يوما عن عطاء له عند بني أمية فقال «آخذ عطائي أم أدعه حتى آخذه من حسناتهم يوم القيامة؟ فقال له: قم ويحك خذ عطاءك فإن القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة». ومعنى ذلك أن نزعة الزهد التي اشتهر بها الحسن لم تمنعه من ادراك الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي يمارسه رجال الدولة الأموية ضد جماهير المسلمين، ولم تحل بين عينيه وبين رؤية مظاهر هذا الظلم.
وإذا كان عداء الأمويين السافر كان موجها ضد الخوارج والشيعة ومن حمل السلاح في وجوههم، ولم يمنع ذلك الحجاج من امتحان الحسن وسؤاله عن رأيه في علي وعثمان، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ الحسن إلى التقيّة حين يحدث عن علي بن أبي طالب، رغم أنه لم يكن شيعيا. فقد صار حب علي تهمة يعاقب عليها «وكان الحسن إذا أراد أن يحدث في زمن بني أمية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال أبو زينب».
لم يكن من الطبيعي أن يظلّ أمثال الحسن على سلبيتهم إزاء مظاهر الظلم المتعددة أمام أعينهم. وإذا كان متأخرو الصحابة قد استشعروا كثيرا من سوء الظن بقول معبد الجهني بالقدر، فإن تعلل الأمويين وعبد الملك بن مروان بالذات بالجبر تبريرا لأفعالهم وجرائمهم كان كفيلا برفع الغشاوة عن أعين هؤلاء المؤمنين الأتقياء من أمثال الحسن. ولم يتردد الحسن في تبني القول بالقدر على مذهب معاصره معبد الجهني. وليس من المستبعد أن يكون الحسن قد عدل قليلا من قول معاصره الذي ذهب إلى أن القدر خيره وشره من العبد كما تحكي عنه كتب المقالات. ولقد كان تعديل هذا القول ضرورة لا غنى عنها حتى لا يؤدي ذلك إلى نفي قدرة الله أو الانتقاص منها.
ولمّا كان بنو أمية يرفعون القول بالجبر لتبرير معاصيهم، فإن اسناد المعاصي إلى قدرة العبد كاف في الرد عليهم دون أن يؤدي ذلك إلى الانتقاص من قدرة الله. لذلك كله عدّل الحسن من قول معبد وغيلان والجعد، وقال «كل شيء بقضاء وقدر إلّا المعاصي» وهذه الصياغة لمبدأ القدر تنفي عن الله فعل الشر وتثبت قدرة العبد عليه. ومن شأن هذه الصياغة للمبدإ أن تجعله مقبولا لدى أتقياء
المسلمين، لأنها رفعت عنه الحرج السابق الذي يؤدي إلى ايهام انه يتناقض مع الايمان الحق. كما أنها من جانب آخر تثبت مبدأ الثواب والعقاب الذي يعدّ ركنا أساسيا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي يخلّ به القول بالجبر وينفي مسئولية الانسان عن فعله.(1/30)
ولمّا كان بنو أمية يرفعون القول بالجبر لتبرير معاصيهم، فإن اسناد المعاصي إلى قدرة العبد كاف في الرد عليهم دون أن يؤدي ذلك إلى الانتقاص من قدرة الله. لذلك كله عدّل الحسن من قول معبد وغيلان والجعد، وقال «كل شيء بقضاء وقدر إلّا المعاصي» وهذه الصياغة لمبدأ القدر تنفي عن الله فعل الشر وتثبت قدرة العبد عليه. ومن شأن هذه الصياغة للمبدإ أن تجعله مقبولا لدى أتقياء
المسلمين، لأنها رفعت عنه الحرج السابق الذي يؤدي إلى ايهام انه يتناقض مع الايمان الحق. كما أنها من جانب آخر تثبت مبدأ الثواب والعقاب الذي يعدّ ركنا أساسيا في العقيدة الدينية، ذلك المبدأ الذي يخلّ به القول بالجبر وينفي مسئولية الانسان عن فعله.
ويقول الحسن مؤكدا مبدأه وكاشفا عن مراميه «من زعم أن المعاصي من الله عزّ وجلّ جاء يوم القيامة مسودا وجهه، ثم قرأ: {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60)». ويشير ابن قتيبة إلى علاقته بمعبد الجهني عرضا حين يقول: «وكان (أي الحسن) تكلّم في شيء من القدر ثم رجع عنه وكان عطاء بن يسار قاصا ويرى القدر فكان يأتي الحسن هو ومعبد الجهني فيسألانه ويقولان يا أبا سعيد إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال ويفعلون ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله فقال كذب أعداء الله». وهذه العلاقة التي تجعل معبدا الجهني يأتي ليسأل الحسن عن رأيه في القدر، تؤكّد ما نذهب إليه من تعديل الحسن لمقولة معبد. ويبدو أن الحسن خلافا لما يزعمه ابن قتيبة كان يتحرّج من القول بالقدر، ويبدو أن سؤال معبد له، بهذه الطريقة الاستفزازية، كان المقصود منه ضمه إلى رأيه حتى يكتسب أنصارا من كبار التابعين أمثال الحسن. وسرعان ما استجاب الحسن لرأي معبد بعد أن صاغه تلك الصياغة التي توائم بينه وبين الايمان المطلق بقدرة الله. وأغلب الظن أن قتل معبد على قوله كان له دخل كبير في تمسّك الحسن بقوله والمجاهرة به، بعد أن كان لا يقوله إلّا في خاصته.
وقد وصلتنا عن الحسن رسالة في نفي القدر ترجع إلى عصر عبد الملك بن مروان. وينكر الشهرستاني نسبة هذه الرسالة إلى الحسن، وينسبها إلى واصل بن عطاء، على أساس «أن الحسن ما كان ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى» وهو قول ينكره ما أوردناه لابن قتيبة سالفا وهو مصدر أقدم من الشهرستاني. ومن جهة أخرى فسواء نسبت الرسالة للحسن أو لواصل بن عطاء، فإن دلالتها على ما نحن بصدده تظلّ قائمة.
وتبدو أهمية الرسالة فيما تثيره من اعتراض عبد الملك بن مروان، فالرسالة رد على تساؤل من عبد الملك بن مروان وجهه للحسن حول ما بلغه عنه من أنه يقول بالقدر. ولم يكن عبد الملك بن مروان بالساذج حتى يفعل بالحسن ما فعله بمعبد الجهني، فالحسن بزهده وورعه وتقواه قد يثير سخط العامة، ولذلك يلجأ عبد الملك إلى أسلوب النقاش «وقد كان أمير المؤمنين يعلم منك صلاحا في حالك،
وفضلا في دينك ودراية للفقه، وطلبا له وحرصا عليه. ثم أنكر أمير المؤمنين هذا القول من قولك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بمذهبك، والذي به تأخذ، أعن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم عن رأي رأيته؟ أم عن أمر يعرف تصديقه في القرآن؟ فإنّا لم نسمع في هذا الكلام مجادلا ولا ناطقا قبلك» وتبدو في لهجة الرسالة نبرة الضيق التي ترى تناقضا بين الصلاح والفضل والفقه وبين القول بالقدر، مما يؤكّد أن انتماء الحسن إلى صف القائلين بالقدر أقلق الخليفة الأموي ودفعه لهذه التساؤلات حول أصل هذا الرأي ومنشئه في القرآن أو السنة أو آراء السلف الصالح. ولم يكن صعبا على الحسن أن يستشهد بالقرآن على صحة مذهبه، ففي القرآن آيات كثيرة تحمّل الانسان مسئولية فعله. ويلجأ الحسن إلى تأويل تلك الآيات الأخرى التي توهم بالجبر، وهذه مسألة سنتعرّض لها في الفصل الخاص بالتأويل والمجاز. أمّا الذي نريد التركيز عليه الآن فهو لمز الحسن لمعاصريه على قولهم بالجبر «وقد أدركنا، يا أمير المؤمنين، السلف الذين عملوا بأمر الله، ورووا حكمته، واستنوا بسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا ينكرون حقا ولا يحقون باطلا، ولا يلحقون بالرب، تبارك وتعالى إلّا ما ألحق بنفسه، ولا يحتجون إلّا بما احتج الله به على خلقه في كتابه» ثم ينتهي إلى أنه «لمّا أحدث المحدثون الكلام في دينهم ذكرت من كتاب الله خلافا لما قالوا وأحدثوا» والحسن في هذا الرد يتهم معاصريه بأنهم أحدثوا بالقول الجبر قولا لم يقل به أحد من السلف الصالح، وألحقوا بالرب ما لم يلحق بنفسه من نسبة معاصيهم إليه، فكان عليه أن يتصدّى لهم، ويكشف عن زيف معتقدهم.(1/31)
وتبدو أهمية الرسالة فيما تثيره من اعتراض عبد الملك بن مروان، فالرسالة رد على تساؤل من عبد الملك بن مروان وجهه للحسن حول ما بلغه عنه من أنه يقول بالقدر. ولم يكن عبد الملك بن مروان بالساذج حتى يفعل بالحسن ما فعله بمعبد الجهني، فالحسن بزهده وورعه وتقواه قد يثير سخط العامة، ولذلك يلجأ عبد الملك إلى أسلوب النقاش «وقد كان أمير المؤمنين يعلم منك صلاحا في حالك،
وفضلا في دينك ودراية للفقه، وطلبا له وحرصا عليه. ثم أنكر أمير المؤمنين هذا القول من قولك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بمذهبك، والذي به تأخذ، أعن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم عن رأي رأيته؟ أم عن أمر يعرف تصديقه في القرآن؟ فإنّا لم نسمع في هذا الكلام مجادلا ولا ناطقا قبلك» وتبدو في لهجة الرسالة نبرة الضيق التي ترى تناقضا بين الصلاح والفضل والفقه وبين القول بالقدر، مما يؤكّد أن انتماء الحسن إلى صف القائلين بالقدر أقلق الخليفة الأموي ودفعه لهذه التساؤلات حول أصل هذا الرأي ومنشئه في القرآن أو السنة أو آراء السلف الصالح. ولم يكن صعبا على الحسن أن يستشهد بالقرآن على صحة مذهبه، ففي القرآن آيات كثيرة تحمّل الانسان مسئولية فعله. ويلجأ الحسن إلى تأويل تلك الآيات الأخرى التي توهم بالجبر، وهذه مسألة سنتعرّض لها في الفصل الخاص بالتأويل والمجاز. أمّا الذي نريد التركيز عليه الآن فهو لمز الحسن لمعاصريه على قولهم بالجبر «وقد أدركنا، يا أمير المؤمنين، السلف الذين عملوا بأمر الله، ورووا حكمته، واستنوا بسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا ينكرون حقا ولا يحقون باطلا، ولا يلحقون بالرب، تبارك وتعالى إلّا ما ألحق بنفسه، ولا يحتجون إلّا بما احتج الله به على خلقه في كتابه» ثم ينتهي إلى أنه «لمّا أحدث المحدثون الكلام في دينهم ذكرت من كتاب الله خلافا لما قالوا وأحدثوا» والحسن في هذا الرد يتهم معاصريه بأنهم أحدثوا بالقول الجبر قولا لم يقل به أحد من السلف الصالح، وألحقوا بالرب ما لم يلحق بنفسه من نسبة معاصيهم إليه، فكان عليه أن يتصدّى لهم، ويكشف عن زيف معتقدهم.
وننتهي من ذلك كله إلى أن القول بالقدر وبمسئولية الانسان عن فعله كان سلاحا فكريا وعقائديا ضد تستر الأمويين وراء مبدأ الجبر لتبرير أعمالهم. وقد رفع لواء هذا المبدأ مفكرون دفعوا حياتهم ثمنا له، وتحرّج متأخرو الصحابة والتابعون من القول به لما يوهمه من انتقاص للقدرة الإلهية. وظلّ الأمر كذلك حتى عدل الحسن البصري من صياغة هذا المبدأ بما يجعله يتلاءم مع الايمان المطلق بقدرة الله ومشيئته اللانهائية. وكان الذي دفع الحسن إلى ذلك هو انكشاف البعد السياسي لمقولة «الجبر» في عهد عبد الملك ابن مروان. ويعدّ ما فعله الحسن بذلك بمثابة اعطاء شرعية دينية وفقهية لمبدأ يثير الشك في وجدان المسلم العادي وذلك عن طريق الاستشهاد بآيات القرآن التي تتمشى مع المبدأ، وفي نفس الوقت تأويل تلك الآيات التي يوهم نصها الحرفي مناقضة هذا المبدأ.(1/32)
(5)
سبقت الاشارة إلى أن الخلاف الذي اعتزل بسببه واصل بن عطاء (ت 131هـ) حلقة أستاذه الحسن هو الخلاف حول مرتكب الكبيرة. ولقد رأينا في الصفحات السابقة أن هذا الخلاف يمتد إلى بداية نشأة حركة الخوارج، وإن أطلقوا عليه «الإمام الجائر» لا «مرتكب الكبيرة». ولقد كان الخوارج واضحين ومتسقين مع نزوعهم الثوري، فذهبوا إلى تكفير كل من خالفهم، وذهبوا إلى ضرورة الخروج على الإمام الجائر ومحاربته بالسيف. ولم يفرّق الخوارج بين امامهم الأول «علي بن أبي طالب» وبين «معاوية بن أبي سفيان» ما داموا قد آمنوا بأن كليهما على باطل، وإن اختلفت درجة باطل كل منهما. وفي الجانب الآخر كان المرجئة يحكمون على «مرتكب الكبيرة» بالايمان وذلك تأسيسا على تعريفهم للايمان الذي سبقت الاشارة إليه. وقد انشغل الشيعة، الغالية منهم والإمامية، بقضية الإمامة دون غيرها من القضايا. أمّا الحسن البصري الفقيه الورع الزاهد فقد تحرّج في تكفير من شهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، كما أنه من جانب آخر لم يكن يستطيع أن يفصل الايمان عن العمل كما فعلت المرجئة. ولذلك انتهى إلى أن مرتكب الكبيرة منافق، ليس كافرا وليس مؤمنا.
ومما يرتبط بهذا الخلاف ما سبقت الاشارة إليه من أن الحكم على عثمان وعلي وطلحة والزبير كان جزءا من الخلاف بين الفرق والاتجاهات المختلفة. ولقد امتحن الخوارج عبد الله بن الزبير وحين خالفهم لم يحاربوا معه. وكذلك امتحن زيد بن علي أصحابه في هذه القضية، وانفضوا عنه حين رفض الخوض في أبي بكر وعمر. وليس ببعيد عنا امتحان الحجاج للحسن البصري حين سأله عن عثمان وعلي.
وإذن فالخلاف حول قضايا مرتكب الكبيرة والحكم على المتنازعين لم يكن مجرد خلاف فقهي وإن بدا كذلك على يد الحسن وتلميذه واصل، ومرد ذلك إلى طبيعة الضغوط التي تعرّض لها الحسن على يد الحجاج، وهي ضغوط جعلته في كثير من الأحيان يلجأ للتقيّة والمداراة.
لم يقبل واصل بن عطاء رأي الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر، وكذلك لم يقبل رأي المرجئة بأنه مؤمن، ثم خرج على أستاذه الحسن أخيرا ولم يقتنع بقوله أنه منافق. وخرج بوصف له بأنه فاسق في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمن والكافر. وحكم عليه بأنه يخلد في النار إن مات على غير توبة.
وقد يبدو هذا الرأي الذي أثاره واصل في مرتكب الكبيرة مذهبا رابعا يضاف إلى
المذاهب الثلاثة السابقة عليه. ومن الواضح أن هذا المذهب ليس مذهبا محايدا كما ذهب إلى ذلك نللينو كما أنه ليس خروجا عن الإجماع كما ذهب إلى ذلك كل خصوم المعتزلة. فواصل يتفق مع الخوارج في خلود مرتكب الكبيرة في النار، ويشترط عدم التوبة. وهو شرط لا يجعله مخالفا لهم وإن لم ينصوا عليه. وسلوك الخوارج العملي في استتابة مخالفيهم يؤكّد الاتفاق بينهم وبين واصل في هذه النقطة. وهو لم يتفق مع المرجئة الذين يجعلونه مؤمنا ويفتحون أمامه باب الأمل في رحمة الله الواسعة. ويبدو أن خلاف واصل مع أستاذه بحسب ما تتيحه المصادر هو خلاف في التسمية فقط. ومعنى ذلك كله أن واصلا في حكمه على مرتكب الكبيرة إذا أضفنا شرط التوبة يتفق مع الخوارج ويختلف مع المرجئة.(1/33)
وقد يبدو هذا الرأي الذي أثاره واصل في مرتكب الكبيرة مذهبا رابعا يضاف إلى
المذاهب الثلاثة السابقة عليه. ومن الواضح أن هذا المذهب ليس مذهبا محايدا كما ذهب إلى ذلك نللينو كما أنه ليس خروجا عن الإجماع كما ذهب إلى ذلك كل خصوم المعتزلة. فواصل يتفق مع الخوارج في خلود مرتكب الكبيرة في النار، ويشترط عدم التوبة. وهو شرط لا يجعله مخالفا لهم وإن لم ينصوا عليه. وسلوك الخوارج العملي في استتابة مخالفيهم يؤكّد الاتفاق بينهم وبين واصل في هذه النقطة. وهو لم يتفق مع المرجئة الذين يجعلونه مؤمنا ويفتحون أمامه باب الأمل في رحمة الله الواسعة. ويبدو أن خلاف واصل مع أستاذه بحسب ما تتيحه المصادر هو خلاف في التسمية فقط. ومعنى ذلك كله أن واصلا في حكمه على مرتكب الكبيرة إذا أضفنا شرط التوبة يتفق مع الخوارج ويختلف مع المرجئة.
وفيما يرتبط بمسألة اطلاق الأسماء، يبدو أن واصلا كان يسعى لتوحيد الحكم على مرتكب الكبيرة بين الفرق المختلفة بدلا من هذا الخلاف في تسميته والحكم عليه. وكان اشتراط التوبة هو الحل السعيد لطرفي النقيض بين الخوارج والمرجئة، فالتوبة تمثّل باب الأمل المشروط عند واصل، بدلا من الباب المفتوح على مصراعيه عند المرجئة. وينكر الخياط خروج واصل في قوله في مرتكب الكبيرة عن الإجماع بقوله «وجد الأمة مجمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور، مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم، فأخذ بما أجمعوا عليه وأمسك عمّا اختلفوا فيه. وتفسير ذلك أن الخوارج وأصحاب الحسن كلهم مجمعون على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر. ثم تفرّدت الخوارج وحدها فقالت: هو مع فسقه وفجوره كافر. وقالت المرجئة وحدها: هو مع فسقه وفجوره مؤمن. وقال الحسن ومن تابعه: هو مع فسقه وفجوره منافق. فقال لهم واصل: قد أجمعتم أن سميتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور، فهذا اسم له صحيح بإجماعكم وقد نطق به القرآن في آية القاذف وغيرها من القرآن فوجب تسميته به». وهذا الموقف الذي اتخذه واصل من مرتكب الكبيرة وقفه الشيعة الزيدية فيما يقول صاحب المقالات.
أمّا الحكم على المتحاربين: علي وطلحة والزبير، وكذلك على عثمان وقاتليه فقد كان أيضا محل خلاف بين الخوارج والشيعة من جانب، وبين الشيعة بفرقها المختلفة من جانب آخر. ذهبت الشيعة إلى تكفير كل من حارب عليا وتخطئته، بل غالى بعضهم وخاض في أبي بكر وعمر وشكك في أحقيتهما للخلافة، وذهبت الخوارج كذلك إلى تخطئة عثمان في أواخر خلافته وكذلك خطئوا عليا بعد قبوله التحكيم، ولم ينج من أحكامهم أحد من مخالفيهم كما سبقت الاشارة. أمّا موقف واصل من عثمان «فقد توقف فيه وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد
منهم وذلك أنه قد صحّت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر فأشكل عليه أمره فأرجأه الى عالمه» ونفس الموقف يقفه هو وزميله عمرو بن عبيد من علي ومحاربيه طلحة وعائشة والزبير «فقد كان القوم عندهما أبرارا أتقياء مؤمنين قد تقدّمت لهم سوابق حسنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرة وجهاد وأعمال جميلة، ثم وجداهم قد تحاربوا وتجالدوا بالسيوف فقالا: قد علمنا أنهم ليسوا بمحقين جميعا، وجائز أن تكون إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة ولم يتبين لنا من المحق منهم من المبطل فوكّلنا أمر القوم إلى عالمه، وتولينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان: قلنا: قد علمنا أن إحداكما عاصية لا ندري أيكما هي»(1/34)
أمّا الحكم على المتحاربين: علي وطلحة والزبير، وكذلك على عثمان وقاتليه فقد كان أيضا محل خلاف بين الخوارج والشيعة من جانب، وبين الشيعة بفرقها المختلفة من جانب آخر. ذهبت الشيعة إلى تكفير كل من حارب عليا وتخطئته، بل غالى بعضهم وخاض في أبي بكر وعمر وشكك في أحقيتهما للخلافة، وذهبت الخوارج كذلك إلى تخطئة عثمان في أواخر خلافته وكذلك خطئوا عليا بعد قبوله التحكيم، ولم ينج من أحكامهم أحد من مخالفيهم كما سبقت الاشارة. أمّا موقف واصل من عثمان «فقد توقف فيه وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد
منهم وذلك أنه قد صحّت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر فأشكل عليه أمره فأرجأه الى عالمه» ونفس الموقف يقفه هو وزميله عمرو بن عبيد من علي ومحاربيه طلحة وعائشة والزبير «فقد كان القوم عندهما أبرارا أتقياء مؤمنين قد تقدّمت لهم سوابق حسنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرة وجهاد وأعمال جميلة، ثم وجداهم قد تحاربوا وتجالدوا بالسيوف فقالا: قد علمنا أنهم ليسوا بمحقين جميعا، وجائز أن تكون إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة ولم يتبين لنا من المحق منهم من المبطل فوكّلنا أمر القوم إلى عالمه، وتولينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان: قلنا: قد علمنا أن إحداكما عاصية لا ندري أيكما هي»
ويبدو مذهب واصل وعمرو بن عبيد في هذه القضية أقرب إلى المرجئة منه إلى الخوارج، ولكنهم مرجئة لا ينفون الخطأ ولا يغمضون أعينهم عنه، فثمّ أخطاء وقعت في الست الأواخر من حكم عثمان، ولكن النفس التقية التي تتأثم من الرجم بالغيب تتوقف في الحكم، وترجئ الأمر لعلام الغيوب. والمعتزلة على عكس المرجئة لا يفتحون باب الرحمة ولا يحكمون بالايمان أو الكفر، بل يتوقفون مع الاقرار بوقوع الخطأ. وهم يختلفون مع المرجئة في اقرارهم بالخطإ دون تحديد المخطئ، ويختلفون مع الشيعة والخوارج كذلك بتوقفهم عن تحديد المخطئ.
أمّا الموقف من الأمويين فهو مختلف تماما، فالحكم الأموي قائم، والتوقف عن الحكم عليه إرجاء واضح ومظالم الأمويين تملأ الآفاق. وموقف أستاذهم الحسن من الأمويين واضح وضوحا بينا، ولذلك فهم «مجمعون على البراءة من عمرو ومعاوية ومن كان في شقهما وهذا قول لا تبرأ المعتزلة منه ولا تعتذر من القول به» وفي هذا القول يتفق المعتزلة مع كل من الشيعة والخوارج، ويختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتها ومذاهبها.
وتثير مسألة خلاف واصل مع أستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة علامة استفهام تحتاج للاجابة والتوضيح، خصوصا وهما يشتركان في كراهية بني أمية. ويحسّ الباحث أن هذا الخلاف كان خلافا شكليا يتصل بالتسمية دون أن يرتدّ إلى خلاف أعمق من ذلك. وليس معنى وصف الخلاف بأنه شكلي التهوين من شأنه، فمن الواضح أن هذا الخلاف كانت له أهميته عند واصل حتى ناظر عليه عمرو بن عبيد واكتسبه إلى جانبه. وترتدّ هذه الأهمية في نظرنا إلى ما سبق أن ألمحنا إليه من رغبة واصل في رفع الخلاف حول تسمية مرتكب الكبيرة والحكم عليه، وتوحيده بهدف توحيد قوى المعارضة، وإزالة أسباب الخلاف بينها.
ولسنا بحاجة لتأكيد أن الحسن كان يمثّل تلك الجماعة من أتقياء المسلمين وزهادهم الذين تعايشوا لفترة مع الحكم الأموي بحكم الأمر الواقع، وإن لم يجاهروا بعدائه خوفا من سطوة حكامه وجبروتهم خصوصا في عهد عبد الملك بن مروان، وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. ولم تمنعهم هذه المعايشة من محاولة التصدي فكريا لكل الأفكار التي حاولت أن تدعم هذا النظام وتسانده. ولقد كان من الطبيعي أن تؤدي هذه النظرة التقية المسالمة إلى الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه منافق «وحكم الله في المنافق أنه إن ستر نفاقه فلم يعلم به وكان ظاهره الاسلام فهو عندنا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم» ومن المؤكد أن أحدا من الحكام الأمويين لم يعلن نفاقه، ومن ثم فمعاملتهم معاملة المسلمين أمر واجب على أتقياء المسلمين. ومن الضروري ألّا يغيب عن الأذهان أثر الضغط الأموي، وتزايد سياستهم الارهابية في تكوين هذه النظرة المسالمة إذا قورنت بنظرة الخوارج الواضحة كالسيف.(1/35)
وتثير مسألة خلاف واصل مع أستاذه الحسن حول وصف مرتكب الكبيرة علامة استفهام تحتاج للاجابة والتوضيح، خصوصا وهما يشتركان في كراهية بني أمية. ويحسّ الباحث أن هذا الخلاف كان خلافا شكليا يتصل بالتسمية دون أن يرتدّ إلى خلاف أعمق من ذلك. وليس معنى وصف الخلاف بأنه شكلي التهوين من شأنه، فمن الواضح أن هذا الخلاف كانت له أهميته عند واصل حتى ناظر عليه عمرو بن عبيد واكتسبه إلى جانبه. وترتدّ هذه الأهمية في نظرنا إلى ما سبق أن ألمحنا إليه من رغبة واصل في رفع الخلاف حول تسمية مرتكب الكبيرة والحكم عليه، وتوحيده بهدف توحيد قوى المعارضة، وإزالة أسباب الخلاف بينها.
ولسنا بحاجة لتأكيد أن الحسن كان يمثّل تلك الجماعة من أتقياء المسلمين وزهادهم الذين تعايشوا لفترة مع الحكم الأموي بحكم الأمر الواقع، وإن لم يجاهروا بعدائه خوفا من سطوة حكامه وجبروتهم خصوصا في عهد عبد الملك بن مروان، وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. ولم تمنعهم هذه المعايشة من محاولة التصدي فكريا لكل الأفكار التي حاولت أن تدعم هذا النظام وتسانده. ولقد كان من الطبيعي أن تؤدي هذه النظرة التقية المسالمة إلى الحكم على مرتكب الكبيرة بأنه منافق «وحكم الله في المنافق أنه إن ستر نفاقه فلم يعلم به وكان ظاهره الاسلام فهو عندنا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم» ومن المؤكد أن أحدا من الحكام الأمويين لم يعلن نفاقه، ومن ثم فمعاملتهم معاملة المسلمين أمر واجب على أتقياء المسلمين. ومن الضروري ألّا يغيب عن الأذهان أثر الضغط الأموي، وتزايد سياستهم الارهابية في تكوين هذه النظرة المسالمة إذا قورنت بنظرة الخوارج الواضحة كالسيف.
ولقد كان من الطبيعي أن ينفر أمثال الحسن من الخروج ومن شهر السيوف، وأن يؤدي بهم هذا النفور إلى معاداة الخوارج، خصوصا مع مبالغتهم في استخدام مبدأ «التكفير» والعرض على السيف لكل من خالفهم في الأصول أو التفاصيل.
ولم يكن هذا الموقف المهادن وقفا على الحسن وأمثاله، فالشيعة ركنت بعد مأساة كربلاء إلى مهادنة الأمويين. وإذا استثنينا ثورة التوّابين وثورة المختار، وهي ثورات لم تكن تحت قيادة علوية مباشرة، لا نجد خروجا شيعيا مسلحا إلّا مع ثورة زيد بن علي بن الحسين (ت 95هـ) في عهد هشام بن عبد الملك. ولقد رفض محمد بن الحنفية الخروج مع عبد الله بن الزبير، كما أنه فيما يقال استنكر أقوال المختار الذي خرج باسمه. ولم يخرج من أبناء الحسن أو الحسين أحد حتى قرر زيد بن علي الخروج. ويبدو أن خروج زيد لم يكن أمرا متفقا عليه بينه وبين باقي أهل البيت من إخوته، وفيهم من هو أحق بالإمامة والخروج منه بحكم السن. ودون الخوض في تفاصيل هذا الخلاف وأسبابه، يهمنا أن نشير إلى أن الموقف السياسي كان وراء رفض بعض الائمة الخروج «وكان الباعث على ذلك الشدة التي اتبعها الامويون تجاه من يخرج على سلطانهم. فقد أدرك أئمة الشيعة أن الثورات المحلية المسلحة لا تجدي نفعا ما دامت الدولة الأموية تعزّز سلطانها بالجند والمال، لهذا أشاعوا بين أتباعهم التزام الهدوء أمام الأحداث التي كانت جارية آنذاك، مهما بلغت من العنف والقسوة، اللهم إلّا في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حدود معينة لا يتعرّض فيها المؤمن إلى فتك السلطان» ويبدو أن الخلاف
الذي واجهه زيد بن علي كان حادا حتى أنه فيما يقول الشهرستاني ذهب إلى أن «كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماما واجب الطاعة سواء من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما» وهو قول يجعل القدرة على الخروج وحمل السيف شرطا للإمامة ومسوّغا لها. ولقد كان من الطبيعي أن يعترض أخوه محمد الباقر على قوله هذا حتى قال له يوما «على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج ولا تعرض للخروج»(1/36)
ولم يكن هذا الموقف المهادن وقفا على الحسن وأمثاله، فالشيعة ركنت بعد مأساة كربلاء إلى مهادنة الأمويين. وإذا استثنينا ثورة التوّابين وثورة المختار، وهي ثورات لم تكن تحت قيادة علوية مباشرة، لا نجد خروجا شيعيا مسلحا إلّا مع ثورة زيد بن علي بن الحسين (ت 95هـ) في عهد هشام بن عبد الملك. ولقد رفض محمد بن الحنفية الخروج مع عبد الله بن الزبير، كما أنه فيما يقال استنكر أقوال المختار الذي خرج باسمه. ولم يخرج من أبناء الحسن أو الحسين أحد حتى قرر زيد بن علي الخروج. ويبدو أن خروج زيد لم يكن أمرا متفقا عليه بينه وبين باقي أهل البيت من إخوته، وفيهم من هو أحق بالإمامة والخروج منه بحكم السن. ودون الخوض في تفاصيل هذا الخلاف وأسبابه، يهمنا أن نشير إلى أن الموقف السياسي كان وراء رفض بعض الائمة الخروج «وكان الباعث على ذلك الشدة التي اتبعها الامويون تجاه من يخرج على سلطانهم. فقد أدرك أئمة الشيعة أن الثورات المحلية المسلحة لا تجدي نفعا ما دامت الدولة الأموية تعزّز سلطانها بالجند والمال، لهذا أشاعوا بين أتباعهم التزام الهدوء أمام الأحداث التي كانت جارية آنذاك، مهما بلغت من العنف والقسوة، اللهم إلّا في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي حدود معينة لا يتعرّض فيها المؤمن إلى فتك السلطان» ويبدو أن الخلاف
الذي واجهه زيد بن علي كان حادا حتى أنه فيما يقول الشهرستاني ذهب إلى أن «كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماما واجب الطاعة سواء من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما» وهو قول يجعل القدرة على الخروج وحمل السيف شرطا للإمامة ومسوّغا لها. ولقد كان من الطبيعي أن يعترض أخوه محمد الباقر على قوله هذا حتى قال له يوما «على مقتضى مذهبك والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج ولا تعرض للخروج»
ولم يكن واصل بن عطاء على أي حال بعيدا عن جو الخلاف الشيعي هذا.
ونحن بالقطع لا نستطيع أن نتقبل تلك الرواية التي تجعل من واصل تلميذا مباشرا لمحمد بن الحنفية، بل وتدّعي أنه «أخذ علم الكلام عنه، وصار كالأصل لسنده» وتبالغ حتى تنسب إليه أنه «ربي واصلا وعلّمه حتى تخرّج واستحكم» والسبب في ذلك أن واصلا ولد عام 81هـ وهو نفس العام الذي توفي فيه ابن الحنفية. ومن المحتمل ان يكون واصل قد عرف أفكار ابن الحنفية عن طريق ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد (ت 98هـ) وهذا أمر تؤكّده سلسلة السند التي يعتزّ بها كل من المعتزلة والشيعة، والتي تنتهي إلى واصل وعمرو «وهما أخذا عن عبد الله بن محمد، وعبد الله أخذ عن أبيه محمد بن الحنفية» ومن جهة أخرى تؤكّد هذه المصادر صلة واصل بأبي هاشم هذا «وكان معه في المكتب». ولسنا نذهب من هذه الرواية إلى نسبة الاعتزال إلى محمد بن الحنفية كما تحاول المصادر الاعتزالية والشيعية أن تفعل، بقدر ما نحاول إثبات الصلة بين واصل والشيعة في هذه الفترة لرصد التأثير المتبادل بينهما. ومن المحتمل أن يكون ابن الحنفية الذي «اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة» قد ذهب إلى الإرجاء أو التقيّة تبريرا لهذا الموقف الذي فرضته عليه الظروف.
ولقد ظلّ هذا الرأي الذي يرى الهدوء والتريث والتقيّة سائدا بين صفوف الشيعة حتى قرر زيد بن علي الخروج. وكان قراره هذا موضعا لخلاف أخيه محمد الباقر وابن أخيه جعفر بن محمد الصادق. ويبدو أن واصلا كان على رأي زيد في ضرورة الخروج حتى اتهمه جعفر بن محمد بأنه أتى أمرا يفرّق الكلمة ويطعن به على الأئمة. وكان رد واصل على هذا الاتهام في حضور زيد بن علي وغيره من آل البيت «وإنك يا جعفر ابن الأئمة شغلك حب الدنيا فأصبحت بها كلفا».
ويمكننا أن نستنبط من الاتهام والرد معا أن الخلاف بين واصل وبين جعفر لم يكن حول قضية من قضايا الفكر الاعتزالي الشهيرة، أو أصولهم الخمسة، لأن هذه الأصول لا تتضمن أي اساءة للأئمة. وأغلب الظن أن هذا الخلاف كان حول
مشروعية الخروج وشهر السيف ضد الخليفة الأموي، وهو أمر لم يكن يراه جعفر بن محمد، وكان يراه زيد بن علي الذي عضده واصل. وليس أدل على صدق هذا الاستنتاج من أن اشتراط زيد لصحة الإمامة القدرة على الخروج والثورة وهو ما أنكره باقي آل البيت خصوصا أخوه الباقر يتفق مع قول المعتزلة في هذه القضية.(1/37)
ويمكننا أن نستنبط من الاتهام والرد معا أن الخلاف بين واصل وبين جعفر لم يكن حول قضية من قضايا الفكر الاعتزالي الشهيرة، أو أصولهم الخمسة، لأن هذه الأصول لا تتضمن أي اساءة للأئمة. وأغلب الظن أن هذا الخلاف كان حول
مشروعية الخروج وشهر السيف ضد الخليفة الأموي، وهو أمر لم يكن يراه جعفر بن محمد، وكان يراه زيد بن علي الذي عضده واصل. وليس أدل على صدق هذا الاستنتاج من أن اشتراط زيد لصحة الإمامة القدرة على الخروج والثورة وهو ما أنكره باقي آل البيت خصوصا أخوه الباقر يتفق مع قول المعتزلة في هذه القضية.
وموقف زيد من أبي بكر وعمر وتوليهما وعدم الخوض فيهما وهو ما أنكره بعض أنصاره يؤكّد أثر واصل وأثر الفكر الاعتزالي في الشيعة الزيدية. ويؤكّد الشهرستاني هذا الأثر بقوله عن زيد بن علي «فتلمذ لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة، ورئيسهم وصارت أصحابه كلهم معتزلة»
يرى بعض الباحثين أن ثورة زيد بن علي «كانت أول دعوة علوية نهجت نهجا سريا في نشر مبادئها». ولس من المستبعد والحالة هذه أن يكون واصل بن عطاء قد ساهم بشكل ما في تنظيم هذه الدعوة، فلقد كان لواصل دعاة كثيرون أرسلهم إلى الآفاق «بعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية». وليس من المعقول أن تكون مهمة هؤلاء الدعاة هي مجرد الدعوة إلى أفكار المعتزلة في العدل والتوحيد، أو في نشر الاسلام، دون أن ترتبط هذه الأفكار بمغزاها الاجتماعي والسياسي، وبالدعوة للثورة ضد النظام الأموي.
وإذا كانت ثورة زيد بن علي قد أمكن القضاء عليها، فإن العلاقة بين المعتزلة والثورات الزيدية التالية ظلّت قائمة، حتى مع انتهاء الخلافة الأموية وقيام دولة بني العباس. وتتبدى علاقة عمرو بن عبيد بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بالنفس الزكية (قتله المنصور 145هـ) من نص يورده الشريف المرتضى عن حوار دار بينه وبين الخليفة المنصور «قال: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابا، قال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه، قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا وأني لا أراه، قال: أجل ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي، قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية» وهي علاقة من الواضح أنها تقلق الخليفة المنصور الذي يطلب من عمرو بن عبيد رغم ثقته فيه واحترامه الزائد له أن يقسم له.
ولقد شارك المعتزلة بشكل ايجابي وفعّال في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد النفس الزكية الذي ثار بالبصرة «فغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية
يريد محاربة المنصور ومعه عيسى بن زيد بن علي فبعث اليه أبو جعفر بعيسى بن موسى وسعيد بن سلم فحاربهما إبراهيم حتى قتل، وقتلت المعتزلة بين يديه».(1/38)
ولقد شارك المعتزلة بشكل ايجابي وفعّال في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد النفس الزكية الذي ثار بالبصرة «فغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية
يريد محاربة المنصور ومعه عيسى بن زيد بن علي فبعث اليه أبو جعفر بعيسى بن موسى وسعيد بن سلم فحاربهما إبراهيم حتى قتل، وقتلت المعتزلة بين يديه».
وجدير بالذكر أن هذين الثائرين من الزيدية (كانا ممن دعاهما واصل إلى القول بالعدل، فاستجابا له، وذلك لمّا حج واصل، ودعا الناس بمكة والمدينة».
ومعنى ذلك كله أن القول «بالمنزلة بين المنزلتين» رغم توفيقيته الظاهرة كان محاولة للخروج من حالة التقيّة التي غلبت على موقف الحسن وعبّرت عن نفسها بالقول بنفاق مرتكب الكبيرة من جهة، وكانت أيضا محاولة لبث روح الثورة في موقف الشيعة الذي كان قد سكن وركن للهدوء. ومن جهة أخرى يعدّ هذا الموقف وقوفا ضد النزعة الدموية التي سيطرت على الفكر الخارجي خصوصا الأزارقة الذين فقدوا عطف أتقياء المسلمين. غير أن هذا الخلاف بين واصل والخوارج ليس خلافا جوهريا، إذ أن اشتراط التوبة لدخول مرتكب الكبيرة الجنة يرفع الخلاف بين واصل وبين الخوارج. ويظلّ خلاف واصل مع المرجئة في قضية مرتكب الكبيرة هو الخلاف الأساسي والجوهري. والفارق بين واصل والمرجئة أن واصلا لم يفتح باب العفو والأمل على مصراعيه، بل جعله؟؟ بالتوبة الصادقة.
وهذا كله يؤكّد البعد السياسي لقضية مرتكب الكبيرة وينفي عنها تلك الصبغة الفقهية الخالصة التي تصبغها بها كتب المقالات.
ويؤكّد أيضا ما نذهب إليه من أن واصلا كان يسعى للتوفيق بين قوى المعارضة وخلق جبهة موحدة ضد حكم الأمويين ما سبق أن بيّناه من رأيه في عثمان وعلي وطلحة والزبير رغم ما يبدو عليه من طابع الإرجاء في مواجهة أحداث الماضي. ومن الواضح أن مرتكب الكبيرة الذي اختلف الناس حول الحكم عليه «كان المقصود به تحديد الموقف من الأمويين، باعتبارهم مرتكبي الكبائر هم وعمالهم وأنصارهم في حق جماهير المسلمين» وذلك خلافا لما يذهب إليه زهدي جار الله من أن المقصود بهم عامة المسلمين «الذين كثر إقدامهم على ارتكاب الكبائر بسبب اختلاف القادة على الخلافة وما جرّ وراءه من فتن أدّت إلى مصرع عثمان بن عفان يضاف إلى هذا أن المسلمين انتقلوا بعد الفتح من محيط الصحراء الضيق إلى محيط واسع فيه كثير من ضروب اللهو والترف وأسباب الفساد».
ويرتبط بهذا القول، القول بمسئولية الانسان عن الفعل وقدرته عليه في مواجهة مبدأ «الجبر» الذي رفعه الحزب الأموي، وهو مبدأ أخذه واصل عن أستاذه الحسن الذي أخذه بدوره عن معبد الجهني. ومن المحتمل أن يكون واصل قد
أخذه مباشرة عن غيلان الدمشقي، ذلك أن الحسن بن محمد ابن الحنفية هو «أستاذ غيلان ويميل إلى الإرجاء، ولهذا قالت به الغيلانية من المعتزلة، ويؤكّد هذه العلاقة بين غيلان والمعتزلة احتفاؤهم به في كتبهم ووضعهم إياه في الطبقة الرابعة منهم. والقارئ لقصة اعتراضه على استغلال بني أمية لفقراء المسلمين واعتراضه على ثرائهم الفاحش، ثم قتلهم إياه على هذا الموقف. القارئ لذلك في كتابات المعتزلة يدرك مكانته عندهم حتى أنهم حوّلوا عملية صلبه في عهد هشام بن عبد الملك إلى مظاهرة سياسية تجعله في كتبهم بطلا يبكيه الناس، وتحفّ به أرواح الشهداء(1/39)
ويرتبط بهذا القول، القول بمسئولية الانسان عن الفعل وقدرته عليه في مواجهة مبدأ «الجبر» الذي رفعه الحزب الأموي، وهو مبدأ أخذه واصل عن أستاذه الحسن الذي أخذه بدوره عن معبد الجهني. ومن المحتمل أن يكون واصل قد
أخذه مباشرة عن غيلان الدمشقي، ذلك أن الحسن بن محمد ابن الحنفية هو «أستاذ غيلان ويميل إلى الإرجاء، ولهذا قالت به الغيلانية من المعتزلة، ويؤكّد هذه العلاقة بين غيلان والمعتزلة احتفاؤهم به في كتبهم ووضعهم إياه في الطبقة الرابعة منهم. والقارئ لقصة اعتراضه على استغلال بني أمية لفقراء المسلمين واعتراضه على ثرائهم الفاحش، ثم قتلهم إياه على هذا الموقف. القارئ لذلك في كتابات المعتزلة يدرك مكانته عندهم حتى أنهم حوّلوا عملية صلبه في عهد هشام بن عبد الملك إلى مظاهرة سياسية تجعله في كتبهم بطلا يبكيه الناس، وتحفّ به أرواح الشهداء
وتؤدّي هذه الأفكار بالضرورة إلى تأكيد فكرة الثواب والعقاب، فمسئولية الانسان عن فعله وقدرته عليه، تجعل مرتكب الكبيرة مسئولا عن كبيرته ومحاسبا عليها، إذ لا يمكن أن يتساوى المطيع والعاصي وإلّا أدّى ذلك إلى نفي صفة العدل عن الله. ولتأكيد هذه الصفة كان لا بدّ من القول بأن الله لا بدّ أن يحقق وعده للمؤمن ووعيده للكافر. وفي هذا المبدأ «الوعد والوعيد» يتفق المعتزلة مع الخوارج بكل اتجاهاتهم ما عدا مرجئتهم، ويختلفون مع المرجئة بكل اتجاهاتهم.
أمّا المبدأ الرابع الذي يرتبط بالعدل فهو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهو مبدأ لا يختلف عليه أحد من المسلمين، شيعة أو خوارج أو مرجئة.
ويتركّز الخلاف حول كيفية تحقيق هذا الهدف. فالخوارج رأت ضرورة الخروج والعرض على السيف لمخالفيهم. ورأى زيد بن علي متأثرا بواصل أن القدرة على الخروج شرط للإمامة، وبذلك قرن بين فكر الشيعة وفكر الخوارج. ومن المؤكد أن واصلا له أثره في هذا الربط والتقريب بين المذاهب كما سبقت الاشارة.
وإذن فقد ضمّ مبدأ «العدل» في اهابه كل أفكار المعتزلة، وهي أفكار يغلب عليها إذا استثنينا القول بالمنزلة بين المنزلتين الطابع الانتقائي الذي يؤكّد ما سبق أن افترضناه من أن واصلا كان يسعى لتوحيد الفرق المختلفة لا الخروج عليها. ولا يخرج عن هذا التفسير قول واصل بالتوحيد ونفي مشابهة الله للبشر.
وإذا كانت الاتجاهات التجسيدية والتشبيهية قد تركّزت في فرق الشيعة الغالية التي ترتدّ إلى الأثر اليهودي الذي أدخله عبد الله بن سبأ لتأكيد إمامة علي، فإن مبدأ «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر يعدّ في هذا الإطار محاولة لتأكيد المفهوم القرآني عن الله، وهو مفهوم يؤكد الهوّة الواسعة بين الله والانسان، وإن استخدم تعبيرات وصفات لها طابعها الانساني بحكم طبيعة اللغة الانسانية. ولقد كان من الطبيعي أن يذهب القائلون بالقدر إلى نفي مشابهة الله للبشر، على أساس أن
النموذج البشري المستقرّ على قمة الهرم الاجتماعي، والمتمثل في الخليفة الاموي كان عنوانا للظلم والشر. وكان القول بعدل الله ورحمته يعني بالضرورة الفصل بين صفاته وبين صفات البشر. وقد سبقت الاشارة إلى تأثر معبد الجهني وغيلان الدمشقي بالاتجاهات اللاهوتية المسيحية، كما سبقت الاشارة إلى نفور جيل الصحابة الأواخر من قولهم بالقدر لما يوهمه من الانتقاص من قدرة الله الشاملة.(1/40)
وإذا كانت الاتجاهات التجسيدية والتشبيهية قد تركّزت في فرق الشيعة الغالية التي ترتدّ إلى الأثر اليهودي الذي أدخله عبد الله بن سبأ لتأكيد إمامة علي، فإن مبدأ «التوحيد» ونفي مشابهة الله للبشر يعدّ في هذا الإطار محاولة لتأكيد المفهوم القرآني عن الله، وهو مفهوم يؤكد الهوّة الواسعة بين الله والانسان، وإن استخدم تعبيرات وصفات لها طابعها الانساني بحكم طبيعة اللغة الانسانية. ولقد كان من الطبيعي أن يذهب القائلون بالقدر إلى نفي مشابهة الله للبشر، على أساس أن
النموذج البشري المستقرّ على قمة الهرم الاجتماعي، والمتمثل في الخليفة الاموي كان عنوانا للظلم والشر. وكان القول بعدل الله ورحمته يعني بالضرورة الفصل بين صفاته وبين صفات البشر. وقد سبقت الاشارة إلى تأثر معبد الجهني وغيلان الدمشقي بالاتجاهات اللاهوتية المسيحية، كما سبقت الاشارة إلى نفور جيل الصحابة الأواخر من قولهم بالقدر لما يوهمه من الانتقاص من قدرة الله الشاملة.
وإذا كان الحسن البصري قد استطاع أن يعدّل صياغة مبدأ القدر لكي يجعله مناسبا لروح التسليم المطلق بقدرة الله وإرادته الشاملة، فمن الطبيعي أن يفتح هذا التعديل الباب لتأثرات أخرى مما كان شائعا في دمشق من أقوال يحيى الدمشقي في المسائل الدينية التي كان يعالجها عن صفات الله في الكتاب المقدس وضرورة تأويلها بما يتفق مع التوحيد السليم الذي ينفي مشابهة الله للبشر
ولقد استعرضنا فيما سبق قول جهم بن صفوان في صفات الله، وحاولنا تفسير جمعه بين القول بنفي الصفات وبين القول بالجبر. ومن المؤكد أن واصل ابن عطاء قد عرف أفكار جهم وتأثر بها، بل تنسب كتب المعتزلة لواصل أنه علّم جهما كيف يردّ على السمنية ويدلل على وجود الله. ولكنها من جانب آخر تجعل من واصل خصما لجهم يرسل إليه حفص بن سالم يناظره ويقطعه في ترمذ، حتى «رجع إلى قول الحق، فلمّا عاد حفص إلى البصرة رجع جهم إلى قول الباطل» والروايتان ليستا متعارضتين على أي حال، فواصل يتفق مع جهم في مبدأ التوحيد ونفي مشابهة الله للبشر، ويختلفان حول «القدر»، فجهم جبري ينفي قدرة الانسان ليثبت تفرّد الله بصفة «القدرة» وحده كما سبقت الاشارة، بينما واصل قدري على مذهب الحسن ومعبد وغيلان. ومعنى ذلك أن المناظرة التي دارت بين حفص وجهم كانت حول القدر. ومن المؤسف أن المصادر لا تدلنا كيف استطاع واصل أن يحلّ المأزق الذي لم يستطع جهم أن يحلّه والذي أوقعه في مقولة «الجبر». ومن المحتمل أن واصلا لم يواجه هذا المأزق أصلا لأن الحسن أثبت قدرة العبد على المعصية حين قال «كل شيء بقضاء وقدر إلّا المعاصي»، وهو القول الذي خفف به من قول معبد وغيلان حتى صار مقبولا في الأوساط المؤمنة.
غير أن البعد السياسي الواضح لنشأة الاعتزال يمكن أن يفسّر لنا ما يرويه الشهرستاني من أن «القول بنفي صفات الباري تعالى، من العلم والقدرة، والإرادة والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين. قال ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إلهين» ومعنى ذلك أن قضية «التوحيد» ونفي
مشابهة الله للبشر لم تكن قضية ملحة، على عكس قضية العدل بكل تفريعاتها التي ارتبطت بظروف الخلافات السياسية، ومن ثمّ ارتبطت باهداف اجتماعية وعملية. وعلينا أن نلاحظ أن نفي إلهين قديمين فكرة قرآنية أصلا لا تحتاج لتأصيل فلسفي، إلى جانب أنها تتضمن ردّا على فكر الشيعة الغالية في تأليه علي ورجعته، وهي فكرة أدّت إلى السلبية الكاملة لهذا القطاع من الشيعة، حيث أنهم رفضوا الخروج إلّا مع إمامهم المهدي المنتظر الذي اختلفوا في تحديده وتعيينه. وكان من آثار فكرة المهدي الذي يحمل جانبا إلهيا الغرق في الفكر الغنوصي الإشراقي الذي يتناقض بطبيعته مع الفعّالية الانسانية التي سعى المعتزلة لتأكيدها والدفاع عنها.(1/41)
غير أن البعد السياسي الواضح لنشأة الاعتزال يمكن أن يفسّر لنا ما يرويه الشهرستاني من أن «القول بنفي صفات الباري تعالى، من العلم والقدرة، والإرادة والحياة. وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين. قال ومن أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إلهين» ومعنى ذلك أن قضية «التوحيد» ونفي
مشابهة الله للبشر لم تكن قضية ملحة، على عكس قضية العدل بكل تفريعاتها التي ارتبطت بظروف الخلافات السياسية، ومن ثمّ ارتبطت باهداف اجتماعية وعملية. وعلينا أن نلاحظ أن نفي إلهين قديمين فكرة قرآنية أصلا لا تحتاج لتأصيل فلسفي، إلى جانب أنها تتضمن ردّا على فكر الشيعة الغالية في تأليه علي ورجعته، وهي فكرة أدّت إلى السلبية الكاملة لهذا القطاع من الشيعة، حيث أنهم رفضوا الخروج إلّا مع إمامهم المهدي المنتظر الذي اختلفوا في تحديده وتعيينه. وكان من آثار فكرة المهدي الذي يحمل جانبا إلهيا الغرق في الفكر الغنوصي الإشراقي الذي يتناقض بطبيعته مع الفعّالية الانسانية التي سعى المعتزلة لتأكيدها والدفاع عنها.(1/42)
الفصل الأول المعرفة والدلالة اللغوية(1/43)
إذا كان الفكر الاعتزالي في بواكيره الأولى قد نشأ كما أسلفنا استجابة لظروف اجتماعية وسياسية اصطبغت بالصبغة الدينية، فإنه في تطوره وحركته التاريخية قد اصطدم بثقافات دينية أخرى لا تسلّم بداهة بما جاء به القرآن من أدلة على العدل والتوحيد وغيرها من القضايا التي جاهد المعتزلة في سبيل تأصيلها. وإذا كانت أقوال واصل في «التوحيد» لم تكن «نضيجة» كما قال الشهرستاني، فإن الجدل مع الفرق الأخرى وأهل الأديان المخالفة بما تصطبغ به من فلسفات مختلفة كان كفيلا بانضاجها. ولقد كان على المعتزلة أن ينظموا وسائلهم الاستدلالية لمواجهة هذه التيارات والرد عليها بشكل مقنع. وإذا كانت هذه الأديان والعقائد تسندها فلسفات لها قدر من العمق والشمول النظري، فقد كان من الضروري للمعتزلة ان يتخلّوا عن أدلتهم الدينية المستمدة من الكتاب والسنة وهي أدلة لا تقنع الخصم إلى أدلة جديدة لا يجد الخصم بدا من التسليم بها. وبعبارة أخرى كان على المعتزلة أن يميزوا بين أدلّة العقل وأدلّة الشرع، أو ما عرف بعد ذلك في علم الكلام بالعقل والنقل.
وينسب المؤرخون إلى أبي الهذيل العلاف (ت 235هـ) وتلميذه إبراهيم ابن سيار النظّام (ت 230هـ) الاطلاع على كتب الفلاسفة والتأثر بها ويعدانهما بداية التحول من المنهج الديني الخالص إلى الطريقة الجدلية التي يهمها الانتصار على الخصم عن طريق ايراد مقدمات شائعة مشهورة لا يستطيع الخصم المنازعة في صحتها. وكما نفر رجال الحديث والفقهاء من القول «بالقدر» ونفي الصفات عن الله، فقد نفروا كذلك من طريقة المتكلمين في تثبيت العقيدة والدفاع عنها، حتى أصبح الصاق صفة الكلام بالمحدّث كافيا لاطراح مروياته والتشكك في صدقها.
غير أن البحث في الأدلّة العقلية، والإعلاء من شأن العقل عند المعتزلة لم
يكن أثرا من آثار الفكر الأجنبي فحسب، ذلك أن القول بقدرة الانسان على الفعل والاختيار ومسئوليته عن هذا الفعل يتضمن بالضرورة اعترافا بوجود قوة مميّزة لدى الانسان تدفعه للاختيار بين الممكنات المختلفة، ومن ثم تحدد مسئوليته عن اختياره. والقرآن الكريم نفسه قد أعلى من شأن العقل وجعله مناط المسئولية الانسانية، وذمّ أولئك الذين لا يعقلون ولا يفقهون. ولقد احتفت الأوساط الدينية الاسلامية منذ أوائل القرن الثاني الهجري وأواخر القرن الأول بحديث يعلي من شأن العقل ويجعله أول المخلوقات وأكرمها على الله «أول ما خلق الله العقل. فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب». وبصرف النظر عن المعاني التي حملها هذا الحديث بعد ذلك فإن الذي يهمنا من الاستشهاد به هو بيان مدى احتفاء كافة الفرق والإتجاهات الاسلامية بالعقل وإن اختلفت في تحديد مدى نشاطه وميادينه.(1/45)
غير أن البحث في الأدلّة العقلية، والإعلاء من شأن العقل عند المعتزلة لم
يكن أثرا من آثار الفكر الأجنبي فحسب، ذلك أن القول بقدرة الانسان على الفعل والاختيار ومسئوليته عن هذا الفعل يتضمن بالضرورة اعترافا بوجود قوة مميّزة لدى الانسان تدفعه للاختيار بين الممكنات المختلفة، ومن ثم تحدد مسئوليته عن اختياره. والقرآن الكريم نفسه قد أعلى من شأن العقل وجعله مناط المسئولية الانسانية، وذمّ أولئك الذين لا يعقلون ولا يفقهون. ولقد احتفت الأوساط الدينية الاسلامية منذ أوائل القرن الثاني الهجري وأواخر القرن الأول بحديث يعلي من شأن العقل ويجعله أول المخلوقات وأكرمها على الله «أول ما خلق الله العقل. فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب وبك أعاقب». وبصرف النظر عن المعاني التي حملها هذا الحديث بعد ذلك فإن الذي يهمنا من الاستشهاد به هو بيان مدى احتفاء كافة الفرق والإتجاهات الاسلامية بالعقل وإن اختلفت في تحديد مدى نشاطه وميادينه.
وثم عامل هام له أثره في تمجيد المعتزلة لشأن العقل، واعتبار المعرفة هي أساس التمايز بين البشر بدلا من عوامل العرق والنسب والوراثة. ونعني بذلك العامل تلك العصبية البغيضة التي بدأت بوادرها في أواخر العصر الأموي مقارنة لنشأة الاعتزال تقريبا والتي وصلت أقصى درجات تطرفها في العصر العباسي «فقد كانت القومية الفارسية تعتبر نفسها ندّا للقومية العربية منذ آخر عهد الأمويين، مما مهّد لنصرها بقيام الخلافة العباسية على أكتافها» وبالتالي ازدادت المشكلة حدة، خصوصا في عهد المأمون الذي أعطى للعنصر الفارسي سيادة مطلقة في شئون الحكم والدولة. وإذا كان الفرس يفخرون على العرب بحضارتهم وفلسفتهم وتراثهم الفكري، ويتهمونهم بأنهم شعب بدوي لا تسنده حضارة أو فلسفة، ومن ناحية أخرى إذا كان العرب يفخرون على الفرس بأنهم أشرف الأمم لأن التنزيل إليهم نزل، ومنهم النبي الخ، كل ذلك مما نجده مبثوثا في كتب الجاحظ ورسائله. إذا كان الأمر كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يحاول المعتزلة أن يقفوا من هذا الصراع موقفا يتسم بالتعقل. ويعدّ الاعلاء من شأن العقل والمعرفة محاولة لرفع التفاخر بالأنساب والعصبيات والأجناس، ورد قيمة الانسان اجتماعيا ودينيا إلى قيمة يتساوى الناس في ملكيتهم لها، وإن اختلفوا تبعا لمدى استخدامهم لها. ولا يجب في هذا الصدد أن ننسى أن كبار رجال المعتزلة ورؤساءهم كانوا من الموالي «فواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسسا المذهب والمعروفان بالتقوى والصلاح كانا من الموالي، وأبو الهذيل العلاف شيخ معتزلة البصرة من موالي عبد القيس، وإبراهيم بن سيّار النظّام أستاذ الجاحظ بصري
من موالي آل زياد، وثمامة بن أشرس من شيوخ معتزلة البصرة من موالي بني نمير، والجاحظ العالم المعتزلي الأشهر ذو الثقافة الموسوعية كان من موالي البصرة كذلك»(1/46)
وثم عامل هام له أثره في تمجيد المعتزلة لشأن العقل، واعتبار المعرفة هي أساس التمايز بين البشر بدلا من عوامل العرق والنسب والوراثة. ونعني بذلك العامل تلك العصبية البغيضة التي بدأت بوادرها في أواخر العصر الأموي مقارنة لنشأة الاعتزال تقريبا والتي وصلت أقصى درجات تطرفها في العصر العباسي «فقد كانت القومية الفارسية تعتبر نفسها ندّا للقومية العربية منذ آخر عهد الأمويين، مما مهّد لنصرها بقيام الخلافة العباسية على أكتافها» وبالتالي ازدادت المشكلة حدة، خصوصا في عهد المأمون الذي أعطى للعنصر الفارسي سيادة مطلقة في شئون الحكم والدولة. وإذا كان الفرس يفخرون على العرب بحضارتهم وفلسفتهم وتراثهم الفكري، ويتهمونهم بأنهم شعب بدوي لا تسنده حضارة أو فلسفة، ومن ناحية أخرى إذا كان العرب يفخرون على الفرس بأنهم أشرف الأمم لأن التنزيل إليهم نزل، ومنهم النبي الخ، كل ذلك مما نجده مبثوثا في كتب الجاحظ ورسائله. إذا كان الأمر كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يحاول المعتزلة أن يقفوا من هذا الصراع موقفا يتسم بالتعقل. ويعدّ الاعلاء من شأن العقل والمعرفة محاولة لرفع التفاخر بالأنساب والعصبيات والأجناس، ورد قيمة الانسان اجتماعيا ودينيا إلى قيمة يتساوى الناس في ملكيتهم لها، وإن اختلفوا تبعا لمدى استخدامهم لها. ولا يجب في هذا الصدد أن ننسى أن كبار رجال المعتزلة ورؤساءهم كانوا من الموالي «فواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مؤسسا المذهب والمعروفان بالتقوى والصلاح كانا من الموالي، وأبو الهذيل العلاف شيخ معتزلة البصرة من موالي عبد القيس، وإبراهيم بن سيّار النظّام أستاذ الجاحظ بصري
من موالي آل زياد، وثمامة بن أشرس من شيوخ معتزلة البصرة من موالي بني نمير، والجاحظ العالم المعتزلي الأشهر ذو الثقافة الموسوعية كان من موالي البصرة كذلك»
1 - المعرفة والايمان والقدرة
ولقد ارتبطت قضية المعرفة وهي أساس البحث في العقل منذ نشأة الفرق الكلامية بقضية الايمان، وذلك على يد المرجئة. وانقسم المرجئة كما سبقت الاشارة إلى جبرية على رأسهم جهم بن صفوان (ت 128هـ) وإلى قدرية وعلى رأسهم غيلان الدمشقي (ت 99هـ). وإذا كانوا جميعا قد اتفقوا على تحديد الايمان بأنه معرفة الله «وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به» كما يحكى عن جهم، فمن الطبيعي أن يختلفوا حول قدرة الانسان على المعرفة بناء على اختلافهم في الجبر والاختيار. وإذا كان جهم قد ذهب إلى انكار أي قدرة للانسان على الفعل وذلك حتى تثبت القدرة لله وحده سعيا منه إلى اقامة مبدأ التوحيد ونفي مشابهة الله للبشر، فإن غيلان الدمشقي متسقا مع مبدئه في القدر ذهب إلى «ان الايمان بالله هو المعرفة الثانية» ومن حقنا أن نستنتج أن المعرفة الثانية هي المعرفة الناتجة عن النظر، وذلك للتفرقة بينها وبين المعرفة الأولى التي يجدها الانسان في نفسه دون نظر أو استدلال، وهو ما يطلق عليه في اصطلاح المتكلمين التالين المعرفة الضرورية.
ومعنى ذلك أن معرفة الله عند غيلان تعدّ نتيجة لفعل انساني هو النظر، وهو فعل يقع تحت مقدور الانسان وبحسب ارادته. ويمكننا بناء على ذلك أن نلمح في هذه المرحلة الباكرة ارتباط قضية المعرفة بالايمان من جانب، وارتباطها بالقدرة الانسانية وحرية الاختيار من جانب آخر.
وظلّ هذا الارتباط بين المعرفة والقدرة والايمان قائما عند أبي الهذيل، حتى اشترط لقدرة الانسان على الشيء «أن يكون عارفا لكيفيته وما لا يعرف كيفيته لا يقدر عليه فهو يقول: جائز أن يقدر الله عباده على الحركات والسكون والأصوات والآلام وسائر ما يعرفون كيفيته فأمّا الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعوم والأراييح والحياة والموت والعجز والقدرة فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء من ذلك». وهذه التفرقة بين ما يقدر الانسان عليه وما لا يقدر ترتدّ إلى المعرفة الانسانية. وقدرة الانسان نفسها هي قدرة من فعل الله القادر على كل شيء. وواضح أن أبا الهذيل هنا كان يفرّق بين قدرة الله وقدرة الانسان، ويبدو أنه كان يحاول رفع التناقض الذي ظلّ قائما بين القول بقدرة
الانسان على الفعل، وبين الايمان بقدرة الله الشاملة وإرادته النافذة، ذلك الايمان الذي يعدّ أساس التوحيد المطلق عند أتقياء المسلمين. ولكن أبا الهذيل يظلّ رغم ذلك معترفا بأن المعرفة فعل انساني، وأن القدرة التي يمنحها الله للانسان تتعلّق بهذه المعرفة. ومن شأن هذا التصور أن يؤدي من جديد إلى ما حاول أبو الهذيل الهرب منه، بمعنى أنه يؤدي إلى ربط القدرة الإلهية الممنوحة للعبد بفعل من أفعال العبد هو المعرفة. وللخروج من هذا المأزق يضطر أبو الهذيل إلى القول بأن «المعارف ضربان: أحدهما باضطرار وهو معرفة الله عزّ وجل، ومعرفة الدليل الداعي إلى معرفته، وما بعدهما من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب» وهو بذلك يقف موقفا وسطا بين جبرية جهم في المعرفة، واختيارية غيلان الدمشقي. ولكن جبريته في معرفة الله عن طريق اعتبارها معرفة ضرورية يعدّ أمرا غريبا، ولكنه من جانب آخر يكشف عن ذلك التصادم بين أهم مبدأين من مبادئ المعتزلة، وهما «العدل» و «التوحيد» «فبينا كان من شأن اثبات الوحدانية الإلهية أن يفضي آخر الأمر إلى الإقرار بسلطة الله المطلقة على الكون، كان فحوى قولهم أن الانسان خالق أفعاله هو الحدّ من هذه السلطة».(1/47)
وظلّ هذا الارتباط بين المعرفة والقدرة والايمان قائما عند أبي الهذيل، حتى اشترط لقدرة الانسان على الشيء «أن يكون عارفا لكيفيته وما لا يعرف كيفيته لا يقدر عليه فهو يقول: جائز أن يقدر الله عباده على الحركات والسكون والأصوات والآلام وسائر ما يعرفون كيفيته فأمّا الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعوم والأراييح والحياة والموت والعجز والقدرة فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء من ذلك». وهذه التفرقة بين ما يقدر الانسان عليه وما لا يقدر ترتدّ إلى المعرفة الانسانية. وقدرة الانسان نفسها هي قدرة من فعل الله القادر على كل شيء. وواضح أن أبا الهذيل هنا كان يفرّق بين قدرة الله وقدرة الانسان، ويبدو أنه كان يحاول رفع التناقض الذي ظلّ قائما بين القول بقدرة
الانسان على الفعل، وبين الايمان بقدرة الله الشاملة وإرادته النافذة، ذلك الايمان الذي يعدّ أساس التوحيد المطلق عند أتقياء المسلمين. ولكن أبا الهذيل يظلّ رغم ذلك معترفا بأن المعرفة فعل انساني، وأن القدرة التي يمنحها الله للانسان تتعلّق بهذه المعرفة. ومن شأن هذا التصور أن يؤدي من جديد إلى ما حاول أبو الهذيل الهرب منه، بمعنى أنه يؤدي إلى ربط القدرة الإلهية الممنوحة للعبد بفعل من أفعال العبد هو المعرفة. وللخروج من هذا المأزق يضطر أبو الهذيل إلى القول بأن «المعارف ضربان: أحدهما باضطرار وهو معرفة الله عزّ وجل، ومعرفة الدليل الداعي إلى معرفته، وما بعدهما من العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس فهو علم اختيار واكتساب» وهو بذلك يقف موقفا وسطا بين جبرية جهم في المعرفة، واختيارية غيلان الدمشقي. ولكن جبريته في معرفة الله عن طريق اعتبارها معرفة ضرورية يعدّ أمرا غريبا، ولكنه من جانب آخر يكشف عن ذلك التصادم بين أهم مبدأين من مبادئ المعتزلة، وهما «العدل» و «التوحيد» «فبينا كان من شأن اثبات الوحدانية الإلهية أن يفضي آخر الأمر إلى الإقرار بسلطة الله المطلقة على الكون، كان فحوى قولهم أن الانسان خالق أفعاله هو الحدّ من هذه السلطة».
وتزداد هذه المشكلة حدة عند كل من النظّام (ت 230هـ) والجاحظ (ت 255هـ)، فقد أراد النظّام أن ينفي عن الله القدرة على الظلم والكذب وسائر القبائح، وغالى في ذلك حتى أخضع الفعل الإلهي لقانون أخلاقي صارم جعله يقترب من أن يكون سبحانه مجبورا في أفعاله غير مخيّر. والغاية التي كان يسعى لها النظّام من اخضاع الفعل الإلهي للقانون الأخلاقي هي نفي مشابهته للبشر الذين يقع منهم الظلم، ذلك «أن الظلم والكذب لا يقعان إلّا من جسم ذي آفة فالواصف لله بالقدرة عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة، لأن القادر على شيء غير محال وقوعه منه فلو وقعا منه لدلّ وقوعهما منه على أنه جسم ذو آفة». غير أن نفي قدرة الله على فعل من الأفعال كان من شأنه أن يخلّ بمبدإ التوحيد الذي يسعى النظّام لتأكيده، ولذلك كان على النظّام أن يؤكّد خيرية الله المطلقة في مواجهة الانسان الذي يتأتى منه الخير والشر. وليس من المستبعد في هذه الحالة أن يكون النظّام قد تأثر في أفكاره تلك بالأفكار المانوية التي قام بجهد كبير في مجادلة معتنقيها ومحاولة نفي قولهم بالاثنينية التي تفسّر وجود الشر والخير في العالم تفسيرا يسلّم بصدورهما عن قوتين متعارضتين.
وكان من الطبيعي أن يخضع تأثر النظّام بهذه الأفكار لاتجاهات الفكر الديني الاعتزالي، وأن يوظّف لخدمة مقولاته الأساسية وهي العدل والتوحيد. وما دام قد
ذهب إلى توحيد الفعل الإلهي الذي لا يمكن إلّا أن يتصف بصفة الخيرية المطلقة، فقد كان من الطبيعي أن يوحّد الفعل الحيواني، فذهب إلى أن «أفعال الحيوان كلها من جنس واحد وهي كلها حركة وسكون، والسكون عنده حركة اعتماد، والعلوم والإرادات عنده من جملة الحركات، وهي الأعراض، والأعراض كلها عنده جنس واحد، وهي كلها حركات». فالفعل الانساني متضمنا العلوم والإرادات جنس واحد يرجع كله إلى الحركة والسكون. والسكون عند النظّام هو حركة الاعتماد، فهو نوع من الحركة أيضا. وإذا كانت الأعراض عند النظّام كلها حركات، فإن الانسان لا يقدر بذلك إلّا على الأعراض، وذلك على عكس الله الذي يقدر على الأعراض والجواهر معا، وبذلك تتميز قدرة الله على قدرة الانسان وتعلو عليها.(1/48)
وكان من الطبيعي أن يخضع تأثر النظّام بهذه الأفكار لاتجاهات الفكر الديني الاعتزالي، وأن يوظّف لخدمة مقولاته الأساسية وهي العدل والتوحيد. وما دام قد
ذهب إلى توحيد الفعل الإلهي الذي لا يمكن إلّا أن يتصف بصفة الخيرية المطلقة، فقد كان من الطبيعي أن يوحّد الفعل الحيواني، فذهب إلى أن «أفعال الحيوان كلها من جنس واحد وهي كلها حركة وسكون، والسكون عنده حركة اعتماد، والعلوم والإرادات عنده من جملة الحركات، وهي الأعراض، والأعراض كلها عنده جنس واحد، وهي كلها حركات». فالفعل الانساني متضمنا العلوم والإرادات جنس واحد يرجع كله إلى الحركة والسكون. والسكون عند النظّام هو حركة الاعتماد، فهو نوع من الحركة أيضا. وإذا كانت الأعراض عند النظّام كلها حركات، فإن الانسان لا يقدر بذلك إلّا على الأعراض، وذلك على عكس الله الذي يقدر على الأعراض والجواهر معا، وبذلك تتميز قدرة الله على قدرة الانسان وتعلو عليها.
غير أن الفعل الانساني الحركة ينقسم إلى فعل مباشر، وهو ما يفعله الانسان في نفسه، وفعل متولّد، وهو ما يتجاوز نطاق ذاته وذلك كأن يلقي الانسان بحجر في ماء راكد، فيتحرك الماء بحركة الحجر. فحركة الحجر تعدّ فعلا مباشرا للانسان، أمّا حركة الماء فهي فعل متولد عن حركة الحجر. ولقد كان النقاش حول الفعل المتولّد ومدى مسئولية الانسان عنه امتدادا للبحث في مسئولية الانسان عن فعله نتيجة لتأكيد المعتزلة على قدرة الانسان على الفعل.
ولقد كان رأي أبو الهذيل العلاف كما أشرنا أن ما يعرف الانسان كيفيته من الأفعال هو ما يقدر عليه، ويعدّ بالتالي مسئولا عنه. سواء كان فعلا مباشرا أو متولّدا. أمّا النظّام فقد ذهب إلى أن الفعل المتولّد ليس فعلا للانسان على الحقيقة، وإنما هو «فعل الله جل وعز بايجاب الخلقة، بمعنى أنه تعالى طبع الحجر طبعا وخلقه خلقا إذا دفعته ذهب» وليست فكرة الطبع هذه عند النظّام إلّا محاولة لتأكيد القدرة الإلهية الشاملة التي قد يقلل منها اخضاع الفعل الإلهي للقانون الأخلاقي. ولكن القدرة الإلهية هنا تعبّر عن نفسها من خلال قوانين طبيعية من صنعها وغير مفروضة عليها من الخارج. ويصبح الانسان نفسه بكل قدرته على الفعل جزءا من هذا القانون، وبذلك ينتفي التعارض ويزول اعتراض المعترضين.
والإدراك أول مراتب المعرفة يتولّد عن حركة الحواس، فإدراك المرئيات يتولّد عن فتح العين وتوجهها تجاه المرئي. وهو بهذا الفهم يعدّ جزءا من الأفعال المتولّدة التي تقع عن الطبع الذي خلقه الله «وكان أبو اسحاق النظّام يقول في الإدراك خاصة أن الله سبحانه يفعله بايجاب خلقه وبحواس» وعلى ذلك
يمنع النظّام أن يقول قائل «إنما رأيتك لأني التفت. وهو إنما رآه لطبع في البصر الدرّاك» الذي يتولّد عنه الرؤية أو الإدراك. وإذا كان الإدراك يعدّ فعلا لله لأنه فعل متولّد، فإن المعرفة بأكملها وهي متولّدة عن النظر فعل الله أيضا بايجاب حركة القلب، وذلك تأسيسا على تعريف النظّام للعلم بأنه «حركة من حركات القلب». ولقد بلغ من سيطرة فكرة الطبع على ذهن النظّام أن جعلها مدخله لإثبات وجود الله، وذلك على أساس أن اجتماع الضدين دليل على أن ثمّ من قهرهما على غير طبعهما «وجدت الحر مضادا للبرد ووجدت الضدين لا يجتمعان في موضع واحد من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودهما مجتمعين أن لهما جامعا جمعهما وقاهرا قهرهما على خلاف شأنهما. وما جرى عليه القهر والمنع فضعيف، وضعفه ونفوذ تدبير قاهرة فيه دليل على حدوثه وعلى أن له محدثا أحدثه ومخترعا اخترعه لا يشبهه، لأن حكم ما أشبهه حكمه في دلالته على الحدث، وهو الله رب العالمين» وهذا كله يؤكّد ارتباط قضية المعرفة والبحث فيها بقضايا العدل والتوحيد أساس الفكر الاعتزالي.(1/49)
والإدراك أول مراتب المعرفة يتولّد عن حركة الحواس، فإدراك المرئيات يتولّد عن فتح العين وتوجهها تجاه المرئي. وهو بهذا الفهم يعدّ جزءا من الأفعال المتولّدة التي تقع عن الطبع الذي خلقه الله «وكان أبو اسحاق النظّام يقول في الإدراك خاصة أن الله سبحانه يفعله بايجاب خلقه وبحواس» وعلى ذلك
يمنع النظّام أن يقول قائل «إنما رأيتك لأني التفت. وهو إنما رآه لطبع في البصر الدرّاك» الذي يتولّد عنه الرؤية أو الإدراك. وإذا كان الإدراك يعدّ فعلا لله لأنه فعل متولّد، فإن المعرفة بأكملها وهي متولّدة عن النظر فعل الله أيضا بايجاب حركة القلب، وذلك تأسيسا على تعريف النظّام للعلم بأنه «حركة من حركات القلب». ولقد بلغ من سيطرة فكرة الطبع على ذهن النظّام أن جعلها مدخله لإثبات وجود الله، وذلك على أساس أن اجتماع الضدين دليل على أن ثمّ من قهرهما على غير طبعهما «وجدت الحر مضادا للبرد ووجدت الضدين لا يجتمعان في موضع واحد من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودهما مجتمعين أن لهما جامعا جمعهما وقاهرا قهرهما على خلاف شأنهما. وما جرى عليه القهر والمنع فضعيف، وضعفه ونفوذ تدبير قاهرة فيه دليل على حدوثه وعلى أن له محدثا أحدثه ومخترعا اخترعه لا يشبهه، لأن حكم ما أشبهه حكمه في دلالته على الحدث، وهو الله رب العالمين» وهذا كله يؤكّد ارتباط قضية المعرفة والبحث فيها بقضايا العدل والتوحيد أساس الفكر الاعتزالي.
لا يختلف الجاحظ عن أستاذه كثيرا في منحاه الفكري العام، وفي موقفه من قضية المعرفة والقدرة والطبع أيضا. يتميّز الانسان عند الجاحظ عن غيره من الكائنات الحيوانية بقدرته واستطاعته على الفعل والاختيار. ويترتب على القدرة والاستطاعة وجود العقل «إن الفرق الذي بين الانسان والبهيمة، والانسان والسبع والحشرة، والذي صيّر الانسان الى استحقاق قول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} ليس هو الصورة، وأنه خلق من نطفة وأن أباه خلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال كلها مجموعة في البله والمجانين، والأطفال والمنقوصين. والفرق إنما هو الاستطاعة والتمكين. وفي وجود الاستطاعة وجود العقل والمعرفة. وليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة». فالعقل تابع من توابع الاستطاعة، والمعرفة نتيجة لها، بمعنى أن انعدام القدرة والاستطاعة يلغي فاعلية العقل ويهدم أساس المعرفة، وعلى ذلك تعدّ الاستطاعة أساسا لوجود العقل الذي يترتب على وجوده وجود المعرفة.
غير أن الجاحظ يربط المعرفة والعقل بالحاجة الانسانية وضروراتها، فهو يحكي على لسان أحد الحكماء «وقيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: ساعة ولدت. فلما رأى انكارهم لكلامه قال: أمّا أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الأكل حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها، فلا حاجة
به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل». ومعنى ذلك أن حاجات الطفل الحيوية الطبيعية هي التي تحدد له معارفه، التي أطلق عليها الجاحظ اسم العقل، وهو الإحساس بما يريد ويحتاج.(1/50)
غير أن الجاحظ يربط المعرفة والعقل بالحاجة الانسانية وضروراتها، فهو يحكي على لسان أحد الحكماء «وقيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: ساعة ولدت. فلما رأى انكارهم لكلامه قال: أمّا أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الأكل حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت. يقول هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أعطيها، فلا حاجة
به في ذلك الوقت إلى أكثر من ذلك العقل». ومعنى ذلك أن حاجات الطفل الحيوية الطبيعية هي التي تحدد له معارفه، التي أطلق عليها الجاحظ اسم العقل، وهو الإحساس بما يريد ويحتاج.
ينتقل الجاحظ بعد ذلك من حالة الطفل، أو الانسان منفردا، إلى الجماعة فيرى «أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم». وإذا كان الطفل لا يحتاج من العقل أو المعرفة إلّا بمقدار حاجاته الحيوية، فإن الجماعة البشرية والاجتماع في طبائع الناس لها بالضرورة احتياجاتها الجديدة، التي تتطلّب وسائل جديدة تعين الانسان على المعرفة وإدراك عالميه الطبيعي والانساني معا، ثم بعد ذلك معرفة عالم الغيب ومعرفة الله الذي سخّر له كل ما في العالم من جماد ونبات وحيوان، ليستعين به في حياته أولا، وليستدلّ به ثانيا. وبذلك كله تصبح المعرفة بمعناها العام ضرورة للاجتماع البشري. وتترقى المعرفة تبعا لذلك من التمييز بين الضار والنافع وهذه هي المرحلة الدنيا للوجود الانساني حتى تصل إلى المعرفة التي تؤدّي إلى السعادة، وبذلك يترقى الانسان «من معرفة الحواس إلى معرفة العقول. ومن معرفة الروية من غاية إلى غاية، حتى لا يرضى من العلم والعمل إلّا بما أدّاه إلى الثواب الدائم، ونجّاه من العقاب الدائم».
بهذا الربط بين المعرفة والحاجة الانسانية، كان من الطبيعي أن يعتبر الجاحظ المعرفة ضرورة من ضرورات الوجود البشري. ولمّا كانت فكرة الصلاح والأصلح وهي الفكرة التي وضع النظّام أساسها الفلسفي تقتضي أن يفعل الله ما فيه خير البشر ونفعهم وصلاحهم، كان من الطبيعي القول بأن المعرفة فعل لله. غير أن اسناد المعرفة لله من شأنه أن يخلّ بمبدإ القدرة الانسانية التي اعتبرها الجاحظ أساس وجود العقل والمعرفة، ولذلك يحلّ الجاحظ هذا التعارض باللجوء لفكرة «الطبائع» التي لجأ إليها استاذه، ومن ثمّ يذهب إلى أن «المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد كسب سوى الإرادة، وتحصل أفعاله منه طباعا» ويؤكّد القاضي عبد الجبار ما يرويه البغدادي والشهرستاني عن الجاحظ وغيره من المعتزلة من اعتبار كل أفعال الانسان من فعل الله وإن وقع من الانسان بطبعه باستثناء الإرادة التي يعدونها هي الفعل الانساني الذي تترتّب عليه مسئولية الانسان عن فعله، ومن ثمّ استحقاقه للثواب والعقاب. يقول «ومنهم من قال إن الانسان إنما يفعل الإرادة فقط دون ما عداه، وهو قول ثمامة والجاحظ،
واختلفوا فيما سوى الإرادة، فقال أبو عثمان الجاحظ أنه يقع من الانسان بطبعه، وأنه ليس باختيار له». ويترتب على القول بضرورية المعرفة وربطها بقانون الطبائع عند الجاحظ وغيره من المعتزلة نوع من الجبرية في الايمان تؤدي إلى القول بأن الكافر ليس قادرا على الايمان لانه مما لا يحتمله طبعه الذي هو من خلق الله فيه. ولكن الجاحظ يحاول إنكار هذه النتيجة وذلك عن طريق القول بأن الكافر قد وقعت له المعرفة الضرورية بالله وصفاته، ولكنه كفر بعناده وانكاره واصراره على هذا العناد والانكار «والكفار عنده ما بين معاند وعارف قد استغرقه حبه لمذهبه».(1/51)
بهذا الربط بين المعرفة والحاجة الانسانية، كان من الطبيعي أن يعتبر الجاحظ المعرفة ضرورة من ضرورات الوجود البشري. ولمّا كانت فكرة الصلاح والأصلح وهي الفكرة التي وضع النظّام أساسها الفلسفي تقتضي أن يفعل الله ما فيه خير البشر ونفعهم وصلاحهم، كان من الطبيعي القول بأن المعرفة فعل لله. غير أن اسناد المعرفة لله من شأنه أن يخلّ بمبدإ القدرة الانسانية التي اعتبرها الجاحظ أساس وجود العقل والمعرفة، ولذلك يحلّ الجاحظ هذا التعارض باللجوء لفكرة «الطبائع» التي لجأ إليها استاذه، ومن ثمّ يذهب إلى أن «المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد كسب سوى الإرادة، وتحصل أفعاله منه طباعا» ويؤكّد القاضي عبد الجبار ما يرويه البغدادي والشهرستاني عن الجاحظ وغيره من المعتزلة من اعتبار كل أفعال الانسان من فعل الله وإن وقع من الانسان بطبعه باستثناء الإرادة التي يعدونها هي الفعل الانساني الذي تترتّب عليه مسئولية الانسان عن فعله، ومن ثمّ استحقاقه للثواب والعقاب. يقول «ومنهم من قال إن الانسان إنما يفعل الإرادة فقط دون ما عداه، وهو قول ثمامة والجاحظ،
واختلفوا فيما سوى الإرادة، فقال أبو عثمان الجاحظ أنه يقع من الانسان بطبعه، وأنه ليس باختيار له». ويترتب على القول بضرورية المعرفة وربطها بقانون الطبائع عند الجاحظ وغيره من المعتزلة نوع من الجبرية في الايمان تؤدي إلى القول بأن الكافر ليس قادرا على الايمان لانه مما لا يحتمله طبعه الذي هو من خلق الله فيه. ولكن الجاحظ يحاول إنكار هذه النتيجة وذلك عن طريق القول بأن الكافر قد وقعت له المعرفة الضرورية بالله وصفاته، ولكنه كفر بعناده وانكاره واصراره على هذا العناد والانكار «والكفار عنده ما بين معاند وعارف قد استغرقه حبه لمذهبه».
وننتهي من كل ذلك إلى أن قضية المعرفة ارتبطت في أصولها الكلامية بقضية الايمان من جانب، والقدرة الانسانية من جانب آخر. ومن السهل أن نردّ كل محاولات العلاف والنظّام والجاحظ لرفع التناقض بين القول بقدرة الانسان والقول بضرورة المعرفة إلى رغبتهم في رفع التناقض بين «العدل» و «التوحيد» ذلك التناقض الذي كان يطرحه خصوم المعتزلة دائما في وجوههم لدرجة اتهامهم بالشرك لأنهم يجعلون مع الله خالقا آخر هو الانسان. غير أنه من الصعب على الباحث تقويم جهود المعتزلة في هذه القضية، والحكم عليها سلبا أو ايجابا، فذلك أمر يخرج عن نطاق البحث، كما أنه يخرج عن حدود امكانيات الباحث وأدواته. والذي يهمنا هو محاولة استجلاء رأيهم في طبيعة النشاط العقلي وصولا إلى المعرفة لنرى حدود هذا النشاط ومجالاته.
2 - مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند الحارث المحاسبي والباقلاني
يعدّ كتاب «العقل» للحارث المحاسبي (ت 243هـ) أول مؤلّف فيما نعلم يتناول تعريف العقل ويعين حدود نشاطه. ويعدّ الحارث المحاسبي نفسه أول من تكلم في اثبات الصفات وإليه ينسب أكثر متكلمي الصفاتية وهو ينتسب إلى المدرسة الكلابية التي تزعمها عبد الله الكلابي (ت 240هـ) والتي يعدها الأشاعرة أساس مدرستهم «وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث معول متكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم» ويؤمن رجال هذه المدرسة «أنه لا خالق إلّا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئا». ولقد حاول الأشاعرة ورائدهم تربّى في أحضان المعتزلة التخفيف من هذه الصياغة الجبرية لمبدأ التوحيد، فذهبوا إلى أن الفعل الانساني مخلوق لله ويكتسب من جهة العبد
بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل «فهي منه خلق وللعباد كسب».(1/52)
يعدّ كتاب «العقل» للحارث المحاسبي (ت 243هـ) أول مؤلّف فيما نعلم يتناول تعريف العقل ويعين حدود نشاطه. ويعدّ الحارث المحاسبي نفسه أول من تكلم في اثبات الصفات وإليه ينسب أكثر متكلمي الصفاتية وهو ينتسب إلى المدرسة الكلابية التي تزعمها عبد الله الكلابي (ت 240هـ) والتي يعدها الأشاعرة أساس مدرستهم «وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث معول متكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم» ويؤمن رجال هذه المدرسة «أنه لا خالق إلّا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئا». ولقد حاول الأشاعرة ورائدهم تربّى في أحضان المعتزلة التخفيف من هذه الصياغة الجبرية لمبدأ التوحيد، فذهبوا إلى أن الفعل الانساني مخلوق لله ويكتسب من جهة العبد
بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل «فهي منه خلق وللعباد كسب».
في اطار هذه النظرة للقدرة الانسانية، وهي نظرة تظلّ رغم مقولة الكسب الأشعرية أقرب إلى الجبر منها إلى الحرية، يصبح مفهوم العقل أنه «غريزة جعلها الله في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة» وهو «غريزة يولد العبد بها ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالّة على المعقول». والتفرقة بين الغريزة التي يولد العبد بها، وبين المعرفة التي تسبب زيادة العقل تفترض بالضرورة أن العقل الذي هو الغريزة أساس ووسيلة للمعرفة. والمعرفة نفسها تنشأ عن استخدام العقل وذلك عن طريق النظر في الأدلّة. ومعنى ذلك أن ثمّ ثلاث مراحل للمعرفة الكاملة: المرحلة الأولى هي الغريزة الفطرية التي «وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه لم يطّلع عليها العباد بعضهم من بعض ولا اطّلعوا عليها من أنفسهم بروية، ولا بحس ولا ذوق، ولا طعم. وإنما عرّفهم الله إياها بالعقل منه» أي أنها غريزة لا يمكن التعرّف عليها إلّا بالعقل نفسه، فهي غريزة غير مرئية أو محسوسة أو ملموسة. أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الاستدلال والنظر. ويقسم الحارث المحاسبي الأدلّة إلى نوعين «عيان ظاهر، أو خبر قاهر. والعقل مضمّن بالدليل، والدليل مضمّن بالعقل.
والعقل هو المستدلّ. والعيان والخبر هما علّة الاستدلال وأصله. ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. فالعيان شاهد يدلّ على الغيب. والخبر يدلّ على صدق، فمن تناول الفرع قبل احكام الأصل سفّه».
والفرع هنا هو الاستدلال، والأصل هو الأدلة. وتقسيم الأدلة إلى هذين النوعين، العيان والخبر، واعتبار العقل هو المستدلّ يعبّر عن ايمان بفاعلية العقل وقدرته على الوصول إلى المعرفة عن طريق النظر في الأدلّة. غير أننا يجب أن لا ننسى أن العقل غريزة من خلق الله، وكذلك علينا أن لا ننسى أن الأدلّة هي التي أقامها الله أمام أعين المكلفين لينظروا فيها ويستدلوا، فالعيان هو الأدلّة المادية القائمة في العالم والتي تدلّ على احكام الصنعة ووجود الخالق والمبدع والمخترع.
والخبر على مستوى المعرفة الدينية هو خطاب الله للبشر على ألسنة رسله.
والمرحلة الثالثة بعد مرحلة الاستدلال والنظر هي مرحلة المعرفة أو كمال العقل. ويتفاوت البشر في هذه المرحلة، بناء على تفاوتهم في القدرة على النظر والاستدلال. وفي هذا الصدد يقسم الحارث المحاسبي الناس على أربع فرق «فرقة عقلت عن الله تعالى عظم قدره وقدرته وما وعد وتوعد، فأطاعت وخشعت وفرقة
عقلت البيان ثم جحدت كبرا وعنادا لطلب الدنيا». «وفرقة طغت، وأعجبت، وقلّدت، فعميت عن الحق أن تتبينه ثم تقربه، ثم تجحده كبرا وطلب دنيا بعد عقلها للبيان فظنت أنها على حق ودين وهي على باطل وشر وضلال. وفرقة رابعة عقلت قدر الله عز وجل في تدبيره وتفرّده بالصنع، وعرفت قدر الايمان في النجاة بالتمسك به، وقدر العقاب في ضرره في مجانبة الايمان، فلم يجحدوا كبرا ولا أنفة ولا طلب دنيا لعقلها أن عاجل الدنيا يفنى، وعذاب الآخرة لا يفنى. فأقرّت وآمنت، ولم تعقل عظيم قدر الله في هيبته، وجلاله، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في اتيان معاصيه، والقيام بفرائضه، فعصت، وضيّعت، وغفلت، ونسيت، إلّا أنها علمت عظيم قدر الايمان في النجاة، وعظيم ضرر الكفر، قد عقلته عن الله تعالى فهي قائمة به، دائمة عليه». ورغم أن الفارق بين هذه الفرق الأربع يكمن في السلوك العملي المترتب على المعرفة، فإن الحارث يعتبره فارقا في الفهم والمعرفة والعقل. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحارث صوفي يعطي للعمل والسلوك الديني والمجاهدة الروحية دورا خطيرا في الحكم على البشر، ومن ثمّ لا يفصل بين المعرفة والسلوك العملي، ويعتبر التهاون في العمل نقصا في المعرفة الحقّة كما يفهمها المتصوفة. ويكاد الحارث يقترب مما قاله الجاحظ من أن المعرفة حاصلة لكل البشر لولا أنهم جحدوا وعاندوا طلبا للدنيا، أو تقليدا وجريا وراء ما ألفوه. والفارق بينه وبين الجاحظ أنه يرى أن الله «قد يخصّ بالتنبيه والتوفيق من يشاء من عباده، ويختصّ بجواره من أحبّ من خلقه» وبالتالي يردّ التهاون في العمل والكفر وكل معاصي الانسان إلى إرادة الله الشاملة.(1/53)
والمرحلة الثالثة بعد مرحلة الاستدلال والنظر هي مرحلة المعرفة أو كمال العقل. ويتفاوت البشر في هذه المرحلة، بناء على تفاوتهم في القدرة على النظر والاستدلال. وفي هذا الصدد يقسم الحارث المحاسبي الناس على أربع فرق «فرقة عقلت عن الله تعالى عظم قدره وقدرته وما وعد وتوعد، فأطاعت وخشعت وفرقة
عقلت البيان ثم جحدت كبرا وعنادا لطلب الدنيا». «وفرقة طغت، وأعجبت، وقلّدت، فعميت عن الحق أن تتبينه ثم تقربه، ثم تجحده كبرا وطلب دنيا بعد عقلها للبيان فظنت أنها على حق ودين وهي على باطل وشر وضلال. وفرقة رابعة عقلت قدر الله عز وجل في تدبيره وتفرّده بالصنع، وعرفت قدر الايمان في النجاة بالتمسك به، وقدر العقاب في ضرره في مجانبة الايمان، فلم يجحدوا كبرا ولا أنفة ولا طلب دنيا لعقلها أن عاجل الدنيا يفنى، وعذاب الآخرة لا يفنى. فأقرّت وآمنت، ولم تعقل عظيم قدر الله في هيبته، وجلاله، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في اتيان معاصيه، والقيام بفرائضه، فعصت، وضيّعت، وغفلت، ونسيت، إلّا أنها علمت عظيم قدر الايمان في النجاة، وعظيم ضرر الكفر، قد عقلته عن الله تعالى فهي قائمة به، دائمة عليه». ورغم أن الفارق بين هذه الفرق الأربع يكمن في السلوك العملي المترتب على المعرفة، فإن الحارث يعتبره فارقا في الفهم والمعرفة والعقل. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أن الحارث صوفي يعطي للعمل والسلوك الديني والمجاهدة الروحية دورا خطيرا في الحكم على البشر، ومن ثمّ لا يفصل بين المعرفة والسلوك العملي، ويعتبر التهاون في العمل نقصا في المعرفة الحقّة كما يفهمها المتصوفة. ويكاد الحارث يقترب مما قاله الجاحظ من أن المعرفة حاصلة لكل البشر لولا أنهم جحدوا وعاندوا طلبا للدنيا، أو تقليدا وجريا وراء ما ألفوه. والفارق بينه وبين الجاحظ أنه يرى أن الله «قد يخصّ بالتنبيه والتوفيق من يشاء من عباده، ويختصّ بجواره من أحبّ من خلقه» وبالتالي يردّ التهاون في العمل والكفر وكل معاصي الانسان إلى إرادة الله الشاملة.
يعدّ الباقلاني (ت 403هـ) أول متكلم أفرد في مؤلفاته مقدمات أسهب فيها في الحديث عن المعرفة ووسائلها وشروطها. وإذا كان الباقلاني يعدّ من مؤصلي الفكر الأشعري، فإنه ليس مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمين عليه، بل قد تمّ على يديه توضيح بعض النقط وتحديد بعض المفهومات مما أدّى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة». والنقطة التي تهمنا في هذا المجال هي تعديله لمذهب الأشعري في الكسب والقدرة الحادثة للعبد. فقد ذهب الأشعري إلى أن الفعل مكتسب للعبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل، ولم يجعل لهذه القدرة الحادثة أي فعالية في الفعل نفسه «غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له، ويسمى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من الله تعالى ابداعا واحداثا، وكسبا من العبد: حصولا تحت القدرة الحادثة».
وقد ذهب الباقلاني متأثرا في ذلك بالمعتزلة إلى اثبات تأثير للقدرة الحادثة في
حال الفعل، بمعنى أن الحركة التي يأتيها الانسان هي فعل لله يكتسبه العبد بالقدرة الحادثة، ولكن هذه القدرة الحادثة هي التي تؤثر في الحال الحركة فتجعلها قياما أو قعودا أو صلاة أو سجودا. وبكلمات أخرى فإن تحويل الحركة المخلوقة لله والمكتسبة من العبد إلى طاعة أو إلى معصية، والحركة تحتمل الأمرين، أمر من فعل العبد بهذه القدرة الحادثة «وتلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب. خصوصا على أصل المعتزلة، فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء. والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح» وهكذا انتهى الباقلاني إلى تحميل الانسان مسئولية قبح الفعل وحسنه، ونفى ذلك عن الله نفيا تاما، وبذلك نجح في سد الثغرة التي كانت قائمة بين «العدل» و «التوحيد» وأخضع كل ما يحدث في العالم لقدرة الله وإرادته الشاملة.(1/54)
وقد ذهب الباقلاني متأثرا في ذلك بالمعتزلة إلى اثبات تأثير للقدرة الحادثة في
حال الفعل، بمعنى أن الحركة التي يأتيها الانسان هي فعل لله يكتسبه العبد بالقدرة الحادثة، ولكن هذه القدرة الحادثة هي التي تؤثر في الحال الحركة فتجعلها قياما أو قعودا أو صلاة أو سجودا. وبكلمات أخرى فإن تحويل الحركة المخلوقة لله والمكتسبة من العبد إلى طاعة أو إلى معصية، والحركة تحتمل الأمرين، أمر من فعل العبد بهذه القدرة الحادثة «وتلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب. خصوصا على أصل المعتزلة، فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء. والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح» وهكذا انتهى الباقلاني إلى تحميل الانسان مسئولية قبح الفعل وحسنه، ونفى ذلك عن الله نفيا تاما، وبذلك نجح في سد الثغرة التي كانت قائمة بين «العدل» و «التوحيد» وأخضع كل ما يحدث في العالم لقدرة الله وإرادته الشاملة.
وإذا كانت مقدمات الباقلاني عن المعرفة في كتبه تعدّ أول مقدمات وافية تصلنا عن هذا الموضوع، فمن المؤكد أنه تأثر فيها خطى المعتزلة وآراءهم، تلك الآراء التي لم تصلنا متكاملة، وإن بقيت منها شذرات حاولنا قدر الامكان أن نتعرّف عليها فيما سبق.
يعرّف الباقلاني العلم بأنه «معرفة المعلوم على ما هو به» ويقسمه إلى نوعين «فعلم قديم، وهو علم الله، عز وجل، وليس بعلم ضرورة ولا استدلال، وعلم محدث، وهو كل ما يعلم به المخلوقون من الملائكة والجن والأنس وغيرهم من الحيوان». وينقسم علم المخلوقين إلى قسمين «فقسم منها علم ضرورة، والثاني منها علم نظر واستدلال».
أمّا العلم الضروري فهو «علم يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه، ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به» وهذه العلوم الضرورية «تقع للخلق من ستة طرق. فمنها درك الحواس الخمس وهي: حاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحاسة الذوق، وحاسة الشم، وحاسة اللمس. وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، ولون وكون، وكلام، وصوت، ورائحة، وطعم، وحرارة، وبرودة، ولين، وخشونة، وصلابة، ورخاوة، فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس لا عن درك ببعض الحواس وذلك نحو علم الانسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذّة والألم، والغمّ والفرح، والقدرة، والعجز، والصحة، والسقم. والعلم
بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق وكل معلوم بأوائل العقول». ومن الواضح أن هذا العلم الضروري هو علم المحسوسات أو الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمسة. والمعرفة الحسية عند الباقلاني معرفة ضرورية لا يمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلقها. ويضاف إلى هذه الحواس الخمسة ما يطلق عليه الباقلاني «أوائل العقول» التي «تخترع في النفس ابتداء من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس». ويبدو أن الباقلاني بذلك يساوي بين المعرفة الحسية والمعرفة البديهية أوائل العقول ولا يعلّق ثانيتهما بأولاهما. بل هو يؤكّد هذا الانفصال الكامل بينهما بقوله «فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس، وجدت هذه الحواس وما يوجد بها من الإدراكات أو لم توجد» وليس من المستبعد أن تكون هذه العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبديهي من خلق الله، ولا قدرة للانسان عليها أصلا، فهي مما يجده الانسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليها» وحقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما أكره العالم به على وجوده، لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل والاكراه، وهو الالجاء».(1/55)
أمّا العلم الضروري فهو «علم يلزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الخروج عنه ولا الانفكاك منه، ولا يتهيأ له الشك في متعلقه ولا الارتياب به» وهذه العلوم الضرورية «تقع للخلق من ستة طرق. فمنها درك الحواس الخمس وهي: حاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحاسة الذوق، وحاسة الشم، وحاسة اللمس. وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، ولون وكون، وكلام، وصوت، ورائحة، وطعم، وحرارة، وبرودة، ولين، وخشونة، وصلابة، ورخاوة، فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس لا عن درك ببعض الحواس وذلك نحو علم الانسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذّة والألم، والغمّ والفرح، والقدرة، والعجز، والصحة، والسقم. والعلم
بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق وكل معلوم بأوائل العقول». ومن الواضح أن هذا العلم الضروري هو علم المحسوسات أو الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمسة. والمعرفة الحسية عند الباقلاني معرفة ضرورية لا يمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلقها. ويضاف إلى هذه الحواس الخمسة ما يطلق عليه الباقلاني «أوائل العقول» التي «تخترع في النفس ابتداء من غير أن تكون موجودة ببعض هذه الحواس». ويبدو أن الباقلاني بذلك يساوي بين المعرفة الحسية والمعرفة البديهية أوائل العقول ولا يعلّق ثانيتهما بأولاهما. بل هو يؤكّد هذا الانفصال الكامل بينهما بقوله «فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات التي وصفناها توجد مخترعة في النفس، وجدت هذه الحواس وما يوجد بها من الإدراكات أو لم توجد» وليس من المستبعد أن تكون هذه العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبديهي من خلق الله، ولا قدرة للانسان عليها أصلا، فهي مما يجده الانسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليها» وحقيقة وصفه بذلك في اللغة أنه مما أكره العالم به على وجوده، لأن الاضطرار في اللغة هو الحمل والاكراه، وهو الالجاء».
وعلى العكس من ذلك، العلم النظري فهو «علم يقع عقيب استدلال وتفكّر في حال المنظور فيه أو تذكر لما نظر فيه، فكل ما احتاج من العلوم إلى تقدم الفكر والرويّة وتأمل حال المعلوم فهو الموصوف بقولنا علم نظري. وقد يجعل مكان هذه الألفاظ أن نقول: العلم النظري هو ما بني على علم الحس والضرورة، أو على ما بني العلم بصحته عليهما. ومعنى قولنا في هذا العلم أنه كسبي أنه مما وجد بالعالم، وله عليه قدرة محدثة» فالعلم النظري بذلك مباين للعلم الضروري من جميع الوجوه، فهو أولا علم استدلالي يقع بعد نظر وتفكّر في حال المنظور فيه. وهو من هذه الزاوية مباين للعلم الضروري لأن «من حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه». والعلم النظري ثانيا مباين للعلم الضروري في أنه مما يقدر عليه العالم بالقدرة الحادثة، فهو علم من فعل العبد ويقع تحت قدرته، ولذلك يسمى علما كسبيا. والعلم النظري ثالثا ليس علما مبتدأ كالعلم الضروري، بل هو علم يبنى على علم الحس والضرورة، بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد أو يتوصّل إليه إلّا بعد وجود العلم الضروري بجانبيه الحسي والبديهي اللذين يعدّان مقدمات ضرورية له.
وثمّ مرحلة وسطى بين العلم الضروري والعلم النظري لا بدّ من اجتيازها، ألا وهي مرحلة النظر والاستدلال. ويعرّف الباقلاني الاستدلال بأنه «هو نظر
القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس» ويعرّف الدليل بأنه «هو ما أمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطرار. وهو على ثلاثة أضرب: عقلي له تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه من صفاته نحو حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. وسمعي شرعي دال من طريق النطق بعد المواضعة ومن جهة معنى مستخرج من النطق. ولغوي دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ».(1/56)
وثمّ مرحلة وسطى بين العلم الضروري والعلم النظري لا بدّ من اجتيازها، ألا وهي مرحلة النظر والاستدلال. ويعرّف الباقلاني الاستدلال بأنه «هو نظر
القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس» ويعرّف الدليل بأنه «هو ما أمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطرار. وهو على ثلاثة أضرب: عقلي له تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه من صفاته نحو حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. وسمعي شرعي دال من طريق النطق بعد المواضعة ومن جهة معنى مستخرج من النطق. ولغوي دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ».
والذي يهمنا الإشارة إليه هنا هو وضع اللغة بين أنواع الدلالة، واعتبار وجه دلالتها هو المواطأة والمواضعة على معاني الكلام. وتفصيل ذلك كما يرى الباقلاني أنه «قد يستدل بتوقيف أهل اللغة لنا على أنه لا نار إلّا حارة ملتهبة، ولا انسان إلّا ما كانت له هذه البنية على أن كل من خبّرنا من الصادقين بأنه رأى نارا أو انسانا، وهو من أهل لغتنا، يقصد إلى إفهامنا أنه ما شاهد إلّا مثل ما سمي بحضرتنا نارا أو انسانا، لا نحمل بعض ذلك على بعض، لكن بموجب الاسم، وموضوع اللغة، ووجوب استعمال الكلام على ما استعملوه ووضعه حيث وضعوه».
ومن حقنا أن نتساءل والحالة هذه عن الفارق بين الدلالة اللغوية والدلالة السمعية الشرعية، إذا كان كلاهما يدلّ من جهة المواطأة والمواضعة؟
وبالرغم من أن الباقلاني يعتبر الدلالة السمعية «فرعا لأدلّة العقول وقضاياها» فإنه من جانب آخر يرى أنه «قد يستدلّ أيضا على بعض القضايا العقلية وعلى الأحكام الشرعية بالكتاب، والسنّة، وإجماع الأمة والقياس الشرعي المنتزع من الأصول المنطوق بها» وهو بذلك يختلف كأشعري عن المعتزلة الذين يفصلون بحسم بين الدلالة العقلية، والدلالة الشرعية، ويعتبرون النوع الأول أصلا للثاني كما سنتعرض لذلك فيما بعد. والباقلاني خلافا للقاضي عبد الجبار مثلا يسلك في تقرير قضايا مؤلفاته مسلك الأشاعرة، الذين يبدءون بالأدلة الشرعية من آيات القرآن والأحاديث النبوية، والأخبار والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، ثم ينتهي بالأدلّة العقلية التي تؤكّد هذه القضايا. وهذا المسلك يتسق مع إعلاء الأشاعرة من شأن الوحي وتقديمهم إياه على العقل. ويقرر الباقلاني هذا المبدأ بقوله «إن طرق البيان عن الأدلّة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه:
1 - كتاب الله عز وجل و 2سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم و 3إجماع الأمة و 4ما استخرج من هذه النصوص وبني عليها بطريق القياس والاجتهاد و 5حجج العقول».(1/57)
وإذا كان الباقلاني لم يتعرّض لتحديد ماهية العقل ومراحله المختلفة، فإن تقسيمه للعلوم إلى ضرورية ونظرية ينبئ عن تصور ما لطبيعة النشاط العقلي وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة. ومن المؤكد أن الباقلاني وغيره من متكلمي القرن الرابع لم يكونوا بعيدين عن المباحث الفلسفية التي تأثرت خطى أرسطو في التفرقة بين مراحل النشاط العقلي في كتابه «في النفس» ابتداء من الإدراك الحسي وانتهاء إلى العقل الفعّال مرورا بالحس المشترك. غير أن المتكلمين ركّزوا نشاطهم العلمي في البحث عن مظاهر النشاط العقلي دون البحث في ماهيته. وإذا كان الفلاسفة قد تأثّروا خطى الاسكندر الأفروديسي أحد شرّاح أرسطو في التمييز بين ثلاثة أنواع من العقول هي «العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل الفعّال» فإن العقل الهيولاني ليس إلّا الغريزة التي وهبها الله للممتحنين كما أشار إليها الحارث المحاسبي، وبعبارة الخوارزمي «هو القوة في الانسان وهي في النفس بمنزلة القوة الناظرة في العين». أو «هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال وإنما نسب إلى الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها». وأمّا العقل بالملكة فهو يساوي عند الباقلاني ما أطلق عليه العلم الضروري، و «هو علم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات». وأخيرا فإن العقل الفعّال أو المستفاد هو ما أطلق عليه الباقلاني العلم النظري و «هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب، بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد» ومن الملاحظ أن الباقلاني لم يشر إلى «العقل الهيولاني» أو إلى الغريزة التي تعدّ مقدمة لتلقي العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبديهي، واكتفى بالحديث عن أقسام العلوم وقسّمها إلى علم إلهي قديم ليس بعلم ضرورة أو استدلال، وعلم المخلوقين المحدث بقسميه الضروري والنظري. وهذه القسمة تكشف عن المنطلق الذي حدد للمتكلمين دروبهم الخاصة في البحث في قضية العقل والمعرفة، فلم تنفصل هذه القضية كما سبقت الإشارة عن قضايا التوحيد والعدل. وهي مرتبطة عند الباقلاني بقضية العلم الالهي والتفرقة بينه وبين العلم البشري. ويبدو تأثر الباقلاني في هذه المشكلة واضحا بأبي هاشم الجبّائي (ت 330هـ) الذي ذهب إلى أن الله «عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها» أي أنه يثبت العلم صفة وراء الذات وليست منفصلة عنها أو مغايرة لها. وهو في هذه النقطة يختلف عن أبي الهذيل العلاف الذي اعتبر أن «علمه ذاته» ولم يثبت العلم صفة أو حالا وراء الذات. يقول الباقلاني متفقا مع أبي هاشم «الحال الذي
أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات».(1/58)
وإذا كان الباقلاني لم يتعرّض لتحديد ماهية العقل ومراحله المختلفة، فإن تقسيمه للعلوم إلى ضرورية ونظرية ينبئ عن تصور ما لطبيعة النشاط العقلي وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة. ومن المؤكد أن الباقلاني وغيره من متكلمي القرن الرابع لم يكونوا بعيدين عن المباحث الفلسفية التي تأثرت خطى أرسطو في التفرقة بين مراحل النشاط العقلي في كتابه «في النفس» ابتداء من الإدراك الحسي وانتهاء إلى العقل الفعّال مرورا بالحس المشترك. غير أن المتكلمين ركّزوا نشاطهم العلمي في البحث عن مظاهر النشاط العقلي دون البحث في ماهيته. وإذا كان الفلاسفة قد تأثّروا خطى الاسكندر الأفروديسي أحد شرّاح أرسطو في التمييز بين ثلاثة أنواع من العقول هي «العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل الفعّال» فإن العقل الهيولاني ليس إلّا الغريزة التي وهبها الله للممتحنين كما أشار إليها الحارث المحاسبي، وبعبارة الخوارزمي «هو القوة في الانسان وهي في النفس بمنزلة القوة الناظرة في العين». أو «هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل كما للأطفال وإنما نسب إلى الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها». وأمّا العقل بالملكة فهو يساوي عند الباقلاني ما أطلق عليه العلم الضروري، و «هو علم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات». وأخيرا فإن العقل الفعّال أو المستفاد هو ما أطلق عليه الباقلاني العلم النظري و «هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب، بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد» ومن الملاحظ أن الباقلاني لم يشر إلى «العقل الهيولاني» أو إلى الغريزة التي تعدّ مقدمة لتلقي العلوم الضرورية بجانبيها الحسي والبديهي، واكتفى بالحديث عن أقسام العلوم وقسّمها إلى علم إلهي قديم ليس بعلم ضرورة أو استدلال، وعلم المخلوقين المحدث بقسميه الضروري والنظري. وهذه القسمة تكشف عن المنطلق الذي حدد للمتكلمين دروبهم الخاصة في البحث في قضية العقل والمعرفة، فلم تنفصل هذه القضية كما سبقت الإشارة عن قضايا التوحيد والعدل. وهي مرتبطة عند الباقلاني بقضية العلم الالهي والتفرقة بينه وبين العلم البشري. ويبدو تأثر الباقلاني في هذه المشكلة واضحا بأبي هاشم الجبّائي (ت 330هـ) الذي ذهب إلى أن الله «عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا، وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها» أي أنه يثبت العلم صفة وراء الذات وليست منفصلة عنها أو مغايرة لها. وهو في هذه النقطة يختلف عن أبي الهذيل العلاف الذي اعتبر أن «علمه ذاته» ولم يثبت العلم صفة أو حالا وراء الذات. يقول الباقلاني متفقا مع أبي هاشم «الحال الذي
أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات».
