وبعونك وقدرتك أقدّم اليوم لقراء العربية كتابا جديدا من تراثنا العريق العتيد، أعجبنى منه اسمه وأسلوبه والموضوعات التى تناولها، وهو كتاب «الإكسير فى علم التفسير» تأليف الفقيه العالم سليمان الطوفى العراقى فى القرن السابع الهجرى، وهو كتاب يهم العلماء والمدرسين والدارسين لعلوم البلاغة جمعاء، أو هو بحق القانون الذى تجمع مواده وبنوده تلك العلوم، والقواعد التى تجلوها، فى استشهاد مطّرد قوى بآيات القرآن الكريم، تجعلها علما وفنا وزادا دسما لمن أراد أن يتزود بالبلاغة ويتكثر من فنونها وبدائعها، وفى القرآن أسرار ومكنونات لا يستطيع الوصول إليها إلا من تذوق بلاغتها.
وباستشهاد كبير بالروائع من شعر العرب ونثرهم وتطبيق دقيق بارع نافع لفنون البلاغة عليها.
والقارئ إذا ذاق البلاغة واستشعرها فقد زاد فهمه لما يقرأ، وعمق إحساسه وتأثّره به، فجلّت الفائدة وعظم النفع.
وقد هدانى الله إلى تكليف الأستاذ الدكتور عبد القادر حسين أستاذ البلاغة والنقد بكلية البنات الإسلامية جامعة الأزهر بتحقيق هذا الكتاب لما هو عليه من علم وتخصص فى البلاغة مما يجعله من أقدر الأساتذة على النهوض بتحقيق مثل هذا الكتاب القيّم.
وجعلت هامشه بالبنط الأكبر لحرصى على تيسير قراءته للقارئين، كما فعلت فى كتاب «الصداقة والصديق» لأبى حيان التوحيدى، وفى كتاب «تلقيح فهوم أهل الأثر فى عيون التاريخ والسير» لابن الجوزى.
ولأنى حريص فى كل ما أقدم للناس من كتب على سمعة دارى، وعلى أن أجنّب هذه الكتب عيوب الإخراج والأخطاء المطبعية وغيرها فكنت أراجع الكتاب بعد وصوله إلىّ من يد المحقق أكثر من مرة قبل طبعه وفى أثناء طبعه حتى يخرج الكتاب فى أحسن صورة ممكنة، وأجمل وجه يمكن أن يظهر به، اللهمّ إلا السهو تعاليت ربى وحدك عن الخطأ والسهو فأنت العزيز الحكيم.
وختاما لك يا ربى الحمد والشكر أوّلا وأخيرا، والصلاة والسلام على نبيك المصطفى خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
27 - رمضان 1397الناشر
9/ 9/ 1977م على حسن(1/4)
مقدمة الطبعة الثانية
«الإكسير في علم التفسير» كتاب ألّفه الطوفي البغدادي المتوفّى عام 716هـ.
تناول فيه ما يجب أن يضطلع به العالم المتصدّي لتفسير القرآن الكريم من علوم مختلفة، في طليعتها علم البلاغة، وعرج في صلب الكتاب إلى كثير من فروع البلاغة، وقد قمت بتحقيق هذا الكتاب القيّم لأقدّمه لقرّاء العربية وبخاصة المهتمين بالدراسات التفسيرية والدراسات البلاغية في طبعته الثانية الجديدة.
وقد حظي الكتاب بحفاوة بالغة من القرّاء حين صدر في طبعته الأولى منذ ما يزيد على عشر سنوات، فقد كان الطوفي صاحب قريحة وقّادة وذهن لمّاح في معالجته لمسائل الكتاب، وهو أيضا صاحب علم غزير واطلاع واسع على ما كتبه السلف وما تركوه من تراث، ويبدو ذلك جليّا حين يعرض للمسألة البلاغية ويعترض عليها ويناقشها ويبدي وجهة نظره المخالفة في كثير من الأحيان في أسلوب ناصع وعبارة واضحة.
ويلفت نظر القارئ أن الطوفي البغدادي في كتابه هذا كان كثيرا ما يتعقّب آراء ابن الأثير في كتابيه الشهيرين: «المثل السائر» و «الجامع الكبير» فيحلّلها أولا، ثم يظهر قصورها أو تضاربها أو خطأها، وما يعتريها من فساد، مؤيدا ذلك بالدليل القوي والحجة الساطعة والبرهان الواضح، ثم يشفعها برأيه الجديد في حياد تام. ويقدمها للقارئ في أسلوب سهل وعبارة أخاذة حتى لا نرى بدّا في النهاية من أن نرى أن رأيه هو الصواب. في الوقت الذي لا يبخس العلماء أصحاب الآراء المخالفة حقهم ولا ينقص من شأنهم.
وكتاب الإكسير يدور حول علمين جليلين هما التفسير والبلاغة. وناهيك ما هما:
علو شأن بين العلوم قاطبة، فهما في الذروة منها. والطوفي في بحوثه البلاغية في الكتاب يحتفل بالشواهد الشعريّة والنصوص النثرية الفنّية من تراثنا الجليل.(1/5)
وكتاب الإكسير يدور حول علمين جليلين هما التفسير والبلاغة. وناهيك ما هما:
علو شأن بين العلوم قاطبة، فهما في الذروة منها. والطوفي في بحوثه البلاغية في الكتاب يحتفل بالشواهد الشعريّة والنصوص النثرية الفنّية من تراثنا الجليل.
لذلك نرى لزاما علينا أن نضع الطوفي البغدادي في سلك المدرسة الأدبية، وأن يعتبر من صفوة رجالها المرموقين الذين يهتمون بالنصوص القرآنية والأدبية، ويعنون عناية خاصة بالجمال الفني والذوق الأدبي دون أن تستحوذ القواعد والمصطلحات على كتاباتها.
وعلى الرغم من أن الكتاب يدور في معظمه حول البلاغة، ويعرض لها من زواياها كافة فإن القارئ يستطيع أن يجد فيه أيضا ما يفيده وينفع غلته من اللغة والتفسير والنحو والأدب والعروض وغير ذلك من العلوم المختلفة التي تتصل بعلوم العربية من قريب أو بعيد.
والله أسأل أن ينفع بهذا الكتاب القرّاء والطلاب والدّارسين والعاملين في حقل الدراسات الأدبية وحقل البلاغة العربية.
أ. د. عبد القادر حسين(1/6)
تقديم وتعريف
الطوفي (1): هو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الصرصري البغدادي، ولد سنة 657هـ بقرية طوفي من أعمال صرصر في العراق، وحفظ بها «مختصر الخرقي» (ت 334هـ) في الفقه، و «اللمع» في النحو لابن جني (ت 392هـ).
وكان يتردد إلى صرصر (2)، وقرأ الفقه على الشيخ المعروف بابن البوقي.
ثم انتقل إلى بغداد سنة 691هـ فحفظ «المحرر» في الفقه، وبحثه على الشيخ الزريراني (ت 729هـ).
وقرأ العربية والتصريف على محمد بن الحسين الموصلي.
وسمع الحديث من الرشيد بن أبي القاسم (ت 707هـ) وإسماعيل بن الطبال (ت 707هـ) والحراني (ت أول القرن الثامن) والقلانسي (ت 704هـ).
__________
(1) انظر في ترجمته: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب البغدادي 2/ 367ط السنة المحمدية، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني 2/ 249ط 2، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي 6/ 39ط بيروت، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي 1/ 599ط عيسى الحلبي، الأعلام للزركلي 3/ 189، مجموعة رسائل في أصول الفقه، جمع جمال الدين القاسمي ص 39ط بيروت، المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي للدكتور مصطفى زيد ط دار الفكر العربي. ومعجم المؤلفين لكحالة 4/ 266.
(2) صرصر كما ذكر ياقوت في معجم البلدان قريتان من سواد بغداد: صرصر العليا وصرصر السفلى، وبين السفلى وبغداد نحو فرسخين، وهي في طريق الحاج من بغداد، وقد كانت تسمى قديما: قصر الدير، أو صرصر الدير 5/ 350ط السعادة.(1/7)
ودرس أصول الفقه على النصر الفاروقي، وقرأ الفرائض وشيئا من المنطق، وجالس فضلاء بغداد في أنواع الفنون، وعلق عليهم.
وعند ما انتقل إلى دمشق سنة 704هـ، سمع الحديث من القاضي سليمان بن حمزة (ت 715هـ) وقرأ النحو على أبي الفتح البعلي.
ثم اتجه إلى مصر سنة 705هـ. وقرأ على الحافظ بن خلف (ت 705هـ)، والقاضي الحارثي (ت 711هـ) ودرس مختصر أبي حيان الأندلسي (ت 745هـ) لكتاب سيبويه، وأقام بالقاهرة مدة. وفي ولاية القاضي الحارثي تولى الإعادة بالمدرستين: المنصورية والناصرية. وصنّف تصانيف كثيرة.
وفي أواخر سنة 714هـ أدى فريضة الحج، ثم جاور سنة 715هـ.
انتهى به المطاف إلى الشام، ونزل الأرض المقدسة حتى أدركته المنية في بلد الخليل عليه السلام في شهر رجب سنة 716هـ.
فالطوفي إذن قضى ستين عاما متنقلا بين بغداد ودمشق ومصر يتزود بالعلم، ويتسلح بالمعرفة، ويتبحر في الدين واللغة، مسترشدا بكتب العلماء السابقين، فيستظهرها حفظا، أو بمجالسة الأعلام من الشيوخ المعاصرين له، فيرشف من ينابيعهم، حتى انتهت إليه حصيلة ضخمة في شتى العلوم والفنون، وكان من أثر ذلك أن ترك لنا ثروة هائلة في مختلف العلوم من الفقه، والأصول، والحديث، والفرائض، والمنطق، وعلوم القرآن، والنحو والتصريف، حتى قيل إنه في الفترة التي قضاها في صعيد مصر ببلدة قوص ترك خزانة كتب من تصانيفه.
منزلة الطوفي:
قال عنه الصفدي (1): كان فقيها، شاعرا، أديبا، فاضلا، قيّما بالنحو واللغة والتاريخ، مشاركا في الأصول وقراءة الحديث.
__________
(1) بغية الوعاة 1/ 599.(1/8)
وابن رجب (1) يذكر أن الطوفي له نظم كثير رائق، وقصائد في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وابن مكتوم القيسي (2) يقرر أن الطوفي تقدم عند الحنابلة، وصار له ذكر بينهم، وكان يشارك في علوم، ويرجع إلى ذكاء وتحقيق وسكون نفس.
وجمال الدين القاسمي (3) يلقب الطوفي بالإمام العلّامة المحقق، ويصفه بأنه كان قوّالا بالحق، وأنه يلحق في الأصول بكبار الأئمة أرباب الأقوال، وبالجملة فإنه أحد نوابغ الدنيا.
وابن حجر (4) يذكر أن الطوفي كان قوي الحافظة، شديد الذكاء، كثير المطالعة، وأظنه طالع أكثر كتب خزائن قوص.
مصنفاته:
ومصنفات الطوفي كثيرة تربو على الأربعين كتابا عدّ منها ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة ثلاثين كتابا، عدا ما ذكره من اختصار الطوفي لكتب الأصول والحديث، وما قرضه من شعر، وصاغه من مديح، والباقي ذكره السيوطي في البغية والإتقان، والمستشرق الألماني بروكلمان.
ولا يعنينا سرد مصنفات الطوفي واحدا إثر الآخر، فذلك ميسور ومن أرادها أصابها في مظانها، وإنما نكتفي بذكر مصنفاته التي تتعلق بالبلاغة والأدب واللغة والتفسير، حيث أنه جمع بين هذه الفنون في كتابه «الإكسير في علم التفسير» الذي نقوم بتحقيقه، ونضعه الآن بين يدي القارئ، فمن هذه المصنفات:
1 - معراج الوصول (في أصول الفقه).
2 - غفلة المجتاز في علم الحقيقة والمجاز.
3 - جدل القرآن.
__________
(1) الذيل في طبقات الحنابلة 2/ 368ط السنة المحمدية.
(2) المرجع السابق 2/ 369.
(3) مجموعة رسائل في أصول الفقه ص 40ط بيروت 1324.
(4) الدرر الكامنة 2/ 249، 251.(1/9)
4 - بغية السائل في أمهات المسائل (في أصول الدين).
5 - بغية الواصل في معرفة الفواصل.
6 - تفسير سورة (ق) وسورة (النبأ).
7 «مختصر المعالين» وهو جزءان يتحدث فيه عن سورة الفاتحة التي تتضمن جميع القرآن.
8 - الرحيق السلسل في الأدب المسلسل.
9 - الرياض النواضر في الأشباه والنظائر.
10 - تحفة أهل الأدب في معرفة لسان العرب.
11 - شرح مقامات الحريري في مجلدين.
12 - موائد الحيس في شعر امرئ القيس.
13 - الشعار المختار على مختار الأشعار.
14 - الرسالة العلوية في القواعد العربية.
15 - إزالة الإنكار في مسألة كاد.
16 - الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية.
17 - الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة.
18 - الإشارات الالهية والمباحث الأصولية.
19 - مختصر الجامع الصحيح للترمذي.
والطوفي صاحب قريحة وقّادة، وذهن نفّاذ، وقدرة على الجدل والحوار، نستشف ذلك خلال كثير من الموضوعات في كتابه «الإكسير» كما نلمحه من بعض عناوين مصنفاته كجدل القرآن، والانتصارات الإسلامية في دفع شبه النصرانية، وتعاليق على الأناجيل وتناقضها، وتعاليق على الرد على جماعة من النصارى، ودرء القول القبيح في التحسين والتقبيح.
وكتاب الطوفي الذي نضعه بين يدي القارئ «الإكسير في علم التفسير» هو من نسخة فريدة مودعة بمكتبة قرة جلبي زاده بتركيا، وقد نسخ في القرن السابع الهجري في حياة المؤلف، وقام معهد إحياء المخطوطات العربية بتصويره، وعدد أوراقه 150 ورقة من القطع المتوسط.(1/10)
وقد أراد الطوفي من تصنيف هذا الكتاب أن يضع قانونا يكشف به ما اعترى علم التفسير من إشكال، بحيث يعوّل عليه، ويصير هو المرجع في هذا الفن. وبعد أن ينتهي من ذلك يردفه بقواعد نافعة في علوم القرآن.
ولم يكن الطوفي في وضعه لهذا القانون مقلدا أو تابعا، بل كان باحثا مجددا، لا يعبأ بما تعارف العلماء عليه، أو استقروا عنده، بل يقول رأيه بعد تمحيص في اقتناع وحرية وجراءة دون أن يبالي شيئا، أو يخشى أحدا، ويقرّر هذا في صدر الكتاب بقوله: «ولم أضع هذا القانون لمن يجمد عند الأقوال، بل وضعته لمن لا يغترّ بالمحال، ويعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال».
* * * وقد اشتمل الكتاب على مقدمة، وثلاثة أقسام، وجملتين:
تحدث في المقدمة عن معنى التفسير والتأويل:
فالتفسير: تفصيل أجزاء معنى المفسّر بعضها من بعض حتى يتأتّى فهمه والانتفاع به.
والتأويل: هو بيان ما يؤول معناه إليه، ويستقرّ عليه.
فالتفسير بيان موضوع اللفظ، والتأويل بيان المراد به.
والتأويل أيضا أعمّ من التفسير، لأنه يجري في الكلام وفي غير الكلام، بخلاف التفسير فإنه لا يجري إلا في الكلام فقط، فقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا تَأْوِيلَهُ} أي مآل القرآن وعاقبة ما تضمنه من الوعيد.
القسم الأول: توضيح للقرآن وفي القسم الأول يعرض المؤلف للقرآن حيث يكون بعضه واضحا لفظا ومعنى، فلا يحتاج إلى تفسير، وذلك كقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَسْقَيْنََاكُمُوهُ}
(الحجر 22)، فهذا لا يحتاج إلى تفسير، بل هو بيّن بنفسه لاتضاح لفظه ومعناه، فإن لفظ الإنزال والسماء والماء والإسقاء معروفة غير منكورة.(1/11)
وبعض القرآن غير واضح في لفظه ومعناه جميعا، وهو الذي يحتاج إلى تفسير:
فقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذََا عَسْعَسَ} (التكوير 17)، يفيد الإقبال والإدبار. وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقََاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة 228)، يفيد معنى الطهر والحيض. وقوله تعالى: {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة 79)، يحتمل النهي والخبر.
ومن النصوص القرآنية ما يشمل بعض الألفاظ التي تتسم بالغرابة كقوله تعالى:
{وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} (هود 77). وقوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحََابِهِمْ فَلََا يَسْتَعْجِلُونِ} (الذاريات 59)، فالذنوب هو الدلو الممتلئ، ومعناه هنا الحظ والنصيب.
فكانت هذه الألفاظ والمعاني في حاجة إلى تفسير.
وهنا قد يسأل سائل: ما فائدة اشتمال القرآن على معان وألفاظ تحتاج إلى تفسير، وقد نزل القرآن ليعمل الخلق بمضمونه، وقد كان إنزاله خاليا من الإشكال والإجمال أحرى أن تبادر الأفهام إلى معناه، فتبادر القلوب والأبدان إلى امتثال مقتضاه؟.
يجيب الطوفي عن هذا السؤال بقوله، إن ورود هذين القسمين: الظاهر والخفي في القرآن له عدة فوائد:
الأولى: إن القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، وهي مشتملة على الواضح وغير الواضح، وكلاهما بليغ في موضعه، فلو خلا القرآن من أحدهما، لكان مقصّرا عن رتبة اللغة، فلا يصلح إذن للإعجاز.
الثانية: إن الله تعالى أنزل الواضح ليتعبد المكلفون بالعمل به على الفور من غير احتياج إلى نظر، وأنزل غير الواضح ليتعبّد العلماء في استخراج معناه لأن العمل بالمفهوم منه، والإيمان بغير المفهوم منه تعبدان صحيحان، يحصل بهما تمييز الطاعة من العصيان، والكفر من الإيمان.
الثالثة: إن الله تعالى أنزل غير الواضح ليكون شركا من أشراك الضلال، فيقع
فيه المعترضون من الكفار والمنافقين، بينما يسلّم به المؤمنون على علاته لأنه نزل من عند الله وأخبر به الصادق الأمين.(1/12)
الثالثة: إن الله تعالى أنزل غير الواضح ليكون شركا من أشراك الضلال، فيقع
فيه المعترضون من الكفار والمنافقين، بينما يسلّم به المؤمنون على علاته لأنه نزل من عند الله وأخبر به الصادق الأمين.
الرابعة: إن القرآن قد اشتمل على هذا النوع من الخفاء لحكمة خفيت علينا لأن الله لا يفعل شيئا عبثا، وإنما لحكمة، ولا يجوز إنكار هذه الحكمة وإن خفيت علينا.
القسم الثاني: علوم القرآن وفي القسم الثاني يتطرق الطوفي إلى بيان العلوم التي اشتمل عليها القرآن، وينبغي للمفسر النظر فيها وصرف العناية إليها، فينبغي لمن يعرض لتفسير القرآن أن تتوافر لديه أدوات التفسير ومؤهلات المفسّر من معرفة عميقة بعلوم القرآن سواء أكانت تتعلق بالعبارة اللفظية كعلم الغريب ومفردات اللغة، وعلم التصريف، وعلم النحو، ومعرفة القراءات المنقولة عن الأئمة السبعة ورواتهم، أم كانت معنوية تتعلق بفهم المعاني القرآنية كمعرفة علوم الفلك وما في الكون من سماء وأرض، ونجوم ودواب، ومعادن وجبال وأنهار وغير ذلك، وعلوم الإنسان والحيوان، وعلم الاعتقاد المسمّى بأصول الدين، وأحكام الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر والكتاب والنبيين، وعلم التاريخ من معرفة تاريخ القرون الماضية والأمم الخالية وقصص الأنبياء، وعلم أصول الفقه، وقواعد المنطق ومناهج البحث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الفقه.
هذا كله من الأهمية بمكان حيث إن القرآن لا يخلو منه شيء من ذلك، وبعد هذا كله أو قبل هذا كله معرفة تامة بعلوم البلاغة من معان وبيان وبديع.
القسم الثالث: البيان ومن ثم يفرد الطوفي القسم الثالث للحديث عن علمي المعاني والبيان لكونهما من أنفس علوم القرآن.
فالبيان هو العلم الذي يتعلق بالألفاظ وإظهار المراد بها، وأعلى مراتب البيان:
إظهار المراد بالكلام غاية الإظهار.(1/13)
والمعاني تتعلق بعوارض العبارة من تقديم وتأخير، وإضمار وتقدير، وإطناب وإيجاز وكناية وإلغاز وغير ذلك من العوارض.
فالنظر في الألفاظ وما يتعلق بها من خفة وعذوبة، والنظر في المعاني وما يطرأ عليها من سهولة ورقة، وسلاسة وحلاوة، أمر ضروري لا مناص منه للوقوف على سلامة العبارة أولا، وجمالها ثانيا.
ويكفي لبيان فضيلة هذا العلم وشرفه أن الله تعالى أثنى على نفسه في معرض التمدح بأنه علّم الإنسان البيان، فقال: {الرَّحْمََنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسََانَ، عَلَّمَهُ الْبَيََانَ.} وأن الرسول عليه السلام يصف تأثير البيان في النفوس كتأثير السحر بقوله:
(إن من البيان لسحرا). وفي الأثر: «المرء مخبوء تحت لسانه» أي لا يتكشّف قدره وتأثيره إلا من خلال كلماته.
الجملة الأولى: وفي الجملة الأولى يتحدّث الطوفي عن آداب التأليف وكيفية الوصول إليه، فيذكر أن المعاني للألفاظ كالأرواح للأجساد، والنقص في أحدهما يؤثر نقصا في الكلام.
فينبغي للمنشئ أن يتخيّر الإنشاء في وقت نشاطه وفراغ باله، ولا يغالب خاطره ساعة إعراضه فإن ذلك يشين ألفاظه ومعانيه.
وليعمد إلى أشرف المعاني وأجلّها، وليعبّر عنها بأحسن الألفاظ وأدلّها.
ولا يقصر همته على تجويد أحدهما بل يكون شديد العناية بهما، فإن معنى لا لفظ له ناقص، ولفظا لا معنى له في ميدان البلاغة لا قيمة له.
وينبغي للمؤلف أن يخاطب كل قوم بما يقرب من أفهامهم، فإن ذلك من مقاصد البيان، فكتب الرسول عليه السلام إلى كسرى كانت غاية في الوضوح، لكونهم أعاجم وكتبه إلى العرب كانت في غاية الفصاحة والغرابة لأنهم كانوا يفهمون عنه ذلك.(1/14)
وإذا فرغ من إنشاء كلامه، اشتغل بتنقيح ألفاظه، وترصيف معانيه، من تقديم مؤخر، وتأخير مقدّم، وتبديل ثقيل بأخف، وأخذ بأثقل ليحصل التلاؤم والتعادل، وليجعل كأن معترضا يعترض على كلامه ويناقشه، فيورد الأسئلة على نفسه، ويجيب عنها بما يستقر عليه جوابه.
وأما بيان الطريق إلى معرفة التأليف فأجودها وأحراها بالوصول أن يدرب المنشئ نفسه على النظر في أنواع علم العربية: نحوا ولغة وتصريفا، وفي أشعار العرب وخطبهم ومواقع كلامهم، وفيما أنشأه المتأخرون من نظم ونثر في علم المعاني والبيان، حتى تصير لنفسه بذلك ملكة وقوة، فإذا ساعده مع ذلك ذهن وقّاد، وقريحة مجيبة، حصل حسن الإنشاء فوق غرضه، وهذه هي طريقة الفحول، كمن أراد بناء حائط، فأعدّ له من اللبن والآجرّ والطين، ووضعه بحسن صناعته وضعا محكما.
* * * ثم يتحدث عن الحقيقة والمجاز:
فالحقيقة أصل والمجاز فرع، إلا أن بعض المجازات قد اشتهرت غلبتها على حقائقها وصارت أبلغ في الإفهام وأسبق إلى الإفهام.
وإذا كثر المجاز لحق بالحقيقة في اشتهاره حتى تخفى حاله، فلا يظهر إلا بنظر دقيق، ولهذا كان أكثر اللغة عند بعض العلماء مجازا، ويتوهّم أنه حقيقة، وإن كان الطوافي ينكر ذلك ولا يأخذ به.
ونراه أيضا يعترض على ابن الأثير حين يزعم زيادة الحروف في القرآن لغير فائدة، ضاربا المثل بقوله تعالى: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران 159)، أي فبرحمة، و (ما) زائدة لا معنى لها، فيعقب على ابن الأثير بقوله:
وهذا وهم قبيح فإن فائدة «ما» هاهنا تعديل أجزاء الكلام والتسوية بين صدر الآية وعجزها، وقد منع النحاة والأصوليون أن يكون في القرآن زائد لا معنى له، وهو حق، وكل ما توهمت زيادته منه، ففائدته ما ذكرناه من تعديل العبارة. وكما يعرض الطوفي لزيادة الألفاظ في القرآن، يعرض كذلك للنقصان الذي لا يخلّ بمعنى الكلام
كإقامة الصفة مقام الموصوف كما في قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (النساء 112)، أي إنسانا بريئا. وقوله تعالى: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر 13)، أي سفينة ذات ألواح ودسر، وإقامة الصفة مقام الموصوف مطرد عند الفارسيّ، ممتنع عند سيبويه، فلا يجوز أن نقول: جاءني طويل، أي: رجل طويل لاحتمال أن يكون الموصوف شيئا غير الرجل.(1/15)
وهذا وهم قبيح فإن فائدة «ما» هاهنا تعديل أجزاء الكلام والتسوية بين صدر الآية وعجزها، وقد منع النحاة والأصوليون أن يكون في القرآن زائد لا معنى له، وهو حق، وكل ما توهمت زيادته منه، ففائدته ما ذكرناه من تعديل العبارة. وكما يعرض الطوفي لزيادة الألفاظ في القرآن، يعرض كذلك للنقصان الذي لا يخلّ بمعنى الكلام
كإقامة الصفة مقام الموصوف كما في قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (النساء 112)، أي إنسانا بريئا. وقوله تعالى: {وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر 13)، أي سفينة ذات ألواح ودسر، وإقامة الصفة مقام الموصوف مطرد عند الفارسيّ، ممتنع عند سيبويه، فلا يجوز أن نقول: جاءني طويل، أي: رجل طويل لاحتمال أن يكون الموصوف شيئا غير الرجل.
الألفاظ: ثم ينتقل الطوفي إلى الألفاظ المفردة والمركبة، والصفات التي تستحق بها رتبة الحسن والجودة.
أما المفردة فصفاتها التي تستحق بها الحسن كثيرة منها:
تباعد مخارج الحروف، وليس معنى هذا بالضرورة أن يكون المتباعد مستلزما للحسن، والمتقارب مستلزما للرداءة، بل الغالب على الأول الجودة وعلى الثاني الرداءة. فالجيم والشين والياء متقاربة المخارج، ويتركب منها «جيش وشجي» وهما لفظان رائقان جيدان.
أن تكون مألوفة قد صقلتها الألسن، وأنست بها الأسماع والقلوب، غير وحشية ولا مستوعرة، ولهذا لم يكن في القرآن العزيز شيء من الوحشيّ.
والحق أن الكلمة في ذاتها ليست وحشية ولا مألوفة، وإنما العبرة بكثرة دورانها على الألسن، فالعرب الأقدمون كانوا يستعملون ألفاظا لا يفهمها من أهل زماننا إلا من برع في اللغة، ولو استعملها أحد المحدثين الآن لاعتبر متكلفا، وعدّ منه قبيحا، على الرغم من أنه كان يعتبر عند الأقدمين فصيحا حسنا رائقا. وألا تكون مبتذلة بين العامة، وأن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا وهو الثلاثي إذ الحرف الواحد لا يفيد، والحرفان إجحاف، وليسا بمكان من العذوبة، والرباعي والخماسي ثقيلان، ولهذا كانت أكثر ألفاظ الكتاب العزيز ثلاثية، والرباعي فيه قليل، ولا خماسيّ فيه أصلا، إلا ما كان اسم نبيّ نحو إبراهيم وإسماعيل، وهي أعجمية لا عربية.
أما المركبة سواء أكانت جملة واحدة أم كانت جملا متعددة، فلا بدّ فيها من
الامتزاج وارتباط بعضها ببعض، وارتباطها بما قبلها وما بعدها من الجمل لأن الأجزاء كلما كانت أشد ارتباطا، كانت أدخل في الفصاحة.(1/16)
أما المركبة سواء أكانت جملة واحدة أم كانت جملا متعددة، فلا بدّ فيها من
الامتزاج وارتباط بعضها ببعض، وارتباطها بما قبلها وما بعدها من الجمل لأن الأجزاء كلما كانت أشد ارتباطا، كانت أدخل في الفصاحة.
وبدون هذا الارتباط والامتزاج والتناسب يكون الكلام كتركيب جسم من نوعين:
كرأس إنسان على يدي فرس، أو كجسم معضل الأعضاء مقطع الأجزاء.
ولا بدّ من وضع كل لفظ في موضعه اللائق به إذ بدون ذلك يصبح مضطربا متناثرا كعقد جعلت كل قطعة منه في غير موضعها، فإن ذلك يشينه وإن كان ثمينا في نفسه.
المعاني: والمعاني قسمان: قسم يستعيره المتكلم ممن سبقه، وقسم يخترعه هو عند حادث متجدد أو أمر طارئ. وفي كلتا الحالتين يجب عليه الاعتناء من إبداع المعاني الشريفة الألفاظ الأنيقة اللطيفة، والمعاني أشرف من الألفاظ، لأنها هي المقصودة بالذات.
ولأن المتكلمين يستوون في معرفة الألفاظ، ويتفاوتون في رتبة البيان، وما ذلك إلا لتفاوتهم في المعاني.
ولأن مقصود البلاغة لا يستخرج إلا بالتدبر والروية، ويكون ذلك بتوليد المعاني وليس باستخراج الألفاظ، وإنما العناية باللفظ من توابع العناية بالمعنى، كما أن العناية بالوعاء إنما هي في الحقيقة عناية بما في داخله وصيانة له عن التغير والفساد.
وربما اقتصر قوم على تنميق الألفاظ وتزويقها، وأهملوا المعاني، وزعموا أن العرب تصنع ذلك، فاتخذوا منهم أسوة، وكم من شاعر تقرأ له قصيدة تطربك بألفاظها وحسنها ورونقها، فإذا فتشت وراء الألفاظ لم تجد تحتها إلا معنى مألوفا أو مبتذلا.
والجواب: أننا لا نسلم أن العرب راعت اللفظ وأهملت المعنى، وإنما هذا كلام من لم يدرك مغزى كلامهم، كيف وزهير بن أبي سلمى كان لا ينشر قصيدة حتى يمضي بعد إتمامها سنة فيوضح معانيها ويهذب ألفاظها؟.
على أننا نحب أن ننبّه الأذهان إلى شيء له أهمية:(1/17)
ذلك أن من ينصر اللفظ، أو يسوي بينه؟؟؟ وبين المعنى، لا يقف عند حدود اللفظ وحده، دون مراعاة للمعنى الذي يدل عليه اللفظ، بل هؤلاء يشيدون بقيمة المعنى أيضا، ويرون البلاغة في اللفظ المختار، والمعنى المنتخب، ومتى اجتمعا فقد اجتمع الحسن من أطرافه واكتمل الكلام.
الجملة الثانية: وبعد أن يفرغ الطوفي من ذكر الجملة الأولى يشرع في الحديث عن الجملة الثانية، التي يتناول فيها الأحكام الخاصة بالتفسير. يتحدث أولا عن الفصاحة والبلاغة، التي ثبت الإعجاز بها في القرآن الكريم، ولذلك لا يكفي فيها الاختصار أو الإهمال بل يحتاج الأمر إلى كلام مفصل وتحقيق فيصل.
والفصاحة والبلاغة تختلفان باختلاف الأزمنة والأمكنة والطباع بدليل أن ما كانت العرب العاربة تعدّه من الكلام فصيحا، لخلوّه من التعقيد بالنسبة إليهم، نعدّه نحن الآن غير فصيح لتعقده بالنسبة إلينا. وكذلك الأمر بالنسبة للبلاغة، لاشتراط الفصاحة فيها. ثم يتحدث عن أنواع البيان المعنوية واللفظية، ويستهل الحديث بالصناعة المعنوية لأن المعاني أفضل من الألفاظ، ولأن المعاني تقوم في النفس أولا، ثم يعبر عنها بالألفاظ.
ويبدأ الطوفي بالاستعارة وهي نوعان:
جيد يجب استعماله وتوخّيه ما أمكن.
ورديء يجب اجتنابه والبعد عنه ما أمكن.
والنوع الجيد: هو ما اشتد الامتزاج والتناسب والتشابه فيه بين اللفظ المستعار منه والمعنى المستعار له، كقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم 4)، فإن المناسبة بين بياض الرأس بالشيب واشتعال النار في الحطب شديدة من جهة سرعة الالتهاب والانتشار شيئا فشيئا، وتعذّر التلافي، وعظم الألم، وتعقّب الجمود والخفوت.(1/18)
أما النوع الرديء فلم يذكر الطوفي له مثالا، وإنما اكتفى بذكر الأمثلة التي ساقها ابن الأثير كشواهد على الاستعارة الرديئة، إلا أنه لم يرتض حكم ابن الأثير عليها ووصفها بالرداءة والهبوط، بل نقض حكمه واعتبرها من الاستعارات الحسنة، وكان الأجدر بالطوفي بعد أن يفند شواهد ابن الأثير التي ساقها كدليل على الاستعارة الرديئة، أن يأتي بأمثلة أخرى لبيان هذا النوع، ولكنه لم يفعل.
ويتحدث عن الكناية والتعريض، فإذا جاء إلى التشبيه قال: إن الغرض منه إلحاق الناقص بالكامل، كتشبيه الطويل بالنخلة، والخد بالورد، والناعم بالحرير.
ومن ظن أن قوله تعالى في صفة الحور العين:
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (الصافات 49)، يشبه الكامل بالناقص إذ الحور أشد بياضا وحسنا من البيض، فقد وهم لأن هذا تشبيه الخفي عنا بالظاهر لنا إذ إدراكنا للحور العين بالوهم والتخييل، وإدراكنا للبيض بالحس والمشاهدة، وهو أقوى، ومن هذه الجهة وقع التشبيه.
* * * ويصف الطوفي اللغة العربية بالشجاعة لقوتها وكثرة تصرفاتها المختلفة، كما يوصف الحيوان بالشجاعة لظهور آثار قوته على بدنه وجوارحه من إقدام وشدة طعن.
ووصف العربية بالشجاعة يتضح في أسلوب الالتفات وهو الرجوع عن أسلوب من أساليب الكلام إلى غيره تطرية للسامع وإيقاظه للإصغاء، فإن اختلاف الأساليب أجدر بذلك من الأسلوب الواحد.
أو العدول عن فعل الحاضر إلى فعل الأمر تهاونا بصاحبه، كقول هود لقومه:
{إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ} (هود 54)، ولم يقل:
«وأشهدكم» للاستهزاء بهم والتهكم عليهم إذ شهادتهم لا تأثير لها، ولا اعتبار فيها.
أو من الماضي إلى الحاضر إيهاما للسامع بحضورها حال الإخبار بها ومشاهدتها.(1/19)
أو عن الحاضر إلى الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه في المستقبل بإيهام وقوعه في الماضي والفراغ منه.
أو التقديم والتأخير بأن يجعل اللفظ في رتبة قبل رتبته الأصلية أو بعدها لأهمية أو ضرورة، فلو كان الفاعل هو الأهم قدموه على غيره، وإن عري من الأهمية أخّروه، وتقديم الأهم حيث كان أوقع في النفس.
وهكذا إذا كان التقديم لفائدة وبقيت معه طلاوة الكلام وبلاغته، كان جيدا، وإن كان لغير فائدة فهو رديء وعيب كقول ذي الرمة:
فأصبحت بعد خطّ بهجتها ... كأنّ قفرا رسومها قلما
أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأنّ قلما خطّ رسومها، فلا فائدة من هذا التقديم والتأخير إلا التعقيد في المعنى، والإغراب في التركيب.
ومن شجاعة العربية الاعتراض وهو وقوع الكلام الأجنبي بين جزأي الجملة المرتبط أحدهما بالآخر. ومنه الجيد والرديء.
فالجيد: ما دخل الكلام لفائدة معنوية ولم يخلّ بطلاوته اللفظية، كقوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان 14)، وفائدة هذا الاعتراض تأكيد حق الوالدين بذكر تعبهما وما عانياه في تربيته، وقد وردت السنّة بتأكيد حق الأم على حق الأب لزيادة مشقتها في حمله ووضعه وتربيته، وفي الآية دليل على ذلك: من جهة أنه ذكرهما بلفظ الوالدين المشتق من الولادة وهي حقيقة من الأم مجاز من الأب، والأب فيها تابع للأم، دخيل عليها فيها، فدل على تأكد حقها عليه في البر كتأكد المتبوع على التابع.
والرديء: ما أخلّ بطلاوة الكلام ورونقه لغير فائدة، كقول الشاعر:
نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله
إلى الغرب حتى ظله الشمس قد غفل
واصل الكلام: نظرت مطلع الشمس، وشخص ظله إلى الغرب، ففصل بين الفعل والمفعول، كما فصل بين المبتدأ والخبر مما أذهب حلاوة الكلام وأضاع رونقه.(1/20)
نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله
إلى الغرب حتى ظله الشمس قد غفل
واصل الكلام: نظرت مطلع الشمس، وشخص ظله إلى الغرب، ففصل بين الفعل والمفعول، كما فصل بين المبتدأ والخبر مما أذهب حلاوة الكلام وأضاع رونقه.
وبين الجيد والرديء قسم متوسط، وهو ما لا فائدة له في الكلام، وإن كان لا يخل بطلاوته وحسنه كقول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فاعترض بين الشرط والجواب دون فائدة تذكر، وإن لم يخلّ بحسن الكلام ورونقه.
الإيجاز والإطناب: ويفرد الطوفي نوعا للإيجاز ونوعا للإطناب:
فالإيجاز هو التعبير عن المعنى الكامل بأقل ما يمكن من الحروف.
واعتناء العرب بهذا النوع شديد، بدليل وضعهم ألفاظا استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة غير متناهية كأدوات الاستفهام والشرط ونحوهما، فقولك: أين زيد؟
يغني عن قولك: أفي الدار هو أم في المسجد، واستقراء جميع الأماكن كلها.
وقولك: من يقم أقم معه، أغنى عن قولك: إن يقم زيد أو عمرو أو بكر أو فلان أقم معه.
وذهبت جماعة النقاد إلى أن الإيجاز حسن في الأشعار والمكاتبات ومحاورات الخواص، دون الخطب والمناسبات التقليدية وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من العوام مراعاة لأفهامهم إذ التطويل أبلغ في حقهم وأجدر ألا يخفى عليهم من المكتوب شيء. وقد رفض ابن الأثير التطويل في مثل هذه الأمور، ووافقه الطوفي على ذلك لأن التطويل يوجب مراعاة العامة في استعمال كلامهم الركيك وألفاظهم المبتذلة لأنهم آنس بها، وآلف لها، ولم يقل به أحد، بل على المؤلف سلوك النهج القويم، والطريق المستقيم، وليس عليه أن يفهم العامة كلامه، كما قال القائل:
عليّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليّ بأن لا تفهم البقر
والإطناب عكس الإيجاز، والإيجاز له موضع وهو للخواص، والإطناب له موضع وهو للخواص والعوام.(1/21)
عليّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليّ بأن لا تفهم البقر
والإطناب عكس الإيجاز، والإيجاز له موضع وهو للخواص، والإطناب له موضع وهو للخواص والعوام.
فالإطناب تطويل اللفظ والمعنى جميعا للمبالغة في الإفهام، والإيصال إلى الأوهام، ومن استعمل الإيجاز في موضع الإطناب، والإطناب في موضع الإيجاز، فقد أخطأ، والإطناب بلاغة، والتطويل عيّ.
وأحسن ما وصل إليه الإطناب في رأي الطوفي هو ما اشتهر بين العلماء المتأخرين من شروح الكتب المختصرة، فإن هذه الكتب في رتبة الإيجاز، وشروحها في رتبة الإطناب.
ومن الإطناب تفسير المبهم:
بأن يذكر الشيء مبهما ثم يفسر، وذلك طلبا لتفخيمه وإعظامه لأنه يذهب بالسامع كل مذهب، وقد استعدت النفس لشوقها إلى معرفة المبهم، فيكون أبلغ وأشد موقعا.
أما الإبهام دون تفسير فكثير في القرآن نحو قوله تعالى: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء 9)، فالتي صفة لشيء محذوف لا نعلم حقيقته أهي الطريقة أو الملّة أو الجنة؟.
إلا أن المعنى مفهوم من حيث الجملة إذ معناه: يهدي إلى الخير والرشاد.
والتكرار ينقسم إلى قسمين: مفيد وغير مفيد.
والمفيد من التكرار هو الذي ورد في القرآن الكريم، أما غير المفيد فقد خلا منه القرآن.
والغرض من التكرار المفيد: تأكيد الأمر وتفخيمه وتعظيمه، كأن يكرر المعنى الواحد لغرضين مختلفين، كقوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة 5)، فكرر لفظة إياك لأن الغرض منهما مختلف فالأولى تفيد إضافة العبادة إلى الله، والثانية إضافة الإعانة. وتكرار هذا اللفظ آكد وأدل على ضراعة المؤمنين وصدقهم وإخلاصهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القرآن في غاية البلاغة والكلام
البليغ يراعي فيه أحوال العبارة بالإضافة إلى المعنى، ولا شك أن: إياك نعبد وإياك نستعين، أعدل مما لو حذفت الثانية، فلو حذفت الثانية لنقصت عن الأولى جزءا، وزال الاعتدال والتناسب.(1/22)
والغرض من التكرار المفيد: تأكيد الأمر وتفخيمه وتعظيمه، كأن يكرر المعنى الواحد لغرضين مختلفين، كقوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة 5)، فكرر لفظة إياك لأن الغرض منهما مختلف فالأولى تفيد إضافة العبادة إلى الله، والثانية إضافة الإعانة. وتكرار هذا اللفظ آكد وأدل على ضراعة المؤمنين وصدقهم وإخلاصهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القرآن في غاية البلاغة والكلام
البليغ يراعي فيه أحوال العبارة بالإضافة إلى المعنى، ولا شك أن: إياك نعبد وإياك نستعين، أعدل مما لو حذفت الثانية، فلو حذفت الثانية لنقصت عن الأولى جزءا، وزال الاعتدال والتناسب.
أما التكرار غير المفيد، وهو ما لم يرد في القرآن، وإنما ورد في الشعر كقول المتنبي:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
فكرر لفظ (مثل) أربع مرات، وحاصله: إن مقام مثلي بين مثلهم عجيب.
وهو تكرار خال من الفائدة.
وثمة نوع آخر من التكرار، وهو تكرار المعنى دون اللفظ نحو: أطعني ولا تعصني، فالمعنى متكرر، فالأمر بالطاعة هو نهي عن المعصية، والغرض منهما واحد، وهو عدم التمرد عليه والخلاف له.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً}
(النساء 14)، فذكر تعدي الحدود يؤكد الوعيد على المعصية.
ويخبرنا الطوفي في كتابه الإكسير أن الخطاب بالجملة الاسمية أبلغ وآكد من الخطاب بالجملة الفعلية، وانظر إلى حقيقة ذلك من قوله تعالى: {وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا: آمَنََّا، وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا: إِنََّا مَعَكُمْ} (البقرة 14)، فالمنافقون يخاطبون المؤمنين بقولهم (آمنّا) بالجملة الفعلية، فدلّ على كذبهم، إذ لو صدقوا لأكدوا وأخبروا بالجملة الاسمية، كما قالوا لشياطينهم (إنّا معكم) فدلّ على صدقهم في ذلك.
وكما قال المؤمنون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذََابَ إِنََّا مُؤْمِنُونَ} (الدخان 12)، فإنه أقرهم على ذلك ولم يرد عليهم، في حين أنه رد على الأعراب حين ادعوا الإيمان كذبا: (قالت الأعراب آمنّا) فرد عليهم قائلا: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} (الحجرات 14).
ويخبرنا أيضا أن ورود الكلام بلام التأكيد لا يكون إلا لأمر يعزّ وجوده وفعل
يعظم حدوثه، كقوله تعالى بصدد الزرع والحرث: {لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً}
(الواقعة 65). وقال في الماء: {لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} (الواقعة 70)، بغير لام والفرق بينهما أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذاب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا، فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد، بخلاف جعل الحرث حطاما، فإنه على خلاف العادة، فاحتاج التوعد به إلى تأكيد.(1/23)
ويخبرنا أيضا أن ورود الكلام بلام التأكيد لا يكون إلا لأمر يعزّ وجوده وفعل
يعظم حدوثه، كقوله تعالى بصدد الزرع والحرث: {لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً}
(الواقعة 65). وقال في الماء: {لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} (الواقعة 70)، بغير لام والفرق بينهما أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذاب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا، فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد، بخلاف جعل الحرث حطاما، فإنه على خلاف العادة، فاحتاج التوعد به إلى تأكيد.
ومن هذا الباب سؤال اشتهر لكثرة دورانه بين كثير من الناس، وتقريره: لم أكد الله الموت باللام ولم يؤكد الإخبار بالبعث باللام؟ في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون 16)، وقد كان العكس أولى وأنسب إذ البعث مختلف فيه، وهو أحوج إلى التأكيد، بخلاف الموت فإنه لمشاهدته وتحققه عند كل أحد مستغن عن التأكيد.
والجواب عن ذلك: إن المكلفين سمعوا هذا القول من الرسول عليه السلام، فإن كانوا يعتقدون أن الرسول عليه السلام صادق ومعصوم لم يحتج في تصديقه بالبعث إلى التأكيد باللام كأبي بكر مثلا.
وإن كان لمن كذبه كأبي جهل مثلا، فإنه لا يصدق بالبعث، ولو أخبره وأكد له الكلام بكل أدوات التوكيد. وحينئذ لا يظهر للتأكيد أثر.
وفي القرآن الكريم نوع يسمى بالاستدراج، وهو التوصل إلى بلوغ المراد من المخاطب بالتلطف من حيث لا يشعر كقوله تعالى بلسان إبراهيم لأبيه:
{يََا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يََا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جََاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مََا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرََاطاً سَوِيًّا، يََا أَبَتِ لََا تَعْبُدِ الشَّيْطََانَ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلرَّحْمََنِ عَصِيًّا، يََا أَبَتِ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطََانِ وَلِيًّا} (مريم 4542).
فطلب منه أولا العلّة، والدليل على استحقاق آلهته العبادة، وضمّن ذلك الدليل على أنها لا تستحقها، وهو كونها لا تسمع ولا تبصر، ومن كان كذلك فهو جدير أن لا يغني عنك شيئا، وأنت جدير ألا تعبده، ثم ارتفع عن ذلك يسيرا فقال:
{إِنِّي قَدْ جََاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مََا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي}، ولم يصرح له بالتجهيل تأدبا وتلطفا، ثم ارتفع عن ذلك قليلا، فقال: {لََا تَعْبُدِ الشَّيْطََانَ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلرَّحْمََنِ، عَصِيًّا}، فيريد أن يجعلك مثله وهو عدوّ له فاقتصر على إخباره بمعصية الشيطان للرحمن، ولم يلتفت إلى عدوانه لأبيه، ثم ارتفع قليلا فتوعده بالعذاب غير مصرح، بل قال: {إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ.} هذا مع تصدير كل جملة من الكلام بقوله {يََا أَبَتِ} تقربا إلى قلبه، واستعطافا له.(1/24)
فطلب منه أولا العلّة، والدليل على استحقاق آلهته العبادة، وضمّن ذلك الدليل على أنها لا تستحقها، وهو كونها لا تسمع ولا تبصر، ومن كان كذلك فهو جدير أن لا يغني عنك شيئا، وأنت جدير ألا تعبده، ثم ارتفع عن ذلك يسيرا فقال:
{إِنِّي قَدْ جََاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مََا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي}، ولم يصرح له بالتجهيل تأدبا وتلطفا، ثم ارتفع عن ذلك قليلا، فقال: {لََا تَعْبُدِ الشَّيْطََانَ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلرَّحْمََنِ، عَصِيًّا}، فيريد أن يجعلك مثله وهو عدوّ له فاقتصر على إخباره بمعصية الشيطان للرحمن، ولم يلتفت إلى عدوانه لأبيه، ثم ارتفع قليلا فتوعده بالعذاب غير مصرح، بل قال: {إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ.} هذا مع تصدير كل جملة من الكلام بقوله {يََا أَبَتِ} تقربا إلى قلبه، واستعطافا له.
هذا ما كان من أمر إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، خطاب في غاية الرقة واللطف والاستعطاف، ثم انظر كيف كان جواب أبيه، كان غاية في الغلظة والشدة والفظاظة قال: {أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، فأنكر عليه رغبته عن آلهته إنكارا عنيفا، فسمّاه باسمه، ولم يقل له: يا بني، كما قال له إبراهيم: يا أبت، وتوعّده بالرجم توعّدا مؤكدا لا تعريضا، كما قال هو له: {إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ} وأمر إبراهيم بهجرانه مليّا إظهارا لتبرئته منه، وجفوته له وكراهته ما جاء به.
فإذا كان اللطف، والاستعطاف يسمى بالاستدراج، فإن ضده وهو العنف والقوة يطلق عليه الطوفي: ضد الاستدراج.
هذه هي أنواع علم البيان المعنوية، وقد ذكر منها الطوفي تسعة وعشرين نوعا أتينا على معظمها، ولم نعرض لها جميعا، وما أهملناه منها لم نذكره لأنه لا يتعلق بالقرآن وبيانه وبلاغته مما لا يحتاج إليه من يتعرض لتفسير القرآن.
* * * هذا، وليس لزاما عليّ أن أذكر ما قمت به من عمل أو ما بذلت من جهد في تحقيق هذا الكتاب من نسخته الفريدة، إذ لا يبلو هذا الجهد إلا المشتغلون بتحقيق التراث، وهم ليسوا في حاجة لمن يخبرهم به.(1/25)
وكل ما أرجوه أن أكون قد أسهمت بتقديم هذا الكتاب القيم المجهول إلى أيدي القرّاء والدارسين في إثراء المكتبة البلاغية، وإضافة علم جديد إلى أعلام البلاغة وهم قلة.
أسأل الله أن ينفع به المهتمين بعلوم القرآن بصفة عامة، والمشتغلين بقواعد التفسير وعلوم البلاغة بصفة خاصة. وعلى الله قصد السبيل.
المحقق د. عبد القادر حسين(1/26)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم قال الشيخ الإمام الأوحد الكامل الفاضل المتقن: نجم الدين سليمان بن عبد القوي ابن عبد الكريم البغدادي الطوفي رحمه الله تعالى:
أحمد الله على إنعامه الغزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا معين له ولا ظهير، وأصلي على محمد عبده ورسوله البشير النذير، المنقذ بشفاعته من هول اليوم العبوس القمطرير، صلى الله عليه وعلى آله الأسود النحارير، وصحابته الليوث المقاصير، ما سمر ابنا سمير، وابن حراء مناوح ثبير (1)، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد.
فإنه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير، وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أر أحدا منهم كشفه فيما ألّفه، ولا نحّاه فيما نحّاه، فتقاضتني النفس الطالبة للتحقيق، الناكبة عن جمر الطريق لوضع قانون يعوّل عليه، ويصار في هذا الفن إليه، فوضعت لذلك صدر هذا الكتاب، مردفا له بقواعد نافعة في علم الكتاب، وسميته «الإكسير في قواعد التفسير» فمن ألف على هذا الوضع تفسيرا، صار في العلم أولا وإن كان أخيرا، ولم أضع هذا القانون لمن يجمد عند الأقوال، ويصمد لكل من أطلق لسانه وقال، بل وضعته لمن لا يغتر بالمحال، وعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، وجعلته بحسب الانقسام على مقدمة وأقسام:
__________
(1) ابنا سمير: الليل والنهار لأنه يسمر فيهما، وقيل الدهر كله. ثبير: جبل معروف عند مكة يسمى ثبير حراء.
(انظر اللسان مادة سمر، وثبر).(1/27)
المقدمة في بيان معنى التفسير والتأويل
أما التفسير: فهو تفعيل من فسرت النورة (1) إذا نضحت عليها الماء لتنحلّ أواخرها، وينفصل بعضها من بعض، وكأنّ التفسير يفصل أجزاء معنى المفسّر بعضها من بعض حتى يتأتّى فهمه، والانتفاع به، كما أن النورة لا يتهيأ الانتفاع بها إلا بتفصيل أجزائها بتفسيرها.
وأما التأويل: فتفعيل أيضا من آل الشيء إلى كذا يئول أولا، إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته، فسمّي تأويل الكلام تأويلا لأنه بيان ما يئول معناه إليه، ويستقر عليه.
ثم قيل هما مترادفان لأنه يقال: هذا تفسير الكلام وتأويله، بمعنى واحد، وقيل التأويل أعم لجريانه في الكلام وغيره، يقال تأويل الكلام كذا، وتأويل الأمر كذا، أي: ما يئولان إليه، قال الله تعالى: {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} (2). هذا في الكلام، وقال في الأمر ونحوه: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ.}
إلى قوله: {ذََلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3)، أي أحسن مآلا وعاقبة. وكذا قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا تَأْوِيلَهُ} (4)، أي مآل القرآن وعاقبة ما تضمنه من الوعيد.
__________
(1) النورة: الحجر الذي يحرق، ويسوى منه الكلس، ويحلق به الشعر. (اللسان مادة نور).
(2) سورة آل عمران آية 7.
(3) سورة النساء آية 59وتكملة الآية: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا».
(4) سورة الأعراف آية 53.(1/28)
بخلاف التفسير، فإنه يخص الكلام ومدلوله، يقال تفسير الكلام كذا، والقضية كذا، ولهذا قال بعض المفسرين: التفسير: بيان موضوع اللفظ، والتأويل بيان المراد به، وقوله تعالى: {وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (1) من هذا القبيل، نعم يجوز استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا على هذا القول وهو الأظهر إذ الأصل عدم الترادف عند من يثبته. هذا آخر المقدمة.
__________
(1) سورة الفرقان آية 33(1/29)
القسم الأول في معاني القرآن(1/31)
القسم الأول أما الأقسام، فأولها في بيان احتياج بعض قراء القرآن إلى التفسير والتأويل:
اعلم أن الكلام إما أن يكون متضح اللفظ والمعنى، أو لا.
فالأول: لا حاجة له إلى تفسير بل هو بيّن بنفسه لاتضاح لفظه، واشتهاره وضعا أو عرفا، ونصوصيته في معناه نحو: {فَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَسْقَيْنََاكُمُوهُ} (1).
فإن لفظ الإنزال والسماء والماء والإسقاء معروفة مشهورة، ونصوصيتها في مدلولاتها غير منكورة.
أما الثاني: وهو عدم الإيضاح في لفظه ومعناه جميعا لاشتراك نحو: {ثَلََاثَةَ قُرُوءٍ} (2) للطهر والحيض، وعسعس الليل (3) لأقبل وأدبر، {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4) لاحتماله النهي والخبر، أو لظهور تشبيه، كآيات الصفات نحو {يَدََاهُ مَبْسُوطَتََانِ} (5)، {وَجْهُ رَبِّكَ} (6)، {وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي} (7)، {وَلََا}
__________
(1) سورة الحجر آية 22.
(2) سورة البقرة آية 228 «والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء».
(3) «والليل إذا عسعس» سورة التكوير 17.
(4) سورة الواقعة آية 79.
(5) سورة المائدة آية 64 «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء».
(6) سورة الرحمن آية 27 «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»
(7) سورة طه آية 39.(1/33)
{أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} (1). أو لغرابة في اللفظ نحو {ضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} (2)، {ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحََابِهِمْ} (3)، {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (4) وهو المحتاج إلى التفسير.
فإن قلت ما فائدة ورود هذه الأقسام التي يحتاج بعض قرّائها إلى التفسير في القرآن، وهو إنما ترك لتكليف الخلق بالعمل بمضمونه، وقد كان إنزاله جميعه متضحا عريا عن الإشكال والإجمال كالقسم الأول، أحرى أن تبادر الأفهام إلى معناه، فتبادر القلوب والأبدان إلى امتثال مقتضاه؟. قلت: فائدته من وجوه:
أحدها: أن القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، وهي مشتملة على القسمين: أعني المتضح وغيره، وكلاهما عندهم بليغ حسن في موضعه كما سيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى، فلو خلا القرآن من أحدهما، لكان مقصرا عن رتبة اللغة. فلا يصلح إذن للإعجاز.
الثاني: أنه تعالى أنزل المتضح ليتعبد المكلفون بالعمل به بادئ الرأي: أعني على الفور من غير احتياج إلى نظر، وأنزل غير المتضح الذي يمكن التوصل إلى معرفة معناه بالنظر ليتعبد العلماء بالاجتهاد في استخراج معناه، والمقلدون لهم بتقليدهم فيه، وتلقينهم له عنهم بالقبول، فيعظم أجر الفريقين ما دام تعبدهم به، وأنزل ما استند بتأويله كالمتشابه ليتعبد الجميع بالإيمان، ولهذا أثنى على المؤمنين به بقوله تعالى:
{وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} (5) على ما قررناه في كتاب بغية السائل (6)، وحينئذ لا تنافي بين هذا وبين قولك: إنما أنزل لتكليف الخلق بالعمل بمضمونه لأن العمل بمضمون المفهوم منه، والإيمان بغير المفهوم منه، تعبدان
__________
(1) سورة المائدة آية 116.
(2) سورة هود آية 77.
(3) سورة الذاريات آية 59، والذنوب: النصيب، وأصله الدلو العظيمة فيها الماء. انظر غريب القرآن 94.
(4) سورة المدثر 51قسورة: الأسد، فعولة من القسر وهو القهر.
(5) سورة آل عمران آية 7.
(6) اسم الكتاب: «بغية السائل في أمهات المسائل» للمؤلف.(1/34)
صحيحان يحصل بهما تمييز الطاعة من العصيان، والكفر من الإيمان، وهذا من خرج الجواب عن بقية سؤالك.
الثالث: لعله تعالى جعل إنزال هذا القسم شركا من أشراك الضلال، يوقع فيه من يعترض عليه به، مثل هذا السائل الذي وظيفته الانقياد والتسليم لأمر مولاه الذي لا يسأل عما يفعل، وقد وقع ذلك منه بإخباره الصادق عن نفسه حيث يقول:
{وَكَذََلِكَ فَتَنََّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهََؤُلََاءِ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنََا} (1) فجعل منّه على المستضعفين سبيا لإضلال المعترضين المكذبين، وكذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} (2).
الرابع: لو فرضنا أن ليس في إنزاله حكمة تظهر لنا، لكن يجب حمله على حكمة خفيت عنا، لقيام الدليل على حكمته تعالى، وأنه لا يفعل شيئا عبثا لا لحكمة، ولو ذهب ذاهب إلى إنكار الحكمة في كل فعل لم تظهر له حكمته، لكان حينئذ مدّعيا مساواة الله تعالى في علمه، ومشاركته في معلوماته، ودعوى ذلك كفر، هذا كله إن قلنا: إن أفعال الله تعالى معللة، وإن قلنا: إنها لا تعلل استرحنا من الجواب عن هذا السؤال أصلا، إذا ثبت هذا وأن في القرآن ما يحتاج إلى التفسير، فاعلم أنه قد ثبت عن ابن مسعود (3) رضي الله عنه أنه قال: كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها، وهذا نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، وظاهره أنهم كانوا يأخذون ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع احتمال أنهم كانوا يأخذونه عن غيره من الصحابة، أو عنه عليه السلام وعن غيره، فإنه كان على عهده صلّى الله عليه وسلّم من يؤخذ عنه العلم ويفتي من الصحابة رضوان الله عليهم، وأشد الأحوال ما ادعيناه: أنهم كانوا يأخذونه عنه عليه السلام، وأنه لم يمت حتى أخذ عنه تفسير القرآن حرفا حرفا،
اختلاف أقوال المفسرين في الآية الواحدة وسبب الاختلاف:
لكن مع ذلك فإنا نجزم أن في
__________
(1) سورة الأنعام آية 53.
(2) سورة الحج آية 53.
(3) يكنى أبا عبد الرحمن، شهد مع الرسول عليه السلام بدرا وبيعة الرضوان وجميع المشاهد وكان على قضاء الكوفة وبيت مالها في عهد عمر وصدرا من خلافة عثمان وتوفى بالمدينة سنة 22هـ ودفن بالبقيع.
المعارف 109الطبعة الأولى.(1/35)
التفاسير المتداولة بين الأمة ما لم يقله النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو عرض عليه لردّه وزجر قائله، ونعرف ذلك من اختلاف أقوال المفسرين في الحرف الواحد أو الآية الواحدة على عشرة أقوال وأكثر وأقل، بعضها يردّ بعضها، أو يضادّه، أو يناقضه، وأقلّ ما فيه أن تختلف تلك الأقوال أو بعضها بالعموم والخصوص، وسبب ذلك، أن ما أخذه بعض الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من التفسير، تناقلوه فيما بينهم على حسب الإمكان، ولعلّ بعضهم مات ولم ينقل ما عنده منه لمبادرة الموت له، ثم تفرق الصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم في البلاد، ونقلوا ما علموه من التفسير إلى تابعيهم، وليس كل صحابي علم تفسير جميع القرآن بل بعضه إذ الجامعون للقرآن على عهده صلّى الله عليه وسلّم كانوا نفرا معدودين، وشرذمة قليلين، فألقى الصحابي ذلك البعض إلى تابعه، ولعل ذلك التابعي لم يجتمع بصحابي آخر يكمل له التفسير، أو اجتمع بمن لا زيادة عنده على ما عنده عن الصحابي الذي أخذ عنه، فاقتصر عليه، وشرع يكمل تفسير القرآن باجتهاده استنباطا من اللغة تارة. ومن السنة تارة ثانية، ومن نظير الآية المطلوب تفسيرها من القرآن تارة ثالثة، ومن مدارك أخر رآها صالحة لأخذ التفسير منها: كالتاريخ، وأيام الأمم الخالية، والقضايا الإسرائيليات ونحوها، فاتسع الخرق، وكثر الدخل في التفسير، حتى آل الأمر إلى الأقوال الكثيرة، فتفعل كل طبقة من المفسرين كفعل التي قبلها، من زيادة الوجوه، والأقوال، والاختيارات، كما نراهم يصرحون به في تفاسيرهم، وينسبون الأقوال إلى آرائهم ومذاهبهم، وهذا بعينه هو كان السبب في اختلاف مذاهب الفقهاء رحمهم الله: أعني تفرق الصحابة في البلاد، واختصاص بعضهم بما ليس عند غيره من ناسخ أو منسوخ، أو زيادة في حكم من تقييد مطلق، أو تخصيص عام، ونحوه، فأفتى كل منهم بما انتهى إليه علمه، ثم انضم إلى ذلك اختلافهم في تأويل الكتاب والسنة بحسب ما فهموه من اختلاف اللغات، والقرائن، والأحوال، ثم تلقى ذلك عنهم التابعون رحمهم الله،
اختلاف مذاهب الفقهاء وسبب الخلاف:
فمن بعدهم فلا جرم كثر الخلاف جدا كما حكى عبد الوارث بن سعيد (1) قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا
__________
(1) عبد الوارث بن سعيد يعرف بالتنوري، ويكنى أبا عبيده مولى لبني العنبر من بني تميم وهو من أصحاب الحديث توفي بالبصرة سنة 180هـ المعارف 223.(1/36)
حنيفة (1)، وابن أبي ليلى (2) وابن شبرمة (3) رحمهم الله، فقلت لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟ قال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته، فقال:
البيع جائز والشرط جائز، فقلت: سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب (4) عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن بيع وشرط» البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة (5) عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أمرني النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: ما أدري ما قالا. حدثني مسعر بن كدام (6) عن محارب بن دثار عن جابر رضي الله عنه قال: بعت من النبي صلّى الله عليه وسلّم ناقة وشرط لي حملها إلى المدينة، البيع جائز، والشرط جائز. قلت: فقد استند كل من هؤلاء الأئمة إلى دليل، لكن وقع التقصير من كل منهم: إما من جهة أنه لم يحفظ ما عند صاحبه، وإما من جهة الجمع بين الأحاديث بتنزيلها على اختلاف أحوال، أو غير ذلك من التصرفات الفقهية، وقد
__________
(1) هو النعمان بن ثابت كان خزازا بالكوفة، ودعاه ابن هبيرة للقضاء فأبى، وهو أحد الائمة الأربعة توفي سنة 150هـ المعارف 216.
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من ولد أحيحة بن الجلاح، ولي القضاء لبني أمية ثم بني العباس، فقيها مفتيا بالرأي توفي سنة 148هـ المعارف 216.
(3) هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي ولاه أبو جعفر المنصور قضاء الكوفة وتونس سنة 144هـ.
انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (حيدرآبار) والمعارف 207.
(4) هو عمرو بن شعيب بن محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي قال الأوزاعي: ما رأيت قرشيا أكمل من عمرو بن شعيب وتوفى بالطائف سنة 118هـ. وقد ذكر الألباني أن هذا الحديث لا أصل له انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة رقم 491. وانظر ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3/ 263ط عيسى الحلبي.
(5) هو هشام بن عمرو بن الزبير بن العوام توفي سنة 146هـ تهذيب التهذيب 11/ 48.
(6) هو مسعر بن كدام بن ظهير الهلالي ت 152هـ المعارف 211.(1/37)
صرح الحميدي (1) رحمه الله بأن سبب اختلاف مذاهب الفقهاء هو ما ذكرته فيه، وإذا جاء مثل هذا في مذاهب الفقهاء جاز مثله في مذاهب المفسرين لاشتراكهما في السبب، وكونهما من الدين، فإن قلت: لا يظنّ بعلماء السلف الصالح مع ورعهم وزهدهم وثقتهم وأمانتهم، وما كانوا عليه من خوف الله ورهبته، وتعليم آياته وكتبه، أن يقدموا على تأويل القرآن من عندهم، مع علمهم بقوله عليه السلام: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي (2) وحسنه، وفي لفظ وأضاف: فقد أخطأ، وبما حكي عن الصدّيق رضي الله عنه من قوله: «أيّ سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم». وكان الأصمعي (3) مع تقدمه وسعة باعه في اللغة، يحتمي تفسير القرآن وإعرابه، وإذا احتمى تفسيره والكلام فيه مثل هذين الإمامين المتقدمين في عصرهما، فغيرهما ممن هو دونها أولى، وحينئذ يتعين حمل كل ما نقل من تفسير القرآن على أنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قلت: قد بينّا أن نسبة جميع ما نقل من التفسير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مما لا سبيل إليه البتة لوقوع الخلاف فيه، والتناقض، وتصريح كثير من المفسرين بنسبة أقوالهم إلى أنفسهم، وأما ما ذكرت من الشبهة فلا مرية في إنصاف السلف بما ذكرت من الصفات الجميلة، لكن ذلك لا ينافي كلامهم في القرآن لوجوه:
أحدها: أن تقدير صحة الحديث المذكور يجوز أنهم ما علموه. أو أن الذي علمه منهم لم يتكلم فيه، ولسنا ندعي أن جميعهم تكلم فيه بل بعضهم، وحينئذ يكون خطأ من أخطأ منهم في تأويله، خطأ اجتهاديا وهو مرفوع كما في أحكام الفروع.
__________
(1) الحميدي صاحب ابن عيينة، وهو عبد الله بن الزبير المكي مات بمكة سنة 219هـ المعارف 229.
(2) هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ولد سنة 200وتوفي سنة 279هـ وله تصانيف كثيرة في علم الحديث. تيسير الوصول إلى جامع الأصول وهو جزء من حديث صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي ذكره في باب الفتن «ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وفي مسند ابن حنبل «من كذب على القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» 1/ 323. 327.
(3) هو عبد الملك بن قريب من باهلة، كان شديد التوفي لتفسير القرآن وحديث النبي، ولم يرفع إلّا أحاديث يسيرة، وصدوقا في غير ذلك من حديثه، ولد سنة 123وعمر نيفا وتسعين سنة المعارف 236.(1/38)
الثاني: بتقدير أنهم علموا الحديث، لكن الممنوع من الكلام هو العامي أو الضعيف الذي ليس له أهلية الكلام فيه بدليل قوله عليه السلام:
«من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» صححه الترمذي. أما العلم المتأهل للكلام فيه فليس ممنوعا منه، ذكر ذلك الحسين بن مسعود في مقدمة تفسيره لمفهوم الحديث، ومن هذا يخرج الجواب عن حكاية الصديق لأن سكوته كان عما لا يعلم منه، بدليل قوله «إذا قلت في القرآن ما لا أعلم» وبدليل أنه قد تكلم في أحكام الشريعة بما علم، وليس الكلام في القرآن بأعظم خطرا من الكلام في الأحكام إذ الكل كلام في دين الله تعالى. وأما الأصمعي رحمه الله، فإن كان احتماؤه للكلام فيه بما لا يعلم فهو غاية التوفيق والصواب لأن كلامه إذن فيه يحرم، وإن كان مع العلم فذلك: إما جمود وجبن، وإما خروج إلى السلامة، واكتفاء بمن تكلم فيه قبله، وفي عصره من الأئمة الذين هم حجة عليه وله.
الثالث: لعل علماء السلف رحمهم الله رأوا أن الكلام في القرآن متعيّن عليهم، وأنهم أولى به ممن أتى بعدهم لقربهم من التنزيل ومعرفة التأويل، فيكون ورعهم وزهدهم وخشيتهم هي الحاملة لهم على الكلام فيه خشية أن يدرس من علم شريعة الله ودينه ما لا يمكن تداركه، ورأوا أن الخطأ عنهم في ذلك موضوع كالأحكام الفرعية الاجتهادية، وذلك كما حكي عن موسى بن عقبة (1) لما رأى ما دخل على مغازي النبي صلّى الله عليه وسلّم من الزيادة والنقص، جمع ما صح عنده من المغازي ليحرسها بذلك، ومن الكذب، فأثنى العلماء عليه بها، وحكموا بأنها أصح المغازي. إذا ثبت ذلك، وأن علماء الأمة سلفا وخلفا قالوا في التفسير باجتهادهم مما لم يثبت أخذه بخصوصه من الشارع، وجب وضع قانون يتوصل به إلى علم التفسير، فنقول وبالله التوفيق: كلما أردنا فهم معنى كلام الله عز وجل فلا يخلو: إما أن يكون بيّنا بنفسه كالقسم الأول من قسمي الكلام المذكورين، أو لا، فإن كان فلا إشكال إذ المراد منه هو المفهوم منه
__________
(1) هو موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي عالم بالمغازي، من ثقات رجال الحديث من أهل المدينة، ولد وتوفي بالمدينة، وله كتاب في المغازي. الأعلام للزركلي 8/ 276.(1/39)
لكل عاقل، كالمفهوم من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ} (1)، {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ} (2)، {لَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا بِالْبَيِّنََاتِ} (3)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطََاعَ اللََّهَ} (4)، {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ} (5) ونحو ذلك.
وإن لم يكن كذلك، فلا يخلو: إما أن يكون في تأويله دليل عقلي قاطع، أو نص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تواتري، أو اتفاق من العلماء إجماعي، أو نص أحادي صحيح، أو لا يكون شيء من ذلك، فإن كان فيه شيء من الطرق المذكورة، وجب المصير فيه إلى ما دل على أنه المراد منه، سواء كان ما دل عليه أحد هذه الطرق موافقا لظاهر لفظ الكلام أو لا.
أما العقلي القاطع والتواتر، فلإفادتهما العلم القاطع، فلا يعارضه الظاهر المحتمل ولذلك قدمناهما.
وأما الإجماع فلاستلزامه دليلا تقوم به الحجة من نص أو غيره إذ لا إجماع إلا عن مستند، ولقيام الدليل على عصمة الأمة من أن تجمع على خطأ، ومثال ذلك تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ} (6)، {وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ} (7)
ونحوه، على أنه كذلك بعلمه لا بد أنه والإجماع على هذا التأويل مستند إلى العقل القاطع باستحالة التجزئة، والتبعّض والحلول عليه تعالى.
وأما الآحاديّ الصحيح فلأنه يعتاد عليه الظنّ، ويوجب العمل والعلم على مذهب مرجوح، فكان أولى من غيره، وإن لم يكن في تأويله شيء من الطرق المذكورة، مثل
__________
(1) سورة البقرة آية 43.
(2) سورة الإسراء آية 32.
(3) سورة الحديد آية 25.
(4) سورة النساء آية 80.
(5) سورة الجن آية 23.
(6) سورة الحديد آية 4.
(7) سورة المجادلة آية 7.(1/40)
إن كان فيه آحاد ضعيفة، أو شيء عن أصحاب التواريخ والسير غير مفيد للعلم بصحة ما دلّ عليه، أو ظنه بدليل خارج من قرينة عقلية أو غيرها، أو تأويل مختلف فيه متعارض عن العلماء، نظرنا: فإن كان ما ورد فيه من الأحاديث الضعيفة والتواريخ والسير المذكورة موافقا للمفهوم من ظاهر الكلام، أو من فحواه، أو معقوله، حمل الكلام على ما فهم منه، وكان الخبر الضعيف ونحوه مؤكدا لما استفيد من اللفظ، وإن لم يكن موافقا للمفهوم من ظاهر اللفظ أو معقوله ألغي لضعفه وضعف ما يفيده الظن إن أفاده، واعتبر مفهوم ظاهر الكلام لقوته وقوة ما يفيده من ظن أن المراد ما لم يمنع منه مانع أقوى منه إذ المقصود من الكلام الإفهام، والظاهر من المتكلم الحكيم إرادة ظاهر الكلام. وأما ما ورد فيه التأويل المختلف عن العلماء، فذلك الاختلاف إما أن يشتمل على التناقض والتضاد أو لا فإن اشتمل عليه «كالقرء» التي صيّر في تأويلها إلى الحيض مرة، وإلى الإطهار أخرى، كان أحد النقيضين أو الضدين متعينا للإرادة لاستحالة الامتثال بالجمع بينهما، وحينئذ يجب التوصل إلى المراد المتعين بطريق قوي راجح من الطرق المتقدّم ذكرها أو غيرها إن أمكن، وإن لم يشتمل على التناقض بل كان مجرد اختلاف، وتعدّد أقوال، فإن احتمل اللفظ جميعها وأمكن أن تكون مرادة منه، وجب حمله على جميعها ما أمكن، سواء كان احتماله لها مساويا، أو كان في بعضها أرجح من بعض، وإلا فحمله على بعضها دون بعض إلغاء للفظ بالنسبة إلى بعض محتملاته من غير موجب، وهو غير جائز، ولأنه لو جاز أن يكون مرادا، فإعمال اللفظ بالنسبة إليه أحوط من إهماله، نعم إن كان احتماله لها متفاوتا في الرجحان، جاز في مقام الترجيح تقديم الأرجح فالأرجح بحسب دلالة اللفظ عليه، أو جلالة قائله، أو عاضده الخارجي، وغير ذلك من وجوه الترجيحات. ومثال ذلك، أعني: احتمال اللفظ للوجوه المتعددة قوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} (1). قيل هي:
مساقط النجوم في المغرب، وقيل: إن منه نزول القرآن لأنه نزل في ثلاث وعشرين سنة (2) فاللفظ يحتمل القولين فيجوز أن يكون القسم بهما مرادا لله عز وجل لأنهما
__________
(1) سورة الواقعة آية 75.
(2) في الأصل: لأنه نزل نحو ما في ثلاث وعشرين سنة.(1/41)
عظيمان لا سيما على قول من يقول: يجوز إرادة حقيقة اللفظ، ومجازه جميعا منه، وكذلك الأشياء التي أقسم الله بها نحو: {وَالضُّحى ََ} (1)، {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ} (2) قيل: المراد القسم بحقائقها لعظم الآيات فيها، وقيل: القسم بخالقها وربها على حذف المضاف، أي: وربّ الضحى، والليل، والشمس، والقمر، فيجوز إرادة المعنيين في القسم، وأنه تعالى أقسم بنفسه، وبعظم آياته الصادرة عن قدرته، فيكون هذا في الحقيقة قسما بذاته وصفته، وكذا قوله تعالى: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} (3) قيل: هو الشفاعة، وقيل: الوسيلة، وقيل: يجلسه معه على العرش، وقيل غير ذلك، إلى اثني عشر قولا، واللفظ يحتملها، وإرادتها جائزة، واجتماعها ممكن إذ لا مانع من أن الله تعالى يقبل شفاعته حيث يشفع، ويعطيه الوسيلة وهي منزلة في أعلى منازل الجنة، ولهذا قال: إنها لا تنبغي إلا لرجل واحد من بني آدم، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة، حلّت عليه الشفاعة، ويجلسه معه على العرش على أصل أهل السنة فيه وأنه سرير جوهري، ولا عبرة بما يقوله المبتدعة من لزوم التجسيم إذ لا صيّور له (4) عند التحقيق، وقد حكي عن محمد بن ساقلا أنه قال: لو حلف حالف بالطلاق أن الله تعالى يجلس محمدا صلّى الله عليه وسلّم معه على العرش، لما حنّثته.
وضع قانون يتوصل به إلى علم التفسير:
واعلم أن هذا القول منه، ليس لأن هذا الإجلاس مقطوع به بل لكونه ممكنا جائز الوقوع والإرادة من اللفظ، وإنما المقطوع به المقام المحمود في الجملة. أما خصوص هذا الإجلاس أو غيره من الأقوال سوى ما تواترت به السنة، أو استفاضت من الشفاعة فلا، وإنما لم يحنثه أبو إسحاق (5) لما ذكرناه من الإمكان، ولكون صحة
__________
(1) سورة الضحى آية 1.
(2) سورة الليل آية 1.
(3) سورة الإسراء آية 79.
(4) الصيور والصائرة: ما يئول إليه الشيء (اللسان مادة صير).
(5) أبو إسحاق الفزاري هو إبراهيم بن محمد بن الحرث كان خيرا فاضلا غير أنه كثير الغلط في حديثه توفي سنة 188هـ المعارف 224.(1/42)
النكاح وثبوته متيقنا، فلا يحكم بدفعه بأمر محتمل، وإن لم تمكن إرادة تلك الأقوال جميعها من اللفظ لدليل دلّ على عدم إمكانها منه، لم يحمل إلا على ما أمكن إرادته منها منه (1) والله أعلم.
فائدة هذا القانون ومن ينتفع به:
واعلم أن التزام هذا القانون في التفسير يدفع عنك كثيرا من خبط المفسرين بتباين أقوالهم، واختلاف آرائهم، وإنما ينتفع بالتزام هذا القانون من كانت له يد في معرفة المعقول، والمنقول، واللغة وأوضاعها، ومقتضيات ألفاظها، والمعاني، والبيان، بحيث إذا استبهم عليه تفسير آية، وتعارضت فيها الأقوال، صار إلى ما دلّ عليه القاطع العقلي، أو النقلي على تفصيل سبق، ثم إلى مقتضى اللفظ لغة، ونحو ذلك. أما من كان قاصرا فيما ذكرناه، فلا ينتفع بما قررناه لأنه يكون كمن له سيف قاطع، لكن لا تقلّه يده لعلة به، فيقول كما قال صخر بن عمرو (2) عند ذلك:
أهمّ بفعل الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فإن قلت: لا شك أن المفسرين نقلوا كل ما بلغهم من وجوه التفسير، ولم يتعرّض أحد منهم لما ذكرت، فدل على أنه غير معتبر، ويؤكد ذلك أنهم تتبّعوا ألفاظ القرآن ومعانيه، فلم يتركوا منها شيئا إلا تكلموا عليه، فإخلالهم مع ذلك بهذا القانون الذي زعمت: أن لا سبيل إلى الانتصاف من علم التفسير بدونه بعيد جدا.
قلت: نقل المفسرون كل ما بلغهم من وجوه التفسير، وعدم تعرضهم للقانون الذي ذكرته لا يدل على عدم اعتباره لجواز أنهم نقلوه ما نقلوه ليعتبر بالقانون المذكور، ألا ترى أن رواة الحديث نقلوا كل ما بلغهم منه: من صحيح وسقيم، ثم إن جهابذة النقد منهم وضعوا للحديث قانونا معتبرا اعتبروا به أحوال الرواة، ونقّحوا به إحكام الروايات، حتى عرف السقيم من الصحيح، والمعدّل من الجريح، واتضح المبهم، وفصح الأعجم، وزال الإشكال، وارتفع الإجمال، ثم إن الفقهاء تسلّموا
__________
(1) والمعنى: لم يحمل إلا على ما أمكن إرادته من تلك الأقوال من هذا اللفظ.
