السلطان. واستمرّت الحال مدة حياة خاله السلطان، ولمّا صار الأمر إلى مخيفه ولي العهد (1)، استشرى الداء، وأعضل الأمر، وعمّت الفتنة، وزاحمه السلطان بالمنكّب انفجم، واعتوره بالحيلة، حتى تحيّف أطرافه، وكان ما هو معلوم من إجازة أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق (2) البحر إلى الجهاد، ومال الحال بينه وبين السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر إلى التّقاطع، وتصيّرت مالقة إلى الإيالة المغربية، ثم عادت إلى السلطان.
وفي أخريات هذه الأحوال، أحكم السلطان مع طاغية الرّوم السّلم، وصرف وجهه إلى مطالبة الرئيس أبي محمد، صاحب وادي آش، فألجأه الحال إلى أن صرف الدعوة بوادي آش إلى السلطان بالمغرب ورفع شعاره، فأقعد عنه. ووقعت مراسلات أجلت عن انتقال الرئيس أبي محمد إلى المغرب، معوّضا عن مدينة وادي آش بقصر كتامة (3)، وذلك في عام تسعة وثمانين وستمائة.
وفاته: دخلت قصر كتامة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي قعدة عام خمسة وخمسين وسبعمائة في غرض الرسالة، وزرت مقبرة الرؤساء بني إشقيلولة بظاهرها، وفي قبّة ضخمة البناء رحيبة الفناء، نسيجة وحدها بذلك البلد بين منازل البلى وديار الفناء، وبها قبر الرئيس أبي محمد هذا، عن يسار الداخل، بينه وبين جدار القبلة قبر، وسنامه رخام مكتوب عليه: [المجتث]
قبر عزيز علينا ... لو أنّ من فيه يفدى
أسكنت قرّة عيني ... وقطعة القلب لحدا
ما زال حكما عليه ... وما القضاء تعدّى
فالصّبر (4) أحسن ثوب ... به العزيز تردّى
وعند رأس السّنام الرخامي، مهد مائل من الرخام فيه:
«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله، وسلّم تسليما. هذا قبر الرئيس الجليل، الأعلى الهمام، الأوحد،
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، ثاني سلاطين غرناطة، وقد حكم من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. اللمحة البدرية (ص 50).
(2) هو المنصور يعقوب بن عبد الحق المريني، سيد بني مرين بالمغرب، توفي سنة 685هـ.
الأعلام (ج 8ص 199) وفيه ثبت بأسماء مصادر ترجمته.
(3) قصر كتامة: مدينة بالجزيرة الخضراء من أرض الأندلس. معجم البلدان (ج 4ص 362).
(4) في الأصل: «فللصبر» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/288)
الأسعد، المبارك، الأسنى، الأسمى، الأحفل، الأكمل، المجاهد، المقدس، المرحوم، أبي محمد عبد الله، ابن الرئيس الجليل، الهمام، الأوحد، الأسعد، المبارك، الأمضى، الأسنى، الأسمى، المعظم، المرفّع، المجاهد، الأرضى، المقدس، المرحوم أبي إسحاق إبراهيم بن إشقيلولة، رحمه الله وعفا عنه وأسكنه جنّته. ظهر، عفا الله عنه، بوادي آش، أمّنها الله، قاعدة من قواعد الأندلس، وتسلطن، ونشرت علامات سلطنته، وضربت الطبول. وجاهد منها العدو، قصمه الله، وظهر على خاله سلطان الأندلس، وأقام في سلطنته نحوا من ثلاث وعشرين سنة. ثم قام بدعوة الملك الأعلى، السلطان المؤيد المنصور، أمير المسلمين، المؤيد بالله أبي يعقوب، أيّده الله بنصره، وأمدّه بمعونته ويسره، وأمره، أيّده الله، أن يتخلّى عن وادي آش المذكورة، ويصل للمغرب، فتنحّى عن الأندلس للمغرب، آنسه الله، في جمادى الأولى من عام ستة وثمانين وستمائة، فأعطاه، أيّده الله، قصر عبد الكريم، أمّنه الله، وأنعم عليه، فأقام به مدة من ثمانية أعوام، وجاز منه إلى الأندلس، أمّنها الله، وجاهد بها مرّتين، ثم رجع إلى قصر عبد الكريم المذكور، وتوفي، شرّف الله روحه الطّيبة المجاهدة، عشيّ يوم السبت العاشر من شهر محرم سنة خمس وتسعين وستمائة».
عبد الله بن بلقّين بن باديس بن حبّوس بن ماكسن ابن زيري بن مناد الصّنهاجي (1)
أمير غرناطة.
أوليته: قد مرّ من ذلك في اسم جدّه ما فيه كفاية.
حاله: لقبه المظفّر بالله، الناصر لدين الله. ولي بعد جدّه باديس في شوال سنة خمس وستين وأربعمائة، وصحبه سماجة الصّنهاجي تسع سنين. قال الغافقي: وكان قد حاز حظّا وافرا من البلاغة والمعرفة، شاعرا جيّد الشعر، مطبوعه، حسن الخطّ.
كانت بغرناطة ربعة مصحف بخطّه في نهاية الصّنعة والإتقان. ووصفه ابن الصّيرفي
__________
(1) ترجمة عبد الله بن بلقين في الأنيس المطرب (ص 99) والمختصر في أخبار البشر (ج 2ص 198) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 2ص 8) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 233) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 123، 128) والحلل الموشية (ص 34) وكتاب العبر (م 4ص 346) و (م 6ص 370) وصبح الأعشى (ج 5ص 242) ومذكرات الأمير عبد الله (ص 205).
وهناك دراسة مستفيضة عنه للدكتورة مريم قاسم طويل في كتابها: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 239171).(3/289)
فقال (1): كان جبانا معمد (2) السيف، قلقا، لا يثبت على الظّهر، عزهاة (3) لا أرب له في النساء (4)، هيّابة، مفرط الجزع، يخلد إلى الرّاحات، ويستوزر الأغمار.
خلعه: قال: (5) وفي عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، تحرّك أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، لخلع رؤساء الأندلس، فأجاز البحر، ويمّم قرطبة، وتواترت الأنباء عن حفيد باديس صاحب غرناطة، بما يغيظه ويحقده، حسبما تقدم في اسم مؤمّل مولى باديس. وقدّم إلى غرناطة أربع محلّات، فنزلت بمقربة منها، ولم تمتدّ يد إلى شيء يوجد، فسرّ الناس واستبشروا، وأمنت البادية، وتمايل أهل الحاضرة إلى القوي. وأسرع حفيد باديس في المال، وألحق السّوقة والحاكّة (6)، واستكثر من اللّفيف، وألحّ بالكتب على أذفونش بما يطمعه. وتحقّق يوسف بن تاشفين استشراف الحضرة إلى مقدمه، فتحرّك. وفي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب، اجتمع إلى حفيد باديس صنائعه، فخوّفوه من عاقبة التربّص، وحملوه على الخروج إليه، فركب وركبت أمّه وتركا القصر على حاله، ولقي أمير المسلمين على فرسخين من المدينة، فترجّل، وسأله العفو، فعفا عنه، ووقف عليه، وأمره بالرّكوب، فركب، وأقبل حتى نزل ب «المشايخ» من خارج الحضرة. واضطربت المحلّات، وأمر مؤمّلا بثقافه في القصر، فتولّى ذلك، وخرج الجمّ من أهل المدينة، فبايعوا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فلقيهم، وأنسهم، وسكّن جأشهم، فاطمأنوا. وسهّل مؤمّل إليه دخول الأعيان، فأمر بكتب الصّكوك، ورفع أنواع القبالات والخراج، إلّا زكاة العين، وصدقة الماشية، وعشر الزّرع. واستقصي ما كان بالقصر، فظهر على ما يحول الناظر، ويروع الخاطر، من الأعلاق والذّخيرة، والحلى، ونفيس الجوهر، وأحجار الياقوت، وقصب الزّمرد، وآنية الذّهب والفضة، وأطباق البلّور المحكم، والجرداذنات، والعراقيّات، والثّياب الرّفيعة، والأنماط، والكلل، والسّتائر، وأوطية الدّيباج، مما كان في ادّخار باديس واكتسابه. وأقبلت دوابّ الظّهر من المنكّب
__________
(1) قارن بأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 235).
(2) في أعمال الأعلام: «مغتمد».
(3) عزهاة: عازف عن اللهو والنساء. محيط المحيط (عزه).
(4) في أعمال الأعلام: «زاهدا في النساء».
(5) قارن بمذكرات الأمير عبد الله (ص 154وما بعدها) وتاريخ الأندلس لابن الكردبوس (ص 104 105).
(6) الحاكّة: أصحاب الشّرّ. وهذا الجمع لم نلحظه في كتب اللغة فقد جاء فيها أن «الحكك» جمع «حاكّ»، وهو صاحب الشرّ.(3/290)
بأحمال السّبيك والمسبوك، واختلفت أمّ عبد الله لاستخراج ما أودع بطن الأرض، حتى لم يبق إلّا الخرثى والثّقل والسّقط. وزّع ذلك الأمير على قوّاده، ولم يستأثر منه بشيء. قال (1): ورغب إليه مؤمّل في دخول القصر، فركب إليه، وكثر استحسانه إياه، وأمر بحفظه. وتفقّد أوضاعه وأفنيته. ونقل عبد الله إلى مرّاكش، وسنّه يوم خلع، خمس وثلاثون سنة وسبعة أشهر، فاستقرّ بها هو وأخوه تميم، وحلّ اعتقالهما، ورفّه عنهما، وأجري المرتّب والمساهمة عليهما. وأحسن عبد الله أداء الطاعة، مع لين الكلمة، فقضيت مآربه، وأسعفت رغباته، وخفّ على الدولة، واستراح واستريح منه، ورزق الولد في الخمول، فعاش له ابنان وبنت، جمع لهم المال. فلمّا توفي ترك مالا جمّا.
مولده: ولد عبد الله سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
عبد الله بن علي بن محمد التّجيبي، الرئيس أبو محمد ابن إشقيلولة
حاله: كان رئيسا شجاعا، بهمة، حازما، أيّدا، جلدا. تولّى مدينة مالقة عقب وفاة الرئيس واليها أبي الوليد بن أبي الحجاج بن نصر، صنو أمير المسلمين، الغالب بالله، في أوائل عام خمسة وخمسين وستمائة. وكان صهر السلطان على إحدى بناته، وله منه محلّ كبير، ومكان قريب، وله من ملكه حظّ رغيب.
واستمرّت حاله إلى عام أربعة وستين وستمائة، وفسد ما بينه وبين وليّ العهد، الأمير أبي عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله، إذ وغر له صدره، ولا بني أخيه الرئيسين، أبي محمد وأبي الحسن، ابني الرئيس أبي إسحاق بن إشقيلولة المتأمّرين بوادي آش، فضايقهم وأخافهم بما أدّاهم إلى الامتناع والدّعاء لأنفسهم والاستمساك بما بأيديهم. وعمّت المسلمين الفتنة المنسوبة إليهم، فانتزى هذا الرئيس بمدينة مالقة، وكان أملك لما بيده، واستعان بالنّصري، وشمّر عن ساعد الجدّ، فأباد الكثير من أعيان البلدة في باب توسّم التهم وتطرّق السعايات، واستولى على أموالهم. واستمرت الحال بين حرب أجلت فيها غلبة الأمير مخيفه، ولي العهد، بجيش النّصري، ونازل مالقة أربعين يوما، وشعّث الكثير بظاهرها، وتسمّى بعلم الأمير عند أهل مالقة، وما بين سلم ومهادنة. وفي عام
__________
(1) راجع المختصر في أخبار البشر (ج 2ص 198) والأنيس المطرب (ص 100) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 2ص 8) والاستقصاء (ج 2ص 53).(3/291)
ستين وستمائة، نازله السلطان الغالب بالله صهره، وأعيا عليه أمر مالقة، لاضطلاع هذا الرئيس بأمره، وضبط من لنظره، واستمساكه بعروة حزمه.
وفي بعض الأيام ركب السلطان في ثلاثة من مماليكه، متخفّيا، كاتما غرضه، وقعد بباب المدينة، فلمّا بصر به الرجال القائمون به، هالهم الأمر، وأدهشتهم الهيبة، فأفرجوا له، موقّرين لجلاله، آنسين لقلّة أتباعه، فدخل، وقصد القصبة، وقد نذر به الرئيس أبو محمد، فبادر إليه راجلا، متبذّلا، مهرولا، حافيا. ولمّا دنا منه ترامى على رجليه يقبّلهما، إظهارا لحقّ أبوّته، وتعظيما لقدره، ودخل معه إلى بنته وحفدته، فترامى الجميع على أطرافه يلثمونها، ويتعلّقون بأذياله وأدرانه، وهو يبكي إظهارا للشّفقة والمودّة وتكلّم الجميل. وأقام معهم بياض يومه، ثم انصرف إلى محلّته، وأتبعه الرئيس، فأمره بالاستمساك بقصبته وملازمة محلّ إمرته، وما لبث أن شرع في الارتحال عن ألطاف ومهادات، وتقدير جرايات، وإحكام هديّة، وتقرير إمارة، إلى أن توفي السلطان، رحمه الله، فعادت الفتنة جزعة، ووالى ولده أمير المسلمين بعده الضرب على مالقة، إلى أن هلك الرئيس أبو محمد، واستقرّ بالأمور ولده المذكور في المحمّدين، وكان من الأمر ما ينظره في مكانه من أراد استيفاءه، بحول الله.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد العزفي
يكنى أبا طالب، الرئيس الفقيه، الكبير الشّهير، صاحب الأمر والرّئاسة والإمارة بسبتة، نيابة عن أخيه الرئيس الصّالح أبي حاتم، بحكم الاستقلال في ذلك، والاستبداد التّام، من غير مطالعة لأخيه ولا رجوع إليه في شيء من الأمور، ولا تشوّف من أخيه إلى ذلك، لخروجه البتّة عنه، وإيثاره العزلة، واشتغاله بنفسه.
حاله: قد تقدم من ذكر أوّليته ما فيه كفاية. وكان من أهل الجلالة والصّيانة، وطهارة النّشأة، حافظا للحديث، ملازما لتلاوة كتاب الله، عارفا بالتاريخ، عظيم الهيبة، كبير القدر والصّيت، عالي الهمّة، شديد البأو، معظّما عند الملوك، جميل الشّارة، ممتثل الإشارة لديهم، عجيب السّكينة والوقار، بعيد المرمى، شديد الانقباض، مطاع السّلطان بموضعه، مرهوب الجانب، من غير إيقاع بأحد، ولا هتك حرمة، محافظا على إقامة الرّسوم الحسبيّة والدّينية.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع وغيره.
نكبته: تغلّب على بلده أيام إمارته، وثار أهله إليه في السّلاح والعدّة ليحيطوا بمن في القصبة، فخرج إليهم، وشكر مساعيهم، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن
عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، فانصرفوا، ودخل منزله ملقيا بيده، ومسلّما لقضاء الله سبحانه في كسره، إلى أن قبض عليه وعلى سائر بنيه وقومه، عند ارتفاع النهار وانتشار المتغلّبين على القصبة، فنقفوا متحرّجين من دماء المسلمين، وصرفوا إلى الأندلس، في ضحو يوم الخميس الثاني عشر من ذي قعدة عام خمسة وسبعمائة، بعد انقضاء خمسة عشر يوما من تملّك بلدهم، فاستقرّ بغرناطة تحت ستر واحترام وجراية فيها كفاف. ثم لما خرجت سبتة عن طاعة أمير المسلمين، انصرف القوم إلى فاس، فتوفي بها.(3/292)
نكبته: تغلّب على بلده أيام إمارته، وثار أهله إليه في السّلاح والعدّة ليحيطوا بمن في القصبة، فخرج إليهم، وشكر مساعيهم، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن
عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، فانصرفوا، ودخل منزله ملقيا بيده، ومسلّما لقضاء الله سبحانه في كسره، إلى أن قبض عليه وعلى سائر بنيه وقومه، عند ارتفاع النهار وانتشار المتغلّبين على القصبة، فنقفوا متحرّجين من دماء المسلمين، وصرفوا إلى الأندلس، في ضحو يوم الخميس الثاني عشر من ذي قعدة عام خمسة وسبعمائة، بعد انقضاء خمسة عشر يوما من تملّك بلدهم، فاستقرّ بغرناطة تحت ستر واحترام وجراية فيها كفاف. ثم لما خرجت سبتة عن طاعة أمير المسلمين، انصرف القوم إلى فاس، فتوفي بها.
وفاته: في شعبان المكرم من عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
عبد الله بن الجبير بن عثمان بن عيسى بن الجبير اليحصبي (1)
من أهل لوشة، وهو محسوب من الغرناطيين. قال الأستاذ (2): من أعيانها ذوي الشرف والجلالة. قلت: ينسب إليه بها معاهد تدلّ على قدم وأصالة.
حاله: قال أبو القاسم الملّاحي (3): كان أديبا بارع الأدب، كاتبا، بليغا، شاعرا مطبوعا، لسنا مفوّها، عارفا بالنحو والأدب واللغات، وقد مال في عنفوان شبيبته إلى الجندية لشهامته وعزّة نفسه، فكان في عسكر المأمون بن عبّاد (4)، واشتمل عليه المأمون، وكان من أظرف الناس، وأملحهم شبيبة (5)، وأحسنهم شارة، وأتمّهم معرفة.
مشيخته: أخذ (6) عن أشياخ بلده غرناطة، وأخذ بمالقة عن غانم الأديب، وبقرطبة عن ابن سراج.
شعره: وله في إنشاده لدى المأمون مجال رحب، فمن ذلك قوله (7):
[البسيط]
يا هاجرين، أضلّ الله سعيكم ... كم تهجرون محبّيكم بلا سبب
__________
(1) يكنى عبد الله بن الجبير أبا محمد، وكانت وفاته في سنة 518هـ، وترجمته في بغية الملتمس (ص 348) وفيه أنه عبد الله بن عثمان بن الجبير، والتكملة (ج 2ص 252) وبغية الوعاة (ص 279) والذيل والتكملة (ج 4ص 189).
(2) الأستاذ هو ابن الزبير، وقوله هنا ورد في بغية الوعاة (ص 279).
(3) قارن ببغية الوعاة (ص 279).
(4) هو المأمون بن المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية في عصر ملوك الطوائف.
(5) في الأصل: «شيبة» والتصويب من بغية الوعاة.
(6) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 189).
(7) الأبيات في بغية الوعاة (ص 279).(3/293)
ويا مسرّين للإخوان غائلة ... ومظهرين وجوه البرّ والرّحب
ما كان ضرّكم الإخلاص لو طبعت ... تلك النفوس على علياء أو أدب
أشبهتم الدّهر لمّا كان والدكم ... فأنتم شرّ أبناء لشرّ (1) أب
عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد ابن علي السّلماني (2)
والد المؤلف، رضي الله عنه، يكنى أبا محمد، غرناطي الولادة والاستيطان، لوشي الأصل، ثم طليطليّه، ثم قرطبيّه.
أوليته: كان سلفه يعرفون بقرطبة ببني وزير، وهم بها أهل نباهة، وبيتهم بيت فقه وخيريّة وماليّة، ونجارهم نجار فرسان يمانيّة. ولمّا حدث على الحكم بن هشام الوقيعة الرّبضيّة، وكان له الفلج، وبأهل الرّبض الدّبرة، كان أعلام هذا البيت من الجالية أمام الحكم، حسبما امتحن به الكثير من أعلام المشيخة بها، كالفقيه طالوت، ويحيى بن يحيى، وغيرهما (3)، ولحقوا بطليطلة، فاستقرّوا بها، ونبا بهم وطنهم، ثم حوّموا على سكنى الموسّطة، وآب إلى قرطبة قبلهم بعد عهد متقادم، ومنهم خلف وعبد الرحمن، وقد مرّ له ذكر في هذا الكتاب. وولّي القضاء بالكورة. ومنهم قوم من قرابتهم تملّكوا منتفريد (4)، الحصن المعروف الآن بالمنعة والخصب، وتمدّن فيهم، وبنيت به القلعة السّامية، ونسب إليه ذلك المجد، فهم يعرفون ببلدنا ببني المنتفريدين. واستقرّ منهم جدّنا الأعلى بلوشة خطيبا وقاضيا بالصّقع ومشاورا (5)، وهو المضاف إلى اسمه التّسويد بلوشة عرفا كأنه اسم مركّب، فلا يقول أحد منهم في القديم إلّا سيّدي سعيد. كذا تعرّفنا من المشيخة، وإليه النّسبة اليوم، وبه يعرف خلفه ببني الخطيب، وكان صالحا فاضلا، من أهل العلم والعمل. حدّثني الشيخ المسنّ أبو الحكم المنتفريدي، وقد وقفني على جدار برج ببعض أملاكنا بها، على الطّريق الآتية من غرناطة إلى لوشة، ثم إلى غيرها، كإشبيلية وسواها، فقال: كان جدّك يسكن بهذا البرج كذا من فصول العام، ويتلو القرآن ليلا، فلا يتمالك المارّون على الطّريق، أن يقربوا إصغاء لحسن تلاوته
__________
(1) في البغية: «كشرّ».
(2) ترجمة عبد الله بن سعيد السلماني في نفح الطيب (ج 7ص 13).
(3) في الأصل: «وغيرهم».
(4) اسمه بالإسبانية:، ويعني الجبل البارد.
(5) المشاور: هو من كان يتقلّد خطة الشورى، التابعة للقضاء.(3/294)
وخشوعا. وكان ولده عبد الله بعده، على وتيرة حسنة من الخير والنّباهة وطيب الطّعمة، ثم جدّه الأقرب سعيد على سننه، مرب عليه بمزيد المعرفة، وحسن الخطّ.
ولما وقع بلوشة بلده، ما هو معروف من ثورة أصهارهم من بني الطّنجالي، وكان بينهم ما يكون بين الفحول في الهجمات من التّشاجر، فرّ عنهم خيفة على نفسه، وعلى ذلك فناله اعتقال طويل، عدا به عليه عن تلك الثورة. ثم بان عذره، وبرّئت ساحته، واستظهر به السلطان، وأقام بغرناطة، مكرّما، مؤثرا، مؤتمنا، وصاهر في أشراف بيوتاتها، فكانت عنده بنت الوزير أبي العلى أضحى بن أضحى الهمداني، وتوفيت تحته، فأنجز له بسببها الحظّ في الحمّام الأعظم المنسوب إلى جدّها اليوم.
ثم تزوج بنت القائد أبي جعفر أحمد بن محمد الجعدالة السّلمي، أم الأب المترجم به، ولها إلى السلطان ثاني ملوك بني نصر وعظيمهم (1) متات ببنوّة الخؤولة من جهة القوّاد الأصلاء القرطبيين بني دحون، فوضح القصد، وتأكدت الحظوة. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك كله في محلّه. ثم رسخت لولده أبي، القدم في الخدمة والعناية، حسبما يتقرّر في موضعه.
حاله: كان، رحمه الله، فذّا في حسن الشكل والأبّهة، وطلاقة اللسان، ونصاعة الظّرف، وحضور الجواب، وطيب المجالسة، وثقوب الفهم، مشارا إليه في الحلاوة وعذوبة الفكاهة، واسترسال الانبساط، مغييا في ميدان الدّعابة، جزلا، مهيبا، صارما، متجنّدا، رائق الخصل ركضا وثقافة، وعدوا وسباحة وشطرنجا، حافظا للمثل واللّغة، أخباريا، مضطلعا بالتاريخ، ناظما نائرا، جميل البزّة، فاره المركب، مليح الشّيبة. نشأ بغرناطة تحت ترف ونعمة، من جهة أمّه وأبيه، وقرأ على أبي إسحاق بن زرقال، وأبي الحسن البلّوطي، ثم على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزّبير، ظاهرة عليه مخيّلة النّجابة والإدراك. ثم أقصر لعدم الحامل على الدّؤوب، وانتقل إلى بلد سلفه، متحيّفا الكثير من الأصول في باب البذل وقرى الضّيوف، ومداومة الصّيد، وإيثار الراحة، معتمدا بالتّجلّة، مقصود الحلّة، مخطوب المداخلة، من أبناء أشراف الدولة، منتجعا لأولي الكدية. ولما قام بالأمر السلطان، أمير المسلمين أبو الوليد، وأمّه بنت السلطان ثاني الملوك من بني نصر، جزم ما تقدّم من المتات والوسيلة، استنهضه للإعانة على أمره، وجعل طريقه على بلده، فحطب في حبله، وتمسّك بدعوته، واعتمده بنزله وضيافته، وكان أعظم الأسباب في حصول الأمر بيده، ودخوله
__________
(1) الصواب ثاني سلاطين بني نصر، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الذي حكم غرناظة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. اللمحة البدرية (ص 50).(3/295)
في حكمه، وانتقل إلى حضرة الملك بانتقاله، فنال ما شاء من اصطناعه وحظوته، وجرى له هذا الرّسم في أيام من خلفه من ولده إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف تاريخ فقده.
وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصه (1): إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل: مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أحجمت، فما أسديت في الثّناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق. هذا، ولو أنّي زجرت طير البيان من أوكاره، وجئته (2) بعيون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقّه بعد، ولا قلت إلّا التي علمت سعد (3). فقد كان، رحمه الله، ذمر (4) عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقّد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد. فقدته (5) بكائنة طريف (6)، جبر الله عثارها، وعجّل ثارها.
حدّث خطيب المسجد الأعظم، وهو ما هو، من وفور العقل، وصحة النّقل، قال: مررت بأبيك بعد ما تمت الكسرة، وخذلت تلك الأسرة، وقد كبا بأخيك الطّرف، وعرض عليه الحمام للصّرف، والشيخ رحمه الله لم تزلّ قدمه، ولا راعه الموقف وعظمه. ولما آيس من الخلاص وطلّابه، صرفني وقال: أنا أولى به، فقضى سعيدا شهيدا، لم يستنفره الهول، ولم يثنه ولا رضي عار الفرار عن ابنه.
شعره: قال في «الإكليل» (7): وكان (8) له في الأدب فريضة، وفي النّادرة العذبة منادح عريضة. تكلّمت يوما بين يديه، في مسائل من الطب، وأنشدته أبياتا من شعري (9)، وقرأت عليه رقاعا من إنشائي، فسرّ وتهلّل، وعبّر عما أمل، وما برح أن
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 7ص 14).
(2) في النفح: «وجئت بعون».
(3) أخذه من قول الحطيئة [الطويل]:
وتعذلني أفناء سعد عليهم ... ولا قلت إلّا بالتي علمت سعد
ديوان الحطيئة (ص 329).
(4) الذّمر، بفتح الذال وكسر الميم: الشجاع والداهية. لسان العرب (ذمر).
(5) من هنا حتى قوله: «عار الفرار عن ابنه» ساقط في النفح.
(6) كائنة طريف أو موقعة طريف: هي الموقعة الشهيرة التي كانت بين الإسبان وبني مرين، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، سنة 741هـ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص 106105).
(7) النص نثرا وشعرا في نفح الطيب (ج 7ص 1514).
(8) في النفح: «وكانت».
(9) في النفح: «شعري ورقاعا من إنشائي فتهلّل وما برح أن ارتجل».(3/296)
ارتجل قوله رحمة الله عليه: [مخلع البسيط]
الطبّ والشّعر والكتابه ... سماتنا في بني النّجابه
هنّ ثلاث مبلّغات ... مراتبا بعضها الحجابه
ووقّع لي يوما بخطّه على ظهر أبيات، بعثتها إليه، أعرض عليه نمطها: [الكامل]
وردت كما ورد النسيم بسحره (1) ... عن روضة جاد الغمام رباها
فكأنما (2) هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها
مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ... فبمثلها (3) افتخر البليغ وباهى
فقررت عينا عند رؤية حسنها ... إني أبوك وكنت أنت أباها
ومن شعره (4) قوله: [الوافر]
وقالوا قد نأوا (5): فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الدّيار
فقلت: هبوا بأنّ الحقّ هذا ... فقلبي يمّموا فيم اصطباري (6)؟
ومن قوله مما يجري مجرى الحكم والأمثال (7): [السريع]
عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدّى إلى كلمه (8)
إنّ لسان المرء أهدى إلى ... غرّته والله من خصمه
يرى صغير الجرم مستضعفا ... وجرمه أكبر من جرمه
وقال وهو من المستحسن في التّجنيس (9): [الخفيف]
أنا بالدّهر، يا بنيّ، خبير ... فإذا شئت علمه فتعالى
كم مليك قد ارتغى (10) منه روضا ... لم يدافع عنه الردى (11) ما ارتغى لا
كلّ شيء تراه يفنى ويبقى ... ربّنا الله ذو الجلال تعالى
أنشدني هاتين المقطوعتين.
__________
(1) في النفح: «كما صدر النسيم بسحرة».
(2) في النفح: «وكأنما».
(3) في الأصل: «بمثلها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «ومن نظمه قوله».
(5) في النفح: «قد دنا».
(6) في النفح: «بقلبي يمموا فبم اصطباري».
(7) اكتفى في النفح بقوله: «وقال».
(8) الكلم، بفتح الكاف وسكون اللام: الجرح. القاموس المحيط (كلم).
(9) اكتفى المقري بالقول: «وقال».
(10) في النفح: «ارتعى» بالعين غير المعجمة.
(11) في الأصل: «الرحمن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(3/297)
مولده: ولد بحضرة غرناطة في جمادى الأولى من عام اثنين وسبعين وستمائة.
وفاته: بعد (1) يوم الوقيعة الكبرى على المسلمين بظاهر طريف يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة.