وتأثر الباقلاني بأبي هاشم في مسألة العلم، وتأثره الذي أشرنا إليه سابقا بالمعتزلة عموما في مسألة القدرة الحادثة ودورها في تحديد حالة الفعل، يكشفان عن التقارب الفكري بين المعتزلة والأشاعرة، وهو تقارب يعدّ ثمرة للحوار المتصل والجدل المستمر بين متكلمي الفريقين. ولقد كان من ثمرة هذا التقارب ما نجده من تطابق كبير بين أفكار الباقلاني في المعرفة والعلم وأفكار القاضي عبد الجبار (ت 415هـ) الذي انتهج أيضا فيما يروي الشهرستاني «طريقة أبي هاشم» يؤكّد ذلك كثرة روايات القاضي عن أبي علي الجبّائي (ت 302هـ) وأبي هاشم اللذين يعدّهما أساتذته المباشرين، وينقل عنهما دائما، ويكتفي في أحيان قليلة بمناقشتهما ومحاولة التوفيق بين رأييهما. وتكاد آراء القاضي في العلم والمعرفة أن تكون هي آراء الجبائيين مع خلافات يسيرة في مسائل فرعية لا يعتدّ بها، الأمر الذي يجعلنا نفترض دون مغالاة أن كلا من الباقلاني والقاضي عبد الجبار أخذا من معين واحد جلّ أفكارهما في هذه القضية. ولا يجب أن ننسى أيضا أن أبا الحسن الأشعري كان تلميذا مباشرا لأبي علي الجبائي. غير أن ذلك لا يجب أن ينسينا الفروق الأساسية بين المعتزلة والأشاعرة.
3 - مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند المعتزلة
والفارق الأساسي بينهما يكمن في دور العقل وهل هو سابق على الشرع أم تابع له، ولقد ذهب الأشاعرة إلى أسبقية الشرع على العقل كما رأينا عند الباقلاني، وذلك على عكس المعتزلة الذين اعطوا للعقل دورا أوليا وسابقا على الشرع، وجعلوا الدليل السمعي تابعا للدليل العقلي ومترتبا عليه. أي أنهم جعلوا الدليل العقلي أصلا، والدليل الشرعي فرعا على الدليل العقلي، حتى ذهب القاضي إلى أن «كلامه تعالى لا يدلّ على العقليات، من التوحيد والعدل، لأن العلم بصحة كونه دلالة، مفتقر إلى ما تقدم بذلك، فلو دلّ عليه لوجب كونه دالّا على أصله، ومن حق الفرع أن لا يدلّ على الأصل، لأن ذلك يتناقض» ويرتدّ هذا الفصل بين الدليل العقلي والدليل الشرعي، وتقرير أسبقية الأول على الثاني إلى الجبائيين أبي علي وأبي هاشم اللذين اتفقا فيما يروي الشهرستاني «على أن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعة عقلية وردّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل، ولا يهتدي
إليها فكر» بمعنى أن العقل يستطيع أن يصل إلى كليات الأحكام المتصلة بالله وصفاته من التوحيد والعدل ووجوب شكره، كما أنه يمكن أن يعرف الحسن والقبح على الجملة. وتختصّ الشريعة بأنها تكشف له عن الطرائق التي يستطيع عن طريقها أن يؤدي هذه الواجبات العقلية. تختصّ الشريعة بأن تعرّف العقل مقادير الطاعات كالصلاة والصوم والزكاة ومواقيتها، وهي أمور لا يستطيع العقل أن يعرفها، وإن عرف على الجملة دون التفصيل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم.(1/59)
والفارق الأساسي بينهما يكمن في دور العقل وهل هو سابق على الشرع أم تابع له، ولقد ذهب الأشاعرة إلى أسبقية الشرع على العقل كما رأينا عند الباقلاني، وذلك على عكس المعتزلة الذين اعطوا للعقل دورا أوليا وسابقا على الشرع، وجعلوا الدليل السمعي تابعا للدليل العقلي ومترتبا عليه. أي أنهم جعلوا الدليل العقلي أصلا، والدليل الشرعي فرعا على الدليل العقلي، حتى ذهب القاضي إلى أن «كلامه تعالى لا يدلّ على العقليات، من التوحيد والعدل، لأن العلم بصحة كونه دلالة، مفتقر إلى ما تقدم بذلك، فلو دلّ عليه لوجب كونه دالّا على أصله، ومن حق الفرع أن لا يدلّ على الأصل، لأن ذلك يتناقض» ويرتدّ هذا الفصل بين الدليل العقلي والدليل الشرعي، وتقرير أسبقية الأول على الثاني إلى الجبائيين أبي علي وأبي هاشم اللذين اتفقا فيما يروي الشهرستاني «على أن المعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعة عقلية وردّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل، ولا يهتدي
إليها فكر» بمعنى أن العقل يستطيع أن يصل إلى كليات الأحكام المتصلة بالله وصفاته من التوحيد والعدل ووجوب شكره، كما أنه يمكن أن يعرف الحسن والقبح على الجملة. وتختصّ الشريعة بأنها تكشف له عن الطرائق التي يستطيع عن طريقها أن يؤدي هذه الواجبات العقلية. تختصّ الشريعة بأن تعرّف العقل مقادير الطاعات كالصلاة والصوم والزكاة ومواقيتها، وهي أمور لا يستطيع العقل أن يعرفها، وإن عرف على الجملة دون التفصيل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم.
غير أن القول بأسبقية الدليل العقلي على الدليل الشرعي، واعتبار الأول أصلا، والثاني فرعا، لا يعني وجود التعارض بينهما، فهما متفقان ومتطابقان إذ «ليس في القرآن إلّا ما يوافق طريقة العقل، ولو جعل ذلك دلالة على أنه من عند الله، من حيث لا يوجد في أدلّته إلّا ما يسلم على طريقة العقول ويوافقها، إمّا على جهة الحقيقة، أو على المجاز لكان أقرب» غاية الأمر أن المعتزلة لأسباب كثيرة بيّناها في أول هذا الفصل حاولوا الاحتكام إلى العقل وحده واعتبروه أساسا لفهم الشريعة، واعتبروا الشريعة مؤكّدة لما في العقول ومتفقة معه، دون أن تكون هي وحدها الدليل على وحدانية الله وعدله وسائر الأحكام العقلية «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكّدا لما في العقول. فأمّا ان يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال».
ولكي يؤكد المعتزلة هذا الاتفاق بين العقل والنقل، كان عليهم تحديد ماهية العقل والتعرّف على طبيعة الوسائل التي يمكنه عن طريقها الوصول إلى المعرفة اليقينية، ثم تحديد طبيعة الأفكار التي يستطيع العقل بمفرده الوصول إليها.
وتتحدد ماهية العقل عند المعتزلة بناء على تحديدهم لطبيعة وظيفته وحاجة الانسان الضرورية له. فإذا كان الله قد خلق الانسان لا لعلّة إلّا لنفعه ثم جعل التكليف وسيلته إلى هذا النفع، فمن الطبيعي أن يزوده بكل الوسائل التي تعينه على أداء ما كلّفه به. وكما زوّده بالقدرة التي يستطيع بها مزاولة الفعل أو الامتناع عنه، فقد زوّده أيضا بالقدرة على معرفة ما كلّفه به وتمييزه، وذلك حتى يتأتى منه الفعل على وجه الاختيار الناتج عن العلم بأحواله. وهذا الاختيار القائم على المعرفة والعلم هو مناط الثواب والعقاب والمسئولية. وهكذا يصبح العقل ضرورة من ضرورات التكليف الالهي للبشر، وهو ضرورة بحكم مسئولية الانسان وقدرته على الفعل. «اعلم أن المكلّف كما يحتاج أن يكون ممكنا من احداث الفعل بالقدرة والآلات ليصحّ منه أداء ما كلّف فكذلك يحتاج إلى أن يكون عالما بما كلّف وصفاته، والفصل بينه وبين غيره، ليصحّ أن يقصد إلى إحداثه، وليصحّ أن يعلم
أنه قد أدّى ما كلّف» وهذه المعرفة تحتاج للقوة المميزة بين الأشياء والأفعال.(1/60)
وتتحدد ماهية العقل عند المعتزلة بناء على تحديدهم لطبيعة وظيفته وحاجة الانسان الضرورية له. فإذا كان الله قد خلق الانسان لا لعلّة إلّا لنفعه ثم جعل التكليف وسيلته إلى هذا النفع، فمن الطبيعي أن يزوده بكل الوسائل التي تعينه على أداء ما كلّفه به. وكما زوّده بالقدرة التي يستطيع بها مزاولة الفعل أو الامتناع عنه، فقد زوّده أيضا بالقدرة على معرفة ما كلّفه به وتمييزه، وذلك حتى يتأتى منه الفعل على وجه الاختيار الناتج عن العلم بأحواله. وهذا الاختيار القائم على المعرفة والعلم هو مناط الثواب والعقاب والمسئولية. وهكذا يصبح العقل ضرورة من ضرورات التكليف الالهي للبشر، وهو ضرورة بحكم مسئولية الانسان وقدرته على الفعل. «اعلم أن المكلّف كما يحتاج أن يكون ممكنا من احداث الفعل بالقدرة والآلات ليصحّ منه أداء ما كلّف فكذلك يحتاج إلى أن يكون عالما بما كلّف وصفاته، والفصل بينه وبين غيره، ليصحّ أن يقصد إلى إحداثه، وليصحّ أن يعلم
أنه قد أدّى ما كلّف» وهذه المعرفة تحتاج للقوة المميزة بين الأشياء والأفعال.
وخلافا لما ذهب إليه العلاف والنظّام من ضرورية هذه المعرفة، التي تردّ الانسان إلى حالة الجبر وتنفي عنه الاختيار، ذهب القاضي عبد الجبار إلى ضرورة أن تكون المعرفة من فعل الانسان. والوسيلة التي يتوصّل بها الانسان إلى المعرفة هي العقل، ومن ثمّ فلا بدّ من أن يزوّد الله الانسان بالعقل ليمكّنه من أداء ما كلّف به على الوجه الذي تتحدد به مسئوليته عن الفعل. «وإن كان العلم بذلك الشيء مما لا يكون إلّا ضروريا فلا بدّ من أن يخلقه تعالى فيه. وإن صحّ كونه مكتسبا حسن من القديم تعالى أن يمكّنه منه ليصحّ أن يعلم ويؤدي ما علمه، على الوجه الذي كلف»
العقل إذن ضروري للمكلّف حتى يستطيع أداء ما كلّفه الله به.
والمعرفة التي يحتاج إليها المكلف تنقسم إلى ضرورية، ومكتسبة. والمعارف الضرورية لا بدّ أن يخلقها الله في العبد، كما أنه يحسن أن يمكّنه من العلوم المكتسبة. ولمّا كانت العلوم الضرورية مقدمة للعلوم المكتسبة وتمهيدا لها، لم يفصل القاضي عبد الجبار بين العلوم الضرورية والعقل. وعرّف العقل بناء على ذلك بأنه «عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلّف صحّ منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كلّف» ويرفض القاضي أن يسمي العقل جوهرا أو آلة أو حاسّة أو قدرة إلّا على سبيل التشبيه والتوسع، وذلك لأن الجواهر والآلات والحواس والقدرة مما تقع فيها الزيادة والنقصان». وهذا الحرص على عدم الفصل بين العقل والعلوم الضرورية عند المعتزلة يعبّر عن ايمانهم بتساوي البشر في هذه العلوم الضرورية، أي تساويهم فيما وهبهم الله من عقل. ومن هذه العلوم الضرورية ضرورة العلم بالمدركات، فلا بدّ للانسان «من أن يكون عالما بما يدركه، ويعلم من حاله أنه لو أدركه غيره لعلمه إذا لم يكن هناك لبس» ووجه الضرورة في هذا أن الانسان «لو لم يحصل عالما بالمدرك لم يصح أن يعرف أحوال المدركات، ولما تمّ منه استدلال على اثبات الأعراض وحدوث الأجسام وصفات الفاعل ولا على العدل بأسره. فالحاجة إليه في التكليف ماسّة» والقاضي بذلك يحدد الغاية من التكليف ومن المعرفة معا وهي معرفة الله المكلّف ومعرفة صفاته من التوحيد والعدل للتوصّل من وراء ذلك إلى معرفة التكليف وأدائه.
وبناء على هذه الغاية تتحدد طبيعة العقل، أي العلوم الضرورية التي لا بدّ للمكلّف من معرفتها. وأول هذه العلوم هو العلم بالمدركات. والعلم بالمدركات لا يصحّ أن يختلف عليه اثنان، بل لا بدّ أن يتساوى فيها البشر إذا لم يكن هناك لبس. وهو من هذه الزاوية يعدّ علما ضروريا لا يحتاج لا ثبات، فغاية المستدلّ على
شيء ما أن يصل به إلى مرحلة أن يجعله كالمدرك بالحواس، وبهذا يكون الإدراك أوضح طرق العلم «اعلم أنه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك. فمتى تناول الإدراك شيئا فقد استغنى في اثباته عن دليل، لأن نهاية ما يبلغه المستدلّ على اثبات الشيء أن يردّه إلى المدرك. فإذا حصل الشيء مدركا فالواجب في اثباته أن يكون أصلا وأن يستغني عن دليل. ولهذه الجملة لم يحتج في اثبات السواد إلى دليل وإن احتجنا إلى ضرب من التأمل في كونه غير المحل» ومعنى ذلك ان المعرفة الإدراكية أو الحسيّة تختلف عن المعرفة الاستدلالية وهي مرحلة النظر في أنها أكثر منها وضوحا وبيانا. ولكن هذه الثقة في الإدراك الحسي قد يعترض عليها معترضون زاعمين أنه «لا حقيقة للأشياء في نفسها وحقيقتها» وأن المدرك هو الذي يحدد حقيقة الشيء حسب ما يعتقده ويدركه، بمعنى أن الأشياء ليس لها وجود مستقل عن مدرك يهبها عن طريق عملية الإدراك وجودها الذي لا ينفصل او يستقلّ عن معتقداته وأفكاره. ويتصدّى القاضي عبد الجبار للفصل بين المدرك والشيء المدرك على أساس أن عملية الإدراك لا دخل لها في تحديد طبيعة الشيء أو تحديد صفاته. وهذا الفصل بين طرفي الإدراك هو ما يثبت عند المعتزلة وجود الواقع الخارجي، ويثبت نتيجة لذلك عملية الإدراك، ومن ثمّ يهبها موضوعيتها. ويلزم القاضي أصحاب هذا الرأي الوقوع في التناقض، على أساس أن «هذا يوجب أن يصحّ منا الجسم والقدرة إذا اعتقدنا ذلك فيهما، بل يوجب أن يكون تعالى موجودا ومختصا بسائر ما هو عليه من جهتنا إذا اعتقدنا كونه كذلك، بل يوجب إذا اعتقد المعتقد، في الشيء، جوهرا وسوادا، أن يحصل بهذه الصفة، وقد بينا فساد ذلك، بل يجب على هذا صحة كون الشيء الواحد بياضا سوادا إذا اعتقد المعتقد أن ذلك فيه، وقديما محدثا، وموجودا معدوما. وقد بيّنا أن العلم باستحالة ذلك ضروري»(1/61)
وبناء على هذه الغاية تتحدد طبيعة العقل، أي العلوم الضرورية التي لا بدّ للمكلّف من معرفتها. وأول هذه العلوم هو العلم بالمدركات. والعلم بالمدركات لا يصحّ أن يختلف عليه اثنان، بل لا بدّ أن يتساوى فيها البشر إذا لم يكن هناك لبس. وهو من هذه الزاوية يعدّ علما ضروريا لا يحتاج لا ثبات، فغاية المستدلّ على
شيء ما أن يصل به إلى مرحلة أن يجعله كالمدرك بالحواس، وبهذا يكون الإدراك أوضح طرق العلم «اعلم أنه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك. فمتى تناول الإدراك شيئا فقد استغنى في اثباته عن دليل، لأن نهاية ما يبلغه المستدلّ على اثبات الشيء أن يردّه إلى المدرك. فإذا حصل الشيء مدركا فالواجب في اثباته أن يكون أصلا وأن يستغني عن دليل. ولهذه الجملة لم يحتج في اثبات السواد إلى دليل وإن احتجنا إلى ضرب من التأمل في كونه غير المحل» ومعنى ذلك ان المعرفة الإدراكية أو الحسيّة تختلف عن المعرفة الاستدلالية وهي مرحلة النظر في أنها أكثر منها وضوحا وبيانا. ولكن هذه الثقة في الإدراك الحسي قد يعترض عليها معترضون زاعمين أنه «لا حقيقة للأشياء في نفسها وحقيقتها» وأن المدرك هو الذي يحدد حقيقة الشيء حسب ما يعتقده ويدركه، بمعنى أن الأشياء ليس لها وجود مستقل عن مدرك يهبها عن طريق عملية الإدراك وجودها الذي لا ينفصل او يستقلّ عن معتقداته وأفكاره. ويتصدّى القاضي عبد الجبار للفصل بين المدرك والشيء المدرك على أساس أن عملية الإدراك لا دخل لها في تحديد طبيعة الشيء أو تحديد صفاته. وهذا الفصل بين طرفي الإدراك هو ما يثبت عند المعتزلة وجود الواقع الخارجي، ويثبت نتيجة لذلك عملية الإدراك، ومن ثمّ يهبها موضوعيتها. ويلزم القاضي أصحاب هذا الرأي الوقوع في التناقض، على أساس أن «هذا يوجب أن يصحّ منا الجسم والقدرة إذا اعتقدنا ذلك فيهما، بل يوجب أن يكون تعالى موجودا ومختصا بسائر ما هو عليه من جهتنا إذا اعتقدنا كونه كذلك، بل يوجب إذا اعتقد المعتقد، في الشيء، جوهرا وسوادا، أن يحصل بهذه الصفة، وقد بينا فساد ذلك، بل يجب على هذا صحة كون الشيء الواحد بياضا سوادا إذا اعتقد المعتقد أن ذلك فيه، وقديما محدثا، وموجودا معدوما. وقد بيّنا أن العلم باستحالة ذلك ضروري»
ويزيد القاضي هذه الفكرة وضوحا حين يردّ على من يسميهم «أصحاب التجاهل» الذين يعتمدون في نفي المعرفة الحسية على ما هو مشاهد من خداع الحواس. يقودنا القاضي في ردّه عليهم إلى شروط صحة المعرفة الحسية، أو الإدراك، وهي سلامة الحاسّة وارتفاع الموانع. يقول «فأمّا تعلقهم بأن المدرك يسكن إلى أن السراب ماء، وأن العسل إذا غلب عليه الصفراء مرّ، كسكونه إلى سائر ما يدركه، ثم ينكشف له خلاف ما اعتقد، فما الذي نؤمنه من مثله في سائر المدركات التي يعلمها، فبعيد. لأن نفسه لا تسكن إلى أن ما رآه ماء وانما تشاهده بصفة الماء لتشبهه به في البياض واللمعان واضطرابه في الموضع الذي أدركه. فما
أدركه صحيح، وإن أخطأ في اعتقاده. وليس كذلك ما يعلمه من كون الماء ماء، عند مشاهدته له»(1/62)
ويزيد القاضي هذه الفكرة وضوحا حين يردّ على من يسميهم «أصحاب التجاهل» الذين يعتمدون في نفي المعرفة الحسية على ما هو مشاهد من خداع الحواس. يقودنا القاضي في ردّه عليهم إلى شروط صحة المعرفة الحسية، أو الإدراك، وهي سلامة الحاسّة وارتفاع الموانع. يقول «فأمّا تعلقهم بأن المدرك يسكن إلى أن السراب ماء، وأن العسل إذا غلب عليه الصفراء مرّ، كسكونه إلى سائر ما يدركه، ثم ينكشف له خلاف ما اعتقد، فما الذي نؤمنه من مثله في سائر المدركات التي يعلمها، فبعيد. لأن نفسه لا تسكن إلى أن ما رآه ماء وانما تشاهده بصفة الماء لتشبهه به في البياض واللمعان واضطرابه في الموضع الذي أدركه. فما
أدركه صحيح، وإن أخطأ في اعتقاده. وليس كذلك ما يعلمه من كون الماء ماء، عند مشاهدته له»
وعلى ذلك فالمعرفة الحسية معرفة صحيحة بشرط سلامة الحاسّة وارتفاع الموانع التي قد تخدع الحواس أو تضللها. وإذا كانت الحاسّة سليمة، والموانع مرتفعة، وجب اثبات ما ندركه ونفي ما لا ندركه «إذا ما كان طريق العلم به الإدراك بالحواس وجب نفيه إذا لم يدرك مع سلامة الحاسة وارتفاع الموانع المعقولة لعدم الطريق الذي به يتوصّل إلى معرفته» هذا الحرص على اثبات الإدراك الحسي، واعتباره علما ضروريا عند كل من الأشاعرة والمعتزلة، يعدّ مسألة هامة وضرورية لا ثبات العالم الخارجي الذي يستدلّ بوجوده على وجود الصانع. غير أن المعرفة الحسية ليست الطريق الوحيد للمعرفة، بل هي أول طريق المعرفة، فالحس «إنما نعبّر به عن أول العلم بالمدركات».
إذا كانت المعرفة الحسية هي أول العلم بالمدركات، فما هي العلاقة بينها وبين المعرفة العقلية؟ يعرّف القاضي العلم بأنه «المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم إلى ما تناوله» فكل معرفة أدّت إلى سكون النفس إلى ما عليه المعلوم اعتبرت علماء، سواء أكانت علما بالمدركات أم علما ضروريا، أم علما مكتسبا. ومن هذه الزاوية تعدّ هذه العلوم علوما منفصلة لا يقضي صحة أحدها على صحة آخر.
غير أن هذه العلوم من جانب آخر تتصل اتصالا وثيقا، فالعلم بالمدركات الذي هو نتيجة للإدراك الحسي يعدّ مقدمة للعلوم الضرورية. وهذه بدورها تعدّ مقدمة للوصول إلى العلوم المكتسبة عن طريق النظر والاستدلال. وعلى ذلك لا يصحّ القول بأن علوم الحواس قاضية على علوم العقل وحكما على صحته، إلّا على معنى «أنه لولا العلم بما يدرك بالحواس، لما صحّ أن يعلم الانسان سائر الأمور. وإن أرادوا بذلك أن بالإدراك تعلم صحة العلوم العقلية فذلك باطل
ويجب على هذا، أن يكون العقل قاضيا على صحة العلم بالمدركات، لأن به نعلم صحتها» أي أن هذه العلوم ترتبط ببعضها البعض ارتباط العلّة بالنتيجة، ولا يقضي الإدراك الحسي على العلوم العقلية ولا يحكم بصحتها. والصحيح أن علوم العقل هي الحاكمة على علوم الإدراك الحسي، وهو ما عبّر عنه الجاحظ بقوله: «للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجّة» ومعنى ذلك أن علوم الحس إذا أدّت إلى العلم الذي يقتضي سكون النفس كانت علما منفصلا بذاته. والعلاقة بينها وبين علوم العقل أن هذه تبنىّ عليها. وهذا الانفصال والاستقلال لا يمنع أن يكون العقل حاكما على الحس،
وقاضيا على صحة ما تؤدّي إليه الحواس. وهذا أمر ضروري خصوصا للرد على أولئك الذين يتشككون في صحة المعرفة الحسية لما يعتورها أحيانا من خداع وعوائق تمنع عن الإدراك الصحيح.(1/63)
ويجب على هذا، أن يكون العقل قاضيا على صحة العلم بالمدركات، لأن به نعلم صحتها» أي أن هذه العلوم ترتبط ببعضها البعض ارتباط العلّة بالنتيجة، ولا يقضي الإدراك الحسي على العلوم العقلية ولا يحكم بصحتها. والصحيح أن علوم العقل هي الحاكمة على علوم الإدراك الحسي، وهو ما عبّر عنه الجاحظ بقوله: «للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجّة» ومعنى ذلك أن علوم الحس إذا أدّت إلى العلم الذي يقتضي سكون النفس كانت علما منفصلا بذاته. والعلاقة بينها وبين علوم العقل أن هذه تبنىّ عليها. وهذا الانفصال والاستقلال لا يمنع أن يكون العقل حاكما على الحس،
وقاضيا على صحة ما تؤدّي إليه الحواس. وهذا أمر ضروري خصوصا للرد على أولئك الذين يتشككون في صحة المعرفة الحسية لما يعتورها أحيانا من خداع وعوائق تمنع عن الإدراك الصحيح.
وإذا كان الإدراك الحسي يعدّ أول العلم بالمدركات كما قرّر القاضي، فإنه أيضا يعدّ مقدمة للعلوم الضرورية التي هي من كمال العقل، أو التي هي العقل في تعريف القاضي. وإذا كانت غاية المعرفة هي معرفة الله لمعرفة أوامره ونواهيه التكليف فإن المعرفة الإدراكية تحتاج لقدر آخر من المعارف التي يعتبرها القاضي معرفة ضرورية من كمال العقل. «ومن كمال العقل أن يعرف من حال المدركات التي هي الأجسام ما تحصل عليه: من كونها مجتمعة أو متفرقة، ومن استحالة كونها في مكانين، لأن متى لم يعلم ذلك لم يسلم له من العلوم ما يجري مجراها، ولا يصحّ منه الاستدلال على اثبات الأعراض وحدوثها، وحدوث الأجسام، وتعلق الفعل بالفاعل، لأن كل ذلك يستند إلى هذا العلم» وهذه المعرفة بحال المدركات بعد العلم بها تعدّ ضرورية في نظر القاضي لارتباطها بأدلّة التوحيد، لأنها مقدمة لاثبات جواز الاجتماع والافتراق على الأجسام، وبالتالي اثبات حدوثها. ويؤدي إثبات حدوثها إلى اثبات صانع مخالف لها غير محدث، ومن ثمّ لا بدّ أن يكون قديما الخ كل هذه الاستدلالات التي تؤدّي إلى اثبات الله بصفاته من القدرة والعلم والحياة.
«ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات، وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الاحسان والتفضّل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والانصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الاخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع وإنما يجب حصول هذه العلوم، لأنها لو لم تحصل لم يحصل للمكلّف الخوف من ألّا يفعل النظر، وابتداء التكليف متعلق به، ولأنه لا يصحّ منه العلم بالعدل إلّا معه، لأنه متى لم يعرف الفرق بين الحسن والقبيح لم يصح أن ينزّه القديم تعالى عن المقبحات، ويضيف إليه المحسنات» ولا شك أن القاضي عبد الجبار، ومن قبله مشايخه، بوضعهم كل هذه المعارف في إطار العلم الضروري، كانوا يسعون إلى تأكيد أفكارهم العقلية في العدل والتوحيد تأكيدا يلزم خصومهم التسليم بها. ومن الواضح أن هذه المقدمات أو العلوم الضرورية فيها الكثير مما يحتاج إلى نظر واستدلال. فكون الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق وكافة الاعراض وهو
مقدمتهم لا ثبات الصانع بصفاته من القدرة والعلم والحياة يعدّ من لطيف الكلام الذي يحتاج لنظر واستدلال، ومن الصعب اعتباره معرفة ضرورية. أمّا العلوم الضرورية المتصلة بالعدل، فهي علوم لا يسلم لهم خصومهم ببديهيتها «فأمّا وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يعرف إلّا من طريق الشرع»(1/64)
«ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات، وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الاحسان والتفضّل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والانصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الاخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع وإنما يجب حصول هذه العلوم، لأنها لو لم تحصل لم يحصل للمكلّف الخوف من ألّا يفعل النظر، وابتداء التكليف متعلق به، ولأنه لا يصحّ منه العلم بالعدل إلّا معه، لأنه متى لم يعرف الفرق بين الحسن والقبيح لم يصح أن ينزّه القديم تعالى عن المقبحات، ويضيف إليه المحسنات» ولا شك أن القاضي عبد الجبار، ومن قبله مشايخه، بوضعهم كل هذه المعارف في إطار العلم الضروري، كانوا يسعون إلى تأكيد أفكارهم العقلية في العدل والتوحيد تأكيدا يلزم خصومهم التسليم بها. ومن الواضح أن هذه المقدمات أو العلوم الضرورية فيها الكثير مما يحتاج إلى نظر واستدلال. فكون الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق وكافة الاعراض وهو
مقدمتهم لا ثبات الصانع بصفاته من القدرة والعلم والحياة يعدّ من لطيف الكلام الذي يحتاج لنظر واستدلال، ومن الصعب اعتباره معرفة ضرورية. أمّا العلوم الضرورية المتصلة بالعدل، فهي علوم لا يسلم لهم خصومهم ببديهيتها «فأمّا وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يعرف إلّا من طريق الشرع»
واعتبار العقل هو كل هذه العلوم الضرورية لا ثبات التوحيد والعدل، يعدّ تعريفا يخلط بين المعرفة نفسها وبين مفهوم العقل باعتباره أداة للمعرفة ونشاطا متميزا للوصول إلى المعرفة. ويعدّ هذا التعريف من جانب آخر متناقضا مع ما يقرره القاضي من أن «المكلّف يحتاج إليه (يعني العقل)، لأن به يعلم الكثير مما كلّف، نحو وجوب رد الوديعة وشكر المنعم وقبح الظلم وحسن الاحسان» فكيف تعرف بالعقل هذه الأشياء مع اعتبارها من العلوم الضرورية التي هي العقل في تعريف القاضي؟ وكيف تكون هذه الأشياء من التكليف الذي يحتاج المكلّف إلى العقل لمعرفتها، وهي في نفس الوقت من علوم العقل الضرورية؟ هنا يحسّ الباحث أن القاضي قد خلط بين العقل كوسيلة وأداة للمعرفة، وبين المعرفة ذاتها التي هي نتيجة ومحصلة لنشاط العقل في ربطه بين المدركات وتحصيل الكليات.
ويذهب القاضي إلى اعتبار كل هذه العلوم بديهية وفطرية ومن كمال العقل، بمعنى أنها علوم لا ينفك عنها العاقل المكلّف، ولا تؤثر فيها عوامل الزمان والمكان والبيئة «إن العلم بالمدح والذم واستحقاقهم على الأفعال من كمال العقل، وليس بموقوف على أن ذلك قد وقع، بل لو خالط الناس ولم يقع من أحد معصية لما وقع الذم، ولو لم يقع منهم طاعة لما وقع المدح على جهة، ولم يؤثر ذلك في كون ما ذكرناه من كمال العقل. وكذلك القول فيه لو خلق في أرض فلاة في أنه يحسن أن يكلّف متى كمل عقله وعلم مكان الحمد والذم، وإن لم يعلم فاعلا لهما».
وعلى هذا فالعقل شرط في التكليف، رأى الانسان الخير والشر متجسّدين أم لم يرهما. والعقل وحده يستطيع أن يعرف ما يستحق المدح من الأفعال وما يستحق المدح من الأفعال وما يستحق منها الذم، دون أن يعرف الأفعال نفسها.
* * * يعدّ النظر أو الاستدلال هو الوسيلة الأساسية للانتقال من مرحلة العلوم الضرورية التي يتساوى فيها البشر، إلى مرحلة العلوم النظرية، أو الاكتسابية، التي يتفاوت فيها البشر نتيجة تفاوتهم في قدراتهم على النظر والاستدلال. والنظر هو أول مراحل التكليف العقلي. ويتمّ هذا التكليف عن طريق باعث أو داع أو خاطر يسلّطه الله على نفس المكلّف «وتلك الأمارة هي تنبيه الداعي والخاطر، لأنهما
يفيدانه ما يخاف عنده من العقاب بترك النظر، ويدلانه على ما ترتب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح والنقص الذي يختصّ به. فإنه لا يأمن من مضرّة عظيمة تستحق به، فيخاف عند ذلك» ويقوم تخويف الداعي والخاطر على ما ترتب في العقل من ضرورة حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، فيخشى الانسان، إن هو لم يستجب للداعي والخاطر في حسن النظر، أن يكون بترك النظر واقعا في قبيح يستحق عليه الذم. ويدفعه هذا الخوف من الوقوع في القبيح إلى النظر ليصل بذلك إلى المعرفة.(1/65)
* * * يعدّ النظر أو الاستدلال هو الوسيلة الأساسية للانتقال من مرحلة العلوم الضرورية التي يتساوى فيها البشر، إلى مرحلة العلوم النظرية، أو الاكتسابية، التي يتفاوت فيها البشر نتيجة تفاوتهم في قدراتهم على النظر والاستدلال. والنظر هو أول مراحل التكليف العقلي. ويتمّ هذا التكليف عن طريق باعث أو داع أو خاطر يسلّطه الله على نفس المكلّف «وتلك الأمارة هي تنبيه الداعي والخاطر، لأنهما
يفيدانه ما يخاف عنده من العقاب بترك النظر، ويدلانه على ما ترتب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح والنقص الذي يختصّ به. فإنه لا يأمن من مضرّة عظيمة تستحق به، فيخاف عند ذلك» ويقوم تخويف الداعي والخاطر على ما ترتب في العقل من ضرورة حسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، فيخشى الانسان، إن هو لم يستجب للداعي والخاطر في حسن النظر، أن يكون بترك النظر واقعا في قبيح يستحق عليه الذم. ويدفعه هذا الخوف من الوقوع في القبيح إلى النظر ليصل بذلك إلى المعرفة.
غير أن النظر، شأنه شأن الإدراك الحسي، لا بدّ له من شروط حتى يؤدّى إلى العلم والمعرفة. وكما اشترط القاضي لصحة الإدراك الحسي سلامة الحاسّة وارتفاع الموانع، فإنه يشترط وجود الشك، وكأن الشك يعتبر بذلك مقدمة طبيعية وضرورية للفكر المؤدي إلى النظر «ومن حق النظر ألّا يصحّ إلّا مع الشك في المدلول» وتعدّ فكرة الشك فكرة أساسية عند جميع المعتزلة تقريبا، على اعتبار أن الشك ترجيح بين احتمالات مختلفة أو وجوه متعددة. ومن شأن هذا الشك أن يثير التأمل ويحرّك الفكر، مما يجعل الشاك أقرب إلى معرفة الحقيقة ممن يثق بظنه، ويستنيم إلى فكره ووهمه «والذي حصّلناه في هذا الباب، أن النظر لا يصحّ إلّا مع تجويز كون المدلول على صفة وأنه ليس عليها، فيجب أن يقارنه هذا التجويز. وقد يحصل ذلك مع الشك، وقد يحصل مع الظن، وقد يحصل مع الاعتقاد على جهة التبخيت. ولا يصحّ ذلك مع العلم، ولا مع الجهل الواقع بالشبهة، لأن العالم والجاهل بهذا العلم والجهل يتساويان في أنهما لا يجوّزان خلاف ما اعتقداه» بمعنى أن العالم تسكن نفسه إلى ما علمه، وكذلك الجاهل، وكلاهما لا يمكن أن يقع منهما النظر، وذلك على عكس الشاك أو المتردد بين احتمالات مختلفة.
وتلتقي فكرة الداعي والخاطر أساس التكليف العقلي للنظر مع فكرة الشك والتجويز وإثارة الاحتمالات المختلفة في الذهن، تلك الاحتمالات التي تكون مثيرا يدفع للنظر والفحص والاستدلال. ويؤكّد الجاحظ تلك العلاقة بين الشك والوصول إلى اليقين فيما يرويه عن أستاذه النظّام «نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدت الشاك أبصر بجواهر الكلام من أصحاب الجحود
الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهم حال شك».
والداعي والخاطر يثيران الشك في الانسان، ويخيفانه من أن يكون على باطل، ومن أن يكون جاهلا بالحقيقة. وهذا الخوف يدفعه للتأمل والاستدلال
والنظر حتى يصل إلى الحقيقة التي تسكن إليها نفسه ويهدأ لها باله. وعلى ذلك تقوم المعرفة عند القاضي على أساسين: أساس نفسي هو الخوف من أن يكون على خطأ، أو على جهل قد يهدد مصيره الانساني. وأساس معرفي هو الشك فيما يعتقده، وتجويز أن يكون الواقع على خلاف ما يعتقد. وبناء على هذين الاساسين تتحدد الغاية الدينية للمعرفة، وهي غاية ذات شقين: غاية دينية أخلاقية هدفها أن تجنب الانسان القبيح الذي يترتب عليه استحقاقه للذم، وأن تؤدي به إلى فعل الحسن الذي يستحق به المدح. وغاية أخروية هدفها خلاص الانسان من العذاب الذي يمكن أن يلاقيه نتيجة جهله بخالقه، وتقصيره في أداء ما كلّف به. وأساسا المعرفة الشك والخوف وغايتاها الدنيوية والأخروية غير منفصلتين بأي حال من الأحوال، فكلاهما تفضي إلى الأخرى.(1/66)
والداعي والخاطر يثيران الشك في الانسان، ويخيفانه من أن يكون على باطل، ومن أن يكون جاهلا بالحقيقة. وهذا الخوف يدفعه للتأمل والاستدلال
والنظر حتى يصل إلى الحقيقة التي تسكن إليها نفسه ويهدأ لها باله. وعلى ذلك تقوم المعرفة عند القاضي على أساسين: أساس نفسي هو الخوف من أن يكون على خطأ، أو على جهل قد يهدد مصيره الانساني. وأساس معرفي هو الشك فيما يعتقده، وتجويز أن يكون الواقع على خلاف ما يعتقد. وبناء على هذين الاساسين تتحدد الغاية الدينية للمعرفة، وهي غاية ذات شقين: غاية دينية أخلاقية هدفها أن تجنب الانسان القبيح الذي يترتب عليه استحقاقه للذم، وأن تؤدي به إلى فعل الحسن الذي يستحق به المدح. وغاية أخروية هدفها خلاص الانسان من العذاب الذي يمكن أن يلاقيه نتيجة جهله بخالقه، وتقصيره في أداء ما كلّف به. وأساسا المعرفة الشك والخوف وغايتاها الدنيوية والأخروية غير منفصلتين بأي حال من الأحوال، فكلاهما تفضي إلى الأخرى.
يختلف كل من أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم في تحديد طبيعة الخاطر الذي يدعو إلى ضرورة النظر، فذهب أبو علي إلى «أنه ليس بكلام وأنه اعتقاد» بينما ذهب أبو هاشم إلى «أنه كلام، إمّا أن يفعله الله تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله» وحاول القاضي عبد الجبار التوسّط فذهب إلى أنه معنى «لأنه أمر حادث يختصّ من ورد عليه، ولا بدّ إذا كان معنى، من أن يكون من أفعال القلوب أو أفعال الجوارح، لأن اثباته سوى هذين لا يصح». وبصرف النظر عن هذا الخلاف الدقيق، فإن مهمة الداعي والخاطر تنحصر عند أبي هاشم في بيان وجه الضرر الذي يلحق بالمكلّف إذا ترك النظر ومن ثمّ يتوجّه إليه قائلا «انظر لتعلم أن لك صانعا صنعك ومدبرا دبرك، وتعلم استحقاق الثواب من جهته على فعل الواجب والعقاب على فعل القبيح. ومتى لم تعرفه وتعرف هذا الثواب والعقاب، كنت إلى فعل القبيح أقرب، لأنك تجد شهوته فيك، وأنت إذا عرفته كنت إلى التباعد منه أقرب، لأنك تجد استحقاق الذم على القبيح مع ما يؤثّر فيك من غم ونقيصة، فلا تأمن أن تستحق به المضار العظيمة» عند ذلك يخاف المكلّف من ترك النظر «حتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلّفا ولا عاقلا، إذ العاقل إذا خوّف بأمارة صحيحة خاف لا محالة».
ومن اللافت للانتباه أن القاضي عبد الجبار إذا كان قد اعتبر العقل فطريا وقاسما مشتركا بين البشر، لا يتأثر بظروف الزمان أو المكان او البيئة، فإنه أدرك أن الباعث على النظر والاستدلال واكتساب العلوم النظرية يأتي من خارج الانسان الداعي والخاطر ومن داخله الشك معا، فالخاطر يثير الخوف من العقاب الخارجي، والشك يثير الرغبة في التوازن الداخلي وصولا لليقين. ولكن هل من
الضروري أن يؤدي النظر إلى المعرفة؟ ألا يجوز أن يؤدي بنا للجهل؟ وفي هذه الحالة لا يكون ثمّة ضرورة له ما دام سينقلنا إلى جهل آخر. ينكر القاضي أن يؤدي النظر إلى الجهل وإن جوّز أن يؤدّي إلى غالب الظن أو أن يؤدّي على أسوأ تقدير إلى الشك مرة أخرى. ولكنه إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم، فلا بدّ أن يؤدي إلى العلم «ومن حق النظر أن يكون فيه ما يولّد العلم، إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم له على الوجه الذي يدلّ، ويكون فيه ما لا يولّد العلم، بل يقتضى غالب الظن في أمور الدنيا، وقد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعا. ولا يصحّ أن يكون فيه ما يولّد الشبهة أو الجهل وكما لا يجوز أن يولّد الجهل، فكذلك لا يجوز أن يولّد غير الاعتقاد من أفعال القلوب».(1/67)
ومن اللافت للانتباه أن القاضي عبد الجبار إذا كان قد اعتبر العقل فطريا وقاسما مشتركا بين البشر، لا يتأثر بظروف الزمان أو المكان او البيئة، فإنه أدرك أن الباعث على النظر والاستدلال واكتساب العلوم النظرية يأتي من خارج الانسان الداعي والخاطر ومن داخله الشك معا، فالخاطر يثير الخوف من العقاب الخارجي، والشك يثير الرغبة في التوازن الداخلي وصولا لليقين. ولكن هل من
الضروري أن يؤدي النظر إلى المعرفة؟ ألا يجوز أن يؤدي بنا للجهل؟ وفي هذه الحالة لا يكون ثمّة ضرورة له ما دام سينقلنا إلى جهل آخر. ينكر القاضي أن يؤدي النظر إلى الجهل وإن جوّز أن يؤدّي إلى غالب الظن أو أن يؤدّي على أسوأ تقدير إلى الشك مرة أخرى. ولكنه إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم، فلا بدّ أن يؤدي إلى العلم «ومن حق النظر أن يكون فيه ما يولّد العلم، إذا كان نظرا من عاقل في دليل معلوم له على الوجه الذي يدلّ، ويكون فيه ما لا يولّد العلم، بل يقتضى غالب الظن في أمور الدنيا، وقد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعا. ولا يصحّ أن يكون فيه ما يولّد الشبهة أو الجهل وكما لا يجوز أن يولّد الجهل، فكذلك لا يجوز أن يولّد غير الاعتقاد من أفعال القلوب».
ومعنى ذلك أن النظر من شأنه أن يولّد العلم إذا كان نظرا في دليل معلوم على الوجه الذي يدلّ. وعدم الوصول بالنظر إلى مرحلة العلم يعني وجود نوع من الخطأ في استخدام الدليل، أو في معرفة وجه الاستدلال به.
وتتحدد أنواع الأدلّة عند القاضي عبد الجبار بناء على تحديده لغاية المعرفة.
وغاية المعرفة هي الوصول إلى معرفة المكلّف بكل صفاته من التوحيد والعدل، ثم الوصول بعد ذلك إلى معرفة أوامره ونواهيه حتى يمكن أداء التكاليف الشرعية التي تؤدي إلى الثواب وتعصم من العقاب، ومن الطبيعي أن تنقسم الأدلّة تبعا لهذا الترتيب المعرفي. فثمّ أدلّة تعرف بها قضايا التوحيد. وثمّ أدلّة تعرف بها قضايا العدل. ونوع ثالث تعرف به النبوات والشرائع. وهكذا تنقسم الأدلّة إلى أنواع ثلاثة يختصّ كل منها بمرحلة من مراحل المعرفة «فمنها ما يدلّ على الصحة والوجوب، ومنها ما يدلّ في الدواعي والاختيار، ومنها ما يدلّ بالمواضعة والقصد. ورتبنا كل واحد من هذه الوجوه، بأن بيّنا: أن المقدّم على ما يدلّ من حيث الصحة، وهو الذي يتطرّق به إلى معرفة التوحيد، ثم يتلوه ما يدلّ بالدواعي، وهو الذي يعرف به العدل، ثم يتلوه ما يدلّ بالمواضعة وتعرف به النبوات والشرائع.
يختصّ النوع الأول من الأدلّة بأنه يعرف به التوحيد. وتفصيل ذلك أن هذا النوع الأول يدلّ على الصحة والوجوب، بمعنى أن وجود الفعل أو وقوعه يدلّ وجوبا على وجود الفاعل. وإن وقع الفعل محكما دلّ على أن فاعله عالم ولا دخل لحال الفاعل أو الفعل في هذه الدلالة. أي أنها دلالة مجردة منفصلة عن أحوال الفعل وأحوال الفاعل معا. وتستند هذه الدلالة في حركة العقل الفكرية للنظر والاستدلال إلى العلوم الضرورية القائمة في الذهن والتي اعتبرها القاضي من كمال العقل. وأول هذه الحركة الاستدلالية البدء بالضروريات، وأهمها أن
الفعل يتعلّق بالفاعل، وأن ثمّ أجسادا في العالم لا نقدر عليها، فلا بدّ من فاعل لها مغاير لها ولنا. وأن هذه الاجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وكافة الأعراض، وهذه الأعراض محدثة ولا يجوز عليها البقاء وكل ما لا يخلو من الحدوث محدث مثله. وهكذا ينتهي المتكلم إلى اثبات حدوث العالم.(1/68)
يختصّ النوع الأول من الأدلّة بأنه يعرف به التوحيد. وتفصيل ذلك أن هذا النوع الأول يدلّ على الصحة والوجوب، بمعنى أن وجود الفعل أو وقوعه يدلّ وجوبا على وجود الفاعل. وإن وقع الفعل محكما دلّ على أن فاعله عالم ولا دخل لحال الفاعل أو الفعل في هذه الدلالة. أي أنها دلالة مجردة منفصلة عن أحوال الفعل وأحوال الفاعل معا. وتستند هذه الدلالة في حركة العقل الفكرية للنظر والاستدلال إلى العلوم الضرورية القائمة في الذهن والتي اعتبرها القاضي من كمال العقل. وأول هذه الحركة الاستدلالية البدء بالضروريات، وأهمها أن
الفعل يتعلّق بالفاعل، وأن ثمّ أجسادا في العالم لا نقدر عليها، فلا بدّ من فاعل لها مغاير لها ولنا. وأن هذه الاجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وكافة الأعراض، وهذه الأعراض محدثة ولا يجوز عليها البقاء وكل ما لا يخلو من الحدوث محدث مثله. وهكذا ينتهي المتكلم إلى اثبات حدوث العالم.
لا يمكن لفاعل العالم أن يكون محدثا وإلّا كان مثلها، وبذلك تثبت صفة القدم لله.
ثم يستدلّ بوقوع الفعل أيضا على القدرة، وبوقوعه محكما على العلم. ويستدلّ بوجود القدرة والعلم على الحياة.
أمّا النوع الثاني من الأدلّة، وهو ما يدلّ بالدواعي والاختيار، فهو النوع الذي يتوصّل به إلى معرفة «العدل». وهذا النوع يقع في الترتيب تاليا للنوع الأول. بمعنى أننا إذا عرفنا الله بصفاته وأنه ليس جسما ولا عرضا «ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود والهبوط والارتفاع والانحدار والانتقال من مكان إلى مكان ولا تجوز عليه الزيادة والنقصان» الخ، إذا عرفنا ذلك أمكننا أن نعرف ما يختاره من الأفعال وما يمتنع عنه. وما دمنا علمنا أنه عالم، فلا بدّ أنه عالم بقبح القبيح ومستغن عنه، وعالم باستغنائه عن فعله. ومن شأن هذا العلم أن يكون داعيا له لاختيار الأفعال الحسنة دون القبيحة. وينتهي بنا كل ذلك إلى «العلم بكونه عدلا حكيما، لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب، ولا يأمر بالقبيح، ولا ينهى عن الحسن، وأن أفعاله كلها حسنة. فبهذه الطرق يحصل المرء لنفسه علوم التوحيد والعدل».
والنوع الثالث من الأدلّة وهو الذي يدلّ بالمواضعة وتعرف به النبوات والشرائع، أو بكلمات أخرى هو الوحي، الذي نستطيع عن طريقه معرفة الشريعة. غير أن علينا أن نلاحظ أن القاضي قد رتّب الأنواع الثلاثة من الأدلّة ترتيبا بحسب أهميتها المعرفية. فأدلّة التوحيد أولا، ثم أدلّة العدل فأدلّة الشرع.
ومعنى هذا أننا كما سبقت الاشارة لا نستطيع معرفة الشرع إلّا بعد معرفة التوحيد والعدل إذ أن معرفة الشرع فرع عليهما.
ويفرّق القاضي عبد الجبار بين أنواع الأدلّة من وجه آخر يكشف بشكل أوضح عن الدلالة الشرعية «اعلم أن الأدلّة على ضربين: أحدهما يدلّ على ما يدلّ عليه، لوجه يختصه لا يتعلق باختيار الفاعل له وما جرى مجراه فهذا لا يجوز أن تتغير حاله في الدلالة، وذلك كدلالة الأعراض على حدوث الاجسام، والفعل بمجرده على أن فاعله قادر، وبكونه محكما على أنه عالم. والثاني يدلّ على مدلوله، لوقوعه على وجه له تعلق باختيار فاعله، كدلالة الكلام على ما يدلّ عليه، لأن الخبر إنما
يدلّ على المخبر عنه من حيث قصد به الاخبار عما هو خبر عنه، ومن حيث كان فاعله على صفة ولا يدلّ بجنسه» ومعنى ذلك أن الكلام الدلالة الشرعية لا يدلّ إلّا بعد فهم دواعي المتكلم وقصده. ولا يمكن فهم الدواعي إلّا بعد معرفة التوحيد والعدل. أي معرفة الله بصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز. وهذا هو الشرط الأول لفهم الدلالة الشرعية. أمّا الشرط الثاني فهو المواضعة، فالكلام الدلالة الشرعية لا يمكن أن يدلّ على ما يدلّ عليه إلّا مع قدم المواضعة.(1/69)
ويفرّق القاضي عبد الجبار بين أنواع الأدلّة من وجه آخر يكشف بشكل أوضح عن الدلالة الشرعية «اعلم أن الأدلّة على ضربين: أحدهما يدلّ على ما يدلّ عليه، لوجه يختصه لا يتعلق باختيار الفاعل له وما جرى مجراه فهذا لا يجوز أن تتغير حاله في الدلالة، وذلك كدلالة الأعراض على حدوث الاجسام، والفعل بمجرده على أن فاعله قادر، وبكونه محكما على أنه عالم. والثاني يدلّ على مدلوله، لوقوعه على وجه له تعلق باختيار فاعله، كدلالة الكلام على ما يدلّ عليه، لأن الخبر إنما
يدلّ على المخبر عنه من حيث قصد به الاخبار عما هو خبر عنه، ومن حيث كان فاعله على صفة ولا يدلّ بجنسه» ومعنى ذلك أن الكلام الدلالة الشرعية لا يدلّ إلّا بعد فهم دواعي المتكلم وقصده. ولا يمكن فهم الدواعي إلّا بعد معرفة التوحيد والعدل. أي معرفة الله بصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز. وهذا هو الشرط الأول لفهم الدلالة الشرعية. أمّا الشرط الثاني فهو المواضعة، فالكلام الدلالة الشرعية لا يمكن أن يدلّ على ما يدلّ عليه إلّا مع قدم المواضعة.
هذه التفرقة الحاسمة بين أنواع الدلالات الثلاث، والفصل بينها، وترتيبها ترتيبا تنازليا يبدأ بالأهم فالمهم، أو بالعلّة فالنتيجة، هو لبّ الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة. فلقد رأينا أن الباقلاني لم يميز بوضوح بين الدليل العقلي والدليل الشرعي من حيث الترتيب والأهمية، فأحيانا يعتبر العقل حكما على الشرع، وأحيانا يفعل العكس. وكان سلوكه العملي تطبيقا حرفيا لمبدأ سيادة الشرع على العقل.
ومن جهة أخرى لم نجد عنده فرقا حاسما بين الدلالة الشرعية ودلالة اللغة، بالرغم من أنه اعتبرهما دلالتين. أمّا القاضي عبد الجبار فقد وحّد بينهما، وكان هذا مدخله الطبيعي لدراسة القرآن ولقضية التأويل ومن ثمّ تحتاج لوقفة متمهلة.
4 - الدلالة اللغوية وشرط المواضعة
يعدّ البحث في «الكلام» قضية خلافية حادة بين المعتزلة وخصومهم، خصوصا الأشاعرة. وإذا كان كل من الباقلاني والقاضي عبد الجبار قد اعتبر الدلالة الشرعية تدلّ من جهة المواضعة والمواطأة، وأضاف القاضي إليها شرط «القصد»، فإنهما لم يتفقا على تحديد مفهوم الكلام، ولا على تحديد جهة المواضعة والمواطأة. والجذر الديني لهذه المشكلة يتصل في الفكر الاعتزالي بقضية التوحيد وبقضية خلق القرآن. وقد كان هدف المعتزلة من اثارة هذه المشكلة متأثرين بمن سبقهم من المتكلمين كالجعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرتبطا برغبتهم في نفي وجود أي صفة قديمة خارجة عن الذات الإلهية، وذلك ليخلص لهم مبدأ التنزيه والتوحيد نقيا من أي ايهام بالتعدد ولذلك فصلوا بين صفات الذات وصفات الفعل. واقتصرت الصفات الذاتية عندهم على العلم والقدرة والحياة والقدم، وهي صفات ليست منفصلة عن الذات، بل هي هو فالله عند أبي. الهذيل العلاف «عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وهو حي بحياة هي هو». أمّا الكلام فقد اعتبره المعتزلة من صفات الفعل. وهي صفات لا تختلف في الغائب عنها في الشاهد، وبالتالي يجوز فيها القياس، واقامة معرفتنا لما
غاب عنا قياسا على معرفتنا لما نشاهده. ويقسم القاضي عبد الجبار الصفات الإلهية على أقسام «منها ما يجب له في كل حال، ككونه عالما وقادرا. ومنها ما يستحيل عليه في كل حال، ككونه متحركا وساكنا، إلى سائر ما يختصّ ما خالفه من الجواهر والأعراض. ومنها ما يستحيل عليه فيما لم يزل ويصحّ عليه فيما بعد ذلك، كصفات الأفعال أجمع، ككونه محسنا ومتفضّلا ورازقا وخالقا، فلا يجب إذا قلنا أنه يستحيل كونه متكلّما فيما لم يزل أن يستحيل ذلك عليه أبدا، بل يصحّ ذلك عليه إذا صحّ أن يفعل الكلام، كما ذكرناه في صفات الأفعال» فصفة الكلام إذن صفة فعل، وليست صفة ذات. وصفة الفعل لا يمكن أن يوصف بها الله فيما لم يزل، بل هي صفة حادثة مع وجود الحاجة للكلام. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كلام الله ليس قديما، بل هو محدث لارتباطه بوجود من يخاطبه عز وجل من الملائكة أو البشر، ووجودهم محدث لا مراء. والكلام الإلهي من ناحية أخرى لا بدّ أن يكون مفيدا، لأنه يتوجه إلى مخاطب. فإن لم يكن مفيدا دخل في العبث الذي يتنزّه الله عنه، لوقوع أفعاله كلها في دائرة الحكمة والصواب. ووجوب الإفادة في كلام الله مع وجوب الحدوث يؤديان معا إلى ضرورة أن يكون كلامه سبحانه مسبوقا بالمواضعة «لأن الكلام لا يكون مفيدا إلّا وقد تقدّمت المواضعة عليه، وإلّا كانت حاله وحال سائر الحوادث لا تختلف».(1/70)
يعدّ البحث في «الكلام» قضية خلافية حادة بين المعتزلة وخصومهم، خصوصا الأشاعرة. وإذا كان كل من الباقلاني والقاضي عبد الجبار قد اعتبر الدلالة الشرعية تدلّ من جهة المواضعة والمواطأة، وأضاف القاضي إليها شرط «القصد»، فإنهما لم يتفقا على تحديد مفهوم الكلام، ولا على تحديد جهة المواضعة والمواطأة. والجذر الديني لهذه المشكلة يتصل في الفكر الاعتزالي بقضية التوحيد وبقضية خلق القرآن. وقد كان هدف المعتزلة من اثارة هذه المشكلة متأثرين بمن سبقهم من المتكلمين كالجعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرتبطا برغبتهم في نفي وجود أي صفة قديمة خارجة عن الذات الإلهية، وذلك ليخلص لهم مبدأ التنزيه والتوحيد نقيا من أي ايهام بالتعدد ولذلك فصلوا بين صفات الذات وصفات الفعل. واقتصرت الصفات الذاتية عندهم على العلم والقدرة والحياة والقدم، وهي صفات ليست منفصلة عن الذات، بل هي هو فالله عند أبي. الهذيل العلاف «عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وهو حي بحياة هي هو». أمّا الكلام فقد اعتبره المعتزلة من صفات الفعل. وهي صفات لا تختلف في الغائب عنها في الشاهد، وبالتالي يجوز فيها القياس، واقامة معرفتنا لما
غاب عنا قياسا على معرفتنا لما نشاهده. ويقسم القاضي عبد الجبار الصفات الإلهية على أقسام «منها ما يجب له في كل حال، ككونه عالما وقادرا. ومنها ما يستحيل عليه في كل حال، ككونه متحركا وساكنا، إلى سائر ما يختصّ ما خالفه من الجواهر والأعراض. ومنها ما يستحيل عليه فيما لم يزل ويصحّ عليه فيما بعد ذلك، كصفات الأفعال أجمع، ككونه محسنا ومتفضّلا ورازقا وخالقا، فلا يجب إذا قلنا أنه يستحيل كونه متكلّما فيما لم يزل أن يستحيل ذلك عليه أبدا، بل يصحّ ذلك عليه إذا صحّ أن يفعل الكلام، كما ذكرناه في صفات الأفعال» فصفة الكلام إذن صفة فعل، وليست صفة ذات. وصفة الفعل لا يمكن أن يوصف بها الله فيما لم يزل، بل هي صفة حادثة مع وجود الحاجة للكلام. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كلام الله ليس قديما، بل هو محدث لارتباطه بوجود من يخاطبه عز وجل من الملائكة أو البشر، ووجودهم محدث لا مراء. والكلام الإلهي من ناحية أخرى لا بدّ أن يكون مفيدا، لأنه يتوجه إلى مخاطب. فإن لم يكن مفيدا دخل في العبث الذي يتنزّه الله عنه، لوقوع أفعاله كلها في دائرة الحكمة والصواب. ووجوب الإفادة في كلام الله مع وجوب الحدوث يؤديان معا إلى ضرورة أن يكون كلامه سبحانه مسبوقا بالمواضعة «لأن الكلام لا يكون مفيدا إلّا وقد تقدّمت المواضعة عليه، وإلّا كانت حاله وحال سائر الحوادث لا تختلف».
لا يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في اعتبار المواضعة شرطا من شروط الدلالة اللغوية كما رأينا عند الباقلاني. ولكنهم يختلفون معهم في تحديد صفة الكلام الإلهي على أساس «أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا به وأنه قائم به ومختص بذاته». وهذا الخلاف بين قدم الكلام الإلهي قول الأشاعرة وبين حدوثه قول المعتزلة كان من شأنه أن يثير خلافا حول أصل المواضعة في اللغة هل هي توقيف من الله أم اصطلاح من البشر؟ وكان من الطبيعي أن يذهب الأشاعرة إلى اعتبار المواضعة توقيفا، ما دام الكلام صفة ذاتية قديمة من صفات الله عز وجل. وإلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة اتساقا مع نظرتهم للكلام الإلهي على أنه صفة من صفات الفعل.
وإذا كانت هذه القضية تبدو ناضجة جدا وواضحة المعالم في القرن الرابع حيث يعبّر ابن فارس عن رأي القائلين بالتوقيف، ويعبّر القاضي عبد الجبار عن رأي القائلين بالاصطلاح، وبينهما يتراوح ابن جني رغم اعتزاليته بين التوقيف والاصطلاح وتقليد أصوات الطبيعة. إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أن القضية أقدم من ذلك، إذ هي ترتدّ كما أشرنا للخلاف حول صفة الكلام وخلق
القرآن وهي خلافات أدّت إلى فتن دامية، انتهت بالقضاء على الإزدهار الاعتزالي في التاريخ الاسلامي.(1/71)
وإذا كانت هذه القضية تبدو ناضجة جدا وواضحة المعالم في القرن الرابع حيث يعبّر ابن فارس عن رأي القائلين بالتوقيف، ويعبّر القاضي عبد الجبار عن رأي القائلين بالاصطلاح، وبينهما يتراوح ابن جني رغم اعتزاليته بين التوقيف والاصطلاح وتقليد أصوات الطبيعة. إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أن القضية أقدم من ذلك، إذ هي ترتدّ كما أشرنا للخلاف حول صفة الكلام وخلق
القرآن وهي خلافات أدّت إلى فتن دامية، انتهت بالقضاء على الإزدهار الاعتزالي في التاريخ الاسلامي.
ويقرر القرآن أن الله هو الذي علّم آدم الاسماء كلها، ولذلك استند اصحاب التوقيف إلى هذه الآية (سورة البقرة / 31) للاستدلال على صحة رأيهم.
أمّا القائلون بالاصطلاح فقد وقعوا في مآزق حاولوا الخروج منها بالتأويل.
واضطرب المعتزلة جميعا أمام هذه الآية اضطرابا عظيما. ذهب أبو علي الجبائي (ت 303هـ) مستندا إلى هذه الآية إلى أن «هذه اللغات أصلها التوقيف» وبذلك أراح نفسه، لأنه كان يعتبر الخاطر الداعي إلى النظر أساس التكليف اعتقاد، وبالتالي لا بدّ قبل وقوع التكليف من جهة الله من التوقيف على بعض اللغات ليصحّ النظر، ويحسن ارسال الرسل. ولقد خالف أبو هاشم (ت 321هـ) أباه في هذه القضية، ويهاجم ابن القيّم الجوزية أبا هاشم على أساس «أنه زعم أن اللغات اصطلاحية، وأن أهل اللغة اصطلحوا على ذلك» وأنه أول من ابتدع هذه البدعة. ويبدو في حديث أبي هاشم أنه يردّ على أبيه تعليقه بعثة الرسل والوحي على التوقيف على بعض اللغات حين يقول: «إن التوقيف في تعليم الأسماء والصفات لا يصحّ. ويقول (متأوّلا آية سورة البقرة) إن تعليم الله تعالى آدم الأسماء لا يصحّ إلّا وقد عرف، مواضعة، على لغة الملائكة، ثم وقعت المخاطبة بها، فعرف عند ذلك ما عرفه الله تعالى» وهكذا يفترض أبو هاشم أن ثمّة لغة تواضعت عليها الملائكة، وأن آدم كان قد عرف هذه اللغة قبل أن يعلّمه الله اسماء الأشياء، ثم علّمه الله اسماء هذه الأشياء باللغة التي عرفها آدم عن الملائكة. وينسى أبو هاشم أنه يرتدّ بقضية المواضعة إلى الملائكة الذين هم خلق لله، ويسلب آدم أي فعّالية في المواضعة اللغوية. وحقيقة المعضلة التي لم يدركها أبو هاشم أن سياق الآية نفسها كان في معرض بيان فضل آدم على الملائكة، واختيار الله له للخلافة في الأرض، ومن ثمّ تزويده ببعض الوسائل التي تعينه على الحياة ومنها تعليمه أسماء الأشياء، وهي أسماء لم تكن الملائكة تعرفها، حتى أنها عجزت عن الإنباء بأسماء هذه الأشياء، وبذلك تميّز عنهم آدم بهذا العلم الذي وهبه الله إياه.
وتعدّ فكرة الاصطلاح في اللغة عند المعتزلة ضرورية لنفي مشابهة الله للبشر، وذلك إلى جانب اتصالها بقضية الكلام وحدوثه. فالمواضعة تحتاج للاشارة المادية الحسية بمعنى أن المواضعة بين اثنين مثلا على تسمية شيء ما باسم ما تستلزم أن يشير أحدهما للشيء وينطق الاسم عدة مرات، وذلك «على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، إذا تكررت منهما الإشارات». هذه
الإشارة المادية التي هي جزء من المواضعة لا تجوز على الله لأنه ليس جسما، وهي فكرة يطرحها كل من ابن جني والقاضي عبد الجبار. يقول ابن جنى:(1/72)
وتعدّ فكرة الاصطلاح في اللغة عند المعتزلة ضرورية لنفي مشابهة الله للبشر، وذلك إلى جانب اتصالها بقضية الكلام وحدوثه. فالمواضعة تحتاج للاشارة المادية الحسية بمعنى أن المواضعة بين اثنين مثلا على تسمية شيء ما باسم ما تستلزم أن يشير أحدهما للشيء وينطق الاسم عدة مرات، وذلك «على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، إذا تكررت منهما الإشارات». هذه
الإشارة المادية التي هي جزء من المواضعة لا تجوز على الله لأنه ليس جسما، وهي فكرة يطرحها كل من ابن جني والقاضي عبد الجبار. يقول ابن جنى:
«والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدا من عباده على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بدّ معها من ايماء وإشارة بالجارحة، نحو المومى إليه، والمشار نحوه، والقديم سبحانه لا جارحة له، فيصحّ الايماء والإشارة بها منه. فبطل عندهم أن تصحّ المواضعة على اللغة منه». ويقول القاضي مؤكدا نفس الفكرة: «وأمّا أول المواضعات فلا بدّ فيه من تقدم الإشارة التي تخصص المسمى ولذلك جوّزنا من القديم تعالى تعليمه لغة بعد تقدم المواضعة على لغة، ولم نجوّز أن يبتدئ بالمواضعة لاستحالة الإشارة عليه سبحانه».
وينتهي المعتزلة تأكيدا لمبدأ التوحيد إلى أن المواضعة على اللغات لا بدّ أن تسبق كلام الله حتى يقع مفيدا، ولا يجوز أن يبدأ الله المواضعة على اللغة، لأن المواضعة تستلزم الإشارة الحسية التي لا تجوز عليه سبحانه فإذا تقدّمت المواضعة على لغة ما بين البشر، فلا مانع عند المعتزلة بعد ذلك من أن يبدأ الله مواضعة على لغة أخرى. وهذه المواضعة الثانية لا تستلزم الإشارة الحسية، لأن الكلام باللغة المتواضع عليها سابقا يغني في هذه الحالة عن الإشارة الحسية التي لا تجوز على الله. «يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول:
الذي كنتم تعبّرون عنه بكذا، عبّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه سبحانه كجوازه من عباده».
وإلى جانب ارتباط فكرة الاصطلاح في المواضعة اللغوية بقضية التوحيد، فإنها ترتبط بقضية المعرفة من جانب التفرقة بين العلم الضروري والعلم الاكتسابي. فالإشارة الحسية وهي شرط في المواضعة قرينة المعرفة الضرورية، أي أن الإسم حين يرتبط نطقه بالإشارة الحسية، يقع العلم الضروري بأن هذا الشيء المشار اليه يدعى بهذا الاسم. وهذه المعرفة الضرورية تعدّ نتيجة للاشارة الحسية، إذ هي معرفة ادراكية، أو علم بالمدركات كما يقول المعتزلة. وإذا كانت هذه الاشارة الحسية لا تجوز على الله، فإننا من جانب آخر لا يمكن أن نعرف قصده تعالى باضطرار، كما نعرف قصد المتكلم العادي الذي يزاوج عادة بين الكلام والاشارة «أنه لا طريق إلى العلم بالمقاصد على جهة الاكتساب بالكلام، وتعلقه بالمسمى». ونحن لا يمكن أن نعرف قصد الله تعالى باضطرار، لأن هذه المعرفة لا تجوز «في حال التكليف كما لا نعلم ذاته باضطرار في حال التكليف».
وليس الانسان وحده هو الذي لا يجوز عليه معرفة قصد الله معرفة ضرورية،
بل الملائكة أيضا لا يتسنى لها ذلك «لأنها مكلّفة ولم يكن لها قبل التكليف حال علمت فيه القديم، جل وعز، ضرورة لأن هذه الحال إنما تجوز في أهل الآخرة ومن يجري مجراهم دون غيرهم» وهكذا إذا كانت معرفة الله بصفاته لا يجوز أن تكون ضرورية، سواء للملائكة أو البشر لتساويهما في التكليف العقلي، فإن معرفة قصده لا يمكن أن تكون ضرورية، بل كلاهما معرفة نظرية كسبية استدلالية.(1/73)
وليس الانسان وحده هو الذي لا يجوز عليه معرفة قصد الله معرفة ضرورية،
بل الملائكة أيضا لا يتسنى لها ذلك «لأنها مكلّفة ولم يكن لها قبل التكليف حال علمت فيه القديم، جل وعز، ضرورة لأن هذه الحال إنما تجوز في أهل الآخرة ومن يجري مجراهم دون غيرهم» وهكذا إذا كانت معرفة الله بصفاته لا يجوز أن تكون ضرورية، سواء للملائكة أو البشر لتساويهما في التكليف العقلي، فإن معرفة قصده لا يمكن أن تكون ضرورية، بل كلاهما معرفة نظرية كسبية استدلالية.
كل ذلك ينفي أن يبدأ الله الملائكة أو البشر مواضعة على لغة، لأن من شرط المواضعة الإشارة الحسية التي تؤدّي إلى معرفة قصد المتكلم والمشير باضطرار. وكلا الأمرين مستحيل في حق الله، لأنه يؤدّي إلى هدم مبدأ التكليف العقلي، وهو حجر الزاوية في الفكر الاعتزالي، إلى جانب ما يؤدي اليه من مشابهة الله للأجساد.
وإذا كانت قضية المواضعة والاصطلاح في اللغة تعدّ هامة في الفكر الاعتزالي، لاتصالها بالتوحيد من جانب وبالمعرفة الاستدلالية بالله من جانب آخر، فقد كان من الطبيعي أن يعتبر القاضي عبد الجبار خلافا للباقلاني القصد شرطا من شروط الدلالة الشرعية وهي الكلام. فإذا كان المتكلم الماثل أمامنا يمكن أن نفهم قصده باضطرار بحكم ما يقارن كلامه من اشارات، فإن هذه المقارنة ليست متوفرة في كلام الله، لأنه ليس ماثلا أمامنا، ولا هو ممن تجوز عليه الإشارة.
ومن جهة أخرى فإن صفات الله صفات الذات والفعل معا يمكن التوصّل إلى معرفتها عن طريق الدليل العقلي. وصفات الفعل هي التي تكشف عن دواعي الله واختياراته، أي هي التي تكشف للعقل عما يجوز عليه من الأفعال وما لا يجوز منه، فهو عدل لا يختار القبيح ولا يأمر به ولا ينهى عن الحسن ولا يظلم ولا يكذب في أخباره الخ كل صفات العدل التي يمكن الاستدلال عليها بالعقل. وصفات الفعل هذه يمكن أن تحدد لنا مقاصد الله بكلامه. وهكذا ترتدّ الدلالة اللغوية الكلام إلى العقل الذي يعرف قصد الله استدلالا قبل ورود الشرع، وهذا أمر سنتعرّض له تفصيلا عند حديثنا عن المجاز والتأويل.
قضية الاصطلاح في المواضعة إذن ليست قضية فرعية أو ثانوية، فهي تمتد بجذورها في كل قضايا الفكر الاعتزالي. ولقد كان من الطبيعي أن تتجمع خيوط هذه القضية حول الآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا.} وهي آية كانت تواجه كل مفكر معتزلي يبحث في أصل اللغة ومنشئها. ولقد سبق أن رأينا تسليم أبي علي الجبائي بمنطوقها، وافتراضات أبي هاشم لتأويلها. أمّا القاضي عبد الجبار فيكاد يجمع كل تفاصيل النقاش في القضية عند تأويله لهذه الآية «إن الله لا يصحّ أن
يعرّف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة، ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرّفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد ولا يصحّ فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة، حتى إذا عرف لغة واحدة صحّ أن يخاطبه بها فيعرفه سائر اللغات، فلا بدّ أن يكون آدم قد عرف مواضعة الملائكة على لغة ما، ثم علّمه الاسماء في سائر اللغات بتلك اللغة» وإذا كانت الآية تنصّ على أن الله قد علّم آدم كل الأسماء، فسلاح التأويل كفيل بحل المشكلة. والدليل العقلي على استحالة أن يكون قد علّمه كل الأسماء، لاستحالة ابتداء المواضعة على الله، كفيل بتخصيص عموم لفظ «كل». فإذا كان هذا اللفظ يدلّ على العموم، وليس في لفظ الآية ما يدلّ على تخصيص هذا العموم كالاستثناء أو غيره من أدوات التخصيص اللغوية، فإن هذا الدليل العقلي يخصص عموم الآية. ومن جهة أخرى فالعقل يحدد قصد الله ويعرفه، وهو بذلك لا يقلّ دلالة عن القرينة اللفظية إن لم يزد عليها. «إذا صحّ بما ذكرناه من دليل العقل أن العلم بمراده بالخطاب لا يصحّ إلّا على الوجه الذي قدّمناه (يعني تقدم المواضعة) وجب تخصيص قوله «الأسماء كلها، والقطع على أنه لا بدّ من لغة عرفها إمّا بمواضعة بينه وبين حواء أو الملائكة، أو على جهة الإتباع للغتهم، ثم علّمه أسماء تلك الأجناس باللغات الأخر، وإن لم يمتنع أن يعرّفه أسماء أشياء لم يتواضع عليها في تلك اللغة، لأن ذلك غير ممتنع في بعض الأسماء، إذا حصلت المواضعة على غيرها من الأسماء.(1/74)
قضية الاصطلاح في المواضعة إذن ليست قضية فرعية أو ثانوية، فهي تمتد بجذورها في كل قضايا الفكر الاعتزالي. ولقد كان من الطبيعي أن تتجمع خيوط هذه القضية حول الآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا.} وهي آية كانت تواجه كل مفكر معتزلي يبحث في أصل اللغة ومنشئها. ولقد سبق أن رأينا تسليم أبي علي الجبائي بمنطوقها، وافتراضات أبي هاشم لتأويلها. أمّا القاضي عبد الجبار فيكاد يجمع كل تفاصيل النقاش في القضية عند تأويله لهذه الآية «إن الله لا يصحّ أن
يعرّف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة، ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرّفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد ولا يصحّ فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة، حتى إذا عرف لغة واحدة صحّ أن يخاطبه بها فيعرفه سائر اللغات، فلا بدّ أن يكون آدم قد عرف مواضعة الملائكة على لغة ما، ثم علّمه الاسماء في سائر اللغات بتلك اللغة» وإذا كانت الآية تنصّ على أن الله قد علّم آدم كل الأسماء، فسلاح التأويل كفيل بحل المشكلة. والدليل العقلي على استحالة أن يكون قد علّمه كل الأسماء، لاستحالة ابتداء المواضعة على الله، كفيل بتخصيص عموم لفظ «كل». فإذا كان هذا اللفظ يدلّ على العموم، وليس في لفظ الآية ما يدلّ على تخصيص هذا العموم كالاستثناء أو غيره من أدوات التخصيص اللغوية، فإن هذا الدليل العقلي يخصص عموم الآية. ومن جهة أخرى فالعقل يحدد قصد الله ويعرفه، وهو بذلك لا يقلّ دلالة عن القرينة اللفظية إن لم يزد عليها. «إذا صحّ بما ذكرناه من دليل العقل أن العلم بمراده بالخطاب لا يصحّ إلّا على الوجه الذي قدّمناه (يعني تقدم المواضعة) وجب تخصيص قوله «الأسماء كلها، والقطع على أنه لا بدّ من لغة عرفها إمّا بمواضعة بينه وبين حواء أو الملائكة، أو على جهة الإتباع للغتهم، ثم علّمه أسماء تلك الأجناس باللغات الأخر، وإن لم يمتنع أن يعرّفه أسماء أشياء لم يتواضع عليها في تلك اللغة، لأن ذلك غير ممتنع في بعض الأسماء، إذا حصلت المواضعة على غيرها من الأسماء.
وبعد، فإن ظاهر الآية يقتضي أن ما علمه من الأسماء هو ما تقدّمت المواضعة عليها، وصارت بذلك أسماء، لأن الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدّمت فيه مواضعة أو ما يجري مجراه، لانه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد، ومتى لم يتقدّم تعلقه بالمسمى لأجل القصد، لم يسم بذلك».
* * * خالف أهل السنة والأشاعرة المعتزلة في قضية المواضعة الاصطلاحية للغة.
وهذا الخلاف يرتدّ في جذوره الحقيقية، إلى قضية خلق القرآن من جهة، وقضية المعرفة من جهة أخرى. ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن القرآن «كلام الله غير مخلوق»، وذهب إلى تقديم النقل على العقل. يقول فيما يحكيه الباقلاني عنه ويوافقه عليه «لا مدخل للعقل والقياس في ايجاب معرفته وتسميته وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته». وإذا كان أول من قال بالمواضعة الاصطلاحية للغات هو أبو هاشم الجبائي، فإن أول من قال بالتوقيف من غير المعتزلة هو أبو الحسن
الأشعري، وصلة كليهما بأبي علي الجبائي معروفة. فقد جمعت بين التلمذة والبنوة الصريحة عند أبي هاشم، وبين التلمذة وبنوة التربية عند الأشعري. وينقل السيوطي عن الفخر الرازي آراء المختلفين حول هذه القضية «الألفاظ إمّا أن تدلّ على المعاني بذواتها، أو وضع الله إياها، أو بوضع الناس، أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس، والأول مذهب عباد بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك، والثالث مذهب أبي هاشم، وأمّا الرابع فإمّا أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من الله، وهو مذهب قوم. أو الابتداء من الله والتتمة من الناس، وهو مذهب الاستاذ أبي إسحاق الأسفراييني» (المزهر 1/ 6) ومن الواضح أن هذا القسم الرابع بفرعيه يمكن إدراجه تحت القسمين الثاني والثالث، فالفرع الأول منه يدخل تحت القول بالاصطلاح، وقد قال به القاضي عبد الجبار فيما تقدم. أمّا الفرع الثاني فهو يدخل بالضرورة تحت القول بالتوقيف. ومن الواضح أن القول الأول قول عباد بن سليمان لم يكتب له الذيوع والانتشار ولم يتحمس له أحد من المشاركين في بحث المشكلة، بل رفضوه جميعا «ودليل فساده أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية».(1/75)
وهذا الخلاف يرتدّ في جذوره الحقيقية، إلى قضية خلق القرآن من جهة، وقضية المعرفة من جهة أخرى. ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن القرآن «كلام الله غير مخلوق»، وذهب إلى تقديم النقل على العقل. يقول فيما يحكيه الباقلاني عنه ويوافقه عليه «لا مدخل للعقل والقياس في ايجاب معرفته وتسميته وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته». وإذا كان أول من قال بالمواضعة الاصطلاحية للغات هو أبو هاشم الجبائي، فإن أول من قال بالتوقيف من غير المعتزلة هو أبو الحسن
الأشعري، وصلة كليهما بأبي علي الجبائي معروفة. فقد جمعت بين التلمذة والبنوة الصريحة عند أبي هاشم، وبين التلمذة وبنوة التربية عند الأشعري. وينقل السيوطي عن الفخر الرازي آراء المختلفين حول هذه القضية «الألفاظ إمّا أن تدلّ على المعاني بذواتها، أو وضع الله إياها، أو بوضع الناس، أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس، والأول مذهب عباد بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك، والثالث مذهب أبي هاشم، وأمّا الرابع فإمّا أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من الله، وهو مذهب قوم. أو الابتداء من الله والتتمة من الناس، وهو مذهب الاستاذ أبي إسحاق الأسفراييني» (المزهر 1/ 6) ومن الواضح أن هذا القسم الرابع بفرعيه يمكن إدراجه تحت القسمين الثاني والثالث، فالفرع الأول منه يدخل تحت القول بالاصطلاح، وقد قال به القاضي عبد الجبار فيما تقدم. أمّا الفرع الثاني فهو يدخل بالضرورة تحت القول بالتوقيف. ومن الواضح أن القول الأول قول عباد بن سليمان لم يكتب له الذيوع والانتشار ولم يتحمس له أحد من المشاركين في بحث المشكلة، بل رفضوه جميعا «ودليل فساده أن اللفظ لو دلّ بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية».
ومن الطبيعي أن يستدلّ القائلون بالتوقيف على صحة رأيهم بالآية الكريمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} وكل تفسيرات المفسّرين القدماء ابتداء من ابن عباس يمكن في هذه الحالة أن يستدلّ بها. أما الدليل العقلي فيعرضه ابن فارس على النحو التالي: لو كانت اللغة اصطلاحا لجاز الاستشهاد بأشعار المحدثين وبكلامنا نحن المحدثين، والدليل على أنها توقيف «اجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم. ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق» غير أن هذا الرأي يؤدّي بداهة إلى انكار فكرة التطور في اللغة، ما دام دليل التوقيف هو الاستشهاد بلغة القدماء دون المحدثين. ويبدو أن ابن فارس بالفعل يؤمن بذلك، وإن كان لا ينكر حدوث التجديد والتطور في اللغة ولكنه يقف بالتطور عند عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بلغت اللغة غاية نضجها وتمامها. ومعنى ذلك أن التوقيف في اللغة لم يتم دفعة واحدة، بل بدأ بآدم، وظلّ يتطور وتنمو اللغة مع احتياج البشر وارسال الرسل، حتى كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم «فأتاه الله عز وجل من ذلك ما لم يؤته أحدا قبله تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت».
وهكذا ينتهي ابن فارس إلى ربط الحاجة للغة بالبعثة، تماما كما فعل أبو علي
الجبائي، وما دامت البعثة والشريعة تأتي من عند الله، واللغة من لوازمها ليفهم عن الله ما أنزل، فهي بدورها توقيف من الله علّمه عباده حتى يفهموا عنه.(1/76)
وهكذا ينتهي ابن فارس إلى ربط الحاجة للغة بالبعثة، تماما كما فعل أبو علي
الجبائي، وما دامت البعثة والشريعة تأتي من عند الله، واللغة من لوازمها ليفهم عن الله ما أنزل، فهي بدورها توقيف من الله علّمه عباده حتى يفهموا عنه.
* * * ذهب أبو علي الفارسي أستاذ ابن جني إلى ما ذهب إليه أبو علي الجبائي من أن اللغات «من عند الله» واحتج بقوله سبحانه، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} ورغم محاولة ابن جني رفع التناقض وتأويل الآية وجعلها بعيدة عن أن تكون موضع خلاف على أساس «أنه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة. فإذا كان ذلك محتملا، غير مستنكر، سقط الاستدلال به». وهو تأويل يخرج من الافتراضات التي افترضها كل من أبي هاشم والقاضي عبد الجبار وتأوّلا الآية على أساسها. رغم هذه المحاولة الناجحة إلى حد كبير، والتي تقترب من حل المشكلة، يعود ابن جني ليفترض ان الله قد يجوز أن يواضع ابتداء، ودون مواضعة على لغة سابقة وذلك «بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشبة أو غيرها، اقبالا على شخص من الأشخاص، وتحريكا لها نحوه، ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتا يضعه اسما له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه عز اسمه قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك، بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الايماء، وهذه الاشارة، مقام جارحة ابن آدم في الاشارة بها في المواضعة» وهو افتراض لا يختلف كثيرا عن افتراض زملائه المعتزلة أن الله يخلق كلاما في جسم، شجرة مثلا، يسمعه النبي، وأنه لا يجوز أن يكون الله متكلما إلّا على هذا النحو، دون أن يحلّ الكلام وهو عرض في ذاته. غير أن هذا الافتراض قصد منه نفي قدم الكلام الإلهي، وافتراض ابن جني مجرد محاولة للجمع بين جواز أن تكون اللغة توقيفا من الله، وبين نفي الاشارة والجارحة عن الله. والواقع أن ابن جني ظلّ مترددا بين الأمرين بين الاصطلاح والتوقيف وسجّل لنا هذه الحيرة والتردد. «واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث في هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك أنني إذا تأمّلت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة، اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة، والدقة، والارهاف، والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف الى ذلك
وارد الأخبار المأثورة، بأنها من عند الله جل وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه، وأنها وحي. ثمّ أقول في ضد هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر، وأجرأ جنانا، فأقف بين هاتين الخلتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفئ مكسورا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف باحدى الجهتين، ويكفيها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق» وهو تردد عالم باحث مدقق لا يجد مرجّحا بين المذهبين، فيصل به الأمر إلى موقف «لا أدري».(1/77)
* * * ذهب أبو علي الفارسي أستاذ ابن جني إلى ما ذهب إليه أبو علي الجبائي من أن اللغات «من عند الله» واحتج بقوله سبحانه، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} ورغم محاولة ابن جني رفع التناقض وتأويل الآية وجعلها بعيدة عن أن تكون موضع خلاف على أساس «أنه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة. فإذا كان ذلك محتملا، غير مستنكر، سقط الاستدلال به». وهو تأويل يخرج من الافتراضات التي افترضها كل من أبي هاشم والقاضي عبد الجبار وتأوّلا الآية على أساسها. رغم هذه المحاولة الناجحة إلى حد كبير، والتي تقترب من حل المشكلة، يعود ابن جني ليفترض ان الله قد يجوز أن يواضع ابتداء، ودون مواضعة على لغة سابقة وذلك «بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشبة أو غيرها، اقبالا على شخص من الأشخاص، وتحريكا لها نحوه، ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتا يضعه اسما له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه عز اسمه قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك، بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الايماء، وهذه الاشارة، مقام جارحة ابن آدم في الاشارة بها في المواضعة» وهو افتراض لا يختلف كثيرا عن افتراض زملائه المعتزلة أن الله يخلق كلاما في جسم، شجرة مثلا، يسمعه النبي، وأنه لا يجوز أن يكون الله متكلما إلّا على هذا النحو، دون أن يحلّ الكلام وهو عرض في ذاته. غير أن هذا الافتراض قصد منه نفي قدم الكلام الإلهي، وافتراض ابن جني مجرد محاولة للجمع بين جواز أن تكون اللغة توقيفا من الله، وبين نفي الاشارة والجارحة عن الله. والواقع أن ابن جني ظلّ مترددا بين الأمرين بين الاصطلاح والتوقيف وسجّل لنا هذه الحيرة والتردد. «واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث في هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك أنني إذا تأمّلت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة، اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة، والدقة، والارهاف، والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف الى ذلك
وارد الأخبار المأثورة، بأنها من عند الله جل وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه، وأنها وحي. ثمّ أقول في ضد هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر، وأجرأ جنانا، فأقف بين هاتين الخلتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفئ مكسورا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف باحدى الجهتين، ويكفيها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق» وهو تردد عالم باحث مدقق لا يجد مرجّحا بين المذهبين، فيصل به الأمر إلى موقف «لا أدري».
وقد كان يمكن لابن جني أن يتوقف عند رأيه الثالث، الذي ذهب فيه إلى أن اللغة نشأت تقليدا لأصوات الطبيعة «كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل» قد كان لابن جني أن يتوقف عند هذا الرأي الذي ينفرد به بين الباحثين في هذه القضية، ولكن يبدو أن هذا الرأي بدوره قد اعتبر تفريعا على القول بالاصطلاح، وهذا ما جعل ابن جني يقصر حيرته وتردده بين الاصطلاح والتوقيف.
* * * ويرتبط الخلاف حول أصل المواضعة أيضا بخلاف آخر حول تحديد مفهوم الكلام. فالكلام عند المعتزلة كما يعبّر عنهم القاضي عبد الجبار «ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة حصل في حرفين أو حروف.
فما اختصّ بذلك وجب كونه كلاما، وما فارقه لم يجب كونه كلاما. وإن كان من جهة التعارف لا يوصف بذلك، إلّا إذا وقع ممن يفيد أو يصحّ أن يفيد، فلذلك لا يوصف منطق الطير كلاما، وإن كان قد يكون حرفين أو حروفا منظومة» ويقوم هذا التعريف عند القاضي وهو تعريف يشترط في الكلام الافادة على أساس مبدأ أثير عند المعتزلة، هو «قياس الغائب على الشاهد» أي أن «كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة» والفارق بين الشاهد والغائب أننا نحتاج في إحداث الكلام إلى بنية مخصوصة «لأن ذلك آلة لنا في ايجاده» لأننا قادرون بقدرة «وليس كذلك حكم القادر لنفسه، لأنه ليس يحتاج في ايجاده لما يوجده إلى آلة، ولا إلى سبب».
وبذلك ينتهي القاضي إلى أن كلام الله «عرض يخلقه الله سبحانه في الأجسام على
وجه يسمع، ويفهم معناه، ويؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يأمر به عز وجل ويعلمه صلاحا، ويشتمل على الأمر والنهي والخبر وسائر الأقسام، ككلام العباد» وبذلك ينتهي المعتزلة إلى اثبات حدوث كلام الله ونفي قدمه وذلك حفاظا على وحدة الله الأزلية.(1/78)
وبذلك ينتهي القاضي إلى أن كلام الله «عرض يخلقه الله سبحانه في الأجسام على
وجه يسمع، ويفهم معناه، ويؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يأمر به عز وجل ويعلمه صلاحا، ويشتمل على الأمر والنهي والخبر وسائر الأقسام، ككلام العباد» وبذلك ينتهي المعتزلة إلى اثبات حدوث كلام الله ونفي قدمه وذلك حفاظا على وحدة الله الأزلية.
أمّا الأشاعرة فقد كان لهم منحى آخر، واتجاه مغاير، وإن كانت غايتهم وغاية المعتزلة واحدة وهي التنزيه والتوحيد. فقد فهم بعض المسلمين أن نفي الكلام عن الله في الأزل يعني وصفه بنقيض الكلام وهو الخرس. والخرس صفة نقص لا تجوز على الله الذي جمع صفات الكمال المطلقة. ولم يكن هذا الاعتراض واردا في ذهن المعتزلة، لأنهم كما سبقت الاشارة اعتبروا الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات كما ذهب الاشاعرة، وربطوه ببعثة الرسل التي يفترض قبلها وجود البشر الذين تبعث الرسل لمصلحتهم. ويعبّر الأشعري عن هذا المنحى حين يقول: «ومما يدلّ من القياس على أن الله لم يزل متكلما أنه لو كان لم يزل غير متكلم وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام لكان موصوفا بضد من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة. ولو كان لم يزل موصوفا بضد الكلام لكان ضد الكلام قديما. ولو كان ضد الكلام قديما لاستحال أن يعدم وأن يتكلم الباري لأن القديم لا يجوز عدمه كما لا يجوز حدوثه فكان يجب أن لا يكون الباري تعالى قائلا ولا آمرا ولا ناهيا على وجه من الوجوه وهذا فاسد عندنا وعندهم وإذا فسد هذا صحّ أن الباري لم يزل متكلما قائلا» والمعتزلة على عكس ما يقول الأشعري لا يعتبرون الله قائلا ولا آمرا فيما لم يزل. فقوله تعالى، وأوامره، ونواهيه، محدثة لتعلقها بمن يتوجه إليهم الكلام والأمر والنهي، وهم المكلّفون الذين يستحيل وصفهم بأنهم موجودون فيما لم يزل. ويذهب ابن متويه (ت 469هـ) أحد تلامذة القاضي عبد الجبار ردا على هذا الرأي إلى أن الخرس والسكوت «ليس بينهما وبين الكلام تضاد، لأن الخرس فساد يلحق آلة الكلام» والله عند المعتزلة ليس متكلما بآلة.
وإذا كان تعريف المعتزلة للكلام أنه الأصوات المنظومة المفيدة التي تترتب في الحدوث على وجه مخصوص، فقد كان من الطبيعي أن يعترض الأشاعرة على هذا التعريف لما يؤدي إليه من حدوث الكلام، وبالتالي خلق القرآن. ويعدّ الباقلاني أول من تعرّض للرد على هذا التعريف، فذهب إلى «أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه امارات تدلّ عليه. فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى به
وجعل لغة لهم». وإذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، والكلام أمارة تدلّ عليه، فمن الطبيعي أن يساوي الباقلاني بين دلالة الكلام وغيره من الدلالات كالكتابة والاشارة والرموز الأخرى. ولا يكتفي الباقلاني بقصر هذا التعريف على الكلام الإلهي محور المعضلة بل يمتدّ بتعريفه أيضا للكلام البشري «إن حقيقة الكلام على الاطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحروف والأصوات ووجودهما» ويكون الفارق بين كلام الله وكلام الخلق عنده أن «الخلق كلامهم مخلوق ك هم، وكلام الله ليس بمخلوق ك هو سبحانه وتعالى»(1/79)
وإذا كان تعريف المعتزلة للكلام أنه الأصوات المنظومة المفيدة التي تترتب في الحدوث على وجه مخصوص، فقد كان من الطبيعي أن يعترض الأشاعرة على هذا التعريف لما يؤدي إليه من حدوث الكلام، وبالتالي خلق القرآن. ويعدّ الباقلاني أول من تعرّض للرد على هذا التعريف، فذهب إلى «أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه امارات تدلّ عليه. فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى به
وجعل لغة لهم». وإذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، والكلام أمارة تدلّ عليه، فمن الطبيعي أن يساوي الباقلاني بين دلالة الكلام وغيره من الدلالات كالكتابة والاشارة والرموز الأخرى. ولا يكتفي الباقلاني بقصر هذا التعريف على الكلام الإلهي محور المعضلة بل يمتدّ بتعريفه أيضا للكلام البشري «إن حقيقة الكلام على الاطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحروف والأصوات ووجودهما» ويكون الفارق بين كلام الله وكلام الخلق عنده أن «الخلق كلامهم مخلوق ك هم، وكلام الله ليس بمخلوق ك هو سبحانه وتعالى»
وهذا التوحيد بين المعنى النفسي والكلام عند الأشاعرة، وكذلك توحيدهم بين الدلالة الصوتية وغيرها من أنواع الدلالات، ثم عدم تفرقتهم بين الكلام الإلهي والكلام البشري، قد يوقعهم في مجموعة من الاعتراضات والالزامات لو استخدمنا طريقة المعتزلة في الجدل. وأول هذه الالزامات أنه يلزمهم وصف الأخرس بأنه متكلم لأن نفسه لا تخلو من معان. ويلزمهم وصف من يدل أخرسا على الطريق بأنه متكلم وإن كان يشير دون صوت. وأهم من ذلك كله أنه يلزمهم وصف كل صامت في الحال بأنه متكلم، لأنه لا يخلو رغم صمته من التفكير في أمر من الأمور. غير أن المعتزلة لا ينكرون المعاني القائمة بالنفس، وإن كانوا لا يعتبرونها كلاما، بل يتوقفون عند حد اعتبارها معاني ويكون «غرضهم بقولهم» في نفس الكلام «أني عالم بأمر أريد أن أبديه لك بالخطاب، وأنا عازم عليه» «وقولهم: فلان يرتّب الكلام في نفسه ثمّ يتكلم به يعنون به أنه يرتّب معنى الكلام، وإلّا كان قولهم: ثم يتكلم به ناقضا له، لأن ما رتّب وفعل لا يجوز أن يفعل من بعد»
ويبدو الخلاف هنا خلافا شكليا، خصوصا والمعتزلة أيضا يعتبرون الكلام دلالة على ما في النفس ولا ينكرون ذلك، وإن كانوا يفرّقون بينهما ولا يوحّدون كما فعل الباقلاني «فلو كان الكلام معنى في النفس لم يصح أن يقال في العبارة أنها تدلّ عليه، لأن لا نسبة بينها وبينه ولا تعلق» ولكن ارتباط القمية برمتها بقضية التوحيد هو الذي جعل المعتزلة ينفرون من اعتبار الكلام هو المعاني القائمة في النفس، لأن المعاني عندهم هي الصفات، وهم لا يثبتون لله صفة مغايرة لذاته كما يفعل الأشاعرة. ولعل هذا يفسّر لنا استخدام القاضي لمصطلح «القصد» الذي اعتبره إلى جانب المواضعة شرطا لاعتبار الكلام دلالة، وسنتعرّض
لدلالة هذا المصطلح عمّا قريب.(1/80)
ويبدو الخلاف هنا خلافا شكليا، خصوصا والمعتزلة أيضا يعتبرون الكلام دلالة على ما في النفس ولا ينكرون ذلك، وإن كانوا يفرّقون بينهما ولا يوحّدون كما فعل الباقلاني «فلو كان الكلام معنى في النفس لم يصح أن يقال في العبارة أنها تدلّ عليه، لأن لا نسبة بينها وبينه ولا تعلق» ولكن ارتباط القمية برمتها بقضية التوحيد هو الذي جعل المعتزلة ينفرون من اعتبار الكلام هو المعاني القائمة في النفس، لأن المعاني عندهم هي الصفات، وهم لا يثبتون لله صفة مغايرة لذاته كما يفعل الأشاعرة. ولعل هذا يفسّر لنا استخدام القاضي لمصطلح «القصد» الذي اعتبره إلى جانب المواضعة شرطا لاعتبار الكلام دلالة، وسنتعرّض
لدلالة هذا المصطلح عمّا قريب.
وحّد الباقلاني كما لاحظنا بين دلالة الصوت والكتابة والاشارة والرمز.
ويقارن القاضي عبد الجبار من جانب المواضعة بين الكلام من جانب، وبين الإشارات والمعجزات من جانب آخر. ومقارنته بين الكلام والاشارات ينتهي منها إلى أن الإشارة يمكن أن تحلّ محلّ الأصوات إذا سبقت عليها مواضعة، غير أن الأصوات تعبّر بشكل أوسع عمّا لا تستطيع الإشارة التعبير عنه بحكم تعدد الأصوات وكثرتها. وينتهي من مقارنته بين الكلام والمعجزات إلى أن المعجزة أشدّ دلالة على ما تدلّ عليه من الكلام، لأن الكلام قد يقع فيه الاشتراك والمجاز والاستعارة. وكلتا المقارنتين ضرورية لفهم طبيعة المواضعة من جانب، ولفهم خصوصية الدلالة الكلامية من جانب آخر. وهي خصوصية لم يتعرّض لها الأشاعرة تفصيلا لتوحيدهم بين أنواع الدلالات الوضعية من جهة، ولقولهم بالتوقيف في المواضعة من جهة أخرى.
والمقارنة التي يعقدها القاضي بين الاشارة والكلام توحّد بينهما بشرط وجود المواضعة «ولذلك نجد أحدنا يستدعي من غلامه سقي الماء بالإشارة، على حد ما يستدعيه بالعبارة، لعادة تقدّمت، يعرف بها أن الاشارة تحلّ محل العبارة التي تقدّمت معرفة فائدتها».
وكما تدلّ الإشارة إذا تقدّمت عليها مواضعة، تدلّ المعجزة كدلالة الكلام، إذا وقعت بعد ادّعاء النبي أنه نبي، وأن علامة صدقه أن تنقلب العصا حية. فإذا انقلبت العصا حية كان هذا الفعل دلالة على صدق النبي، وذلك للاتفاق السابق بينه وبين من يتحدث إليه. فإذا انتفى شرط الاتفاق السابق بين النبي وقومه لم يكن لانقلاب العصا أي دلالة. ومعنى ذلك أن المعجزة لا تدلّ على صدق النبي إلّا باتفاق سابق أو مواضعة سابقة على دلالتها «وعلى هذا الوجه تنزل المعجزات منزلة التصديق بالقول فنقول: إذا صحّ لو صدقه تعالى، عند ادّعائه النبوة والرسالة كونه نبيا، فكذلك إذا فعل ما يحلّ هذا المحل من المعجزات، لأن مجموع قوله: اللهم إن كنت صادقا فيما ادّعيت من الرسالة فاقلب العصا حية، ثم وقوع ما سأل عنه مطابقا لمسألته بمنزلة المواضعة المتقدمة على التصديق، بل ذلك أقوى في بابه، لأن من حق التصديق بالقول أن يقع فيه، والحال هذه، المجاز والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام، وصحة هذه الطريقة فيه. ولا يتأتى ذلك في الفعل المخصوص إذا التمسه الرسول من المرسل للمرسل اليه» فالمعجزة شأنها شأن الكلام إذا وقعت تصديقا لادّعاء النبي. بل يذهب القاضي إلى أنها أشدّ
دلالة، وأقوى في بابه، لأنها لا تحتمل المجاز ولا الاستعارة الذي يحتمله الكلام لأمر يرجع إلى طبيعته الخاصة.(1/81)
وكما تدلّ الإشارة إذا تقدّمت عليها مواضعة، تدلّ المعجزة كدلالة الكلام، إذا وقعت بعد ادّعاء النبي أنه نبي، وأن علامة صدقه أن تنقلب العصا حية. فإذا انقلبت العصا حية كان هذا الفعل دلالة على صدق النبي، وذلك للاتفاق السابق بينه وبين من يتحدث إليه. فإذا انتفى شرط الاتفاق السابق بين النبي وقومه لم يكن لانقلاب العصا أي دلالة. ومعنى ذلك أن المعجزة لا تدلّ على صدق النبي إلّا باتفاق سابق أو مواضعة سابقة على دلالتها «وعلى هذا الوجه تنزل المعجزات منزلة التصديق بالقول فنقول: إذا صحّ لو صدقه تعالى، عند ادّعائه النبوة والرسالة كونه نبيا، فكذلك إذا فعل ما يحلّ هذا المحل من المعجزات، لأن مجموع قوله: اللهم إن كنت صادقا فيما ادّعيت من الرسالة فاقلب العصا حية، ثم وقوع ما سأل عنه مطابقا لمسألته بمنزلة المواضعة المتقدمة على التصديق، بل ذلك أقوى في بابه، لأن من حق التصديق بالقول أن يقع فيه، والحال هذه، المجاز والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام، وصحة هذه الطريقة فيه. ولا يتأتى ذلك في الفعل المخصوص إذا التمسه الرسول من المرسل للمرسل اليه» فالمعجزة شأنها شأن الكلام إذا وقعت تصديقا لادّعاء النبي. بل يذهب القاضي إلى أنها أشدّ
دلالة، وأقوى في بابه، لأنها لا تحتمل المجاز ولا الاستعارة الذي يحتمله الكلام لأمر يرجع إلى طبيعته الخاصة.
وإذا كانت دلالة الكلام في باب المعجزات أقلّ من الفعل لجواز وقوع المجاز والاستعارة فيه، فإن الكلام يتميّز عن الاشارات والحركات بأنه يعبّر باتساع عن حاجات الناس ومطالبهم، وهي حاجات لا تستطيع الاشارات والحركات لضيقها ومحدوديتها أن تتسع له. ويربط الجاحظ بين وسائل البيان والحاجات البشرية الاجتماعية. وإذا كان الانسان في نظر الجاحظ اجتماعيا بطبعه، فمن الطبيعي أن يحسّ بالحاجة للابانة عن نفسه والتواصل مع غيره من بني البشر «فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى اخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا» فلا بدّ إذن من وسيلة لنقل المعرفة والخبرة، والتواصل بين القريب والبعيد، وبين الماضي والحاضر والمستقبل. ولا تترك العناية الإلهية الانسان دون أن تكمل له وسائله وحاجاته. وعلى قدر تعدد الحاجات للابانة، تتعدد وسائل الابانة، وعلى ذلك فإن الله «لم يرض لهم من البيان بصنف واحد وجعل آلة البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء هي: اللفظ، والخط، والإشارة، والعقد»
يتفق القاضي عبد الجبار مع الجاحظ في تأكيد وجه المصلحة في وجود وسيلة للابانة، وإن اختلف معه في التفرقة بين الاشارة والكلام، اللذين وحّد الجاحظ بينهما في النص السابق، وذلك بناء على تفرقته بينهما من حيث الضيق والاتساع «إن حاجة العقلاء لمّا دعت إلى الإنباء عمّا في النفس، لما فيه من النفع، ودفع الضرر، وعلموا أن ذلك وإن صح بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتسع ذلك اتساع الكلام، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل تعرف أنه أشدّ اتساعا من كل ما تصح فيه المواضعة. وليس يمتنع أن يعرفوا ذلك الهاما، أو بالتأمل، أو الاختبار، وللاجتماع في ذلك من التأثير ما ليس للانفراد، لأن جميعهم إذا تعارفوا على المراد قل فيه اللبس وظهر فيه الغرض».(1/82)
5 - الدلالة اللغوية وشرط القصد
بعد أن انتهينا من مناقشة الجوانب المتعددة لشرط المواضعة الذي بدونه لا يصحّ وقوع الكلام دلالة، من الضروري أيضا أن نناقش الجوانب المختلفة لمفهوم «القصد» الشرط الثاني للدلالة الكلامية. وأول هذه الجوانب معنى «القصد» عند القاضي عبد الجبار. وقد لاحظنا من قبل أن الباقلاني لم يشترط في حديثه عن الدلالة الشرعية والدلالة اللغوية سوى شرط المواضعة والمواطأة، ولم يتعرض لشرط القصد من بعيد أو قريب.
وأول معنى من معاني «القصد» عند القاضي عبد الجبار يمكن لنا أن نتلمّسه في حديثه عن علاقة الاسم بالمسمى، وهي قضية خلافية أيضا بين المعتزلة والأشاعرة. ولقد كان من نتائج تسوية الاشاعرة بين المعنى النفسي والكلام أنهم على مستوى الدلالة اللغوية لم يفرّقوا بين الاسم والمسمى واعتبروهما شيئا واحدا «إن الاسم هو المسمى بعينه وذاته والتسمية الدالّة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز» وقد كانت التفرقة بين المعاني النفسية والكلام هي المقدمة الطبيعية لتفرقة المعتزلة بين الاسم والمسمى، واعتبار الاسم إشارة إلى المسمى. غير أن هذا الخلاف يرتدّ بدوره إلى قضية الخلاف حول صفات الله عز وجل ومنها صفة الكلام وحول حدوثها وقدمها. واتفق المعتزلة والخوارج وكثير من المرجئة وكثير من الزيدية على أن «أسماء الباري هي غيره وكذلك صفاته» وذهبوا إلى أن «الأسماء والصفات هي الأقوال، وهي قولنا الله عالم، الله قادر، وما أشبه ذلك» وكان من الطبيعي أن يمتدّ هذا الخلاف ويسحب ظلّه على قضايا الدلالة اللغوية. وكلا الفريقين على أي حال متسق مع وجهة نظره العامة في التوحيد والكلام والمواضعة اللغوية.
وكان على المعتزلة أن يكشفوا بطريقة أو بأخرى عن طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى. تلك العلاقة التي سكت عنها الأشاعرة بحكم توحيدهم بين الكلام والمعاني النفسية، ومن ثمّ بين الاسم والمسمى. ومن الطبيعي كذلك أن يدور هذا الخلاف حول الآية التي سبق أن دار الخلاف حولها في قضية المواضعة وهي قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} (البقرة / 31). ومن استعراض آراء المفسّرين القدماء لهذه الآية لا نجد أي ظل لهذا الخلاف غير أن الطبري نفسه (ت 310هـ) وهو أقرب إلى أهل السنة منه إلى المعتزلة يفرّق بين الاسم
والمسمى ولا يعتبرهما شيئا واحدا. ويهاجم عند تفسير البسملة أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت 207هـ) لقوله في بيت لبيد:(1/83)
وكان على المعتزلة أن يكشفوا بطريقة أو بأخرى عن طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى. تلك العلاقة التي سكت عنها الأشاعرة بحكم توحيدهم بين الكلام والمعاني النفسية، ومن ثمّ بين الاسم والمسمى. ومن الطبيعي كذلك أن يدور هذا الخلاف حول الآية التي سبق أن دار الخلاف حولها في قضية المواضعة وهي قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا} (البقرة / 31). ومن استعراض آراء المفسّرين القدماء لهذه الآية لا نجد أي ظل لهذا الخلاف غير أن الطبري نفسه (ت 310هـ) وهو أقرب إلى أهل السنة منه إلى المعتزلة يفرّق بين الاسم
والمسمى ولا يعتبرهما شيئا واحدا. ويهاجم عند تفسير البسملة أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت 207هـ) لقوله في بيت لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ان اسم السلام هو السلام، ويهاجمه على أساس أنه «لو جاز ذلك لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب» ولكن هذا الخلاف يظلّ خلافا لغويا لا يمتدّ إلى أبعد من تفسير البيت أو تفسير البسملة عند الطبري.
ويكشف الجاحظ، وهو بصدد الرد على متأولي هذه الآية عن فهمه للعلاقة بين الاسم والمسمى في اللغة، أو بين الدال والمدلول كما يقول: «لا يجوز أن يعلّمه (أي يعلّم الله آدم) الاسم ويدع المعنى، ويعلّمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو كالظرف الخالي. والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدن والمعنى للفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له، وشيئا لا حس فيه، وشيئا لا منفعة عنده.
ولا يكون اللفظ اسما إلّا وهو مضمّن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم إلّا وله معنى» وهذا النص يكشف أمرين: الأمر الأول هو اشتراط تضمّن الاسم لمعنى وإلّا صار لغوا وظرفا خاليا وجسدا ميتا لا منفعة فيه، ومعنى ذلك أن تعليم الله آدم الأسماء لا بدّ أنه تضمّن تعليمه محتويات هذه الأسماء ومضامينها وهي المعاني ومن حقنا هنا أن نستنتج أن العلاقة بين الاسم والمسمى هي ما يطلق عليه الجاحظ «المعنى». أمّا الأمر الثاني الذي يكشف عنه النص، فهو تلك التفرقة الحادة بين الأسماء والمعاني. ورغم اعتبار اللفظ جسما والمعنى روحا، وهو تشبيه ينبئ عن قوة العلاقة بين الألفاظ والمعاني، فالجاحظ يفترض وجود معان بلا أسماء، وذلك يؤكّد الفاصل الحاد بينهما في ذهن الجاحظ. وإن كان من ناحية أخرى يحيل وجود أسماء بلا معان.