(2) هو صخر بن عمرو السلمي أخو الخنساء. وفي اللسان: أهم بأمر الحزم «مادة نزا».(1/43)
الحديث من أهله، وفيه المتعارض والموهم (1) للتناقض، فانتدبت له نقادهم وهم الأصوليون، فوضعوا له قانون الأصول، فاعتبروه منه، فأزالوا تعارضه، ونفوا تناقضه، بحمل مطلقه على مقيّده، وعامّه على خاصّه، وإعمال ناسخه، وإهمال منسوخه، فاستخرجوا بذلك لأنفسهم أقوالا في الفقه متعارضة، وآراء مختلفة متناقضة، فتسلمها أهل كل مذهب عن إمامهم، فاجتهدوا فيها باعتبارها قوانين ذلك الإمام، وقواعد مذهبه تارة بتقرير النصين، وحملها على اختلاف حالين، وتارة بطرد القولين بالنقل والتخريج في المسألتين، حتى جعلوا له مذهبا واحدا، الفتيا عليه لا تكاد تختلف، ولم يقل أحد: إن نقل المحدثين، والأئمة، والفقهاء لجميع ما صار إليهم، دليل على عدم اعتبار القوانين المميزة لما يجب إهماله، كذلك هاهنا ولا فرق. ثم إنّا ما رأينا، ولا سمعنا، ولا عقلنا أن أحدا يفتح طريقا إلى مقصد نجيب يوصل إليه قطعا، وهو سهل سمح خال من حجر، وخطر، وعارض سوء، يقال له:
إن أحدا ممن تقدمك لم يفتح هذا الطريق، وذلك دليل على أنه غير موصل إلى المقصود به إذ هذا استدلال بالجهل، أو العدم على العلم الموجود، ومن الجائز غفل عنه المتقدم عما تنبه عليه المتأخر، وإلا لوجب أن لا يزداد علم الشريعة عما كان عليه في أول طبقاته، وقد زاد زيادة كثيرة، وما ذاك إلا لاستدراك المتأخرين على من سبقهم، وزيادتهم على ما قرروه، وتنبيههم على ما أغفلوه، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) في الأصل: والوهم للتناقض. وهو تحريف من النساخ.(1/44)
القسم الثاني في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها(1/45)
القسم الثاني في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها، وينبغي للمفسّر النظر فيها، وصرف العناية فنقول:
العلم من حيث مادته، والعلم من حيث غايته:
أولا: اعلم أن العلم من حيث هو علم، يمكن تقسيمه باعتبارين:
أحدهما: جهة مادته، فيقال: هو إما عقلي محض، كالحساب، والهيئة، والنجوم، والهندسة، والطب، وسائر الرياضيات. أو نقلي محض، كالقرآن والحديث، والتفسير، وأحكام النحو، ومفردات اللغة أو مركب منهما كالفقه، وأصوله. ذكر هذه القسمة الغزالي (1) وغيره، وليست حاصرة لأنها لا تشمل المحسات، ولا الوجدانيات.
والثاني: جهة غايته ومقصوده، فيقال هو إما ديني، أو بدني، أو معاشي،: ما متعلقه وموضوعه الدين على الجملة، أما على التفصيل فمتعلقه، إما على العقائد، وهو: أصول الدين، وإما الأفعال، أعني: أفعال المكلفين، وهو: الفقه، وإما أدلة الفقه وطرقه، وهو: أصول الفقه، وهو واسطة بين العلمين الأولين، يستمد من الأول ويمدّ الثاني.
وأما علم النحو، والتصريف، واللغة، فمواد لهذا العلم، وعلم الخلاف ونحوه من نتائجه.
__________
(1) هو أبو حامد محمد فقيه ومتكلم وفيلسوف وصوفي ومصلح ديني واجتماعي وصاحب رسالة روحية كان لها أثرها في الحياة الإسلامية، ولد بطوس من أعمال خراسان، له مصنفات كثيرة، منها: فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية والرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، وإحياء علوم الدين، والمنقذ من الضلال وغيرها وتوفي عام 1111م، 505هـ انظر الموسوعة العربية الميسرة ط 1965.(1/47)
وفائدة العلم الديني:
التوصل به إلى السلامة والغنيمة في الآخرة.
والبدني:
ما متعلقه البدن، وهو: الطب. وينقسم إلى علم، وعمل. ومادته البحث عن أحكام العناصر الأربعة. وفائدته: حفظ صحة موجودة، أو رد صحة مفقودة.
والمعاشي:
ما متعلقه تدبير المعاش: كعلم الحساب المتوصل به إلى قسمة البيادر، والمساحات، واستيفاء الخراجات، وكالعلم بسائر الصناعات، وسياسة التجارات، وما تحتاج إليه من التصرفات. والدليل على أن هذا يسمى علما أن قارون قال: (إنما أوتيته على علم عندي) (1) أي بأسباب تنمية المال بالتجارة والمعاش، وخبرتي بالتصرف فيه، وقيل: أراد على علم عندي بعمل الكيمياء فإن صح هذا فكأن الكيمياء وجود، وهو أيضا من قبيل العلم المعاشي.
أما علم القرآن فهو: إما لفظي، وإما معنوي
أي: متعلق بلفظه، أو معناه، فكل منهما على أنواع.
أما أنواع اللفظي، فمنها:
علم الغريب:
وهو معرفة مفردات اللغة، كالقسورة (2)، والهلوع (3)، والكنود (4)، والهمزة (5)، واللّمزة (6)، في الأسماء.
__________
(1) سورة القصص آية 78.
(2) «فرّت من قسورة» المدثر آية 51والقسورة: الأسد، فعولة من القسر. وهو القهر. غريب القرآن للسجستاني.
(3) «إن الإنسان خلق هلوعا». سورة المعارج آية 20، المهلوع: الضّجور الجزوع.
(4) «إن الإنسان لربّه لكنود» سورة العاديات آية 6، والكنود: الكفور.
(5) «ويل لكلّ همزة لمزة» سورة الهمزة آية 1والهمزة واللّمزة: معناهما واحد، أي عيّاب ويقال اللّمز: الغمز في الوجه بكلام خفي، والهمز: في القفا.
(6) «ويل لكلّ همزة لمزة» سورة الهمزة آية 1والهمزة واللّمزة: معناهما واحد، أي عيّاب ويقال اللّمز: الغمز في الوجه بكلام خفي، والهمز: في القفا.(1/48)
ونحو: وسق (1)، وعسعس (2) في الأفعال
ومنها، علم التصريف
، وهو: ما يعرض للكلمة من حيث تنقلها في الأزمنة، نحو:
ضرب يضرب ضربا.
أو من جهة الزيادة فيها، نحو: اضطرب.
أو القلب، نحو: ميقات، وميعاد، وموقن، وموسر، وآدم، وأخر.
أو البدل، أو الإدغام، نحو: شدّ، ومدّ.
ومنهما علم الإعراب،
وهو: معرفة ما يعرض لأواخر الكلم من حركة، أو سكون، كألقاب الإعراب، والبناء.
وإنما رتبنا هذه العلوم الثلاثة هذا الترتيب لأن مفردات اللغة إذا وردت، نظر حينئذ في تعريفها لأنه عرض عام لا حق لها حال إفرادها وتركيبها، ثم في إعرابها لأنه عرض خاص، لاحق بأواخرها فقط حال تركيبها.
ومنها معرفة القراءات المنقولة عن الأئمة السبعة
، ورواتهم، وما يلحق بها: من شاذّ فصيح، أو متوجّه.
وأما أنواع المعنوي، فمنها:
الوجودي:
المتعلق بالموجودات، كالتنبيه على النظر في السموات، والأرض، وما فيهما من الأفلاك، والنجوم، وحركاتها، والدواب والمعادن وكيفية امتزاجاتها، والجبال والبحار، ونموهما، وما بينهما من السحاب ونحوه من الكائنات العلوية، والعناصر الأربعة: النار، والهواء، والماء، والأرض، وقد ساق الله تعالى ذكرها في
__________
(1) «والليل وما وسق» سورة الانشقاق آية 17أي وما جمع
(2) «والليل إذا عسعس» سورة التكوير آية 17أي أقبل ظلامه أو أدبر وهو من الأضداد. غريب القرآن للسجستاني ط صبيح.(1/49)
قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمََاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (1)، {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} (2). والزرع إنما يخرج من الأرض، ويقوم في الهواء، ثم قال تعالى:
{أَفَرَأَيْتُمُ النََّارَ الَّتِي تُورُونَ} (3). فكمل ذكر الأربعة، لكن اثنين منها مطابقة، وهما:
الماء، والنار. واثنين التزما، وهما: الأرض، والهواء.
وهذا العلم، أعني: علم الوجود، والموجودات، هو موضوع نظر الفلاسفة وهو الذي اصطلحوا على تسميته بعلم الحكمة.
ومنها الاعتقادي
، وهو: علم الاعتقاد، المسمى: بأصول الدين. وموضوعه:
البحث عن أحكام الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيّين، وعن هذه الأقسام تتفرّع مسائله.
ومنها التاريخي
، وهو: معرفة تاريخ القرون الماضية، والأمم الخالية، وقصصهم، كقصة آدم في خلقه، وسجود الملائكة له، وإهباطه إلى الأرض، وقصة قابيل في قتله هابيل، وقصة إدريس: في رفعه مكانا عليّا، وقصة نوح وقومه، وعاد، وثمود، وإبراهيم، ولوط، ويوسف، وموسى، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، ويونس، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وغير ذلك من وقائع بني إسرائيل وغيرها.
ومنها الوعظي
، وهو: المذكور لترفيق القلوب، وإقبالها بكلّيّتها على طاعة علّام الغيوب، وصرفها إلى الرب عن المربوب، والترغيب عن الدنيا، وفي الآخرة، وتحذير العباد في يوم التغابن من الصفقة الخاسرة، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََا مََا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهََا} (4) {إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} (5) الآيات، ونحوها، من المرققات الوعديات، والوعيديات وقد قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}
__________
(1) سورة الواقعة آية 68.
(2) سورة الواقعة آية 63، 64.
(3) سورة الواقعة آية 71.
(4) سورة الكهف آية 7.
(5) سورة يونس آية 24.(1/50)
{وَعِظْهُمْ} (1) وقال: {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2)
ويصلح هذا متمسّكا للوعاظ على شرف علمهم ويؤكده فعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، والسلف الصالح في عصرهم، إلا أن وعظ أولئك كان خاليا من التكلّف، فهم لا يتكلّفون فيه (3)، فيكسبه التكلّف غثاثة، وركاكة، ولعلّ المفسدة في وعظ بعضهم أرجح من مصلحته لما يهيج لسامعه من الأغراض الخبيثة التي تنسيه الله، والدار الآخرة خصوصا إن كان الواعظ لم يعرض له عارض، وهذا شيء جرّب وصحّ، والله أعلم.
ومنها: علم التناسخ والمنسوخ.
ومنها: أصول الفقه
إذ قد دل، أي: القرآن، على غالب نكته، لقوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يََا أُولِي الْأَبْصََارِ} (4). وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (5) على وجوب القياس وصحته، وأنه دليل معتمد، كقوله تعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا} (6) {وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ} (7) على جواز النسخ ووقوعه، وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوََاكُمْ صَدَقََاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتََابَ اللََّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ} (8) على جواز النسخ لا إلى بدل، وقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللََّهُ عَنْكُمْ} (9) على نسخ الأثقل إلى الأخفّ، وكقوله
__________
(1) سورة النساء آية 63.
(2) سورة النحل آية 125.
(3) في الأصل: فهو لا يتكلفون فيه.
(4) سورة الحشر آية 2.
(5) سورة يس آية 79.
(6) سورة البقرة آية 106.
(7) سورة النحل آية 101.
(8) سورة المجادلة آية 13.
(9) سورة الأنفال آية 66.(1/51)
تعالى: {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ} (1) {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (2) {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لََا يَرْكَعُونَ} (3). على أن الأمر للوجوب، وكتأخير بيان بقرة بني إسرائيل عن وقت الأمر بذبحها على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} (4) على جواز تأخيره إلى وقت الحاجة، ونحو ذلك مما يطول استقراؤه.
ومنها: علم الفقه
، وهو لكثرته في القرآن غني عن إيراد الأمثلة له.
ومنها: علم المعاني والبيان، والقسم الثالث موضوع له، وسيأتي إن شاء الله.
واعلم أن القرآن بحر لا تستوفى مطالبه، ولا تنقضي عجائبه، كما جاء في الخبر، ولهذا غالب طوائف العلماء (5) يتمسكون على دعواتهم بشبه.
فهؤلاء أصحاب صناعة الكيمياء يتمسكون على صحتها منه بقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} إلى قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً، وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (6) يشيرون إلى أنّ معناه: أن في الغثاء ما إذا خالط المعادن الممتزجة سطا عليها بطبعه، فميز الإكسير (7) النافع منها وأفرده عن المزاج الزبدي الذي لا نفع فيه، أو إلى أنه بالوقيد والتقصية يحصل ذلك. ولا شك أن اللفظ يحتمل احتمالا ما ذكروه، إلا أنه ليس مرادا منه باتفاق المفسرين، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى للإيمان والكفر،
__________
(1) سورة الأعراف آية 12.
(2) سورة النور آية 63.
(3) سورة المرسلات آية 48.
(4) سورة القيامة 19.
(5) في الأصل العالم.
(6) سورة الرعد آية 17وتكملة الآية: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وإما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال».
(7) الإكسير: ما يلقي على الفضة أو نحوها فيحوله إلى ذهب خالص. وذلك من خرافات أصحاب الكيمياء القديمة أو أنه شراب يطيل الحياة كما يزعم البعض. الرائد 212ط بيروت لجبران مسعود.(1/52)
والحق والباطل، وشبّهه بماء الغيث الذي تجري به الأودية فيحمل الغثاء، وهو: ما تحمله من عود أو شجر أو غيره ولذلك فالغثاء، وهو: الزبد، يذهب جفاء: أي يلقى مطّرحا، وينتفع بالماء بما ينبت من الكلأ، ويروى من الظمأ، وبالمعادن كالحديد والصفر والنحاس إذا عولجت بالنار، فإنها تذهب خبثها، وما لا ينتفع منها، ويبقى الجوهر الصافي ينتفع به، باتخاذه حلية أو متاعا. وذكر بعض المفسرين أن معنى قوله تعالى: {فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} أن المعادن تقذف زبدها فتلقيه، ويبقى خالصها، مستترة في مستقر من الأرض، وهذا موافق لقول الكيمائيين.
وهؤلاء الناسخة يحتمون لمذهبهم في التناسخ بقوله تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ} (1) أي كانوا بشرا مثلكم ثم نسخت أرواحهم في أجسام الدواب والطيور، بدليل قوله تعالى: {وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (2)
{عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثََالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مََا لََا تَعْلَمُونَ} (3) وبقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مََا شََاءَ رَكَّبَكَ} (4) لكنه احتجاج ضعيف يرده المعقول والمنقول، وهؤلاء المتصوفة، وأصحاب الرياضيات والمجاهدات يحتجون على ثبوت العلم اللدنيّ بقوله تعالى: {وَعَلَّمْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا عِلْماً} (5) ويقولون: ان الإنسان إذا راض نفسه بالعبادة وقلة الغذاء، استعدّت لقبول الفيض الإلهي، فيفيض عليها منه علم تدرك به حقائق بعض الغائبات، كالمرآة إذا جلّيت أشرقت، واستعدت لحكاية صور المقابلات، إلا أن هذه دعوى صحيحة، ومتمسك صحيح، لا وجه للنزاع فيها بعد تحقيق وقوع ذلك كثيرا من صالحي هذه الأمة وغيرها، ويكفي من ذلك قصة الخضر عليه السلام، قال بشر بن الحارث الحافي (6) رحمه الله: الجوع ينور القلب، ويكسر شره النفس، ويورث العلم الدقيق». والظاهر أنه أشار إلى هذا.
__________
(1) سورة الأنعام آية 38.
(2) سورة الواقعة آية 60.
(3) سورة الواقعة آية 61.
(4) سورة الانفطار آية 8.
(5) سورة الكهف آية 65.
(6) بشر بن الحارث المعروف بالحافي توفي سنة 227تاريخ بغداد 7/ 67.(1/53)
وقال بعض الحكماء: البطنة تذهب الفطنة (1) فمفهومه عكسه، ووفق ما سبق وحكى لي بعض أصحابنا البغداديين السالكين آثار القوم، قال:
كنت ذات ليلة مضطجعا في بيت مظلم، وأنا أفكر في كيفية إدراك الكاشفين للغائبات. فبينا أنا كذلك، إذ رأيت دائرة نور في سقف البيت فجعلت أنظر بها إلى جميع ما في البيت فأحسه. قال: وسمعت هاتفا يقول، أو قال: وقع في روعي «هكذا يكون».
وقد صنف الغزالي رحمه الله جزءا حسنا في العلم اللّدنيّ، وبيّن فيه شروط حصوله، وكيفية فيضانه، والله أعلم.
ونحن إنما ذكرنا العلوم التي ينبغي للمفسر الاعتناء ببيانها، وغالب التفاسير المتأخرة يقتصر من هذه العلوم على اللفظي. ومن المعنوي على الأقاصيص والفقه، ويتفاوت بعضها على بعض في هذه العلوم قلة وكثرة.
ومنهم من يقتصر على الأحاديث المتعلقة بأسباب النزول والتفسير ونحوها من النقليات: كعبيد بن حميد، وعبد الرزاق (2) ونحوهما من مفسري المتقدمين.
ومنهم من يقتصر على الأحكام اللغوية من إعراب وتصريف ونحوهما، وشيء من علم المعاني كالزجاج (3)، والفراء (4) والزمخشري (5).
ومنهم من استوفى كثيرا من علومه، كابن الجوزي (6)، والرسعني.
__________
(1) مثل يضرب لمن أبطره غناه، وفي مجمع الأمثال: البطنة تأفن الفطنة.
(2) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع مولى لحمير ويكنى أبا بكر مات باليمن سنة 210هـ. المعارف 221.
(3) هو أبو إسحاق بن محمد بن السري الزجاج أقدم أصحاب المبرد وتوفي 310هـ. الفهرست 60.
(4) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء توفي سنة 207هـ. الفهرست 66.
(5) هو محمود بن عمر جار الله صاحب تفسير الكشاف ولد سنة 538497هـ البغية 2/ 279.
(6) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي أبو الفرج علامة عصره في التاريخ والحديث مولده ووفاته ببغداد وله نحو 300مصنف توفي سنة 597هـ. الأعلام 4/ 89.(1/54)
وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي (1)، وكتاب مفاتح الغيب (2) ولعمري كم فيه من زلة وعيب. وحكى لي الشيخ شرف الدين اليصني المالكي: أن شيخه الإمام الفاضل سراج الدين المغربي السرمساحي المالكي صنّف كتاب «المآخذ على مفاتح الغيب» وبيّن ما فيه من البهرج والزيف في نحو مجلدين، وكان ينقم عليه كثيرا، خصوصا إيراده شبه المخالفين في المذهب والدين، على غاية ما يكون من القوة، وإيراد جواب أهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء.
ولعمري إن هذا لدأبه في غالب كتبه الكلامية والحكمية، كالأربعين، والمحصل، والنهاية، والمعالم، والمباحث المشرقية، ونحوها. وبعض الناس يتهمه في هذا وينسبه إلى أنه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ولا يجسر على التصريح به.
ولعمري إن هذا ممكن، لكنه خلاف ظاهر حاله، فإنه ما كان يخاف من قول يذهب إليه، أو اختيار ينصره، ولهذا تناقضت آراؤه في سائر كتبه وإنما سببه عندي، أنه كان شديد الاشتياق إلى الوقوف على الحق، كما صرح به في وصيته التي أملاها عند موته، فلهذا كان يستفرغ وسعه، ويكدّ قريحته في تقرير شبه الخصوم، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه لاستفراغه قوتها في تقرير الشبه، ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية، أن أحدنا إذا استفرغ قوة بدنه في شغل ما من الأشغال، ضعف عن شغل آخر، وقوى النفس على وزان قوى البدن غالبا. وقد ذكر في مقدمة كتاب «نهاية العقول» ما يدل على صحة ما أقول لأنه التزم فيه أن يقرر مذهب كل خصم، لو أراد ذلك الخصم تقريره، لما أمكنه الزيادة عليه أو أوفى (3)
بذلك. ولهذا السبب قرّر في كتاب الأربعين أدلة القائلين بالجهة، ثم أراد الجواب عنها، فما تمكن منه على الوجه، فغالط فيه في موضعين قبيحين، ذكر هما في مواضع كثيرة، والله أعلم.
__________
(1) وهو «الجامع لأحكام القرآن: مطبوع متداول.
(2) للفخر الرازي وهو مطبوع.
(3) في الأصل. ووفى بذلك.(1/55)
تنبيهان:
أحدهما: قد ذكرنا أن أقسام العلم وأنواعه متعددة متكثرة، وذلك ظاهر في أن حقيقة العلم يلحقها التعدد والتكثر، والذي يجب اعتقاده أن ذلك لا يلحقها، بل هي ماهية واحدة تتصف النفس بها ولهذا عرّف العلم بأنه صفة توجب تميّزا، وإنما التعدد والتكثّر في متعلقه، وهو المعلوم، ثم يطلق عليه اسم العلم مجازا، إطلاقا لاسم المتعلّق بكسر اللام على المتعلّق بفتحها وكذلك استعملناه في التقسيم، وممن حكي عنه هذا المعنى سيبويه (1)
الثاني: أننا ذكرنا أن علم القرآن، وكذا غيره، إما متعلق باللفظ أو المعنى، والمراد: أن بعضه يتعلق بالمعنى بواسطة اللفظ، وبعضه يتعلق به من غير واسطة، لا أن بعضه يتعلق باللفظ لذاته لما ثبت من أن الألفاظ آلة يتوصل بها إلى المعاني التي هي الأغراض، وأنها خدم لها، فالمقصود لذاته إنما هو المعنى، فبهذا الاعتبار جميع العلوم معنوية.
وإنما يتجه انقسامها إلى لفظي ومعنوي بالاعتبار الذي ذكرناه من الواسطة وعدمها، ويدل على أن الألفاظ غير مقصودة لذاتها وجوه:
الأول: أن العرب متى فهمت المعنى بدون اللفظ، حذفته وجوبا، نحو: جواب لولا، وفي نحو ضربي زيدا قائما، وأخطب ما يكون الأمير جالسا، وكحذف الخبر تارة، والمبتدأ أخرى، والجملة، نحو: نعم، جوابا لمن قال: أقام زيد؟ أو أعندك عمرو؟
الثاني: أن من نطق بألفاظ لا معنى تحتها، عدّ هاذيا لا متكلّما. ولو أفاد معنى بدون اللفظ، كالإشارة والرمز، لعدّ متكلّما عرفا، وحيث دار القصد مع المعنى وجودا وعدما، دل على أنه المقصود لذاته لا الألفاظ.
الثالث: أننا نتصرف في الكلام بالحذف والتقدير لتصحيح المعنى. فتقدر الجملة
__________
(1) هو عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريّين من أهل فارس ونشأ بالبصرة وأخذ عن الخليل، مات سنة 180هـ وعمره اثنتان وثلاثون سنة وقيل نيف وأربعون.(1/56)
في المفرد نحو: زيد قام، أي: قائم، والجار والمجرور بمفرد منصوب على المفعول، نحو: مررت بزيد، أي: لابسته، أو جاوزته، ويرد المحذوف لتكميل معنى اللفظ الناقص، نحو: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (1) وذلك دليل على أن المقصود المعنى لا اللفظ، وإنما جيء باللفظ ضرورة للتخاطب، وما ثبت للضرورة يقدر بقدرها، وهي قاعدة مطردة شرعا، كأكل الميتة للمضطر. ولغة، كأحد أدلة أبي حنيفة (2) على أن الاستثناء المتعقب جملا يتعلق بالأخيرة، وتقريره: أن تعلق الاستثناء بما قبله لضرورة أنه تابع لا يستقل بنفسه، وتعلقه بالجملة الأخيرة يزيل الضرورة، فلا حاجة إلى تعليقه بغيرها، والله أعلم.
__________
(1) سورة الحجر آية 94.
(2) هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت كان خزازا بالكوفة وصاحب المذهب الحنفي توفي سنة 150هـ.(1/57)
القسم الثالث في علمي المعاني والبيان(1/59)
القسم الثالث في علمي المعاني والبيان لكونهما (1) من أنفس علوم القرآن وقد صنف الناس فيهما كتبا كثيرة، إلا أن من أحسن ما رأيت فيها، كتابا صنفه الشيخ الإمام العلّامة حجة العرب، ولسان الأدب: ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري رحمه الله (2)، ترجمه بالجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور (3)، سلك فيه مذهب الإطناب، حتى لم يبق دون فهمه حجاب، وضمنه غرائب، وأتى فيه بعجائب، فعمدت في هذا القسم إلى الإتيان بجميع مقاصد كتابه عريّا عن إسهابه وإطنابه، جامعا فيه بين البيان والإيجاز، معرضا عن الرمز والإلغاز، ولم ألتزم الإتيان بحجم دون حجمه، بل بمقاصده في نظم دون نظمه، مع زيادات لفظية نقلتها من كتب أهل هذا العلم، واستخرجت دررها من تيار الفهم تارة في القواعد والتحقيقات، وتارة في الأمثلة والاستشهادات، ومرة في ضبط كلياته بالحدود والرسوم تقريبا لتحقيقه على الأذهان والمفهوم، وقد أنكرت عليه في مواضع استعرتها، فبينت صوابها واستدركتها.
__________
(1) في الأصل: في علم المعاني والبيان لكونه
(2) هو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد الواحد الشيباني الجزري المعروف بابن الأثير وهو أحد ثلاثة إخوة علماء أدباءهم: مجد الدين، وعز الدين، ولد ضياء الدين نصر الله سنة 558هـ وتوفي سنة 637هـ ببغداد ومن أشهر كتبه المثل السائر. انظر البغية 2/ 315.
(3) اسم الكتاب «الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور» وهو من مطبوعات المجمع العلمي العراقي بتحقيق الدكتور مصطفى جواد والدكتور مصطفى جواد والدكتور جميل سعيد عام 1956م.(1/61)
ومن نظر في الكتابين بعين الإنصاف، وأعرض عن الحيف والإجحاف، علم أن بعد الطل سيلا جحافا (1)، وأن المئين مواد الآلاف.
وفيه مقدمة وجملتان:
أما المقدمة، ففيها أبحاث:
__________
(1) في الأصل سيل جحاف ولعله سهو من الناسخ، فالسيل وقع اسما لأن(1/62)
البحث الأول في الكشف عن حقيقة هذا العلم
وإنما يتم ذلك بالكشف عن حقائق مفرداته، وهي: العلم، والبيان.
أما العلم، فقد تقدم بيانه (1) وأنه صفة للنفس يوجب لها تمييزا جازما، وحيث أضيف العلم إلى شيء من المعلومات، فالمراد: تعلق العلم بذلك المعلوم، فمعنى علم الفقه: العلم بأحكام الفقه، وعلم المعاني: العلم بأحكامها مما سيأتي تفصيله.
وأما المعاني، فهي: جمع معنى، وهو: مدلول اللفظ، والمراد بحسب قصد المتكلم، والأصل فيه كسر النون، وتشديد الياء لأنه مشتق من عنيت الشيء إذا أراد به تكلامك أعنيه، وهو معنيّ كقولك: رميته فهو مرمي (2)، ولعله إنما خفف لكثرته في الكلام، ولذلك أثر فيه التخفيف، وإخراج الشيء عن أصله كقولهم في أي شيء: إيش، وحذف ألف بسم الله كتابة، وقطع همزته في النداء، نحو: يا الله، وترك الهمزة في الدريّة والبريّة، وإن كان هو الأصل فيهما إذ هما من درأ وبرأ.
وأما البيان، فهو:
إما مصدر من بان يبين، إذا ظهر، ونظيره من ذوات الواو: جاز جوازا.
__________
(1) ص 47من هذا الكتاب.
(2) في الأصل: وهي معنيّ لقولك: رميته فهو مرميّ.(1/63)
أو اسم مصدر من ذلك، أو مصدر محذوف الزوائد من أبان الشيء يبينه إذا أظهره، إبانة، وأصله إبيانا، وبيان اسم له، كالنبات للإنبات في قوله تعالى:
{أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} (1) وهذا أولى لأن البيان يوصف به المتكلم، يقال:
رجل ذو بيان، أي ذو إبانة لمعاني كلامه، أي: إظهار لها، ولا يصح هاهنا أن يقال:
رجل ذو ظهور إلا بتأويل بعيد، أي ذو كلام له ظهور، أو ذو ظهور لكلامه (2).
إذا ثبت هذا، فمعنى قولنا علم المعاني والبيان: العلم المراد بالألفاظ، وإظهار المراد بها، ثم يتفاوت ذلك الإظهار بحسب تفاوت القوى النفسية، والقرائح الذهنية، فيظهر بذلك التفاوت في مقادير البلغاء، ومراتب الخطباء والنصحاء، فأعلى مراتب البيان: إظهار المراد بالكلام غاية الإظهار.
فإن قلت: ما ذكرته في الكشف عن حقيقة هذا العلم، يقتضي أن الكلام كلما كان في البيان أدخل، كان في الظهور والجلاء أبلغ، وإلى الأفهام أسبق، والأمر على العكس من ذلك، فإن النكت التي ذكرها أهل هذا العلم من القرآن وكلام العرب مما سيأتي أمثلته في غاية الدقة من الأذهان، ولا يحققها إلا الأذكياء الأعيان، فقد بان بذلك أن هذا العلم على عكس ما قررتموه في تحقيقه.
قلت: ليس الأمر كما ذكرت، وإنما زلّت قدمك في هذه الشبهة من جهة: أن الظهور على ضربين:
ظهور بديهي. كظهور البديهيات لنا نحو: إن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا معدوما، ولا قديما حادثا معا.
وظهور نظري، أي: مترتب على النظر، كظهور النظريات لنا، نحو: حدوث العالم، ووجود صانعه، وقدمه، وحوار بعثه الرسل، ونحوها، فإن هذه قضايا لا تظهر لنا صحتها بديهة، بل إذا نظرنا في براهينها، ترتب ظهور العلم بها على ذلك النظر ترتبا
__________
(1) سورة نوح آية 17.
(2) في الأصل: أو رد ظهور كلامه وهو تحريف.(1/64)
لازما، وظهورا لا خفاء به، فأنت حملت الظهور الذي فسرنا البيان به، على الظهور البديهي، وليس بصحيح، وإنما هو الظهور النظري، فإن النكت الثانية التي زعمت أنها تدق عن الأذهان، ولا يدركها إلا الأعيان، إذا نظر فيها من دقت عن ذهنه نظرا صحيحا، وكان أهلا للنظر فيها، ظهرت له ظهورا لا يمارى فيه، ويستطرفها استطرافا لا خفاء به، وكثيرا ما يرى في الفعليات القواطع ما يكون العاقل غافلا عنه، لا شعور له به، فإذا نبه عليه، أو نظر فيه، أدنى تنبيه أو نظر، ظهر له، فيظل باهتا كأنه لم يؤت العقل إلا تلك الساعة، والله أعلم.
إذا تقرر هذا فموضوع هذا العلم، هو المعاني لأنها هي التي تبحث فيه عن عوارضها اللاحقة لها، من تقديم وتأخير، وإضمار وتقدير، وإطناب وإيجاز، وكناية وألغاز، وغير ذلك من العوارض.
ومبادئه، هي: النظر في الألفاظ، وما يتعلق بها من خفتها وعذوبتها، وفي المعاني من سهولتها ورقتها، وسلاستها وحلاوتها، ونحو ذلك مما نذكر في أحكامه العامة والخاصة.
ومسائله، هي: تعلق النظر في تركيب المعاني، ونحوه مما يذكر في أحكامه الخاصة.
تعريفه: أنه علم يبحث فيه عن أحكام الألفاظ والمعاني بحيث يجعل لكل منها ما يقتضيه كيفية وكمية، ووضع يستحقه بمقتضى المناسبة العقلية، مثاله: قوله تعالى:
{وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) لما كان المقصود الأهم هاهنا تبيين تحقق نصر هم عليه تعالى، قدمه، وكان حقه التأخير لكونه خبر كان، فهذا تقديم في الموضع بحسب المناسبة العقلية، ونظائره كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة الروم آية 47.(1/65)
البحث الثاني في بيان فضيلة هذا العلم وشرفه
وهو من وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسََانَ، عَلَّمَهُ الْبَيََانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ} (1).
وجه دلالته أنه تعالى، أثنى على نفسه في معرض التمدّح بفضل آيات عظيمة، وهي: تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وجري الشمس والقمر بحسبان، وسجود النجم والشجر، وما بعد ذلك من الآيات، وذكر جملتها تعليم البيان، فدل على أنه أثر شريف من آثار الله تعالى وعظيم آياته قياسا له على ما اكتنفه من الآيات قبله وبعده.
فإن قلت: يفتقر ثبوت هذا الدليل إلى بيان: أن البيان في هذه الآية هو الذي أنتم بصدد إثباته، وإلا فبتقرير أن لا يكون هو المراد لأن يكون لكم في الآية حجة.
قلت: نعم. والدليل عليه أن الحسن البصري (2)، قال:
هو النطق والتمييز.
وقال محمد بن كعب (3): هو ما يقول، وما يقال له.
__________
(1) سورة الرحمن آية 51.
(2) هو أبو سعيد الحسن بن أبي اليسار البصري، جمع كل فن من علم وزهد وورع وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري، توفي 110هـ وفيات الأعيان 1/ 160.
(3) هو محمد بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي المدني. تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 422.(1/66)
وقال يمان: (1): هو الكتابة والخط.
وكل هذا راجع إلى ما قلناه، وما في معناه، ثم إن هذا موافق لظاهر اللفظ، وهو أولى من غيره.
الثاني: قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ وَأَصْفََاكُمْ بِالْبَنِينَ} إلى قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (2) أيكون سبحانه وتعالى قول من نسبه إلى إنجاب البنات مستدلا عليه بأن عدم الإبانة في الخصام صفة نقص، وهي قائمة بالبنات، ومن قامت به صفة النقص لا يصلح أن يتخذه الناقصون عضدا ومستندا، فضلا عن أكمل الأكملين.
الثالث: قول فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هََذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلََا يَكََادُ يُبِينُ} (3)
فجعل عدم البيان صفة نقص لا يعبأ بمن قامت، ووجه الحجة منه، أنه أدرك ذلك ببديهته، ووافقه عليه أهل عصره، فدلّ على أنه بديهيّ متقرّر في النفوس، كالنقص بالخرس والعمى والشلل، فلزم بالضرورة أن يكون البيان صفة كمال يجب أن تعظم من قامت به، ولهذا لما دخل ضمرة بن ضمرة النهشلي (4) وكان دميم الخلقة على النعمان بن المنذر (5)، ازدراه حين رآه وقال: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) (6)
وهو أول من قال هذه الكلمة، فذهبت مثلا لكل من بان خبره دون خبره، فقال له
__________
(1) هو اليمان بن أبي اليمان الشاعر: وله كتاب معاني الشعر والعروض ت 284هـ. انظر البغية 2/ 352 والفهرست 82.
(2) سورة الزخرف آية 17و 18.
(3) سورة الزخرف آية 52.
(4) كان من رجال بني تميم في الجاهلية لسانا وبيانا، وكان اسمه شقة بن ضمرة فسماه بعض ملوك الحيرة ضمرة.
انظر الاشتقاق لا بن دريد 149.
(5) في أمثال الميداني أن صاحب الخبر هو المنذر بن ماء السماء لا النعمان.
(6) المعيدي: تصغير رجل منسوب إلى معد، يضرب مثلا لمن خبره خير من مرآته. اللسان مادة معد.(1/67)
ضمرة: أبيت اللعن أيها الملك، إن الرجال لا تكال بالصيعان (1)، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قاتل، قاتل بجنان، وإن نطق، نطق ببيان، فقال له النعمان: صدقت، لله أبوك، ثم سأله عن أمور، أجابه فيها بجواب شاف، وبيان واف، فعرف حينئذ قدره وعظمه، وأنعم عليه، وجعله من خاصته.
في الأثر: المرء مخبوء تحت لسانه.
وفي الشعر:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم (2)
وكل ذلك إشارة إلى البيان مدحا، والعيّ ذما.
الرابع: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من البيان لسحرا» (3) يصفه بأنّ له من التأثير في النفوس، كتأثير السحر من الأعراض الانفعالية عليه، وقد تعسف بعضهم فزعم أن هذا ذم له لتشبيهه بالسحر المحرم، وهذا كلام من لا يعرف علم البيان، ونحن هنا بصدد تنبيه مثله في هذه الشبهة على مناقب هذا العلم الحسنة، وصفاته المستحسنة، وقد رد عليه العلماء في شرح هذا الحديث كأبي أحمد العسكري (4)، وأبي الرضى الراوندي، وغيرهما.
ويدل على بطلان قوله، أن هذا الحديث صدر سياق الثناء على بعض البلغاء
__________
(1) جمع صاع، وهو خمسة أرطال وثلث عند أهل الحجاز، وثمانية أرطال عند أهل العراق اللسان والقصة مذكورة في البيان والتبيين 1/ 171
(2) البيتان لزهير بن أبي سلمى
(3) قاله الرسول عليه السلام لعمرو بن الأهتم عند ما استمع إليه يمدح الزبرقان ثم يذمه وهو صادق في الحالتين والقصة مذكورة في البيان والتبيين 349
(4) هو أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري نسبة إلى عسكر خال أبي هلال العسكري توفي سنة 382هـ(1/68)
والتعجب منه، ثم إن تشبيه الشيء بالشيء من جهة، لا توجب تشابههما من كل جهة.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز (1)، أو غيره من أعيان السلف، أنه سمع رجلا بليغا يتكلم، فقال: هذا هو السحر الحلال، فحكم عليه بأنه سحر، ووصفه بنقيض وصفه، وهذا أبلغ ما يكون في مدحه، وهو تصريح بنقيض قول هذا المتعسف.
الخامس: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم، فلعل أحدكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار) (2) وفي لفظ: (ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض) وناهيك بعلم يبلغ تأثيره إلى أن يحق الباطل، ويبطل الحق، شرفا، فكيف به إذا استعمل في تحقيق الحق وإبطال الباطل؟ وهل ترى شيئا يقوم له، أو يقاومه؟ كلا والله، بل هو كما قال البحتري:
وقاطع للخصوم اللدّ إن نخبت ... قلوبهم، فسرايا عزمه نخب (3)
السادس: أنا نقول: لا خلاف أن القرآن نزل على وفق قانون علم البيان، بل أرباب هذا العلم كملوه من القرآن، وحينئذ كونه على وفق هذا القانون، إما أن يكون هو أكمل أحواله وأتمها، أو لا، فإن كان الأول، فلا حاجة لنا للدلالة على شرف هذا العلم إلى غيره، وإن كان الثاني لزم قيام صفة النقص بالقرآن، وأن له حالة كمال بالقوة لم يخرج إلى الفعل، وهو باطل فإن التزم ذلك ملحد ممن يطعن في
__________
(1) هو عمر بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، بويع بالخلافة، ومنع بني أمية من سب على بن أبي طالب ومات سنة 101هـ.
(2) الحديث مروي عن أم سلمة بلفظ مختلف. صحيح مسلم 5/ 129ط صبيح.
(3) من قصيدة يمدح بها سليمان بن وهب مطلعها:
نحن الفداء، فمأخوذ ومرتقب ... ينوب عنك إذا همت بك النوب
ديوانه 1/ 172دار المعارف(1/69)
آيات الله تعالى بما تضمنه من التكرير والاختلاف الذي يزعم أنه تناقض فالبحث معه غير هاهنا، فليبرر لنا فريته وليسمع الجواب.
وبالجملة، فشرف هذا العلم بشرط تعلق فائدته وتصورها مدرك بديهة وطبعا، فلا حاجة له إلى الاستدلال، وإنما تبرعنا بالوجوه المذكورة تبرعا، وأمثالها كثير ضربنا عنه لأجل الاختصار، والله أعلم.(1/70)
البحث الثالث في النظر في الألفاظ والمعاني
لا شك في ورود الكلام قرآنا كان أو غيره على أنحاء مختلفة، وأحوال متفاوتة، تارة في الوضع، وتارة في العموم والخصوص، وآونة في الزيادة والنقص، ومرة في الإطناب والاختصار، وغير ذلك من الأحوال، فإذا وجدنا شيئا من ذلك، نظرنا فيه، فمتى وجدنا معنى مناسبا يصلح أن يكون علة ومقتضيا له، وجب إضافته إليه متحدا كان ذلك المناسب، أو متعددا، وإنما قلنا ذلك لأن نسبة الكلام المجرد إلى أحواله المعتورة عليه من تقديم وتأخير وزيادة ونقص، وعموم وخصوص، وإيجاز وإطناب مستوية، فلو لم يكن اختصاصه ببعض هذه الأحوال دون بعض في بعض الأماكن، لمقتض وموجب، لكان عبثا، وترجيحا من غير مرجح، وهو محال، ومثال ذلك قوله تعالى، حيث بشّر زكريا بيحيى: {كَذََلِكَ اللََّهُ يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ} (1)، وحيث بشّر مريم بعيسى: {كَذََلِكِ اللََّهُ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ} (2) والخلق أخص من الفعل، إذ كل خلق فعل، وليس كل فعل خلقا، وحينئذ، فلولا مقتض مناسب خصص أحد الوضعين بالآخر، لكان التخصيص ترجيحا من غير مرجح.
والذي قلته: إن تقرير هذا المقتضى المناسب، هو أن قصة مريم في عيسى أخص من قصة زكريا في ولادته يحيى، وبيانه: أن قصتيهما اشتركتا في كونهما عجبا لأن
__________
(1) سورة آل عمران آية 40
(2) سورة آل عمران آية 47(1/71)
حصول الولد للشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عتيا من امرأة عاقر، والبكر البتول من غير أن يمسها بشر، كلاهما على خلاف العادة وهو عجب، لكن قصة مريم أعجب وأخص من وجوه:
أحدها: أن كل مولود من غير أب عجب، وليس كل عجب مولودا من غير أب.
الثاني: أن الولادة بغير أب معجزة، وليس ولادة الشيخ والعجوز العقيم معجزا لأن ذلك قد وجد في حق إبراهيم وسارة، ولم يعد معجزا، أقصى ما في الباب أنه كرامة، لكن درجة الكرامة دون درجة المعجز بالضرورة ولئن سلم أن ولادة العقيم معجز، لكن في بعض الصور، لا في كلها، بخلاف الولادة بغير أب، فإنه معجز في كل صورة.
الثالث: أن كل معجز عجب خارق للعادة، وليس كل عجب خارق للعادة معجزا، وإذا تقرر بما ذكرته أن قصة مريم أخص، كان ذلك مقتضى مناسبا لاختصاصها بالخلق الذي هو من الفعل أخص، وما أظن عاقلا يفهم هذا البحث، ويتصوره يشك في حسنه، وفي شرف هذا العلم الذي استمد منه، والله أعلم.
واعلم أن لما ذكرنا من إضافة التخصيص إلى المقتضى المناسب نظائر تؤكده وتشهد لصحته:
أحدها: قول الفقهاء: الأصل في الأحكام التعليل، فمتى وجدنا للحكم علة مناسبة، أضفناه إليها، أو قسنا عليه ما وجدت فيه، وبهذا استدلوا على صحة العلة القاصرة، أعني: بأن الأصل التعليل، فحكم القاصرة معلل بها بمقتضى الأصل، وبأن فائدتها فهم الحكم بعلته، وهو أدهى إلى الامتثال.
الثاني: قول الأصوليين ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يفيد عليّته، نحو
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا} (1) {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (2) أي لعلّة الزنا والسرقة.(1/72)
الثاني: قول الأصوليين ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يفيد عليّته، نحو
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا} (1) {وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (2) أي لعلّة الزنا والسرقة.
قال علماء البيان: وإنما قدم الله تعالى ذكر المرأة في الزنا، وأخّره في السرقة لأنها في السرقة أضعف، وفي الزنا أشبق (3)، وهمتها فيه وإليه أسبق، وهذا مقتض مناسب لاختلاف هذا الوضع مليح، فاعرفه.
الثالث: قولهم شرط المجاز، النقل، للعلاقة الظاهرة، فحيث وجدناه تجوزنا، واستعملنا، ولم نتوقف على النقل والاستعمال عن العرب، وهذا أقوى المذهبين فيه.
الرابع: قول الاشتقاقيين: شرط الاشتقاق اتفاق لفظتين في الحروف الأصول والمعنى، وحصول تغيير ما، فحيث وجدنا ذلك، حكمنا بالاشتقاق، ونحوه: قول القياسيين: شرط القياس وجود جامع بين الأصل والفرع، فحيث وجدناه قسنا، والله أعلم.
فإن قلت: دليلك على هذا البحث وهو قولك: لو لم يكن التخصيص لمقتض مناسب عيبا وترجيحا من غير مرجح، مبني على أصلين:
أحدهما: أن أفعال الله تعالى معللة.
والثاني: أن الترجيح من غير مرجح محال، والمنع في كليهما مشهور، لا سيما في الأول، ورأى الجمهور منعه (4).
قلت أما قولك: إنه مبني على أن أفعال الله تعالى معللة، فجوابه من وجوه:
أحدها: منع كونه مبنيا على ذلك، وليس على المانع ذكر مستند المنع، لكنا نتبرع به، وهو مبني على مقدّمات:
__________
(1) سورة النور آية 2
(2) سورة المائدة آية 38
(3) الشبق شدة الغلمة وطلب النكاح يقال: رجل شبق وامرأة شبقة اللسان مادة شبق
(4) في الأصل فإن منعه أي الجمهور وهو كيف فاسد(1/73)
إحداهن: إن معتقدنا، إن وجب النظر في التوحيد والإلهية ونحوهما من مقومات الإيمان بالشرع، لكن حصوله بالعقل.
الثانية: إن الشرع إنما يثبت بوجود المعجز.
الثالثة: إن معجز شرعنا القرآن الذي نحن بصدد الكلام فيه في علم البيان.
الرابعة: إن الخلاف في تعليل الأفعال، إنما يوجه البحث فيه بعد وجود هذه المقدمات، وهو فرع عليها لأن موضوعه أفعال الله تعالى، وثبوت أفعاله تعالى متفرع على ثبوت ذاته، ومقومات توحيده، وثبوت ذاته متفرع على وجوب النظر المتفرع على ثبوت الشرع، المتفرع على ثبوت المعجز: الذي هو القرآن المتوقف على أقصى مراتب علم البيان، وإلا لم يتحقق إعجازه وحينئذ نقول: تعليل الأفعال، مبني على علم البيان بالوسائط المذكورة، فلو كان علم البيان؟؟؟ مبنيا على تعليل الأفعال، لزم الدور، وأنه محال.
الثاني: إثبات تعليل الأفعال بالدليل، وقد قرر في مواضع.
الثالث: هب أن هذا سلم لك في القرآن لكونه من أفعال الله تعالى عندك، وأنها غير معللة، فكيف يسلم لك في كلام الآدميين الذي هو من أفعالهم، والتعليل فيها لازم اتفاقا، ولا شك أنّا رتّبنا البحث في مطلق الكلام لا في خصوص كونه قرآنا.
وأما قولك: إنه مبني على استحالة الترجيح من غير مرجح، وهو ممنوع فجوابه:
بإثبات استحالته بالدليل، وقد قررته في كتاب (بغية السائل) (1).
وتلخيص برهانه هاهنا: أن حقيقة الترجيح بلا مرجح أنه فعل بلا فاعل، وأثر بلا مؤثر، وهو محال، والمانعون لاستحالته، إنما جوزوه لصور ذكروها، توهموا أنها اشتملت على الترجيح من غير مرجح، منها:
__________
(1) بغية السائل في أمهات المسائل.(1/74)
أن اختصاص كل واحد من كواكب الفلك بموضعه منه، ترجيح بلا مرجح، لاستواء نسبته إلى كل موضع من الفلك.
وجوابها من وجهين:
أحدهما: منع استواء النسبة لجواز مناسبة طبيعية بينه وبين مركزه المخصوص من الفلك.
الثاني: إن المرجح عندنا تخصيص القادر المختار، الكامل الاختيار.
ومنها: إن وجود العالم الكلي، وسائر جزئياته في وقت وجوده المخصوص دون ما قبله وبعده، ترجيح من غير مرجح.
وجوابها: ما سبق في التي قبلها.
ومنها: أن الهارب من عدو أو سبع، يعرض له طريقان مستويان من كل جهة، فيسلك أحدهما، والجائع يبدأ في الأكل بأحد الرغيفين، بل بأحد جوانب الرغيف دون باقيها، ترجيح من غير مرجح.
وجواب هذه الصورة يمنع عدم المرجح، فهي دعوى مجردة، وتقريره طويل ذكرته في كتاب (البغية) ثم ان دليلنا قاطع، وما ذكروه ظاهر محتمل، فلا يعارضه، وليكن هذا آخر الكلام في المقدمة، وإنما أطلنا فيها لأن مدار هذا العلم على مباحثها المذكورة، وبالله التوفيق.(1/75)
الجملة الأولى في أحكامه وفيها بابان
الباب الأول في مقدماته الأولية التي ينبغي الابتداء بها وفيه فصول(1/77)
الفصل الأول في آلات التأليف
وهي: مقدماته التي يفتقر وجوده إلى تقديمها.
واعلم أن كل مركب أو مؤلف، فلا بدّ لوجوده من علة وشرط يتوقف عليه تأثيرها، وأنواع العلة التامة أربعة:
المادية، كالخشب للسرير.
والفاعلية، كالنجار.
والصورية، ككونه مرتفعا ذا قوائم.
والغائية، كإرادة النوم عليه، لا نفس النوم، فتنبه لهذا.
وهي أعني الغائية: متأخرة وجودا، متقدمة تصورا، فلذلك سميت علة العلل.
وعلة الكلام المؤلف:
المادية: الحروف، والألفاظ.
والفاعلية: المؤلف.
والصورية: وضع كل لفظ موضعه اللائق به في الصناعة.
والغائية: فهم معناه لالتذاذ النفس وانتفاعها به، وشرط تأثير هذه العلة في وجود التأليف، تركيب طبع قابل له، محبّب إليه من جهة الله تعالى ليكون حاصلا للنفس بالقوة، ثم يخرج بتكميل آلاته المذكورة إلى الفعل، وإلا لكان الإنسان المحاول
للتأليف بدون تركيب تلك القابلة، كالقادح في غير حراق (1) أو المقابل لمرآة صدية لا تقبل الانطباع، ثم القابلية قد تكون عامة، بحيث تقبل من قامت به جميع العلوم، وقد تكون خاصة بحيث لا يقبل صاحبها إلا بعضها كفقه أو طبّ أو نحو، وكذلك قابلية التأليف، إذ قد يكون الإنسان عارفا بصناعة النظم والنثر جميعا، وقد يكون عارفا بأحدهما فقط مع استوائهما في مادة القسمين، وهي أعني: آلات التأليف ضربان:(1/79)
والغائية: فهم معناه لالتذاذ النفس وانتفاعها به، وشرط تأثير هذه العلة في وجود التأليف، تركيب طبع قابل له، محبّب إليه من جهة الله تعالى ليكون حاصلا للنفس بالقوة، ثم يخرج بتكميل آلاته المذكورة إلى الفعل، وإلا لكان الإنسان المحاول
للتأليف بدون تركيب تلك القابلة، كالقادح في غير حراق (1) أو المقابل لمرآة صدية لا تقبل الانطباع، ثم القابلية قد تكون عامة، بحيث تقبل من قامت به جميع العلوم، وقد تكون خاصة بحيث لا يقبل صاحبها إلا بعضها كفقه أو طبّ أو نحو، وكذلك قابلية التأليف، إذ قد يكون الإنسان عارفا بصناعة النظم والنثر جميعا، وقد يكون عارفا بأحدهما فقط مع استوائهما في مادة القسمين، وهي أعني: آلات التأليف ضربان:
الضرب الأول: عام، يشترك فيه النظم والنثر وهو سبعة أنواع:
النوع الأول: معرفة العربية من نحو، وتصريف، وإدغام:
أما النحو فلأن به تقسيم معاني الكلام، وتصان عرى تآليفه عن الانحلال والانفصام، ولهذا قيل: النحو في الكلام، كالملح في الطعام، أي: لا يصلح إلا به، لا أن كثيره مفسد له، ككثرة الملح للطعام، ومثاله المشهور، لو قال قائل: «ما أحسن زيد» بسكون النون والدال، غير معرب، لالتبس النفي بالاستفهام بالتعجب، ولم نعلم ما أراد، ولو أعرب، لفهمنا المراد إذ الرفع على النفي (2) والجر على الاستفهام، والنصب على التعجب، وقد ذكرت في كتاب «فضل العربية» (3)
أمثلة كثيرة من هذا الباب.
وأما التصريف والإدغام، ففائدتهما كالنحو في صون الكلام عن الاختلال، والمتكلم عن لحوق الطعن والمقال، كما سيأتي، وأورد ابن الأثير رحمه الله على نفسه سؤالا أطنب فيه، وفي جوابه (4).
__________
(1) الحراق: ما تقع فيه النار عند القدح.
(2) في الأصل: إذ الرفع علم النفي وإنما أثبتنا «على النفي» لتشاكل ما بعدها.
(3) الزركلي عدد كتب المؤلف ولم يذكر منها هذا الكتاب (انظر الأعلام 1/ 387).
(4) المثل السائر 1/ 49ط نهضة مصر والجامع الكبير ص 9وما بعدها.(1/80)
وتلخيص السؤال أن وجوب معرفة النحو على المؤلف مسلّم، ولكن وجوب معرفة التصريف والإدغام ممنوع إذ الألفاظ المشتملة عليها منقولة بصيغها وهيآتها عن العرب، وهو يستعملها كما سمعها، ولا حاجة له إلى معرفة أصلها، كما إذا استعمل مثلا «سرداحا» و «رجلا ضفّ الحال» (1) استعملها بهذه الصيغة الواردة، ولا تلزمه معرفة زيادة ألف «سرداح»، ولا أن أصل «ضفّ الحال» ضفف، وأنه سكن أول المثلين، وأدغم، لاجتماعهما
وتلخيص جوابه: أن عدم توجّه الطعن عليه في هذه الصورة وأمثالها، لا يوجب عدم توجهه عليه في كل صورة، فإن النحوي غير التصريفي لو سئل عن تصغير «اضطراب» ونحوه مما قلبت تاء الافتعال فيه طاء، لقال: «ضطيريب» وهو مبلغه من العلم، إذ هذا مقتضى تقرير النحاة في التصغير، أما رد الطاء إلى أصلها تاء، بحيث نقول: «ضتيريب»، فحكم تصريفي أهمله النحاة إحالة على التصريف، ولو قيل للشاعر وهو قيس بن الملوّح (2) المعروف بمجنون ليلى في قوله:
اذهبي في كلاءة الرحمن ... أنت مني في ذمة وأمان
ترهبيني والجيد منك كليلي ... والحشا والبغام والعينان
لم قلت ترهبيني، والأصل: ترهبينني بنونين؟ لم يكن له عذر، إلا أنه أدغم، لاجتماع المثلين (3) ثم خفف لضرورة الشعر.
هذا آخر تلخيص جوابه، وأصله صحيح، لكن لي في مثاليه نظر:
أما ضطيريب، فلأنه يمكن التزام تصغيره بالطاء لأن العلة الموجبة لإبدالها عن
__________
(1) ناقة سرداح وسرداحة: طويلة
وضعف الحال: نفد ما عنده من مال
(2) هو قيس بن الملوح بن مزاحم بن قيس، مجنون بني عامر، عشق ليلى، وتوفى في حدود سنة 80هـ. الوفيات 2/ 138.
والشطرة الأولى من البيت الثاني في ديوانه ص 278ط دار مصر. دلهتني والجيد منها كليلي
(3) وهذا مثل قوله «مالك لا تأمنّا» وقوله «أفغير الله تأمروني»(1/81)
التاء في التكبير، تحصيل المناسبة بين حرفين مستعليين إطباقيين مجهورين، وهما الضاد والطاء، والفرار من المنافرة بين مخرجي الضاد والتاء، وهي بعينها موجودة في التصغير، إلا أنها أخف، لكن ذلك غير قادح إذ العلة قد تقوى وتضعف، وتأثيرها في الحكم باق.
وأما ترهبيني، فلا نسلم أن لا عذر له إلا الإدغام، ثم التخفيف، بل العذر التخفيف ابتداء للضرورة، فإن ضرورة الشعر تجبر حذف الحرف، والحرفين، ونقص واحد من العدد، كقول لبيد (1):
درس المنا بمتالع، فأبان
أي المنازل بمتالع فأبانين اسم جبلين هو علم عليهما، وكقوله:
نحن بني أم البنين الأربعة
وإنما هم خمسة، فحذف أحدهم للضرورة، وأمثاله كثير، فحذف النون من ترهبينني ابتداء لذلك أولى.
والجواب الصحيح عندي: ترك الجواب لهذا المعترض النافي لفائدة التصريف والإدغام، فإنه عامي سفيه، وقد قيل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
وإنما يجب الجواب عن اعتراض عالم، وإن تبرعت بالجواب فأقول:
التصريف: ميزان يعرف به أصل الكلم من زائده، ومعرفة الأصل من الزائد، يضطر إليه النحوي في باب ما لا ينصرف، فإن من لا يعرف الخلاف في أن «حسان» و «عسان» مشتقان من حسّ وعسّ، أو من حسن وعسن، لم يعلم أن في
__________
(1) تمام البيت «وتقادمت بالحبس فالسوبان» ومتالع: اسم جبل ينجد، وأبان: اسم جبل، والسوبان واد في بلاد العرب. ديوانه 138.(1/82)
صرفهما وعدمه وجهين مصرّحين، وكذا الوجهان في «تترى» (1) وهي في القرآن
وهذا ابن إياز (2) نحوي بغداد في عصره، ذكر في «قواعد المطارحة»، أن أصل تناخى في قول الأعشى (3):
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تناخين بوزن تضارين.
وابن الشجري (4) من أعيان أهل الأدب حكي عن شرحه لامية العرب أنه قال فيه في قوله:
واستف ترب الأرض
إن أصله استفعل، وقد عيب عليهما لأنه وهم قبيح، إذ وزن تناخي تفعلي بوزن تتركي، ووزن استف: افتعل، والسين أصل، وإذا عيب على مثل هذين مع براعتهما في التصريف، فكيف بمن لا يعرفه بالكلية؟.
وأما في الإدغام، فلو احتاج من لا يعرف أحكامه إلى تأليف نظم أو نثر يضطر فيه إلى فك الإدغام لتعديل الكلام كقول الشاعر (5):
الحمد لله العليّ الأجلل
__________
(1) تترى: اصلها وترى فأبدلت التاء من الواو كما أبدلت في تراث وتجاه، فمن لم يصرفها جعل ألفها للتأنيث، ومن صرفها جعلها ملحقة بفعلل. انظر غريب القرآن 56والآية «ثم أرسلنا رسلنا تترى» المؤمنون آية 44.
(2) هو الحسين بن بدر بن إياز كان أوحد زمانه في النحو والتصريف. توفى 681هـ وكتابه مذكور في البغية 1/ 532.
(3) هو أبو بصير ميمون الأعشى بن قيس رابع فحول الجاهلية، وأغزرهم شعرا، اشتهر بالمبالغة في وصف الخمر حتى قيل: أشعر الناس الأعشى إذا طرب. والبيت من قصيدة يمدح بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وسلم ومطلعها:
ألم تغتمص عيناك ليلة أرمدا ... وعادك ما عاد السليم المسهّدا
وتمام البيت:
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تريحي وتلقي من فواضله يدا
ديوان الأعشى 17ط الممذوجية.
(4) هو هبة الله بن على بن محمد أبو السعادات المعروف بابن الشجري، كان عالما بالعربية واللغة والشعر. ولد ببغداد وتوفى سنة 542هـ. البغية 2/ 324.
(5) مطلع أرجوزة لامية لأبي النجم العجلي وهي مشروحة في كتاب الطرائف الأدبية للميمنى ص 57وانظر شواهد الشافية ص 191والمقتضب 1/ 142(1/83)
وقول الآخر (1):
إني أجود لأقوام وإن ضننوا
أو إلى عكسه، كقول الراجز (2):
ببازل وجناء أو عيهلّ ... كأن مهواها على الكلكلّ
لظل أحير من ضب في بحر، أو حوت في بر، وإن تصرف بجهله لحقه العر (3)، والله أعلم.
النوع الثاني: معرفة المتداول المألوف بين أرباب هذه الصناعة من اللغة
ومنه معرفة الأسماء المترادفة، كأسماء السيف، والرمح، والأسد، والذئب، والخمر، وصفاتها لاتساع مجال النظم والنثر.
ومعرفة الأسماء المشتركة ليستعين بها على استعمال التجنيس وغيره، وهاهنا يليق ذكر دلالات الألفاظ وأقسامها:
أما الأول: فدلالة اللفظ على جميع مسماه يسمى: مطابقة، كالإنسان على الحيوان الناطق، وعلى جزء مسمّاه من حيث هو جزء: تضمنا، كالإنسان (4) على أحد جزئيه، وعلى لازم مسماه، من حيث هو لازم له: التزاما.
والأولى: وضعية محضة، والأخريان: اشترك فيهما الوضع والعقل.
وأما أقسامها فستة:
أحدها: المترادفة وهي الألفاظ المتعددة المختلفة، الدالة على حقيقة واحدة، مشتقة من مرادفة البهيمة، وهي: حملها اثنين أو أكثر على ظهرها وردفها وذلك
__________
(1) قاله قعنب بن أم صاحب وصدره: مهلا أعاذل، قد جربت من خلقي. انظر الشافية ص 490، واللسان مادة ضنن.
(2) قاله منظور بن مرئد الأسدي، وذكر في اللسان هكذا مادة: عهل وكلل:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظاعن المولّي
نسلّ وجه الهائم المعتل ... ببازل وجناء أو عيهلّ
(3) العر: الجرب، والمراد: الإثم.
(4) في الأصل: كالأقسام على أحد جزئيه وهو تحريف.(1/84)
كالعقار، والخمر، لماء العنب المسكّر، والليث والسبع لهذا السبع، والشجاع والإنسان والبشر للآدمي.
وأنكر بعض علمائنا ترادفهما محتجا بأن شرط الترادف، قيام كل من الرادفين مقام الآخر، وليس هذان كذلك، إذ يصح أن يقال للثلاثة: هؤلاء بشر، ولا يصح أن يقال: هؤلاء إنسان.
والجواب بالمنع بل يصح أن يقال: هؤلاء إنسان أيضا لأنه من قبيل الكلي المقول في جواب ما هو بحسب الشركة والخصوصية جميعا، والله أعلم.
الثاني: المشتركة، وهي: الألفاظ المتحدة الدالة بالوضع المتساوي على مسمّيات مختلفة بالحقيقة، كلفظ العين الدال على عين الماء، والذهب، والعضو الباصر، ونحوها.
الثالث: المتباينة وهي: الألفاظ المختلفة الدالة على معان مختلفة، كلفظ العين الدال على عين الماء، والفرس، والحمار.
وقد يتوهم ترادف بعض الألفاظ المتباينة، كالسيف، والصارم، وإنما السيف دلّ على موضوع مجرد والصارم على موضوع متصف بالحدة، والمهنّد على نسبته إلى الهند، وكذلك الناطق صفة الإنسان، والفصيح صفة الناطق، فلا ترادف.
الرابع: المتواطئة وهي: الألفاظ المتحدة الدالة على مسميات مختلفة الحقيقة، باعتبار معنى مشترك بينها، كدلالة الحيوان على أنواعه: الإنسان، والفرس، والحمار (1)، واشتقاقها من تواطأ القوم على كذا، إذا اتفقوا، كأن هذه المسميات تواطأت على اشتراكها في المعنى المشترك كالحيوانية مثلا.
الخامس: المشككة وهي: كل اسم دل على مسميين فأكثر بمعنى متحد في حقيقته، لكنه في بعضها أولى من جهة ما، كالوجود (2) المتناول للواجب والممكن،
__________
(1) في الأصل الطائر، وهذا غير مستقيم وصحتها الحمار كما أثبتناه
(2) في الأصل كالموجود(1/85)
والجوهر والعرض، لكنه في الواجب والجوهر أولى لسبقهما، وكالبياض الذي هو في الثلج أولى من العاج لكونه فيه أشد، وإن كانا متصفين به، وسميت هذه مشككة لأن الإنسان يشك، هل هي مشتركة أو متواطئة لشبههما بالقسمين (1).
وأول من اختراع لها هذا الاسم أبو علي بن سينا (2).
السادسة: المتشابهة وهي: المختلفة بالحقيقة المتفقة على عرض ما من أعراضها، كصورة الإنسان من طين أو شمع يسمى إنسانا بالمشابهة لا بالتواطؤ، إذ ليس بينهما معنى حقيقي مشترك.
واعلم أن هذا مجاز قد سماه (3) متشابها، وقد تابعناه في قسمة هذه الألفاظ، وقد كان ممكنا تقسيمها أحسن من هذا التقسيم، لكن ليس هذا موضعه.
قال: والذي يحتاج إليه في معرفة هذا العلم، هو الأقسام الثلاثة الأول لوقوع الاشتباه فيها، أما الثلاثة الأخر، فلا ينتج ورودها في التأليف فائدة تذكر.
وفي هذا نظر، لأنه لم يعرّفها، فربما اشتبه عليه بعض الثلاثة الأول لها ولأن هذه الستة أقسام لشيء واحد، فمتى لم يعرف ما يميز بعضها من بعض، أفضى إلى اللبس، ودفع اللبس من أكثر الفوائد، والمختار اعتبار معرفة تقسيم الألفاظ على رأي متأخري المنطقيين، فإنه تقسيم حسن محقق.
النوع الثالث: معرفة أيام العرب وأمثالهم
أما الأمثال فهي جمع مثل، وهو: قول وجيز ينطق به عند وقوع سبب، أو
__________
(1) أي المشتركة والمتواطئة.
(2) هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، فيلسوف وطبيب مسلم يلقب بالشيخ الرئيس، ولد بالقرب من بخارى وأصبح حجة في الطب والفلك والرياضة والفلسفة ولما يبلغ العشرين. توفى سنة 1036م. الموسوعة العربية ط دار القلم.
(3) الجامع الكبير ص 14والمراد عو ابن الأثير.(1/86)
حادثة، فيصير كالعلامة، أو الشاهد على ما في معناه، كما تقدم من قول النعمان (1):
«تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه».
وقول صخر بن عمرو بن الشريد (2):
وقد حيل بين العير والنزوان يضرب مثلا للأمر يمنع منه مانع.
وقول الزباء:
تمرّد مارد وعزّ الأبلق (3)
تعني حصنين أرادت فتحهما، فامتنعا عليها، فضرب مثلا لكل ممتنع.
وإنما صار إيراد المثل مفيدا بالنظر إلى أسبابه التي ورد عليها، وإلا فقد يكون حقيقة غير مفيدة في غير موضع لفظه، كقولنا في هذا المثل، أعني مثل: «منع الحمار من إتيان الأتان».
وقولهم: «إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فإن القمر لا يبغي، ولكن له قصة مشهورة (4) باعتبارها أفاد.
وأما أيامهم، فهي: أوقاتهم ووقائعهم التي وقعت بينهم من حرب وصلح، وذم ومدح، وعار وفخر، فقد يحتاج مؤلف الكلام إلى ضرب مثل، كقول الحجاج في خطبته:
__________
(1) انظر ترجمته ص 43من هذا الكتاب.
(2) انظر ترجمته ص 43من هذا الكتاب وصدر البيت: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه.
(3) مارد حصن دومة الجندل، والأبلق حصن للسموءل قصدتهما الزباء ملكة الجزيرة فلم تقدر عليهما فقالت ذلك، يضرب لكل ما يعز ويمتنع على طالبه.
تهذيب مجمع الأمثال للميداني 87ط حجازي.
(4) ذكر المفضل الضبي القصة فقال: إنه بلغنا أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى. وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكما، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون عليّ، فقال له الحكم «إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر» فذهبت مثلا مجمع الأمثال للميداني 1/ 30(1/87)
«هذا أوان الشد فاشتدي زيم.
قد لفّها الليل بسوّاق حطم.
قد لفّها الليل بعصلبيّ (1).
وقول بعضهم: قد أنصف الفاره من راماها.
وقوله: شنشنة أعرفها من أخزم (2).
أو إلى تشبيه يوم ما ببعض أيامهم كقول أبي تمام:
فبين أيامك اللاتي نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النسب (3)
وقول البحتري:
يوما يعود به صفّون والجمل (4)
وهذه من أيام العرب في الإسلام، فإن لم يكن عنده علم من ذلك، بطلت صناعته، أو ضعفت، وخلت من محاسن تضمين ذلك وعريت.
وقد صنف في الأمثال أبو عبيد والصابي (5) وغيرهما، وأجمع ما رأيته في ذلك كتاب الأمثال للميداني (6).
__________
(1) زيم: فرس، وحطم: عنيف، والعصلبي: الشديد الخلق، وقد تمثّل به الحجاج في قتل الخوارج، يضرب للرجل يؤمر بالجد في أمره. المستقصى في أمثال العرب للزمخشري 2/ 385ط، مجمع الأمثال للميداني 2/ 391، واللسان مادة حطم، وتهذيب مجمع الأمثال 564.
(2) الشنشنة: الطبيعة والعادة، يضرب في قرب الشبه. مجمع الأمثال 1/ 361.
(3) في الأصل: ما بين وقعاتك اللاتي نصرت بها، وبين وقعة بدر أقرب النسب. من قصيدة يمدح فيها المعتصم بالله ويذكر فتح عمورية ومطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
ديوانه 1/ 72شرح التبريزي.
(4) من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الصامتي والشطر الأول من البيت: «تغنموا السلم إن الحرب توعدكم» ديوانه 3/ 176.
(5) هو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون الحراني الأصل توفى سنة 384هـ.
(6) الميداني: هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني النيسابوري ت 518هـ بنيسابور. والميداني نسبة إلى ميدان: محلة في نيسابور، وله كتاب مجمع الأمثال وهو فريد في بابه.(1/88)
وأما أيام العرب ففي كتب التواريخ، فمنها مختص بها، ومنها مشترك تذكر فيه وغيرها، والله أعلم.
النوع الرابع: اطلاعه على كثير من كلام المتقدمين في فنه
لتكون نتائج أفكارهم المتفاوتة بين عينيه يأخذ منها ويترك، وقد يقدح له من نظره فيما سبق إليه ما لم يسبق إليه، وهذا مجرّب، وبهذا استدلّ الحنابلة على أفضلية إمامهم لأنه تأخر عن الأئمة، ونظر في أقوالهم، فاختار بمقتضى الدليل زبدها، وألقى ريبها، وليس هذا مختصا بمؤلف الكلام، بل بكل من يحاول التقدم في علم، ولهذا شرط في المجتهد في الفقه معرفته بالخلاف والإجماع.
النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية من إمارة وإمامة وقضاء ونحوه
مما تستمدّ من القواعد الشرعية إذ قد يحتاج الكاتب إلى إنشاء ذلك، كعهد إمام، وتولية قاض، أو عزله، أو استعطاف بغاة، أو استمالة خوارج، وليس الغرض من ذلك يخص أحكام الفقه، وإلا لاكتفى بإيفاد كتاب من كتبه، أو المقصود منه في الواقعة بل ما يتضمن الترغيب والترهيب، ونحوهما من أحكام السياسة مشتملا على ما يحتاج إليه فيه من أحكام الفروع.
النوع السادس والسابع: حفظ الكتاب وجملة صالحة من السنة
ليستعمل ذلك في غضون كلامه تضمينا، وتمليحا، واستشهادا كما فعل ابن نباتة (1) في خطبه، فإن لذلك رونقا عظيما على الكلام، ويتسلط الإنسان بالنظر في عجائب ما اشتملا عليه من الفصاحة على استخراج فوائد جمة، والله أعلم.
__________
(1) هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة ت 374هـ. اجتمع مع أبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة وكان إماما في علوم الأدب مشهورا بالخطابة.(1/89)
الضرب الثاني: خاص بالنظم دون النثر
وهو معرفة العروض والقوافي، وما يجوز فيها من زحاف (1) وغيره: رويّ (2)، وردف (3)، وما يمتنع، إذ قد ينبو الطبع عن معرفة بعض ذلك، فيحتاج إلى معرفته بقانونه الموضوع له. ثم إن قابلية النظم، والطبع المجيب إليه، شرط في صدور النظم المختار، وإلا فبدونه يصبح النظم فظا غليظا متكلّفا، تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، ولو كان قائله كالخليل وسيبويه في معرفة آلاته، والله أعلم.
__________
(1) الزحاف: أن يسقط بين الحرفين حرف، فيزحف أحدهما إلى الآخر، وهو تغيير مختص بثواني الأسباب.
جمع سبب، وهو عند العروضيين متحرك بعده ساكن نحو قد، ومتحركان نحو: بك.
(2) الرويّ: هو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة فتنسب إليه فيقال: قصيدة لامية: إذا كان الروي لاما، وسينية: إذا كان الرويّ سينا، وهكذا.
(3) الردف: هو حرف المد، أو اللين الساكن الواقع قبل الروي.(1/90)
الفصل الثاني في آداب التأليف وبيان الطريق إليه
ولتعلم أولا: أن المعاني للألفاظ كالأرواح للأجساد، وكما أن قيام النقص بالروح والجسد يؤثر نقصا في التنبيه، فكذا قيام النقص باللفظ أو المعنى يؤثر نقصا في الكلام.
وهذا الذي ذكرنا يقتضي قسمة: وهو أن اللفظ والمعنى إما جيدان، باعتبار ما سيأتي في صفاتهما وشروطهما، وهو أعلى مراتب البيان. أو رديئان، وهو: أدنى مراتب الكلام. أو اللفظ رديء فقط، أو المعنى فقط، وهما واسطتان، وخير هما الأولى، لقوة جانب المعنى إذ قد تقدم أنه المقصود بالذات، فينبغي للمنشئ أن يتخير الإنشاء وقت نشاط نفسه، وفراغ باله، فإن قليل ذلك الوقت بكثير غيره، ولا يغالب خاطره ساعة إعراضه، وإحجامه عن الفكر أو حين شغله عنه، فإن ذلك يؤذيه، ويشين ألفاظه ومعانيه، وليعمد إلى أشرف المعاني وأجلها، وليؤدّ بها أحسن الألفاظ وأعذبها وأدلّها، وليبن كلامه من القسمين، وليستخرج الدر من مجمع البحرين، ولا يقصر همته على تجويد أحدهما، بل ليكن شديد العناية بهما فإن معنى لا لفظ له ناقص، ولفظ لا معنى له في ميدان البلاغة حسير ناكص (1) إذ قول القائل:
«فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن» ليس له رونق قوله (2):
أغرّك مني أن حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
__________
(1) ناكص: محجم.
(2) البيت لامرئ القيس من معلقته. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ديوانه ص 13(1/91)
ولا لقوله «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن» رونق قوله:
وربّ ميت تمنى أنه حجر ... في البيت حين أكبّت تلثم الحجرا
ويحتاج ذلك إلى قابلية وطبع مجيب، وإلا فقد أخبر المبرد (1) عن نفسه، مع تقدمه في صناعة الآداب، أنه طالما عجز عن إنشاء عبارة يرتضيها في مهم: من اعتذار عن فلتة، أو شكر عن نعمة، ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب، خير من زيادة الأدب على المنطق. ولقد رأيت ببغداد رجلا نفّاطا يركب الخطب والشعر من معان بديعة لائقة، في ألفاظ عذبة رائقة، على وجه يعجز عنه الأدباء والمدرسون، وكان لحّانة، مع أن جميع لحنه يقبل الإعراب الصحيح، مع بقاء الوزن.
وينبغي له أن يخاطب كل قوم بما يقرب من أفهامهم، فإن ذلك من مقاصد البيان المهمة، ككتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كسرى، فإنه في غاية الوضوح يفهمه من له أدنى تشبث بالعربية لكونهم أعاجم، وكانت كتبه صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب في غاية الفصاحة والغرابة، لأنهم كانوا يفهمون ذلك.
وإذا فرغ من إنشاء كلامه، اشتغل بتنقيح ألفاظه، وترصيف معانيه وترصينها من تقديم مؤخر، وتأخير مقدّم، وتبديل ثقيل بأخف، وأخف بأثقل ليحصل التلاؤم والتعادل، وليجعل كأن معه معترضا عليه في كلامه، مناقشا له فيه، فتورد له الأسئلة على نفسه، ثم يجيب عنها ويقرر ما أنشأه على ما استقر عليه جوابه، كما قال الخليل (2)
رحمه الله «ما وضعت شيئا حتى عرفت آخر ما يلزمني فيه».
بيان الطريق إلى معرفة التأليف:
وأما بيان الطريق إلى معرفة التأليف فقال ابن الأثير (3): أجود الطرق وأحراها
__________
(1) هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي الثمالي البصري توفي سنة 286هـ وهو عالم في اللغة والأدب وله كتاب الكامل، والبلاغة، معجم الأدباء 19/ 111.
(2) هو صاحب العروض من الأزد من فخذ يقال لهم الفراهيد، المعارف 236
(3) الجامع الكبير 26.(1/92)
بالوصول: أن يأخذ المؤلف للكلام رسالة إن كان كاتبا، أو قصيدة إن كان شاعرا، فيكلف نفسه بعد معرفة معانيها وتدبر أوائلها وأواخرها، ويقرر ذلك في قلبه عمل مثلها، بأن يقيم عوض كل لفظ منها لفظا من عنده، يؤدي معناه، ويسد مسده، حتى إذا أتى على آخرها، اشتغل بتنقيحها، وتحقيق ارتباط بعضها ببعض. هذا تلخيص كلامه.
وأنا أقول: إن من يحتاج في صناعة الإنشاء إلى هذا الطريق، ماله نية تنشئ ولا تشعر، وإنما الطريق إلى ذلك عندي، أن يدرب نفسه في النظر في أنواع علم العربية:
نحوا ولغة وتصريفا، وفي أشعار العرب وخطبهم واصطلاحاتهم ومواقع كلامهم، وفيما أنشأه المتأخرون من نظم ونثر في علم المعاني والبيان، ونحو ذلك من مواد التأليف، حتى تصير لنفسه بذلك ملكة وقوة، فإذا ساعده مع ذلك ذهن وقاد، وقريحة مجيبة، وطبع قابل، حصل من الإنشاء فوق غرضه، وهذه هي طريقة الفحول، كمن أراد بناء حائط، فأعد له من اللبن والآجر والطين، ووضعه بحسن صناعته وضعا محكما.
أما طريقة ابن الأثير فطريقة صبيان المكاتب الذين يقعون في الألواح على أمثلة المعلمين، ونظيرها من أراد بناء حائط، فجاء إلى حائط غيره يخلع منه لبنة لبنة، ويجعل عوضها من عنده، ولعل بعض تلك الأوضاع فاسد، فيكون مقلدا لواضعه في فساده، تاركا في مهماته لاجتهاده، ومن أنصف، علم أن طريقتنا هي المثلى، وأنها أحق بالاتباع وأولى.(1/93)
الفصل الثالث في الحقيقة والمجاز
أما الحقيقة فمشتركة بين ذات الشيء وماهيته، كقولنا: حقيقة الإنسان: حيوان ناطق، وبين ما يقابل المجاز: وهو اللفظ المستعمل في موضوعه المتخاطب به عند إرادة التخاطب، فيتناول اللغوية، كالصلاة: للدعاء، والشرعية، كذات التحريم والتحليل، والعرفية: كالدابة، لذوات الأربع.
وهي فعلية من الحق، وهو الثابت لثبوتها بإزاء ذات الشيء، أو موضوعه اللازم غير المنتقل.
والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي، لاشتراكهما (1) في وصف مشهور، كالأسد للشجاع، والحمار للبليد، والبحر للعالم والجواد، تحصل المشابهة في الشجاعة، وفي البلادة، والكثرة، وتسمى هذه المشابهة العلاقة المجوزة، وتتعدد أصناف المجاز بحسب تعدد جهات العلاقة فلنذكر منها ما تيسر وهو عشرة أصناف:
إطلاق اسم السبب على المسبب، والأسباب أربعة فأعلى:
(أ) كإطلاق اسم النظر على الرؤية، نحو قوله تعالى: {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (2)
أي: له رائية، ونحو: نظرت إلى فلان، أي: رأيته لأن النظر فعل الفاعل، وهو سبب الرؤية.
__________
(1) في الأصل: لاشتباههما في وصف مشهور، وهو غير مستقيم.
(2) سورة القيامة آية 24.(1/94)
وغائيّ: كتسمية العنب خمرا، في قوله تعالى: {إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (1)
وإنما عصر عنبا، فسماه باعتبار غايته، وهي: الخمرية.
وصوريّ: كتسمية القدرة يدا، نحو قوله تعالى: {حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} (2) ولعله سمى صوريا، لأن الذهن يبادر عند إطلاقه إلى حقيقته، وهو صورة كاليد الحقيقية هاهنا.
وقابليّ: كسال الوادي، لقبول الوادي سيل الماء فيه.
(ب) إطلاق اسم المسبب على السبب، عكس الأول: كتسمية المرض الشديد موتا.
(ج) إطلاق اسم الشيء على مشابهه: كلفظ الحمار على البليد، وهو المستعار.
(د) إطلاق لفظ الضد على ضده، كتسمية العقاب جزاء، نحو:
{ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} (3) {وَذََلِكَ جَزََاءُ الظََّالِمِينَ} (4) إذ حقيقة الجزاء في الثواب، نحو: {إِنَّ هََذََا كََانَ لَكُمْ جَزََاءً} (5).
وفي هذا نظر إذ الجزاء لغة: المكافأة على الفعل، وهو أعم من المكافأة في الخير والشر، وإنما المشهور في هذا المثال: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (6).
ومثل ابن الأثير لهذا بقولهم للأسود والأبيض: «جون»، وهو وهم لأن هذا اشتراك، كالناهل، للظمآن (7) والريان، لا مجاز.
__________
(1) سورة يوسف آية 36.
(2) سورة التوبة آية 29.
(3) الأنعام آية 146.
(4) سورة الحشر آية 17.
(5) سورة الإنسان آية 22.
(6) سورة الشورى آية 40.
(7) الأصل للظلمأ(1/95)
(هـ) إطلاق لفظ الكل على الجزء: كإطلاق لفظ القرآن على بعضه، كالسورة والآية.
(و) العكس: كإطلاق لفظ الأسود على الزنجيّ لسواد جلده، إذ الأسود منه بعضه، لا كله.
وكقولك لمن تبغضه: «أبعد الله عني وجهه». أي: جميعه.
(ز) إطلاق لفظ ما بالفعل على ما بالقوة: كلفظ المسكر على الخمر قبل شربها.