من رثاه: قلت في رثائه من قصيدة أولها (2): [الطويل]
سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ... وللدهر كفّ تستردّ الذي تعطي
وإنّا وإن كنّا على ثبج الدّنا ... فلا بدّ يوما أن نحلّ على الشّطّ
وسيّان ذلّ الفقر أو عزّة الغنى ... ومن أسرع السّير الحثيث ومن يبطي (3)
تساوى على ورد الرّدى كلّ وارد ... فلم يغن ربّ السّيف عن ربّة القرط
وقال شيخنا أبو زكريا بن هذيل من قصيدة يرثيه بها (4): [الطويل]
إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر؟
ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع (5) عن الحبر
لما كنت أقضي حقّ صحبته التي ... توخّيتها عونا على نوب الدّهر
رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء (6) قاصمة الظّهر
قطعت رجائي حين صحّ حديثه ... فإن لم يوف دمعي فقد خانني صبري
وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبثّ له همّي وأودعه سرّي؟
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزيّ (7)
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، وقد مرّ ذكر أبيه شيخنا وأخويه، وتقرّرت نباهة بيتهم.
__________
(1) في النفح: «وفقد يوم».
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 1615).
(3) في الأصل: «يبط» بالكسر، والتصويب من النفح. وترتيب هذا البيت في النفح بعد البيت التالي.
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 16).
(5) اليراع: القصب، والمراد القلم. محيط المحيط (يرع).
(6) الدهياء: الشديدة القاسية. لسان العرب (دها).
(7) ترجمة ابن جزي في الكتيبة الكامنة (ص 96) ونيل الابتهاج (ص 129) ونفح الطيب (ج 8 ص 84).(3/298)
حاله: هذا (1) الفاضل قريع بيت نبيه، وسلف شهير، وأبوّة خيّرة (2)، وأخوّة بليغة، وخؤولة تميّزت من السلطات بحظوة. أديب حافظ، قام على فنّ العربيّة، مشارك في فنون لسانيّة سواه، طرف (3) في الإدراك، جيد النظم، مطواع القريحة، باطنه نبل، وظاهره غفلة. قعد للإقراء ببلده غرناطة، معيدا ومستقلّا، ثم تقدّم للقضاء بجهات نبيهة، على زمن الحداثة، وهو لهذا العهد مخطوب رتبة، وجار إلى غاية، وعين من أعيان البلدة.
مشيخته: أخذ عن والده الأستاذ الشهير (4) أبي القاسم حديث الرّحمة بشرطه، وسمع عليه على صغر السّن، أبعاضا من كتب عدة في فنون مختلفة، كبعض صحيح مسلم، وبعض صحيح البخاري، وبعض الجامع للتّرمذي، وبعض السّنن للنّسائي، وبعض سنن أبي داود، وبعض موطّأ مالك بن أنس، وبعض الشّفاء لعياض، وبعض الشّمائل للتّرمذي، وبعض الأعلام للنّميري، وبعض المشرع السّلس في الحديث المسلسل لابن أبي الأحوص، وبعض كتاب التّيسير لأبي عمرو الدّاني، وبعض كتاب التّبصرة للمكيّ، وبعض الكافي لابن شريح، وبعض الهداية للمهدي، وبعض التّلخيص للطّبري، وبعض كتاب الدّلالة في إثبات النبوّة والرسالة لأبي عامر بن ربيع، وبعض كتاب حلبة الأسانيد وبغية التلاميذ لابن الكمّاد، وبعض كتاب وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم من تواليف والده، وبعض القوانين الفقهية، وبعض كتاب الدّعوات والأذكار، وبعض كتاب النّور المبين في قواعد عقائد الدين من تأليفه، وبعض تقريب الوصول إلى علم الأصول، وبعض كتاب الصلاة، وبعض كتاب الأنوار السّنية في الكلمات السّنية، وبعض كتاب برنامجه. كل ذلك من تأليف والده، رحمه الله. وأجاز له رواية الكتب المذكورة عنه، مع رواية جميع مرويّاته وتواليفه وتقييداته، إجازة عامة. ولقّنه في صغره جملة من الأحاديث النبوية والمسائل الفقهية، والمقطوعات الشعرية.
ومنهم قاضي الجماعة أبو البركات بن الحاج، حدّثه بألمرية حديث الرحمة بشرطه، وسمع عليه بها وبغرناطة عدّة من أبعاض كتب، وأجازه عامة، وأنشده من شعره، وشعر غيره. ومنهم قاضي الجماعة الشريف أبو القاسم، لازمه مدة القراءة عليه، واستفاد منه، وتفقّه عليه بقراءة غيره في كثير من النّصف الثاني من كتاب سيبويه، وفي كثير من النصف الثاني من كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 84).
(2) في النفح: «خير».
(3) في النفح: «ظرف».
(4) في النفح: «الشهير الشهيد».(3/299)
كثير من كتاب التّسهيل لابن مالك، وفي القصيدة الخزرجية في العروض، وسمع من لفظه الرّبع الواحد أو نحوه من تأليفه شرح مقصورة حازم، وتفقّه عليه فيه، وأنشده كثيرا من شعره وشعر غيره. ومنهم الأستاذ أبو عبد الله البيّاني، لازمه مدة القراءة عليه، وتفقّه عليه بقراءته في كتاب التّسهيل البديع في اختصار التّفريع إلّا يسيرا منه، وتفقّه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب فقهية وغيرها، ككتاب التهذيب، وكتاب الجواهر الثمينة، وكتاب التفريع، وكتاب الرسالة لابن أبي زيد، وكتاب الأحكام لابن العربي، وكتاب شرح العمدة لابن دقيق العيد، وغير ذلك مما يطول ذكره. ومنهم الأستاذ الأعرف الشهير أبو سعيد بن لب، تفقّه عليه بقراءته في جميع النصف الثاني من كتاب الإيضاح للفارسي، وفي كثير من النصف الأول من كتاب سيبويه، وتفقّه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب عدة، في فنون مختلفة، كالمدوّنة والجواهر، وكتاب ابن الحاجب، وكتاب التّلقين، وكتاب الجمل، وكتاب التّسهيل والتنقيح، والشّاطبيّة، وكتاب العمدة في الحديث وغير ذلك. ومنهم الشيخ المقرئ المحدّث أبو عبد الله محمد بن بيبش، سمع عليه بقراءة أخيه الكاتب أبي عبد الله محمد، جميع كتاب الموطّأ، وكتاب الشّفا إلّا يسيرا منه، وأجازه روايتهما عنه، ورواية جميع مرويّاته، إجازة عامة، وأنشده جملة من شعره وشعر غيره. وممن أجازه عامة، رئيس الكتاب أبو الحسن بن الجيّاب، وقاضي الجماعة أبو عبد الله بن يحيى بن بكر الأشعري، والخطيب أبو علي القرشي، والأستاذ أبو محمد بن سلمون، والحاج الراوية أبو جعفر بن جابر، والشيخ القاضي أبو جعفر أحمد بن عتيق الشّاطبي الأزدي، والقاضي الكاتب البارع أبو بكر بن شبرين، والقاضي الخطيب الأستاذ الراوية أبو بكر بن الشيخ الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والقاضي الخطيب أبو محمد بن محمد بن الصّايع.
وممن كتب له بالإجازة من المشايخ، شيخ المشايخ أثير الدين أبو حيّان محمد بن يوسف بن حيان، وقاضي الجماعة بفاس محمد بن محمد بن أحمد المقري، ورئيس الكتاب أبو محمد الحضرمي، وجماعة سوى من ذكر من أهل المشرق والمغرب.
شعره: وشعره نبيل الأغراض، حسن المقاصد. فمن ذلك قوله: [الطويل]
سنى الليلة الغرّاء (1) وافتك بالبشرى ... وأبدى بها (2) وجه القبول لك البشرا
__________
(1) في الأصل: «الغرّا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «منها»، وكذا ينكسر الوزن.(3/300)
تهلّل وجه الكون من طرب بها ... وأشرقت الدّنيا (1) بغرّتها الغرّا
لها المنّة العظمى بميلاد أحمد ... لها الرّتبة العليا لها العزّة الكبرا
طوى سرّه في صدره الدّهر مدّة ... فوافى ربيعا ناشرا ذلك السّرّا
حوى شهرة الفضل الشهير وفضله ... فأحسن به فضلا وأعظم به شهرا
لقد كان ليل الكفر في اللّيل قد جفا ... فأطلع منه في سمّة (2) الهدى فجرا
وفي ليلة الميلاد لاحت شواهد ... قضت أنّ دين الكفر قد أبطل الكفرا
لقد أخمدت أنوارها نار فارس ... وأرجت (3) كما ارتجّ إيوانه كسرى
له معجزات يعجز القلب كنهها ... ويحصر إن رام اللسان لها حصرا
معال يكلّ الشّعر عن نيل وصفها ... وتقصر عن إدراك مصعده الشّعرى
به بشّر الرّسل الكرام ولم تزل ... شمائله تتلى وآياته تترى
ففي الصّحف الأولى مناقبه العلى ... وفي الذكر آيات خصّت (4) له قدرا
لقد خصّه مولاه بالقرب والرضى ... وحسبك ما قد نصّ في النّجم والإسرا
وردّ عليه الشمس بعد غروبها ... وشقّ على رغم العداة له البدرا
وكان له في مائه وطعامه ... لطائف ربّانيّة تبهر الفكرا
غدا الماء من بين الأصابع نابعا ... وعاد قليل الزّاد من يمنه كثرا
وكم نائل أولى وكم سائل حبا ... وكم مشتك أشفى وكم مدنف أبرى!
كفى شاهدا أن ردّ عين قتادة ... فكان لها الفضل المبين على الأخرى
وحنّ إليه الجذع عند فراقه ... ولا حنّت الخنساء إذ فارقت صخرا
وحقّ له إذ بان عنه حبيبه ... ومن ذاق طعم الوصل لم يحمل الهجرا
خليليّ، والدنيا تجدّد للفقر ... ضروبا من الأشواق لو تنفع الذّكرى
بعيشكما هل لي إلى أرض طيبة ... سبيل؟ فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا
منى النفس (5) من تلك المعاهد زورة ... أبثّ بها شكوى وأشكو بها وزرا
وتعفير خدّي في عروق ترابها ... ليمحو لي ذنبا ويثبت لي أجرا
__________
(1) في الأصل: «للدنا»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) السّمّة والسّمّة: الاست.
(3) أصل القول: «وأرجف»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «رخص» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «للنفس»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/301)
تعلّلني نفسي بإدراكها المنى ... وما أجهدت عيشا ولا ملّكت قفرا
ومن كانت الآمال أقصى اجتهاده ... غدت كفّه ممّا تأمّله صفرا
وكم زجرتها واعظات زمانها ... فما سمعت وعظا ولا قبلت زجرا
وكنت لها عصر الشبيبة عاذرا ... سقاه الحيا ما كان أقصره عصرا
وأمّا وقد ولّت ثلاثون حجّة ... فلست أرى للنفس من بعدها عذرا
إذا أنت لم تترك سوى النفس طائعا ... فلا بدّ بعد الشّيب من تركه قسرا
ولم أدّخر إلّا شفاعة أحمد ... لتخفيف وزر شدّ ما أوثق الظّهرا
لقد علقت (1) كفّ الرجاء بحمله ... لعلّ كسير القلب يقلبه برّا
هو المرتضى الداعي إلى منهج الرّضا ... هو المصطفى الهادي الميسّر لليسرى
هو الحاسر الماحي الضّلالة بالهدى ... هو الشّافع الواقي إذا شهر الحشرا
بأي كلام يبلغ المرء وصف من ... مكارمه تستغرق النّظم والنّثرا
خلال إذا الأفكار جاست خلالها ... تكرّ على الأعقاب خاسئة خسرا
لقد غضّ طرف النّجم باهرها سنى ... وأرغم أنف الرّوض عاطرها نشرا
سقى ليلة حيّت به واكف الحيا ... فنعماؤها ما إن يحيط بها شكرا
لقد خصّها سند الإله برحمة ... فعمّت بها الدنيا وسكّانها طرّا
أقمت أمير المسلمين حقوقها ... بأفعال برّ أضحكت للهدى ثغرا
لقد سرت فيها إذ أتتك بسرّه ... أقرّت لها عينا وسرّت لها صدرا
عرفت بها حقّ الذي عرفت به ... فأحسنتها شكرا وأوليتها برّا
وأصحبتها الإخلاص لله والتّقى ... وأعقبها الإحسان والنّائل الغمرا
لدى مصنع ملا (2) العيون محاسنا ... تجسّم فيه السّحر حتى بدا قصرا
منها بعد أبيات في المدح للسلطان:
روى عن أبي الحجاج غرّ شمائل ... أعاد لنا دهم الليالي بها غرّا
ومن كبني نصر جلالة منصب ... بهم نصر الرحمن دين الهدى نصرا
هم ما هم إن تلقهم في مهمّة ... لقيت الجناب السّهل والمعقل الوعرا
سلالة أنصار النبيّ محمد ... فسل أحدا ينبيك عنهم وسل بدرا
__________
(1) في الأصل: «عاقت»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «ملأ»، وكذا ينكسر الوزن.(3/302)
ومن شعره في المقطوعات، قال في التورية العروضية (1): [الوافر]
لقد قطّعت قلبي يا خليلي ... بهجر طال منك على العليل
ولكن ما عجيب منك هذا ... إذ (2) التّقطيع من شأن الخليل (3)
وقال في التّورية النّحوية (4): [الطويل]
لقد كنت موصولا فأبدل وصلكم ... بهجر وما مثلي على الهجر يصبر
فما بالكم غيّرتم عبدكم ... وعهدي بالمحبوب ليس يغيّر (5)
وقال في التّورية مداعبا بعض المقرئين للعدد وهو بديع (6): [الكامل]
يا ناصبا علم الحساب حباله (7) ... لقناص ظبي ساحر الألباب
إن كنت ترجو (8) بالحساب وصاله ... فالبدر (9) يرزقنا بغير حساب
وقال في التّورية العروضية (10): [المتقارب]
لقد كمل الودّ ما (11) بيننا ... ودمنا على فرح شامل
فإن دخل القطع في وصلنا ... فقد يدخل القطع في الكامل
وقال في تضمين مثل (12): [الوافر]
ألا أكتم حبّ من أحببت واصبر ... فإنّ الهجر يحدثه الكلام
وإن أبداه دمع أو نحول ... فمن بعد اجتهادي (13) لا تلام
وقال (14): [السريع]
وأشنب الثّغر له وجنة ... تعدّت النّحل على وردها
ما ذاك إلّا حسد (15) إذ رأت ... رضابه أعذب من شهدها
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 96) ونفح الطيب (ج 8ص 85).
(2) في الأصل: «إنه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(3) أراد من التقطيع تقطيع قلبه، وورّى بالتقطيع الذي يختص بالشعر والذي وصفه الخليل بن أحمد الفراهيدي.
(4) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(6) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(10) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(12) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(14) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(5) في الكتيبة: «يتغيّر».
(7) في الكتيبة: «حبالة».
(8) في المصدر نفسه: «ترزق».
(9) في المصدر نفسه: «فالله».
(11) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة.
(13) في الكتيبة: «اجتهادك».
(15) في الكتيبة: «حسدا».(3/303)
وقال في التّورية بأسماء كتب فقهية جوابا غير معمّى (1): [الطويل]
لك الله من خلّ حباني برقعة ... حبتني من أبياتها (2) بالنوادر
رسالة رمز في الجمال نهاية (3) ... وخيرة نظم أتحفت بالجواهر
وقال في التّورية أيضا (4): [الطويل]
إلى الله أشكو غدر آل تودّدي (5) ... إليّ فلمّا لاح سرّي لهم حالوا
لقد خدعوني إذ أروني مودّة ... ولكنّه لا غرو أن يخدع الآل
وقال يخاطب رجلا من أصحابه (6): [الطويل]
أبا حسن (7) إن شتّت الدّهر شملنا ... فليس لودّ في الفؤاد (8) شتات
وإن حلت عن عهد الإخاء فلم يزل (9) ... لقلبي على حفظ العهود ثبات
وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدّم قبلها حسنات؟
وقال في النّسيب (10): [الطويل]
لئن (11) كان باب القرب قد سدّ بيننا ... ولم يبق لي في نيل وصلك مطمع
وأخفرت (12) عهدي دون ذنب جنيته ... وأصبح ودّي فيك وهو مضيّع
ولم ترث لي عمّا (13) ألاقي من الأسى ... وصرت أنادي منك من ليس يسمع
وضاقت بي الأحوال عن كلّ وجهة ... فما (14) أرتجي من رحمة الله أوسع
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 97).
(2) في الكتيبة: «أنبائها».
(3) في الكتيبة: «في الحجال مهابة ذخيرة نظم».
(4) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 99).
(5) في الأصل: «أشكو عذرا تودّدا»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 98)، ووردت في أزهار الرياض (3ص 195) منسوبة إلى محمد بن جزي.
(7) في الأصل: «أيا حسن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة وأزهار الرياض.
(8) في أزهار الرياض: «بالفؤاد».
(9) في أزهار الرياض: «أزل».
(10) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 98).
(11) في الأصل: «ران» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(12) في الكتيبة: «وأخفر».
(13) في الكتيبة: «ممّا».
(14) في الكتيبة: «لما».(3/304)
وممّا نظمه في التّضمين مخاطبا بعض المنتحلين للشّعر قوله (1): [الطويل]
لقد صرت في غصب القصائد ماهرا ... فما أسم جميع الشعر عندك غير لي (2)
ولم تبق شعرا لامرىء متقدّم (3) ... ولم تبق شعرا يا ابن بشت (4) لأول
فشعر جرير قد غصبت ورؤبة (5) ... وشعر ابن مرج الكحل وابن المرحّل
وإن دام هذا الأمر أصبحت تدّعي ... (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) (6)
ومن المقرئين والعلماء
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مجاهد العبدري الكوّاب (7)
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، الخطيب، المقرئ.
حاله: من «الصّلة»: كان، رحمه الله، أتقن أهل زمانه في تجويد كتاب الله العزيز، وأبرعهم في ذلك، وأنفعهم للمتعلم، نفع الله به كل من قرأ عليه، وترك بعده جملة يرجع إليهم في ذلك، ويعمل على ما عندهم. وكان مع ذلك نبيه الأغراض، في جميع ما يحتاج إليه في علمه، ذاكرا للاختيارات التي تنسب للمقرئين، من يرجّح ويعلّل، ويختار ويردّ، موفقا في ذلك، صابرا على التعليم، دائبا عليه نهاره وليله، ذاكرا لخلاف السّبعة. رحل الناس إليه من كل مكان، خاصّتهم وعامّهم، وملأ بلده تجويدا وإتقانا، وكان مع هذا فاضلا ورعا جليلا. خطب بجامع غرناطة وأمّ به مدة طويلة إلى حين وفاته.
مشيخته: أخذ القراءات عن الحاج أبي الحسين (8) بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي عبد الله بن عروس. ورحل إلى بيّاسة فأخذ بها القراءات عن أبي بكر بن حسّون، وأخذ مع هؤلاء عن جعفر بن حكم، وأبي جعفر بن عبد الرحيم،
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 9998).
(2) في الأصل: «غيزل» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(3) في الكتيبة: «متأخر».
(4) في الكتيبة: «فعل».
(5) في الأصل: «ورويّه» والتصويب من الكتيبة.
(6) هو صدر مطلع معلقة امرئ القيس، وعجزه:
بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل
ديوان امرئ القيس (ص 8).
(7) ترجمة عبد الله بن محمد العبدري الكواب في التكملة (ج 4ص 296) وغاية النهاية (ج 1ص 447رقم 1866).
(8) في التكملة: «أبي الحسن».(3/305)
وأبي الحسن الصّدفي الفاسي، وسمع عليه كثيرا من كتاب سيبويه تفقّها، وأجاز له كتابة القاضي أبو بكر بن أبي جمرة مع آخرين ممن أخذوا عنه.
من أخذ عنه: روى عن الناس أهل بلده وغيرهم، منهم ابن أبي الأحوص، وأبو عبد الله بن إبراهيم المقرئ.
وفاته: توفي في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (1)، ودفن بمقبرة باب إلبيرة.
عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون الكناني
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سلمون.
حاله: كان، رحمه الله، نسيج وحده، دينا وفضلا، وتخلّقا ودماثة، ولين جانب، حسن اللّقاء، سليم الباطن، مغرقا في الخير، عظيم الهشّة والقبول، كريم الطّويّة، عظيم الانقياد، طيّب اللهجة، متهالكا في التماس الصّالحين، يتقلّب في ذلك بين الخطإ والإصابة، صدرا في أهل الشّورى. قرأ ببلده وسمع وأسمع وأقرأ، وكتب الشروط مدة، مأثور العدالة، معروف النّزاهة، مثلا في ذلك، ويقوم على العربية والفقه، خصوصا باب البيوع، ويتقدّم السّباق في معرفة القراءات، منقطع القرين في ذلك، أشدّ الناس خفوفا في الحوائج، وأسرعهم إلى المشاركة.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير بغرناطة، ولازمه، فانتفع به دراية ورواية. وقرأ على الخطيب أبي الحسن بن فضيلة، والمكتّب أبي الحسن البلّوطي، وأبي محمد النّفزي، والخطيب أبي جعفر الكحيلي. وبمالقة على الأستاذ أبي محمد الباهلي. وبسبتة على الأستاذ المقرئ رحلة وقته أبي القاسم بن الطيب، وسمع عليه الكثير. وعلى الأستاذ أبي عبد الله الدّراج، ولازم مجلس إقرائه، وعلى الشيخ المعمّر أبي عبد الله بن الخطّار الكامي، وهو أعلى من لقيه من تلك الحلبة.
وأخذ بالإجازة عن العدل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن النّولي، وروايته عالية.
لقي أبا الربيع بن سالم، ولقي بسبتة الشّريف الرّاوية أبا علي الحسن بن أبي الشرف ربيع، والأديب الكاتب أبا علي الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق. وبفاس الفقيه أبا غالب محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغيلي. وقرأ على الخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد. وسمع على ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم. ولقي الأديب المعمّر مالك بن المرحّل. وأجازه أبو عمران موسى بن الخطيب أبي الحسن
__________
(1) في التكملة: «وتوفي سنة 631وهو ابن خمس وسبعين سنة».(3/306)
الدّاري برندة. وأجازه من أهل المشرق كثير، منهم عز الدين أحمد بن محمد الحسني بقيّة الأشراف بالدّيار المصرية، وجمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري، ونجم الدين أحمد بن حمدان الحرّاني، وجمال الدين أحمد بن أبي الفتح الشّيباني، وأحمد بن عبد المنعم الصّوفي، ومولده عام أحد وستمائة، وأحمد بن سلمان بن أحمد المقدسي، وأحمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي، وشمس الدين إبراهيم بن سرور المقدسي، والخطيب بالمسجد الأعظم ببجاية أبو عبد الله بن صالح الكناني، وأبو عبد الله محمد بن أبي خمسة محمد بن البكري بن أبي بكر، وأبو عبد الله محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، وابن دقيق العيد تقي الدين، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السّكوني. وأجازه نحو من المايتين من أهل المشرق والمغرب. ولقي بفاس الشّيخة الأديبة الطيبة الشاعرة سارة بنت أحمد بن عثمان بن الصلاح الحلبيّة وأجازته، وألبسته خرقة التصوّف.
قال: وأنشدتني قصيدة أجابت بها الخطيب المحدّث أبا عبد الله بن رشيد، أولها يعني قصيدة ابن رشيد: [السريع]
سرى نسيم من حمى سارة ... عاد به كلّ نسيم عاطرا
وجال أفكار الدّنا ذكرها ... فسار فيها مثلا سائرا
دائرة والمجد قطب لها ... دارت عليه فلكا دائرا
فقالت:
وافى قريض منكم مذ غدا ... لبعض أوصافكم ذاكرا
أطلع من أنفاسه حجوا (1) ... ومن شذاه نفسا عاطرا
أعاد ميت الفكر من خاطري ... من بعد دفن في الثّرى ناشرا
يبهر طرفي حسن منظره ... أحبب به نظما غدا باهرا
فقلت لمّا (2) هالني حسنه ... أشاعرا أصبح أم ساحرا؟
أم روضة هذي التي قد نوى؟ ... أم بدر تمّ قد بدا زاهرا؟
أم ضرب (3) من فمه سائل؟ ... أم جوهر أضحى لنا ناثرا؟
__________
(1) في الأصل: «الحجا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «لها» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) الضّرب، بفتح الضاد والراء: العسل الأبيض.(3/307)
لله ما أعذب ألفاظه ... وأنور الباطن والظّاهرا!
يا ابن رشيد، بل أبا الرّشد، ... من لم يزل طيّ العلا ناشرا (1)
خذ ما فدتك النّفس يا سيدي ... وكن لمن نظمها عاذرا
ما تصل الأنثى بتقصيرها ... لأن تباري ذكرا ماهرا
لا زلت تحيى من رسوم العلا ... ما كان منها دارسا داثرا
تصانيفه: الكتاب المسمى ب «الشافي في تجربة ما وقع من الخلاف بين التّيسير والتّبصرة والكافي» لا نظير له.
مولده: ولد بغرناظة بلده في الثاني والعشرين لذي قعدة من عام تسعة وستين وستمائة.
وفاته: فقد في الوقيعة العظمى بطريف يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى من عام أحد وأربعين وسبعمائة. حدّث بعض الجند أنه رآه يتحامل، وجرح بصدره يثغب دما، وهو رابط الجأش، فكان آخر العهد به، تقبّل الله شهادته.
عبد الله بن سهل الغرناطي (2)
يكنى أبا محمد، وينبز (3) بوجه (4) نافخ.
حاله: من كتاب ابن حمامة، قال: عني بعلم القرآن والنحو والحديث عناية تامة، وبهذا كنت أسمع الثّناء عليه من الأشياخ في حال طفولتي بغرناظة، ثم شهر بعد ذلك بعلم المنطق، والعلوم الرياضية، وسائر العلوم القديمة، وعظم بسببها، وامتدّ صيته من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصارى أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدّمه، وبين هذه الملل الثلاثة من التّحاسد ما عرف. وكانت النصارى تقصده من طليطلة، تتعلّم منه أيام كان ببيّاسة (5)، وله مع قسّيسهم مجالس في
__________
(1) في الأصل: «يا من لم يزل لطيّ العلى ناشرا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) ولد عبد الله بن سهل بغرناطة سنة 490هـ، وتوفي بمرسية سنة 571هـ. ترجمته في التكملة (ج 2ص 270) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 232).
(3) في التكملة: «ويعرف» وكلاهما بمعنى.
(4) في الأصل: «بالوجه» والتصويب من المصدرين.
(5) بياسة: بالإسبانية، وهي مدينة ذات أسواق ومتاجر، وفيها الزعفران، تبعد عن جيان عشرين ميلا. الروض المعطار (ص 121).(3/308)
التّناظر، حاز فيها قصب السّبق. قال: ثم خرج عن بيّاسة، وسار إلى نظر ابن همشك (1) عند خروج النصارى عن بيّاسة. وله تواليف. وهو الآن بحاله.
قلت: تاريخ هذا القول، عام ثلاثة وخمسين وخمسمائة.
عبد الله بن أيوب الأنصاري (2)
يكنى أبا محمد، ويعرف بابن خدوج (3)، من أهل قلعة أيوب (4).
حاله: فقيه حافظ لمذهب مالك. استوطن غرناطة وسكنها.
تواليفه: ألّف في الفقه كتابا مفيدا سماه «المنوطة على مذهب مالك»، في ثمانية أسفار (5)، أتقن فيها كل الإتقان.
وفاته: توفي بها سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وقد قارب المائة.
عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى ابن عبد الله الأنصاري (6)
مالقي، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويعرف بالقرطبي، وقرأ بغرناظة.
حاله: كان (7) في وقته ببلده كامل المعارف، صدرا في المقرئين والمجوّدين (8)، رئيس المحدّثين وإمامهم، واسع المعرفة، مكثرا، ثقة، عدلا، أمينا، مكين الرّواية (9)، رائق الحطّ، نبيل التّقييد والضّبط، ناقدا، ذاكرا أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حلوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النّظر (10)،
__________
(1) هو إبراهيم بن محمد بن مفرّج بن همشك، وقد ترجم له ابن الخطيب في المجلد الأول من الإحاطة.
(2) ترجمة عبد الله بن أيوب الأنصاري في الذيل والتكملة (ج 4ص 184).
(3) في الأصل: «خرّوج» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) قلعة أيوب: بالإسبانية، وهي مدينة أندلسية بقرب مدينة سالم. الروض المعطار (ص 469).
(5) في الذيل والتكملة: «ثمانية مجلدات».
(6) ترجمة عبد الله بن الحسن الأنصاري في التكملة (ج 2ص 286) والذيل والتكملة (ج 4ص 191) وبغية الوعاة (ص 280) وشذرات الذهب (ج 5ص 48) ونفح الطيب (ج 2ص 338) و (ج 4ص 199).
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 195194).
(8) في الذيل والتكملة: «المجودين» أي بدون واو العطف.
(9) في المصدر نفسه: «الدراية».
(10) في الذيل والتكملة: «النظير».(3/309)
متيقّظا، متوقّد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دمثا، متواضعا، حسن الخلق، محبّبا إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقورا، معظّما عند الخاصة والعامة، ديّنا، زاهدا، ورعا، فاضلا، نحويا ماهرا، ريّان من الأدب، قائلا الجيّد من الشعر، مقصدا ومقطعا. وكان له بجامع مالقة الأعظم مجلس عام، سوى مجلس تدريسه، يتكلم فيه على الحديث، إسنادا ومتنا، بطريقة عجز (1) عنها الكثير من أكابر أهل زمانه. وتصدّر للإقراء ابن عشرين سنة (2).