ويكاد القاضي عبد الجبار في تأويله للآية يكرر نفس ألفاظه. غير أنه يستخدم كلمة «القصد» بدلا من كلمة «المعنى» التي يستخدمها الجاحظ. يقول:
«ولا يصحّ أن يعرف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد ولا يصحّ فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة». وإذا كان القاضي قد ربط بين المواضعة والقصد والتكليف من جانب، وبين التفرقة بين العلم الاستدلالي والعلم
الضروري من جانب آخر، وهو أمر لم يتعرّض له الجاحظ بحكم استطراداته، فإن استخدام القاضي لكلمة «القصد» بدلا من كلمة «المعنى» التي استخدمها الجاحظ، يجعلهما بمعنى واحد. ويؤكّد ذلك ما يقوله القاضي في مكان آخر حول نفس الآية «إن ظاهر الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدّمت فيه مواضعة، أو ما يجري مجراها، لأنه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد» وهي نفس الفكرة التي طرحها الجاحظ من أن الاسم لا يكون اسما إلّا وهو مضمّن بمعنى ويظلّ الخلاف حول تفسير الآية، وحول علاقة الاسم بالمسمى يتردد عند المفسّرين، فالزمخشري يقول في تفسير «الاسماء كلها» «أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الاسماء لأن الاسم لا بدّ له من مسمى وعوّض عنه باللام» ويهاجمه ابن المنير السني لأنه «يفرّ من اعتقاد ان الاسم هو المسمى لأن ذلك معتقد أهل السنة فيعمل الحيلة في ابعاده عن مقتضى الآية».(1/84)
«ولا يصحّ أن يعرف المكلّف الأسماء كلها لأنه لا بدّ من مواضعة متقدمة على لغة واحدة ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم، لم يصح أن يعرفه مع التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد ولا يصحّ فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة». وإذا كان القاضي قد ربط بين المواضعة والقصد والتكليف من جانب، وبين التفرقة بين العلم الاستدلالي والعلم
الضروري من جانب آخر، وهو أمر لم يتعرّض له الجاحظ بحكم استطراداته، فإن استخدام القاضي لكلمة «القصد» بدلا من كلمة «المعنى» التي استخدمها الجاحظ، يجعلهما بمعنى واحد. ويؤكّد ذلك ما يقوله القاضي في مكان آخر حول نفس الآية «إن ظاهر الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدّمت فيه مواضعة، أو ما يجري مجراها، لأنه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد» وهي نفس الفكرة التي طرحها الجاحظ من أن الاسم لا يكون اسما إلّا وهو مضمّن بمعنى ويظلّ الخلاف حول تفسير الآية، وحول علاقة الاسم بالمسمى يتردد عند المفسّرين، فالزمخشري يقول في تفسير «الاسماء كلها» «أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الاسماء لأن الاسم لا بدّ له من مسمى وعوّض عنه باللام» ويهاجمه ابن المنير السني لأنه «يفرّ من اعتقاد ان الاسم هو المسمى لأن ذلك معتقد أهل السنة فيعمل الحيلة في ابعاده عن مقتضى الآية».
وإذا كانت كلمة «القصد»، عند القاضي تعطي نفس مفهوم كلمة «معنى» عند الجاحظ، فمعنى ذلك أن المواضعة والقصد جانبي الدلالة اللغوية غير منفصلين، إذ المواضعة لا بدّ أن ترتبط بقصد المتواضعين وإلّا استحال التفاهم بينهم. ولكي تؤدي اللغة وظيفة «الإنباء» عند القاضي أو «الابانة» عند الجاحظ، لا بدّ من المواضعة. والمواضعة تعدّ بديلا للاشارة للأشياء بهدف الإخبار عنها. وإذا كانت الاشارة كافية في حالة حضور الأشياء، فإن التسمية تصبح ضرورية للإخبار عنها حالة غيابها عن الإدراك «إذا ثبت أنه يحسن من العاقل أن يشير إلى ما علمه ليعرف به حاله، لم يمتنع أن يعبّر عنه ببعض الأسماء ليعرف غيره حاله ويدلّ على ذلك أن هذه الأسماء إنما احتيج إليها ليقع بها التعريف، ويصحّ بها الإخبار عند غيبة المسميات، لأن الاشارة تتعذّر إليه والحال هذه، فأقيم الاسم عند ذلك مقام الاشارة عند الحضور. فكما تحسن الاشارة عند الحضور، إذا حضر المشار إليه لوقوع الفائدة به للمشير والمشار إليه، فكذلك يحسن الاسم لهذا الغرض عند غيبة المسمى، أو يكون المسمى مما لا يظهر للحواس لأن ذلك في أن الاشارة لا تصحّ إليه على كل وجه بمنزلة المشاهد إذا غاب» وهكذا تتحدد المواضعة بأنها بديل عن الاشارة للأشياء الحسية، وذلك بهدف الاخبار عنها حالة غيابها عن الحواس.
وتصبح المواضعة ضرورية للإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحواس، وذلك كالأفكار المجرّدة التي لا تقع على متعين مخصوص كالبقاء والفناء والقدم الخ كل هذه الألفاظ التي لا يمكن أن تشير إلى موجودات حسية. والتفرقة بين المحسوسات التي يحسن تسميتها، وبن الذهنيات التي يجب تسميتها لاستحالة الاشارة إليها يمكن اعتبارها موازاة للمعرفة الإدراكية الضرورية، والمعرفة النظرية الاستدلالية. وكلا
المستويين من المعرفة يتطلّب الإخبار عنه، وهي الحاجة التي تجعل المواضعة ضرورية، ما دامت وظيفة اللغة هي «الإنباء» عمّا في النفس لتبادل المعرفة والخبرة.(1/85)
وتصبح المواضعة ضرورية للإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحواس، وذلك كالأفكار المجرّدة التي لا تقع على متعين مخصوص كالبقاء والفناء والقدم الخ كل هذه الألفاظ التي لا يمكن أن تشير إلى موجودات حسية. والتفرقة بين المحسوسات التي يحسن تسميتها، وبن الذهنيات التي يجب تسميتها لاستحالة الاشارة إليها يمكن اعتبارها موازاة للمعرفة الإدراكية الضرورية، والمعرفة النظرية الاستدلالية. وكلا
المستويين من المعرفة يتطلّب الإخبار عنه، وهي الحاجة التي تجعل المواضعة ضرورية، ما دامت وظيفة اللغة هي «الإنباء» عمّا في النفس لتبادل المعرفة والخبرة.
ومما يؤكّد هذه الموازاة أن القاضي كما فصل بين المدرك والمدرك حين ردّ على منكري الإدراك الحسي، وبين العلم والمعلوم واعتبر أن الادراك والعلم يتعلقان بالمدركات وبالمعلومات على ما هي به، دون أن تؤثرا فيها سلبا أو ايجابا، وكذلك كما فصل بين الدلالة العقلية وما تدلّ عليه واعتبرها دلالة مجردة تدلّ بذاتها ولا تؤثر في حال المدلول عليه. كما فعل ذلك كله، نراه يفصل الدلالة اللغوية عن مدلولها فصلا كاملا، ويربط بين التسمية والعلم ربطا تاما «فقد ثبت أن الاسم في تعلقه بالمسمى بمنزلة الخبر عن الشيء، والعلم به، والدلالة عليه، بل هو في ذلك دون مرتبته. فإذا كان العلم والدلالة والخبر لا تؤثر فيما تتعلق به، فالاسم بألا يؤثر أولى. وكذلك لا يصحّ استعماله على وجه يفيد إلّا بعد تقدّم العلم بالمعنى أو الاعتقاد له». ويظلّ «القصد» هو الرابط الوحيد بين الدلالة اللغوية وما تدلّ عليه. ومعنى ذلك أن المواضعة وحدها تتساوى مع الاشارة. أمّا «القصد» فهو الذي يعطي للمواضعة ثباتها ويحوّل الأصوات إلى دلالة «ولذلك يصحّ أن تتغير اللغات بحسب الدواعي والأغراض».
إذا كان مفهوم «القصد» عند القاضي عبد الجبار يعني «المعنى» وهو العلاقة بين الاسم والمسمى على مستوى المفردات اللغوية. وهذا القصد ليس من صنع الفرد، بل هو من صنع الجماعة عن طريق المواضعة على مسميات الأشياء. إذا كان الأمر كذلك، فإن مفهوم «القصد» يتسع على مستوى التركيب اللغوي ليعبّر عن «المعنى القائم في النفس» عند الباقلاني.
وإذا كانت وظيفة التسمية ومن ثمّ اللغة قد تحددت في «الإنباء» عمّا في النفس، والإخبار عن الأشياء والأفكار، فمن الطبيعي أن يراعى حال المتكلم وقصده حين نحاول فهم كلامه أو الاستدلال به. ومعنى ذلك أن فهم قصد المتكلم ضروري إلى جانب المواضعة حتى يتمكن أن يفيد الكلام. واصرار المعتزلة هنا على فكرة «القصد» من جانب المتكلم تؤكّد أن المواضعة وحدها في التركيب لا تكفي، فالكلام «قد يحصل من غير قصد فلا يدلّ، ومع القصد فيدلّ، ويفيد. فكما أن المواضعة لا بدّ منها فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة». فالمواضعة على أهميتها وضروريتها لا تكفي وحدها لوقوع الكلام دلالة، لأنها، وإن جعلت الكلام مفيدا ومحتملا للمعاني المتواضع عليها، لا يمكن أن تنفصل فائدتها عن قصد المتكلم الذي يقصد بالكلام إلى أن يكون
دلالة. وخير مثال يوضح ذلك أن المجنون قد يتكلم بكلام مفيد، بمعنى أن ألفاظه وعباراته من الممكن أن تفيد معاني سبقت المواضعة عليها بهذه الألفاظ وتلك العبارات، لكن هذا الكلام الصادر عن المجنون لا يمكن أن يدلّ على قصده. أو بمعنى آخر لا يمكن أن يقع دلالة. ولذلك كله فلا بدّ إلى جانب المواضعة من أن يراعى حال المتكلم وقصده ليستدلّ بكلامه على ما يريد «وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤدّيه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل.(1/86)
وإذا كانت وظيفة التسمية ومن ثمّ اللغة قد تحددت في «الإنباء» عمّا في النفس، والإخبار عن الأشياء والأفكار، فمن الطبيعي أن يراعى حال المتكلم وقصده حين نحاول فهم كلامه أو الاستدلال به. ومعنى ذلك أن فهم قصد المتكلم ضروري إلى جانب المواضعة حتى يتمكن أن يفيد الكلام. واصرار المعتزلة هنا على فكرة «القصد» من جانب المتكلم تؤكّد أن المواضعة وحدها في التركيب لا تكفي، فالكلام «قد يحصل من غير قصد فلا يدلّ، ومع القصد فيدلّ، ويفيد. فكما أن المواضعة لا بدّ منها فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة». فالمواضعة على أهميتها وضروريتها لا تكفي وحدها لوقوع الكلام دلالة، لأنها، وإن جعلت الكلام مفيدا ومحتملا للمعاني المتواضع عليها، لا يمكن أن تنفصل فائدتها عن قصد المتكلم الذي يقصد بالكلام إلى أن يكون
دلالة. وخير مثال يوضح ذلك أن المجنون قد يتكلم بكلام مفيد، بمعنى أن ألفاظه وعباراته من الممكن أن تفيد معاني سبقت المواضعة عليها بهذه الألفاظ وتلك العبارات، لكن هذا الكلام الصادر عن المجنون لا يمكن أن يدلّ على قصده. أو بمعنى آخر لا يمكن أن يقع دلالة. ولذلك كله فلا بدّ إلى جانب المواضعة من أن يراعى حال المتكلم وقصده ليستدلّ بكلامه على ما يريد «وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤدّيه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل.
فإذا تكلم به، وقصد وجه المواضعة فلا بدّ من كونه دالا، إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله، فإذا تكاملت هذه الشروط فلا بدّ من كونه دالا، ومتى لم تتكامل فموضوعه أن يدل، وإن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله، لم يصح أن يستدلّ به».
والسؤال الآن: كيف يمكن للمستمع أن يعرف قصد المتكلم حتى يستدلّ بكلامه؟ وقد يبدو السؤال غريبا على الحس المعاصر الذي لا يفصل بين القصد والكلام، ويعتبر الكلام دليلا على القصد، بل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة قصد المتكلم. أما اشتراط معرفة القصد سلفا قبل معرفة الكلام، فهو أمر ينفي عن الكلام أي دور ايجابي في الدلالة على القصد. غير أن المعتزلة لم يكونوا يواجهون مثل هذا التساؤل، ولم يكن يعنيهم الرد عليه أو حتى مناقشته. فالكلام عندهم هو الدلالة الشرعية عند الباقلاني. بمعنى أن الكلام عندهم هو كلام الله. وفي هذا الاطار يمكن فهم تمسكهم بشرط القصد إلى جانب المواضعة لوقوع الكلام دلالة، وهو شرط لم يشر إليه الباقلاني وإن أشار للمواضعة واعتبرها شرطا.
وفي هذا الاطار أيضا يمكن فهم اشتراطهم معرفة قصد المتكلم قبل الاستدلال بكلامه. فالمتكلم بالدلالة الشرعية هو الله عز وجل. وكما اشترط المعتزلة سبق المواضعة على كلام الله، اشترطوا معرفة قصد الله. وهذه المعرفة كما أسلفنا هي معرفة صفة أفعاله وما يجوز عليه منها وما لا يجوز، وهذه المعرفة عندهم معرفة عقلية سابقة في الترتيب على المعرفة الشرعية. وهكذا ينتهي المعتزلة في قضية الدلالة اللغوية إلى اعتبارها تابعة للدلالة العقلية ومترتبة عليها.
ولمّا كان جذر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة يكمن في هذه القضية قضية المعرفة فقد كان من الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون الاشارة إلى شرط القصد، لأن القصد عندهم لا يمكن معرفته إلا بدلالة الكلام، ولذلك وحّد الأشاعرة بين الكلام الدلالة والمعاني النفسية المدلول واعتبروهما شيئا
واحدا قديما أزليا قائما بالله. ولعل في هذا كله ما يؤكّد أن مفهوم «القصد» على مستوى التركيب عند المعتزلة يتساوى مع مفهوم «المعاني النفسية» عند الأشاعرة.(1/87)
ولمّا كان جذر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة يكمن في هذه القضية قضية المعرفة فقد كان من الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون الاشارة إلى شرط القصد، لأن القصد عندهم لا يمكن معرفته إلا بدلالة الكلام، ولذلك وحّد الأشاعرة بين الكلام الدلالة والمعاني النفسية المدلول واعتبروهما شيئا
واحدا قديما أزليا قائما بالله. ولعل في هذا كله ما يؤكّد أن مفهوم «القصد» على مستوى التركيب عند المعتزلة يتساوى مع مفهوم «المعاني النفسية» عند الأشاعرة.
غاية الأمر أن المعتزلة يتحرجون من اعتبار المعاني والصفات قائمة بالذات لأن ذلك يؤدي إلى التركيب والتعدد اللذين يتنافيان مع التنزيه المطلق.
ومما يؤكّد ما نذهب إليه من أن المعتزلة لم يكونوا مشغولين بقضية المتكلم في الشاهد، أن القاضي عبد الجبار يعتبر أن معرفة قصد المتكلم في الشاهد هي معرفة اضطرارية، على عكس معرفة قصد الله عز وجل التي هي معرفة استدلالية نظرية.
وهي معرفة سابقة على وقوع الدلالة الشرعية الكلام وضرورية لفهمها «إن الكلام في الشاهد صح أن يدلّ بالمواضعة والقصد، ولنا طريق إلى معرفة الكلام بالادراك والمواضعة بالأخبار، وما يجري مجراها، والقصد بالاضطرار. فصحّ، عند ذلك، أن يعرف به الغرض، ويصير كالدلالة في الشاهد. ولا يصحّ أن نعرف قصده تعالى باضطرار، لتعذر ذلك مع التكليف. فوجب أن نعرفه بالاستدلال».
انتهينا من مناقشة جانبي الدلالة اللغوية، أو دلالة الكلام، ونرى من الضروري أن نشير إلى جانب الوظيفة في دلالة الكلام. ولقد ركّز الجاحظ على جانب «الابانة» بينما ركّز القاضي على جانب «الإنباء». ومفهوم «الابانة» أوسع دون شك من مفهوم «الإنباء» لأنه يتضمّن علاوة على جانب «الإنباء» جوانب أخرى تناولها الجاحظ، لا باعتباره معتزليا، بل باعتباره كاتبا منشئا أديبا. ويهمنا هنا أن نحاول تفهم مفهوم «الإنباء» عند القاضي عبد الجبار.
ولقد رأينا فيما سبق أن التسمية، أو اطلاق الاسماء على الأشياء تعدّ مسألة ضرورية وذلك للإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس. وأنها بذلك تعدّ بديلا للاشارة التي لا تتمّ إلّا في حضور الشيء. أمّا الاشياء التي لا تظهر للحواس أصلا، فيجب تسميتها ليمكن الاخبار عنها والتعريف بها. ورأينا أن العلاقة بين الاسم والمسمى هي علاقة انفصام كاملة، ولا يربط بينهما سوى قصد المتواضعين، ولذلك يجوّز المعتزلة قلب الاسماء عن مسمياتها «ولو أن أهل اللغة بدا لهم في العربية على الوجه الذي تواضعوا عليه وغيروه حتى يجعلوا (قديما) مكان (محدث) و (عالما) مكان (جاهل) و (طويلا) مكان (قصير) كان لا يمتنع فلو سمي السواد بياضا والجوهر عرضا لم يؤثر ذلك فيه ولكان حاله كحاله الآن وهو مسمى بما يسمى به».
وإذا كانت العلاقة على مستوى المفردات اللغوية علاقة انفصام، فإنها كذلك
أيضا على مستوى التركيب. فثمّ معان في النفس. وثمّ عبارات تدلّ عليها. وإذا كان الأشاعرة قد وحّدوا بين الدلالة والمدلول فقد فصل المعتزلة بينهما. وعلى مستوى الكلام الإلهي امتنع المعتزلة عن استخدام عبارة «المعاني النفسية» واستخدموا بدلا منها كلمة «القصد». وكما أن التسمية تحسن للاخبار عن الشيء، فكذلك العبارة «تنبئ» أو «تخبر» عن قصد المتكلم.(1/88)
وإذا كانت العلاقة على مستوى المفردات اللغوية علاقة انفصام، فإنها كذلك
أيضا على مستوى التركيب. فثمّ معان في النفس. وثمّ عبارات تدلّ عليها. وإذا كان الأشاعرة قد وحّدوا بين الدلالة والمدلول فقد فصل المعتزلة بينهما. وعلى مستوى الكلام الإلهي امتنع المعتزلة عن استخدام عبارة «المعاني النفسية» واستخدموا بدلا منها كلمة «القصد». وكما أن التسمية تحسن للاخبار عن الشيء، فكذلك العبارة «تنبئ» أو «تخبر» عن قصد المتكلم.
ولا يكفّ القاضي عبد الجبار في حديثه عن الدلالة اللغوية، من ادخال الخبر فيها حتى ينتهي به الأمر إلى التوحيد بينهما. فلا يكفي في الخبر لكي يكون خبرا الصيغة اللغوية المعروفة بالجملة الخبرية، ولا تكفي المواضعة السابقة، بل لا بدّ من اعتبار إرادة المتكلم للاخبار وقصده إليه «اعلم أنه لا يكفي في كونه خبرا صيغة القول ونظامه، ولا المواضعة المتقدمة، بل لا بدّ من أن يكون المتكلم مريدا للاخبار به عما هو خبر عنه، لأن جميع ما قدمناه، قد يحصل ولا يكون خبرا، إذا لم يكن مريدا لما قلناه. ومتى حصل مريدا صار خبرا، فيجب أن يكون لأجله يكون خبرا، وإن كان لا بدّ من تقدم المواضعة، أو ما يجري مجراها، كما لا بدّ من ظهور القول وكما لا بدّ من وقوعه من قبل المريد، وكل ذلك شروط مصححة لكونه خبرا».
ويؤكّد القاضي هذه الفكرة مرة أخرى، ولكن على مستوى الكلام الإلهي، حيث يوحّد أيضا بين الكلام والخبر. وهو هنا يشترط معرفة حال «المخبر» من أنه لا يكذب ولا يختار القبيح، وذلك حتى نعلم صدقه في خبره «لأن الخبر إذا جاز، والصنعة واحدة، أن يقع كذبا، فيجب أن يعلم من حال فاعله أنه ممن لا يفعل الكذب، حتى يكون دلالة. لأن هذا الخبر نفسه قد يجوز كونه خبرا عن المخبر الذي إذا كان خبرا عنه كان كذبا، وعن المخبر الذي إذا كان خبرا عنه كان صدقا، فلا بدّ من أمر به يعلم أنه بأن يكون صدقا أولى من أن يكون كذبا، وهو أن يعلم من حال فاعله أنه لا يختار الكذب».
ولا يكتفي القاضي بهذا التوحيد بين الخبر والدلالة اللغوية، بل إنه يوحّد بين كل الصيغ التعبيرية في اللغة كالأمر والنهي والطلب والاستفهام والتعجب، والنداء، ويعتبر «الخبر» هو أصل كل هذه الصيغ «اعلم أن الخبر هو الأصل في الكلام المفيد، لأن الفوائد الواقعة بالكلام أجمع لا بدّ من أن تكون راجعة إلى الخبر أو إلى معناه. لكنه ربما تتأوّل الفائدة بصريح لفظه فيكون خبرا، وربما أفاد من جهة المعنى فلا يسمى خبرا، والفائدة لا تختلف. يبين ذلك أن الأمر يحل محلّ قوله (أريد منك أن تفعل) والنهي يحلّ محلّ قوله (أكره أن تفعل). وإذا استخبر غيره
حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تخبر). وإذا دعا ونادى حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تصغي إلى ما أقول وتتوجه إلى) إلى ما شاكل ذلك. لكن اللغة لمّا ثبتت على طريق الحكمة فصل بين أن يكون المتكلم مفيدا للأمور الثابتة أو المنفية وكلامه الذي هو عبارة عنه، وبين أن يظهر إرادته لما يريده، وكراهيته لما يكرهه منه، لأن ذلك أمر متجدد ليس بظاهر. فإذا أراد إظهاره للغير بقول موضوع لذلك خالف القول الذي وضع ليعبّر به عن الأمور الثابتة، فلذلك ما صاغوا، عند المواضعة، أقوالا مختلفة النظام لهذه الفروق المعقولة، ثم وجدوا الخبر تختلف حاله في الفائدة، فقسّموه أقساما يرجع جميعها إلى الخبر، لأن زيادة فوائده لا تخرجه عن أن يكون خبرا. وذلك نحو وصفهم لبعض الأخبار بأنه جحود، وتشبيه، ونفي، واثبات، ووعد، ووعيد، وقسم، وخصوص، وعموم، إلى غير ذلك» ومعنى ذلك أن الخبر أو «الإخبار» هو الوظيفة الأساسية للغة، وإلى معناه ترتدّ كل أبنية اللغة. وكما أن اللغة تدلّ بشرطين هما المواضعة والقصد، فكذلك الخبر لا يقع خبرا إلّا بإرادة المتكلم، ولا نستطيع الحكم عليه بالصدق والكذب إلّا بعد العلم بحال المتكلم وأنه لا يختار القبيح ولا يكذب في أخباره.(1/89)
ولا يكتفي القاضي بهذا التوحيد بين الخبر والدلالة اللغوية، بل إنه يوحّد بين كل الصيغ التعبيرية في اللغة كالأمر والنهي والطلب والاستفهام والتعجب، والنداء، ويعتبر «الخبر» هو أصل كل هذه الصيغ «اعلم أن الخبر هو الأصل في الكلام المفيد، لأن الفوائد الواقعة بالكلام أجمع لا بدّ من أن تكون راجعة إلى الخبر أو إلى معناه. لكنه ربما تتأوّل الفائدة بصريح لفظه فيكون خبرا، وربما أفاد من جهة المعنى فلا يسمى خبرا، والفائدة لا تختلف. يبين ذلك أن الأمر يحل محلّ قوله (أريد منك أن تفعل) والنهي يحلّ محلّ قوله (أكره أن تفعل). وإذا استخبر غيره
حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تخبر). وإذا دعا ونادى حلّ محلّ قوله (أريد منك أن تصغي إلى ما أقول وتتوجه إلى) إلى ما شاكل ذلك. لكن اللغة لمّا ثبتت على طريق الحكمة فصل بين أن يكون المتكلم مفيدا للأمور الثابتة أو المنفية وكلامه الذي هو عبارة عنه، وبين أن يظهر إرادته لما يريده، وكراهيته لما يكرهه منه، لأن ذلك أمر متجدد ليس بظاهر. فإذا أراد إظهاره للغير بقول موضوع لذلك خالف القول الذي وضع ليعبّر به عن الأمور الثابتة، فلذلك ما صاغوا، عند المواضعة، أقوالا مختلفة النظام لهذه الفروق المعقولة، ثم وجدوا الخبر تختلف حاله في الفائدة، فقسّموه أقساما يرجع جميعها إلى الخبر، لأن زيادة فوائده لا تخرجه عن أن يكون خبرا. وذلك نحو وصفهم لبعض الأخبار بأنه جحود، وتشبيه، ونفي، واثبات، ووعد، ووعيد، وقسم، وخصوص، وعموم، إلى غير ذلك» ومعنى ذلك أن الخبر أو «الإخبار» هو الوظيفة الأساسية للغة، وإلى معناه ترتدّ كل أبنية اللغة. وكما أن اللغة تدلّ بشرطين هما المواضعة والقصد، فكذلك الخبر لا يقع خبرا إلّا بإرادة المتكلم، ولا نستطيع الحكم عليه بالصدق والكذب إلّا بعد العلم بحال المتكلم وأنه لا يختار القبيح ولا يكذب في أخباره.
وننتهي من قضية البحث في الدلالة اللغوية عند المعتزلة إلى ملاحظة هذا التداخل الكامل بين وظيفة اللغة من جانب، وبين شرطي دلالتها من جانب آخر، وهما المواضعة والقصد. وإذا كانت العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة انفصام لا يربطها سوى قصد الجماعة التي تتواضع على هذه العلاقة، فإن العلاقة بين العبارة التركيب وما تدلّ عليه من المعنى النفسي على المستوى البشري، ومن القصد على المستوى الإلهي هي أيضا علاقة انفصام. وبذلك انتهى المعتزلة إلى الفصل بين المعنى واللفظ على مستوى الأفراد، وإلى الفصل بين العبارة والمعنى على مستوى التركيب.
وليس معنى ذلك أن الأشاعرة لم ينتهوا إلى نفس النتيجة، رغم أنهم كما سبقت الاشارة وحّدوا بين الكلام والمعنى القائم في النفس. فاعتبار الكلام دلالة على ما في النفس، والتسوية بين الكلام وبين الخط والاشارة في الدلالة على هذا المعنى يؤكد هذا الانفصال بين الدلالة والمدلول عليه والخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة من هذا الجانب خلاف ديني أو كلامي كما سبقت الاشارة.
أما كيف تنتقل الدلالة اللغوية من مستوى الحقيقة إلى مستوى المجاز، وكيف يمكن أن تعبّر، من ثمّ، عن قصد المتكلم ومعانيه؟ فذلك أمر سيتناوله النص التالي بالتفصيل.(1/90)
الفصل الثاني «مفهوم المجاز» نشأته وتطوره(1/91)
1 - نظرة تاريخية
يحسّ الباحث أن من الضروري قبل بيان كيفية الانتقال في اللغة عند المعتزلة من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، البدء ببيان الجوانب المتعددة التي دخلت تحت مفهوم المجاز. ويعدّ الجاحظ كما سنرى أول من تبلور على يديه مصطلح المجاز باعتباره قسيما للحقيقة ومقابلا لها. وقد حدد ابن قتيبة (ت 276هـ) المتأثر بالجاحظ بشكل واضح جوانب المجاز وجعلها تشمل «الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والاخفاء والاظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم وبلفظ العموم لمعنى الخصوص، مع أشياء أخرى كثيرة» وهي كلها ظواهر أسلوبية تعني التغير في الدلالة، والخروج بها عن دلالة المواضعة الشائعة. والذي يهمنا هنا هو تحديد كيفية بلورة هذه الجوانب على يدي المفسّرين منذ ابن عباس حتى وصلت إلى الجاحظ وابن قتيبة.
ويعدّ مصلح «المثل» أكثر المصطلحات المجازية ورودا في القرآن الكريم، سواء في أصله الثلاثي أو في مشتقاته المتعددة، وهو يتراوح بين عدّة معان أهمها «الصفة العجيبة كأنها لغرابتها يشبّه بها ويتمثّل» ومعنى ذلك أن مصطلح «المثل» يصبح قريبا جدا من معنى «التشبيه» ويدلّ عليه. ومما يؤكّد هذا التطابق الذي يكاد يكون تاما بين «المثل» و «التشبيه» أن مادة «شبه» في القرآن لا تأتي إلّا بمعنى الاشتباه والاختلاط والتداخل وعدم القدرة على التمييز «شبه الشيء تشبيها، أشكل. وشبه عليه. خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره. وشبه عليه الأمر: لبس عليه» والمعنى واضح في المشتقات الأخرى للمادة أنه هو الاختلاط، وذلك في «تشابه» و «مشتبه» و «متشابه».
ولم يرد لفظ «الكناية» في القرآن، وإن وردت المادة في معنى الاخفاء
والستر. وترد في معنى «الكناية» أو قريبا منها «التعريض» وهي خلاف التصريح وهو «ما توسع في دلالته فصار له وجهان ظاهر وباطن» وذلك في قوله تعالى {فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ} (البقرة / 235).(1/93)
ولم يرد لفظ «الكناية» في القرآن، وإن وردت المادة في معنى الاخفاء
والستر. وترد في معنى «الكناية» أو قريبا منها «التعريض» وهي خلاف التصريح وهو «ما توسع في دلالته فصار له وجهان ظاهر وباطن» وذلك في قوله تعالى {فِيمََا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسََاءِ} (البقرة / 235).
وقد وردت مادة «جوز» بمعنى القطع والعبور، وهذا المعنى ليس بعيدا عن المفهوم المتأخر لكلمة «مجاز» على أساس أن المجاز هو تجاوز المعنى الحقيقي للعبارة الى معنى آخر يتعلق به تعلقا تاما
أمّا مادة «عير» الأصل الاشتقاقي لمصطلح «الاستعارة» فلم ترد في القرآن الكريم، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون هذا المصطلح أكثر المصطلحات البلاغية تأخرا في الظهور. وعلى العكس من ذلك كان مصطلح «المثل» مع ما يشتق منه كالتمثيل هو أكثر المصطلحات ظهورا عند المفسرين، وذلك بحكم كثرة دورانه في القرآن الكريم ودلالته على معنى «التشبيه». وكان مصطلح «الكناية» أقل ظهورا من مصطلح «المثل» لقلة وروده في القرآن من جانب، ولعدم وضوح دلالته البلاغية من جانب آخر.
أمصطلح المثل عند المفسرين
ولقد شاع استخدام مصطلح «المثل» على ألسنة المفسّرين مثل ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدى، ثم على ألسنة اللغويين كأبي عبيدة والفراء من بعد في تحليلهم للعبارات القرآنية. وإذا كانت الكلمة تعدّ مرادفة لمفهوم التشبيه، فإنها من جانب آخر قد تتسع للدلالة على معنى التصوير «ومثّل له الشيء صوّره حتى ينظر إليه وامتثله هو تصوره» وهي بذلك تشير إلى جانب دلالتها على التشبيه إلى القدرة على التجسيد والتصوير بالعبارات والكلمات. وللكلمة معان أخرى في سياقات مختلفة يحاول المبرد أن يردّها كلها إلى معنى «التشبيه» «المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، فقولهم «مثل بين يديه» إذا انتصب، معناه أشبه الصورة المنتصبة، و «فلان أمثل من فلان» أي أشبه بماله من الفضل. والمثال القصاص لتشبيه حال المقتص منه بحال الأول.
فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول».
ومن الضروري الاشارة إلى ما أثارته بعض محتويات الصور القرآنية التي عبر عنها بالمثل من الجدل والاستنكار من غير المسلمين. وقد عبر القرآن نفسه عن هذا الاعتراض بقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا}
{فَوْقَهََا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ}
(البقرة / 26) وتنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب أنه لم يفهم معنى بعض الآيات التي سيقت مساق المثل. ويتساءل عن معنى قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ، لَهُ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَأَصََابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ، فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ}
(البقرة / 266). ولكن أحدا من الحاضرين لم يستطع أن يفسّر له معنى هذه الآية «حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، اني أجد في نفسي منها شيئا.(1/94)
ومن الضروري الاشارة إلى ما أثارته بعض محتويات الصور القرآنية التي عبر عنها بالمثل من الجدل والاستنكار من غير المسلمين. وقد عبر القرآن نفسه عن هذا الاعتراض بقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا}
{فَوْقَهََا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ}
(البقرة / 26) وتنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب أنه لم يفهم معنى بعض الآيات التي سيقت مساق المثل. ويتساءل عن معنى قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ، لَهُ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَأَصََابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفََاءُ، فَأَصََابَهََا إِعْصََارٌ فِيهِ نََارٌ فَاحْتَرَقَتْ}
(البقرة / 266). ولكن أحدا من الحاضرين لم يستطع أن يفسّر له معنى هذه الآية «حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، اني أجد في نفسي منها شيئا.
قال: فتلفت إليه فقال: تحول هاهنا، لم تحقر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله، فحرقه أحوج ما يكون اليه» وهذه الرواية، إن صحّت، ولم تكن مجرد رغبة من الرواة لبيان فضل ابن عباس وعلمه، تعدّ دلالة على تلك الجدة الأسلوبية التي أثارت اعجاب العرب وحيرتهم في نفس الوقت، حتى اضطربوا في تحديد تلك الخاصية المميزة للقرآن، ومن ثم حاولوا ربطه بالشعر والسحر والكهانة. والآية في سياقها العام لا تخرج عن فهم ابن عباس لها، وكلمة «المثل» ترد في صدر الآية التي قبلها.
وإلى جانب مصطلح «المثل» يرد مصطلح «الكناية» في تفسير ابن عباس قريبا جدا من معناه البلاغي، بل إن ابن عباس يلمح الفارق بين التعبير المباشر والكناية، وذلك عند ما يفسر كلمات مثل «الرفث» و «المباشرة» و «المس» بقوله إنها تعنى «الجماع ولكن الله كريم يكني ما شاء بما يشاء» وبذلك يلمح من بعيد وظيفة التعبير بالكناية، وترك المعنى المباشر الذي قد يخدش الحياء، أو يصدم الشعور، أو ترى فيه الجماعة عيبا لا يجب التفوه به صراحة. ولكن هذا المصطلح يرد على قلة، على عكس مصطلح «المثل» الذي يرد كثيرا.
ومن الضروري الاشارة إلى أن اجتهادات ابن عباس في تفسير النص القرآني، لم تكن بعيدة عن جو التأويل والجدل الديني الذي بدأ بانشقاق الخوارج على علي ابن أبي طالب نتيجة رفضهم لمبدأ التحكيم. ولقد كان ابن عباس فيما يقال هو رسول علي بن أبي طالب لمجادلة الخوارج ومحاولة إقناعهم بخطإ موقفهم وصحة موقف علي. ولم يخل هذا الجدل من الاستشهاد بالقرآن من كلا الطرفين على صحة موقفه واتساقه مع معطيات القرآن، حتى تحوّل النزاع على مستوى
الجدل الديني إلى فهم النص القرآني نفسه والاستدلال به. وهذا كله ما جعل علي بن أبي طالب ينهى ابن عباس عن مجادلة الخوارج بالقرآن «فخاصمهم ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنّة». ولكن ابن عباس فيما يبدو لم يكن في موقف الاختيار. والذي نودّ أن نشير إليه إن صحّت الرواية أن هذا الاحساس المبكر بتعدد الوجوه في التعبير القرآني ينبئ عن تصور ما لا مكانية تعدد الدلالة. وابن عباس هو الذي يتهم الخوارج بقصور الفهم والعجز عن ادراك معاني القرآن فقد «ذكر عنده الخوارج وما يلفون عند القرآن قال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه».(1/95)
ومن الضروري الاشارة إلى أن اجتهادات ابن عباس في تفسير النص القرآني، لم تكن بعيدة عن جو التأويل والجدل الديني الذي بدأ بانشقاق الخوارج على علي ابن أبي طالب نتيجة رفضهم لمبدأ التحكيم. ولقد كان ابن عباس فيما يقال هو رسول علي بن أبي طالب لمجادلة الخوارج ومحاولة إقناعهم بخطإ موقفهم وصحة موقف علي. ولم يخل هذا الجدل من الاستشهاد بالقرآن من كلا الطرفين على صحة موقفه واتساقه مع معطيات القرآن، حتى تحوّل النزاع على مستوى
الجدل الديني إلى فهم النص القرآني نفسه والاستدلال به. وهذا كله ما جعل علي بن أبي طالب ينهى ابن عباس عن مجادلة الخوارج بالقرآن «فخاصمهم ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنّة». ولكن ابن عباس فيما يبدو لم يكن في موقف الاختيار. والذي نودّ أن نشير إليه إن صحّت الرواية أن هذا الاحساس المبكر بتعدد الوجوه في التعبير القرآني ينبئ عن تصور ما لا مكانية تعدد الدلالة. وابن عباس هو الذي يتهم الخوارج بقصور الفهم والعجز عن ادراك معاني القرآن فقد «ذكر عنده الخوارج وما يلفون عند القرآن قال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه».
ومما يرويه الطبري عن ابن عباس رواية مؤداها أنه لم يتقبل القراءة المشهورة للآية الكريمة {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مََا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة / 137) على أساس أنها تثبت مثلا لله يمكن الايمان به «لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا» فإنه ليس لله مثل ولكن قولوا: «فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا».
ومن المحتمل إن صحّت الرواية أن ابن عباس كان مدفوعا إلى ذلك رغبة منه في نفي أي شبيه أو مثل لله، خصوصا مع ما ذهب إليه ابن سبأ من تأليه الأئمة والقول بالرجعة.
ولم يكن الجدل حول القرآن وقفا على الفرق وحدها، أو على الجدل بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، كاليهود والنصارى كما سنشير من بعد. بل توقف كثير من المسلمين عند بعض آيات القرآن متسائلين عن المعنى الحقيقي وراء صورتها اللفظية. فيروي الطبري عن الربيع أنه «لمّا نزلت {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله:
{سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ}. وإذا كان الرسول قد سكت عن تساؤل المتسائلين تاركا لله عز وجل الرد عليهم واستنكار هذا السؤال الذي ينمّ عن جهل بحقيقة الألوهية، فإن ابن عباس والجدل قد اشتد واتسع مداه يفسّر الآية على أن «كرسيه: علمه» وهو تأويل يقرّبنا من جو التأويل الاعتزالي الذي يهدف إلى نفي مشابهة الله للبشر أو حلوله في المكان.
لم يكن المفسّر القديم إذن بعيدا عن الجدل والصراع الكلامي، ومن ثم لم يكن استخدامه لوسائله التحليلية للنص القرآني بعيدا عن هذا الجدل. وليست كلمة «المثل» في الآية التي حاول ابن عباس تعديل قراءتها بعيدة عن المصطلح البلاغي الذي كثيرا ما استخدمه لتحليل آيات القرآن، بل إن ما توهمه من معنى
«الشبه» هو الذي دفعه لتغيير قراءتها. ولقد استخدم مجاهد تلميذ ابن عباس هذا المصطلح في تأويل آية على غير ظاهرها، وهو تأويل استنكره الطبري استنكارا شديدا، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} حيث يقول: «لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا» ولم يكن مجاهد بعيدا عن الجدل العقائدي، وما يحكى عن نزعته العقلية، وما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الاسطورية بالدرس والفحص، والانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان وشهادة» كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم. وتأويلاته الكثيرة لآيات القرآن تتفق مع التأويلات الاعتزالية حتى ليعده جولد تسيهر رائدا لهم في مسائل كثيرة في التأويل، وينحصر فضل المعتزلة عنده في أنهم «جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالة على التشبيه».(1/96)
لم يكن المفسّر القديم إذن بعيدا عن الجدل والصراع الكلامي، ومن ثم لم يكن استخدامه لوسائله التحليلية للنص القرآني بعيدا عن هذا الجدل. وليست كلمة «المثل» في الآية التي حاول ابن عباس تعديل قراءتها بعيدة عن المصطلح البلاغي الذي كثيرا ما استخدمه لتحليل آيات القرآن، بل إن ما توهمه من معنى
«الشبه» هو الذي دفعه لتغيير قراءتها. ولقد استخدم مجاهد تلميذ ابن عباس هذا المصطلح في تأويل آية على غير ظاهرها، وهو تأويل استنكره الطبري استنكارا شديدا، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} حيث يقول: «لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا» ولم يكن مجاهد بعيدا عن الجدل العقائدي، وما يحكى عن نزعته العقلية، وما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الاسطورية بالدرس والفحص، والانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان وشهادة» كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم. وتأويلاته الكثيرة لآيات القرآن تتفق مع التأويلات الاعتزالية حتى ليعده جولد تسيهر رائدا لهم في مسائل كثيرة في التأويل، وينحصر فضل المعتزلة عنده في أنهم «جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالة على التشبيه».
ب مقاتل بن سليمان والاحساس بتعدد الدلالة
ومما يؤكّد الارتباط بين تطور المصطلح البلاغي، والخلافات العقائدية أن أول كتاب متخصص يصلنا في تحليل النص القرآني هو لمقاتل بن سليمان (ت 150هـ) الذي تنسب إليه المصادر القول بالتجسيم، كما تنسب إليه مجادلته لجهم بن صفوان (ت 128هـ). وقد سبقت الاشارة في التمهيد إلى دور جهم في ثورة الحارث بن سريج في عهد هشام بن عبد الملك، وكان مقاتل في المعسكر المعادي للحارث. والتقى كل من جهم ومقاتل كممثلين لا تجاهين متعارضين، سياسيا وفكريا. وعنوان الكتاب «الأشباه والنظائر» بل والكتاب نفسه بمنهجه وطريقة تناوله للنص القرآني يكشف عن ذلك الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد تبعا لتعدد السياقات واختلافها، وهو بذلك يقرّبنا خطوة إلى جو «المجاز» بمعناه الاصطلاحي. ويعدّ الكتاب بذلك تطبيقا لما سبق أن ألمح إليه علي بن أبي طالب من قبل من أن «القرآن حمّال أوجه» وهذا الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد في القرآن ظلّ يلحّ على أفئدة المفسرين ويؤرقهم حتى صار موضوع «الوجوه والنظائر» فرعا من فروع الدراسات القرآنية، كالناسخ والمنسوخ، والاعراب الخ وهو فرع يعرّفه السيوطي بقوله: «فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الأمة وقيل النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني» وكتاب مقاتل يتعرض لبعض الألفاظ والعبارات، بل والحروف أيضا، التي وردت في القرآن، ويحاول أن يحصر «وجوه» معاني هذه الألفاظ والعبارات
والحروف، مستشهدا على كل وجه من هذه الوجوه بمجموعة من الآيات القرآنية.(1/97)
ومما يؤكّد الارتباط بين تطور المصطلح البلاغي، والخلافات العقائدية أن أول كتاب متخصص يصلنا في تحليل النص القرآني هو لمقاتل بن سليمان (ت 150هـ) الذي تنسب إليه المصادر القول بالتجسيم، كما تنسب إليه مجادلته لجهم بن صفوان (ت 128هـ). وقد سبقت الاشارة في التمهيد إلى دور جهم في ثورة الحارث بن سريج في عهد هشام بن عبد الملك، وكان مقاتل في المعسكر المعادي للحارث. والتقى كل من جهم ومقاتل كممثلين لا تجاهين متعارضين، سياسيا وفكريا. وعنوان الكتاب «الأشباه والنظائر» بل والكتاب نفسه بمنهجه وطريقة تناوله للنص القرآني يكشف عن ذلك الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد تبعا لتعدد السياقات واختلافها، وهو بذلك يقرّبنا خطوة إلى جو «المجاز» بمعناه الاصطلاحي. ويعدّ الكتاب بذلك تطبيقا لما سبق أن ألمح إليه علي بن أبي طالب من قبل من أن «القرآن حمّال أوجه» وهذا الاحساس بتعدد دلالات اللفظ الواحد في القرآن ظلّ يلحّ على أفئدة المفسرين ويؤرقهم حتى صار موضوع «الوجوه والنظائر» فرعا من فروع الدراسات القرآنية، كالناسخ والمنسوخ، والاعراب الخ وهو فرع يعرّفه السيوطي بقوله: «فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الأمة وقيل النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني» وكتاب مقاتل يتعرض لبعض الألفاظ والعبارات، بل والحروف أيضا، التي وردت في القرآن، ويحاول أن يحصر «وجوه» معاني هذه الألفاظ والعبارات
والحروف، مستشهدا على كل وجه من هذه الوجوه بمجموعة من الآيات القرآنية.
والذي نلاحظه أن مقاتلا معني بالدرجة الأولى بشرح معنى اللفظ في سياقاته المختلفة. ومعنى ذلك أن فكرة الانتقال في الدلالة من معنى إلى معنى باللفظ الواحد كانت واردة في ذهن مقاتل، وإن لم يشغل نفسه بمحاولة الكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الدلالات أو الوجوه المختلفة للفظ الواحد. وتسمية المعاني نفسها باسم «وجوه» يؤكّد وجود ذلك الاحساس بتعدد الدلالات للفظ الواحد واختلافها من سياق إلى سياق ومن تركيب إلى تركيب. يقول مقاتل معبرا عن ذلك الاحساس «لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة».
ويدرك مقاتل ادراكا واضحا أن للفظ الواحد معنى محددا أو وجها محددا، ويدرك أن باقي الوجوه أو المعاني فروع لذلك المعنى أو الوجه. وحين يشير إلى ذلك الوجه أو المعنى الأصلي إن صحّ لنا استخدام هذه الكلمة الآن يقول «كذا عينه».
وهو يعني بذلك أن هذا الوجه من وجوه معاني اللفظ هو الوجه المعروف المتداول، والذي يطرأ على الذهن لأول وهلة. فكلمة «الموت» مثلا لها خمسة وجوه، الأربعة الأولى كلها معان فرعية، كأن يشار بها في القرآن إلى النطف التي لم تخلق، أو إلى الضال عن التوحيد، أو إلى جدوبة الأرض وقلة النبات، أو إلى ذهاب الروح عقوبة بغير أن يستوفوا الأرزاق. ثم يشير مقاتل إلى الوجه الخامس الأصلي بقوله: «الموت بعينه. ذهاب الروح بالآجال وهو الموت الذي لا يرجع صاحبه إلى الدنيا، فذلك قوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} وهذا الوجه الخامس هو المعنى المباشر أو الأصلي لكلمة «الموت» أمّا باقي الوجوه الأربعة فهي معان فرعية أو دلالات ثانوية.
ويسلك مقاتل نفس المسلك ازاء بعض العبارات والتراكيب القرآنية، فيتوقف عند عبارات «الحسنة والسيئة» و «الظلمات والنور» و «الطيب والخبيث» و «أقام الصلاة» و «ما بين أيديهم وما خلفهم» و «مستقر ومستودع» ولا يختلف بيانه لوجوه هذه العبارات ومعانيها كثيرا عن بيانه لوجوه الألفاظ، بمعنى أنه يشير إلى الوجوه الفرعية، أو الدلالات غير المباشرة، كما يشير إلى الوجه الأصلي أو الدلالة المباشرة. فعبارة «الظلمات والنور» على سبيل المثال لها وجهان «فوجه منهما: الظلمات يعني الشرك، فذلك قوله في البقرة {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} يعني يخرجهم من الشرك إلى الايمان، نظيرها عنده. وقال في الأحزاب {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلََائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ}
يعني من الشرك إلى الايمان ونحوه كثير. والوجه الثاني: الظلمات: الليل، والنور، يعني النهار، فذلك قوله في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} يعني جعل الليل والنهار ليس مثلهما في القرآن». ولا يتوقف مقاتل وهذا طبيعي أمام التعبير بالظلمات والنور عن الشرك والايمان ليبين العلاقة بين الوجهين، وذلك لأن غايته هي ايراد المعنى المباشر لهذه الألفاظ والعبارات ووجوهها المختلفة في القرآن.(1/98)
ويسلك مقاتل نفس المسلك ازاء بعض العبارات والتراكيب القرآنية، فيتوقف عند عبارات «الحسنة والسيئة» و «الظلمات والنور» و «الطيب والخبيث» و «أقام الصلاة» و «ما بين أيديهم وما خلفهم» و «مستقر ومستودع» ولا يختلف بيانه لوجوه هذه العبارات ومعانيها كثيرا عن بيانه لوجوه الألفاظ، بمعنى أنه يشير إلى الوجوه الفرعية، أو الدلالات غير المباشرة، كما يشير إلى الوجه الأصلي أو الدلالة المباشرة. فعبارة «الظلمات والنور» على سبيل المثال لها وجهان «فوجه منهما: الظلمات يعني الشرك، فذلك قوله في البقرة {اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} يعني يخرجهم من الشرك إلى الايمان، نظيرها عنده. وقال في الأحزاب {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلََائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ}
يعني من الشرك إلى الايمان ونحوه كثير. والوجه الثاني: الظلمات: الليل، والنور، يعني النهار، فذلك قوله في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} يعني جعل الليل والنهار ليس مثلهما في القرآن». ولا يتوقف مقاتل وهذا طبيعي أمام التعبير بالظلمات والنور عن الشرك والايمان ليبين العلاقة بين الوجهين، وذلك لأن غايته هي ايراد المعنى المباشر لهذه الألفاظ والعبارات ووجوهها المختلفة في القرآن.
وكما تتعدد وجوه اللفظ الواحد، تتعدد كذلك وجوه الحرف الواحد، ويتعرض مقاتل في هذا الصدد للوجوه المختلفة للحروف، ولكنه لا يشير في أي من هذه الحروف أو الأدوات إلى وجه أصلي ووجوه فرعية أو ثانوية، بل تتساوى وجوه الحرف الواحد في امكانية ورودها. والكتاب من هذه الوجهة يعدّ أقدم كتاب وصلنا في معاني الحروف، مما يؤكّد أن تفسير القرآن، أو الدراسات القرآنية عموما، كانت في الحضارة الاسلامية هي البيئة الطبيعية التي نضجت في أحضانها كل فروع الدراسات اللغوية والبلاغية.
وإلى جانب هذه الدراسة التي قرّبت المفسّر من مفهوم «المجاز» نرى أن مصطلح «المثل» يتقدم خطوة للامام، حيث يكشف مقاتل عن العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي في المثل وذلك حين يفسّر الوجوه المختلفة لكلمة «ماء» في القرآن، فهو يرى أن لها وجوها ثلاثة هي المطر، والنطفة، «والوجه الثالث: الماء:
يعني القرآن، كما أن الماء حياة الناس، كذلك القرآن حياة لمن آمن به»
ج أبو عبيدة وأنواع المجاز
وإذا كان مقاتل بن سليمان صاحب ميول تجسيدية واضحة، وذا نزعة ارجائية معروفة، وهو أول من وصلنا عنه كتاب في «الأشباه والنظائر» فإن أول كتاب يصلنا بعنوان «مجاز القرآن» هو لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 207هـ) الخارجي. وفي نفس الفترة تقريبا نلتقي بكتاب «معاني القرآن» للفراء (ت 209هـ) وله ميول اعتزالية أشار إليها الدارسون. وكما فعلنا مع كتاب مقاتل، سنكتفي هنا بمحاولة رصد ما يندرج تحت مفهوم المجاز من أساليب، تاركين الكشف عن الجوانب الكلامية في هذه المؤلفات للفصل الخاص بالتأويل.
ولا شك أن طبيعة ثقافة كل من أبي عبيدة والفراء قد أثّرت بشكل أو بآخر على زاوية رؤية كل منهما للتركيب القرآني، وعلى طريقة تحليلهما لهذا التركيب وتذوقهما له. والدوافع التي دفعت كلا منهما لتأليف كتابه تكشف من جانب آخر عن وجود مجموعة من العوامل الخارجية أهمها استغلاق النص القرآني على أفهام كثيرين من رجال الدولة ذوي الأصول الأعجمية في غالب الأحيان، هذا إلى جانب أخطائهم في نطق القرآن أو اللحن فيه. وكان من أثر ذلك كله أن تطورت مهمة
المفسّر قليلا عن ذي قبل، فصار عليه أن يتناول النص القرآني من زاوية التركيب كما يتناوله من زاوية شرح الغامض من ألفاظه. وعلاوة على ذلك كان عليه أن يتناول الجانب الاعرابي. وبمعنى آخر كان على هؤلاء المفسرين أن يخوضوا في مباحث بلاغية وأسلوبية أكثر اتساعا مما تعرّض له المفسرون السابقون، بحكم هذه المهمة التي كانت تواجههم.(1/99)
ولا شك أن طبيعة ثقافة كل من أبي عبيدة والفراء قد أثّرت بشكل أو بآخر على زاوية رؤية كل منهما للتركيب القرآني، وعلى طريقة تحليلهما لهذا التركيب وتذوقهما له. والدوافع التي دفعت كلا منهما لتأليف كتابه تكشف من جانب آخر عن وجود مجموعة من العوامل الخارجية أهمها استغلاق النص القرآني على أفهام كثيرين من رجال الدولة ذوي الأصول الأعجمية في غالب الأحيان، هذا إلى جانب أخطائهم في نطق القرآن أو اللحن فيه. وكان من أثر ذلك كله أن تطورت مهمة
المفسّر قليلا عن ذي قبل، فصار عليه أن يتناول النص القرآني من زاوية التركيب كما يتناوله من زاوية شرح الغامض من ألفاظه. وعلاوة على ذلك كان عليه أن يتناول الجانب الاعرابي. وبمعنى آخر كان على هؤلاء المفسرين أن يخوضوا في مباحث بلاغية وأسلوبية أكثر اتساعا مما تعرّض له المفسرون السابقون، بحكم هذه المهمة التي كانت تواجههم.
وإذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة والبلاغة، وتدخل في صميم عملها جنبا إلى جنب دراسة «موقع اللفظ، والتكرار، والوسائل الايقاعية والموسيقية، والاستعارة والرمز والصورة» فكذلك كان الأمر في تراثنا القديم، حيث كانت الدراسة البلاغية متداخلة مع الدراسة اللغوية في كتب النحاة الأوائل أمثال «سيبويه» حتى اعتبره بعض الباحثين «واضع علمي المعاني والبيان» واعتبر أن أبا عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» لم يفعل أكثر من أنه سلك مسلك سابقيه من اللغويين من ربط النحو بالأساليب والتراكيب، على عكس ما فعل المتأخرون حيث قصروه على أنه «علم يعرف به أحوال أواخر الكلم اعرابا وبناء» «والنحو بالمعنى الذي عناه المتقدمون هو الذي عنى مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عند ما سمّى كتابه «المجاز في القرآن» وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم وبيان ما قد يطرأ على الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف إلى نحو ذلك» ومعنى ذلك أن مفهوم المجاز عند أبي عبيدة يتسع ليشمل كل ما يندرج تحت دراسة الأساليب. ومما يؤكد هذا المفهوم عند أبي عبيدة ما يحكيه هو نفسه عن سبب تأليف كتابه من أن كاتبا للفضل بن ربيع سأله عن قوله تعالى {طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} وقال: إنما يقع الوعد والايعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف، فقال له أبو عبيدة: «إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لمّا كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به.
فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز». وهذا الذي يحكيه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمرين: الأمر الأول أن التساؤل يصدر عن كاتب للفضل بن ربيع، وهو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا يدركون أسرار التركيب العربي، وإن عرفوا مفرداته وأساليبه الشائعة. ومثل هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق
والقواعد التي درس على أساسها اللغة، وقد يدفعه ذلك إلى رفض التركيب واتهامه بالخطإ. وغني عن البيان أن أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق دائما عن امكانيات الواقع الحي للغة وثرائه، ويظل من يتعلم اللغة ولفترة طويلة جدا في حدود القواعد والحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى رحابة الأساليب الفنية للغة، تلك الأساليب التي تخضع القواعد لها دون أن تخضع هي للقواعد. والأمر الثاني الذي يلفتنا إليه كلام أبي عبيدة أنه يردّ المثال القرآني الذي سئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها. ومنهجه في الكتاب كله يقوم على ذلك، بمعنى أنه يحاول شرح التركيب، ثم يستشهد على صحته بأبيات من الشعر أو العبارات القرآنية.(1/100)
فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز». وهذا الذي يحكيه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمرين: الأمر الأول أن التساؤل يصدر عن كاتب للفضل بن ربيع، وهو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا يدركون أسرار التركيب العربي، وإن عرفوا مفرداته وأساليبه الشائعة. ومثل هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق
والقواعد التي درس على أساسها اللغة، وقد يدفعه ذلك إلى رفض التركيب واتهامه بالخطإ. وغني عن البيان أن أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق دائما عن امكانيات الواقع الحي للغة وثرائه، ويظل من يتعلم اللغة ولفترة طويلة جدا في حدود القواعد والحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى رحابة الأساليب الفنية للغة، تلك الأساليب التي تخضع القواعد لها دون أن تخضع هي للقواعد. والأمر الثاني الذي يلفتنا إليه كلام أبي عبيدة أنه يردّ المثال القرآني الذي سئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها. ومنهجه في الكتاب كله يقوم على ذلك، بمعنى أنه يحاول شرح التركيب، ثم يستشهد على صحته بأبيات من الشعر أو العبارات القرآنية.
ويعدّ هذا المسلك من جانب أبي عبيدة استمرارا للتقليد الذي رفع شعاره ابن عباس «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب».
ومعنى هذا كله أن مصطلح «المجاز» عند أبي عبيدة، وإن ظلّ شديد الالتصاق بمعناه اللغوي، فإنه كان يديره «على أمر في نفسه، وأنه التزم فكرة بعينها كانت تشغل ذهنه، فلم تكن هذه الكلمة تعبر عن مدلول كلمة تفسير، أو كلمة معنى بصفة مطلقة، وإن كان هذا لا ينفي اطلاقها أحيانا في ذلك المعنى».
والحذف وهو ظاهرة أسلوبية يعدّ من المجاز عند أبي عبيدة. ويشترط في الحذف، أو في المحذوف أن يكون مما يمكن أن يعلمه المخاطب. وفي تعليقه على قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} يقول: «العرب تختصر لعلم المخاطب بما أريد به فكأنه خرج مخرج قولك: فأمّا الذين اسودت وجههم فيقال لهم أكفرتم، فحذف هذا واختصر في الكلام» ويستشهد على ذلك بما قال الأسدي:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بنى شاب قرناها تصر وتحلب
ويقول: «أراد بنى التي شاب قرناها، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
يقول: كأنك جمل يقعقع خلف الجمل بشن، ففهم عنه ما أراد» ومن الواضح أن وظيفة الحذف هي الاختصار، وشرطه أن لا يخلّ الحذف بوضوح المعنى.
ومثال ثان يؤكد ما نذهب اليه، وذلك في تحليله لقوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} حيث يقول: «سقوه حتى غلب عليهم، مجازه، مجاز الاختصار، أشربوا في قلوبهم العجل، حب العجل، وفي القرآن {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
مجازها: أهل القرية»(1/101)
ومثال ثان يؤكد ما نذهب اليه، وذلك في تحليله لقوله تعالى {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} حيث يقول: «سقوه حتى غلب عليهم، مجازه، مجاز الاختصار، أشربوا في قلوبهم العجل، حب العجل، وفي القرآن {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
مجازها: أهل القرية»
فإذا تركنا الحذف إلى وسائل التعبير التصويرية كالتشبيه والتمثيل والاستعارة فسنجد أبا عبيدة يلجأ لتبسيط التراكيب الاستعارية والتمثيلية بدلا من أن يحللها ويتذوقها ويكشف عن مناحي الجمال فيها، فقوله سبحانه {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} يصبح معناه «ميتة» وقوله {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} يتحول إلى «الزموا المسكنة» وقوله {وَأَلْقَيْنََا بَيْنَهُمُ الْعَدََاوَةَ وَالْبَغْضََاءَ} يصير «جعلنا». أمّا أخذ الله للأسماع والأبصار في الآية {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ}
«فمجازه إن أصمّ الله أسماعكم وأعمى أبصاركم». وقوله تعالى {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكََاذِبُونَ} معناه «قالوا: إنكم لكاذبون. وتصبح الهبة الالهية {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} «مجازه جعلت محبة مني في صدور الناس». و {تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}
مجازه تقبلونه ويأخذه بعضكم عن بعض». وكذلك قوله {وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ} «مجازه وجعل فيها رواسي أي جبالا قد رست أي ثبتت» وقوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلََّامُ الْغُيُوبِ} تصير «يأتي بالحق».
وفي هذه الآيات كلها يبدو التركيب القرآني في شرح أبي عبيدة كما لو كان فيه اطالة تحتاج للحذف والاختصار. وبذلك يتعادل التركيب المعقد والتركيب البسيط ليعبرا عن معنى واحد في النهاية. ومعنى ذلك كله أن أبا عبيدة أدرك أن في هذه التعبيرات جميعا شيئا غير عادي، شيئا يحتاج للتوضيح كما احتاج التشبيه برءوس الشياطين إلى الشرح والتوضيح. وهو وإن كان لم يبيّن الفارق الدقيق بين مستويي التعبير المجازي والتعبير الحقيقي، فإن مجرد توقفه أمام هذه النماذج ووضعه اياها تحت المجاز يعدّ نقلة كبيرة في انضاج مفهوم المجاز وتطويره.
ومن انجازات أبي عبيدة أنه يلتفت إلى ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب «التشخيص» في القرآن، وهو اطلاق صفات انسانية على الحيوان والجماد. غير أن ما يلفت نظر أبي عبيدة إلى هذا الأسلوب هو استخدام ضمائر العاقل بدلا من ضمائر غير العاقل. والأمثلة التي يتوقف أمامها هي قوله تعالى {قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} يقول: «هذا من الحيوان الذي خرج مخرج الآدميين.
والعرب قد تفعل ذلك. قال:
شربت إذا ما الديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا»
ويقول في قوله تعالى {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} «هذا مجاز الموات الذي يشبه تقدير فعله بفعل الآدميين» وهي نفس النظرة التي ينظر بها إلى الآيات {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ} و {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.(1/102)
شربت إذا ما الديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا»
ويقول في قوله تعالى {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} «هذا مجاز الموات الذي يشبه تقدير فعله بفعل الآدميين» وهي نفس النظرة التي ينظر بها إلى الآيات {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ} و {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
د الفراء وبلورة المصطلح
إذا تركنا أبا عبيدة، وانتقلنا لمعاصره الفراء، فسنجد تحديدا أدق لمفهوم المجاز، أو التجاوز في الدلالة عموما. وإذا كان الفراء لم يستخدم كلمة «مجاز» التي جعلها أبو عبيدة عنوانا لكتابه، فإنه استخدم صيغة الفعل «تجوز» وذلك حين تعرّض لقوله تعالى {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} حيث اعتبر اسناد الربح الى التجارة تجوزا في التعبير. وهذا الاستعمال للفعل «تجوز» في هذا السياق يعني أن مفهوم «المجاز» أو «التجوز» قد تقدّم على يد الفراء خطوة بعد أبي عبيدة، وذلك أن معنى «تجوز في كلامه أي تكلم بالمجاز».
يقول الفراء في تعليقه على هذه الآية «ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك، لأن الربح والخسران إنما يكون في التجارة، فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: {فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ} وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير إلّا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم يجز ذلك إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع، لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجوزا فيه.
فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك وخسر بزك ورقيقك، كان جائزا لدلالة بعضه على بعض» ولعله من المفيد أن نتوقف قليلا أمام هذا النص محاولين استجلاء مفهوم التجاوز في التعبير عند الفراء. وأول ما يلفت الانتباه في هذا النص محاولة الفراء شأن أبي عبيدة والمفسرين قبله أن يردّ العبارة القرآنية إلى كلام العرب، ثم أن يبين أن سبب التجاوز هو أن «الربح والخسران إنما يكون في التجارة فعلم معناه» أي أن التجاوز في الاسناد لم يؤدّ إلى غموض المعنى بسبب تلك الصلة القائمة بين التاجر الفاعل الحقيقي للربح وبين التجارة التي يحدث فيها الربح ولذلك فذهن القارئ ينصرف فورا إلى أن المعنى هو ربح التاجر في التجارة. والرغبة في وضوح المعنى هي التي تجعل الفراء يرفض التجاوز في مثل «خسر عبدك» إذا كنت تريد أن تجعل العبد تجارة لا تاجرا. والذي يجعل الفراء يرفض التجاوز في هذا التركيب أن جملة «خسر عبدك» تحتمل معنيين: المعنى الأول: أن يكون العبد تاجرا في مال سيده فيخسر، وبذلك يكون الاسناد حقيقيا لا مجازيا. والمعنى الثاني: أن يكون العبد نفسه تجارة يخسر فيها السيد، وهنا يكون الاسناد مجازيا، أو متجوزا فيه على حد تعبير الفراء. يرفض الفراء هذا التركيب
لأنه يؤدي إلى غموض يعوقنا عن فهم المراد، وذلك لأنه يحتمل الاسناد الحقيقي والمجازي معا دون مرجح أو قرينة ترجح بينهما. فإذا ورد تركيب مشابه لهذا التركيب في سياق يفهم منه المعنى كأن تقول «قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك» كان جائزا لدلالة بعضه على بعض. والذي يهمنا في هذا النص هو التفات الفراء لمعنى التجاوز في التعبير، واستخدامه لكلمة «التجوز» التي هي أقرب إلى كلمة «مجاز» ثم ادراكه للعلاقة بين المجاز والحقيقة في اسناد الفعل إلى غير فاعله، وذلك لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي والفاعل النحوي في العبارة.(1/103)
فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك وخسر بزك ورقيقك، كان جائزا لدلالة بعضه على بعض» ولعله من المفيد أن نتوقف قليلا أمام هذا النص محاولين استجلاء مفهوم التجاوز في التعبير عند الفراء. وأول ما يلفت الانتباه في هذا النص محاولة الفراء شأن أبي عبيدة والمفسرين قبله أن يردّ العبارة القرآنية إلى كلام العرب، ثم أن يبين أن سبب التجاوز هو أن «الربح والخسران إنما يكون في التجارة فعلم معناه» أي أن التجاوز في الاسناد لم يؤدّ إلى غموض المعنى بسبب تلك الصلة القائمة بين التاجر الفاعل الحقيقي للربح وبين التجارة التي يحدث فيها الربح ولذلك فذهن القارئ ينصرف فورا إلى أن المعنى هو ربح التاجر في التجارة. والرغبة في وضوح المعنى هي التي تجعل الفراء يرفض التجاوز في مثل «خسر عبدك» إذا كنت تريد أن تجعل العبد تجارة لا تاجرا. والذي يجعل الفراء يرفض التجاوز في هذا التركيب أن جملة «خسر عبدك» تحتمل معنيين: المعنى الأول: أن يكون العبد تاجرا في مال سيده فيخسر، وبذلك يكون الاسناد حقيقيا لا مجازيا. والمعنى الثاني: أن يكون العبد نفسه تجارة يخسر فيها السيد، وهنا يكون الاسناد مجازيا، أو متجوزا فيه على حد تعبير الفراء. يرفض الفراء هذا التركيب
لأنه يؤدي إلى غموض يعوقنا عن فهم المراد، وذلك لأنه يحتمل الاسناد الحقيقي والمجازي معا دون مرجح أو قرينة ترجح بينهما. فإذا ورد تركيب مشابه لهذا التركيب في سياق يفهم منه المعنى كأن تقول «قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك» كان جائزا لدلالة بعضه على بعض. والذي يهمنا في هذا النص هو التفات الفراء لمعنى التجاوز في التعبير، واستخدامه لكلمة «التجوز» التي هي أقرب إلى كلمة «مجاز» ثم ادراكه للعلاقة بين المجاز والحقيقة في اسناد الفعل إلى غير فاعله، وذلك لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي والفاعل النحوي في العبارة.
وإذا كان الفراء قد تنبه في النص السابق إلى التجاوز في إسناد الفعل إلى غير فاعله، فهو في مواطن كثيرة يتنبه إلى هذا التجاوز، دون أن يشير إلى كلمة «التجوز» التي كثرت اشارته إليها في النص السابق، بل يستخدم كلمة قريبة جدا من معنى التجوز هي «الاتساع». يقف أمام قوله {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} ويقول:
«المكر ليس لليل ولا للنهار، وانما المعنى: بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليل والنهار، ويكونا كالفاعلين، لأن العرب تقول: نهارك صائم، وليلك نائم، ثم تضيف الفعل إلى الليل والنهار، وهو في المعنى للآدميين كما تقول: نام ليلك، وعزم الأمر، إنما عزمه القوم. فهذا مما يعرف معناه فتتسع به العرب». ويلح الفراء هنا كما في المثال السابق على وضوح الدلالة «فهذا مما يعرف معناه».
وإذا كان التجاوز في المثالين السابقين تجاوزا في الاسناد، فثم نوع آخر من التجاوز يكون في دلالة الصيغة الصرفية، فصيغة «فاعل» تدل على اسم الفاعل، ولكنها قد يتجوز بها فتدل على اسم المفعول. ومن الطبيعي أن يقف نحوي كالفراء أمام هذه الظواهر ليتأملها ويحاول أن يردّها إلى ما هو معروف من كلام العرب.
يتوقف مثلا أمام قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} فيقول: «فيها الرضاء، والعرب تقول: هذا ليل نائم، وسر كاتم، وماء دافق، فيجعلونه فاعلا، وهو مفعول في الأصل، وذلك أنهم يريدون وجه المدح والذم، فيقولون ذلك لا على بناء الفعل، ولو كان فعلا مصرحا لم يقل ذلك فيه، لأنه لا يجوز أن تقول للضارب: مضروب، ولا للمضروب: ضارب، لأنه لا مدح فيه ولا ذم» والفراء هنا يحدد وظيفة للانتقال بالصيغة عمّا وضعت له من دلالتها الصرفية إلى دلالة أخرى، هذه الوظيفة هي المدح أو الذم. والمقصود بالمدح والذم هنا هو التعبير عن شيء وراء الوصف الظاهري. وبدون هذا الشيء لا يصح استخدام الصيغة في غير ما وضعت له، ومعنى ذلك أن الانتقال بالصيغة من معنى الفاعل إلى معنى المفعول يتضمن مدحا أو ذما لا تعبر عنه الصيغة في دلالتها الأصلية.(1/104)
يتوقف الفراء أيضا أمام ما سيطلق عليه فيما بعد اسم «المجاز المرسل» وذلك عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ تَأْتُونَنََا عَنِ الْيَمِينِ} يقول: «كنتم تأتوننا من قبل اليمين، أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه. واليمين: القدرة والقوة. وكذلك قوله {فَرََاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي بالقوة والقدرة. وقال الشاعر:
إذا ما غاية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أي بالقدرة والقوة». وكذلك يتوقف الفراء أمام قوله تعالى {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصََارِ} ليقول: «يريد أولى القوة والبصر في أمر الله» «وقوله عز وجل:
{بِأَيْدٍ} بقوة». ولا يشير الفراء في هذه الأمثلة للعلاقة المجازية بين الأيدي والقوة. ولكنه في مثال آخر يحاول توضيح هذه العلاقة، وذلك حين يتعرّض لقوله تعالى {يَتْلُونَ آيََاتِ اللََّهِ آنََاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} حيث يقول «السجود في هذا الموضع اسم للصلاة لا للسجود، لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع». والعلاقة التي يشير اليها الفراء هنا هي علاقة تعبير الجزء عن الكل، فالسجود جزء من الصلاة، ولذلك عبر عن الصلاة الكل بالسجود الجزء.
والقرينة التي تسمح بهذا التجوز أن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع، بل تكون في الصلاة عموما ولهذا السبب أي بسبب عدم غموض المعنى جاز هذا التعبير.
ويتوقف الفراء، شأن معاصره أبي عبيدة، أمام مجاز الحذف في آيات كثيرة.
وهو يسلك مسلكه في الحرص على تعيين المحذوف وتحديده. يقف أمام قوله تعالى:
{اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً} ليقول «معناه والله أعلم فضرب فانفجرت. فعرف بقوله «فانفجرت» أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب، لأنه أدّى عن المعنى. فكذلك قوله {أَنِ اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}
ومثله في الكلام أن تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجرت فاكتسبت». ومن الواضح أن الفراء يهتم بوضوح المعنى الذي يجوز معه الحذف، ما دام الحذف لن يعوق المتلقي عن فهم المعنى المراد.
ومما يؤكد المدخل النحوي للوقوف الطويل أمام مجاز الحذف، بحث الفراء عن «الفاء» في جواب «أمّا» في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}
وهي نفس الآية التي توقف أمامها أبو عبيدة، وإن لم تشغله قضية «الفاء» وهذا هو الفارق بين لغوي كأبي عبيدة يبحث عن استواء العبارة، وبين نحوي كالفراء يبحث عن استواء القاعدة. يقول الفراء: «إن «أمّا» لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هي؟ فيقال: إنها كانت مع قول مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه.
والمعنى والله أعلم فأمّا الذين اسودت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال) والقول قد يضمر. ومنه في كتاب الله شيء كثير، من ذلك قوله {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا} وقوله {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمََاعِيلُ رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا} وفي قراءة عبد الله ويقولون ربنا والاستشهاد بقراءة ابن مسعود هنا يؤكد ما يذهب إليه الفراء من أن القول قد يضمر. ومن الطبيعي أن لا يلتفت الفراء وأبو عبيدة للوظيفة الاسلوبية لما أسموه «الحذف» خصوصا في فعل القول، تلك الوظيفة التي «تنبع من الرغبة في التمثيل أكثر من مجرد القص أو الإخبار بأحداث القصة» * وذلك لأنهما كانا مشغولين بتوضيح النص القرآني وشرحه وجعله مفهوما. وكان من الطبيعي أيضا أن يتعاملا مع الشعر من نفس الناحية، منتهيا إلى الاهتمام بتحديد المحذوف وتعيينه. ويتوقف الفراء أمام قول الشاعر مستشهدا به على وجود الحذف في لغة العرب:(1/105)
ومما يؤكد المدخل النحوي للوقوف الطويل أمام مجاز الحذف، بحث الفراء عن «الفاء» في جواب «أمّا» في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}
وهي نفس الآية التي توقف أمامها أبو عبيدة، وإن لم تشغله قضية «الفاء» وهذا هو الفارق بين لغوي كأبي عبيدة يبحث عن استواء العبارة، وبين نحوي كالفراء يبحث عن استواء القاعدة. يقول الفراء: «إن «أمّا» لا بدّ لها من الفاء جوابا فأين هي؟ فيقال: إنها كانت مع قول مضمر، فلما سقط القول سقطت الفاء معه.
والمعنى والله أعلم فأمّا الذين اسودت وجوههم فيقال: أكفرتم، فسقطت الفاء مع (فيقال) والقول قد يضمر. ومنه في كتاب الله شيء كثير، من ذلك قوله {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا} وقوله {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمََاعِيلُ رَبَّنََا تَقَبَّلْ مِنََّا} وفي قراءة عبد الله ويقولون ربنا والاستشهاد بقراءة ابن مسعود هنا يؤكد ما يذهب إليه الفراء من أن القول قد يضمر. ومن الطبيعي أن لا يلتفت الفراء وأبو عبيدة للوظيفة الاسلوبية لما أسموه «الحذف» خصوصا في فعل القول، تلك الوظيفة التي «تنبع من الرغبة في التمثيل أكثر من مجرد القص أو الإخبار بأحداث القصة» * وذلك لأنهما كانا مشغولين بتوضيح النص القرآني وشرحه وجعله مفهوما. وكان من الطبيعي أيضا أن يتعاملا مع الشعر من نفس الناحية، منتهيا إلى الاهتمام بتحديد المحذوف وتعيينه. ويتوقف الفراء أمام قول الشاعر مستشهدا به على وجود الحذف في لغة العرب:
رأتني بحبليها فصدت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
ليقول: أقبلت بحبليها
ويتوقف أمام قول الآخر:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أنى بقيد
يريد مقيدا بقيد»
وكما اشترط الفراء في التجاوز الاسنادي وضوح المعنى والدلالة، كذلك يشترط لجواز الحذف أن يكون المعنى مفهوما. فإذا كان الحذف سيخلّ بالمعنى فهو غير جائز. والذي يثير القضية عند الفراء قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمََا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قََالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}، «ولم يقل قال الذي لم يتقبل منه لأقتلنك ومثله في الكلام أن نقول: إذا اجتمع السفيه والحليم حمد، تنوي بالحمد الحليم، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وأنت تنوي: أعنت المظلوم للمعنى الذي لا يشكل. ولو قلت مرّ بي رجل وامرأة فأعنت، وأنت تريد أحدهما لم يجز حتى يبين، لأنهما ليس فيهما علامة تستدل بها على موضع المعونة، إلّا أن تريد فأعنتهما جميعا». ومعنى ذلك أن وضوح الدلالة لا بدّ أن يقارن الحذف، ومعه يجوز. فإذا لم يتعين المحذوف من سياق الكلام لم يجز الحذف. وقد كان الفراء يستطيع ببساطة أن يحلّ المشكلة دون تقدير المحذوف أو تعيينه، ذلك أن المعنى واضح في الآية من السياق. ولو (*): .. 63.(1/106)
تتبعنا مسلك النحاة، لقلنا إن الضمير في «قال» يعود إلى أقرب اسم وهو «الآخر».
ويكون المعنى «قال الآخر لأقتلنك» وذلك دون حاجة لتقدير محذوف في الكلام.
ويدخل في أسلوب التجاوز عند الفراء، استخدام الضمائر العاقلة لغير العاقل من الحيوان والجماد، وهي ما أطلقنا عليه ظاهرة «التشخيص» ولا تختلف وقفة الفراء عند هذه الظاهرة عن وقفة أبي عبيدة إلّا في التناول التفصيلي حيث اكتفى أبو عبيدة بالاشارة المجملة. يقول الفراء في قوله تعالى {رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ} «فإن هذه النون والواو إنما تكونان في جمع ذكران الجن والانس وما أشبههم. فيقال: الناس ساجدون، والملائكة ساجدون. فإذا عدوت هذا صار المؤنث والمذكر إلى التأنيث فيقال الكباش قد ذبحن وذبحت ومذبحات. ولا يجوز مذبحون. وإنما جاز في الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء لأنهم وصفوا بأفاعيل الآدميين، ألا ترى أن السجود والركوع لا يكونان إلّا من الآدميين فأخرج فعلهم على فعال الآدميين، ومثله {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا} فكأنهم خاطبوا رجالا إذ كلمتهم وكلموها. وكذلك {يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} فما أتاك موافقا لفعل الآدميين من غيرهم أجريته على هذا» ويمكن لنا أن نستنتج من هذا النص أن المبرر الذي يسمح لنا باستخدام ضمائر العقلاء لغير العقلاء هو التشبيه بين أفعال النوعين، بمعنى أننا إذا اسندنا لغير العاقل فعل العاقل كالكلام للجلود والسجود للكواكب والحديث للنمل، جاز لنا استخدام ضمائر العقلاء.
غير أن اسناد أفعال العقلاء إلى الجماد يعدّ من جانب آخر تجاوزا في الاسناد. وهذا أمر يكشف عنه الفراء حين يتوقف أمام قوله تعالى {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} حيث يقول: «يقال: كيف يريد الجدار أن ينقض؟ وذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط. ومثله قول الله {وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} والغضب لا يسكت إنما يسكت صاحبه وإنما معناه: سكن، وقوله: {فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ} وإنما يعزم أهله وقد قال الشاعر:
إن دهرا يلف شملي بحمل ... لزمان يهم بالاحسان
وقال الآخر:
شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميع فكلانا مبتلى
والجمل لم يشك، وإنما تكلم به على أنه لو نطق لقال ذلك. وكذلك قول عنترة:
فازورّ من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم»
وبهذا التحليل للأسلوب التصويري في القرآن، بما يتممنه من اسناد فعل الانسان إلى الحيوان، وهو تحليل يركّز على زاوية الرؤية النحوية في المجاز، يمكن لنا أن نعلل عدم وجود مصطلح «الاستعارة» عند الفراء. على أن تحليله لبعض الصور الاستعارية لم يخل من احساس بدور التعبير الاستعاري في تجسيد المعنوي.(1/107)
فازورّ من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم»
وبهذا التحليل للأسلوب التصويري في القرآن، بما يتممنه من اسناد فعل الانسان إلى الحيوان، وهو تحليل يركّز على زاوية الرؤية النحوية في المجاز، يمكن لنا أن نعلل عدم وجود مصطلح «الاستعارة» عند الفراء. على أن تحليله لبعض الصور الاستعارية لم يخل من احساس بدور التعبير الاستعاري في تجسيد المعنوي.
يقف أمام قوله تعالى: {وَمِنْ وَرََائِهِمْ بَرْزَخٌ} ليقول «البرزخ من يوم يموت إلى يوم يبعث. وقوله {وَجَعَلَ بَيْنَهُمََا بَرْزَخاً} يقول: حاجزا. والحاجز المسافة البعيدة، وتنوي الأمر المانع، مثل اليمين والعداوة، فصار المانع في المسافة كالمانع في الحوادث، فوقع عليهما البرزخ» وهو شرح يركز على وجه الشبه الذي يسمح باستعمال اللفظ الواحد في معنيين متقاربين، أحدهما حسي والآخر معنوي.
فالحاجز في الأصل هو المسافة البعيدة، وهذا هو المعنى الحسي، ولكن اللفظة قد تستخدم في كل ما يمنع من اللقاء مثل اليمين والعداوة الخ فاستعمال اللفظ في المعنى الثاني ونقله عن المعنى الأول يمكن لعلاقة المشابهة بينهما. وقد لاحظنا من قبل أن اسناد أفعال الآدميين لغير الآدميين وكذلك ضمائرهم لا بدّ أن يقوم على أساس المشابهة. وهذا كله يجعل التشابه هو أساس التجاوز أو الانتقال في الدلالة عند الفراء. ومثال آخر يؤكد هذا المنحى في فكر الفراء نجده في قوله تعالى {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} حيث يقول «والذنوب في كلام العرب: الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى النصيب والحظ. وبذلك أتى التفسير: فان للذين ظلموا حظا من العذاب، كما نزل بالذين من قبلهم، وقال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب»
وإذا كان التشبيه هو الأصل في التجاوز. سواء في اسناد الأفعال أو الضمائر، فمن الطبيعي أن يتوقف الفراء عند «المثل» التشبيه وقفة تكشف عن طبيعة فهمه له. ومن الطبيعي أيضا أن تكون وقفته في تحليل المثل التشبيه هي وقفة النحوي الذي تستلفت نظره ظواهر نحوية في الأسلوب. يتوقف عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً} والظاهرة التي تستوقفه في هذه الآية أن المشبه جمع بينهما المشبه به مفرد، فكيف يمكن أن يقع التشبيه على ذلك؟ ويدفعه هذا التساؤل إلى تحليل لوجه الشبه «فانما ضرب المثل والله أعلم للفعل لا للاعيان، وإنما هو مثل للنفاق، فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، ولم يقل الذين استوقدوا. وهو كما قال الله {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}
وقوله {مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ،} فالمعنى والله أعلم إلّا كبعث نفس واحدة، ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ} وقال {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال، فأجز الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحدا في شعر فأجزه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه، كقولك ما فعلك إلّا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلّا كفعل الذئب، فابن على هذا، ثم تلقى الفعل فتقول: ما فعلك إلّا كالحمير وكالذئب» فالتشبيه بالأعيان لا بدّ فيه من مطابقة المشبه للمشبه به مطابقة نحوية كاملة، أعني من حيث الافراد والتثنية والجمع. ولا تشترط هذه المطابقة النحوية إذا كان التشبيه بالأفعال. ويسمح الفراء بتلقي هذه التشبيهات واجازتها في الشعر حتى مع حذف المشبه الذي هو الفعل.(1/108)
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب»
وإذا كان التشبيه هو الأصل في التجاوز. سواء في اسناد الأفعال أو الضمائر، فمن الطبيعي أن يتوقف الفراء عند «المثل» التشبيه وقفة تكشف عن طبيعة فهمه له. ومن الطبيعي أيضا أن تكون وقفته في تحليل المثل التشبيه هي وقفة النحوي الذي تستلفت نظره ظواهر نحوية في الأسلوب. يتوقف عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً} والظاهرة التي تستوقفه في هذه الآية أن المشبه جمع بينهما المشبه به مفرد، فكيف يمكن أن يقع التشبيه على ذلك؟ ويدفعه هذا التساؤل إلى تحليل لوجه الشبه «فانما ضرب المثل والله أعلم للفعل لا للاعيان، وإنما هو مثل للنفاق، فقال مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، ولم يقل الذين استوقدوا. وهو كما قال الله {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}
وقوله {مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ،} فالمعنى والله أعلم إلّا كبعث نفس واحدة، ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ} وقال {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ} فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال، فأجز الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحدا في شعر فأجزه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه، كقولك ما فعلك إلّا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلّا كفعل الذئب، فابن على هذا، ثم تلقى الفعل فتقول: ما فعلك إلّا كالحمير وكالذئب» فالتشبيه بالأعيان لا بدّ فيه من مطابقة المشبه للمشبه به مطابقة نحوية كاملة، أعني من حيث الافراد والتثنية والجمع. ولا تشترط هذه المطابقة النحوية إذا كان التشبيه بالأفعال. ويسمح الفراء بتلقي هذه التشبيهات واجازتها في الشعر حتى مع حذف المشبه الذي هو الفعل.
ومن الملاحظ أن الحذف هنا لا يعوق عملية التشبيه أو التمثيل، وعلينا أن نلاحظ أن الفراء يقدّر المحذوف محافظة على وضوح المعنى. وبذلك يكون الفراء رغم زاوية التحليل قد أضاء بعض جوانب عملية التشبيه أو التمثيل التي أعتبرها أساس كل تجاوز في دلالة اللفظ أو العبارة.
فإذا تركنا «المثل» لا نجد الفراء يضيف كثيرا إلى ما شرحه أبو عبيدة والمفسرون مثله لمفهوم «الكناية» فهو ما يزال عنده مرتبطا بالمعنى اللغوي وهو الاضمار والاخفاء، وكثيرا ما يستخدم كمصطلح نحوي يقابل مصطلح «الاضمار» عند البصريين. وحين يفسّر الفراء قول الله تعالى {إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ} يقول: «فكنىّ عن هي، وهي للايمان ولم تذكر. وذلك أن الغل لا يكون إلّا باليمين. والعنق جامعا لليمين والعنق، فيكفي ذكر أحدهما عن صاحبه، كما قال {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} فضمّ الورثة إلى الوصي ولم يذكروا، لأن الصلح إنما يقع بين الوصي والورثة. ومثله قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت وجها ... أريد الخير أيهما يليني
الخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني
فكنىّ عن الشر وإنما يذكر الخير وحده، وذلك أن الشر يذكر مع الخير، وهي في قراءة عبد الله إنّا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان فكفّت الأيمان عن ذكر الأعناق في حرف عبد الله، وكفّت الأعناق من الأيمان في قراءة العامة
ومعناه: إنّا حبسناهم عن الانفاق في سبيل الله» ومن الملاحظ أن فكرة الحذف متضمنة في الكناية بهذا المفهوم بشكل واضح بمعنى أننا نكتفي بذكر شيء واحد عن ذكر شيئين لتضمن أحدهما للآخر، سواء في المفهوم اللفظي أو السياق المعنوي.
ومما يرتبط بالكناية التعريض والتورية، وهي فكرة يتوقف الفراء عندها لينفي
ارتباطها بالكذب، وهو يستند في ذلك لكلمة لعمر بن الخطاب، وتسند أحيانا لعلي بن أبي طالب. ويبدو أن الآية التي تثير هذه المسألة وهي على لسان إبراهيم عليه السلام كان لا بدّ أن تثير قضية الكذب، ومن ثم فلا بدّ من أن يسعى المفسر لنفي الكذب عن نبي من أنبياء الله المعصومين. يقول الفراء تعليقا على قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم لقومه {إِنِّي سَقِيمٌ} «أي مطعون من الطاعون. ويقال إنها كلمة فيها معراض، أي ان كل من كان في عنقه الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر. وهو وجه حسن. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني يحيى بن المهلب أبو كدينة، عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب الأنصاري في قوله {لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ} قال: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام وقد قال عمر في قوله: (إن في معاريض الكلام لما يغنينا عن الكذب)»(1/109)
ومما يرتبط بالكناية التعريض والتورية، وهي فكرة يتوقف الفراء عندها لينفي
ارتباطها بالكذب، وهو يستند في ذلك لكلمة لعمر بن الخطاب، وتسند أحيانا لعلي بن أبي طالب. ويبدو أن الآية التي تثير هذه المسألة وهي على لسان إبراهيم عليه السلام كان لا بدّ أن تثير قضية الكذب، ومن ثم فلا بدّ من أن يسعى المفسر لنفي الكذب عن نبي من أنبياء الله المعصومين. يقول الفراء تعليقا على قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم لقومه {إِنِّي سَقِيمٌ} «أي مطعون من الطاعون. ويقال إنها كلمة فيها معراض، أي ان كل من كان في عنقه الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر. وهو وجه حسن. حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني يحيى بن المهلب أبو كدينة، عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب الأنصاري في قوله {لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ} قال: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام وقد قال عمر في قوله: (إن في معاريض الكلام لما يغنينا عن الكذب)»
ومن الواضح في كل هذه التحليلات للتراكيب المجازية في القرآن، أن الفراء وكذلك أبا عبيدة توقفا عند مرحلة الكشف عن المعنى، وبيان توافق التركيب القرآني مع تراكيب اللغة الشائعة في الشعر وكلام العرب وكانت زاوية التحليل عند كل منهما متأثرة بثقافتهما من ناحية، وبطبيعة المهمة التي واجهاها من ناحية أخرى.
وكان من الطبيعي في هذه المرحلة أن لا يدرك المفسر الفارق بين التركيب المباشر، والتعبير الاستعاري. أو المجازي، ذلك التركيب الذي نعتبره اليوم «أكثر الوسائل أهمية لاكتشاف المعاني الجديدة» ومن ثم يعدّ ضرورة لغوية تتطور من خلاله اللغة للتعبير عن مدركات جديدة، أو تعبر من خلاله «ما هو معروف إلى ما لم يعرف بعد».
ومع ذلك كله فقد كشف كل من أبي عبيدة والفراء عن هذه الأساليب المجازية، واستطاعا أن يبلورا كثيرا من عناصر المجاز التي لم تنفصل عنه بعد ذلك، وبذلك مهّدا الطريق من بعدهما للجاحظ وابن قتيبة والقاضي عبد الجبار ليفيدوا من هذه الجهود في تأويل النص القرآني ليتفق مع ما ذهب إليه كل منهم في قضايا التوحيد والعدل. ولم يكن كل من أبي عبيدة والفراء والمفسرون قبلهم منفصلين عن هذه المهمة التأويلية التي أجّلنا التعرّض لجهودهم فيها إلى الفصل التالي، مكتفين هنا برصد تطور مفهوم المجاز وتحديد العناصر التي دخلت تحته.(1/110)
2 - الجاحظ ونضج المصطلح
تحددت وظيفة اللغة عند الجاحظ بأنها هي «الابانة» التي اعتبرها ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري لتبادل المعرفة ونقل الخبرة. وما دام الأمر كذلك فمن حق أهل اللغة أن يستخدموها ويتعاملوا بها بالطريقة التي يرونها محققة لهذه الوظيفة ومؤدية لهذه الغاية. وثمّة مجالات يرى كل من النظّام والجاحظ ضرورة أن تراعى فيها الدقة في استخدام اللغة دون توسع أو تجاوز في دلالاتها. فقد ذهب النظّام إلى «أن طلاق الكناية مثل قول الانسان: الخلية والبرية والبتة، أو حبلك على غاربك.
لا يقع، وإن قارنته نية الطلاق». وليس أشدّ من الطلاق التصاقا بحياة الناس ومصالحهم ولذلك يمنع النظّام من وقوع طلاق الكناية والمجاز، حتى مع توفر النية، بل لا بدّ من استخدام التعبير المباشر.
والجاحظ وإن كان لا يرى رأي أستاذه في طلاق الكناية وهو خلاف فقهي على أي حال يتفق معه في المبدأ العام، وهو استبعاد مجال المعاملات من الحرية في استخدام الكلمات، على أساس أن المعاملات حاجات نفعية مباشرة لا تحتمل اللبس أو التأويل والخلاف. فإذا استبعدنا هذا المجال النفعي الخالص جاز للناس «أن يضعوا كلامهم حيث أحبوا إذا كان لهم مجاز، إلّا في المعاملات».
وهذا كله يؤكد حرص الجاحظ على وظيفة اللغة العملية في حياة الناس.
ولكن هذه الحرية في نقل الألفاظ والعبارات ليست حرية مطلقة كما توهم العبارة السابقة، فلها شرطان لا بدّ من مراعاتهما: الشرط الأول أن يكون بين المعنى المنقول إليه اللفظ والمعنى المنقول عنه علاقة ما. أمّا الشرط الثاني فهو أن الحرية في النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد، وعلى الفرد أن يتبع في عباراته وأساليبه طرق الدلالة التي سارت عليها الجماعة قبله، دون أن يخرج على هذه الأطر الدلالية أو التعبيرية، أو دون حتى أن يسمح لنفسه القياس عليها. والغاية وراء هذين الشرطين هي الوضوح الذي لا بدّ منه لأداء اللغة لوظيفتها الاجتماعية، وظيفة الابانة. فلو لم توجد علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه لاختلّت دلالة الألفاظ على المعاني. ولو ترك الأمر لكل متكلم وحريته يستخدم الألفاظ حيث شاء، ويجريها حيث أراد، لصار كل فرد جزيرة لغوية منعزلة لا تستطيع التواصل والابانة لغيرها عن نفسها. وتفقد الابانة والحالة هذه أهميتها وضرورتها، بل لا تصبح إبانة على الاطلاق. وكلا الأمرين سيؤدي في النهاية إلى القضاء على الوظيفة الاجتماعية للغة. وهي الابانة، ومن ثم ينفضّ عقد
الاجتماع البشري، ويعود الانسان إلى عالم البهيمة والسبع، بل يعود إلى عالم الجماد أو النبات، فالحيوانات لها منطقها الخاص الذي يعبر عن احتياجاتها ويكفي «لتفاهمهم حاجة بعضهم إلى بعض».(1/111)
ولكن هذه الحرية في نقل الألفاظ والعبارات ليست حرية مطلقة كما توهم العبارة السابقة، فلها شرطان لا بدّ من مراعاتهما: الشرط الأول أن يكون بين المعنى المنقول إليه اللفظ والمعنى المنقول عنه علاقة ما. أمّا الشرط الثاني فهو أن الحرية في النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد، وعلى الفرد أن يتبع في عباراته وأساليبه طرق الدلالة التي سارت عليها الجماعة قبله، دون أن يخرج على هذه الأطر الدلالية أو التعبيرية، أو دون حتى أن يسمح لنفسه القياس عليها. والغاية وراء هذين الشرطين هي الوضوح الذي لا بدّ منه لأداء اللغة لوظيفتها الاجتماعية، وظيفة الابانة. فلو لم توجد علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه لاختلّت دلالة الألفاظ على المعاني. ولو ترك الأمر لكل متكلم وحريته يستخدم الألفاظ حيث شاء، ويجريها حيث أراد، لصار كل فرد جزيرة لغوية منعزلة لا تستطيع التواصل والابانة لغيرها عن نفسها. وتفقد الابانة والحالة هذه أهميتها وضرورتها، بل لا تصبح إبانة على الاطلاق. وكلا الأمرين سيؤدي في النهاية إلى القضاء على الوظيفة الاجتماعية للغة. وهي الابانة، ومن ثم ينفضّ عقد
الاجتماع البشري، ويعود الانسان إلى عالم البهيمة والسبع، بل يعود إلى عالم الجماد أو النبات، فالحيوانات لها منطقها الخاص الذي يعبر عن احتياجاتها ويكفي «لتفاهمهم حاجة بعضهم إلى بعض».
والشرط الأول للحرية في نقل الألفاظ لا يذكره الجاحظ بشكل مباشر وتفصيلي، وإنما يشير إليه أثناء تحليله لبعض العبارات والتراكيب. وجدير بالذكر أن المصطلحات ما تزال متداخلة عند الجاحظ. فهو مرة يستخدم مصطلح المجاز، وأخرى يستخدم المثل، وثالثة الاشتقاق. وقد يجمع بينهم جميعا في تحليل عبارة واحدة، وذلك للدلالة على استخدام اللفظ في غير ما وضع له في اللغة. فكلمات المجاز والمثل والتشبيه والكناية والاشتقاق تدل على معنى واحد. يقول «وللعرب اقدام على الكلام ثقة بفهم أصحابهم عنهم. وهذه أيضا فضيلة أخرى وكما جوزوا لقولهم أكل وانما عض، وأكل وانما أفنى، وأكل وانما أحاله، وأكل وانما أبطل عينه.
جوزوا أيضا أن يقولوا: ذقت ما ليس بطعم ثم قالوا طعمت لغير الطعام وقد يقولون ذلك أيضا على المثل وعلى الاشتقاق وعلى التشبيه». وشرط الوضوح أساس في الانتقال باللفظ من معنى إلى معنى، وهو شرط ينفي عن الكلام مظنة الكذب «وقد يكون اخلاص ظاهر لفظة على شيء ومعناه غيره، فلا يكون كذبا، لمعرفة القائل بفهم المستمع عنه، وهذا باب كثيرا ما يستعمله العرب».
ويعدّ الجاحظ الكناية نوعا من أنواع الاشتقاق في المعاني أيضا، وبذلك يدخلها في المجاز «ويقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب، والمخرج، والكنيف، والحش، والمرحاض، والمرفق، وكل ذلك كناية واشتقاق».
وتلحّ فكرة الوضوح على الجاحظ الحاحا شديدا لما لها من خطرها على وظيفة البيان التي هي إحدى شروط الاجتماع «ومن الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله وقصد صاحبه». وهي فكرة تجعل الجاحظ يعود للآية التي كانت فيما يبدو مطعنا في عدم وضوح بعض الآيات القرآنية، وهي الآية التي سئل عنها أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكانت سببا في تأليفه كتابه. يعود الجاحظ إلى هذه الآية فيرفض تفسير المفسرين الذين قالوا إن رءوس الشياطين نبات في اليمن، وذلك ليردوا التشبيه في الآية إلى مدرك حسي واضح للعيان. يقول الجاحظ «وقد قال الناس في قوله تعالى: {إِنَّهََا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} فزعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة. تكون ببلاد اليمن، لها منظر كريه. والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير، وقالوا: ما عنى إلّا رءوس
الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فسقة الجن ومردتهم. فقال أهل الطعن والخلاف كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه، ولا وصف لنا صورته في كتاب ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها. وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره. فكيف يكون الشأن كذلك، والناس لا يفزعون إلّا من شيء هائل شنيع، قد عينوه، أو صوره لهم واصف صدوق اللسان، بليغ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صورها لنا صادق. وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟!(1/112)
وتلحّ فكرة الوضوح على الجاحظ الحاحا شديدا لما لها من خطرها على وظيفة البيان التي هي إحدى شروط الاجتماع «ومن الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله وقصد صاحبه». وهي فكرة تجعل الجاحظ يعود للآية التي كانت فيما يبدو مطعنا في عدم وضوح بعض الآيات القرآنية، وهي الآية التي سئل عنها أبو عبيدة معمر بن المثنى، وكانت سببا في تأليفه كتابه. يعود الجاحظ إلى هذه الآية فيرفض تفسير المفسرين الذين قالوا إن رءوس الشياطين نبات في اليمن، وذلك ليردوا التشبيه في الآية إلى مدرك حسي واضح للعيان. يقول الجاحظ «وقد قال الناس في قوله تعالى: {إِنَّهََا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ} فزعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة. تكون ببلاد اليمن، لها منظر كريه. والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير، وقالوا: ما عنى إلّا رءوس
الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فسقة الجن ومردتهم. فقال أهل الطعن والخلاف كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه، ولا وصف لنا صورته في كتاب ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها. وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره. فكيف يكون الشأن كذلك، والناس لا يفزعون إلّا من شيء هائل شنيع، قد عينوه، أو صوره لهم واصف صدوق اللسان، بليغ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صورها لنا صادق. وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟!
قلنا، وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي اجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين، أحدهما أن يقولوا: «لهو أقبح من شيطان» والوجه الآخر أن يسمى الجميل شيطانا، على جهة التطيّر له، كما نسمي الفرس الكريمة شوهاء، والمرأة الجميلة صمّاء، وقرناء، وخنساء، وجرباء، وأشباه ذلك، على جهة التطيّر له. ففي اجماع المسلمين والعرب وكل من لقيناه، على ضرب المثل بقبح الشيطان، دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح».
والجاحظ في هذا النص الطويل يقرن بين المثل والتشبيه مما يؤكد تداخل المصطلحات عنده ودلالتها كلها على المجاز، وهو من ناحية أخرى يلحّ على فكرة الوضوح مستدلا عليها بما ثبت في طبائع العرب من استقباح صورة الشيطان حتى ضربوا به المثل استقباحا أو تطيرا. وربط وضوح الدلالة بالمعرفة من جهة، وربط المجاز بعلاقة المشابهة أو الاشتقاق المعنوي من جهة أخرى يؤكد وظيفة اللغة البيانية عند الجاحظ. وهكذا يرتبط الشرط الأول في الانتقال بالدلالة من معنى إلى معنى شرط التشبيه والاشتقاق بالغاية النهائية للغة. وليس من شأن المشابهة أو الاشتقاق أن تلغي الفواصل بين الأشياء، أو أن تؤدي إلى الخلط بين الدلالات، بل لا بدّ من المحافظة على تمايز الأسماء ودلالاتها. فإذا كان الاسم علامة على الشيء، فحين ننقله لنعبر به عن شيء آخر لمشابهة بينهما في المعنى، فإننا لا ننقله على أنه علامة، بل ننقله لنؤكد وجه المشابهة مدحا أو ذما، دون أن ندخل الشيئين أو المعنيين في حدود بعضهما، والشعراء أنفسهم حين يشبهون والتشبيه مجاز لا ينبغي لهم أن يدخلوا الشيء في حد غيره «وقد يشبّه الشعراء والبلغاء الانسان بالقمر والشمس، والغيث والبحر، وبالاسد والسيف، وبالحية وبالنجم،
ولا يخرجون بهذه المعاني إلى حد الانسان. وإذا ذمّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القرد والحمار، وهو التيس، وهو الذئب، وهو العقرب، وهو الجعل، وهو القرنبى ثم لا يدخلون هذه الأشياء في حدود الناس ولا أسمائهم، ولا يخرجون بذلك الانسان إلى هذه الحدود وهذه الأسماء»(1/113)
والجاحظ في هذا النص الطويل يقرن بين المثل والتشبيه مما يؤكد تداخل المصطلحات عنده ودلالتها كلها على المجاز، وهو من ناحية أخرى يلحّ على فكرة الوضوح مستدلا عليها بما ثبت في طبائع العرب من استقباح صورة الشيطان حتى ضربوا به المثل استقباحا أو تطيرا. وربط وضوح الدلالة بالمعرفة من جهة، وربط المجاز بعلاقة المشابهة أو الاشتقاق المعنوي من جهة أخرى يؤكد وظيفة اللغة البيانية عند الجاحظ. وهكذا يرتبط الشرط الأول في الانتقال بالدلالة من معنى إلى معنى شرط التشبيه والاشتقاق بالغاية النهائية للغة. وليس من شأن المشابهة أو الاشتقاق أن تلغي الفواصل بين الأشياء، أو أن تؤدي إلى الخلط بين الدلالات، بل لا بدّ من المحافظة على تمايز الأسماء ودلالاتها. فإذا كان الاسم علامة على الشيء، فحين ننقله لنعبر به عن شيء آخر لمشابهة بينهما في المعنى، فإننا لا ننقله على أنه علامة، بل ننقله لنؤكد وجه المشابهة مدحا أو ذما، دون أن ندخل الشيئين أو المعنيين في حدود بعضهما، والشعراء أنفسهم حين يشبهون والتشبيه مجاز لا ينبغي لهم أن يدخلوا الشيء في حد غيره «وقد يشبّه الشعراء والبلغاء الانسان بالقمر والشمس، والغيث والبحر، وبالاسد والسيف، وبالحية وبالنجم،
ولا يخرجون بهذه المعاني إلى حد الانسان. وإذا ذمّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القرد والحمار، وهو التيس، وهو الذئب، وهو العقرب، وهو الجعل، وهو القرنبى ثم لا يدخلون هذه الأشياء في حدود الناس ولا أسمائهم، ولا يخرجون بذلك الانسان إلى هذه الحدود وهذه الأسماء»
أما الشرط الثاني للانتقال باللفظ من معنى إلى معنى إلى جانب علاقة المشابهة بين المعنيين فهو أن يكون هذا النقل من صنع الجماعة لا من صنع الفرد، ولا يجوز للفرد والحالة هذه إلّا السير على الدرب الذي مهّدته الجماعة قبله وذلك حفاظا على الابانة اللغوية أن يعتورها الغموض. وقد يبدو أحيانا أن الجاحظ يعطي هذا الحق حق النقل والاشتقاق للشعراء وحدهم، ويجعلهم سدنة على اللغة لهم كل الحرية في تغييرها واستخدامها كيف شاءوا. ولكن المؤسف أن الجاحظ يتحدث عن طبقة من الشعراء شعراء العصر الجاهلي كان لها وحدها هذا الحق، أمّا الشعراء بعدهم فعليهم الاحتذاء والتقليد. والدليل على ذلك أنه يعدد في نص طويل تشبيهات الشعراء كأنه يقوم بعملية حصر ليهتدي بها ويتعلم منها شعراء عصره، وهو من ناحية أخرى يمنع الشعراء من القياس على تشبيهات الشعراء السابقين يقول: «وسموا الجارية غزالا، وسموها أيضا خشفا، ومهره، وفاختة وحمامة، وزهرة، وقضيبا وخيزرانا على ذلك المعنى وليس هذا مما يطرد لنا أن نقيسه وإنما نقدم على ما أقدموا ونحجم عمّا أحجموا وننتهي إلى حيث انتهوا ونراهم يسمون الرجل جملا ولا يسمونه بعيرا، ولا يسمون المرأة ناقة، ويسمون الرجل ثورا. ولا يسمون المرأة بقرة، ويسمون الرجل حمارا ولا يسمون الرجل أتانا، ويسمون المرأة نعجة ولا يسمونها شاة» وهكذا يفقد الفرد المعبر باستثناء طبقة الشعراء القدماء أي فعالية في اثراء اللغة، أو اثراء التجربة الشعورية التي هي موضوع الشعر أو النص البليغ.
هذا التقييد من حرية الفرد في الاشتقاق المجازي كان ضروريا عند الجاحظ للمحافظة على الوظيفة البيانية للغة كما فهمها الجاحظ. ولكن هذا التقييد في مجال البيان الانساني، قابلته حرية واسعة في مجال البيان القرآني. وذلك على أساس أن اللغة، ملك لله وهي عارية في أيدي البشر، ومن ثم فله كل الحرية في وضعها حيث شاء. ومن جهة أخرى فقد ربط الجاحظ اللغة بالمعرفة. وقد تفرّد الله سبحانه بمعرفة ما لا يمكن أن يعرفه أحد من خلقه «فإذا كان للنابغة أن يبتدئ» الأسماء على الاشتقاق من أصل اللغة، كقوله:
والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد(1/114)
وحتى اجتمعت العرب على تصويبه، وعلى اتباع أثره، وعلى أنها لغة عربية فالله الذي له أصل اللغة أحق بذلك» فالمعارف كلها، بل العالم كله بما فيه من كائنات وموجودات وطبائع من خلق الله، وهو الذي خلق الانسان ومكّنه، وزوده بكل ما يساعده على تحقيق وجوده الأكمل، وزوده باللغة ليبين بها عن نفسه «فإذا كانت العرب يشتقون كلاما من كلامهم وأسماء من أسمائهم، واللغة عارية في أيديهم ممن خلقهم ومكنهم وألهمهم وعلمهم، وكان ذلك منهم صوابا عند جميع الناس، فالذي أعارهم هذه النعمة أحق بالاشتقاق» وقد كانت التفرقة بين معارف البشر ومعارف الله، ثم هذا التسليم بحق الله في الاشتقاق والابتداء بوضع الأسماء، كانت هذه التفرقة كفيلة بأن توجه مبحث المجاز في القرآن وجهة مختلفة عن تلك الوجهة السائدة منذ أبي عبيدة والفراء والتى تبحث عن سند لمجازات القرآن وعباراته في الشعر الجاهلي. غير أن غاية التعليم والتوضيح ولم تكن بعيدة عن جهود الجاحظ بأي حال حاولت رد كل تعبير مجازي في القرآن إلى الشعر العربي أو كلام فصحاء العرب. والجاحظ نفسه تابع أسلافه، واعتبر لغة العرب هي الأساس في فهم القرآن. ولا ينكر الباحث أن يكون الشعر العربي دليلا في فهم النص القرآني، ما دام كلام الله قد اتخذ اللغة العربية أداة للتوصيل. ولكن الآيات الخلافية التي كانت مثار جدل بين المعتزلة وخصومهم، سواء المجبرة او المشبهة، لا يمكن النظر إليها من خلال الشعر وحده ومواضعات اللغة منفردة.
فالاسلام قد جاء برؤية جديدة لطبيعة الذات الالهية. وهي رؤية تتناقض مع واقع المعتقدات العربية الجاهلية. وعلى ذلك تعبر هذه الآيات التي تصف الله عن وعي ديني جديد تماما على الشعور العربي، وعلى المدركات والمعارف التي تعبر عنها اللغة والشعر. وهذا الوعي كان يستخدم اللغة العربية للتعبير عن نفسه، ومن ثم كان من الضروري أن يحدث تغيير في النسق المتعارف عليه للغة من أجل أن تتسع لحمل هذا الوعي الجديد.