(ح) إطلاق لفظ المجاور على مجاوره، كلفظ الراوية على المزادة، وحقيقتها:
الجمل الذي يستقى عليه، ولفظ الغائط والعذرة (1) على الخارج المستقذر من الإنسان، وحقيقتها: المطمئن من الأرض، وفناء الدار.
(ط) إطلاق لفظ الحقيقة العرفية على غيرها: كالدابة للفرس على الحمار عرفا. وفي هذا نظر إذ الحقيقة العرفية هي: ذوات الأربع، ولعل الأولى في المثال، إطلاق العرفية على اللغوية: كالدابة للإنسان والطائر.
(ي) إطلاق اسم المتعلق على المتعلق، كلفظ القدرة على المقدور. هذا ما ذكره بعضهم، أنه المشهور، وزاد ابن الأثير وجوها أخر (2):
(أ) الزيادة في الكلام لغير فائدة، نحو: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ} (3)، أي:
فبرحمة، و (ما) زائدة لا معنى لها، وهذا وهم قبيح لا سيما من مثله المتضلع من علم البيان، فإن فائدة «ما» هاهنا تعديل أجزاء الكلام، والتسوية بين صدر الآية وعجزها، وقد منع ابن السراج (4) مع آخرين من النحاة والأصوليين، أن يكون في
__________
(1) العذرة: الغائط. اللسان مادة عذر.
(2) الجامع الكبير ص 28.
(3) سورة آل عمران آية 59.
(4) هو طالب بن محمد بن نشيط المعروف بابن السراج أخذ عن ابن الأنباري. البغية 2/ 16(1/96)
القرآن زائد لا معنى له لأن ذلك عيب، وهو حق، وكل ما توهمت زيادته منه، ففائدته ما ذكرناه من تعديل العبارة.
(ب) النقصان الذي لا يخلّ بمعنى الكلام، كإقامة الصفة، والمضاف إليه، مقام الموصوف، والمضاف، نحو:
{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (1) {عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ} (2).
تصدّ وتبدي عن أسيل وتتّقي بناظرة (3)
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (4). وحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامها قياس مطرد عند الفارسي (5)، ممتنع عند سيبويه (6)، فلا يجوز «جاءني طويل»، أي: «رجل طويل» وللأخفش (7) قولان: أقواهما: المنع.
(ج) تسمية الشيء باسم أصله، كتسمية الآدمي مضغة.
(د) تسميته باسم فرعه، كقول الشاعر:
وما العيش إلا نومة وتشوّق ... وتمر على رأس النخيل وماء
فسمى الرطب تمرا لأنه فرع الرطب، وكتسمية المضغة إنسانا، ولعل هذين الوجهين من قبيل تسمية ما بالقوة بما بالفعل، وما بالفعل بما بالقوة إذ الرطب تمر، والمضغة إنسان بالقوة، أو من قبيل تسميته بما يئول إليه.
(هـ) تسمية الشيء باسم مكانه، كتسمية المطر سماء لأنه ينزل منها.
__________
(1) سورة النساء آية 112.
(2) سورة القمر آية 13.
(3) البيت لامرئ القيس وتمامه: من وحش وجرة مطفل ديوانه ص 16
(4) سورة يوسف 82.
(5) الفارسي: أبو علي الفارسي ولد بفارس، وتوفي ببغداد سنة 377هـ ومن أشهر تلاميذه ابن جني.
(6) سيبويه. إمام البصريين في النحو، أخذ عن الخليل، وتوفي سنة 180هـ بشيراز.
(7) أبو الحسن الأخفش: قرأ على ثعلب والمبرد وتوفي ببغداد سنة 315هـ.(1/97)
(و) تسمية الشيء بحكمه، كقوله {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ} (1) فسمى النكاح هبة، هكذا ذكره، ووجهه أن حكم النكاح ملك البضع (2)، كما يملك بالهبة، وكأنه قال: إن ملكت بضعها للنبي.
(ز) تسمية الشيء بدواعيه، كتسمية الاعتقاد قولا نحو: هو يقول بقول الشافعي (3)، أي: يعتقد اعتقاده، كذا قال: والمثال عكس الدعوى، وصوابه، كتسمية القول اعتقادا، لأن الاعتقاد: هو داعية القول، وصواب مثاله، أن تقول:
كتسمية الشيء بدليله لأن القول دليل الاعتقاد. فهذه تسعة عشر وجها.
وذكر بعضهم أصناف المجاز خمسة وعشرين، وذكر منها:
إطلاق اسم العلة على المعلول، واللازم على الملزوم، والحالّ على المحل، والأثر على المؤثر، والعكس في هذه الصور، فهي ثمانية أخر، ويمكن استخراج أكثر من ذلك، إذ العلاقات والمناسبات عن الأشياء لا تنحصر.
ثم هاهنا أبحاث:
الأول: قيل تعرف الحقيقة بوجوه:
(أ) نص أهل اللسان.
(ب) تحديدها.
(ج) تعديد خواصها.
(د) اطرادها: وهو جريانها على ما في معناها نحو: «فلان عالم» لقيام العلم فيصدق العالم على كل ذي علم، «واسأل القرية» إذ لا يطرد في سؤال الربع والطلل لأنه لا يكفي، واطراد الحقيقة المذكورة من قبيل اطراد العلة في معلولها.
__________
(1) سورة الأحزاب آية 50.
(2) البضع: النكاح، ويقال: ملك فلان بضع فلانة: إذا ملك عقدة نكاحها وهو كناية عن موضع الغشيان، والمباضعة: المباشرة، اللسان مادة بضع.
(3) هو محمد بن إدريس ينتهي نسبة إلى المطلب أخي هاشم جد النبي عليه السلام ولد بغزة وأشهر كتبه الأم والرسالة ويعتبر واضعا لأصول الفقه. توفي بمصر 819م الموسوعة العربية 1068.(1/98)
(هـ) مبادرة الذهن عند إطلاق اللفظ، كنسبته إلى الماء الكثير، عند إطلاق لفظ البحر.
(و) تجرد اللفظ عن القرينة، وهي علامة عدمية.
ويعرف المحاز:
(أ) بالنص عليه، نحو: هذا مجاز.
(ب) وبالقرينة، نحو: «إياك والأسد» عن رجل حمل بيده سيفا مجردا.
(ج) وبعدم الاطراد والمبادرة.
(هـ) وبالمقابلة، أي: وروده مقابلا للحقيقة، نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ} (1)
{وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (2). وفيه نظر لأنه إن أريد أنه لا يرد إلا مقابلا، بطل بقوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللََّهِ} (3) وإن أريد أنه قد وقد، لم يفد لأن العلامة يجب أن تطرد، وقد ذكر الأصوليون له علامات أخر.
الثاني: المجاز يستلزم الحقيقة في قول لأنه فرعها، والفرع يستلزم الأصل، وفي قول لا يستلزمها لأن اللفظ بعد وضعه، قبل استعماله، لا حقيقة ولا مجاز، ويجوز أن يسمى به حينئذ غيره، لعلاقة بينهما، فيكون مجازا لا حقيقة له، وهو تهافت إذ نقل العلاقة يستلزم الاستعمال.
أما الحقيقة فلا تستلزم المجاز إذ الأصل لا يستلزم الفرع بالفعل. ومثاله: أسماء الأعلام نحو: زيد وعمرو لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا الصفات، والمجاز يتعلق بالصفات، إذ العلاقة صفة.
والمعلوم، والمجهول، والمدلول، ونحوها من الأسماء العامة، كل ذلك لا مجاز له.
__________
(1) سورة آل عمران آية 54.
(2) سورة الشورى آية 40.
(3) سورة الأعراف آية 99.(1/99)
فإن قلت: قد أجزتم التجوز باسم الشيء عن ضده، فلو سمي المعلوم مجهولا، وبالعكس، كان ذلك مجازا في الأسماء العامة، وقد أنكرتموه.
قلت: ما ذكرناه من التجوز باسم الشيء عن ضده صحيح، لكن قد ذكرنا أن التجاوز لا يطرد، فلا يلزم ما ذكرت.
وفي هذا الجواب نظر بناء على المختار في البحث بعده.
الثالث: متى وجدت أركان المجاز، وهي: اللفظان، والعلاقة، جاز إطلاقه، واستعماله من غير افتقار إلى نقله عن أهل اللسان على أظهر القولين فيه، كالقياس، والاشتقاق، وقد سبق هذا البحث.
الرابع: قد اشتهر غلبة بعض المجازات على حقائقها، يعني: أنها صارت أبلغ في الإفهام، وأسبق إلى الأفهام، نحو قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ} (1) إذ هو أبلغ وأظهر وأخص من انتشر لتضمنه تشبيه الليل بالجسد الكثيف المظلم، والصبح بظهور النفس اللطيف المشرق لصدوره عن النفس المشرقة عقلا، وأيضا تشبيه انتشار الصبح شيئا فشيئا بظهور النفس كذلك.
واعلم أنه إنما يعدل إلى المجاز للاتساع والتشبيه والتوكيد (2)، نحو: {وَأَدْخِلْنََا فِي رَحْمَتِكَ} (3) فاتسع بزيادة الرحمة في أسماء الجهات وشبهها بالمظروفات وأكد بتصييره ما لا يدرك حسا، مدركا به، كقول القائل «لو تشخص المعروف لرأيتموه حسنا» «ولو تشخص المنكر لرأيتموه قبيحا» فمتى عدمت هذه الأوصاف تعينت الحقيقة لأصالتها، وعدم الفائدة في العدول عنها.
الخامس: إذا كثر المجاز لحق بالحقيقة في اشتهاره، حتى تخفى حاله، فلا يظهر إلا
__________
(1) سورة التكوير آية 18والآية التي قبلها: «واللّيل إذا عسعس».
(2) في الأصل: يعدل إلى المجاز للاتساع أو التشبيه أو التوكيد وهو خطأ، إذ لا بد من استيفاء هذه المعاني الثلاثة. انظر الخصائص لابن جني 2/ 442.
(3) سورة الأنبياء آية 75.(1/100)
بنظر دقيق، ولهذا كان أكثر اللغة مجازا (1)، ويتوهم حقيقة نحو: قام زيد، وقعد عمرو، وجاء بكر، وذهب بشر، أي: وجد منه القيام، والقيام مصدر، والمصدر جنس يشمل الماضي والحال والمستقبل من كل فاعل، بدليل عمل فعله في جميع أجزائه كمية وكيفية نحو: قمت قومة، وقومتين، وثلاث قومات، وقياما حسنا وقبيحا، وأنا قائم، وسأقوم أنا وسائر الناس، ومع ذلك فلم يوجد من زيد جميع أنواع القيام، وكذلك ضربت زيدا، وقطع الأمير اللص، فإنك إنما ضربت بعضه، وقطع بأمره، ولهذا يحترز من أراد التحقيق بالبدل والتأكيد، نحو: ضربت زيدا رأسه أو جانب وجهه الأيمن، وقطع الأمير نفسه يد اللص، ووقوع التأكيد في اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها، ولهذا أفرده النحاة بباب لكونه مهما كسائر الأبواب المهمة.
وهذا بحث مليح، إلا أني سمعت بعض النحاة ينكر أن المصدر جنس فيسقط الاستدلال بالصورة الأولى، ويؤكده أن:
«قام زيد» معناه: وجد منه قيام، والنكرة لا تفيد الجنسية.
أو وجد منه القيام، وتكون اللام للمعهود وهو قيامه المختص به بالقوة.
أو يقول: القيام يفيد الماهية لا الجنس، والماهية يكفي في صدقها ثبوتا وجود فرد من أفرادها، والله أعلم.
__________
(1) انظر الخصائص لابن جني 2/ 447، وهذه الفكرة استمدها ابن جني من استاذه أبي علي الفارسي.(1/101)
الباب الثاني وفيه فصول(1/103)
الفصل الأول في الألفاظ وهي ضربان: مفردة، ومركبة.
ولكلّ منهما صفات تستحق بها رتبة الحسن والجودة.
أما المفردة: فصفاتها التي تستحق بها ذلك، ست:
الصفة
الأولى: تباعد مخارج حروفها
، كما سيأتي بيانه. وليس المراد أن متباعد المخارج يستلزم الحسن ومتقاربها يستلزم الرداءة، بل إن الغالب على الأول، الجودة، وعلى الثاني الرداءة، وقد يكون حسنا، «كالجيم والشين، والياء»، هي متقاربة، ويتركب منها «جيش» و «شجي» وهما لفظان رائقان جيدان، وهذا المقام يقتضي ذكر الحروف ومخارجها، فنقول:
الحروف جمع حرف، وهو مستعمل في اللغة لمعان:
(أ) صفة الناقة، يقال: ناقة حرف، أي: ضامرة. وفي شعر كعب.
حرف أبوها أخوها من مهجّنة (1)
(ب) طرف الشيء وحده، يقال: حرف الجبل، والسيف، فذلك منهما ومنه، فلم يحرف، وشيء منحرف، أي: مائل عن الوسط إلى الحرف والطرف، ومنه
__________
(1) والبيت في اللسان
حرف أخوها أبوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل
يصف الناقة بالحرف لأنها صامرة، وتشبه بالحرف من حروف المعجم. وهو الألف لدقتها اللسان مادة حرف(1/105)
{يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ} (1) أي انحراف عن الحق، وقيل الحرف هنا: الشك، والمعنى واحد إذ الشك انحراف عن الاعتقاد.
(ج) ومنه «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (2) وقرأت بحرف أبي عمرو (3).
(د) أدوات الكلام نحو: من، وعن، وقد، وهل.
(هـ) حروف الهجاء، وتسمى حروف المعجم، وسميت حروفا: اشتقاقا من الحد، والناحية، والطرف الذي يسمى حرفا لأنها جهات الكلم، ونواحيها، وحدودها. وهذا القسم هو المبحوث عن أحكامه هنا، فنقول:
الحرف: صوت يعرض له بعض مقاطع الفم لأن الصوت عرض يخرج مستطيلا متصلا، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين، مقاطع تثنيه عن امتداده، واستطالته، فيسمى حينئذ حرفا، وهذا تسمية له باسم محله لأن حرف الفم، وحده يعرض له، فيسمى باسمه، وشبه بعضهم الحلق والفم بالزمر (4)، والصوت فيهما بالنفس فيه، وهو تشبيه قريب إذ تختلف أجراس الحروف باختلاف مقاطعها منه، فيسمع للحرف في مقطع جرسا غير جرس الآخر في مقطعه، كما في الحروف الشجرية (5)، والصفيرية، والإطباقية (6)، ونحوها.
ويعرف مخرج الحرف، بأن يدخل عليه همزة الوصل ساكنا، لا متحركا، إذ الحركة تقلقه عن مستقره، فيقول: «أل، أك، أف، أش، أس» وكذلك سائر ما أردت معرفة مخرجه، فحيث انتهى جرسه، فهو مخرجه.
والحروف تسعة وعشرون، إلا عند المبرد، فإنه أنكر كون الهمزة حرفا، إذ لا
__________
(1) سورة الحج آية 11 {«وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ».}
(2) ذكره الطبري بسنده عن عمر بن الخطاب 1/ 10.
(3) هو سعيد بن إياس، أبو عمرو الشيباني، أدرك زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره. ت 96هـ. طبقات القراء.
(4) انظر سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي. فصل في الأصوات.
(5) في مقدمة اللسان، «الشجرية: الجيم والشين والياء، والشجر: مفرج الفم».
(6) انظر مقاطع الحروف في سر الفصاحة ص 22ط صبيح.(1/106)
صورة لها في الخط، وردّ بأن الاعتبار بالمعنى لا الخط (1)، ولنذكرها مرتّبة على مخارجها، وهي: ستة عشر مخرجا:
(أ) أقصى الحلق: مخرج الهمزة والألف والهاء. على ترتيب سيبويه. وعند الأخفش (2): الهاء مقارنة الألف لا قبلها ولا بعدها.
(ب) وسط الحلق: مخرج العين والحاء.
(ج) أدناه إلى الفم: مخرج الغين والخاء.
(د) أقصى اللسان، وما نشأ منه من سقف الحلق: مخرج القاف.
(هـ) أسفل من موضع القاف مما يلي الفم قليلا مخرج الكاف، ويسميان:
لهويّين لملابستهما اللهاة في خروجها.
(و) وسط اللسان من سقف الحلق: مخرج الجيم والشين والياء، المدناة من أسفل: وهي الحروف الشجرية.
(ز) أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس: مخرج الضاد، ويسمى المتفرد المستطيل.
(ح) حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه، ما بين ذلك وما يليه من الحنك فويق الضاحك والناب والثنية والرباعية: مخرج اللام، ويسمى المنحرف.
(ط) طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا العليا، مخرج النون.
(ي) مخرج النون، غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى اللام، مخرج الراء.
(يا) ما بين طرف اللسان، وأصول الثنايا العليا، مخرج الطاء والدال والتاء، وتسمى: النطعية.
__________
(1) ابن جني سبق المؤلف في الرد على المبرد فقال: «وهذا الذي ذهب إليه أبو العباس غير مرضي عندنا» انظر سر الصناعة 461.
(2) هو الأخفش الأصغر ت 315هـ، تتلمذ على المبرد وثعلب، وشرح الكتاب لسيبويه.(1/107)
(يب) ما بين طرف اللسان، وفوق الثنايا، الصاد والسين والزاي، وتسمى:
الأسليّة، وحروف الصفير.
(يج) ما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا السفلى، مخرج الظاء والذال والثاء، وتسمى: اللثويّة لملابستها اللثة أو قربها منها.
(يد) باطن الشفة السفلى، وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء.
(يه) ما بين الشفتين، مخرج الباء والميم والواو، وتسمى الشفهية.
(يو) الخياشيم، مخرج النون، وتسمى الخيشومي.
هكذا ذكره كل من وقفت على كلامه في هذا: إن مخارج الحروف التسعة والعشرين، ستة عشر: منها، مخرج النون.
والصواب: أن المخارج خمسة عشر، وهذه النون ليست من التسعة والعشرين، وهي خيشومية لا عمل للسان فيها.
فروع:
(أ) قد ألحق بالحروف التسعة والعشرين حروف أخر، وهي قسمان:
مستحسن: وهو النون الخفيفة، وهو الخيشومي المذكور، وهمزة بين بين، والألف الممالة، وألف التفخيم: وهي التي ينحى بها نحو الواو، كألف الصلاة، والشين كالجيم، والصاد كالزاي.
وغير مستحسن: وهي ثمانية: القاف بين القاف والكاف، والجيم كالكاف، والجيم كالشين، والفاء كالباء، والضاد الضعيفة، والصاد كالسين، والطاء كالتاء، والظاء كالثاء.
وذكر بعضهم أربعة أخر: السين كالزاي، والجيم كالزاي، واللام المفخمة، والقاف كالكاف.
فصار الجميع سبعة وأربعين حرفا.(1/108)
(ب) حكي عن الخليل (1)، قال: الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان، وذلق اللسان: تحديد طرفه، كذلق السنان. قال: ولا ينطق سناة اللسان (2)
إلا بثلاثة أحرف، وهي: الواو واللام والنون، فلذلك سميت حروف الذلاقة. ويلحق بها الحروف الشفهية وهي: الباء والواو والميم. قال: ولما ذلقت هذه الحروف، وسهلت على اللسان في المنطق، كثرت في أبنية الكلام، فليس شيء من بناء الخماسي التام يعرى عنها، وإن وردت عليك كلمة خماسية أو رباعية معراة عن حروف الذلق أو الشفهية، فليست من كلام العرب. وقال أيضا: العين والقاف لا يدخلان في بناء إلا حسناه لأنهما أطلق الحروف فالعين أفصحها جرسا، وألذها سماعا، والقاف أمتنها وأصحها جرسا، وكذلك السين والدال في التاء إذا كان اسما للين، الدال على صلابة الطاء وكزازتها، وارتفاعها عن خفوت التاء، وكذلك حال السين بين مخرج الضاد والزاي.
قال: والهاء تستعمل في البناء للينها، وهشاشتها، ولا بدّ من رعاية هذه الاعتبارات، ليكون الكلام سلسا على اللسان.
(ج) في بيان جودة متباعد المخارج، ورداءة متقاربه، وهو من وجهين:
أحدهما: أن ما تباعدت مخارجه يحصل للنطق في تأليفه مهلة وأناة، فتجيء الحروف مستقرة ممكنة، كمن يمشي في أرض سهلة مستوية، فإنه يكون مستقرا ممكّنا، بخلاف ما تقاربت مخارجه، فإن النطق في تأليفه لا يخرج من مخرج إلا وقد غيره فيما بعده، فتجيء حروفه مقلقلة مكدودة غير مستقرة ولا ثابتة، كمن يمشي في أرض وعرة، كثيرة الصعود والهبوط، فإنه يقوم ويقع، ولهذا كان التمتام والفأفاء يعثران في كلامهما، ولهذا لا تكاد تجد حرفين متواليين في كلمة واحدة من مخرج واحد، كالعين والحاء، أو الغين والخاء، أو الطاء والتاء، أو الكاف والقاف، أو الذال مع التاء، أو الظاء. فإن بدر شيء من ذلك، عدلت عنه العرب إلى الأخف، وإن خالفت به أصله نحو: حيوان، أصله: «حييان» لأنه من مضاعف الياء، فعدلوا به إلى الواو طلبا
__________
(1) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب علم العروض.
(2) سناة اللسان: طرف اللسان، وذلق كل شيء حده.(1/109)
للخفة، وكفى بهذا دليلا. وهذا الوجه قاله ابن الأثير (1)، وهو حسن، لكنه ذكره مشتتا (2) متفرقا مطنبا فيه، فجمعته ولخصته.
الثاني: إن نسبة الأصوات إلى حاسة السمع، كنسبة الألوان إلى حاسة البصر، وكما أن الألوان كلما تباينت وتباعدت كيفيات بعضها عن بعض، كانت أحسن، كالسواد مع البياض، أحسن منه مع الصفرة لتقاربهما، فهكذا يقال في الأصوات.
وهذا توجيه أبي محمد بن سنان الخفاجي (3)، وهو حسن جميل.
واعترض عليه ابن الأثير، بأن قياس أحكام بعض الحواس على بعض غير لازم ولو ثبت، لكنه إنما يصح ما ذكرت: أن لو توقفت معرفة جودة الألفاظ ورداءتها على سماع جرسها من مخارجها، كما تتوقف معرفة حسن الألوان وقبحها على رؤيتها، وليس كذلك، بل جودة اللفظ تعرف بدون سماعها، ككونها مكتوبة، أو متصورة، هذا حاصل اعتراضه (4).
وأنا أقول: إنه إما أنه لم يصل إلى مغزى كلامه، أو أنه عانده ليفسد قوله، ويصحح قول نفسه الذي تقدم، والجور قبيح، وكلا توجيههما مليح.
والجواب عن الأول: أن قياس بعض الحواس على بعض وإن لم يكن لازما، لكنه مناسب مناسبة قوية، ومجرد المناسبة، كاف في هذا العلم، إذ ليس من العقليات القطعية حتى يعتبر فيه اللزوم القاطع، ولأن أرسطو (5) وأصحابه ذهبوا: إلى أن محسات البصر ترد عليه هيآتها فيه، كما أن نفيه الحواس يرد محساتها عليها لاقتضاء الحكمة
__________
(1) الجامع الكبير ص 41.
(2) في الأصل: مشطا، ولعله تصحيف من الناسخ.
(3) انظر في هذه المقارنة سر الفصاحة لابن سنان ص 66.
(4) الجامع الكبير ص 28.
(5) هو أرسطوطاليس صاحب المنطق، وله كتاب في الشعر مطبوع. الفهرست 347وفي الأصل ولأن أرسطو وأصحابه ذهب.(1/110)
جريان الوجود على نظام واحد لا يختلف، وجعل هذا دليلا معتمدا في العقليات، فما ظنك بهذا العلم الإقناعي.
وعن الثاني: لا نسلم إدراك جودة اللفظ بدون سماعه، وإنما يدرك جودة معناه لأن آلة إدراكه العقل، فاشتبه عليك أحد الادراكين بالآخر. ولئن سلمناه، لكن الإنسان بمجرد أن يدرك اللفظة مكتوبة، يعرضها بطريق التقدير والتصوير على مخارج ألفاظها، فيعلم حكمها من جودة ورداءة سريعا لكثرة مباشرته للألفاظ والنطق بها، ولهذا فإن أحدنا إذا استصعب عليه هجاء لفظة، لكثرة حروفها نحو «فسيكفيكهم» (1)
و «أنلزمكموها» (2) يتهجاها بأن يتصور حروفها في ذهنه، ويجعل كل حرف في رتبته، فيحصل له معرفة هجائها وإن لم ينطق به، ولأن آلة إدراك اللفظ: النطق، كما أن آلة إدراك المعنى: الذهن، وحسنهما فرع عليها، فلو جاز أن يدرك حسن اللفظ بدون آلته التي هي النطق، لجاز أن يدرك حسن المعنى بدون آلته التي هي الذهن والتعقل، وهو محال، وهذا واضح لمن عقل وأنصف.
واعلم أن توجيه الخفاجي مبني على قاعدة لطيفة، وهي أن الحواس الخمس بمنزلة الجواسيس للنفس، يلقى إليها ما تدركه (3)، وقد علمنا بالطبع أن النفس ترتاح للأخبار المستغربة المتباينة، وتمل وتمج الكلام المعاد، كما قال بعضهم في ذلك:
إذا جلست إلى قوم لتؤنسهم ... بما تحدّث من ماض ومن آت
فلا تعيدن حديثا إن سمعهم ... موكّل بمعاداة المعادات
ولا شك أن الحروف المتقاربة في معنى المعاداة المتماثلة، ولهذا وقع الإدغام في المتماثلين، نحو: شدّ يشدّ. وفي المتقاربين نحو (4). فثبت أن السمع والنفس
__________
(1) سورة البقرة آية 137
(2) سورة هود آية 28.
(3) في الأصل: ما تذكره وهو تصحيف من الناسخ.
(4) كلمتان غير واضحتين، ومن الحروف المتقاربة الهاء والحاء فتدغم الهاء في الحاء، تقول في «أجبه حميدا» أجبحّميدا، فالحاء من وسط الحلق والهاء من أوله انظر المقتضب 207، والكتاب 4122(1/111)
تجافيان (1) متقارب الحروف وتملّانه، كما يملان تكرار الحرف الواحد من المخرج الواحد لما في ذلك من ثقل التلفظ، والله أعلم.
الصفة الثانية: أن تكون مألوفة
قد صقلتها الألسن، وآنست بها الأسماع والقلوب، لكثرة دورانها في الاصطلاح، غير وحشية، ولا متوعرة، ولهذا لم يكن في القرآن العزيز شيء من الوحشي، ولو ورد فيه لما قبح لأنه لسان المخاطبين به وعرفهم، ولكن لما كان مستمرا في القرون والأمصار تلاوة وكتابة واستعمالا، أنزله الله تعالى عريّا عن الوحشي بالنسبة إلى من يأتي بعد من خوطب به.
واعلم أن الكلمة ليست لذاتها وحشية ولا مألوفة، بل هذه صفة إضافية لها، وهي بالإضافة إلى من كثر دورانها في كلامه، وأنس بها سمعه مألوفة، وبالإضافة إلى عكسه بالعكس، ألا ترى أن العرب كانوا يستعملون في مفاوضاتهم ألفاظا لا يفهمها من أهل زماننا إلا كل فاضل بارع نظر في كتب اللغة، وقرأ على الشيوخ، وكان ذلك بالنسبة إليهم فصيحا حسنا رائقا، كالألفاظ التي في حديث أم زرع (2)، وحديث طهفة بن أبي زهير النهديّ (3)، ولو استعمل أحد من هؤلاء الحاضرة تكلفا، لعدّ قبيحا، ومن عده فصاحة أخطأ، وذلك قول ابن الرومي:
أسقني السكركة الصّنبر في جعضلفونه
واترك الفيجن فيه يا خليلي بغصونه (4)
وقول الآخر في صفة المطر:
متغطمط غصب الوحوش مكانها ... تياره فالضب جار الضّفدع (5)
__________
(1) في الأصل: تجاف.
(2) رواه البخاري، انظر عمدة القارئ شرح صحيح البخاري 16820، وهو حديث طويل يشمل إحدى عشرة امرأة يتحدثن عن أزواجهن.
(3) نهد: إحدى قبائل اليمن، وقد قام طهفة عن وفد بني نهد يتحدث عنهم أمام الرسول وذكر حديثا فيه غريب كثير. انظر الإصابة في تمييز الصحابة 2983ط المشرفية.
(4) الفيجن: السّذاب، قال ابن دريد: ولا أحسبها عربية صحيحة، وقد أفجن الرجل إذا دام على أكل السذاب. اللسان مادة فجن.
(5) بحر متغطمط: كثير الأمواج له صوت مسموع. اللسان مادة غطمط.(1/112)
وكقول بعضهم وقد اعتلّت أمّه، فكتب رقاعا وألقاها في المسجد الجامع ببغداد (1): «صين امرؤ ورعى، دعا لامرأة مقسئنة، قد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله الاستمصال، أن يمن عليها بالاطرغشاش، والانبخال» (2) فكل من قرأها، لعنه ولعن أمه ودعا عليهما.
وكقول الآخر (3): إن كانت إلا أثوابا في أسيفاط قبضها عشّاروك. فهذه ألفاظ وحشية قبيحة الاستعمال في عصرها، إلا أن الناظم فيها أعذر من الناثر لانطلاق عنانه في التأليف، وتقييد الناظم بقيد العروض، والتزام القافية، لكن ينبغي له اجتناب الوحشي ما أمكن، فإن قول القائل «متغطمط» لو جعل عوضها متدارك، أو متراكم، أو متلاطم، لأدت معناها، على أن لفظة «متغطمط» لا أراها متوغلة في التوحش، ولفظها مشعر بالكثرة، والحركة، وشدة الاضطراب، والغليان، فلا يقوم مقامها شيء من الألفاظ المذكورة، والله أعلم.
الصفة الثالثة: ألا تكون الكلمة مبتذلة بين العامة، وذلك قسمان:
القسم الأول: أن يدرك اللفظ بالوضع على معنى، فتنقله العامة إلى غيره
، وهو نوعان:
النوع الأول: ما نقلته إلى معنى مستقبح
كقول المتنبي:
أذاق الغواني حسنه ما أذقنني ... وعفّ فجازاهنّ عني على الصرم (4)
__________
(1) أراد به جامع المنصور بالجانب الغربي من بغداد العتيقة.
(2) مقسئنة: قال الجوهري: اقسأن الرجل اقسئنانا: إذا كبر.
الطرموق: الطين. الاستمصال: الإسهال. اطرغشاش: اطرغش إذا أبلّ وبرأ، والابرغشاش بدلا من الانبخال في الجامع الكبير 47.
(3) في اللسان «قول عيسى بن عمر لا بن هبيرة وهو يضرب بين يديه بالسياط: تالله إن كنت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك» مادة عشر. والأسيفاط: تصغير أسفاط جمع سفط، وهو وعاء كالجوالق والعشار: قابض العشر.
(4) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
ملام النوى في ظلمها غاية الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السّقم
شرح الديوان 474لأبي البقاء العكبري(1/113)
فإن الصرم في اللغة: القطيعة، يقال: صرمه صرما: إذا قطعه بضم الصاد وفتحها، واستعمله العامة بآخر طرف عرق في الجوف، وهو قريب من خارج حلقة الدبر إذا وصل إليها، قالوا: طلع صرمه، وفلان له صريم، مثل لهم في تهكمه واحتقاره، وهو في الأصل «سرم» بالسين، فحرفوه تحريفين: نقله عن معناه اللغوي، وجعل ما بالسين بالصاد، ومثل هذا يتوجه على الحريري في قوله:
فإن وصلا ألذ به فوصل ... وإن صرما فصرم كالطلاق
بل هو عليه أشد لتكرار اللفظ المكروه.
فإن قلت: قد استعمل امرؤ القيس (1) هذا في قوله:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وكفى باستعمال امرئ القيس له حجة.
قلت: الفرق بينهما أن امرأ القيس استعمله قبل تحريف العامة له، واستعمالهم إياه في موضوع قبيح، بخلاف المتنبي والحريري.
فإن قلت: ولعلهما أيضا استعملاه قبل التحريف، فلا يرد عليهما.
قلت: هو خلاف الظاهر، فإن العامة تتداول هذا اللفظ متلقين له عمن قبلهم طبقة بعد طبقة، وعصرا بعد عصر، فالظاهر أن زمنهما لم يتقدم تحريفه مع قربه.
والأقرب عندي: أن مثل هذا اللفظ مما فيه لغتان، يستعمل وينشد باللغة المخالفة للاصطلاح المكروه، كالصرم بفتح الصاد. هنا لا يقال: هذا فيه تغيير الرواية عن وضعها، وهو كذب حرام لأنّا نقول: لا بأس بذلك لأجل المعارض الراجح، وقد جاز الكذب شرعا، بل استحب، بل وجب لمصلحة راجحة، فها هنا أولى، ثم لم بدل دليل قاطع على أن الشاعر نطق بالصرم مثلا بضم الصاد، فيكون مظنونا، فيقوي المعارض. ومن هذا قول المتنبي:
__________
(1) من معلقته، الديوان ص 12.(1/114)
سلي البيد أين الجنّ مثا بجوزها ... وعن ذي المهاري أين منها النقانق؟ (1)
والمراد بجوزها: وسطها، وبالنقانق: جمع نقنق: وهو ذكر النعام، فاستعملتهما العامة في نوعين من الطعام، وكثر ابتذالهم لهما ولأشباههما، فصار استعمال لفظهما وإن كان المراد معنى غريبا فصيحا ركيكا حتى لو أفرد لفظ النقنق، وجمع لفظ الجوز، لزالت الكراهة لزوال المشابهة، كما قال الراجز:
فهي تنوش الجو نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا
النوع الثاني: ما نقلته العامة إلى معنى غير مستقبح (2)
كتسميتهم الإنسان إذا كان حسن الصورة واللباس، دمث الأخلاق، طيب الريح ظريفا، وإنما هو في وضع اللغة للحسن النطق لأن العرب جعلت لبعض صفات الإنسان موضوعات مخصوصة، فقالوا: الصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والظرف في اللسان، والرشاقة في القدّ، واللباقة في الشمائل، وكمال الحسن في الشّعر، ولهم فروق في هذا وغيره كثيرة جدا، صنفت فيها كتب، منها: كتاب الفرق لا بن فارس (3)، ومثل هذا النوع لا يقتصر على كونه مكروها، بل استعماله على اللغة قطعا.
__________
(1) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
هو البين حتى ما تأنى الحزائق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
وفيها يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي
(2) في الأصل: ما نقلته إلى معنى غير مستقبح.
(3) هو أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، كان نحويا على طريقة الكوفيين، وكان أستاذا للصاحب بن عباد، وله مصنفات في اللغة والنحو ومات سنة 395هـ. البغية 1/ 352.(1/115)
القسم الثاني: ما كره استعماله
لمجرد ابتذال العامة خطأ، لكونه ليس محرفا عن وضعه ولا مستقبحا كقول المتنبي (1):
وقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهنّ قلاقل (2)
فإن قلت: لم يكن هذا لما ذكرتم من ابتذالهم لهذا اللفظ، بل لثقل تكرار لفظ مرارا من مادة واحدة. قلت: هو باطل بقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشلّ شلول شلشل شول (3)
إذ هو تكرار لفظ مادته واحدة، وهو من أفصح الألفاظ وأعدلها، ولكنه ليس بمبتذل إذ الشلشل: الخفيف الروح، ولا يكاد يعرفه إلا خواص أهل اللغة، وكقوله أيضا: أعني أبا الطيب (4):
وملمومة سيفيّة ربعيّة ... يصيح الحصا فيها صياح اللقالق
__________
(1) في الأصل: لكونه محرفا عن وضعه ولا مستحقا. وهو غير مستقيم.
(2) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
قفا تريا ودقي فهاتا المخايل ... ولا تخشيا خلفا لما أنا قائل
وقلقل: حرك. الحشا: ما في داخل الجوف. العيس: الناقة الخفيفة. ديوانه ص 28ط لجنة التأليف.
(3) رجل شول: أي خفيف في العمل. شلشل: المحكم. اللسان مادة شول من قصيدة مطلعها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
ديوانه 6.
(4) هذا البيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة مطلعها:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
اللقالق: جمع لقلق: وهو طائر كبير يسكن العراق. سيفية ربعية: الكتبية المنسوبة إلى سيف الدولة، وإلى ربيعة قبيلة سيف الدولة. الديوان 2/ 325.(1/116)
وكقول ابن هاني (1):
من ليس يرفل إلا في سوابغه ... من تبعي مفاض أو سلوقي
أم من يذلّ عماليقا تذلّهم ... أي الأجادل يسمو للكراكي
فهذه القوافي وأصلها من المبتذلات ينبغي اجتنابها لغثائتها، ومج الأسماع لها لابتذالها.
الصفة الرابعة: أن لا تستعمل اللفظ المشترك بين معنيين: حسن، ومستكره،
بلا قرينة تميزه إذ بدون القرينة يسبق إلى الوهم المعنى المستكره، فتمجّه النفس وتنفر منه (2). ولا تزول تلك النفرة بعد معرفتها أن مراده المعنى الحسن، لصلافتها وسرعة بغيها بالمعاني، ألا ترى أنك (3) لا تشك في حسن الورد، وحلاوة العسل، ولو قيل: هذا الورد يشبه سرم البغل، وهذا العسل كأنه عذرة (4)، وهذا اللبن كأنه مدة أو قيح، لنفرت، فإذا نفرها التشبيه الطارئ، فكيف بالإدراك المتبادر للسياق.
مثال ذلك قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} (5).
وقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (6).
وقول القائل: «لقيت فلانا فأكرمته وعزّرته». فلولا قرينة الإكرام في هذه المواضع، لفتح لمبادرة الذهن إلى التعزير بمعنى: التأديب والإهانة.
__________
(1) هو محمد بن هانئ الأندلسي وهو غير أبي نواس، له ديوان مطبوع، ولد بقرية من قرى أشبيلية سنة 320هـ وتوفي مقتولا سنة 372هـ.
وهذان البيتان من قصيدة يمدح بها أبا الفرج السبياني مطلعها:
قولا لمعتقل الرمح الرديني ... والمرتدي ب لرداء الهندواني
(2) في الأصل: وتنفرد منه، وهو خطأ من الناسخ.
(3) في الأصل: ألا ترى أنها.
(4) العذرة: الغائط.
(5) سورة الأعراف آية 157.
(6) سورة الفتح آية 9.(1/117)
وكذا قول بعضهم يصف رقعة جاءته من صديق له: «فأنارت إنارة الزواهر، فالأذهان منها كالعانة في فلكها الدائر»، فإن العانة مشترك بين جماعة حمر الوحش، والشعر حول القبل، وكواكب في السماء تحت القوس، فبذكره الفلك، علم أن المراد: هذا المعنى الأخير لملازمة الكواكب له.
واعلم أن القرينة قد تكون قوية فتميز بين المشتركين تمييزا تاما، وقد تكون ضعيفة، فلا تفيد.
مثال الأول قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقََاعِدَ لِلْقِتََالِ} (1). فإن لفظ المقعد والمقعدة مشترك بين ما يلاقي الأرض من الإنسان إذا قعد، وبين موضع القعود، كالمضرب والمقتل، لكن ذكر القتال في الآية بيّن أن المراد: الموضع، لا ما يلاقيه. وقرينة أخرى، وهي: تبوئ إذ معناها تنزل في قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} (2) أي: بنوا لهم، وذلك مختص بالمكان وكذا قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} (3) فالصدق بين المراد.
ومثال الثاني قول الشريف الرضي (4):
أعزز عليّ بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العوّاد
فإن «خلا» إضافتها إلى العواد، قرينة، لكنها ضعيفة من جهة أن المقاعد أضيفت إلى من يصح استعمالها فيه بالمعنى المستقبح، بخلاف الآية المذكورة، فإنها مضافة إلى ما لا يصح استعماله فيه بذلك المعنى: وهو القتال، ولو قال الشريف الرضي: مجالس، أو مواطن، عوض مقاعد، لخلص من هذه المعرة. ولو لم يذكر القرينة في شعره، لكان أمره أخف وأسهل.
__________
(1) سورة آل القمر آية 55.
(2) سورة العنكبوت آية 58.
(3) سورة القمر آية 55.
(4) هذا البيت من قصيدة يرثى بها الصابي الكاتب ومطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد؟ ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟(1/118)
فإن قلت: فما تقول في قوله عليه السلام: «حوّلوا مقعدتي قبل القبلة» (1)
أمستكره هو أم لا؟ قلت: لا لأن المراد بها الموضع الذي يقعد فيه لقضاء الحاجة، وهو مستعار من اللفظ الذي تتحامى ذكره (2)، والمستعار له حكم المستعار منه للترابط بينهما، فكأنه صرح بالمستعار منه وهو: العجيزة، ولو صرح بذلك لم يكن مستكرها شرعا، كقوله لا تقل: أهريق الماء، ولكن قل: أبول.
وقوله لماعز: أنكتها؟ ولم يكنّ (3). بخلاف ما نحن فيه فإن كلامنا في ذكر معنى حسن بلفظ يوهم معنى مستكرها من غير رابط بينهما، فاعرف ذلك.
واعلم أنه قد ورد شيء من هذا الباب مهمل بغير قرينة، كقول تأبّط شرا:
أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطالبي ويومي ضيق الجحر معور (4)
فقال ابن الأثير (5): لا تفيد القرينة هذا شيئا، ولا تزيل ما عليه من الكراهة، وما فيها من القبح لمبادرة الذهن منه إلى المحل المخصوص من الحيوان بكل حال.
وفي هذا نظر، بل لهذا حكم غيره مما تزيل القرينة كراهيته كقولهم:
جحر ضبّ خرب
وقول الآخر:
فكنت كالمولج في جحر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
__________
(1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر عند رسول الله قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، فقال «أراهم قد فعلوها. استقبلوا بمقعدتي القبلة» سنن ابن ماجة 1/ 117عيسى الحلبي.
(2) في الأصل: من اللفظ التي نتحامى ذكرها.
(3) في الأصل: ولا تكنى وهو تحريف.
(4) ديوان الحماسة 1/ 26، لحيان: بطن من هذيل، وصفرت وطابي: كناية عن خلو قبله من محبتهم. معور:
باد عورته، وهي مكان المخافة منه.
(5) الجامع الكبير ص 54.(1/119)
فإن هذا يدل على أن المراد ثقب في حائط أو أرض، بقرينة ذكر الضّب، والأفعى، يؤكد ذلك أن استعمال ما يكره من الألفاظ إنما يصدر عن ألكن عي، أو فصيح ضعيف الفصاحة، أو تام الفصاحة بشرط القرينة الموضحة للمراد منه (1) ولو كان استعمال مثل ذلك مع القرينة المميزة لا يزيل كراهته، لكان عيّا، أو ضعفا في الفصاحة، وكان يلزم ذلك في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه استعمله في قوله: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها» (2). وقوله: لو كان المؤمن في جحر ضب لقيض الله له من يؤديه» (3).
وقوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» (4) وذلك باطل لأنه أفصح العرب اتفاقا.
فقد تحصل مما ذكرناه في هذا البحث، أن اللفظ الذي يبادر الذهن منه إلى معنى مستكره، إما: أن يتجرد عن قرينة، أو لا.
فإن تجرد عن قرينة كان مذموما في هذا العلم. ثم هو قسمان:
أحدهما: ما لو اقترنت به قرينة أزالت قبحه، نحو: «التعزير».
والثاني: ما لا تأثير للقرينة في إزالته، كبيت «تأبط شرا»، على رأي ابن الأثير.
وعليه سؤالنا المذكور.
وإن اقترنت به قرينة، فهي: إما قوية مزيلة للقبح، نحو: «مقاعد للقتال» (5).
وإما ضعيفة لا تزيله، بل ربما كان عدمها أيسر حالا، نحو: مقاعد العواد، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) في الأصل: بشرط القرينة المتضحة بالمراد منه. وهو غير مستقيم.
(2) ورد الحديث في المجازات النبوية للشريف الرضى ص 85 «إن الإسلام ليأرز» قال الأصمعي: يأرز: أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. اللسان مادة أرز.
(3) في سنن ابن ماجة حديث قريب من هذا الحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونصه «لتتبعن سنة من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر. حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه» 2/ 1322.
(4) رواه سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ابن ماجة 2/ 1318.
(5) سورة آل عمران آية 121.(1/120)
الصفة الخامسة: تصغير اللفظة
حيث يعريها عن معنى خفيف أو لطيف أو ضعيف للتناسب بينهما.
وفيه أبحاث:
البحث الأول: أقسام التصغير
منها: تصغير التحقير:
وهو إما في المعنى دون الصورة، كقولك لرجل عظيم الخلقة: «رجيل» أي صغير الأمر، حقير القدر.
وإما في الصورة دون المعنى، كقولك: «جبيل» إذ الجبل لا معنى له يحقره.
وإما فيهما، نحو: «رجيل» لرجل دميم الخلقة، حقير القدر.
ومنها: تصغير التقريب:
ومورده الظروف، نحو: «تحيت، وفويق، وعنيد، وقبيل، وبعيد» قال امرؤ القيس (1):
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
ومنها: تصغير التقليل
، ومورده العدد، نحو: دريهمات وأجيمال.
ومنها: تصغير التعظيم
، كقوله صلّى الله عليه وسلّم عن ابن مسعود: «كنيف ملئ علما» (2)
وكقول لبيد:
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل (3)
__________
(1) والشطر الأول من البيت:
وأنت إذا استدبرته سدّ فرجه،
والبيت من معلقته (ديوانه ص 23)
(2) الحديث في اللسان منسوب إلى عمر رضي الله عنه، ومعناه: أنه وعاء للعلم بمنزلة الوعاء الذي يضع الرجل فيه أداته، وتصغيره على جهة المدح له وهو تصغير تعظيم للكنف.
(3) يرثى النعمان بن المنذر من قصيدة مطلعها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
ديوانه 254ط الكويت.(1/121)
لا يقال: حقيقة التصغير واحدة، فكيف يراد بها ضدان، كالتحقير والتعظيم؟
والدليل الواحد لا يدل على مدلولين متناقضين، كما أن العلة لا تقتضي معلولين، ذلك لأنا نقول: إرادة الضدين منه ليست من جهة واحدة، حتى يلزم ما ذكرت، بل من جهتين، إحداهما: التجرد عن قرينة، فيفيد التحقير لوضعه له.
والثاني: إقرانه بقرينة التعظيم فتفيده، لقرينة العلم في الخير، واصفرار الأنامل في الشر.
ومنها: تصغير التبغيض والذم
نحو: عديّ نفسه، وجحيش وعبير وحده، وربما كان عدي نفسه داخلا في أحد القسمين: التحقير أو التعظيم.
البحث الثاني: أبنية التصغير: ثلاثة:
ثلاثي، ورباعي، وخماسي، على فعيل، وفعيعل، وفعيعيل، نحو: مليس، ودريهم، ودنينير.
ونحو: سكيران، وحبيلى، وحميراء. من قبيل الثلاثي المزيد فيه.
ونحو: أطيفال، وأجيمال من تصغير الجموع.
ومن المصغر ما لا مكبر له، نحو: اللجين، والكميت، وسهيل، والثريا.
قلت: وفيه نظر إذ الأولان لا تصغير فيهما، بل هما لفظان وضعا على بناء المصغر. وأما الأخيران فإن عنى أنه لا مكبر لهما مستعمل، فصحيح. وإن عنى مطلقا، فلا إذ مكبر سهيل: سهل. والثريا: أصلها ثريوى تصغير ثروى، مشتقة من الثروة، وهي الكثرة لكثرة كواكبها، يقال: هي سبعة، ويقال: اثنا عشر.
واختص النبي صلّى الله عليه وسلّم بإدراكها لقوة حاشيته، وغالب الناس لا يرون الشبه. فقلبت الواو ياء وأدغمتا، وشددتا، وباقي أحكام التصغير إلى علم العربية.(1/122)
البحث الثالث: لا ينبغي الإكثار من التصغير ونحوه في الكلام
لأن مثله في الكلام، كالوشي في الثياب، فالمنع بهما أولى، وأحسن توشية لأن النفس تمل الكثير. قال الشاعر:
إني رأيتك في الهوى ذوّاقة ... لا تصبرين على طعام واحد
وقال آخر:
وأخ كثرت عليه حتى ملّني ... والشيء مملول إذا ما يكثر
فمما جاء من التصغير قول الشاعر (1):
يا ما أميلح غزلانا شدن لنا ... في هؤليّائكن الضال والسّمر
بالله يا ظبيات القاع قلن لها ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وقول الشريف الرضي (2):
وهل لخشيف بالعقيق علاقة ... بقلبي أم دانيت غير مدان
وقوله أيضا:
هل ناشد لي بعقيق الحمى ... غزيّلا مرّ على الركب؟ (3)
فإن هذه الغزلان في هذه الأبيات لما كان المراد بها، إما صغر السن لقربها من الولادة، أو لطاقة الأجسام، ورشاقتها، كان تصغير ألفاظها أنسب بمعانيها، وأدخل في الصفة، وأمثلة ذلك كثيرة فاعرفه.
__________
(1) ينسبه صاحب الإيضاح إلى الحسين بن عبد الله الغزى، وأكثر الرواة على أنه للعرجي ونسبه الباخزري لبدوي اسمه كامل الثقفي، انظر الإيضاح 614ط المحمودية والوشاح لمحمد الكرمي 1293ط قم 1375.
(2) وقد ورد البيت في الديوان 5532ط بيروت 1961.
عدوه لقائي، أو عدوني لقاءه ... ألا ربما دانيت غير مدان
(3) والبيت مطلع قصيدة في الغزل الرقيق. ديوانه 2212.
وفي الأصل: هل ناشد لي بعقيق اللوى.(1/123)
الصفة السادسة: أن تكون مركبة من أقل الأوزان تركيبا:
وهو الثلاثي لاشتماله على البداية (1) والوسط والنهاية، وهو أوسط الأبنية إذ الحرف الواحد لا يفيد، والحرفان إجحاف، وليسا بمكان من العذوبة، والرباعي والخماسي ثقيلان، ولهذا كانت أكثر الألفاظ الكتاب العزيز ثلاثية، والرباعي فيه قليل. ولا خماسي فيه أصلا، إلا ما كان اسم نبي نحو إبراهيم وإسماعيل، وهي أعجمية لا عربية، لا يقال فيه «فسيكفيكهم» (2) و «أنلزمكموها» (3) و «ليستخلفنّهم» (4) وهي أكثر من الخماسي لأنا نقول: كلّ من هذه كلمات، وكلامنا في الكلمة الواحدة، بخلاف قول المتنبي:
إن الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها (5)
فإنها كلمة واحدة، وقد استهجنت منه لكثرة حروفها.
وكذلك قول بعضهم في رقعة إلى صديق له تشدق فيها: «فإذا اسلعلعت تلك تحنبلت هذه وتكهمشت». والمراد باسلعلعت: طالت من قولهم: رجل سلعلع، أي: طويل، ثم هي وحشية، ففيها إذن عيبان وسبب استهجان مثل هذا وكراهته حصول الكلفة على الناطق لتطاول الزمن فيه، وامتداد الصوت، بخلاف ما قلّت حروفه.
واعلم أن الاسم المجرد، إما: ثلاثي، أو رباعي، ولا يتجاوزان بالزيادة سبعة أحرف. أو خماسي، ولا يتجاوز بها ستة لأنه غاية الأصول فلا يحتمل غاية الزيادات.
__________
(1) في الأصل: على المبتدأ وهو غير مستقيم.
(2) سورة البقرة آية 137.
(3) سورة هود آية 28.
(4) سورة النور آية 55.
(5) ديوان المتنبي 2301من قصيدة يمدح فيها أبا أيوب أحمد بن عمران استهلها بقوله:
سرب محاسنه حرمت ذواتها ... دانى الصفات بعيد موصوفانها
سويداواتها: جمع سويداء: حبة القلب.(1/124)
وقال لي شيخنا مسعود بن تركي القرامي: أكثر الأسماء حروفا «فوعيلانه» وهي ثمانية أحرف بزيادتها، وحكاه عن شيخه ابن فزان النحوي.
أما الأفعال: فمجردها، إما: ثلاثي نحو: ضرب، أو رباعي، نحو: دحرج، ويبلغ بالزيادة ستة، نحو: استخرج، واغدودق، ولا خماسي فيها مجردا حطّا لها عن رتبة الأسماء لفرعيتها عليها، إذ حاجتها إليها.
وهاهنا صفتان أخريان:
إحداهما: كونها جارية على العرف العربي الصحيح، غير شاذة. ذكره ابن سنان الخفاجي (1)، ومنع منه ابن الأثير اشتراطه (2) لأن معنى شذوذ الكلمة أنها لم تنقل إلا عن واحد، فلا يوثق بها، وذلك لا تأثير له في الحسن والقبح.
قلت: ويؤكد هذا أن الشذوذ لو أثر في قبحها، لأثر شذوذها وتواترها في حسنها، وكان يلزم أن كل لفظة نابية حسنة، وهو باطل بما سبق، ولأن فصاحة اللفظ خلوصه من التعقيد، وهذا يشترك فيه الشاذ وغيره.
وذكر البحراني (3) من شروطها: أن تكون عربية غير مولّدة، ولا صادرة عن خطأ العامة، وقد سبق نحو هذا.
وأن تكون جارية على مقاييس كلام العرب، وهذا نحو ما شرطه ابن سنان (4)، لكن لم يعتبر فيه عدم الشذوذ، والله أعلم.
الثانية: بناء الكلمة من حركات خفيفة لما في التلفظ بذات الحركات الثقيلة من المشقة والثقل على ما هو مدرك حسا.
وزعم ابن الأثير (5) أنه ابتكر هذه الصفة، ولم يسبق إليها، ولا وقع ذلك في
__________
(1) سر الفصاحة ص 120.
(2) المثل السائر ح 2641.
(3) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف، كان إماما مقدما في علم العربية، ومن أعلم الناس بالعروض والقوافي، وأحذقهم بنقد الشعر، وله ديوان شعر جيد، والبحراني نسبة إلى البحرين. توفي سنة 585هـ. وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 31.
(4) سر الفصاحة 120.
(5) الجامع الكبير ص 59.(1/125)
ذهنه، بل لعله لم يعلم أنه سبق بها، فظن أنه ابتكرها. وأجود مما قاله، ما ذكره غيره وهو اعتدالها في حركتها إذ خير الأمور أوسطها، فالأخف والأثقل طرفان، والأعدل واسطة حسنة، وأعدلها حركتان وساكن، فإن أعوز، فثلاث حركات، وأربع حركات ثقيلة، والخمس أولى، وكذلك لا يحتملها الشعر، وأخف الحركات الفتحة، ثم الكسرة، ثم الضمة لوجهين:
الوجه الأول: أن هذه الحركات أجزاء حروف العلة التي هي: الألف والياء والواو ولهذا تسمى الضمة: الواو الصغيرة، وكذا الكسرة والفتحة بالنسبة إلى الياء والألف، ولأن كل واحدة من هذه الحركات إذا أشبعت، نشأت عنها الحروف التي من جنسها (1)، نحو بمنتزاح (2)، ومنظور (3)، والدراهيم، وايصال (4)، وذلك كله وارد في الشعر.
والألف والواو في الخفة والثقل على هذا الترتيب، وذلك لأن السكون هو الأصل، وكلما كان أقرب من الأصل، كان أخف لأنه أبعد عن الزيادات الفرعية، فاعتبر هذا الأصل، بمخارج الحروف فالألف من أقصى الحلق، فهي أقرب إلى خفاء ما اشتهر في الصدور، والياء تليها إذ هي من وسط الفم، والواو
__________
(1) في الأصل: نشأ عنها الحروف الذي من جنسها وهو تعبير ركيك.
(2) قال الشاعر:
فأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد «بمنتزح» وهو مفتعل من النزح.
(3) قال الشاعر:
ولو أن منظورا وحبة أسلما ... لننزع القذى لم يبرئا لي قذاكما
(4) قال الفرزدق:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
وقول الشاعر.
قام بها ينشد كل منشد ... وايتصلت بمثل ضوء الفرقد
اللسان مادة وصل.(1/126)
بعدها إلى جهة الظهور، وأيضا فإن الألف حلقية هوائية لا عمل فيها لعضو، والياء فيها عمل للسان وحده، والواو تعمل فيه الشفتان جميعا، وما كثرت آلات حركته، كان أثقل، وأيضا فإن المريض يستريح بالسكون، ويتعب بالحركة. والصحيح يبادئ بالحركة العنيفة، بخلاف الخفيفة، وكل هذا براهين ظاهرة على ترتيب الخفة والثقل في الحركات المذكورة على ما ذكرنا.
الوجه الثاني: من جهة الحكم: وهو أن العرب نقلت الأثقل إلى الأخف، وقد قلبوا الواو والياء إلى الألف في نحو: قال، وباع إذ أصلهما قول، وبيع، فدل على أنه أخف منهما، ولا يرد على هذا نحو: «حماليق» حيث الياء فيه بدل من ألف «حملاق» لأن الإبدال هنا ليس (1) من جهة النقل، بل لئلا يخرج هذا الجمع من القياس إذ أصله «حمالاق» ولا يطرأ في كلامهم إذ ليس لهم فعالان. بخلاف:
قال وباع.
وأما كون الياء أخف من الواو، فلوجوه:
أحدها: أن الياء تثبت في معتل الفاء، نحو: «يسر وييسر» و «يعر الجدي ييعر» (2) بخلاف الواو في معتلها نحو: «وعد يعد» و «وزن يزن».
الثاني: أن مفعولا من المعتل العين بالواو (3)، يلزم حذف واوه، نحو: «قول مقول» و «فرس مقود» وأصله «مقوول ومقوود» بخلاف ذلك من معتلّها بالياء إذ يجوز حذفها، وإثباتها، نحو: «مبيع ومعيب» وإن شئت «مبيوع ومعيوب».
الثالث: أن الواو تقلب ياء، نحو. «ميقات وميعاد وميزان» لكن هذا يعارض بعكسه، نحو: «موقن وموسر» فإن الياء فيه قلبت واوا، ولا يدفع هذا بأن ضمة الميم في موقن وموسر وبابهما غلبت على الياء فقلبتها إلى جنسها، لا أن الياء ثقيلة في
__________
(1) في الأصل: ليست، والصواب ما اثبتناه.
(2) يعر الجدي: يشد عند زبية الذئب أو الأسد فيكون ضعيفا قليل الحيلة، مادة «يعر» اللسان.
(3) في الأصل: من المعتل بالواو العين، وما أثبتناه أوضح.(1/127)
نفسها لأنه يجاب بمثله في باب: «ميقات» وأن كسرة الميم غلبت الواو فقلبتها إلى جنسها، لا أن الواو ثقيلة في نفسها.
فعلى هذا لو ذهب ذاهب إلى أن الأخفيّة والأثقليّة في هذه الحروف ليست ذاتية لازمة، بل هي (1) فيه عارضة، بمعنى: أن كلّا منهما قد يكون في بعض المواضع أخف من بعض، لاختلاف أحوال التركيب وأبنية الكلام، لما كان مبعدا، وشاهده الوجه الثالث المذكور، والله أعلم.
في الألفاظ المركبة تناسب الألفاظ وارتباط الكلام، وضع كل لفظ في موضعه اللائق به:
وأما المركبة: فهي إما جملة واحدة، أو جمل، والجمل: إما أن يتعلق بعضها ببعض أو لا، فإن لم يتعلق، كقول علي عليه السلام: «لا مال أعوذ من العقل، ولا داء أعيا من الجهل، ولا كرم كالتقوى» لم يعتبر فيه إلا امتزاج كل جملة على حالها، إذ ارتبط بعضها ببعض، لا ارتباطها بما قبلها وبعدها من الجمل، وهذا هو الشرط في الجملة الواحدة أيضا.
وإن تعلق بعضها ببعض اعتبر الارتباط والامتزاج بين الجمل كلها، وتمكن ألفاظها، لأنها إذن كالجملة الواحدة، وبهذا ظهر التفاوت (2) بين أصناف الكلام لأن أجزاءه كلما كانت أشد ارتباطا، كانت أدخل في الفصاحة.
فها هنا صفتان:
إحداهما: الامتزاج، وهو: تناسب الألفاظ، وارتباط الكلام، إذ بدونهما يكون كتركيب جسم من نوعين: كرأس إنسان على يدي فرس، أو بالعكس، أو كجسم مفصّل الأعضاء مقطّع الأجزاء.
الثانية: تمكن الألفاظ، وهو: جعل كل لفظ في موضعه اللائق به، إذ بدون ذلك، يكون مضطربا متناثرا، كعقد جعلت كل قطعة منه في غير موضعها، فإن ذلك يشينه، وإن كان ثمينا في نفسه، والعكس بالعكس، وإن كان غير ثمين.
__________
(1) في الأصل: بل إما فيه عارضة، وهو خطأ من الناسخ.
(2) في الأصل: نظر التفاوت، وهو سهو من الناسخ.(1/128)
وللامتزاج والتمكن مراتب: عليا، دنيا، ووسطى، وعلى حسب تفاوتها، تتفاوت مقادير الكلام، وأهله.
واعلم أنه لا فضيلة للفظ المفرد على مرادفه، وما يؤدي معناه، لذاته، بل لاختصاصه عليه ببعض الصفات السبع المتقدمة، وإنما يكتسي الكلام منظرا أنيقا، ورونقا بهيجا بالتأليف والتركيب. وهذه قاعدة لا تخص الكلام، بل تطرد في سائر المركبات فإن كل تركيب فإنما يزداد لزيادة فائدة لم تكن حال الإفراد، كتركيب الأدوية من مفرداتها، والأبنية من آلاتها، والإنسان من أعضائه وأجزائه لفوائدها المتعلقة بالتركيب. وجمال الأشياء وحسنها تابع لفوائدها إذ ما لا فائدة فيه قبيح رديء، وما فيه فائدة حسن جميل. فإذن جمال المركبات وحسنها تابع لتأليفها، ثم يشهد لذلك في الكلام وجهان:
أحدهما: أن الألفاظ المفردة قد تكون بحيث لا تعبأ النفوس بها، فإذا ركبت مالت واشرأبّت إليها، وما ذاك إلا لأجل التركيب.
الثاني: أن القرآن الكريم في أعلى رتب البيان، ولقد أعجز أهل اللسان، ولا فضل له على كلامهم، إلا من حيث التأليف لأن مفرداته متداولة بينهم جميعا قبل نزوله، وإلا لم يكن عربيا، وإن شئت فاعتبر قوله تعالى: {وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (1). وقوله تعالى: {وَإِذََا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسََامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ} (2). فكل واحدة من هاتين الآيتين تضمنت ست جمل، فانظر إلى شدة امتزاجه، وارتباطه، وأخذ بعضه بأعناق بعض، وتمكن ألفاظه، بحيث لو نقلت أى لفظة أو جملة منه عن مكانها، لاختلّ نظمه،
__________
(1) سورة هود آية 44.
(2) سورة المنافقون آية 4.(1/129)
وانطمست بهجته، مع كثرة فصوله، وتعدد جمله، فبهذه الصناعة اختص القرآن على سائر الكلام.
قال ابن الأثير (1): ومن الدليل على ذلك: أن الكلمة الواحدة تكون حسنة رائقة في كلام، ثقيلة مستهجنة في آخر، كقول الحماسي (2):
تلفّتّ نحو الحيّ حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وكقول أبي تمّام (3):
يا دهر قوّم أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك
فإن للفظ الأخدع في بيت أبي تمام من الكراهة والثقل أضعاف ما لها في بيت الحماسي من الروح والخفة.
وفي كلامه نظر من وجهين:
أحدهما: أنّا لا نسلم ثقلها في بيت أبي تمام، بل هي فيه أفصح منها في بيت الحماسي لأنها فيه حقيقة، وفي بيت أبي تمام مستعارة، والاستعارات أفصح من الحقائق في الصناعة.
الثاني: سلمنا ذلك، لكن لم قلت إن اللفظة في البيتين مستوية من كل وجه، وظاهره أنها ليست كذلك، إذ هي في بيت الحماسة مفردة، وفي بيت أبي تمام مثنّاة، فلعلّ الثقل أتاها من جهة التثنية، فإنه معنى زائد على مجرد اللفظة، فتؤثر فيها ثقلا،
__________
(1) الجامع الكبير ص 66والمثل السائر 1/ 384.
(2) هو الصمة بن عبد الله بن طفيل القشيري من قصيدة مطلعها:
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريّا وشعباكما معا
ديوان الحماسة 2/ 56، الليت صفحة العنق، والأخدع عرق فيها.
(3) من قصيدة يمدح بها محمد بن الهيثم مطلعها:
قد مات محل الزمان من فرقك ... واكتن أهل الإعدام في ورقك
ديوان أبي تمام 210(1/130)
وقد قدمنا عند ذكر اللقالق في بيت المتنبي (1)، أن الهجنة والكراهة إنما جاءتها من حيث الجمع الذي به شابهت ما تستعمله العامة وتبتذله، ولو أفرد فقيل «لقلق» لزال ذلك، وكذا الكلام في الجور فيه على العكس، وقد سبق ذلك، والله أعلم.
هذا على التقريب، فإذا أردنا التحقيق، قلنا: اللفظ والمعنى والتركيب جميعا، إما في الرتبة العليا، أو الوسطى، أو الدنيا. هذه ثلاثة أقسام:
اللفظ وحده في الرتبة العليا، والمعنى والتركيب، أما في الوسطى، أو الدنيا هذان قسمان.
المعنى في الرتبة العليا، واللفظ والتركيب جميعا في كلّ من المرتبتين قسمان آخران.
التركيب في العليا، واللفظ والمعنى جميعا في العليا، والتركيب في الوسطى أو الدنيا. هذان قسمان.
المعنى والتركيب في العليا، واللفظ في الوسطى، أو الدنيا، هذان قسمان.
فالجميع خمسة عشر قسما متنزلة في المراتب الثلاث، وهذه القسمة تشبه تنزيل الخناثي في الفرائض.
والكلام ليس قسما رابعا، فإنما ذكرناه، لنظر في مواضع هذه الأقسام من مراتبه.
__________
(1) يقصد قوله المذكور في ص 116من هذا الكتاب:
وملمومة سيفيّة ربعيّة ... يصيح الحصا فيها صياح اللقالق
ديوان المتنبي 2/ 325اللقالق: جمع لقلق وهو طائر كبير يسكن العراق وفي الأصل نقنق ونقانق وهو تحريف من الناسخ(1/131)
الفصل الثاني في المعاني (1)
وهي قسمان:
ما يستعيره المتكلم ممن سبقه إليه، وما يخترعه هو لعبور فكرته عليه عند حادث متجدد، وأمر طارئ، ويجب عليه الاعتناء بكلا القسمين بما تقدم: من إبداع المعاني الشريفة الألفاظ الرائقة الأنيقة اللطيفة، ولا يتكل على غيره، ولا على فضيلة سبقه، فكم من معنى مستعار حسن أنيق، ومخترع قبيح غير لائق، وقد قدمنا أن المعاني أشرف من الألفاظ لأنها هي المقصود بالذات، ونزيد هنا من وجهين:
أحدهما: أن المتكلمين يستوون في معرفة الألفاظ، ويتفاوتون في رتبة البيان، وما ذلك إلا لتفاوتهم في المعاني.
الثاني: أن مقصود علم البيان والبلاغة إنما يستخرج بالقوة الفكرية، والتدبر، والروية، وإنما تستخرج بها المعاني، لا الألفاظ، وإنما الاعتناء باللفظ من توابع العناية بالمعنى، كما أن الاعتناء بظرف الشيء ووعائه، إنما هو في الحقيقة بالمظروف حراسة لجوهره عن تغيره وفساده.
ثم إن شرف المعنى وسقوطه، من نتائج علو الهمة وسقوطها، فينبغي للمتكلم أن يجتهد فيما يدل على كيفية همته من ذلك إثباتا ونفيا، وربما اقتصر قوم على تنميق الألفاظ
__________
(1) في الأصل: الفصل الثاني في المعاني وهي قسمان، ولم يتحدث المؤلف عن القسمين فحذفنا العبارة لعدم فائدة ذكرها.(1/132)
وتزويقها، وأهملوا المعاني، وزعموا أن العرب تصنع ذلك فقالوا لنا: إنهم أسوة، واستروحوا إلى قول الشاعر (1):
ولما قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
قالوا: وهذه ألفاظ مطربة، وللألباب مذهبة، لحسنها وبهجتها ورونقها، ولا طائل من المعنى تحتها إذ حاصل معناها: أنا لما فرغنا من الحج، ركبنا الطريق راجعين نتحدث على ظهور دوابنا (2).
والجواب: أنا لا نسلم أن العرب راعت اللفظ، وأهملت المعنى، وإنما هذا كلام من لم يدرك مغزى كلامهم، كيف وزهير بن أبي سلمى، كان لا ينشد قصيدة حتى يمضي لها بعد إتمام نظمها سنة، فتتضح معانيها، وتهذب ألفاظها؟ ولهذا صار كلامهم أصلا يبنى عليه، ويفزع في محافل الحاجات إليه، ثم لو صح ما ذكروه من مساواتهم للعرب في تنميق اللفظ، وإهمال المعنى، لوجب أن لا يكون بين كلامهم وكلام العرب تفاوت في الرصانة والشرف، وإجماع أهل الصناعة اللسانية، أن كلام العرب لا يساويه غيره.
وأما ما ذكروه من البيتين اللذين زعموا أن لا طائل لمعناهما، فوهم بيّن، وخطأ فاحش، ومن أنعم النظر فيهما، علم أن معناهما أشرف من لفظهما، ولنشر إلى يسير من ذلك، فنقول (3):
هذا الشاعر عاشق مغلوب، وهو مع ذلك متستر، فلما غلبه العشق على أن قال «قضينا من منى كل حاجة» يشير إلى اجتماعه بمحبوبه، وقضائه وطره منه، تدارك أمره سريعا، فقال «ومسح بالأركان من هو ماسح» ليوهم السامع أن حاجتنا التي قضيناها
__________
(1) تنسب هذه الأبيات إلى كثير عزة، وقيل لا بن الطثرية، أو لعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى.
(2) انظر الخصائص 1/ 218.
(3) انظر هذا التحليل في الخصائص لا بن جني 215وما بعدها، والمثل السائر 652وما بعدها، والجامع الكبير ص 70.(1/133)
من منى، إنما هي مناسك الحج، ثم غلب مرة أخرى، فقال «أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا» كناية عن أنه خلا بمعشوقه في رجوعه عن منى أيضا، لكن لم يتمكن من بثه كل ما عنده من أفانين الشوق إليه، والوجد به، والمحبة له، لضيق زمن الاجتماع به، وقرب زمن الفرقة، فأخذ يبادر من المفارقة، فبثه من كل فن من تلك الفنون طرفا منه، ثم أحب الاستتار والتكتم، فشعب عما هو فيه بذكر الأباطح، وكثرة الناس فيها، فقال:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
موهما أن أخذنا بأطراف الأحاديث، إنما هو على عادة الركبان في تحدثهم على ظهور دوابهم، لا شيء وراء ذلك. ولعمري إن من لا يفهم ولا يستحسن هذه المعاني فهو في أسر الجهالة عان، ولكن هؤلاء القوم لما لم يفهموا معاني كلام العرب، نسبوا إليهم الإهمال فيها، فجهلوا وأخطئوا، وجدير بمن لا يفهم أن يخطئ، فإن العلم والإصابة من نتائج الفهم والدراية، والله أعلم.(1/134)
الفصل الثالث الكلام المنثور والمنظوم
مناقشة ابن الأثير فيما ذهب إليه بأن النثر أفضل:
اختلف في الكلام المنثور والمنظوم، أيهما أفضل؟ والذي اختاره ابن الأثير (1)
تفضيل المنثور، واحتج عليه بوجوه:
الأول أن القرآن أعلى الكلام، وأسلوبه النثر، فدل على أنه أعلى الأساليب، ويؤكده أن القرآن نزل معجزا، والإعجاز إنما يكون بأصعب الأشياء وأشقها، قياسا على سائر المعجزات في أزمتها، فدل على أن أسلوب النثر أصعب وأشق من أسلوب النظم، والآتي بالأشق أفضل، بالمعقول والاستقراء.
والثاني: أن الناظمين من العرب وغيرهم كثير جدا، والناثرين قليل جدا إذ لم يسمع لأحد منهم نثر، إلا «قسّ بن ساعدة» (2) ولهذا ضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة، وذلك لأفضلية أسلوبه الذي هو النثر، لأن الرتب العالية، والمناصب السامية، إنما يدركها النادر من الناس، كالمشاهير بالشجاعة، علي وعمرو، والكرم كحاتم وكعب.
واعترض على الأول بأن نزول القرآن على أسلوب النثر لا يقتضي أفضليته، بل مفضوليته، وذلك لأنه لما كان أسهل عليهم من النظم أنزل القرآن على أسلوبه، بحيث إذا تبين عجزهم عن معارضة الأسهل، علم أنهم عن معارضة الأصعب أعجز، كما أنه
__________
(1) الجامع الكبير ص 73والمثل السائر 54.
(2) قس بن ساعدة الإيادي، حكيم العرب، رآه الرسول يخطب بعكاظ على جمل أحمر واقتص أبو بكر قصته وأنشد شعره. المعارف 28.(1/135)
تحداهم أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور منه، ثم بسورة منه، بحيث إذا عجزوا عنها كانوا عن أكثر منها أعجز.
وإنما قلنا: إن النثر أسهل عليهم، وهو الاعتراض على الوجه الثاني لأنهم صرفوا عنايتهم إلى النظم عنه، واستفرغوا وسع قرائحهم فيه، اظهارا لقوتهم في الفصاحة والبلاغة. والعادة جرت في مقام الافتخار وإظهار الفضيلة، وإنما تعتني بالأصعب فالأصعب، كما أنه إنما يظهر فضله في الفروسية في قيادة الفرس الجواد الجموع، دون البرذون، وفي الشجاعة بمبارزته الشجاع دون الجبان، وفي قتل أسد لا سنّور، وجرأته في خوض المفاوز المخوفة في ظلام الليل، دون شوارع القرى، وأزقة المدن نهارا، وفي حمله الثقل، يحمل ألف رطل، لا في حمل خمسة أرطال.
وأجاب عن الأول، بالقياس على سائر المعجزات، كإحياء الموتى، وانشقاق البحر، ونبع الماء من الحجر، فإنها كانت أصعب الأشياء على أهل زمانها، وهذا ضعيف لأن معجزات الرسل وردت من جنس ما كان يتعاناه (1) أممهم، ويفتخرون به، وهو عظيم عندهم، كالناقة لأهل الإبل، وقلب العصا حيّة لأهل السحر، وإحياء الموتى لأهل الطب، والفصاحة لأهل اللسان، وذلك لا يمنع تحدي بعضهم بأسهل مما عندهم، مبالغة في إظهار عجزهم.
وأجاب عن الثاني: بأن إكثار العرب من النظم دون النثر، دليل على مشقته، وسهولة النظم لأن الإنسان إنما يكثر مما يسهل عليه، ويقل مما يعذر عليه، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: منع ما ذكر بأن الإنسان قد يصرف همته إلى الأصعب حتى يصير عليه أسهل من الأسهل لإلف نفسه له، وحصول الملكة لها به، كالكاتب يألف قلم النسخ، والخياط يألف خياطة الحرير والخزّ، فيصير أسهل عليهما من قلم الثلث،
__________
(1) يتعاناه: يعنون به(1/136)
وخياطة الصوف والقطن، وكصائم الدهر، يألف الصوم فيسهل عليه، حتى لو أفطر لوجد للإفطار مشقة، ولهذا كان صوم يوم ويوم أفضل لما في سرد الصوم (1) من السهولة المزيلة لمقصود العبادة ومقتضاها، وإلى مثل هذا أشار المتنبي بقوله (2):
وكأنها خلقت قياما تحتهم ... وكأنهم خلقوا على صهواتها
يصفهم بأنهم صاروا أشد إلفا لركوب الخيل منهم لوجه الأرض، فصار أسهل عليهم.
الوجه الثاني: أن ابن الأثير (3) قال في استعمال وحشى الكلام وغيره: الناظم فيه أعذر عندي من الناثر لتقيده بقيد القافية، وإطلاق عنان الناثر، وهذا مناقض لاختياره هنا، ودعواه أن النظم أسهل.
الثالث: أن الناثر يمكنه الإتيان بمعنى في لفظ، لا يمكن الناظم الإتيان به، إلا في أكثر من ذلك اللفظ لحكم الوزن والقافية عليه، فتكون زيادة ألفاظه (4) إذن هذرا لإمكان الاستغناء عنها، وما خلا من الهذر والحشو، وما لا حاجة إليه أفضل مما تضمنه واشتمل عليه
وجوابه من وجهين:
أحدهما: المنع إذ كم من نظم أخصر لفظا وأنشط معنى من نثر، وهذا
__________
(1) سرد فلان الصوم إذا والاه وتابعه. ومنه الحديث «كان يسرد الصوم سردا». اللسان مادة سرد
(2) البيت من قصيدة يمدح بها أبا أيوب أحمد بن عمران، والبيت في الديوان
وكأنها نتجت قياما تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها
ومطلع القصيدة
سرب محاسنه حرمت ذواتها ... دانى الصفات بعيد موصوفاتها
ديوانه 172
(3) الجامع الكبير ص 48
(4) في الأصل فيكون نقص ألفاظه إذن هدرا، وهذا لا يتمشى مع المعنى(1/137)
الشاطبي (1) قد نظم التفسير وزاد عليه كثيرا، وقصيدته جزء يسير من التفسير، وإنما يختلف باختلاف قوة الناظم والناثر وتمكنهما في صناعتهما.
الثاني: أن ما ذكره يقتضي أن النظم أصعب، وقد سبقت دعواه لخلافه، وهذا تهافت.
الرابع: أن النثر لا يقوله إلا من حصل آلاته المعتبرة، المقدم ذكرها، والنظم قد يقوله السوقة والعامة ممن لا أنس له بذلك.
وجوابه: أن المقابلة هنا ليست بين كلام فضلاء البلغاء، وشعراء السوقة، فإنه هذيان في الغالب، بل بينه وبين شعر فضلاء الشعراء، كأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وشعر هؤلاء وأمثالهم لا يحصل إلا بعد تحصيل آلات النثر، وما يختص به النظم.
ولئن سلمنا وجود شعر صحيح من عاميّ، على وجه الندرة، فهو دليل على أفضلية النظم، وأن النفوس إليه أميل، والطباع له أوثق، ولهذا اختص من التأثير في النفوس، مما ليس للنثر، ولا يقدح هذا في دعوانا، أنه أصعب من النثر، لما بينا من أن صرف العناية إلى الشيء تسهله جدا.
الخامس: أن الناثر تعلو درجته حتى ليبلغ منصب الوزارة، وذلك دليل أفضلية صناعته ونفاقها (2) والشاعر لا يفارق رتبة الشحاذين الطالبين لما في أيدي الناس، وذلك دليل مفضولية صناعته وكسادها، واستغناء الناس عنها.
وجوابه من وجوه:
أحدها: منع هذا التفاوت بينهما مطلقا فإن منشأ الشعر وينبوعه، إنما هم العرب وأكثر أهله كانوا ملوكا وعظماء، وأكابر، ورؤساء، كامرئ القيس، وعمرو
__________
(1) هو القاسم بن فيّرة الشاطبي الضرير، وفيرة معناها حديد، كان إماما فاضلا في النحو والقراءات والتفسير والحديث، صنف القصيدة المشهورة في القراءات، ت 590هـ. البغية 2602.
(2) نفقت التجارة: راجت.(1/138)
ابن هند (1)، والحارث اليشكرى (2)، وغيرهم من الجاهليين والإسلاميين، الصرحاء والمخضرمين، وأعلاهم منصبا الخلفاء الأربعة، وكلهم قال الشعر ورواه، وهذا يزيد ابن معاوية عريق في الملك، وشعره من أحسن الشعر، وإنما كثر الطلب في شعر المحدثين وهم عبرة بحالهم (3)، كما لا احتجاج على اللغة بشعرهم.
الثاني: ليت شعري، أي فضيلة لرتبة الوزير؟ وهل هو إلا غلام يؤمر وينهى في اليوم مرارا، ويكتب يقبل العتبة الشريفة، ولعل الشاعر يدخل على الملك فيأمره في شعره وينهاه، وقد يأخذ منه بسطوة لسانه، كما يأخذ هو بسيفه وسنانه.
الثالث: سلمنا التفاوت بينهما في الرتبة، لكن لا نسلمه في الفضيلة، فكم من وزير مفضول دائص (4) إذا دخل الشاعر إليه سخر منه، وضحك عليه، وعلى من استوزره واللبيب لا ينظر الناس بالبصر، بل بالبصيرة، ولا ينظر إلى صورهم، ولا إلى كمالاتهم الصورية الحيوانية، بل إلى كمالاتهم المعنوية النفسانية، فإن الفرد يرفع على حشيّة (5) عالية على رءوس الناس ليسخروا منه، وقد قال القائل:
ما إن نزال ببغداد تزاحمنا ... على البراذين أمثال البراذين
يشير إلى أنه ركب الخيل من يستحق أن يمشي راجلا.
وقال الآخر في تعتبه على الزمان، وأنه رفع غيره من المفضولين عليه، ونام عنه، وتنبه لهم:
__________
(1) هو عمرو بن هند ملك الحيرة ولقب بالمحرق لأنه حرق بني تميم. العمدة 1792، نهاية الأرب 2 179.
(2) هو الحارث بن حلزة اليشكري، وكان أبرص، ارتجل قصيدة بين يدي عمرو بن هند ارتجالا من وراء الستار لما أصابه من برص، فأمر برفع الستار استحسانا لها، وعمر طويلا. الشعر والشعراء 197
(3) في الأصل: «وإنما كثر الشعر في شعر المحدثين» وهو لا يستقيم.
(4) داص الرجل: إذا خس بعد رفعة. اللسان مادة ديص.