من أخباره في العلم والذكاء: قالوا: قرىء (3) عليه يوما باب الابتداء بالكلم التي يلفظ بها في (4) إيضاح الفارسي، وكان أحسن الناس قياما عليه، فتكلّم على المسألة الواقعة في ذلك الباب، المتعلقة بعلم العروض، وكان في الحاضرين من أحسن (5) صناعته، فجاذبه الكلام (6)، وضايقه في (7) المباحثة، حتى أحسّ الأستاذ من نفسه التّقصير، إذ لم يكن له قبل كبير نظر في العروض، فكفّ عن الخوض في المسألة، وانصرف إلى منزله، وعكف سائر اليوم (8) على تصفّح علم العروض حتى فهم أغراضه، وحصّل تواليفه (9)، وصنّف فيه مختصرا نبيلا لخّص في صدره ضروبه (10)، وأبدع فيه بنظم مثله، وجاء به من الغد، معجزا من رآه أو سمع به، فبهت الحاضرون وقضوا العجب من اقتداره وذكائه، ونفوذ فهمه، وسموّ همّته.
ومن أخباره في الدّين: قال أبو أحمد جعفر بن زعرور العاملي المالقي، تلميذه الأخصّ به: بتّ معه ليلة في دويرته التي كانت له بجبل فاره (11) للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنت فيها يقظانا (12)، وهو ضاحك مسرور، يشدّ يده كأنّه ظفر بشيء نفيس، فسألته فقال: رأيت كأن الناس قد حشروا في العرض على الله، وأتي بالمحدّثين، وكنت أرى أبا عبد الله النّميري يؤتى به، فيوقف بين يدي الله تعالى،
__________
(1) في الذيل والتكملة: «أعجز».
(2) في الذيل والتكملة: «سنة أو نحوها».
(3) النص في الذيل والتكملة (ج 4ص 196).
(4) في الذيل والتكملة: «من».
(5) في الذيل والتكملة: «أحكم صناعة العروض».
(6) في الذيل والتكملة: «الكلام في المسألة».
(7) كلمة «في» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(8) في الذيل والتكملة: «يومه».
(9) في المصدر السابق: «قوانينه».
(10) في المصدر السابق: «فرشه».
(11) جبل فاره: بالإسبانية، يعلو مدينة مالقة. نزهة المشتاق (ص 570).
(12) الصواب نحويا: «يقظان» لأنها ممنوعة من الصرف.(3/310)
فيعطي براءته من النّار، ثم يؤتى بي، فأوقفت بين يدي ربيّ، فأعطاني براءتي من النّار، فاستيقظت، وأنا أشدّ عليها يدي اغتباطا بها وفرحا، والحمد لله.
مشيخته: تلا (1) بمالقة على أبيه، وأبي زيد السّهيلي، والقاسم بن دحمان، وروى عنهم، وعن أبي الحجاج بن الشيخ، وأبوي عبد الله بن الفخّار، وابن نوح، وابن اليتيم، وابن كامل، وابن جابر، وابن بونة. وبالمنكّب عن عبد الوهاب الصّدفي. وحضر بمالقة مجلس أبي إسحاق بن قرقول. وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد، وابن صاف، وأبي جعفر بن مضاء، وأبوي الحسن عبد الرحمن بن مسلمة، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي القاسم بن عبد الرازق، وأبي محمد بن جمهور.
وبغرناطة عن أبوي جعفر بن حكم الحصّار، وابن شراحيل، وأبي عبد الله بن عروس، وأبوي محمد عبد الحق النّوالشي، وعبد المنعم بن الفرس. وبمرسية عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي القاسم بن حبيش. وبسبتة عن أبي محمد الحجري.
وأجاز له من الأندلس ابن محرز، وابن حسّون، وابن خيرة، والأركشي، وابن حفص، وابن سعادة، ويحيى المجريطي، وابن بشكوال، وابن قزمان. ومن أهل المشرق جماعة كبيرة.
شعره وتصانيفه: ألّف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع. ولخّص أسانيد الموطّأ. وله المبدي، لخطإ الرّندي. ودخل يوما بمجلس أقرأ به أبو الفضل عياض، وكان أفتى منه، غير أنّ الشّيب جار عليه، وتأخّر شيب الأستاذ، فقال: يا أستاذ، شبنا وما شبتم، قال: فأنشده ارتجالا (2): [الطويل]
وهل نافع (3) أن أخطأ الشّيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي؟
لئن كان خطب الشّيب يوجد حسّه (4) ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي
ومن شعره في التّجنيس (5): [الطويل]
لعمرك، ما الدّنيا وسرعة (6) سيرها ... بسكّانها إلّا طريق مجاز
حقيقتها أنّ المقام بغيرها ... ولكنهم قد أولعوا بمجاز
__________
(1) قارن بالتكملة (ج 2ص 286) والذيل والتكملة (ج 4ص 192).
(2) البيتان في الذيل والتكملة (ج 4ص 210).
(3) في الذيل والتكملة: «نافعي».
(4) في المصدر نفسه: «عينه».
(5) البيتان في الذيل والتكملة (ج 4ص 210) ونفح الطيب (ج 4ص 200).
(6) في الأصل: «بسرعة» والتصويب من المصدرين.(3/311)
ومما يؤثر أيضا من شعره قوله (1): [الخفيف]
سهرت أعين ونامت عيون ... لأمور (2) تكون أو لا تكون
فاطرد الهمّ ما استطعت عن النّف ... س فحملانك الهموم جنون
إنّ ربّا كفاك بالأمس ما كان ... سيكفيك (3) في غد ما يكون
مولده: ولد أبو محمد قريب ظهر يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة عام ستة وخمسين وخمسمائة.
وفاته: سحر ليلة السبت أو سحر يومها، ودفن إثر صلاة العصر من اليوم السابع لربيع الآخر سنة إحدى عشرة (4) وستمائة.
من رثاه: رثاه الأديب أبو محمد عبد الله بن حسّون البرجي من قصيدة حسنة طويلة (5): [الطويل]
خليليّ، هبّا ساعداني بعبرة ... وقولا لمن بالريّ: ويحكم هبّوا
نبكّ (6) العلا والمجد والعلم والتّقى ... فمأتم أحزاني نوائحه الصّحب
فقد سلب الدّين الحنيفيّ روحه ... ففي كلّ سرّ (7) من نباهته نهب
وقد طمست أنوار سنّة أحمد ... وقد خلت الدنيا وقد ظعن الرّكب
مضى الكوكب الوقّاد والمرهف الذي ... يصحّح (8) في نصّ الحديث فما ينبو (9)
تمنّى علاه النّيران ونوره ... وقالا بزعم: إنّه لهما ترب
أأسلو وبحر العلم غيضت مياهه ... ومحيي رسوم العلم يحجبه التّرب؟
عزيز على الإسلام أن يودع الثرى ... مسدّدة الأسرى (10) وعالمه النّدب
__________
(1) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 4ص 214) وبغية الوعاة (ص 280).
(2) في الذيل والتكملة: «في أمور».
(3) في الأصل: «فسيكفيك»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من بغية الوعاة. وفي الذيل والتكملة:
«سيفكّ».
(4) في الأصل: «سنة أحد عشر» وهو خطأ نحوي.
(5) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 4ص 217216).
(6) في الأصل: «نبكي» والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في الأصل: «سرب»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(8) في الذيل والتكملة: «يصمّم».
(9) في الأصل: «ينب» والتصويب من الذيل.
(10) في الذيل والتكملة: «الأهدى».(3/312)
بكى العالم العلويّ والسّبع حسرة ... أولئك (1) حزب الله ما فوقهم حزب
على القرطبيّ الحبر أستاذنا الذي ... على أهل هذا العصر فضّله الرّبّ
فقد كان فيما قد (2) مضى من زمانه ... به تحسن الدّنيا ويلتئم الشّعب
ويجمع سرب الأنس روض جنابه (3) ... فقد جفّ ذاك الرّوض وافترق السّرب
فسحقا لدنيا خادعتنا بمكرها ... إذا عاقدت سلما فمقصدها حرب
ركبنا بها (4) السّهل الذّلول فقادنا ... إلى كلّ ما في طيّه مركب صعب
ونغفل عنها والرّدى يستفزّنا ... كفى واعظا بالموت لو كان لي لبّ
عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن أحمد ابن إسماعيل بن سماك العاملي (5)
يكنى أبا محمد، مالقي الأصل.
حاله: كان فقيها أديبا، بارع الأدب، شاعرا مطبوعا، كثير النّادر، حلو الشّمايل، أدرك شيوخا جلّة، وولّي قضاء غرناطة مدّة.
مشيخته: روى عن جدّه لأمه، وابن عمّ أبيه أبي عمر أحمد بن إسماعيل، وأبي علي الغسّاني، وأبي الحسن علي بن عبيد الرحمن بن سمحون، والمرساني الأديب.
شعره: [الكامل]
الروض مخضرّ الرّبى متجمّل ... للناظرين بأجمل الألوان
وكأنما بسطت هناك سوارها ... خود زهت بقلائد العقيان
وكأنّما فتقت هناك نوافح ... من مسكة عجنت بعرف البان
والطّير يسجع في الغصون كأنما ... تقرأ القيان فيه على العيدان
__________
(1) في الأصل: «أولئكم» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) كلمة «قد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(3) في الأصل: «حياته» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) كلمة «بها» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(5) ترجمة عبد الله العاملي في بغية الملتمس (ص 339) والتكملة (ج 2ص 258) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 142)، ضمن ترجمة ابنه محمد بن سماك العاملي، وجاء فيه أن عبد الله بن أحمد، المترجم له، ولي قضاء غرناطة سنة 537هـ. ونيل الابتهاج (ص 132) ونفح الطيب (ج 6ص 81).(3/313)
والماء مطّرد يسيل عبابه ... كسلاسل من فضّة وجمان
بهجات حسن أكملت فكأنها ... حسن اليقين وبهجة الإيمان
وكتب إلى الكاتب أبي نصر الفتح بن عبيد الله (1) في أثناء رسالة (2):
[الوافر]
تفتّحت الكتابة عن نسيم ... نسيم المسك في خلق الكريم (3)
أبا نصر، رسمت لها رسوما ... تخال رسومها وضح النّجوم
وقد كانت عفت فأنرت (4) منها ... سراجا لاح في اللّيل البهيم
فتحت من الصّناعة كلّ باب ... فصار (5) في طريق مستقيم
فكتّاب الزمان ولست منهم ... إذا راموا مرامك في هموم
فما قسّ بأبدع منك لفظا ... ولا سحبان مثلك في العلوم (6)
وفاته: في السابع والعشرين من رمضان المعظم سنة أربعين وخمسمائة، وهو ابن أربع وثمانين سنة.
ومن ترجمة القضاة
عبد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أيوب بن الحسن ابن منخل بن زيد الغافقي
من أهل غرناظة وأعيانها، يكنى أبا محمد، وينسب إلى غافق بن الشّاهد بن عك بن عدنان، لا إلى حصن غافق.
حاله: من «العائد: كان رجلا صحيح المذهب، سليم الصّدر، قليل المصانعة، كثير الحركة والهشّة والجدة، ملازم الاجتهاد والعكوف، لا يفتر عن النّسخ والتّقييد والمطالعة، على حال الكبرة، قديم التّعيّن والأصالة، ولّي القضاء عمره بمواضع كثيرة، منها بيرة ورندة ثم مالقة، مضافا إلى الخطابة بها.
__________
(1) هو الفتح بن خاقان، صاحب كتابي «مطمح الأنفس» و «قلائد العقيان».
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 6ص 8281).
(3) في النفح: «كريم».
(4) في الأصل: «فأثرت» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «فسارة» والتصويب من النفح.
(6) قسّ: هو قسّ بن ساعدة الإيادي. وسحبان: هو سحبان وائل، وقسّ وسحبان مضربا المثل في الفصاحة.(3/314)
مشيخته: حجّ في حدود سبعة وثمانين وستمائة، وروى عن جلّة من أهل المشرق، كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ أبي محمد عبد المؤمن الدّمياطي، وشمس الدين المصنّف أبي عبد الله بن عبد السلام. وأجازه من أهل المغرب شيخ الجماعة بالأندلس أبو جعفر بن الزبير، والقاضي ابن أبي الأحوص، والخطيب أبو الحسن بن فضيلة، والأستاذ أبو الحسن ابن الصّائغ الإشبيلي، وأبو جعفر الطّباع، وغيرهم.
تواليفه: ألّف كتابا سماه ب «المنهاج، في ترتيب مسائل الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن الحاج».
مولده: ولد بغرناطة في حدود ستين وستمائة.
وفاته: توفي بغرناطة يوم عاشوراء من عام أحد وثلاثين وسبعمائة.
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن أبي زمنين المرّي
يكنى أبا خالد.
حاله: كان فقيها جليلا، وولّي القضاء ببعض جهات غرناطة.
مشيخته: أخذ الفقه عن أبي جعفر بن هلال، وأبي محمد بن سماك القاضي.
والعربية عن الخضر بن رضوان العبدري. والحديث عن الحافظ أبي بكر بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية، والإمام أبي الحسن علي بن أحمد، والقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض أيام قضائه بغرناطة.
مولده: ولد سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
وفاته: توفي في ذي قعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
عبد الله بن يحيى بن محمد بن أحمد بن زكريا بن عيسى ابن محمد بن يحيى بن زكريا الأنصاري (1)
يكنى أبا محمد، من أهل غرناطة، شرقي الأصل، مرسيّه، من بيوتاته النّبيهة، وقد مرّ ذكر أخيه.
__________
(1) ترجمة عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري في تاريخ قضاة الأندلس (ص 189).(3/315)
حاله: كان (1) على طريقة حسنة من دمائة الأخلاق، وسلامة السّجيّة، والتزام الحشمة، والاشتغال بما يعني. ولّي القضاء دون العشرين سنة، وتصرّف فيه عمره بالجهات الأندلسية، فأظهر فيه عدلا ونزاهة، ولم يختلف عليه اثنان مدة حياته من أهل المعرفة بالأحكام، والتّقدّم في عقد الشّروط، وصناعة الفرائض، علما وعملا، ثاقب الذهن، نافذا في صنعة العدد.
مشيخته: قرأ (2) على أبيه القاضي أبي بكر بن زكريا، وله رواية عالية من أعلام من أهل المشرق والمغرب. وقرأ على أبي الحسن بن فضيلة الوليّ الصالح، والقاضي أبي عبد الله بن هشام الألشي، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والحاج أبي محمد بن جابر، وأبي بكر القللوسي. وقرأ العدد وما أشبهه على الأستاذ التّعاليمي أبي عبد الله الرقّام، ولازمه، وأجازه طائفة كبيرة. أخبرني ولده الفاضل أبو بكر، قال: ورد سؤال من تونس مع تاجر وصل في مركب إلى مدينة المنكّب أيام قضائه بها، في رجل فرّط في إخراج زكاة ماله سنين متعدّدة، سمّيت في السؤال مع نسبة قدر المال، وطلب في السؤال أن يكون عملها بالأربعة الأعداد المتناسبة، إذ عملها بذلك أصعب من عملها بالجبر والمقابلة، فعملها وأخرجها بالعملين، وعبّر عنها بعبارة حسنة، وكتبها في بطاقة بخطّ جميل، فذكر التاجر أنه لم يبق بتونس فقيه إلّا ونسخ منها نسخة واستحسنها.
مولده: ولد يوم الخميس السابع عشر (3) لجمادى الآخرة عام خمسة وسبعين وستمائة.
وفاته: توفي قاضيا ببسطة في التاسع عشر من رمضان عام خمسة وأربعين وسبعمائة.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك ابن أبي جمرة الأزدي
من أهل مرسية، نزيل غرناطة، يكنى أبا محمد، وبيته بمرسية من أعلام بيوتاتها، شهير التّعيّن والأصالة، ينكح (4) فيه الأمراء.
__________
(1) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 189).
(2) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 189).
(3) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 190): «مولده منتصف شهر جمادى الآخرة عام 675».
(4) ينكح فيه الأمراء: يريد أن الأمراء كانوا يتزوجون من بناته.(3/316)
حاله: كان من أعلام وقته فضلا وعدالة وصلاحا ووقارا، طاهر النشأة، عفّ الطّعمة، كثير الحياء، مليح التّخلّق. نشأ بمرسية، ثم انتقل إلى غرناطة فتولّى القضاء ببيرة وجهاتها، ثم جاز إلى سبتة، وانعقدت بينه وبين رؤسائها المصاهرة في بعض بناته. ثم آب إلى غرناطة عند رجوع إيالة سبتة إلى أميرها، فتقدّم خطيبا بها.
مشيخته: روى بالإجازة عن الخطيب الحافظ أبي الرّبيع بن سالم وأمثاله.
وفاته: الغريبة المستحسنة، قال بعض شيوخنا: كنت أسمعه عند سجوده وتبتّله وضراعته إلى الله يقول: اللهم، أمتني ميتة حسنة، ويكرّر ذلك. فأجاب الله دعاءه، وتوفّاه على أتمّ وجوه التّأنيب طهارة وخشوعا وخضوعا وتأهّبا، وزمانا ومكانا، عندما صعد أوّل درج من أدراج المنبر، يوم الجمعة الثالث والعشرين لشوال من عام أحد عشر وسبعمائة، فكان يوما مشهودا لا عهد بمثله، ما رئي أكثر باكيا منه، وأكثر الناس من الثناء عليه.
عبد الله بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان ابن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي الأزدي (1)
يكنى أبا محمد.
حاله: من «الصّلة»: قال (2): القاضي المحدّث الجليل العالم، كان فقيها جليلا أصوليا، نحويا، كاتبا، أديبا، شاعرا، متفنّنا في العلوم، ورعا، ديّنا، حافظا، ثبتا، فاضلا. وكان يدرّس كتاب سيبويه، ومستصفى أبي حامد (3)، ويميل إلى الاجتهاد في نظره، ويغلّب طريقة الظّاهرية (4)، مشهورا بالعقل والفضل، معظّما، عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدّما في ذلك، بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار. ولملوك الموحّدين به اعتناء كبير.
وهو كان أستاذ الناصر (5) وإخوته، وكان له عند المنصور والدهم، بذلك أكرم أثرة، مع ما كان مشهورا به من العلم والدّين والفضل. ولّي القضاء بإشبيلية وقرطبة
__________
(1) ترجمة ابن حوط الله في التكملة (ج 2ص 287) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 145) وبغية الوعاة (ص 283) وشذرات الذهب (ج 5ص 50) والوافي بالوفيات (ج 17ص 201) والديباج المذهب (ج 1ص 447) ونفح الطيب (ج 6ص 104).
(2) النص في نفح الطيب (ج 6ص 104).
(3) في النفح: «أبي حامد الغزالي».
(4) أي طريقة ابن حزم الظاهري المذهب.
(5) هو أبو عبد الله محمد بن يعقوب، رابع خلفاء الموحدين، حكم المغرب والأندلس من سنة 595هـ إلى سنة 610هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 236).(3/317)
ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، سنّيّا، مجانبا لأهل البدع والأهواء، بارع الخطّ، حسن التّقييد.
مشيخته: تردّد (1) في طلب العلم، فسمع ببلنسية وشاطبة ومرسية وألمرية وقرطبة وإشبيلية ومالقة، وغيرها من البلاد الأندلسية، وتحصّل له سماع جمّ لم يشاركه فيه أحد من أهل المغرب (2). قرأ القرآن على أبيه، وعلى أبي محمد عبد الصمد الغسّاني، وأخذ عن ابن حميد كتاب سيبويه تفقّها، وعن غيره، وسمع عن ابن بشكوال، وقرأ أكثر من ستّين تأليفا بين كبار وصغار، وكمل له على أبي محمد بن عبد الله، بين قراءة وسماع، نحو من ستة وثلاثين تأليفا، منها الصّحيحان، وأكثر عن ابن حبيش، والسّهيلي، وابن الفخّار وغيرهم. واستيفاء مشيخته يشقّ.
شعره: قال الأستاذ: أنشدنيه ابنه أبو القاسم، ونقلت من خطه (3): [الوافر]
أتدري أنّك الخطّاء حقّا ... وأنّك بالذي تدري (4) رهين؟
وتغتاب (5) الألى (6) فعلوا وقالوا ... وذاك الظّنّ والإفك (7) المبين
مولده: في محرم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (8).
وفاته: كان آخر عمره قد أعيد إلى مرسية، قصدها من الحضرة، فمات بغرناطة سحر يوم الخميس الثاني لربيع الأول اثنتي عشرة وستمائة، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه، يوم السبت التاسع عشر لشعبان من السنة إلى مالقة، فدفن بها.
عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد ابن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري
من أهل قرطبة، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن ربيع.
__________
(1) النص أيضا في نفح الطيب (ج 6ص 105104).
(2) في النفح: «الغرب».
(3) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص 145) ونفح الطيب (ج 6ص 104).
(4) في المصدرين: «تأتي».
(5) في الأصل: «وتعتب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) في تاريخ قضاة الأندلس: «الورى».
(7) في المصدر نفسه: «والإثم».
(8) في التكملة (ج 2ص 289) وبغية الوعاة (ص 283) ولد سنة 549هـ. وفي النفح: «ومولده في محرم سنة 541».(3/318)
حاله: كان، رحمه الله، أديبا، كاتبا، شاعرا، نحويا، فقيها أصوليّا، مشاركا في علوم، محبّا في القراءة، وطيّا عند المناطرة، متناصفا، سنيّا، أشعري المذهب والنّسب، مصمّما على طريقة الأشعريّة، ملتزما لمذهب أهل السّنّة المالكي، من بقايا الناس وعليتهم، ومن آخر طلبة الأندلس المشاركين الجلّة، المصمّمين على مذهب أهل السّنة، المنافرين للمذاهب الفلسفية والمبتدعة، والزّيغ. ولّي قضاء مواضع من الأندلس، منها مدينة شريش ورندة ومالقة، وأمّ وخطب بجامعها. ثم ولّي قضاء الجماعة (1) بحضرة غرناطة، وعقد بها مجلسا للإقراء، فانتفع به طلبتها، واستمرّ على ذلك، وكانت ولايته غرناطة نحوا من سبعة أعوام.
مشيخته: أخذ عن أبيه أبي عامر وتفقّه به، وعن الخطيب أبي جعفر بن يحيى الحميري، وتلا عليه، وتأدّب به، وعن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وروى مع هؤلاء عن القاضي أبي القاسم بن بقي، وأبي محمد بن حوط الله، وأبي عبد الله بن أصبغ، وغيرهم. وأجاز له الشيخ المسنّ أبو الحسن علي بن أحمد بن علي الغافقي الشّقوري، وله به علوّ، وبالأستاذ الخطيب المسنّ أبي جعفر بن يحيى المتقدم.
وفاته: توفي في السابع عشر لشوال سنة ست وستين وستمائة، ولم يخلف بعده مثله، ولا من يقاربه.
عبد الله بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن ابن الحسين الثقفي العاصمي
من ولد عاصم بن مسلم، الداخل في طلعة بلج الملقّب بالعريان، أخو الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، شقيقه، يكنى أبا محمد.
حاله: كان طبيبا ماهرا، كاتبا شاعرا، ذاكرا للّغة، صنع (2) اليدين، متقدّما في أقرانه نباهة وفصاحة، معدوم النظير في الشجاعة والإقدام، يحضر الغزوات، فارسا وراجلا، ولقي بفحص غرناطة (3) ليلا نصرانيا يتجسّس، فأسره وجرّه، وأدخله البلد، ولم يلتفت إلى ثمنه استكتاما لتلك الفعلة.
__________
(1) قاضي الجماعة في الأندلس، هو منصب قاضي القضاة بالمشرق.
(2) صنع اليدين وصنع اليدين: حاذق في الصنعة. لسان العرب (صنع).
(3) فحص غرناطة: مرج غرناطة الشهير، وهو عبارة عن سهل أفيح وبسيط شاسع أخضر خصب وغوطة فيحاء مترامية الأطراف، يطلق عليه بالإسبانية اسم. يقع غربي غرناطة ويمتد غربا حتى مدينة لوشة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 41).(3/319)
مشيخته: أخذ القرآن عن الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، وروى عن أبي يحيى بن عبد الرحيم، وأبي الوليد العطار، وأبي القاسم بن ربيع، وأبي الخطار بن خليل، وأخذ عن أبي عمر بن حوط الله بمالقة، وابن أبي ريحانة. وبسبتة على أبي بكر بن مشليون. وأجاز له أبو بكر بن محرز، وأبو الحسن الشّاري. وأخذ عن الأستاذ الناقد أبي الحسن علي بن محمد الكناني.
مولده: ولد بغرناطة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي قعدة سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
وفاته: توفي بها سحر أول يوم من ذي قعدة سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
عبد الله بن موسى بن عبد الرحمن بن حمّاد الصّنهاجي
يكنى أبا يحيى.
حاله: طالب نبيل فاضل، ورع زاهد، مؤثر في الدنيا بما تملّكه، تال لكتاب الله في جميع الأوقات.
أخباره في الإيثار: وجّه له السيد أبو إسحاق ابن الخليفة أبي يعقوب (1)
خمسمائة دنير ليصلح بها من شأنه، فصرف جميعها على أهل السّتر في أقلّ من شهر. ومرّ بفتى في إشبيلية، وأعوان القاضي يحملونه إلى السّجن، وهو يبكي، فسأله، فقال: أنا غريب، وطولبت بخمسين دنيرا، وبيدي عقود، وطولبت بضامن فلم أجده، فقال: له الله، قال: نعم، قال: فدفع له خمسين دنيرا، قال: أشهد لك بها، فضجر وقال: إن الله إذا أعطى عبده شيئا لم يشهد به عليه، وتركه وانصرف لشأنه، وكانت عنده معرفة وأدب.
مولده: بغرناطة في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
ومن ترجمة الكتّاب والشعراء بين أصلي وطارىء
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي (2)
من أهل بلّش، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن المرابع.
__________
(1) أبو يعقوب: هو يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، حكم المغرب والأندلس من سنة 558هـ إلى سنة 580هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83).
(2) ترجمة عبد الله الأزدي في نفح الطيب (ج 7ص 10) و (ج 8ص 236، 392).(3/320)
حاله: من نبهاء أدباء البادية، خشن الظاهر، منطو على لوذعيّة متوارية في مظهر جفوة، كثير الانطباع عند الخبرة، قادر على النظم والنثر، متوسّط الطّبقة فيهما، مسترفد بالشعر، سيّال القريحة، مرهوب الهجاء، مشهور المكان ببلده، يعيش من الخدم المخزنيّة، بين خارص وشاهد، وجدّ بذلك وقته، يوسّط رقاعته، فتنجح الوسيلة، ويتمشّى له بين الرّضا والسّخط الغرض.
وجرى ذكره في «التاج» بما نصّه (1): «طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنّه بعقائل القوافي، شاب في الأدب وشبّ، ونشق ريح البيان لمّا هبّ، فحاول رفيعه (2) وجزله، وأجاد جدّه، وأحكم هزله. فإن مدح صدح، وإن وصف أنصف، وإن عصف قصف، وإن أنشأ ودوّن، وتقلّب في أفانين البلاغة وتلوّن، أفسد ما شاء الله وكوّن، فهو شيخ الطريقة الأدبيّة وفتاها، وخطيب حفلها كلّما أتاها، لا يتوقّف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترض. ولم تزل بروقه تتألّق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلّق، حتى برّز في أبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب لسطوة (3) لسانه، وألقت إليه الصّناعة زمامها، ووقفت عليه أحكامها. وعبر البحر منتجعا بسعره (4)، ومنفقا في سوق الكساد من شعره (5)، فأبرق وأرعد، وحذّر وتوعّد (6)، وبلغ جهد إمكانه، في التّعريف بمكانه، فما حرّك ولا هزّ، وذلّ في طلب الرّفد وقد عزّ، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتاده.
شعره: قال في «التاج»: وقد أثبتّ من نزعاته، وبعض مخترعاته، ما يدلّ على سعة باعه، ونهضة ذراعه. فمن النسيب قوله (7): [البسيط]
ما للمحبّ دواء يذهب الألما ... عنه سوى لمم فيه ارتشاف لمى
ولا يردّ عليه نوم مقلته ... إلّا الدّنوّ إلى من شفّه سقما
يا حاكما والهوى فينا يؤيّده ... هواك فيّ بما ترضاه قد حكما
أشغلتني بك شغلا شاغلا فلم (8) ... تناسى، فديتك، عنّي بعد ذاك لما؟
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 393392).
(2) في النفح: «رقيقه».
(3) في النفح: «بسطوة».
(4) في النفح: «بشعره».
(5) في النفح: «سعره».
(6) في النفح: «وأوعد».
(7) ورد في نفح الطيب (ج 8ص 393) فقط الأبيات الأول والثاني والثالث.