وعلى ذلك فارجاع هذه الآيات للشعر العربي ومجازه هو ردّ لهذا الوعي والمعرفة إلى معرفة ووعي متخلفين عن هذا الوعي الجديد. ولعل الجاحظ أحس بهذه المشكلة احساسا غامضا، حتى اشترط لمن يتعرّض لقضايا الدين أن يكون متكلما إلى جانب علمه باللغة العربية، وذلك حتى يستطيع الوصول إلى تلك المعرفة التي يعبر عنها القرآن «ولو كان أعلم الناس باللغة، لم ينفعك حتى يكون عالما بالكلام» ومع ذلك كله فقد سار الجاحظ في كتاب لم يصلنا في الرد على المشبهة على درب أسلافه اللغويين. يقول: «وقد كتبت في الرد على المشبهة كتابا لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريض المبتدئ، وأكثر ما يعتمد
عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضل من حشوة الناس، ويختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آي كثيرة إلى غير تأويلها، وروايات كثيرة إلى غير معانيها. وقد بيّنت ذلك بالوجوه المختصرة وبالأشعار الصحيحة، والأمثال السائرة، واستشهدت بالكلام المعروف، وبالقياس على الموجود» ولا ينبغي أن ننسى أن الجاحظ نفسه لم ينج من أثر الغايتين الدفاعية والتعليمية اللتين شغل بهما كل من أبي عبيدة والفراء، إلى جانب أن وظيفة اللغة البيانية عنده كانت تبرر هذا السلوك. ومن جهة ثالثة كان استشهاد المشبهة والظاهرية بمواضعات اللغة والشعر العربي كفيلا بأن يحدد لا مسلك الجاحظ وحده، بل مسلك المعتزلة جميعا في تناول المجاز في القرآن. يؤكد ذلك عند الجاحظ وقفاته الطويلة في كتبه كلها خاصة كتاب الحيوان للرد على المؤولين والطاعنين في القرآن وهي كلها وقفات يستدل فيها الجاحظ على صحة العبارات القرآنية والتجوز فيها بالشعر العربي وأقوال العرب. ومن المؤسف أننا لا نجد في أي من هذه الآيات التي توقف عندها الجاحظ آية واحدة من تلك الآيات الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، فكلها آيات ترتبط باستطرادات الجاحظ في الكتاب، مثل قصة الهدهد، وحديث النمل، وعلاقة الأنس بالجن، ورءوس الشياطين التي أشرنا اليها الخ كل هذه الموضوعات والآيات القرآنية التي تمسّ موضوع الحيوان من قريب أو بعيد. ولسنا بصدد درس نهج الجاحظ في تفسير القرآن عامة حتى نتوقف أمام هذه الآيات محللين أو كاشفين عن طريقة الجاحظ في تفسير القرآن.(1/115)
وعلى ذلك فارجاع هذه الآيات للشعر العربي ومجازه هو ردّ لهذا الوعي والمعرفة إلى معرفة ووعي متخلفين عن هذا الوعي الجديد. ولعل الجاحظ أحس بهذه المشكلة احساسا غامضا، حتى اشترط لمن يتعرّض لقضايا الدين أن يكون متكلما إلى جانب علمه باللغة العربية، وذلك حتى يستطيع الوصول إلى تلك المعرفة التي يعبر عنها القرآن «ولو كان أعلم الناس باللغة، لم ينفعك حتى يكون عالما بالكلام» ومع ذلك كله فقد سار الجاحظ في كتاب لم يصلنا في الرد على المشبهة على درب أسلافه اللغويين. يقول: «وقد كتبت في الرد على المشبهة كتابا لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريض المبتدئ، وأكثر ما يعتمد
عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضل من حشوة الناس، ويختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آي كثيرة إلى غير تأويلها، وروايات كثيرة إلى غير معانيها. وقد بيّنت ذلك بالوجوه المختصرة وبالأشعار الصحيحة، والأمثال السائرة، واستشهدت بالكلام المعروف، وبالقياس على الموجود» ولا ينبغي أن ننسى أن الجاحظ نفسه لم ينج من أثر الغايتين الدفاعية والتعليمية اللتين شغل بهما كل من أبي عبيدة والفراء، إلى جانب أن وظيفة اللغة البيانية عنده كانت تبرر هذا السلوك. ومن جهة ثالثة كان استشهاد المشبهة والظاهرية بمواضعات اللغة والشعر العربي كفيلا بأن يحدد لا مسلك الجاحظ وحده، بل مسلك المعتزلة جميعا في تناول المجاز في القرآن. يؤكد ذلك عند الجاحظ وقفاته الطويلة في كتبه كلها خاصة كتاب الحيوان للرد على المؤولين والطاعنين في القرآن وهي كلها وقفات يستدل فيها الجاحظ على صحة العبارات القرآنية والتجوز فيها بالشعر العربي وأقوال العرب. ومن المؤسف أننا لا نجد في أي من هذه الآيات التي توقف عندها الجاحظ آية واحدة من تلك الآيات الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، فكلها آيات ترتبط باستطرادات الجاحظ في الكتاب، مثل قصة الهدهد، وحديث النمل، وعلاقة الأنس بالجن، ورءوس الشياطين التي أشرنا اليها الخ كل هذه الموضوعات والآيات القرآنية التي تمسّ موضوع الحيوان من قريب أو بعيد. ولسنا بصدد درس نهج الجاحظ في تفسير القرآن عامة حتى نتوقف أمام هذه الآيات محللين أو كاشفين عن طريقة الجاحظ في تفسير القرآن.
وإذا كان الجاحظ قد استخدم كلمات الاشتقاق والتشبيه والمثل والمجاز بمعنى واحد، فإننا لأول مرة نواجه مصطلح «المجاز» باعتباره قسيما للحقيقة، وإن لم نعدم في كتابات الجاحظ بعض الاستخدامات اللغوية له. بمعنى أننا إذا كنا عند أبي عبيدة وجدنا المصطلح واسع الدلالة يتناول أساليب العربية أو طرق التعبير عامة، وإذا كنا عند الفراء وجدنا استعمالا لكلمة «تجوز» بدل المجاز ومعنى أقرب للمعنى الاصطلاحي، فاننا عند الجاحظ نجد المصطلح قد تحدد تحددا كاملا ليشير إلى كل الأنواع البلاغية كالمثل والتشبيه والاستعارة والكناية. والمواضع التي تحدث فيها الجاحظ عن المجاز كمقابل للحقيقة بشكل مباشر قليلة جدا، وإن كان سياق استخداماته الكثيرة للفظ يدل على فهمه الاصطلاحي لها. من هذه المواضع القليلة قوله في البخلاء «فلاسم الجود موضعان: أحدهما حقيقة، والآخر مجاز فالحقيقة ما كان من الله، والمجاز المشتق له من هذا الاسم». وأشار إليه بنفس المعنى في كتاب فصل ما بين العداوة والحسد حين تحدث عن العلماء المشهورين بالحسد
فقال: «وقد وسموا انفسهم بسمات الباطل وتسموا بأسماء العلم على المجاز من غير الحقيقة» أمّا في كتاب الحيوان فأغلب استعمال اللفظ، وإن فهم منه أنه مقابل الحقيقة، فإنه لم يرد بهذا المعنى بشكل مباشر. فحين يحاول الجاحظ تأويل تهديد سيدنا سليمان للهدهد بالذبح، ردا على من طعنوا في الآية على أساس أن تهديد الهدهد تهديد في غير محله، لأن الهدهد ليس مكلفا أو عاقلا من جانب، والذبح أكبر من جرم الهدهد إن صحّ أنه مكلف أو عاقل ثانيا. يردّ الجاحظ على هذا الطعن بردود كثيرة، منها «على أنّا لو تأولنا الذبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهيم اسماعيل عليهما السلام وإنما كان ذلك ذبحا في المعنى لغيره أو على معنى قول القائل: أمّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقه ولكن السيف خانني. أو على قولهم، المسك الذبيح، أو على قولهم، فجئت وقد ذبحني العطش، لكان ذلك مجازا». وفي موضع آخر من الحيوان يضع الجاحظ كلمة «مثل» في مقابل كلمة «حقيقة» وهو بذلك يساوي بين «المثل» و «المجاز» في وضعهما في مقابل الحقيقة.(1/116)
وإذا كان الجاحظ قد استخدم كلمات الاشتقاق والتشبيه والمثل والمجاز بمعنى واحد، فإننا لأول مرة نواجه مصطلح «المجاز» باعتباره قسيما للحقيقة، وإن لم نعدم في كتابات الجاحظ بعض الاستخدامات اللغوية له. بمعنى أننا إذا كنا عند أبي عبيدة وجدنا المصطلح واسع الدلالة يتناول أساليب العربية أو طرق التعبير عامة، وإذا كنا عند الفراء وجدنا استعمالا لكلمة «تجوز» بدل المجاز ومعنى أقرب للمعنى الاصطلاحي، فاننا عند الجاحظ نجد المصطلح قد تحدد تحددا كاملا ليشير إلى كل الأنواع البلاغية كالمثل والتشبيه والاستعارة والكناية. والمواضع التي تحدث فيها الجاحظ عن المجاز كمقابل للحقيقة بشكل مباشر قليلة جدا، وإن كان سياق استخداماته الكثيرة للفظ يدل على فهمه الاصطلاحي لها. من هذه المواضع القليلة قوله في البخلاء «فلاسم الجود موضعان: أحدهما حقيقة، والآخر مجاز فالحقيقة ما كان من الله، والمجاز المشتق له من هذا الاسم». وأشار إليه بنفس المعنى في كتاب فصل ما بين العداوة والحسد حين تحدث عن العلماء المشهورين بالحسد
فقال: «وقد وسموا انفسهم بسمات الباطل وتسموا بأسماء العلم على المجاز من غير الحقيقة» أمّا في كتاب الحيوان فأغلب استعمال اللفظ، وإن فهم منه أنه مقابل الحقيقة، فإنه لم يرد بهذا المعنى بشكل مباشر. فحين يحاول الجاحظ تأويل تهديد سيدنا سليمان للهدهد بالذبح، ردا على من طعنوا في الآية على أساس أن تهديد الهدهد تهديد في غير محله، لأن الهدهد ليس مكلفا أو عاقلا من جانب، والذبح أكبر من جرم الهدهد إن صحّ أنه مكلف أو عاقل ثانيا. يردّ الجاحظ على هذا الطعن بردود كثيرة، منها «على أنّا لو تأولنا الذبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهيم اسماعيل عليهما السلام وإنما كان ذلك ذبحا في المعنى لغيره أو على معنى قول القائل: أمّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقه ولكن السيف خانني. أو على قولهم، المسك الذبيح، أو على قولهم، فجئت وقد ذبحني العطش، لكان ذلك مجازا». وفي موضع آخر من الحيوان يضع الجاحظ كلمة «مثل» في مقابل كلمة «حقيقة» وهو بذلك يساوي بين «المثل» و «المجاز» في وضعهما في مقابل الحقيقة.
يقول: «ويذكرون نارا أخرى. وهي على طريق المثل لا على طريق الحقيقة، كقولهم في نار الحرب».
وهذا كله يؤكد تداخل الحدود بين التشبيه والمثل والمجاز من ناحية ويؤكد أن مصطلح «المجاز» صار أكثر تحديدا، باعتباره الوجه الآخر للحقيقة من جهة أخرى وبذلك صار هو المصطلح الأثير لدى المعتزلة الذي يؤولون على أساسه كل الآيات التي يوهم ظاهرها أو حقيقتها بالتعارض مع آرائهم وأفكارهم العقلية.
3 - الرماني والكشف عن الأثر النفسي.
لم ينفصل «المجاز» عن «التأويل» عند ابن قتيبة (ت 276هـ) ومن ثم اتسع كما هو الحال عند السابقين عليه ليضم كل الوسائل الأسلوبية من «الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والاخفاء والاظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والعقد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء أخرى كثيرة». وإذا كان الجاحظ ومن قبله الفراء قد ركزا على جانب المشابهة باعتبارها أساس الانتقال في الدلالة، فإن ابن قتيبة لم يتوقف كثيرا ليشرح كيفية الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، وذلك بحكم
غلبة الجانب التأويلي على كتابه، تلك الغاية التي ينمّ عليها عنوان الكتاب نفسه «تأويل مشكل القرآن». ولذلك أجّلنا الدراسة التفصيلية لهذا الكتاب للفصل التالي.(1/117)
لم ينفصل «المجاز» عن «التأويل» عند ابن قتيبة (ت 276هـ) ومن ثم اتسع كما هو الحال عند السابقين عليه ليضم كل الوسائل الأسلوبية من «الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والاخفاء والاظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والعقد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء أخرى كثيرة». وإذا كان الجاحظ ومن قبله الفراء قد ركزا على جانب المشابهة باعتبارها أساس الانتقال في الدلالة، فإن ابن قتيبة لم يتوقف كثيرا ليشرح كيفية الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، وذلك بحكم
غلبة الجانب التأويلي على كتابه، تلك الغاية التي ينمّ عليها عنوان الكتاب نفسه «تأويل مشكل القرآن». ولذلك أجّلنا الدراسة التفصيلية لهذا الكتاب للفصل التالي.
وإذا كان ابن قتيبة سلك مسلك سابقيه في رد العبارة القرآنية إلى الشعر العربي أسلوبا وتركيبا، فثم جهود أخرى حول القرآن كانت أقرب إلى ادراك تميز الأسلوب القرآني وتباينه عن أسلوب الشعر العربي. وقد كان لأصحاب هذه الجهود بالتالي أثر كبير في تحديد مجالات المجازات القرآنية، والكشف عن أثرها النفسي ووظيفتها البيانية. تلك هي الجهود حول «اعجاز القرآن» وفكرة «الاعجاز» نفسها تسلم بداهة بمبدإ التباين بين كلام الله وكلام البشر من حيث الأسلوب والصياغة، ومن ثم تسعى للكشف عن هذا التباين وأثره وملامحه. ويعدّ كتاب الرماني (ت 386هـ) «النكت في اعجاز القرآن» أهم هذه الجهود لمجال بحثنا، وذلك بحكم أن صاحبه معتزلي من جهة، وبحكم أن البحث البلاغي لم ينفصل عنده عن التأويل من جهة أخرى. غير أن التأويل عند الرماني ليس هو الهدف، بل يأتي عرضا في سياق التحليل البلاغي.
يعرّف الرماني البلاغة «بأنها ايصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ» ولا يكتفي بوظيفة «الافهام» التي ركّز عليها سابقوه «لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عيي» وإذا كان قد قسم البلاغة إلى ثلاث طبقات، فإنه اعتبر أن «أعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن» وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تخلو رسالته من الاستشهاد بالشعر خلوا يكاد يكون تاما إلّا في موضعين اثنين.
وقد قسم الرماني البلاغة إلى عشرة أقسام يهمنا منها هنا «الايجاز» و «التشبيه» و «الاستعارة» و «المبالغة».
ويقسم الرماني الايجاز إلى وجهين «حذف، وقصر، فالحذف اسقاط كلمة للاجتزاء عنها، بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف». ويضرب للنوع الأول الحذف المثال الشائع «واسأل القرية»، وحذف جواب الشرط. وإذا كان المحذوف مدلولا عليه بغيره فإن الرماني لا يعنى بتحديد المحذوف وتعيينه. بقدر ما يعنى بابراز الأثر النفسي للحذف، خصوصا في جواب الشرط «وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان».(1/118)
وهكذا يحدد الرماني الوظيفة النفسية للحذف، ويتجاوز بذلك وقفات أبي عبيدة والفراء والجاحظ وابن قتيبة جميعا.
يفرّق الرماني بين التشبيه بمعناه اللغوي والتشبيه بمعناه البلاغي فيرى أن التشبيه عموما «هو العقد على أن أحد الشيئين يسدّ مسد الآخر في حس أو عقل» أمّا التشبيه البليغ فهو «اخراج الأغمض إلى الأظهر بأداة التشبيه مع حسن التأليف». وإذا كانت المشابهة عادة تؤدي إلى التسوية بين الطرفين، فالتشبيه البليغ هو مقارنة بين طرفين بهدف الكشف عن أحدهما أو اظهاره «فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما يكسب بيانا فيهما»، ويسهب الرماني في الكشف عن وجوه الأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه «منها اخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة. ومنها اخراج ما لم تجريه عادة إلى ما جرت به عادة، ومنها اخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة. ومنها اخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة. فالأول نحو تشبيه المعدوم بالموجود، والثاني نحو تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، والثالث تشبيه اعادة الأجساد باعادة الكتاب، والرابع تشبيه ضياء السراج بضياء النهار» وكل هذه الوجوه التي يقع عليها التشبيه بهدف بيان المشبه عن طريق مقارنته بما هو أظهر منه، تتفق مع تفريق المعتزلة بين مستويى المعرفة الحسية والعقلية. وغاية التشبيه هي بيان الشيء عن طريق مقارنته بما هو أظهر منه وأوضح وأجلى، بنفس الطريقة التي يؤدي بها الاستدلال وظيفته في الانتقال من الواضح الى الغامض. ولم يكن الرماني على أي حال بعيدا عن انجاز المعتزلة في هذه الجوانب، فقد كان متكلما إلى جانب كونه لغويا وبلاغيا.
ومن أمثلة التشبيه الذي أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه في القرآن قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (الأعراف / 17) «وقد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير وفي التخسيس، فالكلب لا يطيعك في ترك اللهث حملت عليه أو تركته، وكذلك الكافر لا يطيع بالايمان على رفق ولا على عنف، وهذا يدل على حكمة الله سبحانه وتعالى في أنه لا يمنع اللطف» ومن هذا التحليل لعلاقة المشابهة في الآية يشير الرماني إلى انكشاف المعنى الغامض عن طريق الصورة الحسية فحسب، دون أن يلحظ التركيب كله خصوصا صورة «الانسلاخ» بدلالتها وايقاعها الصوتي معا. وعلينا أن نلاحظ من جانب آخر كيف استدل الرماني من الآية بهذا التحليل البلاغي على أن الكافر يمتنع عن
الايمان بارادته، لا بالاجبار، فالله قد وهبه الآيات ولكنه هو الذي انسلخ منها بارادته الحرة ولا يلمح الرماني وجه الشبه فقط، ولكنه يشير أيضا إلى أثر هذه الصورة فيما أطلق عليه «التخسيس» فالآية بهذا التشبيه تحقّر من شأن الكافر عن طريق تشبيهه بالكلب في صورة اللهث المستمر، وهي صورة لا شك مقززة.(1/119)
ومن أمثلة التشبيه الذي أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه في القرآن قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (الأعراف / 17) «وقد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير وفي التخسيس، فالكلب لا يطيعك في ترك اللهث حملت عليه أو تركته، وكذلك الكافر لا يطيع بالايمان على رفق ولا على عنف، وهذا يدل على حكمة الله سبحانه وتعالى في أنه لا يمنع اللطف» ومن هذا التحليل لعلاقة المشابهة في الآية يشير الرماني إلى انكشاف المعنى الغامض عن طريق الصورة الحسية فحسب، دون أن يلحظ التركيب كله خصوصا صورة «الانسلاخ» بدلالتها وايقاعها الصوتي معا. وعلينا أن نلاحظ من جانب آخر كيف استدل الرماني من الآية بهذا التحليل البلاغي على أن الكافر يمتنع عن
الايمان بارادته، لا بالاجبار، فالله قد وهبه الآيات ولكنه هو الذي انسلخ منها بارادته الحرة ولا يلمح الرماني وجه الشبه فقط، ولكنه يشير أيضا إلى أثر هذه الصورة فيما أطلق عليه «التخسيس» فالآية بهذا التشبيه تحقّر من شأن الكافر عن طريق تشبيهه بالكلب في صورة اللهث المستمر، وهي صورة لا شك مقززة.
وتقوم الاستعارة كذلك على أساس المشابهة، والفارق بينهما عند الرماني وجود الأداة في التشبيه، ذلك «أن ما كان من التشبيه بأداة التشبيه في الكلام فهو على أصله، لم يغير عنه في الاستعمال، وليس كذلك الاستعارة، لأن مخرج الاستعارة ما العبارة ليست له في أصل اللغة» ومن الواضح أن الرماني يدخل التشبيه البليغ المحذوف الأداة في حد الاستعارة. ويؤكد هو هذا التداخل بقوله: «وكل استعارة بليغة فهي جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما بالآخر كالتشبيه، إلّا أنه بنقل الكلمة، والتشبيه بأداته الدالّة عليه في اللغة». ويكون الفارق بين التشبيه والاستعارة هو أن الاستعارة تعتمد على النقل من معنى أصلي إلى معنى مجازي، وذلك على عكس التشبيه الذي لا ينقل فيه اللفظ من معنى إلى معنى وذلك لوجود أداة التشبيه التي تقوم بهذا النقل. وينتقل اللفظ في الاستعارة بنفسه. واعتماد الاستعارة على النقل عند الرماني دون التشبيه يجعلنا نعتبره أول من أخرج التشبيه من دائرة المجاز، وذلك على الرغم من أن مصطلح «المجاز» لم يرد له ذكر في رسالته. غير أنه من جانب آخر يجعل الاستعارة مقابلا للحقيقة «وكل استعارة فلا بدّ لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة» وإذا كان التشبيه البليغ داخلا في حد الاستعارة فهو بالتالي داخل في حد المجاز بحكم أن النقلة تتم فيه دون وجود الأداة. وإذا كانت مهمة التشبيه هو البيان عن طريق المقارنة بين شيئين أحدهما أظهر من الآخر وأجلى منه، فإن مهمة الاستعارة لا تخرج عن ذلك «وكل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز الاستعارة» غير أن الرماني لا يكشف لنا بشكل واضح عن الفارق بين التعبير الحقيقي والتعبير الاستعاري، ويكتفي فحسب بتقريره.
ويرتبط هذا التحديد للاستعارة بغاية التأويل عند الرماني، فمن استعارات القرآن {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (الفرقان / 23) «حقيقة قدمنا هنا عمدنا وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه من أجل امهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. وفي هذا تحذير من الاغترار بالامهال، والمعنى الذي يجمعهما
العدل، لأن العمد إلى ابطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بيّنا». وواضح أن الرماني يريد أن ينفي عن الله الحركة والانتقال، فلذلك ما حاول الكشف عن أصل النقل في الفعل «قدم» وأنه بمعنى العمد. غير أن الرماني يكتفي بالقول بأن القدوم أبلغ وذلك لما يؤديه من غاية حددها بأنها هي التحذير من الاغترار بالامهال، وبذلك يكشف عن الوظيفة النفسية للاستعارة في هذه الآية.(1/120)
ويرتبط هذا التحديد للاستعارة بغاية التأويل عند الرماني، فمن استعارات القرآن {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} (الفرقان / 23) «حقيقة قدمنا هنا عمدنا وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه من أجل امهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. وفي هذا تحذير من الاغترار بالامهال، والمعنى الذي يجمعهما
العدل، لأن العمد إلى ابطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بيّنا». وواضح أن الرماني يريد أن ينفي عن الله الحركة والانتقال، فلذلك ما حاول الكشف عن أصل النقل في الفعل «قدم» وأنه بمعنى العمد. غير أن الرماني يكتفي بالقول بأن القدوم أبلغ وذلك لما يؤديه من غاية حددها بأنها هي التحذير من الاغترار بالامهال، وبذلك يكشف عن الوظيفة النفسية للاستعارة في هذه الآية.
ثم آية أخرى يسلك الرماني ازاءها نفس المسلك وهي قوله تعالى {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ} (الرحمن / 31) «والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، ولكن هذا أبلغ في الوعيد، وحقيقته سنعمد، إلّا أنه لمّا كان الذي يعمد إلى شيء قد يقصر فيه لشغله بغيره معه، وكان الفارغ له هو البالغ في الغالب مما يجري به التعارف، دللنا بذلك على المبالغة من الجهة التي هي أعرف عندنا لما كانت بهذه المنزلة، ليقع الزجر بالمبالغة التي هي أعرف عند العامة والخاصة موقع الحكمة» والتحليل هنا لا يختلف كثيرا عن تحليل الآية السابقة من حيث بيان وجه المشابهة في الاستعارة، والكشف عن أثرها النفسي في المتلقي، غير أن الرماني يستخدم هنا كلمة «المبالغة» للدلالة على الاستعارة. وهذا يقودنا لمعنى المبالغة عنده، والفارق بينها وبين الاستعارة.
وتعريف الرماني للمبالغة بأنها «الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الابانة» فهو تعريف يدخلها في حد المجاز والفارق بين الاستعارة والمبالغة أن الاولى تقوم على التشبيه، بينما تقوم الثانية على علاقة غير علاقة المشابهة. ويحدد الرماني هذه العلاقة على وجوه «منها المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة وذلك على أبنية كثيرة منها: فعلان، ومنها فعال، وفعول، ومفعل، ومفعال ففعلان كرحمان عدل عن راحم للمبالغة» أما الوجه الثاني فهو استخدام صيغة العموم للتعبير عن الخصوص للمبالغة. والثالث «اخراج الكلام مخرج الاخبار، عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له» ومن الواضح أن النوعين الثاني والثالث من وجوه المبالغة يدخلان فيما سمي بعد ذلك بالمجاز المرسل، بينما يدخل النوع الأول في المبالغة بالصيغة. ومن الواضح أيضا أن الرماني لم يدخل هذا الباب في باب الاستعارة، حتى لا تختلط الحدود بين التجاوز الذي يقوم على التشبيه، والتجاوز الذي يقوم على علاقة من نوع آخر. وقد كانت هذه التفرقة مدخلا لتأويل بعض الآيات في التوحيد والعدل، وهي آيات يصعب تأويلها على أساس الاستعارة وإلّا أدّى هذا التأويل إلى افتراض مشابهة الله للبشر، أو امكانية وجود هذه المشابهة على الأقل.(1/121)
مثال ذلك قول الله تعالى {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر / 22) وهي آية يضعها الرماني في النوع الثالث من أنواع المبالغة «فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئا له على المبالغة في الكلام. ومنه: {فَأَتَى اللََّهُ بُنْيََانَهُمْ مِنَ الْقَوََاعِدِ} أي أتاهم بعظم بأسه فجعل ذلك اتيانا له على المبالغة. ومنه قوله تعالى {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} ومن الصعب على الرماني تحليل هذه الآيات على الاستعارة، لأن ذلك سيؤدي إلى وجود مشابهة في حس أو عقل بين الله والبشر الذين يجوز عليهم الحركة والمجيء والاتيان. ويكون تأويل هذه الآيات على ذلك أن الفعل أسند لله مبالغة وإن كان في الحقيقة لغيره. غير أن استعمال الرماني لكلمة «المبالغة» في تحليل آية في باب «الاستعارة» يجعلنا نفترض أنهما يعبران مع التساهل عن مدلول واحد، خصوصا إذا اعتبرنا المبالغة البيان عن طريق الكشف والاظهار هي الوظيفة الأساسية للتشبيه والاستعارة معا.
ومما يدخل في النوع الثاني من المبالغة، وهو استخدام صيغة العموم للخصوص، قول الله تعالى {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الانعام / 102) والذي يجعل الرماني يضع الآية هذا الموضع هو ما يذهب إليه المعتزلة من أن الانسان هو خالق أفعاله عن حرية واختيار، وبالتالي تكون لفظة «كل» في الآية لا يقصد عمومها، لأن أفعال الناس مستثناة بالدليل العقلي من هذا العموم. غاية الأمر أن الآية وردت مورد المبالغة «كقول القائل: أتاني الناس، ولعله لا يكون أتاه إلّا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة».
وخلاصة الأمر أن الرماني استطاع أن يفيد من جهود سابقيه، وأن يفرّق تفرقة واضحة بين التشبيه والاستعارة. كما استطاع أن يكشف عن علاقة الاستعارة بالمجاز، وفي نفس الوقت استطاع أن يفرّق بين الاستعارة والمجاز المرسل. ولم تكن كل هذه الجهود البلاغية بعيدة عن غايته التأويلية كمعتزلي، بل كانت مرتبطة بها وفي خدمتها كما رأينا.
4 - مفهوم المجاز عند القاضي عبد الجبار
وضع القاضي عبد الجبار اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، كما اعتبرها الجاحظ إحدى الوسائل البيانية كما سبقت الاشارة. وقد ميّز القاضي اللغة من أنواع الدلالة الأخرى بأنها تدل على شرطين: المواضعة السابقة، ومراعاة حال المتكلم وقصده حتى يمكن فهم المراد بكلامه. وقد تحدد مفهوم المواضعة عنده بأنها
المواضعة الاشارية البحتة التي تنفي وجود أي علاقة بين الاسم والمسمى، أو الدال والمدلول. وإذا كان هناك اسم ومسمى، فإن المتكلم هو الذي يشير بالاسم لمسماه في حالة غياب هذا المسمى وذلك بهدف الاخبار عنه، وعلى ذلك يقوم المتكلم بايجاد علاقات بين الاشارات اللغوية. فالعبارة (السماء جميلة) مثلا تشير إلى شيئين:(1/122)
وضع القاضي عبد الجبار اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، كما اعتبرها الجاحظ إحدى الوسائل البيانية كما سبقت الاشارة. وقد ميّز القاضي اللغة من أنواع الدلالة الأخرى بأنها تدل على شرطين: المواضعة السابقة، ومراعاة حال المتكلم وقصده حتى يمكن فهم المراد بكلامه. وقد تحدد مفهوم المواضعة عنده بأنها
المواضعة الاشارية البحتة التي تنفي وجود أي علاقة بين الاسم والمسمى، أو الدال والمدلول. وإذا كان هناك اسم ومسمى، فإن المتكلم هو الذي يشير بالاسم لمسماه في حالة غياب هذا المسمى وذلك بهدف الاخبار عنه، وعلى ذلك يقوم المتكلم بايجاد علاقات بين الاشارات اللغوية. فالعبارة (السماء جميلة) مثلا تشير إلى شيئين:
إلى السماء وإلى معنى الجمال، والمتكلم هو الذي أسند الجمال إلى السماء ليخبر، بمعنى أن المتكلم حين يخبر وو وظيفة الاخبار هي الوظيفة المركزية للغة عند القاضي فإنه يشير بالاسم إلى الشيء ثم يسند إليه الخبر. وعلى ذلك فدور المتكلم في الدلالة اللغوية يعادل دور المواضعة ولا غناء لأحدهما عن الآخر.
وحين قارن القاضي عبد الجبار بين دلالة المعجزة ودلالة الكلام، اعتبر أن المعجزة أشد دلالة «لأن من حق التصديق بالقول أن يصح فيه المجاز والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام» وعلى ذلك يرفع من شأن التصديق بالمعجزة على حساب التصديق بالكلام الذي يمكن أن يقع فيه المجاز والاستعارة وهما أمران ثابتان في الكلام لا زمان له. أي أن الكلام وإن وقع دلالة بالشرطين السابقين فإنه يتأخر عن أنواع الدلالات الأخرى بقابليته للاشتراك والاحتمال.
ولذلك لا بدّ من وضع ضوابط لهذا الاشتراك والاحتمال والمجاز والاستعارة. لا بدّ من وضع ضوابط لهذه الأمور وإلّا خرج الكلام عن أن يكون دلالة. ومن الضروري والحالة هذه أن يحدد القاضي عبد الجبار الوجه الذي يقع منه المجاز في الكلام. ومن البديهي أن لا يكون المجاز واقعا في أصل المواضعة. فإذا كان المعتزلة قد انتهوا كما بيّنا سالفا إلى أن العالم الخارجي ثابت وقائم بصرف النظر عن ادراكنا ومعرفتنا به، وإذا كانوا قد ذهبوا إلى أن الادراك لا يؤثر في المدرك ولا في صفة من صفاته سلبا أو ايجابا، وإذا كانت الاسماء اللغوية مجرد اشارات للأشياء، فمن الطبيعي أن تكون المواضعة اللغوية لها ثبات الأشياء، بمعنى أن يصبح الاسم كالسمة والعلامة للشيء. واللغة من هذه الجهة (المواضعة) لا يجوز أن تدخلها الاستعارة أو المجاز. غير أن من حق الجماعة اللغوية أن تنتقل بالمواضعة في الاسم عن معناه الحقيقي الى معنى آخر مجازي بشرط وجود علاقة بين المعنى المنقول منه الاسم والمعنى المنقول إليه «وبذلك جوّزنا نقل الألفاظ إلى الاحكام الشرعية، وجوزنا انتقال حكم اللفظة بالتعارف عن المجاز إلى الحقيقة وعن الحقيقة إلى المجاز، وكل ذلك لا يوجب قلب المعاني» ومعنى ذلك أن المواضعة يجوز أن يحدث فيها التجاوز مع مراعاة قصد الجماعة، أي مراعاة المعنى الذي تقصد إليه الجماعة حيث تطلق اسما على شيء من الأشياء أو صفة من الصفات. وهذا التجاوز لا يعني عند القاضي قلب المعانى أو التداخل بين حدود
الأشياء. ويكون المجاز حينئذ مواضعة طارئة على المواضعة الأصلية. وعلى ذلك يشترط القاضي عبد الجبار أن يكون للاسم اللغوي حقيقة سابقة قبل استعماله في المجاز «لأن كون اللفظة مجازا ولا حقيقة لها لا يصح في اللغة» و «لأن التجوز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل»(1/123)
ولذلك لا بدّ من وضع ضوابط لهذا الاشتراك والاحتمال والمجاز والاستعارة. لا بدّ من وضع ضوابط لهذه الأمور وإلّا خرج الكلام عن أن يكون دلالة. ومن الضروري والحالة هذه أن يحدد القاضي عبد الجبار الوجه الذي يقع منه المجاز في الكلام. ومن البديهي أن لا يكون المجاز واقعا في أصل المواضعة. فإذا كان المعتزلة قد انتهوا كما بيّنا سالفا إلى أن العالم الخارجي ثابت وقائم بصرف النظر عن ادراكنا ومعرفتنا به، وإذا كانوا قد ذهبوا إلى أن الادراك لا يؤثر في المدرك ولا في صفة من صفاته سلبا أو ايجابا، وإذا كانت الاسماء اللغوية مجرد اشارات للأشياء، فمن الطبيعي أن تكون المواضعة اللغوية لها ثبات الأشياء، بمعنى أن يصبح الاسم كالسمة والعلامة للشيء. واللغة من هذه الجهة (المواضعة) لا يجوز أن تدخلها الاستعارة أو المجاز. غير أن من حق الجماعة اللغوية أن تنتقل بالمواضعة في الاسم عن معناه الحقيقي الى معنى آخر مجازي بشرط وجود علاقة بين المعنى المنقول منه الاسم والمعنى المنقول إليه «وبذلك جوّزنا نقل الألفاظ إلى الاحكام الشرعية، وجوزنا انتقال حكم اللفظة بالتعارف عن المجاز إلى الحقيقة وعن الحقيقة إلى المجاز، وكل ذلك لا يوجب قلب المعاني» ومعنى ذلك أن المواضعة يجوز أن يحدث فيها التجاوز مع مراعاة قصد الجماعة، أي مراعاة المعنى الذي تقصد إليه الجماعة حيث تطلق اسما على شيء من الأشياء أو صفة من الصفات. وهذا التجاوز لا يعني عند القاضي قلب المعانى أو التداخل بين حدود
الأشياء. ويكون المجاز حينئذ مواضعة طارئة على المواضعة الأصلية. وعلى ذلك يشترط القاضي عبد الجبار أن يكون للاسم اللغوي حقيقة سابقة قبل استعماله في المجاز «لأن كون اللفظة مجازا ولا حقيقة لها لا يصح في اللغة» و «لأن التجوز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل»
وتدخل الاستعارة والمجاز أيضا في الكلام من الجانب الثاني للدلالة اللغوية، أعني جانب المتكلم الذي يعبر، ويستخدم اللغة للتعبير عن قصده وارادته. وما دام المتكلم عنصرا ثانيا من عناصر الدلالة اللغوية وما دام قصده شرطا لاعتبار اللغة دلالة، فمن الطبيعي أن يدخل المجاز والاستعارة اللغة من هذا الجانب. فالمواضعة تظل حتى مع التجاوز فيها مواضعة اجتماعية لا بدّ فيها من تواطؤ الجماعة صاحبة اللغة بأكملها إلى جانب أن المجاز الذي يدخل المواضعة يرتبط بالأسماء المفردة، ولا يتناول جانب التركيب الذي لا يتم إلّا من جانب المتكلم للتعبير عن قصده وارادته. وعلى ذلك فالمجاز والاستعارة في التركيب يختصان بارادة المتكلم ورغبته في التعبير عمّا يريد وذلك «لأن الأمر لا يكون أمرا إلّا بالارادة وكذلك الخبر».
* * * ووقوع الاتساع والاشتراك والمجاز في اللغة من شأنه أن يثير اعتراضا في وجه المعتزلة على اعتبارهم اللغة دلالة، بمعنى أن ذلك يخلّ بمبدإ الاشارة اللغوية. فإذا كانت المعجزة تقع موقع التصديق عند ادعاء النبوة، وإذا كان الفعل بمجرده يدل على وجود الفاعل، وبوقوعه محكما يدل على أن فاعله عالم، فهذه في النهاية دلالات مباشرة لا يدخلها الاتساع والمجاز الذي قد يخلّ بمبدإ الدلالة. لكن اللغة مع ما يدخلها من الاتساع والمجاز قد تضلل بدلا من أن تدل. وهذا الاعتراض كان واردا على المعتزلة من كثيرين «منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويزمنداذ من المالكية وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزّه عنه وأن المتكلم لا يعدل إليه إلّا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير وذلك محال على الله تعالى».
ويتضمن رد المعتزلة على هذا الاعتراض التفرقة بين أمرين: الأمر الأول المتكلم نفسه، أما الثاني فالكلام. ومن ناحية المتكلم يفرّق المعتزلة بين من ثبتت حكمته وهو الله تعالى وبين من لم يعرف حاله وهو المتكلم العادي. أمّا كلام من ثبتت حكمته فهو يدل لا محالة لأنه لا يقع فيه الكذب أو محاولة التضليل. وكلام
من لم يعرف حاله يكون طريقا للنظر والتثبت والتيقن، وعلى هذا فكلام كليهما يقع دلالة.(1/124)
ويتضمن رد المعتزلة على هذا الاعتراض التفرقة بين أمرين: الأمر الأول المتكلم نفسه، أما الثاني فالكلام. ومن ناحية المتكلم يفرّق المعتزلة بين من ثبتت حكمته وهو الله تعالى وبين من لم يعرف حاله وهو المتكلم العادي. أمّا كلام من ثبتت حكمته فهو يدل لا محالة لأنه لا يقع فيه الكذب أو محاولة التضليل. وكلام
من لم يعرف حاله يكون طريقا للنظر والتثبت والتيقن، وعلى هذا فكلام كليهما يقع دلالة.
أمّا الأمر الثاني وهو الكلام نفسه، فيفرّق القاضي عبد الجبار بين الكلام إذا وقع مجردا عن قرينة، أو إذا قارنته قرينة تصرفه عن ظاهر المراد به. في الحالة الأولى يدل الكلام بظاهر المواضعة، بينما يدل في الحالة الثانية بالقرينة على اعتبار أنها جزء من الدلالة. وهذه التفرقة بين المتكلم الذي ثبتت حكمته وغيره، وبين اللغة مجردة عن القرينة أو بها، تظل تفرقة تدور في اطار الغرض الديني للمعتزلة الذي يهدف إلى معرفة كلام الله القرآن وما يدل عليه «فأمّا من يقول: إن المعجز، إذا كان إنما يدل كدلالة التصديق، وكان الكلام لا يدل على شيء لصحة وقوعه مجملا ومشتركا، ولدخول الاتساع والمجاز (فيه)، فما يحل محله، بألّا يدل أولى «فقوله في ظاهر السقوط، لأنه جعل ما نصب منصب الأدلة خارجا عن أن يكون دلالة، لأن الكلام نصب هذه النصبة، ليدل بالمواضعة، على ما لا يدل عليه الفعل، وعلى ما لا يعلم بالمشاهدة. لكن المتكلم قد يكون حكيما، فيجب في كلامه أن يكون دالّا، وقد لا نعلم حكمته، فكلامه يكون طريقا للنظر، لا لأنه ليس بدلالة، لأنا لو علمنا من حاله أنه حكيم، لكان دلالة، وإنما لا نعدّه دلالة، إذا وقع من جهة (من) لم تثبت حكمته، لأمر يرجع إلى أنه لم يقع منه على الوجه الذي يدل، من حيث لا نعلم أن مقاصده صحيحة، وذلك أمر لا يقدح في دلالته.
يبين ذلك أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما، إذا وقع مرتبا على طريقة مخصوصة، ومتى وقع على طريقة الاحتذاء، أو على غير جهة الترتيب، لم يدل. ولا يخرج ذلك الفعل المحكم من أن يكون دلالة. فكذلك القول في الكلام.
فإن كان ما ظنه السائل من الاشتراك ودخول المجاز يمنع من كون الكلام دلالة، فلما قلناه في الفعل المحكم وصحة وقوعه ممن ليس بعالم، على بعض الوجوه، يجب أن يمنع من كونه دلالة فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة الكلام، لأنّا نقول إنه يدل، إذا تجرد وجرى من قرينة، على خلاف الوجه الذي يدل عليه إذا ضامه قرينة، ولم يتجرد. ونقول: إنه يدل، إذا وقع من الحكيم الذي مقاصده صحيحة، على خلاف الوجه الذي يدل ممن لم تثبت حكمته. فقد صار افتراق هذين الوجهين اللذين على أحدهما يدل، وعلى الآخر لا يدل، أو يدل على أحد الوجهين بخلاف دلالته على الوجه الآخر، بمنزلة افتراق الجنسين لأن الكلام إنما يدل، متى تجرد، على ما وضع له، لأنه يخالف حاله إذا قارنه غيره فقد صار باختلاف هاتين الحالتين، تختلف دلالته».
وكل هذه المقارنة الطويلة بين الفعل إذا وقع محكما ودلالته على علم فاعله، وبينه إذا وقع على جهة الاحتذاء فلا يدل، وبين اللغة وكيف أن وقوعها من جهة الحكيم يجعلها تدل، بينما وقوعها من جهة من لم تثبت حكمته يجعلها طريقا للنظر.(1/125)
وكل هذه المقارنة الطويلة بين الفعل إذا وقع محكما ودلالته على علم فاعله، وبينه إذا وقع على جهة الاحتذاء فلا يدل، وبين اللغة وكيف أن وقوعها من جهة الحكيم يجعلها تدل، بينما وقوعها من جهة من لم تثبت حكمته يجعلها طريقا للنظر.
كل ذلك يؤكّد النظرة الدينية لطبيعة اللغة ودلالتها عند المعتزلة. هذا من جهة التفرقة بين المتكلمين. أمّا من جهة الكلام نفسه، فالكلام يدل إذا تجرّد عن القرينة بطريقة تختلف عن دلالته مع وجود القرينة، لكنها تدل على أي حال.
والمهم أن نفهم قصد المتكلم وغرضه. والقرينة في حالة المتكلم العادي من لم تثبت حكمته لا بدّ أن تكون قرينة لفظية موجودة في الكلام نفسه. أمّا في حالة المتكلم الحكيم وهو الله فمعرفتنا بحكمته وأنه لا يكذب ولا يفعل القبيح وهي معرفة عقلية سابقة على الشرع عند المعتزلة هي القرينة التي تعلو على كل قرينة، والتي تجعل كلامه دلالة لا محالة. وسواء كانت القرينة لفظية أو عقلية فوضوح قصد المتكلم يظل هو الهدف ما دامت اللغة دلالة، وعلى ذلك «لا يمتنع اطلاق العبارة في غير حقيقتها إذا فهم الغرض»
* * * إذا كان الاتساع والاشتراك يدخل من جهة المواضعة، كما يدخل من جانب المتكلم، فليس من حق المتكلم أن ينقل أي لفظ شاء إلى أي معنى يريد، وإلّا اختلّت الدلالة اللغوية. فهناك في اللغة نوعان من الأسماء: الألقاب المحضة، وأسماء المعاني أو الصفات. والفارق بين هذين النوعين أن اللقب لا يفيد فيما يشير إليه أكثر من مجرد الاشارة، وذلك كاسم العلم الذي يشير إلى مسماه دون أن يحدد صفة من صفاته أو يبرز خاصية من خواصه. ولذلك قد يطلق اسم واحد على أفراد كثيرين دون أن تختل دلالة الاشارة في اللقب. أمّا اسماء الصفات أو أسماء المعاني فهي تشير إلى خاصية في الشيء المشار إليه، فكلمة «أسود» تشير إلى صفة «السواد» في الشيء المشار إليه «اعلم أن الاسم على ضربين: أحدهما لا يفيد في المسمى به وإنما يقوم مقام الاشارة في وقوع التعريف به من غير أن يقع التعريف بما يفيده، وهو الذي سميناه بأنه لقب محض. ومنه ما يفيد في المسمى به جنسا أو صفة وهو الذي يسميه شيوخنا صفات، ولا يجعلون الفارق بين الاسم والصفة ما يقوله أهل العربية في ذلك ومثال اللقب المحض هو قولنا زيد وعمرو إلى ما شاكله. والقول في أن ذلك لا يفيد بين، لأنه يقع موقع الاشارة فكما أن الاشارة تعرف ولا تفيد في المشار إليه حالا وصفة، فكذلك ما أقيم مقامها، ولذلك يصح تبديل اللقب وصفة الملقب واحدة، وتختلف الألقاب والصفة واحدة، وتتفق
والصفة مختلفة».(1/126)
* * * إذا كان الاتساع والاشتراك يدخل من جهة المواضعة، كما يدخل من جانب المتكلم، فليس من حق المتكلم أن ينقل أي لفظ شاء إلى أي معنى يريد، وإلّا اختلّت الدلالة اللغوية. فهناك في اللغة نوعان من الأسماء: الألقاب المحضة، وأسماء المعاني أو الصفات. والفارق بين هذين النوعين أن اللقب لا يفيد فيما يشير إليه أكثر من مجرد الاشارة، وذلك كاسم العلم الذي يشير إلى مسماه دون أن يحدد صفة من صفاته أو يبرز خاصية من خواصه. ولذلك قد يطلق اسم واحد على أفراد كثيرين دون أن تختل دلالة الاشارة في اللقب. أمّا اسماء الصفات أو أسماء المعاني فهي تشير إلى خاصية في الشيء المشار إليه، فكلمة «أسود» تشير إلى صفة «السواد» في الشيء المشار إليه «اعلم أن الاسم على ضربين: أحدهما لا يفيد في المسمى به وإنما يقوم مقام الاشارة في وقوع التعريف به من غير أن يقع التعريف بما يفيده، وهو الذي سميناه بأنه لقب محض. ومنه ما يفيد في المسمى به جنسا أو صفة وهو الذي يسميه شيوخنا صفات، ولا يجعلون الفارق بين الاسم والصفة ما يقوله أهل العربية في ذلك ومثال اللقب المحض هو قولنا زيد وعمرو إلى ما شاكله. والقول في أن ذلك لا يفيد بين، لأنه يقع موقع الاشارة فكما أن الاشارة تعرف ولا تفيد في المشار إليه حالا وصفة، فكذلك ما أقيم مقامها، ولذلك يصح تبديل اللقب وصفة الملقب واحدة، وتختلف الألقاب والصفة واحدة، وتتفق
والصفة مختلفة».
فاللقب المحض على ذلك لا يحمل أي معنى، بعكس الصفة التي تدل على معنى، وهذا المعنى الذي تدل عليه الصفة لا بدّ أن يكون ثابتا أولا بالدليل العقلي، ثم تأتي العبارة أو الصفة للدلالة عليه «إن اثبات المعاني بالأقوال والأسماء لا يصح، لأن الواجب اثباتها بالطريق الذي تثبت منه، ثم يعبر عنها» ولذلك يمنع المعتزلة خصومهم في مواضع كثيرة من الاستدلال بوجود العبارات على وجود المعاني على أساس أن العبارات يجب أن تدل على معان سبقت معرفتها بالأدلة العقلية، أمّا العبارات التي لا تدل على معان فتعدّ من قبيل الخطأ اللغوي. ويتبدّى حرص المعتزلة على وضوح الدلالة اللغوية في هذه المسألة في تأكيدهم على ضرورة أن تستعمل أسماء الصفات في معانيها، وإلّا تحول الكلام من أن يكون صدقا إلى أن يكون كذبا «اعلم أن كل اسم يفيد ولم يكن لقبا محضا لا يحسن أن يستعمل إلّا فيما علم فيه ما يفيده. وغلبة الظن في ذلك لا يقوم مقام العلم في الاخبار لما فيه من تجويز كونه كذبا. فأمّا في ابتداء الوضع فإنه يقوم مقامه ولا يحسن استعمال العبارة المفيدة إلّا على الوجه الذي وضعت له في سائر ما تنقسم إليه من الكلام، وإلّا كان المتكلم بها عابثا أو في حكم العابث. ولذلك لا يحسن اتباع أهل اللغة في مواضعاتهم إلّا بعد العلم بمقاصدهم فيما وضعوه من اللغة. فثبت بذلك أن اجراءهم الاسم المفيد لا يحسن إلّا بعد العلم بفائدته كما أن ما علم فيه فائدة الاسم يحسن اجراء الاسم عليه». وهذا الحرص على استعمال أسماء الصفات في معانيها المعقولة أولا، حتى أنه لا يجب اتباع أهل اللغة في اسمائهم إلّا بعد العلم بمقاصدهم، هذا الحرص لا يمنع من اجراء هذه الأسماء على ما علم فيه فائدة الاسم. بمعنى أننا يجب أن نعقل معنى «الطول» أولا، ثم نجري عليه الاسم الدال عليه، ثم لا مانع بعد ذلك من أن نطلق هذا الاسم على كل ما علمنا فيه فائدة «الطول» وليست هذه محاولة منا لاستنتاج أن اسماء الصفات هي التي يجوز فيها الاستعارة والمجاز دون الألقاب المحضة التي تنبئ ولا تعني فيما يقول ستيوارت مل»، فالقاضي نفسه تمشيا مع مبدأ المعتزلة الأثير (قياس الغائب على الشاهد) لا يمنع من اطلاق الاسماء وهي أسماء المعاني كما سنرى بعد ذلك على الغائب إذا ثبتت صحتها في الشاهد وذلك على أساس أن المواضعة إنما تتم على الشاهد المحسوس المدرك، ثم يمكن للمتكلم أن ينتقل بعد ذلك في اطلاق هذه الاسماء على ما غاب عنه، إذا أفادت مثل هذه المعاني المعقولة في الشاهد «اعلم أن المواضعة إنما تقع على المشاهدات وما جرى مجراها، لأن الأصل فيها الاشارة، على ما بيناه. فإذا ثبت ذلك، فيجب، متى أردنا التكلم بلغة مخصوصة، أن نعقل معاني
الأوصاف والأسماء فيها في الشاهد، ثم ننظر، فما حصلت فيه تلك الفائدة نجري عليه الاسم في الغائب. وهذا في بابه بمنزلة معرفة ما له أصل في الشاهد في أنه يجب أن يعلم أولا ثم يبنى عليه الغائب، نحو ما بيّناه في الاستدلال بالشاهد على الغائب» ومبدأ قياس الغائب على الشاهد مبدأ أثير لدى المعتزلة، بل هو حجر الزاوية في فلسفتهم كلها سواء ما اتصل منها بالعدل أم التوحيد.(1/127)
فاللقب المحض على ذلك لا يحمل أي معنى، بعكس الصفة التي تدل على معنى، وهذا المعنى الذي تدل عليه الصفة لا بدّ أن يكون ثابتا أولا بالدليل العقلي، ثم تأتي العبارة أو الصفة للدلالة عليه «إن اثبات المعاني بالأقوال والأسماء لا يصح، لأن الواجب اثباتها بالطريق الذي تثبت منه، ثم يعبر عنها» ولذلك يمنع المعتزلة خصومهم في مواضع كثيرة من الاستدلال بوجود العبارات على وجود المعاني على أساس أن العبارات يجب أن تدل على معان سبقت معرفتها بالأدلة العقلية، أمّا العبارات التي لا تدل على معان فتعدّ من قبيل الخطأ اللغوي. ويتبدّى حرص المعتزلة على وضوح الدلالة اللغوية في هذه المسألة في تأكيدهم على ضرورة أن تستعمل أسماء الصفات في معانيها، وإلّا تحول الكلام من أن يكون صدقا إلى أن يكون كذبا «اعلم أن كل اسم يفيد ولم يكن لقبا محضا لا يحسن أن يستعمل إلّا فيما علم فيه ما يفيده. وغلبة الظن في ذلك لا يقوم مقام العلم في الاخبار لما فيه من تجويز كونه كذبا. فأمّا في ابتداء الوضع فإنه يقوم مقامه ولا يحسن استعمال العبارة المفيدة إلّا على الوجه الذي وضعت له في سائر ما تنقسم إليه من الكلام، وإلّا كان المتكلم بها عابثا أو في حكم العابث. ولذلك لا يحسن اتباع أهل اللغة في مواضعاتهم إلّا بعد العلم بمقاصدهم فيما وضعوه من اللغة. فثبت بذلك أن اجراءهم الاسم المفيد لا يحسن إلّا بعد العلم بفائدته كما أن ما علم فيه فائدة الاسم يحسن اجراء الاسم عليه». وهذا الحرص على استعمال أسماء الصفات في معانيها المعقولة أولا، حتى أنه لا يجب اتباع أهل اللغة في اسمائهم إلّا بعد العلم بمقاصدهم، هذا الحرص لا يمنع من اجراء هذه الأسماء على ما علم فيه فائدة الاسم. بمعنى أننا يجب أن نعقل معنى «الطول» أولا، ثم نجري عليه الاسم الدال عليه، ثم لا مانع بعد ذلك من أن نطلق هذا الاسم على كل ما علمنا فيه فائدة «الطول» وليست هذه محاولة منا لاستنتاج أن اسماء الصفات هي التي يجوز فيها الاستعارة والمجاز دون الألقاب المحضة التي تنبئ ولا تعني فيما يقول ستيوارت مل»، فالقاضي نفسه تمشيا مع مبدأ المعتزلة الأثير (قياس الغائب على الشاهد) لا يمنع من اطلاق الاسماء وهي أسماء المعاني كما سنرى بعد ذلك على الغائب إذا ثبتت صحتها في الشاهد وذلك على أساس أن المواضعة إنما تتم على الشاهد المحسوس المدرك، ثم يمكن للمتكلم أن ينتقل بعد ذلك في اطلاق هذه الاسماء على ما غاب عنه، إذا أفادت مثل هذه المعاني المعقولة في الشاهد «اعلم أن المواضعة إنما تقع على المشاهدات وما جرى مجراها، لأن الأصل فيها الاشارة، على ما بيناه. فإذا ثبت ذلك، فيجب، متى أردنا التكلم بلغة مخصوصة، أن نعقل معاني
الأوصاف والأسماء فيها في الشاهد، ثم ننظر، فما حصلت فيه تلك الفائدة نجري عليه الاسم في الغائب. وهذا في بابه بمنزلة معرفة ما له أصل في الشاهد في أنه يجب أن يعلم أولا ثم يبنى عليه الغائب، نحو ما بيّناه في الاستدلال بالشاهد على الغائب» ومبدأ قياس الغائب على الشاهد مبدأ أثير لدى المعتزلة، بل هو حجر الزاوية في فلسفتهم كلها سواء ما اتصل منها بالعدل أم التوحيد.
والذي يصحّ أن ننقله من الأسماء من الشاهد إلى الغائب لا يمكن أن يكون الألقاب المحضة، لأنها كما سبق أن أشرنا تشير ولا تفيد، والأسماء التي تنقل من الشاهد إلى الغائب يجب أن تفيد إلى جانب وظيفتها الاشارية، وإلّا لم يكن لاطلاقها على ما غاب عنا أي معنى. وإذا جاز أن نطلق الألقاب المحضة على ما غاب عنا فما حاجتنا إلى أن نعقل معانيها في الشاهد، وهي أصلا لا تحمل أي معنى، ولا تؤدي أي وظيفة سوى مجرد الاشارة العارية عن أي معنى؟
لا يتركنا القاضي عبد الجبار للاستنتاج والتخمين، فإذا كان اللقب المحض لا يفيد معنى أو صفة، وإنما يشير إلى مسماه فحسب، فإن الالقاب المحضة لا يجوز أن تطلق على الله، لأنه ليس مما يشار إليه ليقع به التعريف أولا، وإنما هو سبحانه مما يجوز عليه الوصف، فلذلك نطلق عليه الأوصاف التي تفيد فيه معنى أو وصفا دون تلك الألقاب التي لا تفيد شيئا «وأمّا ما لا يفيد التعريف، ولكنه تعريف من المفيد في إبانة نوع من الأنواع أو جملة أو ضرب من الفعل من نحو قولنا إرادة وقدرة وحياة، وقولنا انسان ودابة، وقولنا ضرب وعدد، فذلك، وإن كان من باب الألقاب، فمن حيث حل محل المفيد، أجري مجراه في حكم الاستعمال.
والأسماء المفيدة أو الجارية مجرى المفيد يحسن استعمالها في الله تعالى. فأمّا الألقاب المحضة فاستعمالها فيه لا يحسن إلّا أن يرد التقييد به فإذا ثبت أنها لا تفيد فيجب أن لا يحسن استعمالها فيه، لأنه عبث لا فائدة فيه» ولعل هذا كله يسمح لنا باستنتاج أن الألقاب المحضة التي لا تفيد أي معنى سوى دلالتها الاشارية لا يصح فيها المجاز كما أنها لا يصح أن تطلق على ما غاب عنا من المعاني. وعلى عكس ذلك فأسماء الصفات والمعاني هي التي يصح فيها النقل والمجاز والاستعارة «ولذلك تراهم لا يطلقون المجاز في الأعلام اطلاقهم لفظ النقل فيها».
* * * المجاز إذن لا يكون في الألقاب المحضة أسماء الأعلام لأنها تنبئ ولا تعني، تشير ولا تدل، وإنما يكون في الصفات وأسماء المعاني. وإذا كانت هذه الاسماء نفسها لا تطلق إلّا بعد أن تعقل المعاني، فمن الطبيعي أن يكون نقلها
من مجال إلى مجال، أو من الشاهد إلى الغائب، مرتبطا بوجود علاقة بين معنى الاسم وبين ما ينقل إليه على سبيل المجاز أو الاستعارة. ويخشى المعتزلة أعني القاضي عبد الجبار اطلاق لفظ المشابهة على هذه العلاقة بين المعاني، وذلك لأنهم في اطار فكرهم وفلسفتهم يحاولون نفي مشابهة الله للبشر في ذاته وصفاته.(1/128)
* * * المجاز إذن لا يكون في الألقاب المحضة أسماء الأعلام لأنها تنبئ ولا تعني، تشير ولا تدل، وإنما يكون في الصفات وأسماء المعاني. وإذا كانت هذه الاسماء نفسها لا تطلق إلّا بعد أن تعقل المعاني، فمن الطبيعي أن يكون نقلها
من مجال إلى مجال، أو من الشاهد إلى الغائب، مرتبطا بوجود علاقة بين معنى الاسم وبين ما ينقل إليه على سبيل المجاز أو الاستعارة. ويخشى المعتزلة أعني القاضي عبد الجبار اطلاق لفظ المشابهة على هذه العلاقة بين المعاني، وذلك لأنهم في اطار فكرهم وفلسفتهم يحاولون نفي مشابهة الله للبشر في ذاته وصفاته.
ولكن معنى المشابهة بين المعاني المجازية والمعاني الحقيقية يمكن أن يفهم من تحليلاتهم لبعض العبارات المجازية في القرآن. فإذا وصف الله نفسه بقوله {وَأَحََاطَ بِمََا لَدَيْهِمْ وَأَحْصى ََ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} «فمجاز لأن الاحاطة في الحقيقة تستعمل فيما يحتوي على الشيء، وذلك من صفة الاجسام، وإنما وصف نفسه بذلك من حيث علم جميع المعلومات، فتشبه من حيث علمها أجمع، بالمحيط بالشيء، لأنه من حيث أحاط به يعلم أحواله» وإذا وصف الرجل العظيم بأنه رفيع فإنما يكون ذلك «على جهة المجاز تشبيها له بمن ارتفع مكانه» وإذا سمي عيسى بأنه كلمة الله فالغرض «أن الناس يهتدون به كاهتدائهم بالكلمة» الخ كل هذه الأمثلة المبثوثة في الجزء الخامس من كتاب المغني والتي تؤكد جميعا فكرة المشابهة كأساس للعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي للفظ الواحد.
غير أن فكرة المشابهة لا تعني التطابق، وإلّا لتحوّل المجاز الى حقيقة، ولضاعت الحدود بين العوالم، خصوصا بين عالمي الشاهد والغائب، وهي حدود يحرص المعتزلة على وجودها وصلابتها. وإن كان ذلك لا يمنع قياس احدهما الغائب على الآخر الشاهد. ومبدأ القياس نفسه يقوم على نوع من المشابهة التي لا تتطابق ولا تلغي الحدود بين العالمين. وهذا هو الذي يجعل القاضي عبد الجبار يمنع من استعمال اللفظ مجازا على جهة الحقيقة، أي يمنع من الخلط بين الاستعمالين الحقيقي والمجازي للفظ الواحد: «اعلم أن من حق المجاز إذا استعمل أن لا يراعى معناه كما يراعى ذلك في الحقائق، لأن ذلك يوجب كونه في حكم الحقيقة. لأنه إن روعي معناه وجعل تابعا له وأجري حيث يجري معناه، حلّ محل الحقيقة» وهي نفس الفكرة التي سبقت الاشارة إليها عند الجاحظ.
وغاية كل من الجاحظ والقاضي واحدة على أي حال. فالجاحظ قد اشترط ذلك للمحافظة على الوظيفة البيانية للغة، وكذلك يشترط القاضي عبد الجبار محافظة على الوظيفة الدلالية. ويظلّ الالحاح عند كليهما والحالة هذه على علاقة المشابهة التي ينتقل اللفظ على أساسها من معنى إلى معنى آخر. وأي نسيان لمبدأ المشابهة من شأنه أن يخلّ بمبدإ الدلالة في المجاز من ناحية، وأن يخلّ بتمايز عالمي الغيب والشهادة إذا كان المجاز في صفات الله وأحواله من ناحية أخرى.
وقد كان متوقعا وقد ربط المعتزلة الدلالة اللغوية بقصد المتكلم وارادته بما في
ذلك الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، أن يتنبهوا إلى الوظيفة النفسية والانفعالية للمجاز في التعبير عن حالات وأحوال تعجز اللغة العادية لغة الحقيقة والاشارة عن الافصاح عنها بحكم ثبات دلالتها وفقرها الايحائي. إلّا أننا لا نجد شيئا من ذلك على الاطلاق. إذ أن اطار الجدل الديني، وتركز البحث حول الله، باعتباره متكلما، وحول القرآن باعتباره كلام الله، والرغبة الدينية في استخراج الدلالة المعرفية من النص القرآني. كل ذلك كان له تأثيره في توجيه مبحث المجاز هذه الوجهة التي تعنى في المحل الأول بالدلالة أكثر من عنايتها بالصورة، ومن ثم تحولت ايحاءات المجاز التصويرية على يد المعتزلة إلى دلالات إشارية. وبناء على ذلك لم يجد المعتزلة من وظيفة للمجاز في القرآن سوى اثارة التأمل العقلي والاجتهاد النظري الذي عدّوه جزءا من التكليف الغرض منه تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد على ثواب المقلّد ويربو عليه.(1/129)
وقد كان متوقعا وقد ربط المعتزلة الدلالة اللغوية بقصد المتكلم وارادته بما في
ذلك الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، أن يتنبهوا إلى الوظيفة النفسية والانفعالية للمجاز في التعبير عن حالات وأحوال تعجز اللغة العادية لغة الحقيقة والاشارة عن الافصاح عنها بحكم ثبات دلالتها وفقرها الايحائي. إلّا أننا لا نجد شيئا من ذلك على الاطلاق. إذ أن اطار الجدل الديني، وتركز البحث حول الله، باعتباره متكلما، وحول القرآن باعتباره كلام الله، والرغبة الدينية في استخراج الدلالة المعرفية من النص القرآني. كل ذلك كان له تأثيره في توجيه مبحث المجاز هذه الوجهة التي تعنى في المحل الأول بالدلالة أكثر من عنايتها بالصورة، ومن ثم تحولت ايحاءات المجاز التصويرية على يد المعتزلة إلى دلالات إشارية. وبناء على ذلك لم يجد المعتزلة من وظيفة للمجاز في القرآن سوى اثارة التأمل العقلي والاجتهاد النظري الذي عدّوه جزءا من التكليف الغرض منه تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد على ثواب المقلّد ويربو عليه.
ومن أجل تثبيت الدلالة المجازية، والمحافظة على وضوح الدلالة اللغوية، يمنع المعتزلة المتكلم من استعمال المجاز فيما لم يستعمل، حتى لو كانت علاقة المشابهة واضحة بارزة. فاللفظان قد يتفقان في المعنى، ومع ذلك ينقل أحدهما عن الحقيقة إلى المجاز ولا ينقل الآخر، مع امكانية أن تقوم المشابهة بين استعمالهما معا في الحقيقة واستعمالهما معا في المجاز. والأصل في المنع أو التجويز يظل في النهاية هو استعمال الجماعة لا الفرد. فما استعملته الجماعة مجازا جاز استعماله، وما امتنعت عن استعمال المجاز فيه لا يجوز استعماله «ولا يمتنع في اللفظتين المتفقتين في المعنى أن تستعمل أحدهما مجازا حيث لا تستعمل الأخرى، وعلى هذا فان الغائط والمكان المطمئن كانا في الأصل واحدا، ثم استعمل أحدهما في الكناية عن قضاء الحاجة ولم يستعمل الآخر»
ومما يدخل في الحرص على تثبيت الدلالة اللغوية ويؤكدها أن المعتزلة لا يحبون التوسع كثيرا في الاستعمالات المجازية، ويحرصون على البعد عن التأويلات المجازية كلما وجدوا في حقيقة اللغة مخرجا. وبالرغم من أن خصومهم قد اتهموهم بأنهم يحملون الآيات على التأويلات المجازية المستكرهة، فواقع الامر أن المعتزلة شأن غيرهم من الفرق يعدّون من أنصار الحقيقة، وكل الخلاف أنهم يعتمدون إلى جانب القرينة اللفظية على القرينة العقلية التي تسمح لهم بتأويل كل ما لا يتفق وتصورهم لله ولعدله. لكن الأساس أن الحقيقة عندهم أكثر دلالة من المجاز، وعلى ذلك يمنعون من حمل اللفظ على المجاز إذا أمكن حمله على الحقيقة «لأن اللفظة متى أمكن حمل معناها في كل موضع على حقيقة واحدة،
فحملها على فوائد مختلفة، أو على المجاز في موضع والحقيقة في موضع آخر لا يجوز».(1/130)
ومما يدخل في الحرص على تثبيت الدلالة اللغوية ويؤكدها أن المعتزلة لا يحبون التوسع كثيرا في الاستعمالات المجازية، ويحرصون على البعد عن التأويلات المجازية كلما وجدوا في حقيقة اللغة مخرجا. وبالرغم من أن خصومهم قد اتهموهم بأنهم يحملون الآيات على التأويلات المجازية المستكرهة، فواقع الامر أن المعتزلة شأن غيرهم من الفرق يعدّون من أنصار الحقيقة، وكل الخلاف أنهم يعتمدون إلى جانب القرينة اللفظية على القرينة العقلية التي تسمح لهم بتأويل كل ما لا يتفق وتصورهم لله ولعدله. لكن الأساس أن الحقيقة عندهم أكثر دلالة من المجاز، وعلى ذلك يمنعون من حمل اللفظ على المجاز إذا أمكن حمله على الحقيقة «لأن اللفظة متى أمكن حمل معناها في كل موضع على حقيقة واحدة،
فحملها على فوائد مختلفة، أو على المجاز في موضع والحقيقة في موضع آخر لا يجوز».
وهم لا يمنعون تأويل اللفظ على المجاز فحسب بل يمنعون استعماله كذلك إلّا فيما استعمل فيه، فإذا استعمل لفظ «جائر» في السهم إذا زال عن سمته، فلا يصح أن تنقل اللفظة إلى كل ما أدّى هذا المعنى من الخروج عن عادته، وإلّا تساوى المجاز والحقيقة، وصعبت التفرقة بينهما. وكل هذا من شأنه أن يخلّ بمبدإ الوضوح المطلوب في الدلالة اللغوية حتى تظل دلالة «ووصفهم للسهم إذا زال عن سمته بأنه جائر، مجاز عندنا، لأنهم لا يصفون كل ما زال عن سمته بذلك. فلا يصفون الحجر المرمي بذلك، ولا غيره، فعلم أنه مجاز، وإلّا كان يشيع في هذه الفائدة. ألا ترى أنه لمّا أفاد وقوع الجور منه، استمر في كل من فعل الجور؟ وأمّا وصفهم السحاب بأنها ظالمة، إذا جادت بالمطر في غير حينه، فمجاز. لأنه لو كان حقيقة لاستمر في كل ما له حكم وحصل له ذلك أو به في غير الوقت المعتاد، حتى يقال في الشجرة إذا تأخر نضج ثمارها، بأنها ظالمة فعلم بذلك، أنه استعمل فيها تشبيها بفاعل الظلم لما كان المبتغى منها المطر في حين ما أخطأ به كما أخطأ الظالم طريق العدل فأقدم على الظلم». وإذا لم يكن ثم ما يمنع من وصف شجرة بأنها ظالمة، إذا كانت هذه الصفة في السياق الذي ترد فيه تؤدي وظيفة في نقل خبرة أو انفعال أو تجربة، فإن القاضي عبد الجبار يمنع ذلك رغم وجه المشابهة الواضح حتى لا تتداخل الحدود بين الحقيقة والمجاز. وتظل هذه الشروط التي تحدّ من طاقة المجاز على التعبير عن مدركات وخبرات وأحوال جديدة خاضعة للمبدإ الاعتزالي عن اللغة وهو أنها نوع من أنواع الدلالة. ويظلّ الالحاح على علاقة المشابهة التي أقامت على أساسها الجماعة عبارتها المجازية هو الأساس في الاستخدام المجازي وذلك بهدف التفرقة بين الدلالتين الحقيقية والمجازية حتى لا تختلط احداهما بالأخرى في ذهن المتكلم أو المستمع، الأمر الذي قد يؤدي للبس والابهام، ويعوق عملية التوصيل التي هي وظيفة الدلالة اللغوية. وعلى ذلك لا يمتنع أن يطلق اللفظ في معنى ما يشبهه ويكون حقيقة في هذا المعنى الثاني، إذا كانت الجماعة استعملته في كليهما على الحقيقة «وقد أنكر بعضهم أن يوصف العلم بأنه اعتقاد على الحقيقة. لأن العاقل يحكم ما عرفه، كاحكام من يعقد الحبل والخيط بالعقد المحكم. وهذا وان لم يبعد أن يكون الأصل فيه ما قاله، فذلك غير دال على أنه ليس بحقيقة في الاعتقادات. لأنه لا يمتنع في الأسماء أن توجد من غيرها وتصير مع ذلك حقيقة في الثاني، إلّا أن نثبت بالدلالة، أن أهل اللغة استعملوها في الثاني على جهة التشبيه بالأول، فيجب الحكم فيه بأنه مجاز».(1/131)
وكل هذه الشروط السابقة تعود بالمجاز إلى أن يكون مواضعة سابقة تواضعت عليها الجماعة اللغوية ولا يجوز للفرد أن يخرج عن اطارها ولا أن يقيس عليها. والشرط للاستعمال المجازي للجماعة أن تكون أدركت وجه الشبه بين المعنيين، ولو كان وجه الشبه موجودا ولم تدركه الجماعة، ولم تستعمل اللفظ مجازا، فلا يجوز ادعاء المجاز فيه. وهذا التواضع المجازي يساوي في قوته وثباته المواضعة الحقيقية، وذلك لأن «المجاز قد صار موضوعا لما استعمل فيه مجازا، فهو في الحكم بمنزلة اسم يستعمل في أمرين على جهة الاشتراك» وكل هذا ينتهي إلى تثبيت الدلالة اللغوية مجازية كانت أو حقيقية ويعود بها إلى أن تكون دلالة عادية رامزة مشيرة، لا تحمل أي نبض ايحائي. وهي في ذلك تتساوى مع أنواع الدلالات الأخرى العقلية والسمعية. وتصبح اللغة بنظامها الثابت هي المرجع في معرفة الأسماء والصفات. ويفقد المتكلم الذي ألحّ المعتزلة على دوره في الدلالة اللغوية أي فعالية ايجابية «قد بيّنا من قبل أن استعمال الأسماء والأوصاف يحسن من جهة اللغة، وإن لم يرد بها التوقيف. وإن صحّ ذلك صارت اللغة هي الأصل فيه، كما أن أصل ما يعلم من جهة السمع، فأدلة السمع هي الأصل فيه، وما يعلم بالعقل فهو الأصل فيه. فكما أن الحكم العقلي يجب الرجوع في معرفته إلى الطريق العقلية وكذلك السمعي، فكذلك القول في اللغة إذا التبس الحال فيه».
وإذا كان المجاز شأنه شأن الحقيقة يعتمد على المواضعة السابقة للجماعة، فمن الطبيعي أن يكون المجاز الذي سبق استعماله هو المقياس في الاستعمال. وإذا كان المعتزلة قد أباحوا لأنفسهم قياس الغائب على الشاهد فيما طريقه المعرفة العقلية، وفي اطلاق الاسماء والصفات، فانهم قد منعوا القياس في المجاز، بل لا بدّ من متابعة الاستعمالات المجازية التي سبق استخدامها دون أن يقاس على نفس نمطها. فلا «يقال: سل الكتاب ويراد به صاحبه أو كاتبه، قياسا على: سل القرية ويراد به الأهل. ولو كان ذلك حقيقة لروعي المعنى المفاد ولأجري الاسم حيث يجري المعنى».
وثمّ خلاف بين أبي علي وأبي هاشم الجبائيين حول جواز القياس على المجاز.
وهو خلاف لا يتصل بجوهر القضية. فأبو هاشم يمنع القياس منعا باتا، بينما يجوّزه أبو علي إذا كانت علاقة المقاربة واضحة بحيث يظهر المعنى للمخاطب.
وكلاهما يسعى إلى وضوح الدلالة اللغوية أو المجازية على السواء.
وهذا المبدأ مبدأ عدم القياس في المجاز يكاد المعتزلة يطبقونه مع مبدأ
التعارف السابق على المجاز على النص القرآني نفسه. فمن المؤكد أن القرآن قد جاء بعبارات مجازية لم ترد في الشعر العربي. بمعنى أن القرآن يتضمن من الصور المجازية الكثير مما لم يوجد في الشعر العربي، خصوصا في تلك الآيات التي تعبر عن ذات الله أو صفاته. وهذه الصور المجازية تقف ضد مبدأ المعتزلة بعرفية المجاز وضرورة أن يكون سابقا في عرف الجماعة. وفي محاولة رد هذه الصور المجازية في القرآن إلى مبدأهم العام يفترض المعتزلة أن هذه الصور المجازية كانت مسبوقة بمجازات عربية مثلها لم ينقلها لنا الرواة. ويعتبرون أن القرآن نفسه دليل على وجود هذه المجازات في لغة العرب «فإن قيل: أليس قد خاطب تعالى في كتابه بأنواع من المجاز لا تعرف في اللغة في وصفه ووصف غيره. وذلك ان ذكر طال؟(1/132)
وهذا المبدأ مبدأ عدم القياس في المجاز يكاد المعتزلة يطبقونه مع مبدأ
التعارف السابق على المجاز على النص القرآني نفسه. فمن المؤكد أن القرآن قد جاء بعبارات مجازية لم ترد في الشعر العربي. بمعنى أن القرآن يتضمن من الصور المجازية الكثير مما لم يوجد في الشعر العربي، خصوصا في تلك الآيات التي تعبر عن ذات الله أو صفاته. وهذه الصور المجازية تقف ضد مبدأ المعتزلة بعرفية المجاز وضرورة أن يكون سابقا في عرف الجماعة. وفي محاولة رد هذه الصور المجازية في القرآن إلى مبدأهم العام يفترض المعتزلة أن هذه الصور المجازية كانت مسبوقة بمجازات عربية مثلها لم ينقلها لنا الرواة. ويعتبرون أن القرآن نفسه دليل على وجود هذه المجازات في لغة العرب «فإن قيل: أليس قد خاطب تعالى في كتابه بأنواع من المجاز لا تعرف في اللغة في وصفه ووصف غيره. وذلك ان ذكر طال؟
فإذا صحّ ذلك علم أنه لا يجب أن يفسّر المجاز حيث استعمل؟ قيل له: إن ما لم يثبت في خطاب الله تعالى أنه شرعي منقول من المجاز، فيجب أن نقطع على أنهم قد تكلموا بمثله، كما أن ما تضمنه الكتاب من الحقائق يجب ذلك فيه، كقوله تعالى في وصف الكتاب: {وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ولا يجب في جميع ما تكلموا به من المجاز أن يكون منقولا إلينا، ولا يجب إذا لم نعرفه أن لا يكون معروفا عند بعض العرب، ولو انقطع نقله لكان الكتاب يدل عليه ولو أن واحدا منهم حكى ضربا من المجاز لعمل بقوله، فإذا شهد القرآن به كان بأن يقطع بذلك أولى. فلا يجب أن يوجد في صريح كلامهم نفس ما وجد في القرآن، لكنهم إذا تكلموا بمثله جاز أن يخاطب تعالى به، فإذا استجازوا القول بأن فلانا جاءني وأنا مشغول، ويراد به رسوله بأمره، لم يمتنع أن يقول جلّ وعزّ: {وَجََاءَ رَبُّكَ،} لأن الباب في ذلك واحد كما ذكرناه في القرية. ولذلك متى علمنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ذلك علمنا أن العرب تكلمت به أو بمثله فلا مطعن على ما ذكرناه بذلك».
والذي يمكن الخروج به من هذا النص أن المعتزلة في دفاعهم عن صحة تأويلاتهم كان عليهم الاستشهاد بالشعر سائرين في ذلك على درب اللغويين والمفسرين منذ ابن عباس. ولكن مشكلة الاستشهاد بالشعر أن الخصم يمكن له أن يستشهد به كذلك. ومن ناحية أخرى فهناك آيات مثل {وَجََاءَ رَبُّكَ} لا يستطيعون ايجاد ما يقابلها في التراكيب العربية والشعرية للدلالة على المعنى الذي يريدون إليه. وبدلا من أن يسلم المعتزلة بوجود مجازات في القرآن لم ترد في الاستعمال العربي، يذهبون إلى افتراض وجود مثل هذه المجازات وإن كانت لم تصل إلينا ولم يحفظها لنا أحد. وهذه كلها افتراضات أدّت بهم إليها تلك الرغبة في تثبيت الدلالة المجازية، وربط القرآن الكريم هذا الربط الميكانيكي باللغة العربية ووسائلها التعبيرية وطرائفها الأسلوبية، حتى ليجعلوه يقل من هذه الزاوية عن شعر
شاعر كامرئ القيس أو زهير فيما أضافاه للغة من تعبيرات وتراكيب وصور.(1/133)
والذي يمكن الخروج به من هذا النص أن المعتزلة في دفاعهم عن صحة تأويلاتهم كان عليهم الاستشهاد بالشعر سائرين في ذلك على درب اللغويين والمفسرين منذ ابن عباس. ولكن مشكلة الاستشهاد بالشعر أن الخصم يمكن له أن يستشهد به كذلك. ومن ناحية أخرى فهناك آيات مثل {وَجََاءَ رَبُّكَ} لا يستطيعون ايجاد ما يقابلها في التراكيب العربية والشعرية للدلالة على المعنى الذي يريدون إليه. وبدلا من أن يسلم المعتزلة بوجود مجازات في القرآن لم ترد في الاستعمال العربي، يذهبون إلى افتراض وجود مثل هذه المجازات وإن كانت لم تصل إلينا ولم يحفظها لنا أحد. وهذه كلها افتراضات أدّت بهم إليها تلك الرغبة في تثبيت الدلالة المجازية، وربط القرآن الكريم هذا الربط الميكانيكي باللغة العربية ووسائلها التعبيرية وطرائفها الأسلوبية، حتى ليجعلوه يقل من هذه الزاوية عن شعر
شاعر كامرئ القيس أو زهير فيما أضافاه للغة من تعبيرات وتراكيب وصور.
وربما أمكن التماس العذر للمعتزلة في هذه الافتراضات التي راحوا يتمحلونها، إذ الآيات التي تثير هذه المشكلة آيات لا يسلّم خصوم المعتزلة بتأويلهم لها، بل ذهب أغلبهم خصوصا الظاهرية إلى أنها حقائق، وإن كانوا نفوا كيفية المجيء. ونتيجة لذلك حاول المعتزلة لتأكيد وجهة نظرهم ربط هذه التعبيرات المجازية بمثيلات لها في اللغة، وافترضوا وجود مثلها في اللغة وإن لم تصلهم عن العرب ولم ينقلها أحد.
أمّا في الألفاظ الشرعية التي نقلها القرآن عن معناها اللغوي إلى معناها الشرعي، كألفاظ الصلاة والزكاة والصوم، فلا نزاع بين المعتزلة وخصومهم حول هذا التجاوز في الدلالة، ومن ثم لا يحتاج المعتزلة للافتراض والتمحل، ويسلمون بأن نقل مثل هذه الألفاظ يعدّ بمثابة ابتداء مواضعة من جهة الله، ولم تستعمل في القرآن على سابق مثال «ولا تلزم على ذلك الألفاظ الشرعية، لأنه جلّ وعزّ، من حيث ثبتت حكمته يجب صرف كلامه إلى أنه أراد به الوجه الصحيح. فإذا بينه ونقل اللفظ عن اللغة صار كابتداء مواضعة منه» وهكذا يقع المعتزلة فيما حاولوا الهروب منه، ويسلمون بجواز أن يكون في القرآن ما لم تقع المواضعة عليه، ويستندون في ذلك إلى فكرة الحكمة الإلهية، وهي فكرة كانت كفيلة باخراجهم من المأزق السابق دون افتراضات أو تمحلات.
* * * تحددت مهمة اللغة عند القاضي على مستوى التركيب بأنها «الانباء» عما في النفس، واعتبر القاضي أن وظيفة «الاخبار» هي الوظيفة المركزية للغة، لدرجة أنه ردّ كل الصيغ اللغوية من أمر ونهي واستفهام ونداء وقسم إلى معنى الخبر. ويرتبط الخبر في دلالته بقصد المتكلم وارادته «ولذلك يصح في الخبر المجاز والتعريض والالغاز». وقد استبعد المعتزلة من دائرة بحثهم المتكلم البشري على أساس أن كلامه يمكن معرفة دلالته بالاضطرار، وذلك على عكس كلام الله عز وجل الذي لا يمكن معرفة دلالته كاملة إلّا استدلالا كما سبقت الاشارة. وإذا كان تقدم المواضعة يعدّ عند المعتزلة شرطا لوقوع كلام الله دلالة، فإن معرفة قصده تعالى يعدّ شرطا ثانيا لا يقلّ في أهميته عن المواضعة السابقة. يقول القاضي مشترطا المواضعة «اعلم أنه لا بدّ من لغة يتواضع عليها المخاطب أولا ليصحّ أن يفهم عن الله سبحانه وتعالى ما يخاطبه به والذي يدلّ على ذلك أن العلم بما يفيده الخطاب الوارد عن الله سبحانه هو علم بأنه أراد به ما يتعلق ذلك الخطاب به، فمتى لم
تتقدم من المخاطب لغة لم يعلم مراده، عزّ وجلّ، بكلامه، لأنه إنما يعلم ذلك متى تقدّم منه ما يقتضي صرف خطابه إلى ما تعارفه من اللغات، فيكون خطابه دلالة على مراده بتقدم المواضعة».(1/134)
* * * تحددت مهمة اللغة عند القاضي على مستوى التركيب بأنها «الانباء» عما في النفس، واعتبر القاضي أن وظيفة «الاخبار» هي الوظيفة المركزية للغة، لدرجة أنه ردّ كل الصيغ اللغوية من أمر ونهي واستفهام ونداء وقسم إلى معنى الخبر. ويرتبط الخبر في دلالته بقصد المتكلم وارادته «ولذلك يصح في الخبر المجاز والتعريض والالغاز». وقد استبعد المعتزلة من دائرة بحثهم المتكلم البشري على أساس أن كلامه يمكن معرفة دلالته بالاضطرار، وذلك على عكس كلام الله عز وجل الذي لا يمكن معرفة دلالته كاملة إلّا استدلالا كما سبقت الاشارة. وإذا كان تقدم المواضعة يعدّ عند المعتزلة شرطا لوقوع كلام الله دلالة، فإن معرفة قصده تعالى يعدّ شرطا ثانيا لا يقلّ في أهميته عن المواضعة السابقة. يقول القاضي مشترطا المواضعة «اعلم أنه لا بدّ من لغة يتواضع عليها المخاطب أولا ليصحّ أن يفهم عن الله سبحانه وتعالى ما يخاطبه به والذي يدلّ على ذلك أن العلم بما يفيده الخطاب الوارد عن الله سبحانه هو علم بأنه أراد به ما يتعلق ذلك الخطاب به، فمتى لم
تتقدم من المخاطب لغة لم يعلم مراده، عزّ وجلّ، بكلامه، لأنه إنما يعلم ذلك متى تقدّم منه ما يقتضي صرف خطابه إلى ما تعارفه من اللغات، فيكون خطابه دلالة على مراده بتقدم المواضعة».
وإذا كانت معرفة قصد المتكلم بالكلام هي معرفة اضطرارية، فإن معرفة قصد الله بكلامه هي معرفة استدلالية عند المعتزلة. وقد سبقت الاشارة في الفصل السابق إلى أن قضايا العدل والتوحيد هي قضايا عقلية في الأساس الأول، وهي سابقة في معرفتها على الدلالة الشرعية، وهي دلالة الكلام. ومعنى ذلك أننا بالعقل نعرف قصد الله وما يصحّ أن يختاره ويأمر به وما لا يجوز عليه من ذلك. وهذه المعرفة تمكننا من صحة الاستدلال بكلامه عز وجل. ولا يمكن عند المعتزلة أن يدل كلام الله على خلاف ما دلّ عليه العقل «لأن الناصب لأدلة السمع هو الذي نصب أدلة العقل فلا يجوز فيهما التناقض».
وبناء على ذلك فإذا ورد في كلام الله الدلالة الشرعية ما يدل ظاهره على خلاف ما يدل عليه العقل وجب علينا أن نتأوله لأن الدلالة الشرعية والدلالة العقلية يتطابقان ولا يتناقضان «واعلم أن ورود الشرائع والمصالح على المكلف أشدّ مطابقة لما في عقله ومناسبة لما يرد على المكلف من اختلاف الأمور التي تختلف بالعادات والتجارب. يبين ذلك أن ما يرد بالسمع يكون علما مقطوعا لأنه لا يجوز خلافه، كما لا يجوز خلاف ما في العقول، ولأن ما يرد بالسمع تكليف كما أن ما يرد بالعقل تكليف من قبل القديم، وكشف العقل عنهما وعن وجوبهما وطريقة وجوبهما لا يختلف. ولذلك قلنا: إن أصل التكليف يقتضيه العقل كما أن السمع يقتضيه العقل واقتضاءه لهما لا يختلف». وهكذا يصبح التأويل ضرورة لا محيص عنها لرفع التناقض الظاهري بين أدلة العقل وادلة الشرع.
والسلاح الذي يستعمله المعتزلة للتأويل هو سلاح المجاز، وإذا كنا في الفقرة السابقة قد ركّزنا على وجه المجاز في الاسم المفرد، فإن علينا الآن أن نحدد كيفية الانتقال في الدلالة في التركيب ولقد سبق أن أشرنا إلى توحيد القاضي بين الصيغ اللغوية وردها كلها إلى معنى الخبر. والخبر لا يمكن أن يقع خبرا إلّا بقصد المتكلم وارادته، ومن حق المخبر والحال هذه أن يلغز في كلامه ويعرض ويستخدم المجاز «لو كان ما يتعلق بالخبر بزيد يستحيل تعلقه بغيره بالقصد، لبطل التوسع، لأنه إنما يتجوّز باللفظة إلى أن تستعمل في غير ما وضعت له، ولهذا يحتاج الحكيم أن يدل عليه، من حيث لولا الدلالة لكان ظاهرها كما وضعت له وفي هذا ابطال القول به. وقد أباح الله تعالى ذلك بقوله: {إِلََّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ}
{بِالْإِيمََانِ} لأنه إذا أكره على القول بأنه تعالى ثالث ثلاثة، فلو كان هذا الخبر يجب أن يتعلق بالله تعالى لاستحال أن يصير خلافه بالقصد. وقد علم أن الموضوع للأمر قد يستعمل في التهديد كقوله «واستفزز» وقوله: «اعملوا ما شئتم» وما وضع للخبر قد يستعمل في غيره فقد صح أن التجوّز به يصح في كل حال، وعلى كل وجه. فلولا أن اللفظة بعينها تقع على الوجهين بالقصد لما صح ذلك فيها».(1/135)
والسلاح الذي يستعمله المعتزلة للتأويل هو سلاح المجاز، وإذا كنا في الفقرة السابقة قد ركّزنا على وجه المجاز في الاسم المفرد، فإن علينا الآن أن نحدد كيفية الانتقال في الدلالة في التركيب ولقد سبق أن أشرنا إلى توحيد القاضي بين الصيغ اللغوية وردها كلها إلى معنى الخبر. والخبر لا يمكن أن يقع خبرا إلّا بقصد المتكلم وارادته، ومن حق المخبر والحال هذه أن يلغز في كلامه ويعرض ويستخدم المجاز «لو كان ما يتعلق بالخبر بزيد يستحيل تعلقه بغيره بالقصد، لبطل التوسع، لأنه إنما يتجوّز باللفظة إلى أن تستعمل في غير ما وضعت له، ولهذا يحتاج الحكيم أن يدل عليه، من حيث لولا الدلالة لكان ظاهرها كما وضعت له وفي هذا ابطال القول به. وقد أباح الله تعالى ذلك بقوله: {إِلََّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ}
{بِالْإِيمََانِ} لأنه إذا أكره على القول بأنه تعالى ثالث ثلاثة، فلو كان هذا الخبر يجب أن يتعلق بالله تعالى لاستحال أن يصير خلافه بالقصد. وقد علم أن الموضوع للأمر قد يستعمل في التهديد كقوله «واستفزز» وقوله: «اعملوا ما شئتم» وما وضع للخبر قد يستعمل في غيره فقد صح أن التجوّز به يصح في كل حال، وعلى كل وجه. فلولا أن اللفظة بعينها تقع على الوجهين بالقصد لما صح ذلك فيها».
ومعنى ذلك أن قصد المتكلم هو الذي يحدد ما إذا كانت الصيغة اللغوية قد استعملت على حقيقتها المتواضع عليها، أو قد انتقلت إلى معنى مجازي. والصيغة اللغوية يمكن انتقالها من الحقيقة إلى المجاز، كما يمكن الانتقال في الاسم المفرد، فصيغة الأمر قد تستعمل للتهديد. والمعيار النهائي للتجاوز في الصيغ اللغوية هو قصد المتكلم وارادته. وقد سبقت لنا المعرفة العقلية بأن الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به. فإذا ورد في كلامه أمر يدل بصيغته على القبيح، كان لنا أن نتأوّل هذا الأمر على أن المقصود به هو التهديد. وهذه المعرفة بقصد الله وهي معرفة عقلية هي التي تسمح لنا بتأويل ظاهر الصيغة، وهي التي يطلق عليها المعتزلة القرينة العقلية أو الدليل العقلي.
وثمّ قرينة أخرى تسمح لنا باخراج النص عن ظاهره، وهي القرينة اللفظية المقارنة للكلام كالشرط والاستثناء، أو وجود خطاب آخر يفسر هذا الخطاب.
ولا يخلو كلام الله عز وجل عن هاتين الدلالتين أو القرينتين غير أن المعتزلة يعتبرون القرينة العقلية هي الأساس في عملية التأويل «فلذلك صحّ عندنا أن تدلّ على خصوص كلامه أدلة العقل، كما يدل عليه تقييد اللفظ، ودخول الشرط والاستثناء فيه، وتكون دلالة كالعهد المتقدم والمعهود بين المخاطب، وقد بيّنا أن ما حلّ هذا المحل هو أقوى من نفس المواضعة في الدلالة، فإذا كانت المواضعة المتقدمة تدل على المراد بالكلمة فالعهد بأدلة العقول وما قدر، جل وعز فيها بأن يدل على ذلك وأن يقدم، أولى» ولا يخلو كلام الله القرآن عن هذين النوعين من القرينة اطلاقا لأنه «لا بدّ أن يكون دليلا. وإنما يكون كذلك بوجهين: أحدهما: أن يريد ما يقتضيه ظاهره فيكون مجرده دلالة على المراد. أو يريد به غير ذلك فلا بدّ من بيان مقترن به كاقتران بعض الكلام ببعض، لأنه إن كان مما يدل بالسمع فلا بد من أن يتصل به أصل الشرط والاستثناء، أو ما يجري مجراهما، وإن كان من أدلة العقول فاقترانه به أوكد من ذلك، ولا يجوز في خطابه أن يخلو من هذين الوجهين»
وتقسيم خطاب الله هذه القسمة إلى ما يدل بدليل العقل، وإلى ما يدل بدليل الخطاب المقترن به لفظا، ليس الا التفرقة بين آيات الأحكام والتشريع،
والآيات التي تدل على التوحيد والعدل. ومن الطبيعي أن يضع المعتزلة النوع الأول فيما يدل بقرينة اللفظ، ويشترطون لدلالته أن يكون فيه ما يدل على المراد به «وعلى هذا الوجه بنى الفقهاء القول بالعموم والخصوص، لأنهم بينوا أن الصيغة تكون واحدة، وتكون مرة عموما، ومرة خصوصا» غير أن تخصيص العام أو تعميم الخاص لا بدّ أن يستند إلى قرينة لفظية في الخطاب نفسه، سواء في نفس الآية أو في آية أخرى غيرها.(1/136)
وتقسيم خطاب الله هذه القسمة إلى ما يدل بدليل العقل، وإلى ما يدل بدليل الخطاب المقترن به لفظا، ليس الا التفرقة بين آيات الأحكام والتشريع،
والآيات التي تدل على التوحيد والعدل. ومن الطبيعي أن يضع المعتزلة النوع الأول فيما يدل بقرينة اللفظ، ويشترطون لدلالته أن يكون فيه ما يدل على المراد به «وعلى هذا الوجه بنى الفقهاء القول بالعموم والخصوص، لأنهم بينوا أن الصيغة تكون واحدة، وتكون مرة عموما، ومرة خصوصا» غير أن تخصيص العام أو تعميم الخاص لا بدّ أن يستند إلى قرينة لفظية في الخطاب نفسه، سواء في نفس الآية أو في آية أخرى غيرها.
أمّا الآيات التي تدلّ على التوحيد والعدل فهي الآيات التي تدلّ أولا بالدلالة العقلية. وقد كانت هذه الآيات هي مجال الخلاف في التأويل بين المعتزلة وخصومهم من الصفاتية والظاهرية والأشاعرة والمجسمة. وكان لا بدّ من البحث عن أساس للتأويلات الاعتزالية لهذه الآيات. وقد وجد المعتزلة في التفرقة بين المحكم والمتشابه وهي تفرقة قرآنية أساسهم الديني للتأويل، إلى جانب الأساس العقلي الذي أشرنا إليه. وهذه التفرقة وغايتها هي ما يعالجه الفصل التالي عن المجاز والتأويل.(1/137)
الفصل الثالث «المجاز والتأويل»(1/139)
1 - التأويل عند المفسرين (ابن عباس ومجاهد)
منذ فترة باكرة جدا ارتبط تأويل القرآن بالخلاف حول المحكم والمتشابه من جهة، وبالخلافات السياسية والعقائدية من جهة أخرى. وإذا كانت العلاقة بين التأويل والمجاز تبدو خافتة جدا في هذه المرحلة الباكرة، فما ذلك إلّا لان مصطلح «المجاز» لم يكن قد تحدّد بعد، فضلا عن أن يكون قد ظهر على ألسنة المفسرين.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن مصطلح «المثل» كان أقدم المصطلحات شيوعا للدلالة على العبارة أو اللفظة التي لا يراد بها ما وضعت له في أصل اللغة.
أمّا ارتباط التأويل بالخلاف حول المحكم والمتشابه من جهة، وبالخلافات السياسية من جهة أخرى فيؤكده ما يرويه الطبري عن ابن عباس أيضا من أنه قد «ذكر عنده الخوارج وما يلفون عند القرآن قال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه» بل إن الطبري نفسه يستغل الآية لمهاجمة كل الفرق الاسلامية وغير الاسلامية ويرى «أن هذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعة فمال قلبه إليها، تأويلات منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنا من كان، وأي أصناف المبتدعة كان:
من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم».
غير أن محاولة تأويل آي القرآن أو الخلاف حول المحكم والمتشابه ترتبط بزمن نزول القرآن نفسه. ويبدو أن محاولة تأويل آي القرآن والتشكيك فيه قد ارتبطت بجدل أهل الكتاب مع الرسول في المدينة. ومن العسير على الباحث تحديد نقطة البداية في هذا الجدل. ومع ذلك فالقرآن نفسه قد سجّل هذه المحاولات وردّ
عليها. ولو رتبت آيات القرآن وسوره حسب ترتيب النزول بحسب ما تسمح به مصادرنا الحالية عن أسباب النزول لأمكن حسم كثير من المعضلات التي ترتبط بالدراسات القرآنية بشكل عام. فالقرآن قبل كل شيء وبعد كل شيء هو المصدر الوحيد الذي لا يتطرق اليه الشك كمصدر تاريخي لعصر النبوة بشقيه المكي والمدني. ولقد سجّل لنا القرآن في سورة آل عمران هذه المحاولات التأويلية بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ، مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ،} {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا.}(1/141)
غير أن محاولة تأويل آي القرآن أو الخلاف حول المحكم والمتشابه ترتبط بزمن نزول القرآن نفسه. ويبدو أن محاولة تأويل آي القرآن والتشكيك فيه قد ارتبطت بجدل أهل الكتاب مع الرسول في المدينة. ومن العسير على الباحث تحديد نقطة البداية في هذا الجدل. ومع ذلك فالقرآن نفسه قد سجّل هذه المحاولات وردّ
عليها. ولو رتبت آيات القرآن وسوره حسب ترتيب النزول بحسب ما تسمح به مصادرنا الحالية عن أسباب النزول لأمكن حسم كثير من المعضلات التي ترتبط بالدراسات القرآنية بشكل عام. فالقرآن قبل كل شيء وبعد كل شيء هو المصدر الوحيد الذي لا يتطرق اليه الشك كمصدر تاريخي لعصر النبوة بشقيه المكي والمدني. ولقد سجّل لنا القرآن في سورة آل عمران هذه المحاولات التأويلية بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ، مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ،} {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا.}
يورد الطبري في سبب نزول هذه الآية عدّة أقوال: أولها ما يرويه ابن عباس عن جابر بن رئاب أن معنى «المتشابه» الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو «الم» و «المص»، و «المر» و «ألر» وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أكل محمد وأمته» وهي رواية ضعيفة، وإن كان الطبري يتقبلها ويعضدها ويبني تفسيره كله على أساسها.
أمّا الرواية الثانية فيرويها الطبري عن الربيع «قال: عمدوا يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم (في المسيح)، قالوا: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبنا! فأنزل الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ} ثم إن الله جل ثناؤه أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ»}.
وتبدو هذه الرواية أقرب إلى معنى الآية وإلى سياقها، فالتعبير القرآني في وصف عيسى بأنه {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} (آل عمران / 45) كان كفيلا بأن يتخذه النصارى دليلا لهم من وجهة نظرهم يحاجون به النبي، ومن ثم نزلت هذه الآية تقرّعهم على تمسكهم بما يحتمل التأويل. ثم نزلت الآية الأخرى {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران / 59) لتفسر لهم ما تشابه عليهم بلفظ واضح صريح لا يحتمل اللبس أو التأويل، ولتردهم بمحكم القرآن إلى جادة الحق والصواب. وسيتعرّض المعتزلة فيما بعد خصوصا القاضي عبد الجبار لتأويل هذه الآيات التي وردت في المسيح وردها إلى المجاز اعتمادا على هذه الآية الأخيرة. ويؤكد ما نذهب إليه من اعتبار هذه الحادثة سببا لنزول آية المحكم والمتشابه أن الآيات الثلاث كلها في
سورة آل عمران وهي مدنية باتفاق. وعلى هذا يتفق سبب النزول مع السياق ومع وجود الرسول بالمدينة، وبداية الحوار والجدل مع أهل الكتاب من النصارى واليهود على السواء.(1/142)
وتبدو هذه الرواية أقرب إلى معنى الآية وإلى سياقها، فالتعبير القرآني في وصف عيسى بأنه {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} (آل عمران / 45) كان كفيلا بأن يتخذه النصارى دليلا لهم من وجهة نظرهم يحاجون به النبي، ومن ثم نزلت هذه الآية تقرّعهم على تمسكهم بما يحتمل التأويل. ثم نزلت الآية الأخرى {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران / 59) لتفسر لهم ما تشابه عليهم بلفظ واضح صريح لا يحتمل اللبس أو التأويل، ولتردهم بمحكم القرآن إلى جادة الحق والصواب. وسيتعرّض المعتزلة فيما بعد خصوصا القاضي عبد الجبار لتأويل هذه الآيات التي وردت في المسيح وردها إلى المجاز اعتمادا على هذه الآية الأخيرة. ويؤكد ما نذهب إليه من اعتبار هذه الحادثة سببا لنزول آية المحكم والمتشابه أن الآيات الثلاث كلها في
سورة آل عمران وهي مدنية باتفاق. وعلى هذا يتفق سبب النزول مع السياق ومع وجود الرسول بالمدينة، وبداية الحوار والجدل مع أهل الكتاب من النصارى واليهود على السواء.
وإذا كانت الآية قد نزلت في مناسبة الحوار والجدل الذي أثاره النصارى في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم متأولين لبعض العبارات المجازية في القرآن تأويلا يريدون به أن يظهروا موافقة الرسول لهم في معتقدهم، فإن المفسرين قد رفعوها سلاحا في وجه «كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات» كما يقول قتادة (ت 117هـ) الذي يروي عنه الطبري أيضا أنه كان يقول حين يقرأ الآية «إن لم يكونوا الحرورية والسبائية فلا أدري من هم». ومعنى ذلك كله أن الآية صارت تفسّر على يد قتادة وابن عباس قبله كما أشرنا لمواجهة الجدل الديني للخوارج، والسبائية، واتهامهم بأنهم أصحاب الزيغ الذين يتبعون المتشابه.
ولعله من المفيد ما دامت قضية المحكم والمتشابه والتأويل قد ارتبطت بالنزاع السياسي ان نستعرض خلاف المفسرين حول أمرين يتصلان بهذه القضية: الأمر الأول الخلاف حول تعريف المحكم والمتشابه، الأمر الثاني الخلاف حول امكانية معرفة معنى المتشابه بما يترتب عليه من اعراب قوله تعالى {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ} وهل تعطف على ما قبلها، أم تقطع عمّا قبلها وتعتبر جملة مستأنفة؟ وذلك لما لهذا الخلاف من أهمية إذ ستتحول هذه القضية على يد المعتزلة إلى قانون عام يحكم من وجهة نظرهم مشكلة التأويل.
لا حاجة بنا لرواية ابن عباس عن جابر بن رئاب التي تعرّضنا لها منذ قليل لضعفها من جهة، ولأنها تعرّف المتشابه بناء على ما اعتبرته سببا للنزول بأنه الحروف المقطعة في أوائل السور من جهة أخرى. ومن المنطقي أن تنفي هذه الرواية امكانية معرفة المتشابه، لأن مدة حكم محمد وأمته مما استأثر الله بعلمه، ولا طريق للعلم به، وبذلك يكون قوله {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ}
مقطوعا عمّا قبله، وكلاما مستأنفا.
ويروي الطبري رواية أخرى عن ابن عباس يعرّف بها المحكم بأنه «ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به» أمّا المتشابهات فهي «منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به» وتؤكّد هذه الرواية رواية أخرى يشير فيها ابن عباس إلى آيات الأحكام في سورة الأنعام على أساس أنها هي الآيات المحكمة وهي «الثلاث الآيات من هاهنا: {قُلْ تَعََالَوْا
أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى ثلاث آيات والتي في «بني اسرائيل»: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ} إلى آخر الآيات» ومعنى ذلك أن المحكم عند ابن عباس هو الآيات التي يؤمن بها ويعمل بها، وهي آيات الأحكام التي تحدد الحلال والحرام، أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي. أمّا المتشابهات فهي تلك الآيات التي يؤمن بها ولا يعمل بها، أو هي التي لا تتصل بالتشريع، سواء أكانت منسوخة عن حكمها وبقيت في رسم المصحف للتلاوة فقط، أو كانت من غير آيات الأحكام أصلا. ويدخل ابن عباس في المتشابهات المقدم والمؤخر، والأمثال والقسم وكلها ظواهر أسلوبية ستدخل في المجاز عند أبي عبيدة وعند الفراء وعند الجاحظ وابن قتيبة. وسيصبح المجاز كله وسيلة للتأويل عند القاضي عبد الجبار كما سنرى بعد ذلك.(1/143)
ويروي الطبري رواية أخرى عن ابن عباس يعرّف بها المحكم بأنه «ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به» أمّا المتشابهات فهي «منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به» وتؤكّد هذه الرواية رواية أخرى يشير فيها ابن عباس إلى آيات الأحكام في سورة الأنعام على أساس أنها هي الآيات المحكمة وهي «الثلاث الآيات من هاهنا: {قُلْ تَعََالَوْا
أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى ثلاث آيات والتي في «بني اسرائيل»: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ} إلى آخر الآيات» ومعنى ذلك أن المحكم عند ابن عباس هو الآيات التي يؤمن بها ويعمل بها، وهي آيات الأحكام التي تحدد الحلال والحرام، أو بمعنى آخر هي آيات التشريع العملي. أمّا المتشابهات فهي تلك الآيات التي يؤمن بها ولا يعمل بها، أو هي التي لا تتصل بالتشريع، سواء أكانت منسوخة عن حكمها وبقيت في رسم المصحف للتلاوة فقط، أو كانت من غير آيات الأحكام أصلا. ويدخل ابن عباس في المتشابهات المقدم والمؤخر، والأمثال والقسم وكلها ظواهر أسلوبية ستدخل في المجاز عند أبي عبيدة وعند الفراء وعند الجاحظ وابن قتيبة. وسيصبح المجاز كله وسيلة للتأويل عند القاضي عبد الجبار كما سنرى بعد ذلك.
وإذا كان ابن عباس قد فرّق هذه التفرقة بين المحكم والمتشابه فمن الطبيعي أن يقول عن نفسه بعد ذلك «أنا ممن يعلم تأويله». وفي هذا الاطار يمكن أن نفهم ما قاله عن الخوارج حين سئل عنهم «وما يلفون عند القرآن فقال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه» بمعنى أنهم يقيمون أحكامه وحدوده وفرائضه، ولكنهم لا يعرفون منسوخه ولا تأويله.
ويختلف مجاهد تلميذ ابن عباس وراوي تفسيره عن أستاذه في تعريف المتشابه، وإن اتفق معه في تعريف المحكم، فالمحكم عنده كما هو عند ابن عباس «ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو «متشابه» يصدق بعضه بعضا، وهو مثل قوله {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} ومثل قوله: {كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ،} ومثل قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ»}. وتحتاج هذه الآيات التي استشهد بها مجاهد وقفة حتى نستطيع أن نفهم دلالة هذا الاستشهاد. واللافت للنظر أن هذه الآيات الثلاث جميعا يعدّها المعتزلة من المتشابه وقد تعرّض لها القاضي عبد الجبار في كتابيه «متشابه القرآن» و «تنزيه القرآن عن المطاعن». وهذه الآيات يوهم ظاهرها أن الله هو الذي يضلّ الفاسقين ويجعل الرجس ويهدي المهتدي. ومعنى ذلك أن تعريف مجاهد للمتشابهات بهذا الاستشهاد يدخلنا إلى جو التأويل الاعتزالي للمتشابهات. وليس الأمر غريبا على أي حال فمجاهد (ت 104هـ) كان معاصرا للحسن البصري (ت 110هـ) صاحب رسالة في القدر أشرنا إليها سالفا.
ويستشهد الحسن البصري في هذه الرسالة بآيتين من الآيات الثلاث التي استشهد بها مجاهد وذلك حيث يقول: «وذلك أن الله تعالى جعل فيهم من القدرة ما
يتقدمون بها ويتأخرون، وابتلاهم لينظر كيف يعملون، وليبلو أخبارهم فلو كان الأمر كما يذهب إليه المخطئون لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخروا، ولما كان لمتقدم أجر فيما عمل ولا متأخر لوم فيما لم يعمل، لأن ذلك بزعمهم ليس منهم ولا إليهم ولكنه من عمل ربهم. واذن لما قال: {وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ،} {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ}.(1/144)
ويستشهد الحسن البصري في هذه الرسالة بآيتين من الآيات الثلاث التي استشهد بها مجاهد وذلك حيث يقول: «وذلك أن الله تعالى جعل فيهم من القدرة ما
يتقدمون بها ويتأخرون، وابتلاهم لينظر كيف يعملون، وليبلو أخبارهم فلو كان الأمر كما يذهب إليه المخطئون لما كان إليهم أن يتقدّموا ولا يتأخروا، ولما كان لمتقدم أجر فيما عمل ولا متأخر لوم فيما لم يعمل، لأن ذلك بزعمهم ليس منهم ولا إليهم ولكنه من عمل ربهم. واذن لما قال: {وَيُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ،} {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ}.
وإذا كان الحسن البصري يستشهد بهذه الآية على تعلق فعل الانسان به وقدرته عليه ومسئوليته عنه، فإن الآية الثانية التي اعتبرها مجاهد من المتشابهات، يعدّها الحسن البصري أيضا من المتشابهات وإن لم ينص على ذلك، ولكن تأويله لها ينبئ عن أنها كانت سلاحا في يد القائلين بالجبر يشهرونه في وجه المعتزلة.
يقول «ومما يجادلون فيه قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ، كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام / 125) فتأوّلوا بجهلهم، على أن الله تعالى، خصّ قوما بشرح الصدور بغير عمل صالح قدموه، وقوما بضيق الصدور يعني القلوب، بغير كفر كان منهم ولا فسق ولا ضلال، ولا لهؤلاء سبيل إلى ما كلفهم من الطاعة، وهم مخلدون في النار طول الأبد، وليس ذلك يا أمير المؤمنين، كما ذهب إليه الجاهلون والمخطئون. ربنا أرحم وأعدل وأكرم من أن يفعل ذلك بعباده». ويعود الحسن ليؤول الآية من وجهة نظره قائلا: «وإنما ذكر الله، يا أمير المؤمنين، الشرح والضيق في كتابه، رحمة منه لعباده، وترغيبا منه لهم في الأعمال التي يستوجبون بها، في حكمته، أن يشرح صدورهم، وتزهيدا منه لهم في الأعمال التي يستوجبون بها، في حكمته، تضييق الصدور، ولم يذكر لهم ليقطع رجاءهم، ولا ليؤيسهم من رحمته وفضله، ولا ليقطعهم عن عفوه ومغفرته وكرمه، إذا هم صلحوا».
وإذن فلم يكن مجاهد بعيدا عن جو الجدل العقائدي، والخلاف حول القدر، وحول الحرية والجبر، وما يحكى عن نزعته العقلية، وما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الشعبية بالدرس والفحص، والانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان وشهادة» كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم، على الأقل في هذا النزوع العقلي، والرغبة في التثبت، حتى ليعدّه جولد تسيهر سابقا على المعتزلة في تأويلاته العقلية ورائدا لهم في مسائل متفرقة «ولكن فضل المعتزلة ينحصر في أنهم
جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالّة على التشبيه».(1/145)
وإذن فلم يكن مجاهد بعيدا عن جو الجدل العقائدي، والخلاف حول القدر، وحول الحرية والجبر، وما يحكى عن نزعته العقلية، وما نسب إليه «من الميل إلى تتبع التصورات الشعبية بالدرس والفحص، والانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرا لها عن عيان وشهادة» كل ذلك يقرّبه من المعتزلة أكثر مما يباعده عنهم، على الأقل في هذا النزوع العقلي، والرغبة في التثبت، حتى ليعدّه جولد تسيهر سابقا على المعتزلة في تأويلاته العقلية ورائدا لهم في مسائل متفرقة «ولكن فضل المعتزلة ينحصر في أنهم
جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات القرآنية الدالّة على التشبيه».