(5) في الأصل: عن حشية.(1/139)
لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عني أو تنبه لي
الرابع: قوله: الناثر يصير وزيرا، والناظم لا ينفك شحاذا، إن عنى به أن ذلك لازم مطرد، فهو باطل إذ كم رأينا من تأثير شحاذ، لا وزير، ولا كاتب.
وإن عنى به: أنه قد وقد (1)، فلا فرق إذ يستويان في ذلك.
وإن عنى الطالب ما ذكره، فقد سبق جوابه، وسيأتي.
الخامس: أن نفاق الصنعة قد يكون للضرورة إليها، دون غيرها، لكن ذلك لا يدل على أفضليتها ألا ترى أن الأبنية المشيدة، المزوقة، الموضوعة على أصول الهندسة، لا ضرورة بالناس إليها، وهم إلى اللبن والطين أميل، واستعمالهم له أكثر، وهو فيه أنفق، ومع ذلك، فإذا حصل البناء المزوّق، المشيد، المحكم، كان في النفوس أنفس لكونه أرفق بالميت، وثمنه أغلى، وأكثر، وأهل البناء فيه أرغب، فكذلك النثر مع النظم، وقد يكون للقصور عن غيره، مع تطلع النفس إليه، كمن يأكل البصل لعدم قدرته على العسل، ويركب الحمار لعدم الفرس، فهذا يدل على مفضولية النافق لا أفضليته.
وقد حكى عن ابن المقرب البحراني (2)، وكان من فحول الشعراء المتأخرين «أنه قصد رجلا ليمدحه، فبعث إليه الرجل المقصود في بعض الطريق بشيء يسير، وناشده الله، والرحم أن يرجع عنه معتذرا بأني لا أجد سعة أكافئ بها مدحك، ولا أرضى أن تفد علي، وترجع بما لا يكافئك»، فهذا قد رغب عن شعر هذا الشاعر، لفضيلته، وشدة الرغبة فيه، على تقدير مكافأته.
وقد صنّف في فضائل الشعر كتب.
__________
(1) «قد وقد» يعني: أن الناظم قد يكون شحاذا، وقد يصير وزيرا، وكذلك الناثر.
(2) سبقت ترجمته ص 125من هذا الكتاب.(1/140)
وقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان (1) وقال: «اللهم أيّده بروح القدس» وقال للنابغة الجعدي (2): «لا يفضض الله فاك» وقال للناثر عدي بن حاتم (3): «بئس خطيب القوم أنت» وهذا لم نورده على جهة الاستدلال، بل على جهة الاستئناس، وما ورد في ذم الشعر من الظواهر فمتناول، والله أعلم.
__________
(1) هو حسان بن ثابت، عاش في الجاهلية والإسلام ومات في خلافة معاوية بعد أن كف بصره.
الشعر والشعراء 305.
(2) هو عبد الله بن قيس ويكني أبا ليلى، أنشد للرسول عليه السلام شعرا فقال له «لا يفضض الله فاك» فبقي عمره لا تنقض له سن الشعر والشعراء 289
(3) هو عدي بن حاتم الطائي شهد مع علي رضي الله عنه موقعة الجمل ففقئت عينه. مات سنة 68هـ بعد أن عاش مائة وعشرين سنة. المعارف 136.(1/141)
الجملة الثانية في أحكامه الخاصة وفيها بابان(1/143)
الباب الأول في الفصاحة والبلاغة
واعلم أنهما لثبوت إعجاز القرآن الكريم بهما، لا يكفي فيهما قول مهمل، ولا كلام مجمل، فيحتاج فيهما إلى كلام مفصل، وتحقيق فيصل، وفيهما أبحاث:
الأول: الفصاحة: خلوص اللفظ من التعقيد الموجب لقرب فهمه، ولذاذة استماعه وذلك باشتماله على صفاته المتقدمة.
واشتقاقها من الفصيح: وهو اللبن إذا أخذت رغوته، وذهب لباه (1).
والبلاغة: كون الكلام الفصيح موصّلا للمتكلّم إلى أقصى مراده.
بيان فصح، وهو فصيح، وبلغ بلاغة، وهو بليغ.
واشتقاقها: من بلغ المكان، إذا انتهى إليه، فسمي الكلام بليغا:
إما لكونه بلغ نهاية الأوصاف اللفظية والمعنوية، وهي إفادة المعنى، وفصاحة اللفظ، ومطابقته معناه، بحيث لا يزيد عليه، قاله ابن الأثير (2). قال: ومتى عري عن صفة من هذه الصفات، خرج على أن يكون بليغا.
وإما لما بلغ من تبليغه المتكلم أقصى مراده، وهو أولى من الأول.
__________
(1) يقال أفصح اللبن: إذا ذهب اللباء عنه. اللسان مادة فصح.
(2) الجامع الكبير 79، المثل السائر 1/ 118(1/145)
ويظهر لي أنه سمي بليغا لكونه يبلغ السامع أقصى ما يريد به من المعنى، وقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً} (1) ظاهر فيه إذ المراد: قل لهم قولا يبلغهم ويفهمهم المعنى المراد به، وهو محتمل للتفسيرين قبله.
الثاني: موضوع علم الفصاحة: الألفاظ الدالة على معانيها إحدى الدلالات الثلاث، أعني: المطابقة، والتضمن، والالتزام.
وموضوع البلاغة: الكلام الفصيح، ومعناه، فهي إذن أخص لأن متعلقاتها:
اللفظ والمعنى، ومتعلق الفصاحة: اللفظ فقط، فإذن كل كلام بليغ فصيح، وليس كل كلام فصيح بليغا لجواز خلوص ألفاظه من التعقيد، مع قصور دلالته، أو زيادته على معناه، وهذا على تفسير ابن الأثير للبلاغة (2). أما التفسيران الأخيران وكل منها أخص من الآخر من وجه لجواز خلوص اللفظ مع قصور الدلالة، أو تمام الدلالة مع تعقيد اللفظ.
الثالث: الفصاحة معنى إضافي، يختلف باختلاف الإضافات، كالحسن والقبح المختلفين باختلاف الأزمنة والأمكنة، والطباع، بدليل أن ما كانت العرب العاربة تعده من الكلام فصيحا، لخلوصه من التعقيد بالنسبة إليهم، نعده نحن الآن غير فصيح لتعقده بالنسبة إلينا، كما سبق في كون اللفظ وحسنه. وكذلك البلاغة لاشتراط الفصاحة فيها، وشروط الإضافي إضافي، والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء آية 63.
(2) المثل السائر 1/ 118، 119.(1/146)
الباب الثاني في أنواع علم البيان وهي ضربان: معنوية، ولفظية.
أما المعنوية
وقدمت لأفضلية المعاني، وتقدّمها في الوجود لأن المعنى إذا قام بالنفس، أعرب عنه اللفظ فتسعة وعشرون:
النوع الأول: الاستعارة
وفيها أبحاث:
الأول: في حدّها قيل: استعمال اللفظ في غير ما اصطلح عليه في وضع التخاطب للمبالغة في التشبيه، وبهذا القيد تنفصل عن سائر وجوه المجاز، إذ ليس الغرض بها ذلك. وذلك كقولك عن رجل شجاع رأيته: رأيت أسدا، فلو غايرت بين اللفظين، بأن حملت أحدهما على الآخر، نحو: زيد أسد، أو لقيت من زيد أسدا، فقيل: استعارة، وقيل: تشبيه بليغ إذ شرط الاستعارة أن لا يذكر المستعار له.
كقول زهير (1):
لدى أسد شاكي السلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم
__________
(1) شاكي السلاح: سلاحه شائك. والبيت من قصيدة مطلعها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم
شرح ديوانه ص 23ط الهيئة العامة للكتاب.(1/147)
الثاني: في أركانها، وهي أربعة:
مستعير: وهو المتكلم.
ومستعار: وهو المعنى الشبهي المشترك، كاستعارة الشيب لابيضاض الرأس (1).
ومستعار منه: وهو ما المعنى المشترك حقيقة فيه، كالنار.
ومستعار له: وهو ما ينقل (2) إليه المعنى بالاستعارة، كشعر الرأس.
فالمستعار منه أصل، والمستعار له فرع.
الثالث: الاستعارة أشرف وأبلغ من حقيقتها، وذلك ثابت بالذوق السمعي، والإدراك الطبعي، والنقل الإجماعي عن أهل هذا الشأن، وسببه: إثبات حكم الأقوى للأضعف، بإثبات الأسدية لزيد، واستعمال النار للشيب.
وأبلغ الاستعارات: ما كان التشبيه الحقيقي فيها أشد خفاء، كقوله:
أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا
فاستعار الإثمار للظهور، والأغصان للأصابع، والاجتناء للطلب، والعناب للأنامل المخصوصة، فلو أظهر التشبيه، بأن قيل: ظهر من أصابع يده التي هي كالأغصان، لطالبي الحسن شبه العناب، لطال الكلام، وركّ، وزال رونقه.
وشرط حسن الاستعارة: المبالغة في التشبيه، مع الإيجاز، نحو:
أيا من رمى قلبي بسهم فافتداه
الرابع: الاستعارة إما استعارة محسوس لمحسوس، كاستعارة البدر للوجه، بجامع الحسن والإشراق، والطائر للعادي بسرعة، بجامع السرعة.
__________
(1) في الأصل: كالاستعارة لابيضاض الرأس بالشيب، وهو تركيب غير واضح والمؤلف يطبق ذلك على الآية الكريمة «اشتعل الرأس شيبا».
(2) في الأصل: وهو مقابل إليه المعنى بالاستعارة، وهذا غير مستقيم، والصواب ما أثبتناه(1/148)
أو معقول لمعقول: كالموت لحياة الجاهل، والعدم لوجود من لا فائدة فيه، بجامع عدم الفائدة.
ومحسوس لمعقول: كالشمس للحجة الواضحة، والقسطاس للعدل، والحبل المتين للقرآن. لكن هذا المثال إنما يصح على رأي من يرى أن الكلام معنى نفسي، وإلا كان من القسم الأول.
أو معقول لمحسوس، كقوله:
فمنظرها شفاء من سقام ... ومخبرها حياة من جماد
فاستعار الشفاء من السقم للموضع المنظور إليه، بجامع حصول اللذة منهما، ولما كانت لذة الشفاء أعظم، جعلها أصلا.
الخامس: في ترشيح الاستعارة، وهو: مراعاة جانب المستعار، بأن يأتي في سياقه بما يستدعيه، ويضم إليه ما يقتضيه، وهو إما مطابقة وتصريحا كقول امرئ القيس (1):
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
لما وصف الليل بالتمطي، أردفه بما يقتضيه من الصلب والأعجاز والكلكل.
أو التزاما وكناية، وهو: أن يذكر بعض لوازم المستعار للتنبيه عليه من غير تصريح بذكره، كقول أبي ذؤيب (2).
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
__________
(1) في الديوان: تمطى بجوزه والبيت من معلقته. ديوانه ص 18
(2) أبو ذؤيب الهذلي: هو خويلد بن خالد جاهلي إسلامي، وهو شاعر فحل، وقد سئل حسان من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس حيا، هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب الشعر والشعراء 653.
والبيت من قصيدة قالها بعد هلاك أبنائه الخمسة بالطاعون ومطلعها:
أمن المنون وريبها تتوجع؟ ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
ديوان الهذليين ص 3ط الدار القومية(1/149)
ذكر الأظفار وانشابها ببينها على أنه استعار لفظ الأسد إذ الأظفار من لوازمه للمنيّة في ذهنه، وإن لم يصرّح به.
وتجريد الاستعارة: مراعاة جانب المستعار له، كقوله تعالى: {فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (1). فاللباس هو المستعار منه (2)، ولو راعى جانبه لقال:
«فكسوناها» ولكنه راعى جانب الجوع والخوف، الذي هو المستعار له، والذوق من متعلقاته، كأنه شبه الجوع والخوف بمطعوم مستكره أذاقهم طعمه، وبملبوس عمّهم به وشملهم، وهذا أحسن من الاقتصار على أحد الوصفين.
وكذا قول زهير (3):
لدى أسد شاكي السلاح
ولو راعى جانب المستعار منه لقال: وافي المخاطب، أو البراثن، نعم راعى جانبه في قوله: «له لبد أظفاره لم تقلّم»، فجمع بين الترشيح والتجريد في بيت واحد.
واعلم أن الاستعارة تقع في الأسماء نحو: رأيت ليوثا.
وفي الصفات نحو: رأيت صمّا عن الخير.
وفي الأفعال نحو: أضاء الحق وأقبل، وانقمع الباطل وأدبر.
ولقائل أن يقول: هذا مجاز في النسبة، لا في نفس الفعل.
وفي الحروف، كإقامة بعضها مقام بعض نحو: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (4)، أي منها.
{فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (5) أي عنه. {فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ} (6) أي عليه.
__________
(1) سورة النحل آية 112.
(2) في الأصل: فاللباس هو المستعار، وما ذكرناه هو الصواب.
(3) انظر ص 147من هذا الكتاب.
(4) في الأصل: إقامة بعضها، وهو سهو من الناسخ، سورة المطففين آية 28.
(5) سورة الفرقان آية 59.
(6) سورة مريم آية 97(1/150)
والحق أن هذا مجاز، وليس استعارة إذ لا تشبيه فيه.
السادس: الاستعارة نوعان:
جيد يجب استعماله، وتوخيه ما أمكن.
ورديء يجب اجتنابه ما أمكن.
أما الأول: وهو ما اشتد الامتزاج والتناسب والتشابه فيه بين المستعار له، والمستعار منه. ومنه قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (1) فإن المناسبة بين ابيضاض الرأس بالشيب، واشتعال النار في الحطب شديدة، من جهة سرعة الالتهاب والانتشار شيئا فشيئا، وإحالة ما انتشر فيه عن صفته قبل ذلك، وتعذر التلافي، وعظم الألم، وتعقب الجمود والخفوت.
وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ} (2) فإن انفصال الليل عن النهار، لما كان شيئا فشيئا تدريجيا، وكانت هوادي الصبح عند طلوعه كالملتحمة بأعجاز الليل، استعار لذلك لفظ السلخ الدال على تفاصل المتلاحمين شيئا فشيئا، كما في جلد الحيوان المسلوخ، وهذه الاستعارة في أعلى المراتب في بابها.
ومما دونها في الطبقة قول أبي تمام (3):
ومعرّس للغيث تخفق بينه ... رايات كلّ دجنّة وطفاء
فاستعار لفظ المعرّس وهو موضع التعريس لموضع وقوع الغيث، ولفظ خفوق الراية وهو اضطرابها لهبوب السحابة عند همولها وانصبابها، لا سيما الوطفاء: وهي القريبة من الأرض، ولفظ الراية لهدب السحابة: وهو المتدلّي منها،
__________
(1) سورة مريم 4.
(2) سورة يس آية 37.
(3) من قصيدة يمدح بها محمد بن حسان الضبي ومطلعها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
ديوان 1/ 22والتعريس النزول في آخر الليل(1/151)
كأنه هدب القطيفة، بجامع التدلي، ولفظ الدجنة: وهي الظلمة للسحابة السوداء.
وكذلك قوله في الخمر (1):
صعبت وراض الماء سيّئ خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء
فاستعار لها لفظ الصعوبة، لامتناعها عن أن تشرب لشدة سورتها، ولتسهيل الماء شربها لفظ الرياضة تشبيها بسيّئ الخلق من الناس، لاستصعابه عن حسن المعاشرة وللماء حسن الخلق لسلاسته ولينه ولطافة جوهره وحسن أثره، ولهذا يقال:
فلان ألطف أخلاقا من الماء، وفي الحكمة «الماء من طبع الروح» ولهذا تجد النفس بمشاهدته لذة وسرورا، يؤكده أن غالب المواضع التي ذكر فيها الماء في القرآن يعقبه ذكر إحياء الأرض الميتة، فجعل الماء للأرض، كالروح للجسد.
ومن ذلك قول بعضهم:
يا طود حلم ظلت معتصما به ... يا بحر جود همت في تياره
فاستعار لفظ «الطود» للحليم، بجامع الثبوت والرسوخ، وعدم التقلقل والاضطراب، ولفظ «البحر» للجواد بجامع الكثرة والسعة.
وأما الثاني: فما كان ارتباط التناسب بينهما بعيدا، وذكر ابن الأثير (2) من أمثلته قول أبي تمام (3):
يوم فتح سقى أسود الضواحي ... كثب الموت رائبا وحليبا
وعابه وبالغ في تقبيحه من وجهين:
__________
(1) بيت من نفس القصيدة السابقة ديوان 1/ 29.
(2) الجامع الكبير ص 88.
(3) البيت من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري ومطلعها:
من سجايا الطلول أن لا تجيبا ... فصواب من مقلة أن تصوبا
ديوانه 1701(1/152)
أحدهما: أن الكثب: هي الألبان، واحدتها كثبة، والمشابهة بين الموت واللبن بعيدة، ثم لم يكفه ذلك حتى جعل منها رائبا وحليبا.
الثاني: أن من شأن الموت أن يستعار له ما يكره، لا ما يستطاب.
وعندي أنه جازف في هذا، وجار على أبي تمام فإن هذه الاستعارة في غاية العلو، وليست في غاية السقوط، كما زعم وذلك لأنه لا خلاف أن الموت مستعار فيه اسم السقي والتجريع كقول القائل (1):
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
فأبو تمام استعار لفظ السقي في سياق ذكر الموت، ثم لما رأى أن بعض بني هذه الحرب اخترم في أوائلها سريعا، وبعضهم تراخى عنه الموت وأبطأ إلى آخر الحرب، ثم وافاه، رأى أن أشبه الأشياء بحالهم سرعة وإبطاء: اللبن الحليب الرائب لأنه يسمّى حليبا عقيب حلبه، ورائبا إذا تراخى عن زمن حلبه، فاستعار لفظ اللبن لمناسبة حال بني هذه الحرب صفة الحليب. والرائب في التعقيب والتراخي، ولعمري إن هذا تصرف حسن، وقريحة جيدة، وإن الله يأمر بالعدل.
وأما قوله: إنما يستعار للموت، ما يكره لا ما يستطاب، فجوابه النقض.
يقول الحماسي:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا (2)
والكأس ظاهرة في الخمر. وهي ما يستطاب غاية الاستطابة، ولهذا رتب على شربها الحد زجرا عنها، فلئن قال: إنها استعارة هنا بجامع ما يلحق السكران من غيبة السكر المشبهة لغيبة الموت، قلنا: وأبو تمام استعار لفظ اللبن لأنه جعل أحد قسميه رائبا. وفي الرائب حموضة أو مزوزة مستكرهة، ولما سبق من مناسبة التراخي، وذكر الحليب لما ذكرنا من مناسبة السرعة
__________
(1) قاله الأشهب بن رميلة. اللسان: مادة حرد
(2) قاله زفر بن الحارث الكلابي حماسة أبي تمام(1/153)
وذكر أيضا من ذلك قوله (1):
وتقاسم الناس السخاء مجدّدا ... وذهبت أنت برأسه وسنامه
وتركت للناس الإهاب وما بقى ... من فرثه وعروقه وعظامه
قال: فاستعار للسخاء رأسا وسناما وإهابا وعروقا وعظاما، وما قنع بذلك حتى استعار له فرثا، فصار السخاء جملا على الحقيقة.
قلت: وهذا ليس بقادح في الاستعارة لأنه استعارة محسوس لمعقول، والجمل من أشهر المحسوسات عند العرب، وكانوا به أكثر تمثيلا، لهذا لما سأل بعض خلفاء السلف الفرزدق من أشعر الناس؟ قال: إنما مثل الناس، كمثل جزور يجر، فأخذ امرؤ القيس سنامه (2)، والنابغة الذبياني لبّه، وجاء زهير فأكل من أطايب لحمه، وجئنا نحن فلم نلق إلا الفرث والدم. وأظن أبا تمام بلغته هذه القضية فنقلها من الشعر إلى السخاء لكونهما معنيين، ولم يعب أحد على الفرزدق، ويقل له جعلت الشعر جملا على الحقيقة، والاستعارة في الحقيقة هي التشبيه في المعنى (3).
وذكر من ذلك قول بعضهم:
إلى ملك في أيكة المجد لم يزل ... على كبد المعروف من نيله برد (4)
فقال: الاستعارتان بعيدتان، لكن استعارة الأيكة للمجد أقرب من استعارة الكبد للمعروف، ومن له أدنى ذوق يعلم أن هذه استعارة جيدة لا بأس بها.
__________
(1) من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري، وفي الديوان: مجزا بدلا من مجذذا، وهما بمعنى، ديوان أبي تمام 298، والإهاب: الجلد، والفرث: ما في الكرش من السرجين.
(2) فأخذ رأسه بدلا من سنامه. «الجمهرة 1/ القرشي».
(3) في الأصل: والاستعارة هي الحقيقة التشبيه في المعنى، ولعلها سبق قلم من الناسخ.
(4) البيت لأبي تمام من قصيدة يمدح بها محمد بن الهيثم بن شبانه(1/154)
والحق أن مراتب الاستعارة: عليا، ووسطى، وسفلى، وهذه الأمثلة التي ذكرها وعابها، كلها وسطى، وجعل ابن سنان الخفاجي (1) من جملتها بيت امرئ القيس:
فقلت له لما تمطّى بصلبه البيت (2)
وقال: ليس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة، بل هو وسط.
وهو وهم قبيح، بل هو من الرتبة العليا، وما ذكره ابن سنان في توجيه دعواه ضعيف لا يستحق أن يذكر (3)، والله أعلم.
النوع الثاني: الكناية والتعريض
وفيه أبحاث:
الأول: في اشتقاقهما، أما الكناية فهي من كنيت الشيء أكنيه، إذا ستره بغيره، ومنه كنية الشخص، كأبي محمد، وأبي زيد لأنّك سترت اسمه الأصلي بهذا اللفظ الذي سميته كنية، وقال بعضهم أصلها «كنانة» بنونين لأنها من «الكنّ» وهو الستر.
وأما التعريض، فيجوز اشتقاقه من أصلين: أحدهما: عرض الحائط أو نحوه، بحيث لا يرى شخصه، والثاني: من قولك، عرضت الشيء أو نفسي على فلان، كأن من تعرض بشيء لغيره، قد عرضه عليه ليقبله أو يفهمه.
والتعريض نوع من الكناية لأن في اشتقاقه معنى الستر
الثاني: في تعريفهما، وهو مأخوذ من معنى اشتقاقهما
__________
(1) سر الفصاحة 138
(2) والشطرة الثانية من البيت وأردف أعجازا وناء بكلكل ديوانه ص 65
(3) سرّ الفصاحة ص 139(1/155)
فالكناية: إخفاء المعنى المقصود تحت لفظ لم يوضع له، لمشابهة بين المعنيين، لخوف، أو حياء، أو مبالغة، أو غير ذلك.
فالخوف كقولك لشخص تريد قذفه، وتخاف من وجوب الحد: «أنا ما زنيت ولا أمي بزانية، أو: «يا حلال ابن الحلال»، ونحوه مما ذكره الفقهاء.
والحياء كقوله تعالى: {أَوْ لََامَسْتُمُ النِّسََاءَ} (1) أراد الجماع فكنى عنه باللمس إذ الجماع لمس خاص، فأخفى الخاص تحت لفظ العام حياء، كذا ورد في بعض الآثار.
أو تعليما للحياء، كقوله: {وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا} (2) قيل: أراد فروجهم.
والمبالغة كقول متمم (3):
لا يضمر الفحشاء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر
كنى عن عفته عن الزنا والفساد بعفة المئزر لأن من أراد ذلك الأمر، حل مئزره، وهذا وجه المشابهة بينهما.
وقال ابن الأثير: «الكناية أن نذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، كالكناية عن الجماع باللمس» (4).
وقال غيره (5): الكناية هي الكلمة التي أريد بها غير معناها، مع إرادة معناها،
__________
(1) سورة النساء آية 43.
(2) سورة فصلت آية 21.
(3) متمم بن نويرة وأخوه مالك بن ثعلبة بن يربوع، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أرى في أحبابك مثلك. «الشعر والشعراء 337».
(4) الجامع الكبير 156.
(5) يذكر المؤلف في بيان الفرق بين الكناية والمجاز أن هذا التعريف للبحراني انظر ص 158من هذا الكتاب(1/156)
نحو: «فلان كثير رماد القدر». فالغرض الأصلي منه، وصفه بما يلازم ذلك من الكرم، مع أن كثرة الرماد مرادة بالغرض. وهذا المثال صحيح، لكن نفس التعريف فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الكناية ليست هي الكلمة، بل استعمال الكلمة في إرادة غير معناها.
والثاني: أن لفظه مستهجن مستثقل لتكرار معناها فيه مرتين، مع إمكان الاحتراز منه.
وأما التعريض: فقال ابن الأثير: هو أن تذكر شيئا يدل على شيء لم تذكره (1).
وهو عين ما ذكر في الكناية، إلا أنه غير اللفظ، وغرضه الفرق والتمييز بينهما، وأرى ذلك مما يدق، ولهذا وقع النزاع في قول امرئ القيس (2):
فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فدلت صعبة أي إذلال
فقال ابن سنان (3): هو كناية عن الجماع، يعني المصير إلى الحسنى.
وقال ابن الأثير (4): هو تعريض به، ولا شك أن ما ذكر في تعريف الكناية والتعريض جميعا صادق عليه. إما أن يكونا مترادفين، أو بينهما فرق دقيق.
الثالث: أركان الكناية:
الكاني: وهو المتكلم.
والمكنى به: وهو المعنى المذكور لفظه، كاللمس.
__________
(1) الجامع الكبير 157
(2) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمهن من كان في العصر الخالي
وصرنا إلى الحسنى إلى ما نحب ونرغب الديوان ص 138
(3) سر الفصاحة 192
(4) الجامع الكبير ص 156(1/157)
والمكنى عنه: وهو المعنى المدرج المستور تحت اللفظ المذكور، كالجماع في الآية (1).
والكناية: وهي الربط بين هذين الركنين، باستعمال أحدهما، وإخفاء الآخر تحته.
وأركان التعريض كذلك: المعرّض، والمعرّض به، كالتزويج في قول الخاطب للمعتدة: لا تفوتيني نفسك.
وما به التعريض: وهو هذا اللفظ، ونفس التعريض، وهو استعمال هذا اللفظ لإرادة ذلك المعنى.
الرابع: الفرق بين الاستعارة والمجاز ما سبق، وبينها وبين الكناية: أن الغرض بالاستعارة المبالغة في التشبيه، وبالكناية ستر المعنى المقصود لأحد الأغراض المتقدمة.
وبين الكناية والمجاز على تعريفنا الأول لها:
هو أن المراد بها ستر المعنى المقصود بها.
والمراد بالمجاز إظهاره، إذ مقصود قولنا «زيد أسد» إظهار معنى الشجاعة، فعلى هذا، هما ضدان.
وعلى التعريف الثالث للكناية وهو «للبحرانيّ» (2) الفرق بينهما: أن المعنى الأصلي في الكناية مراد أيضا لكثرة رماد القدر في المثال، بخلاف المجاز، حقيقة الأسدية في قولنا: زيد أسد غير مرادة.
الخامس: الكناية قسمان: حسن، وقبيح، والحسن على أضرب:
الأول: التمثيل: وهو التشبيه على جهة الكناية، وهو الإشارة إلى معنى بلفظ وضع لغيره، نحو: «فلان نقي الثوب» أي: منزّه عن العيوب، وموقعه في النفس أشد لإرادة المعقول في صورة المحسوس.
__________
(1) أراد قوله تعالى: «أو لامستم النساء».
(2) سبقت ترجمته ص 125من هذا الكتاب.(1/158)
ومنه قوله تعالى: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ} (1) فمثّل البخل بغلّ اليد إلى العنق وكنّى به عنه لعدم تمكن البخيل من بسط اليد بالعطاء كالمغلول، ولقبح صورة الغلّ ونفرة النفوس منه، وكونه مؤلما للمغلول مبالغة في تنفيره عنه، وتنبيه على أن في البخل ضررا وألما، كما للغلّ.
ومنه قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} (2)
مثل غيبة المسلمين بأكل لحم الآدمي ميتا، وكنى به عنه إذ الغيبة تمزيق العرض، كما أن أكل اللحم تمزيقه مع الجلد، وذلك قبيح في بداهة العقول (3)، ثم ترقى في مبالغة التمثيل درجة أخرى بأن جعل اللحم لحم الأخ لأنه أشد كراهة إذ الإنسان يراعي في حق أخيه ما لا يراعي في حق غيره، ويكره له ما لا يكره لغيره، ثم ترقى فيه درجة أخرى بأن جعل اللحم ميتا لأن المغتاب لا يعلم بالغيبة، كما أن الميت لا يحسّ ظاهرا بأكل لحمه، ثم وصل بذلك لفظ الكراهة مبالغة في التنفير.
ومنه قول ابن الدّمينة (4):
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح، أم صيّرتني في شمالك؟
فكنّى عن الإكرام بجعله في يمناها، وعن الإهانة بجعله في شمالها لأن اليمين أشرف من الشمال حسا وشرعا، ولذلك كنّى الله تعالى عن أهل الجنة: ب {أَصْحََابُ الْيَمِينِ} (5) وعن أهل النار ب {أَصْحََابُ الشِّمََالِ} (6) في موضعين من سورة الواقعة:
أولها وآخرها.
__________
(1) سورة الإسراء آية 29.
(2) سورة الحجرات آية 12.
(3) في الأصل: في بداية العقول، وهو خطأ من الناسخ.
(4) هذا البيت من قصيدة له مطلعها:
قفي يا أميم القلب نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك
ديوانه ص 15وانظر دلائل الإعجاز ص 71.
(5) سورة الواقعة آية 28ونصها «وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود»
(6) سورة الواقعة آية 41ونصها «وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم».(1/159)
ومنه قول العرب: «إياكم وعقيلة الملح» (1). وقوله عليه السلام: «إياكم وخضراء الدّمن» (2) كناية عن المرأة الحسناء في منبت السوء، وتمثيلا لها بهما، والله أعلم.
الضرب الثاني: الإرداف: وهو اسم اخترعه قدامة بن جعفر (3): وهو الإشارة إلى المعنى بذكر مرادفه، أي: مساويه، كما سيأتي.
وغيره جعله من قبيل التمثيل (4). والفرق بينهما يعرف من تعريفهما. وفروعه خمسة:
الفرع الأول: فعل المبادهة، أي: الصادر عن البديهة من غير تثبّت. ومثاله قوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (5).
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُ} (6). فالإشارة بقوله: «لمّا جاءهم» و «جاءه» إلى ضعف عقولهم، وسفه أحلامهم، حيث بادعوا الحق بالتكذيب والردّ، ولم يفكروا ويتروّوا فيه تروّي العقلاء المراجيح فيما يرد عليهم من الحوادث، فقد أشار إلى ذمهم بذكر ما يفيده ويرادفه.
الفرع الثاني: الكناية عن الشيء بمثله، كقول من أراد نفي قبيح عن نفسه «مثلي لا يفعل هذا». قال الشاعر:
يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا
__________
(1) كناية تمثيلية والمراد بها: المرأة الحسناء في منبت السوء. فعقيلة الملح هي: اللؤلؤة تكون في البحر فهي حسنة وموضعها ملح.
(2) المجازات النبوية 60، الدمنة: مسرح الإبل، تبول وتبعر فيصيبه الغيث، فيخضر ويأنق منظره.
(3) قدامة بن جعفر عالم بالمنطق والفلسفة والبلاغة، وله كتاب «نقد الشعر» «والخراج»، «وصناعة الجدل»، «والرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام»، ت 227هـ. معجم الأدباء 18/ 13.
(4) التمثيل: أن ترد الإشارة إلى معنى، فنوضع ألفاظ على معنى آخر، وتكون تلك الألفاظ وذلك المعنى مثالا للمعنى الذي قصدت الإشارة إليه والعبارة عنه كقولنا «فلان نقي الثوب» أي منزه عن العيوب.
(5) سورة سبأ آية 42.
(6) العنكبوت آية 68.(1/160)
أي: لا أقبل منك، وكقولهم: «مثلك إذا سئل أعطى» وهو كثير، وهو أسند للكلام، وأرفع لقدر صاحبه. قال ابن الأثير (1): لكونه يجعل نفسه من جماعة هذه أوصافهم، إشارة إلى تمكّنه فيما وصف به نفسه، إذا تفرد به لم ترس فيه قدمه، كما يقال لمن يمدح: «أنت من القوم الكرام» أي لك فيه سابقة ولست دخيلا فيه.
وعندي فيه نظر لأن تفرد الإنسان بصفات المدح أسند لحاله، وأرفع من شأنه، كما يقال: «فلان جالس من الكرم على رأس سنان». وليس هذا من قبيل قولهم: «أنت من القوم الكرام». وقولهم للعربي: «العرب لا تخفر الذمم» (2). وإنما وجهه عندي أن قول القائل: «مثلي لا يفعل كذا» إشارة إلى أن نفي ذلك عني ليس لذاتي، ولا لكوني إنسانا، بل لصفات جميلة كريمة مكملة قامت بي، فهي تقتضي نفي ذلك أو إثباته إن كان مثبتا لشيء لنفسه، وأن كل من قامت به هذه الصفات فهو مثلي في ذلك، وهو يكنى بنفي شيء عنه، أو إثباته له، عن إثبات صفات الكمال والجمال والكرم لنفسه، ولهذا نرى العقلاء يستحيون من هذا الكلام لكونه كناية عن تزكية أنفسهم بإثبات صفات الكمال لها، ولو كان كما قاله ابن الأثير، لما استحيوا من ذلك، إذ ليس فيه إلا إلحاق أنفسهم بمن يساويهم، وذلك لا يستحيا منه، إن المبادرة إلى الفهم الصحيح من هذا الكلام ما ذكرته، فأما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) فقيل: الكاف زائدة، وإلا لزم إثبات مثله، ونفي مثل ذلك المثل، وهو محال، وقيل: هي على أصلها في التشبيه، و «مثل» بمعنى:
ذات، أي: كذاته شيء على عادة العرب فيه. وقيل: المثلية هنا راجعة إلى الصورة الذهنية إذ لكل معلوم صورة وقع ومنزلة في الأذهان، فتقدير الكلام، ليس كصورة منزلة الله تعالى في النفوس والأذهان شيء. ذكر هذا الوجه لنا شيخنا المرّي وقال: هو تقرير صوفي.
__________
(1) الجامع الكبير ص 161.
(2) أي: لا تنقض العهد، وفي اللسان: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه
(3) سورة الشورى آية 11(1/161)
الفرع الثالث: منه ما يقع في جواب الشرط المقدّر كقولك لمن ادعى موت زيد: «أنت أخبرت بموت زيد، فهذا زيد»! أي: إن كنت أخبرت بموت زيد، فقد كذبت، فأتيت بما يرادف التكذيب في المعنى. وهو دعوى حضور زيد مع دعوى المخبر بموته، وهو من ألطف الكنايات.
ومنه قوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمََانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ} (1) أي: إن كنتم أنكرتم البعث. فقد كذبتم إذ هذا يوم البعث حاضر.
الفرع الرابع: صيغة الاستثناء الموهمة لحقيقة، وليست كذلك، نحو: «ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس» أي: ليس له ظلّ أصلا، فصيغة الاستثناء مؤكدة لنفي الظلّ، ومرادفة له.
ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ} (2) أي: لا طعام لهم أصلا، ولهذا عقبه بحكمه، وهو قوله تعالى: {لََا يُسْمِنُ وَلََا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} (3).
والضريع: يابس الشبرق: وهو نبت له شوك.
ومنه قول النابغة (4):
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
وقول الآخر:
وتفردوا بالمكرمات فلم يكن ... لسواهم منها سوى الحرمان
أي: لا عيب فيهم، ولا شيء لغيرهم منها أصلا، ونظائره كثيرة.
__________
(1) سورة الروم آية 56.
(2) سورة الغاشية آية 6.
(3) سورة الغاشية آية 7.
(4) من قصيدة يمدح بها عمر بن الحارث الأصغر ومطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ديوانه ص 60ط دار الهاشم بيروت.(1/162)
وتقرير هذا الفرع على الظهور والجلاء يحتاج إلى تقدير وقوع ما بعد حرف الاستثناء جوابا لشرط مقدّر على طريق التجاهل، تقديره: إن كانت الشمس ظلّا، فما لفلان ظل إلا الشمس، وإن كان فلّ السيف عيبا، فلا عيب لهؤلاء إلا فلول سيوفهم، وإن كان الحرمان مكرمة، فما لغير هؤلاء سواه.
الفرع الخامس: ولم يسمه ابن الأثير بشيء (1)، وأنا أسميه بدلالة الملزوم على اللازم. فمنه قوله تعالى: {قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صََالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قََالُوا إِنََّا بِمََا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (2).
والجواب الأصلي: نعم، نعلم أنه مرسل، فعدلوا إلى ملزوم ثبوت الرسالة: وهو إيمانهم به.
ومنه قوله تعالى: {عَفَا اللََّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟} (3) وتقديره أذنبت، أو أخطأت، لم أذنت؟ فعدل عنه إلى مرادفه في المعنى، وملزومه: وهو ذكر العفو لأنه ملزوم الذنب.
ومنه قوله تعالى: {قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} (4) أي: كذبتم في دعواكم، فعدل عن صريح التكذيب إلى مرادفه وملزومه، وهو دعوى عدم إيمانهم رفقا بالمخاطبين في الخطاب، واستقباحا لذكر الكذب، وهو من جميل الآداب.
ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النََّارَ} (5) أي: فاتركوا العناد، وآمنوا. فاحذروا سخطي، أي: فأطيعوني، فعدل إلى مرادف الطاعة وهو
__________
(1) الجامع الكبير 163.
(2) سورة الأعراف آية 75
(3) سورة التوبة آية 43.
(4) سورة الحجرات آية 14
(5) سورة البقرة آية 24(1/163)
حذر السخط. ومنه قول بعضهم (1):
وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبيّة عالم
فإن كان خيرا سرّني وعلمته ... وإن كان شرا لم تلمني اللوائم
أي: وإن كان شرا هجرتها، فلم يصرح به، بل ذكر دليله ومرادفه عدم توجه اللوم.
ومنه قول الأعرابية في حديث أم زرع (2) تصف زوجها بالكرم: «له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقنّ أنهن هوالك» فذكرت ما يرادف الكرم، والله أعلم.
الضرب الثالث: المجاورة، وهي: العدول عن الشيء إلى ذكر مجاوره، كقول عنترة:
بزجاجة صفراء ذات أسرّة ... فرنت بأزهر في الشمال مفدّم (3)
أراد بالصفراء: الخمرة، وصرح بذكر الزجاجة لمجاورتها لها. وفيه نظر إذ الخمرة حمراء لا صفراء، والزجاجة إلى الصفرة لا سيما إذا اشتملت على الخمرة أقرب وأنسب، والمثال الصحيح قوله:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرّم (4)
__________
(1) القائل هو كثير عزة ديوانه 2/ 36.
(2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، وهو حديث طويل اجتمعت فيه إحدى عشرة امرأة وتحدثت كل واحد منهن عن زوجها حديثا صريحا. وما ذكره المؤلف هنا، هو قول المرأة العاشرة.
(3) من معلقته ومطلعها.
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
انظر شرح القصائد التسع المشهورات لأبي جعفر النحاس 2/ 499، وديوانه ص 149ط التجارية
(4) وروي: فشككت بالرمح الطويل ثيابه. والبيت لعنترة.
انظر الموازنة 1/ 77دار المعارف وشرح القصائد التسع 2/ 509ط العراق(1/164)
أراد بثيابه: نفسه، وقيل: قلبه، وعلى نحوه فسر بعضهم قوله تعالى: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (1) أي فطهّر قلبك، أو نفسك، أو بدنك، فعدل إلى ذكر الثياب المجاورة لذلك.
الضرب الرابع: ما ليس بشيء من الأضرب المتقدمة، بهذا ترجمه ابن الأثير (2) وأنا أترجمه بالكناية عن الشيء ببعض ما ينسب إليه من عادة أو طبع.
كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3).
كنّى عن النساء بملازمتهنّ التحلي، وهو من عادتهنّ، وبالعيّ وعدم الإبانة في الخصام، وهو من طبعهن وجبلتهن لضعف قوتهن العقلية.
ومن ذلك قول أبي نواس (4):
تقول التي من بيتها خفّ مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير
كنّى بذلك عن امرأته، إذ العادة أن مركب الشخص إذا سافر إنما يخف من بيت امرأته، وذكر ابن الأثير (5) من هذا الضرب قول نصيب (6):
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وليس منه، بل من قبيل الإرداف، إذ معناه: لو سكتوا عن الثناء عليك، كذبتهم حقائبهم التي ملئوها من إنعامك وجوائزك. وسماه تكذيبا مجازا لدلالته على كذبهم، فعدل عن لفظ التكذيب إلى ملزومه، وهو ثناء الحقائب فاعرفه.
__________
(1) سورة المدثر آية 4.
(2) الجامع الكبير ص 165.
(3) سورة الزخرف آية 18.
(4) من قصيدة يمدح بها العباس بن الفضل بن الربيع مطلعها:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
ديوانه ص 186ط الاستقامة.
(5) الجامع الكبير ص 165.
(6) هذا البيت من جملة أبيات يمدح بها الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك. الأغاني 1/ 130(1/165)
والقبيح منها: ما أخفي لفظه، وظهر معناه لدلالة عقل أو عرف، كقول المتنبي (1)
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عمّا في سراويلاتها
فالتصريح بهذا خير من الكناية عنه إذ كل أحد يعلم أن الإشارة بما في سراويل المرأة إلى ذلك منها. وأين هذا من قول الشريف الرضي:
أحنّ إلى ما تضمر الخمر والحلى ... وأصدف عما في ضمان المآزر (2)
فإنه، أي: بالمعنى يعنيه في ألطف وأحسن وأبين ما يكون من الكنايات.
وأما التعريض الذي رخّص الله تعالى فيه في خطبة العلماء، وفسره العلماء بأنه قول الرجل لها: «إني في مثلك لراغب، ولا تفوتيني، أو تسبقيني بنفسك وإنك لجميلة، وإن بي حاجة إلى النساء، وتجيبه: «ما نرغب عنك، وإن قضي شيء كان». ويروى أن امرأة عرض لها رجل بذلك، وهي سافرة في حيازة زوجها، فقالت: «سبقك غيرك».
ومنها قول نوح عليه السلام له: {مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا} (3) فإنه تعريض منهم بكونهم أولى بالرسالة منه، بدليل قولهم بعد: {وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ} أي: فلو أن لدعواك الرسالة أصلا، لأرسل الله إلينا دونك والذي يتحقق فهمه من هذه الآية: دعواهم نفي رسالته، أما دعوى أولويتهم بالرسالة ففيه تردد.
ومنها قول إبراهيم عليه السلام لقومه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذََا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كََانُوا يَنْطِقُونَ} (4) وهو تعريض لهم بتجهيلهم، وتسفيه أحلامهم من وجهين:
__________
(1) هذا البيت من قصيدة يمدح بها المتنبي أبا أيوب أحمد بن عمران ومطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها ... دانى الصفات بعيد موصوفاتها
ديوانه 1/ 225
(2) في هذه القصيدة يمدح أباح ويستهلها بقوله:
بغير شفيع نال عفو المقادر ... أخو الجد لا مستنصرا بالمعاذر
(3) سورة هود آية 27.
(4) سورة الأنبياء آية 63(1/166)
أحدهما: أن آلهتكم إن سألتموهم عن ذلك لا ينطقون، وعبادة ما لا ينطق جهل وسفه.
الثاني: أن كبير آلهتهم غضب من عبادتكم ما دونه، فكسرها، تعريضا بأن الله تعالى أولى بالغضب من عبادتكم ما دونه، وهذا تعريض قياسي.
ومنها قوله عليه السلام وهو محتضن أحد ابني ابنته: «والله إنّكم لتجبنون وتبخّلون وتجهّلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإنّ آخر وطأة وطئها الله بوجّ» (1)
يعرّض صلّى الله عليه وسلّم بذلك بقرب وفاته، ومفارقته بنيه الذين هم من ريحان الله وأهله.
وبيانه: أن الوطأة: الشدة، ومنه: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» (2).
ووجّ واد بالطائف، والإشارة به إلى غزاة حنين، وهو واد قبل «وجّ» وآخر وقعة أوقعها الله بالمشركين على يدي رسوله صلّى الله عليه وسلّم به، وما بعدها من الغزوات، فهي مجرد خروج وتوجه، لا قتال فيه، وكانت غزاة حنين في شوال سنة ثمان، ووفاته عليه الصلاة والسلام في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فتقدير الكلام: إنكم لمن ريحان الله، وإني مفارقكم عن قريب، لأن المقصود بإخراجي إلى الدّنيا، تمهيد الدين والشريعة، وقد مهّدت، وآخر ما كان من مهماتها وطأة الله على المشركين بوجّ، وقد انقضت، فأنا إذن مفارقكم، وهذا من غرائب التعريض.
ومنها ما كتبه عمرو بن مسعدة (3) إلى المأمون في حق أصحابه، أما بعد. فقد
__________
(1) الحديث روته خولة بنت حكيم. ومعناه: أي تحملون على البخل والجبن والجهل، يعني الأولاد، فإن الأب يبخل بإنفاق ما له ليخلفه لهم، ويجبن عن القتال ليعيش لهم فيربيهم، ويجهل لأجلهم فيلاعبهم، وريحان الله رزقه وعطاؤه.
انظر اللسان مادة وطأ والمجازات النبوية للشريف الرضي ص 56وجّ: موضع بالطائف.
(2) أي خذهم شديدا، وذلك حين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فدعا عليهم فأخذهم الله بالسنين. والحديث رواه أبو هريرة عن الرسول وهو يدعو في صلاة القنوت: «اللهم اشدد وطأتك على مضر. اللهم سنين كسني يوسف» فتح الباري 4466.
(3) هو أبو الفضل عمرو بن مسعدة تركي الأصل، وكان من كبار كتاب المأمون بارعا في النثر والشعر توفى 214هـ. معجم الأدباء 6/ 88، معجم الشعراء 219(1/167)
استشفع فلان إلى أمير المؤمنين، ليتطوّل بإلحاقه بنظراته، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدّي طاعته» فوقع المأمون: قد عرفنا تصريحك له، وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما.
ومنها قول الشاعر (1):
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا
تعريض لهم: بأنا غلبناكم بذلك المكان، فلا وجه لافتخاركم علينا في الشعر بعدها فإنه لا ينفعكم، فصار كالميت المدفون. ونظائر هذا كثيرة.
النوع الثالث: التشبيه
وفيه أبحاث:
الأول: في تعريفه: وهو إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها، واختلفا في كيفيتها قوة وضعفا، ومثاله واضح، ويتضح بما سيأتي:
الثاني: أركانه أربعة: المشبه به كالأسد في قولنا: «زيد كالأسد» ثم أدخلت كاف التشبيه على إنّ وفتحت، فقيل: «كأنّ زيدا الأسد» وصارت كأن أصلا في التشبيه وقد سبق في الاستعارة أن قولهم: «زيد أسد» من قبيل التشبيه (2)
وأما تشبيههم بمثل نحو: «زيد مثل الأسد» فهو مبالغة فيه مجازا إذ المماثلة هي الاتفاق في الذات والصفات، والمشابهة: اتفاق في بعض الكيفيات.
الثالث (3): الصفة التي بها النسبة.
إما إضافية، كقولك «حجة كالشمس» أي: في الوضوح، «وألفاظ كالماء» أي: في
__________
(1) قاله الشميذر الحارثي، ويقال إنه من شعر سويد المرثدي. شرح ديوان الحماسة 1/ 118
(2) انظر ص 147من هذا الكتاب.
(3) في الأصل: الرابع وهو سهو من الناسخ.(1/168)
السلاسة، «وأخلاق كالنسيم» أي: في الرقة والسهولة لأن هذه قد تكون كذلك بالنسبة إلى شخص دون شخص.
أو حقيقية، ثم هي: إما نفسانية، كالجود والحلم في قولهم: هو كحاتم جودا، وكقيس حلما.
أو جسمانية، ثم هي إما غير محسوسة: كالبلادة والشجاعة والطول في قولهم هو كالحمار بلادة، وكعمر شجاعة، وكالنخلة طولا (1)، أو محسوسة بحسّ البصر: كتشبيه الخد بالورد، أو بحس السمع: كتشبيه الصوت المنكر بصوت الحمار، أو بحس الشم:
كتشبيه الأراييح الطيبة بريح المسك، أو بحس الذوق: كتشبيه الطعوم اللذيذة بطعم السكر، أو بحاسة اللمس: كتشبيه الجسم الناعم بالخزّ لينا، والخشن بالمسح خشونة.
الرابع: للتشبيه فائدتان:
إحداهما: الإيجاز: إذ قولنا «زيد أسد» أو «كالأسد» أوجز من قولنا: زيد شجاع، شديد الشجاعة.
والثانية المبالغة، إذ مراتب الصفات تتفاوت، فحملها على موصوفاتها بدون التشبيه، لا تفيد ما تفيد معه. مثاله قولنا «زيد شجاع، شديد الشجاعة» لا يفيده فائدة قولنا: «زيد أسد» لاختلاف مراتب الشجاعة، إذ قد يكون شديد الشجاعة، ولا يبلغ رتبة الأسد فيها.
ثم الغرض بالتشبيه قد يكون إلحاق الناقص بالكامل كما تقدم، وهو الأصل، ومن ظن أن قوله تعالى في صفة الحور العين {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (2) يشبه الكامل بالناقص إذ الحور أشد بياضا وحسنا من البيض فقد وهم إذ هذا تشبيه غير المعهود لنا بالمعهود، والخفيّ عنا بالظاهر لنا، فالبيض من حيث المعهود به، والظهور لنا أكمل من الحور إذ إدراكنا لهن بالوهم والتخيل، وإدراكنا للبيض بالحس
__________
(1) اعتبر المؤلف الطول غير محسوس، وهو محسوس بحس البصر
(2) سورة الصافات آية 49(1/169)
والمشاهدة، وهو أقوى، ومن هذه الجهة وقع التشبيه، لا من حيث التفاوت الحقيقي، وقد يكون إلحاق الكامل بالناقص على جهة التخييل والتمويه، يجعل الناقص أصلا مبالغة وصفه بالصفة المشبهة بينهما ويسمى التشبيه المعكوس، وغلبة الفروع على الأصول، فمنه قول ذي الرّمة (1):
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس
وقول الآخر (2)
وبدا الصباح كأن غرّته ... وجه الخليفة حين يمتدح
والعادة تشبيه لردف بكثيب الرمل، والوجه بالبدر، فعكس ذلك بتصيير الأصل فرعا، والفرع أصلا، مبالغة.
ونحو قول بعضهم (3):
في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنّيها
وقد يكون الجمع بين شيئين في مطلق الصورة، كتشبيه الصبح بغرة الفرس الأدهم في ظهور بياض قيل في سواد كثير، ومثل هذا يجوز عكسه.
كقول بعضهم في صفة الفرس (4):
__________
(1) من قصيدة مطلعها:
ألم تسأل اليوم الرسوم الدوارس ... بحزوى؟ وهل تدري القفار البسابس؟
وذو الرمة اشتهر بالتشبيب وبكاء الأطلال وهو من فحول الطبقة الثانية من شعراء عصره ت 117هـ وفيات الأعيان 2/ 440.
(2) البيت لمحمد بن وهيب الحميري البغدادي من قصيدة في مدح المأمون مطلعها:
العذر إن انصفت متضح ... وشهود حبك ادمع سفح
(3) هذا البيت من قصيدة يمدح بها البحتري المتوكل ومطلعها:
أنافعي عند ليلى فرط حبيها ... ولوعة لي أبديها وأخفيها
ديوانه 1/ 23
(4) قاله أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن هلال كاتب الخليفة المأمون وأحد وزرائه يصف فرسا الأسرار ص 229.(1/170)
وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام
الخامس: أقسام التشبيه، كأقسام المستعار:
إما تشبيه محسوس بمحسوس، كتشبيه الخد بالورد، والوجه بالقمر، وقول الشاعر:
يوم كأن سماءه ... حجبت بأجنحة الفواخت (1)
أو معقول بمعقول، كتشبيه، بعض المعاني ببعض، كالعشق والشباب بالسحر، أو الجنون ومن هذا القبيل قوله (2):
كأن ابيضاض البدر من تحت غيمه ... نجاء من البأساء بعد وقوع
وجعله البحرانىّ مثالا لتشبيه المحسوس بالمعقول، وهو وهم لأن الابيضاض لا يحس، وإنما يحس المبيض، وهو البدر.
وكذا تشبيه تثنيّ القدّ بتثني الغصن، أو اهتزازه، أو اعتداله باهتزاز الريح أو اعتدالها (3)، ونحوه، كلّ ذلك من تشبيه المعقول بالمعقول، إذ المحسوس المتثنيان، لا التثنيان، فتنبه لهذا فإنه مزلة قدم.
أو تشبيه معقول بمحسوس: كتشبيه العلم بالمطر في قول لقمان لابنه «إن الله تعالى يحيي القلوب بالعلم، كما يحيي الأرض بوابل المطر» وكتشبيه الذهن الجيد، والسمع، بالنار، وحد السيف، وذكر البحراني (4) من أمثلة هذا القسم، قول علي لمروان «أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه» وهو وهم إذ اللعقة: حركة اللسان، وليست محسوسة، إنما المحسوس اللسان اللاعق، والأنف الملعوق، فهذا إذن من أمثلة القسم الثاني: وهو المعقول بالمعقول.
__________
(1) قال ابن برى: ذكر ابن الجواليقي أن الفاختة واحدة الفواخت مشتقة من الفخت الذي هو من ظل القمر اللسان مادة فخت
(2) روي: كأن انتضاء البدر من تحت غيمه انظر أسرار البلاغة 265والبيت للعلوي الأصفهاني
(3) في الأصل أو اعتاله وهو خطأ من الناسخ.
(4) سبقت ترجمته ص 125من هذا الكتاب(1/171)
أو محسوس بمعقول، كتشبيه الخمر بالروح، والسيف بالمنية. وأهدى بعضهم لصاحب له سكينا، وكتب إليه «قد بعثت إليك سكينا، أقطع من البين».
وقال ابن الأثير (1): التشبيه معنى بمعنى: كزيد أسد.
أو معنى بصورة كقوله تعالى: {أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ} (2).
أو صورة بصورة نحو «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» (3)، شبه صورة الفلك بصورة الجبل.
وأخلّ بالقسم الرابع، وهو تشبيه الصورة بالمعنى، وهو مما تقتضيه القسمة، وهو ممكن، كما لو شبه السراب بالعمل الباطل، على قوله.
والقسمة التى ذكرها راجعة إلى ما ذكرناه لا تخرج عنه، ثم قال (4): وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، قد يكون:
تشبيه مفرد مفرد.
ومركب بمركب.
ومفرد بمركب.
وفاته قسم رابع: وهو عكس الثالث، وهو المركب بالمفرد، كتشبيه «الزبد على التمرة بالفارس» فالأقسام على قوله تسعة: مضروب ثلاثة في ثلاثة، وعلى مقتضى القسمة: ستة عشر: مضروب أربعة في أربعة، ثم ذكر الأمثلة:
مثال المفرد بالمفرد، قول البحتري: (5)
__________
(1) الجامع الكبير 91.
(2) سورة النور آية 39.
(3) سورة الرحمن آية 24.
(4) الجامع الكبير 92.
(5) قاله البحتري من قصيدة يمدح بها أبا نهشل حميدا ومطلعها:
إني تركت الصبا عمدا ولم أكد ... من غير شيب ولا عذل ولا فند
ديوانه 1/ 152(1/172)
تبسّم وقطوب في ندى ووغى ... كالغيث والبرق تحت العارض البرد
شبه التبسم بالبرق، والقطوب بالغيث.
وقول الآخر:
وكأنما فوق الأكف بوارق ... وكأنما فوق المتون إضاء (1)
شبه السيوف بالبوارق، والدرع بغدران الماء لبريقها.
مثال المركب بالمركب: قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً} (2) فشبه مركب حال المنافقين من اعتصامهم بكلمة الإيمان في الدنيا واستضرارهم بالنفاق في الأخرى، بمركب حال موقد النار في انتفاعه بها حال إيقاده واستضراره بذهاب نورها حين طفئت.
وقوله تعالى: {إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} (3) الآية، شبه مركب حال الدنيا في سرعة تقبلها وزوالها بعد غرور أهلها بزخرفها، بمركب نبات الأرض في ذلك.
ومنه قول الشاعر، (4) وهو من أحسن ما في هذا القسم:
فتى عيش في معروفة بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
وقول الآخر:
بكيت عليه حين لم يبلغ المنى ... ولم يرو من ماء الحياة المكدر
كأن دم النجلاء تحت بروده ... لطمة مسك في إهاب غضنفر (5)
__________
(1) إضاء جمع إضاءة وهي: الغدير
(2) سورة البقرة آية 17
(3) سورة يونس آية 24
(4) قاله الحسين بن مطير الأسدي (ت 161هـ) يرثي معن بن زائدة الشيباني أحد قواد العرب المشاهير، فوات الوفيات 1/ 144
(5) لطيمة مسك العير التي تحمل الطيب وأغراض التجارة، والمراد بها الطيب، وإهاب الغضنفر جلد الأسد.(1/173)
وقول المتنبي:
كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل (1)
وقول ابن المعتز:
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجى بسراج (2)
وقول الآخر في صفة الساقي والشرب:
فكأنه وكأنهم وكأنها ... قمر يدور على النجوم بشمسه
وهذا البيت وأمثاله من حيث الإفراد، تشبيه مفرد بمفرد، وحاصله: تشبيه الساقي بالقمر، والشرب بالنجوم، والخمرة بالشمس.
ومن حيث التركيب: تشبيه مركب بمركب، ونحوه قول الآخر:
دعوت الغلام ببطيخة ... وسكينة قد أجيدت صقالا
فقطع بالبدر شمس الضحى ... وأهدى إلى كل بدر هلالا
وعلى هذا يتوجه أن يقال: هذا تشبيه إضافي أي بالنظر إلى المجموع، يكون تشبيه مركب بمركب، وبالنظر إلى المفردات يكون تشبيه مفرد بمفرد.
مثال المفرد بالمركب قول بعضهم:
كأن السها إنسان عين غريقة
من الدمع يبدو كلما ذرفت ذرفا (3)
__________
(1) من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ومطلعها:
إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل؟
ديوانه 258
(2) من قصيدة مطلعها:
حثّ الفراق بواكر الأحداج ... وسجال يوم نأوا بكتم ساجي
ديوانه 133ط بيروت 1961
(3) السها كوكب بعيد خفي. وإنسان العين المثال الذي يرى في السواد(1/174)
وقول الآخر (1):
أتتك أبا حسن وردة ... تلذّ النفوس بأنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فردت يديها على رأسها
ولا تشبيه أحسن من تشبيه الجنبذ (2) بهذا.
وقريب منه قول بعضهم:
والنخل مثل عرائس ... شعورها قد نشرت
وعكس هذا القسم كعكس صور أمثلته، وحقيقته تشبيه مركب بمركب فتأمله.
ثم التشبيه ينقسم إلى جيد، وهو ما تقارب المشبهان فيه جدا.
ورديء وهو ما تباعد فيه، كقول بعضهم في صفة السهام:
كساها رطيب الريف فاعتدلت لها ... قداح كأعناق الظباء الفوارق
وقول الآخر:
ملا حاجبيك الشعر حتى كأنه ... ظباء جرت منها سنيح وبارح (3)
فإن تشبيه شعر الحاجبين بالظباء، والقداح بأعناقها من أردأ التشبيهات وأبعدها.
ووسط وهو ما بين ذلك، والله أعلم.
النوع الرابع: في شجاعة العربية
وهي مستعارة لها، إذ حقيقة الشجاعة قوة في نفس الحيوان يظهر آثارها على بدنه وجوارحه من إقدام وشدة طعن، بشجاعة العربية وقوتها لكثرة تصرفاتها المختلفة، وهذا النوع أعم هذا العلم فائدة، وهو أصناف:
__________
(1) البيتان لصاعد بن الحسن اللغوي البغدادي. معجم الأدباء 4/ 105ط مرغليوث.
(2) والجنبذ على وزن قنفذ: الورد الذي لم يتفتح.
(3) السيح والسانح بمعنى، وهو صد البارح. والظبي السنيح. الذي يمر من الجهة اليمنى، وهذا عند العرب دليل التفاؤل والبارح الذي يمر من الجهة اليسرى. وهو عندهم دليل التطير والتشاؤم(1/175)
الصنف الأول: في الالتفات
، وهو الرجوع عن أسلوب من أساليب الكلام إلى غيره، ومن فوائده: تطرية سمع السامع وإيقاظه للإصغاء، فإن اختلاف الأساليب أجدر بذلك من الأسلوب الواحد.
وهو ثلاثة أضرب:
الأول: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وعكسه. ومن أمثلته قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ، الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ، مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) هذا أسلوب غيبة ثم التفت عنه بقوله {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أسلوب خطاب، إلى قوله «أنعمت» ثم التفت إلى الغيبة بقوله «غير المغضوب عليهم» ولم يقل: الذين غضبت، كما قال: «أنعمت عليهم، لأن ذكر النعمة موضوع التقرب إلى الرب بذكر نعمه، فكان إسناده إليه بتاء المخاطب أبلغ في ذلك، بخلاف ذكر الغضب (2).
ونظيره قول إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (3) فأضاف هذه النعم إلى ربه تعالى، ثم قال: {وَإِذََا مَرِضْتُ} فأضافه إلى نفسه لفظا تأدبا إذ الأدب يقتضي أنك لا تضيف إلى المنعم عليك حال ذكر نعمه إلا النعم، لا المكروهات، فلا تقول الملك في سياق ذلك «أنت الذي أعطيتني، ورفعت قدري، وحبستني أو ضربتني لأن الأول يقتضي شكره، والثاني يقتضي ذمّه، والشكاية والتضجر منه» وهما متناقضان وقد استعمل الله تعالى هذا الأدب مع خلقه في حديث «إني حرمت الظلم على نفسي، يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم جاءوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي» (4)، ولما ذكر ضد ذلك، قال: «جاءوا على أفجر قلب رجل واحد، ولم يقل «منكم» كل ذلك من محاسن الآداب والتلطف.
__________
(1) سورة الفاتحة 31.
(2) انظر المحتسب لا بن جني 1/ 146.
(3) سورة الشعراء آية 78، 79.
(4) رواه عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي. عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو حديث قدسي طويل اختصره المؤلف. انظر الأحاديث القدسية 1/ 264ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.(1/176)
وأما فائدة «إياك نعبد» مع ما قبله من خطاب الغيبة، فمن وجهين:
أحدهما: أنهم لما وصفوا الله تعالى بخصائص الربوبية، وصفات الأهلية بأسلوب الغيبة ليكون أدل على صدقهم وإخلاصهم في ذلك، مما إذا خاطبوه به إذ المخاطب بالمدح قد يراقب فيداجي، ويخالف لسانه قلبه، بخلاف المادح في الغيبة حيث عدلوا حال الإخبار والسؤال إلى الخطاب لأنه أدل على الخضوع، والضراعة، وشدة الرغبة، ومسيس الحاجة، كما تقول لملك أنعم عليك «أنا شاكر للملك المعظم الجواد، مالك الرعايا والملوك، بك أيها الملك المتصف بهذه الصفات، أستعين على أموري، وإليك ألجأ من جميع محاذيري».
الثاني: أن أسلوب الخطاب أخص من أسلوب الغيبة، والعبادة أخص من الحمد والثناء، إذ الإنسان يحمد نظيره ولا يعبده، فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر الفعل الأخص.
ومنها قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (1) إلى قوله:
{فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَكَلِمََاتِهِ} ولم يقل: «فامنوا بالله ربي» لفائدتين:
إحداهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبة لها.
الثانية: تنبيههم على استحقاقه الاتباع لما اتصف به من الصفات المذكورة من النبوة والأمية التي هي أكبر دليل على صدقه. وأنه لا يستحق الاتباع لذاته، بل لهذه الخصائص التي بمن قامت وجب اتباعه، نحو ما أشرنا إليه في قول القائل «مثلي لا يفعل كذا وكذا» في الفرع الثاني من فروع الإرداف من باب الكناية.
ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} الآية (2) وفائدة ذلك العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم،
__________
(1) سورة الأعراف آية 158.
(2) سورة يونس آية 22.(1/177)
لتعجبهم من فعلهم وكفرهم إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة، إذ الإنسان يحب نفسه، لا ينكر عليها ولا يستعظم منها العظائم، بل من غيره، ودليله في الحديث «ما بال أحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه» (1).
وفي الشعر:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره ... ويعمى عن العيب الذي هو فيه
وذكر ابن الأثير (2) من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} (3) معناه: وتقطعتم عطفا على الأول، لكن التفت إلى أسلوب الغيبة كأنه ينعى عليهم كفرهم، وافتراقهم إلى قوم آخرين، وتقبحه عندهم مبالغة في تبكيتهم، ثم توعدهم بالرجوع إليه، وهذا وإن كان محتملا، إلا أن ظاهر الكلام وسياقه خلافه، وهو أنه تعالى خاطب المؤمنين بأن الأمة واحدة، وأنه الرب المستحق بأن يبقى ويعبد، ثم أخبر المؤمنين عن الكافرين بأنهم تقطعوا أمرهم بينهم وأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا. وعدلوا بالعبادة والتقوى عن مستحقها، ووضعوها في غير حقها، وفعلوا من التقوى خلاف ما يقتضيه اتحاد الأمة، والله أعلم.
الضرب الثاني: المعدل عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر تهاونا بصاحبه، أو تعظيما (4) لشأنه.
__________
(1) جاء في اللسان وفي الحديث «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ويعمى عن الجذع في عينه» ضربه مثلا لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به، وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة. والقذى جمع قذاة وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تين أو وسخ أو غير ذلك. مادة قذى.
(2) الجامع الكبير ص 100
(3) سورة الأنبياء آية 93
(4) في الأصل وتعظيما لشأنه وهذا لا يستقيم.(1/178)
مثال الأول: قول هود لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ} (1) ولم يقل: «وأشهدكم» قطعا، بعطف المستقبل على مثله المشعر باستواء الشاهدين في الصدق، وعدولا إلى الاستهزاء بهم وتهكمهم، إذ شهادتهم لا تأثير لها، ولا اعتبار بها، كما تقول لعدول «اشهد أني أحبك».
ومثال الثاني: أن يستنيب الحاكم عاصيا عن معصيته، فيقول العاصي» إني أشهد هؤلاء الناس، واشهد أيها الحاكم، أني لا أعود إلى مثل ما فعلت» فإن ذلك يفيد تفخيم حال الحاكم وزيادة تعظيمه على غيره ممن أشهده، وقريب من هذا قوله تعالى:
{فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشََّاهِدِينَ}، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلََّهِ وَلَا الْمَلََائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (2) في دلالة الكلام على أن الثاني أفخم من الأول.
الضرب الثالث: في الالتفات من خطاب التثنية إلى خطاب الجمع، ثم إلى خطاب الواحد. فمنه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءََا لِقَوْمِكُمََا بِمِصْرَ بُيُوتاً. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (3). فعدل عن المثنى وهو «تبوّءا لقومكما» إلى الجمع بقوله «واجعلوا» وذلك لأن موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة: ويحكمان مباني الشريعة، فخصهما بذلك، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة إذ الجميع مأمورون بها عموما، ثم قال لموسى وحده «وبشر المؤمنين» لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار والإيراد والإصدار.
وهارون وزير في الحقيقة كما صرح به النص.
وقال تعالى: {إِنََّا رَسُولََا رَبِّكَ} (4) لكون كل منهما منعوتا في الرسالة لكن أحدهما للتبليغ، والآخر ردء، ومصدق، ومساعد له.
__________
(1) سورة هود آية 54.
(2) سورة آل عمران 81، 82
(3) سورة يونس آية 87.
(4) سورة طه آية 47.(1/179)
ومنه قوله تعالى حاكيا عن حبيب النجار (1): {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) فعدل عن خطاب الواحد إلى الجمع لأنه أبرز لهم كلامه في معرض المناصحة لهم، كأنه قال: إني أحب لكم ما أحب لنفسي، فاتبعوني، وكما أعبد الذي فطرني، فاعبدوا أنتم الذي فطركم، وإليه ترجعون، وتضمن كلامه أيضا تذكيرهم النعمة في إنشائهم وخلقهم، واستدعاء شكرها بالعبادة، وتحذيرهم نقمة الكفر عند الرجوع إلى عالم الغيب والشهادة، والله أعلم.
الصنف الثاني: في الالتفات عن الماضي إلى المضارع، وعكسه (3).
أما الأول: فموضعه ما إذا كان بعض أحوال القضية الخبرية مشتملا على نوع تميز وخصوصية لاستغراب أو أهمية، فيعدل فيها إلى المضارع المستعمل للحال إيهاما للسامع حضورها حال الإخبار ومشاهدتها ليكون أبلغ في تحققها له، فمن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (4) فعدل عن لفظ «فأصبحت» إلى لفظ «فتصبح»، لما ذكرنا من قصد المبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ هو المقصود بالإنزال، وهو سبب، فوزانه من الكلام «أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكرا له» ورفع «فتصبح». وإن وقع في جواب الاستفهام لأن ما في خبره وهو: الريّ، ليس سببا للإصباح، وإنما ينصب ما في جواب الاستفهام، إذا كان ما في خبره سببا له.
ومنه قوله تعالى: {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} (5) فقال «تثير» مضارعا، وما قبله وما بعده ماضيا،
__________
(1) هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، آمن برسول الله وبينهما ستمائة سنة كما آمن به ورقة ابن نوفل، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. الكشاف 4/ 7ط الاستقامة.
(2) سورة يس آية 22.
(3) في الأصل: عن المضارع إلى المضارع وعكسه، وهو سهو من الناسخ، والأمثلة التي ساقها تؤكد صحة ما أثبتناه في النص.
(4) سورة الحج آية 63.
(5) سورة فاطر آية 9.(1/180)
مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين، وتقرير تصوره في أذهانهم.
فإن قلت: أهم الأفعال المذكورة إحياء الأرض، وقد ذكره بلفظ الماضي، وما قررتموه يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع، إذ هو أهمّ، وإثارة السحاب سبب بعيد على مرتبتين.
قلت: لا نسلم أهمية إحياء الأرض، بل إثارة السحاب أهم وذلك لأن الله تعالى ذكر هذا الكلام في معرض آيات قدرته ليدل على اقتداره على البعث والنشور بالقياس على إحياء الأرض بعد موتها، بالمقدمات المذكورة، وأهمها وأدلها على القدرة أعجبها، وأبعدها عن القدرة والتصور البشريين، وإثارة السحاب أعجبها، فكانت أولى بالتحقيق بالتخصيص بالفعل المضارع. وإنما قلنا إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى من حيث إنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب اخضرار الأرض، وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء، أما إثارة السحاب، فلو خلينا وظاهر العقل، لم نعلم أن الرياح سببها لعدم إحساسنا مادة السحاب وجهته، ولطافة الريح عن إدراك الحس، وإنما نبهنا على سبب ذلك بهذا النص وأشباهه، لأن ما قرره الفلاسفة والطبيعيون في ذلك، فإنه إنما أفاد وهما أو ظنا، لا علما، والله أعلم.
ومنه قول تأبط شرا (1):
بأنّي قد لقيت الغول تهوى ... بسهب كالصحيفة صحصحان (2)
فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران (3)
لم يقل: فضربها، بل قال: فأضربها تقريرا في أذهان قومه الذين أخبرهم حاله
__________
(1) اسمه ثابت ولقب «تأبط شرا» لأنه تأبط ذات يوم سكينا وخرج فسئلت عنه أمه فقالت: لا أدري، إنه تأبط شرا وخرج، والبيتان من جملة أبيات أولها:
ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان؟
الأغاني 18/ 210.
(2) ذكرت في الأصل: بشهب، وهو تصحيف، والسهب: الأرض المستوية. والصحصحان: الأرض المستوية الواسعة.
(3) الجران: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره(1/181)
معها، وشجاعته، وعدم خوفها عند لقائها، حتى كأنهم يشاهدون ذلك ولو قال:
فضربتها، لزال ذلك المعنى.
وكذلك حكاية سلمة بن الأكوع (1) عن نفسه مع صاحب الجمل الذي كان عينا للمشركين حيث قال: «فأضربه فيذرّ رأسه» (2).
وأما الثاني: فموضعه ما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهدد المتوعد بها، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه في المستقبل، بإيهام وقوعه في الماضي والفراغ منه، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (3)، أي: فيفزع. {وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً} (4) و {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ فَلََا تَسْتَعْجِلُوهُ} (5)، أي: يبرزون، ويأتي. {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ} (6)، أي: نحشرهم، فعبر عن هذه الأشياء بالماضي، تنبيها على تحقق وقوعها، كشيء مضى وفرغ منه، مبالغة في التهديد والوعيد.
وقد يفعل ذلك فيما يقصد تسهيله على النفس وتحريضها عليه، كقوله عليه السلام في حديث المضريين المجتابي الثمار يعرض للناس بأن يتصدقوا عليهم، «تصدّق رجل من صاع برّه، ومن صاع تمره» (7).
وفي بعض آثار السترة في الصلاة: صلى رجل في إزار ورداء وسراويل، فقال:
تصدق وصلى، بلفظ الماضي تسهيلا عليهم.
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول لتضمنه معنى الماضي، نحو، {ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ} (8) تقريرا للجميع فيه وثبوته.
__________
(1) كان يكنى أبا اياس، وكان من الرماة المذكورين ومات سنة 74وهو ابن ثمانين سنة المعارف 141
(2) ذرّ: تناثر.
(3) سورة النمل آية 87.
(4) سورة إبراهيم آية 21.
(5) سورة النحل آية 1.
(6) سورة الكهف آية 47.
(7) سنن النسائي 5/ 27ط مصطفى الحلبي
(8) سورة هود آية 103. وتمامها «ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود»(1/182)
فإن قلت الماضي أدل على هذا المقصود من اسم المفعول، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف؟
قلت: لتحصيل المناسبة بين مجموع ومشهود في استواء بنائهما، طلبا للتعديل في العبارة، ولولا هذا المعارض لكان الإتيان بلفظ «جمع الناس» فيه أولى في حكم هذه الصياغة، والله أعلم بالصواب.
الصنف الثالث في عكس الظاهر
، وهو إرادة خلاف ظاهر الكلام، كقول عليّ رضي الله عنه في صفة مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تنثى فلتاته» إذ ظاهره أنه كانت له فلتات، لكنها لا تنثى، أي لا تذاع، وليس المراد ذلك بل المراد: أنه لم يكن له فلتات فتذاع.
وكذا قول الشاعر في وصف بريّة يصفها بالصعوبة: (1)
ولا ترى الضبّ بها ينجحر
ظاهره أن بها ضبا، لكنه لا ينجحر، أي: لا يدخل سربه، والمراد: أن ليس بها ضب ينجحر، ومثل هذا يعرف بالقرائن المحققة للكلام، كقرينة وصف علي رضي الله عنه لمجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنزاهة من العيوب، ووصف الشاعر البرية بكونها مقطعة لا حيوان فيها، فإنهما تنافيان إثبات الفلتات، والضب، فتعين الحمل على عكس الظاهر:
وحقيقة هذا أنه تأويل لدليل، وأنه من قبيل «السالبة البسيطة» التي أحد محتملها: انتفاء محمولها لانتفاء موضوعها، نحو: «زيد ليس بكاتب» إذ سلبت الكتابة عنه يحتمل أنه لأميّته مع وجود ذاته، ويحتمل أنه لعدمه أصلا، إذ يصدق على المعدوم أنه ليس بكاتب، ولا متصف بشيء لانتفاء ما تقوم به الصفات، لا يقال هذا
__________
(1) هذا عجز بيت قاله عمرو بن أحمر في وصف مفازة وصدره.
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
وفي اللسان جحر الضب: دخل جحره مادة جحر(1/183)
وصف له بانتفاء الصفات عنه، لأنا نقول: هذا وصف سلبي لا يفقر إلى محل، إذ هو عبارة عن نفي محض.
الصنف الرابع: في الحمل على المعنى
، لما بينا من قبل من أنه المقصود الأهم بالذات، ولهذا لما حملت العرب الكلام على المعنى طردت ذلك، ولم تكد تراجع اللفظ لحصول المقصود به بدونه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرََاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (1) الآية، إلى أن قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} (2) فحمله على المعنى، كأنه قال مثل قومك في كفرهم كمثل الذي حاج إبراهيم في كفره، أو كالذي مرّ على قرية في تردده واستبعاده إحياء الله الموتى، ولو تابع اللفظ لقال: ألم تر إلى الذي مر على قرية، أو «وإلى الذي مرّ».
ومن ذلك تأنيث المذكر (3)، كقول الشاعر:
اتهجر بيتا بالحجاز تلفعت ... به الخوف (4) والأعداء من كل جانب
ذهب بالخوف إلى معنى المخافة.
وقول الآخر (5):
يأيها الراكب المزجي مطيّته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
ذهب إلى معنى الاستغاثة أو الضوضاء أو الجلبة (6).
__________
(1) سورة البقرة آية 258.
(2) سورة البقرة آية 259.
(3) في الأصل: المذكور وهو تحريف من الناسخ.
(4) ورد البيت في اللسان «خوف» وفيه: «أم أنت زائره» في مكان! «من كل جانب».
(5) هو رويشد بن كثير الطائي الحماسة شرح التبريزي 1641.
(6) في الأصل: أو الغلبة.(1/184)
وقال جرير (1):
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشّع
أراد بالسور: وقاية المدينة أو جدرانها.
وقال ابن أبي ربيعة (2):
فكان مجنّي دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
أي ثلاث أنفس.
وقول الآخر (3):
طول الليالي أسرعت نقضي
أي: أسرعت الليالي (4)، ولعل هذا من قبيل تأنيث فعل المذكر المضاف إلى مؤنث، وهو كثير في كلامهم، نحو: ذهبت بعض أصابعه، وقرئ شاذا: «لا تنفع نفسا إيمانها» (5) بالتاء المثناة فوق، لأن تفعل للإيمان، وهو مضاف إلى ضمير النفس المؤنثة، وأعني بتأنيث الفعل: إلحاق علامة التأنيث به، وإلا فمعلوم أن الفعل لا يؤنث حقيقة.
__________
(1) البيت من قصيدة يهجو بها الفرزدق. وكان من قومه عمرو بن جرمور قاتل الزبير رضي الله عنه، انظر الخزانة 1662وذكر في الأصل أن القائل هو الفرزدق وليس جريرا وانظر الكتاب 251 لسيبويه.
(2) قاله عمر بن أبي ربيعة من قصيدة طويلة أولها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر انظر الكتاب 1752.
(3) أي العجاج وقيل الأغلب العجلىّ وبعده
أكلن بعضي وتركن بعضي
انظر الكتاب 261.
(4) وفي الأصل: أي طول الليالي، والصواب الليالي أسرعت.
(5) سورة الأنعام آية 158.(1/185)
ومنه تذكير المؤنث، نحو قوله تعالى: {فَمَنْ جََاءَهُ مَوْعِظَةٌ} (1) أي وعظ.
{فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ بََازِغَةً قََالَ هََذََا} (2) أي الشخص أو الطالع أو المرئي: (ربي).
{فَقَدْ جََاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (3)، أي بيان ودليل وترجمان.
{إِنَّ رَحْمَتَ اللََّهِ قَرِيبٌ} (4) ذكّر خبر المؤنث، إرادة لمعنى اللفظ، أو الرفق، أو المطر لأنه مذكور في سياق الكلام، {وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} (5) أي بلدا.
ومنه حمل الواحد على الجمع: كقوله صلّى الله عليه وسلّم «ما من إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّى حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وأسمنه» (6) الحديث.
وقول أبي سفيان لرسول الله «ألا أزوجك أم حبيبة أحسن فتاة في العرب وأجمله» كأنه أراد في العالم، أو عالم العرب.
ومثله قول ذي الرّمة (7):
وميّة أحسن الثقلين وجها ... وسالفة وأحسنه فذالا
وقوله تعالى: {إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (8) نظرا إلى معنى الرسالة التي يحملانها وهو متحد.
وحيث قال: {إِنََّا رَسُولََا رَبِّكَ} (9) فهو نظر إلى شخصيهما.
__________
(1) سورة البقرة آية 275.
(2) سورة الأنعام آية 78.
(3) سورة الأنعام 157.
(4) سورة الأعراف آية 56.
(5) سورة ق آية 11.
(6) رواه النسائي 205.
(7) هذا من قصيدة في مدح بلال بن أبي بردة، والسالفة: أعلى العنق. والقذال: مؤخر الرأس فوق القفا.
ديوانه 436.
(8) سورة الشعراء آية 16.
(9) سورة طه آية 47.(1/186)
وقول الآخر (1):
ترى جيف القتلى فأما عظامها ... فحسرى وأما جلدها فصليب
أي: جلودها، كأنه أراد الجنس.
وقول الآخر (2):
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
أي: نحن راضون، وأنت راض.
وقول الآخر (3):
وقلنا أسلموا إنّا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور
ويجوز أن يكون هذا جمع أخ مضافا، كما قالوا: أب وأبون وأبين في قول الشاعر:
فلما تسمعن أصواتنا ... بكين وفدّيننا بالأبينا
يعني الآباء.
ومنه حمل الجماعة على الواحد، كقولهم: «شابت مفارقه» وإنما هو مفرق واحد، كأنهم سموا كل جزء منه مفرقا، إطلاقا لاسم الكل على الجزء مجازا.
وبالجملة: فهم تارة يعتبرون اللفظ وتارة المعنى، فيقولون: ثلاثة أشخص، نظرا
__________
(1) البيت لعلقمة الفحل ديوانه ص 3وروي:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
انظر الكتاب 1071والمقتضب 1732.
(2) قاله قيس بن الحطيم، انظر الكتاب لسيبويه 381معاهد التنصيص 1/ 189.