(8) في الأصل: «فلما»، وكذا ينكسر الوزن.(3/321)
ملكت روحي فأرفق قد علمت بما ... يلقى ولا حجّة تبقى لمن علما
ما غبت عنّي إلّا غاب عن بصري ... بدرا إذا لاح يجلي نوره الظّلما
ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا ... مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما
طوعا لطيعك لا أعصيك فافض بما ... ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما
إنّ الهوى يقتضي ذلّا لغيرك لو ... أفادني فيك قربا يبرّد الألما
سلمت من كل عيب يا محمد لا ... كن قلب صبّك من عينيك ما سلما
ومن مخاطباته الأدبية، ما كتب به إلى شيخ الصّوفية ببلده مع طالع من ولده:
[الطويل]
مماليكم قد زاد فيكم مرابع ... من الأفق الكوني باليمن طالع
بأنواركم يهدى إلى سبل الهدى ... ويسمو لما تسمو إليه المطالع
فواسوه منكم بالدّعاء فإنه ... مجاب بفضل الله للخلق نافع
أفاض عليه الله من بركاتكم ... وأبقاكم ذو العرش ما جنّ ساجع
فوقّع له الشيخ المخاطب بها، أبو جعفر بن الزيات، رحمه الله، بما نصّه:
[الطويل]
عسى الله يؤتيه من العلم حصّة ... تصوّب على الألباب منها ينابع
ويجعله طرفا لكلّ سجيّة ... مطهّرة للناس فيها منافع
ويلحقه في الصالحات بجدّه ... فيثني عليه الكلّ دان وشاسع
وذو العرش جلّ أسما عميم نواله ... وخير الورى في نصّ ما قلت شافع
فما أنت دوني يا أباه مهنّأ ... به فالسرور الكلّ بابنك جامع
وله يستدعي إلى الباكور: [الوافر]
بدار بدار قد آن البدار ... إلى أكواس باكور تدار
تبدّت رافلات في مسوح ... له لون الدّياجي مستعار
وقد رقمت بياضا في سواد ... كأنّ الليل خالطه النّهار
وقد نضجت وما طبخت بنار ... وهل يحتاج للباكور نار؟
ولا تحتاج مضغا لا وليس ... عجيب لا يشقّ له غبار
فقل للخلق قل للضّرس دعني ... ففي البلع اكتفاء واقتصار(3/322)
وممّا وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره، مقطوعة سهلة وهي (1): [المتقارب]
رعى الله عهدا حوى ما حوى ... لأهل الوداد وأهل الهوى
أراهم أمورا حلا وردها ... وأعطاهم السؤل كيف نوى (2)
ولمّا حلا الوصل صالوا له ... وراموه مأوى وماء روى (3)
وأوردهم سر أسرارهم ... وردّ إلى كلّ داء دوا (4)
وما أمل طال إلّا وهى ... ولا آمل (5) صال إلّا هوى
وقال يرثي ديكا فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي من عدم أذانه، إلى غير ذلك من مستطرف شانه (6): [البسيط]
أودى به الحتف لمّا جاءه الأجل ... ديكا فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم ... يثبت مع الحتف في بغيا لها (7) أمل
فقدته فلعمري إنها عظة ... وبالمواعظ تذري دمعها المقل
كأنّ مطرف وشي فوق ملبسه ... عليه من كلّ حسن باهر حلل
كأنّ إكليل كسرى فوق مفرقه ... وتاجه فهو عالي الشّكل محتفل
مؤقّت لم يكن يحزى (8) له خطأ ... فيما يرتّب من ورد ولا خطل (9)
كأنّ زرقيل (10) فيما مرّ علّمه ... علم المواقيت فيما (11) رتّب الأول
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 238237).
(2) في النفح: «السؤل كلّا سوا».
(3) في الأصل: «ملوا وما روا» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح. والرّوى: الماء الكثير المروي. لسان العرب (روا).
(4) رواية البيت في الأصل هي:
وأوردهم سرّا سرارهم ... ورودا إلى الكل ذا دوا
وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «أمل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 239238).
(7) في النفح: «في بقياه لي أمل».
(8) في الأصل: «بطريق» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «خلل».
(10) في النفح: «زرقال». وهو إبراهيم بن يحيى النقاش الزرقالي القرطبي، ويعدّ من أعظم أهل الفلك، وقد وضع جداول فلكية واخترع أجهزة دقيقة كالزرقالية والصفيحة. تاريخ الفكر الأندلسي (ص 451).
(11) في النفح: «ممّا».(3/323)
يرحّل الليل يحيى بالصراخ فما ... يصدّه كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهت (1) منه القوى فهوى ... للأرض فعلا يريه الشّارب الثّمل
لو يفتدى بديوك الأرض قلّ له ... ذاك الفداء (2) ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدّواء فلم يغن الدّواء (3) ولم ... ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أمّلت فيه ثوابا أجر محتسب ... إن قلت (4) ذلك (5) صحّ القول والعمل
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النّصريين في بعض أسفاره، وقد نظر إلى شلير (6)، وتردّى بالثلج وتعمّم، وكمل ما أراد من بزّته وتمّم، أن ينظم أبياتا في وصفه، فقال بديهة (7): [الطويل]
وشيخ جليل القدر قد طال عمره ... وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باهر السّنا ... وليس بثوب أحكمته يد البشر
وطورا (8) تراه كلّه كاسيا به ... وكسوته فيها لأهل النّهى عبر
وطورا تراه عاريا ليس يشتكي (9) ... لحرّ (10) ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرّت الأيام وهو كما ترى ... على حاله لم يشك ضعفا ولا كبر
فذاك (11) شلير شيخ غرناطة التي ... لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر (12)
بها ملك سامي المراقي أطاعه ... كبار ملوك الأرض في حالة الصّغر
تولّاه ربّ العرش منه بعصمة ... تقيه مدى الأيام من كلّ ما ضرر
نثره: ونثره كثير ما بين مخاطبات، وخطب، ومقطعات، ولعب، وزرديّات شأنها عجب. فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية:
__________
(1) في الأصل: «وهنت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «الفدا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «الدوا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «نلت».
(5) في الأصل: «ذاك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) جبل شلير، بالإسبانية، وهو أحد مشاهير جبال الأرض. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 43) ففيه دراسة مفصلة عن هذا الجبل.
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 240239).
(8) في النفح: «فطورا».
(9) في النفح: «يكتسي».
(10) في النفح: «بحرّ».
(11) في النفح: «وذاك».
(12) في النفح: «اشتهر».(3/324)
يقول شاكر الأيادي: وذاكر فخر كل نادي، وناشر غرر الغرر للعاكف والبادي، والرائح والغادي، اسمعوا مني حديثا تلذّة الأسماع، ويستطرفه الاستماع، ويشهد بحسنه الإجماع، ويجب عليه الاجتماع، وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلّا لمثلي، ولا ذكرت عن أحد قبلي، وذلك يا معشر الألبّاء، والخلصاء الأحبّاء، أني دخلت في هذه الأيام داري، في بعض أدواري، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري، على حسب أطواري، فقالت لي ربّة البيت: لم جئت، وبما أتيت؟ قلت: جئت لكذا وكذا، فهات الغذا، فقالت: لا غذا لك عندي اليوم، ولو أودى بك الصّوم، حتى تسل الاستخارة، وتفعل كما فعل زوج الجارة، طيّب الله نجاره، وملأ بالأرزاق وجاره.
قلت: وما فعل قريني، وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت: إنه فكّر في العيد، ونظر في أسباب التّعييد، وفعل في ذلك ما يستحسنه القريب والبعيد، وأنت قد نسيت ذكره ومحوته من بالك، ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك، وعيد الأضحى في اليد، والنّظر في شراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت: صدقت، وبالحقّ نطقت، بارك الله فيك، وشكر جميل تحفّيك، فلقد نبّهت بعلك لإقامة السّنة، ورفعت عنه من الغفلة منّة. والآن أسير لأبحث عمّا ذكرت، وأنظر في إحضار ما إليه أشرت، ويتأتّى ذلك إن شاء الله بسعدك، وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك، والجدّ ليس من الهزل، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت: دعني من الخرافات، وأخبار الزّرافات، فإنّك حلو اللسان، قليل الإحسان، تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان، فتهاونت بالنّساء، وأسأت فيمن أساء، وعوّدت أكل خبزك في غير منديل، وإيقاد الفتيل دون قنديل، وسكنى الخان، وعدم ارتفاع الدّخان، فما تقيم موسما، ولا تعرف له ميسما، وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض، وكلانا في طرفي نقيض، إلى أن قلت لها: إزارك وردائي، فقد تفاقم بك أمر دائي، وما أظنّك إلّا بعض أعدائي، قالت: ما لك والإزار، شطّ بك المزار؟ لعلك تريد إرهانه في الأضحية والأبزار، اخرج عني يا مقيت، لا عمرت معك ولا بقيت، أو عدمت الدّين، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة، لا أغفيت معك سنة، إلّا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي، وأرى لك الرّبح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت، وابتدرت وهرولت، وجالت في العتاب وصوّلت، وضمّت بنتها وولدها، وقامت باللّجج والانتصار بالحجج أودها، فلم يسعني إلّا أن عدوت أطوف السّكك والشوارع، وأبادر لما غدوت بسبيله وأسارع، وأجوب الآفاق، وأسأل الرّفاق، وأخترق الأسواق، وأقتحم زريبة بعد زريبة، وأختبر منها البعيدة والقريبة، فما استرخصته استنقصته، وما استغليته استعليته، وما وافق غرضي، اعترضني دونه عدم عرضي، حتى انقضى ثلثا يومي، وقد عييت بدوراني وهومي، وأنا لم أتحصل من
الابتياع على فائدة، ولا عادت عليّ فيه من قضاء الأرب عائدة، فأومأت الإياب، وأنا أجد من خوفها ما يجد صغار الغنم من الذّئاب، إلى أن مررت بقصّاب يقصب في مجزره، قد شدّ في وسطه مئزره، وقصّر أثوابه حتى كشف عن ساقيه، وشمّر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه، وبين يديه عنز قد شدّ يديه في رقبته وهو يجذبه فيبرك، ويجرّه فما يتحرّك، ويروم سيره فيرجع القهقرى، ويعود إلى ورا، والقصاب يشدّ على إزاره، خيفة من فراره، وهو يقول: اقتله من جان باغ، وشيطان طاغ، ما أشدّه، وما ألذّه وما أصدّه، وما أجدّه، وما أكثره بشحم، وما أطيبه بلحم، الطّلاق يلزمه إن كان عاين تيسا مثله، أو أضحية تشبهه قبله، أضحية حفيلة، ومنحة جليلة. هنّأ الله من رزقها، وأخلف عليها رزقها. فاقتحمت المزدحم أنظر مع من نظر، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتّخمين، ولا أفرّق بين العجف والسّمين، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار، وهيكلا يخبرك عن صورة العمّار، فقلت للقصّاب: كم طلبك فيه، على أن تمهل الثّمن حتى أوفيه؟ فقال: ابغني فيه أجيرا، وكن له الآن من الذّبح مجيرا، وخذه بما يرضي، لأول التقضّي. قلت:(3/325)
قلت: وما فعل قريني، وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت: إنه فكّر في العيد، ونظر في أسباب التّعييد، وفعل في ذلك ما يستحسنه القريب والبعيد، وأنت قد نسيت ذكره ومحوته من بالك، ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك، وعيد الأضحى في اليد، والنّظر في شراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت: صدقت، وبالحقّ نطقت، بارك الله فيك، وشكر جميل تحفّيك، فلقد نبّهت بعلك لإقامة السّنة، ورفعت عنه من الغفلة منّة. والآن أسير لأبحث عمّا ذكرت، وأنظر في إحضار ما إليه أشرت، ويتأتّى ذلك إن شاء الله بسعدك، وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك، والجدّ ليس من الهزل، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت: دعني من الخرافات، وأخبار الزّرافات، فإنّك حلو اللسان، قليل الإحسان، تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان، فتهاونت بالنّساء، وأسأت فيمن أساء، وعوّدت أكل خبزك في غير منديل، وإيقاد الفتيل دون قنديل، وسكنى الخان، وعدم ارتفاع الدّخان، فما تقيم موسما، ولا تعرف له ميسما، وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض، وكلانا في طرفي نقيض، إلى أن قلت لها: إزارك وردائي، فقد تفاقم بك أمر دائي، وما أظنّك إلّا بعض أعدائي، قالت: ما لك والإزار، شطّ بك المزار؟ لعلك تريد إرهانه في الأضحية والأبزار، اخرج عني يا مقيت، لا عمرت معك ولا بقيت، أو عدمت الدّين، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة، لا أغفيت معك سنة، إلّا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي، وأرى لك الرّبح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت، وابتدرت وهرولت، وجالت في العتاب وصوّلت، وضمّت بنتها وولدها، وقامت باللّجج والانتصار بالحجج أودها، فلم يسعني إلّا أن عدوت أطوف السّكك والشوارع، وأبادر لما غدوت بسبيله وأسارع، وأجوب الآفاق، وأسأل الرّفاق، وأخترق الأسواق، وأقتحم زريبة بعد زريبة، وأختبر منها البعيدة والقريبة، فما استرخصته استنقصته، وما استغليته استعليته، وما وافق غرضي، اعترضني دونه عدم عرضي، حتى انقضى ثلثا يومي، وقد عييت بدوراني وهومي، وأنا لم أتحصل من
الابتياع على فائدة، ولا عادت عليّ فيه من قضاء الأرب عائدة، فأومأت الإياب، وأنا أجد من خوفها ما يجد صغار الغنم من الذّئاب، إلى أن مررت بقصّاب يقصب في مجزره، قد شدّ في وسطه مئزره، وقصّر أثوابه حتى كشف عن ساقيه، وشمّر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه، وبين يديه عنز قد شدّ يديه في رقبته وهو يجذبه فيبرك، ويجرّه فما يتحرّك، ويروم سيره فيرجع القهقرى، ويعود إلى ورا، والقصاب يشدّ على إزاره، خيفة من فراره، وهو يقول: اقتله من جان باغ، وشيطان طاغ، ما أشدّه، وما ألذّه وما أصدّه، وما أجدّه، وما أكثره بشحم، وما أطيبه بلحم، الطّلاق يلزمه إن كان عاين تيسا مثله، أو أضحية تشبهه قبله، أضحية حفيلة، ومنحة جليلة. هنّأ الله من رزقها، وأخلف عليها رزقها. فاقتحمت المزدحم أنظر مع من نظر، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتّخمين، ولا أفرّق بين العجف والسّمين، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار، وهيكلا يخبرك عن صورة العمّار، فقلت للقصّاب: كم طلبك فيه، على أن تمهل الثّمن حتى أوفيه؟ فقال: ابغني فيه أجيرا، وكن له الآن من الذّبح مجيرا، وخذه بما يرضي، لأول التقضّي. قلت:
استمع الصوت، ولا تخف الفوت. قال: ابتعه مني نسيّة، وخذه هديّة، قلت: نعم، فشقّ لي الضمير، وعاكسني فيه بالنّقير والقطمير، قال: تضمن لي فيه عشرين دينارا، أقبضها منك لانقضاء الحول دنيّرا دنيّرا، قلت: إنّ هذا لكثير، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال: والذي فلق الحبّة، وبرّأ النّسمة، لا أنقصك من هذا، وما قلت لك سمسمة، اللهمّ إن شئت السّعة في الأجل، فأقضي لك ذلك دون أجل، فجلبني للابتياع منه الإنساء في الأمد، وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأي والد ولا ولد، ولا أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد، وقلت: قد اشتريته منك فضع البركة، ليصحّ النّجح في الحركة. فقال: فقيه بارك الله فيه قد بعته لك، فاقبض متاعك، وثبّت ابتياعك، وها هو في قبضك فاشدد وثاقه، وهلمّ لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التّوثيق، وابتدرت من السّعة إلى الضّيق، وأوثقني بالشادّة تحت عقد وثيق، وحملني من ركوب الدّين ولحاق الشّين في أوعر طريق. ثم قال لي: هذا تيسك فشأنك وإياه، وما أظنّك إلّا تعصياه، وأت بحمّالين أربعة فإنك لا تقدر أن ترفعه، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه، ولم يبق لك من الكلفة إلّا أن يحصل في محلّك، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمّال وقلت: هلم إليّ، وقم الآن بين يديّ، حتى انتهينا إلى مجزرة القصّاب، والعنز يطلب فلا يصاب، فقلت: أين التّيس، يا أبا أويس؟ قال: إنه قد فرّ، ولا أعلم حيث استقرّ. قلت: أتضيع عليّ مالي، لتخيب آمالي، والله لا يحزنك بالعصا، كمن عصا، ولا رفعتك إلى الحكّام، تجري عليك منهم الأحكام. قال: ما لي علم به، ولا بمنقلبه، لعلّه فرّ لأمّه وأبيه، وصاحبته
وبنيه، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق، وجيران الزّقاق، من ثقف لي تيسا فله البشارة، بعد ما أتى بالأمارة، وإذا برجل قد خرج من دهليز، وله هدير وهزيز، وهو يقول: من صاحب العنز المشوم؟ لا عدم به الشّوم، إن وقعت عليه عيني، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت: أنا صاحبه فما الذي دهاك منّي، أو بلغك عنّي. قال: إن عنزك حين شرد، خرج مثل الأسد، وأوقع الرّهج في البلد، وأضرّ بكل أحد، ودخل في دهليز الفخّارة فقام فيه وقعد، وكان العمل فيه مطبوخا ونيّا، فلم يترك منه شيا، ومنه كانت معيشتي، وبه استقامت عيشتي، وأنت ضامن مالي، فارتفع معي إلى الوالي، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور، ويكرّ كرّة العفريت المزجور، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدّهليز من الطّواجن والقدور، والخلق قد انحسروا للضجيج، وكثر العياط والعجيج، وأنت تعرف عفرطة الباعة، وما يحوون من الوضاعة، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع، وأروم الإطاعة من غير مطيع، والباعة قد أكسبته من الحماقة، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول: المحتسب، واعرف ما تكتسب، وإلى من تنتسب، فقد كثر عنده بك التّشكّي، وصاحب الدهليز قبالته يبكي، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى، وأيقن أنك كسرت الدّعوى، وأمر بإحضارك، وهو في انتظارك، فشدّ وسطك، واحفظ إبطك، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على الباعة ونصب لأرباب البراهين، على أرباب الشّواهين، ورفع على طبقة، ليملأ طبقة، ثم أمسكني باليمين، حتى أوصلني للأمين، فقال لي: أرسلت التّيس للفساد، كأنك في نعم الله من الحسّاد. قلت: إنه شرد، ولم أدر حيث ورد. قال: ولم لا أخذت ميثاقه، ولم تشدّد وثاقه، يا شرطي طرّده، واطرح يدك فيه وجرّده. قلت: أتجرّدني الساعة، ولست من الباعة؟ قال: لا بدّ من ذاك، أو تضمن ما أفسده هناك؟ قلت:(3/326)
استمع الصوت، ولا تخف الفوت. قال: ابتعه مني نسيّة، وخذه هديّة، قلت: نعم، فشقّ لي الضمير، وعاكسني فيه بالنّقير والقطمير، قال: تضمن لي فيه عشرين دينارا، أقبضها منك لانقضاء الحول دنيّرا دنيّرا، قلت: إنّ هذا لكثير، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال: والذي فلق الحبّة، وبرّأ النّسمة، لا أنقصك من هذا، وما قلت لك سمسمة، اللهمّ إن شئت السّعة في الأجل، فأقضي لك ذلك دون أجل، فجلبني للابتياع منه الإنساء في الأمد، وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأي والد ولا ولد، ولا أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد، وقلت: قد اشتريته منك فضع البركة، ليصحّ النّجح في الحركة. فقال: فقيه بارك الله فيه قد بعته لك، فاقبض متاعك، وثبّت ابتياعك، وها هو في قبضك فاشدد وثاقه، وهلمّ لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التّوثيق، وابتدرت من السّعة إلى الضّيق، وأوثقني بالشادّة تحت عقد وثيق، وحملني من ركوب الدّين ولحاق الشّين في أوعر طريق. ثم قال لي: هذا تيسك فشأنك وإياه، وما أظنّك إلّا تعصياه، وأت بحمّالين أربعة فإنك لا تقدر أن ترفعه، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه، ولم يبق لك من الكلفة إلّا أن يحصل في محلّك، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمّال وقلت: هلم إليّ، وقم الآن بين يديّ، حتى انتهينا إلى مجزرة القصّاب، والعنز يطلب فلا يصاب، فقلت: أين التّيس، يا أبا أويس؟ قال: إنه قد فرّ، ولا أعلم حيث استقرّ. قلت: أتضيع عليّ مالي، لتخيب آمالي، والله لا يحزنك بالعصا، كمن عصا، ولا رفعتك إلى الحكّام، تجري عليك منهم الأحكام. قال: ما لي علم به، ولا بمنقلبه، لعلّه فرّ لأمّه وأبيه، وصاحبته
وبنيه، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق، وجيران الزّقاق، من ثقف لي تيسا فله البشارة، بعد ما أتى بالأمارة، وإذا برجل قد خرج من دهليز، وله هدير وهزيز، وهو يقول: من صاحب العنز المشوم؟ لا عدم به الشّوم، إن وقعت عليه عيني، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت: أنا صاحبه فما الذي دهاك منّي، أو بلغك عنّي. قال: إن عنزك حين شرد، خرج مثل الأسد، وأوقع الرّهج في البلد، وأضرّ بكل أحد، ودخل في دهليز الفخّارة فقام فيه وقعد، وكان العمل فيه مطبوخا ونيّا، فلم يترك منه شيا، ومنه كانت معيشتي، وبه استقامت عيشتي، وأنت ضامن مالي، فارتفع معي إلى الوالي، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور، ويكرّ كرّة العفريت المزجور، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدّهليز من الطّواجن والقدور، والخلق قد انحسروا للضجيج، وكثر العياط والعجيج، وأنت تعرف عفرطة الباعة، وما يحوون من الوضاعة، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع، وأروم الإطاعة من غير مطيع، والباعة قد أكسبته من الحماقة، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول: المحتسب، واعرف ما تكتسب، وإلى من تنتسب، فقد كثر عنده بك التّشكّي، وصاحب الدهليز قبالته يبكي، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى، وأيقن أنك كسرت الدّعوى، وأمر بإحضارك، وهو في انتظارك، فشدّ وسطك، واحفظ إبطك، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على الباعة ونصب لأرباب البراهين، على أرباب الشّواهين، ورفع على طبقة، ليملأ طبقة، ثم أمسكني باليمين، حتى أوصلني للأمين، فقال لي: أرسلت التّيس للفساد، كأنك في نعم الله من الحسّاد. قلت: إنه شرد، ولم أدر حيث ورد. قال: ولم لا أخذت ميثاقه، ولم تشدّد وثاقه، يا شرطي طرّده، واطرح يدك فيه وجرّده. قلت: أتجرّدني الساعة، ولست من الباعة؟ قال: لا بدّ من ذاك، أو تضمن ما أفسده هناك؟ قلت:
الضّمان الضّمان، الأمان الأمان. قال: قد أمّنت، إن ضمنت، وعليك الثّقاف، حتى يقع الإنصاف، أو ضامن كاف، فابتدر أحد إخواني، وبعض جيراني، فأدّى عني ما ظهر بالتّقدير، وآلت الحال للتّكدير. ثم أردت الانصراف بالتّيس، لا كان كيانه، ولا كوّن مكانه، وإذا بالشّرطي قد دار حولي، وقال لي: كلف فعلي بأداء جعلي، فقد عطّلت من أجلك شغلي، فلم يك عندي بما تكسر سورته، ولا بما تطفي جمرته، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجّهت لداري، وقد تقدّمت أخباري، وقدمت بغباري، وتغيّر صغاري وكباري، والتّيس على كاهل الحمّال يرغو كالبعير، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير، فلقت للحمال: أنزله على مهل، فهلال التّعييد قد استهلّ، فحين طرحه في الأسطوان، كرّ إلى العدوان، وصرخ كالشيطان، وهمّ أن يقفز الحيطان، وعلا فوق الجدار، وأقام الرّهجة في الدار، ولم تبق في الزقاق عجوز إلّا وصلت لتراه، وتسأل عمّا اعتراه، وتقول: بكم اشتراه، والأولاد قد دارت به
وأرهقهم لهفه، ودخل قلوبهم خوفه، فابتدرت ربّة البيت، وقالت: كيت وكيت، لا خلّ ولا زيت، ولا حيّ ولا ميت، ولا موسم ولا عيد، ولا قريب ولا بعيد، سقت العفريت إلى المنزل، ورجعت بمعزل، ومن قال لك اشتره، ما لم تره، ومن قال لك سقه، حتى توثّقه، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، ومتى تطبخ القدور، وولدك منه معذور، وبأيّ قلب تأكل الشّويّة، ولم تخلص لك فيه النيّة، ولقلّة سعدها، وأخلف وعدها، والله لو كان العنز، يخرج الكنز، ما عمر لي دارا، ولا قرب لي جوارا، اخرج عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السّمان، والضّأن الرّفيعة الأثمان، يا قليل التّحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التّفصيل، أدلّك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كلّ طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشّعير، ودبّر عليه أحسن تدبير، لا بالصّغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت: بيّني لي قولك، لأتعرّف فعلك، وأين توجد هذه الصّفة، يا قليلة المعرفة. قالت: عند مولانا، وكهفنا ومأوانا، الرئيس الأعلى، الشّهاب الأجلى، القمر الزّاهر، الملك الظّاهر، الذي أعزّ المسلمين بنعمته، وأذلّ المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.(3/327)
الضّمان الضّمان، الأمان الأمان. قال: قد أمّنت، إن ضمنت، وعليك الثّقاف، حتى يقع الإنصاف، أو ضامن كاف، فابتدر أحد إخواني، وبعض جيراني، فأدّى عني ما ظهر بالتّقدير، وآلت الحال للتّكدير. ثم أردت الانصراف بالتّيس، لا كان كيانه، ولا كوّن مكانه، وإذا بالشّرطي قد دار حولي، وقال لي: كلف فعلي بأداء جعلي، فقد عطّلت من أجلك شغلي، فلم يك عندي بما تكسر سورته، ولا بما تطفي جمرته، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجّهت لداري، وقد تقدّمت أخباري، وقدمت بغباري، وتغيّر صغاري وكباري، والتّيس على كاهل الحمّال يرغو كالبعير، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير، فلقت للحمال: أنزله على مهل، فهلال التّعييد قد استهلّ، فحين طرحه في الأسطوان، كرّ إلى العدوان، وصرخ كالشيطان، وهمّ أن يقفز الحيطان، وعلا فوق الجدار، وأقام الرّهجة في الدار، ولم تبق في الزقاق عجوز إلّا وصلت لتراه، وتسأل عمّا اعتراه، وتقول: بكم اشتراه، والأولاد قد دارت به
وأرهقهم لهفه، ودخل قلوبهم خوفه، فابتدرت ربّة البيت، وقالت: كيت وكيت، لا خلّ ولا زيت، ولا حيّ ولا ميت، ولا موسم ولا عيد، ولا قريب ولا بعيد، سقت العفريت إلى المنزل، ورجعت بمعزل، ومن قال لك اشتره، ما لم تره، ومن قال لك سقه، حتى توثّقه، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، ومتى تطبخ القدور، وولدك منه معذور، وبأيّ قلب تأكل الشّويّة، ولم تخلص لك فيه النيّة، ولقلّة سعدها، وأخلف وعدها، والله لو كان العنز، يخرج الكنز، ما عمر لي دارا، ولا قرب لي جوارا، اخرج عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السّمان، والضّأن الرّفيعة الأثمان، يا قليل التّحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التّفصيل، أدلّك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كلّ طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشّعير، ودبّر عليه أحسن تدبير، لا بالصّغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت: بيّني لي قولك، لأتعرّف فعلك، وأين توجد هذه الصّفة، يا قليلة المعرفة. قالت: عند مولانا، وكهفنا ومأوانا، الرئيس الأعلى، الشّهاب الأجلى، القمر الزّاهر، الملك الظّاهر، الذي أعزّ المسلمين بنعمته، وأذلّ المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.
وفاته: في كائنة الطاعون ببلده بلّش في أواخر عام خمسين وسبعمائة، ودفن بها.
عبد الله بن إبراهيم بن وزمّر الحجاري (1) الصّنهاجي
الأديب المصنّف، يكنى أبا محمد.
حاله وأوليته: أبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة (2)، المصنّف للمأمون بن ذي النون (3) كتاب «مغنيطاس الأفكار، فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر
__________
(1) عبد الله بن إبراهيم الحجاري، ينسب إلى وادي الحجارة بالأندلس، توفي سنة 520هـ، وترجمته في المغرب (ج 2ص 35) ونفح الطيب (ج 3ص 91) و (ج 4ص 161) و (ج 4 ص 112، 265)، وكشف الظنون (ص 646، 1685) وهدية العارفين (ج 1ص 457).
(2) وادي الحجارة: بالإسبانية، وهي مدينة أندلسية تعرف بمدينة الفرج، بينها وبين طليطلة 65ميلا. الروض المعطار (ص 606).
(3) المأمون بن ذي النون هو يحيى بن إسماعيل، أحد ملوك الطوائف بالأندلس، حكم طليطلة من سنة 435هـ إلى سنة 467هـ. ترجمته في البيان المغرب (ج 3ص 165) وأزهار الرياض (ج 2ص 207). وفي مواطن متفرقة من الذخيرة.(3/328)
والأخبار». وكان أبو محمد هذا ماهرا، كاتبا، شاعرا، رحّالا. سكن مدينة شلب (1)
بعد استيلاء العدو على بلاده بالثّغر. وله (2) في التّحوّل أشعار وأخبار. قدم غرناطة وقصد عبد الملك بن سعيد، صاحب القلعة (3) من بنيّاتها، واستأذن عليه في زيّ موحش، واستخفّ به القاعدون ببابه، إلى أن لاطف بعضهم، وسأله أن يعرّف به القائد، فلما بلّغ عنه، أمر بإدخاله، فأنشده قصيدة مطلعها (4): [الوافر]
عليك أحالني الذّكر الجميل ... فجئت ومن ثنائك لي دليل (5)
أتيت ولم أقدّم من رسول ... لأنّ القلب كان هو الرّسول
منها في وصف زيّه البدوي المستقل وما في طيّه:
ومثّلني بدنّ فيه خمر (6) ... يخفّ بها (7) ومنظره ثقيل
فأكرم نزله، وأحسن إليه، وأقام عنده سنة، حتى ألّف بالقلعة كتاب «المسهب، في غرائب (8) المغرب»، وفيه التّنبيه على الحلى البلادية والعبّادية. وانصرف إلى قصد ابن هود بروطة، بعد أن عذله عن التّحوّل عنه، فقال: النّفس توّاقة، وما لي بالتّغرّب طاقة، ثم أفكر وقال: [الطويل]
يقولون لي: ماذا الملال تقيم في ... محلّ فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم: مثل الحمام إذا شدا ... على غصن أمسى بآخر نازلا
نكبته: قال علي بن موسى بن سعيد (9): ولمّا قصد الحجاري روطة، وحلّ لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود (10)، وتحرّك لغزو من قصده من
__________
(1) شلب: بالإسبانية، وهي قاعدة كورة أكشونبة، بجنوب مدينة باجة. الروض المعطار (ص 342).