وإذا كان مجاهد قد عرّف المتشابهات بايراد بعض الآيات المتشابهة، فإن مفسرا آخر هو محمد بن جعفر بن الزبير يعرّف المحكم والمتشابه تعريفا نظريا مجردا يشير فيه دون أن يصرّح لمفهوم الغموض في المتشابه. يقول معرّفا المحكمات بأن «فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عمّا وضعت له» أمّا المتشابهات فهي متشابهات «في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل. ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق». وهذه التفرقة إلى جانب اثارتها لمشكلة الوضوح والغموض تقترب كثيرا من مفهوم المعتزلة من جانبين: الجانب الأول أن المتشابه هو ما يحتاج لتأويل أو تصريف عمّا وضع له في أصل اللغة، وهنا يرتبط التأويل بالمجاز ربطا واضحا.) أمّا الجانب الثاني فهو أن محمد بن جعفر بن الزبير يلمح الغاية وراء ايراد المتشابه. ويحددها بأنه الابتلاء والامتحان والاختبار.
وهي فكرة سيتوسع فيها القاضي عبد الجبار بعد ذلك ويربطها بفكرة التكليف العقلي السابقة على التكليف الشرعي.
وإذا كان ابن عباس في الرواية التي قبلناها عنه قال عن نفسه «أنا ممن يعلم تأويله»، فقد ذهب مجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير إلى أن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه.
أمّا الرواية الأخرى عن ابن عباس، وهي الرواية التي فسّرت المتشابه على أنه الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد فسّرت التأويل على أنه «المتأول» أو العاقبة وقال: «وما يعلم تأويله إلّا الله»، يعني تأويله يوم القيامة «إلّا الله» ومعنى ذلك أن التأويل هنا بمعنى العاقبة، وهو ما يذهب إليه السدى ايضا، ولكن على أنهم «إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الاسلام قبل مجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك». وبناء على هذا التعريف يذهب كل من ابن عباس والرواية ضعيفة عنه والسدى وهشام بن عروة، وأبو نهيك الأسدي وعمر بن عبد العزيز، والامام مالك، ويضيف الطبري اليهم روايات عن السيدة عائشة. يذهبون جميعا إلى أن «الراسخون في العلم» مقطوع عمّا قبله، وأنه كلام مستأنف، وبذلك يكون «الراسخون في العلم» لا يعلمون معنى المتشابه. والطبري نفسه يأخذ جانب هذه الروايات في كل جوانبها، أعني في سبب النزول ومعنى المتشابه والتأويل واعراب الآية على القطع لا العطف.(1/146)
2 - التأويل عند الحسن البصري ومقاتل بن سليمان
وتعدّ رسالة الحسن البصري «في القدر» أقدم ما تحت أيدينا من وثائق الخلاف العقائدي، وما ارتبط به من التأويل بهدف اثبات فكرة معينة، وهي مسئولية الانسان عن فعله، ونفي مسئولية الله عن أفعال البشر. ومنهج الرسالة، وأسلوبها الجدلي يعدّان بذورا طبيعية لنهج الفكر الاعتزالي وأسلوبه حتى عصر القاضي عبد الجبار، باستثناء خلو رسالة الحسن من أي أثر لمنطقية التفكير، واتساع الفكرة وتشعبها. ولا يخفي أسلوب الرسالة البسيط تلك النزعة الجدلية في صورتها الباكرة، والتي أصبحت فيما بعد سمة غالبة على المصنفات الاعتزالية. أمّا منهج الرسالة فهو تقرير الفكرة أولا «فإن الله تبارك وتعالى يقول، وقوله الحق:
{وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ مََا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمََا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فأمرهم الله بعبادته التي لها خلقهم، ولم يكن ليخلقهم لأمر ثم يحول بينهم وبينه، لأنه تعالى ليس {بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ»} ثم يسهب الحسن في ايراد آيات قرآنية كثيرة تدلل على صحة مذهبه. وكلها آيات سيتعرض لها المعتزلة فيما بعد. ثم ينتقل الحسن بعد ذلك للآية التي كان يستشهد بها الخصوم والتي تعرّضنا لها فيما سبق ويحاول تأويلها تأويلا يردها إلى الآيات التي تثبت فكرته. لا يشير الحسن بالطبع إلى «محكم» أو «متشابه» أو «مجاز» وهذا أمر طبيعي، فلم تكن المصطلحات قد صار لها كما أصبح لها عند المتأخرين هذا الوزن والتقدير.
والذي تجدر الاشارة إليه أن الحسن حين يؤول الآية التي استشهد بها الخصوم، يفسّر «الشرح» على أنه ثواب على طاعة العبد، و «التضييق» عقاب على كفره. ولعل الحسن بهذا التفسير وضع البذرة الأولى لفكرة «اللطف» الذي يمنحه الله لمن يعلم أنه يختار الايمان، ولذلك يجوّز الحسن ووراءه المعتزلة أن ينسب الهدى والايمان لله دون أن يؤدي ذلك إلى الجبر، وذلك على أساس أن الله يلطف بالعبد، أو يمنحه لطفا، يكون عنده أقرب إلى اختيار الايمان. فنسبة الايمان والحال هذه لله نسبة صحيحة، بعكس نسبة الكفر أو الاضلال إليه سبحانه.
يؤكّد ذلك أن الحسن يجعل الآية كلها رحمة من الله للعباد، وترغيبا لا ايئاس وقطع رجاء. ولا يخرج الزمخشري في تفسيره للآية عن هذا التفسير الذي يقوله الحسن، غير أنه يستخدم مصطلحات الفكر الاعتزالي الناضج. يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف «يشرح صدره للاسلام» يلطف به حتى يرغب في الاسلام وتسكن إليه نفسه ويجب
الدخول فيه {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الايمان».(1/147)
يؤكّد ذلك أن الحسن يجعل الآية كلها رحمة من الله للعباد، وترغيبا لا ايئاس وقطع رجاء. ولا يخرج الزمخشري في تفسيره للآية عن هذا التفسير الذي يقوله الحسن، غير أنه يستخدم مصطلحات الفكر الاعتزالي الناضج. يقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف «يشرح صدره للاسلام» يلطف به حتى يرغب في الاسلام وتسكن إليه نفسه ويجب
الدخول فيه {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الايمان».
وهكذا تفسر الآية كلها بفكرة «اللطف» الالهية. والرسالة في النهاية تؤكد ما سبق أن أشرنا اليه في الفصل الأول من أن قضية العدل كانت هي القضية الأساسية، ولب نشأة الفكر الاعتزالي. وهي من ناحية أخرى تفرّق بين ما هو دليل بظاهره، وما يحتاج للتأويل من الآيات. ولكن الحسن لم يستخدم مصطلحات «المحكم والمتشابه» أو «التأويل» أو «المجاز» ولم يكن ذلك متوقعا في ذلك العصر على أي حال.
وإذا كان الفكر الاعتزالي لم يصلنا منه في هذه الفترة الباكرة سوى رسالة الحسن الصغيرة، فقد وصلنا من نقيض الفكر الاعتزالي المجسمة أو المشبهة كتاب كامل هو «الأشباه والنظائر في القرآن الكريم» لمقاتل بن سليمان. وإذا كنا في الفصل السابق قد تعرّضنا لهذا الكتاب من زاوية دلالته على الاحساس بوجود وجوه من المعاني للفظ الواحد في السياقات المختلفة وأشرنا إلى أنها فكرة تعدّ مقدمة طبيعية للمجاز، فإننا في هذا الفصل نودّ أن ننظر للكتاب من زاوية أخرى، هي زاوية علاقته بمبحث المحكم والمتشابه وقضية التأويل. والزاويتان ليستا منفصلتين على أي حال، فهما على الأقل عند المعتزلة وجهان لعملة واحدة هي ضرورة اتفاق الشرع والعقل ورفع التناقض بينهما. والسؤال الآن حول علاقة «المحكم والمتشابه» و «الأشباه والنظائر» هل يشيران إلى مدلول واحد؟.
يشير المؤرخون لمقاتل إلى أسماء مصنفات له مثل «متشابه القرآن» و «الآيات المتشابهات» يرجح محقق «الأشباه والنظائر» أن يكون الكتاب الذي حققه هو «الآيات المتشابهات»، فيكون الكتاب واحدا واسمه متعدد» وأغلب الظن أن هذه الكتب إن صحّت نسبتها إلى مقاتل لم تعن بالمتشابهات بالمعنى الاصطلاحي عند المعتزلة، بل هي أقرب إلى أن تكون في الرد على شك الشاكين في القرآن والطاعنين عليه، والزاعمين وجود التناقض فيه. وبذلك يكون معنى «المتشابه» أقرب للدلالة اللغوية، بمعنى المشكل، ولا يبعد حينئذ أن يكون «الأشباه والنظائر» أحد هذه الكتب التي عنت بالمتشابه في هذه المرحلة. يؤكد ما نذهب إليه أن مقاتلا حين يتعرّض لآية المحكم والمتشابه (آل عمران / 7) في سياق عرضه لوجوه كلمة «تأويل» في القرآن يردد رواية ابن عباس التي ترى أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور، ويكون معنى التأويل هو «المتأول» وتنتفي امكانية
معرفة المتشابه على هذا التفسير. ومقاتل يضع هذا التفسير في الوجه الأول لكلمة «تأويل». يقول: «تأويله: يعني منتهى كم يملك محمد وأمته، فذلك قوله في آل عمران: {ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ} يعني منتهى كم يملك محمد وأمته، وذلك أن اليهود أرادوا أن يعلموا من قبل حساب الجمل كم يملك محمد وأمته ثم ينقضي ملكه ويرجع الملك إلى اليهود، قال الله {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} يعني وما يعلم تأويل كم يملك محمد وأمته إلّا الله، لا يعلم ذلك إلّا الله بأنهم يملكون إلى يوم القيامة ولا يرجع الملك إلى اليهود» وهذا التفسير ينفي وعي مقاتل بالمعنى الاصطلاحي للمحكم والمتشابه، وإن كان لا ينفي وعيه بمصطلح التأويل الذي يحدد وجوهه الأخرى في القرآن.(1/148)
يشير المؤرخون لمقاتل إلى أسماء مصنفات له مثل «متشابه القرآن» و «الآيات المتشابهات» يرجح محقق «الأشباه والنظائر» أن يكون الكتاب الذي حققه هو «الآيات المتشابهات»، فيكون الكتاب واحدا واسمه متعدد» وأغلب الظن أن هذه الكتب إن صحّت نسبتها إلى مقاتل لم تعن بالمتشابهات بالمعنى الاصطلاحي عند المعتزلة، بل هي أقرب إلى أن تكون في الرد على شك الشاكين في القرآن والطاعنين عليه، والزاعمين وجود التناقض فيه. وبذلك يكون معنى «المتشابه» أقرب للدلالة اللغوية، بمعنى المشكل، ولا يبعد حينئذ أن يكون «الأشباه والنظائر» أحد هذه الكتب التي عنت بالمتشابه في هذه المرحلة. يؤكد ما نذهب إليه أن مقاتلا حين يتعرّض لآية المحكم والمتشابه (آل عمران / 7) في سياق عرضه لوجوه كلمة «تأويل» في القرآن يردد رواية ابن عباس التي ترى أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور، ويكون معنى التأويل هو «المتأول» وتنتفي امكانية
معرفة المتشابه على هذا التفسير. ومقاتل يضع هذا التفسير في الوجه الأول لكلمة «تأويل». يقول: «تأويله: يعني منتهى كم يملك محمد وأمته، فذلك قوله في آل عمران: {ابْتِغََاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغََاءَ تَأْوِيلِهِ} يعني منتهى كم يملك محمد وأمته، وذلك أن اليهود أرادوا أن يعلموا من قبل حساب الجمل كم يملك محمد وأمته ثم ينقضي ملكه ويرجع الملك إلى اليهود، قال الله {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} يعني وما يعلم تأويل كم يملك محمد وأمته إلّا الله، لا يعلم ذلك إلّا الله بأنهم يملكون إلى يوم القيامة ولا يرجع الملك إلى اليهود» وهذا التفسير ينفي وعي مقاتل بالمعنى الاصطلاحي للمحكم والمتشابه، وإن كان لا ينفي وعيه بمصطلح التأويل الذي يحدد وجوهه الأخرى في القرآن.
أمّا الوجه الثاني لكتاب مقاتل والذي يهمنا الحديث عنه لاتصاله المباشر بموضوع الدراسة فهو ما أثير عنه من القول بالتجسيد والارجاء وهما فكرتان تصدّى المعتزلة لابطالهما بكافة الوسائل ابتداء بالتدليل العقلي وانتهاء بتأويل النصوص التي يوهم ظاهرها التجسيد أو الارجاء. وإذا كان الأشاعرة وهم تلاميذ المعتزلة لم يختلفوا مع المعتزلة فيما ذهبوا إليه من التنزيه وتأويل النصوص التي توهم مشابهة الله لخلقه، وهم بذلك لا يعدّون خصوما للمعتزلة في قضية التوحيد، باستثناء خلافهم حول رؤية الله عز وجل. إذا كان الأشاعرة كذلك، فإن المجسّدة والظاهرية يعدّون خصوصا للمعتزلة في هذا الجانب. ومن هنا تنبع أهمية الوقفة مع آيات الصفات لنرى كيف يفسّرها مقاتل.
يتعرّض مقاتل لكلمة «يد» ووجوهها المختلفة في القرآن، ويرى أنها على ثلاثة وجوه «فوجه منها: اليد يعينها، فذلك قوله في «ص» لابليس {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يعني بيدي الرحمن تبارك وتعالى، خلق آدم بيده التي بها قبض السموات والأرض، يعني اليد بعينها وقال في المائدة: {بَلْ يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ}
يعني اليد بعينها وقال لموسى عليه السلام: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذََا هِيَ بَيْضََاءُ لِلنََّاظِرِينَ}
يعني اليد بعينها» واشارته إلى أن «اليد» المقصود بها «اليد بعينها» معناه أنه يفسّر اليد تفسيرا حرفيا بمعناها الأصلي وهو الجارحة المعروفة. ثم وضعه للآية التي يتحدث القرآن فيها عن يد موسى في وجه واحد مع الآيات التي تتحدث عن يد الله يؤكد النزعة الحسية ولا أقول التجسيدية للتفسير عند مقاتل.
وحين يتعرّض مقاتل لليد في آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ} يعتبر ذلك مثلا ويضع الآية في الوجه الثاني «فهو مثل ضربه لليد في أمر النفقة فذلك قوله في بني اسرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً
إِلى ََ عُنُقِكَ} يقول لا تمسك يدك من النفقة بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه فلا يستطيع بسطها، وكقوله في المائدة {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} قالوا أمسك الله يده عن النفقة علينا فلا يوسع في الرزق، كما فعل لهم في زمان بني اسرائيل فهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى». وهنا لا يجد مقاتل لليد معنى سوى أنها مثل، وبذلك يلتقي التأويل والمصطلح البلاغي. وواضح أن كلمة «مثل» لا تشير إلى اليد وحدها، بقدر ما تشير إلى الصورة الكلية، صورة اليد المغلولة إلى العنق تعبيرا حسيا عن الامساك في النفقة.(1/149)
وحين يتعرّض مقاتل لليد في آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ} يعتبر ذلك مثلا ويضع الآية في الوجه الثاني «فهو مثل ضربه لليد في أمر النفقة فذلك قوله في بني اسرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً
إِلى ََ عُنُقِكَ} يقول لا تمسك يدك من النفقة بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه فلا يستطيع بسطها، وكقوله في المائدة {وَقََالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} قالوا أمسك الله يده عن النفقة علينا فلا يوسع في الرزق، كما فعل لهم في زمان بني اسرائيل فهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى». وهنا لا يجد مقاتل لليد معنى سوى أنها مثل، وبذلك يلتقي التأويل والمصطلح البلاغي. وواضح أن كلمة «مثل» لا تشير إلى اليد وحدها، بقدر ما تشير إلى الصورة الكلية، صورة اليد المغلولة إلى العنق تعبيرا حسيا عن الامساك في النفقة.
وفي مادة «فوق» يضع مقاتل قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} في الوجه الثاني من وجوه «فوق» يعني أفضل، فذلك قوله في الفتح {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}
يقول فعل الله بهم الخير أفضل من فعلهم في أمر البيعة يوم الحديبية» وهو هنا في تفسيره العام للآية يفسر «اليد» بأنها «الفعل» ويؤكد ذلك بوضع هذه الآية نفسها في الوجه الثالث من وجوه «اليد» «والوجه الثالث: يد: يعني فعل. فذلك قوله في يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً،} وقال في الفتح:
{يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يعني فعل الله بهم الخير أفضل من فعلهم في أمر البيعة يوم الحديبية. وقال في يس: {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يعني لم يكن ذلك من فعلهم. وقال في الحج: {ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ} يعني بفعلك» وإذا كان هذا المعنى ينطبق على العبارات «عملت أيدينا» و «قدمت يداك» و «عملته أيديهم» لوجود الفعل «عمل» في اثنتين منهما والفعل «قدم» في ثالثتهما، فإنه لا يمكن أن ينطبق على قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لا بتركيبها ولا في سياقها ومناسبة نزولها. فلم يكن الله عز وجل في معرض المنّ على المبايعين، بل كان في معرض الثناء عليهم {إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.} ولقد أدرك الزمخشري سياق الآية وطبيعتها التصويرية حين فسّر الآية «على طريق التخييل فقال {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطََاعَ اللََّهَ} واستخدام الزمخشري لكلمة «تخييل» يثير حساسية مفسّر كابن المنير السني وإن كان لا يعترض على التأويل، ولكنه يفضل على «التخييل» كلمة «مثل» بقوله: «كلام حسن بعد اسقاط لفظ التخييل وابداله بالتمثيل» ولا يمكن تفسير حساسية ابن المنير إزاء لفظ «التخييل» إلّا بما سبق أن اسلفناه من أن استخدام لفظ «مثل» في القرآن أعطاه شرعية لدى المفسرين عموما لم يتمتع بها أي
مصطلح بلاغي آخر، هذا إلى «جانب السمعة السيئة التي اكتسبتها كلمة تخييل» في تاريخ النقد العربي عامة.(1/150)
{يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يعني فعل الله بهم الخير أفضل من فعلهم في أمر البيعة يوم الحديبية. وقال في يس: {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يعني لم يكن ذلك من فعلهم. وقال في الحج: {ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ} يعني بفعلك» وإذا كان هذا المعنى ينطبق على العبارات «عملت أيدينا» و «قدمت يداك» و «عملته أيديهم» لوجود الفعل «عمل» في اثنتين منهما والفعل «قدم» في ثالثتهما، فإنه لا يمكن أن ينطبق على قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لا بتركيبها ولا في سياقها ومناسبة نزولها. فلم يكن الله عز وجل في معرض المنّ على المبايعين، بل كان في معرض الثناء عليهم {إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.} ولقد أدرك الزمخشري سياق الآية وطبيعتها التصويرية حين فسّر الآية «على طريق التخييل فقال {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطََاعَ اللََّهَ} واستخدام الزمخشري لكلمة «تخييل» يثير حساسية مفسّر كابن المنير السني وإن كان لا يعترض على التأويل، ولكنه يفضل على «التخييل» كلمة «مثل» بقوله: «كلام حسن بعد اسقاط لفظ التخييل وابداله بالتمثيل» ولا يمكن تفسير حساسية ابن المنير إزاء لفظ «التخييل» إلّا بما سبق أن اسلفناه من أن استخدام لفظ «مثل» في القرآن أعطاه شرعية لدى المفسرين عموما لم يتمتع بها أي
مصطلح بلاغي آخر، هذا إلى «جانب السمعة السيئة التي اكتسبتها كلمة تخييل» في تاريخ النقد العربي عامة.
ومما يتصل بقضية التوحيد نفي المكان عن الله، ويبدو مقاتل في هذه الناحية أقرب للتأويل وأبعد عن التجسيد أو التشبيه، ففي الوجه التاسع من وجوه «فوق» يقول: «فوق يعني في السلطان والقهر، فذلك قوله في الأنعام: {وَهُوَ الْقََاهِرُ فَوْقَ عِبََادِهِ} يعني سلطانه فوق سلطان العباد وملكه وأمره. وحكى في الأعراف قول فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنََاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسََاءَهُمْ وَإِنََّا فَوْقَهُمْ قََاهِرُونَ} يعني سلطاني وأمري فوق سلطانهم، قاهرهم بذلك بالسلطان والملك»، وهذا التأويل للفوقية لا يختلف عن تأويل الزمخشري، بل يكاد الزمخشري يردد نفس ألفاظ مقاتل ويستشهد بنفس الآية: «يقول: {فَوْقَ عِبََادِهِ} تصوير للقهر والعلو بالغلبة والقدرة كقوله وإنّا فوقهم قاهرون» والزمخشري هنا يستخدم كلمة «تصوير» كما استخدم في الآية السابقة كلمة «تخييل» وغني عن البيان صلة كلتا الكلمتين بالمجاز بمعناه العام الشامل.
وإذا كان المعتزلة ينفون نفيا قاطعا امكانية رؤية الله عز وجل، على أساس أن الرؤية لا تجوز إلّا على الأجسام المتحيزة في المكان والقائمة في جهة، وبذلك يذهبون إلى نفي الرؤية في الدنيا والآخرة على السواء، فإن مقاتل يذهب إلى جواز الرؤية والنظر إلى وجه الله. ويذهب إلى أن الرؤية لا تجوز في الدنيا، وأنها لا تحدث إلا في الآخرة. ولا يعرض مقاتل لهذه القضية بشكل مباشر، بل يتعرّض لها في ثنايا حديثه عن وجوه لألفاظ بعيدة بمادتها عن قضية الرؤية. ففي معنى أو وجوه كلمة «الحسنى» يرى أنها في الوجه الأول تعني الجنة «فذلك قوله في يونس:
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ} يعني الذين وجدوا لهم الحسنى يعني الجنة (وزيادة) يعني النظر إلى وجه الله». ويعود لنفس القضية في مادة «أول». يقول: «والوجه الثالث: أول يعني أول المؤمنين بأن الله لا يرى في الدنيا. فذلك قوله في الأعراف:
{قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قََالَ لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً، فَلَمََّا أَفََاقَ قََالَ سُبْحََانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يقول أنا أول المصدّقين بأنك لن ترى في الدنيا» وجدير بالذكر أن الآية الأولى «الحسنى» سيسهل على المعتزلة رفض تأويلها على هذا المعنى الذي ذهب إليه مقاتل، بينما سيضطربون في الآية الثانية اضطرابا شديدا كما سنعرض له في مكانه.
يتعرّض مقاتل في مادة «العلم» لعلم الله ويؤوله على ثلاثة وجوه «فوجه
منها: يعلم: يعني يرى فذلك قوله في سورة محمد صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ} يعني حتى نرى المجاهدين منكم وقد علم الله من يجاهد منهم قبل أن يجاهد ولكنه يعني نرى، ومن لم يجاهد فإن الله لم ير جهاده حتى يجاهد، وقد علم أنه سيفعل وقال في آل عمران: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} عند البلاء يرى صبرهم، وقال في براءة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ} يعني ولم ير الله {الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ} ونحوه كثير.(1/151)
يتعرّض مقاتل في مادة «العلم» لعلم الله ويؤوله على ثلاثة وجوه «فوجه
منها: يعلم: يعني يرى فذلك قوله في سورة محمد صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ} يعني حتى نرى المجاهدين منكم وقد علم الله من يجاهد منهم قبل أن يجاهد ولكنه يعني نرى، ومن لم يجاهد فإن الله لم ير جهاده حتى يجاهد، وقد علم أنه سيفعل وقال في آل عمران: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} عند البلاء يرى صبرهم، وقال في براءة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ} يعني ولم ير الله {الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ} ونحوه كثير.
والوجه الثاني: العلم بعينه، فذلك قوله: {يَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ}
و {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مََا تَكْتُمُونَ} فهذا العلم بعينه يعلم ما كان قبل الخلق وما يكون.
والوجه الثالث: علم: إذن: فذلك قوله في هود: فقل {أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ}
يعني باذن (الله) وفي كل هذه الوجوه يحاول مقاتل أن ينفي أولا حدوث علم الله، ثانيا أن لله علما غير ذاته. وهو في محاولته لنفي حدوث علم الله، يفرق بين العلم والرؤية، وإذا كانت رأى بمعنى علم جائزة في اللغة، فإن علم بمعنى رأى تظل محاولة تأويلية من مقاتل لا سند لها من اللغة. والمشكلة سيعرض لها أبو عبيدة والفراء والمعتزلة جميعا بعد ذلك ولهم فيها تأويل يقترب إلى حد كبير من روح النص القرآني. أمّا تأويل العلم في الوجه الثالث بأنه الاذن فهو تأويل يمكن أن يكون سائغا.
وبنفس الطريقة التي ينفي بها مقاتل حدوث علم الله، يحاول أن ينفي عن الله صفة النسيان الواردة في القرآن الكريم وذلك على أساس أن النسيان صفة من صفات النقص التي تلحق بالبشر، ولذلك يجعل الوجه الأول من وجهي «النسيان» هو الترك «فذلك قوله في طه: {وَلَقَدْ عَهِدْنََا إِلى ََ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} فترك العهد، كقوله في تنزيل السجدة: {فَذُوقُوا بِمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} يقول بما تركتم الايمان بلقاء يومكم هذا {إِنََّا نَسِينََاكُمْ} يقول: إنا تركناكم في العذاب، وقال في البقرة: {وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} يقول لا تتركوا الفضل بينكم، وقال أيضا {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا} يعني أو نتركها فلا ننسخها» وواضح أن مقاتلا يقرأ الآية الاخيرة على فتح النون لا على ضمها كما هي القراءة المشهورة، لكن الآية لا تثير اشكالا على أي حال ما دام معنى النسيان هو الترك. غير أن تفسير مقاتل للنسيان في الآيات الأخرى بأنه الترك يوحي بأنه يعتقد أن «النسيان» بمعنى «الترك» حقيقي لا مجازي وذلك قد ينفي عن تفسيره للنسيان في حق الله صفة التأويل.(1/152)
وكل ما قدمناه من تفسير مقاتل لآيات الصفات يكاد يقترب به من ظاهرية أهل السنة ويبتعد به عن المجسدة والمشبهة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة. وبذلك نكاد نتفق مع محقق الكتاب فيما قال بعد أن استعرض ما قاله مؤرخو الفرق عن مقاتل «والظاهرة الجديرة بالملاحظة أن تفسير مقاتل، وكتبه الباقية للآن، قد خلت خلوّا تاما من القول باللحم والدم المنسوب إليه في كتاب النحل، فإمّا أن يكون مقاتل قال ذلك في صدر حياته ثم عدل عنه، أو يكون خصومه تقولوه عليه، أو يكون القائل باللحم والدم مقاتل بن سليمان آخر، غير مقاتل بن سليمان المفسّر، كما ذكر ذلك السكسكي في برهانه، أو يكون رواة تفسير مقاتل هذبوه وحذفوا منه القول باللحم والدم، أو يكون مقاتل قال ذلك في علم الكلام، أو عند جداله مع جهم في الصفات ولم يقله في مؤلفاته».
أمّا ما ينسب لمقاتل من القول بالارجاء فمحقق الكتاب لا ينفيه عنه، وإن كان يعتبره من مرجئة السنة لا من مرجئة البدعة «وإذا قرأنا تفسير مقاتل أدركنا أنه ليس من مرجئة البدعة الذين يقولون لا تضرّ مع الايمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة، وفي تفسيره لبعض الآيات نشم رائحة الارجاء عند مقاتل، ولكن ليس ارجاء البدعة، بل هو ارجاء السنة أو أقرب الأشياء إلى ارجاء السنة» وإذا كان المعتزلة لا يفصلون في الايمان بين التصديق والعمل، ويعتبرون الايمان محصلة نهائية لامتزاجهما، ولا يعدّ التصديق ايمانا حتى يقارنه العمل، وهذه قضية خلافية بينهم وبين المرجئة بصفة خاصة، فإن مقاتل يذهب إلى أن الايمان هو التصديق.
ففي مادة «ايمان» يحدد لها أربعة وجوه كلها تدور حول معنى التصديق «فوجه منها:
الايمان الإقرار باللسان من غير تصديق الوجه الثاني: الايمان: يعني التصديق في السر والعلانية والوجه الثالث: الايمان يعني التوحيد الوجه الرابع:
الايمان: يعني ايمانا في شرك» وهي كلها وجوه تفصل بين الايمان والعمل.
ويؤكّد موقف مقاتل الارجائي رأيه في مرتكب الكبيرة، حيث يرى أنه لن يخلد في النار، بل لا بدّ من خروجه منها، ودخوله الجنة في نهاية المطاف. يقول في الوجه السابع من وجوه «ما» «ما يعني كما كقوله في هود: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} أي لأهل النار، ما داموا فيها أحياء، فأهل النار لا يموتون فيها أبدا والنار لا تنقطع عنهم أبدا إلّا ما شاء ربك لأهل التوحيد الذين أدخلوا النار فلا يدومون في النار معهم ولكن يخرجون إلى الجنة» ويتضح خلاف المرجئة والمعتزلة في تأويل الآية من قول القاضي عبد الجبار «وجوابنا أن للنار سماء وأرضا وكذلك الجنة ولا يفنيان فهذا هو المراد. وقد قيل إن المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول
زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر:(1/153)
ويؤكّد موقف مقاتل الارجائي رأيه في مرتكب الكبيرة، حيث يرى أنه لن يخلد في النار، بل لا بدّ من خروجه منها، ودخوله الجنة في نهاية المطاف. يقول في الوجه السابع من وجوه «ما» «ما يعني كما كقوله في هود: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} أي لأهل النار، ما داموا فيها أحياء، فأهل النار لا يموتون فيها أبدا والنار لا تنقطع عنهم أبدا إلّا ما شاء ربك لأهل التوحيد الذين أدخلوا النار فلا يدومون في النار معهم ولكن يخرجون إلى الجنة» ويتضح خلاف المرجئة والمعتزلة في تأويل الآية من قول القاضي عبد الجبار «وجوابنا أن للنار سماء وأرضا وكذلك الجنة ولا يفنيان فهذا هو المراد. وقد قيل إن المراد بذلك تبعيد خروجهم فعلقه تعالى بما يبعد في العقول
زواله على مذهب العرب في مثل قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب»
ومع ذلك كله فلا تكفي هذه التفسيرات لكي يعدّ مقاتل مرجئا، بالمعنى الذي ينكره المعتزلة، فهو لم يشر في الآية الأخيرة إلى إن كان المقصود بالاستثناء مرتكب الكبائر، أم المؤمن الذي يعذّب على بعض المعاصي الصغيرة. والمعتزلة أنفسهم لا يقولون بتخليد المؤمن العاصي في النار ما لم تكن معصيته من الكبائر.
وإذا أضفنا أن المعتزلة قد اعتبروا أن تحديد الكبائر مما لا علم لنا به، لأن الله أخفاه عنا لطفا منه بنا، حتى لا نواقع الصغائر خشية أن تكون كبائر. إذا ذكرنا هذا عند المعتزلة خصوصا القاضي عبد الجبار تميّعت الحدود بين الصغيرة والكبيرة.
وصار ارجاء مقاتل محل تساؤل كما كان وضعه في المشبهة والمجسدة محل تساؤل كذلك.
3 - التأويل عند أبي عبيدة والفراء
وإذا كان أبو عبيدة كما سبق أن أشرنا هو أول من سلط الضوء على كلمة «مجاز» لتصبح فيما بعد مصطلحا بلاغيا يضم في اهابه كل الوسائل التصويرية في اللغة، فإنه من جانب آخر قد أسهم اسهاما له أهميته في قضية التأويل.
وتتداخل مصطلحات المجاز والتشبيه والمثل مع التأويل عند أبي عبيدة، وتصبح هذه المصطلحات باعتبارها طرائق للتعبير وسيلة للتأويل لاخراج الآية عن ظاهرها الموهم بالتشبيه أو الظلم إلى معنى ينفي عنها هذا الايهام. وليس أبو عبيدة على أي حال بعيدا عن جو التأويل، فهو خارجي، والاتفاق بين الخوارج والمعتزلة في أصول كثيرة سبقت الاشارة إليه في التمهيد، لدرجة أنهم يتبادلون عبارات الثناء والاعجاب. يقول أبو عبيدة عن النظّام «ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل النظّام». ويردّ له الجاحظ تلميذ النظّام هذه المجاملة بقوله: «وممن كان يرى رأي الخوارج: أبو عبيدة معمر بن المثنى مولى تيم بن مرة، ولم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلم منه».
وعلى ذلك فمن الطبيعي أن يتوقف أبو عبيدة عند الآيات التي يوحي ظاهرها بمشابهة الله للبشر ليؤولها تأويلا يتفق مع التنزيه والتوحيد الذي آمن به كل من الخوارج والمعتزلة. فيكون مجاز قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} «إلّا هو» ويكون التعبير القرآني {فِي جَنْبِ اللََّهِ} وفي «ذات الله» واحد. ويكون
تأويل {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} إذا اشتدّ الحرب والأمر قيل: قد كشف الأمر عن ساق» وقوله {إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا} مجازه إلّا هو في قبضته وسلطانه» و {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أي أخذا وعقوبة واستدراجا لهم» و {يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ}
أي خير الله ممسك» ويكون قوله {إِنَّنِي مَعَكُمََا} «مجازه أعينكما» {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} «مجازه وعمدنا إلى ما عملوا» و {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}
يصبح معناها «هل يريد ربك» {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} مجازه: ما ظفرت ولا أصبت ولكن الله أيدك وأظفرك وأصاب بك ونصرك» و {إِنََّا نَسِينََاكُمْ} مجازه: إنّا تركناكم ولم ننظر إليكم ولكن الله عز وجل لا ينسى فيذهب الشيء من ذكره» و {يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} والمحاربة هاهنا: الكفر». أمّا قوله تعالى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا} مجازها: اذهب انت وربك فقاتل:(1/154)
وعلى ذلك فمن الطبيعي أن يتوقف أبو عبيدة عند الآيات التي يوحي ظاهرها بمشابهة الله للبشر ليؤولها تأويلا يتفق مع التنزيه والتوحيد الذي آمن به كل من الخوارج والمعتزلة. فيكون مجاز قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} «إلّا هو» ويكون التعبير القرآني {فِي جَنْبِ اللََّهِ} وفي «ذات الله» واحد. ويكون
تأويل {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} إذا اشتدّ الحرب والأمر قيل: قد كشف الأمر عن ساق» وقوله {إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا} مجازه إلّا هو في قبضته وسلطانه» و {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أي أخذا وعقوبة واستدراجا لهم» و {يَدُ اللََّهِ مَغْلُولَةٌ}
أي خير الله ممسك» ويكون قوله {إِنَّنِي مَعَكُمََا} «مجازه أعينكما» {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} «مجازه وعمدنا إلى ما عملوا» و {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}
يصبح معناها «هل يريد ربك» {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} مجازه: ما ظفرت ولا أصبت ولكن الله أيدك وأظفرك وأصاب بك ونصرك» و {إِنََّا نَسِينََاكُمْ} مجازه: إنّا تركناكم ولم ننظر إليكم ولكن الله عز وجل لا ينسى فيذهب الشيء من ذكره» و {يُحََارِبُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} والمحاربة هاهنا: الكفر». أمّا قوله تعالى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا} مجازها: اذهب انت وربك فقاتل:
وليقاتل ربك أي ليعنك ولا يذهب الله» و {شَاقُّوا اللََّهَ} مجازه: خانوا الله وجانبوا أمره ودينه وطاعته».
أمّا قوله تعالى {إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} مجازه إلّا لنميز» وكذلك قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} مجازه: فليميزن الله لأن الله قد علم ذلك من قبل».
وإذا كان أبو عبيدة يستخدم كلمة «مجاز» لتأويل كل هذه الآيات أو معظمها، وهي كلها آيات تتصل بنفي الجسمية من اليد والساق والحلول كما تنفي عن الله صفات البشر كالمكر والحركة الخ كل ذلك. فإنه يجمع بين المجاز والمثل والتشبيه في قوله تعالى: {فَأَتَى اللََّهُ بُنْيََانَهُمْ مِنَ الْقَوََاعِدِ} بقوله «مجاز المثل والتشبيه». هذا الربط بين التأويل والمصطلحات البلاغية يؤكد أنهما وجهان لعملة واحدة كما قلنا من قبل. ومن جهة أخرى فكل هذه الآيات التي تعرّض لها أبو عبيدة سيتناولها المعتزلة بالتفصيل، والتفصيل هو الفارق بين المتأخر والمتقدم وإن كان المنحى العام في التأويل يظلّ واحدا.
وكما أوّل أبو عبيدة آيات التشبيه، فإنه يحاول أن يؤول آيات الجبر أو ما يوهم إرادة الله للقبيح، ولذلك يحاول أن يؤول قوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} بقوله: «أي أكثرنا مترفيها، وهي من قولهم: قد أمر بنو فلان، أي كثروا، فخرج على تقدير قولهم علم فلان، وأعلمته» وهو بذلك ينفي أن يكون الله قد أمر المترفين بالفسق، كما هو ظاهر بالآية، بل ينفي أن يكون الفعل هو أمر، بل هو أمر متعد بالهمزة من أمر بنو فلان، إذا كثروا. وهذا التأويل سيستفيد منه المعتزلة بعد ذلك، وإن كانوا سيضيفون إليه احتمالات أخرى مثل
قول القاضي عبد الجبار «أنه أمرهم بالطاعة ففسقوا بالخروج عن ذلك» وهو تأويل آخر أخذوه عن الفراء كما سنوضح بعد قليل. فإذا انتقلنا إلى الزمخشري وجدناه يرفض هذا التأويل الثاني على أساس «أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض» وعلى هذا يبني الزمخشري تأويله للآية على المجاز «والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب ايلاء النعمة فيه، وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الاحسان والبر».(1/155)
وكما أوّل أبو عبيدة آيات التشبيه، فإنه يحاول أن يؤول آيات الجبر أو ما يوهم إرادة الله للقبيح، ولذلك يحاول أن يؤول قوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} بقوله: «أي أكثرنا مترفيها، وهي من قولهم: قد أمر بنو فلان، أي كثروا، فخرج على تقدير قولهم علم فلان، وأعلمته» وهو بذلك ينفي أن يكون الله قد أمر المترفين بالفسق، كما هو ظاهر بالآية، بل ينفي أن يكون الفعل هو أمر، بل هو أمر متعد بالهمزة من أمر بنو فلان، إذا كثروا. وهذا التأويل سيستفيد منه المعتزلة بعد ذلك، وإن كانوا سيضيفون إليه احتمالات أخرى مثل
قول القاضي عبد الجبار «أنه أمرهم بالطاعة ففسقوا بالخروج عن ذلك» وهو تأويل آخر أخذوه عن الفراء كما سنوضح بعد قليل. فإذا انتقلنا إلى الزمخشري وجدناه يرفض هذا التأويل الثاني على أساس «أن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض» وعلى هذا يبني الزمخشري تأويله للآية على المجاز «والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب ايلاء النعمة فيه، وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الاحسان والبر».
ومما يرتبط بهذه القضية العدل أن يدرك أبو عبيدة أن مجاز «الأمر في الآية {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} مجازه: الوعيد».
* * * تعرّض الفراء معاصر أبي عبيدة لكثير من التأويلات التي تناولها المعتزلة فيما بعد، وهي تأويلات تتفق في مجملها مع تأويلاتهم وإن أضيف لها بعض التفاصيل الكلامية والفلسفية بعد ذلك، بل إن الفراء في تأويلاته يردّ على من يسميهم «أهل القدر» ويقصد بهم خصوم المعتزلة، وكأنه شأن كثير من المعتزلة يردّ لهم الاسم الذي أطلقوه على المعتزلة. وعلاقة الفراء بالمعتزلة وببلاط المأمون الخليفة المعتزلي واضحة يشير إليها الدارسون. ويظن الدكتور شوقي ضيف أن الفراء «اختلف إلى حلقات المعتزلة التي كانت مهوى قلوب الشباب والمثقفين والأدباء في البصرة، وأنه تلقى حينئذ مبادئ الاعتزال، وظل مؤمنا بها حفيا، مما جعل مترجموه يقولون إنه كان متكلما يميل إلى الاعتزال، وآثار اعتزاله واضحة في كتابه معاني القرآن إذ نراه يتوقف مرارا للرد على الجبرية» ويؤكّد الدكتور محمد زغلول سلام هذه الحقيقة بقوله «وكان لميل الفراء إلى الكلام والأخذ بآراء المعتزلة أثر في معاني القرآن».
والآيات التي يتوقف أمامها الفراء ليؤولها من وجهة نظر اعتزالية كثيرة، وتغطي كثيرا من جوانب الفكر الاعتزالي. والكتاب يعدّ بهذا الشكل أول مؤلف اعتزالي يصلنا. ومن الغريب أن شخصية النحوي تكاد تختفي أمام هذه الآيات التي تمسّ الفكر الاعتزالي، أو يبدو أنها تتناقض مع مسلماته. وعلى هذا فسأتناول هذه الآيات بشيء من التفصيل، لا تبعا لترتيبها، بل تبعا لقضايا الفكر الاعتزالي،
هذه القضايا التي تدور حول محورين أساسيين هما محور العدل، ومحور التوحيد.(1/156)
والآيات التي يتوقف أمامها الفراء ليؤولها من وجهة نظر اعتزالية كثيرة، وتغطي كثيرا من جوانب الفكر الاعتزالي. والكتاب يعدّ بهذا الشكل أول مؤلف اعتزالي يصلنا. ومن الغريب أن شخصية النحوي تكاد تختفي أمام هذه الآيات التي تمسّ الفكر الاعتزالي، أو يبدو أنها تتناقض مع مسلماته. وعلى هذا فسأتناول هذه الآيات بشيء من التفصيل، لا تبعا لترتيبها، بل تبعا لقضايا الفكر الاعتزالي،
هذه القضايا التي تدور حول محورين أساسيين هما محور العدل، ومحور التوحيد.
فيما يتصل بقضية التوحيد تواجهنا تلك الآيات التي يوهم ظاهرها بمشابهة الله للبشر، وهي تلك الآيات التي تثبت لله وجها ويدا وساقا وجنبا، إلى جانب تلك الآيات التي تنسب إلى الله العجب والفرح والسرور والأسف والغضب والمكر وغيرها من الانفعالات البشرية. هذه الصفات والانفعالات مما يراها المعتزلة علامات نقص لا تليق بجلال الكمال الإلهي والتنزيه المطلق، وبالتالي لا بدّ من اخضاعها لسلاح التأويل وهو سلاح عقلي صارم.
وكان الشعر استجابة لصيحة ابن عباس هو الملاذ للبحث عن سند لتأويلاتهم. ولكن الاستشهاد بالشعر لم يحل المشكلة، فالواقع أن الاسلام جاء بتصور جديد لله وللواقع. هذا التصور الجديد عبّر عن نفسه في لغة تعكس مدارك أهلها وثقافتهم، ولذلك كان من الضروري لكي تتسع اللغة للتعبير عن هذا التصور الجديد أن يحدث تغيير في تراكيبها وأنسقتها التعبيرية. ولقد أدرك الفراء جانبا من هذه المعضلة واقترب هونا ما من لمسها وذلك في قضية نفي الجهل عن الله حين تعرّض لقول الله تعالى {وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ} يضلهم به حجة، إلّا أنّا سلطناه عليهم لنعلم من يؤمن بالآخرة. يقول الفراء «فإن قال القائل: إن الله يعلم أمرهم بتسليط ابليس وبغير تسليطه. قلت: مثل هذا كثير في القرآن. قال الله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصََّابِرِينَ} وهو يعلم المجاهد والصابر بغير ابتلاء، ففيه وجهان: أحدهما أن العرب تشترط للجاهل إذا كلمته بشبه هذا شرطا تسنده إلى نفسها وهي عالمة، ومخرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. من ذلك أن يقول القائل: النار تحرق الحطب فيقول الجاهل: بل الحطب يحرق النار، ويقول العالم: سنأتي بحطب ونار لنعلم أيهما يأكل صاحبه فهذا وجه بين. والوجه الآخر أن تقول {لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ} معناه: حتى نعلم عندكم فكأن الفعل لهم في الأصل، ومثله مما يدل عليه قوله {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} عندكم يا كفره، ولم يقل: (عندكم)، يعني: وليس في القرآن (عندكم)، وذلك معناه. ومثله قوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} عند نفسك إذا كنت تقوله في دنياك. ومثله ما قال الله لعيسى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ} وهو يعلم ما يقول وما يجيبه به، فرد عليه عيسى وهو يعلم أن الله لا يحتاج إلى اجابته. فكما صلح أن يسأل عما يعلم ويلتمس من عبده ونبيه الجواب فكذلك يشرط من فعل ما يعلم، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم».
والفكرة المطروحة هنا، أعني فكرة المخاطبة على حسب اعتقاد المخاطب وعلى
قدر عقله، وعلى قدر ما تتسع له لغته بمواضعتها وأبنيتها، لو وسعها المعتزلة قليلا ليناقشوا على أساسها كل الآيات التي اعتبروها متشابهات لاقتربوا بذلك من التحليل السليم لهذه الآيات، ولأدركوا جوهر المشكلة المعقدة التي واجهتهم وهي «أن الوحي قد اختار اللغة العربية كنظام إشاري عام بين الله والانسان» وهي لغة بطبيعتها بشرية ومحدودة، لا تتسع إلّا لمدارك البشر ومعارفهم. ولكن هذه الفكرة فكرة المخاطبة على قدر عقل المخاطب واعتقاده ظلّت للأسف فكرة جزئية، يلجأ إليها المعتزلة في تأويل بعض الآيات. والفراء في المثال السابق يريد أن ينفي الجهل عن الله، ومن ثم يلجأ إلى هذه الفكرة التي تكشف عن هدفه لكنها تظل فكرة جزئية تدور في اطار نحوي هو تقدير محذوف هي كلمة (عندك) أو (عندكم).(1/157)
والفكرة المطروحة هنا، أعني فكرة المخاطبة على حسب اعتقاد المخاطب وعلى
قدر عقله، وعلى قدر ما تتسع له لغته بمواضعتها وأبنيتها، لو وسعها المعتزلة قليلا ليناقشوا على أساسها كل الآيات التي اعتبروها متشابهات لاقتربوا بذلك من التحليل السليم لهذه الآيات، ولأدركوا جوهر المشكلة المعقدة التي واجهتهم وهي «أن الوحي قد اختار اللغة العربية كنظام إشاري عام بين الله والانسان» وهي لغة بطبيعتها بشرية ومحدودة، لا تتسع إلّا لمدارك البشر ومعارفهم. ولكن هذه الفكرة فكرة المخاطبة على قدر عقل المخاطب واعتقاده ظلّت للأسف فكرة جزئية، يلجأ إليها المعتزلة في تأويل بعض الآيات. والفراء في المثال السابق يريد أن ينفي الجهل عن الله، ومن ثم يلجأ إلى هذه الفكرة التي تكشف عن هدفه لكنها تظل فكرة جزئية تدور في اطار نحوي هو تقدير محذوف هي كلمة (عندك) أو (عندكم).
ولقد كانت هذه الفكرة نفسها حتى مع ضيقها وجزئيتها كفيلة بأن تحل مشكلة الآيات التي تنسب إلى الله افعال البشر من المكر والعجب وكافة الانفعالات الانسانية. لكن الفراء يطرحها وراء ظهره تماما حين يتعرّض لمثل هذه الآيات.
ففي قوله تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} يقول: «نزل هذا في شأن عيسى إذ أرادوا قتله، فدخل بيتا فيه كوّة وقد أيده الله تبارك وتعالى بجبريل صلى الله عليه وسلم، فرفعه إلى السماء من الكوّة ودخل عليه رجل منهم ليقتله، فألقى الله على ذلك الرجل شبه عيسى بن مريم. فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول: ما في البيت أحد، فقتلوه وهم يرون أنه عيسى. فذلك قوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ}
والمكر من الله استدراج، لا على مكر المخلوقين» وبذلك يعتمد الفراء على الموروث القصصي لينفي المكر بالمعنى الانساني عن الله.
فإذا انتقل إلى آية أخرى هي قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} راح يرجح بين القراءات. يقول: «قرأها الناس بنصب التاء ورفعها والرفع إلي أحب لأنها قراءة علي وابن مسعود وعبد الله بن عباس قال شقيق: قرأت عند شريح {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} فقال: إن الله لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم. قال: فذكرت ذلك لابراهيم النخعي فقال: إن شريحا شاعر يعجبه علمه، وعبد الله أعلم بذلك منه. قرأها (بل عجبت). قال أبو زكريا: والعجب وإن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد وكذلك قوله {اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
ليس ذلك من الله كمعناه من العباد ففي هذا بيان بكسر قول شريح.
وإن كان جائزا، لأن المفسرين قالوا: بل عجبت يا محمد ويسخرون هم. فهذا وجه النصب». والفراء، وإن انتهى إلى اختيار قراءة الرفع، لا يجد مفرّا من القول بأن عجب الله ليس كعجب المخلوقين، دون أن يبين ذلك أو يوضحه. ومع
ذلك يجد لقراءة النصب وجها على قول المفسرين.(1/158)
وإن كان جائزا، لأن المفسرين قالوا: بل عجبت يا محمد ويسخرون هم. فهذا وجه النصب». والفراء، وإن انتهى إلى اختيار قراءة الرفع، لا يجد مفرّا من القول بأن عجب الله ليس كعجب المخلوقين، دون أن يبين ذلك أو يوضحه. ومع
ذلك يجد لقراءة النصب وجها على قول المفسرين.
وفي آية أخرى يختار الفراء القراءة التي تتفق مع التنزيه في تصوره، وذلك في قول تعالى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} يقول «بالتاء والياء. قرأها أهل المدينة وعاصم بن أبي النجود والأعمش بالياء: (يستطيع ربك) وقد يكون ذلك على قولك: هل يستطيع فلان القيام معنا؟ وأنت تعلم أنه يستطيعه، فهذا وجه. وذكر عن علي وعائشة رحمهما الله أنهما قرآ (هل تستطيع ربك) بالتاء، وهذا وجه حسن، أي هل تقدر أن تسأل ربك (أن ينزل علينا مائدة من السماء) ولم تكن الآية في حاجة للترجيح بين القراءتين، فسياق الآية يحتمل قراءة الياء على أساس أن القول صادر من الحواريين الذين كثيرا ما أرهقوا الرسل بمطالبهم. والآية بعد ذلك في سياق قصصي ولا تحتاج لتأويل من وجهة نظر المسلم العادي، فضلا عن المعتزلي.
وفي قوله تعالى {وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} تثير كلمة ميراث بما تتضمنه من معنى الحصول على شيء، شيئا من الخشية، وهي خشية واردة خصوصا من أولئك الذين لا يدركون أسرار اللغة، ومن ثم يصبح الشرح والتبسيط وسيلة لا غنى عنها، ويصبح المعنى «يميت الله أهل السموات وأهل الأرض ويبقى وحده، فذلك ميراثه تبارك وتعالى أنه يبقى ويفنى كل شيء».
فإذا انتقلنا لمناقشة وقفات الفراء أمام الآيات التي تثبت لله جوارح، وجدنا أن استشهاد الفراء بالشعر لا يحل له المشكلة، فالواقع أن التصور التنزيهي الكامل للذات الالهية كما يبتغيه المعتزلة يبدو غاية في الصعوبة بحكم حسية اللغة من جانب، والتصورات البشرية للوجود من جانب آخر. فاللغة مليئة بالعبارات التي تسند للموجودات أحاسيس البشر وجوارح البشر، فنحن نقول «عنق الزجاجة» و «رجل الكرسي» الخ هذه العبارات التي تستعير من الجسم الانساني لتعبّر عمّا هو غير انساني. «والحق أن جسم الانسان يعدّ قطّاعا من القطاعات البارزة التي تنتقل الكلمات منها وإليها، أو قل إنه مركز الانتشار والجاذبية» المعضلة إذن في استخدام اللغة للتعبير عن الله، أنك لا تستطيع أن تنجو من التشبيه مهما حاولت.
ولقد أدرك الداعي أحمد حميد الدين الكرماني هذه المعضلة، وهاجم المعتزلة لأنهم «قالوا بأفواههم قول الموحدين واعتقدوا بأفئدتهم اعتقاد الملحدين، بنقضهم قولهم أولا بأن الله لا يوصف بصفات المخلوقين باطلاقهم على الله سبحانه وتعالى ما يستحقه غير الله تعالى من الصفات من القول بأنه حي عالم قادر فسائر الصفات». وبصرف النظر عن هذه الحدة في الهجوم والاتهام، فالأساس الذي يعتمد عليه الكرماني وبصرف النظر عن نتائجه عنده هو معضلة اللغة التي
أشرنا إليها «وإذا كانت الأسماء والصفات والألفاظ مشاكلة لما تدل عليه، وكانت الأسماء والألفاظ مؤلفة من الحروف البسيطة التي تبنى سائر اللغات منها، والحروف محدثة، كان ما تدل عليه وتوجبه في مثل حالها محدثا، وإذا كان ما تدل عليه الحروف المركبة في اللغات كلها محدثا، مثلها على ما بيناه وهو تعالى كبرياؤه ليس بمحدث، فقد استبان امتناع الحروف المركبة الحادثة عنها اللغات عن أن يكون لها سلوك في الدلالة على ما يليق بكبريائه، بكونه تعالى مباينا للمحدثات وغير مناسب لها ولا من جوهرها، وإذا كان مباينا للمحدثات فقد حصل اليأس بالكلية من أن تكون للالفاظ والعبارات دلالة على شيء يستحقه تعالى الله سبحانه، وأسفر عن صدق الموحدين بأنه لا يعرب عنه بلفظ قول ولا بعقد ضمير، وكيف يكون للحروف دلالة على هوية ظهرت عنها المبدعات والمنبعثات والمكونات التي منها هي، وهو تعالى من ورائها في ذروة العزة فلا تهتدي العقول إلى تناوله بصفة، أم كيف يكون للعقل طريق إلى تصور فيه وهي لا تعقل إلّا بما شملته سمة الجوهرية والعرضية! كلا إنه من العلاء في سمائه ومن الكمال في روائه فسبحانه من إله لا تعرب عنه الألفاظ والعبارات بشيء إلّا وكان ذلك الشيء تحت اختراعه» وإذا كان الكرماني ينتهي بنا إلى اليأس المطلق من امكانية التعبير عمّا جاوز الواقع الحسي بلغة الواقع والحس، ويعتبر أن اثبات أي صفة من صفات اللغة المعروفة لله المتعالي كذب محض فإنه يحاول حل المعضلة عن طريق استخدام النفي بدل الاثبات في وصفه عز وجل ومع هذا كله فقد نزل القرآن للناس كافة، وكان لا بدّ من التعبير عن هذا الموجود اللامتناهي بلغة الحس المتناهية، ومن أجل ذلك استخدم القرآن اللغة التصويرية ليخاطب الناس على قدر عقولهم.(1/159)
ولقد أدرك الداعي أحمد حميد الدين الكرماني هذه المعضلة، وهاجم المعتزلة لأنهم «قالوا بأفواههم قول الموحدين واعتقدوا بأفئدتهم اعتقاد الملحدين، بنقضهم قولهم أولا بأن الله لا يوصف بصفات المخلوقين باطلاقهم على الله سبحانه وتعالى ما يستحقه غير الله تعالى من الصفات من القول بأنه حي عالم قادر فسائر الصفات». وبصرف النظر عن هذه الحدة في الهجوم والاتهام، فالأساس الذي يعتمد عليه الكرماني وبصرف النظر عن نتائجه عنده هو معضلة اللغة التي
أشرنا إليها «وإذا كانت الأسماء والصفات والألفاظ مشاكلة لما تدل عليه، وكانت الأسماء والألفاظ مؤلفة من الحروف البسيطة التي تبنى سائر اللغات منها، والحروف محدثة، كان ما تدل عليه وتوجبه في مثل حالها محدثا، وإذا كان ما تدل عليه الحروف المركبة في اللغات كلها محدثا، مثلها على ما بيناه وهو تعالى كبرياؤه ليس بمحدث، فقد استبان امتناع الحروف المركبة الحادثة عنها اللغات عن أن يكون لها سلوك في الدلالة على ما يليق بكبريائه، بكونه تعالى مباينا للمحدثات وغير مناسب لها ولا من جوهرها، وإذا كان مباينا للمحدثات فقد حصل اليأس بالكلية من أن تكون للالفاظ والعبارات دلالة على شيء يستحقه تعالى الله سبحانه، وأسفر عن صدق الموحدين بأنه لا يعرب عنه بلفظ قول ولا بعقد ضمير، وكيف يكون للحروف دلالة على هوية ظهرت عنها المبدعات والمنبعثات والمكونات التي منها هي، وهو تعالى من ورائها في ذروة العزة فلا تهتدي العقول إلى تناوله بصفة، أم كيف يكون للعقل طريق إلى تصور فيه وهي لا تعقل إلّا بما شملته سمة الجوهرية والعرضية! كلا إنه من العلاء في سمائه ومن الكمال في روائه فسبحانه من إله لا تعرب عنه الألفاظ والعبارات بشيء إلّا وكان ذلك الشيء تحت اختراعه» وإذا كان الكرماني ينتهي بنا إلى اليأس المطلق من امكانية التعبير عمّا جاوز الواقع الحسي بلغة الواقع والحس، ويعتبر أن اثبات أي صفة من صفات اللغة المعروفة لله المتعالي كذب محض فإنه يحاول حل المعضلة عن طريق استخدام النفي بدل الاثبات في وصفه عز وجل ومع هذا كله فقد نزل القرآن للناس كافة، وكان لا بدّ من التعبير عن هذا الموجود اللامتناهي بلغة الحس المتناهية، ومن أجل ذلك استخدم القرآن اللغة التصويرية ليخاطب الناس على قدر عقولهم.
من الطبيعي بعد ذلك كله ألّا تفلح دائما محاولة رد القرآن للشعر العربي، خصوصا فيما يتصل بآيات الصفات. ومن الطبيعي كذلك أن يقع الاختلاف بين الفرق، ولنر الآن ماذا فعل الفراء.
يقول الفراء في قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} «إلّا هو». وقال الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
أي إليه أوجه عملي» والاستشهاد بالشعر هنا لا يحل المشكلة، فالشاعر حين يتحدث عن وجهه وعمله، لا يعني أن كلمة الوجه هنا تعني الذات الانسانية كلها كما هو مقصود الفراء بتأويل الآية «إلّا هو» وإذا كان قد حاول الاستشهاد بالشعر في هذه الآية، فإنه في آية أخرى هي قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يمر بها
مرورا سريعا ليقول «بالوفاء والعهد». وقد سبق أن توقفنا عند هذه الآية مع مقاتل ورأينا كيف نجح الزمخشري عن طريق ادراك البعد التصويري للآية ان يتخلّص من الحرج. وتستحق كلمة «الساق» في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ}
وقفة أطول من الفراء وذلك لتوجيه الحركة على الياء في «يكشف» ثم الاستشهاد على الاستعمال المجازي للفظ «ساق» ثانيا. يقول: «القراء مجتمعون على رفع الياء عن ابن عباس أنه قرأ يوم تكشف عن ساق يريد القيامة والساعة لشدتها. وأنشدني بعض العرب لجد أبي طرفة:(1/160)
استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
أي إليه أوجه عملي» والاستشهاد بالشعر هنا لا يحل المشكلة، فالشاعر حين يتحدث عن وجهه وعمله، لا يعني أن كلمة الوجه هنا تعني الذات الانسانية كلها كما هو مقصود الفراء بتأويل الآية «إلّا هو» وإذا كان قد حاول الاستشهاد بالشعر في هذه الآية، فإنه في آية أخرى هي قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يمر بها
مرورا سريعا ليقول «بالوفاء والعهد». وقد سبق أن توقفنا عند هذه الآية مع مقاتل ورأينا كيف نجح الزمخشري عن طريق ادراك البعد التصويري للآية ان يتخلّص من الحرج. وتستحق كلمة «الساق» في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ}
وقفة أطول من الفراء وذلك لتوجيه الحركة على الياء في «يكشف» ثم الاستشهاد على الاستعمال المجازي للفظ «ساق» ثانيا. يقول: «القراء مجتمعون على رفع الياء عن ابن عباس أنه قرأ يوم تكشف عن ساق يريد القيامة والساعة لشدتها. وأنشدني بعض العرب لجد أبي طرفة:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا الشر لا براح»
وإذا كان التعبير باليد في قوله تعالى {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} لم يحتج إلى كبير جهد لتفسير اليد على أنها «بالوفاء والعهد» فإن التعبير «بيدي استكبرت» قد يلغي فكرة التجاوز، أو على الأقل يعوقها، على أساس أن تثنية اليد يؤكّد إرادة معناها الحقيقي لا المجازي، ولهذا فهو يحتاج إلى وقفة أطول. وهدف الفراء من هذه الوقفة أن يساوي في الدلالة بين المفرد والمثنى فيقول: «اجتمعت القرّاء على التثنية ولو قرأ قارئ (بيدي) يريد يدا واحدة كان صوابا كقول الشاعر:
أيها المبتغي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء
والواحد من هذا يكفي عن الاثنين، وكذلك العينان والرجلان واليدان تكتفي احداهما من الأخرى، لأن معناهما واحد» ويكاد الفراء لولا الخشية يقترح قراءة للإفراد يفضلها على قراءة المثنى لأنها أسهل في التأويل من صيغة المثنى.
ويواصل الفراء عملية التأويل للآيات التي توهم الحلول في المكان أو التحيز في الجهة. فإذا أخبر الله عن نفسه بقوله: {وَهُوَ الْقََاهِرُ فَوْقَ عِبََادِهِ} فمعنى ذلك أن «كل شيء قهر شيئا فهو مستعل عليه» وإذا وصف نفسه بأنه هو «الظاهر والباطن» فهذا ليس ظهورا ماديا متحيزا بل «الظاهر» على كل شيء علما، وكذلك «الباطن» على كل شيء علما» وكذلك لا يجوز على الله الاتيان والتحرك والمجيء، فإن قال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} فالتفسير أن «اتيان الملائكة لقبض ارواحهم (أو يأتي ربك): القيامة (أو يأتي بعض آيات ربك): طلوع الشمس من مغربها».
ومما قد يوهم الجهة قوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ} ويكون تفسيرها «فروا إليه إلى طاعته من معصيته» وقد يكون من الضروري الاشارة إلى أن كل هذه التأويلات لا تسلم للمعتزلة من النقد، وإن وافقهم على بعضها خصومهم، فتسوية
الفراء بين المفرد والمثنى في اليد في قوله تعالى {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
يرد عليه ابن القيم الجوزية على أساس أنه تأويل «ما لم يحتمل اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفردا» «ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يد. وقال عروة بن مسعود للصديق رضي الله عنه لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدّى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم وجعل ذلك خاصة خصّ بها صفيه آدم دون البشر كما خصّ المسيح بأنه نفخ فيه من روحه وخصّ موسى بأنه كلمه بلا واسطة» وبذلك ينظر ابن القيم نظرة أعمق إلى التركيب تحيل تأويل اليد على أنها النعمة. ويرى أيضا أن في تأويل {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} بأن اتيان الرب اتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد ويستطيع الزمخشري أن يتخلّص من كل هذه الردود بقدرته العميقة على التحليل البلاغي للنص القرآني، فاليدان مثلا يصبحان عنده «أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك»(1/161)
ومما قد يوهم الجهة قوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ} ويكون تفسيرها «فروا إليه إلى طاعته من معصيته» وقد يكون من الضروري الاشارة إلى أن كل هذه التأويلات لا تسلم للمعتزلة من النقد، وإن وافقهم على بعضها خصومهم، فتسوية
الفراء بين المفرد والمثنى في اليد في قوله تعالى {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
يرد عليه ابن القيم الجوزية على أساس أنه تأويل «ما لم يحتمل اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفردا» «ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يد. وقال عروة بن مسعود للصديق رضي الله عنه لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدّى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم وجعل ذلك خاصة خصّ بها صفيه آدم دون البشر كما خصّ المسيح بأنه نفخ فيه من روحه وخصّ موسى بأنه كلمه بلا واسطة» وبذلك ينظر ابن القيم نظرة أعمق إلى التركيب تحيل تأويل اليد على أنها النعمة. ويرى أيضا أن في تأويل {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} بأن اتيان الرب اتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد ويستطيع الزمخشري أن يتخلّص من كل هذه الردود بقدرته العميقة على التحليل البلاغي للنص القرآني، فاليدان مثلا يصبحان عنده «أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك»
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الآيات التي ترتبط بالعدل، وهو المبدأ الثاني من مبادئ المعتزلة، والذي يتضمن نفي الظلم عن الله، ونفي أن يكون فعل العبد مخلوقا فيه على غير ارادته وميله، نجد أن مسلك الفراء أيضا هو التأويل، ونجده قد مهّد السبيل في كثير من الآيات لكثير من المعتزلة بعده ليسيروا على نفس الطريق الذي مهّده، كما نجده في أمثلة كثيرة يختلف عن معاصره أبي عبيدة في تأويل الآيات وشرحها. نجد هذا الخلاف واضحا في قوله تعالى {أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} فأبو عبيدة قرأها «أمرنا» على وزن أفعل وفسّرها بأنها بمعنى أكثرنا، وذلك ليتفادى القول بارادة الله للقبيح، وهو خارجي يتفق مع المعتزلة في مبدأ العدل وحرية الانسان.
ولكن الفراء يتجه اتجاها آخر فهو يقبل القراءة المشهورة «أمرنا» يقول: «قرأ الأعمش وعاصم ورجال من أهل المدينة (أمرنا) خفيفة. حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني سفيان ابن عيينة عن حميد الأعرج عن مجاهد (أمرنا) خفيفة وفسر بعضهم (أمرنا مترفيها) بالطاعة (ففسقوا) أي أن المترف إذا أمر بالطاعة خالف إلى الفسوق» وهو التأويل الذي قبله القاضي عبد الجبار ورفضه الزمخشري كما أسلفنا. واعتراض الزمخشري قائم على أساس أن في الآية على هذا التأويل محذوفا لا يدل عليه السياق.(1/162)
أمّا قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} فهو يثير إشكال العموم والخصوص، فأهل السنة يرون أنها مخصصة بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ،} ويرى المعتزلة أن الآية عامة ليس فيها تخصيص وأن الله «خلقهم ليفعلوا ففعل بعضهم وترك بعض، وليس فيه لأهل القدر حجة» كما قال الفراء ويتفق القاضي عبد الجبار والزمخشري مع الفراء في هذا التفسير مع قليل من الاضافات الكلامية الضرورية. وعلى ذلك فالآية تعدّ من المحكم عند المعتزلة لأنهم يأخذونها بظاهرها دون حاجة لتأويل. أمّا الآية التي يستشهد بها أهل السنة فالمعتزلة يتأولونها على أن فيها مجازا وحذفا، وأن اللام في «لجهنم» ليست لام تعليل ولكنها لام العاقبة. وهكذا يتحوّل المجاز إلى سلاح تأويلي لرفض التناقض بين المحكم والمتشابه، وهو في النهاية يخضع للأساس العقلي الذي يستند إليه المعتزلة في عملية التأويل كلها.
وبنفس الطريقة ينفي الفراء عن الله أن يريد الكفر، ولذلك يقول في قوله تعالى {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} «يرضى لكم الشكر. وهذا مثل قوله:
{فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً} أي فزادهم قول الناس، فإن قال قائل: كيف قال {وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ} وقد كفروا؟ قلت: إنه لا يرضى أن يكفروا فمعنى الكفر: أن يكفروا. وليس معناه الكفر بعينه. ومثله مما بينه لك أنك تقول: لست أحب الاساءة، واني لأحب أن يسيء فلان فيعذب فهذا مما يبين لك معناه».
والمأزق الذي يحاول الفراء الخروج منه مأزق دقيق جدا، فإذا كان الله لا يرضى لعباده الكفر، ومنهم من كفر فعلا. فمعنى ذلك أنه قد وقع في ملك الله ما لا يرضاه. ويخرج الفراء من المأزق بالتفرقة بين المصدر الصريح «الكفر» والمصدر المؤول «أن يكفر» وعلى ذلك فالله لا يرضى من الكفار أن يكفروا، أي لا يرضى منهم فعل الكفر. ويوضح المثل الذي ضربه الفراء هذه التفرقة، والفراء يحاول أن يثبت أن الكفر من فعل العباد وواقع منهم، لا من فعل الله.
والتعبير القرآني نفسه {وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ} ينقلنا إلى جو آخر بعيد عن ذلك التأويل الجامد. فالتعبير بالفعل «يرضى» واضافة العباد إلى الهاء الراجعة إلى اسم الجلالة يخلق جوا من الألفة والقرب بين الله وهؤلاء العباد (عباده)، ويكون عدم الرضا في هذه الحالة أقرب إلى اللوم الهادئ. قد يمكن للمعتزلي في هذه الحالة أن يعتبر اللوم دليلا على مسئولية الانسان عن الفعل، ونفي مسئولية الله، لكن ذلك يظلّ استنتاجا عقليا بعيدا عن روح الآية وما توحيه في نفس القارئ من قلق من عدم رضا سيده ومولاه.(1/163)
4 - المحكم والمتشابه كأساس للتأويل
أالامام القاسم الرس
إذا كان كل من أبي عبيدة والفراء وقبلهما الحسن البصري والمفسرون لم يربطوا تأويلاتهم بقانون عام أو قواعد ثابتة، فإن المعتزلة بسبب اعتمادهم على العقل وأدلته حاولوا أن يضعوا أصولا عامة للتأويل تسمح لهم بتأويل آيات القرآن تأويلا يتفق مع أصولهم العقلية في العدل والتوحيد، وفي نفس الوقت تمنع خصومهم من الاستدلال والتأويل على عكس هذه الأصول أو ضدها. ولقد وجدوا في «المحكم والمتشابه» هذه المشكلة القديمة منفذا لارساء ضوابط للتأويل. وإذا كان القرآن نفسه قد سكت عن تحديد المحكم والمتشابه وإن أشار إلى ضرورة رد المتشابه إلى المحكم، فإن المعتزلة اعتبروا كل ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره، وكل ما يخالف هذا الوجهة اعتبروه متشابها يجوز، بل يحق لهم تأويله.
وبذلك نقلوا الخلافات العقلية الاستدلالية إلى القرآن على أساس وجود المحكم والمتشابه فيه. وكان من الطبيعي أن يلجأ خصوم المعتزلة لنفس السلاح فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم محكما، وما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابها.
وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى أن خصوم المعتزلة كانوا دائما يستفيدون من نهج المعتزلة في النظر والتأويل وإن خالفوهم في النتائج دائما. وليس ذلك بغريب فأبو الحسن الأشعري (ت 330هـ) خصم المعتزلة اللدود قد تربّى على فكر المعتزلة، بل وفي حجر شيخهم أبي علي الجبائي.
وأول محاولة تكشف عن هذا الربط بين الأصول العقلية للمعتزلة وبين قضية المحكم والمتشابه هي رسالة القاسم الرس (ت 246هـ) «كتاب أصول العدل والتوحيد». وهو في هذه الرسالة يقسم العبادة التي هي الغاية من خلق المكلفين {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} إلى ثلاثة أقسام «أولها معرفة الله. والثاني:
معرفة ما يرضيه وما يسخطه. والوجه الثالث: اتباع ما يرضيه واجتناب ما يسخطه» ولكل عبادة من هذه العبادات حجج هي على الترتيب «العقل والكتاب والرسول». فالعقل هو الحجة التي تؤدي بنا إلى معرفة الله بعدله وتوحيده وكل صفاته وما يجوز عليها منها وما لا يجوز. والكتاب هو الحجة التي نعلم عن طريقها أوامر الله ونواهيه، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه. والسنّة أو الرسول هي الحجة الثالثة التي تؤدي بنا إلى معرفة كيفية اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، أو
بألفاظ أخرى هي الموضحة والمبينة لحجة الكتاب. ويجعل القاسم الرسى «العقل أصل الحجتين الأخيرتين، لأنهما عرفا به، ولم يعرف بهما».(1/164)
معرفة ما يرضيه وما يسخطه. والوجه الثالث: اتباع ما يرضيه واجتناب ما يسخطه» ولكل عبادة من هذه العبادات حجج هي على الترتيب «العقل والكتاب والرسول». فالعقل هو الحجة التي تؤدي بنا إلى معرفة الله بعدله وتوحيده وكل صفاته وما يجوز عليها منها وما لا يجوز. والكتاب هو الحجة التي نعلم عن طريقها أوامر الله ونواهيه، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه. والسنّة أو الرسول هي الحجة الثالثة التي تؤدي بنا إلى معرفة كيفية اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، أو
بألفاظ أخرى هي الموضحة والمبينة لحجة الكتاب. ويجعل القاسم الرسى «العقل أصل الحجتين الأخيرتين، لأنهما عرفا به، ولم يعرف بهما».
وتنقسم هذه الحجج الثلاث إلى أصول وفروع، فالعقل كما سبق أن أشرنا ينقسم إلى ضروري واكتسابي. والضروري هو أصل للاكتسابي «وإنما وقع الاختلاف في ذلك لاختلاف النظر والتمييز فيما يوجب النظر والاستدلال بالدليل الحاضر المعلوم على المدلول عليه الغائب المجهول. فعلى قدر نظر الناظر واستدلاله يكون دركه لحقيقة المنظور فيه والمستدل عليه».
والحجة الثانية من حجج العبادة وهي حجة الكتاب تنقسم أيضا إلى أصول وفروع «وأصل الكتاب هو المحكم الذي لا اختلاف فيه، الذي لا يخرج تأويله مخالفا لتنزيله، وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله الذي لا اختلاف فيه بين أهل التأويل» وهكذا ترتبط قضية التأويل والمحكم والمتشابه بالنسق العام للفكر الاعتزالي، ولا تصبح مهمة المفسّر والحالة هذه مجرد الشرح والتوضيح، بل لا بدّ من أن تتوافر فيه مجموعة من الشروط، أهمها وأخطرها في نفس الوقت تلك القدرة العقلية على معرفة ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه. ولا يصبح العلم بالعربية وتراكيبها كافيا، بل يأتي في الدرجة الثانية من المعرفة العقلية «اعلم أنه لا يكفي في المفسّر أن يكون عالما باللغة العربية، ما لم يعلم معها النحو والرواية، والفقه الذي هو العلم بأحكام المشرّع وأسبابها، ولن يكون المرء فقيها عالما بأحكام الشرع وأسبابها إلّا وهو عالم بأصول الفقه، التي هي أدلّة الفقه والكتاب والسنّة والإجماع والقياس والأخبار وما يتصل بذلك. ولن يكون عالما بهذه الأحوال إلّا وهو عالم بتوحيد الله تعالى وعدله، وما يجب له من الصفات وما يصح وما يستحيل وما يحسن منه فعله وما لا يحسن منه فعله بل يقبح، فمن اجتمع فيه هذه الأوصاف وكان عالما بتوحيد الله وعدله وبأدلّة الفقه وأحكام الشرع، وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم والفصل بينهما، جاز له أن يشتغل بتفسير كتاب الله تعالى، ومن عدم شيئا من هذه العلوم فلن يحل له التعرّض لكتاب الله جل وعز، اعتمادا على اللغة المجردة، أو النحو المجرد، أو الرواية فقط.
يبين ما ذكرناه ويوضحه، أن المفسّر لا بدّ من أن يكون بحيث يمكنه حمل قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على قوله {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} وقوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} إلى قوله {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} وهكذا الحال في غيرها من الآيات المتشابهة والمحكمة.
فهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المفسّر من الأوصاف وفي رسالة
أخرى للقاسم الرس بعنوان «كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد» يتعرّض لمناقشة الآيات القرآنية التي يستدل بها كل من المشبهة والمجبرة، ويؤولها تأويلا يتفق مع أصول الفكر الاعتزالي وهي كلها تأويلات تخضع لذلك القانون العام، قانون رد المتشابه إلى المحكم، وهو يعرض للآيات المتشابهة التي يستند إليها المشبّهة، ثم يؤول هذه الآيات كلها آية آية حسب معتقد المعتزلة في التنزيه ونفي مشابهة الله للبشر. يقول «وتأوّلت أيضا المشبّهة قول الله، تبارك وتعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ،} وقوله: {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا،} وقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً،} وقوله: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ،} وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ} وقوله:(1/165)
فهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المفسّر من الأوصاف وفي رسالة
أخرى للقاسم الرس بعنوان «كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الله الواحد الحميد» يتعرّض لمناقشة الآيات القرآنية التي يستدل بها كل من المشبهة والمجبرة، ويؤولها تأويلا يتفق مع أصول الفكر الاعتزالي وهي كلها تأويلات تخضع لذلك القانون العام، قانون رد المتشابه إلى المحكم، وهو يعرض للآيات المتشابهة التي يستند إليها المشبّهة، ثم يؤول هذه الآيات كلها آية آية حسب معتقد المعتزلة في التنزيه ونفي مشابهة الله للبشر. يقول «وتأوّلت أيضا المشبّهة قول الله، تبارك وتعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ،} وقوله: {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا،} وقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً،} وقوله: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ،} وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ} وقوله:
{كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ،} ففسروا ذلك على ما توهموا من أنفسهم وبأن الله، عز وجل، عندهم في ذلك على معاني المخلوقين وصفاتهم في هيئاتهم وأفعالهم، فكفروا بالله العظيم، وعبدوا غير الله الكريم».
ويهمنا أن نتوقف عند تأويل القاسم الرسى لبعض هذه الآيات لنرى نمو الطريقة الجدلية في التأويل عمّا وجدناه عند الحسن البصري والفراء، وهو نمو يكشف عن الارتباط الكامل بين قضايا التأويل والمحكم والمتشابه والفكر الاعتزالي عامة.
ومعظم هذه الآيات سبق أن تعرّضنا لها عند أبي عبيدة والفراء، وحتى لا نقع في تكرار ما سبق أن ناقشناه والقاسم لا يكاد يضيف في تأويلاته لها جديدا سنتوقف أمام صفة الكلام في قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً.} والآية تجعل القاسم يثير قضية خلق القرآن، وهي قضية خلافية حادة بين المعتزلة وأهل السنة بكل اتجاهاتهم ومذاهبهم، وكان لها صدى سياسي سيّئ الأثر، انتهى بالقضاء إلى ازدهار الفكر الاعتزالي. وقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً،} فذهبت المشبّهة إلى أن الله، تعالى عمّا قالوا علوّا كبيرا، يكلم بلسان وشفتين، وخرج الكلام منه كما خرج من المخلوقين، فكفروا بالله العظيم حين ذهبوا إلى هذه الصفة. ومعنى كلامه، جلّ ثناؤه، لموسى صلوات الله عليه، عند أهل الايمان والعلم، أنه أنشأ كلاما خلقه كما شاء فسمعه موسى، صلى الله عليه وفهمه».
والقاسم هنا يريد أن ينفي عن الله صفة الكلام بمعناه الحسي الحرفي، ويخرج من ذلك لمناقشة مشكلة خلق القرآن، ويستدل على حدوث القرآن الكلام الالهي بآيات أخرى من القرآن. ولا يخرج هذا الاستدلال بعمومه عن الآيات التي استدلّ بها القاضي عبد الجبار على حدوث القرآن وخلقه».
والخلاف بين المعتزلة وخصومهم جميعا في هذه القضية ناشئ عن تحديد
صفة الكلام، هل هي من صفات الذات، أم من صفات الأفعال، وينفي المعتزلة عن الله أي صفة ذاتية سوى العلم والقدرة والحياة والقدم وما عدا ذلك فهي صفات أفعال ومنها الكلام. وعلى ذلك فكلام الله محدث وللمعتزلة على ذلك أدلّة كثيرة نخرج عن حدود البحث لو استعرضناها أو ناقشناها والذي يهمنا في موضوع المجاز والتأويل أن القاسم الرسى يحاول نفي صفة الكلام الحقيقية عن الله.(1/166)
والخلاف بين المعتزلة وخصومهم جميعا في هذه القضية ناشئ عن تحديد
صفة الكلام، هل هي من صفات الذات، أم من صفات الأفعال، وينفي المعتزلة عن الله أي صفة ذاتية سوى العلم والقدرة والحياة والقدم وما عدا ذلك فهي صفات أفعال ومنها الكلام. وعلى ذلك فكلام الله محدث وللمعتزلة على ذلك أدلّة كثيرة نخرج عن حدود البحث لو استعرضناها أو ناقشناها والذي يهمنا في موضوع المجاز والتأويل أن القاسم الرسى يحاول نفي صفة الكلام الحقيقية عن الله.
ويبدو أن ابن قتيبة كان يردّ على هذا الرأي حين اشترط لوقوع المجاز في الأفعال ألّا يؤكد بالمصادر أو بأي نوع من التأكيد اللفظي. وابن قتيبة في هذه المحاولة يمثل الجانب الآخر للمعتزلة «إن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا تؤكد بالتكرار، فتقول: أراد الحائط أن يسقط، ولا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، وقالت الشجرة فمالت، ولا تقول: قالت الشجرة فمالت قولا شديدا.
والله تعالى يقول: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً} فوكّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز». ويتخذ ابن قتيبة هذه القاعدة سندا ليخالف المعتزلة فيما ذهبوا إليه من نفي كلام جهنم وتسبيح الجبال، وتكوين الله للاشياء كلها بكلمة «كن» على أساس أن هذه كلها تعبيرات مجازية. يخالفهم ابن قتيبة في ذلك كله ويذهب إلى أن كل هذه التعبيرات حقائق لأنها مما لا يخرج عن قدرة الله أولا، ولأن كثيرا منها قد وكّد بالمصدر أو غيره من أنواع التوكيد».
غير أن القاضي عبد الجبار يستدل بهذه الآية نفسها كما فعل القاسم الرسى على حدوث القرآن، اعتمادا على أن المصادر حادثة «وقوله تعالى «تكليما» يقتضي أن ما كلم به غيره حادث، لأن المصادر لا تكون إلّا حادثة».
ويستغل. القاسم ما سبق أن قرره من أن المحكم هو الأصل للكتاب والمتشابه فرع ينبغي أن يرد إلى المحكم بالتأويل، في الرد على المجبرة وفي تأكيد كل المبادئ والأفكار التي يتفق فيها كشيعي مع المعتزلة، وهي أفكار تكاد تتطابق مع الفكر الاعتزالي تطابقا واضحا باستثناء رأيهم في الامامة».
وننتهي من ذلك كله إلى أن التفرقة بين المحكم والمتشابه، وتأويل المتشابه برده إلى المحكم قد نضجت على أيدي المعتزلة، وصارت قانونا يحكم تأويلاتهم بناء على أصولهم العقلية التي يقال أن أبا الهذيل العلاف (ت 235هـ) كان أول من وضعها لهم في صورتها الكاملة «وصنف لهم كتابا وبين مذهبهم وجمع علومهم وسمى ذلك الكتاب الأصول الخمسة».(1/167)
ب ابن قتيبة
وإذا كان خصوم المعتزلة قد نهجوا نهج المعتزلة في تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه، فإنهم قد اختلفوا معهم في تحديد الآيات المحكمة، كما اختلفوا معهم في تحديد الآيات المتشابهة. وراح كل فريق منهم يعطي نفسه الحق في التأويل، ويعتبر نفسه المقصود بالراسخين في العلم في الآية الكريمة، وانتهى القرآن بين المتنازعين إلى أن صار مجالا للجدل واللجاج والخصومة حتى صدق على القرآن «ما قاله في الانجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة: بيتر فيرفير نفلس «كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه». ولم يسترح كثير من الفقهاء وأهل الظاهر إلى هذا المسلك من كلا الفريقين، فذهبوا إلى أن كل ما جاء به القرآن حق، وأنه «يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب والقول بالاجبار صحيح وله أصل في الكتاب ومن قال بهذا فهو مصيب ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين. وسئل يوما (يعني عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة) عن أهل القدر وأهل الاجبار فقال كل مصيب هؤلاء قوم عظّموا الله وهؤلاء قوم نزّهوا الله.
قال وكذلك القول في الأسماء فكل من سمّى الزاني مؤمنا فقد أصاب ومن سمّاه كافرا فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو منافق ليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب ومن قال هو كافر مشرك فقد أصاب لأن القرآن قد دل على كل هذه المعاني.
قال وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافه وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب. قال ولو قال أنّ القاتل في النار كان مصيبا ولو قال هو في الجنة كانت مصيبا ولو وقف فيه وأرجأ أمره كان مصيبا إذ كان إنما يريد بقوله أن الله تعالى تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب. وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له إن ذلك كله طاعة لله تعالى».
وكان من الطبيعي أن يكون هذا الرأي عرضة لهجوم الطرفين المعتزلة وأهل السنة وغرضا لسخريتهما. فالقاسم الرسى يقول: «وقد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض.
وأن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوه تنزيلها وتأويلها، ولذلك ما وقعوا في التشبيه وجادلوا عليه لما سمعوا عن متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه».(1/168)
وكان من الطبيعي أن يكون هذا الرأي عرضة لهجوم الطرفين المعتزلة وأهل السنة وغرضا لسخريتهما. فالقاسم الرسى يقول: «وقد أنكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض.
وأن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوه تنزيلها وتأويلها، ولذلك ما وقعوا في التشبيه وجادلوا عليه لما سمعوا عن متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه».
ويمثل ابن قتيبة الطرف المقابل للمعتزلة في الهجوم على صاحب هذا الرأي، ويعتبره أشد تناقضا من المعتزلة ومن أهل التأويل جميعا. يقول «فتهجم من قبيح مذاهبه وشدة تناقض قوله على ما هو أولى بأن يكون تناقضا مما أنكروه».
وإذا كان الجاحظ كما سبق أن أشرنا قد استغلّ المجاز بأنواعه المختلفة لتأويل بعض الآيات القرآنية للرد على الطاعنين في القرآن والذين يتهمونه بالتناقض، ويحاولون التشكيك في عربيته وبلاغته، فإنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى «المحكم والمتشابه»، ربما لأن الآيات التي تعرّض لها بالتفسير والتأويل كانت من ذلك النوع الذي استدعاه سياق الموضوع الذي كان يكتب فيه. ومن جهة أخرى فقد كان الجاحظ يتعرّض أحيانا وبشكل عارض للرد على بعض التأويلات، خصوصا على الشيعة في قولهم بإمامة علي بالنص، وهو في هذه الردود والتأويلات كلها لا يخضعها لذلك القانون العام عند المعتزلة، قانون المحكم والمتشابه. ومن الصعب على أي حال القول بأن الجاحظ لم يكن يعرف هذا القانون، وقد كان معروفا قبله، كما أن له كتابا لم يصل إلينا في الرد على المشبهة سبقت الإشارة إليه.
ولكن معاصرا للجاحظ هو ابن قتيبة (ت 276هـ) ربط ربطا محكما بين مجالات التأويل والمجاز والمحكم والمتشابه. وواضح من كتابه، كما في «تأويل مختلف الحديث»، عنايته بالرد على كثير من آراء الجاحظ وتسفيهها الأمر الذي يجعلنا نفترض أن الجاحظ كانت له في المحكم والمتشابه آراء لم تصل الينا. وتسمية كتابه عن القرآن باسم «تأويل مشكل القرآن» له دلالته الواضحة فيما نحن بصدده.
ولكن مفهوم «المتشابه» عند ابن قتيبة يتسع ليشمل كل الآيات التي كانت محلا للطعن في القرآن أو التشكيك في عربيته وبلاغته. جدير بالذكر أنه على عكس المعتزلة لا يضع المحكم مقابلا للمتشابه، ولا يردّ المتشابه إلى طريقة العرب في التعبير، وبذلك يعدّ المجاز وحده هو مدخله للتأويل. ونتيجة لذلك فقد كان من الطبيعي أن يتسع مفهوم المجاز عنده كما سبقت الاشارة.
ومما يؤكد الغاية الدفاعية لابن قتيبة في الكتاب الرد على منكري السحر والجن خصوصا رأي النظّام الذي يورده الجاحظ في «الحيوان» ويتسع سلاح التأويل المجازي ليتجاوز القرآن إلى الكتب المقدسة الأخرى ردا على النصارى في
قولهم أن المسيح ابن الله «أما «المجاز» فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل، وتشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل. فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السلام في «الانجيل»: «أدعو أبي وأذهب إلى أبي» وأشباه هذا، إلى أبوة الولادة.(1/169)
ومما يؤكد الغاية الدفاعية لابن قتيبة في الكتاب الرد على منكري السحر والجن خصوصا رأي النظّام الذي يورده الجاحظ في «الحيوان» ويتسع سلاح التأويل المجازي ليتجاوز القرآن إلى الكتب المقدسة الأخرى ردا على النصارى في
قولهم أن المسيح ابن الله «أما «المجاز» فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل، وتشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل. فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السلام في «الانجيل»: «أدعو أبي وأذهب إلى أبي» وأشباه هذا، إلى أبوة الولادة.
ولو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره، ما جاز لهم أن يتأوّلوه هذا التأويل في الله تبارك وتعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا مع سعة المجاز، فكيف وهو يقوله في كثير من المواضع لغيره؟ كقوله حين فتح فاه بالوحي: «وإذا تصدقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك، فان أباك الذي يرى الخفيات يجزيك به علانية، وإذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدّس اسمك، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك» وبذلك لا يختص المسيح وحده بأن يكون ابنا لله، إن صحّ أخذ هذه العبارات على ظاهرها. ولذلك فلا بدّ من اعتبارها عبارات مجازية. ويستشهد ابن قتيبة على ذلك بأبيات من الشعر العربي سميت فيه الأرض أما، ويستشهد كذلك بآيات من القرآن مثل «فأمه هاوية» للدلالة على أن التعبير بالأم لا يقصد به أصل المعنى، ولكن «لمّا كانت كافلة الولد وغاذيته ومأواه ومربيته وكانت النار للكافر كذلك جعلها أمه».
ومما يؤكد أهمية «المجاز» عند ابن قتيبة كأداة للتأويل وإزالة التناقض الذي اتهم به القرآن، أنه يكاد يرفع المجاز إلى مستوى الضرورة اللغوية التي لا محيص عنها للمتكلم. وقد كان من الممكن لهذا الرأي أن يميز ابن قتيبة عن معاصريه جميعا، ولولا أنه يعود بعد ذلك ليربط المجاز بالمواطأة بين المتكلمين، وهو بذلك يعيد المجاز لمستوى العرف اللغوي، لا مستوى الضرورة التعبيرية. ومن ناحية أخرى فإنه في ردوده على المعتزلة يبدو محافظا في رغبته في ابعاد المجاز عن الآيات التي استشهد بها المعتزلة، ورغبته في أخذها على مستواها الحقيقي الحرفي كما رأينا في اشتراطه للمجاز ألّا يؤكّد بأي صيغة من صيغ التأكيد، وكما رأينا في ايمانه بكلام حقيقي لجهنم وللسماء وللأرض، وبأن كلام الله كلام حقيقي الخ كل ذلك. ولذلك يبدو ابن قتيبة في ردوده على الطاعنين في القرآن متحمسا حماسا شديدا للتأويل المجازي، بينما يبدو في رده على المعتزلة متحمسا لأخذ الآيات على ظاهرها دون تأويل.
«وأمّا الطاعنون على القرآن» «بالمجاز» فانهم زعموا أنه كذب لأن الجدار لا يريد والقرية لا تسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا كان
أكثر كلامنا فاسدا، لأنّا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر. ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا والفعل لم يكن وإنما كون. ونقول: كان الله. وكان بمعنى حدث، والله عز وجل، قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن.(1/170)
«وأمّا الطاعنون على القرآن» «بالمجاز» فانهم زعموا أنه كذب لأن الجدار لا يريد والقرية لا تسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا كان
أكثر كلامنا فاسدا، لأنّا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر. ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا والفعل لم يكن وإنما كون. ونقول: كان الله. وكان بمعنى حدث، والله عز وجل، قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن.
والله تعالى يقول: {فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ} وإنما يعزم عليه. ويقول تعالى: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} وإنما يربح فيها. ويقول: {وَجََاؤُ عَلى ََ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}
وإنما كذب به.
ولو قلنا للمنكر لقوله: (جدارا يريد أن ينقض): كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار: رأيت جدار ماذا؟ لم يجد بدّا من أن يقول: جدارا يهم أن ينقض، أو يكاد أن ينقض، أو يقارب أن ينقض. وأيّا ما قال فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم، إلّا بمثل هذه الألفاظ».
غير أن ابن قتيبة يتراجع عن هذا الحماس في الرد على الطاعنين ومنكري المجاز في القرآن، ذلك الحماس الذي يصل إلى القول بأن المجاز ضرورة تعبيرية لا يستطيع المتكلم منها فكاكا، حتى فيما يتصل بالحديث عن الله عز وجل، وذلك أن المتكلم يقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، وهذا مما لا يجوز على الله. ولكن هذا ما تتيحه مواضعات اللغة التي هي جزء من عالمنا المتناهي وتصوراتنا البشرية القاصرة. فإذا كانت اللغة بحكم بشريتها تعجز عن التعبير عن الحيوان والجماد دون أن تسند له الفعل والحواس، فما بالك حين تعبر هذه اللغة عن المطلق اللامتناهي السرمدي، إنها ولا شك لا بدّ أن تقع في التشبيه والتجسيد رغما عنها. هذه النظرة لضرورة المجاز، واثبات عجز المتكلم عن الكلام دون اللجوء للمجاز يتراجع عنها ابن قتيبة، ولذلك يستنكر تأويل المعتزلة لكلام السماء والأرض وجهنم بأنه مجاز «وأما تأويلهم في قوله جل وعز للسماء والأرض: {ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ:} إنه عبارة عن تكوينه لهما. وقوله لجهنم {هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} إنه اخبار عن سعتها فمما يحوج إلى التعسف والتماس المخارج بالحيل الضعيفة؟ وما ينفع من وجود ذلك في الآية والآيتين والمعنى والمعنيين وسائر ما جاء في كتاب الله عز وجل من هذا الجنس، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتنع عن مثل هذه التأويلات؟
وما في نطق جهنم ونطق السماء والأرض من العجب؟ والله تبارك وتعالى ينطق الجلود، والأيدي، والأرجل، ويسخر الجبال والطير بالتسبيح، فقال: {إِنََّا
سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوََّابٌ} وقال:(1/171)
وما في نطق جهنم ونطق السماء والأرض من العجب؟ والله تبارك وتعالى ينطق الجلود، والأيدي، والأرجل، ويسخر الجبال والطير بالتسبيح، فقال: {إِنََّا
سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوََّابٌ} وقال:
{يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي سبحن معه وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلََكِنْ لََا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كََانَ حَلِيماً غَفُوراً.}
وقال في جهنم: {تَكََادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي تتقطع غيظا عليهم كما تقول:
فلان يكاد ينقد غيظا عليك، أي ينشق. وقال: {إِذََا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهََا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً.} وروي في «الحديث» أنها تقول: «قط قط» أي حسبي، وهذا سليمان عليه السلام يفهم منطق الطير وقول النمل وهذا «رسول الله» صلى الله عليه وسلم، تخبره الذراع المسمومة ويخبره البعير أن أهله يجيعونه ويدأبونه». وعلى الرغم من أن محافظة ابن قتيبة على المعنى الحرفي لأمثال هذه الآيات «أجدت على الحاسة الدينية أكثر مما أغنى التأول المجازي الحاد» فإنها من جانب آخر لم تلمح ما سبق أن قرره ابن قتيبة نفسه من ضرورة التعبير المجازي. على أن ابن قتيبة وهو من رجال الحديث يعتمد على كثير من المرويات المأثورة ليدعم بها وجهة نظره، وبذلك يكون أقرب إلى وجدان المسلم العادي من تأويلات المعتزلة.
وإذا كان ابن قتيبة لا يردّ على المعتزلة وحدهم، وإنما يردّ على كل المتأولين والطاعنين في القرآن، فمن الطبيعي أن يتسع مفهوم «المتشابه» عنده. وتعريفه لأصل المتشابه بأنه «أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان» يعود بنا الى المفهوم «المتشابه» عند المفسرين، وعند مقاتل في «الأشباه والنظائر». ولكن ابن قتيبة يتجاوز هذا المعنى الحرفي الأصلي للتشابه ليدل به على كل ما غمض عموما، وبذلك يكون معنى «المتشابه» «الغامض» ومنه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره لم تكد تفرق بينهما، وشبهت علي إذا ألبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه لأنهم يشبهون الباطل بالحق.
ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألّا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها، والتباسها بها» (تأويل مشكل القرآن، 102101). وهكذا إذا كان معنى «المتشابه» يعود في الأصل إلى التشابه، فإن الكلمة قد تعني الغموض عامة. ولكن السؤال الذي يحاول أن يجيب عليه ابن قتيبة، وواضح أن الطاعنين في القرآن كانوا قد طرحوه هو: إذا كان القرآن قد نزل على لغة العرب، وعلى أسلوبها وطرائقها كما يقول ابن قتيبة نفسه، فكيف أشكل أو غمض على العرب معرفة معاني بعض آياته، حتى احتاجوا لمن يقدح لهم زناد فكره، ويستخرج لهم معانيه بردها إلى الأسلوب العربي؟ والسؤال
نفسه لا ينطوي على البراءة التي يوحي بها ظاهره، فالقرآن قد وصف نفسه بأنه «هدى» وبأنه «بيان»، فكيف يأتي فيه «المتشابه» الذي أثار الخلاف وأوقع الفتن؟(1/172)
ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألّا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها، والتباسها بها» (تأويل مشكل القرآن، 102101). وهكذا إذا كان معنى «المتشابه» يعود في الأصل إلى التشابه، فإن الكلمة قد تعني الغموض عامة. ولكن السؤال الذي يحاول أن يجيب عليه ابن قتيبة، وواضح أن الطاعنين في القرآن كانوا قد طرحوه هو: إذا كان القرآن قد نزل على لغة العرب، وعلى أسلوبها وطرائقها كما يقول ابن قتيبة نفسه، فكيف أشكل أو غمض على العرب معرفة معاني بعض آياته، حتى احتاجوا لمن يقدح لهم زناد فكره، ويستخرج لهم معانيه بردها إلى الأسلوب العربي؟ والسؤال
نفسه لا ينطوي على البراءة التي يوحي بها ظاهره، فالقرآن قد وصف نفسه بأنه «هدى» وبأنه «بيان»، فكيف يأتي فيه «المتشابه» الذي أثار الخلاف وأوقع الفتن؟
ويرد ابن قتيبة هذا الطعن رابطا وجود «المتشابه» بفكرة الاختبار والابتلاء والتكليف ليتبين المجتهد من المقلد، وليتمايز الناس بمعارفهم. وذلك لا يتناقض من وجهة نظره مع نزول القرآن على لغة العرب وأسلوبها في التعبير، فاللغة نفسها فيها «الإيجاز والاختصار، والاطالة والتوكيد والاشارة إلى الشيء واغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلّا اللقن، واظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة».
وإذا كان معنى «المتشابه» عند ابن قتيبة قد أخذ هذا المعنى الواسع، حتى أدخل فيه الحروف المقطعة في أوائل السور، وإذا كان ابن قتيبة، شأنه شأن أبي عبيدة والفراء والجاحظ كان مشغولا بالرد على الطاعنين والمتأولين، فمن الطبيعي أن يسلم بامكانية معرفة «المتشابه» ما دام قد سلم بأهميته لتمييز المجتهد من المقلد «ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم. وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلّا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلق علينا بعلة» ويحتاج ابن قتيبة بعد ذلك للتأويل النحوي للآية، خصوصا قوله تعالى {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} وهل هي معطوفة مع ما قبلها {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} أم هي جملة مستأنفة مقطوعة عنها؟
والمشكلة الاعرابية في الآية تتركّز في جملة «يقولون آمنا به» لأنها ليست مسبوقة بواو الحال أو واو العطف وهذا يجعلها أقرب للجملة الخبرية للراسخين في العلم، ومن جهة أخرى فإن أسلوب القصر بما والا في الجملة السابقة يجعل عطف الجملتين صعبا. ولكن ابن قتيبة يخرج من ذلك كله بتوجيه الآية على أن «يقولون» هاهنا في معنى الحال، كأنه قال: الراسخون في العلم قائلين: آمنا به. ومثله في الكلام:
لا يأتينك إلّا عبد الله وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك. يريد: لا يأتينك إلّا عبد الله وزيد قائلا: أنا مسرور بزيارتك. ومثله لابن مفرغ الحميري يرثي رجلا في قصيدة أولها:
أصرمت حبلك من أمامه ... من بعد أيام برامه
والريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في غمامه
أراد: والبرق لا معا في غمامة تبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعه معنى». وأيّا كان هذا التوجيه، فقد كان هو التوجيه الذي ساد بين كل الفرق باستثناء أولئك الذين ظلوا على اعتقادهم بأنّ المتشابه مما استأثر الله بعلمه، ولا يعلمه أحد.(1/173)
أصرمت حبلك من أمامه ... من بعد أيام برامه
والريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في غمامه
أراد: والبرق لا معا في غمامة تبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعه معنى». وأيّا كان هذا التوجيه، فقد كان هو التوجيه الذي ساد بين كل الفرق باستثناء أولئك الذين ظلوا على اعتقادهم بأنّ المتشابه مما استأثر الله بعلمه، ولا يعلمه أحد.
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى مسلك ابن قتيبة في تأويل آيات القرآن، نجده يتفق مع المعتزلة في كثير من تأويلاتهم في قضية التوحيد ونفي مشابهة الله للبشر، وذلك باستثناء اسناد الكلام إلى الله فقد اعتبره ابن قتيبة اسنادا حقيقيا بينما اعتبره المعتزلة اسنادا مجازيا كما سبق أن وضحنا. فالوجه في قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} وفي جميع الآيات التي تضيف لله وجها، معناه هو. ويضع في الاستعارة قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} ويكون معناه «أي عن شدة الأمر»، وكذلك قوله: {وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً} وتكون أهون في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} بمعنى «هين عليه، أي سهل عليه». وأمّا قوله تعالى {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ} فإن معناه «ومجازه: سنقصد لكم بعد طول الترك والاهمال». وقوله تعالى {مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا} أي يقهرها ويذلّها بالملك والسلطان». أمّا خشينا في قوله تعالى {فَخَشِينََا أَنْ يُرْهِقَهُمََا طُغْيََاناً وَكُفْراً} فتكون معناها «علمنا» «لأن في الخشية والخوف طرفان من العلم». ومن الواضح في هذا التأويل الأخير عجز التحليل اللغوي عن ادراك المعنى، فسياق الآية في سورة الكهف، في حوار بين موسى عليه السلام والعبد المؤمن الذي أوتي العلم اللدني، ومن الطبيعي أن يعبر العبد المؤمن عن علمه بالخشية، وحتى لو كان الفعل مسندا لله، فتظل معضلة اللغة التي أشرنا اليها هي العائق عن التعبير عمّا هو خارج عن حدودها.
ولا يخرج تأويل الآيات التي توهم حدوث علم الله عند ابن قتيبة عمّا سبق أن وجدناه عند أبي عبيدة والفراء، أمّا الآيات التي تسند المكر والاستهزاء إلى الله فيضعها ابن قتيبة فيما جاء مخالفا معناه لظاهر لفظه «ومن ذلك الجزاء عن الفعل بمثل لفظة والمعنيان مختلفان: نحو قوله تعالى: {إِنَّمََا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللََّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يجازيهم جزاء الاستهزاء». ومن هذا النوع من المجاز أيضا مخالفة ظاهر اللفظ للمعنى «أن يأتي الكلام على لفظ أمر وهو تهديد: كقوله {اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ»}.
ومن استعراض هذه الأمثلة كلها نحس أن ابن قتيبة لا يكاد يضيف جديدا إلى ما قدّمه السابقون عليه، ونلاحظ أيضا أن الحس التوضيحي التبسيطي الذي
يعنى بالشرح أكثر من التحليل ما يزال طاغيا. وفي هذه القضية ليس ثمّة خلاف أساسي بين المعتزلة وابن قتيبة، ومن ثم فهو يكاد ينقل عنهم شروحهم وتأويلاتهم، خصوصا عن الفراء.(1/174)
ومن استعراض هذه الأمثلة كلها نحس أن ابن قتيبة لا يكاد يضيف جديدا إلى ما قدّمه السابقون عليه، ونلاحظ أيضا أن الحس التوضيحي التبسيطي الذي
يعنى بالشرح أكثر من التحليل ما يزال طاغيا. وفي هذه القضية ليس ثمّة خلاف أساسي بين المعتزلة وابن قتيبة، ومن ثم فهو يكاد ينقل عنهم شروحهم وتأويلاتهم، خصوصا عن الفراء.
وإذا انتقلنا إلى قضية العدل، فإننا نجد الخلاف واضحا، وهنا تبرز الشخصية السنية لابن قتيبة. وإذا كان في «تأويل مشكل القرآن» لم يتعرّض أو يشر من قريب إلى «محكم» مقابل «للمتشابه» فإنه في «تأويل مختلف الحديث» وحين يرد على النظّام هجومه على ابن مسعود يلمح بشكل غير مباشر إلى معنى الاحكام في بعض الآيات التي يفسّرها على ظاهرها مخالفا بذلك المعتزلة الذين يتأولون هذه الآيات على أساس أنها «متشابهات» وهي كلها آيات توهم بأن الله هو الذي يضلّ وهو الذي يهدي. يقول: «وكيف يكذب ابن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب يقول الله تعالى {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي جعل في قلوبهم الايمان، كما قال في الرحمة {فَسَأَكْتُبُهََا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ}
الآية أي سأجعلها ومن جعل الله تعالى في قلبه الايمان فقد قضى له بالسعادة، وقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لََا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ}
ولا يجوز أن يكون إنك لا تسمي من أحببت هاديا ولكن الله يسمي من يشاء هاديا، وقال {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} كما قال {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمََا هَدى ََ} ولا يجوز أن يكون سمى فرعون قومه ضالين وما سماهم مهتدين وقال {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ} وقال {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا وَلََكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ} وأشباه هذا في القرآن والحديث يكثر ويطول» وهذه الاستشهادات الكثيرة على مسألة واحدة، تعني أن هذه الآيات من وجهة نظر ابن قتيبة محكمات لا تحتاج لتأويل، وإن احتاجت لمزيد من الشرح والتوضيح ردّا على تأويلات المعتزلة لها.
ويتوقف ابن قتيبة طويلا أمام قوله {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} لينفي عنه تأويلات المعتزلة السابقين عليه، وهو يعتمد في ذلك على التفرقة بين صيغتي أفعل بزيادة الهمزة، وفعل بالتضعيف ومعنى كل منهما. فصيغة أفعل تعني وجدت الشيء على صفة، بينما فعل تعني وصف الشيء بصفة وذهب «أهل القدر» في قوله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} إلى أنه على جهة التسمية والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية وقال «فريق منهم» يضلهم ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبين لهم ويرشدهم. فخالفوا بين الحكمين. ونحن لا نعرف في
اللغة أفعلت الرجل نسبته. وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى فعلت. تقول: شجعت الرجل وجبنته وسرقته وخطأته وكفرته وفسقته وفجرته ولحنته. وقرئ: (ان ابنك سرق) أي نسب الى السرق. ولا يقال في شيء من هذا كله، أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك.(1/175)
ويتوقف ابن قتيبة طويلا أمام قوله {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} لينفي عنه تأويلات المعتزلة السابقين عليه، وهو يعتمد في ذلك على التفرقة بين صيغتي أفعل بزيادة الهمزة، وفعل بالتضعيف ومعنى كل منهما. فصيغة أفعل تعني وجدت الشيء على صفة، بينما فعل تعني وصف الشيء بصفة وذهب «أهل القدر» في قوله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} إلى أنه على جهة التسمية والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية وقال «فريق منهم» يضلهم ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبين لهم ويرشدهم. فخالفوا بين الحكمين. ونحن لا نعرف في
اللغة أفعلت الرجل نسبته. وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى فعلت. تقول: شجعت الرجل وجبنته وسرقته وخطأته وكفرته وفسقته وفجرته ولحنته. وقرئ: (ان ابنك سرق) أي نسب الى السرق. ولا يقال في شيء من هذا كله، أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك.
وقد احتج «رجل من النحويين» كان يذهب إلى «القدر» لقول العرب:
كذبت الرجل وأكذبته. بقول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لََا يُكَذِّبُونَكَ} ولا يكذبونك، وذكر أن أكذبت وكذبت جميعا بمعنى: نسبت إلى الكذب وليس ذاك كما تأوّل، وإنما معنى أكذبت الرجل: ألفيته كاذبا. وقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لََا يُكَذِّبُونَكَ}
بالتخفيف أي: لا يجدونك كاذبا فيما جئت به، كما تقول: أبخلت الرجل وأجبنته وأحمقته، أي وجدته جبانا بخيلا أحمق». وواضح أن الجدل والنقاش كان يجعل كلا الفريقين يعدل من موقفه وتأويلاته تفاديا لهجوم خصمه، فالزمخشري يتخلّص من هذا المأزق اللغوي في الآية عن طريق اخضاعها لمقولة اللطف والخذلان فالضلال معناه «أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه {وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} هو أن يلطف بمن علم أنه يختار الايمان: يعني أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم يبنه على الاجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك وحققه بقوله {وَلَتُسْئَلُنَّ عَمََّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولو كان هو المضطر إلى الضلال والاهتداء لما أثبت لهم عملا يسألون عنه». والزمخشري إلى جانب ربطه بين أول الآية وآخرها، يستغلّ مقولة اللطف استغلالا ذكيا، ربما لم يكن معاصر وابن قتيبة أو السابقون عليه قادرين عليه.