(3) العباس بن مرداس وهو يخاطب ثقيفا بعد هزيمتهم مع هوازن في غزوة حنين، سيرة ابن هشام على هامش الروض 2922، واللسان «أخو».(1/187)
إلى لفظ الشخص وإن عنوا نساء، أو ثلاث أنفس نظرا إلى لفظ النفس وإن عنوا رجالا.
واعلم أن (من) لفظها مفرد ومعناها الجمع فيضطرون إلى كل منهما تارة، كقوله تعالى: {بَلى ََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (1) هذا كله نظرا إلى إفراد اللفظ {وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} نظرا إلى معنى الجمع، وكذلك {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ} أفرد ضميرها نظرا إلى اللفظ {هُوداً أَوْ نَصََارى ََ} (2) جمع الخبر نظرا إلى المعنى.
وكذلك «كلا وكلتا» لفظهما لفظ المفرد ومعناهما التنبيه، وينظر إلى كل تارة، كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهََا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} (3) هذا على إفراد اللفظ
{وَفَجَّرْنََا خِلََالَهُمََا نَهَراً} على المعنى. وجمع بينهما الشاعر (4) في بيت وهو:
كلاهما حين جدّ الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
وقال الأعشى (5):
كلا أبويكم كان فرعا دعامة ... ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا
(وكل) مثل (كلا) لفظا، ومعناها الجمع، قال الله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ}
__________
(1) سورة البقرة آية 112.
(2) سورة البقرة آية 111.
(3) سورة الكهف آية 33.
(4) قاله الفرزدق يهجو جريرا، لانقطاع الوئام بين ابنة جرير وزوجها بفعل جرير وعسفه شواهد المغني للبغدادي 512، النوادر 162.
(5) من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة، مطلعها:
لعمري لئن أمسى من الحى شاخصا ... لقد نال خيصا من عفيرة خائصا
ديوانه ص 19وفي الأصل «ولكنهم تموا».(1/188)
{دََاخِرِينَ} (1) على الجمع، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَرْداً} (2) على إفراد اللفظ، والله أعلم.
الصنف الخامس: في التقديم والتأخير
، وهو: جعل اللفظ في رتبة قبل رتبته الأصلية، أو بعدها لعارض اختصاص، أو أهمية، أو ضرورة، قال سيبويه:
«والظاهر أنهم يقدمون الشيء الذي شأنه أهم، وهم به أعنى، وإن كانا جميعا مهمّين» (3) مثل أن يرد الإخبار عن قتل شخص خارجي، لا من حيث هو شخص معين، فيقولون «قتل الخارجيّ زيد» وإذا صدر عن بعض الفضلاء قبيحة، قدموا اسمه، فقالوا: «فلان فعل كذا».
ولو كان الأهم عندهم الفعل قدموه فقالوا: فعل كذا وكذا فلان»، ولعل هذا هو المقتضى لقوله تعالى: {وَجََاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ََ} (4) وفي يس: {وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ} (5) إذ الأهم في الأولى الإخبار بمجيء الرجل ناصحا لموسى، والأهم في الثانية: الإخبار بمجيئه من أقصى المدينة مبالغة في الإخبار باجتهاده في الدعاء إلى الله تعالى، ونصيحة قومه وعتوهم عليه وعصيانهم له، وتقديم الأهم حيث كان أوقع في النفس.
وهاهنا أبحاث:
البحث الأول في صور التقديم والتأخير:
فمنها: تقديم المفعول:
نحو: الله أحمد، وزيدا ضربت، و {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) قدم ضمير المعبود للاختصاص،
__________
(1) سورة النمل آية 87.
(2) سورة مريم آية 95.
(3) الكتاب 1/ 15.
(4) سورة القصص آية 20.
(5) سورة يس آية 20.
(6) سورة الفاتحة آية 5.(1/189)
وكذلك {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) قدم المفعول، وهو «مما رزقناهم» لئلا يتوهم بتقدير تأخيره جواز الإنفاق مما ليس بمملوك لهم.
لا يقال: أي حاجة إلى هذا الاحتراز مع اتفاق العقل، وقواعد الشرع، على المنع من التصرف في غير الملك؟
لأنا نقول: الكلام ينبغي أن يكون مفيدا بليغا لذاته، لا بالنظر إلى دليل خارج، فنحن استفدنا هذا المعنى من هذا اللفظ، والأدلة الخارجة عنه مؤكدات له.
ونعني بالاختصاص: اختصاص المفعول بالفعل المتعقب له، وتقريره: أنك لو قدمت الفعل في «زيدا ضربت» مثلا، فقلت: «ضربت» لبقي السامع مترددا في عين المفعول، لا يعلمها حتى تفرغ من التلفظ بالفعل، ثم تصرح به، ولكنت مخيرا قبل تمام التلفظ بالفعل في إيقاعه على من شئت.
وإذا قدمت المفعول، علم السامع عينه بمجرد ذكره قبل ذكر الفعل، وامتنع اختيارك في الإيقاع إلا عليه، لتعين الفعل له بتقديمه، وهذا هو المراد بالاختصاص.
فإن قلت: هذا تدقيق لا طائل تحته من وجهين:
أحدهما: أن الفعل متصل بالمفعول عادة، وزمن التلفظ بهما يسير جدا لا يتسع لتردد السامع، وإن اتسع له، فإنه يزول سريعا بذكر المفعول على الفور.
الثاني: أن الزمن المذكور لا يتسع لتحير المتكلم في الإيقاع على من شاء، ولأن اللفظ ترجمان المعنى النفساني، ومحال أن يتصور المتكلم في نفسه معنى «ضربت زيدا» ثم يعدل في اللفظ إلى «ضربت عمرا» أو غيره.
قلت: الجواب عن الأول: إن حصول التردد للسامع في المفعول بتقدير تقديم الفعل مما لا يراع فيه إذ هو مدرك حسّا، ولا شك في أن عدم هذا التردد أولى من وجوده، وإن قل زمنه، وإلا لاختلّت بلاغة الكلام كما سبق قوله. وإن اتسع له فإنه يزول على الفور بذكر المفعول ضعيف إذ قد يعترض بين الفعل والمفعول كلام كثير، فيطول زمن التردد، أو يعرض للمتكلم ما يمنعه عن ذكره من عطاس، أو سعال، أو
__________
(1) سورة البقرة آية 3.(1/190)
شكاة، أو سبات، أو مرض، أو غير ذلك يمنعه من ذكره فيدوم التردد، وتحتل لدوامه بلاغة الكلام المطلوب.
والجواب عن الثاني: أن عدم اتساع الزمن لتخيير المتكلم ممنوع، لجواز الاعتراض أو سرعة الخاطر المقتضي للاعتراض، وكون اللفظ ترجمان المعنى النفسي مسلم، لكن لم قلت إن العدول عن ذلك المعنى المتصور في النفس إلى غيره محال، وظاهر أنه ليس كذلك لجواز أن يقوم بنفسه معنى يريد الإخبار به على فقه، فيخطر له أن عليه فيه ضررا فيعدل إلى غيره مما لا يرى أن عليه فيه ضررا. مثاله: لو دخل رجل دار قوم، فأخذ درّة، ثم خرج، فسألوه، ما أخذت من دارنا؟ فعزم على أن يصدق، ويقول:
أخذت درة، فخطر له قبل تمام لفظة «أخذت» أنه إن أعرف بأخذ الدرة، ربما توجه عليه القطع، فعدل إلى الاعتراف مما لا قطع فيه، فقال: أخذت بيضة، أو حبلا، أو إبرة، أو درهمين، أو ثمن دينار، ونحو ذلك. ومن نظر إلى اصطلاح العرب بعين التحقيق، علم أن لهم فهما أبلغ من هذا التدقيق، ولهذا قال بعض العلماء: يشترط لصحة الاستثناء أن تنويه قبل تكميل المستثنى منه، وكذلك سائر التوابع كالشرط الملحق، والعطف المعتبر ونحوه، يشترط نيته قبل تكميل متبرعه.
ولقائل أن يقول: كما أن تقديم المفعول يفيد اختصاصه، والمنع من العدول عنه بتأخيره، كذلك الفعل، فإنه يجوز أن يعدل عن «ضربت زيدا» إلى «ضربت عمرا»، كذلك يجوز أن يعدل عن «زيدا ضربت» إلى زيدا أكرمت». وهذا يحتاج إلى جواب واضح في هذا المكان، لأنه قاعدة كلية في الباب، وقد يستشكله بعض ذوي الألباب والله أعلم.
ومنها: تقديم خبر المبتدأ عليه
، نحو: «قائم زيد» إذا كان الأهم الإخبار بقيامه.
فلو قيل: «زيد قائم» لحصل التردد للسامع ما لم يسمع لفظ قائم فيما بخير به عن زيد.
هل هو جالس أو قاعد أو غير ذلك، وكان المتكلم بالخيار فيما يخبر به من ذلك.
ويعدل إليه كما تقدم في «ضربت زيدا» ومن هذا قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ} (1) ففي تقديم الخبر: وهو مانعتهم إخبار بأمرين مهمين:
__________
(1) سورة الحشر آية 2.(1/191)
أحدهما: كمال قدره الله تعالى على خلقه، بحيث لا عاصم من أمره إلا من رحم لأن هؤلاء اعتقدوا حصانة حصونهم، ووثقوا بمنعها إياهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فلم يعتصموا.
الثاني: جهلهم، وقلة عقولهم حيث لم يحتاطوا لأنفسهم، ويتحصنوا بطاعة الله ورسوله، التي هي أمنع الحصون، ولو قدم المبتدأ، لما أفاد الكلام هذا المعنى، أو أفاده إفادة ضعيفة.
ومنها تقديم الحال والاستثناء
، نحو: جاء راكبا زيد، وراكبا جاء زيد، وما جاءني إلا زيدا أحد، وهو كضرب من الاختصاص، إذ لو أخر، يحصل التردد والاختيار المذكوران بين جاء زيد راكبا، أو ماشيا، أو ضاحكا، وغيره من الأحوال، وما جاءني أحد إلا زيد، أو عمرو، أو بشر، وقياس ما ذكرنا: أن تقديم الحال على الفعل، وما قام مقامه حيث يجوز، أبلغ أنواع التقديم في باب الحال.
ومنها تقديم الجار والمجرور، وله صورتان:
إحداهما: أن يكون في كلام مثبت
، وفائدته اختصاص لمجرور دون غيره بإسناد ما بعده من معنى الكلام إليه، كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} (1) دل على اختصاص ضرر الكفر بمن كفر، لا بغيره، ولو قال «فكفره عليه» لاحتمل قبل ذكر الجار والمجرور التردد المذكور. وكقوله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) أفاد اختصاصه بالملك والحمد مبادهة، بخلاف الملك والحمد له، وأفاد أنه قادر على كل مقدور، بخلافه «وهو قدير على كل شيء» إذ يحتمل قبل ذكر لفظ العموم أنه قدير على بعض الأشياء فقط. وكقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا حِسََابَهُمْ} (3) إذ يحتمل التردد المذكور قبل ذكر المجرور.
__________
(1) سورة الروم آية 44.
(2) سورة التغابن آية 1.
(3) سورة الغاشية آية 25و 26.(1/192)
الصورة الثانية: أن يكون في كلام منفي
، فيجوز تأخيره، نحو: «لا ريب فيه» (1)
وتقديمه نحو: {لََا فِيهََا غَوْلٌ} (2)
قال ابن الأثير: (3) والفرق بينهما: أن تأخيره يفيد نفيا مطلقا من غير تفضيل كما اقتضى نفي الريب والشك عن الكتاب في صورته، وتقديمه يفيد: تفضيل الشيء عنه على غيره، كتفضيل خمر الآخرة على خمر الدنيا في صورتها، ومثله قولنا: لا عيب في الدار، ولا فيها عيب» فالأول يقتضي نفي العيب عنها، وخلوصها منه، والثاني يقتضي تفضيلها على غيرها من الدور، وأن ليس فيها ما في غيرها من العيوب، هذا حاصل كلامه.
وعندي في هذا الفرق نظر: فإن اللفظ لا يدل عليه مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما، وإنما بنى هو ذلك على مقدمة نقلية سمعها، وهي: أن خمر الآخرة ليس فيها من إفساد العقل ما في خمر الدنيا، فيجعلها فرقا هاهنا من غير ربط عقلي.
والذي عندي في هذا: أن الجملة المتضمنة للجار والمجرور مشتملة على مستقر واستقرار، فحيث تأخر الجار والمجرور أفاد نفي المستقر المظروف كقوله تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ} فإن الريب هو المستقر في الكتاب على زعم الكفار، فأولاه حرف النفي فنفاه، وحيث تقدم أفاد: نفي الاستقرار، كقوله: {لََا فِيهََا غَوْلٌ} فإن «فيها» متعلقا بمعنى الاستقرار، كما عرف في النفي، فأولاه حرف السلب فنفاه، فالأول سلب القار، والثاني سلب الاستقرار.
فإن قلت: القارّ والاستقرار متلازمان فسلب أحدهما يستلزم سلب الآخر.
قلت: نعم، لكن والكلام في جهة السلب بالقصد لا بالعرض، فتأمل هذا.
والخلاف في مثل هذه العبارات راجع إلى اختلاف يرجع إلى المتخاطبين في عبارة أو
__________
(1) سورة البقرة آية 2.
(2) سورة الصافات آية 47.
(3) الجامع الكبير ص 111(1/193)
قصد، فكأن الكفار حين جاءهم القرآن، قالوا: إنه ليعترينا ريب فيه، فقال: «لا ريب فيه» سلبا مطابقا لإيجابهم في تقديم الريب وكأنه الناس لما سمعوا {يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضََاءَ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ} (1)، قالوا: إن الله تعالى يعدنا في الآخرة بخمر، أفترى فيها غول، كخمر الدنيا؟ فأجابهم طبق كلامهم في تأخير القول، فقال:
«لا فيها غول».
ويجوز أن توجه الفرق على ما ذكره، حيث قالوا: ينبغي تطابق السؤال والجواب، «ولا ريب فيه»، تقديره: لا من ريب فيه، جوابا، كقول قائل «هل من ريب فيه»؟
فحذفت من، وركبت لا مع المجرور، فنفى الجواب مطابقا للسؤال في تقديم الريب، وهذا أحسن من الأول.
ووجه التطابق في «لا فيها غول» ما سبق، فهذا الذي قبّح الله به في هذا الفرق، وللناظر فيه الخيار بحسب قوته ومادته، والله أعلم.
ومنها التقديم والتأخير في النفي.
وضابطه: أن المنفي ما ولى حرف النفي.
فإذا قلت: «ما ضربت زيدا» كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه.
وإذا قلت: «ما أنا ضربته» كنت نافيا لفاعليتك الضرب.
فإن قلت: الصورتان دلّتا على نفي الضرب عنه، فما الفرق؟
قلت: الفرق من وجهين:
أحدهما: أن الأولى تضمنت نفي ضرب خاص عنه، وهو ضربك إياه، ولم يدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه، إذ نفي الأخص لا يدل على نفي الأعم ولا ثبوته.
والثانية: نفت كونك ضربته، ودلت على أن غيرك ضربه من جهة دليل الخطاب.
الثاني: أن الصورة الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة، والثانية دلت على نفيه بواسطة نفي فاعليتك.
__________
(1) سورة الصافات آية 45، 46.(1/194)
والكلام في المستقبل كالماضي نحو «ما أضرب زيدا، أو ما أنا أضرب زيدا، وما أنا ضارب زيدا» وأما إذا كان الكلام عاما، فإن تقدم حرف النفي أداة العموم سمي:
سلب العموم، وإن تأخر عنها، سمي: عموم السلب. مثال الأول «ما كل كذا فعلته» فقد سلبت عموم فعلك لكذا، وهذا لا يناقضه إثبات الخاص نحو «بل فعلت بعضه».
ومثال الثاني: كل كذا ما فعلته» فقد عممت سلب فعلك له، فيناقضه إثبات الخاص، نحو: بل فعلت بعضه، وهو تناقض، كقولك «كل العلم لم أعلم منه شيئا» أو لم أعلمه، بل علمت بعضه، وقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (1)
يوضح ذلك بأنك إن نصبت (كلّه) اقتضى سلب عموم صنيع الذنب، أي:
فعلت بعضه، لا كله لوقوع كلّ مفعولا، وعدم الابتداء في التقدير (2)، وإن رفعته، اقتضى عموم سلب صنيع الذنب، أي: أني لم أصنع منه شيئا، لوقوع (كلّ) مبتدأ إذ شأن حرف السلب، سلب ما بعده عما قبله، أو سلب ما قبله عما بعده.
ومنها: إنما، والكلام فيها في أمرين.
أحدهما: أنها تقتضي الحصر عند الأكثرين، وخالف قوم:
احتج الأولون بفهم ابن عباس في انحصار الربا في النسيئة من قوله صلّى الله عليه وسلّم «إنما الربا في النسيئة» (3) وبأن المفهوم لغة من «إنما في الدار زيد» أن ليس فيها سواه وبأن إنّ للإثبات ولا للنفي، فاقتضيا مجتمعين ما اقتضيا منفردين، وليس مقتضى ذلك نفي المذكور، وإثبات ما عداه إجماعا، فتعين عكسه، وهو المراد بالحصر.
وأجيب عن الأول: بأن ابن عباس فهم الحصر من استصحاب النفي الأصلي، لا من «إنما» ولو لم يكن إلا احتمال ذلك، لقدح في الدعوى.
__________
(1) وهو من أرجوزة لأبي النجم العجلي وانظر الكتاب 1/ 44، وفي الأصل: قد جعلت أم الخيار تدعى.
(2) في الأصل: بعدم في التقدير وهو تحريف من الناسخ.
(3) حديث مروي عن أسامة بن زيد، صحيح مسلم 5/ 50ط صبيح.(1/195)
وعن الثاني: أن ذلك لقرينة، والكلام مع تجردها عنها.
وعن الثالث: بأنا لا نسلم أن «ما» الكافة لإن، هي النافية إذ أقسام «ما» كثيرة، فتخصيص النافية منها بهذا المكان تحكم. ثم إن «ما» هذه هي الكافة، لأخوات إن وهي: «كأن وليت ولعل ولكن» في قولنا «كأنما زيد أسد» «ولكنما عمرو قائم» ولو جعلت فيهن نافية، لفسد المعنى، سلمناه، لكن لا نسلم اقتضاء هما مركبين ما اقتضياه مفردين، بدليل «لولا»، فإن تركيبها أزال مقتضى مفرديها، فعلى هذا هي: لإثبات المذكور إثباتا مؤكدا فقط.
الثاني: معنى الحصر فيها على القول به: إنها إن وليتها جملة اسمية اقتضت انحصار المبتدأ في الخبر، نحو «إنما زيد قائم» فزيد منحصر في كيفية القيام، وليس على كيفية سواه.
وإن وليت جملة فعلية، اقتضت انحصار الفعل في الفاعل، نحو «إنما قام زيد» فالقيام منحصر في زيد، أي: لم يقم غيره، ومن أمثلتها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1)
فالمؤمنون منحصرون في الأخوة، بمعنى: أنه لا عداوة بينهم في وضع الشرع أصلا.
{قُلْ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (2) اقتضى انحصار ذاته في الإلهية والوحدانية بمعنى:
أنه لم يجب وجوده إلا لأنه إله واحد، لا للحوق تعدد ولا لغير الإلهية، {قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ} (3) اقتضى حصره صلّى الله عليه وسلّم في البشرية، بمعنى: أنه ليس ملكا، ولا جنا، ولا شيئا من غير نوع البشر.
وإنما العزّة للكاثر (4)
__________
(1) سورة الحجرات آية 10.
(2) سورة الأنعام آية 19.
(3) سورة فصلت آية 6.
(4) هذا عجز بيت وصدره: فلست بالأكثر منهم حصى.
وذلك من قصيدة للأعشى مطلعها:
شاقك من قتلة أطلاها ... بالشط فالوتر إلى حاجر
الخزانة 3/ 489وفي الأصل «وإنما العزة في الكاثر».(1/196)
اقتضى حصر العزة في الكاثر بالرجال والأهل، أي: لا عزة لمن لا رهط له، أو لمن قل رهطه، وعلى هذا فقس، فإنه مطرد.
فإن قلت: لم يطّرد في نحو: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» (1)
الآية، ونحو: «إنما الأعمال بالنيّات» و «إنما الربا في النسيئة» لثبوته في التفاضل.
قلت: أما الآية، فالمراد بها: إنّما المؤمنون الكاملون بالإيمان، فيستقيم الحصر إذن.
وأما الثانية: فليس عدم الاطراد فيها راجعا إلى اقتضاء «إنما» الحصر، لا عدمه، بل إلى تخصيص عموم الواقع بعدها بتخصيص ما.
واعلم أن خبر الجملة الاسمية الواقعة بعد «إنما» إذا كان جارا ومجرورا متعلقا بالخبر الحقيقي محذوفا، فيختلف في الحكم للاختلاف في تقديره، كهذه الصورة، إذ بعضهم يجعل تقدير «إنما الأعمال» صحيحة بالنيات، وبعضهم كاملة بالنيات، فيكون الخلاف على القول بالحصر في جهته لا في حقيقته، فتنبه لهذا.
ومنها التقديم والتأخير في الاستفهام.
وحكمه ما سبق في النفي: وهو أن الواقع بعد حرف الاستفهام إن كان الفعل فهو المستفهم عنه، المشكوك في وجوده نحو: «أركب الأمير؟» فالمركوب هو المشكوك فيه، وإن كان الاسم، فالسؤال عنه، والشك في تعيين الفاعل، وكذا الكلام في المستقبل، واسم الفاعل نحو: «أتفعل هذا؟» و «أأنت تفعل هذا؟» و «أضارب أنت زيدا؟» و «أأنت ضارب زيدا؟».
ثم إن للاستفهام معاني:
أحدهما: الاستعلام، وهو الأصل كما سبق.
الثاني: التأسيس، نحو: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ؟} (2) لأنه تعالى لم يكن مستفهما، ولا منكرا عليه، ولكنه رآه خائفا، فآنسه وحقق عنده أنّ ما في يده عصا ليتحقق حصول المعجز عند قلبها حية، وبهذا المعنى قد سمي استفهام التقرير.
__________
(1) سورة الانفال آية 2
(2) سورة طه آية 17.(1/197)
الثالث: الإنكار، وله أنواع خاصة.
أحدها: استضعاف الفاعل، كقولك لرجل همّ بمبارزة من هو أشد منه، (1)
وأنت تستضعفه عن ذلك «أأنت تقتل الأسد؟» ومنه قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟} (2) أي أنت تضعف عن مغالبة مشيئة الله، فلا تقدر على ذلك.
الثاني: استبعاد الفعل لاستضعاف الفاعل، أو غيره، نحو {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ؟} (3).
وقول امرئ القيس (4):
أيقتلني والمشرفي مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟!
أي هذا بعيد.
الثالث: نحو «أنا أسعى إلى زيد؟» احتقارا له.
الرابع: التعظيم، نحو «أزيد العاميّ يقتل الأمير؟ أو «يشتم القاضي؟» و «أعقرب تقتل أفعى؟» و «أثعلب يفترس أسدا!» و «أجهني يشتم هاشميا؟» وهذه الصور ونحوها تضمنت الاحتقار من طرف الفاعل، والتعظيم من جهة المفعول، والتي قبلها بالعكس.
الخامس: التشريف، كقولك لرجل وقور: أمثلك يفسد؟» أي: أنت أشرف من هذا.
__________
(1) في الأصل: هم بمبارزة أشد.
(2) سورة يونس آية 99.
(3) سورة الزخرف آية 40.
(4) ومطلع القصيدة:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمهن من كان في العصر الخالي
ديوانه 33.(1/198)
السادس: تجهيل الفاعل والطعن على رأيه، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللََّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} (1) أي: إني إذن الضعيف الرأي. {قُلْ أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} (2)
{أَفَأَصْفََاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلََائِكَةِ إِنََاثاً؟} (3) أي: إنكم أيها الكافرون سفهاء في أمركم إياي، وفي حسبانكم هذا، بدليل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً} (4) وجّه الانكار إليهم على طعنهم الفاسد.
السابع: التكذيب على جهة الاحتجاج، نحو: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحََامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟} (5) بدليل قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (6) وإلّا فأنتم كاذبون، ونحوه: {آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللََّهِ تَفْتَرُونَ} (7)
وتمام تقدير الحجة، فإن ادّعيتم أن الله أذن لكم، وهو لم يكذبكم بإنكار الإذن، وإن اعترفتم أنكم تفترون على الله، فذلك أعظم الخطأ.
الثامن: الإشارة إلى اضطراب الرأيين، والتردد بين الأمرين، نحو: أتميميا مرة وقيسيا أخرى؟ أي: أتكون كالشاة العابرة بين الغنمين؟.
التاسع: الإشارة إلى اجتماع الغبن من جهتين، نحو «أحشفا وسوء كيلة؟» «أغدّة كغدة البعير؟» و «موت في بيت سلوليّة»، (8) وكقول الحريري حكاية عن القاضي «أأغرم في يوم مغرمين؟» و «من أين ومن أين؟».
__________
(1) سورة الأنعام آية 14.
(2) سورة الزمر آية 64.
(3) سورة الإسراء آية 40.
(4) سورة الإسراء آية 40.
(5) سورة الأنعام آية 143.
(6) سورة الأنعام آية 143.
(7) سورة يونس آية 59.
(8) أحشفا وسوء كيلة: يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.
غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية: يضرب في خصلتين إحداهما شر من الأخرى. تهذيب مجمع الأمثال ص 28، 350.(1/199)
العاشر: الإشارة إلى تقبيح الفعل في غير مظنته تحميقا لفاعله، كقول الراجز (1):
أطربا وأنت قنسريّ
والدهر بالإنسان دواريّ
أفنى القرون وهو قعسريّ
وقول الشاعر:
كم قلت للنفس الملومة أقصري ... شيب وعيث كيف يجتمعان؟
ولنقتصر من أنواعه على هذا، فإن فيها كثرة.
البحث الثاني: في أقسام التقديم والتأخير
، وهي بحسب الاستقراء عشرة:
الأول: تقديم الكل على جزئياته
نحو: «خلق الله الإنسان وبعث منه الأنبياء».
الثاني: تقديم الدليل على المدلول
، كقولهم: «البعرة تدل على البعير» إذ المدلول تابع للدليل، من حيث الاستدلال، وإن كان متبوعا له من حيث الوجود.
الثالث: تقديم المتبوعات
، كالموصوف، والمبدل منه، والمؤكد، والمعطوف عليه، على توابعها لعدم استقلالها بدونها.
الرابع: تقديم الناقص، كالموصول، على تمامه
، إذ التتمة فرع الأصل.
الخامس: تقديم الفاعل على المفعولات
لأنها آثار، وهو مؤثر، ولقائل أن يقول الأثر دليل المؤثر، وقد قدمتم في القسم الثاني أنه ينبغي تقديم الدليل، وهذا تناقض؟
ويمكن الجواب: بأن تقديم الدليل من حيث الاستدلال، لا من حيث الوجود والتحقيق، ومع اختلاف جهة التقديمين فلا تناقض.
السادس: تقديم الظاهر على ضميره
، نحو: «ضرب زيد غلامه» إذ الضمير تابع له لعدم استقلاله بدونه.
__________
(1) هو العجاج، وهي من أرجوزة طويلة للعجاج. انظر أراجيز العرب للبكري والخصائص 3/ 104.(1/200)
السابع: تقديم ما له صدر الكلام
، كأدوات الاستفهام والنفي والنهي، والحروف والأفعال الدالة على أحوال النسبة بين أجزاء الكلام، كإنّ، وكأنّ وأخواتهما، وعسى ونعم وبابها لأن معانيها هي المقصود المهم من جملها التي دخلت عليها.
الثامن: تقديم الأعرف، كالمبتدإ أو الموصوف، على الخبر والصفة
، لتعجيل الفائدة.
التاسع: تقديم ما تقديمه أليق بسياق الكلام
وانتظام مباديه وفواصله، كتقديم المفعول في نحو: {وَتَغْشى ََ وُجُوهَهُمُ النََّارُ} (1) لأجل الفاصلة، وفي نحو: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النََّارُ} (2) للاختصاص مبالغة في الوعيد، ونحو: {وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (3) {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ} (4).
العاشر: تقديم ما الحاجة إلى ذكره أتم
، والعلم به أهم، نحو: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ} (5) إذ مقصوده التوبيخ، وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله، والله أعلم.
البحث الثالث: التقديم والتأخير، إما لفائدة معتبرة من الفوائد المتقدمة، أو لا.
فإن كان لتلك الفائدة، فإما أن تبقى معه طلاوة الكلام وبلاغته، أو لا. فإن بقيت، فهو الجيد، وإن لم تبق، فهو المتوسط.
وإن كان لا للفائدة المذكورة، فإن كان لضرورة نظم ونحوه، فهو رديء، وإلا، فهو عيب لاغ.
فمن الرديء قول الفرزدق (6):
__________
(1) سورة إبراهيم آية 50.
(2) سورة المؤمنون آية 104.
(3) سورة الروم آية 47.
(4) سورة طه آية 67.
(5) سورة الأنعام آية 100.
(6) هذا البيت ينسب إلى الفرزدق الأغاني 19/ 15، من قصيدة في مدح إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان، وهو من شواهد البلاغة على التعقيد اللفظي، ديوانه 1/ 108.(1/201)
وما مثله في الناس إلّا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
نظمه الأصلي، وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمّه أبوه، وحاصل معناه: وما مثله في الناس إلا خاله.
وقوله:
وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد إذ كان سيفا أميرها
يمدح خالدا (1)، ويهجو أسدا بسوء سياسته، كما تقول: فما هي بالأرض التي كنت أعرف.
وقوله:
إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره (2)
أي: إلى ملك أبوه ما أمه، أي أم أبيه محارب.
ومنه قول ذي الرّمّة:
فأصبحت بعد خطّ بهجتها ... كأنّ قفرا رسومها قلما (3)
أي: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خطّ رسومها.
ومنه قول بعضهم، ذكره ابن الأنباري في غريب الحديث (4) وابن أسد في الألغاز:
__________
(1) هو خالد بن عبد الله القسري، ويهجو أسدا، وكان أسد ووليها بعد خالد، والمعنى: ليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا، إذ كان أسد أميرها.
(2) من قصيدة يمدح فيها الفرزدق الوليد بن عبد الملك بن مروان ومطلعها:
وكم من مناد والشريفان دونه ... إلى الله تشكى والوليد مفاقره
ديوانه 1/ 312.
(3) انظر الخصائص 1/ 330. والبيت لم يعثر عليه في ديوانه، جمع ببيلي.
(4) هو القاسم بن محمد بن بشار، كان محدثا إخباريا عارفا بالأدب والغريب، توفي سنة 304هـ. البغية 2 261.(1/202)
لها مقلتا حوراء طلّ خميلة ... من الوحش ما تنفكّ ترعى عرارها
أي لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفكّ ترعى خميلة طل عرارها.
ومنه قول الآخر:
ملوك يبتنون توارثوها ... سرادقها المقاود والقبابا (1)
أي: «يبتنون المقاود، والقباب توارثوها سرادقها» كذا ذكره ابن الأثير (2)
تقديره، فهذا أو أمثاله، إن كان عن ضرورة، فهو رديء، وإن كان عن تعمّد وهو ظاهر حال الفرزدق فيما قيل لإكثاره منه جدا فهو رديء الرديء، والله أعلم.
الصنف السادس: الاعتراض
، وهو وقوع الكلام الأجنبي بين جزأي الجملة المرتبط أحدهما بالآخر، وهو افتعال من عرض له يعرض، إذا وقف في طريقه، فكأن اللفظ الأجنبي يقف في طريق الجزء الثاني من جزأي الجملة فيمنعه من الاتصال بالجزء الأول لفظا.
والنظر فيه باعتبارين:
أحدهما: الجواز وعدمه، وهذا إلى صناعة النحو فإن أهلها بيّنوا أنواعه، كالاعتراض بين القسم وجوابه، وبين الصفة والموصوف، والمعطوف عليه والمعطوف.
والثاني: كونه جيدا ورديئا.
فالجيد: ما دخل الكلام لفائدة معنوية، ولم يخلّ بطلاوته اللفظية، وفائدته:
ضرب من التوكيد. ومن أمثلته قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا، وَاللََّهُ}
__________
(1) في الأصل: المقاول، ولا محل لها هنا، والمقاود جمع مقاد للخيل.
(2) الجامع الكبير ص 113.(1/203)
{مُخْرِجٌ مََا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ} (1). فقوله: {وَاللََّهُ مُخْرِجٌ مََا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته: تأكيد الإخبار بعلمه تعالى، وأنه لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وأن تدارؤهم لم ينفعهم، ونظم الكلام: {فَادََّارَأْتُمْ فِيهََا} {فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ.}
ومنها قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} إلى قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ} (2) اعتراض، وفائدته: تأكيد حق الوالدين بذكر تعبهما وما عانياه في تربيته. ونظمه الأصلي: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ} ولا شك أن السنة وردت بتأكيد حق الأم على حق الأب لزيادة مشقتها في حمله ووضعه وتربيته، وفي الآية دليل على ذلك: من جهة أنه ذكر هما بلفظ الوالدين، المشتق من الولادة التي هي حقيقة في الأم عرفا، بل وضعا، مجاز في الأب، فالأب فيها تابع للأم، دخيل عليها فيها، فدل على تأكد حقها عليه في البر كتأكد المتبوع على التابع.
ومنها قوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ. لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (3). فهذان اعتراضان، أحدهما داخل على الآخر:
الأول: وإنه لقسم، اعترض بين القسم وجوابه.
الثاني: لو تعلمون، اعترض بين الموصوف: وهو قسم، وصفته: وهي عظيم، ونظم الكلام الأصلي: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم، وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
وفائدته: تأكيد تعظيم المقسم به في نفوس السامعين، وتجهيل الكفار منهم.
ومنه ما روى ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع المنادي فلم يمنعه من
__________
(1) سورة البقرة آية 72.
(2) سورة لقمان آية 14.
(3) سورة الواقعة آية 7775.(1/204)
اتباعه عذر قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى».
ومنه في الشعر قول امرئ القيس:
ألا هل أتاها والحوادث جمّة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا (1)
فقوله: «والحوادث جمة» اعتراض بين الفعل والفاعل. وفائدته: تأكيد ما هو فيه من المشقة والمساءة لأجل الفرقة، أي: لا تستغربي ما أنا فيه من ذلك، فإن الخطوب كثيرة مطردة، والمطرد لا يستغرب.
وقوله أيضا على لسانها:
أجدّك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (2)
إذن لرددناه، ونظمه سواك لرددناه.
والثاني: اعتراض بين لو وجوابها. وفائدته: تأكيد الإخبار بعظم قدره ومحله عندها، وأنه ممن يلتزم طاعته، إذ أمره بخلاف غيره، كما قالت الأخرى لخليلها حيث حكى عنها (3):
فقالت على اسم الله أمرك طاعة ... وإن كنت قد كلفت ما لم أعوّد
__________
(1) تملك: هي أمه، والمشهور في اسمها: فاطمة. بيقر: ترك البادية ونزل الحضر. الخزانة 4/ 162. والبيت لم نعثر عليه في الديوان.
(2) من قصيدة لامرئ القيس مطلعها:
جزعت ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا
ديوانه ص 242وجواب لو: محذوف، والمعنى: لو أحد أتانا رسوله لما أجبناه، ولكنا لم ندفعك عن ذلك.
(3) القائل: عمر بن أبي ربيعة، شواهد المغني للبغدادي 9672، وهو من قصيدة مطلعها:
وناهدة الثديين قلت لها اتكي ... على الرمل من جبانة لم توسد
ديوانه ص 86ط بيروت 1934(1/205)
ومنه قول النابغة (1):
لعمري وما عمري عليّ بهيّن ... لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
وقول متمم بن نويرة (2):
لعمري وما عمري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
لقد كفّن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا (3)
وكلاهما اعتراض بين القسم وجوابه، يفيد تأكيد المقسم به.
ومنه قول كثير:
لو ان الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلموا منك المطالا (4)
وقول الآخر (5):
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
والاعتراض في هذين بين اسم إن وخبرها.
وقول المتنبي (6):
__________
(1) من قصيدة يعتذر فيها للنعمان بن المنذر ومطلعها:
عفا حسم من فرتنا فالفوارع
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
ديوانه ص 49.
(2) متمم بن نويرة، عاصر عمر بن الخطاب، وأخوه مالك قتله خالد بن الوليد في حروب الردة، انظر الشعر والشعراء 337.
(3) المفضليات ص 265ط دار المعارف 1964م.
(4) شرح ديوانه 1/ 151جمع الشيخ هنري بيرس. ط الدار المربعة.
وقال عنه ابن رشيق في العمدة «اعتراض كلام في كلام» 2/ 36.
(5) البيت لعوف بن محلّم الشيباني كما جاء في الإيضاح للقزويني.
(6) من قصيدة مطلعها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
ديوانه 439ط لجنة التأليف.(1/206)
ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا
وهذا اعتراض بين مفعولي رأيت، وهو من أحسن الاعتراضات.
والرديء: ما أخلّ بطلاوة الكلام ورونقه لغير فائدة.
كقول الشاعر (1):
فقد والشكّ بيّن لي عناء ... بوشك فراقهم صرد يصيح
ونظمه: فقد بيّن لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشكّ عناء، فقد فصل بين قد والفعل بغير القسم، وهو رديء، وبين الفعل وهو: بيّن وفاعله وهو: صرد، بخبر المبتدأ الذي هو «عناء» وفصل «يصيح» المقدمة عليه «بوشك» وبين المبتدأ، وهو «الشك» وخبره وهو «عناء» بالفعل، وهو «بين»، وكل ذلك غير جيد، لهذا قبح البيت وزال رونقه.
ونحو قول الآخر:
نظرت شخصي مطلع الشمس ظله ... إلى الغرب حتى ظله الشمس قد غفل
تقديره «نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب» ففصل بالمبتدإ وهو «شخصي» بين الفعل ومفعوله، وبين المبتدأ وخبره بالمفعول المذكور وهو «مطلع الشمس».
والناظم في هذا أعذر (2) من الناثر لما سبق في اجتناب وحشي الألفاظ.
__________
(1) ذكره البغدادي في شرح شواهده 9651ولم ينسبه إلى قائل.
وذكره ابن جني في الخصائص 1/ 330، 2/ 390.
(2) انظر ص 81من هذا الكتاب، وقد ورد بالأصل: والناظم في هذا أعظم من الناثر وهو تحريف.(1/207)
وبين القسمين قسم متوسط: وهو ما لا فائدة له في الكلام، لكن لا يخل بطلاوته وحسنه، كقول النابغة (1):
يقول رجال يجهلون خليقتي ... لعل زيادا لا أبا لك غافل
وقول زهير بن أبي سلمى (2):
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فلا أبا لك اعتراض في الأول بين اسم لعل وخبرها.
وفي الثاني بين الشرط وجوابه.
وذكر ابن الأثير من هذا القسم قول بعضهم (3):
صدودكم والديار دانية ... أهدى لرأسي ومفرقي شيبا
وقال ابن هانئ المغربي (4):
فلا مهجة في الأرض منك منيعة ... ولو قطرت في ريق أرقط أرقم
وقال في الأول: ذكر المفرق بعد الرأس لا فائدة له البتة.
وكذا أرقط مع أرقم في الثاني إذ لا فضل للرقطة على غيرها من الألوان، وهذا لذي ذكره ظاهر في عدم الفائدة غير قاطع إذ يحتمل في الأول: عطف الخاص على العام نحو: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (5) {فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ} (6) إذ
__________
(1) من قصيدة في رثاء النعمان بن المنذر مطلعها:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل ... وكيف تصابي المرء والشيب شامل
(2) من معلقته ومطلعها:
أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم ... بجومانة الدرّاج فالمتثلّم
ديوانه ص 29.
(3) الجامع الكبير ص 120ونسبه إلى بعض المحدثين.
(4) هو محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأندلسي، ولد سنة 320، ويقال له ابن هانئ الأندلسي تمييزا له عن ابن هانئ الحكمي المعروف بأبي نواس وله ديوان مطبوع وتوفي سنة 362هـ.
(5) سورة البقرة آية 98.
(6) سورة الرحمن آية 68.(1/208)
غالب ما ينسب إليه الشيب: المفرق، ولأن دلالة الرأس على جميع أجزائه دلالة عموم، وهي ظنية، فأحب أن ينص على ذكر الجزء المهم، وهو المفرق.
وفي الثاني: يمكن منع أنه لا فضل للرقطة على غيرها من الألوان، بأن الحوّائيين:
وهم أهل الصناعة نصوا على أن تفاوت ألوان الحيات وأخلاقها، يدل على تفاوتها في الخبث والشر، واختلافها، ولهذا يضرب المثل بالحيات «الغبر» التي على لون الأرض، ويشهد لذلك ما ذكره الأطباء: من أن اسوداد الشعر يحدث عن احتراق شديد من حرارة قوته، والأحمر عن حرارة أقل، والأصفر من حرارة دون ما قبلها، والشيب من ضعف الحرارة الغريزية، وإذا كان اختلاف هذه الكيفيات الباطنة يؤثر في اختلاف الأعراض الظاهرة: من سواد وبياض ونحوهما، فليكن اختلاف الأعراض الظاهرة دليلا على اختلاف الكيفيات الباطنة، بطريق دلالة الأثر على المؤثر، وحينئذ لا ينقد مثل ذلك في الحيات، وأن ابن هانئ علم أن للرقطة دلالة على زيادة الخبث، ويؤكد ذلك أمور:
منها أنهم منعوا صرف أفعى، وليس صفة، لكن توهموا فيه معنى الخبث استدلالا على خبثه بصفاته، إما لونه أو سرعة حركته.
ومنها: أنهم أكثروا من ذكر الأسود في أمثالهم وغيرها، ففي الحديث: «أعوذ بك من شر أسد وأسود، وجن وعفريت» (1) وفي الشّعر:
تساقوا على حرد دماء الأساود (2)
وفيه:
فكنت كالمولج في جحر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
وهو دليل على أنهم استدلوا بسواده على غلبة شره، كدلالة سواد الآدمي أو شعره على حرارة باطنه، والله أعلم.
__________
(1) رواه عبد الله بن عمر بلفظ مختلف، سنن أبي داود 493ط السعادة.
(2) والشطر الأول من البيت.
أسود شرى لاقت أسود خفية. انظر ص 153من هذا الكتاب(1/209)
النوع الخامس: في الإيجاز
وهو التعبير عن المعنى الكامل بأقل ما يمكن من الحروف.
وقيل: دلالة اللفظ على المعنى من أقرب طرقه.
وهما مستويان:
وهو مصدر أوجز إيجازا (1)، إذا قصر، ومنه قولهم: عظني وأوجز: أي اقتصر.
واعتناء العرب بهذا النوع شديد، بدليل وضعهم ألفاظا استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة، بل غير متناهية، كأدوات الاستفهام، والشرط، ونحوهما لأن قولك: «أين زيد؟» يغني عن قولك: «أفي الدار هو أم في المسجد؟» واستقراء جميع الأماكن كلها، «وكم مالك؟» أغنى عن: «أعشرة أم عشرون أم مائة أم ألف» ونحوها من الأعداد غير المتناهية.
وقولك: «من يقم أقم معه» أغنى عن: «إن يقم زيد أو عمرو أو بكر أو فلان أو فلان أقم معه»، و «ما بالدار أحد» أغنى عن: «ما بها زيد ولا عمرو ولا هند ولا دعد» ونحو ذلك.
ثم ذهبت جماعتنا إلى أن الإيجاز حسن في الأشعار والمكاتبات ومحاورات الخواص، دون الخطب والتقليدات السلطانية، وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من العوام، مراعاة لأفهامهم إذ التطويل أبلغ في حقهم، وأجدر ألا يخفى عليهم من المكتوب شيء وضعف ابن الأثير (2) ذلك: بأن هذا يوجب مراعاة العامة في استعمال كلامهم الركيك، ولفظ لفظهم المبتذل لأنهم آنس به، وآلف له، ولم يقل به أحد، بل على المؤلف سلوك النهج القويم، والطريق المستقيم ليخرج من عهدة
__________
(1) في الأصل: أوجز إوجازا. وهذا مخالف لقاعدة الإبدال في قلب الواو ياء لكسر ما قبلها.
(2) الجامع الكبير ص 123.(1/210)
الملازمة، وليس عليه أن يفهم العامة كلامه، كما قال القائل (1)
عليّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليّ بأن لا تفهم البقر
وأحسن ابن الأثير في هذا الاختيار.
ثم الإيجاز، إما على الحذف، أو بدونه:
الأول: الإيجاز على الحذف على ضروب:
الضرب الأول: الاكتفاء بذكر السبب وعكسه:
فالأول كقوله تعالى: {وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنََا إِلى ََ مُوسَى الْأَمْرَ، وَمََا كُنْتَ مِنَ الشََّاهِدِينَ، وَلََكِنََّا أَنْشَأْنََا قُرُوناً فَتَطََاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} (2) أي: ما شاهدت قصة موسى ولكنا أوحيناه إليك وحيا يدل على صدقك لمطابقة ما أخبرت به عنه، ما جرى له، فاكتفى عن ذكر الإيحاء بذكر سببه: وهو إنشاء القرون والأمم وتطاول العهد عليهم، لأن ذلك هو سبب الرسالة والوحي.
والثاني: هو الاكتفاء بالمسبب عن السبب، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} (3) أي: فضرب فانفجرت، فاكتفى بذكر الانفجار الذي هو المسبب عن الضرب الذي هو السبب. ومنه فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر» (4) أي فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، فصيام العدّة مسبب عن الإفطار، ومنه: {إِذََا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلََاةِ فَاغْسِلُوا} (5) أي: إذا أردتم القيام، فالقيام مسبب عن الإرادة.
__________
(1) هذا البيت من قصيدة للبحتري يمدح بها عليا الأرمني مطلعها
في الشيب زجر له لو كان ينزجر ... وبالع منه لولا أنه حجر
ديوانه 432.
(2) سورة القصص آية 44، 45.
(3) سورة البقرة آية 60.
(4) سورة البقرة آية 184
(5) سورة المائدة آية 6.(1/211)
ومنه: {فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (1) أي: إذا أردت القراءة، فالقراءة مسبب عن الإرادة.
وقول من حمله على ظاهره من تعقيب القراءة بالاستعاذة ضعيف (2) إذ المعقول من أمره بالاستعاذة من الشيطان الاعتصام من كيده، وأن يعرض له في قراءته فيخلطها عليه، كما يغلب عليه في صلاته ليقطعها، وكما خلط عليه في سورة النجم، حتى قرأ فيها: «تلك الغرانيق العلى، إنّ شفاعتهم لترتجى» فإذا أخّرها إلى أن يفضي إلى القراءة فأتت تلك الفائدة (3).
ومنه قوله تعالى: {فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا} (4) أي: لا تكن تابعا ضعيفا في دينك، بحيث يؤثر فيك من يصدّك عنها، فاللين في الدين سبب تأثير قول الصاد الذي هو سبب الانصداد. وهذه أعجب صور هذا الضرب لأنها تضمنت الاكتفاء بالمسبب عن ذكر السبب البعيد بمرتبتين، فتأمله، والله أعلم.
الضرب الثاني: الإضمار
وهو في اللغة: الإخفاء والستر، تشبيها بالسر في الضمير. قال الأعشى حكاية عن ابنته (5):
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنّا بخير إذا لم ترم
نراك إذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
__________
(1) سورة النحل آية 98.
(2) أي إذا تعوّذت فاقرأ.
(3) لأن كل مستعيذ بالله لا تجب عليه القراءة، فإذا فاتت الاستعاذة دون قراءة فاتت الفائدة.
(4) سورة طه آية 16.
(5) من قصيدة يمدح بها قيس بن معد يكرب مطلعها:
أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم
ديوانه ص 4.(1/212)
والضمير عند النحاة: ما وضع للدلالة على متكلم أو مخاطب أو غائب، نحو:
أنا، وأنت، وهو، سمّي بذلك لخفائه إذ يتوقف معرفة صاحبه على ظاهر نيته.
والمراد الإضمار هنا: حذف جملة من الكلام على شريطة التفسير، أي: بشرط المشيئة والإرادة، نحو: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ} (1) {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} (2) {وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ} (3). وأمثال ذلك كثيرة، وتقديره: لو شاء الله أن يفعل ذلك لفعل. ومنه قول البحتري:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد (4)
أي: لو شئت أن لا تفسد هذه، ولا تهدم هذه، لفعلت. واطرد حذف هذا المفعول بين أهل هذا الشأن، حتى صاروا يعدون إظهاره عيا وركاكة في المنطق، إلا في مكان مهم، نحو: {لَوْ أَرََادَ اللََّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى ََ مِمََّا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ} (5).
وقول الشاعر:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع (6)
__________
(1) سورة البقرة آية 20.
(2) سورة الأنعام آية 35.
(3) سورة السجدة آية 13.
(4) من قصيدة يمدح بها الخضر بن أحمد الثعلبي مطلعها:
عجبا لطيف خيالك المتعاهد ... ولوصلك المتقارب المتباعد
ديوانه 422.
(5) سورة الزمر الآية 4.
(6) البيت للخريمي واسمه إسحاق بن حسان من شعراء القرن الثاني للهجرة والبيت من مرثية يرثي بها أبا الهيذام مطلعها:
قضى وطرا منك الحبيب المودع ... وحلّ الذي لا يستطاع فيدفع
شرح الحماسة للتبريزي 10532والأغاني 18/ 113(1/213)
كأن الله تعالى أراد ردّ قول الكفار: «اتخذ الله ولدا» بما يطابقه في اللفظ ليكون أبلغ في الرد.
والشاعر أراد التصريح ببكائه الدم على تقدير إرادته له مبالغة في حكاية وجده وحزنه، وفي مثل هذا: الإظهار خير من الإضمار، بل هو واجب لأنه لو حذف لم يكن في الكلام دليل على خصوصيته.
ومنه حذف المعلول، كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ} (1). وفي قصة مريم: {كَذََلِكِ قََالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنََّاسِ} (2) أي: فعلنا ما فعلناه من إحياء العزير، وإحياء حماره، وخلق عيسى من غير أب لنجعلهما آية للناس، فالعلة مذكورة، والمعلول مضمر.
ومنه حذف أحد القسمين اللذين يقتضيهما الكلام، كقوله تعالى: {فَأَمََّا مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَعَسى ََ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} (3). ولم يذكر القسم الآخر الذي تقتضيه أما، إذا وضعها لتفصيل كلام مجمل.
وأقل أقسامها قسمان، ولا ينفكّ عنهما في جميع القرآن إلا في هذا الموضع، وموضع آخر سيأتي ذكره وتقدير قسمها الثاني في هذا المكان: «وأما من لم يتب ولم يؤمن ولم يعمل صالحا، فلا يكون من المفلحين.» ولكنه لما استفيد من القسم الأول بدليل الخطاب أضمر.
والموضع الثاني: في آل عمران، وهو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مََا تَشََابَهَ مِنْهُ} إلى قوله: {إِلَّا اللََّهُ} (4)، فهذا أحد القسمين، والقسم الثاني ما بعده وتقديره: «وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنّا به» لكن لما كان
__________
(1) سورة البقرة آية 259.
(2) سورة مريم 21.
(3) سورة القصص آية 67.
(4) سورة آل عمران الآية 7.(1/214)
القسم الأول يدل على هذا القسم من حيث أن (أما) تقتضي قسمين، وحيث إن ذكر أحدهما تعين تقدير الثاني على نهجه كما ذكرناه، حذفت (أما) من صدره لدلالتها في صدر القسم الأول عليها هاهنا، ثم حذفت الفاء من جوابها تبعا لها.
ومنه قوله تعالى: {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ} (1) أي:
ومن أنفق بعده، فحذف هذا القسم لدلالة قوله تعالى: {أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقََاتَلُوا} (2).
ومنه حذف خبر المبتدأ، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (3) أي: أهذا اخترام من جعل صدره ضيقا حرجا، فقسا قلبه؟، أو أهذا المشروح الصدر كمن أقسى الله قلبه فحدث ذلك؟ بدليل قوله:
{فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} (4).
وقد يظهر الخبر، وهو الأصل، نحو: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5)، والله أعلم.
الضرب الثالث: حذف المفعول به
إما لعدم تعلق غرض المتكلم به، بل مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل، كقوله تعالى:
{وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ} (6) أي مواشيهم، لكن لم يذكرها لأنها ليست مقصودة في الإخبار، بل المقصود تبيين الفعل الذي صادفهم موسى عليه، وكذلك قوله: {تَذُودََانِ} أي: مواشيهما، {قََالَتََا لََا نَسْقِي} أي مواشينا.
__________
(1) سورة الحديد الآية 10.
(2) سورة الحديد الآية 10.
(3) سورة الزمر الآية 22.
(4) سورة الزمر الآية 22.
(5) سورة الملك الآية 22.
(6) سورة القصص الآية 23.(1/215)
ومن قرأ «يصدر» بضم الياء، فالمواشي فيه مفعول محذوف.
وإما لقصد إثبات الفعل للمخبر عنه مطلقا من غير تخصيص بمفعول دون مفعول، كقولك: «فلان يضع ويرفع، ويضر وينفع، وينقض. ويبرم، ويبني ويهدم» أي له جنس هذه المصادر في الناس لا يختص ببعضها زيد دون عمرو. ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ، وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا} (1) أي: لا يقع ضحك ولا بكاء ولا إماتة ولا إحياء إلا وهو فاعله.
فإن قلت: فلم ذكر المفعولين في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} (2).
قلت: لأن المراد جنس الزوجين فكأنه قال: «خلق كلّ ذكر وكلّ أنثى» فكان ذكره هنا أبلغ لكونه دلّ على عموم ثبوت الخلق له بالتصريح، ولأنه في سياق تعظيم نفسه، وإظهار قدرته، وهي في خلق الذكر والأنثى من نطفة، فإعادتهما بعد الفناء أبلغ.
ومنه قول البحراني:
وارفع وضع واعتزم وانفع وضر وصل ... واقطع وقم وانتقم واصفح وخذ وهب (3)
أي: إنك قادر على فعل أجناس هذه المصادر مطلقا، وإما لغير ذلك من الأغراض، ولو سمّي هذا الضرب بالإضمار الالتزامي، والذي قبله باللفظي أي:
هذا يستدلّ على حذف فيه بالالتزام، وذاك بما في سياقه من الألفاظ وجعل الإضمار منقسما إلى هذين القسمين، لكان جيدا.
__________
(1) سورة النجم الآية 43، 44.
(2) سورة النجم الآية 45.
(3) سبقت ترجمته ص 125.(1/216)
الضرب الرابع: حذف الفعل وجوابه
إما حدث الفعل، وهو إما قول أو غيره.
فالقول نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ؟} (1) أي فيقال لهم أكفرتم.
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبََارَهُمْ وَذُوقُوا عَذََابَ الْحَرِيقِ} (2) أي: ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق.
{وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا مََا كُنْتُمْ} (3)؟ أي ويقال لهم: هل تجزون.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} (4) إلى: {وَإِنْ جََاهَدََاكَ} (5) أي وقلنا له: إن جاهداك على أن تشرك، أي: فلا تقطعهما.
وغير القول: نوعان:
أحدهما: حذفه لا إلى بدل: نحو {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عََاكِفِينَ حَتََّى يَرْجِعَ إِلَيْنََا مُوسى ََ قََالَ يََا هََارُونُ مََا مَنَعَكَ} (6) أي: فلما رجع ورأى عكوفهم على عبادة العجل قال: يا هارون.
الثاني: حذفه إلى بدل وهو المصدر، ويسمى إقامة المصدر مقام الفعل،
__________
(1) سورة آل عمران آية 106.
(2) سورة الأنفال آية 50.
(3) سورة النمل آية 90.
(4) سورة لقمان آية 14.
(5) سورة لقمان آية 15.
(6) سورة طه آية 91، 92.(1/217)
نحو: {فَإِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقََابِ} (1) أي: فاضربوا الرقاب ضربا، كما قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنََاقِ} (2).
وأما حذف جواب الفعل، فنحو قوله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ} (3) أي: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فاستحقوا التدمير، فدمّرناهم تدميرا.
ولحذفه هنا توجيهان:
أحدهما: أن طرفي القصة: وهما الذهاب والتدمير دلّا على واسطتها وهي: الكفر والتكذيب.
الثاني: أن ذكر التكذيب لم يكن مقصودا هنا، وإنما المقصود الطرفان المذكوران، وبيانه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما شكا قومه بقوله: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هََذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (4) ذكر الله تعالى له إهلاك القرون الخالية لتكذيبهم رسلهم تسلية له، وتأسيا بهم، وطبيبا لقلبه بالوعد بإهلاك من كذبه، كما أهلك من كذب قبله، ولهذا سرد الأمم هاهنا باختصار مقتصرا على ذكر الإهلاك من غير إطالة بحكايات تكذيبهم فقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمََّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنََاهُمْ} (5) الآية. {وَعََاداً وَثَمُودَ وَأَصْحََابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذََلِكَ كَثِيراً} (6)
وكقوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (7) إلى قوله: {فَلَمََّا ذَهَبُوا بِهِ} أي: فأرسله معهم، فلما ذهبوا به.
__________
(1) سورة محمد الآية 36.
(2) سورة الأنفال الآية 12.
(3) سورة الفرقان الآية 36.
(4) سورة الفرقان الآية 30.
(5) سورة الفرقان الآية 37.
(6) سورة الفرقان الآية 38.
(7) سورة يوسف الآية 12.(1/218)
وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ} (1) أي: فأرسلوه، فلما جاءه، قال: «يوسف أيّها الصّدّيق أفتنا».
وكذا قوله للرسول: {ارْجِعْ إِلى ََ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مََا بََالُ النِّسْوَةِ اللََّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، قََالَ مََا خَطْبُكُنَّ} (2) أي فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فاستحضر النسوة، فقال لهنّ: ما خطبكنّ. ونظائره كثيرة.
الضرب الخامس: حذف المضاف والمضاف إليه، وإقامة كل منهما مقام الآخر.
مثال الأول: {وَلََكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ََ} (3) أي: برّ من اتقى، ويجوز أن يكون تقديره: «ولكن ذا البرّ من اتقى» والأول أولى لأنه المطابق لصدر الآية إذ تقديرها: «إذن ليس البر التولية، ولكن البر التقوى»، ولأن حذف المضاف، اتساع، والخبر أولى به من المبتدأ، إذ حذف الأعجاز أولى من حذف الصدور في الكلام.
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (4) أي: أهل القرية.
{حَتََّى إِذََا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} (5) أي: طريق يأجوج.
وقد تحذف متعددا: نحو {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهََا} (6) أي: من تراب أثر حافر فرس الرسول.
مثال الثاني، قوله تعالى: {لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (7) أي: من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل كل شيء وبعده.
__________
(1) سورة يوسف آية 45، 46.
(2) سورة يوسف آية 50، 51.
(3) سورة البقرة آية 189.
(4) سورة يوسف آية 82.
(5) سورة الأنبياء آية 96.
(6) سورة طه آية 96.
(7) سورة الروم آية 4.(1/219)
الضرب السادس: حذف الصفة والموصوف، وإقامة كل منهما مقام الآخر
أما حذف الصفة، فإنما يحسن إذا ساوق الكلام ما يدل عليها من تعظيم أو تفخيم ونحوه. فيجوز «كان زيد والله رجلا» و «اعتبرت عمرا فوجدته إنسانا» أي: رجلا فاضلا، وإنسانا كاملا، لدلالة الحال على تعظيمك له، ولزوم تحصيل الحاصل من تقدير عدم إرادة الصفة، ولهذا لو قلت: رأيت رجلا، أو كان زيد رجلا، ولم يقترن به شيء من ذلك، لم يفد.
ومن كلام العرب: «سير عليه ليل» أي: طويل.
وفي الحديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (1) أي: لا صلاة كاملة أو تامة، ونظائره كثيرة.
وأما حذف الموصوف فكقوله تعالى: {حَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ} (2) أي:
على سفينة ذات ألواح.
و «حملت زيدا على كوماء» (3) «وقلدته ماضيا» أي: ناقة كوماء، وسيفا ماضيا.
وشرط حذفه أيضا: دلالة الكلام عليه، حتى لو قلت: «مررت بطويل» ولا قرينة، لم يجز إذ لا يعلم: هل المراد: رمح، أو ثوب، أو إنسان. وأكثر ما يقع هذا الضرب في الشعر، كقول امرئ القيس:
تصدّ وتبدي عن أسيل وتتّقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل (4)
__________
(1) رواه ابن عباس بلفظ مختلف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له، إلا من عذر» ابن ماجة 1/ 260ط عيسى الحلبي.
(2) سورة القمر آية 13.
(3) ناقة كوماء: عظيمة السنام طويلة. اللسان مادة كوم.
(4) من معلقته ومطلعها:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل
ديوانه ص 16ط دار المعارف.(1/220)
أي: خد أسيل، وتتقي بعين ناظرة.
أما النثر، فالقياس يمنعه فيه، فإن وقع فيه فنادر، أو في موضع خاص لائق وذلك لأن الصفة إما: للتخصيص والتبيين، أو للمدح والذم، وهما من مقامات الإطناب، لا الإيجاز، وكلما استبهم الموصوف، كان حذفه أقبح.
أما الصفات الجملية: التي تقع جملا، فلا يجوز حذف موصوفها أصلا، نحو:
«مررت بغلام وجهه حسن» و «لقيت رجلا قام أبوه» لا تقول: مررت بوجهه حسن، ولقيت قام أبوه. والله أعلم.
الضرب السابع: في حذف الشرط وجوابه
أما حذف الشرط. فكقولهم: «الناس مجزيّون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ» أي: إن عملوا خيرا، فجزاؤهم خير، أو لقوا خيرا، وفي لفظتي: خير أو شر في هذا ونظائره أربعة أوجه:
رفعهما ونصبهما كما ذكرنا.
ورفع الأولى ونصب الثانية.
وعكسه، فيقدر رافعا للمرفوع، وناصبا للمنصوب. ومنه: {إِنَّ أَرْضِي وََاسِعَةٌ فَإِيََّايَ فَاعْبُدُونِ} (1) فالفاء جواب شرط مقدّر، أي: إن لم تقدروا على عبادتي بأرضي، فهاجروا منها، فاعبدون في غيرها. فحذف الشرط، وعوّض منه تقديم المفعول وهو: إياي مع إفادته الاختصاص بالإخلاص له تعالى.
__________
(1) سورة العنكبوت آية 56.(1/221)
ومنه: {فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ} (1) أي: إن أنكرتم البعث، فهذا يوم البعث وقد سبق هذا مثالا في الإرداف.
ومنه قول الشاعر (2):
... فقد جئنا خراسانا
أي: إن كانت خراسان أقصى مطلوبكم، فقد جئتموها، دلّ على ذلك صدر البيت، وذكر ابن الأثير (3) من أمثلة هذا: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} (4) أي: فحلق، فعليه فدية، وهو من حيث المعنى جواب شرط، إذ تقديره إن حلق فعليه فدية.
أما من جهة الصيغة، وما قدره هو، فهو من باب الاكتفاء بالمسبب عن السبب، نحو: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ} (5) ونظائره كما سبق.
وأما حذف جوابه، فكقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (6) أي: ألستم ظالمين أو ضالين، بدليل قوله: «إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين».
وقد يحذفان جميعا. في نحو ما إذا قال لك غلامك: «لا أضرب زيدا وهو عالم» فتقول: «وإن» ووقع مثله في الحديث والشّعر، والله أعلم.
__________
(1) سورة الروم آية 56انظر ص 162.
(2) قاله العباس بن الأحنف وتمامه:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول، فقد جئنا خراسانا
شرح ديوانه ص 240، وقد ورد في الأصل: فقد جئتم خراسانا، والصحيح ما أثبتاه.
(3) الجامع الكبير ص 133.
(4) سورة البقرة آية 196.
(5) سورة البقرة آية 184.
(6) سورة الأحقاق آية 10.(1/222)
الضرب الثامن: حذف القسم وجوابه:
أما حذف القسم، فكقولك: «لأفعلنّ كذا» أي: والله أو لعمري ونحوه من المقسم به، ومثاله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} (1) {لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ} (2).
وأما حذف جوابه، ويقدر بما يدل سياق الكلام عليه، فكقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (3) أي: لست بكذاب ولا فاجر، ولا ما جئت به مختلق، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ} (4) بدليل قوله بعد ذلك: {وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} (5) {إِنْ هََذََا إِلَّا اخْتِلََاقٌ} (6) وقول من جعل جوابه: «بل» أو قوله: {إِنَّ ذََلِكَ لَحَقٌّ تَخََاصُمُ أَهْلِ النََّارِ} (7) ضعيف جدا. وكقوله تعالى:
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (8) «لتبعثنّ» بدليل حكاية إنكارهم البعث في سياق الكلام بقوله: {أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً ذََلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (9) ونحو: {وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ} (10) أي: ليعذّبنّ الكفار، بدليل تعقيبه بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ} (11) إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذََابٍ} (12) ونظائر هذا كثيرة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 6.
(2) سورة العلق الآية 15.
(3) سورة ص الآية 1.
(4) سورة ص الآية 2.
(5) سورة الآية 4وفي الأصل وقالوا ساحر كذاب.
(6) سورة ص الآية 7.
(7) سورة ص الآية 64.
(8) سورة ق الآية 1.
(9) سورة ق الآية 3.
(10) سورة الفجر الآية 1، 2.
(11) سورة الفجر الآية 6
(12) سورة الفجر الآية 13.(1/223)
الضرب التاسع: في حذف «لو» وجوابها
أما حذفها فكقوله تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ} (1) أي: لو كان معه إله، لذهب كل إله بما خلق، ودل على المحذوف قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ} (2).
وأما حذف جوابها، فكقول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ} (3) أي: لدفعتكم عن ضيفي، أو عمّا أنتم عليه مطلقا.
وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ} (4) أي: لكان هذا القرآن، واستدلّ ابن قتيبة (5) على هذا بقول امرئ القيس:
أجدّك لو شيء أتانا رسوله ... سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا (6)
وقال معناه: لرددناه، أو لم تجبه، وجعله نظيرا لهذه الآية في حذف جواب لو، وهو وهم لأن جوابه في البيت بعده، وهو إذن لرددناه إلى آخره، فلعله لم يقف على هذا، فاعتبر البيت الأول بنفسه وظنه كلاما، والله أعلم.
وكقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لََا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النََّارَ وَلََا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} (7) أي: لرجعوا عن كفرهم وآمنوا.
وكقوله تعالى: {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} (8) أي: لرأيت ما يسرّك فيهم.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 91.
(2) سورة المؤمنون الآية 91.
(3) سورة هود الآية 80.
(4) سورة الرعد الآية 31.
(5) في تأويل مشكل القرآن ص 166.
(6) من قصيدة مطلعها:
جزعنا ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزّيت قلبا بالكواعب مولعا
ديوانه ص 242وذكر في الأصل «وجدك».
(7) سورة الأنبياء الآية 39.
(8) سورة سبأ الآية 51.(1/224)
ومثله «لو رأيت عليا بين الصفين» أي: لرأيت عجبا من شجاعته، وهذا الحذف أبلغ لذهاب الفكر في المحذوف كل مذهب، وهو كمن يطلب صيدا لا يدري أين جهته، فهو يتبع كل الجهات، والله أعلم.
الضرب العاشر: في حذف جواب «إذا» و «لمّا» و «أمّا»
فالأول: كقوله تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مََا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمََا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) أي: أعرضوا، ودلّ على ذلك تعقيبه بقوله. {وَمََا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيََاتِ رَبِّهِمْ إِلََّا كََانُوا عَنْهََا مُعْرِضِينَ.}
والثاني: كقوله تعالى: {فَلَمََّا أَسْلَمََا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (2) أي: كشفنا عنهما البلاء، وحصلا لكشفه على فرح واستبشار عظيم، بدليل: {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) أي: جازيناهما بذلك لإحسانهما، وقيل: جوابها: «ناديناه» والواو زائدة.
والثالث: كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} (4) أي:
فيقال لهم أكفرتم، والله أعلم.
الضرب الحادي عشر: حذف «لا» وهي مرادة
كقوله تعالى: {تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} (5) أي: لا تفتأ، أي: لا تزال، وسوغ حذفها زوال اللبس فيه إذ لو أريد الإثبات، لقال: لتفتأنّ، فلما لم يؤكد دل على إرادة النفي، فقدر حرفه.
__________
(1) سورة يس آية 45، 46.
(2) سورة الصافات آية 103.
(3) سورة الصافات آية 105.
(4) سورة آل عمران آية 106.
(5) سورة يوسف آية 85.(1/225)
ومنه قول امرئ القيس:
فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
أي: لا أبرح.
الضرب الثاني عشر: الاستئناف
وهو ابتداء كلام على جهة الجواب لسؤال مقدر، وهو نوعان:
النوع الأول: بإعادة الاسم نحو: «أكرمت زيدا زيد حقيق بالإكرام».
أو بإعادة الصفة نحو: «أكرمت زيدا صديقي القديم أهل لذلك».
وهذا أحسن من الأول لاشتماله على الصفة المشيرة إلى بيان سببية الإكرام، كما قال الأصوليون في إقران الحكم بالوصف المناسب، فكأنّ قائلا قال: «لم أكرمته»؟
فأجبته بذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى: {لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2) كأن قائلا قال: لم اختص المتقون بذلك؟ فأجاب عن هذا السؤال بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (3) إلى آخر الصفات المشيرة إلى سببية اختصاصهم، كأنه قال: أهل هذه الصفات أحقّاء بهذا التخصيص. وإن جعلت هذه النعوت تابعة للمتقين، وقدرت السؤال المذكور بعدها، كان الاستئناف «بأولئك على هدى» فيكون مثالا لإعادة الاسم.
__________
(1) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمهن من كان في العصر الخالي؟
ديوانه ص 32
(2) سورة البقرة الآية 1.
(3) سورة البقرة آية 2.(1/226)
النوع الثاني: ما ليس بإعادة اسم ولا صفة، كقوله تعالى إخبارا عن حبيب (1)
رجل يس {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} إلى قوله: {فَاسْمَعُونِ} (2) كأن قائلا قال: فما كان جزاء هذا الرجل مع جوده بنفسه في طاعة ربه؟ فقال: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ثم كأن السّائل سأل، فقال: مجرد دخول الجنة لا يلقى مثل هذا، إذ من يعمل دون عمله يدخلها، فبم اختصّ عن غيره؟ فقال: {قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي: رأى من الإكرام ما تمنّى معه أن يعلم قومه بحاله فيفعلون كفعله ليحصل لهم ما حصل له.
ومنه قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام أنه قال: {يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ (سَوْفَ) تَعْلَمُونَ} (3) كأنه قال: اعملوا إني عامل، قالوا له:
وما يكون إذا كنت عاملا؟ قال لهم: سوف تعلمون ما يكون. وقد جاء في القرآن:
«فسوف تعلمون» بالفاء، وهو وصل ظاهر، والأولى وصل خفي باستئناف ظاهر، وهو أبلغ الوصلين لتضمنه من جهتين.
قال ابن الأثير (4): وأما الوصل في هذه الآية ونظائرها، تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف تفنّنا في البلاغة على عادة العرب في تفننها.
قلت: ويمكن أن يقال: إن شعيبا عليه السلام لما كثرت مراجعة قومه له على ما حكي عنه في سورة هود، ناسب اختصاص قصته الاستئناف الذي هو أبلغ من الانذار والوعيد، لكن يرد على هذا أن قريشا كانت أشد مجادلة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم من سائر الأمم لأنبيائها، ولما قال لهم هذا الكلام قاله بالفاء. ويمكن الجواب عنه بوجوه:
__________
(1) يقصد بذلك حبيب النجار انظر ص 180.
(2) سورة يس الآية 2722وتمام الآيات {«أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمََنُ بِضُرٍّ لََا تُغْنِ عَنِّي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلََا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ».}
(3) سورة الزمر الآية 39.
(4) الجامع الكبير ص 139.(1/227)
أحدها: أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كانت مدة إنذاره لقومه قصيرة، فعقب عملهم على مكانتهم بوعيدهم بالفاء إشارة إلى قرب نزول الوعيد بهم. وشعيب صلّى الله عليه وسلّم طالت مدته في قومه، فاستأنف لهم ذكر الوعيد، كأنه قال: سننزل بكم الوعيد، وإن طالت بكم المدة في مخالفتي وجدالي.
الثاني: أن شعيبا عليه السلام قال ذلك من عنده لأن الله تعالى قال عنه:
{يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ} والنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله أن يقول لهم ذلك لأنه قال: «قل يا قوم اعملوا» وتخصيصات الله تعالى لا تستلزم التعليل، فلعله عليه السلام لو قال ذلك من عنده، كما قاله شعيب كذلك، لقال كما قال.
الثالث: لعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم، فأجابهم بهذا الجواب، والفاء لا يحسن فيه، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم لم يقل ذلك جوابا لقومه عن سؤال، بل هو كلام مبتدأ مرتبط بعضه ببعض، ولا يحسن بدون الفاء. والشاهد قواعد العربية.
الضرب الثالث عشر: في حذف الواو وإثباتها
في نحو: {وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلََّا وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ} (1) وفي الشعراء {إِلََّا لَهََا مُنْذِرُونَ} (2).
وذكر ابن الأثير (3) لهذا قاعدة، حاصلها: أن كل اسم نكرة جاء خبرها جملة بعد إلا، جاز إثبات الواو فيه وحذفها، نحو: ما رأيت رجلا إلا وعليه ثياب، وإلا عليه ثياب. وكذا في التنزيه، نحو: لا رجل أو ما من رجل إلا هو أو وهو قائم.
فإن كان الفعل القائم على النكرة ناقصا كظننت، وكان وأخواتها وكذا إنّ وأخواتها، لزم حذف الواو، نحو: ما أظن درهما إلا هو كافيك لأن مثل ذلك يتعلق بشيئين، فلا يعترض فيه بالواو لئلا يشبه المتعلق بشيء واحد.
__________
(1) سورة الحجر آية 4.
(2) سورة الشعراء آية 208.
(3) المثل السائر 2/ 330والجامع الكبير ص 140.(1/228)
إلا «أصبح، وأمسى، ورأيت» فإن إثبات الواو فيها سهل لأنهنّ توامّ (1) في حال نحو: ما أمسى أو أصبح أحد إلا وهو قائم.
وإلا ليس، نحو: ليس أحد إلا وهو قائم لأن الكلام يتوهم تمامه بها، وباسم نكرة نحو: ليس أحد، وكذلك كان التامة.
وكأن الضابط في هذا: أن ما كان متعلقا بشيئين لا يجوز اعتراض الواو بينهما، وهذا الذي ذكره حسن، وأنا أتكلم في وجه اختصاص آية الحجر بالواو، وسقوطها في الشعراء، فأقول لما كان الكتاب المعلوم لإهلاك القرية متقدّما سابقا على وجودها، إذ المراد به: إما الأجل المعلوم، أو تعلق علم الله تعالى بإهلاكهم، وكلاهما متقدم، والرسول المنذر لها وجوده مقارن لا سابق، ناسب ذلك اقتران الواو بالآية الأولى: تنبيها على سبق الكتاب بإهلاكهم، وسقوطها من الثانية تنبيها على مقارنة الرسول لهم.
فإن قلت: فلم لم يستو الإتيان جميعا في التنبيه على سبق الكتاب، أو على مقارنة الرسول؟
قلت: لأن معنى كل واحدة منهما مناسب لما قبلها، فاختصت به تحصيلا للمناسبة: أما آية الحجر فلأنها بعد قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (2) كأنه قال: «لننتقمنّ منهم ولنهلكنّهم، لكن لهم أجل معلوم سابق في علمنا، فإذا استوفوه أتاهم عذابنا لأن ما ثبت في علمنا لا يتقدم ولا يتأخر».
وأما آية الشعراء فلأنها جاءت تعدد ذكر قصص الأمم وإهلاكهم، فكأنه أكد تصريح هذه الآية مضمون القصص، فقال: إنّا لم نظلم هؤلاء الذين أهلكناهم لأنّا لم نهلكهم إلا بعد الإعذار والإنذار، وكذلك دأبنا في جميع القرى، لا نهلك قرية ولا أهلكناها إلا بعد إنذارها وكفرها واستكبارها.
__________
(1) توام: جمع تامة.
(2) سورة الحجر آية 3.(1/229)
الضرب الرابع عشر: في حذف ما يخلّ (1) حذفه بالكلام:
وهو: إسقاط بعض حروف اللفظ، فلا يحسن استعماله إلا ضرورة، إذ الضرورة قد أجازت من ذلك ما يخلّ بالمعنى، كقول لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان (2)
أي: المنازل، فأبانين.
وقول علقمة (3):
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدّم بسبا الكتّان ملثوم
وقول أبي دؤاد (4):
يذرين جندل حائر لجنوبها ... فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أي: الحباحب: وهو قدح النار من حوافر الخيل، ونظائره كثيرة مذكورة في ضرائر الأشعار.
__________
(1) في الأصل: ما لا يخل حذفه بالكلام، وهو خطأ من الناسخ والصواب ما أثبتناه، فهو ما يدل عليه كلام المؤلف بعد ذلك.
(2) وتمام البيت: «فتقادمت بالحبس بالسوبان» ومتالع: اسم جبل بنجد، وأبان: اسم جبل أيضا، والسوبان: واد في بلاد العرب:
(3) هو علقمة الفحل من قصيدة أولها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم؟
شعراء النصرانية: 498.
وفي الأصل «مقدما بسنا الكتان مكتوم» وهو من تحريف النساخ.
(4) هو أبو دؤاد الأيادي شاعر جاهلي مشهور يجيد وصف الخيل. طبقات الشعراء 121، والموشح 73.
والجندل: الصخر، والحباحب: اسم رجل يضرب بناره المثل لأنه كان لا يوقد إلا نارا خافتة مخافة الضيفان فقالوا: نار الحباحب.(1/230)
الثاني: وهو الإيجاز بدون الحذف على ضربين:
الضرب الأول: استواء اللفظ والمعنى
ويسمى التقدير كقوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ} (1). فدعا عليه بقتله، وعجّب من كفره، وذكر بدء خلقه، وتقديره، وتيسيره، وإنشاره، وما بعد ذلك من أحكامه، بلفظ لو حذف منه حرف، لاختل له المعنى. ومن ذلك قول الشاعر (2):
وما لامرئ حاولته عنك مهرب ... ولو حملته في السماء المطالع
بلى هارب ما يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع
وكذلك قول الآخر:
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر!
فسل اللبيب تكن لبيبا مثله ... من يسع في علم بلب يمهر
وتدبر الأمر الذي تعنى به ... لا خير في عمل بغير تدبر
فلقد يجدّ المرء وهو مقصر ... ويخيب سعي المرء غير مقصر
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
ونظائره كثيرة.
الضرب الثاني: الإيجاز بالقصر
وهو زيادة المعنى على اللفظ، وحقيقته: وقوع الجملة على محتويات كثيرة، بالنوع، أو الشخص، وهو نوعان:
__________
(1) سورة عبس آية 2217.
(2) الشاعر: هو على بن جبلة، ويعرف بالعكوك شاعر مشهور كان ضريرا سهل النظم مجيدا للوصف، مدح المأمون، وحميدا الطوسى والحسن بن سهل، ولد سنة 160وتوفي 213هـ. انظر الشعر والشعراء ص 550، ط أوروبا وطبقات الشعراء لا بن المعتز ص 76.(1/231)
النوع الأول: ما ليس على لفظ «أفعل» نحو قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (1) {أُولََئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (2) {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (3) {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} (4) الآية. ولما سمعها الوليد بن المغيرة (5) قال: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر». ومنه: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} (6) {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مََا غَشِيَهُمْ} (7) {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} (8).
وقوله عليه السلام: «الدين النصيحة» (9) ونظيره من كلامه كثير في كتاب الشهاب وغيره.
وقول عليّ رضي الله عنه: «تحققوا تلحقوا».
وقول العرب: القتل أنقى للقتل.
وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا يقول لآخر: كفاك الله ما أهمّك. قال: هذه البلاغة.
وفي دعاء بعض الأعراب: «اللهم هب لي حقّك، وأرض عني خلقك» وهذا الكلام وأمثاله، لو فصلت معاني محتملاته، لكان أضعاف لفظه.
النوع الثاني: ما كان بلفظ أفعل التفضيل بين شيئين لا يشتركان في الصفة
__________
(1) سورة البقرة آية 179.
(2) سورة الأعراف آية 199.
(3) سورة الأنعام آية 82.
(4) سورة النحل آية 90.
(5) هو الوليد بن المغيرة المخزومي، كان موسرا، وناصب الإسلام العداء، الكشاف 4/ 587.
(6) سورة الحجر آية 94.
(7) سورة طه آية 78.
(8) سورة الروم الآية 44.
(9) سنن أبي داود 3/ 393.(1/232)
المفضل فيها، كقوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكََاناً} (1) {وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوََاباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (2) أي: ثواب الكفار ومردّهم.
وقوله: {قُلْ أَذََلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (3) أي جهنم خير أم الجنة.
{أَذََلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (4) ونحو هذا.
ولتوجيهه طريقان:
أحدهما: أنه على جهة التهكم لهم، والاستهزاء بهم، كما يقول الملك لخارجي ظفر به فعاقبه: أهذا العقاب خير، أم خلعة سنية، ومركب وطيء؟ تنديما له على المعصية.
الثاني: أنه كقول العرب: «العسل أحلى من الخلّ» و «الصيف أحرّ من الشتاء» أي: حر الصيف في بابه أبلغ من برد الشتاء في بابه، فيكون التفضيل بين مرتبتين، كل واحدة منهما بالتقدير، كما لو فرض حر الصيف في أنهى درجاته، وبرد الشتاء دون نهايته بدرجة، فلو فرض الحر كذلك، كان كاملا أحرّ منه ناقصا، بالدرجة المذكورة.
وربما توهم بعض من لا تمييز له، مثل هذه التفضيلات خلفا من القول، وإنما الخلف في فهمه الحاكم عليه بوهمه.