(2) قارن بالمغرب (ج 2ص 35) ونفح الطيب (ج 4ص 266265).
(3) هي قلعة بني سعيد. وتعرف أيضا بقلعة يحصب، أي القلعة الملكية، نسبة إلى قبيلة يحصب، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب، أو القلعة السعدية، وهي إحدى مدن غرناطة في عهد بني زيري البربر. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 62).
(4) الأبيات الثلاثة في المغرب (ج 2ص 35). وورد في نفح الطيب (ج 4ص 266) أربعة أبيات، من ضمنها البيت الأول لا غير.
(5) رواية عجز البيت في الفتح هي:
فصحّ العزم واقتضى الرحيل
(6) في المغرب: «سرّ».
(7) في المغرب: «به».
(8) في المغرب: «فضائل».
(9) علي بن موسى بن سعيد الأندلسي، هو صاحب كتاب «المغرب» و «رايات المبرزين»، وغيرهما.
(10) المستنصر بن هود: هو أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن هود، آخر ملوك بني هود بسرقسطة،(3/329)
البشكنس، فهزم جيشه، كان (1) الحجاري أحد من أسر في تلك الوقيعة، فاستقرّ ببسقاية (2)، وبقي بها مدّة، يحرّك ابن هود بالأشعار ويحثّه على خلاصه من الإسار، فلم يجد عنده ذمامة، ولا تحرّك له اهتمامه، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله:
[السريع]
أصبحت في بسقاية مسلما ... إلى الأعادي لا أرى مسلما
مكلّفا ما ليس في طاقتي ... مصفّدا منتهرا مرغما
أطلب بالخدمة، وا حسرتي! ... وحالتي تقضي بأن أخدما
فهل كريم يرتجى للأسير ... يفكّه، أكرم به منتمى
وقوله: [الخفيف]
أرئيس الزمان أغفلت أمري ... وتلذّذت تاركا لي بأسر؟
ما كذا يعمل الكرام ولكن ... قد جرى على المعوّد دهري
فاجتهد في فدائه، ولم يمرّ شهر إلّا وقد تخلص من أسره، واستقرّ لديه، فكان طليق آل سعيد، وفيهم يقول (3):
وجدنا سعيدا منجبا خير عصبة ... هم في بني أعصارهم (4) كالمواسم
مشنّفة أسماعهم بمدائح (5) ... مسوّرة أيمانهم بالصّوارم
فكم لهم في الحرب من فضل ناثر! ... وكم لهم في السّلم من فضل ناظم
تواليفه: وتواليف الحجاري بديعة، منها «الحديقة» في البديع، وهو كتاب مشهور، ومنها «المسهب في غرائب المغرب»، وافتتح خطبته بقوله: «الحمد لله الذي جعل العباد، من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد، والأسياف من الأغماد». وهو في ستة مجلدات.
__________
وقد حكمها سنة 513هـ، ومات سنة 536هـ. الأعلام (ج 1ص 164) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(1) في الأصل: «وكان».
(2) بسقاية: بالإسبانية، وهي إحدى ولايات مملكة نبرة.
(3) الأبيات في المغرب (ج 2ص 36).
(4) في المغرب: «أزمانهم».
(5) في المغرب: «بفضائل».(3/330)
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله ابن سعيد بن الخطيب السّلماني (1)
يكنى أبا محمد.
أوّليّته: تنظر في اسم جدّه.
حاله: حسن (2) الشّكل، جيّد الفهم، يغطّي منه رماد السّكون جمرة حركة، منقبض عن الناس، قليل البشاشة، حسن الخطّ، وسط النّظم. كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم، واقتضى (3) خلعهم وصكوكهم بالإقطاع والإحسان. ثم لما كانت الفتنة كتب عن سلطان وطنه، معزّز الخطّة بالقيادة، وأنشدهم.
مشيخته: قرأ (4) على قاضي الجماعة، الشيخ (5) الأستاذ الخطيب أبي القاسم الحسني، والأستاذ (6) الخطيب أبي سعيد فرج بن لب التّغلبي، واستظهر بعض (7)
المبادىء في العربية، واستجيز له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب.
شعره: وشعره (8) مترفّع عن الوسط إلى الإجادة، بما يكفله (9) عذر الحداثة.
وقد ثبت في اسم السلطان لهذا العهد، أبي عبد الله بن نصر (10)، أيّده الله، ما يدلّ على جودة قريحته، وذكاء طبعه. وممّا دوّن الذي ثبت له حيث ذكر قوله (11):
لمن طلل بالرّقمتين محيل ... عفت دمنتيه شمأل وقبول (12)
يلوح كباقي الوشم غيّره البلى ... وجادت عليه السّحب وهي همول (13)
__________
(1) ترجمة عبد الله بن محمد بن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 279) ونفح الطيب (ج 10ص 143) وجاء فيه أنه: «عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن الخطيب التلمساني».
(2) النص في نفح الطيب (ج 10ص 143).
(3) في النفح: «وأقبض صكوكهم بالإقطاعات والإحسان، واختال في خلعهم. ثم لمّا».
(4) النص في نفح الطيب (ج 10ص 143).
(5) قوله: «الشيخ الأستاذ» ساقط في النفح.
(6) في النفح: «والخطيب».
(7) في النفح: «ببعض».
(8) النص في نفح الطيب (ج 10ص 143).
(9) في النفح: «الإجادة، يكلّله».
(10) هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 113، 129).
(11) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 281280) وقال إنه قالها في الأغراض السلطانية أيام كتابته عن السلطان ملك المغرب. وهي أيضا في نفح الطيب (ج 10ص 146).
(12) المحيل: المتغيّر. الدّمنة: الموضع القريب من الدار. الشمال: ريح الشمال. القبول: الريح التي تقابل الشمال. لسان العرب (حيل) و (دمن) و (شمأل) و (قبل).
(13) همول: منهمرة. لسان العرب (همل).(3/331)
فيا سعد، مهلا بالرّكاب لعلّنا ... نسائل ربعا فالمحبّ سؤول
قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ... ويشفى بها بين الضّلوع غليل
وعرّج على الوادي المقدّس بالحمى (1) ... فطاب لديه مربع ومقيل
فيا حبّذا تلك الديار وحبّذا ... حديث بها للعاشقين طويل
دعوت لها سقي الحمى عندما سرى (2) ... وميض وعرف للنسيم عليل
وأرسلت دمعي للغمام مساجلا ... فسال على الخدّين منه مسيل
فأصبح ذاك الرّبع من بعد محله ... رياضا بها الغصن المروح يميل
لئن حال رسم الدار عمّا عهدته ... فعهد الهوى في القلب ليس يحول (3)
وممّا شجاني بعد ما سكن الهوى ... بكاء حمامات لهنّ هديل
توسّدن فرع البان والنّجم مائل ... وقد آن من جيش الظلام رحيل
فيا صاحبي، دع عنك لومي فإنّه ... كلام على سمع المحبّ ثقيل
تقول اصطبارا عن معاهدك الألى ... وهيهات صبري ما إليه سبيل
فلله عينا من رآني وللأسى ... غداة استقلّت بالخليط حمول
يطاول ليل التّمّ مني مسهّد ... وقد بان عنّي منزل وخليل
فياليت شعري هل يعودنّ ما مضى؟ ... وهل يسمحنّ الدهر وهو بخيل؟
نثره: أجابني لما خاطبت الجملة من الكتّاب، والسلطان، رضي الله عنه، بالمنكّب، في رحلة أعملها بما نصّه:
«لله من فذّة المعاني، حيث مشوق الفؤاد عاني، لما أنارت بها المغاني، غنين عن مطّرب الأغاني، يا صاحب الإذعان، أجب بالله من دعاني، إذا صرت من كثرة الأماني، بالشوق والوجد مثل ماني. وردت سحّات سيدي التي أنشأت لغمام الرحمة عند اشتداد الأزمة رياحا، وملأت العيون محاسنا والصّدور انشراحا، وأصبح رحيب قرطاسها وعميم فضلها ونوالها وأيناسها لفرسان البلاغة مغدى ومراحا. فلم أدر أصحيفة نسخت مسطورة، أم روضة نفحت ممطورة، أطيب من المسك منتشقا، وأحسن من السلك متّسقا، فملّكتها مقادة خاطري، وأودعتها سواد قلبي وناظري، وطلعت عليّ طلوع الصّبح على عقب السّري، وخلصت خلوص الخيال مع سنة الكرى. فلله ما جلبت من أنس، وأذهبت لطائفة الشيطان من مسّ، وهاجت من
__________
(1) في الكتيبة: «والحمى».
(2) في النفح: «الحمى وربوعه».
(3) يحول: يتغيّر. لسان العرب (حول).(3/332)
الشوق، الذي شبّ عمره عن الطّوق، والوجد الذي أصبح واري الزّند. فأقسم بباري النّسم، وواهب الحظوظ والقسم، لو أعطيت للنّفس مقادتها، وسوّغتها إرادتها، ما قنعت بنيابة القرطاس والمداد، عن مباشرة الأرواح والأجساد، وإن أعرضت عقبة للشّعير ورأس المزاد، وشمخ بأنفه وزاد، وما بين ذلك من علم باذخ، وطود شامخ، قد أذكرت العقاب عقابه، وصافحت النجوم هضابه، قد طمح بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه: [الكامل]
ملكت عنان الرّيح راحته ... فجيادها من تحته تجري
وأما الحمل الهائج، والبحر المتمايج، والطّلل المائل، والذّنب الشّائل، فمساجلة مولاي في ذلك المجال، من المحال، إذ العبد قصاراه ألفاظ مركّبة، غير مرتّبة: [الخفيف]
هو جهد المقلّ وافاك منّي ... إنّ جهد المقلّ غير قليل
وأقرأ على مولاي، أبقاه الله، سلاما عميما، تنسّم روضه نسيما، ورفّ نظره وعبق شميما، والأوفر الأذكى منه عليه معادا، ما سحّ السّحاب إرعادا، وأبرق الغمام رعدا والحسام أبعادا، ورحمة الله وبركاته. من عبده الشّبق لوجهه، عبد الله بن الخطيب، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين وسبعمائة.
مولده: بحضرة غرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.
عبد الله بن محمد بن سارة البكري (1)
شنتريني (2)، سكن ألمرية وغرناطة، وتردّد مادحا ومنتجعا شرقا ومغربا، ويضرب في كثير من البلاد.
__________
(1) ترجمة ابن سارة أو ابن صارة في وفيات الأعيان (ج 3ص 76) وبغية الملتمس (ص 338) وزاد المسافر (ص 66) وقلائد العقيان (ص 258) والتكملة (ج 2ص 251) والمطرب (ص 78، 138) والمغرب (ج 1ص 419) والذخيرة (ق 2ص 834) ومسالك الأبصار (ج 11، الورقة 383) وشذرات الذهب (ج 4ص 55) ومعجم السفر للسلفي (ص 205) وخريدة القصر قسم المغرب (ج 2ص 256) والفلاكة والمفلوكون (ص 90) ورايات المبرزين (ص 106) وبغية الوعاة (ص 288) ونفح الطيب (ج 2ص 43) و (ج 4ص 284) وصفحات أخرى متفرقة.
(2) نسبة إلى مدينة شنترين البرتغالية، وهي بلدة في غرب جزيرة الأندلس. وفيات الأعيان (ج 3ص 79).(3/333)
حاله: كان ذا حظّ صالح من النحو واللغة، وحفظ الأشعار، أديبا ماهرا، شاعرا مجيدا، مطبوع الاختراع والتّوليد. تجوّل في شرق الأندلس وغربها معلّما للنحو، ومادحا ولاتها، وكتب عن بعضهم، وتعيّش بالوراقة زمانا، وكان حسن الخطّ، جيّد النقل والضّبط.
مشيخته: روى عن أبي الحسن بن الأخضر.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن مسعود، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عثمان بن هارون، وأبو الطاهر التّميمي، وأبو العباس بن علي اللص، وأبو العلاء بن الجنّان، وأبو محمد بن يوسف القضاعي، وإبراهيم بن محمد السّبتي.
شعره: وشعره كثير جيد شهير. منه في حرفة الوراقة قوله (1): [الكامل]
أمّا الوراقة فهي أيكة (2) حرفة ... أغصانها (3) وثمارها الحرمان
شبّهت صاحبها بإبرة (4) خائط ... يكسو (5) العراة وظهره عريان
وقال في نجم الرّحيم، وهو من التّشبيه العقيم (6): [البسيط]
وكوكب أبصر العفريت مسترقا ... فانقضّ (7) يذكي (8) سريعا خلفه لهبه
كفارس حلّ إحصار (9) عمامته ... فجرّها (10) كلّها من خلفه عذبه
وقال منه في المواعظ (11): [البسيط]
يا من يصيخ إلى داعي السّفاه (12) وقد ... نادى به النّاعيان: الشّيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذّكرى ففيم ثوى (13) ... في رأسك الواعيان: السّمع والبصر؟
__________
(1) البيتان في الذخيرة (ق 2ص 835) والمطرب (ص 78) والفلاكة والمفلوكون (ص 90).
(2) في الذخيرة والمطرب: «أنكد».
(3) في الذخيرة: «أوراقها».
(4) في الذخيرة: «بصاحب إبرة».
(5) في الذخيرة والمطرب: «تكسو العراة وجسمها».
(6) البيتان في قلائد العقيان (ص 268).
(7) في الأصل: «فانقضى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من القلائد.
(8) في القلائد: «يذكي له في أثره لهبه».
(9) في الأصل: «إخصارا» والتصويب من القلائد.
(10) في الأصل: «تجرّها» والتصويب من القلائد.
(11) الأبيات في قلائد العقيان (ص 264) ووفيات الأعيان (ج 3ص 78) ونفح الطيب (ج 6ص 96).
(12) في القلائد: «السقاة». والسّفاه: الجهل.
(13) في الأصل: «الذكر ففيم ترى» والتصويب من المصادر الثلاثة.(3/334)
ليس الأصمّ ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان: العين والأثر
لا الدهر يبقى على حال (1) ولا الفلك ال ... أعلى ولا النّيّران: الشمس والقمر
لأرحلنّ (2) عن الدنيا ولو كرها (3) ... فراقها الثاويان: البدو والحضر
وقال في موت ابنة له (4): [الوافر]
ألا يا موت، كنت بنا رؤوفا ... فجدّدت السّرور (5) لنا بزوره
حمدنا (6) سعيك المشكور لمّا ... كفيت (7) مؤنة وسترت عوره
فأنكحنا الضّريح بلا صداق ... وجهّزنا العروس (8) بغير شوره
وفاته: توفي عبد الله بن سارة سنة تسع عشرة وخمسمائة (9).
عبد الله بن محمد الشرّاط (10)
يكنى أبا محمد، من أهل مالقة.
حاله: طالب جليل، ذكي، مدرك، ظريف، كثير الصّلف والختروانة (11)
والإزراء بمن دونه، حادّ النّادرة، مرسل عنان الدّعابة، شاعر مكثر، يقوم على الأدب والعربية، وله تقدّم في الحساب، والبرهان على مسائله. استدعي إلى الكتابة بالباب السلطاني، واختصّ بولي العهد، ونيط به من العمل، وظيف نبيه، وكاد ينمو عشبه ويتأشّب (12) جاهه، لو أن الليالي أمهلته، فاعتبط لأمد قريب من ظهوره، وكانت بينه وبين الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، إحنة، تخلّصه الحمام لأجلها، من كفّ انتقامه.
__________
(1) في المصادر الثلاثة: «يبقى ولا الدنيا ولا».
(2) في المصادر الثلاثة: «ليرحلنّ».
(3) في المصادر الثلاثة: «إن كرها» ويقال لغويا: «وإن كره فراقها الثاويان».
(4) الأبيات في قلائد العقيان (ص 268) ونفح الطيب (ج 6ص 9796).
(5) في المصدرين: «الحياة».
(6) في المصدرين: «حماد لفعلك المشكور».
(7) في القلائد: «كففت».
(8) في المصدرين: «الفتاة».
(9) في وفيات الأعيان (ج 3ص 79): «وكانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة بمدينة ألمرية من جزيرة الأندلس». وهكذا جاء في التكملة (ج 2ص 252).
(10) ترجمة ابن الشراط في نثير فرائد الجمان (ص 325).
(11) لم نقف على هذه الكلمة في كتب اللغة، وجاء فيها في مادة (ختر): الختر: أقبح الغدر وأشدّه.
(12) يتأشّب: يتجمّع.(3/335)
شعره: وشعره كثير، لكني لم أظفر منه إلّا باليسير. نقلت من خطّ صاحبنا القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، من نظم أبي محمد الشراط، في معنى كان أدباء عصره قد كلفوا بالنظم فيه، يظهر من هذه الأبيات في شمعة:
[الوافر]
وكنت ألفت قبل اليوم إلفا ... أنادي مرة فيجيب ألفا
وكنّا مثل وصل العهد وصلا ... وكنّا مثل وصف الشّهد وصفا
ففرّق بيننا صرف الليالي ... وسوّغنا كؤوس البين صرفا
فصرت غداة يوم البين شمعا ... وسار فصار كالعسل المصفّا
فدمعي لا يتم أسى وجسمي ... يغص بنار وجدي ليس يطفا
ثم في المعنى أيضا (1): [البسيط]
حالي وحالك أضحت آية عجبا ... إن كنت مغتربا (2) أو كنت مقتربا (3)
إذا دنوت فإني مشعر طربا ... وإن نأيت فإني مشعل لهبا
كذاك الشّمع لا تنفكّ (4) حالته ... إلّا إلى الناس مهما فارق الضّربا
ومن ذلك أيضا: [الطويل]
رحلتم وخلّفتم مشوفكم نسيا ... رهين هيام لا يموت ولا يحيا
فضاقت عليّ الأرض واعتاص مذهبي ... وما زلت في قومي ولا ضاقت الدنيا
وما باختيار شتّت الدهر بيننا ... وهل يملك الإنسان من أمره شيّا؟
فذا أضلعي لم تخب من أجلكم جوى ... وذا أدمعي لم تأل من بعدكم جريا
كأنّني شمع في فؤاد وأدمع ... وقد فارقت من وصلكم ريّا
وذكر لي أن هذا صدر عنه في مجلس أنس مع الوزير أبي عبد الله بن عيسى بمالقة، بحضرة طائفة من ظرفاء الأدباء.
وفاته: كان حيّا سنة سبعمائة، وتوفي بغرناطة، وهو على حاله من الكتابة، رحمه الله.
__________
(1) الأبيات في نثير فرائد الجمان (ص 326).
(2) في الأصل: «مغرّبا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من نثير فرائد الجمان.
(3) في الأصل: «مغتربا» والتصويب من النثير.
(4) في النثير: «لا ينفك».(3/336)
عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف ابن رضوان النّجاري (1)
يكنى أبا القاسم، ويعرف باسم جدّه، من أهل مالقة، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب.
حاله: هذا الفاضل نسيج وحده، فهما وانطباعا، ولوذعيّة، مع الدّين والصّون، معمّ، مخول في الخير، مستول على خصال حميدة، من خطّ وأدب وحفظ، مشارك في معارف جملة. كتب ببلده عدلا رضى، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده. ورحل عن بلده إلى المغرب، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني، ثم بان فضله، ونبه قدره، ولطف محلّه، وعاد إلى الأندلس، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصّه. فلمّا استأثر الله بالسلطان المذكور، موسوم التّمحيص، وصيّر أمره إلى ولده بعده، جنح إليه، ولحق ببابه، مقترن الوفادة، بيمن الطّائر، وسعادة النّصبة، مظنّة الاصطناع، فحصل على الحظوة، وأصبح في الأمد القريب، محلا للبثّ وجليسا في الخلوة، ومؤتمنا على خطّة العلامة (2)، من رجل ناهض بالكلّ، جلد على العمل، حذر من الذّكر، متقلّص ذيل الجاه، متهيّب، غزير المشاركة، مطفّف في حقوق الدّول عند انخفاض الأسعار، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها، حارّ النّادرة، مليح التّندير، حلو الفكاهة، غزل مع العفة، حافظ للعيون، مقدّم في باب التّحسين والتنقيح، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال، فشدّ عليه يد الغبطة، وأنشب فيه براثن الأثرة، ورمى إليه بمقاليد الخدمة، فسما مكانه، وعلا كعبه، ونما عشّه. وهو الآن بحاله الموصوفة، من مفاخر قطره، ومناقب وطنه، كثّر الله مثله.
مشيخته: قرأ ببلده على المقرئ أبي محمد بن أيوب، والمقرئ الصالح أبي عبد الله المهندس، والأستاذ أبي عبد الله بن أبي الجيش، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق. وروى عن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي، والقاضي أبي
__________
(1) ترجمة ابن رضوان النجاري في نيل الابتهاج (ص 123) والتعريف بابن خلدون (ص 20، 41) وجذوة الاقتباس (ص 247) ونفح الطيب (ج 8ص 240) والكتيبة الكامنة (ص 254) وفيه:
«البخاري» بدل «النجاري». ولم يشر ابن الخطيب هنا إلى سنة وفاته لأنه توفي في سنة 783 هـ، أي بعد وفاة ابن الخطيب بسبع سنوات.
(2) هي العلامة التي كانت توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها كان السلطان يضعه بخطه. التعريف بابن خلدون (ص 20).(3/337)
بكر بن منظور. وبغرناطة عن جلّة منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسن ابن الجيّاب، وقاضي الجماعة أبو القاسم بن أحمد الحسني، ولازم بالمغرب الرئيس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والقاضي أبا إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى، وأبا العباس بن يربوع السّبتي. وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي، وأبي عبد الله بن النّجار، وغيرهما. وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد السلام، وعن جماعة غيرهم.
شعره: ونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة. أما شعره، فمتناسب الوضع، سهل المأخذ، ظاهر الرّواء، محكم الإمرة للتّنقيح. وأما نثره، فطريف السّجع، كثير الدّالة، مطيع لدعوة البديهة، وربما استعمل الكلام المرسل، فجرى يراعه في ميدانه ملء عنانه.
وجرى ذكره في «التاج» أيام لم يفهق (1) حوضه، ولا أزهر روضه، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه، بما نصه (2): أديب أحسن ما شاء، وفتح قليبه (3) فملأ الدّلو وبلّ الرّشاء (4)، وعانى على حداثته الشعر والإنشاء، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة. ونشأ هذا الفاضل على أتمّ العفاف والصّون، فما مال إلى فساد بعد الكون. وله خطّ بارع، وفهم إلى الغوامض مسارع. وقد أثبتّ من كلامه، ونفثات أقلامه، كلّ محكم العقود، زاريا (5) بنت العنقود. فمن ذلك قصيدة (6) أنشدها للسلطان أمير المسلمين (7)، مهنّئا بهلاك الأسطول الحربي بالزّقاق الغربي (8)، أجاد أغراضها، وسبك المعاني وراضها، وهي قوله (9): [الطويل]
لعلّكما أن ترعيا لي وسائلا ... فبالله عوجا بالرّكاب وسائلا
بأوطان أوطار قفا ومآربي ... وبالحبّ خصّا بالسّلام المنازلا
ألا فانشدا بين القباب من الحمى ... فؤاد شج أضحى عن الجسم راحلا
__________
(1) فهق حوضه: امتلأ. لسان العرب (فهق).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 241).
(3) القليب: البئر. لسان العرب (قلب).
(4) الرّشاء: الحبل. لسان العرب (رشا).
(5) في النفح: «زار بابنة».
(6) في النفح: «فمن ذلك قوله» وأورد الشعر مباشرة.
(7) أمير المسلمين هنا هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، وقد حكم غرناطة من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 102).
(8) المقصود بالزقاق الغربي جبل الفتح، أو جبل طارق، الذي نازله ألفونش بن هرانده، فهلك فيه حتف أنفه عام 751هـ. اللمحة البدرية (ص 108).
(9) ورد في نفح الطيب من هذه القصيدة خمسة أبيات فقط.(3/338)
وبثّا صبّا بات هنالك واشرحا ... لهم من أحاديثي عريضا وطائلا
رعى الله مثواكم على القرب والنّوى ... ولا زال هامي السّحب في الرّبع هاملا
وهل لزمان باللّوى قد (1) سقى اللّوى ... مآرب فما ألقى مدى الدّهر حائلا؟
فحظّي بعيد الدّار منه بقربه ... ويورد فيه من مناه مناهلا
لقد جار دهري أن (2) نأى بمطالبي ... وظلّ بما أبقى (3) من القرب ماطلا
وحمّلني من صرفه ما يؤدني ... ومكّن منّي الخطوب شواغلا
عتبت عليه فاغتدى لي عاتبا ... وقال: أصخ لي لا تكن لي (4) عاذلا
أتعتبني إذ (5) قد أفدتك موقفا ... لدى أعظم الأملاك حلما ونائلا؟
مليك حباه الله بالخلق الرّضا ... وأعلى له في المكرمات المنازلا
مليك علا فوق السّماك فطرفه ... غدا كهلال الأفق يبصرنا علا
إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره ... صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا
نماه من الأنصار غرّ أكابر ... لهم شيم ملء الفضاء فضائلا
تلوا سور النّعماء في حزبهم كما ... جلوا صور الأيام غرّا جلائلا
تسامت لهم في المعلوات مراتب ... يرى زحل دون المراتب زاحلا
عصابة نصر الله طابت أواخرا ... كما قد زكت أصلا وطابت أوائلا
لقد كان ربع المجد من قبل خاليا ... ومن آل نصر عاد يبصر آهلا
إذا يوسف منهم تلوح يمينه ... تقول سحاب الجود والبأس هاطلا
كتائبه في الفتح تكتب أسطرا ... تبين من الأنفال فيها المسائلا
عوامله بالحذف تحكم في العدا ... كما حكموا في حذف جزم عواملا
يبدّد جمع الكفر رعبا وهيبة ... كما بدّدت منه اليمين النّوافلا
ومنها في وصفه الأسطول واللقاء:
ولمّا استقامت بالزّقاق أساطي ... ل ثم (6) استقلّت للسّعود محافلا
رآها عدوّ الله فانفضّ جمعه ... وأبصر أمواج البحار أساطلا
ومن دهش ظنّ السّواحل أبحرا ... ومن رعب خال البحار سواحلا
__________
(1) كلمة «قد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(2) في النفح: «إذ».
(3) في النفح: «أبغي».
(4) في النفح: «قطّ».
(5) في النفح: «أن».
(6) في الأصل: «واستقلّت»، وكذا ينكسر الوزن.(3/339)
ومن جندكم هبّت عليه عواصف ... تدمّر أدناها الصّلاب الجنادلا
تفرّقهم أيدي سبا وتبيدهم ... فقد خلّفت فيهم حساما وذابلا
وعهدي بمرّ الريح للنار موقدا ... فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا
وكان لهم برد العذاب ولم يكن ... سلاما وما كادوه قد عاد باطلا
حداهم هواهم للإسار وللفنا ... فما أفلتوا من ذا وذاك حبائلا
فهم بين عان في القيود مصفّد ... وفان عليه السّيف أصبح صائلا
ستهلك ما بالبرّ منهم جنودكم ... كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا
وقال أيضا يمدحه: [الطويل]
نشرت لواء النّصر واليمن والسّعد ... وأطلعت وجه اليسر والأمن والرّفد
أعدت لنا الدّنيا نعيما ولذّة ... ألا للمعالي ما تعيد وما تبدي
بنوركم والله يكلأ نوركم ... تبدّت لنا سبل السعادة والرّشد
تحلّى لكم بالملك نحر ولبّة ... فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد
مآثركم قد سطّرتها يد العلا ... على صفحات الفخر أو مفرق الحمد
بمدحكم القرآن (1) أثنى منزّلا ... وقد حزتم مجدا بجدّكم سعد
كفاكم فخارا أنه لكم أب ... ومن فخره إن أنت تدعوه بالجدّ
ثناؤكم هذا أم المسك نافح؟ ... وذكركم أم عاطر العنبر الورد؟
أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق ... كما أنكم أجلى وأعلى لمشهد
طلعت على الآفاق نورا وبهجة ... فما أنت إلّا البدر في طالع السّعد
وفي جملة الأملاك عزّ ورفعة ... ودم في خلود الملك والنصر والسعد
ولو أنني فقت سحبان وائل ... وأربيت في شعري على الشاعر الكندي
لما قمت بالمعشار من بعض ما لكم ... من الجود والأفضال والبذل والرّفد
وقال في شيخه أبي بكر بن منظور، رحمه الله: [الطويل]
جلالك أولى بالعلا للمخلّد (2) ... وذكرك أعلى الذّكر في كلّ مشهد
لمجدك كان العزّ يذخر والعلى ... وأنّك للأولى بأرفع سؤدد
أبى الله إلّا أن تكون مشرّفا ... بمقعد خير العالمين محمد
__________
(1) في الأصل: «للقرآن»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «المخلّد» وهكذا ينكسر الوزن.(3/340)
فهنّئت بالفخر السّنيّ محلّه ... وهنّئت بالمجد الرّفيع المجدّد
شهدت بما أوليتني من عوارف ... وخوّلت من نعمى وأسديت من يد
وما حزت من مجد كريم نجاره ... وما لك من مجد ورفعة محتد
لقد نبّأتني بالرّواح لعزّكم ... مخايل إسعاد تروح وتغتدي (1)
تحدّثني نفسي وإنّي لصادق ... بأن سوف تلقى كاملا كلّ مقصد
دليلي بهذا أنّك الماجد الذي ... تسامى علوّا فوق كلّ ممجّد
ليفخر أولو الفخر المنيف بأنّكم ... لهم علم أعلى، به الكلّ مقتدي
إمام علوم معتلي القدر لم يزل ... رداء المعالي والعوارف يرتدي (2)
وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها ... جلا لي (3) برأي الحقيقة مرشدي (4)
إذا الحقّ أبدى نوره عند حكمه ... رأيت له حدّ الحسام المهنّد
وإنّ جميع الخلق في الحقّ عنده ... سواسية ما بين دان وسيّد
هنيّا لنا بل للقضاء وفضله ... بقاض حليم في القضاء مسدّد
أمات به الرحمن كلّ ضلالة ... وأحيا بما أولاه شرعة أحمد
وكائن تراه لا يزال ملازما ... لأمر بعرف أو لزام بمسجد
وما زال قدما للحقيقة حاميا ... وللشّرعة البيضاء يهدى ويهتدي
ويمنح أفضالا ويولي أياديا ... وإحسانه للمعتفين بمرصد
يقيّد أحرارا بمنطق جوده ... فما إن يني عن مطلق أو مقيّد
نعم إن يكن للفضل شخص فإنما ... بشيمته الغرّاء في الفضل يبتدي
أيا ناثرا أسنى المعارف والغنا ... ويا طارقا يطوي السّرى كلّ فدفد
ألا الق عصا التّسيار واعش لناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
ومن مقطوعاته قوله (5): [الطويل]
تبرّأت من حولي إليك وأيقنت ... برحماك آمالي فصحّ (6) يقيني
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي (7) ... وحسبي يقيني باليقين (8) يقيني
__________
(1) في الأصل: «وتغتد» بدون ياء.