وفي مجيء اللفظ عاما يراد به الخصوص، يتعرّض ابن قتيبة لآية سبق أن تعرض لها الفراء، وأخذها على عمومها وهي قوله تعالى {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ.} أمّا ابن قتيبة فهو يخصص عموم الآية. يقول: «يريد المؤمنين منهم. يدلك على ذلك قوله في موضع آخر: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وفي استشهاد ابن قتيبة بالآية الأخيرة على أنها محكمة، وهي عند المعتزلة متشابهة، ما يؤكّد ما سبق أن قلناه من أن كلا الفريقين المعتزلة وأهل السنة قد حاولوا تقسيم القرآن طبقا لمعتقداتهم وأفكارهم، فكل ما أيّد هذه الأفكار اعتبروه محكما، وكل ما خالفها اعتبروه متشابها. وبذلك أصبح «المجاز» سلاحا للتأويل. ولذلك كله ليس غريبا أن يضع ابن قتيبة «العموم والخصوص» وهي مقولة فقهية في الأساس الأول ضمن أنواع المجاز.(1/176)
فإذا تركنا هذه الجوانب، وجدنا ابن قتيبة يميل إلى الارجاء بالمعنى السني الذي وجدناه عند مقاتل بن سليمان، فمعنى الايمان عنده هو التصديق. ولا تكاد تخرج معاني الايمان في القرآن عنده عن وجوه المعاني التي عرض لها مقاتل في كلمة ايمان. ولتأكيد اتفاقه مع مقاتل فيما ذهب إليه نلاحظ أنه عند تفسير قوله تعالى: {خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} يتوقف وقفة طويلة، ويقترح ثلاثة تأويلات للآية. أمّا التأويل الأول فهو يتفق مع المعتزلة على أن ارتباط الخلود بدوام السماوات والأرض لا يعني انقطاعه «وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه عن هيئتهما» لكنهما خالدتان وليستا زائلتين. أمّا الاستثناء فتأويله أن «إلّا في هذا الموضع بمعنى «سوى» ومثله في الكلام: لأسكنن في هذه الدار حولا إلّا ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول» ومعنى ذلك أن الاستثناء لا يعني انقطاع الخلود في الجنة أو النار وإنما يعني أنه دائم «سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. أمّا الوجه الثاني فهو «أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإن كانتا تتغيران، وتستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة، فإنه قال: خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض، إلّا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك» وهذا الوجه أيضا لا يختلف عمّا قاله المعتزلة، والمتأخرون منهم خصوصا القاضي عبد الجبار والزمخشري. أمّا الوجه الثالث من وجوه التأويل وهو الذي يهمنا فيما يتصل بارجاء ابن قتيبة هو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة الله، وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنة»
وننتهي من ذلك كله إلى أن معنى «المتشابه» عند ابن قتيبة لم يقتصر على الآيات الخلافية، بل اتسع ليشمل كل ما هو غامض أو محل للطعن أو التشكيك، سواء من الوجهة الكلامية، أو اللغوية، أو النحوية، أو البلاغية وكانت نتيجة ذلك كله أن «المتشابه» لا يخضع عنده للمحكم، وإن خضع للتأويل المجازي بمعنى عام. وإذا كنا قد لاحظنا أنه ردّ قوله تعالى {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} إلى قوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} فإن ذلك لم يصدر في الغالب عن تصور كامل لضرورة رد المتشابه إلى المحكم. ومعنى ذلك أن قانون «المحكم والمتشابه» كأساس لعملية التأويل، واستخدام المجاز كأداة من أدوات التأويل، هو مسلك اعتزالي صرف، نقله غير المعتزلة عنهم وحاولوا بذلك الرد عليهم بنفس أدواتهم وأسلحتهم.(1/177)
ج الامام يحيى بن الحسين
ومن ناحية أخرى يبدو أن المسألة حتى أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع لم تكن قد حسمت بهذا الوضوح الكامل فالامام يحيى بن الحسين (ت 298هـ) الشيعي المعتزلي يوسّع من المفهوم كثيرا حين يقول: «اعلم أن القرآن محكم ومتشابه وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر وأخبار وقصص. وظاهر وباطن. وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضا، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه، ليس فيه تناقض وذلك أنه كتاب عزيز جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم» ولكنه حين يتعرّض للرد على القدرية أو المشبهة يبدأ بايراد الآيات التي يحتجون بها ثم يؤولها تأويلا يتفق مع حرية الارادة الانسانية. ويبدو من تأويلات الامام يحيى التنبه الدائم لفكرة السياق كأساس يردّ به على المحتجين. يقول: «ثم احتجوا بقوله، سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ، أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} وجهلوا ما قبل ذلك من قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} وعبده من دون الله، وعلم ذلك منه ومن فعله، فأضلّه الله بعد ما فعل وبعد ما كان منه، ولعلمه أنه لا يؤمن ولا يدع ما هو عليه من الكفر. فهذا معنى علم الله به، لم يدخله العلم في شيء ولم يحل بينه وبين شيء، وإنما أخبر باضلاله والاضلال من الله إنما هو في اهماله وترك تسديده وتوفيقه للخير».
وإذا لم تسعفه فكرة السياق في الآية نفسها، فإنه يلجأ والحالة هذه إلى الاستشهاد بآية محكمة ترد اليها هذه الآية التي يستشهد بها الخصوم وتؤول على أساسها. والقاعدة العامة للمفسر عند الامام يحيى أنه «إذا مرّ عليه شيء من القرآن يقع عنده أنه مخالف لهذه الآيات (يعني قوله تعالى {إِنَّ اللََّهَ لََا يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ}
{وَلََا يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ} فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم، إلّا أنه جهل تفسيره».
وكل هذه المحاولات التأويلية تقود الامام يحيى إلى أبحاث دلالية حول معاني بعض الكلمات التي كانت مثار خلاف بين المعتزلة وخصومهم في القرآن، مثل معنى الهدى، والضلال، والعبادة، والارادة، والاذن والكفر والشرك والزكاة. وتعدّ هذه الابحاث الدلالية حول معنى الكلمات في القرآن امتدادا «للأشباه والنظائر» عند مقاتل، ومثيلتها عند ابن قتيبة في «تأويل مشكل القرآن».
والفارق بين أبحاث الامام يحيى وأبحاث من سبقه أنه يدخل فيها فكره الاعتزالي ويخضعها له مخلصا لمبدأ اخضاع المحكم والمتشابه معا للعقل، ثم تأويل المتشابه برده إلى المحكم الذي يؤكد ثمار العقل والنظر السليم. ويكاد الامام يحيى أن
يستوعب في مادتي «الهدى» و «الضلال» تأويل كل الآيات المتشابهة في موضوع «العدل». يقول «الهدى من الله عز وجل، هديان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة، فأمّا الهدى المبتدأ: فقد هدى الله به البر والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب، فمن انصف عقله وصدّق رسوله وآمن بكتابه، وحلل حلاله وحرّم حرامه، استوجب من الله الزيادة.(1/178)
والفارق بين أبحاث الامام يحيى وأبحاث من سبقه أنه يدخل فيها فكره الاعتزالي ويخضعها له مخلصا لمبدأ اخضاع المحكم والمتشابه معا للعقل، ثم تأويل المتشابه برده إلى المحكم الذي يؤكد ثمار العقل والنظر السليم. ويكاد الامام يحيى أن
يستوعب في مادتي «الهدى» و «الضلال» تأويل كل الآيات المتشابهة في موضوع «العدل». يقول «الهدى من الله عز وجل، هديان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة، فأمّا الهدى المبتدأ: فقد هدى الله به البر والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب، فمن انصف عقله وصدّق رسوله وآمن بكتابه، وحلل حلاله وحرّم حرامه، استوجب من الله الزيادة.
والهدى الثاني: جزاء على عمله ومكافأة على فعله، كما قال، عز وجل:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ،} وقال: {وَيَزِيدُ اللََّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً.}
ومن كابر عقله وكذّب رسوله وردّ كتابه، استوجب من الله الخذلان، وتركه من التوفيق والتسديد، وأضلّه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وذلك قوله، تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} عنى الهدى الثاني، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} يقول: ومن يرد أن يوقع اسم الضلالة عليه، بعد أن استوجب بفعله القبيح، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمََا يَصَّعَّدُ فِي السَّمََاءِ كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ،} فقد بيّن، عز وجل، في آخر الآية أنه لم يضله ولم يضيق صدره إلّا بعد عصيانه وكفره وضلاله، لأنه يقول:
{كَذََلِكَ يَجْعَلُ اللََّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ} ولم يقل أنه يجعل الرجس على الذين آمنوا، ثم قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال وسماه به ودعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه، وتركه من التوفيق والتسديد وخذله ولم يؤيده ولم يسدده كما أيد وسدد الذي عبده، عز وجل، ثم قال {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} ثم قال {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} وقال:
{كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ الْكََافِرِينَ،} {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ،}
{كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ»}. ومعنى ذلك أن الله قد هدى الناس جميعا بما منحهم من العقل القادر على النظر، ثم أرسل لهم الرسل والكتب للهداية أيضا، فمن اهتدى بهذه الأدلّة زاده الله هدى ووفقه وسدده جزاء على اهتدائه، ومن لم يهتد فإنه بذلك يكون قد أتى من قبل نفسه، لا من قبل الله.
وبذلك يكون ما ورد في القرآن من أن الله أضل، ليس المقصود به منعه من الاهتداء الذي هو مخير وحر فيه، ولكن يكون المقصود به أن الله سمّاه بالضلال ودعاه به، ويكون معنى الختم على القلب والبصر هو الخذلان، ولكن الانسان أساسا هو المسئول عن اهتدائه أو ضلاله.
ولا يختلف هذا التأويل عمّا ذكره الامام يحيى في مادة «الضلال»، بل يلتقي
التأويلان لتأكيد حرية الانسان ونفي الجبر والالجاء والقسر عنه، وبذلك تتحدد مسئوليته عن فعله، وينتفي الظلم عن الله عز وجل «قوله، سبحانه {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ،} وقوله {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ،} و {يُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ}
و {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ،} ونحو هذا في القرآن كثير. يعني في جميع ذلك، أنه يوقع عليه اسم الضلال ويدعوه به بعد العصيان والطغيان، لا أنه يغويهم عن الصراط المستقيم كما أغوى فرعون قومه، وان أشبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم، إذ الله عز وجل، رحيم بعباده، ناظر لخلقه، وفرعون كافر لعين ملعون مضل غوي، وهو، عز وجل، قد عذّب فرعون على فعله وضلاله وقبح سوء فعله بنفسه وقومه، وكيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ثم يعذبهم على فعله، إذا لكان لهم ظالما وعليهم متعديا، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل».(1/179)
ولا يختلف هذا التأويل عمّا ذكره الامام يحيى في مادة «الضلال»، بل يلتقي
التأويلان لتأكيد حرية الانسان ونفي الجبر والالجاء والقسر عنه، وبذلك تتحدد مسئوليته عن فعله، وينتفي الظلم عن الله عز وجل «قوله، سبحانه {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ،} وقوله {يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ،} و {يُضِلُّ اللََّهُ الظََّالِمِينَ}
و {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ،} ونحو هذا في القرآن كثير. يعني في جميع ذلك، أنه يوقع عليه اسم الضلال ويدعوه به بعد العصيان والطغيان، لا أنه يغويهم عن الصراط المستقيم كما أغوى فرعون قومه، وان أشبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم، إذ الله عز وجل، رحيم بعباده، ناظر لخلقه، وفرعون كافر لعين ملعون مضل غوي، وهو، عز وجل، قد عذّب فرعون على فعله وضلاله وقبح سوء فعله بنفسه وقومه، وكيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ثم يعذبهم على فعله، إذا لكان لهم ظالما وعليهم متعديا، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل».
وهكذا يصبح التأويل والمحكم والمتشابه عند الامام يحيى كما كانا عند الامام القاسم الرسى وجهين لقضية واحدة، وإذا كان كلاهما لم يستخدم مصطلح «المجاز» فذلك لأن «التأويل» مصطلح يشمل «المجاز» عند الشيعة، خصوصا عند المتأخرين منهم. ومع ذلك كله «فالتأويل» و «المجاز» عند المعتزلة أنفسهم يشيران إلى معنى واحد في التحليل النهائي وإذا كان كل من أبي عبيدة والفراء والجاحظ وابن قتيبة قد أسهبوا في بيان كثير من التفاصيل والأنواع التي تدخل كلها تحت مصطلح «المجاز» بمعناه العام، فإنهم في نفس الوقت قد ربطوه بغاية محددة هي «التأويل» بمعناه اللغوي الذي يعني الشرح والتفسير ولكن بشيء من النظر والتأمل واعمال الفكر. وسنجد أن القاضي عبد الجبار قد استفاد من كل هذه الجهود وإن كان له فضل الصياغة النهائية والربط الكامل بين وجوه «التأويل» و «المجاز» و «المحكم والمتشابه» من جهة، وبين الأسس الفكرية والعقلية للمدرسة الاعتزالية في شكلها الناضج والنهائي من جهة أخرى.
5 - المجاز والتأويل عند القاضي عبد الجبار
أالمحكم والمتشابه كأساس للتأويل.
أفرد القاضي عبد الجبار ضمن مؤلفاته العديدة كتابا كبيرا من قسمين لتأويل متشابهات القرآن وردها إلى المحكمات. وقدّم بين يدي هذا الكتاب مقدمة ضافية وضع فيها الأسس والقواعد التي ينبغي أن تحكم عملية التأويل وتضبطها. هذا علاوة على المواضع الكثيرة التي تناول فيها هذه القضية في موسوعته الضخمة
«المغني في أبواب التوحيد والعدل» وفي شرحه للأصول الخمسة كذلك. والأساس عنده أن القرآن كلام الله، والكلام ليس صفة من صفات الذات، وإنما هو صفة من صفات الأفعال (لأنه محدث على وجه مخصوص). وهو كلام قصد به منفعة البشر وهدايتهم ولذلك فلا بدّ من أن يكون دلالة، وإلّا انتفت عنه صفة المنفعة، وانتفت الحكمة بالتالي عن فعل من أفعال الله. «والقول إذا كان بلغة مخصوصة فقد وضع ليدل على المراد، فمتى خاطب به الحكيم الذي لا تصح عليه الحاجة إلّا ليفيد به المخاطب، فقد خاطب به على وجه يقبح».(1/180)
أفرد القاضي عبد الجبار ضمن مؤلفاته العديدة كتابا كبيرا من قسمين لتأويل متشابهات القرآن وردها إلى المحكمات. وقدّم بين يدي هذا الكتاب مقدمة ضافية وضع فيها الأسس والقواعد التي ينبغي أن تحكم عملية التأويل وتضبطها. هذا علاوة على المواضع الكثيرة التي تناول فيها هذه القضية في موسوعته الضخمة
«المغني في أبواب التوحيد والعدل» وفي شرحه للأصول الخمسة كذلك. والأساس عنده أن القرآن كلام الله، والكلام ليس صفة من صفات الذات، وإنما هو صفة من صفات الأفعال (لأنه محدث على وجه مخصوص). وهو كلام قصد به منفعة البشر وهدايتهم ولذلك فلا بدّ من أن يكون دلالة، وإلّا انتفت عنه صفة المنفعة، وانتفت الحكمة بالتالي عن فعل من أفعال الله. «والقول إذا كان بلغة مخصوصة فقد وضع ليدل على المراد، فمتى خاطب به الحكيم الذي لا تصح عليه الحاجة إلّا ليفيد به المخاطب، فقد خاطب به على وجه يقبح».
وإذا كان القول وكلام الله قول بلغة مخصوصة فإنه يدل بشرطين:
الشرط الأول هو وجود مواضعة سابقة والشرط الثاني هو معرفة قصد المتكلم أو المخاطب بهذا القول «لأن الخبر لا يعلم بصيغته أنه صدق أو كذب حتى إذا علم حال المخبر صحّ أن نعلم ذلك، وقد علمنا أن ما أخبر جل وعز عنه في القرآن لم يتقدم لنا العلم بحال مخبره، فيجب أن لا يعلم أنه صدق إلّا بعد العلم بحال المخبر وأنه حكيم».
ومعنى هذا أن الاستدلال بالقرآن، أو اعتباره دلالة لا يصحّ إلّا بعد معرفة المتكلم بكل صفاته من التوحيد والعدل، بما يتضمنه مبدأ العدل من أن الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به ولا يكذب في أخباره. وإذا كانت كل هذه الاشياء من صميم النظر العقلي، لا من الاستدلال السمعي، فإن القرآن نفسه لا بدّ أن يخضع في الاستدلال به للنظر العقلي. والواقع أن المعتزلة لم يتصوروا للحظة واحدة امكانية أن يدل العقل على خلاف ما يدل عليه القرآن، غاية الأمر أنهم كانوا في جدلهم المستمر مع غير المسلمين أو مع مخالفيهم من المسلمين يريدون أن يحتكموا إلى مبدأ ظنوا أنه لا يخطئ إذا استخدم استخداما سليما، ولذلك هاجموا خصومهم هجوما عنيفا على أساس أن نظرهم في القرآن كان ناقصا وخاطئا «لأنهم إنما أتوا في ذلك من جهة الجهل بما يجوز على الله تعالى، و (ما) لا يجوز وبطريقة اللغة، فأما مع المعرفة بذلك وتأمل الآيات فلا بدّ من أن ينكشف أنه لا اختلاف في دلالته، وهذا كما نقول من أن قول الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} موافق لقوله {وَجََاءَ رَبُّكَ} متى حمل ذلك على أن تأويله وجاء متحملو أمر ربك ونحو قوله تعالى {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} انه موافق لقوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} إذا حمل على أن المراد به العاقبة إن المتعلق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أن القرآن دلالة على التوحيد والعدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلّا بعد العلم بالتوحيد والعدل، وبينا فساد القول الأول، بأن قلنا: إن من
لا يعرف المتكلم، ولا يعلم أنه ممن لا يتكلم إلّا بحق، لا يصحّ أن يستدل بكلامه، لأنه لا يمكن أن يعلم صحة كلامه إلّا بما قدمناه، لأنه لا يصح أن يعلمه بقوله: أن كلامه حق، لأنه إذا جوّز في كلامه أن يكون باطلا يجوّز في هذا القول أيضا أن يكون باطلا، وإذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة».(1/181)
ومعنى هذا أن الاستدلال بالقرآن، أو اعتباره دلالة لا يصحّ إلّا بعد معرفة المتكلم بكل صفاته من التوحيد والعدل، بما يتضمنه مبدأ العدل من أن الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به ولا يكذب في أخباره. وإذا كانت كل هذه الاشياء من صميم النظر العقلي، لا من الاستدلال السمعي، فإن القرآن نفسه لا بدّ أن يخضع في الاستدلال به للنظر العقلي. والواقع أن المعتزلة لم يتصوروا للحظة واحدة امكانية أن يدل العقل على خلاف ما يدل عليه القرآن، غاية الأمر أنهم كانوا في جدلهم المستمر مع غير المسلمين أو مع مخالفيهم من المسلمين يريدون أن يحتكموا إلى مبدأ ظنوا أنه لا يخطئ إذا استخدم استخداما سليما، ولذلك هاجموا خصومهم هجوما عنيفا على أساس أن نظرهم في القرآن كان ناقصا وخاطئا «لأنهم إنما أتوا في ذلك من جهة الجهل بما يجوز على الله تعالى، و (ما) لا يجوز وبطريقة اللغة، فأما مع المعرفة بذلك وتأمل الآيات فلا بدّ من أن ينكشف أنه لا اختلاف في دلالته، وهذا كما نقول من أن قول الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} موافق لقوله {وَجََاءَ رَبُّكَ} متى حمل ذلك على أن تأويله وجاء متحملو أمر ربك ونحو قوله تعالى {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} انه موافق لقوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} إذا حمل على أن المراد به العاقبة إن المتعلق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أن القرآن دلالة على التوحيد والعدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلّا بعد العلم بالتوحيد والعدل، وبينا فساد القول الأول، بأن قلنا: إن من
لا يعرف المتكلم، ولا يعلم أنه ممن لا يتكلم إلّا بحق، لا يصحّ أن يستدل بكلامه، لأنه لا يمكن أن يعلم صحة كلامه إلّا بما قدمناه، لأنه لا يصح أن يعلمه بقوله: أن كلامه حق، لأنه إذا جوّز في كلامه أن يكون باطلا يجوّز في هذا القول أيضا أن يكون باطلا، وإذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة».
وإذا كان القرآن لا تعرف دلالته إلّا بعد تقدم المعرفة العقلية بتوحيد الله وعدله وسائر صفاته، فإن الحاجة للقرآن وللسمع عموما تصبح تابعة للعقل. ويبدو أن المعتزلة في هذه الحالة يعطون للعقل الأولوية على النص.
ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن العقل الضروري العلوم الضرورية هبة من الله للبشر جميعا منحها لهم وعلى أساسه كلفهم بعد أن نصب لهم الأدلة. في هذه الحالة لا يحسّ المعتزلة أي تناقض بين العقل والقرآن لأن كليهما من عند الله، وكلاهما يتفقان بالضرورة. وإنما يأتي خطأ من يستدل بالقرآن من خطئه في الاستدلال العقلي، أو من اهماله لقضية الاستدلال العقلي اهمالا تاما. وعلى ذلك فالمعتزلة حين يردون الخصم إلى أدلة العقل، لا يردونه إلى شيء خارج اطار القدرة الالهية أو النعمة الالهية. الفارق الوحيد بين أدلّة العقل وأدلّة القرآن، أن أدلّة العقل لا يدخلها الاشتراك والمجاز والاستعارة، كما يدخل ذلك في أدلّة القرآن، التي هى لغة من طبيعتها الاشتراك والمجاز والاستعارة. أمّا الفارق الثاني فهو أن اللغة لا تدل إلّا بعد معرفة قصد القائل، على العكس من الفعل الذي يدل بمجرده على الفاعل، وبوقوعه محكما على أن فاعله عالم. والفعل في هذه الحالة يدل دون أن نضع الفاعل في اعتبارنا، والأمر على عكس ذلك في اللغة التي لا بدّ من اعتبار حال الفاعل وقصده حتى تقع دلالة فإن «كل فعل لا تعلم صحته ولا وجه دلالته إلّا بعد أن يعرف حال فاعله لا يمكن أن يستدل به على اثبات فاعله ولا على صفاته، وإنما يمكن أن يستدل به على سوى ذلك من الأحكام، لأنه إن دلّ على حال فاعله، ولا يعلم صحته إلّا وقد علم فاعله، أدّى ذلك إلى أن لا يدل عليه إلّا بالمعرفة به، ومتى علم الشيء استغني عن الدلالة عليه» وهكذا يعود بنا القاضي عبد الجبار إلى الاساس الذي سبق أن ناقشناه، وهو الأساس الذي يضع اللغة نوعا ثالثا من أنواع الدلالة العقلية.
وإذا كانت اللغة نوعا من الاستدلال المؤدي إلى المعرفة، فمن الطبيعي والحالة هذه، أن يكون فيها كأنواع الأدلة عموما ما هو واضح، ومنها ما هو غامض. وعلى مستوى القرآن سيكون المحكم هو الدليل الواضح، وسيكون
المتشابه هو الدليل الغامض الذي يحتاج لمزيد من النظر حتى يدل. أمّا على مستوى اللغة العادية كلام البشر فسيصبح الكلام الخالي من القرينة والذي يدل بظاهره هو الدليل الواضح، والغامض هو الذي لا يدل بظاهره وإنما يحتاج لمضامة القرينة حتى يدل. وكل ذلك يتساوى في النهاية، أي يتساوى مفهوم المحكم والمتشابه، مع مفهوم اللغة الحقيقية واللغة المجازية، وبالتالي يصبح التأويل في المتشابهات هو الوسيلة لرفع غموضها بردها إلى المحكم، ويصبح المجاز هو الأداة الرئيسية لعملية التأويل هذه. وهذه المقابلة بين الاستدلال اللغوي والاستدلال العقلي يعقدها القاضي عبد الجبار بشكل يؤكّد ما نذهب إليه. يقول: «اعلم أن الغرض بكتاب الله جل وعز التوصل به إلى العلم بما كلفناه وبما يتصل بذلك من الثواب والعقاب، والقصص وغيره. والعلوم قد يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية وأن تكون مكتسبة. ومتى كانت ضرورية فقد يكون الصلاح أن يتوصل إليها بمعاناة، وقد يكون الصلاح في خلافه وكذلك المكتسب قد يكون الصلاح في أن ينجلي طريقه، وقد تكون المصلحة في أن يغمض ذلك. وصارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الافعال التي يفعلها الله والتي يكلفناها. فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف أن يقول: ما الفائدة في أن نكلف اكتساب المعرفة بالله عز وجل وبتوحيده وعدله، وهلا جعل ذلك أجمع في العلوم الضرورية، ليكون أجلى ولتزول الشبه والشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله في طرق الأدلة فيقول: هلا جعلها عز وجل متفقة في الوضوح! وبمثل ذلك أبطلنا قول من قال بنفي القياس والاجتهاد إذا عوّل على أن النصوص تزول عنها الريب فيجب أن تكون الأحكام مستدركة بها، فقلنا: إن المصلحة قد تختلف في طرق الأحكام كما تختلف في نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يقال فيها: إنه يجب أن يجري على وجه واحد، فكذلك القول في طريقها وأدلتها» وهذا الاختلاف بين الأدلة في وضوح بعضها وغموض بعضها الآخر يردّ إلى مصلحة خاصة بالمكلف، وهي مصلحة ترتد إلى اثارة العقل «لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده، وفي بعضها أن لا يعرف المراد به إلّا مع غيره، ألا ترى أن العادة قد جرت أنّا نعلم المدركات الواضحة بالادراك، ولا نعلم بالاخبار ما تتناولة إلّا إذا تكررت، وكذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من العلوم، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. وفيها ما يفعله عن سبب واحد، وفيها ما يفعله عن أسباب، بحسب ما يعلم من الصلاح». وبفكرة الصلاح يعود القاضي للرد على التساؤل الذي يمكن أن يثار حول أهمية القرآن إذا كان العقل وحده يستطيع أن يعرف الله بكل صفاته من
التوحيد والعدل.(1/182)
وإذا كانت اللغة نوعا من الاستدلال المؤدي إلى المعرفة، فمن الطبيعي والحالة هذه، أن يكون فيها كأنواع الأدلة عموما ما هو واضح، ومنها ما هو غامض. وعلى مستوى القرآن سيكون المحكم هو الدليل الواضح، وسيكون
المتشابه هو الدليل الغامض الذي يحتاج لمزيد من النظر حتى يدل. أمّا على مستوى اللغة العادية كلام البشر فسيصبح الكلام الخالي من القرينة والذي يدل بظاهره هو الدليل الواضح، والغامض هو الذي لا يدل بظاهره وإنما يحتاج لمضامة القرينة حتى يدل. وكل ذلك يتساوى في النهاية، أي يتساوى مفهوم المحكم والمتشابه، مع مفهوم اللغة الحقيقية واللغة المجازية، وبالتالي يصبح التأويل في المتشابهات هو الوسيلة لرفع غموضها بردها إلى المحكم، ويصبح المجاز هو الأداة الرئيسية لعملية التأويل هذه. وهذه المقابلة بين الاستدلال اللغوي والاستدلال العقلي يعقدها القاضي عبد الجبار بشكل يؤكّد ما نذهب إليه. يقول: «اعلم أن الغرض بكتاب الله جل وعز التوصل به إلى العلم بما كلفناه وبما يتصل بذلك من الثواب والعقاب، والقصص وغيره. والعلوم قد يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية وأن تكون مكتسبة. ومتى كانت ضرورية فقد يكون الصلاح أن يتوصل إليها بمعاناة، وقد يكون الصلاح في خلافه وكذلك المكتسب قد يكون الصلاح في أن ينجلي طريقه، وقد تكون المصلحة في أن يغمض ذلك. وصارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الافعال التي يفعلها الله والتي يكلفناها. فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف أن يقول: ما الفائدة في أن نكلف اكتساب المعرفة بالله عز وجل وبتوحيده وعدله، وهلا جعل ذلك أجمع في العلوم الضرورية، ليكون أجلى ولتزول الشبه والشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله في طرق الأدلة فيقول: هلا جعلها عز وجل متفقة في الوضوح! وبمثل ذلك أبطلنا قول من قال بنفي القياس والاجتهاد إذا عوّل على أن النصوص تزول عنها الريب فيجب أن تكون الأحكام مستدركة بها، فقلنا: إن المصلحة قد تختلف في طرق الأحكام كما تختلف في نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يقال فيها: إنه يجب أن يجري على وجه واحد، فكذلك القول في طريقها وأدلتها» وهذا الاختلاف بين الأدلة في وضوح بعضها وغموض بعضها الآخر يردّ إلى مصلحة خاصة بالمكلف، وهي مصلحة ترتد إلى اثارة العقل «لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده، وفي بعضها أن لا يعرف المراد به إلّا مع غيره، ألا ترى أن العادة قد جرت أنّا نعلم المدركات الواضحة بالادراك، ولا نعلم بالاخبار ما تتناولة إلّا إذا تكررت، وكذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من العلوم، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. وفيها ما يفعله عن سبب واحد، وفيها ما يفعله عن أسباب، بحسب ما يعلم من الصلاح». وبفكرة الصلاح يعود القاضي للرد على التساؤل الذي يمكن أن يثار حول أهمية القرآن إذا كان العقل وحده يستطيع أن يعرف الله بكل صفاته من
التوحيد والعدل.(1/183)
وإذا كانت اللغة نوعا من الاستدلال المؤدي إلى المعرفة، فمن الطبيعي والحالة هذه، أن يكون فيها كأنواع الأدلة عموما ما هو واضح، ومنها ما هو غامض. وعلى مستوى القرآن سيكون المحكم هو الدليل الواضح، وسيكون
المتشابه هو الدليل الغامض الذي يحتاج لمزيد من النظر حتى يدل. أمّا على مستوى اللغة العادية كلام البشر فسيصبح الكلام الخالي من القرينة والذي يدل بظاهره هو الدليل الواضح، والغامض هو الذي لا يدل بظاهره وإنما يحتاج لمضامة القرينة حتى يدل. وكل ذلك يتساوى في النهاية، أي يتساوى مفهوم المحكم والمتشابه، مع مفهوم اللغة الحقيقية واللغة المجازية، وبالتالي يصبح التأويل في المتشابهات هو الوسيلة لرفع غموضها بردها إلى المحكم، ويصبح المجاز هو الأداة الرئيسية لعملية التأويل هذه. وهذه المقابلة بين الاستدلال اللغوي والاستدلال العقلي يعقدها القاضي عبد الجبار بشكل يؤكّد ما نذهب إليه. يقول: «اعلم أن الغرض بكتاب الله جل وعز التوصل به إلى العلم بما كلفناه وبما يتصل بذلك من الثواب والعقاب، والقصص وغيره. والعلوم قد يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية وأن تكون مكتسبة. ومتى كانت ضرورية فقد يكون الصلاح أن يتوصل إليها بمعاناة، وقد يكون الصلاح في خلافه وكذلك المكتسب قد يكون الصلاح في أن ينجلي طريقه، وقد تكون المصلحة في أن يغمض ذلك. وصارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الافعال التي يفعلها الله والتي يكلفناها. فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف أن يقول: ما الفائدة في أن نكلف اكتساب المعرفة بالله عز وجل وبتوحيده وعدله، وهلا جعل ذلك أجمع في العلوم الضرورية، ليكون أجلى ولتزول الشبه والشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله في طرق الأدلة فيقول: هلا جعلها عز وجل متفقة في الوضوح! وبمثل ذلك أبطلنا قول من قال بنفي القياس والاجتهاد إذا عوّل على أن النصوص تزول عنها الريب فيجب أن تكون الأحكام مستدركة بها، فقلنا: إن المصلحة قد تختلف في طرق الأحكام كما تختلف في نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يقال فيها: إنه يجب أن يجري على وجه واحد، فكذلك القول في طريقها وأدلتها» وهذا الاختلاف بين الأدلة في وضوح بعضها وغموض بعضها الآخر يردّ إلى مصلحة خاصة بالمكلف، وهي مصلحة ترتد إلى اثارة العقل «لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده، وفي بعضها أن لا يعرف المراد به إلّا مع غيره، ألا ترى أن العادة قد جرت أنّا نعلم المدركات الواضحة بالادراك، ولا نعلم بالاخبار ما تتناولة إلّا إذا تكررت، وكذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من العلوم، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. وفيها ما يفعله عن سبب واحد، وفيها ما يفعله عن أسباب، بحسب ما يعلم من الصلاح». وبفكرة الصلاح يعود القاضي للرد على التساؤل الذي يمكن أن يثار حول أهمية القرآن إذا كان العقل وحده يستطيع أن يعرف الله بكل صفاته من
التوحيد والعدل.
ولكي يبين القاضي وجه المصلحة في خطاب الله تعالى يفرّق بين وجهين من الكلام «أحدهما يتصل بنفس الخطاب وموضوعه، والآخر بما يدل الخطاب عليه من الأحكام العقلية والسمعية»: أولهما الكلام نفسه، والثاني ما يدل عليه هذا الكلام من أحكام العقل والسمع.
فأمّا الجانب الأول جانب الخطاب نفسه فهو ينقسم إلى ضربين:
«أحدهما يستقل بنفسه في الانباء عن المراد، فهذا لا يحتاج إلى غيره في كونه حجة ودلالة. والثاني: لا يستقل بنفسه فيما يقتضيه، بل يحتاج إلى غيره، ثم ينقسم ذلك إلى قسمين: أحدهما يعرف المراد به وبذلك الغير بمجموعهما، والثاني يعرف المراد به بذلك الغير بانفراده ويكون هذا الخطاب لطفا وتأكيدا» في هذا الوجه الأول، وهو ما يختص بالخطاب نفسه، أي بالعبارة من حيث هي عبارة لغوية، ينقسم الخطاب إلى ثلاثة أنواع: نوع يدل بنفسه أي بظاهره دون حاجة لأي معرفة خارجية مستقلة عنه. أما النوع الثاني وهو ما يحتاج في معرفته إلى غيره فينقسم بدوره إلى قسمين: الأول أن يدل الخطاب بنفسه وبذلك الغير معا، أي أن يدل الخطاب على ما يدل عليه بتركيبه الذاتي وبالقرينة الملازمة له عقلية كانت أو لفظية معا. أمّا النوع الثاني فهو النوع الذي لا يدل فيه الخطاب على شيء، بل القرينة، العقلية أساسا هي التي تدل، وهي قرينة منفصلة عن الخطاب. وتكون وظيفة الخطاب والحالة هذه تأكيد هذه الدلالة العقلية السابقة، ويعتبر القاضي عبد الجبار هذا النوع الأخير لطفا.
ويربط القاضي عبد الجبار بين القرينة اللفظية والعقلية في هذه الأنواع من وجهي الخطاب ربطا محكما حيث يقول «ولا يخرج خطاب الله أجمع عن هذه الأقسام الثلاثة. والقرائن قد تكون متصلة سمعا، وقد تكون منفصلة سمعا وعقلا، وقد بينا أن الدليل العقلي وإن انفصل فهو كالمتصل في أن الخطاب يترتب عليه، لأن قوله جل وعز: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} مع الدليل العقلي الدال على أنه لا يكلف من لا عقل له، أكد في بابه من أن يقول: يا أيها العقلاء اعبدوا ربكم».
كانت هذه الأنواع هي الأنواع التي ينقسم إليه الخطاب بنفسه، أي ببنائه اللغوي. أمّا الوجه الآخر من وجهي الخطاب وهو ما يدل عليه الخطاب من الأحكام العقلية والسمعية فينقسم أيضا إلى أنواع ثلاثة، وهذه الأنواع الثلاثة الأخرى تتطابق مع الأنواع الثلاثة السابقة، غاية الأمر أن الأنواع الثلاثة الأولى
تتعلق ببنية الخطاب، أمّا هذه الأنواع فترتبط بمضمونه «واعلم أن الخطاب على ضربين: أحدهما يدل على ما لولا الخطاب لما صحّ أن يعلم بالعقل، والآخر يدل على ما لولاه لأمكن أن يعرف بأدلة العقول. ثم ينقسم ذلك، ففيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بأدلة العقول، ويصح أن يعلم مع ذلك بالخطاب، فيكون كل واحد كصاحبه في أنه يصح أن يعلم به الغرض. وفيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بالعقل ولا يمكن أن يعلم إلّا به.(1/184)
كانت هذه الأنواع هي الأنواع التي ينقسم إليه الخطاب بنفسه، أي ببنائه اللغوي. أمّا الوجه الآخر من وجهي الخطاب وهو ما يدل عليه الخطاب من الأحكام العقلية والسمعية فينقسم أيضا إلى أنواع ثلاثة، وهذه الأنواع الثلاثة الأخرى تتطابق مع الأنواع الثلاثة السابقة، غاية الأمر أن الأنواع الثلاثة الأولى
تتعلق ببنية الخطاب، أمّا هذه الأنواع فترتبط بمضمونه «واعلم أن الخطاب على ضربين: أحدهما يدل على ما لولا الخطاب لما صحّ أن يعلم بالعقل، والآخر يدل على ما لولاه لأمكن أن يعرف بأدلة العقول. ثم ينقسم ذلك، ففيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بأدلة العقول، ويصح أن يعلم مع ذلك بالخطاب، فيكون كل واحد كصاحبه في أنه يصح أن يعلم به الغرض. وفيه ما لولا الخطاب لأمكن أن يعلم بالعقل ولا يمكن أن يعلم إلّا به.
فالأول هو الأحكام الشرعية، فإنها إنما تعلم بالخطاب وما يتصل به، ولولاه لما صحّ أن يعلم بالعقل الصلوات الواجبة ولا شروطها ولا أوقاتها، وكذلك سائر العبادات الشرعية.
والثاني هو القول في أنه عز وجل لا يرى، لأنه يصح أن يعلم سمعا وعقلا، وكذلك كثير من مسائل الوعيد.
والثالث بمنزلة التوحيد والعدل، لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
{وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} و {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} لا يعلم به التوحيد ونفي التشبيه والقول بالعدل، لأنه متى لم يتقدم للانسان المعرفة بهذه الأمور، لم يعلم أن خطابه تعالى حق، فكيف يمكنه أن يحتج فيما ان لم تتقدم معرفته به لم يعلم صحته».
وهكذا يوضح القاضي عبد الجبار بالأمثلة أنواع وجهي الخطاب.
فالنوع الذي يدل ببنيته ولا يحتاج لقرينة عقلية أو لفظية هو الذي يدل على الأحكام الشرعية، فهذه الأحكام كالصلاة ومقاديرها وشروطها لا يمكن أن تعلم إلّا بخطاب الله، ولا يمكن الوصول إليها بالعقل وحده. أمّا النوع الثاني فهو ما يدل بنفسه وبأدلة العقل معا، ويمكن للخطاب وحده أن يدل عليه، وكذلك يمكن للعقل وحده أن يدل عليه، وذلك مثل الآيات التي وردت في نفي الرؤية عن الله وفي كثير من مسائل الوعيد. أمّا النوع الثالث من أنواع الخطاب الإلهي فهو لا يدل اطلاقا بصيغته على المراد به، بل العقل هو الذي يدل منفردا، وذلك كل الآيات التي وردت في التوحيد والعدل.
ويظلّ التساؤل حول النوعين الثاني والثالث وسبب ورودهما ما دامت أدلة العقل وحدها تفيد عنهما واردا. ولكن علينا ألّا ننسى أن القاضي لا يفرق بين القرينة اللفظية والعقلية، بل يعتبر القرينة العقلية «أكد في بابه» على حد تعبيره.
ومع ذلك يظلّ السؤال واردا، إذ ما دام العقل وحده يمكن أن يدلنا على مضمون النوعين الثاني والثالث فما الحاجة للخطاب إذن، وما وجه دلالته وأهميته؟ هنا يربط
القاضي عبد الجبار ورود هذا النوع من الخطاب بالتكليف العقلي وضرورة النظر والاستدلال، ويعدّ ورود المحكم من قبيل اللطف الباعث على النظر. ومن شأن النظر أن يؤدي إلى المعرفة، وبذلك يكون ورود المحكم غايته اثارة العقل ودفعه للنظر والبحث والاستدلال «إنه عز وجل إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر والاستدلال، بما ركب في العقول من الأدلة. أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه، منه لو لم يسمع بذلك، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث».(1/185)
ومع ذلك يظلّ السؤال واردا، إذ ما دام العقل وحده يمكن أن يدلنا على مضمون النوعين الثاني والثالث فما الحاجة للخطاب إذن، وما وجه دلالته وأهميته؟ هنا يربط
القاضي عبد الجبار ورود هذا النوع من الخطاب بالتكليف العقلي وضرورة النظر والاستدلال، ويعدّ ورود المحكم من قبيل اللطف الباعث على النظر. ومن شأن النظر أن يؤدي إلى المعرفة، وبذلك يكون ورود المحكم غايته اثارة العقل ودفعه للنظر والبحث والاستدلال «إنه عز وجل إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر والاستدلال، بما ركب في العقول من الأدلة. أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه، منه لو لم يسمع بذلك، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث».
بعد هذا التفسير الثلاثي للخطاب الالهي بوجهيه، الصيغة والمضمون، يستبعد القاضي عبد الجبار النوع الأول من دائرة المحكم والمتشابه، على أساس أنه يدل بنفسه دون حاجة أو معرفة خارجية، وهو ذلك النوع الذي يدل على الأحكام الشرعية كالصلاة وشروطها ومواقيتها الخ. أمّا النوعان الثاني والثالث وهو الخطاب الذي لا يستقلّ بنفسه فإن الناس قد اختلفوا في العبارة عنه «وليس المعتبر بالعبارات، لأن وصف بعضه بأنه محكم، وبعضه بأنه متشابه وبعضه بأنه مجاز، وبعضه بأنه محذوف، إلى ما شاكله، لا يؤثر في أنه متفق في الوجه الذي ذكرناه، وفي أنه يحتاج فيه إلى طلب قرينة يعرف بها المراد، لكنه قد يختلف، ففيه ما يحتاج إلى قرائن وفيه ما يحتاج إلى قرينة واحدة ويتفاوت في ذلك، وربما ظهر الحال في تلك القرينة وربما غمض، ولذلك يكثر اختلاف الفقهاء وأهل العلم فيما هذا حاله». ويؤكّد القاضي خروج آيات الأحكام من نطاق المحكم والمتشابه في موضع آخر، وذلك على أساس أن هذه الآيات ترتبط ببعضها في القرآن كله «إن آيات الكتاب التي هي دالّة في الحقيقة على الحلال والحرام لا يمكن ادعاء التناقض فيها، لأنها إذا اختلفت فلا بدّ من أن تقدر التقدير الذي قدمناه، فيخص بعضها بعضا، وتجعل وهي مفترقة كأنها متصلة، وكأن بعضها مقيد ببعض، على ما يجب في طريقة اللغة».
ولكي يتأكد للقاضي عبد الجبار هذا الربط بين آيات القرآن وأدلّة العقل وضرورة رد الأولى إلى الثانية، خصوصا تلك الآيات التي لا تدل بظاهر صيغتها، كان عليه أن ينفي كل تعريفات المحكم والمتشابه التي كانت مطروحة قبله أو في عصره ومنها الآراء التي سبق أن أشرنا إليها في صدر هذا الفصل. فهو يرفض الرأي القائل بأن المحكم والمتشابه هو الناسخ والمنسوخ وذلك «لأن اللغة لا تقتضي ذلك، وقد يكون المنسوخ مما يدل ظاهره على المراد فيكون محكما فيما أريد به وإن نسخ وقد يكون الناسخ غير مستقل بنفسه فيكون متشابها وإن كان المراد به ثابتا
وكذلك القول في القصص إنه إذا كان المراد به جليا وجب أن يكون محكما».(1/186)
ولكي يتأكد للقاضي عبد الجبار هذا الربط بين آيات القرآن وأدلّة العقل وضرورة رد الأولى إلى الثانية، خصوصا تلك الآيات التي لا تدل بظاهر صيغتها، كان عليه أن ينفي كل تعريفات المحكم والمتشابه التي كانت مطروحة قبله أو في عصره ومنها الآراء التي سبق أن أشرنا إليها في صدر هذا الفصل. فهو يرفض الرأي القائل بأن المحكم والمتشابه هو الناسخ والمنسوخ وذلك «لأن اللغة لا تقتضي ذلك، وقد يكون المنسوخ مما يدل ظاهره على المراد فيكون محكما فيما أريد به وإن نسخ وقد يكون الناسخ غير مستقل بنفسه فيكون متشابها وإن كان المراد به ثابتا
وكذلك القول في القصص إنه إذا كان المراد به جليا وجب أن يكون محكما».
ومن الطبيعي أن يرفض القاضي أيضا ذلك الرأي الذي يقول إن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور، لأن ذلك يؤدّي بالضرورة إلى قبول الرأي القائل بعدم امكانية معرفة المتشابه. ولا يكتفي القاضي برفض هذا الرأي فحسب، بل يحاول أن يطرح تفسيرا لهذه الظاهرة، أو بمعنى أصح أن يقبل تفسير الحسن البصري لهذه الظاهرة، وهي أن هذه الحروف ليست إلّا أسماء للسور.
يقول: «فأمّا قوله عز وجل في فواتح السور، وذلك مثل: (المص) و (الم) إلى ما شاكله، فليس من المتشابه. وقد أراد عز وجل به ما إذا علمه المكلف كان صلاحا له. وأحسن ما قيل فيه ما روي عن الحسن وغيره من أنه عز وجل أراد أن يجعله اسما للسور، واثبات الكلمة اسما للسورة، والقصد بها إلى ذلك مما يحسن في الحكمة، كما يحسن من سائر من عرف شيئا وفصل بينه وبين غيره أن يجعل له اسما ليميزه به من غيره».
وبعد كل هذه المناقشة والجدل يعود القاضي ليؤكد الربط بين المحكم والمتشابه من جهة، وبين أنواع الخطاب ودلالته من جهة أخرى «إن المحكم إنما وصف بذلك لأن محكما أحكمه، كما أن المكرم إنما وصف بذلك لأن مكرما أكرمه، وهذا بيّن في اللغة. وقد علمنا أنه تعالى لا يوصف بأنه أحكم هذه الآيات المحكمات من حيث تكلم بها فقط، لأن المتشابه كالمحكم في ذلك، وفي سائر ما يرجع إلى جنسه وصفته، فيجب أن يكون المراد بذلك أنه أحكم المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة لكونه عليها (له) تأثير في المراد وقد علمنا أن الصفة التي تؤثر في المراد هي أن توقعه على وجه لا يحتمل الا ذلك المراد في أصل اللغة، أو بالتعارف، أو بشواهد العقل. فيجب فيما اختص بهذه الصفة أن يكون محكما، وذلك نحو قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ} ونحو قوله:
{إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً} إلى ما شاكله. فأمّا المتشابه فهو الذي جعله عز وجل على صفة تشتبه على السامع لكونه عليها (غمض) المراد به من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف، وهذا نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ} إلى ما شاكله لأن ظاهره يقتضي ما علمناه محالا، فالمراد به مشتبه ويحتاج في معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكمات».
ويورد القاضي عبد الجبار على نفسه اعتراضا مؤدّاه أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وذلك في قوله تعالى {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ثم وصفه كله بأنه متشابه وذلك في قوله: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً}
ولكنه ببساطة يساعده عليها سياق الآيات كلها يرد الاحكام هنا إلى الاعجاز،
ويرد التشابه إلى التساوي في المصلحة والدلالة «فأمّا وصف جميعه بأنه محكم فليس المراد به ما قدمناه، وإنما أريد به أنه تعالى أحكمه في باب الاعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل، ووصف جميعه بأنه متشابه، المراد به أنه سوّى بين الكل في أنه أنزل على وجه المصلحة ودل به على النبوة، لأن الأشياء المتساوية في الصفات المقصود إليها يقال فيها متشابهة».(1/187)
ويورد القاضي عبد الجبار على نفسه اعتراضا مؤدّاه أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وذلك في قوله تعالى {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ثم وصفه كله بأنه متشابه وذلك في قوله: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً}
ولكنه ببساطة يساعده عليها سياق الآيات كلها يرد الاحكام هنا إلى الاعجاز،
ويرد التشابه إلى التساوي في المصلحة والدلالة «فأمّا وصف جميعه بأنه محكم فليس المراد به ما قدمناه، وإنما أريد به أنه تعالى أحكمه في باب الاعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل، ووصف جميعه بأنه متشابه، المراد به أنه سوّى بين الكل في أنه أنزل على وجه المصلحة ودل به على النبوة، لأن الأشياء المتساوية في الصفات المقصود إليها يقال فيها متشابهة».
وإذا كان القاضي قد أخضع دلالة القرآن كله لدلالة العقل، بناء على أن اللغة لا تدل إلّا بعد معرفة القائل، فإن المحكم والمتشابه كليهما في حاجة إلى هذه المعرفة العقلية لوقوعهما دلالة. ويرى القاضي «أن المحكم كالمتشابه من وجه، وهو يخالفه من وجه آخر. فأمّا الوجه الذي يتفقان فيه فما قدمناه من أن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن إلّا بعد معرفة حكمة الفاعل وأنه لا يجوز أن يختار القبيح، لأن الوجه الذي له قلنا ذلك لا يميز المحكم من المتشابه وأمّا الوجه الذي يختلفان فيه، فهو أن المحكم إذا كان في موضوع اللغة أو لمضامة القرينة، لا يحتمل إلّا الوجه الواحد، فمتى سمعه من عرف طريقة الخطاب وعلم القرائن أمكنه أن يستدل في الحال على ما يدل عليه. وليس كذلك المتشابه، لأنه وإن كان من العلماء باللغة ويحمل القرائن، فإنه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ ونظر مجدد ليحمله على الوجه الذي يطابق المحكم أو دليل العقل. ويبين صحة ذلك أنه عز وجل بين في المحكم أنه أصل للمتشابه، فلا بدّ أن يكون العلم بالمحكم أسبق ليصحّ جعله أصلا له».
وهكذا يظلّ القاضي عبد الجبار يلحّ على فكرة النظر التي هي والاستدلال شيء واحد، وذلك ليظل مخلصا لتصوره العام للغة على أنها نوع من أنواع الدلالة،. وإذا كان الكلام محتملا لوقوع المجاز فيه، على عكس الأنواع الأخرى من الدلالة، فمن الطبيعي أن ينفي القاضي عن المجاز تهمة الكذب التي سعى خصومهم لالزامهم بها، وذلك لنفي الكذب عن القرآن، وجعل تأويلاتهم قائمة على أساس مكين.
ونفي الكذب عن المتشابه، ليس إلّا دفاعا عن المجاز في اللغة عموما مما يؤكد العلاقة بين القضيتين عند القاضي «اعلم أن المتكلم قد يكون صادقا بالكلام المحتمل، إذا أراد به الوجه الصحيح، ويحل جميع ذلك محل كونه صادقا، بالكلام المخصوص، الذي لا يحتمل، لأن الصدق ليس بمقصور على الحقيقة، دون المجاز، وإنما يكون المتكلم صادقا، بالكلام الذي يجوز أن يتناول المراد باللغة، على وجه إذا قصد به وجه الصدق، فإذا صح ذلك في المتشابه، كصحته في المحكم، ولم
يمتنع أن يكون له معنى، فيجب أن لا يكون قبيحا، لأن من حق الصدق، إذا خرج من أن يكون عبثا، بحصول غرض صحيح فيه، أن يكون حسنا، فإذا كان هذا حال المتشابه، فكيف ينفي وقوعه من الحكيم؟».(1/188)
ونفي الكذب عن المتشابه، ليس إلّا دفاعا عن المجاز في اللغة عموما مما يؤكد العلاقة بين القضيتين عند القاضي «اعلم أن المتكلم قد يكون صادقا بالكلام المحتمل، إذا أراد به الوجه الصحيح، ويحل جميع ذلك محل كونه صادقا، بالكلام المخصوص، الذي لا يحتمل، لأن الصدق ليس بمقصور على الحقيقة، دون المجاز، وإنما يكون المتكلم صادقا، بالكلام الذي يجوز أن يتناول المراد باللغة، على وجه إذا قصد به وجه الصدق، فإذا صح ذلك في المتشابه، كصحته في المحكم، ولم
يمتنع أن يكون له معنى، فيجب أن لا يكون قبيحا، لأن من حق الصدق، إذا خرج من أن يكون عبثا، بحصول غرض صحيح فيه، أن يكون حسنا، فإذا كان هذا حال المتشابه، فكيف ينفي وقوعه من الحكيم؟».
وإذا كان المحكم يدل بظاهره على ما يدل عليه العقل، فالحاجة إليه تصبح ضرورية وهامة لمجادلة الخصوم الذين يتمسكون بظاهر المتشابه، وذلك إلى جانب ضرورته لاثارة التأمل والحث على النظر والاستدلال. «إن المخالفين في التوحيد والعدل يمكن أن نحاجهم بذكر المحكم ونبين مخالفتهم لما أقروا بصحته في الجملة، ويبعد ذلك في المتشابه، فلذلك تجد كتب شيوخنا رحمهم الله مشحونة بذكر هذا الباب ليبينوا أن القوم كما خرجوا عن طريقة العقول فكذلك عن الكتاب».
وهكذا يتحوّل القرآن بمحكمه ومتشابهه، وكذلك المجاز، إلى قرائن وأدلّة عقلية غايتها الحث على التأمل والنظر ومجادلة الخصوم وكشف تهافت حججه وأقاويله. ومن الطبيعي بعد ذلك أن يكون المتشابه مما يمكن معرفته، لأنه لا بدّ أن يقع دلالة وإلّا كان الله عابثا بمخاطبتنا به. ومن الطبيعي أيضا أن يكون التوجيه النحوي للآية عند القاضي على العطف لا على الاستئناف، ويكون الراسخون في العلم يعلمون المتشابه وهم «مع العلم بذلك يقولون آمنا به في أحوال علمهم به ليكمل مدحهم، لأن العالم بالشيء إذا أظهر التصديق فقد بالغ بما يلزمه، ولو علم وجحد لكان مذموما».
وبذلك كله يكون القاضي عبد الجبار قد ربط بين المجاز والتأويل والمحكم والمتشابه. وربط كل هذه القضايا بالأساس العقلي للمعرفة عند المعتزلة. ويصبح هناك نوع من الموازاة بين المحكم والمتشابه من جهة، والمعرفة الضرورية والمعرفة النظرية من جهة أخرى. يتشابه المحكم مع المعرفة الضرورية بوضوحه وانكشافه دون حاجة للاستدلال. وعلى العكس من ذلك المتشابه الذي لا يعرف المراد به إلّا بالتأمل والتأويل، تماما كما لا يمكن التوصل إلى العلوم النظرية إلّا بالاستدلال والنظر. وكما أن العلوم الضرورية تعدّ أساسا للعلوم النظرية، فكذلك المحكم يعدّ أساسا لفهم المتشابه. ونتيجة لذلك كله يصبح التأويل قرينا للاستدلال ومرادفا له بنفس القدر الذي أصبحت فيه اللغة نوعا ثالثا من الدلالة العقلية لها شروطها الخاصة لوقوعها دلالة.
ومن الضروري لاكتمال جوانب دراستنا أن نعرض لبعض جهود القاضي عبد الجبار في التأويل. ولمّا كانت جهود المعتزلة في التأويل تنصبّ أساسا
على آيات التوحيد والعدل بكل تفاصيلهما، ولمّا كنا قد عرضنا لكثير من هذه الآيات في الفصول السابقة، فقد رأينا أن نقتصر في عرض جهود القاضي على قضيتين أساسيتين هما: قضية رؤية الله عز وجل، وقضية خلق الأفعال. ومبرر اختيار هاتين القضيتين، أن أولاهما تعدّ إلى جانب قضية الكلام من أهم القضايا الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، وتظهر فيها بوضوح كامل مشكلة التأويل لورود بعض آيات القرآن باثباتها، وذلك على عكس قضية الكلام التي تعدّ قضية جدلية أكثر منها قضية متصلة بتأويل النص القرآني، أمّا قضية خلق الافعال فترجع أهميتها إلى أنها أساس نشأة الفكر الاعتزالي برمته كما سبقت الاشارة في التمهيد.(1/189)
ومن الضروري لاكتمال جوانب دراستنا أن نعرض لبعض جهود القاضي عبد الجبار في التأويل. ولمّا كانت جهود المعتزلة في التأويل تنصبّ أساسا
على آيات التوحيد والعدل بكل تفاصيلهما، ولمّا كنا قد عرضنا لكثير من هذه الآيات في الفصول السابقة، فقد رأينا أن نقتصر في عرض جهود القاضي على قضيتين أساسيتين هما: قضية رؤية الله عز وجل، وقضية خلق الأفعال. ومبرر اختيار هاتين القضيتين، أن أولاهما تعدّ إلى جانب قضية الكلام من أهم القضايا الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، وتظهر فيها بوضوح كامل مشكلة التأويل لورود بعض آيات القرآن باثباتها، وذلك على عكس قضية الكلام التي تعدّ قضية جدلية أكثر منها قضية متصلة بتأويل النص القرآني، أمّا قضية خلق الافعال فترجع أهميتها إلى أنها أساس نشأة الفكر الاعتزالي برمته كما سبقت الاشارة في التمهيد.
وهي أيضا قضية خلافية ظل الخلاف فيها مستمرا، هي وقضية الرؤية، حتى عصور متأخرة. لذلك كله نكتفي بهاتين القضيتين كنموذجين لقضايا التوحيد والعدل، يكشفان لنا عن نهج القاضي في التأويل وعلاقته بباقي جوانب الفكر الاعتزالي التي أسهبنا في شرحها.
ب التوحيد وقضية رؤية الله
قضية الرؤية، وجوازها على الله وعدم جوازها عليه، من القضايا الهامة التي ثارت بين المعتزلة وخصومهم، وأثارت كثيرا من الجدل والنقاش. وترتبط هذه القضية في مفاهيم المعتزلة بقضية التوحيد ونفي الجسمية عن الله، ذلك أن اثبات الله مرئيا يقتضي كونه في جهة ومتحيزا في المكان. ولذلك سعى المعتزلة إلى نفي أن يكون الله مرئيا بأي صورة من الصور، وإلى نفي ذلك عنه في الدنيا وفي الآخرة على السواء. ولم يكن سبيل ذلك سهلا أمامهم، فالاعتراضات كثيرة. وإذا كانوا قد وجدوا في بعض آيات القرآن سندا لوجهة نظرهم، فقد اعترضتهم آيات أخرى استشهد بها خصومهم في رد هذه الدعوى. ومن ثم لم يكن أمام المعتزلة سبيل إلّا تأويل هذه الآيات التي يستشهد بها الخصوم تأويلا يتفق مع وجهة نظرهم في التوحيد، وفيما يجوز على الله وما لا يجوز عليه. ونظروا إلى الآيات التي استشهد بها الخصوم على أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم، ونظروا إلى الآيات التي تسند وجهة نظرهم على أنها من المحكم الذي ترد إليه آيات الخصوم المتشابهة. وكان من الطبيعي أن يلجأ الخصوم إلى نفس الحيلة، فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم محكما، وما يدعم وجهة نظر المعتزلة متشابها. وكان من الطبيعي أيضا أن يدّعي كل طرف لنفسه صفة «الراسخين في العلم» القادر على التأويل الصحيح.(1/190)
ويستلفت نظر الباحث في هذه القضية أن المعتزلة على غير عادتهم لا يلزمون خصومهم الكفر على القول بجواز رؤية الله جل وعز، ومن ثم فهم أقل تشددا في الهجوم على خصومهم، وذلك على عكس ما نرى من تشدد في مواقفهم من قضية خلق الأفعال أو خلق القرآن، وهما قضيتان ترتبط أولاهما بالأصل الثاني من أصول المعتزلة وهو العدل، أما الثانية فترتبط بأصل التوحيد الأول.
والمعتزلة في قضية الرؤية لا يتساهلون مع خصومهم فحسب، بل يلتمسون لهم العذر إذا هم جوّزوا الرؤية على الله من غير كيفية، أي من غير تشبيه لله بالاجساد. وهم أي المعتزلة في ذلك يفرقون بين أنواع المدركات، ومدى وضوحها والعلم بها، فأجناس المسموعات والمشمومات والمذوقات لا جدال في وضوحها والعلم بها، وليس كذلك أجناس المرئيات التي منها ما هو جوهر، ومنها ما هو عرض، وهي لذلك ليست على نفس الدرجة من الوضوح والعلم، ومن ثم كثرت فيها الشبه والاعتراضات. ومن أجل هذه الشبه التي تتعلّق بالمرئيات دون ما عداها من أنواع المدركات لا يلزم من جوّز على الله الرؤية الكفر، إذا جوّزها من غير تشبه لله بالاجساد، إذ أنه بذلك لا يكون مخالفا للمعتزلة في الأصل الذي يدافعون عنه، وهو التوحيد والتنزيه، وإنما يكون خلافه لهم ناتجا عن سوء التفرقة بين أنواع المدركات. يقول أبو هاشم الجبائي: «إن العلم بأن ما خالف في جنسه الأصوات والكلام لا يصح أن يكون مسموعا أظهر من العلم بأن ما خالف هذه الأجناس المرئية لا يصح أن يكون مرئيا إنه يقرب عندي أن يكون العلم بأن الجسم لا يسمع، والحركة لا تسمع ولا يصح ذلك فيهما، ضروريا إن المسموعات نوع واحد، فلا يصح اثبات مسموع ليس منها، وكذلك المدركات من جهة الشم. والذوق. فأمّا المرئيات فمخالفة لها في ذلك، لأنها تشتمل على نوعين مختلفين جوهر وعرض، فلم ينحصر المرئي على الوجه الذي انحصر عليه المسموع، فلذلك لزم من قال إن الله تعالى يسمع الكفر، ولم يلزم ذلك من قال إنه يرى إذا نفى التشبيه. ولذلك ظهر القول في أنه تعالى لا يسمع، والتبس ذلك في الرؤية وكثرت الشبه».
غير أن قضية نفي الرؤية عن الله، إلى جانب اتصالها بأصل التوحيد، وهو الأصل الأول للمذهب الاعتزالي، تتصل من جانب آخر بصفات المدح التي لا يجب نفيها عن الله. بمعنى أن الله تعالى إذا كان قد تمدّح نفسه بأنه لا يرى، فإن الزعم بأنه يرى هو نفي للمدح الذي مدح به ذاته. وفي هذا السبيل يقسم المعتزلة ما يمتدح به الله سبحانه نفسه إلى قسمين: القسم الأول، ما يرجع إلى صفات الفعل، أمّا القسم الثاني فهو ما يرجع إلى صفات الذات.(1/191)
وينقسم القسم الأول من صفات المدح إلى: ما يتمدح باثباته، وما يتمدح بنفيه.
وما يتمدح باثباته من الصفات الراجعة إلى الفعل ينقسم بدوره إلى قسمين:
أحدهما يقتضى نفيه نقصا، مثل التمدّح بفعل الواجب والتمكين وازاحة العلل واثابة المطيع، وثانيهما ما لا يقتضى نفيه نقصا مثل فعل الاحسان والتفضل. وأمّا ما يتمدح بنفيه من صفات الفعل فعلى قسمين أيضا: أحدهما يوجب اثباته النقص كنفي الظلم، وثانيهما ما لا يقتضي اثباته نقصا مثل أن يمتدح بألّا يعاقب الكافر ولو عاقبه لم يقتض ذلك نقصا فيه.
أمّا القسم الثاني، وهو التمدح بالأمر الذي يرجع إلى صفات الذات، فينقسم إلى ثلاثة أقسام: أولهما التمدح بما هو اثبات في الحقيقة، ونفي ذلك يوجب النقص، وذلك كمدحه بأنه قديم. وثانيهما التمدح بما يجري مجرى الاثبات مثل وصفنا له بأنه عالم وقادر وحي، ونفي ذلك يوجب النقص. وثالثهما التمدح بما يجري مجرى النفي مثل نفي الرؤية والنوم، واثبات ذلك يوجب النقص. .
وإلى هذا النوع الثالث من القسم الثاني ينتمي ما تمدح الله به نفسه من نفي الرؤية عن ذاته، ومن ثم فإن اثبات الرؤية له تقتضي نقصا ينبغي نفيه عن الله جل وعز. والدليل السمعي الذي يورده المعتزلة على خصومهم في هذا الصدد هو قوله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
(الانعام / 103). ولكي يؤكد المعتزلة أن هذه الآية وردت مورد التمدح يلجئون إلى السياق الذي وردت فيه الآية «لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله تعالى، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا: فلان ورع تقي نفي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل ويصوم بالنهار، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح. يبين ذلك، أنه تعالى لما بيّن تميزه عمّا عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد بيّن أنه يتميز عن غيره من الذوات بأنه لا يرى ويرى».
وفكرة المدح لا تنفصل عند المعتزلة عن فكرة التوحيد والتنزيه ونفي مشابهة الله للبشر والأجساد، بل هما فكرتان مرتبطتان غير منفصلتين «فإن قيل: وأي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟ قلنا:
لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر اليه يصير مدحا، وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا ثم إذا انضم إليه كونه حيّا لا آفة به صار
مدحا. وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة، أن التمدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات، والبينونة لا تقع إلّا بما نقوله، لأن الذوات على أقسام، منها ما يرى ويرى كالواحد منا، ومنها ما لا يرى ولا يرى كالمعدومات، ومنها ما يرى ولا يرى كالجماد، ومنها ما لا يرى ويرى كالقديم سبحانه وتعالى.(1/192)
لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر اليه يصير مدحا، وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا ثم إذا انضم إليه كونه حيّا لا آفة به صار
مدحا. وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة، أن التمدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات، والبينونة لا تقع إلّا بما نقوله، لأن الذوات على أقسام، منها ما يرى ويرى كالواحد منا، ومنها ما لا يرى ولا يرى كالمعدومات، ومنها ما يرى ولا يرى كالجماد، ومنها ما لا يرى ويرى كالقديم سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الوجه صحّ التمدح بقوله: وهو يطعم ولا يطعم» وهكذا ترتبط فكرة المدح بتباين الذات الالهية عن الذوات البشرية. وفكرة التباين ليست سوى التنزيه عن صفات النقص البشرية، وتأكيد صفات الكمال، بمعنى أن الذات الالهية وإن حملت بعض الصفات البشرية كالحياة والعلم والارادة والسمع والبصر، فإن هذه الصفات قد بلغت أوج كمالها في الله وتفاوتت في البشر، أمّا صفات النقص والضعف في البشر فهي منفية نفيا كاملا عن الله. وهكذا تقع البينونة التي هي أساس المدح. وهكذا تلتقي فكرتا التوحيد والمدح في قضية نفي الرؤية عن الله.
وإذا كان المعتزلة على غير عادتهم لا يلزمون من جوّز رؤية الله من غير كيفية الكفر على أساس أن التفرقة بين أنواع المرئيات مما يصعب ويلتبس، فإنهم أيضا على غير عادتهم يجيزون الاستدلال على مسألة نفي الرؤية بالعقل والسمع جميعا «لأن صحة السمع لا تقف عليها، وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. ولهذا جوّزنا الاستدلال بالسمع على كونه حيا، لما لم نقف صحة السمع عليها، يبين ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما، وإن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا، ولهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته» والمسألة ترتبط في النهاية بعدم المساس بأصل التوحيد الذي يدافع عنه المعتزلة، لكنهم حين يجدون خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع، أي من القرآن الشريف، والسنة النبوية، على اعتبار أن قضية التوحيد، ومنها الرؤية، لا تؤخذ إلّا من السمع ولا مجال فيها للعقل، وهو منطلق يخالف تمام المخالفة ما ينطلق منه المعتزلة حيث يعتبرون أن قضايا التوحيد والعدل هي قضايا عقلية في الأساس الأول وأن السمع قد جاء لتأكيدها، ولذلك قال أبو علي الجبائي «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكدا لما في العقول، فأمّا أن يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال». حين يجد المعتزلة أن خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع يلجئون إلى نزع هذا السلاح من يدهم بادئ ذي بدء على
أساس أنهم لا يصح لهم العلم بالسمعيات «لأنهم قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه سبحانه لا يفعل القبيح لاضافتهم القبائح كلها إلى الله».(1/193)
وإذا كان المعتزلة على غير عادتهم لا يلزمون من جوّز رؤية الله من غير كيفية الكفر على أساس أن التفرقة بين أنواع المرئيات مما يصعب ويلتبس، فإنهم أيضا على غير عادتهم يجيزون الاستدلال على مسألة نفي الرؤية بالعقل والسمع جميعا «لأن صحة السمع لا تقف عليها، وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. ولهذا جوّزنا الاستدلال بالسمع على كونه حيا، لما لم نقف صحة السمع عليها، يبين ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما، وإن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا، ولهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته» والمسألة ترتبط في النهاية بعدم المساس بأصل التوحيد الذي يدافع عنه المعتزلة، لكنهم حين يجدون خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع، أي من القرآن الشريف، والسنة النبوية، على اعتبار أن قضية التوحيد، ومنها الرؤية، لا تؤخذ إلّا من السمع ولا مجال فيها للعقل، وهو منطلق يخالف تمام المخالفة ما ينطلق منه المعتزلة حيث يعتبرون أن قضايا التوحيد والعدل هي قضايا عقلية في الأساس الأول وأن السمع قد جاء لتأكيدها، ولذلك قال أبو علي الجبائي «إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكدا لما في العقول، فأمّا أن يكون دليلا بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال». حين يجد المعتزلة أن خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع يلجئون إلى نزع هذا السلاح من يدهم بادئ ذي بدء على
أساس أنهم لا يصح لهم العلم بالسمعيات «لأنهم قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه سبحانه لا يفعل القبيح لاضافتهم القبائح كلها إلى الله».
وإذا كانت قضايا التوحيد والعدل هي قضايا عقلية في المحل الأول، فإن صحة السمع تنبني على أدلّة العقل، وما ورد في السمع مخالفا لأدلة العقل يجب تأويله بما يتفق مع هذه الأدلة العقلية. ولا تناقض بين هذا المبدأ وبين قول المعتزلة إن قضية الرؤية مما يصحّ أن يستدلّ عليها بالعقل والسمع معا إذا كانت هذه القضية، حتى مع الجهل بها، لا تقدح في أساس التوحيد. على أنهم في هذه القضية يربطون بين العقل والسمع ولا يقدمون السمع على العقل، بل يجعلونهما متساويين في الدلالة.
(1) وإذن يقوم مسلك المعتزلة في تأكيد أفكارهم العقلية عن الله تعالى على ثلاث وسائل: الوسيلة الأولى هي التفرقة بين المحكم والمتشابه، واعتبار ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره، وفي نفس الوقت اعتبار ما يدعم وجهة نظر الخصوم متشابها في حاجة إلى التأويل. أمّا الوسيلة الثانية فهي التأويل وغايته رفع التناقض الذي يمكن أن يوجد بين أفكارهم العقلية عن الله وبين ظاهر بعض الآيات التي يستشهد بها الخصوم، والتي يعدها المعتزلة متشابها. أمّا الوسيلة الثالثة فهي انكار حق الخصوم، أو قدرتهم على معرفة السمعيات وفهمها، لأن صحة السمع موقوفة على العدل والتوحيد وهي قضايا عقلية، ولأن الخصوم «قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنه سبحانه لا يفعل القبيح لاضافتهم القبائح كلها إلى الله».
وهذه الوسيلة الأخيرة لا يسلكها المعتزلة في الرد على خصومهم في قضية الرؤية وذلك لأنها لا تقدح في أصل التوحيد أولا، وثانيا لأنها من المسائل الشائكة التي كثرت فيها الشبه والاعتراضات، بسبب صعوبة التفرقة بين أنواع المدركات كما سبقت الاشارة. وعلى ذلك يبدأ المعتزلة نقاشهم قضية الرؤية على أساس ايراد أدلتهم السمعية، وهي المحكمة من وجهة نظرهم على نفي الرؤية، ثم يلجئون إلى أدلّة الخصوم وهي المتشابه مستخدمين سلاح التأويل والمجاز.
يورد المعتزلة على خصومهم قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام / 103) فيأخذونه دليلا على صحة ما أثبتوه عقلا من أن الله تعالى لا يصحّ أن يرى. غير أن هذا الدليل السمعي لا يسلم للمعتزلة من النقض، إذ يلجأ خصومهم إلى التفرقة بين لفظ «أدرك» ولفظ «رأى» على أساس أن الادراك غير الرؤية وأن الله إذا كان قد نفى أن يدرك بالبصر فإنه لم
ينف أن يرى إذ «أن الادراك عبارة عن الاحاطة ومنه فلما أدركه الغرق أحاط به وإنّا لمدركون أي محاط بنا فالمنفي إذا عن الأبصار احاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية يدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك وأقله مجرد الرؤية كما أنّا نقول لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن فالاحاطة للعقل منفية كنفي الاحاطة للحس وما دون الاحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي». ويضطر المعتزلة إلى الدخول في مناقشات لغوية حول لفظ «أدرك» والفرق بينه وبين لفظ «رأى».(1/194)
يورد المعتزلة على خصومهم قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام / 103) فيأخذونه دليلا على صحة ما أثبتوه عقلا من أن الله تعالى لا يصحّ أن يرى. غير أن هذا الدليل السمعي لا يسلم للمعتزلة من النقض، إذ يلجأ خصومهم إلى التفرقة بين لفظ «أدرك» ولفظ «رأى» على أساس أن الادراك غير الرؤية وأن الله إذا كان قد نفى أن يدرك بالبصر فإنه لم
ينف أن يرى إذ «أن الادراك عبارة عن الاحاطة ومنه فلما أدركه الغرق أحاط به وإنّا لمدركون أي محاط بنا فالمنفي إذا عن الأبصار احاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية يدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك وأقله مجرد الرؤية كما أنّا نقول لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن فالاحاطة للعقل منفية كنفي الاحاطة للحس وما دون الاحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي». ويضطر المعتزلة إلى الدخول في مناقشات لغوية حول لفظ «أدرك» والفرق بينه وبين لفظ «رأى».
وينفي المعتزلة أن يكون الادراك هو الاحاطة و «الاحاطة ليس هو بمعنى الادراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ألا ترى أنهم يقولون السور أحاط بالمدينة ولا يقولون أدركها أو أدرك بها على أنه كما لا تحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو بالابصار، لأن المانع في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الادراك المذكور في الآية على الاحاطة» ثم يفرقون بين الادراك مطلقا، وبين الادراك إذا قيد بالنظر كما هو منطوق الآية الكريمة. فالادراك «إذا قرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر، وإن كان إذا أطلق فقد يستعمل بمعنى اللحوق، فيقال: أدرك الغلام إذا بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأدرك فلان فلانا إذا لحقه، وقال سبحانه: {حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} يعني لحقه الغرق، و {قََالَ أَصْحََابُ مُوسى ََ إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} يعني لملحوقون.
وقد يقال عند الاطلاق أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، ومتى قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر. فإذا صحّ ذلك فيجب أن يكون قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} في باب الدلالة على أنه لا يرى بمنزلة قوله تعالى: لا تراه الأبصار» وبصرف النظر عن خلافهم حول «الادراك» هل هو الاحاطة أو البلوغ أو اللحوق، فإن الفكرة التي يطرحها القاضي عبد الجبار للتفرقة بين لفظ «أدرك» عند الاطلاق، وبين نفس اللفظ إذا قيد بالنظر تبدو فكرة أصيلة من ناحية الدلالة على أساس أن اللفظ يكتسب معنى محددا من خلال التركيب والسياق، وأن هذا اللفظ حين لا يكون موضوعا في سياق محدد، لا يكون له حينئذ سوى معنى هلامي مهوّش. غير أن الآية تثير أشكالا آخر حول مفهوم كلمة «الأبصار» إذ يبدو مفهوما ومنطقيا نفي أن تدرك الأبصار الله، ولكن كيف يدرك هو الأبصار؟ وهنا يلجأ المعتزلة إلى القول ب «أن المراد بالأبصار المبصرون، إلّا أنه تعالى علّق الادراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة. ألا ترى أنهم يقولون: مشت رجلي، وكتبت يدي، وسمعت اذني، ويريدون الجملة» وعلى ذلك يكون معنى الآية أن المبصرين لا يدركون الله ولكنه يدرك المبصرين. وهنا يثور اشكال جديد فحواه أن الآية
تقتضى على هذا التأويل أي تأويل الابصار بالمبصرين «أن يرى الله نفسه لأنه من المبصرين» غير أن المعتزلة يردون على هذا الاشكال بدليل عقلي فحواه «أنه تعالى وإن كان مبصرا، فإنما يرى ما تصحّ رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى لما قد بينا أنه يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن اثباته نقص، والنقص لا يجوز على الله تعالى» ولا يكون هذا الاشكال واردا على مفسّر معتزلي كالزمخشري لأنه لم يتأول الأبصار على أنها المبصرون كما فعل القاضي عبد الجبار، وإنما البصر عنده «هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر وبه تدرك المبصرات، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأنه الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات (وهو يدرك الأبصار) وهو للطف ادراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك (وهو اللطيف) يلطف عن أن تدركه الأبصار (الخبير) بكل لطيف يدرك الأبصار لا تلطف عن ادراكه وهذا من باب اللف». وفي هذا التفسير تسعف الزمخشري معرفته البلاغية فيبتعد عن الاشكال الذي يثيره تأويل «الأبصار» بالمبصرين، ويساعده على ذلك ربط آخر الآية بأولها على طريقة «اللف» بمعنى أن نفي ادراك الأبصار لله يؤكده كونه سبحانه لطيفا، واثبات ادراكه لها يؤكده كونه خبيرا. ثم إن تعريف الزمخشري للأبصار بأنها جواهر لطيفة وأن الله يدركها يستند إلى أساس كلامي للمعتزلة، وللنظّام خصوصا في أن الجواهر يجوز أن ترى. وبذلك يرى الله ما تجوز عليه رؤيته، ويرتفع الاعتراض الذي يمكن أن يثور من الخصوم على ذلك.(1/195)
وقد يقال عند الاطلاق أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، ومتى قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر. فإذا صحّ ذلك فيجب أن يكون قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} في باب الدلالة على أنه لا يرى بمنزلة قوله تعالى: لا تراه الأبصار» وبصرف النظر عن خلافهم حول «الادراك» هل هو الاحاطة أو البلوغ أو اللحوق، فإن الفكرة التي يطرحها القاضي عبد الجبار للتفرقة بين لفظ «أدرك» عند الاطلاق، وبين نفس اللفظ إذا قيد بالنظر تبدو فكرة أصيلة من ناحية الدلالة على أساس أن اللفظ يكتسب معنى محددا من خلال التركيب والسياق، وأن هذا اللفظ حين لا يكون موضوعا في سياق محدد، لا يكون له حينئذ سوى معنى هلامي مهوّش. غير أن الآية تثير أشكالا آخر حول مفهوم كلمة «الأبصار» إذ يبدو مفهوما ومنطقيا نفي أن تدرك الأبصار الله، ولكن كيف يدرك هو الأبصار؟ وهنا يلجأ المعتزلة إلى القول ب «أن المراد بالأبصار المبصرون، إلّا أنه تعالى علّق الادراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة. ألا ترى أنهم يقولون: مشت رجلي، وكتبت يدي، وسمعت اذني، ويريدون الجملة» وعلى ذلك يكون معنى الآية أن المبصرين لا يدركون الله ولكنه يدرك المبصرين. وهنا يثور اشكال جديد فحواه أن الآية
تقتضى على هذا التأويل أي تأويل الابصار بالمبصرين «أن يرى الله نفسه لأنه من المبصرين» غير أن المعتزلة يردون على هذا الاشكال بدليل عقلي فحواه «أنه تعالى وإن كان مبصرا، فإنما يرى ما تصحّ رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى لما قد بينا أنه يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن اثباته نقص، والنقص لا يجوز على الله تعالى» ولا يكون هذا الاشكال واردا على مفسّر معتزلي كالزمخشري لأنه لم يتأول الأبصار على أنها المبصرون كما فعل القاضي عبد الجبار، وإنما البصر عنده «هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر وبه تدرك المبصرات، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأنه الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيئات (وهو يدرك الأبصار) وهو للطف ادراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك (وهو اللطيف) يلطف عن أن تدركه الأبصار (الخبير) بكل لطيف يدرك الأبصار لا تلطف عن ادراكه وهذا من باب اللف». وفي هذا التفسير تسعف الزمخشري معرفته البلاغية فيبتعد عن الاشكال الذي يثيره تأويل «الأبصار» بالمبصرين، ويساعده على ذلك ربط آخر الآية بأولها على طريقة «اللف» بمعنى أن نفي ادراك الأبصار لله يؤكده كونه سبحانه لطيفا، واثبات ادراكه لها يؤكده كونه خبيرا. ثم إن تعريف الزمخشري للأبصار بأنها جواهر لطيفة وأن الله يدركها يستند إلى أساس كلامي للمعتزلة، وللنظّام خصوصا في أن الجواهر يجوز أن ترى. وبذلك يرى الله ما تجوز عليه رؤيته، ويرتفع الاعتراض الذي يمكن أن يثور من الخصوم على ذلك.
إلى هنا ينتهي المعتزلة من ايراد دليلهم المحكم من السمع، ويدفعون الاعتراض الذي يثيره الخصوم على هذا الدليل. وهذا يؤدي بهم إلى الخوض في مسائل لغوية ودلالية حول معنى اللفظ منفردا ومعناه في تركيب معين. وفي هذه النقطة أفلح القاضي عبد الجبار في تفسير الآية بما يتفق مع وجهة النظر الاعتزالية. غير أن تأويله للأبصار بأن المقصود بها المبصرون أوقعه في اشكالات راح يدفعها، وهي اشكالات تخلّص منها الزمخشري تخلّصا بلاغيا استخرجه من السياق العام للآية الذي لا يفصل بين أولها وآخرها. غير أننا يجب أن نثبت أن القاضي عبد الجبار له كتابان: المغني في أبواب التوحيد والعدل، وشرح الأصول الخمسة، وأنه في الكتاب الأول لم يورد هذا التأويل الذي أوقعه في الاشكالات. بل ورد هذا التأويل في كتابه الثاني «شرح الأصول الخمسة» وهو كتاب يختلف في أسلوبه وطريقة عرضه عن الكتاب الأول، الأمر الذي يجعلنا نظن أن هذه التأويلات من صنع شارح الكتاب والمعلّق عليه وهوم أحد تلاميذ القاضي عبد الجبار.(1/196)
يثير خصوم المعتزلة على الدليل السابق اعتراضا آخر، فحواه أن الله وإن كان يستحيل أن يرى في الدنيا، فما المانع من رؤيته في الآخرة والحال غير الحال؟ ويبنون هذا الاعتراض على أساس أن نفي الرؤية في الآية المقصود به الرؤية في الدنيا لا في الآخرة ويبني المعتزلة ردهم على هذا الاعتراض على أساسين: الأساس الأول أن الآية وردت مورد التمدح، واثبات ما تمدح الله بنفيه عن نفسه يوجب النقص. والأساس الثاني أن الآية عامة ولم تخصص بوقت دون وقت، فلا دليل للخصوم على تخصيص عموم الآية، والأصل في ذلك «أنه تعالى قد نفى أن يدرك بالأبصار نفيا عاما من غير توقيت، فيجب القطع على أن المراد به في كل حال، ولا فرق بين من قال إنه أراد به في الدنيا دون الآخرة، وبين من قال إنه أراد بذلك في بعض أوقات الدنيا دون بعض على ما يذهب إليه بعض من يقول بالحلول. ولا فرق بين من قال ذلك في هذه الآية وبين من قال بمثله في سائر ما تمدح بنفيه عن نفسه، نحو تمدحه بنفي السنة والنوم، ونفي الصاحبة والولد، ونفي المثل. فإذا وجب حمل ذلك أجمع على أن المراد به النفي وما كان نفيه مدحا مما يرجع إلى ذاته، فاثباته له لا يكون إلّا نقصا. وصفات النقص لا تجوز على القديم سبحانه في الدنيا ولا في الآخرة، فيجب أن لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وأن لا يصح أن يكون المراد بالآية النفي في وقت دون وقت، كما لا يصح أن يكون المراد بقوله: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} نفي ذلك في حال دون حال».
وهناك دليل آخر يتشبث به المعتزلة على عدم جواز رؤية الله تعالى، وهو دليل سمعي من قصة موسى عليه السلام، والمقصود بذلك قوله تعالى لموسى حين طلب رؤيته {لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي}
(الأعراف / 144) «فنفى أن يراه وأكد ذلك بأن علقه باستقرار الجبل، ثم جعله دكا، ونبّه بذلك على أن رؤيته له لا تقع لتعليقه اياها بأمر وجد ضده على طريق التبعيد المشهور في مذاهب العرب لأنهم يؤكدون الشيء بما يعلم أنه لا يقع (لا) على جهة الشرط لكن على جهة التبعيد».
ويبدو أن طلب موسى الرؤية من الله عز وجل بقوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}
(الأعراف / 143) كان قد أثار لدى المعتزلة السابقين على القاضي عبد الجبار مشكلة تصدّوا لحلها. هذه المشكلة تتمثل في حل التعارض القائم بين قولهم بأن معرفة توحيد الله وعدله هي معرفة عقلية لا تستند إلى السمع، وبين طلب موسى عليه السلام الرؤية، مما يوهم بجهله وهو النبي المعصوم بصفات الله وما يليق به. وكان أن تصدّى علماء المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وأبي على الجبائي إلى تأويل «النظر» في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} بأن المقصود به المعرفة الضرورية
التي تزول معها الشبه، وتصل إلى درجة أشبه بالمعرفة اليقينية. كأن موسى عليه السلام طلب من الله أن يعرّفه نفسه معرفة ينجلي عنها الشك كأنها المعرفة الناتجة عن الرؤية والنظر المباشر. ومعنى هذا أن الآيات الواردة في قصة موسى كانت تمثل لدى المعتزلة السابقين متشابها في حاجة إلى التأويل. ويبدو أنها كانت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يستدلون بها على جواز رؤية الباري جل وعز بدليل أن موسى عليه السلام طلب رؤيته. وكان خصوم المعتزلة فيما يبدو يحملون دك الجبل من الله وعدم تحقق الرؤية على أن موسى طلب رؤية الله في الدنيا، وهي غير جائزة في رأيهم إلّا في الآخرة.(1/197)
ويبدو أن طلب موسى الرؤية من الله عز وجل بقوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}
(الأعراف / 143) كان قد أثار لدى المعتزلة السابقين على القاضي عبد الجبار مشكلة تصدّوا لحلها. هذه المشكلة تتمثل في حل التعارض القائم بين قولهم بأن معرفة توحيد الله وعدله هي معرفة عقلية لا تستند إلى السمع، وبين طلب موسى عليه السلام الرؤية، مما يوهم بجهله وهو النبي المعصوم بصفات الله وما يليق به. وكان أن تصدّى علماء المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وأبي على الجبائي إلى تأويل «النظر» في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} بأن المقصود به المعرفة الضرورية
التي تزول معها الشبه، وتصل إلى درجة أشبه بالمعرفة اليقينية. كأن موسى عليه السلام طلب من الله أن يعرّفه نفسه معرفة ينجلي عنها الشك كأنها المعرفة الناتجة عن الرؤية والنظر المباشر. ومعنى هذا أن الآيات الواردة في قصة موسى كانت تمثل لدى المعتزلة السابقين متشابها في حاجة إلى التأويل. ويبدو أنها كانت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يستدلون بها على جواز رؤية الباري جل وعز بدليل أن موسى عليه السلام طلب رؤيته. وكان خصوم المعتزلة فيما يبدو يحملون دك الجبل من الله وعدم تحقق الرؤية على أن موسى طلب رؤية الله في الدنيا، وهي غير جائزة في رأيهم إلّا في الآخرة.
ويتشبث المعتزلة بفكرة التبعيد الموجودة في قوله تعالى: {لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي.} ومعنى ذلك أن الله علّق رؤية موسى باستقرار الجبل، لا على جهة الشرط، ولكن على جهة التبعيد بأن ذلك لن يحدث. ويستشهدون على فكرة التبعيد هذه بآيات أخرى من القرآن، وبأبيات من الشعر «كما يقول قائلهم: «لا كلمتك ما لاح كوكب أو أضاء فجر» وكما قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب
وكما قال جل وعز: {وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} وكما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ}
فكذلك قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي} ثم جعله الجبل دكا بيّن به انتفاء الاستقرار، دليل على أن الرؤية لا تقع على وجه».
وهناك فكرة أخرى تؤكد فكرة التبعيد السابقة وهي أن الله قال لموسى:
{لَنْ تَرََانِي} و «لن موضوعة للتأبيد، فقد نفى أن يكون مرئيا البتة، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه». وفكرة أن «لن» موضوعة للتأبيد قد يجد الخصوم فيها مطعنا يستدلون عليه من القرآن الكريم، ذلك أن «الله قال حاكيا عن اليهود {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ،} أي لا يتمنون الموت، ثم قال حاكيا عنهم: {يََا مََالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنََا رَبُّكَ قََالَ إِنَّكُمْ مََاكِثُونَ} فكيف يقال: إن لن موضوعة للتأبيد؟
قلنا: إن لن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلّا حقيقة، بل لا يمتنع أن يستعمل مجازا، وصار الحال فيه كالحال في قولهم أسد وخنزير وحمار، فكما أن موضعها وحقيقتها الحيوانات المخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسع، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك هاهنا» ومعنى ذلك أن «لن» موضوعة في حقيقتها للتأبيد، ثم قد تستعمل مجازا كما في
الآيات التي يستدل بها الخصوم. وتلتقي فكرة أن «لن» موضوعة للتأبيد، مع فكرة التبعيد المتضمنة في الشرط في الآية، ليستدل بهما المعتزلة على أن رؤية الله مستحيلة. ولكن خصوم المعتزلة يرون في هذه الآيات رأيا آخر. فهم يسلمون بجواز الرؤية على الله، لكنهم لا يرونها جائزة في هذه الحياة الدنيا، ويكون الأمر أنها لم تحدث لأن موسى طلبها في غير أوانها ولهذا تاب موسى من ربه على ذلك وتبرأ من سفاهة قومه. وتوبته وتبرؤه من طلب الرؤية «ليس لأنها غير جائزة على الله ولكن الله تعالى أخبره أنها لا تقع في دار الدنيا والخبر صدق».(1/198)
قلنا: إن لن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلّا حقيقة، بل لا يمتنع أن يستعمل مجازا، وصار الحال فيه كالحال في قولهم أسد وخنزير وحمار، فكما أن موضعها وحقيقتها الحيوانات المخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسع، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك هاهنا» ومعنى ذلك أن «لن» موضوعة في حقيقتها للتأبيد، ثم قد تستعمل مجازا كما في
الآيات التي يستدل بها الخصوم. وتلتقي فكرة أن «لن» موضوعة للتأبيد، مع فكرة التبعيد المتضمنة في الشرط في الآية، ليستدل بهما المعتزلة على أن رؤية الله مستحيلة. ولكن خصوم المعتزلة يرون في هذه الآيات رأيا آخر. فهم يسلمون بجواز الرؤية على الله، لكنهم لا يرونها جائزة في هذه الحياة الدنيا، ويكون الأمر أنها لم تحدث لأن موسى طلبها في غير أوانها ولهذا تاب موسى من ربه على ذلك وتبرأ من سفاهة قومه. وتوبته وتبرؤه من طلب الرؤية «ليس لأنها غير جائزة على الله ولكن الله تعالى أخبره أنها لا تقع في دار الدنيا والخبر صدق».
وإذا كان المعتزلة قد اعتمدوا على فكرتي أن «لن» موضوعة للتأبيد، وأن الشرط في الآية هو على طريقة التبعيد المعروفة في مذاهب العرب، وذلك لكي يؤكدوا استحالة الرؤية على الله استحالة مطلقة، فما زال أمامهم سؤال موسى نفسه الله بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وهو سؤال يتناقض مع معرفة موسى العقلية بعدل الله وتوحيده مما يقدح في عصمته كنبي. وهذا التناقض حلّه أبو الهذيل وأبو علي الجبائي بتأويل النظر في الآية على أنه المعرفة كما سبقت الاشارة.
وهذا التأويل معناه أن الآية من المتشابه، ولكن القاضي عبد الجبار شاء أن يحوّل الآية إلى دليل للمعتزلة، ومن ثم وجد نفسه مضطرا إلى رفض تأويل مشايخه، وأخذ الآية على ظاهرها بأن موسى طلب الرؤية. والأساس الذي يستند إليه عبد الجبار أن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا النظر، ولا يحتمل المعرفة. يقول: «إن الرؤية إذا قرن اليها النظر وعداه بإلى فالمراد به الرؤية بالبصر. وقد قال سبحانه {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} فلما قرنه بالنظر وعدّاه بإلى وجب حمل ظاهره على الرؤية بالبصر، لأنه لا يصح أن يكون المراد بهذا النظر والفكر، لأنه لا يقال في نظر الفكر ينظر إليه على الحقيقة، وإنما يقال ينظر فيه.
وقد ورد الكتاب بما يدل على ذلك: فقال سبحانه: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ومتى قرن بالرؤية ذكر الجهرة، فالمراد به رؤية البصر. وذلك يدل على أن موسى صلى الله عليه إنما سأل الرؤية، ومتى حمل سؤاله على هذا الوجه أمكن حمل قوله (أنظر إليك)، على ظاهره ومتى حمل على أن المراد به العلم احتيج إلى حذف الآيات في الكلام، فيصير في التقدير كأنه قال: رب أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة من غير أن يدل الظاهر عليه» وإذا أخذت الآية على ظاهرها بأن موسى طلب رؤية الله حقا، فكيف يتأتّى منه هذا الطلب وهو النبي المعصوم الذي يجب أن يعرف بعقله
ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه؟ هنا ينكر القاضي عبد الجبار أن يكون موسى طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه بعنادهم إلى ذلك. إذ هو أعلم بالله وصفاته وتوحيده من أن يسأل هذا السؤال الذي ينمّ عن جهل لا يليق بنبوته «وقد حكي في القصة أن قومه سألوه أن يريهم ربهم جهرة، فأجابهم بأن ذلك يستحيل على الله تعالى، فلم يقنعوا بجوابه، وأحبوا أن يرد الجواب من قبل الله تعالى، فوعدهم بذلك ظنا منه أن الجواب إذا وقع من قبله كان أحسم للشبهة وأكّد في الحجة، فاختار السبعين لحضور الميقات، وهو الذي أراده تعالى بقوله: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقََاتِنََا} ووعد قومه بأنه سأله سبحانه الرؤية بحضور السبعين في الميقات، وسأله عز وجل كما وعد، فأجابه بما دلّ به على أن ما سألوه لا يجوز عليه.(1/199)
وقد ورد الكتاب بما يدل على ذلك: فقال سبحانه: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتََاباً مِنَ السَّمََاءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى ََ أَكْبَرَ مِنْ ذََلِكَ فَقََالُوا أَرِنَا اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يََا مُوسى ََ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى نَرَى اللََّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصََّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ومتى قرن بالرؤية ذكر الجهرة، فالمراد به رؤية البصر. وذلك يدل على أن موسى صلى الله عليه إنما سأل الرؤية، ومتى حمل سؤاله على هذا الوجه أمكن حمل قوله (أنظر إليك)، على ظاهره ومتى حمل على أن المراد به العلم احتيج إلى حذف الآيات في الكلام، فيصير في التقدير كأنه قال: رب أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك ضرورة من غير أن يدل الظاهر عليه» وإذا أخذت الآية على ظاهرها بأن موسى طلب رؤية الله حقا، فكيف يتأتّى منه هذا الطلب وهو النبي المعصوم الذي يجب أن يعرف بعقله
ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه؟ هنا ينكر القاضي عبد الجبار أن يكون موسى طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه بعنادهم إلى ذلك. إذ هو أعلم بالله وصفاته وتوحيده من أن يسأل هذا السؤال الذي ينمّ عن جهل لا يليق بنبوته «وقد حكي في القصة أن قومه سألوه أن يريهم ربهم جهرة، فأجابهم بأن ذلك يستحيل على الله تعالى، فلم يقنعوا بجوابه، وأحبوا أن يرد الجواب من قبل الله تعالى، فوعدهم بذلك ظنا منه أن الجواب إذا وقع من قبله كان أحسم للشبهة وأكّد في الحجة، فاختار السبعين لحضور الميقات، وهو الذي أراده تعالى بقوله: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقََاتِنََا} ووعد قومه بأنه سأله سبحانه الرؤية بحضور السبعين في الميقات، وسأله عز وجل كما وعد، فأجابه بما دلّ به على أن ما سألوه لا يجوز عليه.
وقوله تعالى: {فَلَمََّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قََالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيََّايَ، أَتُهْلِكُنََا بِمََا فَعَلَ السُّفَهََاءُ مِنََّا} يدل على صحة ما قدمناه، لأنه بيّن أن للسفهاء فيما سأل من الاختصاص ما ليس له وللسبعين. وظاهر ذلك يدل على أنه إنّما سأل على لسانهم، وأنهم لم يؤمنوا بأنه جل وعز لا يجوز أن يرى عند جوابه» ويكاد خصوم المعتزلة يتفقون معهم في ذلك، إلّا أنهم لا يستنتجون من هذا الموقف عدم جواز الرؤية على الله، بل يرون أن قوم موسى أخطئوا حين طلبوا رؤية الله في الدنيا، وهي غير جائزة إلّا في الآخرة. أمّا الخطأ الثاني الذي وقع فيه قوم موسى فهو «توقيفهم الايمان عليها حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ألا ترى أن قولهم لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الارض ينبوعا إنما سألوا فيه جائزا ومع ذلك قرعوا به لاقتراحهم على الله ما لا يتوقف وجوب الايمان عليه».
وهنا يثور تساؤل يطرح نفسه على المعتزلة ويحاولون الاجابة عليه. إذا كان موسى طلب الرؤية لقومه لا لنفسه لأنه «أعرق في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظّام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلمين» فلماذا نسب السؤال إلى نفسه بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ولم يقل مثلا: «رب أرهم ينظرون إليك»؟ ولماذا جاء جواب الله له (لن تراني) ولم يجيء مثلا «لن يروني»؟
يورد المعتزلة هذه الأسئلة على أنفسهم ويجيبون عن ذلك ب «أنه لا يمتنع أن يورد السائل عن غيره المسألة على سبيل الاضافة إليه، فيكون الحال في ذلك معقولا لما تقدم من المقدمات، وعلى ذلك يشفع أحدنا إلى غيره لغيره، فيقول: أحب أن تفعل بي كيت وكيت، وأن تقضي حقي فيه، ويجيب المشفوع إليه: بأني قد فعلت ذلك لك وبك، ويكون ذلك صحيحا، وإن كان السؤال عن غيره. وإنما كان كذلك لأن السائل لغيره عن غيره لغرض فيه تكفل بالمشقة لأجل غيره كتكفله بها لأجل نفسه، فتحقق باضافة السؤال إلى نفسه اهتماما بذلك، وإن كان سائلا عن
غيره كاهتمامه إذا كان سائلا لنفسه».(1/200)
يورد المعتزلة هذه الأسئلة على أنفسهم ويجيبون عن ذلك ب «أنه لا يمتنع أن يورد السائل عن غيره المسألة على سبيل الاضافة إليه، فيكون الحال في ذلك معقولا لما تقدم من المقدمات، وعلى ذلك يشفع أحدنا إلى غيره لغيره، فيقول: أحب أن تفعل بي كيت وكيت، وأن تقضي حقي فيه، ويجيب المشفوع إليه: بأني قد فعلت ذلك لك وبك، ويكون ذلك صحيحا، وإن كان السؤال عن غيره. وإنما كان كذلك لأن السائل لغيره عن غيره لغرض فيه تكفل بالمشقة لأجل غيره كتكفله بها لأجل نفسه، فتحقق باضافة السؤال إلى نفسه اهتماما بذلك، وإن كان سائلا عن
غيره كاهتمامه إذا كان سائلا لنفسه».
ويورد المعتزلة على أنفسهم سؤالا آخر، أو ربما أورد هذا السؤال خصومهم، فحواه: إذا كان موسى لم يسأل الرؤية لنفسه، بل سألها لقومه على طريقة التشفع، فلماذا تاب عن هذا السؤال، والتوبة لا تصح إلّا من فعل نفسه؟ وتكون الاجابة أن موسى تاب عن ذلك، لأنه سأل الله بحضرة القوم من غير إذن، ولا يجوز من الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذن سمعي، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن يجابوا، فيكون ذلك تنفيرا عن قبول الأمة».
ولعل في كل ما أوردناه في قصة موسى من حوار بين المعتزلة وخصومهم ما يبين تنازعهم في الاستدلال بهذه القصة كل لصالح وجهة نظره. فالمعتزلة في بادئ الأمر أنكروا أن يكون موسى عليه السلام طلب الرؤية، حتى اضطر أبو الهذيل العلاف وأبو علي الجبائي إلى تأويل النظر في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} بأنه المعرفة. ولم يسلم القاضي عبد الجبار بهذا التأويل من مشايخه، ربما لأن قول الله {لَنْ تَرََانِي} اجابة لهذا الطلب، يؤكد أن موسى طلب الرؤية، ومن ثم أخذ الآية على ظاهرها بناء على أن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية.
ومعنى ذلك كما أسلفنا أن الآية كانت تمثل لدى المعتزلة متشابها يحتاج للتأويل.
ولكن القاضي عبد الجبار حوّلها إلى محكم يستدل به المعتزلة على عدم جواز الرؤية على الله عز وجل. واضطرهم ذلك إلى الرد على الاعتراضات الأخرى حول نسبة سؤال موسى إلى نفسه لا إلى قومه، وحول تبرير توبة موسى من هذا السؤال
الخ كل ذلك.
وإذا كان القاضي عبد الجبار قد رفض تأويل مشايخه للآية على أساس أن موسى قد طلب رؤية الله حقا، ونفى في نفس الوقت أن يكون قد طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه إلى هذا الطلب، فطلبه لقومه ونسبه لنفسه على طريقة التشفع، وبذلك نقل الآية من أن تكون دليلا للخصوم وجعلها دليلا للمعتزلة عليهم. إذا كان القاضي عبد الجبار قد فعل ذلك، فإن جار الله الزمخشري لم يسلك هذا المسلك، بل قبل التأويلين معا دون أن ينصر أحدهما على الآخر. ولعل هذا المسلك من الزمخشري يفسّره أنه ليس متكلما بقدر ما هو مفسّر يجمع آراء المعتزلة في تفسير الرؤية دون أن يناقش هذه الآراء، وذلك على عكس القاضي عبد الجبار الذي هو متكلم في المقام الأول يعنيه رفع التناقض فيما يراه من آراء مشايخه وذلك في وجه الاعتراضات التي وردت أو يمكن أن ترد على آراء هؤلاء المشايخ.(1/201)
(2)
ينتقل المعتزلة بعد تقرير وجهة نظرهم، ودفع الاعتراضات على الآيات التي يعتبرونها محكمة تردّ إليها المتشابهات التي هي أدلة الخصوم، ينتقلون بعد ذلك إلى أدلة الخصوم السمعية، سواء من جهة الحديث النبوي الشريف أو القرآن الكريم فيستخدمون سلاح التأويل لتخلص لهم وجهة نظرهم في نفي مشابهة الله للبشر وتقرير أصل التوحيد تقريرا كاملا.
وفيما يتصل بالأحاديث النبوية التي يوهم ظاهرها جواز رؤية الباري عز وجل، لا يجد المعتزلة كبير عناء في ردها. والأساس الذي يستندون إليه في رد هذه الأحاديث أنها أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في أصول الدين وإن أخذ بها في فروعه. غير أنهم من جانب آخر قد يلجئون إلى تأويل ما ورد فيها تأويلا يتفق مع أصول مذهبهم. أو إلى معارضة هذه الأحاديث بأحاديث أخرى تتفق مع ما يذهبون إليه. ومعنى ذلك أن هناك ثلاث وسائل في مواجهة الحديث النبوي الذي يستند إليه الخصوم فيما يذهبون إليه من جواز الرؤية على الله.
الوسيلة الأولى هي رفض هذه الأحاديث باعتبارها آحاد «ولا يجوز قبول ذلك فيما طريقه العلم، لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به، ويصح كونه كاذبا فيه، ولا يجوز أن ندين ونقطع على الشيء من وجه يجوز الغلط فيه، لأنا لا نأمن بالاقدام على اعتقاده من أن يكون جهلا، ولا نأمن أن تكون أخبارنا كذبا. وإنما يعمل بأخبار الآحاد في فروع الدين، وما يصح أن يتبع العمل فيه غالب الظن، فأمّا ما عداه فإن قبوله فيه لا يصح، ولذلك لا يرجع إليه في معرفة التوحيد والعدل وسائر أصول الدين، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الأخبار لو كانت صحيحة السند سليمة من الطعن في الرواة، فكيف وقد طعن أهل العلم في رواتها، وذكروا من حالهم ما يمنع من الرجوع إلى خبرهم».
أمّا السلاح الثاني في مواجهة الخصوم حين يستشهدون بالأحاديث النبوية وذلك بعد دفع هذه الأحاديث على اعتبار أنها أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في أصول العلم فهو أن تعارض بأحاديث أخرى تؤكد وجهة النظر الاعتزالية في نفي الرؤية عن الله جل وعز «وهو ما روي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة» وما روي عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسول الله: «هل رأيت ربك؟ قال: نور أنىّ أراه» يعني لا أراه، كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ،} وما روي عن الشعبي عن عبد الله بن الحرث، عن كعب، أنه كان يقول: إن الله
قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد فكلّم موسى مرتين ورآه محمد مرتين فأتى مسروق عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري مما قلته ثلاثا، من حدثك بهذا فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب. قال الله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} وقال: {مََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً} ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب. وقد روى مسروق عن عائشة أنه قال لها: أليس الله يقول في كتابه {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذلك جبريل رأيته في صورته التي خلقه الله عليها مرتين» الخ كل هذه الأحاديث التي يعارض بها المعتزلة أحاديث خصومهم في هذه القضية. وليس يعنينا الكشف هنا عن مدى صدق هذه الأحاديث من ناحية السند أو المتن، بقدر ما يعنينا أن نرصد طريقة المعتزلة في الرد ومنازعة الخصوم. والمعتزلة أنفسهم لا يعولون كثيرا على الحديث فيما يتصل بأصول العقائد فيكفي أن تكون هذه الأحاديث «معارضة لما نقلوه، وإن لم تزد في الظهور على تلك لم تنقص منه، فلم صار التعلق بتلك أولى من هذه؟ ويجب عند تعارضهما الرجوع إلى ما دلّ عليه العقل والكتاب لو ثبت أن أخبار الآحاد تقبل».(1/202)
أمّا السلاح الثاني في مواجهة الخصوم حين يستشهدون بالأحاديث النبوية وذلك بعد دفع هذه الأحاديث على اعتبار أنها أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في أصول العلم فهو أن تعارض بأحاديث أخرى تؤكد وجهة النظر الاعتزالية في نفي الرؤية عن الله جل وعز «وهو ما روي عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة» وما روي عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسول الله: «هل رأيت ربك؟ قال: نور أنىّ أراه» يعني لا أراه، كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ،} وما روي عن الشعبي عن عبد الله بن الحرث، عن كعب، أنه كان يقول: إن الله
قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد فكلّم موسى مرتين ورآه محمد مرتين فأتى مسروق عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري مما قلته ثلاثا، من حدثك بهذا فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب. قال الله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} وقال: {مََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً} ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب. وقد روى مسروق عن عائشة أنه قال لها: أليس الله يقول في كتابه {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذلك جبريل رأيته في صورته التي خلقه الله عليها مرتين» الخ كل هذه الأحاديث التي يعارض بها المعتزلة أحاديث خصومهم في هذه القضية. وليس يعنينا الكشف هنا عن مدى صدق هذه الأحاديث من ناحية السند أو المتن، بقدر ما يعنينا أن نرصد طريقة المعتزلة في الرد ومنازعة الخصوم. والمعتزلة أنفسهم لا يعولون كثيرا على الحديث فيما يتصل بأصول العقائد فيكفي أن تكون هذه الأحاديث «معارضة لما نقلوه، وإن لم تزد في الظهور على تلك لم تنقص منه، فلم صار التعلق بتلك أولى من هذه؟ ويجب عند تعارضهما الرجوع إلى ما دلّ عليه العقل والكتاب لو ثبت أن أخبار الآحاد تقبل».
أمّا السلاح الثالث في مواجهة الأحاديث التي يستشهد بها الخصوم فهو سلاح التأويل، وهو نفس السلاح الحاد الذي يواجه به المعتزلة الآيات التي يستشهد بها الخصوم على صحة قولهم من القرآن الكريم. غير أن التأويل في مواجهة النصوص القرآنية هو السلاح الوحيد، وإن كان في مواجهة الأحاديث النبوية سلاحا من أسلحة عديدة، بل هو آخر هذه الأسلحة. خصوصا إذا اتصل الأمر بأصولهم العقلية. وليس ببعيد تأويلهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل «هل رأيت ربك فقال: نور أنّى أراه» حيث أوّلت «أنّى» بمعنى «لا» واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهذه القراءة لا تسلم للمعتزلة تماما، فأهل السنة يوردون الحديث على أن «أنّى» ظرف لا نفي وعلى أي حال فتأويل منطوق الحديث بما يتفق مع الأصول مسلك اعتزالي مشروع. وبنفس الطريقة يؤول المعتزلة الأحاديث التي وردت ويفيد ظاهرها الرؤية، على أن الرؤية فيها بمعنى العلم لا رؤية العين «على أن شيوخنا قد بيّنوا أن خبر جرير لو صحّ لكان له تأويل سليم على قولنا وهو أنه أراد بقوله: (ترون ربكم) تعلمون ربكم، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم في اللغة. يبين ذلك قوله جل وعز: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ} و {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحََابِ الْفِيلِ،} وقوله {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرََاهُ قَرِيباً،} وهو تعالى يعني البعث، وقول المسلمين: اللهم أرنا الحق
حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه. وقد ذكر أهل اللغة في كتبهم أن الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تعدّت إلى مفعولين وإذا كانت بمعنى الادراك لم تتعد إلّا إلى مفعول واحد. فإذا صحّ ذلك، وأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم، لم يمتنع أن يكون المراد بقوله ترون ربكم (تعلمون ربكم) كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويكون هذا أصح لأنه إن حمل على أنه أراد يدركونه كما يدركون القمر فيجب أن يدرك في جهة مخصوصة كالقمر، فثبت أن وجه التشبيه فيه، إذا حمل على العلم من حيث شاركه في أنه ضروري، أصح».(1/203)
أمّا السلاح الثالث في مواجهة الأحاديث التي يستشهد بها الخصوم فهو سلاح التأويل، وهو نفس السلاح الحاد الذي يواجه به المعتزلة الآيات التي يستشهد بها الخصوم على صحة قولهم من القرآن الكريم. غير أن التأويل في مواجهة النصوص القرآنية هو السلاح الوحيد، وإن كان في مواجهة الأحاديث النبوية سلاحا من أسلحة عديدة، بل هو آخر هذه الأسلحة. خصوصا إذا اتصل الأمر بأصولهم العقلية. وليس ببعيد تأويلهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل «هل رأيت ربك فقال: نور أنّى أراه» حيث أوّلت «أنّى» بمعنى «لا» واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنََّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهذه القراءة لا تسلم للمعتزلة تماما، فأهل السنة يوردون الحديث على أن «أنّى» ظرف لا نفي وعلى أي حال فتأويل منطوق الحديث بما يتفق مع الأصول مسلك اعتزالي مشروع. وبنفس الطريقة يؤول المعتزلة الأحاديث التي وردت ويفيد ظاهرها الرؤية، على أن الرؤية فيها بمعنى العلم لا رؤية العين «على أن شيوخنا قد بيّنوا أن خبر جرير لو صحّ لكان له تأويل سليم على قولنا وهو أنه أراد بقوله: (ترون ربكم) تعلمون ربكم، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم في اللغة. يبين ذلك قوله جل وعز: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ} و {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحََابِ الْفِيلِ،} وقوله {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرََاهُ قَرِيباً،} وهو تعالى يعني البعث، وقول المسلمين: اللهم أرنا الحق
حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه. وقد ذكر أهل اللغة في كتبهم أن الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تعدّت إلى مفعولين وإذا كانت بمعنى الادراك لم تتعد إلّا إلى مفعول واحد. فإذا صحّ ذلك، وأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم، لم يمتنع أن يكون المراد بقوله ترون ربكم (تعلمون ربكم) كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويكون هذا أصح لأنه إن حمل على أنه أراد يدركونه كما يدركون القمر فيجب أن يدرك في جهة مخصوصة كالقمر، فثبت أن وجه التشبيه فيه، إذا حمل على العلم من حيث شاركه في أنه ضروري، أصح».
غير أن تأويل الرؤية بمعنى العلم في الحديث السابق يحتاج إلى تأويل آخر، ذلك أن الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين، وإذا كانت بمعنى الادراك لم تتعد إلّا إلى مفعول واحد كما ذكر أهل اللغة الذين يروي عنهم القاضي عبد الجبار في النص السابق. وإذا كان القاضي عبد الجبار لم يحل هذا الاشكال الذي أورده على نفسه، واكتفى بالدليل العقلي على أساس أن حمل «ترون» في الحديث على الادراك يقتضي الادراك في جهة مخصوصة كما يدرك القمر في جهة مخصوصة، إذا كان القاضي عبد الجبار لم يحل الاشكال اللغوي واكتفى باقامة تأويله على أساس عقلي، فإنه في مكان آخر يتنبّه إلى هذا الاشكال ويحاول حلّه. أو لعل شارح كتابه والمعلق عليه هو الذي أحس بالاشكال ورد عليه «فإن قالوا:
الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدّى إلى مفعولين، نحو رأيت فلانا فاضلا، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلّا إذا كان بمعنى المشاهدة، قلت: لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه، ثم يقتصر على أحد مفعوليه توسعا ومجازا، كما أن همزة التعدية إذا دخلت في الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين، تقتضي تعديه إلى ثلاثة مفاعيل، ثم قد تدخل على الفعل الذي هذا حاله ويقتصر على مفعولين، ولهذا قال تعالى:
{أَرِنََا مَنََاسِكَنََا} فأدخل الهمزة على الرؤية، واقتصر على مفعولين. على أن حال الرؤية إذا كانت بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعولين فيقولون أعلم ما في نفسك، ولهذا قال تعالى: {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} فإن قال: إن العلم هاهنا بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد المفعولين، قلنا: فارض منا بمثل هذا الجواب».