__________
(1) سورة مريم آية 75.
(2) سورة مريم آية 76.
(3) سورة الفرقان آية 15.
(4) سورة الصافات آية 62.(1/233)
النوع السادس: في الإطناب
وهو عند أبي هلال العسكريّ (1) عكس الإيجاز لأنه قال: الإطناب: بيان، والبيان: إنما بلوغ بالإشباع.
والإيجاز له موضع وهو للخواص، والإطناب له موضع وهو للخواص والعوام.
وعند ابن الأثير (2): هو المبالغة في الكلام التي هي أعمّ من التطويل والإشباع إذ قد تكون المبالغة بوضع الماضي موضع المضارع وعكسه، ونحوه مما يذكر في بابه.
فالإطناب نوع من أنواع المبالغة.
قال: وفائدته زيادة التصوير للمعنى المقصود إما حقيقة، كقوله تعالى: {مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (3) فقوله في جوفه، إطناب معناه معنى التأكيد، قلت: ونظيره {وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ} (4).
وإما مجازا، نحو: {وَلََكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (5) تحقيقا لإضافة العمى إلى القلب بطريق المجاز لئلا يسبق الوهم إلى حقيقة المعنى الذي محله البصر، وهذا حاصل كلامه.
والذي يظهر في صحته قول أبي هلال.
وأقول في تقريره: إن الإطناب تطويل (6) اللفظ والمعنى جميعا للمبالغة في الإفهام، والإيصال إلى الأوهام.
__________
(1) هو الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري ومن أشهر كتبه الصناعتين وجمهرة الأمثال ت 395هـ وله إضافات في علم البديع. انظر الصناعتين ص 191.
(2) الجامع الكبير ص 151.
(3) سورة الأحزاب آية 4.
(4) سورة الأنعام الآية 38.
(5) سورة الحج الآية 46.
(6) في الأصل: إن الإطناب تطوّل اللفظ والمعنى جميعا، وهو تحريف من النساخ.(1/234)
وتناسب اشتقاقه من أطناب الخيمة، وهي معروفة، إذ الغالب عليها الطول بالنسبة إلى غيرها من حبال الخيمة، وبيان ذلك بالقسمة:
إن لفظ الكلام ومعناه، إما أن يتفاوتا أو يتطابقا.
فإن تفاوتا: فإما أن يكون اللفظ أطول من المعنى، وهو التطويل، وهو مذموم إذ اللفظ الزائد عما يطابقه في المعنى هدر.
أو دونه وهو إيجاز القصر.
وإن تطابقا، فإما أن يكون تطابقهما في جانب الإيجاز، أي: يكون اللفظ والمعنى قصيرين، وهو التقدير (1)، وقد سبقا.
أو في جانب الإطالة، وهو أن يكونا طويلين، وهو الإطناب. فتبين بهذا أن الإطناب ضد الإيجاز من حيث الطول والقصر، وضد التطويل من حيث التطابق والتفاوت، وقد أشار أبو هلال إلى هذا بقوله: «من استعمل الإيجاز في موضع الإطناب، والإطناب في موضع الإيجاز فقد أخطأ. والإطناب بلاغة والتطويل عيّ» (2).
ورد ابن الأثير على أبي هلال رأيه بتساؤلات واعتراضات طويلة ما أظن لها حاصلا، ولم أر الإطالة بذكرها، وما ذكره من صور الإطناب ليس لديه إلمام بها، إنما هو من قبيل التأكيد. وأحسن ما وصل إليه الإطناب على رأينا ما اشتهر بين العلماء المتأخرين من شروح الكتب المختصرة: كالحاوي للشافعية، والوافي للحنفية، والمحاسن للمالكية، والنهاية الصغرى للحنابلة، وكتب ابن الحاجب في العربية والأصول، فإن هذه الكتب في رتبة الإيجاز، وشروحها في رتبة الإطناب، على ما عرفناه به. وإن تفاوت الكتب المذكورة وشروحها في الرتبتين، والله أعلم.
__________
(1) ص 151.
(2) الصناعتين ص 190ط عيسى الحلبي.(1/235)
النوع السابع: في توكيد الضمير المتصل بالمنفصل
نحو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (1) وقمت أنا وزيد.
والنحاة اختلفوا في وجوبه إذا عطف عليه ظاهر من جهة العربية.
فمن أوجبه قال: لأنه بدونه، كالعطف على بعض اللفظ.
ومن أجازه احتج بوقوعه في كلامهم كثيرا.
أما من جهة الصناعة التي نحن فيها، فالتوكيد أولى لأنه أبلغ، كقوله تعالى:
{إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (2) فتأكيد السحرة ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى، حيث لم يقولوا «وإما أن تلقي أنت» دليل على أنهم أحبوا التقدم في الإلقاء لعلمهم بأنهم يأتون بسحر عظيم تتقرر عظمته في أذهان الحاضرين، فلا يرفعها ما يأتي بعدها على زعمهم، وإنما ابتدءوا بموسى عليه السلام فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم، وأهل الفضل عليهم، أو على جهة إظهار القوة والإنصاف.
فإن قلت: لم لم تؤكد في قوله «إما أن نكون، وإما أن تكون أول من ألقى»؟
قلت: استغناء عن التأكيد بالتصريح بالأولية.
وكقوله تعالى لموسى عليه السلام: {لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ} (3) فإنه أبلغ في نفي الخوف عنه، وإثبات الاستعلاء عليهم من ستة أوجه:
أحدها: أنه استأنف إخباره بالعلو، ولم يجعله علّة لانتفاء الخوف، فيقل لأنك أنت الأعلى، بل نفى عنه الخوف، وأثبت له الاستعلاء مطلقا، وهذا يشبه ما ذكره
__________
(1) سورة البقرة آية 35.
(2) سورة الأعراف آية 115.
(3) سورة طه آية 68.(1/236)
اللغويون من أن قول الملبّي: «إن الحمد والنعمة لك» إنّ كسر همزة إنّ أولى لأنه أعمّ لكونه مستأنفا.
الثاني: إثباته بيان المؤكدة، ولم يجعل الكلام مبتدأ وخبرا.
الثالث: التوكيد المذكور، ولم يقتصر على أحد الضميرين، فيقل «إنك الأعلى» أو «فأنت الأعلى».
الرابع: تعريف «الأعلى» ليفيد استغراقه رتبة العلو، ولم ينكّره إذ لو نكره لم يفد اختصاصه بالعلو.
الخامس: مجيئه على أفعل التفضيل، ولم يقل: «العالي».
السادس: إثبات العلية له بلفظ العلو لأنه أخص من لفظ العلية.
فإن قلت: لو كان هذا التوكيد أبلغ، لورد عند ذكر الله نفسه في كتابه إذ هو أحق بالمبالغة، لكنه لم يرد، حيث قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ولم يقل «إنك أنت» فلا يكون هذا التوكيد أبلغ.
قلت: فائدة استعمال هذا التوكيد تقرير ما كان خفيا، وإثباته في النفس كتقديم السحرة في الإلقاء، واختصاص موسى بالاستعلاء (2)، وقدرة الله تعالى ثابتة مستقرة في نفوس المخاطبين بهذا الكلام، فلا ضرورة إلى تأكيدها.
فإن قلت: هذا ينتقض بقوله: {وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلََّامُ الْغُيُوبِ} (3) وإن كان عليه ثابتا لا يحتاج إلى تقرير، فهلا كان الموضعان شرعا واحدا، إما في نفي التأكيد أو في إثباته.
قلت: الجواب من وجهين:
الوجه الأول: ذكره ابن الأثير، وهو: أن ما كان مستقر الثبوت كقدرة الله
__________
(1) سورة آل عمران 26.
(2) في الأصل: واختصاص موسى بالنسبة إليه بالاستعلاء. وهي زيادة لا موضع لها.
(3) سورة المائدة آية 116.(1/237)
وعلمه ونحوهما، إن أكد فزيادة مبالغة (1)، وإن لم يؤكد فلاستغنائه بنفسه عن التوكيد، وذلك لا يوجب نقض ما قلناه.
قلت: وهذا قريب، ومثاله من جهة الحسّ: أن تبسط حصيرا والريح ساكنة، تعلم قطعا أنها لا تقوى على إزالته، فإما أن تنقله بأخرة ونحوه احتياطا، وإما أن لا تنقله معه لما علمناه.
الوجه الثاني: وهو المختار، أن قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثناء منه على نفسه. وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلََّامُ الْغُيُوبِ} حكاية لثناء عيسى عليه السلام، وفرق بين ثناء العبد على سيده، وثناء السيد على نفسه إذ قد تنزل فيه المبالغة لتمام تصرفه في نفسه من تلك الجهة، والعبد ينبغي له المبالغة في ذلك، وأقل مراتبه أن يكون حسن أدب، ألا ترى أن الإنسان قد يثني على نفسه فيقول «لعمري لست بجبان ولا بخيل» ولو أثنى عليه عبده أو غيره بذلك، لكان من حسن الأدب المبالغة فيه، فيقول «إنك لأسد ثائر عند اللقاء، بحر زاخر عند العطاء»، ولهذا لما ضايق الأنصار النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألونه العطاء، حتى خطفت الشجرة رداءه، قال:
«ردّوا عليّ ردائي، فو الذي نفسي بيده لو أن لي مثل هذه العضاة نعما، لقسمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا» (2). ولما وصفه بعض الصحابة رضي الله عنهم بذلك، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الريح المرسلة. وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
وقال علي رضي الله عنه: كنا إذا اشتد البأس اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان
__________
(1) الجامع الكبير ص 155.
(2) هو رواية محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم: أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه الناس مقفلة من حنين فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا، والعضاة: شجر ذو شوك. أخرجه البخاري. انظر فتح الباري ابن حجر 6/ 375ط مصطفى الحلبي.(1/238)
يكون أقربنا إلى العدو، وهذا أبلغ من بيانه بذلك على نفسه، فكذلك الله تعالى، لما أثنى على نفسه بالقدرة، لم يؤكد.
وعيسى صلّى الله عليه وسلّم لما أثنى عليه بالعلم أكّد استعمالا لأدب العبودية بين يدي عزة الربوبية، وهذا أحسن من جواب ابن الأثير، لكن جوابه أشمل وأعم.
ويمكن الجواب بالفرق بين القدرة والعلم، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن القدرة أخص، إذ كل مقدور معلوم، وليس كل معلوم مقدورا إذ المستحيل معلوم، ولا يوصف بالمقدور به، ولا يدخل تحت القدرة، فاستغنت بقوة الأخصية عن التأكيد، بخلاف العلم.
الثاني: أن العلم أخفى من القدرة إذ العلم صفة للنفس، والقدرة صفة لمجموع الذات، ولهذا كثر الخلاف في العلم، على ما عرف في الكلام، ولم يقع الخلاف في القدرة إلا بيننا وبين القائلين بأن الصانع مؤثر بالطبع والإيجاب، لا بالقدرة والاختيار.
فإن قلت: فهذا يقتضي عكس ما ذكرت لأن الخلاف في العلم إنما هو في كيفيته مع الاتفاق على وجود حقيقته، والخلاف في القدرة في وجود حقيقتها، وما اتفق على وجوده أظهر مما اختلف فيه، فدل على أن العلم أظهر.
قلت: الخلاف في القدرة ليس من جهة الظهور والخفاء، بل من جهة أن ثبوتها للصانع يستلزم عند هؤلاء محالا، وحينئذ لا يقتضي ما ذكرت.
النوع الثامن: في استعمال العام نفيا والخاص إثباتا.
وهو أبلغ وأدل على المقصود، كقولنا «لا حيوان» يدل على أن لا إنسان ضرورة لاستلزام انتفاء اللازم انتفاء الملزوم كقولنا: «أن لا إنسان لا يدل على انتفاء الحيوان، إذ انتفاء الملزوم، لا يدل على انتفاء اللازم، وقولنا «إنسان» يدل على وجود الحيوان لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم، وقولنا «حيوان» لا يدل على وجود
الإنسان لأن وجود اللازم لا يستلزم وجود الملزوم، وهذا العموم والخصوص يقع تارة في الماهيات، وتارة في الأعداد، وتارة في المقادير، وقد يقع في غير ذلك.(1/239)
وهو أبلغ وأدل على المقصود، كقولنا «لا حيوان» يدل على أن لا إنسان ضرورة لاستلزام انتفاء اللازم انتفاء الملزوم كقولنا: «أن لا إنسان لا يدل على انتفاء الحيوان، إذ انتفاء الملزوم، لا يدل على انتفاء اللازم، وقولنا «إنسان» يدل على وجود الحيوان لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم، وقولنا «حيوان» لا يدل على وجود
الإنسان لأن وجود اللازم لا يستلزم وجود الملزوم، وهذا العموم والخصوص يقع تارة في الماهيات، وتارة في الأعداد، وتارة في المقادير، وقد يقع في غير ذلك.
مثال الأول: قوله تعالى: {ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} (1) ولم يقل بضوئهم لأن الضوء أخص إذ هو فرط الاستنارة، ويدل عليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} (2) والكلام في قوة الثاني إذ إذهاب الشيء كنفيه، ونفي الأعم أبلغ لاستلزامه نفس الأخص، ولو قال «بضوئهم» لأفاد ذهاب خصوصية الضوء بقاء النور. وكذا قوله: {ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل «أذهب الله نورهم»، لأن الذهاب بالشيء، أخص من إذهابه، إذ فيه معنى المصاحبة والاحتجار (3) بالمذهوب به، وليس ذلك في الإذهاب، وهذا العموم والخصوص في ماهية الفعل، فهو من هذا القسم.
ومثال الثاني: الجمع والإفراد فالجمع أخص، لاستلزامه المفردات، وقولنا: «ما عندي رجل أو تمرة» أبلغ في نفي جنس الرجل والتمر من قولنا «ما عندي رجال أو تمر» وقولنا «عندي رجال أو تمر» أبلغ في إثباتهما من قولنا: «عندي رجل أو تمرة» بل هذا لا يدل أصلا على غير المفرد.
وابن الأثير (4) خص هذا النوع بالأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي بين جمعها ومفردها تاء التأنيث، كتمرة وتمر.
ولا أرى لهذا التخصيص فائدة إذ جمع الشيء أخص من مفرده مطلقا كما سبق، ثم ضرب لها مثلا لبس بنص فيه، وهو قول نوح لقومه: {لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ} (5) ولم يقل: ليس بي ضلال لأن الأول أبلغ في نفي الضلال من الثاني، كما قال: ما لي تمرة في جواب: ألك تمر؟، وهذا بناء منه على أن ضلالة اسم مفرد، لكن يحتمل أنه اسم
__________
(1) سورة البقرة آية 17.
(2) سورة يونس آية 5.
(3) الاحتجار: الاجتماع.
(4) الجامع الكبير ص 171، المثل السائر 2/ 211.
(5) سورة الأعراف آية 61.(1/240)
جنس مصدر، كالجهالة والسفاهة بمعنى الضلال، والجهل، والسفه، وبهذا التقدير لا يكون المثال مطابقا.
ومثال الثالث: قولنا: مربع عرضه مائة ذراع، لزم أن يكون طوله مثلها أو أكثر إذ الطول لا ينقص عن العرض، ولو قال: طوله مائة لم يلزم ذلك لجواز أن يكون العرض أنقص، فالعرض إذن أعم لأنه يكون مساويا للطول، ودونه، وأكثر منه، والطول أخص لأنه لا يكون إلا مساويا أو أكثر، ولهذا قال سبحانه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} (1) كأنه قال: هذا عرضها، فما ظنكم بطولها، ولو قال: طولها السموات والأرض، لم يكن فيه مبالغة لجواز أن أن يكون عرضها أقل من ذلك.
فإن قلت: فذكره العرض مع جواز مساواة الطول له على ما قررت، غير مفيد إذ بتقدير التساوي لا يكون بينهما تفاوت، فيكون أحدهما قائما مقام الآخر في الذكر، ولا معنى للتخصيص.
قلت: لما كانت المقادير المشاهدة، غالبها طوله أكثر من عرضه، ذكر العرض لينقاس الغائب على الشاهد، والأصل عدم المساواة، وجوازها لاستلزام وقوعها.
فإن قلت: السموات والأرض على ما تقدر في حكم الهيئة على شكل كرّيّ: وهو ما استوى بقدر محيطه ومركزه من جميع جهاته، ومثل ذلك: لا طول له ولا عرض فكيف يجعل له طولا وعرضا يشبه به طول الجنة وعرضها؟
قلت: الجواب من وجوه:
أحدها: أن كرّية السموات والأرض إنما مستندها المقدمات الرصدية والهندسية وذلك قد يخطئ ويصيب، ألا ترى أن المتكلمين طعنوا في مذهب المنجمين بالطعن في
__________
(1) سورة آل عمران آية 123(1/241)
مقدمات الرصد، الذي هو مستند عليهم، وحينئذ يجوز أن يكون لهما طول عرض، الله أعلم بهما: {أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1).
الثاني: سلمنا كرّيتهما، لكن الجواب من وجهين:
أحدهما أنه جعل لهما عرضا بالنسبة إلى أوهام العرب، فإنهم كانوا ليعتقدون لهما عرضا، ولهذا قالوا: لقد ذهبتم فيها عريضة، يعني: الأرض، والقرآن نزل مخاطبا لهم بما كانوا يعتقدون، كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهََا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (2) وإن لم يكن في الجنة بكرة ولا عشي.
الثاني: أن المراد: العرض التقديري، لا الحقيقي، ألا ترى أن أهل الهيئة مع اعتقادهم كريّة السماء والأرض، فرضوا فيهما خطوطا متقاطعة قسموهما بها إلى أربعة أقسام: جنوبا، وشمالا، وشرقا، وغربا، وأطلقوا على ذلك اسم العرض والطول، كل ذلك بالتقدير، وإن لم يعتقدوا لذلك تحققا.
الثالث: أنه أراد بالعرض: السعة، قال بعض المفسرين: فيكون تقديره: عرض الجنة كسعة السموات والأرض الكريّين، ويلزم حينئذ أن يكون طول الجنة أكبر من ذلك، كما سبق، والله أعلم.
النوع التاسع: في تفسير المبهم
بعد إبهامه، طلبا لتفخيمه، وإعظامه لأنه يذهب بالسامع كل مذهب، ثم يأتي التفسير، فيخص بعض المذاهب، وقد استعدت النفس لشوقها إلى معرفة المبهم لسماع التفسير، فيكون أبلغ وأسد موقعا، ولهذا تقول العامة «إذا أردت نعمه: قل له ولا تتمه».
__________
(1) سورة الملك آية 14.
(2) سورة مريم آية 62.(1/242)
فمنه قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) أبهمه، لتتوفر الدواعي على معرفته، ثم فسره بقوله {صِرََاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وتنبيها على أن صراطهم: هو المستقيم.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ} (2) أبهمها لذلك، وتفخيما لشأنها، ثم فسرها بقوله {مِنَ الْبَيْتِ} ولم يقل: قواعد البيت، لذلك.
ومنه قول فرعون لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبََابَ} (3) فأبهمها تفخيما لشأنها في علوها، وتشويقا لهامان إلى معرفتها ليكون أجدر بالمسارعة إلى بناء الصرح، ثم فسرها بقوله {أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ.}
ومنه قول مؤمن آل فرعون: {يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ} (4) فأبهمه لذلك، ثم فسره بتحقير شأن الدنيا، والإعراض عنها، وتعظيم الآخرة والقصد إليها، وختم ذلك بذكر الوعد والوعيد، والثواب والعقاب.
ونظير هذه الأمثلة، أن تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأجودهم؟: زيد، وهو أبلغ من قولك: زيد أكرم الناس وأجودهم، ولهذا قال الله عزّ وجل: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ؟} (5) ثم فسرها: بالإيمان بالله والجهاد في سبيله.
ووقع مثل ذلك في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومن هذا الباب: تفسير الضمير بذكر من هو له، نحو قولهم: ربّه رجلا، ومنه {وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} (6).
__________
(1) سورة الفاتحة آية 5.
(2) سورة البقرة آية 127.
(3) سورة غافر آية 36.
(4) سورة غافر آية 38.
(5) سورة الصف آية 10.
(6) سورة يونس آية 61.(1/243)
وبذكر الجملة، وتسمى: ضمير الشأن والقصة، نحو: {إِنَّهُ أَنَا اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) و {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (2).
ومنه الاستثناء العددي، نحو: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} (3) تعظيما لشأنه، والأمر الذي صبر عليه، ليكون أبلغ في تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم فسر حقيقة مقدار لبثه بقوله «إلا خمسين عاما» ولو قال ابتداء: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، لم يكن كالأول في تحصيل الفائدة المذكورة.
أما الإبهام بدون تفسيرها، فكثير نحو: {إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) فالتي صفة موصوف محذوف لا تعلم حقيقته أهي الطريقة، أو الحالة، أو الملّة، أو الجنة؟ إلا أن المعنى مفهوم من حيث الجملة إذ معناه: يهدي إلى الخير والرشاد، كما قال في سورة النمل: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (5).
النوع العاشر: في التعقيب المصدري
وهو تعقيب بالمصدر، إشارة إلى تعظيم شأنه، أو ذمه وسبابه.
مثال الأول: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} إلى قوله: {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (6) أشار بذلك إلى تعظيم قدرته التي قدرها على النفخ في الصور، وفزع من في السموات والأرض، وإتيانهم صاغرين، وتسيير الجبال كالسحاب، كأنه قال: انظروا صنع الله ما أعظمه!!، وكذا سائر المصادر المؤكدة نحو: {صِبْغَةَ اللََّهِ} (7) أي: بل نتبع ملة إبراهيم: صبغة الله، أو عليكم صبغة
__________
(1) سورة النمل آية 9.
(2) سورة الإخلاص آية 1.
(3) سورة العنكبوت آية 14.
(4) سورة الإسراء آية 9.
(5) سورة النمل آية 77.
(6) سورة النمل الآية 87، 88.
(7) سورة البقرة آية 138وتمام الآية «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون».(1/244)
الله إغراء أو اتبعوا صبغة الله، أي: دينه، ووعد الله، أي: ارتقبوا وعد الله بغلبة الروم، وفتح المؤمنين، وفطرة الله، أي: الزموا (1) دين الله، وكل هذا تفخيم لهذه الجمل بتعقبها بهذه المصادر.
وكما يوصف رجل بعلم أو زهد، أو عمل، أو غير ذلك من الفضائل، فيقال:
عطاء الله.
مثال الثاني: عكس هذا المثال: أن يوصف رجل بصفة ذم من زنا، أو شرب، أو زندقة، ونحوها من الرذائل، فيقال: صنع الشيطان المضل، الفتان، الذي يخلب الألباب، ويوقع في أسباب العذاب.
النوع الحادي عشر: في وضع الظاهر موضع الضمير تعظيما أو تحقيرا
فالأول كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفََاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى ََ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمََا أَخْلَفُوا اللََّهَ مََا وَعَدُوهُ} (2) ولم يقل بما أخلفوه تنبيها على تعظيم حربهم بإخلافهم وعد الإله العظيم.
وكقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللََّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللََّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} (3)
لم يقل: ثم ينشئ تنبيها على عظيم قدرته، واحتجاجا عليهم بأنه من فعل الله، فهو لا بد أفعل للإعادة (4)، وأظهر اسمه عند ذكرها لأن الإظهار أدل من الإضمار.
ونحوه: «جاءنا بنو تميم يوفضون، وابتدروا نحونا يركضون، وتناجد (5) بنو تميم علينا بحملة، فلذنا بالفرار وولينا الأدبار» ولم يقل: تناجدوا تنبيها على شجاعتهم، وصعوبة ممارستهم.
__________
(1) في الأصل: الزم دين الله، وهو لا يتمشى مع السياق.
(2) سورة التوبة آية 77.
(3) سورة العنكبوت آية 19، 20.
(4) في الأصل: بأن من فعل الله لا بد أفعل الإعادة، وصحة التركيب ما أثبتناه.
(5) يوفضون: يسرعون. وتناجد: تعاون.(1/245)
والثاني: كقوله تعالى: {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالُوا مََا هََذََا إِلََّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمََّا كََانَ يَعْبُدُ آبََاؤُكُمْ، وَقََالُوا مََا هََذََا إِلََّا إِفْكٌ مُفْتَرىً، وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1) فأظهر ذكرهم ذما لهم خصوصا وقد انضم إلى قولهم هذا مبادهتهم به، وقد تقدم وجه قبحها.
النوع الثاني عشر: في التقديم والتأخير من جهة المعنى
وقد قدمنا جملة منه في شجاعة العربية (2)، إلا أنه متعلق باللفظ والمعنى جميعا، وقد كان الأليق ذكر هذا عقيب ذلك جمعا بين المتناسبين، إلا أنا تابعنا ابن الأثير في ترتيبه في غالب الكتاب.
فمنه تقديم السبب على المسبّب، نحو: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) فقدموا العبادة لأنها سبقت حصول الإعانة، فتقديمها أجدر بتحصيل المقصود من العكس.
ولو مدح رجل رجلا، ثم سأله، كان أرجى لإجابة سؤاله من تقديم السؤال.
ومنه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً} (4) فقدّم إحياء الأرض، لأنه سبب حياة الأنعام والناس، وقدم إحياء الأنعام لأنه مما تحيا به الناس بأكل لحومها وألبانها.
ومنه تقديم الأعجب فالأعجب: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} (5) ولو عكس، لكان من تقديم الأكثر فالأكثر، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ} (6) فهذه الأصناف من الناس في الكثرة والقلة على هذا الترتيب.
__________
(1) سورة سبأ آية 43.
(2) ص 170154من هذا الكتاب.
(3) سورة الفاتحة آية 5.
(4) سورة الفرقان آية 49.
(5) سورة النور آية 45.
(6) سورة فاطر آية 32.(1/246)
ولو عكس، لكان من باب تقديم الأفضل فالأفضل، وهم في الأفضلية على هذا الترتيب.
وعلى هذا، فمتى تفاوت الشيئان فصاعدا في وصفين، فلك تقديم أيهما شئت باعتبار رجحانه في وصفه، لاستوائهما يكون كل منهما راجحا من وجه، مرجوحا من وجه، نعم إن كان تقديم أحدهما أنسب لسياق الكلام ومطلعه، كان تقديمه أولى، فمن ذلك آية النور، تقديم الأعجب فالأعجب فيها أنسب لما قبله من سياق الكلام ألا ترى أنه تعالى ذكر عجائب مصنوعاته تنبيها على قدرته بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُزْجِي سَحََاباً} (1) ثم ذكر العجائب العلوية من: برد، وبرق، ومطر، وغير ذلك، ثم ذكر الدواب، فكان المناسب تقديمه ما ذكر.
ومنه آية الملائكة، فإنها سيقت لبيان استحقاقه الحمد، وتذكير العباد نعمه عليهم، وتحذيرهم من متابعة الشيطان، وإنكار كلمهم وكفرهم عليهم، ثم عقب ذلك بذكر المخلوقات الكثيرة بقوله: {فَأَخْرَجْنََا بِهِ ثَمَرََاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهََا. وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا وَغَرََابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النََّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعََامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ كَذََلِكَ} (2) فناسب ذلك تقديم الظالم والمقتصد المفضولين. وتقديم الأكثر فالأكثر.
ومنه قوله تعالى: {لِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ. يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً. وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} (3) فقدم الآيات وإن كان من حقهن التأخير لأن هذه الآية ذكرت في سياق قوله: {وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهََا. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسََانَ كَفُورٌ} (4) فذمهم على الفرح بالرحمة والتبرم بالسيئة، ثم أشار إلى أنه المالك الحقيقي المطلق، وأنه تعالى: {فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} (5) سواء أساءهم أو أفرحهم وأن ذلك ليس بنافعهم، وكأن خلق الآيات مما
__________
(1) سورة النور آية 43.
(2) سورة فاطر آية 27، 28.
(3) سورة الشورى آية 49.
(4) سورة الشورى آية 48.
(5) سورة هود آية 107.(1/247)
يسوؤهم، كما أخبر عنهم بقوله: {وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ََ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (1) فقدم ذكرهن تنبيها على أنه قادر، ولما يشاء فاعل، وأن إرادتهم لا تأثير لها، ثم لما أخر الذكور ومن حقهم التقديم، تدارك أمرهم بجبر نقصهم، فعرفهم لأن التعريف أفضل من التنكير تنبيها على أن تقديم الإناث للعارض المذكور، لا لاستحقاقهن التقديم، فلما رجح المرجوح من جهة جبر الراجح من جهة، ثم أعطى بعد ذلك كل ذي حق حقه لزوال المانع بقوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً} (2) ثم قد علمت أنه في هذه الآية قدم ذكر السموات على الأرض لأن ملك السماء أعظم فتقديمه أدل على العظمة والقدرة والملكة.
وكذلك قدمها في سورة سبأ في قوله: {عََالِمِ الْغَيْبِ لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ} (3) لأن معلومات السماء أدق وأكثر، وهو أبلغ في الدلالة على كمال العلم.
وقال في يونس: {وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} (4)، فقدم الأرض لأنه صدر الآية بذكر أهل الأرض، ومن أمعن النظر، وجد لكل تقديم وتأخير في القرآن مقتضيا مناسبا، ولابن الدهان (5) في ذلك كتاب كبير حسن، وفيما ذكرناه تنبيه على ما أهملناه.
النوع الثالث عشر: في التخلص والاقتضاب
أما التخلص: فهو الانفصال من شيء إلى غيره، والمراد به هنا، خروج المتكلم من
__________
(1) سورة النحل الآية 58.
(2) سورة الشورى الآية 50.
(3) سورة سبأ الآية 3.
(4) سورة يونس الآية 61.
(5) هو محمد بن علي عمر المازني الدهان، كان يعمل في صناعة الدهان وينظم الشعر الرقيق ويلحنه، توفي 721هـ. فوات الوفيات لا بن شاكر 2/ 249.(1/248)
معنى إلى غيره بغتة، كقول المتنبي يصف وقوفه بالربع، وما يجده من الألم ساعة الوداع:
وقفنا به والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في صدر فيلق (1)
وكقوله:
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا (2)
كقوله يصف الزمان بأنه لا ينزل سرورا إلا ضمنه ضده وقابله به:
حتى أبو الفضل بن عبد الله، رؤ ... يته المنى وهي المقام الهائل (3)
ولو سمي مثل هذا «البهت» لكون السامع يبهت له، لكان اسما مناسبا، وكذا كتب اسمه قبل أن أعلم له اسم التخلص.
وهو من الناظم دليل براعته وتمكنه في صناعته، بخلاف الناثر، إذ هو مطلق العنان فلا يشق ذلك عليه.
ومن أمثلة التخلص قول علي بن الجهم (4):
وليلة كحلت بالسهد مقلتها ... ألقت قناع الدجى في كل أخدود
قد كاد يغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباس سنا من وجه داود (5)
__________
(1) وفي الديوان ص 336.
نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
من قصيدة مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منى وما بقي
(2) من قصيدة يمدح فيها المغيث العجلي.
(3) من قصيدة يمدح بها القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله بن الحسين الأنطاكي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أو اهل
ديوانه 164.
(4) هو أبو الحسن علي بن الجهم مدح المتوكل وتوفي 249هـ، وفيات الأعيان 1/ 384تاريخ بغداد 11/ 367.
(5) ديوان علي بن الجهم 128.(1/249)
وقول ابن نباتة الشاعر (1):
كأن الشموع وقد أطلعت ... من النار في كل رأس لسانا
أنامل أعدائك الخائفين ... تضرّع تطلب منك الأمانا
وقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي (2):
وصافية تعشي العيون بنورها ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية بيننا ... من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذرّ قرن الشمس حتى رأيتنا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام (3)
ويحكى أن أحمد بن هشام هذا عاتب إسحاق، فقال: ما لي ولك يا إسحاق حتى تهجوني، فقال له: لا شيء إلا أنك جلست على طريق القافية.
وقول البحتري:
وأغرّ في الزمن البهيم محجّل ... مذ رحت منه على أغرّ محجّل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول (4)
وقول أبي تمام في صفة الفرس:
ولو تراه مشيحا والحصى قلق ... بين السنابك من مشي ووجدان
أيقنت إن لم تصدق أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ومن أبدع التخلصات قول ابن الزمكدم، وقد سأله قرواش أن يمدحه، ويهجو ندماءه: البرقعيدى المغني، وسليمان بن فهد الوزير، وأبا جابر الحاجب، فقال:
__________
(1) لم يعثر عليه في ديوانه.
(2) وهو المعروف بابن النديم الموصلي، من كبار المغنين، وله دراية بالفقه والحديث وعلم الكلام، وله كتاب كبير في الغناء، توفي 235هـ. الأغاني 5/ 258ووفيات الأعيان 1/ 69.
(3) أحد قواد الخليفة المأمون. النجوم الزاهرة 2/ 149.
(4) ديوان البحتري 2/ 217من قصيدة يمدح بها محمد بن علي بن عيسى القمّي الكاتب، ومطلعها:
أهلا بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي نهواه أو لم يفعل(1/250)
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه (1)
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وقد قال بعض أهل الصناعة، لو تحدى هذا الشاعر بهذه الأبيات الشعراء، لأعجزهم.
وأما الاقتضاب: وهو افتعال من القضب، وهو: القطع، ومنه سمي السيف:
قاضبا، والرطبة قضبا، وهو ضد التخلص: وهو الخروج من معنى إلى غيره من غير تعلق بينهما لفظي، ولا ربط معنوي، وهو مذهب قدماء الشعراء: كامرئ القيس والأعشى وأضرابهما. ألا ترى أمرأ القيس حيث فرغ من حكاية عنزة وما بعدها قال: (2):
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
إلى أن فرغ من حكايتها، ثم قال:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
إلى أن فرغ منه، ثم قال:
وقربة أقوام جعلت عصامها (3)
__________
(1) الأولق: الجنون.
(2) من قصيدة مطلعها:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل
ديوانه 13.
(3) زاد الطوسي والسكري وأبو سعيد الضرير وابن الأنباري والزوزني والتبريزي والقرشي هذا البيت بعد قول امرئ القيس:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بأمراس كتان إلى صم جندل
ذيل الديوان ص 372.(1/251)
ثم ركب للصيد بقوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
إلى أن فرغ منه ثم قال:
أحار ترى برقا كأن وميضه (1)
إلى آخره، وبه ختم القصيدة، وكل ذلك اقتضاب.
ثم الاقتضاب ضربان:
أحدهما: فصل الخطاب، وهو قولهم: أما بعد، وهو عند بعضهم أحسن من التخلص لما فيه من التنبيه على الفرق بين المعنى الذي انتقل عنه، والمعنى الذي انتقل إليه.
والثاني: ما عداه، كقوله تعالى، بعد ذكر جماعة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {هََذََا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (2) إلى أن فرغ من صفة أهل الجنة، ثم قال: {هََذََا وَإِنَّ لِلطََّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (3) وهذا كما تحدث صاحبك، ثم تقول له، هذا مضى، وأما كذا وكذا، وتسوق له الحديث. وقد ذهب أبو العلاء محمد بن غانم الغانمي (4) إلى أن القرآن خال من الاقتضاب والتخلص، وهو باطل.
أما في الاقتضاب، فلما ذكرنا من وقوعه، وهو فيه كثير جدا.
وأما في التخلص، فلما نذكره، وهو قول إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لقومه «{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلََّا}
__________
(1) أثبتنا رواية الديوان في النص ديوانه 24.
وفي الأصل: أصاح تومى برقا أريك وميضه.
(2) سورة ص آية 49.
(3) سورة ص آية 55.
(4) الغانمي نسبة إلى جده غانم، وهو من أفاضل عصره، ومن مداحي نظام الملك، انظر دمية القصر للباخرزي ص 176.(1/252)
{رَبَّ الْعََالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي}» (1) إلى قوله {يَوْمَ الدِّينِ} (2) ثم تخلص إلى دعائه بقوله {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ} (3) إلى قوله: {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (4) ثم تخلص إلى وعظهم وتحذيرهم شدة ذلك اليوم بقوله: {يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (5)
ثم إن القرآن مشتمل على أمر، ونهي، وخبر، ووعد، ووعيد. وتراه يذكر بعض هذه الأنواع بعد بعض، ويخرج من بعضها إلى بعض، وذلك إما بتخلص أو اقتضاب، وأيا ما كان بطل قول الغانمي، وما أظنه كان حين قال هذا القول إلا نائما، والله أعلم.
النوع الرابع عشر: في المبادئ والافتتاحات
وأعلى مراتب هذا النوع وأحسنها، تضمين الكلام، نظما أو نثرا، المعنى المقصود به، كما يفعله الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في خطب كتبه، وكما حكي: أن ناقة على عهد المأمون ولدت شخص آدمي، فأمر بعض كتابه أن يكتب بذلك إلى البلاد فكتب: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام وذلك لأن افتتاح الكلام أول ما يقرع السمع، فإذا كان حسنا، توفرت الدواعي على سماع تمامه، وإلا أحجمت ومجّته الأسماع، ولا يقع منها موقعا، ولا يجد في النفوس موضعا.
وقد افتتح الله تعالى بعض سور كتابه بالحروف المقطعة ليقرع أسماع الكفار شيء بديع لم يعتادوه، فينصتوا لما بعده، فينبغي للشاعر إن كان مادحا أن يفتتح شعره، إما بنفس المدح، كقوله:
__________
(1) سورة الشعراء آية 77، 78.
(2) سورة الشعراء آية 82.
(3) سورة الشعراء آية 83.
(4) سورة الشعراء آية 87.
(5) سورة الشعراء آية 88و 89.(1/253)
صعود العلا إلا عليك حرام
وقوله:
بنانك من مغدودق المزن أهطل
أو شيء من الحكمة، نحو (1):
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أو يتغزل إما بأسماء الأماكن الرائعة، كالغوير والعقيق وزرود (2).
أو بأسماء النساء، نحو: سعاد وأمامة وزينب، إلا أن يكون في اللفظ استكراه، كقدور التي تغزل بها الأخطل، فعيب عليه ذكرها لاشتقاق لفظه من القدر، وإن كان إنما سميت بذلك لتجنبها الأقدار، نعم وإن كان الشاعر متعتبا على زمانه أو شاكيا إلى ممدوحه منه، جاز إظهار التعتب والتضجر، كقول البحراني (3):
أفي كل يوم للخطوب أصالي ... ألا ما لأحداث الزمان وما لي
وكقوله:
تجاف عن العتبى فما الذنب واجد ... وهب لصروف الدهر ما أنت واجد
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبه ... فلا عجب إن أسلمتك الأباعد
لأن في ذلك استنصارا بالممدوح، وسؤالا له المساعدة على كشف ما به، وتأهيلا له لذلك، وهو من أحسن المدح.
فمن حسن الافتتاحات قول البحراني في المديح:
وهب هجرة من بعد ما رث حالها ... وعاد إليها حسنها وجمالها
__________
(1) وتمام البيت: وتأتي على قدر الكرام المكارم. والبيت مطلع قصيدة للمتنبي يمدح بها سيف الدولة. انظر ديوانه ص 374ط لجنة التأليف.
(2) الغوير والعقيق وزرود: أسماء مواضع في بلاد العرب.
(3) سبقت ترجمته ص 125.(1/254)
وكقوله:
بيني فما أنت من جدّي ولا لعبي ... ما لي بشيء سوى العلياء من أرب
وقوله:
خذوا عن يمين المنحنى أيها الركب ... لنسأل ذاك السرب ما فعل السرب
وقول كعب (1):
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
وكقول المهيار:
أما وهواها عذرة وتنصّلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا
سعى جهده لكن تجاوز حدّه ... وكثّر فارتابت ولو شاء قلّلا (2)
فأبرز الاعتذار والتنصل في هيئة التغزل.
وقول بعض المتأخرين في مثل ذلك:
وراءك أقوال الوشاة الفواجر ... ودونك أحوال الغرام المخامر
فلولا ولوع منك بالصدّ ما سقوا ... ولولا الهوى لم أنتدب للمعاذر
وقال في أنو شروان الوزير وقد خلع عليه:
خلعت من الحدثان أحصن أدرع ... ولقد تبين على الكريم الأروع
وليجتنب في افتتاح المدائح والتهاني، ذكر الديار ورسومها وإقفارها ونحو ذلك مما
__________
(1) وتمام البيت: متيم إثرها لم يفد مكبول. قالها معتذرا مستعطفا طالبا من الرسول العفو والأمان. ديوانه ص 6 شرح السكري ط 1950.
(2) أمحل: قال المحال، والعذرة: المعذرة. من قصيدة يمدح بها الملك شاهنشاه ويعرض بأحد حساده، الديوان 30/ 194.(1/255)
يتطيّر به كتشتت الآلاف، وذم الزمان، كما افتتح أبو نواس قصيدته التي مدح بها الفضل بن يحيي:
أربع البلى إن الخشوع لباد (1)
فأنكر عليه الفضل ذلك وتطير به فلما بلغ قوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد
استحكم تطير الفضل. ويقال: إنه لم يمض بعد ذلك أسبوع واحد حتى أصيبوا.
وعندي، أن العتب مختص بافتتاحه القصيدة بربع البلى والخشوع، أما البيت الثاني، وهو وإن كان مما يتطير منه، إلا أن له ولنظائره وجها حسنا، وهو بيان تأثير وجود الممدوح طردا وعكسا فاعرفه.
وكافتتاح قصيدته التي مدح بها الأمين بقوله (2):
يا دار ما فعلت بك الأيام ... لم تبق فيك بشاشة تستام
وهي من أجود شعره، واجتهد أبو تمام مع تقدمه في صناعة الشعر على أن يأتي بمثلها، فلم يستطع، ولكن شانها قبح افتتاحها.
وكافتتاح إسحاق بن إبراهيم الموصلي (3) قصيدته التي أنشدها المعتصم يمدحه فيها، ويهنئه بإتمام القصر الذي بناه بالميدان، بقوله:
يا دار غيّرك البلى، ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟
__________
(1) ديوان أبي نواس ص 145. وتمام البيت: عليك وإني لم أخنك ودادي.
(2) ديوانه 298والشطر الثاني من البيت كما في الديوان ط الاستقامة.
ضامتك والأيام ليس تضام
(3) أحد علماء اللغة والغريب وأخبار الشعراء وأيام الناس توفي سنة 235إنباه الرواة 1/ 218والبلى: القدم، ليت شعري: ليت علمي.(1/256)
فتطير المعتصم من ذلك، وتغامز الحاضرون على إسحاق، وتعجبوا كيف فاته ذلك، مع معرفته وطول خدمته للملوك، ويقال: إنهم لما فصلوا عن ذلك المجلس لم يعد إليه منهم اثنان، بل خرج المعتصم إلى «سرّ من رأى» وخرب القصر. وقد كان اللائق بإسحاق أن يقول كما قال الخريمي (1):
ألا يا دار دام لك السرور ... وساعدك النضارة والحبور
أو كما قال أشجع (2):
قصر عليه تحية وسلام ... ألقت عليه جمالها الأيام
أو كما قال ابن التعاويذي:
أحق دار وأولى أن نهيئها ... دار على السعد قد شيدت مبانيها
وهذا أحسن الافتتاحات في هذا المعنى.
وقد أنكر ابن الأثير (3) على ذي الرمة (4) افتتاحه قصيدته البائية بقوله:
ما بال عينك منها الماء ينسكب؟
قال: لأن مقابلة الممدوح بمثل ذلك قبيح، وهذا وهم لأن هذه القصيدة ليس فيها مدح أحد، وإنما تضمنت شرح حاله في عشقه مية، ونحو ذلك، فهي كقول امرئ القيس:
قفا نبك (5)
__________
(1) هو أبو يعقوب إسحاق بن حسان، عرف بالخريمي لأنه كان متصلا بخريم بن عامر المري، وله مدائح في يحيى بن خالد بن برمك تاريخ بغداد 6/ 336والأغاني 3/ 196
(2) هو أشجع السلميّ، من بني سليم، اتصل بالبرامكة ومدحهم ومدح الرشيد والبيت مطلع قصيدة يمدح فيها الرشيد. الشعر والشعراء 373، طبقات الشعراء 117
(3) الجامع الكبير 188
(4) هو أبو الحارث غيلان بن عقبة المضري، أكثر شعره في بكاء الأطلال والتشبيب توفي سنة 117هـ.
وفيات الأعيان 2/ 440.
(5) والبيت مطلع معلقته، وتمامه.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل(1/257)
وقول الأعشى:
ودّع هريرة (1)
وإن كان معزيا أو راثيا، كان على عكس المادح، فيستحب له الافتتاح بما فيه تحزن وتضجر، وتذكر المنازل الداثرة، والجموع المشتتة ونحو ذلك، كقول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبه تتوجع؟ ... والدهر ليس بمعتب من يجزع (2)
وقول أبي الطيب (3):
الحزن يقلق والتجمّل يردع ... والدمع بينهما عصي طيّع
يتنازعان دموع عين متيّم ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
وقول البحراني:
غرام أثارته الحمام السواجع ... ونار جوى أذكت لظاها المدامع
وقلت إذا ما قلت حان ارعواؤه ... أتت نوب تأتي بهنّ الفجائع
وقوله يرثي أهل البيت:
يا باكيا لدمنة ومربع ... ابك على النبي أو دع
تحبّهم قلت وتبكي غير هم ... إنك فيما قلته لمدع
ورأيت بعض الحمقى قد جاء بمرثية في عزاء، وافتتاحها:
أتاك العيد يخدم بالتهاني ... يبشر بالسرور مدى الزمان
والله أعلم.
__________
(1) وتمام البيت:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
وهو مطلع القصيدة ديوانه ص 6.
(2) مطلع قصيدة أنشدها أبو ذؤيب الهذلي بعد أن هلك أولاده الخمسة بالطاعون. ديوان الهذليين ص 3ط الدار القومية.
(3) مطلع قصيدة يرثي بها فاتكا. ديوانه 506.(1/258)
النوع الخامس عشر: في خذلان المخاطب
وهو أمره بعكس المطلوب منه، كقوله تعالى:
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} (1).
{فَاعْبُدُوا مََا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (2).
{اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ} (3).
{فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} (4).
{لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا.}
كأنه قال: قد أمرتم بالإيمان فأبيتم، فأنتم مخذولون، من حقكم أن تؤمروا بضده، مع ما اقترن بذلك من الوعيد البليغ، وهو الذي يسمى: التهديد.
النوع السادس عشر: في قوة اللفظ لقوة المعنى
والمراد به: اختلاف المعاني قوة وضعفا لاختلاف الألفاظ قلة وكثرة، أو هيئة ووزنا.
ومثاله في الأسماء: الشقدف: للمحمل الصغير، والشقنداف: لما هو أكبر منه، على ما حكى الزمخشري في أول الكشاف (5)، ونحو: واد معشب ومعشوب، وماء غدق ومغدودق، فالثاني أبلغ لزيادة حروفه.
__________
(1) سورة الزمر آية 8.
(2) سورة الزمر آية 14.
(3) سورة فصلت آية 40.
(4) سورة الكهف آية 29.
(5) وعبارة الكشاف «وقال الزجاج: ومما طنّ على أذني من ملح العرب أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشقدف، وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت لرجل: ما اسم هذا المحمل؟ أردت المحمل العراقي، فقال: أليس ذلك اسمه الشقدف؟ قلت بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى». الكشاف 1/ 5ط الاستقامة.(1/259)
وفي الأفعال نحو: أعشب واعشوشب، وخشن الرجل واخشوشن، وقدر واقتدر، وحمق واستحمق.
وفي الحروف كما قالوا: الواو على الجمع، والفاء على الترتيب لكونهما على حرف واحد. وثم، لزيادة حروفها، دلت على الجمع والترتيب والتراخي.
ففي الكلام في فاعل وفعيل أيهما أبلغ؟ ذكر ابن الأثير فيه كلاما طويلا أنا ألخصه وأحققه، ثم أذكر ما عندي فيه.
قال (1): إن قضت العرب أن أحدهما أبلغ من الآخر، لزمنا المصير إليهم لأنهم أهل اللغة. وإلا فلنا أن نبحث عن ذلك، نحو: أن يكون مقيسا إذ اللغة ضربان:
مقيس وغيره، فإن لم يكن مقيسا، تلقيناه بالقبول والتقليد، كغيره، كما لو صرحوا بأحد الحكمين، وإن كان مقيسا ضربنا عليه بقداح القياس.
قال: وفاعل أبلغ من فعيل، لوجهين:
أحدهما: أن فاعلا مختص بالاسم، كضارب وقاتل. وفعيل مشترك بينه وبين اسم المفعول، كظريف وكريم وجريح، والمختص أقوى، كالحرف إذا اختص، عمل، وإذا اشترك، أهمل. ولأن الفاعل أقوى، والمختص بالأقوى أقوى.
لا يقال: قد جاء فاعل بمعنى مفعول، كماء دافق، أي: مدفوق، فما اختص.
لأنا نقول بل معناه: مندفق وتأويله على معنى مدفوق شاذ ضعيف قليل، وجمهور المفسرين على خلافه.
سلمناه، لكنه إنما ورد قليلا شاذا في نحو: {عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} (2) و {حِجََاباً مَسْتُوراً} (3) والشاذ القليل لا يقدح في الكثير المطرد.
__________
(1) الجامع الكبير ص 197194.
(2) سورة الحاقة آية 21.
(3) سورة الإسراء آية 45.(1/260)
الوجه الثاني: أن فاعلا أخص لبنائه من اللازم والمتعدي، نحو جالس وغالب، وفعيلا أعم لبنائه من اللازم فقط نحو: شريف وظريف، والأخص أقوى وأدل فيكون أبلغ.
فإن قيل: قد جاء فعيل بمعنى فاعل، نحو خطيب، وعليم، وقدير، وسميع، ونصير فاستويا في العموم والخصوص.
قلنا: فعيل في فاعل شاذ قليل دخيل عليه، بدليل خاطب، وعالم، وقادر، وسامع، وناصر، وهو الأصل فيه، والدخيل لا يعتبر.
ثم لو لم يكن إلا أن فعيلا خاص في المفعول، مشترك في فاعل لكفى في ظهور قوته وأبلغيته.
احتجّ الخصم بأن فعيلا تدل على الصفات اللازمة، كعليم وقدير، وفاعل على الصفات العرضية، كضارب وشارب، والملازم أقوى، فالدال عليه أقوى.
أجاب: بأن فاعلا يدل على الملازمة أيضا، كعالم وقادر، فاستويا، ويترجح فاعل بدلالته على اللازم والعرضي، وفعيل اختص بأحد هما.
قال الخصم: بل فعيل إذن أقوى لاختصاصه باللازم الأقوى، وفاعل مشترك متردد بين القبيلين، وقد قدمتم أن المختص أقوى من المشترك.
أجاب: بأن فعيلا أيضا مشترك إذ قد دل على العرضية، نحو: نصير وفقير ووجيه ونبيه، فاستويا هاهنا، وترجح فاعل بتعديه، ولزوم فعيل، كما ذكر في الوجه الأول.
واعلم أن هذا تهافت من ابن الأثير من وجهين:
أحدهما: أنه رجح فاعلا لعمومه في اللازم والعرضي، ثم أجاب هنا بمساواة فعيل له في ذلك.
الثاني: أن أمره في هذا الوجه الثاني آل إلى استواء فاعل وفعيل، وهو إنما نصب البحث على أبلغية فاعل، فما حصل له مراده من هذا الوجه، وكان ينبغي أن يقتصر
على الوجه الأول، وهذا يمكن أن يمشي حاله فيه، فإنه قصد من الوجه الثاني تمرين الناظر بإيراد السؤال والجواب، أو غير ذلك.(1/261)
الثاني: أن أمره في هذا الوجه الثاني آل إلى استواء فاعل وفعيل، وهو إنما نصب البحث على أبلغية فاعل، فما حصل له مراده من هذا الوجه، وكان ينبغي أن يقتصر
على الوجه الأول، وهذا يمكن أن يمشي حاله فيه، فإنه قصد من الوجه الثاني تمرين الناظر بإيراد السؤال والجواب، أو غير ذلك.
والذي عندي أن فعيلا أبلغ لأن العرب إذا أرادت أن تبالغ بلفظ، أحدثت فيه تغييرا ما، إما في كمية حروفه، نحو: اعشوشب، أو في كيفية بنائه نحو: طهور وسبوع وقبول، والتغيير هاهنا إنما حدث في فعيل إذ هو معدول عن مفعول، لا في فاعل إذ هو باق في بنائه على القياس، ويؤكد هذا أنهم يستعملون ذلك في مفردات اللغة أيضا، فيقولون للغراب: أعور، مبالغة في وصفه بحدة البصر، فبالغوا في وصفه، بوصفه بضد وصفه.
لا يقال هذا في معنى الدعاء عليه، لبغضهم إياه لأنا نقول خلاف الظاهر منهم والمنقول عن أهل اللغة، فكذا هاهنا، لما أرادوا المبالغة في فاعل، عدلوه إلى بناء ضده الذي هو المفعول. فتأمل هذا منصفا، تجده صحيحا حسنا، والله أعلم.
النوع السابع عشر: في الاشتقاق
وهو افتعال من شققت العصا أو غيرها: إذا فرقت أجزاءها لأن معنى الأصل الواحد، المشتق منه يتفرق على فروعه المشتقة، وهو اقتطاع أحد معنيين من الآخر مع اشتراك لفظهما في الحروف الأصول.
ثم الحروف الأصول إن كانت في المشتق كثرتها في المشتق منه نحو «ضرب وضارب واضطرب» فإنها تميزت في جميع ذلك: الصاد ثم الراء ثم الباء، فهو الاشتقاق الصغير، وإلا فهو الكبير.
أما الاول: فكاشتقاقنا من أصل «س ل م» معنى السلامة في نحو: «سلم سالم، وسلمان، وسلمى، وسليمى، والإسلام، والاستسلام» وهما الانقياد لطلب السلامة، و «السليم» بمعنى اللديغ تفاؤلا له بالسلامة.
ومن أمثلته «ح د د» معنى المنع في الحديد لمنعه وصول السلاح، والحدّ
الشرعي لمنعه من إتيان المعاصي، وحد الدار، والمعنى لمنعه من خروج بعض المحدود عنه، ودخول غيره فيه، والحداد وهو البواب، وأيضا كل صانع وتاجر، لمنعه صناعته وسلعته إلا مما يريد، ومن هذا نقول «سالمك سالم» «وحاربك محارب» «وهشمك هاشم» «ولواك لؤى» «وأعلى كعبك كعب» «وأناف بك عبد مناف» «وغلبك غالب» «وأعلاك عليّ».(1/262)
ومن أمثلته «ح د د» معنى المنع في الحديد لمنعه وصول السلاح، والحدّ
الشرعي لمنعه من إتيان المعاصي، وحد الدار، والمعنى لمنعه من خروج بعض المحدود عنه، ودخول غيره فيه، والحداد وهو البواب، وأيضا كل صانع وتاجر، لمنعه صناعته وسلعته إلا مما يريد، ومن هذا نقول «سالمك سالم» «وحاربك محارب» «وهشمك هاشم» «ولواك لؤى» «وأعلى كعبك كعب» «وأناف بك عبد مناف» «وغلبك غالب» «وأعلاك عليّ».
وفي الشعر (1):
وما زال معقولا عقال عن الندى ... وما زال محبوسا عن الخير حابس
وقال آخر: (2)
لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حد إذا لبس الحديد
وفي التنزيل {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمََانَ} (3) {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (4)
ومما يشبه هذا الاشتقاق، وليس باشتقاق {يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} (5) {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دََانٍ} (6).
وفي الشعر قول القائل:
فضول بلا فضل وسن بلا سنا ... وطول بلا طول وعرض بلا عرض
__________
(1) هذا البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق مطلعها:
وما ذات أوراق تصدى لجؤذر ... بحيث تلاقى عازب فالأواعس
ديوانه ص 326.
(2) قاله لحيان بن ربيعة الطائي وروي «ذو وحد» بدلا من «لهم حد»، شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 288.
(3) سورة النمل آية 44
(4) سورة الروم آية 43.
(5) سورة يوسف آية 84.
(6) سورة الرحمن آية 54(1/263)
ولا يشترط الاطراد في الاشتقاق، فلا يلزم تسمية الحجر حديدا لأن فيها معنى المنع، ولا الجمل ضيغما لأن فيه معنى الضغم وهو: العضّ الشديد لأن شرطه الاتفاق في الحروف الأصول، وليست متفقة فيما ذكر وشبهه.
وأيضا فاستناده إلى وجوه المعنى مع استعمال العرب له في محله، فهو بمنزلة العلة المركبة، لا تؤثر بدون جميع أجزائها، بخلاف العلة، فإن استناد تأثيرها إلى مجرد وجودها، فيدور الحكم معها وجودا وعدما.
وأما الثاني: وهو الكبير، فهو رد التراكيب المختلفة من لفظ واحد إلى معنى واحد، ثم ذلك الرد قد يكون ظاهرا، وقد يكون خفيا يحتاج إلى تأويل وتلطف.
واعلم أن الفعل، إما ثلاثي أو رباعي. فالثلاثي: تراكيبه الممكنة تسعة لأن كل واحد من حروفه، إما أن يجعل فاء أو عينا أو لاما، وثلاثة في ثلاثة تسعة، مثاله:
«ض ر ب، ر ض ب، ب ر ض، ر ب ض، ب ر ض، ض ب ر، ب ض ر، ض ب ر، ر ض ب» سقط منها بالتكرار ثلاثة وهي «ب ر ض، ر ض ب، ض ب ر».
بقي ستة راجعة كلها إلى معنى الضرب، وهو حركة يتعقبها استقرار لأن الضارب يحرك جارحته ليضرب، ثم يتعقب بذلك الحركة استقرار المضروب به على المضروب.
أما «ضرب» فذلك فيه ظاهر.
وأما «رضب» فقد بين معناه من الرضاب وهو ماء الفم، فإنه يتحرك بتحرك الفم واللسان، ويسكن لسكونهما. وبالجملة توجد فيه الحركة والاستقرار.
وأما «برض» فالبرض: الماء القليل، وفيه الحركة والسكون وتبرضت الماء تبرضا، أي شربته امتصاصا، والمعنى فيه ظاهر.
وأما «ربض» فلأن الربض سكون عقب حركة، كالغنم تأوي من المراعي إلى المربض، وكذلك «أسد رابض».
وأما «ضبر» فيقال «ضبر الفرس» إذا جمع يديه، ووثب، والحركة والسكون فيه ظاهران، لكن السكون فيه عقلا لا حسا، لتواتر الحركة وتلاحقها.(1/264)
وأما «بضر» فبضر المرأة فرجها، والمعنى فيه ظاهر، إذ لا يخلو من حركة وسكون قصدا أو تبعا.
فأما ضرب في الأرض إذا سافر، وضارب بالمال، وضرب في الغنيمة ونحوها بسهم، فهي مجازات عن حقيقة الضرب.
وتراكيب «ق ر م» بدون تكرار، وهي ستة أيضا راجعة إلى معنى القوة والشدة، وهي: «ق ر م. ر ق م. ر م ق. م ر ق. ق م ر. م ق ر» فالقرم: شدة شهوة اللحم، والقرم: السيد وفيه معنى القوة، والقرم: فحل الإبل، وذلك فيه ظاهر، والرقم:
الداهية: وهي الشدة تلحق الإنسان، والرقيم: قيل الكتاب المرقوم، أي: المكتوب وقيل اسم الوادي الذي فيه الكهف، والأرقم: الحية، والمعنى في كل موجود، ويقال: «عيش مرمق» أي ضيق، وفيه نوع شدة، والرمق: بقية الروح في البدن، وهو نوع من القوة، «ومرق السهم» إذا نفر من الرميّة لشدة مضائه، واستعمال المروق في الناس مجازا، بجامع الخروج لشدة التمرد، «ويقمر الرجل» إذا غلب من يقامره، ولعل القمر سمى قمرا لغلبه ضوئه ضوء الكواكب، «واقمرار العين» غلبة الآفة الخاصة عليها، «والمقر» الصبر نفسه، «وأمقر الشيء» إذا صار مرا، وفي ذلك المعنى الشدة. والساقط منها «ر م ق. ق م ر. ر ق م».
واعلم انه ليس من شرط صحة الاشتقاق استعمال جميع تراكيب الكلمة، بل قد بسقط بعضها كمادة «وس ق» فإن تراكيبها المستعملة خمسة: «وس ق. س وق ق س و. ق وس. وق س». وهي راجعة إلى معنى الاجتماع، والقوة، والشدة
فاستوسق الأمر: إذا اجتمع وقوي واشتد والسوق: حثّ الدواب على السير، وفيه قوة وشدة على السائق والمسوق
والقسوة: قوة القلب وشدته، وقوة الحجر ونحوه
والقوس: معروفة، والقوة فيها ظاهرة
والوقس: ابتداء الحرب والشدة فيه ظاهرة
والساقط منها «س ق و»(1/265)
والمكرر هو أيضا «ق وس، وس ق».
وأما الرباعي: نحو: دحرج. فتراكيبه بالقسمة تقريبا ستة عشر لأن كل حرف من حروفه: إما أن يقع أوّلا أو ثانيا أو ثالثا أو رابعا، ويكون المكرر منه أربعة، والباقي اثني عشر. والظاهر أن المستعمل منه أقل من تراكيبه الممكنة خمسا وعشرين، مكررها خمسة، وباقيها عشرون، وليس المدعى اطراد هذا التصرف في تراكيب جميع ألفاظ اللغة، بل في بعضها، والله أعلم.
النوع الثامن عشر: في الحروف العاطفة والجارة
وليس نظرنا فيها من حيث ينظر النحاة من اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الإعراب، وإيجاز الإسم بالحرف، بل من حيث ينظر أهل المعاني
أما حروف العطف، فكقوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ} (1) عطف التقدير وهو: جعله على ما تقتضيه الحكمة من الامتداد والعرض والكيف والكم على الخلق، الذي هو الإنشاء بالفاء التعقيبية لأنه عقبه لا يتأخر عنه.
وعطف يسّره السبيل على التقدير بثم أيضا للتراخي بينهما. وعطف الإقبار على الإماتة بالفاء لأنه عقبها من غير تراخ، كتراخي غيره، وعطف الانتشار على الإقبار بثم للتراخي بينها وهو ما بين الموت والبعث. وهذا هو الأصل في العطف: أن يكون في كل موضع بالأداة اللائقة بها، فإن وجد مخالفا، وجب تأويله حتى يوافق.
قال ابن الأثير (2): وقد يشتبه ما يعطف بالواو بما يعطف بالفاء، فيوقع في الخطأ وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء، نحو: كسرته فانكسر. وقد تشتبه بعض الأفعال بفعل المطاوعة، وليس به، فيجب عطفه بالواو، كقوله تعالى:
{وَلََا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ} (3) فمعنى أغفلنا قلبه: صادفناه
__________
(1) سورة عبس آية 2217.
(2) الجامع الكبير ص 202، المثل السائر 2/ 239.
(3) سورة الكهف آية 28.(1/266)
غافلا، نحو: «أبخلت الرجل وأجبنته» إذا صادفته بخيلا أو جبانا، لا أنّا خلقنا فيه الغفلة، إذ لو كان المعنى ذلك، لقيل: أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، وهذا ضعيف:
أما أولا: فلأن هذا التأويل إنما أنشأه المعتزلة لئلا يلزمهم الإيمان بالقدر، وذكره الزمخشري (1)، وقال: «قد قطع الله توهم المجبرة بقوله: «واتبع هواه».
قال بعض أهل السنة: ونحن نقول: قد قطع الله وهم المعتزلة بقوله: {أَغْفَلْنََا قَلْبَهُ} (2) {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} (3) و {طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (4) وأمثال ذلك.
وأما ثانيا: فلأن هذا ليس من أفعال المطاوعة، حتى يشبّه «بكسرته فانكسر»، وإنما معنى الكلام: لا تطع من جمعنا له، واجتمع له الإغفال، واتباع هواه، أي:
لا تطع الكافرين الذين هذه صفتهم.
وأيضا، فإنه ليس المقصود بيان أن اتباع الهوى من مسببات الأفعال، بل يقال إن الضلال بفعل من الله: وهو الإغفال، وفعل من العبد: وهو اتباع الهوى، وهذا ما يقوله أهل السنة.
وأما حرف الجر، فنحو قوله تعالى: {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (5) فعلى للاستعلاء، وفي للظرفية، فشبه المهدي بالمستعلي لاستعلائه حالا ومآلا. والضال بالمغمور المغموس في ظلمة، أو المظروف في الجبّة، ولهذا قال بنو يعقوب له: {إِنَّكَ لَفِي ضَلََالِكَ الْقَدِيمِ} (6). وكذلك حيث أضيف الهدى إلى
__________
(1) الكشاف 2/ 561، وفي الأصل وهم المجبرة
(2) سورة الكهف آية 28.
(3) سورة الجاثية آية 23
(4) سورة التوبة آية 93
(5) سورة سبأ آية 24
(6) سورة يوسف آية 95وهي: قالوا تالله إنك لفي صلالك القديم.(1/267)
أربابه في القرآن منكرا، كان بعلى، نحو: {أُولََئِكَ عَلى ََ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} (1)
ونحو قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} أضاف الصدقة إلى هؤلاء باللام، وإلى الأربعة بعدهم بفي، حيث قال:
{وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (2) تنبيها على أن هؤلاء أثبت وأرسخ في استحقاق الصدقة لدلالة «في» على الثبوت الوعائي، والاستقرار الظرفي، وتكرير «في» في قوله: «وفي سبيل الله» تنبيه على رجحانه وقوته، فينبغي تحرّي مثل هذه النكت، بحيث لا يجعل بعض هذه الحروف ونحوها في غير موضعه.
وأما ضبط الحروف، فهو إما بسيط: وهو ما كان على حرف واحد، كباء الجر، وكافه، ولامه.
أو مركب: وهو إما ثنائي، نحو: من، وقد، وهل، أو ثلاثي: كعلى وإلى. أو رباعيّ: كحتّى وإلا. أو خماسي: كلكنّ، مشدّدة، وجميعها سمي حرفا.
ومعاني أكثرها ظاهر. والمشكل منها ينبه النحاة عليه، إلا أنّا نذكر منها نكتة مهمة، وهي: أن «بل» معناها الإضراب عن الأول، وإثبات الثاني، ثم قد يكون الإضراب عن النسبة الخبرية أصلا بحيث تصير ملغاة نحو: «قام زيد بل عمرو» و «أنت طالق طلقة بل طلقتين» فيكون المضرب عنه لاغيا، مرجوحا عنه، خاليا من النسبة الخبرية أصلا، فيقتضي ذلك الإخبار بقيام عمرو، وإيقاع طلقتين فقط.
وقد يكون الإضراب لا عن أصل النسبة، بل عن الاقتصار عليها إلى ما هو أبلغ منها.
كقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهََا. بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ} (3) فإنه لم يرد أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 5.
(2) سورة التوبة الآية 60.
(3) سورة النمل آية 66.(1/268)
عماهم (1) ما أدرك في الآخرة، ولا انهم لم يشكّوا، بل أراد أنهم ما اقتصروا على التهافت في الآخرة، ولا على الشك فيها، بل لم يقنعوا إلا بأعلى مراتب الكفر بها:
وهو الإعراض والعمى عنها بالكلية، فهم لا يتصورونها ولا يعتقدونها موجودة ولا تدركها أفهامهم بنوع إدراك أصلا، كما أن الأعمى لا يدرك المبصرات بنوع من الرؤية أصلا، ولكنه أخبر عن أطوار ضلالهم مترقيا من أدناها إلى أعلاها، وإنما ذكرت هذه النكتة لأن بعض الناس يستشكل وجه هذا الإضراب، فذكرت ما عندي في توجيهه، والله أعلم.
النوع التاسع عشر: في التكرير
وهو ذكر الشيء مرتين فصاعدا.
وفائدة المفيد منه: تأكيد الأمر وتشييده وتفخيمه وتعظيمه، أو عكس ذلك.
وهو قسمان:
تكرار اللفظ والمعنى جميعا.
وتكرار المعنى دون اللفظ.
وكل منهما مفيد وغير مفيد.
القسم الأول: تكرار اللفظ والمعنى جميعا
وفي المفيد منه فرعان:
الفرع الأول: أن يراد بالمكرر معنى واحد لغرضين مختلفين
، فمنه قوله تعالى: {إِيََّاكَ نَعْبُدُ وَإِيََّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) كرر لفظة «إياك» والمراد بالأول: إضافة العبادة إليه، والثانية: إضافة الإعانة.
__________
(1) في الأصل علمهم وهو تحريف من النساخ.
(2) سورة الفاتحة الآية 5.(1/269)
فإن قلت: لم عدّل من نعبدك إلى «إياك نعبد». وعن الضمير المتصل مع القدرة عليه إلى المنفصل؟.
قلت: لفائدة الاختصاص كما سبق في بابه.
فإن قلت: لم أكرر إياك، وأحد اللفظين يفيد المعنى نحو: قام زيد وعمرو؟
قلت: لوجهين:
أحدهما: أن المعنى بالتكرار آكد وأدل على ضراعتهم وصدقهم في السؤال، وإخلاصهم، كقول القائل: «أيها الملك بك أستجير وبك أنتصر» فإنه أبلغ فيما ذكرناه من حذف الباء في الثاني، فكذلك «إياك نعبد، ونستعين» مع الصيغة الثانية الواردة.
الثاني: أن القرآن في غاية البلاغة، والكلام البليغ يراعى فيه أحوال المعنى والعبارة جميعا، وقد روعي المعنى هاهنا، كما ذكرنا.
وأما العبارة فمن أحوالها المراعاة بعديلها، ولا شك أن «إياك نعبد وإياك نستعين» أعدل مما لو حذفت إياك الثانية لأن هذا الكلام جملتان، كل واحدة منهما مركبة من فعل وفاعل ومفعول وهو إياك. فلو حذفت من الثانية لنقصت عن الأولى جزءا وزال الاعتدال والتناسب، والله أعلم.
ومنه قوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ وَيَقْطَعَ دََابِرَ الْكََافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ} (1). فالمراد بتحقيق الحق أولا تصديق وعده لهم بإحدى الطائفتين، ولهذا قال «بكلماته» أي تصديقا لما سبق من كلماته التي وعد بها.
وتحقيق الحق ثانيا إظهار الدين واستعلاؤه باستئصال الكفار، وكسر شوكتهم.
ومنه قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: (2) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللََّهَ}
__________
(1) سورة الأنفال الآية 7، 8.
(2) سورة الشعراء الآية 107، 108.(1/270)
{وَأَطِيعُونِ.} ثم قال: (1) {إِنْ أَجْرِيَ إِلََّا عَلى ََ رَبِّ الْعََالَمِينَ. فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ.} فكرر أمرهم بالتقوى والطاعة تأكيدا، وعلّقه بشيئين، أحدهما: كونه أمينا لا يتهم فيجب امتثال ما يأمر به، والثاني: كونه لا يسألهم عليه أجرا فيتهم فيهم لأجله، فيجب أيضا عليهم ذلك.
ومنه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتََادِ} (2) إلى قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ} فكرر الإخبار بتكذيبهم لاختلاف أسلوب الكلام لأنه ذكر تكذيبهم أولا، بجملة خبرية، وثانيا بجملة استثنائية، وأيضا فإنه أجمل تكذيبهم أولا، فأجمل أن كل فريق منهم كذب كل الرسل، أو رسولهم الخاص ونبيه.
ثانيا: أن كلّا منهم كذب جميع الرسل لأن ما جاءت به الرسل واحد، فمن كذب واحدا منهم كذب الرسل أجمعين.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (3) وقوله:
{قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (4). فالأول أمر له بالإخبار، بأنه مأمور بإخلاص العبادة، والثاني أمر له بالإخبار بإخلاص العبادة، وتخصيص الله تعالى بها، ولهذا قدم الفعل: وهو «أعبد» لأنه المأمور به، وأخّره ثانيا، وقدم الله تعالى لأنه المخصوص بالعبادة.
ومنه قوله تعالى (5): {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ. لََا أَعْبُدُ} يعني في المستقبل {مََا}.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 109، 110.
(2) سورة ص الآية 1412.
(3) سورة الزمر الآية 11.
(4) سورة الزمر الآية 14.
(5) سورة الكافرون آية 51.(1/271)
{تَعْبُدُونَ} من آلهتكم {وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ} في المستقبل {مََا أَعْبُدُ} ويكون هذا إخبارا لهم بدوامهم على الكفر مثل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} (1).
فإن قلت: فقد أخبر بهذا من أسلم بعد ذلك، فما صح الإخبار، فلا يكون هذا إخبارا كما ذكرت.
قلت: هذه الدعوى تحتاج إلى نقل، ونحن نمنعه، والأصل عدمه، ولئن ثبت، كان ذلك تخصيصا، وتبين أن المراد بالإخبار من لم يسلم كقوله: «ولن تفعلوا» فإن السؤال وارد فيها أيضا، ثم قال: «ولا أنا عابد» في الحال «ما عبدتم. ولا أنتم عابدون» في الحال «ما أعبد» حالا واستقبالا، ويكون هذا إخبارا له باستمراره على عبادة الله تعالى، فحاصل هذا: قل لهم: أي لا أوافقكم ولا توافقونني لا حالا ولا استقبالا وهو قريب من معنى قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ بِكُلِّ آيَةٍ مََا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمََا أَنْتَ بِتََابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} (2).
وقال ابن الأثير (3): «ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد» معناه: لم نعهد منكم في الماضي عبادة ما أنا عابده الآن، ولا متى في الماضي عبادة ما أنتم عابدون الآن، فكيف أعبد في الإسلام شيئا لم أعبده في الجاهلية، وهذا قريب يحتمل لأن دلالة اللفظ قاصرة عنه لوجهين:
أحدهما: أنه قال: «ولا أنا عابد. ولا أنتم عابدون»، ولم يقل: ما كنت عابدا ولا كنتم عابدين، فلا يفيد (4) المضي صيغة أو قرينة ولا واحد منهما.
الثاني: أن اسم الفاعل وهو: عابد وعابدون أظهر في الدلالة على الحال منه على المضي خصوصا وهو منون.
__________
(1) سورة البقرة آية 24.
(2) سورة البقرة الآية 145.
(3) الجامع الكبير 205.
(4) في الأصل: وإنما يفيد المضي. وهو لا يتمشى مع الغرض المراد(1/272)
ومن هذا الفرع تكرير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً وَمََا كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (1) في سورة الشعراء مرارا إذ اللفظ ومعناه فيهن متحد، والمقصود متعدد: إهلاك كل واحد من تلك القرون، آية للكفار غير الآية الحاصلة بإهلاك الفريق الآخر.
الفرع الثاني: وهو أن يراد بالمكرر معنى واحد لغرض واحد.
فمنه قوله تعالى:
{لََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمََا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمََا لَمْ يَفْعَلُوا فَلََا تَحْسَبَنَّهُمْ} (2). {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذََا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرََاباً وَعِظََاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (3)
وهذا يحسن عند طول الفصل بين المكررين تطرية لسمع السامع مع التأكيد، وهو في السنة واقع كثيرا.
ومنه: {وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (4)
قال ابن الأثير (5): فتكرير «من قبله» يدل على بعد عهدهم بالمطر وتطاوله، فاشتد لذلك يأسهم، فكان استبشارهم بالمطر على قدر اغتمامهم لانقطاعه.
قلت: هذا الذي ذكره لا شك أنه مستفاد من الكلام، لا من تكرير لفظ القبليّة فإنه لا يفيده البتة، بل هو من قرينة الاستبشار والإبلاس لأن الناس إنما يستبشرون غالبا بقدوم ما طالبت غيبته، ولا يبلسون وييأسون إلا من مثل ذلك.
فيقال: استبشر زيد بقدوم أخيه من مكة، ونحوها، ولا يقولون: استبشر بقدومه من المسجد أو السوق، وييأس منه إذا طالت غيبته، لا إذا قصرت، ولهذا إذا مرت على المفقود لغيبة ليس ظاهرها الهلاك، تسعون سنة، قسم ميراثه ونكحت امرأته للإياس منه، ولا يجوز قبل ذلك.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 8، 9.
(2) سورة آل عمران الآية 188.
(3) سورة المؤمنون آية 35.
(4) سورة الروم آية 49.
(5) الجامع الكبير ص 206(1/273)
والذي عندي في تكرار لفظة القبلية، أن فائدته تحقيق إبلاسهم وإياسهم من المطر في تلك المدة، وذلك الزمان، أعني: الذي هو قبل نزول الغيث، والله أعلم.
ومنه قول المؤمنون من آل فرعون: {يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ. يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ} {وَيََا قَوْمِ مََا لِي أَدْعُوكُمْ} (1) فكرر نداءهم ومعناه واحد لغرض واحد وهو تنبيههم عن سنة الغفلة، والحرص على نجاتهم بهدايتهم، وإنما أضافهم إلى نفسه إشارة إلى أنكم مني وأنا منكم، فلست بمتّهم فيكم، بل لا أريد لكم إلا خيرا، وإلا ما أريد لنفسي.
ومنه تكرار قوله تعالى: {فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) في مواضع من سورة القمر.
وفائدته: الإعذار إلى الكفار بتنبيههم وتحذيرهم عند فناء كل قرن من القرون الماضية، وأن القرآن نزل ميسرا للذكر. فلا عذر لمن بلغه فلم يدّكر إذ لا يهلك على الله إلا هالك.
ومنه تكرير: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (3) في سورة الرحمن. والخطاب به للثقلين، ولا يقدح في هذا كون الخطاب المذكور سابقا على ذكر الثقلين في قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحََانُ. فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (4) لأنه لما ذكرهما بعده، صارا كالمتقدمين عليه وأيضا فإن أحدهما قد قدم ظاهرا وهو الإنسان والأنام، فناب منابهما، كما يسمى الكل باسم الجزء
وفائدته: إعلامهم بتأكيد استحقاقه لعبادتهم بتذكره إياهم نعمه عليهم عند كل فرد من أفرادها، كما يقول الرجل لعبده: «ألم أكسك؟ ألم أزوجك؟ ألم أرحك من التعب؟ فبأي نعمي تكذب؟ ألم أفتدك من الجناية الفلانية؟ ألم أعطك الضيعة
__________
(1) سورة غافر الآية 38، 39، 41.
(2) سورة القمر الآية 17.
(3) سورة الرحمن آية 13
(4) سورة الرحمن آية 12، 13(1/274)
الفلانية؟ ويعدّد نعمه عليه، ثم يقول: فبأي آلاء تكذب؟ ومعنى هذا الكلام وقوته أنك لا تستطيع تكذيب شيء من ذلك لوضوحه وظهوره، كما يركّب أحد المتناظرين دليلا من مقدمتين قطعيتين، ثم يقول لخصمه: أي المقدمتين تمنع؟ أي: لا يمكنك منع واحدة منهما.
ثم اعلم أن صدر هذه السورة اشتمل على ذكر النعم الدنيوية كخلق الإنسان، وتعلّمه البيان، وخلق الشمس والقمر بحسبان، والنجم: وهو ما لا ساق له من النبات، والشجر: وهو ما له ساق، والنعمة فيهما ظاهرة، ورفع السماء ووضع الميزان للتناصف، وأمن المظالم، ووضع الأرض فيها الفاكهة، والنخل، والحب ذو العصف: يعني الورق والتين تنبيها على أنّ فيه منفعة لكم ولدوابكم، والريحان: وهو المعروف، أو كل نبت طيب الريح، وخلق الإنسان والجان، ووجه النعمة فيه عليهما استمتاع بعضهم ببعض، كما ذكر في الأنعام. وخلق المشرقين والمغربين مجالا للشمس والقمر والنجوم، ليتقوّم بهن نظام العالم، ومرج البحرين:
العذب والملح لينتفع من كل منهما بما جعل له من استخراج الجواهر، وشرب الماء، وأكل الحيتان، ونحو ذلك. وإجراء المراكب في البحور لقيام معايش الخلق، مع ما تضمن بذكرهم بهذه النعم، من التنبيه على عظيم قدرته التي يستحق بها منهم العبادة والتوحيد، فخلق الإنسان والجان العظيمين من عنصرين مشاهدين هما: الطين والنار، على وجه لا يتأتى لغيره تعالى، ونحو ذلك.
ومن هاهنا إلى آخر السورة اشتمل على ذكر أحكام الآخرة من: الموت والبعث، والنار والجنة، كأنه قال: قد ذكرتكم بآلائي عليكم، ونعمائي التي أسديتها إليكم، ثم إني بعد ذلك متوفيكم وباعثكم، فمن كان قابل آلائي بالكفر، أدخلته النار، وهذا حاصل المراد بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ} (1) إلى قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (2).
__________
(1) سورة الرحمن الآية 26.
(2) سورة الرحمن الآية 44، 45.(1/275)
فإن قلت: ما وجه النعمة عليهم في موتهم وبعثهم وإحضارهم أهوال الموقف وعدم استطاعتهم النفوذ من أقطار السموات والأرض، وإرسال شواظ من نار ونحاس، وأخذ المجرمين بالنواصي والأقدام، ونحو ذلك مما ذكر، حتى يقررهم بها عقيب ذلك؟
قلت: ليست النعمة في نفس وقوع هذه الأشياء، بل في إخباره تعالى إياهم بوقوعها ليأخذوا حذرهم منها بالطاعة، ولا خفاء أن تحذير الإنسان مما يضره من أجلّ النعم عليه لأن النعمة إما: إيصال نفع، أو دفع ضرر، والثاني أبلغ من الأول لأن الإنسان يصبر على عدم النفع ولا يصبر على وجود الضرر، كما يصبر على أكل العسل، ولا يصبر تجريع سم أو رصاص مذاب، أو جلد مائة سوط، والله أعلم.
ومن كان قابلها بالتوحيد والعبادة، أدخلته الجنة، وهذا حاصل قوله: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} (1) إلى آخر السورة، وكل فرد من أفراد الجملة يتضمن نعمتين: وقوعه إذا وقع، والترغيب فيه قبل وقوعه.