(2) في الأصل: «يرتد» بدون ياء.
(3) في الأصل: «لها» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «مرشد» بدون ياء.
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 259) ونفح الطيب (ج 8ص 242).
(6) في المصدرين: «أصحّ».
(7) في النفح: «ملجأ».
(8) في الكتيبة: «فاليقين».(3/341)
ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطّه، قال مما نظمه فلان، يعني نفسه في كتاب الشّفا، نفع الله به: [الكامل]
سل بالعلى وسنى المعارف يبهر ... هل زانها إلّا الأئمّة معشر؟
وهل المفاخر (1) غير ما شهدت به ... آي الكتاب وخارتها الأعصر؟
هم ما هم شرفا ونيل مراتب ... يوم القيام إذا يهول المحشر
ورثوا الهدى عن خير مبعوث به ... فخرا هديّهم النعيم (2) الأكبر
وعياض (3) الأعلى قداحا في العلى ... منهم وحوّله الفخار الأظهر
بشفائه (4) تشفى الصدور وإنه ... لرشاد نار بالشّهاب (5) النّيّر
هو للتّوالف روح صورتها وقل ... هو تاج مفرقها البهيّ الأنور
أفنت محاسنه المدائح مثل ما ... لمعيده بعد الثناء الأعطر
وله اليد البيضاء في تأليفه ... عند الجميع ففضلها لا ينكر
هو مورد الهيم العطاش هفت ... بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر
فبه ننال من الرضى ما نبتغي ... وبكونه فينا نغاث ونمطر
انظر إليه تميمة من كل ما ... تخشى من الخطب المهول وتحذر
لكأنّني بك يا عياض مهنأ ... بالفوز والملأ العليّ مبشّر
لكأنّني بك يا عياض منعّما ... بجوار أحمد يعتلي بك مظهر
لكأنّني بك يا عياض متوّجا ... تاج الكرامة عند ربّك تخبر
لكأنّني بك راويا من حوضه ... إذ لا صدى ترويه إلّا الكوثر
فعلى محبّته طويت ضمائرا ... وضحت شواهدها بكتبك تؤثر
ها إنّهن لشرعة الهادي الرّضا ... صدف يصان بهن منها جوهر
فجزاك ربّ العالمين تحية ... يهب النعيم سريرها والمنبر
وسقى هزيم الودق مضجعك الذي ... ما زال بالرّحمى يؤمّ ويعمر
__________
(1) في الأصل: «للمفاخر» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «هديهم للنعيم» وهكذا ينكسر الوزن. والهديّ: ما أهدي إلى الحرم من النّعم.
(3) هو الفقيه عياض بن موسى اليحصبي السبتي (544476هـ). وسوف يترجم له ابن الخطيب فيما بعد في الإحاطة. ويبدو أن القصيدة في مدح القاضي عياض والتنويه بكتابه «الشفا».
(4) يشير إلى كتاب القاضي عياض وهو «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».
(5) في الأصل: «به الشهاب» وهكذا ينكسر الوزن.(3/342)
وقال في محمل الكتب: [الطويل]
أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل ... بأني حليّ عن حلاهنّ تعدل
أقيّد ضروب العلم ما دمت قائما ... وإن لم أقم فالعلم عنّي بمعزل
خدمت بتقوى الله خير خليفة ... فبوّأني من قربه خير منزل
أبا سالم لا زال في الدهر سالما ... يسوّغ من شرب المنى كلّ منهل
وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعمائة في النوم، كأنّ الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه، فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين:
[المتقارب]
وإني لأجزي بما قد أتاه ... صديقي احتمالا لفعل الحفاء (1)
بتمكين ودّ وإثبات عهد ... وإجزال حمد وبذل حياء
ومن نظمه في التورية (2): [الخفيف]
وبخيل لمّا دعوه لسكنى ... منزل بالجنان ضنّ بذلك
قال لي مخزن بداري فيه ... جلّ (3) مالي فلست للدار تارك (4)
لا تعرّج على الجنان بسكنى ... ولتكن ساكنا بمخزن مالك (5)
ومن ذلك أيضا (6): [الكامل]
يا ربّ منشأة عجبت لشأنها ... وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبيها (7) عصابة شدّة ... حلّت محلّ الروح في الجثمان
فتحرّكت بإرادة مع أنها ... في جنسها (8) ليست من الحيوان
__________
(1) في الأصل: «الحرفاء» وهو لا معنى لها، وكذلك ينكسر الوزن. والحفاء: البرّ.
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 245).
(3) في النفح: «كلّ».
(4) في الأصل: «شاك» وهكذا بدون معنى، وكذلك ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) تورية بجهنّم لأن اسم خازنها من الملائكة مالك.
(6) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 258) ونفح الطيب (ج 8ص 245). وقد قيلت في وصف مركب أو سفينة.
(7) في الأصل: «بجنبها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(8) في الأصل: «حسنها» والتصويب من المصدرين.(3/343)
وجرت كما قد شاءه (1) سكّانها ... فعلمت أنّ السّر في السّكان (2)
ومن ذلك أيضا قوله (3): [الوافر]
وذي خدع دعوه لاشتغال ... وما عرفوه غثّا من سمين
فأظهر (4) زهده وغنى بمال ... وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت (5) يمين (6) خبّ ... فيا عجبا لحلاف (7) مهين
يقدّ بسيره ويمين حلف (8) ... ليأكل باليسار وباليمين
شيء من نثره خاطبته من مدينة سلا بما نصه، حسبما يظهر من غرضه: [الطويل]
مرضت فأيّامي لذاك مريضة ... وبرؤك مقرون ببرئي اعتلالها
فما راع ذاك الذّات للضّرّ رائع ... ولا وسمت بالسّقم غرّ خلالها
وينظر باقي الرسالة في خبر التّعريف بمؤلّف الكتاب.
فراجعني عن ذلك بما نصّه: [الطويل]
متى شئت ألقى من علائك كل ما ... ينيل من الآمال خير منالها
كبر اعتلال من دعائك زارني ... وعادات برّ لم ترم عن وصالها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطوّلا بتأكيد البرّ، متفضّلا بموجبات الحمد والشكر. وردتني سمات سيدي المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغنيّ عن تعريفه، متحفّيا في السؤال عن شرح الحال، ومعلنا ما تحلّى به من كرم الخلال، والشّرف العال، والمعظّم على ما يسرّ ذلك الجلال، الوزاري، الرئاسي، أجراه الله على أفضل ما عوّده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعائه الصالح، وحبّه
__________
(1) في الأصل: «شاء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) أخذه من المثل: «الشأن في السكان لا في المكان». وهنا يورّي بكلمة «السكان» التي تعني أيضا الخشبة التي تدار بها السفينة، أي دفّة السفينة.
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 458) ونفح الطيب (ج 8ص 246).
(4) في الكتيبة: «فيظهر».
(5) في الكتيبة: «قبلت».
(6) في الأصل: «بمن خبّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين. والخبّ: الخدّاع.
(7) في الأصل: «لخلاف»، والتصويب من المصدرين.
(8) في المصدرين: «يغرّ بيسره ويمين حنث».(3/344)
المخيّم بين الجوانح. والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهو سبحانه المسؤول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر، على ما يسرّه في الباطن والظاهر، بمنّ الله وفضله، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته. كتبه المعظّم الشاكر، الداعي المحبّ، ابن رضوان وفّقه الله.
ومما خاطبني به، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم، رقاع، فيها سلم وإيقاع، ما نصه:
يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا، وسما فخره في المراتب الدينيّة والدنيوية حمدا وأجرا، أبقاك الله جميل السّعي، أصيل الرأي، سديد الرمي، رشيد الأمر والنّهي، ممدوحا من بلغاء زمانك، بما يقصر بالنّوابغ والعشي، مفتوحا لك باب القبول، عند الواحد الحقّ. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية، وللإحسان غاية، ولشاهد الحسن تبريز، ولثوب الأدب تطريز، وفي النّقد إبريز، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجائبه، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه، من كل أسلوب طار في الجو إعرابا وإغرابا، وملك من سحر البيان خطابا، وحمد ثناه مطالا وحديثا مطابا، شأن من قصر عن شأو البلغاء، بعد الإغياء، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء، فلم يشقّ غباره، ولا اقتفيت إلّا بالوهم آثاره، فلله من سيدي إتحاف سرّ ما شاء، وأحكم الإنشاء، وبرّ الأكابر والإنشاء، فما شئت من إفصاح وكتابة، وبرّ ورعاية، وفهم وإفهام، وتخصيص وإبهام، وكبح لطرف النّفس وقمع، وحفض في الجواب ورفع، وتحرّج وتورّع، وترقّص وتوسّع، وجماع وأصحاب، وعتب وإعتاب، وإدلال على أحباب، إلى غير ذلك من أنواع الأغراض، والمقاصد السّالمة جواهرها من الأعراض، جملة جمعت المحاسن، وأمتعت السامع والمعاين، وحلّت من امتناعها مع السهولة الحرم، إلّا من زاد الله تلك المعارف ظهورا، وجعلها في شرع المكارم هدى ونورا. وأما شكر الجناب الوزاري، أسماه الله، بحكم النّيابة عن جلالكم، فقد أبلغت فيه حمدي، وبذلت ما عندي، وودّي لكم ودي، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي، وكل حالات ذلك الكمال، مجمع على تفضيله، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤدّيه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم، قاضي الحضرة وخطيبها، أبو الحسن، أدام الله عزّته، وحفظ أخوّته، فقد قرّر من أوصاف كمالاتكم، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولي العلم بتلك السّجايا الغرّ، والشّيم الزّهر، وما تحلّيتم به من التقوى والبرّ، والعدل والفضل، والصبر والشكر، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد، وترك الملاذ والدّعة في مرضاة
ربّ العباد، والإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها، وأجزلت عوارفها، وجمعت لكم تالدها وطارفها، زكّى الله ثوابها وجدّد أثوابها، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضا من حسناتكم، المنقبة الكبيرة، والقربة الأثيرة، في إقامة المارستان (1) بالحضرة، والتّسبّب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة، التي هي من مهمّات المسلمين بالمحلّ الأعلى، ومن ضروريات الدين بالمزيّة الفضلى، وما ذخره القدر لكم من الأجر في ذلك السعي المشكور، والعمل المبرور، فسرّني لتلك المجادة إحراز ذلك الفضل العظيم، والفوز بثوابه الكريم، وفخره العميم. ومعلوم، أبقاكم الله، ما تقدّم من ضياع الغرباء والضعفاء من المضي فيما سلف هنالك، وقبل ما قدّر لهم من المرتفق العظيم وبذلك، حتى أن من حفظ قول عمر، رضي الله عنه، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدّم من أهل الأمر هنالكم، لا بدّ من سؤاله عمّن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصّكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بخليفة خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه.(3/345)
يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا، وسما فخره في المراتب الدينيّة والدنيوية حمدا وأجرا، أبقاك الله جميل السّعي، أصيل الرأي، سديد الرمي، رشيد الأمر والنّهي، ممدوحا من بلغاء زمانك، بما يقصر بالنّوابغ والعشي، مفتوحا لك باب القبول، عند الواحد الحقّ. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية، وللإحسان غاية، ولشاهد الحسن تبريز، ولثوب الأدب تطريز، وفي النّقد إبريز، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجائبه، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه، من كل أسلوب طار في الجو إعرابا وإغرابا، وملك من سحر البيان خطابا، وحمد ثناه مطالا وحديثا مطابا، شأن من قصر عن شأو البلغاء، بعد الإغياء، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء، فلم يشقّ غباره، ولا اقتفيت إلّا بالوهم آثاره، فلله من سيدي إتحاف سرّ ما شاء، وأحكم الإنشاء، وبرّ الأكابر والإنشاء، فما شئت من إفصاح وكتابة، وبرّ ورعاية، وفهم وإفهام، وتخصيص وإبهام، وكبح لطرف النّفس وقمع، وحفض في الجواب ورفع، وتحرّج وتورّع، وترقّص وتوسّع، وجماع وأصحاب، وعتب وإعتاب، وإدلال على أحباب، إلى غير ذلك من أنواع الأغراض، والمقاصد السّالمة جواهرها من الأعراض، جملة جمعت المحاسن، وأمتعت السامع والمعاين، وحلّت من امتناعها مع السهولة الحرم، إلّا من زاد الله تلك المعارف ظهورا، وجعلها في شرع المكارم هدى ونورا. وأما شكر الجناب الوزاري، أسماه الله، بحكم النّيابة عن جلالكم، فقد أبلغت فيه حمدي، وبذلت ما عندي، وودّي لكم ودي، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي، وكل حالات ذلك الكمال، مجمع على تفضيله، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤدّيه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم، قاضي الحضرة وخطيبها، أبو الحسن، أدام الله عزّته، وحفظ أخوّته، فقد قرّر من أوصاف كمالاتكم، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولي العلم بتلك السّجايا الغرّ، والشّيم الزّهر، وما تحلّيتم به من التقوى والبرّ، والعدل والفضل، والصبر والشكر، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد، وترك الملاذ والدّعة في مرضاة
ربّ العباد، والإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها، وأجزلت عوارفها، وجمعت لكم تالدها وطارفها، زكّى الله ثوابها وجدّد أثوابها، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضا من حسناتكم، المنقبة الكبيرة، والقربة الأثيرة، في إقامة المارستان (1) بالحضرة، والتّسبّب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة، التي هي من مهمّات المسلمين بالمحلّ الأعلى، ومن ضروريات الدين بالمزيّة الفضلى، وما ذخره القدر لكم من الأجر في ذلك السعي المشكور، والعمل المبرور، فسرّني لتلك المجادة إحراز ذلك الفضل العظيم، والفوز بثوابه الكريم، وفخره العميم. ومعلوم، أبقاكم الله، ما تقدّم من ضياع الغرباء والضعفاء من المضي فيما سلف هنالك، وقبل ما قدّر لهم من المرتفق العظيم وبذلك، حتى أن من حفظ قول عمر، رضي الله عنه، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدّم من أهل الأمر هنالكم، لا بدّ من سؤاله عمّن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصّكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بخليفة خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه.
وأما «كتاب المحبة» (2)، فقد وقف المعظّم على ما وجّهتهم منه، وقوفا ظهر بمزية التّأمل، وعلم منه ما ترك للآخر الأول، ولم يشكّ في أنّ الفضل للحاكي، وشتّان بين الباكي والمتباكي. حقّا لقد فاق التأليف جمعا وترتيبا، وذهب في الطّرق الصوفية مذهبا عجيبا. ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوّة حسنا ونضارة، وبرعت بدائعه وروائعه سنى وإنارة، وألفاظا مختارة، وكؤوسا مدارة، وغيوثا من البركات مدرارة، أحسن بما أدّته تلك الغرر السّافرة، والأمثال السائرة، والخمائل النّاظرة، واللآلئ المفاخرة، والنجوم الزّاهرة. أما إنه لكتاب تضمّن زبدة العلوم، وثمرة الفهوم، وإن موضوعه للباب اللّباب، وخلاصة الألباب، وفذلكة الحساب، وفتح الملك الوهّاب، سنى الله لكم ولنا كماله، وبلّغ الجميع منّا آماله، وجعل السّعي فيه
__________
(1) هو المارستان الكبير الذي أقامه ابن الخطيب بالحاضرة غرناطة في أثناء توليه الوزارة في عهد الغني بالله السلطان محمد بن يوسف بن إسماعيل النصري. وقد تحدّث عنه ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة عند ترجمة الغني بالله في عنوان: «بعض مناقب الدولة لهذا العهد».
(2) «كتاب المحبة» لابن الخطيب، وله اسم آخر هو «روضة التعريف بالحب الشريف».(3/346)
خالصا لوجهه، وكفيلا بمعرفته بمنّه وكرمه، وهو سبحانه يبقي بركتكم، ويكلأ ذاتكم الكريمة وحوزتكم، بفضله وطوله وقوته، والسلام الكريم يخصّكم به كثيرا أثيرا، معظّم مقداركم، وملتزم إجلالكم وإكباركم، ابن رضوان، وفّقه الله، وكتب في الثامن والعشرين لرجب من عام سبعة وستين وسبعمائة.
وهو الآن بحاله الموصوفة، أعانه الله. وله تردّد إلى حضرة غرناطة، واجتياز وإلمام.
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد ابن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر
غرناطي، قلعي (1) الأصل، سكن مالقة.
حاله: قال صاحب «الطالع» (2): هو المشهور باليربطول (3)، زاد على أخيه بخفّة الروح، وطيب النوادر، واختار سكنى مالقة، فما زال بها يمشي على كواهل ما تعاقب فيها من الدول، ويقلّب طرفه مما نال من ولاياتها بين الخيل والخول، حتى أنّ ابن عسكر، قاضي مالقة وعالمها، كان من جملة من مدحه، وتوسّل بها إلى بلوغ أغراضه عند القوم، وصنّف له شجرة الأنساب السّعيدية. وكان قبيح المنظر، مع كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك، أنه دخل يوما على الوالي بغرناطة، السّيد أبي إبراهيم (4)، وجعل يساره، وكان مختصّا به، واقتضى ذلك أن ردّ ظهره للشيخ الفقيه الجليل، عميد البلدة، أبي الحسن سهل بن مالك، ثم التفت فردّ وجهه إليه، وقال: أعتذر لكم بأمر ضروري، فقال أبو الحسن: إنما تعتذر لسيّدنا، فانقلب المجلس ضحكا. ومنها أنه خرج إلى سوق الدواب مع ابن يحيى الحضرمي
__________
(1) نسبة إلى قلعة يحصب أي القلعة الملكية، ويحصب قبيلة، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب، أو القلعة السعدية، أي قلعة بني سعيد. وهي إحدى مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 62).
(2) هو كتاب «الطالع السعيد، في تاريخ بني سعيد» لابن سعيد الأندلسي، صاحب كتابي المغرب ورايات المبرزين.
(3) أغلب الظن أنها كلمة إسبانية.
(4) هو السيد أبو إبراهيم ابن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 387).(3/347)
المشهور أيضا بخفّة الروح، وكان مسلّطا على بني سعيد، فبينما هو واقف، إذ النخّاس ينادي على فرس: فم يشرب من القادوس، وعين تحصد بالمنجل، فقال له:
يا قائد، أبا محمد، سر بنا من هنا لئلّا تؤخذ من يدي، ولا أقدر لك بحيلة، فعلم مقصده، ولم يخف عليه أنّ تلك صورته، فقال: سل جارتك عنها، فمضى لأمّه، وأوقع بينها وبينه، فحلف أن لا يدخل عليها الدار. قال أبو عمران بن سعيد: واتفق أن جزت بدار أمّ الحضرمي، فرأيته إلى ناحية، وهو كئيب منكسر، فقلت له: ما خبرك يا أبا يحيى؟ فقال لي عن أمّه وعن نفسه: النساء يرمين أبناء الزّنا صغارا، وهذه العجوز الفاعلة الصّانعة، ترميني ابن خمسين سنة، فقلت له: وما سبب ذلك؟
فقال: ابن عمّك يوسف الجمال، لا أخذ الله له بيد، فما زلت حتى أصلحت بينها وبينه.
ومن نوادر أجوبته المسكتة، أنّه كان كثير الخلطة بمرّاكش لأحد السّادة، لا يفارقه، إلى أن ولي ذلك السّيد، وتموّل، واشتغل بدنياه عنه، فقيل له: نرى السيد فلانا أضرب عن صحبتك ومنادمتك، فقال: كان يحتاج إليّ وقتا كان يتبخّر بي، وأمّا اليوم، فإنه يتبخّر بالعود والنّدّ والعنبر. وقال له شخص كان يلقّب ب «فسيوات» في مجلس خاص: أي فائدة في «اليربطول»؟ وفيم ذا يحتاج إليه؟ فقال له: لا تقل هذا، فإنه يقطع رائحة الفسا، فودّ أنه لم ينطق. وتكلّم شخص من المترفين فقال: أمس بعنا الباذنجان التي بدار خالتي، بعشرين مثقالا، فقال: لو بعتم الكريز التي فيها لساوى أكثر من مائة.
وأخباره شهيرة قال أبو الحسن علي بن موسى: وقعت في رسائل الكاتب الجليل، شيخ الكتاب أبي زيد الفازازي، على رسائل في حق أبي محمد اليربطول، ومنه إليه، فمنها في رسالة عن السّيد أبي العلاء، صاحب قرطبة، إلى أخيه أبي موسى صاحب مالقة، ويصلكم به إن شاء الله، القائد الأجلّ الأكرم، الحسيب الأمجد الأنجد، أبو محمد أدام الله كرامته، وكتب سلامته، وهو الأكيد الحرمة، القديم الخدمة، المرعي الماتّة والذّمّة، المستحق البرّ في وجوه كثيرة، ولمعان أثيرة، منها أنه من عقب عمّار بن ياسر، رضوان الله عليه، وحسبكم هذا مجدا مؤثّلا، وشرفا موصلا، ومنها تعيّن بيته وسلفه، واختصاصهم من النّجابة والظهور، بأنوه الاسم وأشرفه، وكونهم بين معتكف على مضجعه، أو مجاهد بمرهفه ومثقّفه، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز، وتميّزهم بأثرة الشّفوف والتّمييز، ومنها الانقطاع إلى أخيكم، ممدّ مورده ومصدره، وكرم مغيبه ومحضره، وهذه وسائل شتى، وأذمّة قلّ ما تتأتّى لغيره.(3/348)
وفاته: كانت وفاته بمالقة بعد عشرين وستمائة قال الرئيس أبو عمر بن حكم:
شاهدته قد وصل إلى السيد أبي محمد البيّاسي (1) أيام ثورته، وهو بشنتلية (2) مع وفد مالقة بالبيعة سنة ثنتين وعشرين وستمائة.
ومن الصوفية والفقراء
عبد الله بن عبد البر بن سليمان بن محمد بن محمد ابن أشعث الرّعيني (3)
من (4) أهل أرجدونة (5) من كورة ريّه، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن أبي المجد.
حاله: كان (6) من أعلام الكور (7) سلفا، وترتّبا، وصلاحا، وإنابة، ونيّة في الصالحين، متّسع الذّرع للوارد، كثير الإيثار بما تيسّر، مليح التخلّق، حسن السّمت، طيّب النفس، حسن الظنّ، له حظّ من الطّلب، من فقه وقراءات وفريضة، وخوض في طريقة الصوفية، وأدب لا بأس به، قطع عمره خطيبا وقاضيا ببلده، ووزيرا، وكتب بالدار السلطانية، في كل ذلك لم يفارق السّداد.
مشيخته: قرأ (8) على الأستاذ الجليل أبي جعفر بن الزّبير رحل إليه من وطنه عام اثنين وتسعين وستمائة، ولازمه وانتفع به، أخذ عنه الكتاب العزيز والعربية، وسمع عليه الكثير من الحديث، وعلى الخطيب الصوفي المحقّق أبي الحسن فضل بن محمد بن فضيلة المعافري، وعلى الخطيب المحدّث أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد، وسمع على الشيخ القاضي الرّاوية أبي محمد النّبعدي، والوزير المعمر
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، عرف بالبياسي نسبة إلى بياسة التي استولى عليها. ولّاه العادل الموحدي قرطبة، فخلع دعوة العادل في سنة 623هـ، وخرج عن طاعة الموحدين، واستعان بالنصارى عليهم، فقام أهل قرطبة عليه وقتلوه وبعثوا برأسه إلى العادل بمراكش. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 273271).
(2) شنتلية أو شنت ياله: حصن قريب من حصن بلاي، يبعد عن قرطبة 23ميلا، ويقع غربي مدينة استجة ويبعد عنها 15ميلا. نزهة المشتاق (ص 572).
(3) ترجمة الرعيني في الكتيبة الكامنة (ص 52) ونفح الطيب (ج 7ص 432) وهو فيه:
«عبد الله بن عبد البرّ بن علي بن سليمان بن محمد بن أشعب الرعيني».
(4) قارن بنفح الطيب (ج 7ص 432).
(5) أرجدونه أو أرشذونة: بالإسبانية وهي قاعدة كورة ريّه، تقع قبليّ قرطبة. الروض المعطار (ص 25).
(6) قارن بنفح الطيب (ج 7ص 432).
(8) قارن بنفح الطيب (ج 7ص 432).
(7) في النفح: «الكورة».(3/349)
المحدّث الحسيب أبي محمد عبد المنعم بن سماك العاملي، والعدل الرّاوية أبي الحسن بن مستقور. وقرأ بمالقة على الأستاذ أبي بكر بن الفخّار، وأجازه من أهل المشرق طائفة.
شعره: ممّا حدّثني ابن أخته صاحبنا أبو عثمان بن سعيد، قال: نظم الفقيه القاضي الكاتب أبو بكر بن شبرين ببيت الكتّاب مألف الجملة، رحمهم الله، هذين البيتين (1): [الطويل]
ألا يا محبّ المصطفى، زد صبابة ... وضمّخ لسان الذّكر منه بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حبّ الله حبّ حبيبه
فأخذ الأصحاب في تذييل ذلك. فقال الشيخ أبو الحسن بن الجيّاب، رحمه الله (2): [الطويل]
فمن يعمر الأوقات طرّا بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه
ومن كان عنه معرضا طول دهره (3) ... فكيف يرجّيه شفيع ذنوبه؟
وقال أبو القاسم بن أبي القاسم بن أبي العافية (4): [الطويل]
أليس الذي جلّى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به؟
ومن لم يكن من دأبه (5) شكر منعم ... فمشهده (6) في الناس مثل مغيبه
وقال أبو بكر بن أرقم (7): [الطويل]
نبيّ هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرتقى سامي المحلّ خصيبه
فهل يذكر (8) الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه؟
وانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد بن أبي المجد، فقال، رحمه الله، مذيّلا كذلك (9): [الطويل]
ومن قال مغرورا: حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه
وذكر رسول الله فرض مؤكّد ... وكلّ محقّ قائل بوجوبه
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 430).
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 431).
(4) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 431).
(7) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 431).
(9) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 431).
(3) في النفح: «عمره».
(5) في النفح: «من ذاته».
(6) المراد ب «مشهده»: شهوده، أي حضوره.
(8) في النفح: «ينكر».(3/350)
وقال يوما شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختبار الأذهان (1): [الخفيف]
جاهد النّفس جاهدا فإذا ما ... فنيت عنك فهي عين الوجود
وليكن حكمك (2) المسدّد فيها ... حكم سعد (3) في قتله لليهود
قال: فأجابه أبو محمد بن أبي المجد (4): [الخفيف]
أيها العارف المعبّر ذوقا ... عن معان غزيرة في الوجود
إنّ حال الفناء (5) عن كلّ غير ... كمقام (6) المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدويّ (7) مظاهر بجنود؟
ولو أنّي حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جدّ سعيد
فأراها صبابة (8) بي فتونا ... وأراني في حبّها كيزيد
سوف أسلو بحبكم (9) عن سواها ... ولو أبدت فعل المحبّ الودود
ليس شيء سوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد (10)
وفاته: توفي، رحمه الله، ليلة النصف من شعبان المكرم عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. وكان يجمع الفقراء ويحضر طائفتهم، وتظهر عليه حال لا يتمالك معها، وربما أوحشت من لا يعرفه بها.
عبد الله بن فارس بن زيان
من بني عبد الوادي، تلمساني، يكنى أبا محمد، وينتمي إلى بني زيّان من بيت أمرائهم.
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 431).
(2) في النفح: «حكمها».
(3) هو سعد بن معاذ، سيّد الأنصار، حكّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم، في يهود بني قريظة.
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 432431).
(5) في الأصل: «الفنا» وكذا لا يستقيم الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «لمقام» والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «وعدوّه»، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «حبابة».
(9) في النفح: «بنصحكم عن هواها».
(10) يشير إلى قول لبيد بن ربيعة العامري: [الطويل]
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم، لا محالة، زائل
ديوان لبيد بن ربيعة العامري (ص 132).(3/351)
كذا نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الطاهر (1) قاضي الجماعة أبي جعفر بن فركون، وله بأحواله عناية، وله إليه تردّد كثير وزيارة. قال: ورد الأندلس مع أبيه، وهو طفل صغير، واستقرّ بقتّورية في ديوان غزانها. ولما توفي أبوه سلك مسلكه برهة، ورفض ذلك، وجعل يتردّد بين الولد، وانقطع لشأنه.