وهذا الرد يتضمن ثلاث وسائل لغوية: الوسيلة الأولى أن اقتصار «الرؤية» بمعنى العلم على مفعول واحد توسع ومجاز. والشاهد على ذلك أن همزة التعدية إذا دخلت على الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين تعديه إلى ثلاثة مفاعيل، لكنها قد تدخل عليه ويعدّى إلى مفعولين فقط كما هو الأصل كما في قوله تعالى: {أَرِنََا مَنََاسِكَنََا} (البقرة: 128). الوسيلة الثانية أن حال الرؤية كحال العلم، وأن
الفعل «علم» قد يعدّى إلى مفعول واحد فلذلك جاز أن يعدّى الفعل «يرى» بمعنى «علم» إلى مفعول واحد حسب معناه. فإن قيل إن الفعل «علم» في قوله تعالى {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} بمعنى «عرف» ولهذا عدي إلى مفعول واحد، يلجأ المعتزلة إلى وسيلة ثالثة وهو أن «ترون» في الحديث بمعنى «تعرفون» ولذلك فأنت تعديته إلى مفعول واحد صحيحة.(1/204)
وهذا الرد يتضمن ثلاث وسائل لغوية: الوسيلة الأولى أن اقتصار «الرؤية» بمعنى العلم على مفعول واحد توسع ومجاز. والشاهد على ذلك أن همزة التعدية إذا دخلت على الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين تعديه إلى ثلاثة مفاعيل، لكنها قد تدخل عليه ويعدّى إلى مفعولين فقط كما هو الأصل كما في قوله تعالى: {أَرِنََا مَنََاسِكَنََا} (البقرة: 128). الوسيلة الثانية أن حال الرؤية كحال العلم، وأن
الفعل «علم» قد يعدّى إلى مفعول واحد فلذلك جاز أن يعدّى الفعل «يرى» بمعنى «علم» إلى مفعول واحد حسب معناه. فإن قيل إن الفعل «علم» في قوله تعالى {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} بمعنى «عرف» ولهذا عدي إلى مفعول واحد، يلجأ المعتزلة إلى وسيلة ثالثة وهو أن «ترون» في الحديث بمعنى «تعرفون» ولذلك فأنت تعديته إلى مفعول واحد صحيحة.
وتأويل «الرؤية» في الحديث بمعنى «العلم» أو «المعرفة» يتلقفه الزمخشري وهو بصدد تفسير قوله تعالى {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} مستشهدا به على أن النظر في الآية بمعنى المعرفة، كأن الحديث قد سلم للمعتزلة تماما على هذا التأويل. يقول الزمخشري في تفسير الآية «أنظر إليك» أعرفك معرفة اضطرار كأني انظر اليك كما جاء في الحديث سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى».
(3) يتصدّى المعتزلة بعد ذلك للآيات التي استشهد بها الخصوم على صحة ما ذهبوا إليه من جواز الرؤية على الله جل وعز. وأول هذه الآيات قوله تعالى في سورة القيامة / 2322 {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} حيث قالوا:
«إنه جل وعز دلّ بذلك على أنه يصحّ أن يرى لأن النظر إذا علق بالوجه لم يحتمل إلّا الرؤية والنظر إذا عدي بإلى لم يحتمل إلّا الرؤية ولم يحتمل الانتظار، لأنه لا يقال في زيد أنه ناظر إلى فلان ويراد به الانتظار، وإنما يقال هو منتظر فلانا
على أنّا إذا قسمنا النظر خرج من القسمة أن المراد بالآية الرؤية على ما نقوله، وذلك أن النظر يحتمل وجوها: منها الفكر، ومنها التعطف والرحمة، ومنها الانتظار، ومنها الرؤية. وقد علمنا أنه لا يجوز أن يكون الفكر والاعتبار مرادا بالآية، لأنه تعالى ليس هو ممن يفكر فيه، ويعتبر به، وإنما يفكر في الحوادث، ويعتبر بها، ليتوصل بالفكر فيها إلى معرفة غيرها، ولأن النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بإلى. ألا ترى أن القائل إنما يقول نظرت في الشيء، بمعنى الفكر، ولا يقول نظرت إليه.
ولا يجوز أن يراد الانتظار لوجوه: منها أنه علق بالوجه، والنظر اذا علق بالوجه لم يحتمل الانتظار كما أن الكتابة اذا علقت باليد لم تحتمل إلّا الكتابة المخصوصة، وكذلك كل شيء وصل إليه بالآلة متى علق بالآلة لم يحتمل سواه.
ومنها أن النظر بمعنى الانتظار لا يعدّى بإلى على ما بيناه. ومنها أن الرؤية واردة في أهل الجنة ولا يجوز عليهم الانتظار، لأن الانتظار يوجب الحسرة والغم، وقد ضرب أهل اللغة المثل به حتى قالوا: «إن الانتظار يورث الصغار» وذكروه في الأمثال
والأشعار، وذلك لا يجوز على أهل الجنة. فإذا بطل أن يكون المراد بالنظر المذكور في الآية هذه الوجوه، ثبت أن المراد به الرؤية على ما قلناه». في هذا النص يلخّص القاضي عبد الجبار أدلّة خصومه على أن المراد بالآية النظر الذي هو الرؤية بالحاسة. والأساس الأول الذي تقوم عليه هذه الأدلّة أن النظر قد علّق بالوجه، والوجه آلة في النظر، ومن ثم لا تحتمل الآية معنى الانتظار. أمّا الأساس الثاني فهو أن النظر قد عدي بحرف الجر «إلى» ومن ثم لا يحتمل معنى الفكر، لأن النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بحرف الجر «إلى» وإنما يعدّى بحرف الجر «في». الأساس الثالث أن الآية وردت في شأن أهل الجنة الذين لا يجوز عليهم الانتظار لما يسببه لهم من غم وقلق لا يليق بحال أهل الجنة وتكريمهم. ويتصدّى القاضي عبد الجبار لمناقشة هذه الأسس التي يقيم عليها الخصوم دليلهم. وسبيله في هذه المناقشة، وتأويل الآية بما يتفق مع أصوله، ليس سهلا ولا بسيطا، وإنما شأنه في ذلك تفتيت الآية واعمال سلاح المجاز في معظم ألفاظها، بل وفي حرف الجر أيضا.(1/205)
ومنها أن النظر بمعنى الانتظار لا يعدّى بإلى على ما بيناه. ومنها أن الرؤية واردة في أهل الجنة ولا يجوز عليهم الانتظار، لأن الانتظار يوجب الحسرة والغم، وقد ضرب أهل اللغة المثل به حتى قالوا: «إن الانتظار يورث الصغار» وذكروه في الأمثال
والأشعار، وذلك لا يجوز على أهل الجنة. فإذا بطل أن يكون المراد بالنظر المذكور في الآية هذه الوجوه، ثبت أن المراد به الرؤية على ما قلناه». في هذا النص يلخّص القاضي عبد الجبار أدلّة خصومه على أن المراد بالآية النظر الذي هو الرؤية بالحاسة. والأساس الأول الذي تقوم عليه هذه الأدلّة أن النظر قد علّق بالوجه، والوجه آلة في النظر، ومن ثم لا تحتمل الآية معنى الانتظار. أمّا الأساس الثاني فهو أن النظر قد عدي بحرف الجر «إلى» ومن ثم لا يحتمل معنى الفكر، لأن النظر بمعنى الفكر لا يعدّى بحرف الجر «إلى» وإنما يعدّى بحرف الجر «في». الأساس الثالث أن الآية وردت في شأن أهل الجنة الذين لا يجوز عليهم الانتظار لما يسببه لهم من غم وقلق لا يليق بحال أهل الجنة وتكريمهم. ويتصدّى القاضي عبد الجبار لمناقشة هذه الأسس التي يقيم عليها الخصوم دليلهم. وسبيله في هذه المناقشة، وتأويل الآية بما يتفق مع أصوله، ليس سهلا ولا بسيطا، وإنما شأنه في ذلك تفتيت الآية واعمال سلاح المجاز في معظم ألفاظها، بل وفي حرف الجر أيضا.
يبدأ القاضي عبد الجبار أولا بالتفرقة بين «النظر» و «الرؤية» «لأن النظر في الحقيقة هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو الشيء التماسا لرؤيته، والرؤية ادراك المرئي عند النظر فالنظر هو طريق للرؤية فينا فأمّا أن يكون هو الرؤية في الحقيقة فمحال. يدل على ذلك أنّا نعلم بالمشاهدة كون الناظر ناظرا، ولا نعلمه رائيا إذا كان المرئي مما يدق ويخفى. يبين ذلك أنّا نعلم أن الجماعة ناظرة إلى الهلال ولا نعلمها رائية له، ولذلك يحتاج أن يرجع إلى قولها في أنها رأت الهلال أم لم تره، ولا يحتاج في كونها ناظرة إلى ذلك، بل نعلمه باضطرار. فثبت أن النظر الذي نعلمه من حالها غير الرؤية التي نجهلها ولا نعلمها، وأن النظر الذي نعلمه لا من قبلها غير الرؤية التي نعلمها من قبلها».
وبعد هذه التفرقة بين «النظر» و «الرؤية» وأن النظر هو تقليب الحدقة الصحيحة في الشيء التماسا لرؤيته والرؤية هي ادراك الشيء، وعلى ذلك فليس كل من نظر فقد رأى، لأن الرؤية نتيجة للنظر، وتتوقف على حال المرئي من الدقة والخفاء أو الوضوح والانكشاف. بعد هذه التفرقة ينتقل القاضي عبد الجبار إلى أدلّة الخصوم دليلا دليلا لمناقشتها وتأويل الآية. والدليل الأول الذي يناقشه القاضي هو قول الخصوم أن النظر إذا علّق بالوجه لا يحتمل إلّا الرؤية، لأن الوجه آلة في النظر. يرى القاضي أن تعلق النظر بالوجوه مجاز وليس حقيقة لأن الوجوه لا ترى في الحقيقة «ولا يصح أن ينظر بها أيضا لأن النظر يقع بالعين التي في الوجه دون الوجه. وإذا لم يجز أن يراد بالوجوه العضو على الحقيقة، لأن العضو لا ينظر في
الحقيقة، ولا ينظر به في الحقيقة، فيجب متى حمل الكلام عليه أن يكون مجازا يحتاج الحامل له عليه إلى دليل» وإذن فالوجه لا ينظر في الحقيقة ولا ينظر به لأنه ليس بآلة للنظر، ومن ثمّ فالوجه هنا مجاز يدل على الجملة التي هي الانسان «ومما يبين ذلك أيضا أنه تعالى قال: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} وقد علمنا أنه لم يرد بقولها «ربها» المالك، لأنه لا يكون لأهل الجنة في ذلك اختصاص، بل لا يكون للحي فيه اختصاص لكونه تعالى مالكا لجميع الأشياء، ومقتدرا على تصريفه، فعلم أن المراد بقوله إلى ربها ما يخصّ الانسان الذي هو مستحق لعبادته الثواب والتعظيم والتبجيل، وذلك يوجب منع حمله على أن المراد بالوجوه العضو، ويوجب أن المراد به جملة الانسان» ويقوم تأويل أن المراد بالوجوه جملة الانسان على أن الضمير «الهاء» في «ربها» لا يجوز أن يعود للوجوه، لأن الله تعالى لا يملك الوجوه وحدها.(1/206)
وبعد هذه التفرقة بين «النظر» و «الرؤية» وأن النظر هو تقليب الحدقة الصحيحة في الشيء التماسا لرؤيته والرؤية هي ادراك الشيء، وعلى ذلك فليس كل من نظر فقد رأى، لأن الرؤية نتيجة للنظر، وتتوقف على حال المرئي من الدقة والخفاء أو الوضوح والانكشاف. بعد هذه التفرقة ينتقل القاضي عبد الجبار إلى أدلّة الخصوم دليلا دليلا لمناقشتها وتأويل الآية. والدليل الأول الذي يناقشه القاضي هو قول الخصوم أن النظر إذا علّق بالوجه لا يحتمل إلّا الرؤية، لأن الوجه آلة في النظر. يرى القاضي أن تعلق النظر بالوجوه مجاز وليس حقيقة لأن الوجوه لا ترى في الحقيقة «ولا يصح أن ينظر بها أيضا لأن النظر يقع بالعين التي في الوجه دون الوجه. وإذا لم يجز أن يراد بالوجوه العضو على الحقيقة، لأن العضو لا ينظر في
الحقيقة، ولا ينظر به في الحقيقة، فيجب متى حمل الكلام عليه أن يكون مجازا يحتاج الحامل له عليه إلى دليل» وإذن فالوجه لا ينظر في الحقيقة ولا ينظر به لأنه ليس بآلة للنظر، ومن ثمّ فالوجه هنا مجاز يدل على الجملة التي هي الانسان «ومما يبين ذلك أيضا أنه تعالى قال: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} وقد علمنا أنه لم يرد بقولها «ربها» المالك، لأنه لا يكون لأهل الجنة في ذلك اختصاص، بل لا يكون للحي فيه اختصاص لكونه تعالى مالكا لجميع الأشياء، ومقتدرا على تصريفه، فعلم أن المراد بقوله إلى ربها ما يخصّ الانسان الذي هو مستحق لعبادته الثواب والتعظيم والتبجيل، وذلك يوجب منع حمله على أن المراد بالوجوه العضو، ويوجب أن المراد به جملة الانسان» ويقوم تأويل أن المراد بالوجوه جملة الانسان على أن الضمير «الهاء» في «ربها» لا يجوز أن يعود للوجوه، لأن الله تعالى لا يملك الوجوه وحدها.
وإذا كانت الآية واردة في شأن أهل الجنة فاضافة الضمير إلى «الرب» يقتضي تكريما لأهل الجنة واختصاصا يحول دون عودة الضمير إلى الوجوه ويؤكد عودتها إلى الجملة. وعلى ذلك يكون تأويل الوجوه على أن المراد بها الجملة مشروعا. وبذلك يكون هذا القول من الله تعالى قد جرى «على منهاج ما ذكره في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بََاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهََا فََاقِرَةٌ} فذكر الوجوه وأراد جملة الانسان وقوله:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ لِسَعْيِهََا رََاضِيَةٌ} فكما أن تعليق الظن بالوجوه يقتضي أن المراد به جملة الانسان، لأنه الظان دون الوجه، فكذلك وصف الوجوه بأنها ناظرة يدل على ذلك، لأن الناظر هو صاحب الوجه دونه. وقد صحّ استعمال الوجه في اللغة على هذه الطريقة: فلذلك يقول القائل: هذا وجه الرأي، ووجه الطريق، ويريد به: نفس الرأي، ونفس الطريق. وعلى هذا حمل جماعة المسلمين قوله سبحانه:
{وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلََالِ وَالْإِكْرََامِ} و {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ.} ولا يبعد أن تكون الجملة وصفت بذلك، لأن بالوجه تتميز الجملة عن غيرها، فلما كان التمييز والمعرفة تقع به، وصفت الجملة بهذه الصفة».
وإذا كانت الرؤية غير النظر، وإذا كان تعلّق النظر بالوجوه مجازا، لأن المقصود بالوجه جملة الانسان، فإذا وصف الانسان بأنه ناظر دون أن يقيد ذلك بالعين أو القلب، جاز للنظر في هذه الحالة أن يحتمل الانتظار. ولكن خصوم المعتزلة قد يوردون هنا اعتراضا فحواه أن حمل الوجوه على أن المراد بها جملة الانسان مجاز، وحمل النظر على أن المراد به الانتظار مجاز أيضا وبذلك يكون في الآية مجازان وتأويلان «ولأن يحمل الكلام على الوجه الذي هو حقيقة في بعض الوجوه فهو أولى من حمله على ما هو مجاز من كل وجه». وهذا الاعتراض
يجعل المعتزلة ينكرون أن النظر بمعنى الانتظار مجاز وذلك حتى لا يتهموا بحمل الآية على تأويلين ومجازين، ولكن هذا الانكار لمجازية «النظر» ينساه المعتزلة أعني القاضي عبد الجبار ليعودوا من جديد معترفين بأن النظر بمعنى الانتظار مجاز.(1/207)
وإذا كانت الرؤية غير النظر، وإذا كان تعلّق النظر بالوجوه مجازا، لأن المقصود بالوجه جملة الانسان، فإذا وصف الانسان بأنه ناظر دون أن يقيد ذلك بالعين أو القلب، جاز للنظر في هذه الحالة أن يحتمل الانتظار. ولكن خصوم المعتزلة قد يوردون هنا اعتراضا فحواه أن حمل الوجوه على أن المراد بها جملة الانسان مجاز، وحمل النظر على أن المراد به الانتظار مجاز أيضا وبذلك يكون في الآية مجازان وتأويلان «ولأن يحمل الكلام على الوجه الذي هو حقيقة في بعض الوجوه فهو أولى من حمله على ما هو مجاز من كل وجه». وهذا الاعتراض
يجعل المعتزلة ينكرون أن النظر بمعنى الانتظار مجاز وذلك حتى لا يتهموا بحمل الآية على تأويلين ومجازين، ولكن هذا الانكار لمجازية «النظر» ينساه المعتزلة أعني القاضي عبد الجبار ليعودوا من جديد معترفين بأن النظر بمعنى الانتظار مجاز.
يقول القاضي عبد الجبار في انكاره لمجازية «النظر» في الآية «إن ما ادعيته من أن النظر بمعنى الانتظار مجاز ليس بمسلّم، لأنهم قد استعملوه فيه على وجه قد اطرد كاستعمالهم ذلك في النظر بالعين، فلا يمتنع أن يكون ما له سمى الجميع ذلك نظرا يرجع إلى معنى واحد وهو الطلب، فكأن المفكر المعتبر يطلب المعرفة بحال ما يفكر فيه، والناظر يطلب الرؤية، والمنتظر يطلب ما يتوقعه من جهة غيره، فمعنى الطلب في الجميع يتساوى على ما ذكرناه. ومتى صح حمل الجميع على أنه مأخوذ من وجه واحد، وموضوع في اللغة بطريقة واحدة، فما أوجب كونه حقيقة في البعض يوجب كونه حقيقة في الكل» ويبني القاضي عبد الجبار انكاره لمجازية «النظر» بمعنى الانتظار على أساسين: الأساس الأول أن الرؤية والانتظار والفكر كلها ترجع لمعنى الطلب. وبذلك يكون استعمال «النظر» بمعنى الطلب، ليستوعب كل هذه المعاني، حقيقة وليس مجازا. الأساس الثاني أن العرب قد استعملت النظر بمعنى الانتظار على وجه قد اطرد كاستعمالهم ذلك في النظر بالعين ويورد القاضي شواهد من استعمالهم «نظر» بمعنى «انتظر» «والنظر بمعنى الانتظار قد ورد قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ}
(البقرة / 28) أي فانتظار وقال جل وعز فيما حكي عن بلقيس {فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل / 35) أي منتظرة. وقال الشاعر:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب
أي لمنتظر. وقال آخر:
وان امرأ يرجو السبيل إلى الغنى ... بغيرك عن حد الغنى جد جائر
تراه على قرب وإن بعد المدى ... بأعين آمال اليك نواظر
وقال آخر:
وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص
وقال الخليل: إنما يقال أنظر إلى الله وإلى فلان من بين الخلائق، أي انتظر خيره، ثم خير فلان».
ولكن القاضي عبد الجبار حين يتعرّض لمناقشة الأساس الثاني للخصوم، وهو
قولهم إن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية ولم يحتمل الانتظار أو الفكر، حين يتعرّض لمناقشة هذا الأساس يعود للاعتراف بأن «النظر» بمعنى «الانتظار» مجاز، ومن ثم يقع في التناقض. غير أن مناقشة هذا الأساس توقعه في تناقض آخر مع قضية سبق أن قررها حين تعرض لقوله في قصة موسى {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} فهناك قرر أن النظر إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية وذلك حين كان يتصدّى لتأويل مشايخه بأن «النظر» بمعنى العلم، أمّا هنا فهو لا يجد مانعا من أن يعدى «النظر» بإلى ويكون معناه الانتظار وذلك على أساس «أن اللفظة إذا قصد بها في اللغة معنى، وظاهرها موضوع في اللغة لغيره فقد تستعمل على ما يقتضيها اللفظ تارة، وعلى ما يقتضي معناها أخرى، وهذا كقوله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهََا وَرُسُلِهِ} فأعمل اللفظ وأنث، ثم قال في آخره: {أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} فأعمل المعنى المراد. فكذلك لا يمتنع أن يكون سبحانه أجرى في الخطاب على ما يقتضيه لفظ «ناظر» فعدّاه بإلى دون ما يقتضي المعنى. على أن اللفظة إذا أفادت في اللغة أمرا وتجوّز بها في غيره، فيجب أن تستعمل في المجاز على الوجه الذي وضعت له في الحقيقة، فتكون مستعارة فيه على الحد الذي هو حقيقة في غيره، ومتى غيرت عما تستعمل عليه في حقيقتها لم تكن هي المستعارة. فلما كان قولنا «ناظر» يستعمل في الحقيقة في نظر العين معدّى بإلى صح أن يتجوز به في الانتظار على هذا الحد وإن كان لو صرح بلفظ «الانتظار» بدلا منه لم يعد بإلى، وهذا كقولنا «إن زيدا يحب عمرا» بمعنى الارادة، ولو صرّح بلفظ الارادة لم يسغ دون أن يذكر نفس المراد الذي هو منافعه، فيقال:(1/208)
ولكن القاضي عبد الجبار حين يتعرّض لمناقشة الأساس الثاني للخصوم، وهو
قولهم إن «النظر» إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية ولم يحتمل الانتظار أو الفكر، حين يتعرّض لمناقشة هذا الأساس يعود للاعتراف بأن «النظر» بمعنى «الانتظار» مجاز، ومن ثم يقع في التناقض. غير أن مناقشة هذا الأساس توقعه في تناقض آخر مع قضية سبق أن قررها حين تعرض لقوله في قصة موسى {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} فهناك قرر أن النظر إذا عدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلّا الرؤية وذلك حين كان يتصدّى لتأويل مشايخه بأن «النظر» بمعنى العلم، أمّا هنا فهو لا يجد مانعا من أن يعدى «النظر» بإلى ويكون معناه الانتظار وذلك على أساس «أن اللفظة إذا قصد بها في اللغة معنى، وظاهرها موضوع في اللغة لغيره فقد تستعمل على ما يقتضيها اللفظ تارة، وعلى ما يقتضي معناها أخرى، وهذا كقوله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهََا وَرُسُلِهِ} فأعمل اللفظ وأنث، ثم قال في آخره: {أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} فأعمل المعنى المراد. فكذلك لا يمتنع أن يكون سبحانه أجرى في الخطاب على ما يقتضيه لفظ «ناظر» فعدّاه بإلى دون ما يقتضي المعنى. على أن اللفظة إذا أفادت في اللغة أمرا وتجوّز بها في غيره، فيجب أن تستعمل في المجاز على الوجه الذي وضعت له في الحقيقة، فتكون مستعارة فيه على الحد الذي هو حقيقة في غيره، ومتى غيرت عما تستعمل عليه في حقيقتها لم تكن هي المستعارة. فلما كان قولنا «ناظر» يستعمل في الحقيقة في نظر العين معدّى بإلى صح أن يتجوز به في الانتظار على هذا الحد وإن كان لو صرح بلفظ «الانتظار» بدلا منه لم يعد بإلى، وهذا كقولنا «إن زيدا يحب عمرا» بمعنى الارادة، ولو صرّح بلفظ الارادة لم يسغ دون أن يذكر نفس المراد الذي هو منافعه، فيقال:
«إن زيدا يريد منافع عمرو». وإذن يعود القاضي عبد الجبار إلى الاعتراف بأن استعمال «نظر» بمعنى الانتظار مجاز وليس حقيقة، غاية الأمر أنها استعملت من حيث التعدية كما استعملت في الحقيقة وعديت بحرف الجر «إلى». وهذا الاستعمال في رأي القاضي هو الذي يجعل المجاز في اللفظ ويؤكده. ولو استعملت اللفظة في المجاز على غير ما تستعمل في الحقيقة لم تكن هي المستعارة، أي لم يكن المجاز في اللفظ المستعمل. ويستشعر عبد الجبار أن المسألة لم تحل تماما، ومن ثم يدعم هذا الرأي بسند لغوي ينسبه إلى أستاذه أبي علي الجبائي، وهو رأي لغوي شائع يقول إن حروف الجر تنوب عن بعضها «وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله: إذا ثبت أن لفظة الانتظار قد تعدّى ببعض حروف الجر فيقال: أنا منتظر لفلان فغير ممتنع أن تعدّى بإلى، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض، وذلك نحو قوله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} و {يَهْدِي لِلْحَقِّ} فأقام أحدهما مقام الآخر، وكقوله {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يعني على جذوع النخل، وقد يقال
في التعارف: «زيد قوي على عمله» و «قوي في عمله» و «هو مستعل على عمرو ولعمرو» فلا يمتنع أن يعدّى ناظر بمعنى الانتظار بإلى، ويقوم مقام اللام في هذا الباب. وليس لأحد أن يقول: فجوّزوا أن يقال في زيد أنه ضارب إلى عمرو، كما يقال ضارب لعمرو على قياس ما ذكرتم، وإلّا فيجب بطلان ما ذكرتموه. وذلك أن ما ذكرناه مجاز، فلا يجب اطراده واستعمال القياس فيه» .. وإذا كانت نيابة الحروف عن بعضها مجازا، واستعمال «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا ثانيا، وتعلق النظر بالوجوه مجازا ثالثا، فقد وجدت في الآية ثلاثة مجازات ركب بعضها فوق بعض وهذا مما يأباه المعتزلة عموما، والقاضي عبد الجبار خصوصا، حتى أنه منذ قليل أنكر أن تكون «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا، ولكنه عاد فاعترف بها، ووقع بالتالي في أكثر مما حاول الهرب منه. وقع في ثلاثة مجازات حمل عليها الآية، وكان قد حاول الهرب من مجازين فقط. غير أن هناك تأويلا يورده القاضي قد يعفيه من هذه المجازات التي يأخذ بعضها بخناق بعض، هو أن «إلى في الآية على ما قيل، هو (لا) حرف الجر ولا حرف التعدية، وإنما هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوه يومئذ ناضرة آلاء ربها منتظرة، ونعمه مترقبة» غير أن هذا التأويل لا يستهوي القاضي عبد الجبار فيما يبدو. وأغلب الظن أنه من اجتهادات شارح الأصول، لأنه أي هذا التأويل لم يرد في «المغني».(1/209)
«إن زيدا يريد منافع عمرو». وإذن يعود القاضي عبد الجبار إلى الاعتراف بأن استعمال «نظر» بمعنى الانتظار مجاز وليس حقيقة، غاية الأمر أنها استعملت من حيث التعدية كما استعملت في الحقيقة وعديت بحرف الجر «إلى». وهذا الاستعمال في رأي القاضي هو الذي يجعل المجاز في اللفظ ويؤكده. ولو استعملت اللفظة في المجاز على غير ما تستعمل في الحقيقة لم تكن هي المستعارة، أي لم يكن المجاز في اللفظ المستعمل. ويستشعر عبد الجبار أن المسألة لم تحل تماما، ومن ثم يدعم هذا الرأي بسند لغوي ينسبه إلى أستاذه أبي علي الجبائي، وهو رأي لغوي شائع يقول إن حروف الجر تنوب عن بعضها «وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله: إذا ثبت أن لفظة الانتظار قد تعدّى ببعض حروف الجر فيقال: أنا منتظر لفلان فغير ممتنع أن تعدّى بإلى، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض، وذلك نحو قوله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} و {يَهْدِي لِلْحَقِّ} فأقام أحدهما مقام الآخر، وكقوله {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يعني على جذوع النخل، وقد يقال
في التعارف: «زيد قوي على عمله» و «قوي في عمله» و «هو مستعل على عمرو ولعمرو» فلا يمتنع أن يعدّى ناظر بمعنى الانتظار بإلى، ويقوم مقام اللام في هذا الباب. وليس لأحد أن يقول: فجوّزوا أن يقال في زيد أنه ضارب إلى عمرو، كما يقال ضارب لعمرو على قياس ما ذكرتم، وإلّا فيجب بطلان ما ذكرتموه. وذلك أن ما ذكرناه مجاز، فلا يجب اطراده واستعمال القياس فيه» .. وإذا كانت نيابة الحروف عن بعضها مجازا، واستعمال «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا ثانيا، وتعلق النظر بالوجوه مجازا ثالثا، فقد وجدت في الآية ثلاثة مجازات ركب بعضها فوق بعض وهذا مما يأباه المعتزلة عموما، والقاضي عبد الجبار خصوصا، حتى أنه منذ قليل أنكر أن تكون «نظر» بمعنى «انتظر» مجازا، ولكنه عاد فاعترف بها، ووقع بالتالي في أكثر مما حاول الهرب منه. وقع في ثلاثة مجازات حمل عليها الآية، وكان قد حاول الهرب من مجازين فقط. غير أن هناك تأويلا يورده القاضي قد يعفيه من هذه المجازات التي يأخذ بعضها بخناق بعض، هو أن «إلى في الآية على ما قيل، هو (لا) حرف الجر ولا حرف التعدية، وإنما هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوه يومئذ ناضرة آلاء ربها منتظرة، ونعمه مترقبة» غير أن هذا التأويل لا يستهوي القاضي عبد الجبار فيما يبدو. وأغلب الظن أنه من اجتهادات شارح الأصول، لأنه أي هذا التأويل لم يرد في «المغني».
وحمل النظر في الآية على الانتظار بهذه التأويلات المتعددة لا يريح القاضي فيما يبدو، ويدفعه على غير عادته إلى أن يستشهد بآراء المفسّرين السابقين عليه أمثال مجاهد والحسن البصري فيما ذهبا إليه من أن معنى «النظر» في الآية هو «الانتظار» غير أنه من جانب آخر وما دام قد قبل من تفسيراتهم ما يؤكّد وجهة نظره لا يستطيع أن يرفض التفسيرات التي وردت عنهم من طرق أخرى، والتي قد لا تلتقي تماما مع وجهة نظره. فقد ورد عن مجاهد والحسن البصري وعن غيرهما أمثال ابن عباس وعكرمة والسدى أن النظر في الآية بمعنى النظر الحسي لا الانتظار ولكن الآية في تفسير هؤلاء جميعا تعني أن الوجوه ناظرة إلى ثواب الله لا إلى الله نفسه وهو تأويل ابن عباس ومجاهد. أمّا عكرمة فيرى أن الوجوه ناظرة إلى أمر الله، بينما يرى السدي أنها ناظرة إلى ما يأتي من عند الله. وبصرف النظر عن الخلاف بينهم في تحديد المحذوف في الآية، هل هو الثواب أو الأمر أو ما يأتي، فإنهم جميعا يتفقون على أن في الآية حذفا، وذلك حتى لا يقع نظر الوجوه على الله عز وجل. ومعنى ذلك أن هناك في التراث التفسيري السابق على القاضي تأويلين للآية: تأويل يتفق مع ما ذهب إليه. وهو ما ورد عن الحسن البصري ومجاهد من أن «النظر» في الآية بمعنى «الانتظار» وهو يقبل هذا
التفسير ويستشهد به على صحة ما ذهب إليه. والتأويل الثاني لا يلتقي تماما مع تأويل القاضي وإن كان لا يتناقض معه، ومن ثم فهو يقبله أيضا. غير أنه يحاول التوفيق بين التأويلين. وهو يبدأ بمحاولة اعطاء شرعية لغوية لتأويل الحذف «وليس يمتنع في اللغة أن يذكر الشيء ويراد غيره، ويحذف ذكر المراد، وذلك طريقة ظاهرة في المجاز، نحو قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ}
و {جََاءَ رَبُّكَ} و {أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفََّارِ،} و {أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ،}
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لأنه في ذلك أجمع ذكر نفسه وأراد غيره». وربما أحس القاضي عبد الجبار أن استشهاده بهذه الآيات، على أن فيها حذفا، لا يستقيم إلّا على تأويل اعتزالي قد ينازعه فيه الخصوم، ومن ثم يلجأ إلى الشعر العربي، فيرى أن قول عنترة:(1/210)
وحمل النظر في الآية على الانتظار بهذه التأويلات المتعددة لا يريح القاضي فيما يبدو، ويدفعه على غير عادته إلى أن يستشهد بآراء المفسّرين السابقين عليه أمثال مجاهد والحسن البصري فيما ذهبا إليه من أن معنى «النظر» في الآية هو «الانتظار» غير أنه من جانب آخر وما دام قد قبل من تفسيراتهم ما يؤكّد وجهة نظره لا يستطيع أن يرفض التفسيرات التي وردت عنهم من طرق أخرى، والتي قد لا تلتقي تماما مع وجهة نظره. فقد ورد عن مجاهد والحسن البصري وعن غيرهما أمثال ابن عباس وعكرمة والسدى أن النظر في الآية بمعنى النظر الحسي لا الانتظار ولكن الآية في تفسير هؤلاء جميعا تعني أن الوجوه ناظرة إلى ثواب الله لا إلى الله نفسه وهو تأويل ابن عباس ومجاهد. أمّا عكرمة فيرى أن الوجوه ناظرة إلى أمر الله، بينما يرى السدي أنها ناظرة إلى ما يأتي من عند الله. وبصرف النظر عن الخلاف بينهم في تحديد المحذوف في الآية، هل هو الثواب أو الأمر أو ما يأتي، فإنهم جميعا يتفقون على أن في الآية حذفا، وذلك حتى لا يقع نظر الوجوه على الله عز وجل. ومعنى ذلك أن هناك في التراث التفسيري السابق على القاضي تأويلين للآية: تأويل يتفق مع ما ذهب إليه. وهو ما ورد عن الحسن البصري ومجاهد من أن «النظر» في الآية بمعنى «الانتظار» وهو يقبل هذا
التفسير ويستشهد به على صحة ما ذهب إليه. والتأويل الثاني لا يلتقي تماما مع تأويل القاضي وإن كان لا يتناقض معه، ومن ثم فهو يقبله أيضا. غير أنه يحاول التوفيق بين التأويلين. وهو يبدأ بمحاولة اعطاء شرعية لغوية لتأويل الحذف «وليس يمتنع في اللغة أن يذكر الشيء ويراد غيره، ويحذف ذكر المراد، وذلك طريقة ظاهرة في المجاز، نحو قوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ}
و {جََاءَ رَبُّكَ} و {أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفََّارِ،} و {أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ،}
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لأنه في ذلك أجمع ذكر نفسه وأراد غيره». وربما أحس القاضي عبد الجبار أن استشهاده بهذه الآيات، على أن فيها حذفا، لا يستقيم إلّا على تأويل اعتزالي قد ينازعه فيه الخصوم، ومن ثم يلجأ إلى الشعر العربي، فيرى أن قول عنترة:
هلّا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
المقصود به «أرباب الخيل»، وكذلك يرى في قول الشاعر:
سل الربع أنى يممت أم مالك ... وهل عادة للربع أن يتكلما
بعد أن يؤكّد القاضي شرعية الحذف كطريقة في التعبير، يحاول التوفيق بين التأويلين الذين قبلهما عن المفسرين قبله، وذلك لأن أحدهما يعضد تأويله المعقد «للنظر» بأنه الانتظار، والآخر لا يتناقض مع تأويله هذا. وليست محاولة عبد الجبار التوفيق فحسب، بل هي التأليف والمزج، فليس لديه مانع «أن يراد المعنيان المختلفان بالعبارة الواحدة، فلا مانع يمنع من ذلك، وما قدمنا ذكره من أن معنى الانتظار ومعنى النظر بالعين معنى واحد، ويرجعان في الموضوع إلى أصل واحد، يقتضي صحة إرادة الله تعالى لهم جميعا بعبارة واحدة على مذهب من يقول إن العبارة الواحدة لا يجوز أن يراد بها المعنيان المختلفان، لأنه قد بان بذلك أن معناهما غير مختلف، ولو ثبت أنه لا يصح بعبارة واحدة، لكان ما قدمناه على أنهما قد أريدا، ولوجب أن نحكم أن الله تعالى قد تكلم بالآية مرتين وأراد كلا المعنيين، فالطعن بما قلنا بهذا الوجه لا يصح، ولا يمتنع عندنا، فيما ليس طريقة الاجتهاد من الآي، أن يراد به أمران مختلفان، وعلى هذه الطريقة قال شيخنا أبو علي رحمه الله في قوله: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ،} وبضنين، أنه قد أريد كلا الأمرين به، وإن كان طريق ذلك الخبر دون الاجتهاد. ومتى صح ذلك في القراءتين لم يمتنع مثله في العبارة الواحدة إذا احتمل الأمرين». وإذن فإن عبد الجبار في محاولته جمع التأويلين في اهاب واحد لا يجد ما يمنع أن تعبر عبارة واحدة عن معنيين. وهو في هذا المبدأ ينسى فكرة السياق ودلالة التركيب وتأثير ذلك في المعنى الكلي
للعبارة. غير أنه إن عورض بمثل هذا الاعتراض وجد في محاولته لرد الانتظار والنظر والفكر إلى معنى واحد هو الطلب تبريرا لهذا الادعاء، على أساس أنها ليست معاني مختلفة، وبالتالي فالعبارة لم تعبر عن معان مختلفة. ومن الواضح في هذه الآية أن القاضي عبد الجبار وقع في اضطرابات كثيرة، وتناقض مع نفسه أكثر من مرة وهو بصدد تأويل هذه الآية، لكن عذر عبد الجبار في هذه التأويلات أن الآية ترتبط بقضية التوحيد، وأن القرينة العقلية أو الدليل العقلي الذي يرى أن الله لا يرى لصفة تتعلق بذاته، أقوى عند المعتزلة من القرينة اللفظية.(1/211)
سل الربع أنى يممت أم مالك ... وهل عادة للربع أن يتكلما
بعد أن يؤكّد القاضي شرعية الحذف كطريقة في التعبير، يحاول التوفيق بين التأويلين الذين قبلهما عن المفسرين قبله، وذلك لأن أحدهما يعضد تأويله المعقد «للنظر» بأنه الانتظار، والآخر لا يتناقض مع تأويله هذا. وليست محاولة عبد الجبار التوفيق فحسب، بل هي التأليف والمزج، فليس لديه مانع «أن يراد المعنيان المختلفان بالعبارة الواحدة، فلا مانع يمنع من ذلك، وما قدمنا ذكره من أن معنى الانتظار ومعنى النظر بالعين معنى واحد، ويرجعان في الموضوع إلى أصل واحد، يقتضي صحة إرادة الله تعالى لهم جميعا بعبارة واحدة على مذهب من يقول إن العبارة الواحدة لا يجوز أن يراد بها المعنيان المختلفان، لأنه قد بان بذلك أن معناهما غير مختلف، ولو ثبت أنه لا يصح بعبارة واحدة، لكان ما قدمناه على أنهما قد أريدا، ولوجب أن نحكم أن الله تعالى قد تكلم بالآية مرتين وأراد كلا المعنيين، فالطعن بما قلنا بهذا الوجه لا يصح، ولا يمتنع عندنا، فيما ليس طريقة الاجتهاد من الآي، أن يراد به أمران مختلفان، وعلى هذه الطريقة قال شيخنا أبو علي رحمه الله في قوله: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ،} وبضنين، أنه قد أريد كلا الأمرين به، وإن كان طريق ذلك الخبر دون الاجتهاد. ومتى صح ذلك في القراءتين لم يمتنع مثله في العبارة الواحدة إذا احتمل الأمرين». وإذن فإن عبد الجبار في محاولته جمع التأويلين في اهاب واحد لا يجد ما يمنع أن تعبر عبارة واحدة عن معنيين. وهو في هذا المبدأ ينسى فكرة السياق ودلالة التركيب وتأثير ذلك في المعنى الكلي
للعبارة. غير أنه إن عورض بمثل هذا الاعتراض وجد في محاولته لرد الانتظار والنظر والفكر إلى معنى واحد هو الطلب تبريرا لهذا الادعاء، على أساس أنها ليست معاني مختلفة، وبالتالي فالعبارة لم تعبر عن معان مختلفة. ومن الواضح في هذه الآية أن القاضي عبد الجبار وقع في اضطرابات كثيرة، وتناقض مع نفسه أكثر من مرة وهو بصدد تأويل هذه الآية، لكن عذر عبد الجبار في هذه التأويلات أن الآية ترتبط بقضية التوحيد، وأن القرينة العقلية أو الدليل العقلي الذي يرى أن الله لا يرى لصفة تتعلق بذاته، أقوى عند المعتزلة من القرينة اللفظية.
ويتبقى أمام القاضي عبد الجبار الأساس الأخير الذي يرتكز عليه خصوم المعتزلة، وهو أن حمل الآية على الانتظار لا النظر لا يجوز، لأن الانتظار يورث الغم والحسرة، وهذا لا يليق بوصف أهل الجنة الذين وردت فيهم الآية. ويرد القاضي هذا الاعتراض بقوله: «إن الانتظار هو توقع الشيء الذي يعلم حصوله في المستقبل أو يظنه، وقد ينقسم: فإن كان ما ينتظره يحتاج إليه في الحال، ويلحقه بفقده مضرة، كانتظار الجائع المأكول، والمحبوس الخلاص، فذلك يوجب الحسرة.
وكذلك فلو انتظر ما لا يحتاج إليه في الحال، لكنه يخشى فوته، ولا يثق بحصوله، فإنه قد تلحقه الحسرة. فأمّا القسم الثاني، وهو أن يكون ما ينتظره غير محتاج إليه في الحال، ويثق بحصوله في الوقت الذي ينتظره، وجميع ما يشتهيه في الحال حاصل، فإن ذلك لا يوجب الحسرة. ولذلك يختلف حال المنتظر بحسب ثقته بمن ينتظر الشيء من جهته، فكل من كانت نفسه إليه أسكن كانت حسرته في الانتظار أقل وإنما يقال إن الانتظار يورث الحسرة ويراد به الوجه الأول، وكل من ذكره في مثل أو شعر فمراده الأول لأنه المألوف في الشاهد، وإلّا فما ذكرناه من القسم الثاني في الانتظار لا يحيل حصوله على عاقل أنه لا يورث حسرة ولا غما» وعلى هذا فإن المنتظر لثواب الله لا يلحقه غم ولا حسرة، بل هو إلى السرور أقرب لسكونه إلى ربه وثقته بما وعده من النعيم.
وحين يردّ القاضي عبد الجبار على هذا الاعتراض الأخير، فإنه ربما دون أن يحس يكون قد حلّ التعارض بين التأويلين اللذين نقلهما عن المفسرين قبله، إذ يتناغم تأويله للنظر بأنه الانتظار مع تأويل الحذف إذ أن المنتظر لا بدّ أن يكون في انتظار شيء ما من جهة الله، وهذا الشيء قد يكون الثواب، وقد يكون الأمر، وقد يكون ما يأتي من عند الله وبذلك لا يكون القاضي في حاجة إلى الزعم بأن العبارة الواحدة يراد بها معنيان. وفي نفس الوقت لا يكون في حاجة لمحاولته التوفيقية بين التأويلين، لأنهما في الواقع ليسا متناقضين.(1/212)
(4)
يستدل خصوم المعتزلة على جواز رؤية الله عز وجل بآية أخرى لا يجد المعتزلة كبير عناء في ردها وتأويلها. هذه الآية هي قوله تعالى {كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.} والخلاف بين المعتزلة وخصومهم حول معنى الحجاب أولا، ثم حول معنى مدلول الآية ومنطوقها ثانيا. فخصوم المعتزلة يرون أنه «لا معنى لرفع الحجاب إلّا الادراك بالعين وإلّا فالحجاب على الله تعالى بغير هذا التفسير محال» أي أن الحجاب في رأيهم هو الحجب عن الرؤية، ولا ينبغي أن يكون حجابا ماديا لأن ذلك محال في حق الله. ويستنتج خصوم المعتزلة من هذا المنطوق المباشر للآية مدلولا غير مباشر يوردونه على النحو التالي: «إن الله تعالى لما خصّ الفجار بالحجاب دل على أن المؤمنين الأبرار مرفوع عنهم الحجاب». أي أن الآية، وإن كانت قد وردت في شأن الكفار فإنها تدل على أن حال الأبرار عكس ذلك.
فإذا كان الكفار سيحجبون عن رؤية الله، فإن الأبرار سيرونه. غير أن المعتزلة يرون أن هذه الآية تختص بوصف أهل النار «وليس فيه دليل على أن غيرهم بخلافهم، فمن أين أن أولياء الله يجب أن يروا الله؟ على أنّا قد بيّنا من قبل أن قوله (لمحجوبون) معناه ممنوعون من رحمة الله وثوابه، وبينا أن الحجاب قد يكون بمعنى المنع على ما يقال ان الأخوة يحجبون الأم عن السدس، فإذا صحّ ذلك، وكان المراد به لممنوعون من رحمة الله فيجب أن يكون من خالفهم من أولياء الله غير ممنوعين من رحمة الله وثوابه، وكذلك نقول. على أن ظاهر هذا القول يوجب أنه تعالى ممن يصح أن يحتجب ويحجب، فيراه واحد دون آخر، وهذا يوجب كونه جسما في مكان مخصوص، وقد بيّنا فساد ذلك».
ومعنى ذلك أن المعتزلة يقيمون تأويلهم للآية على أساسين: الأساس الأول أن الحجب بمعنى المنع لا الحجاب المادي الذي لا يجوز إلّا على الأجسام. والأساس الثاني أنهم ممنوعون عن ثواب الله، فيكون قوله تعالى {عَنْ رَبِّهِمْ} المقصود به «عن ثواب ربهم» على أساس أن في الآية محذوفا على ما يقتضيه الدليل العقلي.
وجدير بالملاحظة أن المعتزلة، وإن كانوا منعوا خصومهم من الانتقال من منطوق الآية إلى مدلولها، وأخذوا عليهم ذلك، قد سمحوا لأنفسهم بهذا الانتقال، ومن ثم استنتجوا من الآية أن «أولياء الله غير ممنوعين من رحمة الله وثوابه». ولكن انتقال المعتزلة يظل مشروعا ومستندا لأدلة عقلية وسمعية كثيرة يوردونها في مواطن أخرى. أمّا انتقال الخصوم فيظل على الأقل من وجهة نظر المعتزلة انتقالا غير مشروع، وليس مستندا إلى أدلّة العقل أو السمع.(1/213)
غير أن الزمخشري يرى أن في الآية تمثيلا «للاستخفاف بهم واهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلّا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلّا الأدنياء المهانون عندهم». وفكرة التمثيل فكرة بلاغية أرحب من فكرة الحذف النحوية، إلى جانب أنها تخفف من جفاف التأويل العقلي وتعود بالآية إلى رحابة التصوير الفني الذي يثير مشاعر المؤمن ويغذي وجدانه.
ويستخدم القاضي عبد الجبار نفس السلاح النحوي، أعني سلاح الحذف، حين يتعرض للرد على الخصوم في تمسكهم بقوله تعالى {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ}
(الأحزاب / 44) وكذلك قوله: {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً}
(الكهف / 110) إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها اللقاء مضافا إلى الله عز وجل. وإلى جانب استخدامه سلاح الحذف، يلزم الخصوم على قولهم بأن لقاء الله هو رؤيته، يلزمهم على هذا القول أن المنافقين أيضا سيرونه لأنه تعالى قال:
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفََاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} (التوبة / 77) على أساس أن هذه الآيات لو كانت «دالّة على أن المؤمنين يرون الله تعالى» لوجب في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفََاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أن يدل على أن المنافقين أيضا يرونه، وهم لا يقولون بذلك، فليس إلّا أن الرؤية مستحيلة على الله تعالى في كل حال، وأن لقاءه في هذه الآية محمول على عقابه، كما في تلك الآية محمول على ثواب الله أو لقاء ملائكته». وتحديد المحذوف في الآية لا يتم عشوائيا وإنما يستند المعتزلة على القرآن نفسه في تحديد هذا المحذوف فيكون «المراد بقوله تعالى {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} أي يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر: {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} (الرعد / 23). وأمّا قوله عز وجل:
{فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صََالِحاً} أي ثواب ربه، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفََّارِ} أي إلى طاعة العزيز الغفار، وقال: {إِنِّي ذََاهِبٌ إِلى ََ رَبِّي} أي إلى حيث أمرني ربي، وكقوله:
{وَجََاءَ رَبُّكَ} أي وجاء أمر ربك، وقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يعني أهل القرية، ونظائر هذا أكثر من أن تحصى».
والأساس الذي يقيم المعتزلة عليه تأويلهم للقاء وأنه غير الرؤية أساس لغوي يستند إلى «أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية، ولهذا استعمل أحدهما حيث لا يستعمل الآخر، ولهذا فإن الأعمى يقول: لقيت فلانا وجلست بين يديه وقرأت عليه، ولا يقول رأيته. وكذلك فقد يسأل أحدهم غيره هل لقيت الملك؟ فيقول:
لا، ولكن رأيته على القصر. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك، فثبت أن
اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازا، وإذا ثبت ذلك، فيجب أن نحمل هذه الآية على وجه يوافق دلالة العقل». وإذن فإن المعتزلة يفرقون بين «اللقاء» و «الرؤية» أولا، وهي تفرقة دلالية دقيقة، ثم يلجئون بعد ذلك إلى تأويل اللقاء بأنه لقاء الله أو الملائكة على أساس أن الله ذكر نفسه وأراد غيره، على طريقة حذف المضاف واقامة المضاف اليه مكانه وهي طريقة تعبيرية مشروعة لها سند من القرآن وكلام العرب. وفي مقابلة هذا المسلك اللغوي والنحوي من جانب القاضي عبد الجبار في تأويله الآية، يقابلنا المسلك البلاغي عند الزمخشري الذي يرى أن في الآيات تمثيلا. يرى أن التحية في قوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} مثل وكذلك اللقاء.(1/214)
لا، ولكن رأيته على القصر. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك، فثبت أن
اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازا، وإذا ثبت ذلك، فيجب أن نحمل هذه الآية على وجه يوافق دلالة العقل». وإذن فإن المعتزلة يفرقون بين «اللقاء» و «الرؤية» أولا، وهي تفرقة دلالية دقيقة، ثم يلجئون بعد ذلك إلى تأويل اللقاء بأنه لقاء الله أو الملائكة على أساس أن الله ذكر نفسه وأراد غيره، على طريقة حذف المضاف واقامة المضاف اليه مكانه وهي طريقة تعبيرية مشروعة لها سند من القرآن وكلام العرب. وفي مقابلة هذا المسلك اللغوي والنحوي من جانب القاضي عبد الجبار في تأويله الآية، يقابلنا المسلك البلاغي عند الزمخشري الذي يرى أن في الآيات تمثيلا. يرى أن التحية في قوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} مثل وكذلك اللقاء.
لا يتبقى أما المعتزلة من آيات يستشهد بها على جواز الرؤية سوى قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ} ويتأوّل الخصوم كلمة الزيادة على أساس أنها رؤية الله، وهو تأويل هزيل لا سند له من اللغة ولذلك لا يجد المعتزلة أدنى عناء في ردّه، بل والسخرية منه.
أمّا الرد فهو معارضة ما رواه الخصوم في تفسير «الزيادة» عن الصحابة بتأكيد تعارضها فإذا كان الخصوم قد رووا عن أبي بكر، وعن صهيب أن تأويل قوله «وزيادة» النظر إلى وجه الله، فإن المعتزلة يروون ما ورد عن علي وغيره في تفسير الزيادة على أنها تضعيف الحسنات «وهو الذي أراده عز وجل بقوله: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا} وقال بعضهم هو التفضّل الذي وعد الله المؤمنين به بقوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ».}
وأمّا السخرية فتتمثل في أن المعتزلة يلزمون خصومهم على هذا القول أن يكون الثواب هو التمكين من النظر إلى الله، وأن يكون العقاب هو الحرمان من النظر إليه، وأن يقتصر في الثواب والعقاب على ذلك «لأن ذلك إذا كان معظم الثواب، وكان ما عداه يسيرا بالاضافة إليه، فغير ممتنع أن يقتصر في اثابتهم عليه، ويزاد في لذتهم القدر الذي يكافئ سائر ملاذهم. ويجب أيضا أن لا يؤمن أن يقتصر الله في تعذيب أهل النار على تعذيبهم بأن ينفر طباعهم من رؤيته ويزيد في ذلك بحسب اختلاف أحوالهم، وفي ذلك ابطال الجنة والنار والثواب والعقاب بسائر الوجوه المعقولة».
ج مبدأ العدل وقضية خلق الأفعال.
تعدّ هذه القضية أساس قضية العدل الأصل الثاني من الأصول الخمسة عند المعتزلة، ذلك أن كون الله عادلا يقتضي منه أن يعاقب المسيء، وأن يثيب
المحسن، أي أن يحقق وعده للمؤمن، ووعيده للكافر. ولكي تتحقق هذه العدالة لا بدّ من أن يكون الانسان حرا مختارا في فعله ومسئولا عنه، ومن ثم يستحق الثواب أو العقاب. وعلى العكس من ذلك فإن نفي قدرة الانسان على الفعل يستلزم بالضرورة عدم استحقاقه للثواب أو العقاب. وهذا بدوره يؤدي إلى أن تعذيب الله للمخطئ ظلم ما دام الانسان غير مختار للخطأ الذي وقع فيه.(1/215)
تعدّ هذه القضية أساس قضية العدل الأصل الثاني من الأصول الخمسة عند المعتزلة، ذلك أن كون الله عادلا يقتضي منه أن يعاقب المسيء، وأن يثيب
المحسن، أي أن يحقق وعده للمؤمن، ووعيده للكافر. ولكي تتحقق هذه العدالة لا بدّ من أن يكون الانسان حرا مختارا في فعله ومسئولا عنه، ومن ثم يستحق الثواب أو العقاب. وعلى العكس من ذلك فإن نفي قدرة الانسان على الفعل يستلزم بالضرورة عدم استحقاقه للثواب أو العقاب. وهذا بدوره يؤدي إلى أن تعذيب الله للمخطئ ظلم ما دام الانسان غير مختار للخطأ الذي وقع فيه.
ومعنى ذلك أن الحرية الانسانية والعدالة الالهية وجهان لعملة واحدة، ونفي أولاهما يستلزم بالضرورة نفي الأخرى ويؤدي إلى عبثية الوجود الانساني والفعل الالهي معا.
غير أن قضية خلق الأفعال تتصل من جانب آخر بأصل المعتزلة الأول وهو التوحيد، ذلك أن اثبات فاعل قادر في الشاهد يعدّ مقدمة ضرورية ينبني عليها اثبات فاعل قادر في الغائب لأنه «لو كان تعالى هو الخالق والمحدث لأفعال العباد، لأدّى هذا الاعتقاد إلى أن لا يعرف القديم أصلا، لأن طريق معرفته هو الاستدلال بفعله عليه. فإذا لم يثبت هذا القائل، في الشاهد، حاجة المحدث إلى محدث، لم يمكنه حمل الغائب عليه فلا يمكنه أن يستدل على حاجة المحدثات التي يتعذّر وقوعها من جهتنا على أن لها محدثا، فقد صح أن ذلك يمنع من معرفة القديم أصلا.
فكيف يقال: إنه الخالق لأفعالهم، وكيف يصح اعتقاد فرع يؤدي إلى هدم أصله؟.
وإذا كانت هذه القضية أساسية لكل من أصلي العدل والتوحيد، فهي على نفس الدرجة من الأهمية، بالنسبة لباقي أصول الفكر الاعتزالي، وهي «المنزلة بين المنزلتين» و «الوعد والوعيد» و «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». فالقول بالمنزلة بين المنزلتين حكما على مرتكب الكبيرة يفترض سلفا مسئولية الانسان عن فعله وحريته في اختياره. ومبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يهدف إلى التأثير في تغيير السلوك الانساني عن طريق الاقناع، وهو مبدأ يستند بالضرورة إلى امكانية التعديل في سلوك الانسان، وهي امكانية تتم بناء على رغبة الانسان، أي أنها تتم بناء على اختياره وحريته. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان «المقدم على المنكر لا يتهيأ له مفارقته، لأنه مخلوق فيه، ولا التارك للمعروف يمكنه ايجاده، لأنه قد خلق فيه تركه. فيجب أن لا يكون للتعبد بهما (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) معنى، وأن لا يكون بين أمر المقدم على المنكر بالمنكر وبين نهيه عنه فصل».
وإذا كان مبدأ «الوعد والوعيد» ينصب أساسا على الفعل الإلهي، فإنه طبقا لمبدأ العدالة الالهية لا ينفصل عن السلوك الانساني في تطبيقه، فالوعيد
لا بدّ أن يتحقق للمخطئ، والوعد لا بدّ أن يتحقق للمحسن. أمّا الخطأ والاحسان فهما من اختيار الانسان ومن فعله.(1/216)
وإذا كان مبدأ «الوعد والوعيد» ينصب أساسا على الفعل الإلهي، فإنه طبقا لمبدأ العدالة الالهية لا ينفصل عن السلوك الانساني في تطبيقه، فالوعيد
لا بدّ أن يتحقق للمخطئ، والوعد لا بدّ أن يتحقق للمحسن. أمّا الخطأ والاحسان فهما من اختيار الانسان ومن فعله.
ولقد سبقت الاشارة إلى البعد الاجتماعي والسياسي لهذه القضية في الفكر الاسلامي عامة. وهذا أمر يعود القاضي عبد الجبار ليؤكّده في القرن الرابع «إن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه، ليجعله عذرا فيما يأتيه، ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماما وولّاه الأمر، وفشا ذلك في ملوك بني أمية» ويذهب القاضي إلى الزام القائلين بالجبر والمدافعين عنه الزامات شنيعة، أهمها أن القول بالجبر يؤدّي إلى انهيار النظام الاجتماعي أولا، وإلى هدم قانون السببية ثانيا، وإلى هدم الشرع والدين ثالثا.
فمسئولية الانسان في المجتمع تحتم كونه مختارا حرا. أمّا القول بأنه ليس حرا ولا مختارا ولا فاعلا فهو قول يناقض العرف والعادة «ويجب، على قولهم، أن لا يحسن نصب الأئمة والأمراء لأنهم إنما ينصبون لمنع الظالم عن ظلمه، والانتصاف منه للمظلوم، والزام الأحكام، والقيام بالحدود، وكل ذلك إنما يصحّ متى كان للعبد فعل واختيار. فأمّا إن كان تعالى هو الخالق لأفعالهم فيهم، فكيف يعاقبون عليها؟ وكيف يؤدب الفاعل، ويعزر ويقوم ويؤخذ لمظلومه منه، ويكف عن الظلم بالتخويف».
وإذا كان القول بأن فعل الانسان لا يتعلق به سيؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي، فإنه من جانب آخر سيؤدي إلى انهيار قانون السببية الذي يقوم عليه العالم، ذلك أن نسبة أفعال العباد إلى الله القادر على كل شيء تحيل تعلق المسببات بأسبابها إذ «يصح أن يقع ما يحتاج فيه إلى الآلة بلا آلة، لأنه تعالى لا يحتاج في خلق الصعود في زيد إلى السلم، والطيران في الطير إلى الجناح، والكتابة في الورق إلى القلم واليد. فكان يجب أن تكون الآلات، وجودها كعدمها، في أنه لا يحتاج إليها البتة. وكان يجب أن لا يخل فقدها بتعذر ما هي آلة فيه، حتى يكون الزمن بمنزلة الصحيح في الأفعال، والضرير كالبصير فيها، بل لا يمتنع أن يكون تعالى قد أجرى العادة، في بعض البلاد وبعض الأوقات، أن المفقود من الآلة يصح منه ما يتعذر على كامل الآلة، من حيث يخلق تعالى الفعل فيه دون وافر الآلة».
ولا يكتفي القاضي بذلك، بل يذهب إلى القول بأن نسبة أفعال العباد لله تعالى تؤدّي إلى فساد الشرع والدين لأنه «لو كان تعالى هو المخترع لفعل العباد، لم يخل ما يقبح من العبد أن يقبح من الله تعالى أو يحسن منه. لأنه لا يصح أن يقال، مع علمه به، أنه لا يحسن منه ولا يقبح، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز مثل ذلك في
فعل العالم منا. وهذا يستحيل، لأنه متى كان عالما بفعله، فلا بدّ من أن يعلمه على وجه، لكونه عليه له فعله، ولا يستحق به الذم، أو على وجه لكونه عليه ليس له فعله، ويصح أن يستحق به الذم. فإذا صحّ أنه لا يخلو مما ذكرناه، فلو قبح منه ما يقبح من العبد، وصح مع ذلك أن يخلقه، لم نأمن أن يخلق سائر القبائح منفردا بها فيكذب في أخباره، ويأمر بالقبيح، وينهى عن الحسن، ولا يفي بشيء من وعده ووعيده، ويعذب الأنبياء، ويثيب الفراعنة، ويتفرّد بكل ظلم، لأنه إذا جاز أن يفعل القبائح مع قبحها منه، لم يؤمن من كل ما ذكرناه».(1/217)
ولا يكتفي القاضي بذلك، بل يذهب إلى القول بأن نسبة أفعال العباد لله تعالى تؤدّي إلى فساد الشرع والدين لأنه «لو كان تعالى هو المخترع لفعل العباد، لم يخل ما يقبح من العبد أن يقبح من الله تعالى أو يحسن منه. لأنه لا يصح أن يقال، مع علمه به، أنه لا يحسن منه ولا يقبح، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز مثل ذلك في
فعل العالم منا. وهذا يستحيل، لأنه متى كان عالما بفعله، فلا بدّ من أن يعلمه على وجه، لكونه عليه له فعله، ولا يستحق به الذم، أو على وجه لكونه عليه ليس له فعله، ويصح أن يستحق به الذم. فإذا صحّ أنه لا يخلو مما ذكرناه، فلو قبح منه ما يقبح من العبد، وصح مع ذلك أن يخلقه، لم نأمن أن يخلق سائر القبائح منفردا بها فيكذب في أخباره، ويأمر بالقبيح، وينهى عن الحسن، ولا يفي بشيء من وعده ووعيده، ويعذب الأنبياء، ويثيب الفراعنة، ويتفرّد بكل ظلم، لأنه إذا جاز أن يفعل القبائح مع قبحها منه، لم يؤمن من كل ما ذكرناه».
وإذا كان اثبات الانسان فاعلا لفعله مقدمة لا بدّ منها لاثبات فاعل في الغائب قادر على ما لا نقدر عليه من الأجسام والأعراض، وإذا كانت نسبة أفعال الانسان لله تؤدي إلى كل ما سبق من تقويض للنظام الاجتماعي، إلى اهدار لقانون السببية، إلى فساد للشرع والدين، إذا كان هذا القول يؤدي إلى كل ذلك، فمن الطبيعي أن تكون معرفته ضرورية لا تنبني على السمع. بل يذهب المعتزلة إلى القول بأن صحة السمع تنبني على معرفة تعلق فعل الانسان به ومن ثم «لا يسأل إلى اثبات القديم سبحانه، واثبات أحواله، إلّا بعد العلم بأن تصرف زيد هو فعله، وأنه يدل على كونه قادرا عالما. ومتى لم يحصل للمستدل هذا الاعتبار من حال الشاهد، لم يمكنه معرفة القديم تعالى».
وإذا كان اثبات الله بصفاته نتيجة تنبني على أن الانسان فاعل، وصحة السمع تنبني على معرفة الله بتوحيده وعدله، فإن اثبات الانسان فاعلا حرا مختارا هو المقدمة الأولى لاثبات السمع والاستدلال به «لأن من لا يعلم صدقه في قوله إلّا بوصفه نفسه بأنه صادق، لم يعلم صادقا. لأنه يجوز عليه الكذب في قوله: إني صادق. ولا وجه يؤمن كذبه في هذا الخبر المخصوص إلّا ما يقوله مما يوجب القبائح عنه. ولا يمكنهم التعلق في ذلك بقول الرسول، لأنا قد ألزمناهم أن يظهر تعالى المعجز على كذاب أو صادق بعينه ليضل العباد، فكيف يوثق بقول من هذا حاله؟ ولا يمكنهم التعلق في ذلك بالاجماع، لأن صحة الاجماع تتبع صحة الكتاب والسنة، فكيف يصح تصحيحهما به وهو فرع عليهما، أو على أحدهما؟ ولا يصح لهم أن يقولوا: إن الكذب لا يقع إلّا من محتاج أو جاهل أو منقوص أو محدث لأن ذلك إنما يصح بمثل الطريق الذي يوجب أن الظلم لا يقع إلّا من هذا وصفه. فإذا جوّزوا فعل القبائح منه تعالى، وإن كان عالما غنيا، فكذلك يلزمهم في الكذب».(1/218)
(1)
انتهى المعتزلة كما رأينا إلى أن تعلق الفعل بفاعله قضية ضرورية ينبني عليها اثبات الله بصفاته من التوحيد والعدل، وينبني عليها بالتالي صحة الشرع والدين. والخلاف بين المعتزلة وخصومهم في قضية خلق الأفعال يرتدّ بدوره إلى قضية العلاقة بين الشرع والعقل. ولقد ذهب الأشاعرة كما سبقت الاشارة إلى الاعلاء من شأن السمع واعتباره الأساس في معرفة صفات الله وأسمائه. وإذا كان القول بالجبر بمعناه الغليظ قد أثار استياء اتقياء المؤمنين، خصوصا مع انكشاف بعده السياسي والاجتماعي، فإن القول بحرية الانسان المطلقة ظلّ يثير مسألة التعارض بين إرادة الله وإرادة الانسان. بمعنى أن الايمان بارادة الانسان الحرة قد يؤدي إلى التقليل من حرية الارادة الالهية. وقد سبقت الاشارة إلى أن الحسن البصري تفاديا لهذا الموقف ذهب إلى أن «كل شيء بقضاء وقدر إلّا المعاصي» فنفى قبائح الفعل الانساني عن الله، واكتفى بهذا النفي دون أن يثبت إرادة مستقلة للانسان متحررة من إرادة الله الشاملة.
غير أن هذه المعادلة ظلّت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يشهرونه في وجوههم، ويكفرونهم به، على أساس أن القول بحرية الارادة الانسانية يؤدي إلى أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله. فإذا كان الله لا يريد الكفر لأنه قبيح، والكفر يقع من الانسان بارادته الحرة المختارة، فمعنى ذلك أن الكافر قد اختار الكفر خلافا لارادة الله ومشيئته. ويرى الأشاعرة أن هذا القول يؤدي إلى نسبة الضعف والغفلة إلى الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «لأنه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين إمّا اثبات سهو وغفلة أو اثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده». ولا يرى الأشاعرة في إرادة الله لكفر الكافر أو خلقه له فيه أي نقص أو شك في عدالته. والأساس الذي يستندون إليه أن إرادة الله يجب أن تشمل كل شيء يقع في ملكه، لأن الارادة صفة ذاتية من صفات الله تعالى «إن الارادة إذا كانت من صفات الذات وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته، كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل ما يجوز أن يعلم على حقيقته. وأيضا فقد دلّت الدلالة على أن الله خالق كل شيء حادث، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده». أمّا أن إرادة الله للقبائح لا تستلزم وصفه بالقبح أو الانتقاص من عدالته، فالأساس في اثبات هذه القضية عند الأشاعرة هي التفرقة بين الله وبين الانسان، فالله هو «المالك القاهر الذي ليس
بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء. إذا كان الشيء إنما يقبح منا لأنّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك اتيانه. فلما لم يكن الباري مملكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء».(1/219)
غير أن هذه المعادلة ظلّت سلاحا في يد خصوم المعتزلة يشهرونه في وجوههم، ويكفرونهم به، على أساس أن القول بحرية الارادة الانسانية يؤدي إلى أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله. فإذا كان الله لا يريد الكفر لأنه قبيح، والكفر يقع من الانسان بارادته الحرة المختارة، فمعنى ذلك أن الكافر قد اختار الكفر خلافا لارادة الله ومشيئته. ويرى الأشاعرة أن هذا القول يؤدي إلى نسبة الضعف والغفلة إلى الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «لأنه لو كان في سلطان الله تعالى ما لا يريده لوجب أحد أمرين إمّا اثبات سهو وغفلة أو اثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يريده فلما لم يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده». ولا يرى الأشاعرة في إرادة الله لكفر الكافر أو خلقه له فيه أي نقص أو شك في عدالته. والأساس الذي يستندون إليه أن إرادة الله يجب أن تشمل كل شيء يقع في ملكه، لأن الارادة صفة ذاتية من صفات الله تعالى «إن الارادة إذا كانت من صفات الذات وجب أن تكون عامة في كل ما يجوز أن يراد على حقيقته، كما إذا كان العلم من صفات الذات وجب عمومه بكل ما يجوز أن يعلم على حقيقته. وأيضا فقد دلّت الدلالة على أن الله خالق كل شيء حادث، ولا يجوز أن يخلق ما لا يريده». أمّا أن إرادة الله للقبائح لا تستلزم وصفه بالقبح أو الانتقاص من عدالته، فالأساس في اثبات هذه القضية عند الأشاعرة هي التفرقة بين الله وبين الانسان، فالله هو «المالك القاهر الذي ليس
بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم وحدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء. إذا كان الشيء إنما يقبح منا لأنّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا وأتينا ما لم نملك اتيانه. فلما لم يكن الباري مملكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء».
ولا يسلّم المعتزلة للأشاعرة بهذا القول، وذلك تأسيسا على أن الفعل إنما يقبح لصفة خاصة به لا صلة لها بالفاعل. بمعنى أن الفعل لا يقبح أو يحسن بفاعله، بل يقبح أو يحسن لصفة ذاتية في الفعل نفسه. وبناء على ذلك يقع الفعل قبيحا أو حسنا من أي فاعل كان، فما يقبح من العبد يقبح من الله إن وقع بنفس الطريقة.
وما دام الله عالما، فإنه يعلم قبح القبيح، ويعلم استغناءه عن فعله، ومن ثم يخضع فعله خضوعا ذاتيا لهذا العلم، بمعنى أن علمه يمنعه من اختيار القبيح وفعله. ومن جهة أخرى فإن القبيح إنما يقع من الواحد منا لجلب نفع أو دفع ضرر، والله تعالى يجوز عليه اجتلاب المنافع أو دفع المضار، لأنه ليس جسما، ولا يجوز عليه الزيادة والنقصان. وعلى ذلك يستحيل وقوع القبيح منه.
وفي سبيل رفع التناقض بين إرادة الله وإرادة البشر، أنكر المعتزلة أن تكون الارادة الالهية صفة ذاتية قديمة كما ذهب الأشاعرة وذهبوا إلى أنها صفة من صفات الأفعال، وصفات الأفعال لا تتعلق بكل شيء، على عكس العلم الذي يتعلق بكل معلوم. بل ألزموا الأشاعرة على قولهم بالارادة القديمة القول بقدم العالم «لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بارادة قديمة». ومن جهة أخرى ذهبوا إلى أن إرادة الله تنقسم إلى ضربين «أحدهما من مقدوره، والآخر من مقدور عباده. فما يريده من مقدوره فلا بدّ من وقوعه، وانتفاؤه يقتضي فيه ما لا يجوز عليه. وما يريده من مقدور غيره على ضربين: أحدهما يريده على جهة الالجاء والاكراه فيجب وقوعه عند ما يفعله من الالجاء، ولو لم يقع لاقتضى منه ما لا يجوز عليه. والثاني ما يريده من غيره على جهة الاختيار والطوع، نحو ما اراده من المكلفين، وذلك لا يوجب فيه الضعف ولا النقص إذا لم يقع. وكذلك وقوع ما كرهه منهم على هذا الوجه، لا يوجب فيه الضعف، وإن كان وقوع ما كرهه في الوجهين الأولين يوجب مثل ما يوجبه انتفاء ما أراد». وهكذا ينتهي المعتزلة إلى أن إرادة الله لأفعال عبادة إنما هي إرادة لها على سبيل الاختيار لا الالجاء، ومن ثم لا يعدّ وقوع القبيح منهم على غير ارادته نقصا فيه أو غفلة منه أو سهوا. ولا يجب أن ننسى أن قدرة الانسان على الاختيار هي نفسها قدرة من خلق الله، بمعنى أن الله خلق الانسان مختارا، لا يقع الفعل منه إلّا على هذه الصفة «وذلك لأن العبد وإن أحدث الفعل وأوجده، فإنما
صحّ منه ذلك من حيث جعله تعالى على الصفات التي لولا كونه عليها لما صح منه أن يحدث ويفعل».(1/220)
وفي سبيل رفع التناقض بين إرادة الله وإرادة البشر، أنكر المعتزلة أن تكون الارادة الالهية صفة ذاتية قديمة كما ذهب الأشاعرة وذهبوا إلى أنها صفة من صفات الأفعال، وصفات الأفعال لا تتعلق بكل شيء، على عكس العلم الذي يتعلق بكل معلوم. بل ألزموا الأشاعرة على قولهم بالارادة القديمة القول بقدم العالم «لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بارادة قديمة». ومن جهة أخرى ذهبوا إلى أن إرادة الله تنقسم إلى ضربين «أحدهما من مقدوره، والآخر من مقدور عباده. فما يريده من مقدوره فلا بدّ من وقوعه، وانتفاؤه يقتضي فيه ما لا يجوز عليه. وما يريده من مقدور غيره على ضربين: أحدهما يريده على جهة الالجاء والاكراه فيجب وقوعه عند ما يفعله من الالجاء، ولو لم يقع لاقتضى منه ما لا يجوز عليه. والثاني ما يريده من غيره على جهة الاختيار والطوع، نحو ما اراده من المكلفين، وذلك لا يوجب فيه الضعف ولا النقص إذا لم يقع. وكذلك وقوع ما كرهه منهم على هذا الوجه، لا يوجب فيه الضعف، وإن كان وقوع ما كرهه في الوجهين الأولين يوجب مثل ما يوجبه انتفاء ما أراد». وهكذا ينتهي المعتزلة إلى أن إرادة الله لأفعال عبادة إنما هي إرادة لها على سبيل الاختيار لا الالجاء، ومن ثم لا يعدّ وقوع القبيح منهم على غير ارادته نقصا فيه أو غفلة منه أو سهوا. ولا يجب أن ننسى أن قدرة الانسان على الاختيار هي نفسها قدرة من خلق الله، بمعنى أن الله خلق الانسان مختارا، لا يقع الفعل منه إلّا على هذه الصفة «وذلك لأن العبد وإن أحدث الفعل وأوجده، فإنما
صحّ منه ذلك من حيث جعله تعالى على الصفات التي لولا كونه عليها لما صح منه أن يحدث ويفعل».
ولكن الخلاف حول هذه القضايا بين المعتزلة وخصومهم خصوصا الأشاعرة لم يكن خلافا فكريا معزولا عن محاولة الاستدلال بالنص القرآني لتأكيد وجهة نظر كل فريق. ومن الطبيعي أن يجد كل فريق في القرآن ما يؤيد وجهة نظره، وأن يحاول من ثمّ أن يتأوّل الآيات التي يستشهد بها خصمه على صحة ما يذهب إليه.
وفي هذه القضية، كما في غيرها من القضايا، سارع المعتزلة إلى اعتبار ما يدعم وجهة نظرهم محكما يدل بظاهره وما يدعم وجهة نظر الخصوم متشابها لا يدل بظاهره، بل هو في حاجة للتأويل الذي يرده إلى المحكم. وتتساوى القرائن التي يقوم على أساسها التأويل، لفظية كانت أم عقلية ما دامت تنتهي إلى رفع التناقض الظاهري بين آيات القرآن أولا، وإلى تأكيد قضية العدل الالهي ومسئولية الانسان ثانيا.
(2) يستدل المعتزلة بمجموعة من الآيات على نفي إرادة الله للقبيح والكفر، وذلك سعيا لتأكيد خيريته أولا، وإلى تحميل الانسان مسئولية فعله ثانيا. وما دام هدفنا هو الكشف عن العلاقة بين الوظيفة التأويلية للمجاز وبين الفكر الاعتزالي، فسنكتفي بالأمثلة الخلافية الحادة دون الاستقصاء الدقيق لكل الآيات التي ترتبط بهذه القضية.
والدليل الأول الذي يستدل به المعتزلة في هذا الصدد قوله تعالى {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات / 56) «وهذا يدل على أن الله تعالى لا يريد من العباد إلّا العبادة والطاعة، لأن هذه اللام لام الغرض، الذي يسميه أهل اللغة: لام كي، بدليل أنهم لا يفصلون بين قول القائل: دخلت بغداد لطلب العلم، وبين قوله دخلت وغرضي طلب العلم. ويدلّ أيضا على أن هذه الأفعال محدثة من جهتنا ومتعلقة بنا، وإلّا كان لا معنى لهذا الكلام» أي أن الله خلق العباد لكي يعبدوه، وأراد منهم ذلك فقط دون الكفر به، أو بعبارة الزمخشري «إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها لأنه خلقهم ممكنين فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها ولو أرادها على القسر والالجاء لوجدت من جميعهم».
ومن الطبيعي أن يحتاج هذا الدليل لتأويل الأشاعرة حتى يتسق مع أصولهم.
ويطرح الباقلاني ثلاثة تأويلات لهذه الآية «أحدها: أنه أراد بعض الجن والانس.
والذي يدلّ على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والانس يموت قبل أن يبلغ حدّ التكليف والعبادة وصار هذا كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ} وأراد البعض لا الكل لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول» بمعنى أن الآية لا تعمّ بمنطوقها جميع المكلفين، بل بعضهم فحسب. وبعبارة أخرى لا تدل الآية عند الباقلاني على أن الله قد أراد العبادة من جميع الخلق، بل أرادها من بعضهم فقط «ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وهم الذين لم يرد أن يطيعوه فاعلم ذلك» والباقلاني إلى جانب تأويله السابق لدليل المعتزلة يطرح دليلا للأشاعرة من القرآن يدل بظاهره على ما يذهبون إليه من جانب ويخصص عموم الآية التي يستدل بها المعتزلة من جانب آخر.(1/221)
ويطرح الباقلاني ثلاثة تأويلات لهذه الآية «أحدها: أنه أراد بعض الجن والانس.
والذي يدلّ على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والانس يموت قبل أن يبلغ حدّ التكليف والعبادة وصار هذا كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ} وأراد البعض لا الكل لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول» بمعنى أن الآية لا تعمّ بمنطوقها جميع المكلفين، بل بعضهم فحسب. وبعبارة أخرى لا تدل الآية عند الباقلاني على أن الله قد أراد العبادة من جميع الخلق، بل أرادها من بعضهم فقط «ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وهم الذين لم يرد أن يطيعوه فاعلم ذلك» والباقلاني إلى جانب تأويله السابق لدليل المعتزلة يطرح دليلا للأشاعرة من القرآن يدل بظاهره على ما يذهبون إليه من جانب ويخصص عموم الآية التي يستدل بها المعتزلة من جانب آخر.
وفي الرد على تأويل الأشاعرة، يسلّم القاضي عبد الجبار بأن الآية لا تعمّ جميع الخلق لأن «المجنون ومن لم يبلغ هذا الحد، فلا يجوز دخوله في الكلام، لأنه يتضمن أنه أراد العبادة ممن تصح منه»، ولكنه من جهة أخرى لا يسلّم بأن الله يريد معصية من عصى. ومن ثم يتصدّى لتأويل الآية التي استشهد بها الباقلاني وكذلك غيرها من الآيات التي تسند إلى الله الإضلال أو إرادة الكفر «وذلك لأن الآية التي اعتمدنا عليها، المراد بها حقيقتها، وسائر ما أوردته مجاز، لأن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنََا لِجَهَنَّمَ} دخلت اللام على ما لا يصح أن يكون مرادا منه، لانه إنما يراد منه الكفر أو الايمان، دون نفس جهنم. فعلم بذلك أن المراد بهذه اللام العاقبة، وأنه أراد بذلك: أنّى قد ذرأتهم، وعلمت أن مصيرهم جهنم، كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} ومعلوم من حالهم أنهم التقطوه لتقرّ أعينهم به، لكن مصيره لمّا كان إلى معاداتهم جاز أن يقال ذلك». ويعتمد هذا التأويل على التفرقة بين معنى اللامين في الآيتين، فاللام في الآية التي يستدل بها المعتزلة هي لام الغرض التي هي بمعنى لكي، أمّا اللام في دليل الأشاعرة فهي لام العاقبة. ومعنى ذلك أن الله لم يشأ دخولهم جهنم، وإنما هم دخلوها بعملهم. واستشهاد القاضي بمثال من القرآن على لام العاقبة يعدّ دليلا آخر يقوي تأويله للآية التي يستشهد بها الخصوم. واعتبار القاضي أن الآيات التي يستشهد بها الخصوم مجاز يؤكّد ما ذهبنا إليه من أن المجاز تحوّل إلى وسيلة تأويلية لرفع التناقض الظاهري بين آيات القرآن الكريم.
وبنفس الطريقة يتأوّل القاضي كل الآيات التي يستدل بها الأشاعرة «وقوله تعالى: {إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً} و {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} يقارب تأويله ما
قدمناه وإنما أراد أنه سيزدادون عند الاملاء، ويضلون عمّا بيّن لهم عند اتيان الذي فعله لكي لا يضلوا. وكذلك قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} أراد أنه يفعل ما يقع الضلال منهم عنده، فأضاف ضلالتهم إليه توسعا لمّا ضلوا عند فعله، كقوله:(1/222)
وبنفس الطريقة يتأوّل القاضي كل الآيات التي يستدل بها الأشاعرة «وقوله تعالى: {إِنَّمََا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدََادُوا إِثْماً} و {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} يقارب تأويله ما
قدمناه وإنما أراد أنه سيزدادون عند الاملاء، ويضلون عمّا بيّن لهم عند اتيان الذي فعله لكي لا يضلوا. وكذلك قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} أراد أنه يفعل ما يقع الضلال منهم عنده، فأضاف ضلالتهم إليه توسعا لمّا ضلوا عند فعله، كقوله:
{وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ} من حيث دعاهم إلى الضلال، أو أراد بذلك أنه تعالى يضلّهم عن الثواب في الآخرة بالكفر به كثيرا، ويهديهم إلى الثواب في الآخرة بالايمان به كثيرا. وإنما حملنا هذه الآية على هذا الوجه ليكون موافقا للحكم الذي قدمنا الكلام فيه، لأن تلك الآية لا احتمال فيها، ويقوي ما قدمناه قوله سبحانه:
{وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} فبين تعالى أنه للرحمة خلقهم».
* * * ومن أدلّة المعتزلة على عدم إرادة الله للقبيح قوله تعالى {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الْفَسََادَ} (البقرة / 205). وحتى تدل الآية على مراد المعتزلة، كان عليهم أن يوحّدوا بين الحب والارادة، وبين البغض والكراهة «وأنه تعالى إذا صح كونه مريدا، فيجب كونه محبا، وكل ما صحّ أن يريده صحّ أن يحبه، وكل ما أوجب قبح محبته، أوجب قبح ارادته». ومن الطبيعي أن يفرق الاشاعرة بين الحب والارادة، حتى يتسنى لهم تأويل الآية تأويلا يتفق مع أفكارهم. فالمراد بالآية عند الباقلاني «أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدح فاعله عليه وليس كل ما يريده المريد يقال فيه إنه أحبه ألا ترى أن المريد يريد بذل ما له للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرة عينه ليؤدبه ثم لا يقال إنه أحب ذلك، وكذلك يريد ربط جروحه وشرب المر من الدواء ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب ولا يقال إنه محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه» وهذه التفرقة بين الحب والارادة إن صدقت في مجال العواطف البشرية وأمثلة الباقلاني تشهد على ذلك من الصعب أن تصدق في مجال الارادة الالهية النافذة. وقد كانت فكرة الثواب دلالة على الحب والعقاب دلالة على البغض تكفي الباقلاني لتأويل الآية، غير أنه كان يناقش أساس التأويل الاعتزالي. وهو أساس وقع بدوره في التسوية بين المجالين.
ذلك أن المعتزلة اعتبروا أن إرادة الله لأفعال عباده هي الأمر بها، وبغضه لها هو
النهي عنها، وبالتالي حاولوا تأويل كل الآيات التي تسند لله الحب على أن الحب هو الارادة. ولم يكتف المعتزلة بذلك في مجال تأويل آيات القرآن، بل نقلوا هذه التسوية بين الحب والارادة إلى مجال التعبير البشري، واعتبروا أن العبارة «أحب زيدا» عبارة مجازية معناها «أريد منافع زيد» «لكنهم استجازوا حذف ذكر المحبوب من الكلام بالتعارف، ولم يستجيزوا مثله في الارادة، وإلّا فالمحبة إنما تعلّقت بمنافعه دونه كالارادة. ولذلك يستحيل كونه محبا له من غير أن يريد منافعه» ومعنى ذلك أن التعبير عن الارادة بالحب تعبير مجازي حذف منه ذكر المحبوب.(1/223)
ذلك أن المعتزلة اعتبروا أن إرادة الله لأفعال عباده هي الأمر بها، وبغضه لها هو
النهي عنها، وبالتالي حاولوا تأويل كل الآيات التي تسند لله الحب على أن الحب هو الارادة. ولم يكتف المعتزلة بذلك في مجال تأويل آيات القرآن، بل نقلوا هذه التسوية بين الحب والارادة إلى مجال التعبير البشري، واعتبروا أن العبارة «أحب زيدا» عبارة مجازية معناها «أريد منافع زيد» «لكنهم استجازوا حذف ذكر المحبوب من الكلام بالتعارف، ولم يستجيزوا مثله في الارادة، وإلّا فالمحبة إنما تعلّقت بمنافعه دونه كالارادة. ولذلك يستحيل كونه محبا له من غير أن يريد منافعه» ومعنى ذلك أن التعبير عن الارادة بالحب تعبير مجازي حذف منه ذكر المحبوب.
ويختلف أبو هاشم الجبائي مع والده أبي علي في عبارات مثل «أحب اللحم» و «أحب جاريتي» فيذهب أبو هاشم إلى أنه «قد يقال ذلك بمعنى الشهوة مجازا» ويقول أبو علي «أنه حقيقة والمراد به أنه يريد أكل اللحم، والاستمتاع بالجارية» وكلا القولين ينتهي إلى نفس النتيجة بصرف النظر عن الخلاف حول مجازية العبارات أو حقيقتها، ولذلك ينتهي القاضي من استعراض هذين القولين إلى تأكيد ما ذهب إليه من التسوية بين الارادة والمحبة على المستوى الالهي والبشري معا. كانت هذه التسوية عند المعتزلة إذن هي التي دفعت الباقلاني لتلك الأمثلة البشرية التي يفرّق فيها بين المحبة والارادة، رغبة منه في هدم الأساس الذي يتكئ عليه المعتزلة في الاستشهاد بالآية.
* * * وإذا كانت الآية السابقة قد احتاجت لهذا الجهد اللغوي حتى تستقيم دليلا للمعتزلة فثمّ آية أخرى واضحة الدلالة لورود لفظ الارادة فيها بدلا من لفظ الحب، تلك هي قوله تعالى {وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبََادِ} (غافر / 21) ومن السهل على الأشاعرة رد هذا الدليل على أساس أن الظلم إنما يقع منا لأننا نتصرف فيما لا نملك، أمّا الله المالك القاهر الذي ليس فوقه آمر أو ناه فله مطلق الحرية في أن يريد ما يشاء ويفعل ما يريد. ومن جهة أخرى ففكرة الكسب الأشعرية تنفي أن يكون الله ظالما بظلم الظالم وإن كان هو الذي خلقه، كما أنه لا يمكن أن يكون متحركا بحركة المتحرك وإن كان هو الذي خلقها فيه. ويذهب الباقلاني إلى «أن الله تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به، وخلق الجور جورا للجائر به، وخلق الكذب كذبا للكاذب به كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها، وخلق الضوء ضوءا للمستضيء به، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها، وخلق السواد سوادا للأسود به، وخلق السم سمّا للمسموم به: فكما أن الله تعالى خلق الظلمة لليل، والضياء للنهار، والحمرة للأحمر، والسواد للأسود والسم للحية ولا يوجب ذلك كونه ظلمة
ولا ضياء ولا سوادا ولا حمرة ولا سما، فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها، والكذب كذبا للكاذب به، والجور جورا للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائرا ولا ظالما ولا كاذبا» ولقد سبقت الاشارة إلى رفض المعتزلة لهذه الفكرة بناء على ما ذهبوا إليه من أن القبيح والحسن صفتان ذاتيتان للفعل.(1/224)
* * * وإذا كانت الآية السابقة قد احتاجت لهذا الجهد اللغوي حتى تستقيم دليلا للمعتزلة فثمّ آية أخرى واضحة الدلالة لورود لفظ الارادة فيها بدلا من لفظ الحب، تلك هي قوله تعالى {وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبََادِ} (غافر / 21) ومن السهل على الأشاعرة رد هذا الدليل على أساس أن الظلم إنما يقع منا لأننا نتصرف فيما لا نملك، أمّا الله المالك القاهر الذي ليس فوقه آمر أو ناه فله مطلق الحرية في أن يريد ما يشاء ويفعل ما يريد. ومن جهة أخرى ففكرة الكسب الأشعرية تنفي أن يكون الله ظالما بظلم الظالم وإن كان هو الذي خلقه، كما أنه لا يمكن أن يكون متحركا بحركة المتحرك وإن كان هو الذي خلقها فيه. ويذهب الباقلاني إلى «أن الله تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به، وخلق الجور جورا للجائر به، وخلق الكذب كذبا للكاذب به كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها، وخلق الضوء ضوءا للمستضيء به، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها، وخلق السواد سوادا للأسود به، وخلق السم سمّا للمسموم به: فكما أن الله تعالى خلق الظلمة لليل، والضياء للنهار، والحمرة للأحمر، والسواد للأسود والسم للحية ولا يوجب ذلك كونه ظلمة
ولا ضياء ولا سوادا ولا حمرة ولا سما، فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها، والكذب كذبا للكاذب به، والجور جورا للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائرا ولا ظالما ولا كاذبا» ولقد سبقت الاشارة إلى رفض المعتزلة لهذه الفكرة بناء على ما ذهبوا إليه من أن القبيح والحسن صفتان ذاتيتان للفعل.
وبنفس الطريقة يستطيع الأشاعرة رد استدلال المعتزلة بقوله تعالى {وَمََا رَبُّكَ بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} أو {وَلََا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} دون أدنى حساسية من إلزامات المعتزلة لهم أو هجومهم عليهم.
ولكي يؤكد الأشاعرة ما يذهبون إليه من إرادة الله المطلقة، تلك الارادة التي تشمل عندهم كفر الكافر وايمان المؤمن، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، يذهبون إلى الاستدلال بآيات كثيرة من القرآن. وهي آيات تدل بظاهرها على ما يذهبون اليه. ويكون مسلك المعتزلة إزاء هذه الآيات هو التأويل تماما كما فعل الأشاعرة مع الآيات التي استدل بها المعتزلة على وجهة نظرهم. والآيات التي يستدل بها الأشاعرة تشتمل على كل النصوص التي تربط مشيئة العباد بمشيئة الله المطلقة وذلك كقوله تعالى {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} فأخبر أنّا لا نشاء إلّا ما شاء الله أن نشاءه. وقال تعالى {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.} وقال تعالى {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} وقال {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ مََا فَعَلُوهُ} وقال {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} فأخبر أنه لو لم يرد القتال لم يكن وأن ما أراد من ذلك قد فعله».
ويؤول المعتزلة هذه الآيات كلها استنادا إلى ما سبق أن أشرنا إليه من تفرقتهم بين إرادة الله لفعل نفسه، وبين ارادته لفعل غيره، والتفرقة في هذا الوجه الأخير بين ما يريده على سبيل القسر والالجاء، وما يريده على سبيل الطوع والاختيار. ويكون معنى المشيئة في هذه الآيات كلها مشيئة الالجاء والاضطرار «فإن قوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} في ظاهره ما يبيّن ما قلناه، لأنه نسب اجتماعهم إليه تعالى، فلا بدّ من أن يكون ما اجتمعوا عليه أو ما أوجبه من قبله ولا يكون إلّا بالالجاء».
ويستعين المعتزلة على تأكيد تأويل المشيئة بالالجاء بفكرة السياق التي تسعفهم عليها بعض الآيات «وأمّا قوله {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} ففي آخره ما يدل على ما قلناه، وهو قوله {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فلولا أن المراد بالكلام طريقة الاكراه لم يكن لهذا الكلام معنى».(1/225)
(3)
انتهى المعتزلة إلى تثبيت مسئولية الانسان عن فعله، وانتهوا من ثم إلى تأكيد مبدأ العدالة الالهية. وكان عليهم أن يستدلّوا على صدق قضيتهم بآيات من القرآن لم يسلّم لهم خصومهم بدلالتها على ما يريدون. ولقد أثارت مسألة خلق الانسان لأفعاله حساسية أهل السنة والأشاعرة، على أساس أن هذا الزعم يؤدّي إلى الشرك «إن قلتم أن الواحد منا يخلق أفعاله من طاعة، أو معصية، أو ايمان، أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق وأنه لا يتم خلقه إلّا بخلقنا. وذلك أن الجسم لا يخلو من حركة، أو سكون، أو كفر، أو ايمان، أو طاعة، أو معصية، فصح أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب وأنه لا يتم خلق أحدهما إلّا بمخلوق آخر. وهذا شرك ظاهر نعوذ بالله منه». وبالرغم من تهافت هذا الالزام الذي يستند إلى التسوية بين الفعل الاختياري والفعل الاضطراري الذي لا ينفك عنه الجسم، فقد سعى المعتزلة لمحاولة نفي هذا الاتهام. وكان الخلاف الأساسي بينهم وبين خصومهم حول امكانية أن يسمى الانسان «خالقا» لأفعاله.
ويبدو أن كلمة «خالق» هي التي أثارت كل هذا الخلاف لما يمكن أن تؤدي إليه من التسوية على الأقل في الوصف بين الله والانسان. ورغم أن المعتزلة قد رفعوا التناقض بين أفعال العباد وأفعال الله، وأعطوا لهذه الأخيرة الأولوية في الوجود إلّا أن وصف الانسان بأنه خالق ما تزال تحتاج منهم لبعض الجهد حتى لا يصبح للخصوم أي شبهة عليهم.
والجهد هنا جهد لغوي حول تحديد معنى «الخلق» وقد اختلف هذا التحديد بين أبي علي الجبائي وأبي هاشم أساتذة القاضي عبد الجبار، الذي يعرض الرأيين ويرجح بينهما «وقد قال شيخنا أبو هاشم، رحمه الله، إنما سمي الخالق خالقا من حيث قصد بالفعل إلى بعض الأغراض. وقال: إن تسمية المخلوق توجد من معنى هو الخلق، والخلق والتقدير هما ارادتان، ولا يوصف الخلق بأنه خلق إلّا والمخلوق موجود. ومتى كان معدوما لم يسم خلقا، والتقدير لا يسمى خلقا إلّا بشرط وجود المقدور، ولا مخلوق إلّا محدث، وقد يكون محدثا ليس بمخلوق، لأنه يفيد صفة زائدة على حدوثه».
ويلفتنا هذا النص إلى ثلاثة أمور: الأول أن الخلق فعل مقصود لتأدية غرض ما، والخالق يسمى كذلك لأنه يقصد بفعله إلى بعض الأغراض، ولا يفعله عبثا أو خبط عشواء، أو على سبيل السهو والنسيان. الأمر الثاني أن المخلوق مشتق من معنى هو الخلق. والفرق بين الارادة وهي معنى أيضا والخلق، أن الخلق لا يسمى كذلك إلّا والمخلوق موجود. أي أن الخلق، وإن كان معنى، يرتبط
بالتحقق الفعلي. الأمر الثالث أن الخلق غير الإحداث، وأن كل مخلوق محدث، وليس كل محدث مخلوق أي أن المحدث قد يوجد لا لغرض، وليس كذلك المخلوق. وينكر أبو علي أن يكون المخلوق مشتقا من معنى هو الخلق، بمعنى أنه يرفض تسوية أبي هاشم بين الخلق والارادة، ويسوي بين الخلق والتقدير.(1/226)
ويلفتنا هذا النص إلى ثلاثة أمور: الأول أن الخلق فعل مقصود لتأدية غرض ما، والخالق يسمى كذلك لأنه يقصد بفعله إلى بعض الأغراض، ولا يفعله عبثا أو خبط عشواء، أو على سبيل السهو والنسيان. الأمر الثاني أن المخلوق مشتق من معنى هو الخلق. والفرق بين الارادة وهي معنى أيضا والخلق، أن الخلق لا يسمى كذلك إلّا والمخلوق موجود. أي أن الخلق، وإن كان معنى، يرتبط
بالتحقق الفعلي. الأمر الثالث أن الخلق غير الإحداث، وأن كل مخلوق محدث، وليس كل محدث مخلوق أي أن المحدث قد يوجد لا لغرض، وليس كذلك المخلوق. وينكر أبو علي أن يكون المخلوق مشتقا من معنى هو الخلق، بمعنى أنه يرفض تسوية أبي هاشم بين الخلق والارادة، ويسوي بين الخلق والتقدير.
ويتفق القاضي مع أبي علي «وقد بيّنا أن القول بأن هذه الصفة مشتقة من معنى يبعد، وأن الذي قاله أبو علي، رحمه الله، في هذا الباب أولى وأقرب إلى التعارف والاستعمال. وبيّنا أن ما يحتج به، رحمه الله، (يعني أبا هاشم) في أنه اشتقاق من قول الشاعر:
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
إنما يريد به أنه يخلق ما يفعله في الادم من التقدير، لا أنه أراد به أنه يريد ولا يقطع» فالخلق عند أبي علي وعبد الجبار فعل وليس معنى، بعكس الارادة التي هي معنى. وإذا كان أبو هاشم قد فهم البيت على أساس أنه يريد ولا يقطع، ويكون معنى الخلق عنده هو الارادة، فان أبا علي والقاضي قد فهما البيت على أساس أن الخلق هو فعل ما سبق تقديره. وبناء على ذلك لا بأس لدى المعتزلة، من حيث قضية اللغة لا الاصطلاح، أن يسمى الانسان خالقا «ذلك أنّا لو خلينا وقضية اللغة، لاجرينا هذا اللفظ على الواحد منا كما نجريه على الله تعالى، لأن الخلق ليس بأكثر من التقدير، ولهذا يقال، خلقت الأديم وقال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقيل للحجاج: إنك إذا وعدت وفيت، وإذا خلقت فريت، أي قدرت وقطعت.
وأظهر من ذلك كله قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهََا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} وقوله تعالى: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} فلولا أن الاسم مما يجوز اجراؤه على غيره وإلّا لتنزّل ذلك منزلة قوله: فتبارك الله أحسن الآلهة.
ومعلوم خلافه. وأمّا في الاصطلاح فإنما لم يجز أن نجري هذا اللفظ على الواحد منا، لأنه عبارة عمّن يكون فعله مطابقا للمصلحة، وليس كذلك أفعالنا، فإن فيها ما يوافق المصلحة، وفيها ما يخالفها، فلهذا لم يجز اجراء هذه اللفظة على الواحد منا لا لشيء آخر» وهكذا يتحرّج المعتزلة بدورهم من اطلاق هذا اللفظ على غير الله، وإن كانت اللغة تسمح بذلك.
لا يختلف الاشاعرة مع المعتزلة في أن معنى الخلق هو التقدير، وإن اختلفوا معهم في الاستدلال بهذه الآيات على جواز تسمية الانسان بأنه خالق «فعيسى عليه
السلام يقدر الطين صورة والخلق يقدرون الصورة صورة لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود» وعلينا أن نلاحظ أن سعي الباقلاني لنفي الايجاد من العدم في تأويل هذه الآية، يتسق مع ما سبق أن أشرنا اليه من أن الأشاعرة عموما ينسبون خلق الفعل الانساني إلى الله، وينسبون اكتسابه إلى العبد. ولقد سبق أن أشرنا أيضا إلى ما ذهب إليه الباقلاني خاصة من أن الانسان هو الذي يحوّل فعل الله كالحركة مثلا إلى طاعة أو إلى معصية. ومعنى ذلك كله أن الانسان لا يخلق فعله من عدم، وإنما هو يكتسب فحسب. ولذلك كله يحاول الباقلاني تأويل الآية التي استشهد بها القاضي عبد الجبار، والتي نسبت إلى عيسى عليه السلام خلق صورة من الطين. ويذهب الباقلاني إلى أن عيسى لم يخلق الصورة، أي لم يوجدها من عدم، وإنما هو فقط قدرها على مثال سابق معروف هو هيئة الطير التي هي من خلق الله. والذي لم يلاحظه الباقلاني أن المعتزلة يستدلون بهذه الآيات على جواز التسمية فحسب، دون أن يذهبوا إلى أن الانسان خالق، بمعنى الايجاد من العدم.(1/227)
لا يختلف الاشاعرة مع المعتزلة في أن معنى الخلق هو التقدير، وإن اختلفوا معهم في الاستدلال بهذه الآيات على جواز تسمية الانسان بأنه خالق «فعيسى عليه
السلام يقدر الطين صورة والخلق يقدرون الصورة صورة لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود» وعلينا أن نلاحظ أن سعي الباقلاني لنفي الايجاد من العدم في تأويل هذه الآية، يتسق مع ما سبق أن أشرنا اليه من أن الأشاعرة عموما ينسبون خلق الفعل الانساني إلى الله، وينسبون اكتسابه إلى العبد. ولقد سبق أن أشرنا أيضا إلى ما ذهب إليه الباقلاني خاصة من أن الانسان هو الذي يحوّل فعل الله كالحركة مثلا إلى طاعة أو إلى معصية. ومعنى ذلك كله أن الانسان لا يخلق فعله من عدم، وإنما هو يكتسب فحسب. ولذلك كله يحاول الباقلاني تأويل الآية التي استشهد بها القاضي عبد الجبار، والتي نسبت إلى عيسى عليه السلام خلق صورة من الطين. ويذهب الباقلاني إلى أن عيسى لم يخلق الصورة، أي لم يوجدها من عدم، وإنما هو فقط قدرها على مثال سابق معروف هو هيئة الطير التي هي من خلق الله. والذي لم يلاحظه الباقلاني أن المعتزلة يستدلون بهذه الآيات على جواز التسمية فحسب، دون أن يذهبوا إلى أن الانسان خالق، بمعنى الايجاد من العدم.
وإذا كانت الآية السابقة لم تحتج من الباقلاني إلى جهد كبير، فإن قوله تعالى: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} يحتاج إلى أكثر من وجه للتأويل، أحدهما «أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه. لكن لمّا ذكر معه غيره قال (أحسن الخالقين) وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره كما يقال عدل العمرين وإنما هما أبو بكر وعمر، لكن لمّا جمع بينهما سماهما باسم واحد. وكذلك قول الفرزدق:
أخذنا بأكناف السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
والقمر واحد لكن لمّا جمعه مع الشمس سماهما قمرين، وكأنه تعالى لمّا علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} على زعمهم أن معه خالقا غيره. وهذا كقوله تعالى {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} على زعمكم لأن عنده أن النشأة أهون من الاعادة فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والانكار لقولهم أن معه خالقا غيره، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.
جواب آخر: وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب قد يراد بها اثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه عن الآخر من كل وجه وذلك في قوله تعالى: {أَصْحََابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة مع حسن المستقر وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل فكذلك قوله تعالى: {أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} أثبت الخلق له، وأنه المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل، لا يريد أن
للخل حلاوة بوجه، بل يريد اثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا ورأسا، فكذلك قوله (أحسن الخالقين) أثبت الخلق له دون غيره».(1/228)
جواب آخر: وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب قد يراد بها اثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه عن الآخر من كل وجه وذلك في قوله تعالى: {أَصْحََابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة مع حسن المستقر وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل فكذلك قوله تعالى: {أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} أثبت الخلق له، وأنه المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل، لا يريد أن
للخل حلاوة بوجه، بل يريد اثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا ورأسا، فكذلك قوله (أحسن الخالقين) أثبت الخلق له دون غيره».
ولا شك أن كلا من المعتزلة والأشاعرة في انشغالهم بقضاياهم الكلامية قد أخرجا الآية عن سياقها الذي وردت فيه. فلم يرد في الآية ذكر لغير الله، خلافا لما ذهب إليه الباقلاني في جوابه الأول. فالآية سيقت لبيان عظمة الله والكشف عن قدرته الباهرة في خلق الانسان خطوة خطوة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (المؤمنون / 1412). ورغم أن الباقلاني في جوابه الثاني نجح في الاستدلال اللغوي على أن صيغة «أفعل» قد تثبت الحكم لأحد المذكورين وتسلبه عن الآخر، فإنه لم يدرك أن بيان العظمة والسمو ينكشف عن طريق المقارنة التي عبر عنها بهذه الصيغة في كلمة «أحسن» مع اضافتها إلى «الخالقين». فالمفاضلة في الآية ليست بين خالق وخالق، بل بين خالق وبين كافة الخالقين.
* * * إذا كان المعتزلة قد وجدوا في القرآن آيات يستدلون بها على جواز اطلاق لفظ «خالق» على الانسان، فإن خصومهم، الأشاعرة، يجدون بدورهم آيات أخرى يستدلون بها على أن صفة «الخالق» لا يجوز أن يوصف بها غير الله. وكما حاول الأشاعرة تأويل الآيات التي استدل بها المعتزلة كذلك يحاول المعتزلة تأويل الآيات التي استدل بها الأشاعرة. ويتم كل ذلك في اطار ما أشرنا إليه سالفا من تقسيم كل منهم للقرآن إلى محكم ومتشابه، مع خلافهم فيما يندرج تحت المحكم، وما يندرج تحت المتشابه من آيات.
والدليل الأول عند الأشاعرة قوله تعالى في آيات كثيرة {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} «ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة اجماعا وأن اختلفنا في خالقها وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق فدلّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا، قلنا: قد احترزنا بمحمد الله عن هذا السؤال بقولنا أنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق. وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة، بل هي صفة الخالق تعالى قديمة بقدمه وموجودة بوجوده قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال» واستثناء الباقلاني كلام الله من الأشياء المخلوقة التي يقع عليها عموم لفظ «كل» في الآية، يتسق مع ما ذهب إليه الأشاعرة من قدم الكلام الالهي.(1/229)
والمعتزلة من جانب آخر يستثنون أفعال العباد من عموم الآية، ويدخلون فيها القرآن «ولولا قيام الادلة على اخراج أفعال العباد منه لوجب دخوله في العموم، ولا دلالة توجب اخراج القرآن منه، فيجب دخوله فيه» وفي مسلك كلا الفريقين إزاء هذه الآية ما يكشف لنا كيف تحوّل القرآن عند المتكلمين إلى وسيلة استدلالية للجدل والنزاع. وما دام الفريقان قد تنازعا الآية، فمن حق كل منهم أن يتأوّلها وفقا لرأيه. ويتم اخراج الآية عن عمومها وظاهرها عند المعتزلة على أساس أنها «وردت مورد التمدح، ولا مدح بأن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد وفيها الكفر والالحاد والظلم، فلا يحسن التعلق بظاهره.
فإذا عدلتم عن الظاهر فأخذتم بالتأويل، فلستم بالتأويل أولى منا، فنتأوّله على وجه يوافق الدليل العقلي، فنقول إن المراد به {اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي معظم الأشياء، والكل يذكر ويراد ما ذكرنا، قال الله تعالى في قصة بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مع أنها لم تؤت كثيرا من الأشياء».
ويستخدم أبو هاشم الجبائي، عند تأويله للآية، لفظ «المبالغة» وهو نفس اللفظ الذي وضع الرماني الآية تحته في رسالته «النكت في اعجاز القرآن» كما أسلفنا الاشارة. يقول: «إن التعارف في استعمال هذه اللفظة قد جرى بمعنى التكثير والمبالغة كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (النمل / 23) وقوله {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (الأحقاف / 45) {يُجْبى ََ إِلَيْهِ ثَمَرََاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (القصص / 57)، {مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام / 38) وكقول الرجل أكلنا كل شيء، وعندنا كل خير، وعلى هذا خاطب عز وجل العرب» واستخدام مصطلح «المبالغة» بالمعنى الذي أشار إليه الرماني له دلالته في الارتباط الوثيق بين المجاز والتأويل، واستخدام المجاز أداة للتأويل واخراج النص عن ظاهره ليلائم الدليل العقلي. غير أن هذا التأويل يستند إلى شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب.
والدليل الثاني الذي يستدل به الأشاعرة هو قوله تعالى {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} (الصافات / 96) «فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم وهذا من أوضح أدلّة الكتاب».
ويستند المعتزلة في تأويلهم لهذه الآية إلى فكرة السياق من ناحية، وإلى تقدير محذوف في الكلام من ناحية أخرى. أمّا فكرة السياق فلأن الله «إنما ذكر ذلك ليقرع عباد الأصنام ويوبخهم، ومعلوم أن التوبيخ والتقريع لا تعلق له بعملهم، وله تعلق بما عملوا فيه من الأصنام، فأراد تعالى أن يبين أنه الخالق لما يحاولون
عبادته، كما أنه الخالق لهم، وأنه أولى بالعبادة من الأمرين، وأنه لا معنى في عبادة الصنم إلّا ومثله قائم في عبادة الانسان» أي أن التقريع في الآية لا ينصبّ على الفعل الانساني، وإنما ينصبّ على الأصنام التي يقوم الانسان بصنعها ثم يعبدها.(1/230)
ويستند المعتزلة في تأويلهم لهذه الآية إلى فكرة السياق من ناحية، وإلى تقدير محذوف في الكلام من ناحية أخرى. أمّا فكرة السياق فلأن الله «إنما ذكر ذلك ليقرع عباد الأصنام ويوبخهم، ومعلوم أن التوبيخ والتقريع لا تعلق له بعملهم، وله تعلق بما عملوا فيه من الأصنام، فأراد تعالى أن يبين أنه الخالق لما يحاولون
عبادته، كما أنه الخالق لهم، وأنه أولى بالعبادة من الأمرين، وأنه لا معنى في عبادة الصنم إلّا ومثله قائم في عبادة الانسان» أي أن التقريع في الآية لا ينصبّ على الفعل الانساني، وإنما ينصبّ على الأصنام التي يقوم الانسان بصنعها ثم يعبدها.
ومعنى ذلك أن «ما تعملون» ليس المقصود بها العمل، وإنما المقصود بها المعمول فيه. وعلى ذلك يكون تأويل الآية «ما تعملون فيه على نحو قول أهل اللغة: فلان يعمل الأثواب والحصر، وفلان يعمل الطين، وإنما أراد الأصنام التي عملوا فيها النحت» ومعنى ذلك أن في الكلام محذوفا تقديره «فيه». ويكون معنى الآية أن الله خلق الانسان وما يعمل فيه من المواد كالخشب والحجارة وغيرها. أمّا عمله نفسه في هذه المواد، فهو من خلقه، ولا يدخل تحت منطوق الآية. وهكذا يصبح تقدير المحذوف والحذف مجاز وسيلة للتأويل، والعدول عن الظاهر.