فإن قلت: الخطاب والتذكير للثقلين وهو عام فيهم: مؤمنا وكافرا، والكافر في الآخرة يصير إلى العذاب الدائم، ويتبين أن ما كان فيه في الدنيا مما يخال نعمة، كان استدراجا، وسببا من أسباب النقمة، وحينئذ لا نعمة عليه في دنيا ولا أخرى إذ النعمة هي: النفع السالم العاقبة من شوائب الأكدار.
قلت: الجواب من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن من شرط النعمة سلامة العاقبة لأن اشتقاقها يئول إلى النعومة التي هي ضد الخشونة، وهذا المعنى موجود بدون الشرط المذكور.
الثاني: لو لم يكن للعامة إلا إظهار الآيات والمعجزات على أيدي الأنبياء وتحذيرهم من شرور الآخرة، وترغيبهم في سرورها، لكان ذلك كافيا في استحقاقه
__________
(1) سورة الرحمن الآية 46(1/276)
العبادة منهم، وتوبيخهم على تركها، فإن ذلك نصيحة، والناصح منعم يجب شكره، وإن لم يقبل المنصوح له، والله أعلم.
وإنما أطلت الكلام في هذه السورة لأني رأيت كثيرا من الناس يستشكل كثيرا منها.
ومنه: تكرير قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (1) في سورة المرسلات.
وفائدته: تحقيق وقوع الويل بهم، وتأكده تحذيرا من التكذيب وتنفيرا منه، أو زجرا.
ومن هذا القبيل تكرير الفعل تحقيرا لشأن المفعول أو تعظيما له:
مثال الأول: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟. مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} (2).
{مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} (3) إشارة إلى حقارة ما خلق منه الإنسان.
ومثال الثاني: ألا تنظرون إلى فلان من قتل؟ قتل السلطان. أو بمن تزوج؟ تزوج ابنة الملك.
وقد يأتي لتعظيم الفاعل نحو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ} (4) والله أعلم.
وأما غير المفيد من هذا القسم وهو ما لا يفيد تأكيدا ولا تحقيقا، كقول أبي الطيب (5):
__________
(1) سورة المرسلات الآية 15.
(2) سورة عبس الآية 18، 19.
(3) سورة الطارق الآية 5، 6
(4) سورة العلق الآية 1و 2.
(5) من قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي ومطلعها فؤاد ما تسلّيه المدام ... وعمر مثل ما نهب اللئام
ديوانه 4/ 79(1/277)
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
فكرر لفظ «مثل» أربع مرات، وحاصله: أن مقام مثلي بين مثلهم عجيب.
وكقوله:
فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهنّ قلاقل (1)
فأنكر الصاحب بن عباد (2) هذا عليه لما فيه من التكرار الخالي عن الفائدة، واعتذر له الواحدي (3) في شرحه لشعره، بأن عادة الشعراء جرت بمثله كقول الثعالبي:
وإذا البلابل أطربت بهديلها ... فانف البلابل باحتساء بلابل
وليس اعتذارا جيدا، والحق مع ابن عباد. والفرق بين البيتين:
أن البلابل في شعر الثعالبي متغايرة المعنى فالأولى: جمع بلبل، وهو: الطائر المعروف، المفتون. والثانية جمع بلبلة بفتح الباءين: أو بلبال، وهو: وسواس الصدر وهمّ القلب. والثالثة جمع بلبلة وهي: مخرج الماء من الإبريق عبر رأسه فكأنه قال: إذا صاحت البلابل فانف عنك وسواس الصدر بشرب الخمر.
بخلاف القلاقل في شعر أبي الطيب: فإن معناها واحد، ثم فيها من العيب ما تقدّم في قوله: «اللقالق والنقانق» (4).
__________
(1) قلاقل العيس: النوق الخفاف، والبيت من قصيدة مطلعها:
قفا تريا ودقي فهاتا المخايل ... ولا تخشيا خلفا لما أنا قائل
(2) الصاحب بن عباد وزير وأديب مشهور عاش في القرن الرابع الهجري.
(3) هو علي بن أحمد بن محمد الواحدي، شرح ديوان المتنبي ومات سنة 468هـ. البغية 2/ 145
(4) انظر ص 116115من هذا الكتاب(1/278)
القسم الثاني: وهو تكرير المعنى دون اللفظ
وفي المفيد منه أيضا فرعان:
الفرع الأول: أن يدل على معنيين مختلفين كالجنس والعدد
نحو قوله تعالى:
{وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} (1).
وفائدته: تأكيد النهي عن اتخاذ العدد المخصوص من الجنس المخصوص، هذا من حيث عموم الفائدة.
أما تقرير معنى الآية فمن وجهين:
أحدهما: أنه تعالى في هذا المقام يتكلم في التوحيد، والنهي عن ضده فالمقصود الأهم نهيهم عن القول بتعدد الآلهة فنهاهم عن التثنية تنبيها بها على ما فوقها بطريق الأولى، كما في الضرب مع التأفيف. واللفظ الموضوع للعدد المثنى إنما هو:
اثنان، فجاء في النهي عن المعنى المطلوب تركه: باللفظ الموضوع له ليكون أبين وأدلّ وآكد.
فأما قوله: «إلهين» فليس موضوعا لهذا العدد، بل هو اسم ألحقت به علامة التثنية، كرجلين وقوسين، فدلالته على العدد عرضية لا أصلية، ولهذا لا يدل ما بعده من المعدودات على مقدار عدده إلا بذكره، كثلاثة رجال، وأربعة أعبد، ونحو ذلك، فلو قلت: رجال وأعبد، لم يعلم هل هم ثلاثة أو أربعة أو أكثر.
الثاني: كأنه نبه بهذا عن أنه لم ينههم على اتحاد مطلق الآلهة، وأنه يأمرهم بتألّه نفسه، وإنما ينهاهم عن مطلق التعدد.
وكذا القول في: «إنما هو إله واحد» ليس مقصوده إخبارهم بإلهيته لأنهم يقولون بها مع غيرها، وإنما أمرهم بالتوحيد الذي لم يلزم من قولهم بإلهين وعدمه، والله أعلم.
__________
(1) سورة النحل الآية 51(1/279)
أو كالعام والخاص، كقوله تعالى: {وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} (1)
و {فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ} (2).
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (3). فالأمر بالمعروف نوع خاص من الخير.
وفائدة هذا التنبيه على تأكيد بيان المعطوف الخاص وأفضليته، لاختصاصه بفضيلة أو ترتب مصلحة ونحو ذلك.
الفرع الثاني: أن يدل على غرض واحد نحو:
«أطعني ولا تعصني» فالمعنى متكرر لأنه أمره بالطاعة ونهاه عن المعصية، والغرض بهما واحد، وهو عدم التمرد عليه، والخلاف له.
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نََاراً} (4)
فالمراد بذكر تعدّي الحدود تأكيد الوعيد على المعصية لأنه منها.
ومنه: {فَأَنْجَيْنََاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَقَطَعْنََا دََابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا وَمََا كََانُوا مُؤْمِنِينَ} (5). فمعنى: {وَمََا كََانُوا مُؤْمِنِينَ} معنى {كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا.}
وفائدة تكراره تأكيد الإخبار عن تكذيبهم وكفرهم إثباتا ونفيا، كما تقول في التثريب (6) على شخص: إنه كذبني وما صدقني، وعصاني وما أطاعني وأهانني وما أكرمني.
__________
(1) سورة البقرة الآية 98.
(2) سورة الرحمن الآية 68.
(3) سورة آل عمران الآية 104.
(4) سورة النساء الآية 14.
(5) سورة الأعراف الآية 72
(6) التثريب: التأنيب واللوم.(1/280)
ومثله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمََا هَدى ََ} (1).
وفائدة هذا واضحة جدا، لكن مع النظر، وبيانه: أن إثبات التكذيب والإضلال يكفي في صدقه ووقوعه مرة واحدة، ولا يدل على تكرار الوقوع ودوامه لأنه من باب المطلق، وهذا شأنه.
وأما نفي ذلك، فلا يصدق إلا بانتفاء جميع أفراد ماهيته، فالله تعالى أثبت تكذيبهم الذي استحقوا به الإهلاك، ولم يدل إثبات تكذيبهم على دوامه واستمراره، أردفه بما يدل عليه من نفي الإيمان المستلزم له.
وكذلك لما ثبت إضلال فرعون، وأنه كان ضلّيلا في كل أمر، مضلّا في كل حال.
وأما غير المفيد من هذا القسم: فكقول ابن هانئ (2):
سارت به صيغ القصائد شرّدا ... فكأنما كانت صبا وقبولا
والصّبا هي القبول.
قلت: ولا شك أن هذا غير مفيد، ولكنه جائز كقوله تعالى:
{أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (3) والصلاة من الله: الرحمة.
ذكره الأكثرون منهم: العزيزي (4)، وذكر السخاوي (5): أن المراد بها في هذه الآية: الثناء الجميل.
__________
(1) سورة طه آية 79.
(2) سبقت ترجمته ص 117.
والصبا: ريح تهب من مطلع الشمس، والقبول: ريح تقابل الدبور، والصبا أيضا تقابل الدبور فالقبول والصبا، بمعنى واحد.
(3) سورة البقرة آية 157.
(4) هو محمد بن عزيز أبو بكر السجستاني صنف غريب القرآن ت 330هـ. البغية 1/ 171
(5) هو على بن محمد بن عبد الصمد، كان بصيرا بالقراءات إماما في اللغة والتفسير توفى سنة 643البغية 2 192(1/281)
وكقوله عليه السلام: «الملائكة تصلّي على أحدكم ما دام في مصلّاه ما لم يحدث. اللهم ارحمه» وفي لفظ: «اللهم صلّ عليه، اللهم ارحمه» (1).
وكقول عنترة (2):
حيّيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
وأقوى وأقفر بمعنى واحد عند أهل اللغة.
وقول الآخر (3):
ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
ومعناهما واحد.
ومن هذا الباب قول الصابي (4) في جواب كتاب: «وصل كتابك بعد تأخير وإبطاء، وانتظار له واستبطاء» (5).
ولم يخالف في جواز مثل هذا إلا أبو العباس المبرد (6) فيما حكاه الخطيب التبريزي عنه في شرح السبع الطوال، والله أعلم.
__________
(1) سنن النسائي 2/ 43.
(2) من معلقته ومطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
وانظر شرح القصائد التسع 2/ 460.
(3) البيت للحطيئة، ديوانه 140. واللسان مادة نأى.
(4) هو أبو إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون شاعر عالم بالهندسة، يغلب عليه صناعة الكتابة والبلاغة والشعر توفي قبل عام 380هـ.
(5) فالتأخير والإبطاء بمعنى واحد، ومن جوزه نظر إلى ما فيه من تقرير في نفس المخاطب، لطول المدة في انقطاع كتابه عنه.
(6) هو محمد بن زيد بن يزيد الأزدي وكنيته أبو العباس. ولد سنة 210وتوفي سنة 285هـ. الفهرست 60.(1/282)
النوع العشرون: في تناسب المعاني
وهو ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: في المطابقة
وهي عند الأكثرين: مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض، والليل والنهار.
وقال قدامة بن جعفر (1): هي إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصيغة، مختلفين في المعنى.
قال ابن الأثير (2): وهذا هو التجنيس جعل له اسما آخر، وهو المطابقة.
قال: والأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع مقابلة.
وقال البحراني: المطابقة هي الجمع بين المتضادين في الكلام مع مراعاة التقابل حتى لا يقابل الاسم بالفعل نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} (3)
{سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ} (4).
{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ} (5) الآية.
والمقابلة: الجمع بين شيئين متوافقين وضديهما، ثم إن شرطتهما بشرط وجب أن تشرط ضديهما بعيد ذلك الشرط نحو
__________
(1) نقد الشعر ص 92.
(2) المثل السائر 3/ 144والجامع الكبير ص 212
(3) سورة التوبة آية 82
(4) سورة الرعد آية 10.
(5) سورة آل عمران آية 26وتكملة الآية. «وتنزع الملك ممّن نشاء. وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء»(1/283)
{فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ََ} إلى قوله {لِلْعُسْرى ََ} (1).
ثم قال ابن الأثير: مقابلة الشيء إما لضده أو لغيره أو لمثله (2).
وهذه القسمة مضطربة لأنها متداخلة فإن غير الشيء يدخل فيه ضده ومثله.
والصواب أن يقال: الشيء إما أن يقابل غيره، فذلك الغير: إما ضد أو لا، وغير الضد، إما مثل أو لا، فهذه قسمة صحيحة دائرة بين النفي والإثبات.
مثال الأول ما سبق آنفا، وقوله تعالى:
{لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ} (3) قابل الحزن بالفرح، والفائت بالآتي.
وقوله عليه السلام «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» (4).
وقول زهير (5):
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ... ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا
قابل الكذب بالصدق.
وقول الآخر (6).
فلا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر
__________
(1) سورة الليل آية 105.
(2) المثل السائر 3/ 151، والجامع الكبير ص 212.
(3) سورة الحديد آية 23.
(4) ورد في المجازات النبوية 79والفائق 1/ 628.
(5) من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان مطلعها:
إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلّق القلب من أسماء ما علقا
ديوانه ص 54. ط الهيئة العامة للكتاب.
(6) استشهد به القزويني في باب المقابلة، انظر الإيضاح ص 4/ 11.(1/284)
قابل الجود بالبخل، ويفني بيبقي، ومقبل بمدبر.
ومن أحسن ما في هذا الباب قول البحتري (1):
وأمّة كان قبح الجور يسخطها ... دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
قابل الحسن بالفتح، والجور بالعدل، والسخط بالرضى.
ولبعضهم في وصف السحاب:
وله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحك تراوح بينه وبكاء
قابل الحزن بالمسرة، والضحك بالبكاء، ولكنه أخل بالترتيب على ما سيأتي بيانه.
مثال الثاني: وهو مقابلة الشيء بمثله، وهو ضربان:
أحدهما: التقابل في اللفظ والمعنى نحو:
{نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ} (2)
{وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنََا مَكْراً} (3).
{فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (4).
{وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} (5). ونحو ذلك.
الثاني: مقابلة الجملة بمثلها في المضي والاستقبال:
فالماضي نحو: {فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنََاهُمْ} (6).
__________
(1) هذا البيت من قصيدة يصف فيها بركة المتوكل ومطلعها:
ميلوا إلى الدار من ليلى نحيّيها ... نعم، ونسألها عن بعض أهليها
ديوانه ص 29ط بيروت.
(2) سورة التوبة آية 67
(3) سورة النمل آية 50.
(4) سورة البقرة الآية 194.
(5) سورة الشوري آية 40.
(6) سورة الكهف آية 11، 12.(1/285)
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغََاوِينَ} (1)
والمستقبل نحو: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصََارَهُمْ كَمََا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ} (2):
ثم التقابل قد يكون لفظا كما ذكر، وقد يكون معنى:
أما في الماضي، فكقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنََا مََا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنََا كِتََابٌ حَفِيظٌ} (3). أي: قد علمنا ذلك وحفظناه.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (4) أي: بل كذبوا فاختلط أمرهم عليهم والتبس.
وأما في المستقبل: فكقوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مََا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً؟} (5)، والتقدير هنا موجه لأنه يجوز أن يقدر، أقريب بمعنى: أيعجل لكم ما توعدون أم يجعل له أمد، فيكون من باب تقابل الجمل.
ويجوز أن يقدر «يجعل» بمعنى بعيد، أي: إن أدري أقريب ما توعدون أم بعيد، كما صرح به في موضع آخر.
وكذلك: {أَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً} (6) أي: ليبصروا فيه.
وقد يقابل الماضي لفظا بالمستقبل نحو: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمََا أَضِلُّ عَلى ََ نَفْسِي. وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمََا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (7).
__________
(1) سورة الشعراء آية 90، 91.
(2) سورة الأنعام آية 110.
(3) سورة ق آية 4.
(4) سورة ق آية 5.
(5) سورة الجن آية 25.
(6) سورة النمل آية 86.
(7) سورة سبأ الآية 50.(1/286)
والمستقبل بالماضي نحو: «إن تكرمني أكرمتك» كل ذلك على التقابل المعنوي مثال الثالث: وهو ضربان:
أحدهما: مقابلة الشيء بما يقاربه ويناسبه، كقوله (1):
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
قابلي الظلم بالمغفرة، وليست ضده ولا مثله، لكنها قريبة من العدل والإنصاف الذي هو ضد الظلم.
الثاني: مقابلته بما يبعد عنه، كقوله (2):
أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكامل فيها الدّلّ والشنب
والدل: الشكل، والشنب: ومن أوصاف الإنسان، ولا مناسبة بينهما، وإن كانت فبعيدة.
ومما يناسب ذكره هنا، بيان وجه اختصاص فواصل النثر، وأعجاز النظم بحالها منه، ويجب أن يكون ذلك على وفق مقتضى المناسبة.
أما في كتاب الله تعالى، فذلك لازم، ولنضرب له أمثلة:
منها قوله تعالى في آخر آية الدّين: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللََّهُ. وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)
إنما فصلها بذكر العلم لأنه بيّن في الآية أحكام الدّين والتجارة والإشهاد في البيع وغير ذلك. وأيضا فإنها خاتمة أحكام السورة، وقد نصّ فيها علوما كثيرة، فلما انتهى ذلك، أمرهم بتقواه، والتزام ما حدّ لهم، ثم كأنه عرض لهم بالامتنان عليهم بالتعلم، ثم أخبرهم «بأنه بكل شيء عليم»، ليكونوا على ثقة مما علمهم لكمال علمه لأن
__________
(1) القائل هو قريط بن أنيف، والبيت في الحماسة من قصيدة مطلعها لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
انظر شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 22.
(2) نسبه ابن الأثير في المثل السائر إلى الكميت. والشنب: ماء وعدو به في الأسنان انظر المثل السائر 3/ 154
(3) سورة البقرة آية 282(1/287)
المتعلم أوثق بكلام العالم المتقن، منه بكلام من لا يعلم إتقانه، وإحاطته بالعلم، ثمّ شرع في ذكر الدين، إلى أن قال: {وَلََا تَكْتُمُوا الشَّهََادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهََا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (1) لما كان كتمان الشهادة أمرا خفيا لاختصاصه بالقلب، وهذا خص بإسناده الإثم إليه، فربما طمع طامع في كتمان الشهادة لخفائها، قال الله تعالى: {وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ثم عقبه بمثله، وهو قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ} (2) إشارة إلى أنه تعالى يعلم خفي الامور وظاهرها، فيعاقب على السّيّئ منها، ويثيب على الحسن، فاتقوا الله، ولا تطمعوا في كان الشهادة لخفائها، فإنه لا يخفى عليّ شيء.
ثم لما قال في آخر الآية الأخرى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ} (2)
ختمها بقوله: {وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه من أراد تعذيبه لكمال قدرته، فتحققوا من ذلك وارتدعوا.
وكذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (3) لما تضمن هذا الكلام لطف القدرة في إحياء الأرض بإنزال الماء، واستدعاء تلك الخضرة (4) بأن فيها نفعا للناس ولطفا بهم، ختمها بما يناسب ما تضمنته، فقال: {إِنَّ اللََّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ثم قال: {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} (5)، فتضمن هذا الكلام اختصاصه بذلك، ثم قال: {وَإِنَّ اللََّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ}
لمناسبته مضمون الكلام، ثم لما كان لا يلزم أن يكون كل غني حميدا لجواز بخله، بيّن تعالى أنه متصف بالجود الموجب للحمد، فقال: {الْحَمِيدِ.}
ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}،
__________
(1) سورة البقرة آية 283.
(2) سورة البقرة آية 284.
(3) سورة الحج آية 63.
(4) في الأصل الخبرة بدلا من الخضرة وهو تحريف من النساخ.
(5) سورة الحج آية 64.(1/288)
{وَيُمْسِكُ السَّمََاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلََّا بِإِذْنِهِ} (1)، فتضمن ذلك رأفة للناس ورحمة إما جلب نفع: كتسخير البحر في الفلك، أو دفع ضرر: كإمساك السماء أن تقع عليهم، فصلها بذلك فقال: {إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.}
وجميع فواصل القرآن مناسبة لما وليته منه، وليقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.
وأما في النظم فيختلف ذلك باختلاف قوى الناظمين وبراعتهم، فمنهم من تضعف مادته، فيحبط، ومنهم من يبرع فيجيد، والحديث عنه ضربان:
أحدهما: مدرك بادئ الرأي سريعا لظهوره.
والثاني ما لا يدرك إلا بنظر، وربما احتاج إلى توقيف، كما أنكر على امرئ القيس قوله (2):
كأني لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فقيل إن بيتيه لم يلتئم شطراهما، وكان ينبغي أن يكون الشطر الأخير من كل من البيتين على الشطر الأول هكذا:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
لأن الركوب بالغارة أنسب منه، بتبطن الكاعب، ولأن سباء الزق بتبطن الكاعب أنسب منه بكرّ الخيل للغارة.
وأجيب عنه: بأنه قرن بين لذة النساء، ولذة الركوب للصيد، فجمع لذتين في
__________
(1) سورة الحج الآية 65.
(2) من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمهن من كان في العصر الخالي
ديوانه 35، لم أتبطن: لم أجعل بطني عليها، لم أسبأ الزق: لم أشتر الزق المملوء خمرا، إجفال: انهزام.(1/289)
بيت لتناسبهما، ثم قرن السماحة بسباء الخمر للأضياف، بالشجاعة عند منازلة الأعداء، وهما مما كانوا يفخرون بالجمع بينهما، أعني: الكرم والشجاعة.
وهذا جواب أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة حين قال له، وقد انتقدت عليك هذين البيتين. يعني قول المتنبي فيه (1).
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
كما انتقد على امرئ القيس بيتاه، وذكر هما، فأجاب المتنبي عن بيتي امرئ القيس بما ذكر، وعن بيتي نفسه بأن قال:
لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول، أتبعته بذكر الردى في آخره، ليكون أحسن طباقا. ولما كان وجه الجريح المنهزم عبوسا، وعينه باكية، قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد في المعنى، فأعجب ذلك سيف الدولة.
الضرب الثاني: في التفسير.
وهو: تبين الأقسام المجملة تفصيلا، ثم إن كان على الترتيب، فهو الجيد، وإلا فهو الرديء.
مثال الأول: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً} (2).
__________
(1) من قصيدة يمدح بها سيف الدولة مطلعها:
على قدر أهل العزم تأنى العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
ديوانه 4/ 122.
(2) سورة الإسراء آية 12.(1/290)
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (1)
وكقوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (2)
قابل كلا من الأعمى والأصم بضدّه، وبدأ بالأول.
وقول الشاعر:
غيث وليث، فغيث حين تسأله ... عرفا، وليث لدى الهيجاء ضرغام
تحيا الأنام به في الجدب إن قحطوا ... جودا ويشقى به يوم الوغى الهام
فرتب في البيتين.
وقول الآخر (3):
يوم المتيّم فيك حول كامل ... يتعاقب الفصلان فيه إذا أتى
ما بين نار هوى وماء مدامع ... إن حنّ صاف، وإن بكى وجدا شتا
فسر نصف البيت الأخير على ترتيب نصفه الأول.
مثال الثاني قول بعضهم (4):
شكوت فقالت: كل هذا تبرم ... بحيّي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشدّ ما ... صبرت، وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبا ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواى تؤذيها، وصبري يسوؤها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟ ... أعينوا بها واستوجبوا الأجر من ربي
__________
(1) سورة القصص آية 73.
(2) سورة هود آية 24.
(3) قاله القاضي الارّجاني يمدح الفقيه جمال الدين بن الحسن بن سليمان ومطلعها:
يا معرضا قد آن أن تتلفتا ... تعذيب قلبي المستهام إلى متى
(4) لأحد الأعراب كما ذكر المبرد في الكامل 1/ 200ط الدلجموني بالقاهرة.(1/291)
ووجه رداءته: أنه فسر قوله: وأدنو فتقصيني. وأبعد طالبا رضاها بقوله: وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي، وليس بمرتب، إذ لو رتب لقال: وتنفر من قربي، وتجزع من بعدي، ولعله إنما منعه من الترتيب حكم القافية، والناظم تسامح.
وجعل ابن الأثير (1) هذا الشعر من أحسن ما في هذا القسم الأول، أعني:
المرتب، والظاهر أنه لم يتنبه لما ذكرته.
وقول الفرزدق (2):
لقد خنت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم
لألفيت منهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوّم
وكان الأليق أن يقدم مطاعنا لأنه تفسير طريد ذم، وأن يؤخر معطيا لأنه تفسير حاملا ثقل مغرم.
وكقوله أيضا (3):
كيف أسلو؟ وأنت حقف وغصن ... وغزال: لحظا وردفا وقدّا
وكان الأليق أن يقول: ردفا، وقدّا، ولحظا، والظاهر أنه إنما أخل به لحكم القافية. والناظم في هذا أعذر من الناثر.
فأما قول الشاعر:
فيا أيها الحيران في ظلمة الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا
تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفيه بحرا من الندى
وهذا صحيح الترتيب، فأنشد التفسير عكس ما قبله، إذ كان ينبغي أن يجعل بإزاء
__________
(1) قال عنه ابن الأثير: إنه غاية في بابه الجامع الكبير 222.
(2) من قصيدة له مطلعها:
وقائلة والدمع يحدر كحلها ... لبئس المدى أجرى إليه ابن ضمضم
ديوانه 2/ 749.
(3) لم يعثر عليه في ديوانه جمع الصاوي.(1/292)
«ومن خاف»، ما يناسبه من أسباب النجدة والقوة والنصرة والإعانة، كأن يقول (1):
ومن في كفيه عصا مجردا، أو نحو ذلك وإلا فالكرم لا يوجب أمن الخائف بغيا من العدا لجواز أن يكون الكريم ذليلا، أو ضعيفا، والله أعلم.
الضرب الثالث: صحة التقسيم.
وليس المراد به هنا العقلي لأنه حاصر لدورانه بين النفي والإثبات، ويشمل الاقسام الممكنة والمستحيلة، وإنما المراد به الصناعي:
فهو ذكر الأقسام الممكنة، فإن حصرها فصحيح، وإلا ففاسد.
مثال الأول قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} (2) فهذه قسمة صحيحة، لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف من العذاب، وطامع في الغيث.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} (3) فإن الدوابّ منحصرة في هذه الأقسام.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ} (4). فإن الناس إما: عاص أو طائع، أو متوسط بينهما، خلط عملا صالحا وآخر سيئا.
وكذا قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوََاجاً ثَلََاثَةً، فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ، وَالسََّابِقُونَ السََّابِقُونَ} (5) هو نحو ما تقدم.
__________
(1) في الأصل: كأن قال.
(2) سورة الرعد الآية 11.
(3) سورة النور آية 45.
(4) سورة فاطر الآية 32.
(5) سورة الواقعة الآية 107.(1/293)
وكذلك قوله: {فَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (1) {وَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ} (2) {وَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضََّالِّينَ} (3).
ومن ذلك قوله عليه السلام: «اليمين حنث أو ندم» (4).
وقوله عليه السلام: «بشّر مال البخيل بحادث أو وارث».
ومن أحسن ما سمعت في التقسيم قول الغزالي: (5) إن ترك الأعمال التي صح النقل باستحبابها والترغيب فيها مع العلم به، إما جهل جليّ أو كفر خفيّ، يعني: إن تركها مع اعتقاد استحبابها فهو إيثار، لعدم الثواب المترتب عليها على وجودها، وذلك جهل جليّ، كمن يؤثر الخسران في التجارة على الربح.
وإما مع عدم اعتقاده ذلك، فهو كفر خفيّ، لاستلزامه تكذيب النقل الصحيح وحكي أن إعرابيا وقف على مجلس الحسن (6). فقال: «رحم الله من أعطى من سعة، أو واسى من كفاف، أو آثر من قلة» فقال الحسن: ما ترك لأحد عذرا، فانصرف الأعرابي بخير كثير.
ومنه قول جميل (7):
__________
(1) سورة الواقعة الآية 88.
(2) سورة الواقعة الآية 90.
(3) سورة الواقعة الآية 92.
(4) رواه ابن عمر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم «إنما الحلف حنث أو ندم» ابن ماجة 1/ 680.
وفي اللسان: اليمين حنث أو مندمة، الحنث في اليمين: نقضها والنكث فيها، وهو من الحنث: الإثم.
(5) سبقت ترجمته ص 47من هذا الكتاب.
(6) هو الحسن البصري. سبقت ترجمته ص 66.
(7) من قصيدة مطلعها:
أبثين إنك قد ملكت فأسجحي ... وخذي بحظك من كريم واصل
ديوان جميل 179وفي الديوان ط دار مصر.
لو كان في صدري كقدر قلامة ... فضل وصلتك أو أتتك رسائلي(1/294)
لو أن في قلبي كقدر قلامة ... حبّا وصلتك أو أتتك رسائلي
وزعم أبو هلال (1): أن هذا ليس بتقسيم صحيح، لأن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل، ولعله حمل لفظ وصلتك على أنه من الوصال، والظاهر أنه من الوصول، أي وصلت إليك بنفسي وحينئذ يكون تقسيما صحيحا لأن الوصل إما بزيارة البدن، أو ببعثه الرسالة.
ومثال الثاني قول بعضهم يصف مكسورين في الحرب:
«فمن جريح مضرّج بدمائه، وهارب لا يلتفت إلى ورائه».
فإن الجريح قد يكون هاربا، والهارب قد يكون جريحا، والقسمة الصحيحة: «فمن بين قتيل، ومأسور وناج».
وقد قال النابغة (2):
لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في عقال الأسر مكبول
ولعله لم يذكر الناجي لأنه لم ينج من الذين وصفهم أحد، بل انحصروا في القسمين المذكورين: وهما (3) الأسير، والقتيل وإليه أشار بغير المتفلت.
ومن الحصر الصحيح قول عمرو بن كلثوم: (4)
فآبوا بالنّهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
__________
(1) هو أبو هلال العسكري والنص في كتاب الصناعتين ص 348.
(2) لم يعثر عليه في ديوانه بتحقيق الدكتور شكري فيصل.
(3) في الأصل وهم الأسير والقتيل.
(4) من معلقته ومطلعها:
ألا هبى بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
انظر شرح القصائد التسع المشهورات لأبي جعفر النحاس 2/ 820ط العراق.(1/295)
فإنهم لم يتركوا بعد ما أتوا به شيئا إلا رهائن المعارك والقتلى.
ومن ذلك قول بعض الأعراب: النعم ثلاث: نعمة في حال كونها نعمة، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لا تحتسبه. فاستحسن قوم هذه القسمة، وليست بشيء لتداخلها والإخلال ببعض أقسامها:
أما الأول: فلأن غير المحتسبة من أقسام المستقبلة، أو المستقبلة إن ظهر سببها كانت محتسبة، وإلا فهي غير محتسبة.
وأما الثاني: فلأن من أقسام النعم: الماضية، ولم يذكرها.
ولو قال «النعم ثلاثة: نعمة ماضية، ونعمة حاضرة، ونعمة مستقبلة، فأحسن الله آثار النعمة الماضية، وأبقى عليك الحاضرة، وأجزل لك المستقبلة» لطبق مفصل البلاغة.
وقد تعجب بعض البلغاء من قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وهجركم قلى
وعطفكم صدّ، وسلمكم حرب (1)
وقال: هذا أحسن من تقسيمات أوقليدس (2). وغفل عن أن شرط التقسيم الصحيح أن لا يقبل الزيادة، وهذا يقبلها، نحو:
ولينكم عنف وقربكم نوى ... وإعطاؤكم منع، وصدقكم كذب
وكثير من هذا الباب.
وقد أنكر علي بن معط (3) قوله في الفقيه:
__________
(1) ديوانه ص 13.
(2) أوقليدس: لفظ يوناني مركب من «أقلي»: بمعنى المفتاح، و «دس» بمعنى الهندسة أي: مفتاح الهندسة، وهو اسم رجل برز في علمي الهندسة والحساب. معجم الأدباء 2/ 44.
(3) هو يحيى بن معط بن عبد النور الزواوي المغربي ولد سنة 564وتوفي 628هـ. بغية الوعاة 2/ 344عيسى الحلبي.(1/296)
فقلت: اعتراض من حاسد، أو جاهل، أو عالم معاند.
لأنها قسمة متداخلة لأن الحاسد أعم من أن يكون جاهلا أو عالما والجاهل أعم من أن يكون حاسدا أو غيره، والله أعلم.
النوع الحادي والعشرون: في الاقتصاد والإفراط والتفريط
فالاقتصاد: التوسط والقصد.
والإفراط: مجاوزة الحد.
والتفريط: القصور عنه.
واعلم أن المعنى المراد من الكلام: إما وفق رتبة المعبر عنه، وهو الاقتصاد.
أو دونها: وهو التفريط. أو فوقها: وهو الإفراط.
ولعلماء البيان فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: كراهته، وهو مذهب الجاحظ (1).
والثاني: اختياره وإيثاره، وهو مذهب قدامة بن جعفر (2). قال: لأن أحسن الشعر أكذبه، وعليه المتأخرون، وهذا المختار لأنه مركب من مقدمات تخيلية، فاعتبار الصدق، والتحري فيه لا معنى له، ولأن ذلك يعوّد تركه.
الثالث: اختيار القصد فيه بصورة الإفراط، وهو أن يفرط ثم يستثني ما زاد على القصد، أو كاد، أو غيرهما، كقول البحتري (3):
__________
(1) من أشهر كتبه البيان والتبيين، والحيوان. توفي 255هـ.
(2) صاحب كتاب نقد الشعر. توفي 337هـ. وانظر ص 84من كتابه نقد الشعر.
(3) من قصيدة يمدح فيها المتوكل ومطلعها:
أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر ... وألام في كمد عليك وأعذر
ديوانه 1/ 211وفي الأصل «لو أن مشتاقا».(1/297)
فلو ان مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وقول الآخر:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم (1)
هكذا ذكر ابن الأثير (2) مثال هذا، وليس بمطابق لأن هذين ما أفرطا، ولا استثنيا شيئا، وإنما البحتري علق الإفراط: وهو سعي المثير على شرط: وهو تكليف.
المشتاق ما في وسعه، والآخر قارب الإفراط، لكنه في معنى الاستثناء فما ذكره متجه في الجملة، فهذا مثال القصد.
ومثال التفريط، قول أبي تمام:
ما زال يهذي بالمكارم والعلا ... حتى ظننّا أنه محموم (3)
فجمع له بين لفظ الهذيان وخلط الحمى، ولعل أبا تمام حين قال هذا كان محموما، وإلا فالسامع لا يستحسن هذا الخطاب لمن يهجوه، فكيف لمن يمدحه.
وكذا قوله (4):
أنت دلو، وذو السّماح أبو مو ... سى قليب، وأنت دلو القليب
ومراده: أنك سبب إلى عطاء أبي موسى، كما أن الدلو سبب إلى استخراج ما في
__________
(1) من قصيدة منسوبة للفرزدق وليست بديوانه مطلعها:
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا النقي التقي الطاهر العلم
وهذه القصيدة تروي لآخرين، انظر زهر الآداب 1/ 65والأغاني 19/ 40.
(2) الجامع الكبير ص 229، المثل السائر 3/ 195.
(3) يمدح أبا الحسين بن الهيثم من قصيدة مطلعها:
أسقى طلولهم أجش هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم
ديوانه 3/ 289وفي الديوان: ما زال يهذي بالمواهب دائبا.
(4) البيت ليس بالديوان، وذكره صاحب الصناعتين 356.
والقليب: البئر.(1/298)
القليب، وهو معنى حسن، إلا أن جعل الممدوح دلوا تفريط، فقبح لما تقدم من أن المعتبر في هذا العلم المعنى واللفظ معا.
ويحكى أن بعض الأعراب وفد على بعض الخلفاء فمدحه بشعر من جملته:
أنت كالكلب في حفاظك للود ... وكالتيس عند قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك من دلو ... شديد العرى وثيق الصليب (1)
فقال الخليفة، ولم يتحقق أنه أعرابي: انظروا، فإن كان أعرابيا، فأجيزوه، وإن كان قرويا، فاصلبوه. يشير إلى أنه إن كان أعرابيا كان جادا، وأهل القرى يهزلون ويطنزون (2).
وقول بعضهم:
وتلحقه عند المكارم هزة ... كما انتفض المحموم من أم ملدم (3)
فتشبيهه بالمحموم تفريط، كما سبق من قبل، وأحسن مشابهة به اهتزاز الممدوح اهتزاز السيف، كقوله:
كريم ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتزّ اهتزاز المهنّد (4)
ومن هذا الباب قول الأعشى:
وما مزبد من خليج الفرا ... ت جون غواربه تلتطم
__________
(1) رجل صلب وصليب: ذو صلابة، وقولهم في الراعي صلب العصا وصليب العصا: إنما يرون أنه يعنف بالإبل. اللسان مادة صلب.
(2) طنز: كلمه باستهزاء فهو طناز، قال الجوهري: أظنه مولدا أو معربا، والطنز: السخرية. اللسان مادة طنز.
(3) أم ملدم: الحمى.
(4) قاله ابن ميادة: وهو الرماح بن يزيد. انظر الشعر والشعراء ص 771وقد ورد هذا البيت في الكتاب في باب الأخذ والسرقة. ص 317(1/299)
بأجود منه بما عونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم (1)
فإنه مدح ملكا بأنه يجود بالماعون، وهو ما يستعار من قدوم أو قدر ونحوه من متاع البيت، وهذا إلى الذم أقرب منه إلى المدح.
وعندي في هذا النظر: فإن الماعون يراد به الماء أيضا، وهو مراد الأعشى هاهنا لأنه ذكره في سياق ذكر الخليج والفرات والغوارب والالتطام والغيم.
وقد جاء في الشعر في صفة السحاب:
يصب صبيره الماعون صبّا
يعني: الماء، ذكره العزيزي (2).
وكنى الأعشى بالماء عن الفضل والعطاء، كأنه قال: بأجود منه بفضله وعطائه الذي هو كماء الفرات، وخص الفرات بالذكر لعذوبة مائها، أو لأنه لم ير غيرها، أو أنه أراد جنس الماء العذب، فإنه موضوع الفرات في الأصل.
قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنََاكُمْ مََاءً فُرََاتاً} (3)، والله أعلم.
ومثال الأول قول عنترة:
وأنا المنية في المواطن كلّها ... والطعن مني سابق الآجال (4)
__________
(1) من قصيدة يمدح بها قيس بن معدي كرب ومطلعها:
أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم؟!
ديوانه ص 35.
(2) هو محمد بن عزيز أبو بكر السجستاني، كان اديبا فاضلا متواضعا، صنف غريب القرآن، توفي سنة 230 هـ، البغية 1711.
(3) سورة المرسلات الآية 27.
(4) ذكر البيت بالديوان هكذا:
وأنا المنية حين تشتجر القنا ... والطعن منى سابق الآجال
الديوان 139.(1/300)
والطعن لا يسبق الأجل، لا يقال: لعله كان يعتقد ذلك لكفره، كما اعتقد عمرو ابن معدي كرب (1) أن الفرقدين لا يفترقان أبدا بقوله:
وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك
لأنا نقول: ثبت عن أهل الجاهلية أنهم كانوا يعتقدون تحتم الأجل، كما يعتقد الإسلاميون، واستفاض ذلك في أشعارهم، كقول عنترة:
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل (2)
وقوله:
يا عبل أين من المنية نهرب ... إن كان ربّك في السماء قضاها (3)
وقول الآخر:
من أيّ يومي من الموت أفر ... من يوم لم يقدر أم يوم قدر
وتقرير هذا الكلام: أن كل يوم من أيامي لا يخلو من أن يقدر عليّ الموت فيه أو لا، فإن قدر، لم ينفعني الفرار، وإن لم يقدر، لم يفدني شيئا، وكان تحصيل الحاصل، وهذا اعتقاد لا يزيد عليه اعتقاد عارفي المسلمين في هذه المسألة.
ويروى «سايق الآجال» بالياء المثناة من أسفل، وهو أيضا إفراط، إذ الطعن لا يسوق الأجل، بل الأجل يسوقه، لكن هو أقرب من الأول.
__________
(1) هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي ويكنّى أبا ثور.
الشعر والشعراء ص 372.
(2) الشطر الأول من البيت:
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
ديوانه 58ط بيروت.
(3) مطلع قصيدة في الفخر. وفي الديوان:
يا عبل أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها
(ديوانه 74)(1/301)
وكقول النابغة (1):
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
إذ ليس في قوة الطير إلا أنها تأكل لحوم القتلى، لا أنها تعلم الغيب.
وربما حسن هذا منه بناء على أنه وصف الطير بأنها صارت تعلم ذلك منه عادة وتجربة.
وقول قيس بن الخطيم:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها (2)
قال بعضهم لما سمع هذا: لم يطعنه، وإنما فتح بابا أو دربا.
وقول بشار بن برد:
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما (3)
ومن إفراطات المتنبي قوله:
وقالوا هل يبلّغك الثريا؟ ... فقلت: نعم، إذا شئت استفالا (4)
__________
(1) من قصيدة يمدح بها عمرو بن الحارث الأصغر حين هرب إلى الشام ونزل عنده. الموازنة 621، وديوانه ص 43وجوانح 2: مائلات للانقضاض.
(2) أنهرت فتقها: اتسع موضع الطعنة. ديوان قيس بن الخطيم ص 3.
(3) ورد في الشعر والشعراء ص 760.
(4) من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني مطلعها:
بقائي شاء، ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا
ديوانه 130.(1/302)
وقوله:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني (1)
لو أن إبرة رفاء أكلفها ... دخلت في خرقها من دقة البدن
إلا أن هذا البيت لم نره في ديوانه، بل سمعناه من أفواه الناس.
وقوله في صفة الرامي وإصابة السهام:
يصيب ببعضها أفواق بعض ... فلولا الكسر لاتّصلت قضيبا (2)
ومن إفراطات أبي العلاء قوله في صفة السيف:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا (3)
ونظائر ذلك كثيرة.
واعلم أن الكلام قد يكون موجها: أي متضمنا للتفريط والإفراط، أو المدح والذم، باعتبار جهتين:
مثال الأول قول الأعشى:
وإذا تكون كتيبة ملمومة ... خرساء يخشى الذائدون نصالها
كنت المقدم غير لابس جنّة ... بالسيف تضرب معلما أبطالها (4)
__________
(1) ديوانه ص 2ط لجنة التأليف.
والبيت من قصيدة مكونة من ثلاثة أبيات قالها في صباه ليس بينها البيت الثاني.
(2) من قصيدة يمدح بها علي بن محمد بن سيار مطلعها:
ضروب الناس عشاق ضروبا ... فأعذرهم أشفّهم حبيبا
ديوانه 182ط لجنة التأليف.
(3) العضب: السيف القاطع. والغمد: قراب السيف.
(4) ديوانه ص 27وفي الأصل ذكرت الشطرة الثانية من البيت الأول هكذا: وإذا تكون كتيبة ملمومة في الحرب تدعو الدارعون نزالها.(1/303)
فقوله: غير لابس جنة إفراط في الوصف بالشجاعة والإقدام، تفريط من حيث إنه وصفه بالإخلال بالحزم، ولهذا لما أنشد بعض الشعراء بعض بني أمية بقوله:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدّي نسجها فأطالها (1)
فقال له: هلا قلت كما قال الأعشى، وذكر له البيتين المذكورين، فقال: الشاعر الأعشى وصفه بالخرق، وأنا وصفتك بالحزم.
مثال الثاني: ما حكي أن شاعرا جاء إلى خياط أعور اسمه زيد بثوب، فقال: فصله لي قباء، فقال له الخياط: لأفصلنّ لك قباء، لا تدري أقميص هو أم قباء؟ فقال له الشاعر: إذن لأمدحنك مدحا لا يدري أمديح هو أم هجاء؟ فخاط الخياط الثوب كما وعد، فقال فيه الشاعر:
خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء
فاسمعوا يا قوم هذا ... أمديح أم هجاء (2)
وهذا صحيح، فإن التسوية بين عينيه نحو أن تكون في العور بأن تعور الصحيحة، فيكون دعاء عليه ويجوز أن تكون في الصحة بأن تصح العوراء فيكون دعاء له.
والأقرب إلى الفروع هو الأول وإلا فهذا وإن كان ممكنا، ما سمعناه جرى لآدمي حقيقي، إلا لقتادة بن النعمان ببركة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
النوع الثاني والعشرون: في الخطاب بالجملتين الفعلية والاسمية المؤكدة
وهو بالثانية أبلغ منه بالأولى وآكد وأدل على قوة الباعث النفساني عليه، كقوله
__________
(1) الدلاص: الدروع اللينة الرقيقة.
(2) القباء: ثوب يلبس فوق الثياب والبيت منسوب لبشار وليس في ديوانه جمع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.(1/304)
تعالى: {وَإِذََا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قََالُوا آمَنََّا وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ قََالُوا إِنََّا مَعَكُمْ} (1)
فخاطبوا المؤمنين بقولهم «آمنّا» فدل على كذبهم، إذ لو صدّقوا لأكدوا، كما قالوا لشياطينهم «إنّا معكم». وكما قال المؤمنون: {إِنََّا هُدْنََا إِلَيْكَ} (2).
{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذََابَ إِنََّا مُؤْمِنُونَ} (3).
ولهذا: {قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا} قال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} (4).
بخلاف المؤمنين لما قالوا «إنا مؤمنون فإنه أقرهم على ذلك، ولم يرد عليهم. وخاطبوا شياطينهم «بإنا معكم» فدل على صدقهم في ذلك، أو قوة الباعث عليه، كما قال الكفار مثلهم لرسلهم: {إِنََّا كَفَرْنََا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنََّا لَفِي شَكٍّ مِمََّا تَدْعُونَنََا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (5).
قلت: والمدعى الاتفاقي أن صيغة «إنّا معكم» آكد من صيغة «آمنّا» أما الدلالة على صدقهم في الأولى، وكذبهم في الثانية، فليس لازما ولا مستفادا من مجرد الصيغة، إذ ربما صدق المتكلم بالفعلية دون الاسمية المؤكدة.
وإنما حكم على الكفار بما ذكرناه من الصدق والكذب لقرينة نفاقهم وإخبار الله بكذبهم عنهم، وإلا فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بن صياد في جواب قوله «اشهد بأني رسول الله، آمنت الله، وأمر الله المؤمنين أن يقولوا آمنا بالله، سمعنا وأطعنا». ونظائر كثيرة، فلو كان ذلك لازما للكذب أو دليلا عليه لجرده مما قيل، وأمر به شرعا.
ومن ذلك قوله تعالى لموسى وهارون: {فَقُولََا إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ}
__________
(1) سورة البقرة آية 14.
(2) سورة الأعراف آية 156.
(3) سورة الدخان آية 12.
(4) سورة الحجرات آية 14.
(5) سورة هود آية 62.(1/305)
{مَعَنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ} (1) أمر هما بتأكيد إخبار فرعون برسالتهما ليكون ذلك أوقع في نفسه ولم يأمرهما بتأكيد أمره بإرسال بني إسرائيل، بل أن يخرجا له الأمر في صورة السؤال لئلا يستكبر وتأخذه العزة بالإثم، ويقول: أمرتماني أمرا لازما جازما كأني معكما من آحاد الرعية، فيصر ويمتنع ويدل على هذا قوله تعالى: {فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً} (2) وعدم تأكيد الأمر، لميله من لين القول.
النوع الثالث والعشرون: في ورود الكلام بلام التأكيد
لأمر يعز وجوده، وفعل يعظم إحداثه كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ} إلى قوله: {لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً} (3).
وقال في الماء: {لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} (4) بغير لام.
والفرق بينهما: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا، فالتوعد به لا يحتاج إلى تأكيد. بخلاف جعل الحرث حطاما، فإنه على خلاف العادة، فاحتاج التوعد به إلى تأكيد. وهذا كما أن الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بالعصا، لم يحتج إلى تأكيد بيمين ولا غيرها، لجريان العادة واطرادها بذلك. وإذا توعده بالقتل بالكلية، احتاج إلى تأكيد عنده لندوره وعدم اطراد العادة به.
وأيضا فلم جعل الحرث حطاما؟ قلت للمادة والصورة.
وجعل الماء العذب أجاجا؟ قلت للكيفية فقط، فهو أسهل وأيسر، وهو راجع إلى ما سبق.
__________
(1) سورة الشعراء آية 16، 17.
(2) سورة طه آية 44.
(3) سورة الواقعة آية 6563.
(4) سورة الواقعة آية 70.(1/306)
ومن هذا الباب سؤال اشتهر لكثرة دورانه بين كثير من الناس، وتقريره: ما وجه تأكيد الإخبار بالموت، باللام، دون الإخبار بالبعث في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذََلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ تُبْعَثُونَ} (1).
وقد كان العكس أولى وأنسب؟ إذ البعث مختلف فيه، وهو أحوج إلى التأكيد، بخلاف الموت، فإنه لمشاهدته وتحققه عند كل أحد مستغن عن التأكيد، ولقد سئلت عن هذا مرارا فلم يخطر لي (2) ما يكافئه، ولم أسمع ممن سئل عنه أيضا له جوابا مكافئا، غير أجوبة لفظية لا طائل تحتها.
وأصل هذا السؤال فيما نقلت عن كثير من الزنادقة الطاعنين في القرآن، ثم بعد النظر والتأمل خطر لي جوابان: معنوي ولفظي.
أما الأول: المعنوي، فتقريره: أن المكلفين لم يسمعوا هذا الكلام ولا غيره من القرآن من الله تعالى، ولا من جبريل عليه السلام وإنما سمعوه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ نقول: إن إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا الكلام المتضمن لوقوع البعث، إما أن يكون لمن قد آمن به وصدقه في أنه رسول معصوم، أو لمن كذبه في ذلك، ولم يصدقه، فإن كان إخباره بذلك لمن صدقه، كأبي بكر مثلا، لم يحتج في تصديقه بالبعث إلى التأكيد باللام ولا غيرها.
وإن كان لمن كذبه كأبي جهل مثلا، فإنه لا يصدق بالبعث، ولو أكد بجميع أدوات التأكيد، وحينئذ لا يظهر لتأكده أثر طردا ولا عكسا، إثباتا ولا نفيا، فالسؤال إذن ساقط من أصله، أو غير وارد.
فإن قلت: لا نسلم الحصر فيما ذكرت لجواز أن يخبر بذلك من ليس مصدقا له ولا مكذبا، بل هو في مهلة النظر والتروي في أمره: هل هو صادق، أو لا؟، وحينئذ كان ينبغي تأكد البعث ليكون أدعى لهذا الشخص إلى التصديق والانقياد.
__________
(1) سورة المؤمنون آية 16.
(2) في الأصل: فلم يخطر له. وهو لا يتمشى مع السياق.(1/307)
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا الإخبار إنما كان بعد ثبوت النبوة بظهور المعجز، وحينئذ لا يتصور وجود هذا القسم إذ بعد ظهور المعجز لا يتخلف عن التصديق بالنبوة إلا مكذب معاند، فثبت الحصر فيما ذكر.
الثاني: سلمنا وجود هذا القسم، لكن مستند ثبوت النبوة ليس حصول العلم بالبعث، بل مستندها حصول المعجز، فيترتب عليه ثبوت النبوة، ثم يترتب على ثبوتها وجوب التصديق بسائر الإخبارات، فإذا كان هذا الشخص في مهلة النظر ينبغي أن ينظر في المعجز الذي هو مستند النبوة، لا في وقوع البعث الذي يكون التصديق به فرعا من فروعها (1).
وأما الثاني: وهو اللفظي، فتقريره: أن قوله «تبعثون» فعل، ودلالة الفعل على المصدر بنفسه فهي قوية، ويستغنى بقوتها (2) وتأكيدها في نفسها عن تأكيد خارجي.
بخلاف قوله «ميتون» فإنه اسم فاعل، ودلالته على المصدر لا بنفسه، بل بواسطة دلالته على الفعل، فهي ضعيفة، فاحتاجت إلى مؤكد لضعفها، وقد سبق أن اعتدال العبارة والمعنى من أهم المقاصد البلاغية. وما ذكرناه محصل له، فوجب إضافة هذا التخصيص إليه، فحصل مما أجبنا به أن السؤال المذكور ساقط من حيث النظر المعنوي، وجوابه من حيث النظر اللفظي ما ذكرناه، والله أعلم.
النوع الرابع والعشرون: في التضمين
وهو جعل المتكلم في ضمن كلامه كلاما أجنبيا من قرآن، أو شعر، أو مثل سائر، متمما له ومنتظما في سلكه، غير مسمّ قائله، لشهرته، أو مصرح بأنه لغيره في الجملة.
__________
(1) في الأصل: الذي التصديق به فرع من فروعها.
(2) الضمير يعود على المفهوم من السياق وهو الجملة الفعلية.(1/308)
وهو يزيد الكلام حلاوة، ويكسبه رونقا وطلاوة. وهو ضربان:
أحدهما: ما لا يتم الكلام بدونه ويسمّى تضمين الإسناد. أي: يستند المعنى في تمامه إلى الجزء المضمن، كقول القائل:
ولما أتاني من حماك تحية ... تضوّع من إتيانها المسك والنّدّ (1)
وقفت فأعييت الرسول تساؤلا ... وأنشدته بيتا له المثل الفرد
«وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جوى فلتزدني من حديثك يا سعد»
فالبيت الأخير هو حكاية الإنشاد في الذي قبله فلا يتم الكلام كاملا إلا بذكره.
وربما توجه على هذا الكلام مناقشة ظاهرة.
والثاني: ما يتم الكلام بدونه، كتضمينات ابن نباتة للآيات في خطبه كقوله:
«فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم منه لا تشفقون.
فو ربّ السماء والأرض إنه لحقّ مثل ما أنكم تنطقون» (2). وهذا كثير في خطبه.
وكقول جحظة (3):
قم فاسقنيها يا غلام وغنّني ... «ذهب الذين يعاش في أكنافهم»
وهذا نصف بيت للبيد تمامه:
وبقيت في خلف كجلد الأجرب (4)
ويجوز تضمين البيت كاملا أو نصفه، كما سبق.
وهاهنا أمران يشتبهان بالتضمين وليسا به:
__________
(1) النّدّ: العنبر، قال ابن دريد: لا أحسب «النّد» عربيا صحيحا.
(2) سورة الذاريات آية 23 «فو ربّ السماء الخ».
(3) هو أبو الحسن أحمد بن جعفر البرمكي الشاعر المغني. توفي سنة 324معجم الأدباء 1/ 383.
(4) ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والبيت من قصيدة مطلعها:
فاقض اللبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب
ديوانه شرح الطوسي 153.(1/309)
أحدهما: الإشارة في أثناء الكلام إلى مثل أو شعر نادر، كقول عليّ رضي الله عنه في خطبته الشقشقية (1):
شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر (2)
ويسمى التمليح.
وينفصل عن التضمين بأنه ليس متمما للكلام ولا منتظما في سلكه، بل هو بمنزلة من يمشي في طريق فيعدل عنه لعارض، ثم يرجع، ولو ترك لتم الكلام بدونه.
الثاني: أن يذكر قائل الكلام إما باسمه كقول البحراني:
قد أحسن المتنبي حيث قال وما ... زالت له حكم تروى وأمثال
لولا المشقة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال (3)
أو بصفته كأديب أو شاعر.
أو أشار بما يدل على أنه لغيره، كقول القائل المتقدم ذكره:
وأنشدته بيتا له المثل الفرد (4)
والصحيح أن هذا الثاني، وهو: ما إذا سمى القائل فهو تضمين، والله أعلم
__________
(1) الخطبة الشقشقية فتحها بقوله «أما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى» وسميت شقشقية لقوله فيها «هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت» والشقشقة بكسر فسكون:
شيء كالرئة بخرجه البعير من فيه إذا هاج. نهج البلاغة ص 45ط بيروت 1885.
(2) البيت للأعشى من قصيدة مطلعها:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
(3) من قصيدة يمدح بها أبا شجاع فاتك مطلعها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ديوانه 505.
(4) انظر ص 309من هذا الكتاب.(1/310)
النوع الخامس والعشرون: الاستدراج
وهو التوصل إلى بلوغ المراد من المخاطب بالتلطف من حيث لا يشعر.
فمنه قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يََا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مََا لََا يَسْمَعُ وَلََا يُبْصِرُ وَلََا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يََا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جََاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مََا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرََاطاً سَوِيًّا. يََا أَبَتِ لََا تَعْبُدِ الشَّيْطََانَ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلرَّحْمََنِ عَصِيًّا. يََا أَبَتِ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذََابٌ مِنَ الرَّحْمََنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطََانِ وَلِيًّا} (1). فطلب منه أولا العلة، والدليل على استحقاق آلهته العبادة، وضمن ذلك الدليل على أنها لا تستحقها، وهو كونها لا تسمع ولا تبصر، ومن كان كذلك فهو جدير أن لا يغني عنك شيئا، وأنت جدير أن لا تعبده، ثم ارتفع عن ذلك يسيرا، فقال: «إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني». ولم يصرح له بالتجهيل تأدبا وتلطفا، ثم ارتفع عن ذلك قليلا، فقال: «لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيّا». فيريد أن يجعلك مثله وهو عدوك، ولكن لشدة إخلاص إبراهيم ومناصحته لربه، اقتصر على إخباره بمعصية الشيطان للرحمن، ولم يلتفت إلى عدوانه لأبيه، ثم ارتفع قليلا فتوعده بالعذاب غير مصرح، بل قال: «إني أخاف أن يمسّك عذاب الرحمن». هذا مع تصديره كل جملة من الكلام بقوله: «يا أبت» تقرّبا إلى قلبه، واستعطافا له، فكان جوابه له أن {قََالَ: أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (2). فأنكر عليه رغبته عن آلهته إنكارا عنيفا لتقديمه الخبر على المبتدأ، وسمّاه باسمه، ولم يقل له: يا بني، كما قال له: يا أبت، وتوعّده بالرّجم توعّدا مؤكدا لا تعريضا، كما قال هو له «إني أخاف أن يمسّك» وأمره بهجرانه مليّا إظهارا لتبرئه منه، وجفوته له، وكراهة ما جاء به، وهذا ضد الاستدراج.
__________
(1) سورة مريم آية 4542
(2) سورة مريم آية 46.(1/311)
ومنه: قول مؤمن من آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ وَقَدْ جََاءَكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كََاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ. وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} (1) فأخذهم بالاحتجاج على جهة التقسيم والاستدراج فقال:
هذا إما كاذب فوبال كذبه عائد عليه، فما لكم وله، وإما صادق فيصيبكم بعض ما يعدكم به، فقدم الكذب على الصدق، وقال: «بعض الذي يعدكم» من علمه بأن جميع ما وعدهم به واقع بهم هضما لبعض حقه في ظاهر الكلام، كأنه قال: إني قد هضمته بعض حقه، وحجتي ظاهرة عليكم، فكيف لو استوفيت له حقه في جدالكم، أو تعصبت له فزدته على حقه، ثم أبطل القسمين، وهو كونه كاذبا بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ} (2) أي: وهذا قد هداه الله للإيمان فلا يكون كاذبا، فيكون صادقا، فاقبلوا اتباعه، وهذا هو المقصود بالاستدراج، توصل إليه بتلك المقدمات، والله أعلم.
وهكذا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {مََا تَعْبُدُونَ؟. قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ} (3). فإن في هذه القصة أنواعا من التلطف والاستدراج.
النوع السادس والعشرون: الإرصاد
وهو معرفة السامع قافية البيت، أو فاصلة النثر من سماع صدر كلام، كقول النابغة (4):
__________
(1) سورة غافر آية 28.
(2) سورة غافر آية 28.
(3) سورة الشعراء آية 70و 71.
(4) من قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر ويعتذر له ومطلعها:
أمن ظلامة الدمن البوالي ... بِمُرفَضِّ الحبي إلى وعال
وفي الديوان ولو كفّى اليمين بغتك خونا
ديوانه ص 139.(1/312)
فداء لامرئ سارت إليه ... بعذرة ربّها عمّي وخالي
ولو كفّي اليمين بغتك خوفا ... لأفردت اليمين عن الشمال
فإن من سمع لفظ اليمين في أول البيت بعد معرفته أن الشعر على قافية اللام علم أن لفظ الشمال في آخره.
وكذا قول البحتري (1):
أحلّت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فليس الذي حلّلته بمحلّل ... وليس الذي حرّمته بحرام
فإن السامع لا يخفى عليه آخر هذا البيت من سماع أوله.
ومن هذا القبيل ما حكي أن جريرا والفرزدق كانا يتهاجيان، فأنشد جرير بحضرة الفرزدق قصيدته التي هجا بها الراعي، يقول فيها:
فغضّ الطّرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (2)
إلى أن انتهى إلى قوله:
لها مرض بجانب إسكتيها ... (3)
فأحس الفرزدق بتمام البيت فغطى عنقفته بيده، فقال جرير:
... كعنفقة الفرزدق حين شابا
__________
(1) من قصيدة يمدح بها المتوكل ومطلعها:
ألا هل أتاها بالمغيب سلامي ... وهل خبرت وجدي بها وغرامي
ديوانه 2/ 222.
(2) ومطلعها:
أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
ديوانه 75.
(3) وفي الديوان ص 69. ترى برصا بمجمع إسكتيها(1/313)
فما أغنى عن الفرزدق تغطية عنقفته شيئا.
ومن الإرصاد قوله تعالى: {فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} (1) فالسامع لهذا يدري أن آخر الآية «يظلمون».
وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} (2)
فالسامع لهذا يعلم أن بعده: بيت العنكبوت.
ونظائر هذا كثيرة وهذا مما يدل على براعة الناظم والناثر لأن أول الكلام لا يدل على آخره، إلا لشدة ارتباطه به، وذلك أعلى مطالب هذا العلم كما سبق.
وفي الافتخار بذلك قال ابن نباتة الشاعر (3):
خذها إذا أنشدت في القوم من طرب ... صدورها عرفت منها قوافيها
ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها
وأبو هلال (4) سمّى هذا النوع «التوشيح»، وتسميته بالإرصاد أولى لأن السامع يرصد القافية في نفسه، أي: يعدها بالحدس حتى يحققها بالحسّ.
والتوشيح يأتي ذكره، وقريب من هذا تسمية الغانمي (5) ذكر الشاعر زيادة لأجل القافية يتم المعنى بدونها «تبليغا»، ومثله بقول امرئ القيس (6):
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب
__________
(1) سورة التوبة آية 70وتمامها «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون».
(2) سورة العنكبوت آية 41.
(3) يتيمة الدهر 2/ 379ط الصاوي.
(4) الصناعتين ص 382.
(5) هو أبو العلاء بن غانم المعروف بالغانمي، اللباب 1663
(6) من قصيدة مطلعها:
خليلي مرّا بي على أم جندب ... نقضّ لبانات الفؤاد المعذب
ديوانه ص 53.(1/314)
ثم ذكر قول ذي الرمّة (1):
قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل
فسماه «الإشباع» والموضوعان سواء، إذ التشبيه هاهنا يتم بدون المسلسل كما يتمّ ثمّ بدون قوله: «الذي لم يثقب». وأبو هلال سمّى هذين النوعين «إيغالا» (2)
وهو أنسب، والأسماء الثلاثة متقاربة، والنوعان واحد، وفيه شبه ما بما جعله ابن الأثير مثالا للإطناب، وقد سبق.
والإغراق في الوصف كقول امرئ القيس (3):
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا
وهو كالأفعال لكنه أبلغ منه.
النوع السابع والعشرون: في التوشيح
وهو جعل القصيدة متضمنة لبحرين وقافيتين، فيكون الزائد من آخر البحرين على الآخر، كالوشاح له، كقول القائل:
اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ... ركنا ثبير أو هضاب حراء (4)
ونل المراد ممكّنا منه على ... رغم الدهور وفز بطول بقاء
وكقول الحريريّ (5):
__________
(1) الديوان ص 72، أخلاق الرداء: الرداء الخلق المهلهل
(2) كتاب «الصناعتين» ص 380والعمدة 542.
وقد سبق أبا هلال قدامة في التسمية وذكر البيت. نقد الشعر ص 100، 101ط المليجية.
(3) من قصيدة مطلعها:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا ... وحلت سليمى بطن قوّ فعرعرا
ديوانه ص 68، محول: حال عليه الحول. الذر: النمل. الإتب: القميص.
(4) ثبير: جبل بظاهر مكة.
(5) المقامة الثالثة والعشرون الشعرية أو الحريمية ص 219ط بيروت 1903(1/315)
يا خاطب الدّنيا الدنيّة إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدر
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا، بعدا لها من دار
إلى آخرها.
وقد رأيت شعرا تتضمن القصيدة منه عشرة أبحر وأكثر.
ومما يسمّى توشيحا أن يضاف إلى البيت ثلاثة مصاريع فيصير مخمسا، كقول القائل:
فإن أدركتها فهي الأماني ... وإن فاتت فداك عذير حالي
فوشحه بعضهم فقال:
سأطّرح التعلّل والتواني ... ولا أصغي إلى غرّ لحاني
وأطلق في طلابتها عناني ... فإن أدركتها
إلى آخر البيت الأول:
وقد وشحت مقصورة ابن دريد (1).
ولامية العجم التي أولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل (2)
وقصيدة ابن سيناء في الروح التي أولها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
وكثير من الأشعار المشهورة هكذا، والله أعلم.
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، كان عالما باللغة وأشعار العرب، ولد سنة 223هـ وتوفي سنة 321هـ.
الفهرست 61.
(2) والشطر الثاني من البيت: وحلية الفضل زانتني لدى العطل. وهي للطغرائي المتوفى سنة 515هـ وقد نظمها ببغداد سنة 505هـ في وصف حاله وشكاية زمانه: شرح لامية العجم للصفدي ص 53، وديوان الطغرائي ص 301ط العراق.(1/316)
النوع الثامن والعشرون: في الأخذ والسرقة
واعلم أن المؤلّف نظما ونثرا، إن أتى بمعنى لم يسبق إليه، فليس من هذا الباب.
وإن سبق إليه، فإن أتى بعين لفظ السابق، فهو النسخ، ما لم يكن تضمينا، مأخوذ من نسخ الكتاب إذا نقله على هيئته.
وإن غيّر لفظه، فإن أبرزه في معرض جميل، وهيئة حسنة تساوي الأول، أو تزيد عليه، فهو السلخ لأنه أخذ بعض الشيء المسلوخ.
وإن أبرزه في معرض رديء، وهيئة قبيحة، فهو المسخ.
أما القبيح فله صور:
إحداهن: أن يتصرف الثاني في كلام الأول بتغيير هيئته: بتقديم أو تأخير.
الثانية: أن يتصرف فيه بحذف بعضه.
الثالثة: أن يأتي به بعينه من غير تصرف أصلا، كقول امرئ القيس (1):
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
وقال طرفة بن العبد ذلك بعينه، إلا أنه قال: وتجلد (2).
وكما حكي أن ابن ميادة (3) أنشد:
كريم ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد
فقيل له: أين تذهب؟ إنما هذا شعر فلان، يعني شاعرا مذكورا أظنه
__________
(1) من قصيدة مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ديوانه ص 9.
(2) جمهرة أشعار العرب 120، وشرح القصائد التسع 1/ 110.
(3) هو الرماح بن يزيد، وميادة أمه، ويكني أبا شراحيل، وهو من شعراء الدولتين الأموية والعباسية وقد ورد هذا البيت في ص 299، انظر الشعر والشعراء 771.(1/317)
الشماخ (1)، فقال: الله أكبر، الآن علمت أني شاعر، حيث وافقت فلانا، والله ما نمي قوله إلى علمي حتى الساعة.
وقد روي لأبي تمام والبحتري جميعا:
والمرء يشرق بالزلال البارد
قال ابن الأثير (2) وهذا وأمثاله لنا فيه الظاهر، وإن الثاني أخذه من الأول فيلزمه العيب.
قلت: وهذا من حيث التحقيق يحتاج إلى تفصيل، وهو: أن الثاني إن كان فاضلا يصدر منه ذلك الكلام عن مثله، نسب إلى فضيلته ودرايته، وجعل من باب توارد الخواطر، وتواقع الحافر، وإلا نسب إلى السرقة، ولزمه العيب (3).
وأما من حيث الفقه فيحتمل الخلاف مطلقا لتعارض الأصلين، أما لزوم العيب فلأن الأصل عدم السرقة، فالظاهر التوارد، والله أعلم.
وأما السلخ: فهو أخذ المعنى دون اللفظ، فلا عيب فيه إذ لا يستغني الثاني من استعارة المعاني ممن تقدّمه، وقد قال علي رضي الله عنه: «لولا أن الكلام يعاد، لنفد». ولأن المعاني مشتركة، وإنما التفاضل في جودة الصناعة اللفظية، وحسن السبك، كما قال بعضهم: «أبو عذر الكلام من سبك لفظه على معناه».
وبالجملة فاستعارة المعاني وتداولها إجماع من العالم، لكن ينبغي للثاني مراعاة ما قدمنا ذكره: من إبراز المعاني المستعارة في تركيب بديع، ومنظر أنيق، وبيان في رخاوة (4) إن أمكن، وهو ضربان:
__________
(1) هو الشماخ بن ضرار الثعلبي، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. الشعر والشعراء 315
(2) الجامع الكبير ص 243.
(3) في الأصل: ولزمه العتب.
(4) لعله يقصد بقوله: بيان في رخاوة بيان عذب فيه سلاس وليونة. وليس متهافتا مفككا(1/318)
الضرب الأول: أن يزيد الثاني على الأول شيئا
فمن أمثلة ذلك قول العرب: «القتل أنفى للقتل» فجاء القرآن بقوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصََاصِ حَيََاةٌ} (1) وهو أحسن وأبدع لأنه أخصر في الحروف، وأعدل في المخارج، وهو عري عن التكرار، وفيه ذكر القصاص المشعر بالتساوي والعدل، والدلالة على حصول الغرض، إذ ليس كل قتل ينفي القتل، بل ما كان قصاصا.
أما العدوان، فإنه يوقع الهرج، ويكثر القتل، ثم نظم الشاعر هذه المعاني فقال:
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدّما ... وبالقتل تنجو كلّ نفس من القتل
ثم قال الآخر:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم (2)
ومنها قول بعض العرب:
وحيّ ذوي الأضغان تسب عقولهم ... تحيّة ذي الحسنى وقد يرفع النغل (3)
وإن دحسوا بالقول فاعف تكرّما ... وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
__________
(1) سورة البقرة آية 179.
(2) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها: لهوى النفوس سريرة لا تعلم
(3) تنسب هذه الأبيات إلى العلاء بن الحضرمي، وقيل تنسب إلى غيره، والنغل: الفساد، دحسوا بالقول:
أفسدوه وأوغروا به الصدور.
وقد رويت الأبيات هكذا:
وحي جميع الناس تسب قلوبهم ... تحيتك الأدنى فقد ترفع النغل
فإن أظهروا بشرا فأظهر جزاءه ... وإن ستروا عنك القبيح فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منهم سماعه ... وإن الذي قد قيل خلفك لم يقل(1/319)
فجاء القرآن بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (1) وهو أخصر حروفا وأحسن تركيبا وطباقا.
واعلم أن جعلنا القرآن في هذين المثالين ثانيا لكلام العرب، إنما هو باعتبار النزول، وأما باعتبار الوجود فالقرآن قبل العرب فضلا عن كلامهم.
ومنها قول النابغة (2):
إذا ما غزا بالجيش
البيتين المذكورين في باب الإفراط، أخذ الأفوه (3) معنا هما فقال:
وترى الطير على آثارنا ... رأي عين ثقة أن ستمار (4)
وهو أخصر وأحسن، وبمثل هذا يصير الثاني أحق بالمعنى الأول.
ومنها قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج (5)
__________
(1) سورة فصلت آية 34.
(2) من قصيدة يمدح بها عمرو بن الحارث مطلعها:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
والبيتان هما كما في ديوانه ص 13. وقد ورد ذكرهما ص 302من هذا الكتاب.
إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنّ أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
(3) هو الأفوه الأودي من كبار شعراء الجاهلية، وكان قائدا وسيدا في قومه الشعر والشعراء 111.
(4) من قصيدة مطلعها:
أن ترى رأسي فيه قزع ... وشواتي خلة فيها دوار
ديوانه ضمن الطرائف الأدبية 13، ط 1937.
(5) هذا البيت من قصيدة مطلعها:
خشاب هل لمحب عندكم فرج ... أو لا فإني بحبل الموت معتلج
ديوانه 2/ 75.(1/320)
فقال سلم الخاسر (1):
من راقب الناس مات همّا ... وفاز باللّذة الجسور
فلما سمع به بشّار قال: «ذهب به ابن الفاعلة».
ومنها قول أبي العتاهية:
كم نعمة لا تستقلّ بشكرها ... لله في طيّ المكاره كامنة (2)
فأخذه أبو تمام فقال (3):
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فأتى بالمعنى وعكسه.
ومنها قوله أيضا (4):
فإن لم يجد في قسمة العمر حيلة ... وجاز له الإعطاء من حسناته
لجاد بها من غير شرك بربه ... وأشركهم في صومه وصلاته
فقال المتنبي:
فلو يمّمتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلّوا وصاموا (5)
__________
(1) هو سلم بن عمرو بن حماد، وسمى بالخاسر لأنه باع مصحفا واشترى بثمنه طنبورا. وتوفي سنة 186هـ الأغاني 21/ 73.
(2) عيون الأخبار 523، والصناعتين 227.
(3) من قصيدة مطلعها:
الياس، كن في ضمان الله والذمم ... ذا مهجة من ملمات الردى حرم
ديوانه 239ط صبيح.
(4) من قصيدة يمدح بها مالك بن طوق مطلعها:
أقول لمرتاد الندى عند مالك ... تعوذ بحدوى مالك وصلاته
ديوانه ص 50.
(5) هذا البيت من قصيدة يمدح بها المغيث العجلي ومطلعها:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام
ديوانه 4/ 77ط الحلبي.(1/321)
وهو أبسط لفظا وأوجز معنى.
ومنها قول بعضهم نثرا: «أحق من أثبت لك العذر في حال شغلك من لم يخل ساعة من برّك وقت فراغك». فأخذه آخر بعده فقال: «في شكر ما تقدم من إحسانك شاغل عن استبطاء ما تأخر منه». فزاد في المعنى وأوجز في اللفظ، ثم قال أبو نواس (1):
لا تسدين إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
وهو أبدع وأحسن.
تنبيه:
لما كان الإنسان ناقصا في نفسه لا يستغني بذاته، دعت حاجته إلى مساعد ومعاضد على انتظام أموره، وبلوغ أغراضه، ومن لوازم ذلك إعلام ما في ضمير غيره، فاقتضت حكمة الخالق سبحانه وتعالى وضع ما يعلم ويستعلم ذلك به فوضع له الآلة النطقية لأنها أسهل ما يمكن من الموضوعات لذلك من عقد أو إشارة أو كتابة، فقد علم من هذا أن أصل وضع هذه الآلة لأجل الضرورة، وما ثبت بالضرورة تعدد بقدرها لاستلزام انقطاع العلة بانقطاع معلولها، وهذا يقتضي أمرين:
أحدهما: أنه حيث أمكنت الإفادة التامة بدون الكلام كان أولى، ولهذا نفت المعتزلة كلام الله تعالى أصلا لأنهم قالوا: فائدة الكلام إخبار المكلفين بما يحتاجون إليه في التكليف، وهو ممكن لله تعالى بدون الكلام بأن يخلق فيهم العلم بذلك، أو يخلق كلاما في محل ما يعلمون ذلك به، وحينئذ إثبات الكلام له مع جواز الاستغناء عنه عنت، وموضع الرد عليهم غير هاهنا.
__________
(1) من قصيدة مطلعها:
حلت سعاد وأهلها سرفا ... قوما عدى ومحلة قذفا
ديوانه 432ط مصر 1953والموازنة 1/ 125.(1/322)
والثاني: أنه متى أمكن الإفهام بلفظ أوجز كان أولى وأحسن، وهذا معنى قولهم: «خير الكلام ما قلّ ودلّ». ولهذا قال النحاة: «لا يجوز الإتيان بالضمير المنفصل مع العدل على المتصل إلا لضرورة كقوله (1):
إليك حتى بلغت إيّاكا
وقوله (2):
قد ضمنت ... إياهم الأرض البيت
ولذلك افتخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أوتيت جوامع الكلام، واختصر لي الكلام اختصارا».
فحصل من هذا أن اللفظ ومعناه: إما وجيزان أو بسيطان.
أو اللفظ وجيز فقط، أو بالعكس.
فالأول: التقدير.
والثاني: الإطناب.
والثالث: الإيجاز بالقصر.
والرابع: التطويل.
وقد سبقت أحكامها في باب الإطناب (3).
__________
(1) البيت لحميد الأرقط وصدره:
أتتك عنس تقطع الأراكا
انظر المفصل للزمخشري ص 127ط الخانجي.
(2) والبيت للفرزدق وصورته هكذا:
بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير
من قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك ويهجو يزيد بن المهلب، ومطلع القصيدة:
كيف ببيت قريب منك مطلبه ... في ذاك منك كنائي الدار مهجور
ديوانه 2621ط الصاوي.
(3) انظر ص 234.(1/323)
الضرب الثاني: أن يستويا
كقول بشار (1):
يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ وتغشى منازل الكرماء
فقال الآخر بعده:
يزدحم الناس على بابه والمنهل العذب كثير الزحام
وكقول الآخر:
ما أنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
فقال الآخر بعده:
وإنّ بقوم سوّدوك لحاجة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
ومن أحسن ما وقع في هذا الباب من تناول جماعة معنى بعضهم عن بعض قول الأعشى (2):
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
ثم قال قيس بن الملوّح (3):
تداويت من ليلى بليلى عن الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
__________
(1) من قصيدة يمدح بها عقبة بن سلم ومطلعها:
حييا صاحبي أم العلاء ... واحذرا طرف عينها الحوراء
وفي الديوان: ينثر الحب، ديوانه 1/ 111ط 1950.
(2) في الأصل: وكأس شربت على مرة.
والبيت من قصيدة يمدح بها رهط عبد المدان بن الديان مطلعها:
ألم تنه نفسك عما بها ... بل عادها بعض أطرابها
ديوانه ص 22.
(3) من قصيدة مطلعها:
ألا يا عقاب الوكر وكر خربة ... سقيت الغوادي من عقاب على وكر
ديوانه ص 160.(1/324)
ثم أخذه أبو نواس فقال (1):
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
فأتى بالمعنى في لفظ أخصر، ثم أخذه ابن مقرب البحراني، فقال:
وداو نفسك من داء الهموم بها ... فما سوى موتة بالكأس نحييها
والله أعلم.
* * * وأما المسخ: ومثاله ما سبق من قول الشريف الرضي (2):
أحنّ إلى ما تضمر الخمر والحلى ... وأصدف عما في ضمان المآزر
فنسخه أبو الطيب بقوله (3):
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عما في سراويلاتها
فإن قلت: فضربك أنت في كتاب ابن الأثير من أي هذه الأقسام؟
قلت: هو سلخ، وأنت إذا نظرت بعين الإنصاف، علمت ذلك، والله أعلم.
خاتمة:
اختلف أهل الحديث في روايته بالمعنى، والجمهور على جوازها بشروطها، وعلى القولين، فالمسخ والسلخ مما يتواردان في تصنيفه على ترتيب التصانيف، لا على سند
__________
(1) البيت مطلع قصيدة في الخمر، ديوانه ص 80ط الاستقامة.
(2) من قصيدة مطلعها:
بغير شفيع نال عفو المقادر ... أخو الجد لا مستنصرا بالمعاذر
ديوانه ص 343.
(3) من قصيدة يمدح بها أبا أيوب أحمد بن عمران مطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها
ديوانه 1/ 226ط الحلبي.(1/325)
الحديث، ولا متنه، مثل: أن تأخذ كتابا مرتبا على تراجم الرواة كمسند أحمد، وإسحاق، أو على طبقاتهم، فرتبه على حروف المعجم، باعتبار الرواة، كجامع المسانيد، ومختصر الحميدي لا بن الحنبلي الدمشقي، أو باعتبار المتون، كمشارق الأنوار للتعالي، أو على أبواب الفقه، ككتب الأحكام، والله أعلم.
النوع التاسع والعشرون: في المعاظلة
وهي تداخل معاني الكلام وتراكيبها، والتقديم والتأخير المذموم كما سبق في بابه من قول الفرزدق (1):
وما مثله في الناس البيت
وكما تقدم في القسمة المتداخلة.
واشتقاقها من تعاظلت الجرادتان: إذا ركبت احداهما الأخرى، وهي قبيحة يجب اجتنابها. ووصف عمر رضي الله عنه زهير بن أبي سلمى فقال: «كان لا يعاظل بين الكلام».
فهذا آخر الأنواع المعنوية. لكن ذكر ابن سنان نوعا آخر:
وهو: أن لا يستعمل المؤلف ناظما أو ناثرا ألفاظ المتكلمين والنحاة والمهندسين ونحو ذلك (2) لأن المتكلم في علم، ينبغي أن يستعمل ألفاظ ذلك العلم، واصطلاح أهله، ومثل ذلك قول أبي تمام:
مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمّة جوهر معروفها عرض (3)
__________
(1) من قصيدة يمدح بها خال هشام بن عبد الملك بن مروان، وتمام البيت
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
ديوانه ص 1/ 108.
(2) سر الفصاحة ص 195.
(3) الجوهر والعرض من اصطلاح علماء الكلام، والشبه: النحاس الأصفر والبيت من قصيدة مطلعها:
ذل السؤال شجا في الحلق معترض ... من دونه شرق من تحته جرض
ديوانه 400ط محمد جمال.(1/326)
وقوله أيضا:
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء (1)
وهذا ضعيف جدا لأن المتكلم إذا جمع في كلامه بين ألفاظ أهل الفنون والصناعات واصطلاحاتهم، كان ذلك أدل على فضله، وغزارة علمه، وأجدر بتوفر الدواعي على سماع كلامه، واستكتابه، واشتهاره لأنه يصير كالطعام الجامع ألوانا، فالنفوس إليه أميل منها إلى اللون الواحد، كمقامات الحريري حيث جمعت أنواع الأدب، ونفائس الطرف والعجب، وككتاب شرح السنة حيث جمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول من الفروع والأصول، وغريب الحديث، ونحوه من الفوائد، وككتاب المحصل حيث جمع فيه بين تقرير مذهب المتكلمين والفلاسفة، ولذلك كثر شراحه، والمشتغلون به، والانتفاع منه وذكرنا هذه الأمثلة من قبيل ما نحن بصدد نصرته، والله أعلم.