حاله: هذا الرجل غريب النّزعة في الانقطاع عن الخلق، ينقطع ببعض جبال بني مشرف، واتخذ فيها كهوفا وبيوتا من الشّعر أزيد من أربعين عاما، وهلمّ جرّا، منفردا، لا يداخل أحدا، ولا يلابسه من العرب، ويجعل الحلفاء في عنقه (2)
اختلف فيه، فمن ناسب ذلك إلى التّلبيس وإلى لوثة تأتيه، وربما أثاب بشيء، ويطلبون دعاءه ومكالمته، فربما أفهم، وربما أبهم.
محنته: ذكروا أنه ورث عن أخ له مالا غنيّا، وقدم مالقة، وقد سرق تاجر بها ذهبا عينا، فاتّهم بها، فجرت عليه محنة كبيرة من الضّرب الوجيع، ثم ظهرت براءته، وطلب الحاكم الجائر منه العفو، فعفا عنه، وقال: لله عندي حقوق وذنوب، لعلّ بهذا أكفّرها، وصرف عليه المال فأباه، وقال: لا حاجة لي به فهو مال سوء، وتركه وانصرف، وكان من أمر انقطاعه ما ذكر.
شيء من أخباره: استفاض عنه بالجهة المذكورة شفاء المرضى، وتفريج الكربات (3)، إلى غير ذلك من أخبار لا تحصى كثيرة. وهو إلى هذا العهد بحاله الموصوفة، وهو عام سبعين وسبعمائة.
مولده: بتلمسان عام تسعين وستمائة. ودخل غرناطة غير ما مرة.
عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي (4)
يعرف بابن العسّال، ويكنى أبا محمد، طليطلي الأصل. سكن غرناطة واستوطنها، الصالح المقصود التّربة، المبرور البقعة، المفزع لأهل المدينة عند الشّدة.
__________
(1) بياض في الأصول.
(2) بياض في الأصول.
(3) بياض في الأصول.
(4) ترجمة ابن العسال في الصلة (ص 435) والمغرب (ج 2ص 21) ورايات المبرزين (ص 140) وفيهما: «أبو محمد عبد الله العسال». ومعجم السفر (ص 223) وفيه أنه: «عبد الله بن محمد بن أحمد الطليطلي الواعظ، المعروف بابن العسال» ونفح الطيب (ج 4ص 183، 200) و (ج 6ص 121).(3/352)
حاله: قال ابن الصّيرفي: كان، رحمه الله، فذّا في وقته، غريب الجود، طرفا في الخير والزهد والورع، له في كل جو متنفّس، يضرب في كل علم بسهم، وله في الوعظ تواليف كبيرة، وأشعاره في الزهد مشهورة، جارية على ألسنة الناس، أكثرها كالأمثال جيّدة الرّصعة، صحيحة المباني والمعاني. وكان يحلّق في الفقه، ويجلس للوعظ. وقال الغافقي (1): كان فقيها جليلا، زاهدا، متفنّنا، فصيحا لسنا، الأغلب عليه حفظ الحديث والآداب والنحو، حافظا، عارفا بالتفسير، شاعرا مطبوعا. كان له مجلس، يقرأ عليه فيه الحفظ والتفسير، ويتكلّم عليه، ويقصّ (2) من حفظه أحاديث.
وألّف في أنواع من العلوم، وكان يعظ الناس بجامع غرناطة، غريبا في قوته، فذّا في دهره، عزيز الوجود.
مشيخته: روى (3) عن أبي محمد مكّي بن أبي طالب، وأبي عمرو المقرئ الدّاني، وأبي عمر بن عبد البرّ، وأبي إسحاق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الزاهد، وعن أبيه فرج، وعن أبي زيد الحشاء القاضي، وعن القاضي أبي الوليد الباجي.
شعره: وشعره كثير، ومن أمثل ما روي منه قوله: [مخلع البسيط]
لست وجيها لدى إلهي ... في مبدإ الأمر والمعاد
لو كنت وجها (4) لما براني ... في عالم الكون والفساد
وفاته: توفي، رحمه الله، يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان عام سبعة وثمانين وأربعمائة، وألحد ضحى يوم الثلاثاء بعده بمقبرة باب إلبيرة بين الجبانتين. ويعرف المكان إلى الآن بمقبرة العسّال. وكان له يوم مشهود، وقد نيّف على الثمانين، رحمه الله، ونفع به.
ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [بن محمد] (5)
ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن ابن معاوية، أمير المؤمنين، الناصر لدين الله (6)
الخليفة الممتّع، المجدود، المظفّر، البعيد الذكر، الشهير الصيت.
__________
(1) قارن بالصلة (ص 435).
(3) قارن بالصلة (ص 435).
(2) في الصلة «وينصّ».
(4) في الأصل: «وجيها» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) ما بين قوسين ساقط في الأصول، وقد أضفناه من المصادر التي ترجمت لعبد الرحمن الناصر.
(6) ترجمة عبد الرحمن الناصر في تاريخ علماء الأندلس (ص 31) وأعمال الأعلام (القسم الثاني(3/353)
حاله: كان أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين. أول من تسمّى أمير المؤمنين، ولي الخلافة فعلا جدّه، وبعد صيته، وتوطّأ ملكه، وكأن خلافته كانت شمسا نافية للظلمات، فبايعه أجداده وأعمامه وأهل بيته، على حداثة السّن، وجدة العمر، فجدّد الخلافة، وأحيا الدعوة، وزيّن الملك، ووطّد الدولة، وأجرى الله له من السّعد ما يعظم عنه الوصف ويجلّ عن الذكر، وهيّأ له استنزال الثوار والمنافقين واجتثاث جراثيمهم.
بنوه: أحد عشر (1)، منهم الحكم الخليفة بعده، والمنذر، وعبد الله، وعبد الجبار.
حجّابه: بدر مولاه، وموسى بن حدير.
قضاته (2): جملة، منهم: أسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن بقيّ، ومنذر بن سعيد البلوطي.
نقش خاتمه: «عبد الرحمن بقضاء الله راض».
أمّه: أمّ ولد تسمى مزنة. وبويع له في ربيع الأول من سنة تسع وتسعين ومائتين (3).
دخوله إلبيرة: قال المؤرخ (4): أول غزوة غزاها بعد أن استحجب بدرا مولاه، وخرج إليها يوم الخميس رابع (5) عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثمائة، مفوّضا إليه، ومستدعيا نصره، واستئلاف الشّاردين، وتأمين الخائفين، إلى ناحية كورة جيّان، وحصن المنتلون، فاستنزل منه سعيد بن هذيل، وأناب إليه من كان نافرا عن الطاعة، مثل ابن اللّبّانة، وابن مسرّة، ودحون الأعمى. وانصرف إلى قرطبة، وقد تجوّل، وأنزل كلّ من بحصن من حصون كورة جيان، وبسطة، وناجرة، وإلبيرة، وبجّانة،
__________
ص 28) والحلة السيراء (ج 1ص 197) وأخبار مجموعة (ص 135) وجذوة المقتبس (ص 12) وبغية الملتمس (ص 17) والمعجب (ص 54) ووفيات الأعيان (ج 4ص 479) وجمهرة أنساب العرب (ص 100) وكتاب العبر (م 4ص 298) والمغرب (ج 1ص 181) والبيان المغرب (ج 2ص 156) ورسائل ابن حزم (ج 2ص 193) وجمهرة أنساب العرب (ص 100) وأزهار الرياض (ج 2ص 257) وصفحات متفرقة من نفح الطيب.
(1) أي أحد عشر ذكرا، كما جاء في الجمهرة.
(2) قارن بالبيان المغرب (ج 2ص 156).
(3) الصواب مستهل ربيع الأول سنة ثلاثمائة، كما جاء في مصادر ترجمته.
(4) قارن بالبيان المغرب (ج 2ص 161160).
(5) في البيان المغرب: «يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت».(3/354)
والبشرّة، وغيرها، بعد أن عرض نفسه عليها. وعلى عهده توفي ابن حفصون (1).
وجرت عليه هزيمة الخندق في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة (2)، وطال عمره، فملك نيفا وخمسين سنة، ووجد بخطّه: أيام السّرور التي صفت لي دون كدر يوم كذا ويوم كذا، فعدّت، فوجدت أربعة عشر يوما.
وفاته: في أول رمضان من سنة خمسين وثلاثمائة (3).
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية (4)
يكنى أبا المطرّف، ويلقب بالمرتضى.
حاله وصفته: كان أبيض أشقر أقنى، مخفّف البدن، مدوّر اللحية، خيّرا، فاضلا، من أهل الصلاح والتّقى، قام بدولته خيران العامري، بعد أن كثر السؤال عن بني أمية، فلم يجد فيهم أسدى للخلافة منه، بورعه وعفافه ووقاره، وخاطب في شأنه ملوك الطوائف على عهده، فاستجاب الكلّ إلى الطاعة بعد أن أجمع الفقهاء والشيوخ وجعلوها شورى، وانصرفوا يريدون قرطبة، وبدأوا بصنهاجة بالقتال، فكان نزوله بجبل شقشتر على محجة واط.
وفاته: (5) يوم لثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة. وكانت الهزيمة على عساكر المرتضى، فتركوا المحلات وهربوا، وفشى فيهم القتل، وظفرت صنهاجة من المتاع والأموال بما يأخذه الوصف، وقتل المرتضى في تلك الهزيمة، فلم يوقع له على أثر، وقد بلغ سنّه نحو أربعين.
__________
(1) توفي عمر بن حفصون سنة 306هـ.
(2) جاء في أخبار مجموعة (ص 137) أن الناصر هزم عام 326هـ في غزاة اسمها القدرة، أقبح هزيمة، لم تكن له بعدها غزوة بنفسه.
(3) في الحلة السيراء: توفي في ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 350هـ.
(4) ترجمة المرتضى في جذوة المقتبس (ص 22) وبغية الملتمس (ص 27) ورسائل ابن حزم (ج 2 ص 58) وجمهرة أنساب العرب (ص 101) والمعجب (ص 98) والكامل في التاريخ (ج 9 ص 271) وأعمال الأعلام القسم الثاني (ص 130) وصبح الأعشى (ج 5ص 237) وفيها اسم جدّه: «عبد الملك» بدلا من «عبد الله»، والمغرب (ج 2ص 247) والبيان المغرب (ج 3 ص 121) والذخيرة (ق 1ص 453) ونفح الطيب (ج 2ص 29).
(5) هنا نقص كلمة وهي تعيين اليوم الذي توفي فيه المرتضى، وعن ذلك قارن: بالبيان المغرب (ج 3ص 126) والذخيرة (ق 1ص 454) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 131، 138، 229). وجاء في الكامل في التاريخ (ج 9ص 271): توفي المرتضى سنة 407هـ.(3/355)
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس (1)
يكنى أبا المطرّف، وقيل: أبا زيد، وقيل: أبا سليمان، وهو الداخل إلى الأندلس، والمجدّد الخلافة بها لذريته، والملقّب بصقر بني أمية (2).
حاله: قال ابن مفرّج: كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية راجح العقل، راسخ العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، فذّ العزم، بريئا من العجز، مستخفّا للثّقل، سريع النهضة، متّصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه. وعلى ذلك فكان شجاعا، مقداما، بعيد الغور، شديد الحذر، قليل الطّمأنينة، بليغا، مفوّها، شاعرا محسنا، سمحا، سخيا، طلق اللسان، فاضل البنان، يلبس البياض، ويعتمّ به ويؤثره. وكان أعطي هيبة من وليّه وعدوّه لم يعطها واحد من الملوك في زمانه. وقال غيره: وألفى الأمير عبد الرحمن الأندلس ثغرا من أنأى الثغور القاصية، غفلا من سمة الملك، عاطلا من حلية الإمامة، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية، وحرّكهم بالسّيرة الملوكية، ورفعهم بالآداب الوسطية، فألبسهم عمّا قريب المودّة، وأقامهم على الطريقة. وبدأ يدوّن الدواوين، وأقام القوانين، ورفع الأواوين، وفرض الأعطية، وأنفذ الأقضية، وعقد الألوية، وجنّد الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدّته.
نبذة من أوليّته: لمّا ظهر بنو العباس بالمشرق، ونجا فيمن نجا من بني أمية، معروفا بصفته عندهم، خرج يؤمّ المغرب لأمر كان في نفسه، من ملك الأندلس، اقتضاه حدثان، فسار حتى نزل القيروان، ومعه بدر مولاه، ثم سار حتى لحق بأخواله من نفزة، ثم سار بساحل العدوة في كنف قوم من زناتة، وبعث إلى الأندلس بدرا، فداخل له بها من يوثق به، وأجاز البحر إلى المنكّب، وسأل عنها، فقال: نكبوا عنها، ونزل بشاط من أحوازها، وقدم إليه أولو دعوته، وعقد اللّوا،
__________
(1) ترجمة عبد الرحمن الداخل في أخبار مجموعة (ص 49) وتاريخ افتتاح الأندلس (ص 46) وجذوة المقتبس (ص 8) وبغية الملتمس (ص 12) ووفيات الأعيان (ج 4ص 226) وصبح الأعشى (ج 5ص 448) وفوات الوفيات (ج 2ص 267) والبيان المغرب (ج 2ص 47) والحلة السيراء (ج 1ص 35) وكتاب العبر (م 4ص 262) ورسائل ابن حزم (ج 2ص 191) ونفح الطيب (ج 4ص 45) وصفحات أخرى متفرقة.
(2) لقبه في المصادر التي ترجمت له هو: «صقر قريش».(3/356)
وقصد قرطبة في خبر يطول، وحروب مبيرة، وهزم يوسف الفهري، واستولى على قرطبة، فبويع له بها يوم عيد الأضحى من سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن خمس وعشرين سنة.
دخوله إلبيرة: قالوا: ولمّا انهزم الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري، لحق بإلبيرة، فامتنع بحصن غرناطة، وحاصره الأمير عبد الرحمن بن معاوية، وأحاط به، فنزل على صلح، وانعقد بينهما عقد، ورهنه يوسف ابنيه أبا زيد وأبا الأسود، وشهد في الأمان وجوه العسكر، منهم أمية بن حمزة الفهري، وحبيب بن عبد الملك المرواني، ومالك بن عبد الله القرشي، ويحيى بن يحيى اليحصبي، ورزق بن النّعمان الغسّالي، وجدار بن سلامة المذحجي، وعمر بن عبد الحميد العبدري، وثعلبة بن عبيد الجذامي، والحريش بن حوار السلمي، وعتّاب بن علقمة اللخمي، وطالوت بن عمر اليحصبي، والجرّاح بن حبيب الأسدي، وموسى بن خالد، والحصين بن العقيلي، وعبد الرحمن بن منعم الكلبي، إلى آخرين سواهم، بتاريخ يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائة. نقلت أسماء من شهد، لكونهم ممن دخل البلدة، ووجب ذكره، فاجتزأت بذلك، فرارا من الإطالة، إذ هذا الأمر بعيد الأمد، والإحاطة لله.
بلاغته ونثره وشعره: قال الرّازي: قام بين يديه رجل من جند قنّسرين، يستنجد به، وقال له: يا ابن الخلائف الراشدين والسّادات الأكرمين، إليك فررنا، وبك عذت من زمن ظلوم، ودهر غشوم قلّل المال، وذهب الحال، وصيّر إليّ بذاك المنال، فأنت وليّ الحمد، وربى المجد، والمرجو للرّفد. فقال له ابن معاوية مسرعا: قد سمعنا مقالتك، فلا تعودنّ ولا سواك لمثله، من إراقة وجهك، بتصريح المسألة، والإلحاف في الطّلبة، وإذا ألمّ بك خطب أو دهاك أمر، أو أحرقتك حاجة فارفعه إلينا في رقعة لا تعدو ذكيا، تستر عليك خلّتك، وتكفّ شماتة العدوّ بك، بعد رفعها إلى مالكنا ومالكها عن وجهه، بإخلاص الدّعاء، وحسن النية. وأمر له بجائزة حسنة. وخرج الناس يعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه.
ومن شعره: قوله، وقد نظر إلى نخلة بمنية الرّصافة، مفردة، هاجت شجنه إلى تذكر بلاد المشرق (1): [الطويل]
تبدّت لنا وسط الرّصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل
__________
(1) الأبيات في الحلة السيراء (ج 1ص 37) والبيان المغرب (ج 2ص 60) ونفح الطيب (ج 4 ص 46).(3/357)
فقلت: شبيهي في التغرّب والنّوى ... وطول التّنائي عن بنيّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك (1) غوادي المزن من صوبها (2) الذي ... يسحّ ويستمري (3) السّماكين بالويل
وفاته: توفي بقرطبة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لربيع الآخر (4) سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهو ابن تسعة وخمسين عاما، وأربعة أشهر، وكانت مدّة ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر (5)، وأخباره شهيرة.
وجرى ذكره في الرّجز المسمى بقطع السلوك، في ذكر هذين من بني أمية، قولي في ذكر الداخل: [الرجز]
وغمر الهول كقطع الليل ... بفتنة الفهريّ والصّميل
وجلّت الفتنة في أندلس ... فأصبحت فريسة المفترس
فأسرع السّير إليها وابتدر ... وكلّ شيء بقضاء وقدر
صقر قريش عابد الرحمن ... باني المعالي لبني مروان
جدّد عهد الخلفاء فيها ... وأسّس الملك لمترفيها
ثم أجاب داعي الحمام ... وخلّف الأمر إلى هشام
وقام بالأمر الحفيد الناصر ... والناس محصور بها وحاصر
فأقبل السّعد وجاء النّصر ... وأشرق الأمن وضاء القصر
وعادت الأيام في شباب ... وأصبح العدو في تباب
سطا وأعطى وتغاضى ووفا ... وكلّما أقدره الله عفا
فعاد من خالف فيها وانتزى ... وحارب الكفّار دأبا وغزا
وأوقع الرّوم به في الخندق ... فانقلب الملك بسعي مخفق
واتصلت من بعد ذا فتوح ... تغدو على مثواه أو تروح
فاغتنموا السّلم لهذا الحين ... ووصّلت إرسال قسطنطين
__________
(1) في البيان المغرب: «سقاك».
(2) في النفح: «في المنتأى» بدلا من: «من صوبها».
(3) في الأصل: «ويستمرئ» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(4) في فوات الوفيات (ج 2ص 303): «توفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة».
(5) جاء في كتاب العبر (م 4ص 269) أن مدة حكمه ثلاث وثلاثون سنة.(3/358)
وساعد السّعد فنال واقتنى ... ثم بنى الزّهرا فيما قد بنى
حتى إذا ما كملت أيامه ... سبحان من لا ينقضي دوامه
عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن سعيد ابن محمد اللخمي
من أهل رندة وأعيانها، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الحكيم، وجدّه يحيى، هو المعروف بابن الحكيم، وقد تقدم ذكر جملة من هذا البيت.
حاله: كان، رحمه الله، عين بلده المشار إليه، كثير الانقباض والعزلة، مجانبا لأهل الدنيا، نشأ على طهارة وعفّة، مرضي الحال، معدودا في أهل النّزاهة والعدالة، وأفرط في باب الصّدقة بما انقطع عنه أهل الإثراء من المتصدّقين، ووقفوا دون شأوه.
ومن شهير ما يروى من مناقبه في هذا الباب، أنه أعتق بكل عضو من أعضائه رقبة، وفي ذلك يقول بعض أدباء عصره:
أعتق بكل عضو منه رقبه ... واعتدّ ذلك ذخرا ليوم العقبه
لا أجد منقبة مثل هذه المنقبه
مشيخته: روى عن القاضي الجليل أبي الحسن بن قطرال، وعن أبي محمد بن عبد الله بن عبد العظيم الزهري، وأبي البركات بن مودود الفارسي، وأبي الحسن الدّباج، سمع من هؤلاء وأجازوا له. وأجاز له أبو أمية بن سعد السّعود بن عفير، وأبو العباس بن مكنون الزاهد. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: وكان شيخنا القاضي العالم الجليل أبو الخطّاب بن خليل، يطنب في الثناء عليه، ووقفت على ما خاطبه به معربا عن ذلك.
شعره: منقولا من «طرفة العصر» من قصيدة يردّدها المؤذنون منها:
[البسيط]
كم ذا أعلل بالتّسويف والأمل ... قلبا تغلّب بين الوجد والوجل
وكم أجرّد أذيال الصّبا مرحا ... في مسرح اللهو وفي ملعب الغزل
وكم أماطل نفسي بالمتاب ولا ... عزم فيوضح لي عن واضح السّبل
ضللت والحقّ لا تخفى معالمه ... شتّان بين طريق الجدّ والهزل
وفاته: يوم الاثنين التاسع والعشرين لجمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة.(3/359)
عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجي (1)
يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الفرس، ويلقّب بالمهر، من أعيان غرناطة.
حاله: كان (2) فقيها جليل القدر، رفيع الذّكر، عارفا بالنحو واللغة والأدب، ماهر (3) الكتابة، رائق الشعر، بديع التّوشيح، سريع البديهة، جاريا على أخلاق الملوك في مركبه وملبسه وزيّه. قال ابن مسعدة (4): وطىء من درجات العزّ والمجد أعلاها، وفرع من الأصالة منتماها. ثم علت همّته إلى طلب الرّئاسة والملك، فارتحل إلى بلاد العدوة، ودعا إلى نفسه، فأجابه إلى ذلك الخلق الكثير، والجمّ الغفير، ودعوه باسم الخليفة، وحيّوه بتحيّة الملك. ثم خانته الأقدار، والدهر بالإنسان غدّار، فأحاطت به جيوش الناصر (5) بن المنصور، وهو في جيش عظيم من البربر، فقطع رأسه، وهزم جيشه، وسيق إلى باب الخليفة، فعلّق على باب مرّاكش، في شبكة حديد، وبقي به مدة من عشرين سنة (6).
قال أبو جعفر بن الزبير: كان أحد نبهاء وقته لولا حدّة كانت فيه أدّت به إلى ما حدّثني به بعض شيوخي من صحبه. قال: خرجنا معه يوما على باب من أبواب مراكش برسم الفرجة، فلمّا كان عند الرجوع نظرنا إلى رؤوس معلّقة، وتعوّذنا بالله من الشّرّ وأهله، وسألناه سبحانه العافية. قال: فأخذ يتعجب منّا، وقال: هذا خور طريقة وخساسة همّة، والله ما الشرف والهمّة إلّا في تلك، يعني في طلب الملك، وإن أدّى الاجتهاد فيه إلى الموت دونه على تلك الصّفة. قال: فما برحت الليالي والأيام، حتى شرع في ذلك، ورام الثورة، وسيق رأسه إلى مراكش، فعلق في جملة تلك الرءوس، وكتب عليه، أو قيل
__________
(1) ترجمة عبد الرحيم الخزرجي في التكملة (ج 3ص 60) والحلة السيراء (ج 2ص 270) والمغرب (ج 2ص 111، 122) وكتاب العبر (م 6ص 522) وبغية الوعاة (ص 305).
(2) قارن ببغية الوعاة (ص 305).
(3) في البغية: «باهر».
(4) ابن مسعدة: هو أحد شيوخ عبد الرحيم الخزرجي، وقد أخذ عنه النحو. بغية الوعاة (ص 305).
(5) هو الخليفة الموحدي محمد بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 595هـ إلى سنة 610هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 236).
(6) جاء في بغية الوعاة أن رأسه قطع وعلّق على باب مراكش في سنة إحدى وستمائة، وهو ابن ست وثلاثين سنة. وجاء في التكملة والحلة السيراء أنه قتل في نحو الستمائة.(3/360)
فيه: [الطويل]
لقد طمّح المهر الجموح لغاية ... فقطّع أعناق الجياد السّوابق
جرى وجرت رجلاه لكنّ رأسه ... أتى سابقا والجسم ليس بسابق
وكانت ثورته ببعض جهات درعة من بلاد السّوس.
مشيخته: أخذ عن صهره القاضي أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم، وعن غيره من أهل بلده، وتفقّه بهم، وبهر في العقليّات والعلوم القديمة، وقرأ على القاضي المحدّث أبي بكر بن أبي زمنين، وتلا على الأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن عروس، والأدب والنحو على الأستاذ الوزير أبي يحيى بن مسعدة. وأجازه الأستاذ الخطيب أبو جعفر العطّار. ومن شعره في الثورة (1): [البسيط]
قولوا لأولاد (2) عبد المؤمن بن علي ... تأهّبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء (3) فارس (4) قحطان وسيّدها (5) ... ووارث الملك (6) والغلّاب للدول
ومن شعره القصيدة الشهيرة وهي: [الكامل]
الله حسبي لا أريد سواه ... هل في الوجود الحق إلّا الله؟
ذات الإله بها تقوم دولتنا (7) ... هل كان يوجد غيره لولاه؟
يا من يلوذ بذاته أنت الذي ... لا تطمع الأبصار في مرآه
لا غرو أنّا قد رأيناه بها ... فالحقّ يظهر ذاته وتراه
يا من له وجب الكمال بذاته ... فالكل غاية فوزهم لقياه
أنت الذي لمّا تعالى جدّه ... قصرت خطا الألباب دون حماه
أنت الذي امتلأ الوجود بحمده ... لمّا غدا ملآن من نعماه
أنت الذي اخترع الوجود بأسره ... ما بين أعلاه إلى أدناه
__________
(1) البيتان ضمن أربعة أبيات، في المغرب (ج 2ص 111) وجاء فيه أنه يخاطب فيها بني عبد المؤمن. وهي كذلك في كتاب العبر (م 6ص 523) والحلة السيراء (ج 2ص 271).
(2) في كتاب العبر والحلة السيراء: «لأبناء».
(3) في الحلة السيراء: «أتاكم».
(4) في كتاب العبر والمغرب: «سيد». وفي الحلة السيراء: «خير».
(5) في المغرب والحلة السيراء «وعالمها»: وفي كتاب العبر: «وعاملها».
(6) في كتاب العبر والمغرب: «ومنتهى القول». وفي الحلة السيراء: «وصاحب الوقت».
(7) كذا ينكسر الوزن، ولو قال: «دولة» لصحّ الوزن.(3/361)
أنت الذي خصّصتنا بوجودنا ... أنت الذي عرّفتنا معناه
أنت الذي لو لم تلخ أنواره ... لم تعرف الأضداد والأشباه
لم أفش ما أودعتنيه إنّه ... ما صان سرّ الحقّ من أفشاه
عجز الأنام عن امتداحك إنه ... تتضاءل الأفكار دون مداه
من كان يعلم أنك الحقّ الذي ... بهر العقول فحسبه وكفاه
لم ينقطع أحد إليك محبّة ... إلّا وأصبح حامدا عقباه
وهي طويلة
(1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا ورد، ويعرف بابن القصجة.
عديم رواء الحسّ، قريب العهد بالنجعة، فارق وطنه وعيصه، واستقبل المغرب الوفادة، وقدم على الأندلس في أخريات دولة الثاني (2) من الملوك النصريين، فمهد جانب البر له، وقرب مجلسه، ورعى وسيلته، وكان على عمل بر من صوم واعتكاف وجهاد.
نباهته: ووقف بي ولده الشريف أبو زيد عبد الرحيم، على رسالة كتب بها أمير مكة على عهده إلى سلطان الأندلس ثاني الملوك النصريين، رحمهم الله، وعبّر فيها عن نفسه: من عبد الله، المؤيّد بالله، محمد بن سعد الحرسني، في غرض المواصلة والمودة والمراجعة عن بر صدر عن السلطان، رحمه الله، من فصولها: «ثم أنكم، رضي الله عنكم، بالغنم في الإحسان للسيد الشريف أبي القاسم الذي انتسب إلينا، وأويتموه من أجلنا، وأكرمتموه، ورفعتموه احتراما لبيته الشريف، جعل الله عملكم معه وسيلة بين يدي جدّنا عليه السلام». وهي طويلة وتحميدها ظريف، من شنشنة أحوال تلك البال بمكة المباركة.
وفاته: توفي شهيدا في الوقيعة بين المسلمين والنصارى بظاهر ألمرية عندما وقع الصريخ لإنجادها، ورفع العدو البرجلوني عنها في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرة وسبعمائة.
__________
(1) مكان البياض عنوان المترجم له، واسمه، كما سيأتي، محمد بن سعد الحرسني.
(2) ثاني سلاطين بني نصر هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. اللمحة البدرية (ص 50).(3/362)
ومن ترجمة المقرئين والعلماء والطلبة النجباء من ترجمة الطارئين منهم
عبد الرحمن (1) بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسن (2) بن سعدون بن رضوان بن فتّوح الخثعمي
مالقي، يكنى أبا زيد، وأبا القاسم، وأبا الحسين، وهي قليلة، شهر بالسّهيلي.
حاله: كان مقرئا مجوّدا، متحققا بمعرفة التفسير، غواصا على المعاني البديعة، ظريف التّهدّي إلى المقاصد الغريبة، محدّثا، واسع الرّواية، ضابطا لما يحدّث به، حافظا متقدما، ذاكرا للأدب والتواريخ والأشعار والأنساب، مبرّزا في الفهم، ذكيّا، أديبا، كاتبا بليغا، شاعرا مجيدا، نحويا، عارفا، بارعا، يقظا، يغلب عليه علم العربية والأدب. استدعي آخرا إلى التدريس بمرّاكش، فانتقل إليها من مالقة، محلّ إقرائه، ومتبوّأ إفادته، فأخذ بها الناس عنه، إلى حين وفاته.