ولا يسلم هذا التأويل تماما للمعتزلة، إذ يذهب أبو الحسن الأشعري إلى التفرقة بين «ما تنحتون» و «ما تعملون» ويرى أن «ما تنحتون هي التي ترجع إلى الأصنام دون «ما تعملون» وذلك لأن الاصنام منحوتة لهم في الحقيقة، وليست معمولة لهم «فرجع الله تعالى بقوله {تَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ} إليها. وليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فيرجع بقوله {خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ} إليها».
ويردّ الزمخشري على هذه التفرقة على أساس أن «ما» في «ما تنحتون» موصولة وليست مصدرية. ويرى أن ما يعطف عليها ينبغي أن يكون كذلك حتى لا يختل النظم القرآني، بمعنى أن «ما» في «ما تعملون» ينبغي كذلك أن تكون موصولة حتى يستقيم العطف، وذلك أن «ما تعملون ترجمة عن قوله ما تنحتون وما في تنحتون موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلّا متعسف متعصب لمذهبه من غير نظر في علم البيان ولا تبصر لنظم القرآن».
أمّا الدليل الثالث الذي يستند إليه الأشاعرة فهو قوله تعالى {هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ} (فاطر / 3) ويسهل على المعتزلة تأويل هذه الآية بالرجوع إلى فكرة السياق «فليس فيه ما ظنوه لأن فائدة الكلام معقودة بآخره، وقد قال تعالى:
{هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ} ونحن لا نثبت خالقا غير الله يرزق».
وبنفس الطريقة لا يجدون صعوبة في تأويل قوله تعالى {أَمْ جَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} وذلك على أساس «أن المراد أن خلق أحدنا لا يشبه خلق الله تعالى، فإن خلقه جل وعز يشتمل على الأجسام والأعراض، وليس كذلك خلقنا فإنّا لا نقدر إلّا على هذه التصرفات التي هي القيام والقعود وما جرى مجراهما».(1/231)
وهكذا ينتهي المعتزلة إلى نفي صفة الشرك التي حاول الأشاعرة الصاقها بهم، كما ينتهون إلى تأكيد أن الانسان هو خالق أفعاله حسب قصده وارادته الحرة.
والفارق بين ما يخلقه الله وبين ما يخلقه الانسان هو الفارق بين قدرة الله اللامتناهية وقدرة الانسان المحدودة، تلك القدرة التي لا تتعلق إلّا بتصرفاته دون غيرها من الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها إلّا الله جل وعز.
وآخر ما يستدل به الأشاعرة قولهم إن من شروط من يقدر على الخلق أن يكون عالما بما يخلقه. ولمّا كان علم الله يشمل كل ما يمكن أن يعلم، فمن الطبيعي أن يشتمل خلقه على كل ما يمكن أن يخلق «لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه كما قال: {أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك / 14) «يوضح ابن المنير السني هذا الدليل قائلا «إن أهل السنة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها وهو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفي الملزوم الذي هو الخلق.
وبهذه الملازمة دلّت الآية فإن الله تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عز وجل بثبوت الخلق وهو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم».
ويتركّز الخلاف حول تأويل الآية بين المعتزلة وخصومهم في تحديد مفعول الفعل «خلق». يذهب الأشاعرة إلى أن المفعول ضمير يعود إلى القول {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} أو إلى ضميره المحذوف في «يعلم» وعلى ذلك يكون «من فاعلا مرادا به الخالق ومفعول العلم محذوف تقديره ذلك إشارة إلى السر والجهر، ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك. والتقدير في الجميع ألّا يعلم السر والجهر من خلقهما». ويتركز تأويل القاضي عبد الجبار على أن «من» مفعول للفعل «يعلم» وليس فاعلا. كما يذهب إلى أن المفعول المحذوف في «خلق» ليس القول، بل أمر العباد عموما «واعلم أن المراد بذلك ألّا يعلم من خلق أمر العباد الذين يسرون بالقول ويجهرون، منبها بذلك على أنه لا تخفى عليه أحوالهم كتموها أو جهروا بها، ولو كان المراد به ما قالوه، لقال ألا يعلم ما خلق لأن القول لا يعبر عنه بمن لأن ذلك عبارة عن العقلاء» ولا تستقيم الآية من حيث المعنى على تأويل الأشاعرة «يبين ذلك أن هذا الكلام إذا لم يحمل على ما قلناه يجري مجرى أن يقول: وأسروا قولكم أو اجهروا به فاني عليم بما أنا فاعله. وهذا لا يستقيم».
ومن المؤكد أن الآية في سياقها لا تساعد الأشاعرة على ما ذهبوا إليه، فقد وردت مورد الذم والتوبيخ لأولئك الذين يظنون أن الله غير مطّلع على خبايا صدورهم. ويدرك الزمخشري معنى الآية ويربط أولها بآخرها ربطا محكما، فيكون
مفعول «من خلق» «الأشياء وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه. ويجوز أن يكون من خلق منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله» ويمنع الزمخشري أهل السنة من الاستدلال بهذه الآية على ما ذهبوا إليه من أن الخلق لا يصح إلّا مع العلم. ويستند في ذلك إلى أن تركيب الآية، ووصف الله في آخرها بأنه لطيف خبير يمنع من هذا الاستدلال «لأنك لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن المعنى صحيحا لأن ألا يعلم معتمد على الحال والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال ألا يعلم وهو عالم ولكن يقال ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء».(1/232)
ومن المؤكد أن الآية في سياقها لا تساعد الأشاعرة على ما ذهبوا إليه، فقد وردت مورد الذم والتوبيخ لأولئك الذين يظنون أن الله غير مطّلع على خبايا صدورهم. ويدرك الزمخشري معنى الآية ويربط أولها بآخرها ربطا محكما، فيكون
مفعول «من خلق» «الأشياء وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه. ويجوز أن يكون من خلق منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله» ويمنع الزمخشري أهل السنة من الاستدلال بهذه الآية على ما ذهبوا إليه من أن الخلق لا يصح إلّا مع العلم. ويستند في ذلك إلى أن تركيب الآية، ووصف الله في آخرها بأنه لطيف خبير يمنع من هذا الاستدلال «لأنك لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن المعنى صحيحا لأن ألا يعلم معتمد على الحال والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال ألا يعلم وهو عالم ولكن يقال ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء».
(4) يلجأ المعتزلة بعد ذلك كله إلى ايراد أدلتهم التي تثبت مسئولية الانسان عن فعله. وهي تنقسم في القرآن إلى قسمين: أدلّة اثبات، وأدلّة نفي. أمّا أدلّة الاثبات فهي كل تلك الآيات التي تثبت تعلق فعل الانسان به وهي أنواع ثلاثة:
النوع الأول منها يشمل كل الآيات التي يضاف فيها الفعل إلى العبد بصيغة الفاعل اضافة واضحة «ويدل على ذلك من كتاب الله، سبحانه، كل اضافة للفعل إلى العبد بلفظ الفاعل نحول قوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة / 2) وسائر ما وصف به، مما يوجب اضافة الفعل إليه». أمّا النوع الثاني من أدلّة الأثبات فيشمل كل الآيات التي تعلق الجزاء بأفعالهم نحو قوله تعالى: {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} «فلولا أنّا نعمل ونصنع، وإلّا كان هذا الكلام كذبا، وكان الجزاء على ما يخلقه فينا قبيحا» ويشمل النوع الثالث كل «ما في كتاب الله من الذم والتوبيخ نحو قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ} (البقرة / 28)، وقوله: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (الانشقاق / 20) {وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا}
(الاسراء / 49) ومن جملة ذلك قوله تعالى وتقدس: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن / 2) أورد الآية على وجه التوبيخ، وذلك لا يحسن إلّا بعد احتياج الكفر والايمان إلينا وتعلقهما بنا، وإلّا كان ذلك بمنزلة أن يوبخ أحدنا على طول قامته وقصرها، فيقال قد انعمنا عليك وصنعنا بك وفعلنا، فقصرت قامتك أو طالت».
ويصعب على الأشاعرة رد هذه الأدلّة، وإن كانوا يحاولون ردها إلى مقولة «الكسب» الأشعرية، تلك المقولة التي تجعل وجه تعلق الفعل بالانسان هو الكسب دون الخلق والايجاد. يساوي الباقلاني بين الفعل والكسب حين يردّ على المعتزلة «فإن احتجّوا بقوله تعالى: {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} قالوا: فأثبت لنا العمل،
والعمل هو الفعل، والفعل هو الخلق. فالجواب أنه تعالى أراد هنا بالعمل الكسب. والعبد مكتسب على ما بيّنا. يدل على ذلك أنه قال في موضع آخر {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة / 82) ونحن لا نمنع أن يكون سمّى الكسب عملا، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا مخرجا له من العدم إلى الوجود. وقد بيّنا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلّا الله تعالى فلم يكن لهم في الآية حجة» ولا ينكر الأشاعرة بالطبع أن الانسان مجازى محاسب، ولكنهم يجعلون الجزاء عقابا على الكسب والارادة دون ايجاد الفعل وخلقه.(1/233)
ويصعب على الأشاعرة رد هذه الأدلّة، وإن كانوا يحاولون ردها إلى مقولة «الكسب» الأشعرية، تلك المقولة التي تجعل وجه تعلق الفعل بالانسان هو الكسب دون الخلق والايجاد. يساوي الباقلاني بين الفعل والكسب حين يردّ على المعتزلة «فإن احتجّوا بقوله تعالى: {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} قالوا: فأثبت لنا العمل،
والعمل هو الفعل، والفعل هو الخلق. فالجواب أنه تعالى أراد هنا بالعمل الكسب. والعبد مكتسب على ما بيّنا. يدل على ذلك أنه قال في موضع آخر {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة / 82) ونحن لا نمنع أن يكون سمّى الكسب عملا، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا مخرجا له من العدم إلى الوجود. وقد بيّنا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلّا الله تعالى فلم يكن لهم في الآية حجة» ولا ينكر الأشاعرة بالطبع أن الانسان مجازى محاسب، ولكنهم يجعلون الجزاء عقابا على الكسب والارادة دون ايجاد الفعل وخلقه.
وثم آيات يمكن أن يستدل بها الأشاعرة على أن الانسان لم يوجد ضلاله ولم يخلق كفره، بل الله خلقه فيه، كما خلق فيه الايمان والهدى. وقد سبق أن تعرّضنا بالتفصيل لكثير من هذه الآيات وكشفنا عن تأويل المعتزلة لها في ثنايا القسم السابق من هذا الفصل، الأمر الذي يجعلنا نتجاوزها هنا حتى لا نقع في التكرار والاطالة.
غير أن المعتزلة لا يمنعون نسبة ايمان العبد إلى الله على أساس فكرة اللطف التي سبقت الاشارة إليها. ولا يتناقض ذلك على أي حال مع اصرارهم على نسبة أفعال العبد إليه، ما داموا قد نفوا عن الله إرادة الكفر والقبائح كلها أو خلقه اياها في العبد وهذا هو الهدف النهائي من قضية العدل كلها.
* * * ويطيل المعتزلة في شرح وتوضيح أدلة النفي التي تنفي عن الله خلق أفعال البشر، وذلك لأنها أدلة ينازعهم فيها خصومهم ولا يسلمون لهم بها. وأول هذه الأدلة قوله تعالى في سورة الملك / 3 {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ،} ذلك أن نفي التفاوت عن خلق الله، يعني بدليل الخطاب أن ما هو متفاوت ليس من خلقه. وأفعال العباد تتفاوت بين الحسن والقبيح، ولهذا لا يصح اسنادها إلى الله إذا كان قد نفى التفاوت عن خلقه. ويتركّز الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في تأويل هذه الآية حول نوع الفعل الالهي المقصود نفي التفاوت عنه.
ويذهب المعتزلة إلى أن المقصود بها نفي التفاوت في باب الحكمة، دون أن يكون المقصود بها نفي التفاوت في المخلوقات أو في صفاته عز وجل «إنما أراد بذلك في باب الحكمة، لأنه لو أراد في صفاته، لكان قد نفى ما ثبوته معلوم باضطرار لأنه تعالى يمدح بذلك، ولا يليق التمدح بنفي التفاوت عنها في سائر أوصافها، وإن كان ظاهر التفاوت يقتضي التناقض في الحكمة. ولذلك لا يقولون: إن خلق زيد متفاوت إلّا على هذا الوجه، ولا يقولون ذلك من حين يتغير خلقه على وجه يحمد.
فيجب أن ينفي أن يكون في فعله التفاوت في الحكمة من قبيح وحسن، بل يجب
كون جميعه حسنا. وذلك يمنع من كون أفعال العباد فعلا له. وليس لأحد أن يقول: إن الغرض بذلك نفي التناقض عن خلقه، وأنه ليس فيه متضاد، وذلك، لأن هذا علم استحالة وجوده من فعل أي فاعل كان لأمر يرجع إلى نفسه، فمعنى التمدح فيه لا يصح. وإنما قال سبحانه ذلك عقيب ذكره ما خلقه من الموت والحياة والتكليف، وأنه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً} ثم نبه على عظيم نعمه بذلك، من حيث أنه خلقه على وجه يتسق في الحكمة، وإلّا خرج جميعه من أن يكون نعمة، لأنه لو كان في أفعاله شيء قبيح لفسد التدبير، ولم يثق المكلف بوعد ولا وعيد، وذلك يخرج كل أفعاله من أن تكون نعمة».(1/234)
فيجب أن ينفي أن يكون في فعله التفاوت في الحكمة من قبيح وحسن، بل يجب
كون جميعه حسنا. وذلك يمنع من كون أفعال العباد فعلا له. وليس لأحد أن يقول: إن الغرض بذلك نفي التناقض عن خلقه، وأنه ليس فيه متضاد، وذلك، لأن هذا علم استحالة وجوده من فعل أي فاعل كان لأمر يرجع إلى نفسه، فمعنى التمدح فيه لا يصح. وإنما قال سبحانه ذلك عقيب ذكره ما خلقه من الموت والحياة والتكليف، وأنه {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً} ثم نبه على عظيم نعمه بذلك، من حيث أنه خلقه على وجه يتسق في الحكمة، وإلّا خرج جميعه من أن يكون نعمة، لأنه لو كان في أفعاله شيء قبيح لفسد التدبير، ولم يثق المكلف بوعد ولا وعيد، وذلك يخرج كل أفعاله من أن تكون نعمة».
وهكذا يحدد المعتزلة معنى التفاوت بأنه التناقض أو الاضطراب، ثم ينكرون أن يكون نفي التفاوت واقعا على أفعال الله، لأنه تمدّح نفسه بذلك، فوصف نفسه بالرحمة وبالجبروت وهما صفتان متناقضتان ظاهريا، وإن كانتا غير متناقضتين في باب الحكمة. وهم من ناحية أخرى ينكرون أن يقع نفي التفاوت على مخلوقات الله، لأن فيها الصغير والكبير والطويل والقصير الخ. وعلى ذلك لا يبقى لهم إلّا أن نفي التفاوت عن خلق الله واقع في باب الحكمة. ومعنى ذلك أن كل أفعال الله تجري على نسق من الحكمة لا تفاوت فيها، وليست كذلك أفعال الانسان، وعلى ذلك فإن أفعال الانسان لا يمكن أن تكون مخلوقة لله. .
غير أن الأشاعرة لا يسلّمون للمعتزلة بهذا التفسير، على أساس أن قوله تعالى في آخر الآية {هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ} يدل أن المقصود بالآية نفي التفاوت عن المخلوقات، لأنه تعالى قال ذلك بعد قوله هو {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً}
ولم يذكر الله تعالى الكفر ولا أفعال العباد في هذه الآية فيكون للقدرية في ذلك حجة وفي الرد على هذا الاعتراض يستند المعتزلة إلى مبدأ من مبادئ أصول الفقه في التعميم والتخصيص. ومن رأي المعتزلة «أن تخصيص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها، ألا ترى أن قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة / 228) عام في المطلقات، البوائن منها والرجعيات، ثم تخصيص قوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} لا يقدح في عموم الأول. كذلك في مسألتنا» وهو مبدأ غريب لا يصح في تفسير سياق هذه الآية، وإن صحّ في أحكام الفقه.
والخلط في التفسير بين آيات الأحكام وآيات الصفات يتناقض مع ما سبق أن قاله القاضي نفسه عند اخراج آيات الأحكام من المحكم والمتشابه. وبالاضافة إلى ذلك كله فإن الآية كما قال الأشعري لا تشير من قريب أو من بعيد إلى خلق الأفعال. وهي واردة في بيان الحكمة الالهية في خلق السماوات، وعلى ذلك يعدّ
استدلال المعتزلة بهذه الآية استدلالا بدليل الخطاب لا بمنطوقه المباشر. وهذا أمر ينكره المعتزلة على خصومهم في مواضع كثيرة، بل وفي هذه الآية نفسها. ويبدو هذا التناقض واضحا في موقف القاضي حين يورد على نفسه اعتراضا فحواه «لو أمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد لأن فيها التفاوت، وقد نفى التفاوت عن خلقه، أمكن أيضا أن يستدل بها على أن طاعات العباد كلها من جهة الله تعالى فلا تفاوت فيها» ينكر القاضي على خصومه هذا الاستدلال لأنه في رأيه «استدلال بدليل الخطاب، وذلك مما لا يعتبر في فروع الفقه، فكيف يعتبر في أصول الدين؟ يبين ذلك أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه خلافه، ألا ترى أن قائلا لو قال: فلان لا يظلم ولا يكذب، فإنما يقتضي هذا الكلام أنه لا يختار ما هو الظلم والكذب، وليس فيه أن ما هو خارج من هذين النوعين فإنه هو الفاعل له، كذلك في مسألتنا، ليس يجب إذا نفى الله تعالى التفاوت عن خلقه أن يضاف إليه كل ما لا تفاوت فيه، بل الواجب أن ينفى عنه جميع ما يتفاوت، ويكون ما لا تفاوت فيه موقوفا على الدلالة، فإن دلّ على أنه هو الفاعل له قيل به، وإن لم يدل، بل دلّ على خلافه لم يقل به. وفي مسألتنا قامت الدلالة على أن هذه التصرفات من الطاعات وغيرها متعلقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا وداعينا، فيجب أن تكون فعلا لنا واقعا من جهتنا على ما قلناه». غير أن هذا التناقض في موقف القاضي يمكن أن يفسّر في ضوء ما أشرنا إليه من أن القرآن تحوّل إلى وسيلة للاستدلال سواء بمنطوق الآيات المباشر، أو بمدلولها غير المباشر، وذلك عن طريق التأويل الذي يستند أولا إلى الدليل العقلي.(1/235)
والخلط في التفسير بين آيات الأحكام وآيات الصفات يتناقض مع ما سبق أن قاله القاضي نفسه عند اخراج آيات الأحكام من المحكم والمتشابه. وبالاضافة إلى ذلك كله فإن الآية كما قال الأشعري لا تشير من قريب أو من بعيد إلى خلق الأفعال. وهي واردة في بيان الحكمة الالهية في خلق السماوات، وعلى ذلك يعدّ
استدلال المعتزلة بهذه الآية استدلالا بدليل الخطاب لا بمنطوقه المباشر. وهذا أمر ينكره المعتزلة على خصومهم في مواضع كثيرة، بل وفي هذه الآية نفسها. ويبدو هذا التناقض واضحا في موقف القاضي حين يورد على نفسه اعتراضا فحواه «لو أمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد لأن فيها التفاوت، وقد نفى التفاوت عن خلقه، أمكن أيضا أن يستدل بها على أن طاعات العباد كلها من جهة الله تعالى فلا تفاوت فيها» ينكر القاضي على خصومه هذا الاستدلال لأنه في رأيه «استدلال بدليل الخطاب، وذلك مما لا يعتبر في فروع الفقه، فكيف يعتبر في أصول الدين؟ يبين ذلك أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه خلافه، ألا ترى أن قائلا لو قال: فلان لا يظلم ولا يكذب، فإنما يقتضي هذا الكلام أنه لا يختار ما هو الظلم والكذب، وليس فيه أن ما هو خارج من هذين النوعين فإنه هو الفاعل له، كذلك في مسألتنا، ليس يجب إذا نفى الله تعالى التفاوت عن خلقه أن يضاف إليه كل ما لا تفاوت فيه، بل الواجب أن ينفى عنه جميع ما يتفاوت، ويكون ما لا تفاوت فيه موقوفا على الدلالة، فإن دلّ على أنه هو الفاعل له قيل به، وإن لم يدل، بل دلّ على خلافه لم يقل به. وفي مسألتنا قامت الدلالة على أن هذه التصرفات من الطاعات وغيرها متعلقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا وداعينا، فيجب أن تكون فعلا لنا واقعا من جهتنا على ما قلناه». غير أن هذا التناقض في موقف القاضي يمكن أن يفسّر في ضوء ما أشرنا إليه من أن القرآن تحوّل إلى وسيلة للاستدلال سواء بمنطوق الآيات المباشر، أو بمدلولها غير المباشر، وذلك عن طريق التأويل الذي يستند أولا إلى الدليل العقلي.
* * * والدليل الثاني الذي يستدل به المعتزلة هو قوله تعالى {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة / 7) ويختلف المعتزلة مع الأشاعرة في توجيه الفعل «أحسن»، ذلك أنه قد يكون مشتقا من الاحسان، أو من الحسن، بمعنى أنه قد يكون مشتقا من الفعل «أحسن» أو من الفعل «حسن». ويذهب المعتزلة إلى أنه مشتق من «الحسن» لا من «الاحسان» وذلك «لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون احسانا كالعقاب» وعلى العكس من ذلك يذهب الأشاعرة، فالمعنى عندهم «أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ فأخبر الله تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء» ومعنى ذلك أن الأشاعرة يذهبون بالآية إلى معنى الخبر دون المدح الذي يؤكّده السياق {ذََلِكَ عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسََانِ مِنْ طِينٍ}
(السجدة / 76) والذي يتنبه إليه تفسير المعتزلة. ويحاول المعتزلة مناقشة هذا الاعتراض من جانب الأشاعرة، ولذلك يفرق القاضي عبد الجبار بين صيغة الماضي وصيغة المضارع في هذا الفعل «لأن أحسن بمعنى علم لم يجيء وإن جاء مضارعه، وليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه. وعلى هذا استعملوا مضارع نحو: وذر، وودع، فقالوا: يذر ويدع، ولم يستعملوا ماضيه، فلم يقولوا: أوذر، ولا أودع. وصار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع نحو قولهم: عسى وليس، فحسب» ومن الواضح أن المعتزلة يريدون بهذا التوجيه للفعل أن يذهبوا إلى أن أفعال الله كلها حسنة، وليست كذلك أفعال الانسان، ومن ثم لا يصح الزعم بأن الله هو خالق أفعال الانسان. وغني عن البيان أن القاضي هنا يستدل كما فعل في الآية السابقة بدليل الخطاب، دون منطوقه المباشر.(1/236)
* * * والدليل الثاني الذي يستدل به المعتزلة هو قوله تعالى {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة / 7) ويختلف المعتزلة مع الأشاعرة في توجيه الفعل «أحسن»، ذلك أنه قد يكون مشتقا من الاحسان، أو من الحسن، بمعنى أنه قد يكون مشتقا من الفعل «أحسن» أو من الفعل «حسن». ويذهب المعتزلة إلى أنه مشتق من «الحسن» لا من «الاحسان» وذلك «لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون احسانا كالعقاب» وعلى العكس من ذلك يذهب الأشاعرة، فالمعنى عندهم «أنه يحسن أن يخلق كما يقال فلان يحسن الصياغة أي يعلم كيف يصوغ فأخبر الله تعالى أنه يعلم كيف يخلق الأشياء» ومعنى ذلك أن الأشاعرة يذهبون بالآية إلى معنى الخبر دون المدح الذي يؤكّده السياق {ذََلِكَ عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسََانِ مِنْ طِينٍ}
(السجدة / 76) والذي يتنبه إليه تفسير المعتزلة. ويحاول المعتزلة مناقشة هذا الاعتراض من جانب الأشاعرة، ولذلك يفرق القاضي عبد الجبار بين صيغة الماضي وصيغة المضارع في هذا الفعل «لأن أحسن بمعنى علم لم يجيء وإن جاء مضارعه، وليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه. وعلى هذا استعملوا مضارع نحو: وذر، وودع، فقالوا: يذر ويدع، ولم يستعملوا ماضيه، فلم يقولوا: أوذر، ولا أودع. وصار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع نحو قولهم: عسى وليس، فحسب» ومن الواضح أن المعتزلة يريدون بهذا التوجيه للفعل أن يذهبوا إلى أن أفعال الله كلها حسنة، وليست كذلك أفعال الانسان، ومن ثم لا يصح الزعم بأن الله هو خالق أفعال الانسان. وغني عن البيان أن القاضي هنا يستدل كما فعل في الآية السابقة بدليل الخطاب، دون منطوقه المباشر.
ويذهب القاضي إلى نفس الاستدلال من قوله تعالى {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل / 88) فنسبه الاتقان إلى صنع الله وفعله ينفي امكانية أن يكون هو خالق أفعال البشر التي تتضمن «التهود والتنصر والتمجس، وليس شيء من ذلك متقنا، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها».
ومن الأدلة التي يستدل بها المعتزلة أيضا قول الله تعالى {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا} (ص / 27) وكذلك قوله {مََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ.} ووجه الاستدلال أن الله «نفى، عمّا خلقه منهما، الباطل، ولو كان قد خلق أفعال العباد، لوجب كون الباطل الذي بينهما من خلقه، فكان يجب أن يكون نفيه كذبا، تعالى الله عن ذلك». والواقع أن هذا الاستدلال من جانب المعتزلة يخرج الآية عن سياقها اخراجا تاما. ويصبح تأويل الأشاعرة أقرب إلى روح السياق. يقول الأشعري «قال الله تعالى {ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
فدلّ ذلك على أن المعنى فيهما خلقهما وما بينهما ولا أنا لا أثيب من أطاعني ولا أعاقب من عصاني وكفر بي لأن الكافرين ظنوا أنهم لا يعادون ولا لهم رجعة فيعاقبون. فبين الله تعالى أنه ما خلق الخلق إلّا ومصير بعضهم إلى ثواب ورجوع بعضهم إلى العقاب وأن الكافرين ظنوا ذلك لأنه بيّن أن ذلك باب الثواب والعقاب لأنه تعالى قال {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ} فأخبر تعالى أن ظن المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه لا عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين» والفكرة التي
يحاول الأشعري التعبير عنها في هذا النص أن الآية وردت مورد الرد على المشركين والكفار الذين ظنوا أنهم لن يحاسبوا على ما قدّمت أيديهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لم يخلق هذا العالم بسماواته وأرضه عابثا ولا لاهيا، وإنما هو سبحانه قد خلق العالم للتكليف والثواب والعقاب. ورغم أن هذا المعنى الواضح يتسق مع سياق الآية في السورة، فإن القاضي عبد الجبار يذهب إلى القول بأن هذا المعنى الواضح الظاهر مجاز «فإن قال: أراد بذلك: لم أخلقهما على جهة العبث، بل خلقتهما للأمر والنهي والتعريض. قيل له: هذا هو مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة هو الواجب».(1/237)
ومن الأدلة التي يستدل بها المعتزلة أيضا قول الله تعالى {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا} (ص / 27) وكذلك قوله {مََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ.} ووجه الاستدلال أن الله «نفى، عمّا خلقه منهما، الباطل، ولو كان قد خلق أفعال العباد، لوجب كون الباطل الذي بينهما من خلقه، فكان يجب أن يكون نفيه كذبا، تعالى الله عن ذلك». والواقع أن هذا الاستدلال من جانب المعتزلة يخرج الآية عن سياقها اخراجا تاما. ويصبح تأويل الأشاعرة أقرب إلى روح السياق. يقول الأشعري «قال الله تعالى {ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
فدلّ ذلك على أن المعنى فيهما خلقهما وما بينهما ولا أنا لا أثيب من أطاعني ولا أعاقب من عصاني وكفر بي لأن الكافرين ظنوا أنهم لا يعادون ولا لهم رجعة فيعاقبون. فبين الله تعالى أنه ما خلق الخلق إلّا ومصير بعضهم إلى ثواب ورجوع بعضهم إلى العقاب وأن الكافرين ظنوا ذلك لأنه بيّن أن ذلك باب الثواب والعقاب لأنه تعالى قال {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ} فأخبر تعالى أن ظن المشركين الذين أنكر عليهم أنهم ظنوا أنه لا عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين» والفكرة التي
يحاول الأشعري التعبير عنها في هذا النص أن الآية وردت مورد الرد على المشركين والكفار الذين ظنوا أنهم لن يحاسبوا على ما قدّمت أيديهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لم يخلق هذا العالم بسماواته وأرضه عابثا ولا لاهيا، وإنما هو سبحانه قد خلق العالم للتكليف والثواب والعقاب. ورغم أن هذا المعنى الواضح يتسق مع سياق الآية في السورة، فإن القاضي عبد الجبار يذهب إلى القول بأن هذا المعنى الواضح الظاهر مجاز «فإن قال: أراد بذلك: لم أخلقهما على جهة العبث، بل خلقتهما للأمر والنهي والتعريض. قيل له: هذا هو مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة هو الواجب».
ومن الصعب الاتفاق مع القاضي على مجازية هذا المعنى، لكن للقاضي عذره في هذا التأويل المجازي البعيد. ويبدو أن الذي ألجأ القاضي إلى الاستدلال بهذه الآيات لفظ «وما بينهما» حيث توهم أن أعمال العباد تقع في هذا الحيز بين السماء والأرض. فإذا نفى الله الباطل عن خلقه للسماوات والأرض وما بينهما، فإنه بذلك يكون قد نفى أفعال العباد، ومنها الحق والباطل، أن تكون من خلقه «وقد يقال في أفعال العباد أنها بينها بالتعارف، فليس لأحد أن يمنع دخول ذلك فيه من جهة الظاهر، وباطل في هذا الموضع المراد به القبيح، ولهذا تمدّح تعالى بذلك، وتمدحه به، يدل على أن اثبات ما تمدّح بنفيه ذم، فلا يجوز أن يثبت في فعله شيء باطل».
وآخر ما يستدل به المعتزلة قوله تعالى {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتََابِ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتََابِ، وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ، وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران / 78) «فنفى أن يكون لي ألسنتهم بالكتاب من عند الله، ولو كان من فعله لم يصح، على هذا القول». ويظل القاضي يدور في دائرة الاستدلال بدليل الخطاب لا بظاهره، ويظل الأشعري أقرب إلى ادراك المعنى المباشر للآية، وهو «أنهم حرفوا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوهموا السفيه منهم أنه من كتابهم. قال الله تعالى {وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} يعني أن الله تعالى أنزله. قال الله {وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} أي لم أنزل عليهم ذلك كما يدّعون».
ويحاول القاضي عبد الجبار جاهدا أن يؤول الآية لتسلم له بدلالتها على نفي أن يكون الفعل الانساني مخلوقا لله. ولكي يفعل القاضي ذلك يستند إلى أن النفي في الآية كما يؤكد أن الله لم ينزل ما قاله أهل الكتاب، يؤكد كذلك أن الله لم يفعله، وبذلك يثبت أنهم هم الفاعلون له بمعنى أن تكرار النفي يؤكد نسبة التحريف إليهم دون الله «إن ما لم ينزله ويفعله، لا يجوز أن ينفي أن يكون من
عنده، فنفي كونه من عنده، على كل حال، يدل على ما قلناه. وبعد، فإن ما قالوه قد دل عليه قوله {وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ} فيجب أن يكون المراد بالنفي الثاني غيره وسواه» وأيّا كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن القاضي يظلّ بعيدا عن جو الآية رغم محاولاته المستميتة للاستدلال بها على ما يريد.(1/238)
ويحاول القاضي عبد الجبار جاهدا أن يؤول الآية لتسلم له بدلالتها على نفي أن يكون الفعل الانساني مخلوقا لله. ولكي يفعل القاضي ذلك يستند إلى أن النفي في الآية كما يؤكد أن الله لم ينزل ما قاله أهل الكتاب، يؤكد كذلك أن الله لم يفعله، وبذلك يثبت أنهم هم الفاعلون له بمعنى أن تكرار النفي يؤكد نسبة التحريف إليهم دون الله «إن ما لم ينزله ويفعله، لا يجوز أن ينفي أن يكون من
عنده، فنفي كونه من عنده، على كل حال، يدل على ما قلناه. وبعد، فإن ما قالوه قد دل عليه قوله {وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ} فيجب أن يكون المراد بالنفي الثاني غيره وسواه» وأيّا كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن القاضي يظلّ بعيدا عن جو الآية رغم محاولاته المستميتة للاستدلال بها على ما يريد.
وتبرأ الله من المشركين في قوله تعالى: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
(التوبة / 3) يدل عند المعتزلة على تعلق الشرك بفاعله ومسئوليته عنه «لأنه لا يجوز أن يتبرأ منهم لأجل شركهم إلّا وهم فاعلون له». ولا يسلم الأشاعرة بهذا الدليل، ويقيمون اعتراضهم على هذا الاستدلال من جانب المعتزلة على أن سبب نزول الآية لا يتفق مع هذا التخريج، فالآية، «إنما نزلت في العهود التي كانت بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى قال {بَرََاءَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللََّهِ وَأَنَّ اللََّهَ مُخْزِي الْكََافِرِينَ} (التوبة / 21) فأحلّهم الله أربعة أشهر ثم قال {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} يقول واعلام من الله ورسوله {إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} يعني من العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم إذا انقضت الأربعة الأشهر. ثم استثنى قوما من المشركين يقال إنهم من بني كنانة فقال {إِلَّا الَّذِينَ عََاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ فَمَا اسْتَقََامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} إلى انقضاء مدتهم. على أن الله تعالى ذكر المشركين ولم يقل (من شركهم) ولو كان قوله «بريء من المشركين» يدل على أنه لم يخلق شركهم لدلّ على أنه لم يخلقهم لأنه تعالى بريء من المشركين ومن شركهم. ولو كان قوله «بريء من المشركين» يوجب أنه ما خلق شركهم للزم القدرية إذ قال إنه {وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}
فقد خلق ايمانهم. فلمّا لم يكن هذا عندهم هكذا بطل ما قالوه».
وننتهي من هذا كله إلى ما سبق أن قررناه من أن المجاز صار سلاحا للتأويل لرفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة، وبينها وبين أدلّة العقل من جهة أخرى. ولم يفلح المعتزلة دائما في رفع هذا التناقض وذلك لمحاولتهم في أغلب الأحيان لي عنق النص القرآني واخراجه عن سياقه وذلك ليتحول إلى دلالة عقلية نظرية.(1/239)
خاتمة
انتهينا في التمهيد إلى أن الفكر الاعتزالي لم ينشأ مستقلا عن الظروف الاجتماعية للمجتمع الاسلامي، وكان القول بالاختيار محاولة للوقوف ضد النزعة الجبرية التي تستر وراءها النظام الأموي لتكريس استغلاله لجماهير المسلمين. وقد حاول الحسن البصري التخفيف من الصياغة المسيحية لمبدأ الاختيار، فاكتفى بنفي اسناد المعاصي إلى الله وأثبت مسئولية الانسان عنها. وانتهينا إلى أن الخلاف حول مرتكب الكبيرة لم يكن مجرد خلاف فقهي، بل كان خلافا يجسّد مواقف سياسية متباينة. وكان قول المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين محاولة لرأب صدع الخلاف بين الفرق المختلفة، وخلق جبهة موحدة ضد النظام الأموي، وكان من نتيجة ذلك أن آراء الفرق تقاربت في كثير من القضايا، واستطاع واصل بن عطاء أن يوحّد بين المعتزلة والشيعة الزيدية توحيدا يكاد يكون تاما.
غير أن المعتزلة شغلتهم إلى جانب ذلك مهمة الدفاع عن الاسلام ضد مهاجميه من أبناء الأديان الأخرى، وكان عليهم من ثمّ أن ينظموا وسائلهم الاستدلالية لاقامة أفكارهم على أساس معرفي مكين. وكان الاعلاء من شأن العقل هو وسيلتهم لتحقيق الغايتين معا، إلى جانب ما يؤدي إليه هذا الاعلاء من التسوية بين البشر، وإلى عدم التفرقة بينهم على أساس الجنس أو الثروة. وإذا كان القرآن نفسه قد أعلى من شأن العقل والفكر، فقد كان للمعتزلة الفضل الأكبر في الانطلاق من هذا الأساس إلى آفاق أرحب، حيث انتهوا إلى أن العقل هبة من الله وهبها جميع البشر دون تمييز، وجعلوه أساسا للتكليف ومقدمة ضرورية له. والعقل عند المعتزلة هو مجموعة من العلوم الضرورية التي يخلقها الله في المكلّف، وهي علوم لا ينفكّ عنها الانسان ولا يشك في متعلقها. هذه العلوم الضرورية هي الأساس الذي يستطيع الانسان به الوصول إلى المعرفة، وذلك عن طريق التفكير والنظر في الادلّة. وحين قارن المعتزلة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية انتهوا إلى
اثبات المعرفة الحسية إذا كانت تؤدي إلى سكون النفس إلى ما تتناوله من المدركات. وقامت هذه النظرة عندهم على أساس أن الادراك عملية محايدة من جانب المدرك لا تؤثر فيما يدركه سلبا أو ايجابا. أمّا المعرفة العقلية فهي تلك التي تتم عن طريق النظر في الأدلّة نظرا صحيحا. وبهذا النظر يستطيع الانسان الانتقال من العقل الفطري العلوم الضرورية إلى العلوم النظرية، وهي المعرفة.(1/241)
غير أن المعتزلة شغلتهم إلى جانب ذلك مهمة الدفاع عن الاسلام ضد مهاجميه من أبناء الأديان الأخرى، وكان عليهم من ثمّ أن ينظموا وسائلهم الاستدلالية لاقامة أفكارهم على أساس معرفي مكين. وكان الاعلاء من شأن العقل هو وسيلتهم لتحقيق الغايتين معا، إلى جانب ما يؤدي إليه هذا الاعلاء من التسوية بين البشر، وإلى عدم التفرقة بينهم على أساس الجنس أو الثروة. وإذا كان القرآن نفسه قد أعلى من شأن العقل والفكر، فقد كان للمعتزلة الفضل الأكبر في الانطلاق من هذا الأساس إلى آفاق أرحب، حيث انتهوا إلى أن العقل هبة من الله وهبها جميع البشر دون تمييز، وجعلوه أساسا للتكليف ومقدمة ضرورية له. والعقل عند المعتزلة هو مجموعة من العلوم الضرورية التي يخلقها الله في المكلّف، وهي علوم لا ينفكّ عنها الانسان ولا يشك في متعلقها. هذه العلوم الضرورية هي الأساس الذي يستطيع الانسان به الوصول إلى المعرفة، وذلك عن طريق التفكير والنظر في الادلّة. وحين قارن المعتزلة بين المعرفة الحسية والمعرفة العقلية انتهوا إلى
اثبات المعرفة الحسية إذا كانت تؤدي إلى سكون النفس إلى ما تتناوله من المدركات. وقامت هذه النظرة عندهم على أساس أن الادراك عملية محايدة من جانب المدرك لا تؤثر فيما يدركه سلبا أو ايجابا. أمّا المعرفة العقلية فهي تلك التي تتم عن طريق النظر في الأدلّة نظرا صحيحا. وبهذا النظر يستطيع الانسان الانتقال من العقل الفطري العلوم الضرورية إلى العلوم النظرية، وهي المعرفة.
ولقد كان من الطبيعي أن تتحدد وظيفة المعرفة عند المعتزلة بأنها معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل، ثم معرفة أوامره ونواهيه، وذلك حتى يستطيع أداء ما كلفه الله به من الأعمال التي تؤدّي به إلى الثواب، وتنجيه من العقاب. ونتيجة لذلك انقسمت الأدلّة عندهم إلى أنواع ثلاثة، يؤدي كل نوع منها إلى مرحلة من مراحل المعرفة الدينية. فالنوع الأول من الأدلّة هو الذي يدلّ بالوجوب، وذلك كدلالة الفعل على الفاعل. وهذا النوع من الأدلّة هو الذي يؤدي إلى التوحيد.
والنوع الثاني من الأدلّة هو الذي يدلّ بالدواعي والاختيار، وهذا النوع هو الذي يؤدّي إلى معرفة أفعال الله، ويؤدي بنا إلى معرفة عدله. والنوع الثالث من الأدلّة هو الذي يدلّ بالمواضعة والقصد، وذلك كدلالة الكلام على ما يدل عليه. وهذا النوع يؤدّي بنا إلى معرفة كلام الله وأوامره ونواهيه.
ولقد انتهى المعتزلة إلى أن هذه الأنواع الثلاثة يترتب بعضها على بعض ترتب النتيجة على المقدمة، بمعنى أن كلام الله لا يقع دلالة إلّا بعد معرفة صفاته من التوحيد والعدل.
ولقد كان من الطبيعي أن يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في ترتيبهم أدلّة الشرع على أدلّة العقل. ومن ثمّ اعتبروا كلام الله دالّا بمفرده على ما يدل عليه.
وقد انعكس هذا الخلاف بدوره على شروط الدلالة اللغوية، حيث اشترط المعتزلة إلى جانب المواضعة معرفة قصد المتكلم وحاله لوقوع كلامه دلالة.
وهذا شرط لم يشر له الأشاعرة من قريب أو من بعيد. وإذا كان المعتزلة والأشاعرة قد اتفقوا على أن المواضعة شرط لدلالة الكلام فقد اختلفوا في أصل المواضعة على اللغة، هل هي توقيف من الله أم اصطلاح؟ وكان هذا الخلاف بدوره امتدادا لخلافهم حول قدم القرآن وحدوثه. فقول الأشاعرة بقدم القرآن أدّى بهم إلى أن المواضعة أصلها التوقيف من الله، وذلك لاعتبارهم الكلام صفة ذاتية قديمة. وعلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة تأسيسا على أن الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات. ومن جهة أخرى فقد ربط المعتزلة بين المواضعة والاشارة الحسية، وهي إشارة لا تجوز على الله، ولذلك ذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية
اصطلاح وليست توقيفا. ولقد حدّد القاضي عبد الجبار الغاية من المواضعة اللغوية بأنها الإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس أو الإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحس أصلا. وهي بذلك تعدّ بديلا للاشارة الحسية. وحين قارن بين المواضعة على الكلام، والمواضعة على الحركات أو الاشارات، انتهى إلى أن البشر تواضعوا على الكلام الأصوات لأنها أكثر اتساعا للتعبير عن حاجات الناس دون الحركات والاشارات.(1/242)
وهذا شرط لم يشر له الأشاعرة من قريب أو من بعيد. وإذا كان المعتزلة والأشاعرة قد اتفقوا على أن المواضعة شرط لدلالة الكلام فقد اختلفوا في أصل المواضعة على اللغة، هل هي توقيف من الله أم اصطلاح؟ وكان هذا الخلاف بدوره امتدادا لخلافهم حول قدم القرآن وحدوثه. فقول الأشاعرة بقدم القرآن أدّى بهم إلى أن المواضعة أصلها التوقيف من الله، وذلك لاعتبارهم الكلام صفة ذاتية قديمة. وعلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة تأسيسا على أن الكلام صفة من صفات الفعل لا من صفات الذات. ومن جهة أخرى فقد ربط المعتزلة بين المواضعة والاشارة الحسية، وهي إشارة لا تجوز على الله، ولذلك ذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية
اصطلاح وليست توقيفا. ولقد حدّد القاضي عبد الجبار الغاية من المواضعة اللغوية بأنها الإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس أو الإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحس أصلا. وهي بذلك تعدّ بديلا للاشارة الحسية. وحين قارن بين المواضعة على الكلام، والمواضعة على الحركات أو الاشارات، انتهى إلى أن البشر تواضعوا على الكلام الأصوات لأنها أكثر اتساعا للتعبير عن حاجات الناس دون الحركات والاشارات.
وانتهى القاضي إلى أن المواضعة على الأسماء مجرد مواضعة عرفية، بمعنى أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة إشارية بحتة، والجماعة بقصدها هي التي تقيم هذه العلاقة، وهي العلاقة التي نشير إليها اليوم باسم المعنى. وحين انتقل القاضي إلى اللغة على مستوى التركيب ربط بين قصد المتكلم والمعنى الذي يدل عليه كلامه. وكان هذا الربط نتيجة طبيعة لدوران هذه المباحث كلها في اطار الفكر الديني، الذي يسعى إلى معرفة الله بتوحيده وعدله وقصده من كلامه. وإذا كانت معرفة قصد المتكلم شرطا أساسيا لمعرفة ما يدل عليه كلامه، فلا مانع والحالة هذه من وقوع الاشتراك والاتساع والمجاز في الكلام. فذلك كله لن يؤدّي لاستغلاق معنى الكلام، لأن معرفتنا بقصد المتكلم وحاله تجعلنا قادرين على فهم ما يريد التعبير عنه. وكان هذا كله دفاعا عن وجود المجاز في القرآن كلام الله ونفي صفة الكذب عنه.
ولقد تحدّد مفهوم المجاز نفسه باعتباره قسيما للحقيقة على يد المعتزلة ابتداء من الجاحظ. ولا شك أنهم قد استفادوا من جهود المفسّرين واللغويين حول النص القرآني. وإذا كان المصطلح نفسه لم يرد في القرآن، لا بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي، فقد كان مصطلح «المثل» هو المصطلح البديل في مرحلة نشأة التفسير الذي ارتبط بالخلاف حول تأويل النص القرآني بين الفرق المختلفة. وكان ورود هذا المصطلح بكثرة في القرآن بمثابة اعطاء شرعية له ليستخدم في الدلالة على عدم إرادة المعنى الحرفي للفظ أو العبارة. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحددت عناصر المجاز وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها. ولم ينفصل هذا التحديد عن الغاية التأويلية للنص القرآني. ومما له دلالته في هذا الصدد أن أول كتاب اتخذ «المجاز» عنوانا له، هو كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة الخارجي. وهو كتاب يتعرّض لتأويل آيات كثيرة تأويلا يتفق في عمومه مع معطيات الفكر الاعتزالي، خصوصا أفكار التوحيد والتنزيه التي التقى فيها الخوارج مع
المعتزلة. وإذا كان أبو عبيدة قد استخدم مصطلح «المجاز» بمعنى عام جدا يشمل كل تغير في الاسلوب، فإن معاصره الفراء وله ميول اعتزالية واضحة كان أكثر تحديدا في استخدام المصطلح، وذلك رغم مدخله النحوي عموما، ورغم أنه لم يستخدم كلمة «مجاز» واستخدم منها صيغة الفعل «تجوز». ورغم التداخل بين المصطلحات في مؤلفات الجاحظ، فإنه يعدّ أول من حدد مفهوم المجاز باعتباره قسيما للحقيقة، وأدخل في عناصره التشبيه والمثل والاستعارة والكناية والحذف.(1/243)
ولقد تحدّد مفهوم المجاز نفسه باعتباره قسيما للحقيقة على يد المعتزلة ابتداء من الجاحظ. ولا شك أنهم قد استفادوا من جهود المفسّرين واللغويين حول النص القرآني. وإذا كان المصطلح نفسه لم يرد في القرآن، لا بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي، فقد كان مصطلح «المثل» هو المصطلح البديل في مرحلة نشأة التفسير الذي ارتبط بالخلاف حول تأويل النص القرآني بين الفرق المختلفة. وكان ورود هذا المصطلح بكثرة في القرآن بمثابة اعطاء شرعية له ليستخدم في الدلالة على عدم إرادة المعنى الحرفي للفظ أو العبارة. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحددت عناصر المجاز وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها. ولم ينفصل هذا التحديد عن الغاية التأويلية للنص القرآني. ومما له دلالته في هذا الصدد أن أول كتاب اتخذ «المجاز» عنوانا له، هو كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة الخارجي. وهو كتاب يتعرّض لتأويل آيات كثيرة تأويلا يتفق في عمومه مع معطيات الفكر الاعتزالي، خصوصا أفكار التوحيد والتنزيه التي التقى فيها الخوارج مع
المعتزلة. وإذا كان أبو عبيدة قد استخدم مصطلح «المجاز» بمعنى عام جدا يشمل كل تغير في الاسلوب، فإن معاصره الفراء وله ميول اعتزالية واضحة كان أكثر تحديدا في استخدام المصطلح، وذلك رغم مدخله النحوي عموما، ورغم أنه لم يستخدم كلمة «مجاز» واستخدم منها صيغة الفعل «تجوز». ورغم التداخل بين المصطلحات في مؤلفات الجاحظ، فإنه يعدّ أول من حدد مفهوم المجاز باعتباره قسيما للحقيقة، وأدخل في عناصره التشبيه والمثل والاستعارة والكناية والحذف.
واستطاع الرماني أن يبلور كثيرا من جوانب التأثير النفسي الذي تحدثه العبارة المجازية، تلك الآثار التي تعجز العبارة الحقيقية عن التعبير عنها. وتفرّد الرماني بالتركيز على جانب التأثير النفسي للتعبير المجازي يعدّ نتيجة طبيعية لانشغاله بالبحث عن أوجه الاعجاز في القرآن، وعدم انشغاله بالغايات التأويلية والدفاعية التي انشغل بها سابقوه. غير أن الرماني وهو معتزلي لم يكن بعيدا تماما عن الغاية التأويلية، ولكنها جاءت هامشية في كتابه، ولم يضع فيها جهده كله.
ولم ينفصل البحث في المجاز عند القاضي عبد الجبار عن تصوره لطبيعة اللغة وشروط دلالتها. ولقد انتهى إلى جواز وقوع المجاز في الاسم المفرد وفي التركيب معا. غير أنه اشترط في الاسم المفرد أن يكون له حقيقة أولا قبل نقله من معناه الحقيقي لمعنى مجازي، كما اشترط وجود مشابهة بين المعنى المنقول إليه اللفظ، والمعنى المنقول عنه.
وعلى مستوى التركيب أجاز وقوع المجاز في الكلام، ما دامت معرفة قصد المتكلم ستؤدي بنا إلى معرفة مراده. وفي هذا الصدد فرق القاضي بين المتكلم في الشاهد، والمتكلم في الغائب وهو الله وذهب إلى أن معرفتنا بقصد المتكلم في الشاهد هي معرفة اضطرار. وعلى عكس ذلك معرفتنا بقصد الله فهي معرفة نظرية استدلالية. وإذا كانت معرفتنا بعدل الله وهي قصده في أفعاله عموما معرفة عقلية لا تستند إلى الشرع، فإن معرفتنا بكلامه والكلام فعل من أفعاله لا تتم إلّا بعد معرفة قصده. فإذا ورد في كلامه ما يوهم التناقض مع معرفتنا العقلية بقصده، كان ذلك مجازا. وهكذا يصبح المجاز وسيلة لرفع التناقض الظاهري بين كلام الله، وبين معرفتنا العقلية بعدله وتوحيده. أو بمعنى آخر يصبح المجاز وسيلة للتأويل وأداة رئيسية له. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.
ولقد وجد المعتزلة في تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه وسيلة دينية شرعية للتأويل، رغم أنهم أخضعوا دلالة القرآن كله للدليل العقلي. وكان من الطبيعي أن
تكون الآيات التي تسند وجهة نظرهم وأفكارهم العقلية محكمة، وأن تكون تلك التي يستدل بها خصومهم متشابهة في حاجة للتأويل. وسلك خصوم المعتزلة نفس مسلكهم. وكان القول بالمجاز عند كليهما وسيلة للتأويل واخراج النص عن ظاهره. وحين يعجز المعتزلة عن تأويل النص استنادا إلى تركيبه اللغوي، يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي. وكلا الدليلين عندهم سواء في تأويل النص القرآني. وقد اتضح ذلك كله في تأويل الآيات التي تتصل بقضيتي رؤية الله وخلق الأفعال، وهما القضيتان اللتان أخذناهما كمثالين للتدليل على العلاقة الوثيقة بين مفهوم المجاز والتأويل من ناحية، وبين قضايا الفكر الاعتزالي من ناحية أخرى.(1/244)
ولقد وجد المعتزلة في تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه وسيلة دينية شرعية للتأويل، رغم أنهم أخضعوا دلالة القرآن كله للدليل العقلي. وكان من الطبيعي أن
تكون الآيات التي تسند وجهة نظرهم وأفكارهم العقلية محكمة، وأن تكون تلك التي يستدل بها خصومهم متشابهة في حاجة للتأويل. وسلك خصوم المعتزلة نفس مسلكهم. وكان القول بالمجاز عند كليهما وسيلة للتأويل واخراج النص عن ظاهره. وحين يعجز المعتزلة عن تأويل النص استنادا إلى تركيبه اللغوي، يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي. وكلا الدليلين عندهم سواء في تأويل النص القرآني. وقد اتضح ذلك كله في تأويل الآيات التي تتصل بقضيتي رؤية الله وخلق الأفعال، وهما القضيتان اللتان أخذناهما كمثالين للتدليل على العلاقة الوثيقة بين مفهوم المجاز والتأويل من ناحية، وبين قضايا الفكر الاعتزالي من ناحية أخرى.
وكان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في قضية رؤية الله امتدادا لخلافهم حول قضايا التوحيد ونفي الصفات عن الله. وقد نفى المعتزلة نفيا قاطعا أن يرى الله، على أساس أن الرؤية إنما تجوز على الاجساد المتحيزة في المكان والقائمة في جهة. واستندوا في التدليل على صحة رأيهم بآيات من القرآن أهمها قوله تعالى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} واعتبروها آيات محكمات تدل بظاهرها.
أمّا تلك الآيات التي لا تتفق مع وجهة نظرهم فقد اعتبروها متشابهات في حاجة للتأويل. وكان «المجاز» هو سلاحهم الرئيسي في عملية تأويل هذه الآيات. وهو سلاح يشمل العبارة واللفظ، والحروف أيضا إن احتاج الأمر. والهدف النهائي عند المعتزلة هو نفي مشابهة الله للبشر وتأكيد وحدانيته المطلقة وتفرّده الكامل. وفي سبيل هذا الهدف لا بأس من اخراج النص عن ظاهره بادعاء المجاز فيه.
أمّا قضية خلق الأفعال فهي أساس مبدأ العدل، ذلك المبدأ الذي يسعى لنفي فعل القبيح أو إرادة فعله عن الله، ومن ثم يسعى لتأكيد قيام الفعل الانساني على الاختيار والحرية، لا على الضرورة والاضطرار. وإذا كان الأشاعرة قد ذهبوا إلى اطلاق الارادة الالهية لتشمل كل المرادات، ومنها كفر الكافر، وكذب الكاذب، فإن المعتزلة ميّزوا بين ما يريده الله من فعل نفسه، وبين ما يريده من فعل غيره. وذهبوا إلى أن إرادة الله للفعل الانساني إنما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الالجاء. وحين انتقل المعتزلة للاستدلال على أفكارهم تلك بالقرآن الكريم، نازعهم خصومهم في صحة استدلالهم. ومن ناحية أخرى أوردوا عليهم أدلة أخرى تتناقض مع مسلماتهم العقلية.
وكان القول بالمجاز هو الأداة الرئيسية للتأويل. وحين يعجز التحليل اللغوي عن بيان وجه التجاوز في العبارة، يعتصم المعتزلة بالقرينة العقلية، التي اعتبروها أشدّ دلالة من القرينة اللفظية المتصلة بالكلام.(1/245)
وأيّا كان تقويمنا لجهود المعتزلة، فالذي لا شك فيه أنهم حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب، وبين النصوص المتعارضة ظاهريا في القرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز لخدمة هذه المهمة انجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات، وعلى المتخصصين فيها في تراثنا العربي. ولعلّ هذه الدراسة أن تكون تمهيدا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها.
أهم المصادر والمراجع مصادر البحث(1/246)
أهم المصادر والمراجع مصادر البحث
ابن جني (أبو الفتح عثمان)
الخصائص. الجزء الأول. مطبعة الهلال بالفجالة. مصر.
1331 - هـ 1913م
ابن خلدون
المقدمة. كتاب التحرير. 1386هـ 1966م
ابن فارس (أبو الحسين أحمد)
الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها. تحقيق: مصطفى الشويمي.
مؤسسة أ. بدران للطباعة والنشر. بيروت. 1383هـ 1964م
ابن قتيبة (أبو عبد الله محمد بن مسلم)
تأويل مختلف الحديث. مطبعة كردستان العلمية. مصر. 1326هـ
تأويل مشكل القرآن. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار التراث القاهرة. ط الثانية.
1973 - م
ابن القيم الجوزية
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. تصحيح: زكريا علي يوسف. مطبعة الامام. مصر. 1380هـ
ابن متويه (الحسن النجراني)
التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض. تحقيق: سامي نصر لطف، فيصل عون.
دار الثقافة للطباعة والنشر. القاهرة. 1975م
ابن المنير (أحمد بن محمد الاسكندري المالكي)
الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. بهامش الكشاف للزمخشري.
الأشعري (أبو الحسن)(1/247)
كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع. نشر وتصحيح الأب ريتشارد يوسف مكارثي. المطبعة الكاثوليكية. بيروت 1952م
مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
مكتبة النهضة المصرية. 1970م
أبو عبيدة (معمر بن المثنى)
مجاز القرآن. تحقيق: محمد فؤاد سركين. مكتبة الخانجي. ط الثانية.
القاهرة 1970م
الباقلاني (القاضي أبو بكر محمد بن الطيب)
الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. تحقيق: السيد عزت عطار الحسيني. تعليق وتقديم: محمد زاهد الكوثري. مكتب نشر الثقافة الحديثة. مصر. 1950م
التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة.
تحقيق: محمود محمد الخضيري، محمد عبد الهادي أبو ريده. دار الفكر العربي. القاهرة. 1947م
البغدادي (أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي)
أصول الدين. مدرسة الالهيات. بدار الفنون التركية. استانبول.
1928 - م
الفرق بين الفرق: تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. مكتبة محمد علي صبيح. بدون تاريخ
الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر)
البخلاء. تحقيق: طه الحاجري. دار المعارف. مصر. 1958م
البيان والتبيين. تحقيق: حسن السندوبي. المكتبة التجارية. ط الثانية.
القاهرة. 1932م
الحيوان. تحقيق: عبد السلام هارون. مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
ط الأولى. القاهرة. 1943م
رسائل الجاحظ. تحقيق عبد السلام هارون. مكتبة الخانجي. مصر.
1385 - هـ 1965م
العثمانية. تحقيق: عبد السلام هارون. دار الكاتب العربي. مصر.
1955 - م(1/248)
الحارث المحاسبي
العقل، فهم القرآن. تحقيق: حسين القوتلي. دار الفكر. بيروت.
1971 - م
الحسن البصري
رسالة في القدر، ضمن رسائل العدل والتوحيد. تحقيق: محمد عمارة. دار الهلال. 1971م
الخوارزمي (محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب)
مفاتيح العلوم. ادارة الطباعة المنيرية. مصر. 1342هـ الخياط (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان)
الانتصار في الرد على ابن الراوندي. تحقيق: نيبرج. المطبعة الكاثوليكية.
بيروت. 1957م
الداودي (الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد)
طبقات المفسرين. تحقيق: علي محمد عمر. مكتبة وهبة. القاهرة 1972م
الرماني (أبو الحسن علي بن عيسى)
النكت في اعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في اعجاز القرآن. تحقيق:
محمد خلف الله أحمد، محمد زغلول سلام. دار المعارف ط الثانية. مصر.
1968 - م
الزمخشري (أبو القاسم جار الله محمود بن عمر)
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. ط الثالثة. 1966م
السيوطي (عبد الرحمن جلال الدين)
الاتقان في علوم القرآن. مصطفى البابي الحلبي. ط الثالثة. القاهرة.
1370 - هـ 1951م
المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، محمد أحمد جاد المولى. عيسى البابي الحلبي بدون تاريخ.
الشريف الجرجاني (أبو الحسن علي بن محمد بن علي)
التعريفات. الدار التونسية للنشر. تونس. 1971م
الشريف المرتضى (علي بن الحسين).
الآمالي. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الكاتب العربي بيروت.(1/249)
الشهرستاني (أبو الفتح محمد بن عبد الكريم)
الملل والنحل. تحقيق: محمد سيد الكيلاني. مصطفى البابي الحلبي.
القاهرة. 1967م
الطبري (محمد بن جرير)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق محمود محمد شاكر. دار المعارف. القاهرة. 1971م
عبد الجبار (القاضي أبو الحسن الأسدآبادي)
تنزيه القرآن عن المطاعن. دار النهضة الحديثة. بيروت.
بدون تاريخ
شرح الأصول الخمسة. تعليق: الامام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم.
تحقيق: عبد الكريم عثمان. مكتبة وهبة. ط الأولى. القاهرة. 1966م
فرق وطبقات المعتزلة. تحقيق: علي سامي النشار، عصام الدين محمد علي. دار المطبوعات بالجامعة. الاسكندرية.
1972 - م
متشابه القرآن. تحقيق: عدنان محمد زرزور. دار التراث. القاهرة.
1966 - م
المغني في أبواب التوحيد والعدل. حقق بإشراف طه حسين وإبراهيم.
مدكور. وزارة الثقافة والارشاد القومي. مصر. 19651960م
الجزء الرابع: رؤية الباري. تحقيق: محمد مصطفى حلمي، أبو الوفا الغنيمي التفتازاني. يونية 1965م
الجزء الخامس: الفرق غير الاسلامية. تحقيق: محمود محمد الخضيري.
يونيه 1965م.
الجزء السادس: (القسم الأول): التعديل والتجوير. تحقيق: أحمد فؤاد الأهواني. 1382هـ 1962م
الجزء السادس (القسم الثاني): الارادة. تحقيق: الأب ج. ش قنواني.
بدون تاريخ
الجزء السابع: خلق القرآن. تحقيق إبراهيم الابياري 1961م
الجزء الثامن: المخلوق. تحقيق: توفيق الطويل، وسعيد زائد.
بدون تاريخ(1/250)
الجزء التاسع: التوليد. تحقيق: توفيق الطويل، وسعيد زائد
1964 - م
الجزء الحادي عشر: التكليف. تحقيق محمد علي النجار، وعبد الحليم النجار 1385هـ 1965م
الجزء الثاني عشر: النظر والمعارف. تحقيق: إبراهيم مدكور
1962 - م
الجزء الثالث عشر: اللطف. تحقيق: أبو العلاء عفيفي.
1382 - هـ 1962م
الجزء الرابع عشر: الأصلح استحقاق الذم التوبة. تحقيق: مصطفى السقا. 1385هـ 1965م
الجزء الخامس عشر: التنبؤات والمعجزات. تحقيق: محمود الخضيري، محمود قاسم. 1385هـ 1965م
الجزء السادس عشر: اعجاز القرآن. تحقيق: أمين الخولي.
1380 - هـ 1960م
الجزء السابع عشر: الشرعيات. تحقيق: أمين الخولي. 1962م
الفراء
معاني القرآن. ثلاثة أجزاء
الجزء الأول: تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار دار الكتب المصرية. 1955م
الجزء الثاني: تحقيق: محمد علي النجار. الدار المصرية للتأليف والترجمة. القاهرة. 1966م
الجزء الثالث: تحقيق: عبد الفتاح اسماعيل شلبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1973م
القاسم الرس (الامام القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل)
كتاب أصول التوحيد والعدل، ضمن رسائل العدل والتوحيد. تحقيق محمد عمارة. دار الهلال. 1971م
كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبه عن الله الواحد الحميد، ضمن رسائل العدل والتوحيد.
الكرماني (الداعي أحمد حميد الدين)(1/251)
راحة العقل. تحقيق: محمد كامل حسين، محمد مصطفى حلمي. دار الفكر العربي. القاهرة. 1952م
مقاتل بن سليمان
الأشباه والنظائر في القرآن الكريم. دراسة وتحقيق: عبد الله محمود شحاتة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1975م
الميداني
مجمع الأمثال. الجزء الأول. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
مطبعة السنة المحمدية. القاهرة 1955م
النيسابوري (أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي)
أسباب النزول. مصطفى البابي الحلبي. ط الثانية. القاهرة
1387 - هـ 1968م
يحيي بن الحسين
المحكم والمتشابه، ضمن رسائل العدل والتوحيد. تحقيق: محمد عمارة.
مراجع عربية وأجنبية
أحمد أمين: ضحى الاسلام. مكتبة النهضة المصرية. ط 7. القاهرة.
1964 - م
أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة ط 1مصطفى البابي الحلبي
1369 - هـ 1950م
أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ. ترجمة اسماعيل البيطار. دار الكتاب اللبناني. بيروت 1972م
جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي. دار الثقافة للطباعة والنشر. القاهرة. 1974م
جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام. ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين. دار الكاتب المصري. القاهرة. 1946م
العناصر الأفلاطونية المحدثة والغنوصية في الحديث ضمن التراث اليوناني في الحضارة العربية ط 2القاهرة. 1965م
مذاهب التفسير الاسلامي. ترجمة محمد عبد الحليم النجار.(1/252)
مطبعة الخانجي. القاهرة. 1955م
حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي. مكتبة النهضة المصرية ط 7 القاهرة. 1964م
خالد العلي: جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الاسلامي. المكتبة الأهلية بغداد
1965 - م
دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة 1938م
زهدي جار الله: المعتزلة. مطبعة مصر. القاهرة. 1366هـ 1947م
ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة. ترجمة كمال بشر. الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. 1962م
س بينيس: مذهب الذرة عند علماء المسلمين. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده. مكتبة النهضة المصرية. 1946م
شوقي ضيف: البلاغة تطور وتاريخ دار المعارف. ط 19652م
المدارس النحوية. دار المعارف. ط 19722م
عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول. مكتبة الانجلو المصرية 1973م
علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف. مكتبة الحسين التجارية ط 1
1949 - م
فلهوزن: تاريخ الدولة العربية. ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. 1958م
محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي. دار المعارف ط 3
1968 - م
محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيار النظّام وآراؤه الكلامية. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. 1946م
محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد (المقدمة) دار الهلال. القاهرة
1971 - م
محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الانسانية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت. 1972م(1/253)
محمد يوسف موسى: القرآن والفلسفة. دار المعارف ط 3القاهرة 1958م
محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام. مؤسسة روز اليوسف القاهرة
1973 - م
مصطفى ناصف: الصورة الأدبية. مكتبة مصر. القاهرة. 1958م
ناجي حسن: ثورة زيد بن علي. مكتبة النهضة. بغداد 1386هـ 1966م
نللينو: بحوث في المعتزلة «ضمن التراث اليوناني في الحضارة العربية ترجمة عبد الرحمن بدوي.
: 9691.
:. ... 2691.
. .:.،. 1791.(1/254)
هوامش الكتاب
تمهيد: الاطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي
(1) انظر على سبيل المثال نللينو: بحوث في المعتزلة، في (التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية) ص 202، 203.
أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ ص 67،
دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام / 4948
زهدي جار الله: المعتزلة ص 2، 36، 75
(2) انظر: محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الانسانية / 2417.
(3) الخياط: الانتصار 1413
(4) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 123
(5) مقالات الاسلاميين 1/ 4947
(6) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 357
(7) المرجع السابق 1/ 358357
(8) انظر المرجع السابق 1/ 354وما بعدها، طه حسين: الفتنة الكبرى 1/ 185180.
(9) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 358357
(10) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 360نقلا عن الطبري.
(11) راجع فلهوزن: تاريخ الدولة العربية 5251
(12) أحمد أمين: فجر الاسلام 1/ 333وما بعدها.
(13) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث 43
(14) المرجع السابق 193
(15) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 279278، وانظر جولد تسيهر:
العقيدة والشريعة في الاسلام / 7170.
(16) الأشعري «مقالات الاسلاميين» 1/ 204.
(17) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 172.
(18) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 388.
(19) الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 225.
(20) المرجع السابق 1/ 234225.
(21) انظر جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 7877.(1/255)
(22) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 389.
(23) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 76.
(24) المرجع السابق / 84، وانظر أيضا زهدي جاد الله: المعتزلة / 23وما بعدها.
(25) فلهوزن: تاريخ الدولة العربية / 6867.
(26) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 86.
(27) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 30، انظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق / 1918.
(28) انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 419، أيضا مقالات الاسلاميين:
المقدمة / 1110.
(29) خالد العلي: جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الاسلامي / 49.
(30) البغدادي: الفرق بين الفرق / 19.
(31) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 87نقلا عن ابن قتيبة: الإمامة والسياسة.
(32) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 143.
(33) البغدادي: الفرق بين الفرق / 202.
(34) الملل والنحل 1/ 139.
(35) محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام / 53.
(36) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 333.
(37) فلهوزن: تاريخ الدولة العربية / 67.
(38) محمد عمارة: المعتزلة ومشكلة الحرية الانسانية / 28، 29.
(39) الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 338.
(40) البغدادي: الفرق بين الفرق / 212211، وانظر أيضا الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 8786.
(41) الأشعري: مقالات الاسلاميين: 1/ 338، انظر الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 87.
(42) المقالات 1/ 338.
(43) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 333
(44) المرجع السابق 1/ 359358نقلا عن الطبري.
(45) السابق: نفس الصفحة.
(46) البغدادي: الفرق بين الفرق 234233، وانظر المقالات 1/ 86، الملل والنحل 1/ 174.
(47) الفرق بين الفرق / 235.
(48) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 192.
(49) المرجع السابق / 205.
(50) المقدمة / 375.
(51) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 383382نقلا عن ابن الأثير.
(52) انظر حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 404403.
(53) جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام / 176.(1/256)
(54) الأشعري: المقالات 1/ 91.
(55) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 150.
(56) الأشعري: المقالات 1/ 137136.
(57) انظر فلهوزن: الدولة العربية / 196.
(58) المرتضى: الأمالي 1/ 161. وانظر أيضا أقوالا مشابهة للحسن: الجاحظ: الحيوان 1/ 225، 5/ 100.
(59) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي 1/ 292.
(60) انظر على سبيل المثال: المرتضى: الأمالي: 1/ 151150.
(61) السابق: نفس الصفحة، وانظر أيضا: القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 24.
(62) السابق 1/ 152.
(63) الأمالي 1/ 161.
(64) السابق 1/ 154.
(65) السابق 1/ 159.
(66) الأمالي 1/ 162.
(67) السابق 1/ 153.
(68) الأمالي 1/ 153.
(69) المعارف / 153.
(70) الملل والنحل 1/ 47. ويلاحظ أن واصلا ولد عام 80هـ، ولا يتفق هذا مع أن الرسالة موجهة لعبد الملك بن مروان (8665هـ).
(71) محمدة عمارة: رسائل العدل والتوحيد 1/ 82.
(72) نفس المصدر 1/ 83.
(73) نفس المصدر 1/ 88.
(74) بحوث في المعتزلة / 181.
(75) الانتصار / 119118وانظر أيضا الأمالي 1/ 169165مناقشة بين واصل وعمرو بن عبيد تؤكد الفكرة التي نذهب إليها.
(76) 2/ 167.
(77) الخياط: الانتصار / 73.
(78) الخياط: الانتصار / 7473.
(79) السابق / 74.
(80) راجع رأي المرجئة مفصلا في المقالات 1/ 230229.
(81) انظر الشريف المرتضى: الأمالي 1/ 169165، القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 5150.
(82) الخياط: الانتصار / 119.
(83) ناجي حسن: ثورة زيد بن علي / 148.
(84) الملل والنحل 1/ 155154.
(85) السابق 1/ 156.(1/257)
(86) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 29.
(87) السابق / 17.
(88) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة 18، 31.
(89) السابق / 32.
(90) راجع القصة كلها: طبقات المعتزلة / 4644. ويقول الشهرستاني عن جعفر بن محمد أنه «دخل العراق وأقام بها مدة ما تعرض للامامة قط، ولا نازع أحدا في الخلافة قط» الملل والنحل 1/ 166.
(91) الملل والنحل 1/ 155.
(92) ناجي حسين: ثورة زيد بن علي / 109.
(93) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 44.
(94) الأمالي: 1/ 175. حاول المعتزلة أحيانا احتواء بعض الخلفاء وترشيدهم دون اللجوء للسيف كما فعلوا مع يزيد بن الوليد بن عبد الملك ومحمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية.
انظر محمد اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام / 141.
(95) الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 154.
(96) المرتضى: الأمالي 1/ 169.
(97) انظر محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام / 133، 140.
(98) محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد. المقدمة / 67.
(99) المعتزلة / 64.
(100) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 32، 38.
(101) انظر المرجع السابق / 4138.
(102) انظر زهدي جار الله: المعتزلة / 26وما بعدها.
(103) انظر القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة / 4746.
(104) المرجع السابق / 44.
(105) الملل والنحل 1/ 46، وانظر أيضا محمد عبد الهادي أبو ريده: إبراهيم بن سيّار النظّام وآراؤه الكلامية / 80.
هوامش الفصل الأول: المعرفة والدلالة اللغوية
(1) راجع في هذا الصدد ما يرويه صاحب «فرق وطبقات المعتزلة» من فشل الفقهاء في التصدي لمجادلة أصحاب الأديان الأخرى، واضطرار الرشيد للاستعانة في ذلك بالمتكلمين / 63 65.
(2) المرجع السابق / 5655، وانظر البغدادي: الفرق بين الفرق / 131.
(3) انظر بحث جولد تسيهر عن هذا الحديث: العناصر الأفلاطونية المحدثة والغنوصية في الحديث / 218وما بعدها. التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية.
(4) عبد المنعم ماجد: العصر العباسي الأول 1/ 67وانظر أيضا أوليري: الفكر العربي ومركزه في التاريخ / 6160.
(5) محمود اسماعيل: الحركات السرية في الاسلام / 135.(1/258)
(6) الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 214.
(7) المرجع السابق 1/ 217.
(8) علي مصطفى الغرابي: أبو الهذيل العلاف / 90نقلا عن المقالات.
(9) البغدادي: الفرق بين الفرق / 129.
(10) ماجد فخري: دراسات في الفكر العربي / 78.
(11) الخياط: الانتصار / 28.
(12) البغدادي: الفرق بين الفرق / 138.
(13) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل 9/ 11.
(14) السابق 9/ 12.
(15) الجاحظ: الحيوان 5/ 36.
(16) البغدادي: أصول الدين / 6.
(17) الخياط: الانتصار / 4140.
(18) الحيوان 5/ 543542.
(19) الحيوان 7/ 56.
(20) السابق 1/ 42.
(21) السابق 2/ 116.
(22) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 75. وأنظر أيضا البغدادي: الفرق بين الفرق / 175.
(23) المغني في أبواب التوحيد والعدل 9/ 11.
(24) البغدادي: الفرق بين الفرق / 176175.
(25) انظر حسين القوتلي: مقدمة «العقل»، «فهم القرآن» / 107نقلا عن ابن الأثير والخطيب البغدادي.
(26) البغدادي: أصول الدين / 308.
(27) أبو الحسن الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 346.
(28) الباقلاني: الانصاف / 127.
(29) الحارث المحاسبي: العقل / 203.
(30) المرجع السابق / 205.
(31) المرجع السابق / 202201.
(32) المرجع السابق / 232.
(33) العقل / 215.
(34) السابق / 216.
(35) السابق / 207.
(36) محمد عبد الهادي أبو ريده: مقدمة كتاب «التمهيد» للباقلاني / 14.
(37) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 97.
(38) المرجع السابق 1/ 98.
(39) التمهيد / 34وانظر الانصاف / 12.
(40) المرجع السابق / 35، الانصاف / 13.(1/259)
(41) المرجع السابق / 35، الانصاف / 13.
(42) المرجع السابق / نفس الصفحة، الانصاف / نفس الصفحة.
(43) الانصاف / 13.
(44) التمهيد / 37.
(45) السابق / نفس الصفحة.
(46) السابق / نفس الصفحة.
(47) السابق / 36.
(48) الانصاف / 13.
(49) الانصاف / 14وفي التمهيد / 40هو تقسيم المستدل وفكره في المستدل عليه وتأمله له.
(50) الانصاف / 14.
(51) التمهيد / 3938.
(52) التمهيد / 39.
(53) التمهيد / 39.
(54) الانصاف / 18.
(55) انظر عبد الرحمن بدوي: في النفس. المقدمة / 2.
(56) مفاتيح العلوم / 81.
(57) الشريف الجرجاني: التعريفات / 81.
(58) الشريف الجرجاني: التعريفات / 81.
(59) الشريف الجرجاني: التعريفات / 81.
(60) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 82.
(61) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 49.
(62) الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 95.
(63) الملل والنحل 1/ 85.
(64) المغني في أبواب التوحيد والعدل 16/ 354.
(65) الملل والنحل 1/ 81.
(66) القاضي عبد الجبار: المغني 16/ 403.
(67) القاضي عبد الجبار: المغني 4/ 175174.
(68) انظر القاضي عبد الجبار: المغني 11/ 93وما بعدها.
(69) القاضي عبد الجبار: المغني 11/ 372371.
(70) المغني 11/ 372.
(71) المغني 11/ 375.
(72) المغني 11/ 380.
(73) المغني 11/ 380.
(74) المغني 13/ 230229.
(75) المغني 12/ 47.
(76) المغني 12/ 48.(1/260)
(77) المغني 12/ 48.
(78) المغني 4/ 326.
(79) المغني 12/ 16.
(80) المغني 12/ 13.
(81) المغني 12/ 58.
(82) الحيوان 1/ 207.
(83) المغني في أبواب التوحيد والعدل 11/ 383.
(84) المغني في أبواب التوحيد والعدل 11/ 384.
(85) البغدادي: أصول الدين / 24.
(86) المغني في أبواب التوحيد والعدل 11/ 375.
(87) المغني في أبواب التوحيد والعدل 11/ 484483.
(88) المغني في أبواب التوحيد والعدل 12/ 387.
(89) المغني في أبواب التوحيد والعدل 12/ 11.
(90) المغني في أبواب التوحيد والعدل 12/ 12.
(91) الحيوان 6/ 3635.
(92) المغني 12/ 401.
(93) المغني 12/ 403402.
(94) المغني 12/ 44.
(95) المغني 12/ 432431وانظر أيضا ص 433صياغة أخرى للخاطر.
(96) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 68، وانظر المغني 11/ 210.
(97) القاضي عبد الجبار: المغني 12/ 11.
(98) المغني 16/ 349وانظر أيضا نفس المصدر 15/ 152.
(99) انظر القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 6665وأنظر أيضا ماجد فخري:
دراسات في الفكر العربي / 96.
(100) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 66.
(101) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 66.
(102) القاضي عبد الجبار: المغني 8/ 215.
(103) انظر زهدي جار الله: المعتزلة / 72وما بعدها.
(104) الأشعري: المقالات 1/ 245.
(105) المغني في أبواب التوحيد والعدل 7/ 136.
(106) المغني في أبواب التوحيد والعدل 7/ 92.
(107) الباقلاني: الانصاف / 23.
(108) والقضية على أي حال طرحت في القديم من وجهة نظر فلسفية عند اليونان، وليست لدينا قرائن تؤيد أو تنفي اطلاع المفكرين المسلمين على هذا الجانب من الفكر اليوناني.
ومن وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «وقال الرب
الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها.(1/261)
ومن وجهة نظر الكتب المقدسة فالقضية مطروحة في العهد القديم بشكل يوحي أن آدم هو الذي أعطى للأشياء أسماءها. فقد جاء في سفر التكوين بعد خلق آدم «وقال الرب
الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينا نظيره. وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء. فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها.
وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية». فالعهد القديم ينسب إلى آدم تسمية الأشياء التي عرضها الرب عليه، وهي تسمية صارت لها فيما بعد، بمعنى أن آدم هو الذي وضع الأسماء دون أن يتلقى من الله تعليما مباشرا لهذه الأسماء. (الاصحاح الثاني / 2119وقد راجعت النص على الأصل العبري بمعونة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي فوجدناه مطابقا.).
(109) القاضي عبد الجبار: المغني 15/ 106.
(110) الصواعق المرسلة 2/ 244.
(111) القاضي عبد الجبار: المغني 15/ 106.
(112) القاضي عبد الجبار: المغني 15/ 106.
(113) الخصائص 1/ 43.
(114) المغني 5/ 164وانظر نفس المرجع 7/ 109.
(115) ابن جني: الخصائص 1/ 43.
(116) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 163.
(117) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 164وأنظر نفس المرجع 15/ 162.
(118) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 267.
(119) متشابه القرآن / 8483.
(120) المغني في أبواب التوحيد والعدل 5/ 169.
(121) المقالات 1/ 346.
(122) الانصاف / 36.
(123) المزهر 1/ 16.
(124) انظر الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1/ 171170.
(125) الصاحبي / 33.
(126) الصاحبي / 33.
(127) الخصائص 1/ 39.
(128) الخصائص 1/ 39.
(129) الخصائص 1/ 44.
(130) الخصائص 1/ 4645.
(131) الخصائص 1/ 45.
(132) المغني 7/ 6يرى أبو علي الجبائي أن الكلام هو الحروف لا الأصوات. راجع خلاف أبي هاشم معه نفس الجزء / 31.
(133) المغني 7/ 3.
(134) المغني 7/ 40.
(135) المغني 7/ 41.(1/262)
(136) المغني 7/ 3.
(137) اللمع / 17.
(138) التذكرة / 340.
(139) الانصاف / 94.
(140) الانصاف / 95.
(141) الانصاف / 95.
(142) القاضي عبد الجبار: المغني 7/ 17.
(143) السابق نفس الجزء / 18.
(144) السابق / نفس الجزء / 19.
(145) المغني 15/ 161.
(146) المغني 15/ 161.
(147) الحيوان 1/ 43.
(148) الحيوان 1/ 45.
(149) المغني 16/ 202، وانظر نفس المصدر 5/ 162، 15/ 160.
(150) الباقلاني: الانصاف / 53وانظر أيضا البغدادي: أصول الدين / 115114وهو يوحد أيضا بين الاسم والصفة.
(151) الأشعري: مقالات الاسلاميين 2/ 253.
(152) انظر تفسير الطبري 1/ 171170.
(153) السابق / نفس الجزء / 40.
(154) رسائل الجاحظ 1/ 262.
(155) القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن 1/ 8483.
(156) المغني 5/ 169.
(157) الكشاف 1/ 272ورد ابن المنير على الهامش.
(158) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 175174.
(159) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 172.
(160) القاضي عبد الجبار: المغني 5/ 172.
(161) المغني 15/ 162.
(162) المغني 16/ 347.
(163) المغني 15/ 163162وانظر نفس المرجع 5/ 166 «ان العلم بقصده فرع على العلم بذاته، فلا يصح أن يكون ضروريا والعلم بذاته مكتسبا».
(164) المغني 5/ 173172.
(165) المغني 15/ 323.
(166) المغني 8/ 215.
(167) المغني 15/ 325.(1/263)
هوامش الفصل الثاني: «مفهوم المجاز» نشأته وتطوره
(1) تأويل مشكل القرآن / 2120.
(2) معجم ألفاظ القرآن الكريم 2/ 612.
(3) السابق 2/ 5.
(4) راجع المعجم المفهرس 2/ 627527.
(5) راجع المعجم المفهرس 2/ 207.
(6) انظر لسان العرب «مثل» وغيره من المعاجم أيضا، القاموس وأساس البلاغة.
(7) الميداني: مجمع الأمثال 1/ 51.
(8) انظر تفسير الآية في الطبري 1/ 398وما بعدها.
(9) الطبري: التفسير 5/ 545544.
(10) الطبري 1/ 504وانظر مواضع أخرى يرد فيها نفس التفسير 3/ 487، 505، 5/ 118.
(11) السيوطي: الاتقان 1/ 142.
(12) الطبري: 6/ 198.
(13) الطبري 3/ 114وانظر رد الطبري لهذه القراءة وتفسيره للآية.
(14) الطبري 5/ 399. وراجع أمثلة أخرى كثيرة لهذا الجدل المبكر حول القرآن: محمد يوسف موسى: القرآن والفلسفة / 32وما بعدها.
(15) الطبري 5/ 397.
(16) الطبري 2/ 173172.
(17) جولد تسيهر: مذهب التفسير الاسلامي / 132، وانظر أيضا طبقات المفسرين للداودي 2/ 308307.
(18) السابق / 133.
(19) الاتقان 1/ 141.
(20) السيوطي: الاتقان 1/ 141.
(21) الأشباه والنظائر / 228226.
(22) الأشباه والنظائر. انظر على الترتيب 108، 116، 127، 139، 215، 313.
(23) السابق / 117116.
(24) الأشباه والنظائر / 181. وانظر أيضا الوجوه المختلفة لكلمة «نار» / 223.
(25) الأشعري: مقالات الاسلاميين 1/ 198، وانظر الجاحظ: البيان والتبيين 1/ 274273، الزمخشري: 2/ 294293.
(26): .. 8373.
(27) أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية / 43وانظر ايضا: شوقي ضيف:
البلاغة تطور وتاريخ / 29.
(28) أحمد مصطفى المراغي: تاريخ علوم البلاغة العربية / 49.
(29) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي / 4039نقلا عن ياقوت:
ارشاد الأريب.(1/264)
ارشاد الأريب.
(30) السيوطي: الاتقان 1/ 119.
(31) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي / 4342.
(32) مجاز القرآن 1/ 101100.
(33) السابق 1/ 47ولمزيد من الأمثلة في مجاز الحذف انظر 1/ 229، 297، 298، 386.
(34) مجاز القرآن على الترتيب 1/ 111110، 101، 171، 192، 366، 2/ 19، 64، 126، 150.
(35) مجاز القرآن 2/ 93.
(36) السابق 2/ 196، 162، 153.
(37) اللسان (جوز) وانظر القاموس ايضا.
(38) معاني القرآن 1/ 1514.
(39) معاني القرآن 2/ 363.
(40) معاني القرآن 3/ 182.
(41) السابق 2/ 385384.
(42) السابق 2/ 406.
(43) السابق 3/ 89.
(44) السابق 1/ 231.
(45) معاني القرآن 1/ 4140.
(46) السابق 1/ 229228.
(47) معاني القرآن 1/ 230.
(48) السابق 1/ 305.
(49) معاني القرآن 2/ 3534.
(50) السابق 2/ 156155.
(51) معاني القرآن 2/ 242.
(52) معاني القرآن 3/ 90.
(53) معاني القرآن 1/ 15.
(54) السابق 1/ 303، 393، 2/ 118، 135، 3/ 20، 16.
(55) معاني القرآن 2/ 273272.
(56) السابق 2/ 388.
(57). .:،. 23.
(58) محمد عبد الهادي أبو ريدة: إبراهيم بن سيار النظّام وآراؤه الكلامية / 53نقلا عن البيان والتبيين.
(59) انظر العثمانية / 230.
(60) الحيوان 4/ 76.(1/265)
(61) الحيوان 7/ 57.
(62) السابق 5/ 32وانظر أمثلة لهذه الاستخدامات 5/ 3123وانظر البيان والتبيين 3/ 2928ولم أورد هذه الأمثلة لكثرة الاستشهاد بها في الدراسات الحديثة. انظر شوقي ضيف: البلاغة تطور وتاريخ 5655محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد / 84.
(63) العثمانية / 230.
(64) الحيوان 5/ 295.
(65) البيان والتبيين 2/ 222.
(66) الحيوان 6/ 213210وانظر أيضا 4/ 4039.
(67) الحيوان 1/ 211وانظر أيضا جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي / 211
(68) الحيوان 1/ 211.
(69) الحيوان 5/ 281280.
(70) الحيوان 1/ 348.
(71) الحيوان 2/ 15.
(72) رسالة في نفي التشبيه. ضمن رسائل الجاحظ 1/ 289، وانظر أيضا الحيوان 1/ 154153.
(73) انظر الجزء الأول 1/ 189188، 208والجزء الرابع 98، 15، 20، 4037، 8077، 8785، 9695، 100، 104103، 200199، 273271، 278275، 289278، الجزء الخامس 3123، 9392، 99، 100، 162161، 280279، 426425الجزء السادس 164162، 213210، 215214، 218، 252248، 272260، 500499الجزء السابع 50، 56، 57.
(74) البخلاء / 144.
(75) رسائل الجاحظ 1/ 339.
(76) الحيوان 4/ 8584.
(77) السابق 5/ 133.
(78) أنظر محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي / 84وما بعدها. وأنظر أيضا:
مصطفى ناصف: الصورة الأدبية / 78.
(79) أنظر شوقي ضيف: البلاغة تطور وتاريخ / 56.
(80) تأويل مشكل القرآن / 2120.
(81) النكت في اعجاز القرآن / 75.(1/266)
(82) السابق / نفس الصفحة.
(83) السابق / 7675.
(84) انظر الرسالة / 95، 112. والاستشهاد نفسه يؤكّد ما نذهب إليه.
(85) انظر الرسالة / 76.
(86) النكت في اعجاز القرآن / 7776.
(87) السابق / 80.
(88) السابق / 81.
(89) السابق / نفس الصفحة.
(90) السابق / نفس الصفحة.
(91) النكت في اعجاز القرآن / 82.
(92) السابق / 8685.
(93) النكت في اعجاز القرآن / 86.
(94) السابق / نفس الصفحة.
(95) السابق / نفس الصفحة.
(96) السابق / نفس الصفحة.
(97) النكت / 88.
(98) السابق / 104.
(99) السابق / نفس الصفحة.
(100) السابق / نفس الصفحة.
(101) النكت / 105.
(102) السابق / 104.
(103) المغني 15/ 161.
(104) المغني 5/ 173172.
(105) السابق 7/ 130، 209.
(106) شرح الأصول الخمسة / 436.
(107) شرح الأصول / 436.
(108) السيوطي: الاتقان 2/ 36وانظر أيضا ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة 2/ 243242.
(109) المغني 15/ 180178.
(110) المغني 13/ 158.
(111) المغني 5/ 199198.
(112) المغني 7/ 17.
(113) انظر المغني 8/ 35، 36، 8685.
(114) المغني 5/ 187.
(115) س. أولمان: دور الكلمة في اللغة / 62.(1/267)
(116) المغني 5/ 186، انظر أيضا في قياس الغائب على الشاهد 5/ 229، 7/ 49، 76.
8/ 228، 234233. 11/ 135.
(117) المغني 5/ 199198.
(118) عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة 2/ 269.
(119) المغني 5/ 228227.
(120) السابق 5/ 215.
(121) السابق 5/ 111.
(122) السابق 5/ 188
(123) شرح الأصول / 468.
(124) المغني 7/ 213.
(125) المغني 8/ 231
(126) السابق 12/ 18.
(127) المغني 5/ 187.
(128) السابق 5/ 197.
(129) السابق 5/ 188.
(130) انظر هذا الخلاف: المغني 5/ 189188.
(131) المغني 5/ 190.
(132) المغني 5/ 189، وانظر أيضا نفس المصدر 7/ 186.
(133) المغني 15/ 323.
(134) المغني 5/ 166.
(135) المغني 13/ 280.
(136) السابق 15/ 114.
(137) المغني 6
(القسم الثاني) 1615.
(138) السابق 17/ 28.
(139) المغني 17/ 37.
(140) السابق 15/ 324.
(141) أنظر: الامام الشافعي: الرسالة / 1817. ومناقشة القاضي عبد الجبار لقضية دلالة العموم والخصوص: المغني 17/ 8481.
هوامش الفصل الثالث: المجاز والتأويل
(1) الطبري 6/ 198.
(2) السابق / نفس الجزء والصفحة.
(3) الطبري 6/ 180197وأنظر الرواية كاملة 1/ 218216ونقد المرحوم أحمد شاكر للرواية بالهامش 218وما بعدها.(1/268)
(4) الطبري 6/ 187186.
(5) انظر في تعضيد هذا الرأي: النيسابوري: أسباب النزول / 53. والطبري نفسه يورد هذا السبب في رواية أخرى عن محمد بن جعفر ابن الزبير 6/ 154151.
(6) الطبري 6/ 187وطبقات المفسرين 2/ 44.
(7) الطبري 6/ 189.
(8) الطبري 6/ 175.
(9) السابق 6/ 174.
(10) الطبري 6/ 203.
(11) الداودي: طبقات المفسرين 2/ 308.
(12) الطبري 6/ 177.
(13) انظر 1/ 59، 265262، 2/ 616.
(14) انظر 2019، 137.
(15) الحسن البصري: رسالة في القدر: ضمن (رسائل العدل والتوحيد) 1/ 84.
(16) السابق / 8786.
(17) السابق / 87.
(18) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي / 132ولمزيد من التفاصيل انظر طبقات المفسرين 2/ 308307.
(19) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي / 133.
(20) الطبري 6/ 177.
(21) الطبري 6/ 177.
(22) الطبري 6/ 199.
(23) السابق 6/ 200.
(24) السابق 6/ 203201.
(25) رسالة في القدر (ضمن رسائل العدل والتوحيد) 1/ 83.
(26) الزمخشري: الكشاف 2/ 49.
(27) الداودي: طبقات المفسرين 2/ 331.
(28) الأشباه والنظائر: المقدمة / 81.
(29) انظر محمد يوسف موسى: القرآن والفلسفة: 35نقلا عن الملطي.
(30) الأشباه والنظائر / 131.
(31) السابق / 2625.
(32) الأشباه والنظائر / 321.
(33) السابق / 322321.
(34) السابق / 232.
(35) الأشباه والنظائر / 322.
(36) الكشاف 3/ 543.
(37) الانتصاف (على هامش الكشاف) 3/ 543.(1/269)
(38) جابر عصفور: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي / 94.
(39) الأشباه والنظائر / 234.
(40) الكشاف 2/ 9.
(41) الأشباه والنظائر / 111.
(42) الأشباه / 292.
(43) السابق / 236235وانظر أيضا مادة «نرى» 237236.
(44) الأشباه والنظائر / 239.
(45) مقدمة الأشباه والنظائر / 52.
(46) مقدمة الأشباه والنظائر / 57.
(47) الأشباه والنظائر / 138137.
(48) السابق / 244.
(49) تنزيه القرآن عن المطاعن / 184وانظر ايضا متشابه القرآن / 386384.
(50) الجاحظ: الحيوان 3/ 47.
(51) البيان والتبيين 1/ 274273وانظر أيضا الكشاف 2/ 294293، وانظر مقالات الاسلاميين 1/ 198.
(52) مجاز القرآن 2/ 112.
(53) السابق 2/ 190.
(54) السابق 1/ 266.
(55) السابق 1/ 290.
(56) السابق 1/ 276.
(57) السابق 1/ 170.
(58) السابق 2/ 20.
(59) السابق 2/ 73.
(60) السابق 1/ 82.
(61) السابق 1/ 244.
(62) السابق 2/ 132، 1/ 215.
(63) السابق 1/ 164.
(64) السابق 1/ 160.
(65) السابق 1/ 243.
(66) السابق 2/ 147.
(67) السابق 2/ 113.
(68) مجاز القرآن 1/ 359.
(69) السابق 1/ 372.
(70) متشابه القرآن 2/ 462وتنزيه القرآن عن المطاعن / 227.
(71) الكشاف 2/ 442.(1/270)
(72) مجاز القرآن 7/ 270.
(73) المدارس النحوية 192، 193، 195.
(74) أثر القرآن في تطور النقد العربي / 58.
(75) معاني القرآن 2/ 361360.
(76): .. 921.
(77) وكأنما لم يكن جبريل يستطيع أن يرفعه للسماء دون كوّة.
(78) معاني القرآن 1/ 218.
(79) معاني القرآن 2/ 384وانظر أيضا جولد تسيهر: مذاهب التفسير في الاسلام / 3533.
(80) معاني القرآن 1/ 325وانظر أيضا جولد تسيهر / 3736.
(81) معاني القرآن 1/ 249ولمزيد من الامثلة انظر: 2/ 204، 3/ 34، 89، 101، 116، 158، 261.
(82) س. أولمان: دور الكلمة في اللغة / 169.
(83) راحة العقل / 53.
(84) راحة العقل / 50.
(85) السابق / 4342.
(86) السابق / 5251.
(87) معاني القرآن 2/ 314.
(88) السابق 3/ 65.
(89) السابق 3/ 177.
(90) معاني القرآن 2/ 412.
(91) السابق 1/ 329.
(92) السابق 2/ 132.
(93) السابق 1/ 366وانظر أيضا 1/ 124.
(94) السابق 3/ 89.
(95) الصواعق المرسلة 1/ 11.
(96) الصواعق المرسلة 1/ 1312.
(97) السابق 1/ 1211.
(98) الكشاف 3/ 382.
(99) معاني القرآن 2/ 119.
(100) معاني القرآن 3/ 89.
(101) انظر متشابه القرآن / 629628وتنزيه القرآن عن المطاعن 402.
(102) الكشاف 4/ 21.
(103) معاني القرآن 2/ 415ولمزيد من الأمثلة في قضية العدل انظر 2/ 258257، 3/ 187، 271.(1/271)
(104) رسائل العدل والتوحيد 1/ 96.
(105) السابق / نفس الجزء والصفحة.
(106) رسائل العدل والتوحيد 1/ 97.
(107) السابق / نفس الجزء والصفحة.
(108) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 607606.
(109) رسائل العدل والتوحيد 1/ 106.
(110) السابق 1/ 109.
(111) انظر هذه الأدلة القرآنية ومناقشة القاضي لها: المغني 7/ 9187.
(112) للقاضي عبد الجبار جزء كامل من كتابه المغني هو الجزء السابع أفرده لقضية خلق القرآن. وانظر أيضا أحمد أمين: ضحى الاسلام 3/ 161وما بعدها.
(113) تأويل مشكل القرآن / 111.
(114) السابق / 115112.
(115) المغني 7/ 90.
(116) انظر الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 162، محمد عمارة: رسائل العدل والتوحيد.
المقدمة / 50.
(117) أبو المعين النسفي: بحر الكلام في علوم التوحيد / 68.
(118) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الاسلامي / 3.
(119) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث / 5755.
(120) رسائل العدل والتوحيد 1/ 9897.
(121) تأويل مختلف الحديث / 55.
(122) انظر العثمانية / 100، 119115.
(123) انظر تأويل مختلف الحديث / 7371.
(124) انظر تأويل مشكل القرآن 121115.
(125) السابق / 103.
(126) السابق / 104وأنظر أيضا القاضي عبد الجبار في تأويل هذه الصفة في الكتاب المقدس، المغني 5/ 111110.
(127) تأويل مشكل القرآن / 133132.
(128) تأويل مشكل القرآن / 115112.
(129) مصطفى ناصف: الصورة الأدبية / 79، وانظر أيضا جابر عصفور الصورة الفنية / 164.
(130) تأويل مشكل القرآن / 101.
(131) تأويل مشكل القرآن / 86.
(132) السابق / 9998.
(133) تأويل مشكل القرآن / 101100.
(134) تأويل مشكل القرآن: انظر على الترتيب / 254، 137، 138، 382، 105، 181، 191، 312311، 434، 277وما بعدها، 280.(1/272)
(135) تأويل مختلف الحديث / 3534.
(136) تأويل مشكل القرآن / 125123.
(137) الزمخشري: الكشاف 2/ 427426.
(138) تأويل مشكل القرآن / 282.
(139) تأويل مشكل القرآن / 482481.
(140) السابق / 76.
(141) (142) و (143) السابق / 7876.
(144) المحكم والمتشابه (ضمن رسائل العدل والتوحيد) 2/ 107.
(145) المحكم والمتشابه 2/ 37.
(146) السابق 2/ 108.
(147) المحكم والمتشابه انظر على الترتيب: 2/ 8685، 9189، 9392، 9794، 98.
(148) رسائل العدل والتوحيد انظر على الترتيب 2/ 99، 102100، 106103.
(149) رسائل العدل والتوحيد 2/ 8887.
(150) رسائل العدل والتوحيد 2/ 90.
(151) متشابه القرآن / 10.
(152) المغني 12/ 176.
(153) متشابه القرآن / 1، انظر أيضا المغني 16/ 395.
(154) المغني 16/ 395394.
(155) متشابه القرآن / 1.
(156) متشابه القرآن / 2423.
(157) متشابه القرآن / 18.
(158) السابق / 33.
(159) السابق / 34.
(160) متشابه القرآن / 34.
(161) متشابه القرآن / 3635.
(162) متشابه القرآن / 4ولمزيد من التفاصيل حول هذه الفكرة انظر نفس المصدر / 24وما بعدها، المغني 16/ 376373، شرح الأصول الخمسة / 600599.
(163) متشابه القرآن / 34.
(164) المغني 16/ 395.
(165) كان الخلاف حول تعريف المحكم والمتشابه ما يزال مستمرا، وكذلك الخلاف حول امكانية معرفة المتشابه، وبالتالي التوجيه النحوي للآية على العطف أو الاستثناء. انظر مقالات الاسلاميين 1/ 295293.
(166) متشابه القرآن / 20.
(167) انظر الخلاف حول تفسير هذه الظاهرة الطبري 1/ 205وما بعدها.
(168) متشابه القرآن / 1716.(1/273)
(169) متشابه القرآن / 19وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة / 601600.
(170) متشابه القرآن / 2120.
(171) السابق 76.
(172) المغني 16/ 372.
(173) متشابه القرآن / 7.
(174) متشابه القرآن / 15وانظر أيضا المغني 12/ 177173، 16/ 380378وشرح الأصول / 603.
(175) المغني 4/ 135134.
(176) راجع المغني 4/ 156154، شرح الأصول الخمسة 238.
(177) شرح الأصول الخمسة 236235، وسياق الآية يؤكد الفكرة. وانظر انكار الباقلاني لفكرة المدح في الآية. الانصاف / 161.
(178) شرح الأصول الخمسة 237236.
(179) شرح الأصول الخمسة / 233وبذلك تكون الآية واقعة في الصنف الثاني من أصناف دلالة الخطاب على ما يدل عليه. فآيات الرؤية تدل على ما يدل عليه العقل من نفيها.
والآيات وحدها، وكذلك العقل وحده دلالة ولا يتعلق أحدهما بالآخر. انظر الفصل السابق.
(180) المغني 4/ 175174.
(181) المغني 4/ 173.
(182) ابن المنير: الانتصاف 1/ 307وانظر الباقلاني: الانصاف / 162.
(183) شرح الأصول / 240239.
(184) المغني: 4/ 145144.
(185) شرح الأصول / 240.
(186) و (187) شرح الأصول / 241.
(188) الكشاف 2/ 4241.
(189) انظر الأشعري: اللمع / 35.
(190) المغني 4/ 151150، راجع أيضا: متشابه القرآن / 255.
(191) المغني: 4/ 162161، شرح الأصول / 265264.
(192) المغني: 4/ 162.
(193) شرح الأصول / 265264.
(194) شرح الأصول / 265264.
(195) ابن المنير: الانتصاف 2/ 112.
(196) المغني: 4/ 164163.
(197) المغني: 4/ 164.
(198) ابن المنير: الانتصاف: 2/ 113.
(199) الزمخشري: الكشاف 2/ 113.(1/274)
المغني: 4/ 167، راجع شرح الأصول / 264263.
(201) شرح الأصول / 264263راجع كل هذا الحوار حول الآية في متشابه القرآن / 298291.
(202) راجع تفسير الزمخشري للآية: الكشاف 2/ 116112، ورد ابن المنير: الانتصاف 2/ 113112.
(203) المغني 4/ 225الشريف الرضي: المجازات النبوية / 4645.
(204) المغني 4/ 230، انظر تفسير الآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ}
(النجم / 1413) في متشابه القرآن / 632.
(205) المغني: 4/ 229228وما بعدها أحاديث كثيرة.
(206) في شرح الأصول / 271269يرد الحديث على قراءة أخرى وتأويل آخر «فقال: نور هو؟ أي أنور هو؟ كيف أراه؟ فحذف همزة الاستفهام وجوبا على عادتهم في الاختصار، وعلى هذا قال الشاعر:
فو الله ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رميت الجمر أم بثمان
(207) المغني 4/ 231، شرح الأصول / 271270، الشريف الرضي: المجازات النبوية 4847.
(208) شرح الأصول / 272271.
(209) الكشاف: 2/ 116.
(210) تعرّض عبد الجبار للآية في ايجاز في متشابه القرآن / 674673.
(211) المغني 4/ 198197.
(212) المغني 4/ 198، راجع شرح الأصول / 244242.
(213) المغني 4/ 203.
(214) المغني: 4/ 203.
(215) المغني 4/ 204203. يعوق تأويل القاضي عبد الجبار بأن المقصود بالوجوه جملة الانسان وصف الوجوه بأنها ناضرة. غير أن التأويل يتسق إذا قلنا أن وصف الوجوه بالنضارة روعي فيها اللفظ، ووصفها بأنها ناظرة روعي فيها المعنى، وذلك قياسا على تأويل القاضي لقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهََا وَرُسُلِهِ} {أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} وهي في الصحيفة التالية.
(216) المغني 4/ 206.
(217) المغني 4/ 207206.
(218) شرح الأصول / 245.
(219) المغني 4/ 209208.
(220) المغني 4/ 210209.
(221) شرح الأصول / 245.
(222) راجع المغني: 4/ 213212.
(223) راجع المغني 4/ 214213.(1/275)
(224) المغني: 4/ 215.
(225) راجع المغني 4/ 217216ورد المعتزلة على خصومهم بأن المجاز لا يقاس عليه.
(226) شرح الأصول / 247.
(227) المغني: 4/ 216.
(228) المغني / 4/ 210وراجع شرح الأصول / 248247.
(229) ابن المنير: الانتصاف: 4/ 232.
(230) ابن المنير: الانتصاف 4/ 232.
(231) المغني 4/ 121، وراجع شرح الأصول / 267، متشابه القرآن / 683.
(232) الكشاف 4/ 232.
(233) شرح الأصول / 266.
(234) نفس المصدر السابق.
(235) شرح الأصول / 266265. انظر أيضا في معنى اللقاء. متشابه القرآن / 341 342، 355354وأيضا 529، 553.
(236) راجع الكشاف 3/ 226.
(237) المغني 4/ 222.
(238) المغني 4/ 237، انظر أيضا متشابه القرآن / 362361.
(239) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل 8/ 223.
(240) المغني 8/ 217.
(241) المغني 8/ 4.
(242) المغني 8/ 218.
(243) المغني 8/ 203202.
(244) المغني 8/ 178177.
(245) السابق 8/ 16.
(246) السابق 8/ 205، وانظر شرح الأصول الخمسة / 355354، 382381.
(247) أبو الحسن الأشعري: اللمع / 24وانظر الباقلاني: الانصاف / 143.
(248) الأشعري: اللمع / 24.
(249) السابق / 71.
(250) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 384.
(251) القاضي عبد الجبار: المغني / 6القسم الثاني / 257.
(252) المغني 8/ 143.
(253) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 363362. وانظر أيضا المغني 8/ 262.
(254) الكشاف 4/ 21.
(255) الانصاف / 144.
(256) الانصاف / 145.(1/276)
(257) متشابه القرآن / 629.
(258) المغني 6القسم الثاني: 234وانظر متشابه القرآن / 305.
(259) المغني 6/ القسم الثاني / 235.
(260) المغني 6القسم الأول / 54.
(261) الانصاف / 143.
(262) القاضي عبد الجبار: المغني / 6القسم الثاني / 53.
(263) السابق / نفس الجزء / 54.
(264) الانصاف / 138.
(265) الأشعري: اللمع / 31.
(266) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل 13/ 218.
(267) السابق / نفس الجزء والصفحة.
(268) الباقلاني: الانصاف / 130.
(269) أنظر القاضي عبد الجبار: المغني 8/ 289288.
(270) المغني 8/ 162.
(271) انظر شرح الأصول الخمسة / 283.
(272) المغني 8/ 162.
(273) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 380379. وانظر أيضا متشابه القرآن / 83، 436435، 515.
(274) الباقلاني: الانصاف / 132.
(275) الباقلاني: الانصاف / 133132.
(276) الأنعام / 202، الرعد / 16، الزمر / 13، غافر / 62.
(277) الباقلاني: الانصاف / 128. وانظر استشهاد الأشعري بالآية على شمول خلق الله لكل شيء. وقياس صفة الخلق على صفتي العلم والقدرة: اللمع / 5150. وانظر رد القاضي على ذلك: المغني 8/ 311310.
(278) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل 7/ 94.
(279) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 383.
(280) المغني. 8/ 310.
(281) الباقلاني: الانصاف / 128127.
(282) المغني 8/ 309.
(283) القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل 8/ 308وانظر شرح الأصول الخمسة / 382.
(284) اللمع / 37.
(285) الكشاف 3/ 346.
(286) شرح الأصول / 380. وانظر متشابه القرآن / 571.
(287) شرح الأصول / 381380وانظر الزمخشري: الكشاف / 3/ 299.
(288) الباقلاني: الانصاف / 130.(1/277)
(289) الانتصاف (على هامش الكشاف) 4/ 137.
(290) السابق / نفس الجزء والصفحة.
(291) المغني 8/ 319.
(292) شرح الأصول / 386.
(293) الكشاف 4/ 137.
(294) السابق 4/ 138.
(295) القاضي عبد الجبار: المغني 8/ 261.
(296) السجدة / 17، الأحقاف / 14، الواقعة / 24.
(297) القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة / 361وانظر المغني 8/ 261.
(298) القاضي عبد الجبار: المغني 8/ 261.
(299) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 362.
(300) الانصاف / 131.
(301) القاضي عبد الجبار: المغني 8/ 258257، وانظر شرح الأصول الخمسة / 355.
(302) انظر الزمخشري: الكشاف 4/ 134وأساس البلاغة مادة «فوت».
(303) انظر متشابه القرآن / 661.
(304) الأشعري: اللمع / 48وانظر أيضا الباقلاني: الانصاف / 133.
(305) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 356355.
(306) السابق / 356.
(307) الأصول الخمسة / 356.
(308) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة / 357.
(309) الأشعري: اللمع / 48.
(310) شرح الأصول / 357وانظر المغني 8/ 259258.
(311) شرح الأصول / 358.
(312) المغني في أبواب التوحيد والعدل 8/ 263262.
(313) اللمع / 49.
(314) المغني 8/ 263.
(315) السابق: نفس الجزء والصفحة.
(316) المغني 8/ 360.
(317) اللمع / 48.
(318) المغني 8/ 261.
(319) المغني 8/ 263.
(320) اللمع / 5251.(1/278)
المحتويات مقدمة 5
تمهيد: الاطار التاريخي لنشأة الفكر الاعتزالي 9
الفصل الأول: المعرفة والدلالة اللغوية 43
1 - المعرفة والايمان والقدرة 47
2 - مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند الحارث المحاسبي والباقلاني 52
3 - مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند المعتزلة 59
4 - الدلالة اللغوية وشرط المواضعة 70
5 - الدلالة اللغوية وشرط القصد 83
الفصل الثاني: مفهوم المجاز، نشأته وتطوره 91
1 - نظرة تاريخية 93
أمصطلح المثل عند المفسرين 94
ب مقاتل بن سليمان والاحساس بتعدد الدلالة 97
ج أبو عبيدة وأنواع المجاز 99
د الفراء وبلورة المصطلح 103
2 - الجاحظ ونضج المصطلح 111
3 - الرماني والكشف عن الأثر النفسي 122
الفصل الثالث: المجاز والتأويل 139
1 - التأويل عند المفسرين (ابن عباس ومجاهد) 141
2 - التأويل عند الحسن البصري ومقاتل بن سليمان 147
3 - التأويل عند أبي عبيدة والفراء 154
4 - المحكم والمتشابه كأساس للتأويل 164(1/279)
أالامام القاسم الرس 164
ب ابن قتيبة 168
ج الامام يحيى بن الحسين 178
هـ المجاز والتأويل عند القاضي عبد الجبار 180
أالمحكم والمتشابه كأساس للتأويل 180
ب التوحيد وقضية الرؤية 190
ج مبدأ العدل وقضية خلق الأفعال 215
الخاتمة 241
أهم المصادر والمراجع 247
هوامش الكتاب 255(1/280)