وأما
الأنواع
اللفظية
لعلم الكلام
فسبعة
أنواع:
النوع الأول: في السجع والازدواج
وهو تواطؤ فواصل الكلام المنثور على حرف واحد أو حرفين متقاربين.
وهو من محاسن الكلام لوروده في كلام الله، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام الفصحاء كثيرا.
وقد ذمه قوم، ولا وجه لهم إلا عجزهم عنه، ولهم شبهتان:
إحداهما: نهيه عليه السلام عن السجع في الدعاء.
وجوابها: أن ذلك فيما إذا تكلف فيه السجع على خلاف الطبع لأنه إذن يلهي
__________
(1) الحباب: طرانق الماء في الخمر إذا مزجت، والأفعال والأسماء من أقسام الكلام عند النحاة والبيت من قصيدة يمدح بها محمد بن حسان الضبي. ديوانه 1/ 33.(1/327)
عن الخشوع الذي هو أكبر مقاصد الدعاء، بدليل أنه عليه السلام قال: «أعوذ بك من عين لا تدمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع» (1). وهذا سجع، ولكنه لفصاحته صلّى الله عليه وسلّم لم يتكلفه.
الثانية: قوله صلّى الله عليه وسلّم لحمل بن النابغة لما قال: أأدي من لا شرب ولا أكل ولا نطق، ولا استهلّ، مثل ذلك يطلّ؟: «أسجع كسجع الكهان؟» (2). فذمّ السجع، وجوابها من وجهين:
أحدهما: أنه ذم سجعه لأنه قابل به حكمه في إنجاب ضمان الجنين، كأنه قال:
أحكم بحكم الله وتقابلني بسجع كسجع الكهان.
الثاني: أنه لم يذم السجع مطلقا، بل ما أشبه سجع الكهان، وإلا لقال:
أسجعا فقط، ثم إنه عليه السلام قد أخرج بعض الألفاظ على أصله القياسي لمراعاة السجع نحو: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (3).
وكقوله للحسن والحسين: «أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة» (4).
والأصل: موزورات، وملمّة.
ونحوه قوله تعالى: {وَإِقََامَ الصَّلََاةِ وَإِيتََاءَ الزَّكََاةِ} (5) والأصل إقامة، وذلك دليل قاطع في فضيلته.
__________
(1) حديث مروي عن عبد الله بن عمر، ذكره النسائي 8/ 255.
(2) سنن النسائي 8/ 49، ونص الحديث «أسجع كسجع الأعراب» وحمل بن النابغة هو حمل بن مالك بن النابغة الذبياني، وفي اللسان «كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهل ومثل دمه يطل».
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم وسجع الكهان» مادة سجع.
وانظر إعجاز القرآن للباقلاني 58. ط دار المعارف والبيان والتبيين 1/ 288.
(3) رواه ابن الحنيفة عن علي. وهو الجزء الأخير من الحديث.
ابن ماجة 1/ 503.
(4) رواه ابن عباس سنن ابن ماجة 2/ 1165.
(5) سورة الأنبياء آية 73.(1/328)
ثم المحمود من السجع ما كان كما قيل لبعضهم: «ما أحسن السجع» فقال: ما راق في السمع، قيل: ثم ماذا؟ قال: مثل هذا، لا ما كان من تكلف وتعسف، حتى كأنه قدّ من جبل لغلظه وفظاظته، فيكون إذن سجعا جليا.
ثم السجع إما من متكلم واحد، كما سبق من دعائه عليه السلام، وهو الأكثر.
أو من متكلمين، كما ذكرناه من المثال آنفا، وكقوله عليه السلام: «من قتله؟» قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع» (1).
ثم إن فصلي الكلام المسجوع، إما أن يتفقا في عدد الحروف أو يتفاوتا، وعلى التقديرين، إما أن يتفقا في نوع الحرف الأخير (2) أو يختلفا في أربعة أقسام:
الأول: اتفقا في عدد الحروف وفي نوع الحرف الأخير، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلََا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ} (3).
وكقوله تعالى: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (4).
وكقول علي عليه السلام: «كثرة الوفاق نفاق، وكثرة الخلاف شقاق».
ويسمى المتوازي.
الثاني: اتفقا في عدد الحروف واختلفا في نوع الحرف الأخير.
كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} إلى قوله:
{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5).
__________
(1) في المسند لا بن حنبل أن النبي عليه السلام مر على أبي قتامة وهو عند رجل قد قتله، فقال «دعوه وسلبه» 4/ 216ط دار المعارف.
(2) في الأصل: في نوع الفرع الأخير.
(3) سورة الضحى آية 9، 10.
(4) سورة العاديات آية 51.
(5) سورة ق آية 75.(1/329)
وكقوله تعالى: {وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} إلى قوله:
{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (1).
وقوله تعالى: {وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (2). ويسمّى المطرّف.
قال ابن الأثير: «وكون الفصل الثاني أقصر من الأول عيب» (3) وهذا يرد عليه.
الرابع (4): وهو ما إذا تفاوتا في عدد الحروف وفي نوع الحرف الأخير.
كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلى قوله: {حَفِيظٌ} (5).
وكالآية الأخيرة من مريم مع ما قبلها (6) وهو كثير.
وأما السجع بالحروف المتقاربة، فكما في سورة آل عمران من الفواصل بالنون والميم والراء ونحوها، وكقول الراجز:
بنيّ إن البرّ شيء هيّن ... المنطق الليّن والطعيّم
وقوله:
إذا رحلت فاحملوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العنّدا (7)
__________
(1) سورة مريم آية 9788.
(2) سورة المدثر آية 6، 7.
(3) الجامع الكبير ص 254.
(4) لم يذكر المؤلف النوع الثالث: وهو أن يتفاوتا في عدد الحروف، ويتفقا في نوع الحرف الأخير.
(5) سورة ق آية 41.
(6) سورة مريم آية 97، 98وهما «فإنّما يسّرناه بلسانك لنبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا».
(7) في اللسان: عند عنودا تباعد وعدل والجمع عواند، وعنّد، ويقال هو يمشي وسطا لا عندا أي يتصل بالقوم ولا يفترق عنهم والبيت بتمامه غير منسوب في اللسان مادة «عند» وفي المقتضب 2181.(1/330)
ونظائره كثيرة، ويعرف تقارب الحروف من معرفة مخارجها من همس، وجهر، وإطباق، واستعلاء، ونحو ذلك.
واعلم أن التصريع في النظم، كالسجع في النثر، ويشبه البيت المصروع بباب له مصراعان متشاكلان، وهو في أول أبيات القصيدة أحسن من تركه، فأما في أثنائها فقد يحسن ما قل منه دون ما كثر، وقد استعمله امرؤ القيس في قوله:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي (1)
وجعل الأثير (2) قوله:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل (3)
تصريعا وليس كذلك إذ التصريع ما كان على حرف القافية الأصلي، وهو:
اللام في هذه القصيدة. وهذا من فوائد التصريف، فتأمله.
ومن التصريع قول حاتم الطائي:
أتعرف أطلالا ونؤيا مهدّما ... كخطك في رقّ كتابا منمنما (4)
ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما
فأما التصريع بكلمة واحدة فجائز، لكنه غير لائق، كقول بعضهم (5):
وكلّ ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
__________
(1) من معلقته ومطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل
ديوانه ص 12.
(2) الجامع الكبير ص 255.
(3) ديوانه ص 18.
(4) النؤى: الحفير حول الخباء، والمنمنم: الموشى.
(5) البيت قاله عبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي وهو من معلقته ومطلعها:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
ديوانه ص 13ط مصطفى الحلبي.(1/331)
النوع الثاني: التجنيس
وهو: اشتمال الكلام على كلمتين فصاعدا بالقوة أو بالفعل، من جنس واحد، ومادة واحدة.
وهو إما تام أو ناقص:
فالتام: اتحاد اللفظين من كل وجه، مع اختلاف معنا هما، ويسمى المطلق. وهو إما بالتصريح أو الإشارة.
مثال الأول: قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ} (1). ولا أثر للام التعريف في عدم التساوي لأنها في تقدير الانفصال، كتاء التأنيث، ويقال: ليس في القرآن تجنيس تام سوى غير هذا.
ومنه قول الحريري: «ولا ملأ الراحة من استوطأ الراحة».
ومنه قول الغزّي (2):
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وقول الآخر:
ومرى سوابق دمعها فتواكفت ... ساق تجاوب فوق ساق ساقا (3)
وقول الآخر (4):
وإذا البلابل أطربت بهديلها ... فانف البلابل باحتساء بلابل
وقول الآخر:
__________
(1) سورة الروم آية 55.
(2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان. وفيات الأعيان 171.
(3) الساق الأولى: ساق الشجرة، والأخيرة: القمري من الطيور.
(4) البيت لأبي منصور الثعالبي.(1/332)
هل لما فات من تلاف تلافي ... أو لشاك من الصبابة شاكي (1)
وقول الآخر:
لقاؤك يدني من المرتجى ... ويفتح باب الهوى المرتجى (2)
وقول الآخر (3):
قلت للقلب ما دهاك؟ أجبني ... قال لي: بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
وقول الآخر:
يا بياضا أذرى دموعي حتى ... صار منها سواد عيني بياضا (4)
وقول البحتري:
وأغرّ في الزمن البهيم محجّل ... قد رحت منه على أغرّ محجّل (5)
وذكر الغانمي (6) من باب رد العجز على الصدر قول بعضهم:
ونشري بجميل الصن ... ع ذكرا طيب النشر
ونفري بسيوف الهن ... د من أسرف في النّفر
وبحري في شرى الحمد ... على شاكلة البحر (7)
__________
(1) تلاف الأولى، معناها: التلف، والثانية معناها: التدارك.
وشاك الأولى معناها: الشكاية، والثانية معناها: شاكي السلاح.
(2) المرتجي الأولى من الرجاء، والثانية من الإغلاق.
(3) البيتان لأبي الفتح البستي، والفراني. نوع من الحلوى يخبز في الأفران. أسرار البلاغة 12.
(4) البيت في وصف الشيب.
(5) البيت من قصيدة يمدح بها محمد بن القمي مطلعها:
ألها بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي نهواه أو لم يفعل
ديوانه ص 730ط بيروت.
(6) هو أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي أديب وله ديوان شعر حسن وهو من مداحي نظام الملك.
(7) في الأصل: ونشري في ثرا الحمد بدلا من وبحرى في شرى الحمد وهو فاسد لضياع المحسن البديعي.(1/333)
وهو تجنيس كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ} (1) وقد سبق.
ومثال الثاني: وهو التجنيس بالإشارة قولهم:
حلقت لحية موسى ... وبهارون إذا ما قلبا
إذ معناه حلقت لحية موسى بموسى، وقولهم بهارون، أي: بنوره، وهذا من تجنيس العكس وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ونحوه فيمن اسمه شهاب أو نجم «أحرقه الله باسمه».
وفي سيبويه وتفطويه (2): «غرقه أو حرقه الله ببعض اسمه وصير الباقي صراخا عليه».
وفيمن اسمه أسد أو ذئب: «افترسه اسمه أو سميه» ونحو ذلك.
والناقص: إما في كلمتين متحدتين أو في كلمات في صورة كلمتين.
والذي في كلمتين متحدتين، إما مع العكس أو لا. والذي مع العكس على أنواع:
النوع الأول: عكس الألفاظ من حيث هي ألفاظ كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3).
{الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثََاتِ، وَالطَّيِّبََاتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبََاتِ} (4).
__________
(1) سورة الروم آية 55.
(2) هو أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة الأزدي أخذ عن ثعلب والمبرد. ولد سنة 244وتوفي 323هـ «غرفة أو حرقه» الشك من المؤلف وقد أثبتناه كما ورد بالأصل.
(3) سورة الروم الآية 19.
(4) سورة النور الآية 26.(1/334)
{مََا يَفْتَحِ اللََّهُ لِلنََّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلََا مُمْسِكَ لَهََا، وَمََا يُمْسِكْ فَلََا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (1).
ومن كلام البلغاء: «اشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك».
«عادات السادات سادات العادات».
«شيم الأحرار أحرار الشيم».
وأكثر الحسن بن سهل (2) من العطاء، فقيل له: «لا خير في السرف» فقال:
«لا سرف في الخير» وهذا عكس من قابلين.
فالسجع كذلك ومن حكمه «الفرس الأجود أكبر، وليس الأكبر أجود».
ومن الشعر في ذلك قول عتّاب بن ورقاء (3):
إنّ الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار
فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار
وقول ابن الرومي (4):
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيدا على قرب قريبا على بعد
وقول الآخر:
كم من حمار على جواد ... ومن جواد على حمار
وقول الآخر:
تلك الثنايا من عقدها نظمت ... أم نظم العقد من ثناياها
__________
(1) سورة فاطر الآية 2.
(2) استوزره المأمون، وهو والد بوران زوج المأمون وتوفي سنة 236هـ.
(3) هو عتاب بن ورقاء الرياحين أحد أبطال العرب وقادتهم وقتل سنة 77هـ.
(4) من قصيدة يرثى بها ابنه محمدا ومطلعها:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودى نظير كما عندي(1/335)
وقول الآخر:
لست أدري ذهب في فضة ... شخصها أم فضة في ذهب؟
وقول الآخر:
وربّ أعمى بصير في غوانيه ... يجدّد اللوم منه كلما خلقا
لم أدر هل عينه من قلبه خلقت ... علمت أم قلبه من عينه خلقا؟ (1)
النوع الثاني: عكس الألفاظ من حيث هي حرف، وهو ضربان:
أحدهما: أن يعكس جميع اللفظ من آخره إلى أوله، فيكون كما لم يعكس، كقولنا «باب» فإن عكسه أيضا «باب» وفيه يقول بعض البغداديين:
ما اسم إذا عكسته ... فعكسه كطرده؟
يباع لكن حفظ ما ... للمشتري في رده
وهذا العكس مطرد في كل اسم ثلاثي فاؤه ولامه حرف واحد نحو: «دعد».
ولعل هذا النوع من الجوهر، و «أاء» للشجر المعروف (2).
الثاني: أن لا يكون عكسه كطرده، كقول بعضهم وقد أهدى لصاحب له كرسيا:
أهديت شيئا يقلّ لولا ... أحدوثة الفأل والتّبرّك
كرسي تفاءلت فيه لمّا ... رأيت مقلوبه «يسرّك»
وقال آخر:
كيف السرور بإقبال وآخره ... إذا تأملته مقلوب «إقبال»
يعني لا بقاء.
__________
(1) في الأصل: علمنا وبه لا يستقيم الوزن.
(2) آء على وزن عاع: شجر واحدته آءة وهو شجر معروف ليس في الكلام اسم وقعت فيه ألف بين همزتين إلا هذا. اللسان مادة أوأ.(1/336)
النوع الثالث: فيما يقرأ بالانعكاس كقولك «ساكب كاس» وهو العكس بالنسبة إلى كل متعدد كقول الحريري:
آس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أساء
من أبيات متعددة.
وكقول الآخر:
عج تنم قربك دعد أمّنا ... إنما دعد كبرق منتجع
وقول بعضهم:
«سر فلا كبا بك فرس» فأجيب (1): «دام علا العماد».
النوع الرابع: اختلاف اللفظين في تقدّم بعض الحروف وتأخرها وليس عكسا تاما:
كقول أبي تمام (2):
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهنّ جلاء الشك والرّيب
وقول الآخر:
حسامك فيه للأحباب فتح ... ورمحك فيه للأعداء حتف
ومما يناسب ذكره هاهنا وإن لم يكن منه، أن من لغة العرب «القلب»، وهو إما في الألفاظ، كقولهم «جذب، وجبذ» و «أوشاب الناس وأوباشهم» و «كبكبوا وبكبكوا» و «لعمري ورعملي».
__________
(1) هو من قول عماد الدين الكاتب للقاضي الفاضل، انظر شرح الإيضاح للخطيب القزويني 4/ 85.
(2) يمدح الخليفة المعتصم ويذكر فتح عمورية ومطلع القصيدة:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
ديوانه ص 7وبيض الصفائح: يراد بها السيوف.(1/337)
وأما في المعاني كقولهم: الزناء فريضة الرجم (1).
وقول رؤبة (2):
ومهمه مغبرّة أرجاؤه ... كأنّ لون أرضه سماؤه
وقيل من المقلوب قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} (3) أي العجل من الإنسان ذكره ابن قتيبة في مشكل القرآن فيما أمكن (4).
وقوله عليه السلام: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» (5) أي: أصواتكم بالقرآن.
وكلاهما خلاف الظاهر.
ومثل هذا القلب لا يجوز إلا بقرينة، فهو إذن من قبيل المجاز أو يشبهه لاستلزامه القرينة، والله أعلم.
* * * والذي ليس مع العكس، إما أن تختلف الكلمات فيه من حيث اللفظ والشكل ويسمى المصحّف، كقولهم: «غرّك عزّك، فصار قصارا، دلّك ذلّك، فاخش فاحش، فعلك فعلك، بهذا تهدا».
وكقول الشاعر:
ربّيت زينب في فيء فمر بها ... قمرتها قلت: قلب هدّ ما هدما
__________
(1) من بيت شعر غير منسوب في مجاز القرآن 1261وأمالي المرتضى 1551وسر الفصاحة 106 والصاحبي 172.
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم
(2) هو رؤية ابن العجاج والبيت في ديوانه ص 1والصاحبي 172.
(3) سورة الأنبياء الآية 37.
(4) تأويل مشكل القرآن 152.
(5) رواه البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. سنن الدارمي 2/ 340ط الحجاز.(1/338)
وأما من جهة عوارض الكلمة، إما باختلافها في هيئة الحركة نحو: «جنة البرد جبّة البرد».
ومن هذا القبيل قولهم: «المرأة حية تسعى ما دامت حيّة تسعى» لاختلافهما في الرفع والنصب، ويحتمل أن يجعل هذا من التجنيس التام لأن حركة الإعراب عارضة يمكن انفكاك الكلمة عنها حال الوقف، بخلاف حركة البرد والبرد.
أو في الحركة والسكون نحو: «البدعة شرك الشّرك».
وكقوله عليه السلام: «اللهم كما حسنت خلقي فحسّن خلقي».
أو في التخفيف والتثقيل نحو: «الجاهل إما مفرط أو مفرّط».
وأما من جهة حروفها:
فإن زادت إحداهما على الأخرى بحرف واحد فهو المذيّل تشبيها للحرف الزائد بالذيل، وهو إما أول نحو: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ، إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسََاقُ} (1). أو وسط نحو: «لبد ولبيد». أو آخر كقول أبي تمام (2):
يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
وإن اختلافا في أنواع الحروف بحرف أو حرفين فهو المضارع.
والاختلاف إما في الكلمة نحو: «بيني وبينه ليل دامس، وطريق طامس».
أو في وسطها: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (3).
{ذََلِكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} (4).
__________
(1) سورة القيامة الآية 29، 30.
(2) من قصيدة يمدح بها أبا دلف العجلي ومطلعها:
على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب
ديوانه 42ط بيروت.
(3) سورة الكهف الآية 104.
(4) سورة غافر الآية 75.(1/339)
{وَإِنَّهُ عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (1).
وكذا: {فَلََا تَقْهَرْ} و {فَلََا تَنْهَرْ} (2).
وكقول البحتري (3):
نسيم الروض في ريح شمال ... وصوب المزن في راح شمول
أو في آخرها:
كقوله عليه السلام: «الخير معقود في نواصي الخيل» (4).
وكقول البحتري (5):
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور
وقال بعضهم: «لا تنال المكارم إلا بالمكاره».
وقلت: «اللهم إني شاك شاكر».
والثاني: وهو في كلمات في صورة كلمتين:
إن اشتبهت الكلمات لفظا فقط فهو المفروق، كقوله (6):
كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا
ما الذي ضرّ مدير ... الجام لو جاملنا
__________
(1) سورة العاديات الآية 7، 8.
(2) والآيتان هما: «{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلََا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ}» سورة الضحى، آية 9، 10.
(3) من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان مطلعها:
أكنت معنّفي يوم الرحيل ... وقد لجت دموعي في الهمول
ديوانه 1/ 30.
(4) رواه عبد الله بن عمر «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» ابن ماجة 2/ 932، فتح الباري 6 394وفي المجازات النبوية 49ونصه: «الخيل معقود بنواصيها الخير».
(5) من قصيدة يمدح بها المتوكل مطلعها:
إن الظباء غداة سفح محجر ... هيجن حرّ جوى وفرط تذكر
(6) البيتان لأبي الفتح البستي. انظر شرح الإيضاح للقزويني 684.(1/340)
وكقول الآخر:
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
وإن اشتبهت خطا ولفظا فهو المقرون، كقوله (1):
إذا ملك لم يكن ذاهبة ... فدعه فدولته ذاهبة
ثم المتجانسات قد تقابل بعضها بعضا كما سبق.
وقد يعقب اللفظ بلفظ كامل يساوي بعضه، ويسمى مجنّبا تشبيها للثاني بالجنب لنقصه بأن لا تنطبق (2) عليه، ومزدوجا لصيرورة الأول به زوجا، كقولهم: «النبيذ بغير نغم غمّ، وبغير دسم سمّ».
وكقولهم: «من طلب وجدّ، وجد، ومن قرع بابا ولجّ، ولج».
وكقول بعضهم (3):
أبا العباس لا تحسب بأني ... بشيء من حلى الأشعار عاري
فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرا الأحجار جاري
وكقول بعض الوعاظ:
أما علمت أن حبّ الدرهم ... همّ وحبّ الدينار نار
وتضمين المزدوج، وهو: أن يجمع بعد رعاية السجع في أثناء القرينة بين لفظين مشتبهي الوزن، نحو: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (4). فهذا ضبط أقسام التجنيس تقريبا.
__________
(1) البيت لأبي الفتح البستي. المرجع السابق والصفحة.
(2) الكلمة غير واضحة في المخطوطة فأثبتنا ما يتمشى مع النص.
(3) قاله أبو الفتح البستى، انظر خزانة الأدب لا بن حجة الحموي 35.
(4) سورة النمل آية 22.(1/341)
النوع الثالث: في الترصيع
وهو حقيقة في العقد، وهو: أن يجعل في كل من جانبيه من الجواهر واللآلئ ما في الآخر.
وهو في الصناعة: استواء ألفاظ فصلي الكلام في الوزن، فإن استوت مع ذلك في القافية فهو التام، وإلا فهو الناقص.
مثال الأول، قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجََّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (1).
وقول الحريري: «فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه».
وكقول ابن نباتة (2): «الحمد لله عاقد أزمّة الأمور بعزائم أمره. وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره» ونظائره كثيرة.
مثال الثاني، قوله عليه السلام في كتاب الله: «بيت لا تهدم أركانه، وعزّ لا يهدم أعوانه». فإن «عزّ» ليس على قافية «بيت».
وقول تأبّط شرا (3):
حمّال ألوية، شهّاد أندية ... قوّال محكمة، جوّاب آفاق (4)
فإن حمال ليس على قافية شهّاد، ومحكمة ليست على قافية أندية، ولا وزن آفاق.
وكذا في قول الخنساء (5):
__________
(1) سورة الانفطار الآية 13، 14.
(2) هو عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة، خطيب حلب، وإمام في علوم الأدب، التقى مع المتنبي في خدمة سيف الدولة ولد 335وتوفى سنة 374هـ.
(3) هو ثابت بن جابر بن سفيان، أحد لصوص العرب وعدائيها. اللسان 7/ 176والشعر والشعراء 1/ 312.
(4) المفضليات 29.
(5) من قصيدة ترثى بها أخاها صخرا ومطلعها:
ما هاج حزنك أم بالعين عوار ... أم ذرفت أم خلت من أهلها الدار
أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء 81.(1/342)
حامي الحقيقة، محمود الخليقة، مهديّ الطريقة، نفّاع وضرّار وقول الآخر (1):
سود ذوائيها، بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت من الكرم
وقول البحراني:
من كفّ خرعبة حر مراشفها ... بيض سوالفها سود مآقيها (2)
وقوله:
سمام العدى، جمّ الندى، دافع الردى،
بعيد المدى، يعلو به من تطاول
النوع الرابع: في الموازنة
وهي استواء أوزان الفواصل. وللكلام به رونق وطلاوة لما في ذلك من الاعتدال المطلوب طبعا.
وذلك كقول الله تعالى: {وَآتَيْنََاهُمَا الْكِتََابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْنََاهُمَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3).
ونحو: {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وِزْراً، خََالِدِينَ فِيهِ وَسََاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ حِمْلًا} (4).
ونحو: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} إلى قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (5).
__________
(1) البيت لأبي صخر الهذلي.
(2) امرأة خرعبة: رقيقة العظم كثيرة اللحم ناعمة. اللسان مادة خرعب.
(3) سورة الصافات آية 117، 118.
(4) سورة طه آية 100، 101.
(5) سورة طه آية 113، 114.(1/343)
النوع الخامس: في رد العجز على الصدر
وهو الإتيان في آخر الكلام بلفظ يشبه لفظا في صدره.
وتقسيمه في الشعر تقريبا إنه إما في طرفي البيت، أو حشوان فيه، أو حشو في أحد مصراعيه طرف في الآخر، أو يلتقيان في آخر المصراع الأول وأول الثاني.
وعلى التقديرين، فإما أن يتفقا صورة ومعنى، أو معنى فقط، أو صورة فقط.
وعلى هذين، فإما أن يلتقيا في حقيقة الاشتقاق أو شبهه، ولنورد منه أمثلة، لا على الترتيب، بل كيف اتفق.
فمثالهما مثلين طرفين قوله (1):
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران
ومثالهما متفقين صورة فقط طرفين قوله:
يسار من شجيتها المنايا ... ويمنى من عطيتها اليسار
ومثالهما متفقين معنى لا صورة قوله:
واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد (2)
ومثالهما ملتقيين في الاشتقاق دون الصورة، طرفين قوله:
ضرائب أبدعتها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا (3)
ومثالهما ملتقيين صورة ومعنى وأحدهما حشو صدر، والآخر طرف عجز قول أبي تمام (4):
__________
(1) البيت للخليع الدمشقي.
(2) البيت لعمر بن أبي ربيعة.
(3) البيت للسريّ الرفاء.
(4) من قصيدة يمدح بها مهدي بن أصرم ومطلعها:
خذي عبرات عينك عن زماعي ... وصوني ما أزلت من القناع
ديوانه 2/ 240.(1/344)
ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع
ومثالهما أيضا قول بعضهم:
لا كان إنسان ييمّم صائدا ... عين المها فاصطاده إنسانها
ومثالهما كذلك متفقين معنى لا صورة، قول امرئ القيس (1):
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزّان
ومثالهما طرفين في آخر الصدر والعجز، متفقين صورة ومعنى، قول أبي تمام (2):
ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما
ومثالهما كذلك متفقين صورة لا معنى، قول الحريري:
فمشغوف بآيات المثاني ... ومفتون برنّات المثاني (3)
ومثالهما كذلك متفقين في الاشتقاق، قول البحتري (4):
ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع
قلت: قد أحسن في هذا البيت وأساء:
أما إحسانه: ففي رد مطاع على مطيع.
وأما إساءته، ففي قوله: «وقولك إن سألت» حيث صيّره في رتبة السائل وكان
__________
(1) من قصيدة مطلعها:
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يمان
ديوانه ص 90.
(2) من قصيدة يمدح فيها أبا سعيد: محمد بن يوسف ومطلعها:
عسى وطن يدنو بهم ولعلما ... وإن تعتب الأيام فيهم فربما
ديوانه 3/ 236.
(3) يراد بالمثاني الأولى: القرآن، والثانية: المزامير.
(4) من قصيدة يمدح بها إبراهيم بن المدبر مطلعها:
فدتك أكف قوم ما استطاعوا ... مساعيك التي لا تستطاع
ديوان 2/ 1246شرح التبريزي.(1/345)
الواجب أن يقول: «أمرت» ليجعله في رتبة الرئيس الآمر ولأنه أنسب بمطاع، إذ الطاعة موافقة الأمر، لا موافقة السؤال، ولعله قصد المطابقة بين «سئلت وسألت».
ورد العجز على الصدر في اللفظين، إلا أنه أخلّ بما ذكرناه، وهو أهم مما رعاه.
ونظير هذا قول الفقهاء والأصوليين: إذا تقابلت مفسدة ومصلحة، غلب الراجح منهما، وهو كهذه الصورة، والله أعلم.
ومثالهما مختلفين صورة ومعنى، متفقين في شبهة الاشتقاق، قول الحريري:
ومضطلع بتلخيص المعاني ... ومطّلع إلى تخليص عان
ومثالهما: أحدهما أول العجز، والثاني آخره قول الحماسي (1):
ولو لم يكن إلا معرّج ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
ومثالهما كذلك ملتقيين اشتقاقا، لا صورة كقول أبي تمام:
ثوى بالثرى من كان يحيا به الثرى ... ويعمر صرف الدهر نائله الغمر
وأحسن ما سمعت في هذا النوع، قول القائل:
مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها
فإنه رد العجز على الصدر في جميع ألفاظ البيت.
وثم زيادة في القسمة والأقسام لم نستوفها، وفيما ذكرناه كفاية وتنبيه على ما أغفلناه.
النوع السادس: الإعنات
وهو التزام حرف قبل حرف الرويّ في القصيدة كلها، أو القطعة من النثر.
__________
(1) البيت لذي الرمة وقبله:
ألما على الدار التي لو وجدتها ... بها أهلها ما كان وحشا مقيلها(1/346)
واشتقاقه من قولهم: «أكمة عنوت» (1) أي شاقة السلوك، ومنه اشتقاق العنت، ويسمى أيضا لزوم ما لا يلزم. ومثله في الشعر قول المعري (2):
بنت عن الدّنيا ولا بنت لي ... فيها ولا عرس ولا أخت
وقد تحمّلت من الوزر ما ... تعجز أن تحمله البخت
إن مدحوني ساءني مدحهم ... وخلت أني في الثرى سخت
وجمع في هذا كتابا كبيرا بيّن فيه جيّده من رديئه. وذكر ابن الأثير (3) منه قطعة لم أذكرها اكتفاء بهذا المثال.
وقد يلتزم بعضهم تصغير جميع كلمات البيت، أو كلمة القافية، كقول بعضهم:
عزّ على ليلي بذي سدير ... سوء مبيتي ليلة الغمير
مقبّضا نفسي في طمير ... تنتهض الرّعدة في ظهيري (4)
إلى آخر القصيدة.
ومثاله في النثر، قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلََا تَقْهَرْ وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ} (5).
ولا يحسن هذا النوع إلا إذا كان طبعا لا تكلفا، وإذا تكلف فلا خير فيه، وتركه أجود.
__________
(1) أكمة عنوت: طويلة شاقة المصعد. اللسان مادة عنت.
(2) لزوم ما لا يلزم 1/ 173، والبخت الإبل الخراسانية المولدة من عربية ط المحروسة 1891.
(3) الجامع الكبير ص 267وما بعدها.
(4) سدير: قرية في جزيرة العرب، والغمير: عدة مواضع من القرية. وفي الأصل: مقبضا نفسي في ضميري بدلا من: في طمير.
(5) سورة الضحى آية 9، 10.(1/347)
النوع السابع: في تكرير الحرف الواحد
كقوله (1):
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر
فيجب اجتنابه لاستثقاله، وهذا البيت من شعر الجن، وحرب المذكور فيه هو:
حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف جد معاوية بن أبي سفيان بن حرب قتله الجن في بعض أسفاره، وأنشدوا هذا الشعر، وذكر الخثعمي (2) في كتاب الأعلام قصة طويلة عجيبة، وأظنه (3) ذكرها في سورة الأعراف من الكتاب.
وليس هذا النوع مما تقدم من تكرير الألفاظ والمعاني بشيء، والله أعلم بالصواب.
تم الكتاب، والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الحمد لله، أنهى مطالعته فقير عفو ربه علي بن عماد الدين الشافعي، وهو مقيم بقرية البلالية من مرج دمشق القبلي، يوم الاثنين من الشهر المحرم سنة 969هـ.
__________
(1) البيت مجهول القائل، وزعموا أنه من شعر الجن، فلا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات دون أن يتتعتع.
البيان والتبيين 1/ 65والحيوان 6/ 207وسر الفصاحة 108.
(2) الخثعمي: هو العباس بن سفيان الخثعمي كان أميرا في خلافة المنصور العباسي، توفي سنة 150هـ.
(3) في الأصل: وأظنها وهو من تحريف النساخ.(1/348)
الفهارس(1/349)
فهرست الآيات القرآنية
رقم الآية رقم الصفحة
1 - سورة الفاتحة:
17631 1895، 243، 246، 269
2 - سورة البقرة:
33228
4043
51106
111137، 124
16324
17317
184258
184259
186275
112، 188111
1903
1932
20472
20898
60، 211184
21320
214259
219189 - رقم الآية
24017
243127
244138
2685
27224
272145
28098
281157
285194
287282
283، 288284
30514
3 - سورة آل عمران:
287، 34
40، 7147
9659
9954
118121، 120
81، 17982
2147
217106، 225
23726(1/351)
241133
273188
280104
28326
4 - سورة النساء:
2859
4080
5063، 51
97112
14663
15643
28014
5 - سورة المائدة:
3364
34116
7338
2116
237116
6 - سورة الأنعام:
3553
5338
96146
185158
18678
19619
14، 199143
201100
21335
23282
23438
286110
7 - سورة الأعراف:
2853
5212
9999
117157
16375
177158
18656
2236
232199
236115
24061
28072
305156
8 - سورة الأنفال:
5166
1972
21750
21812
7، 2708(1/352)
9 - سورة التوبة:
9529
16343
24577
26793
26860
28382
28567
31470
10 - سورة يونس:
5024، 173
17722
17987
19899
19959
24361، 248
11 - سورة هود:
3477
11128، 124
12944
16627
17954
182103
22480
247107
29124
30562
12 - سورة يوسف:
9536
9772
21812
45، 46، 21982
50، 21951
22585
26384
26795
13 - سورة الرعد:
5217
22431
28310
29311
14 - سورة إبراهيم:
18221
20150
15 - سورة الحجر:
3322
5794
4، 2283
23294
16 - سورة النحل:
15125
51101(1/353)
150112
87، 1821
21298
23290
24858
27951
17 - سورة الإسراء:
4032
4279
15929
19940
2449
26045
29012
18 - سورة الكهف:
507
5365
18247
18833
25929
26628، 267
11، 28512
323104
19 - سورة مريم:
15097
1514
18995
21421
75، 23376
24262
42، 31146
88، 33097
97، 33098
20 - سورة طه:
3339
17947، 186
19717
20167
21216
91، 21792
21996
23278
23668
28179
30644
100، 343101
113، 343114
21 - سورة الأنبياء:
10075
16663
17893
21996
22439(1/354)
32873
33837
22 - سورة الحج:
3553
10611
18063
23446
63، 28865
23 - سورة المؤمنون:
201104
22491
27335
30716
24 - سورة النور:
5263
732
12455
17239
24645
24743
29345
33426
25 - سورة الفرقان:
15059
36، 30، 37، 21838
23315
24649
26 - سورة الشعراء:
78، 17679
18616
228208
77، 78، 82، 83، 25387
88، 25389
107، 270108
109، 271110
8، 2739
90، 28691
16، 30617
70، 31271
27 - سورة النمل:
18287
21790
9، 24477
87، 18988، 244
26344
26866
28550
28686
34122
28 - سورة القصص:
4878
18920
44، 21145
21467(1/355)
21523
29173
29 - سورة العنكبوت:
11858
16068
22156
24414
19، 24520
31441
30 - سورة الروم:
6547
16256، 222
19244، 232
20147
2194
22256
26343
27349
33255، 334
33419
31 - سورة لقمان:
20414
14، 21715
32 - سورة السجدة:
21313
33 - سورة الأحزاب:
9850
2344
34 - سورة سبأ:
16042
22451
24643
2483
26724
28650
35 - سورة فاطر:
1809
24632
27، 24728
29332
3352
36 - سورة يس:
5179
15137
18022
18920
45، 22546
22، 22727
37 - سورة الصافات:
16949(1/356)
19347
45، 19446
103، 225105
23362
117، 343118
38 - سورة ص:
1، 2، 4، 7، 22364
49، 25255
12، 27114
39 - سورة الزمر:
19964
2134
21522
22739
8، 25914
11، 27114
40 - سورة غافر:
36، 24338
38، 39، 27441
31228
33975
41 - سورة فصلت:
15621
1966
25940
32034
42 - سورة الشورى:
9640، 99، 285
16111
49، 24748
43 - سورة الزخرف:
18، 6752
16518
19840
44 - سورة الدخان:
30512
45 - سورة الجاثية:
26723
46 - سورة الأحقاف:
22210
47 - سورة محمد:
2184
48 - سورة الفتح:
1179
49 - سورة الحجرات:
15912
16314، 305
19610
50 - سورة ق:
18611
1، 2233(1/357)
4، 2865
5، 3297
1، 3304
51 - سورة الذاريات:
3459
30923
52 - سورة النجم:
43، 21645
53 - سورة القمر:
9713
22013
11855
27417
54 - سورة الرحمن:
3327
1، 665
17224
20868
26354
13، 27412
26، 44، 27545
27646
28068
55 - سورة الواقعة:
3379
4175
68، 63، 64، 5071
60، 5361
28، 15941
75، 20477
7، 29310
88، 90، 29492
63، 65، 30670
56 - سورة الحديد:
4025
404
21510
28483
57 - سورة المجادلة:
407
5113
58 - سورة الحشر:
512، 191
9617
59 - سورة الصف:
24310
60 - سورة المنافقون:
1294
61 - سورة التغابن:
1921
62 - سورة الملك:
21522
24214(1/358)
63 - سورة الحاقّة:
26021
64 - سورة المعارج:
4820
65 - سورة نوح:
6417
66 - سورة الجن:
4023
28625
67 - سورة المدثر:
3451، 48
1654
6، 3307
68 - سورة القيامة:
5219
9424
29، 33930
69 - سورة الإنسان:
9622
70 - سورة المرسلات:
5248
27715
30027
71 - سورة عبس:
17، 23122، 266
18، 27719
72 - سورة التكوير:
4917
10018
73 - سورة الانفطار:
538
13، 34214
74 - سورة المطففين:
15028
75 - سورة الانشقاق:
4917
76 - سورة الطارق:
5، 2776
77 - سورة الغاشية:
6، 1627
19222
78 - سورة الفجر:
21، 6، 22312
79 - سورة الليل:
421
5، 28410
80 - سورة الضحى:
421
9، 32910، 347
81 - سورة العلق:
22315(1/359)
1، 2772
82 - سورة العاديات:
486
1، 3295
7، 3408
83 - سورة الهمزة:
481
84 - سورة الكافرون:
1، 2715
85 - سورة الإخلاص:
2441(1/360)
فهرس الأحاديث القدسية والنبوية
الحديث الصفحة
1 «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» 38
2 «إن من البيان لسحرا» 68
3 «إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل أحدكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار» 69
4 «حوّلوا مقعدتي قبل القبلة» 119
5 «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز
الحية إلى جحرها» 120
6 «لو كان المؤمن في جحر ضبّ لقيّض الله له من يؤديه» 120
7 «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» 120
8 «كنيف ملئ علما» 121
9 «اللهم أيّده بروح القدس» 141
10 «لا يفضض الله فاك» 141
11 «بئس خطيب القوم أنت» 141
12 «إياكم وخضراء الدّمن» 160
13 «والله إنكم لتجبّنون» 167
14 «إني حرمت الظلم على نفسي» 176
15 «ما بال أحدكم يرى القذاة في عين أخيه» 178
16 «تصدق رجل من صاع برّه، ومن صاع تمره» 182
17 «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدّي حقّها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وأسمنه» 186
18 «إنما الربا في النسيئة» 195، 197
19 «إنما الأعمال بالنيات» 197(1/361)
20 «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر» 204، 205
21 «أعوذ بك من شر أسد وأسود، وجنّ وعفريت» 209
22 «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» 220
23 «الدين النصيحة» 232
24 «ردّوا عليّ ردائي، فو الذي نفسي بيده، لو أن لي مثل هذه العضاة نعما، لقسمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا» 238
25 «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلّاه ما لم يحدث اللهم ارحمه»، وفي لفظ: «اللهم صل عليه، اللهم ارحمه» 282
26 «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» 284
27 «اليمين حنث أو ندم» 294
28 «بشّر مال البخيل بحادث أو وارث» 294
29 «أوتيت جوامع الكلام، واختصر لي الكلام اختصارا» 323
30 «أعوذ بك من عين لا تدمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع» 328
31 «أسجع كسجع الكهّان؟!» 328
32 «ارجعن مأزورات غير مأجورات» 328
33 «أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة» 328
34 «من قتله؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع» 329
35 «زيّنوا القرآن بأصواتكم» 338
36 «اللهم كما حسّنت خلقي، فحسّن خلقي» 339
37 «الخير معقود في نواصي الخيل» 340
38 «بيت لا تهدم أركانه، وعزّ لا يهدم أعوانه» 342(1/362)
فهرس الأمثال والأقوال المأثورة
الصفحة
1 - البطنة تذهب الفطنة 54
2 - تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه 67، 87
3 - إن الرجال لا تكال بالصّيعان 68
4 - المرء مخبوء تحت لسانه 68
5 - حيل بين العير والنزوان 87
6 - تمرّد مارد وعزّ الأبلق 87
7 - إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر 87
8 - هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم 88
9 - شنشنة أعرفها من أخزم 88
10 - إياكم وعقيلة الملح 160
11 - العرب لا تخفر الذمم 161
12 - أحشفا وسوء كيلة 199
13 - أغدّة كغدّة البعير 199
14 - موت في بيت سلوليّة 199
15 - أأغرم في يوم مغرمين 199
16 - من أين ومن أين 199(1/363)
فهرس الأبيات
(الهمزة) الصدر: العجز: الشاعر: الصفحة
وما العيش: وماء: 97
ومعرس: وطفاء: أبو تمام: 151
صعبت: الماء: أبو تمام: 152
وكأنما فوق: إضاء: 173
وله: بكاء: 285
طعنت: أضاءها: قيس بن الخطيم: 302
خاط: سواء: بشار: 304
أسلم: حراء: 315
يسقط: الكرماء: بشار: 324
دع عنك: الداء: أبو نواس: 325
خرقاء: بالأسماء: أبو تمام: 327
آس: أساء: الحريري: 337
ومهمه: سماؤه: رؤية: 338
(حرف الباء) وقامع: نخب: البحتري: 69
هل ناشد: الركب: الشريف الرضى: 123
أثمرت: عنابا: 148
يوم فتح: حليبا: أبو تمام: 152
ولا عيب: الكتائب: النابغة: 162(1/364)
فعاجوا: الحقائب: نصيب: 165
أتهجر: جانب: 184
ترى جيف القتلى: فصليب: علقمة: 187
كلاهما حين جدّ: رابي: الفرزدق: 188
وما مثله: يقاربه: الفرزدق: 202
ملوك: والقبابا: 203
صدوركم: شيبا: 208
وارفع: وهب: البحراني: 216
يذرين: الحبا: أبو دؤاد: 230
فاستضحكت: انتسبا: المتنبي: 249
بيني: أرب: البحراني: 255
خذوا: السرب: البحراني: 255
أم هل ظعائن: الشنب: الكميت: 287
شكوت: حبي: أحد الأعراب: 291
وصالكم: حرب: العباس بن الأحنف: 296
ولينكم: كذب: العباس بن الأحنف: 296
أنت دلو: القليب: أبو تمام: 298
أنت كالكلب: الخطوب: أحد الأعراب: 299
إذا ما غزا: بعصائب: النابغة: 302
يصيب: قضيبا: المتنبي: 303
فغضّ: كلابا: جرير: 313
ترى برصا: شابا: جرير: 313
كأن عيون: يثقب: امرؤ القيس: 314
وكل ذي غيبة: لا يئوب: عبيد بن الأبرص: 331
حلقت: قلبا: 334
لست أدري: ذهب: 336(1/365)
بيض الصفائح: والريب: أبو تمام: 337
يمدون: قواضب: أبو تمام: 339
ضرائب: ضريبا: السريّ الرفاء: 344
(حرف التاء) إذا نطق: السكوت: 82
إذا جلست: آت: 111
إن الكرام: سويداواتها: المتنبي: 124
وكأنها خلقت: صهواتها: المتنبي: 137
إني على شغفي: سراويلاتها: المتنبي: 166، 325
يوم: الفواخت: 171
والنخل: نشرت: 175
يا أيها الراكب: الصوت: رويشد بن كثير: 184
يوم: أتى: القاضي الأرّجاني: 291
فإن لم يجد: حسناته: أبو تمام: 321
بنت: ولا أخت: المعرّي: 347
(حرف الجيم) والصبح يتلو: بسراج: ابن المعتز: 174
من راقب: اللهج: بشار: 320
لقاؤك: المرتجى: 333
(حرف الحاء) ولما قضينا: ماسح: كثير: 133
وبدا الصباح: يمتدح: محمد بن وهيب: 170
ملأ: وبارح: 175
فقد والشك: يصيح: 207(1/366)
(حرف الدال) أعزز على: العواد: الشريف الرضي: 118
فكنت كالمولج: الأسودا: 119، 209
إني رأيتك: واحد: 123
فمنظرها: جماد: 149
أسود: الأساود: الأشهب بن رميلة: 153
إلى ملك: برد: أبو تمام: 154
تبسم: البرد: البحتري: 173
فقالت عليّ: أعوّد: عمر بن أبي ربيعة: 205
لو شئت: خالد: البحتري: 213
وليلة كحلت: أخدود: علي بن الجهم: 249
تجاف: واجد: البحراني: 254
سلام: وغاد: أبو نواس: 256
لقد علم: الحديد: حيان بن ربيعة الطائي: 263
ألا حبذا هند: والبعد: الحطيئة: 282
كيف أسلو: وقدا: الفرزدق: 292
فيا أيها الحيران: العدا: 292
كريم: المهند: ابن ميّادة: 299، 317
ولما أتاني: الند: 309
وأنّ بقوم: بسيد: 324
إذا رحلت: العندا: 330
طواء: بعد: ابن الرومي: 335
ما اسم: كطرده: 336
واستبدّت: لا يستبدّ: عمر بن أبي ربيعة: 344
(حرف الراء) ورب ميت: الحجرا: 92(1/367)
أقول للحيان: معور: تأبط شرّا: 119
وأخ كثرت: يكثر: 123
ياما أميلح: والسمر: العرجي: 123
يا طود: تياره: 152
سقيناهم: أصبرا: زفر بن الحارث: 153
لا يضمر الفحشاء: المئزر: متمم بن نويرة: 156
تقول: تسير: أبو نواس: 165
أحنّ: المآزر: الشريف الرضي: 166، 325
بكيت: المكدر: 173
فكان مجنّي: معصر: عمر بن أبي ربيعة: 185
وقلنا اسلموا: الصدور: العباس بن مرداس: 187
وليست خراسان: أميرها: الفرزدق: 202
إلى ملك: تصاهره: الفرزدق: 202
لها مقلتا: عرارها: 203
ألا هل أتاها: بيقرا: امرؤ القيس: 205
عليّ نحت المعاني: البقر: البحتري: 210
ما أقرب الأشياء: تقدر: 231
وراءك: المخامر: 255
ألا يا دار: الحبور: الخريمي: 257
فلا الجود: مدبر: 284
فلو انّ مشتاقا: المنبر: البحتري: 298
من أيّ يومي: قدر: 301
شتان: أخي جابر: الأعشى: 310
من القاصرات: لأثرا: امرؤ القيس: 315
يا خاطب الدنيا: الأكدار: الحريري: 316
وترى الطير: ستمار: الأفوه: 320(1/368)
من راقب: الجسور: سلم الخاسر: 321
ما أنت: اضطرار: 324
تداويت: الخمر: قيس بن الملوح: 325
ونشري: النشر: 333
إن الليالي: الأعمار: عتّاب بن ورقاء: 335
كم من حمار: حمار: 335
من كل ساجي: أحور: البحتري: 340
أبا العباس: عارى: البستي: 341
أما علمت: نار: 341
حامي: وضرار: الخنساء: 343
يسار: اليسار: 344
ثوى: الغمر: أبو تمام: 346
عز: الغمير: 347
وقبر حرب: قبر: 348
(حرف السين) ورمل: الحنادس: ذو الرمة: 170
فكأنه: بشمسه: 174
أتتك: بأنفاسها: صاعد بن الحسن: 175
وما زال: حابس: جرير: 263
(حرف الصاد) كلا أبويكم: ناقصا: الأعشى: 188
(حرف الضاد) فضول: عرض: 263
مودة: عرض: أبو تمام: 326
يا بياضا: بياضا: 333(1/369)
(حرف العين) متغطمط: الضفدع: 112
تلفت: أخدعا: الصّمّة القشيري: 130
وإذا المنية: لا تنفع: أبو ذؤيب: 149
كأن ابيضاض: وقوع: العلوي الأصفهاني: 171
فتى عيش: مرتعا: الحسين بن مطير: 173
لما أتى: الخشع: جرير: 185
قد أصبحت: أصنع: أبو النجم: 195
لعمري: الأقارع: النابغة: 206
لعمري: فأوجعا: متمم بن نويرة: 206
ولو شئت: أوسع: الخريمي: 213
أجدّك: مدفعا: امرؤ القيس: 224
وما لامرئ: المطالع: علي بن جبلة: 231
خلعت: الأروع: 255
أمن المنون: يجزع: أبو ذؤيب: 258
الحزن: طيّع: المتنبي: 258
غرام: المدامع: البحراني: 258
يا باكيا: دع: البحراني: 258
عج: ومنتجع: 337
ولم يحفظ: المضاع: أبو تمام: 345
ففعلك: مطاع: البحتري: 345
(حرف الفاء) كأن السها: ذرفا: 174
نحن بما عندنا: مختلف: قيس بن الخطيم: 187
قم: أكنافهم: جحظة: 309(1/370)
لا تسدين: ما سلفا: أبو نواس: 322
حسامك: حتف: 337
(حرف القاف) سلي: النقائق: المتنبي: 115
وملمومة: اللقالق: المتنبي: 116
من ليس يرفل: سلوقي: ابن هانئ: 117
كساها: الفوارق: 175
وقفنا: فيلق: المتنبي: 269
ليث: صدقا: زهير: 284
ومرى: ساقا: 332
ورب أعمى: خلقا: 336
حمال ألوية: آفاق: تأبط شرّا: 342
(حرف الكاف) فإن وصلا: كالطلاق: الحريري: 114
يا دهر: خرقك: أبو تمام: 130
أبيني: شمالك: ابن الدمينة: 159
يا عاذلي: مثلكا: 160
يا دار: أبلاك: إسحاق الموصلي: 256
هل لما فات: شاكي: 333
أهديت: التبرك: 336
(حرف اللام) ببازل: الكلكل: منظور بن مرثد: 84
أغرك: يفعل: امرؤ القيس: 91
تصد: مطفل: امرؤ القيس: 97، 220
أفاطم: فأجملي: امرؤ القيس: 114، 331(1/371)
فهي تنوش: الفلا: 115
وقلقت: قلاقل: المتنبي: 116، 278
وقد غدوت: شول: الأعشى: 116
وكل أناس: الأنامل: لبيد: 121
لعله إن بدا: تنبه لي: 140
فقلت: بكلكل: امرؤ القيس: 149
فصرنا: إذلال: امرؤ القيس: 157
كأن الجفون: ثاكل: المتنبي: 174
دعوت: صقالا: 174
ومية: قذالا: ذو الرمة: 186
أيقتلني: أغوال: امرؤ القيس: 198
لو انّ الباخلين: المطالا: كثير: 206
نظرت: غفل: 207
يقول: غافل: النابغة: 208
فقلت: وأوصالي: امرؤ القيس: 226
حتى أبو الفضل: الهائل: المتنبي: 249
وأغرّ: محجّل: البحتري: 250، 333
أفي كل يوم: وما لي: البحراني: 254
وهب: جمالها: البحراني: 254
أما وهواها: فأمحلا: مهيار: 255
وإذا البلابل: بلابل: الثعالبي: 278، 332
وسارت: وقبولا: ابن هانئ: 281
كأني: خلخال: امرؤ القيس: 289
لو أن في قلبي: رسائلي: جميل: 295
لم يبق: مكبول: النابغة: 295
وأنا المنية: الآجال: عنترة: 300
وقالوا: استفالا: المتنبي: 302(1/372)
شما دسترسي به محتواي اين صفحه نداريد(1/373)
سئمت: يسأم: زهير: 208
فلا مهجة: أرقم: ابن هانئ المغربي: 208
أيا أبتا: ترم: الأعشى: 213
كأن إبريقهم: ملثوم: علقمة: 230
وصافية: عام: إسحاق الموصلي: 250
يا دار: تستام: أبو نواس: 256
قصر: الأيام: أشجع السّلمي: 257
ولم أر: مقام: المتنبي: 278
حيّيت: الهيثم: عنترة: 282
وقفت: نائم: المتنبي: 290
غيث: ضرغام: 291
لقد خنت: مغرم: الفرزدق: 292
يكاد يمسكه: يستلم: الفرزدق: 298
ما زال: محموم: أبو تمام: 298
وتلحقه: ملدم: 299
وما مزبد: تلتطم: الأعشى: 299
إذا ما غضبنا: دما: بشار: 302
أحلّت: كلامي: البحتري: 313
لا يسلم الشرف: الدم: 319
قد ينعم: بالنعم: أبو تمام: 321
فلو يممتهم: صاموا: المتنبي: 321
يزدحم: الزحام: 324
بنيّ: الطعيّم: 330
أتعرف: منمنما: حاتم الطائيّ: 331
ربيت: هدما: 338
إلى حتفي: دمي: 341(1/374)
سود: الكرم: أبو صخر الهذليّ: 343
ومن كان: مغرما: أبو تمام: 345
(حرف النون) أهم: والنزوان: صخر بن عمرو: 43
اذهبي: وأمان: قيس بن الملوّح: 81
أسقني: بغصونه: ابن الروميّ: 112
وهل لخشيف: مدان: الشريف الرضي: 123
ما إن نزال: البراذين: 139
وتفردوا: الحرمان: 162
كأني قد لقيت: صحصحان: تأبط شرا: 181
فلما تسمعن: الأبينا: 187
كم قلت: يجتمعان: 200
إن الثمانين: ترجمان: عوف بن محلّم: 206
كأن الشموع: لسانا: ابن نباتة: 250
ولو تراه: وجدان: أبو تمام: 250
وليل: قرونه: ابن الزمكدم: 251
أتاك: الزمان: 258
يجزون: إحسانا: قريط بن أنيف: 287
فآبوا: مصفدينا: عمرو بن كلثوم: 295
وكل أخ: الفرقدان: عمرو بن معد يكرب: 301
كفى بجسمي: ترني: المتنبي: 303
سأطرح: لحاني: 316
كم نعمة: كامنة: أبو العتاهية: 321
لم يبق: إنسانا: الغزي: 332
قلت: فراني: أبو الفتح البستي: 333
كلكم: جام لنا: البستي: 340(1/375)
سكران: سكران: الخليع الدمشقي: 344
لا كان: إنسانها: 345
إذا المرء: يخزان: امرؤ القيس: 345
فمشغوف: المثاني: الحريري: 345
ومضطلع: عان: الحريري: 346
(حرف الهاء) في طلعة البدر: تثنيها: البحتري: 170
أرى: فيه: 178
أحق دار: مبانيها: ابن التعاويذي: 257
وأمة: يرضيها: البحتري: 285
يا عبل: قضاها: عنترة: 301
خذها: قوافيها: ابن نباتة: 314
وكأس: منها بها: الأعشى: 324
وداو: نحييها: البحراني: 325
تلك الثنايا: ثناياها: 335
إذا ملك: ذاهبة: أبو الفتح البستي: 341
من كف: مآقيها: البحراني: 343
مشيناها: مشاها: 346
(حرف الياء) بني عمنا: القوافيا: الشميذر الحارثي: 168
ويحتقر: فانيا: المتنبي: 207(1/376)
أنصاف الأبيات (ء) وبيضة خدر لا يرام خباؤها 251
(ب) ما بال عينيك منها الماء ينسكب 257
يصب صبيره الماعون صبّا 300
وبقيت في خلف كجلد الأجرب 309
(ت) وقد أغتدي والطير في وكناتها 252
(ح) وسالت بأعناق المطيّ الأباطح 134
لدى أسد شاكي السلاح 150
(د) أيا من رمى قلبي بسهم فافتداه 148
تساقوا على حرد دماء الأساود 209
أربع البلى إن الخشوع لباد 256
وأنشدته بيتا له المثل الفرد 310
والمرء يشرق بالزلال البارد 318
(ر) ولا ترى الضبّ بها ينجحر 183
وإنما العزّة للكاثر 196(1/377)
(ض) واستفّ ترب الأرض 83
حلول الليالي أسرعت في نقضي 185
أحار ترى برقا كأن وميضه 252
قد ضمنت إياهم الأرض 323
(ع) هبطت إليك من المحلّ الأرفع 316
(ك) إليك حتى بلغت إياكا 323
وما مثله في الناس إلا مملّكا 326
(ل) الحمد لله العليّ الأجلل 83
يوما يعود به صفّون والجمل 88
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل 121
وليل كموج البحر أرخى سدوله 251
بنانك من مغدودق المزن أهطل 254
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول 255
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل 301
أصالة الرأي صانتني عن الخطل 316
(م) متى ما تناخي عند باب ابن هاشم 83
وقربة أقوام جعلت عصامها 251
صعود العلا إلا عليك حرام 254
على قدر أهل العزم تأتي العزائم 254(1/378)
(ن) درس المنا بمتالع فأبان 82، 230
إني أجود لأقوام وإن ضننوا 84
حرف أبوها أخوها من مهجّنة 105
فقد جئنا خراسانا 222
(ي) تصدّ وتبدي عن أسيل وتتقي 97
أطربا وأنت قنّسريّ 200(1/379)
فهرست الأعلام
(حرف الألف) آدم عليه السلام: 42
إبراهيم عليه السلام: 50، 166، 176، 184، 252، 311، 312
أبو أحمد العسكري: 68
الأخفش: 97، 107
إدريس: 50
أرسطو: 110
الأرّجاني (القاضي): 291
إسحاق بن إبراهيم الموصلي: 250
أبو إسحاق الفزاري: 42
ابن أسد: 202
أشجع السلمي: 257
الأصمعي: 38، 39
الأعشى: 83، 116، 188، 196، 257، 299، 303
الأفوه الأودي: 320
الياس: 50
امرؤ القيس: 97، 138، 149، 154، 157، 198، 205، 220، 224، 226، 257، 289، 315، 317، 331، 345
الأمين: 256
ابن الأنباري: 202
أوقليدس: 296
ابن إياز: 83
(حرف الباء) البحتري: 69، 88، 170، 172، 211، 213، 250، 285، 297، 297، 313، 318، 333، 340، 340، 345
البحراني: 140، 158، 171، 2160، 254، 258، 283، 310، 325، 343
ابن بري: 171
البرقعيدي: 250
البستي: 333، 340، 341
بشر الحافي: 53
بشار بن برد: 302، 320، 321، 324
تأبط شرّا: 181
(حرف التاء) الترمذي: 38، 39(1/380)
أبو تمام: 88، 151، 152، 154، 250، 298، 318، 321، 326، 337، 344، 346
(حرف الثاء) الثعالبي: 278، 332
ثمود: 50
(حرف الجيم) أبو جابر الحاجب: 250
الجاحظ: 297
جبريل: 218
جحظة: 309
جرير: 185، 263، 313، 313
جميل: 294
ابن الجوزي: 54، 253
(حرف الحاء) حاتم الطائي: 331
الحارث اليشكري: 139
حبيب النجار: 180، 227
حرب بن أمية: 348
الحريري: 114، 315، 332، 342، 345، 346
حسان بن ثابت: 141
الحسن البصري: 66، 294
الحسن بن سهل: 335
الحسين بن مطير: 173
الحطيئة: 282
حمل بن النابغة: 328
الحميدي: 38، 326
أبو حنيفة: 36، 37، 57
حيان بن ربيعة الطائي: 263
(حرف الخاء) خالد بن عبد الله: 202
الخثعمي: 348
الخريمي: 213، 257
الخضر: 53
الخليل: 92، 109
الخنساء: 342
(حرف الدال) أبو دؤاد: 230
ابن دريد: 316
ابن الدمينة: 159
ابن الدهان: 248
(حرف الذال) أبو ذؤيب: 149، 258
ذو الرمة: 170، 186، 202، 257، 315
(حرف الراء) رؤبة: 231
الراعي: 313
الرسعني: 54
أبو الرضي الراوندي: 68
ابن الرومي: 112، 335(1/381)
رويشد بن كثير: 184
(حرف الزاي) الزبّاء: 87
الزجاج: 54
أم زرع: 112، 164
زفر بن الحارث: 153
زكريا: 50، 71
الزمخشري: 54، 259، 267
ابن الزمكدم: 250
زهير بن أبي سلمى: 36، 68، 133، 147، 150، 208، 326
(حرف السين) السخاوي: 281
سراج الدين المغربي: 55
ابن السراج: 96
السري الرفاء: 344
أبو سفيان: 186
سلم الخاسر: 321
سلمة بن الأكوع: 182
سليمان بن فهد: 250
ابن سنان الخفاجي: 110، 111، 155، 157
سيبويه: 56، 97، 107، 334
ابن سيناء: 316
(حرف الشين) الشاطبي: 138
الشافعي: 98
ابن شبرمة: 37
ابن الشجري: 83
شرف الدين اليصنى: 55
الشريف الرضي: 166، 325
شعيب: 227، 228
الشماخ: 318
الشميذر الحارثي: 168
(حرف الصاد) الصابي: 88، 282
الصاحب بن عبّاد: 278
صاعد بن الحسن: 128
صخر بن عمرو السلمي: 43، 87
الصمة بن عبد الله بن الطفيل: 130
(حرف الضاد) ضمرة بن ضمرة النهشلي: 67
ضياء الدين بن الأثير: 61، 93، 110، 135، 152، 157، 161، 163، 165، 172، 178، 203، 208، 210، 211، 222، 227، 228، 234، 237، 240، 245، 257، 260، 266، 272، 283، 284، 292، 298، 318، 325، 330، 331، 347
(حرف الطاء) طرفة بن العبد: 317(1/382)
طهفة بن أبي زهير النهدي: 112
(حرف العين) عائشة: 37
عاد: 50
ابن عباس: 195
العباس بن الأحنف: 222، 296
العباس بن مرداس: 187
عبد الرزاق بن همام: 54
عبد الوارث بن سعيد: 57
عبيد بن حميد: 54
أبو عبيد: 88
أبو العتاهية: 321
عتّاب بن ورقاء: 335
العجاج: 185، 200
العزيزي: 281
العسكري (أبو هلال): 234، 295، 314، 315
العلاء بن الحضرمي: 319
أبو العلاء المعري: 303، 347
علقمة: 187، 230
العلوي الأصفهاني: 171
علي بن جبلة: 231
علي بن الجهم: 249
علي بن أبي طالب: 171، 183، 232، 238، 310
عمر بن الخطاب: 326
عمر بن أبي ربيعة: 185، 205، 344
عمر بن عبد العزيز: 69
عمرو بن أحمر: 183
عمرو بن كلثوم: 295
عمرو بن مسعدة: 167، 170
عمرو بن معد يكرب: 301
عمرو بن هند: 138، 139
عنترة: 164، 282، 300، 301
عوف بن محلّم: 206
عيسى عليه السلام: 50، 71، 238
(حرف الغين) الغانمي: 252، 253، 314، 333
الغزالي: 45، 54، 294
الغزي (إبراهيم بن يحيى): 332
(حرف الفاء) ابن فارس: 115
الفارسي: 97
الفراء: 54
فرعون: 67، 281
ابن فزان: 125
الفرزدق: 185، 188، 201، 202، 292، 313، 323، 326
الفضل بن يحيى: 256
(حرف القاف) قابيل: 50
قتادة بن النعمان: 304
ابن قتيبة: 224، 338(1/383)
قدامة بن جعفر: 283، 297
القرطبي: 55
قرواش: 250
قسّ بن ساعدة: 135
قعنب بن أم صاحب: 84
قيس بن الخطيم: 187، 302
قيس بن الملوّح: 81، 324
(حرف الكاف) كثير: 206
كسرى: 92
كعب بن زهير: 105، 255
(حرف اللام) لبيد: 82، 309
لقمان: 171
لوط: 50
ابن أبي ليلى: 37
المأمون: 167
المبرّد: 92، 106
متمم بن نويرة: 156، 206
المتنبي: 113، 114، 116، 137، 174، 206، 249، 254، 258، 277، 278، 290، 302، 310، 321، 325
(حرف الميم) محمد عليه السلام: 42، 50، 227، 228
محمد بن كعب: 66
محمد بن وهيب: 170
مروان: 171
مريم: 71، 72
المزّي: 161
ابن مسعود: 35
مسعود بن تركي القرامي: 125
المسيح: 179
ابن المعتز: 174
المعتصم: 256، 257
ابن معط: 296
منظور بن مرثد الأسدي: 84
موسى: 334
موسى بن عقبة: 39
موسى عليه السلام: 50، 179، 211، 236، 237
الميداني: 88
ميكال: 208
ابن ميادة: 317
(حرف النون) النابغة الجعدي: 141
النابغة الذبياني: 154، 162، 206، 208، 295، 302، 312، 320
ابن نباتة: 56، 220، 250، 314، 342
أبو النجم العجلي: 83، 195
نجم الدين الطوفي: 27
نصيب: 165
النعمان بن المنذر: 67، 87(1/384)
نفطويه: 334
أبو نواس: 165، 256، 322، 325
نوح عليه السلام: 50، 166
(حرف الهاء) هابيل: 50
ابن هانئ المغربي: 117، 208، 281
هارون: 179، 334
هشام بن عروة: 37
(حرف الواو) الواحدي: 278
الوليد بن المغيرة: 232
(حرف الياء) يحيى البرمكي: 257
يحيى عليه السلام: 50، 71
يزيد بن معاوية: 139
يمان: 67
يوسف عليه السلام: 50
يونس: 50(1/385)
فهرس المراجع
1 - الأحاديث القدسية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
2 - أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني، الاستقامة.
3 - الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، المشرفية.
4 - إعجاز القرآن، الباقلاني، دار المعارف.
5 - الأعلام، الزركلي، الطبعة الثانية.
6 - الأغاني، الأصفهاني، دار الكتب.
7 - إنباه الرواة، القفطي، دار الكتب.
8 - الإيضاح، القزويني، المحمودية.
9 - بغية الوعاة، السيوطي، عيسى الحلبي.
10 - البيان والتبيين، الجاحظ، الخانجي.
11 - تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، السعادة.
12 - تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، عيسى الحلبي.
13 - تهذيب التهذيب، ابن حجر، حيدرآباد.
14 - الجامع الكبير، ابن الأثير، المجمع العلمي العراقي.
15 - جمهرة أشعار العرب القرشي، نهضة مصر.
16 - الحيوان، الجاحظ، مصطفى الحلبي.
17 - خزانة الأدب، البغدادي، بولاق.
18 - الخصائص، ابن جني، دار الكتب.
19 - الدرر الكامنة، ابن حجر، ط 2.
20 - دلائل الإعجاز، الجرجاني، المنار.
21 - ديوان الأعشى الكبير، النموذجية.
22 - ديوان امرئ القيس، دار المعارف.
23 - ديوان البحتري، بيروت.
24 - ديوان بشار، ط 1950.
25 - ديوان أبي تمام، بيروت.
26 - ديوان جرير، الصاوي.
27 - ديوان الحماسة، أبو تمام، لجنة التأليف.
28 - ديوان جميل، دار مصر.
29 - ديوان الحطيئة، تحقيق د. نعمان طه.
30 - ديوان الخنساء، بيروت.
31 - ديوان ابن الدمينة، المنار.
32 - ديوان ذي الرمة، الأهلية.
33 - ديوان زهير، دار الكتب.
34 - ديوان الشريف الرضي، بيروت.(1/386)
35 - ديوان العباس بن الأحنف، الجوانب.
36 - ديوان عبيد بن الأبرص، مصطفى الحلبي.
37 - ديوان علي بن الجهم، دمشق.
38 - ديوان عمر بن أبي ربيعة، بيروت.
39 - ديوان عنترة، التجارية.
40 - ديوان الفرزدق، الصاوي.
41 - ديوان قيس بن الخطيم، بغداد.
42 - ديوان قيس بن الملوّح، دار مصر.
43 - ديوان كثير، الدار المربعة.
44 - ديوان كعب بن زهير، الدار القومية.
45 - ديوان لبيد، الكويت.
46 - ديوان المتنبي، لجنة التأليف.
47 - ديوان ابن المعتز، بيروت.
48 - ديوان مهيار الديلمي، دار الكتب.
49 - ديوان النابغة، بيروت.
50 - ديوان أبي نواس، الاستقامة.
51 - ديوان ابن هانئ الأندلسي، بيروت.
52 - ديوان الهذليين، دار الكتب.
53 - الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب البغدادي، السنة المحمدية.
54 - سر الفصاحة، ابن سنان، صبيح.
55 - شذرات الذهب، ابن العماد، نشر القدس.
56 - شرح الحماسة، التبريزي، حجازي.
57 - شرح الحماسة، المرزوقي، لجنة التأليف.
58 - شرح القصائد التسع، النحاس، العراق.
59 - الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار المعارف.
60 - الصناعتين، أبو هلال العسكري، عيسى الحلبي.
61 - طبقات الحنابلة، السنة المحمدية.
62 - طبقات الشعراء، ابن المعتز، دار المعارف.
63 - طبقات القراء، ابن الجزري، السعادة.
64 - العمدة، ابن رشيق، السعادة.
65 - عمدة القاري، العيني، الطباعة المنيرية.
66 - عيون الأخبار، ابن قتيبة، دار الكتب.
67 - غريب القرآن، السجستاني، صبيح.
68 - الفائق، الزمخشري، الحلبي.
69 - الفهرست، ابن النديم، الرحمانية.
70 - فوات الوفيات، ابن شاكر، السعادة.
71 - الكامل، المبرد، الدلجموني.
72 - الكتاب، سيبويه، بولاق.
73 - الكشاف، الزمخشري، الاستقامة.
74 - لزوم ما لا يلزم، المعري، المحروسة 1891.(1/387)
75 - لسان العرب، ابن منظور، الأميرية.
76 - المثل السائر، ابن الأثير، نهضة مصر.
77 - المجازات النبوية، الشريف الرضي، مصطفى الحلبي.
78 - مجمع الأمثال، الميداني، الخيرية.
79 - المحتسب، ابن جني، الشئون الإسلامية.
80 - المستقصى من أمثال العرب، الزمخشري، ط 1.
81 - المصلحة في التشريع الإسلامي، مصطفى زيد، دار الفكر العربي.
82 - المعارف، ابن قتيبة، المطبعة الإسلامية.
83 - معاهد التنصيص، العباسي، السعادة.
84 - معجم الأدباء، ياقوت، 1355هـ.
85 - معجم الشعراء، المرزباني، 1354هـ.
86 - معجم المؤلفين، كحالة.
87 - المفصل، الزمخشري، الاتحاد المصري.
88 - المفضليات، الضبي، دار المعارف.
89 - مقامات الحريري، بيروت 1903.
90 - المقتضب، المبرد، الشئون الإسلامية.
91 - الموازنة، الآمدي، دار المعارف.
92 - الموسوعة العربية الميسرة، غربال، 1965م.
93 - الموشح، المرزباني، نهضة مصر.
94 - ميزان الاعتدال، الذهبي، عيسى الحلبي.
95 - النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي، دار الكتب.
96 - نقد الشعر، قدامة، المليجية.
97 - نهاية الأرب، النويري، دار الكتب.
98 - نهج البلاغة، الشريف الرضي، بيروت 1885.
99 - النوادر، أبو زيد الأنصاري، بيروت.
100 - الوشاح، الكرمي، طاقم 1375.
101 - يتيمة الدهر، الثعالبي، الصاوي.(1/388)
فهرس الموضوعات
الصفحة
مقدمة الطبعة الثانية 5
تقديم وتعريف 7
مقدمة المؤلف، التفسير والتأويل 27
القسم الأول: في معاني القرآن. سبب احتياج القرآن إلى التفسير والتأويل، ما لا يحتاج إلى تفسير، وما يحتاج إلى تفسير 31
اختلاف أقوال المفسرين في الآية الواحدة وسبب الاختلاف 36
اختلاف مذاهب الفقهاء وسبب الخلاف 37
وضع قانون يتوصل به إلى علم التفسير 42
فائدة هذا القانون ومن ينتفع به 43
القسم الثاني: في بيان العلوم التي اشتمل القرآن عليها، وينبغي للمفسر النظر فيها 45
العلم من حيث مادته، والعلم من حيث غايته 47
العلم الديني، والعلم البدني، والعلم المعاشي، علم القرآن إما لفظي وإما معنوي، أنواع اللفظي: علم الغريب والتصريف والاعراب والقراءات 48
أنواع المعنوي: الوجودي 49
الاعتقادي، ما يتفرع عن هذه الأقسام: التاريخي، الوعظي 50
الناسخ والمنسوخ، أصول الفقه 51
علم الفقه، علم المعاني والبيان 52
القسم الثالث: في علم المعاني والبيان 6559
المقدمة، وتشمل ثلاثة مباحث: 62
البحث الأول: الكشف عن حقيقة هذا العلم، البيان 63
موضوعه، مبادئه، مسائله، تعريفه 65(1/389)
البحث الثاني: في بيان فضيلة علم البيان وشرفه 7066
البحث الثالث: ورود القرآن على أساليب مختلفة 7571
(الجملة الأولى) الباب الأول: في أحكام علم البيان الفصل الأول: في مقدماته التي ينبغي الابتداء بها:
آلات التأليف 79
معرفة المتداول المألوف من اللغة 84
معرفة أيام العرب وأمثالهم 86
الاطلاع على كثير من كلام المتقدمين 89
معرفة الأحكام السلطانية 89
حفظ الكتاب وجملة من السنة 89
معرفة العروض والقوافي 90
الفصل الثاني: آداب التأليف وبيان الطريق إليه 91
الفصل الثالث: في الحقيقة والمجاز 94
(الباب الثاني) الفصل الأول: في الألفاظ المفردة والمركبة والصفات التي تستحق
بها رتبة الحسن والجودة في الألفاظ المفردة 105
تباعد مخارج الحروف 105
أن تكون مألوفة 112
ألا تكون مبتذلة 113
ألا تكون مشتركة 117
التصغير 121
عدم الإكثار منه 123
أن تكون مركبة من أفل الأوزان تركيبا 124(1/390)
في الألفاظ المركبة: تناسب الألفاظ وارتباط الكلام، وضع كل لفظ في موضعه اللائق به 128
الحسن يرجع إلى تأليف الكلام وفائدته والدليل على ذلك 129
الفصل الثاني: في المعاني وأنها أشرف من الألفاظ 132
الفصل الثالث: الكلام المنثور والمنظوم وأيهما أفضل، مناقشة ابن الأثير فيما ذهب إليه بأن النثر أفضل 135
(الجملة الثانية) في أحكامه الخاصة الباب الأول الفصاحة والبلاغة 145
الباب الثاني أنواع علم البيان: معنوية ولفظية 147
والمعنوية تسعة وعشرون نوعا:
النوع الأول: الاستعارة 147
النوع الثاني: الكناية والتعريض 155
الإرداف 160
المجاورة 164
الكناية عن الشيء ببعض ما ينسب إليه من عادة أو طبع 165
التعريض 166
النوع الثالث: التشبيه 168
النوع الرابع: شجاعة العربية وهو أصناف: 175
الصنف الأول: الالتفات 176
الصنف الثاني: العدول عن الماضي إلى المضارع 180
الصنف الثالث: في عكس الظاهر 183
الصنف الرابع: الحمل على المعنى 184(1/391)
الصنف الخامس: التقديم والتأخير 189
تقديم المفعول 189
تقديم الخبر 191
تقديم الحال والاستثناء 192
تقديم الجار والمجرور، تقديم النفي 192
إنما 195
التقديم والتأخير في الاستفهام 197
التقديم لفائدة، والتقديم لغير فائدة 201
الصنف السادس: الاعتراض، الجيد، والرديء، والمتوسط 203
النوع الخامس: في الإيجاز 210
الأول: إيجاز الحذف الضرب الأول: الاكتفاء بذكر السبب وعكسه 211
الضرب الثاني: الإضمار 212
الضرب الثالث: حذف المفعول به 215
الضرب الرابع: حذف الفعل وجوابه 217
الضرب الخامس: حذف المضاف والمضاف إليه 219
الضرب السادس: حذف الصفة والموصوف 220
الضرب السابع: حذف الشرط وجوابه 221
الضرب الثامن: حذف القسم وجوابه 223
الضرب التاسع: حذف لو وجوابها 224
الضرب العاشر: حذف جواب إذ، ولما، وأما 225
الضرب الحادي عشر: حذف لا 225
الضرب الثاني عشر: الاستئناف 226
الضرب الثالث عشر: حذف الواو وإثباتها 228
الضرب الرابع عشر: حذف ما يخل حذفه بالكلام 230
الثاني: الإيجاز بدون الحذف 231
التقدير: مساواة اللفظ والمعنى 231(1/392)
الإيجاز بالقصر 231
النوع السادس: الإطناب 234
النوع السابع: توكيد الضمير المتصل بالمنفصل 236
النوع الثامن: في استعمال العام نفيا، والخاص إثباتا 239
النوع التاسع: في تفسير المهم 242
النوع العاشر: في التعقيب المصدري 244
النوع الحادي عشر: وضع الظاهر موضع الضمير تعظيما أو تحقيرا 245
النوع الثاني عشر: التقديم والتأخير من جهة المعنى 246
النوع الثالث عشر: في التخلص والاقتضاب 248
النوع الرابع عشر: في المبادئ والافتتاحات 253
النوع الخامس عشر: في خذلان المخاطب 259
النوع السادس عشر: في قوة اللفظ لقوة المعنى 259
النوع السابع عشر: في الاشتقاق 262
النوع الثامن عشر: في الحروف العاطفة والجارة 266
النوع التاسع عشر: في التكرير 269
النوع العشرون: في تناسب المعاني، وهو ثلاثة أضرب: 283
المطابقة 283
التفسير 290
صحة التقسيم 293
النوع الحادي والعشرون: في الاقتصاد والإفراط والتفريط 297
النوع الثاني والعشرون: في الخطاب بالجملتين الفعلية والاسمية المؤكدة 304
النوع الثالث والعشرون: في ورود الكلام بلام التأكيد 306
النوع الرابع والعشرون: في التضمين 308
النوع الخامس والعشرون: في الاستدراج 311
النوع السادس والعشرون: في الإرصاد 312(1/393)
النوع السابع والعشرون: في التوشيح 315
النوع الثامن والعشرون: في الأخذ والسرقة: المسخ، السلخ 317
النوع التاسع والعشرون: في المعاظلة 326
وأما اللفظية فسبعة أنواع:
الأول: في السجع والازدواج 327
الثاني: في التجنيس 332
الثالث: في الترصيع 342
الرابع: في الموازنة 343
الخامس: في رد العجز على الصدر 344
السادس: في الإعنات 346
السابع: في تكرير الحرف الواحد 348
الفهارس 349
1 - فهرس الآيات القرآنية.
2 - فهرس الأحاديث القدسية والنبوية.
3 - فهرس الأمثال والأقوال المأثورة.
4 - فهرس الأبيات الشعرية.
5 - فهرس أنصاف الأبيات.
6 - فهرس الأعلام.
7 - فهرس المراجع.
8 - فهرس الموضوعات.(1/394)
كتب للمؤلف
1 - الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزوينى تحقيق (مكتبة الآداب) القاهرة.
2 - أثر النحاة في البحث البلاغى ط 3دار غريب القاهرة.
3 - القرآن والصورة البيانية عالم الكتب بيروت.
4 - فن البلاغة عالم الكتب بيروت.
5 - فن البديع دار الشروق القاهرة.
6 - أصول البلاغة دار الشروق القاهرة.
7 - المختصر في تاريخ البلاغة دار غريب القاهرة.
8 - مقدمة شرح نهج البلاغة دار الشروق القاهرة.
9 - الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة مكتبة الآداب القاهرة.
10 - من علوم القرآن وتحليل نصوصه دار قطرى بن الفجاءة الدوحة.
11 - القرآن: إعجازه وبلاغته مكتبة الآداب القاهرة.
12 - نصوص من القرآن الكريم مكتبة الجامعة الدوحة.
13 - من بلاغة النبوة دار الثقافة الدوحة.
14 - مختارات من الشعر العباسى دار التراث القاهرة.
15 - الإكسير في علم التفسير مكتبة الآداب بيروت.
16 - خلاصة المعانى مكتبة الآداب السعودية.
17 - البلاغة القيمة جزء عم دار غريب القاهرة.
18 - جزء الذاريات تفسير بلاغى ميسر دار غريب.
19 - جزء فصلت تفسير بلاغى ميسر دار غريب.
20 - جزء الأحقاف تفسير بلاغى ميسر دار غريب.
21 - الرسول واعظا بليغا أوزوريس القاهرة.
22 - أحزان الأنبياء دار غريب القاهرة.
23 - قصة سيدنا يوسف.
24 - قصة سيدنا موسى.(1/395)
رقم الإيداع: 15388: 2002 الترقيم الدولى: 9772414481(1/396)