مشيخته: تلا (3) بالحرمين على خال أبيه الخطيب أبي الحسن بن عباس، وبالسّبع على أبي داود بن يحيى، وعلى أبي علي منصور بن علاء، وأبي العباس بن خلف بن رضي، وروى عن أبي بكر بن طاهر، وابن العربي، وابن قندلة، وأبي الحسن شريح، وابن عيسى، ويونس بن مغيث، وأبي الحسن بن الطّراوة، وأكثر عنه في علوم اللسان، وأبي عبد الله حفيد مكّي، وابن أخت غانم، وابن معمّر، وابن نجاح، وأبي العباس بن يوسف بن يمن الله، وأبوي القاسم ابن الأبرش، وابن الرّماك، وأبوي محمد بن رشد، والقاسم بن دحمان، وأبوي مروان بن بونة، وأبي عبد الله بن بحر. وناظر في «المدوّنة» على ابن هشام. وأجاز له ولم يلقه أبو العباس عبّاد بن سرحان، وأبو القاسم بن ورد.
__________
(1) ترجمة عبد الرحمن الخثعمي في بغية الملتمس (ص 367) والتكملة (ج 3ص 32) والمطرب (ص 230) والمغرب (ج 1ص 448) ووفيات الأعيان (ج 3ص 119) وزاد المسافر (ص 96) والديباج المذهب (ص 150) وشذرات الذهب (ج 4ص 271) والفلاكة والمفلوكون (ص 115) وبغية الوعاة (ص 298) والنجوم الزاهرة (ج 6ص 100) ونفح الطيب (ج 2ص 316).
(2) في وفيات الأعيان: «حسين».
(3) قارن بالتكملة (ج 3ص 32) وبغية الوعاة (ص 299).(3/363)
من روى عنه: روى عنه أبو إسحاق الزّوالي، وأبو إسحاق الجاني، وأبو أمية بن عفير، وأبو بكر بن دحمان، وابن قنتوال، والمحمدون ابن طلحة، وابن عبد العزيز، وابن علي جو يحمات، وأبو جعفر بن عبد المجيد، والحفّار وسهل بن مالك، وابن العفّاص، وابن أبي العافية، وأبو الحسن السّراج، وأبو سليمان بن حوط الله، والسمائي، وابن عياش الأندرشي، وابن عطية، وابن يربوع، وابن رشيد، وابن ناجح، وابن جمهور، وأبو عبد الله بن عيّاش الكاتب، وابن الجذع، وأبو علي الشّلوبين، وسالم بن صالح، وأبو القاسم بن بقي، وأبو القاسم بن الطّيلسان، وعبد الرحيم بن الفرس، وابن الملجوم، وأبو الكرم جودي، وأبو محمد بن حوط الله، إلى جملة لا يحصرها الحدّ.
دخل غرناطة، وكان كثير التأميل والمدح لأبي الحسن بن أضحى، قاضيها وريّسها (1)، وله في مدحه أشعار كثيرة، وذكر لي من أرّخ في الغرناطيين، وأخبرني بذلك صاحبنا القاضي أبو الحسن بن الحسن كتابة عمّن يثق به.
تواليفه: منها كتاب «الشّريف (2) والإعلام، بما أبهم في القرآن من أسماء الأعلام». ومنها شرح آية الوصية، ومنها «الرّوض الآنف (3) والمشرع الرّوا، فيما اشتمل عليه كتاب السيرة واحتوى». وابتدأ إملاءه في محرم سنة تسع وستين وخمسمائة، وفرغ منه في جمادى منها. ومنها «حلية النّبيل، في معارضة ما في السّبيل». إلى غير ذلك.
شعره: قال أبو عبد الله بن عبد الملك: أنشدني أبو محمد القطّان، قال:
أنشدني أبو علي الرّندي، قال: أنشدني أبو القاسم السّهيلي لنفسه (4): [الطويل]
أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق
__________
(1) هو الوزير أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى، من بيت عظيم بغرناطة، ثار بها ودعا لنفسه بعد مقتل تاشفين بن يوسف بن تاشفين المرابطي سنة 539هـ. توفي سنة 540هـ. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.
(2) في وفيات الأعيان (ج 3ص 119): «التعريف من الأسماء الأعلام». وفي التكملة (ج 3 ص 33): «التعريف القرآن العزيز من الأسماء الأعلام». وفي بغية الوعاة (ص 299):
«التعريف من الأسماء والأعلام».
(3) هكذا في التكملة، وفي وفيات الأعيان وبغية الوعاة والمغرب: «الأنف».
(4) البيتان في بغية الملتمس (ص 367) ونفح الطيب (ج 2ص 317).(3/364)
وما لي إلى جيرانه من صبابة ... ولكنّ قلبي (1) عن صبوح يوفّق (2)
ونقلت من خطّ الفقيه القاضي أبي الحسن بن الحسن، من شعر أبي القاسم السّهيلي، مذيّلا بيت أبي العافية في قطعة لزوميّة: [الطويل]
ولمّا رأيت الدّهر تسطو خطوبه ... بكل جليد في الورى أو هداني (3)
ولم أر من حرز ألوذ بظلّه ... ولا من له بالحادثات يداني
فزعت إلى من ملّك (4) الدهر كفّه ... ومن ليس ذو ملك له بمران
وأعرضت عن ذكر الورى متبرّما ... إلى الرّب من قاص هناك ودان
وناديته سرّا ليرحم عبرتي ... وقلت: رجائي قادني وهداني
ولم أدعه حتى تطاول مفضلا ... عليّ بإلهام الدّعاء وعان
وقلت: أرجّي عطفه متمثّلا ... ببيت لعبد صائل بردان (5)
تغطّيت من دهري بظلّ جناحه ... عسى أن ترى (6) دهري وليس يراني
قلت: وما ضرّه، غفر الله له، لو سلمت أبياته من «بردان»، ولكن أبت صناعة النحو إلّا أن تخرج أعناقها.
ومن شعره قوله: [المتقارب]
تواضع إذا كنت تبغي العلا ... وكن (7) راسيا عند صفو الغضب
فخفض الفتى نفسه رفعة ... له واعتبر برسوب الذّهب
وشعره كثير، وكتابته كذلك، وكلاهما من نمط يقصر عن الإجادة.
وقال ملغزا في محمل الكتب، وهو مما استحسن من مقاصده: [الخفيف]
حامل للعلوم غير فقيه ... ليس يرجو أمرا ولا يتّقيه
يحمل العلم فاتحا قدميه ... فإذا انضمّتا (8) فلا علم فيه
__________
(1) في النفح: «نفسي».
(2) في بغية الملتمس: «يرقّق». وفي النفح: «ترقّق».
(3) في الأصل: «وهدان» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «تملّك»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) عجز هذا البيت منكسر الوزن.
(6) في الأصل: «فعسى ترى» وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «وكنت»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(8) في الأصل: «التقتا» وكذا ينكسر الوزن. وكلاهما بمعنى.(3/365)
ومن ذلك قوله في المجبنات (1): [الكامل]
شغف الفؤاد نواعم أبكار ... بردت فؤاد الصّبّ وهي حرار
أذكى من المسك الفتيق (2) لناشق ... وألذّ من صهباء حين تدار
وكأنّ (3) من صافي اللّجين بطونها ... وكأنّما ألوانهنّ نضار
صفت البواطن والظواهر كلها (4) ... لكن حكت ألوانها الأزهار
عجبا (5) لها وهي النعيم تصوغها ... نار، وأين من النّعيم النار؟
ومن شعره وثبت في الصّلة: [المتقارب]
إذا قلت يوما: سلام عليك ... ففيها شفاء وفيها سقام
شفا إذ قلتها مقبلا ... وإن قلتها مدبرا فالحمام
فاعجب لحال اختلافيهما ... وهذا سلام وهذا سلام
مولده: عام سبعة أو ثمانية وخمسمائة (6).
وفاته: وتوفي في مرّاكش سحر ليلة الخامس والعشرين من شعبان أحد وثمانين وخمسمائة (7)، ودفن لظهره بجبّانة الشيوخ خارج مراكش، وكان قد عمي سبعة عشر (8) عاما من عمره.
عبد الرحمن بن هانىء اللخمي
يكنى أبا المطرف، من أهل فرقد من قرى إقليم غرناطة.
__________
(1) الأبيات في المطرب (ص 237). والمجبنات: نوع من القطائف يضاف إليه الجبن ويقلى بالزيت.
(2) في الأصل: «العتيق لنا نشقا وألذّ من صبا»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المطرب.
(3) في المطرب: «فكأنما صافي اللجين قلوبها».
(4) في المطرب: «مثلها».
(5) في المطرب: «عجب».
(6) في التكملة (ج 3ص 33): ولد سنة 509، وقيل: عام سبعة أو ثمانية وخمسمائة. وفي وفيات الأعيان (ج 3ص 120): «ومولده سنة ثمان وخمسمائة بمدينة مالقة». ومثله جاء في المطرب (ص 23).
(7) في بغية الملتمس: توفي سنة 583هـ.
(8) في الأصل: «عشرة» وهو خطأ نحوي. وفي بغية الوعاة (ص 299): «وكف بصره وهو ابن سبع عشرة سنة».(3/366)
حاله: كان فقيها فاضلا، وتجوّل في بلاد المشرق. قال: أنشدني إمام الجامع بالبصرة: [الوافر]
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
عبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن القصير (2).
حاله: كان (3) فقيها [مشاورا، رفيع القدر جليلا] (4)، بارع الأدب، عارفا بالوثيقة، نقّادا لها، صاحب رواية ودراية، تقلّب ببلاد الأندلس، وأخذ الناس عنه بمرسية وغيرها. ورحل إلى مدينة فاس، وإفريقية، وأخذ بها، وولّي القضاء بتقرش (5)
من بلاد الجريد.
مشيخته: روى (6) عن أبيه القاضي أبي الحسن بن أحمد، وعن عمّه أبي مروان، وعن أبوي الحسن بن درّي، وابن الباذش، وأبي الوليد بن رشد، وأبي إسحاق بن رشيق الطليطلي، نزيل وادي آش، وأبي بكر بن العربي، وأبي الحسن بن وهب (7)، وأبي محمد عبد الحق بن عطيّة، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسن يونس بن مغيث، وأبي القاسم بن ورد، وأبي بكر بن مسعود الخشني، وأبي القاسم بن بقيّ، وأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض، وغيرهم.
تواليفه (8): له تواليف وخطب ورسائل ومقامات، وجمع مناقب من أدركه من أهل عصره، واختصر كتاب الجمل (9) لابن خاقان الأصبهاني، وغير ذلك، وألّف برنامجا يضم رواياته.
من روى عنه: روى عنه ابن الملجوم (10)، واستوفى خبره.
__________
(1) ترجمة عبد الرحمن بن أحمد الأزدي في التكملة (ج 3ص 30) والديباج المذهب (ص 152) وأزهار الرياض (ج 3ص 14) وجذوة الاقتباس (ج 2ص 394رقم 398).
(2) في جذوة الاقتباس: «ابن النصير».
(3) قارن بأزهار الرياض (ج 3ص 15).
(4) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من أزهار الرياض.
(5) في الأزهار: «وولّي قضاء تقيوس، ببلاد الجريد».
(6) قارن بالتكملة (ج 3ص 30) وأزهار الرياض (ج 3ص 15).
(7) في المصدرين: «موهب».
(8) قارن بأزهار الرياض (ج 3ص 15).
(9) في أزهار الرياض: «الحيل».
(10) في أزهار الرياض: «أبو القاسم بن الملجوم».(3/367)
وفاته: ركب (1) البحر قاصدا الحج، فتوفي شهيدا في البحر قتله الرّوم بمرسى تونس مع جماعة من المسلمين، صبح يوم الأحد، في العشر الوسط من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة (2).
عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الأنصاري
يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفصّال.
حاله: هذا الرجل فاضل عريق في العدالة، ذكيّ، نبيل، مختصر الجرم، شعلة من شعل الإدراك، مليح المحاورة، عظيم الكفاية، طالب متقن. قرأ على مشيخة بلده، واختصّ منهم بمولى النعمة على أبناء جنسه، أبي سعيد ابن لب، واستظهر من حفظه كتبا كثيرة، منها كتاب التفريع في الفروع، وارتسم في العدول، وتعاطى لهذا العهد الأدب، فبرّز في فنّه.
أدبه: مما جمع فيه بين نظمه ونثره، قوله يخاطب الكتّاب، ويسحر ببراعته الألباب: [الطويل]
لعلّ نسيم الريح يسري عليله ... فأهدي صحيح الودّ طيّ سقيم
لتحملها عنّي وأزكى تحية ... لقيت (3) ككهف مانع ورقيم
ويذكر ما بين الجوانح من جوى ... وشوق إليهم مقعد ومقيم
يا كتّاب المحلّ السامي، والإمام المتسامي، وواكف الأدب البسّامي، أناشدكم بانتظامي، في محبّتكم وارتسامي، وأقسم بحقّكم عليّ وحبّذا إقسامي، ألا ما أمددتم بأذهانكم الثاقبة، وأسعدتم بأفكاركم النّيرة الواقبة، على إخراج هذا المسمّى، وشرح ما أبهمه المعمّى، فلعمري لقد أحرق مزاجي، وفرّق امتزاجي، وأظلم به وهاجي، وغطّى على مرآة ابتهاجي، فأعينوني بقوة ما استطعتم، وأقطعوني من مددكم ما قطعتم، وآتوني بذلك كلّه إعانة وسدّا وإلّا فها هو بين يديكم ففكّوا غلقه، واسردوا خلقه، واجمعوا مضغه المتباينة وعلقه، حتى يستقيم جسدا قائما بذاته، متّصفا بصفاته المذكورة ولذّاته، قائلا بتسلّيه أسلوبا، مصحفا كان أو مقلوبا. وإن تأبّى عليكم وتمنّع، وأدركه الحياء فتستّر وتقنّع، وضرب على آذان الشّهدا، وربط على قلوبهم من الإرشاد له والاهتداء، فابعثوا أحدكم إلى
__________
(1) قارن بالتكملة (ج 3ص 30).
(2) في التكملة: «فاستشهد بمرسى تونس في آخر سنة 576).
(3) في الأصل: «لقيته كهف» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/368)
المدينة، ليسأل عنه خدينه: [المتقارب]
أحاجي ذوي العلم والحلم ممن ... ترى شعلة الفهم من زنده
عن اسم هو الموت مهما دنا ... وإن بات يبكى على فقده
لذيذ وليس بذي طعم ... ويؤمر بالغسل من بعده
وأطيب ما يجتنيه الفتى ... لدى ربّة الحسن أو عبده
مضجّعه عشر الثلث في ... حساب المصحّف من خدّه
وإن شئت قل: مطعم ذمّه الر ... رسول وحضّ على بعده
وقد جاء في الذّكر إخراجه ... لقوم نبيّ على عهده
وتصحيف ضدّ له آخر ... يبارك للنّحل في شهده
وتصحيف مقلوبه ربّه ... تردّد من قبل في ردّه
فهاكم معانيه قد بدت ... كنار الكريم على نجده
وكتب للولد، أسعده الله، يتوسّل إليه، ويروم قضاء حاجته: [الخفيف]
أيها السيد العزيز، تصدّق ... في المقام العليّ لي بالوسيلة
عند ربّ الوزارتين أطال ال ... له أيامه حسانا جميلة
علّه أن يجيرني من زمان ... مسّني الضّرّ من خطاه الثّقيلة
واستطالت عليّ بالنّهب جورا ... من يديه الخفيفة المستطيلة
لم تدع لي بضاعة غير مزجا ... ة ونزر أهون به من قليله
وإذا ما وفّى لي الكيل يوما ... حشفا ما يكيله سوء كيله
فشفى بي غليله لا شفى بي ... دون أبنائه الجميع غليله
من لهذا الزمان مذ نال منّي ... ليس لي بالزمان والله حيله
غير أن يشفع الوزير ويدعو (1) ... عبده أو خديمه أو خليله
دمت يا ابن الوزير في عزّك السا ... مي ودامت به الليالي كفيله
سيدي الذي بعزّة جاهه أصول، وبتوسّلي بعنايته أبلغ المأمول والسّول، وأروم لما أنا أحوم عليه الوصول، ببركة المشفوع إليه والرسول، المرغوب من مجدك السّامي الصريح، والمؤمّل من ذلك الوجه السّنيّ الصبيح، أن تقوم بين يدي نجوى الشّفاعة، هذه الرّقاعة، وتعين بذاتك الفاضلة النفّاعة، من لسانك مصقاعة، حتى
__________
(1) في الأصل: «ويدعى».(3/369)
ينجلي حالي عن بلج، وأتنسّم من مهبّات القبول طيب الأرج، وتتطلع مستبشرات فرحتي من ثنيّات الفرج، فإنّ سيّد الجماعة الأعلى، وملاذ هذه البسيطة وفحلها الأجلى، فسح الله تعالى في ميدان هذا الوجود بوجوده، وأضفى على هذا القطر ملابس السّتر برأيه السديد وسعوده، وبلّغه في جميعكم غاية أمله ومقصوده، قلّما تضيع عنده شفاعة الأكبر من ولده، أو يخيب لديه من توسّل إليه بأزكى قطع كبده، وبحقك ألا ما أمرت هذه الرّقعة، بالمثول بين يدي ذلك الزّكي الذّات الطاهر البقعة، وقل لها قبل الحلول بين يدي هذا المولى الكريم، والموئل الرحيم، بعظيم التوقير والتّبجيل، واعلمي يا أيتها السائل، أن هذا الرجل هو المؤمّل، بعد الله تعالى في هذا الجيل، والحجّة البالغة في تبليغ راجيه أقصى ما يؤملونه بالتعجيل، وخاتمة كلام البلاغة وتمام الفصاحة الموقف عليه ذلك كله بالتّسجيل، وغرّة صفح دين الإسلام المؤيدة بالتّحجيل. وهذا هو مدبّر فلك الخلافة العالية بإيالته، وحافظ بدر سمائها السامية بهالته، فقرّي بالمثول بين يديه عينا، ولقد قضيت على الأيام بذلك دينا، وإذا قيل ما وسيلة مؤمّلك، وحاجة متوسّلك، فوسيلته تشيّعه في أهل ذلك المعنى، وحاجته يتكفّل بها مجدكم الصميم ويعنى، وليست تكون بحرمة جاهكم من العرض الأدنى، وتمنّ فإنّ للإنسان هنالك ما تمنّى، وتولّى تكليف مرسلي بحسب ما وسعكم، وأنتم الأعلون والله معكم. ثم اثن العنان، والله المستعان، وأعيدي السلام، ثم عودي بسلام.
وخاطب قاضي الحضرة، وقد أنكر عليه لباس ثوب أصفر:
أبقى الله المثابة العليّة ومثلها أعلى، وقدحها في المعلوّات المعلّى، ما لها أمرت لا زالت بركاتها تنثال، ولأمر ما يجب الامتثال، بتغيير ثوبي الفاقع اللون، وإحالته عن معتاده في الكون، وإلحاقه بالأسود الجون أصبغه حدادا وأيام سيدي أيام سرور، وبنو الزمان بعدله ضاحك ومسرور، ما هكذا شيمة البرور، بل لو استطعنا أن نزهو له كالميلاد، ونتزيّا في أيامه بزيّ الأعياد، ونرفل من المشروع في محبر وموروس، ونتجلّى في حلل العروس، حتى تقرّ عين سيدي بكتيبة دفاعه، وقيمة نوافله وإشفاعه، ففي علم سيدي الذي به الاهتداء، وبفضله الاقتداء، تفضيل الأصفر الفاقع، حيثما وقع من المواقع، فهو مهما حضر نزهة الحاضرين، وكفاه فاقع لونها تسرّ الناظرين.
ولقد اعتمّه جبريل عليه السلام، وبه تطرّز المحبرات والأعلام، وإنه لزيّ الظّرفاء، وشارة أهل الرّفاء، اللهمّ إلا إن كان سيدي دام له البقاء، وساعده الارتقاء، ينهي أهل التّبريز، عن مقاربة لون الذهب الإبريز، خيفة أن تميل له منهم ضريبة، فيزنّوا بريبة، فنعم إذا ونعمى عين، وسمعا وطاعة لهذا الأمر الهيّن اللّين، أتبعك لا زيدا وعمرا،
ولا أعصى لك أمرا، ثم لا ألبس بعدها إلّا طمرا، وأتجرّد لطاعتك تجريدا، وأسلك إليك فقيرا ومزيدا، ولا أتعرّض للسّخط بلبس شفيف أستنشق هباه، وألبس عباه، وأبرأ من لباس زي ينشئ عتابا، يلقى على لسان مثل هذا كتابا، وأتوب منه متابا، ولولا أني الليلة صفر اليدين، ومعتقل الدّين، لباكرت به من حانوت صبّاغ رأس خابية، وقاع مظلمة جابية، فأصيّره حالكا، ولا ألبسه حتى أستفتي فيه مالكا، ولعلي أجدّ فأرضي سيدي بالتّزييّ بشارته، والعمل بمقتضى إشارته، والله تعالى يبقيه للحسنات ينبّه عليها، ويومي بعمله وحظّه إليها، والسلام.(3/370)
ولقد اعتمّه جبريل عليه السلام، وبه تطرّز المحبرات والأعلام، وإنه لزيّ الظّرفاء، وشارة أهل الرّفاء، اللهمّ إلا إن كان سيدي دام له البقاء، وساعده الارتقاء، ينهي أهل التّبريز، عن مقاربة لون الذهب الإبريز، خيفة أن تميل له منهم ضريبة، فيزنّوا بريبة، فنعم إذا ونعمى عين، وسمعا وطاعة لهذا الأمر الهيّن اللّين، أتبعك لا زيدا وعمرا،
ولا أعصى لك أمرا، ثم لا ألبس بعدها إلّا طمرا، وأتجرّد لطاعتك تجريدا، وأسلك إليك فقيرا ومزيدا، ولا أتعرّض للسّخط بلبس شفيف أستنشق هباه، وألبس عباه، وأبرأ من لباس زي ينشئ عتابا، يلقى على لسان مثل هذا كتابا، وأتوب منه متابا، ولولا أني الليلة صفر اليدين، ومعتقل الدّين، لباكرت به من حانوت صبّاغ رأس خابية، وقاع مظلمة جابية، فأصيّره حالكا، ولا ألبسه حتى أستفتي فيه مالكا، ولعلي أجدّ فأرضي سيدي بالتّزييّ بشارته، والعمل بمقتضى إشارته، والله تعالى يبقيه للحسنات ينبّه عليها، ويومي بعمله وحظّه إليها، والسلام.
وخاطبني وقد قدم في شهادة المواريث بحضرة غرناطة: [السريع]
يا منتهى الغايات دامت لنا ... غايتك القصوى بلا فوت
طلبت إحيائي بكم فانتهى ... من قبله حالي إلى الموت
وحقّ ذاك (1) الجاه جاه العلا ... لا متّ إلّا أن أتى وقتي (2)
مولاي الذي أتأذّى من جور الزمان بذمام جلاله، وأتعوّذ من نقص شهادة المواريث بتمام كماله، شهادة يأباها المعسر والحيّ، ويودّ أن لا يوافيه أجله عليها الحيّ، مناقضة لما العبد بسبيله، غير مربح قطميرها من قليله، فإن ظهر لمولاي إعفاء عبده، فمن عنده، والله تعالى يمتّع الجميع بدوام سعده، والسلام الكريم يختص بالطاهر من ذاته ومجده، ورحمة الله وبركاته. من عبد إنعامكم ابن الفصّال لطف الله به: [البسيط]
قد كنت أسترزق الأحياء ما رزقوا ... شيئا ولا ما (3) وفوني بعض أقوات
فكيف حالي لمّا أن شكوتهم ... رجعت أطلب قوتي عند أمواتي (4)
والسلام يعود على جناب مولاي، ورحمة الله وبركاته.
وخاطب أحد أصحابه، وقد استخفى لأمر قرف به، برسالة افتتحها بأبيات على حرف الصاد، أجابه المذكور عن ذلك بما نصّه، وفيه إشارة لغلط وقع في الإعراب:
[البسيط]
يا شعلة من ذكاء أرسلت شررا ... إلى قريب من الأرجاء بعد قص
وشبهة حملت دعوى السّفاح على ... فحل يليق به مضمونها وخص
__________
(1) في الأصل: «ذلك»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وقت» بدون ياء.
(3) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(4) في الأصل: «أموات» بدون ياء.(3/371)
رحماك بي فلقد جرّعتني غصصا ... أثار تعريضها المكتوم من غصّ
بليتني بنكاة (1) القرح في كبدي ... كمثل مرتجف المجذوم بالبرص
أيها الأخ الذي رقى ومسح، ثم فصح، وغشّ ونصح، ومزّق ثم نصح، وتلاهب بأطراف الكلام المشقّق فما أفصح، ما لسحّاتك ذات الجيد المنصوص، توهم سمة الودّ المرصوص، ثم تعدل إلى التأويلات عن النّصوص، وتؤنس على العموم، وتوحش على الخصوص، لا درّ درّه من باب برّ ضاع مفتاحه، وتأنيس حرّ سبق بالسجن استفتاحه، ومن الذي أنهى إلى أخي خبر ثقافي، ووثيقة تحبيسي وإيقافي، وقد أبى ذلك سعد فرعه باسق، وعزّ عقده متناسق. {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ} (2)، بل المثوى والحمد لله جنّات وغرف، والمنتهى مجد وشرف، فإن كان وليّي مكترثا فيحقّ له السّرور، أو شامتا فلي الظّل وله الحرور. أنا لا أزنّ والحمد لله بها من هناه، ولما أدين بها من عزّي ومناه، ولا تمرّ لي ببال فلست بذي سيف ولست بنكال نفسي أرقّ شيمة، وأكرم مشيمة، وعيني أغزر ديمة، لو كان يسأل لسان عن إنسان، أو مجاولته بملعبه خوان، أوقفني إخوان لا بمأزق عدوان، لارتسمت منه بديوان، لا يغني في حرب عوان. عين هذا الشكل والحمد لله فراره، وعنوان هذا الحدّ غراره. وأما كوني من جملة الصّفرة، وممن أجهز سيدي الفقار على ذي الفقرة، فأقسم لو ضرب القتيل ببعض البقرة، لتعين مقدار تلك الغفرة.
اللهمّ لو كنت مثل سيدي ممن تتضاءل النخلة السّحوق لقامته، ويعترف عوج لديه بقماءته ودمامته، مقبل الظّعن كالبدور في سحاب الخدور، وخليفة السّيد الذي بلغت سراويله تندوة العدوّ الأيّد، لطلت بباع مديد، وساعدني الخلق بساعد شديد، وأنا لي جسم شحت، يحف به بخت، وحسب مثلي أن يعلم في ميدان هوى تسلّ فيه سيوف اللّحاظ، على ذوي الحفاظ، وتشرع سيوف القدود، إلى شكاة الصّدود، وتسطو أولو الجفون السّود بالأسود، فكيف أخشى تبعة تزلّ عن صفاتي، وتنافي صفاتي، ولا تطمع أسبابها في التفاتي، ولا تستعمل في حربها قنا ألفاتي. والله يشكر سيدي على اهتباله، ويحلّ كريم سباله، على ما ظهر لأجلي من شغف باله، إذ رفع ما ينصب، وغيّر ما لو غيّره الحجاج لكان مع الهيبة يحصب، ونكّت بأن نفقت بالحظ سوقي، وظهر لأجله فسوقي، ويا حبّذا هو من شفيع رفيع ووسيلة لا يخالفها الرّعي، ولا
__________
(1) أصل القول: «بنكأة»، وكذا ينكسر الوزن، فاقتضى حذف الهمزة، والنّكأة: من نكأ القرحة إذا قشرها قبل أن تبرأ.
(2) سورة الحجرات 49، الآية 6.(3/372)
يخيب لها السّعي. ولله درّ القائل: [الكامل]
لله بالإنسان في تعليمه ... بوساطة القلم الكريم عنايه
فالخطّ خطّ والكتابة لم تزل ... في الدهر عن معنى الكمال كنايه
وما أقرب، يا سيدي، هذه الدعوى لشهامتك، وكبر هامتك: [الكامل]
لو كنت حاضرهم بخندق بلج ... ولحمل ما قد أبرموه فصال
لخصصت بالدعوى التي عمّوا بها ... ولقيل: فصل جلاه الفصال
وتركت فرعون بن موسى عبرة ... تتقدّ منه بسيفه الأوصال
فاحمد الله الذي نجّاك من حضور وليمتها، ولم تشهد يوم حليمتها. وأما اعتذارك عما يقلّ من تفقّد الكنز، ومنتطح العنز، فورع في سيدي أتمّ من أن يتّهم بغيبة، ولسانه أعفّ من أن ينسب إلى ريبة، لما اتّصل به من فضل ضريبة، ومقاصد في الخير غريبة، إنما يستخفّ سيدي أفرط التّهم، رمي العوامل بالتّهم، فيجري أصحّ مجرى أختها، ويلبسها ثياب تحتها، بحيث لا إثم يترتّب، ولا هو ممن تعتب (1)، وعلى الرجال فجنايته عذبة الجنا، ومقاصده مستطرفة لفصح أو كنى. أبقاه الله رب نفاضة وجرادة، ولا أخلى مبرده القاطع من برادة، وعوّده الخير عادة، ولا أعدمه بركة وسعادة، بفضل الله. والسلام عليه من وليّه المستزيد من ورش وليه، لا بل من قلائد حليه، محمد بن فركون القرشي، ورحمة الله وبركاته.
فراجعه المترجم بما نصه، وقد اتّهم أن ذلك من إملائي: [البسيط]
يا ملبس النّصح ثوب الغشّ متّهما ... يلوي النّصيحة عنه غير منتكص
وجاهلا باتخاذ الهزل مأدبة ... أشدّ ما يتوقّى محمل الرّخص
نصحته فقصاني فانقلبت إلى ... حال يغصّ بها من جملة الغصص
بالأمس أنكرت آيات القصاص له ... واليوم يسمع فيه سورة القصص
ممّن استعرت يا بابليّ هذا السّحر، ولم تسكن بناصية السحر، ولا أعملت إلى بابل هاروت امتطاء ظهر، ومن أين جئت بقلائد ذلك النّحر؟ أمن البحر، أو مما وراء النهر؟ ما لمثل هذه الأريحيّة الفاتقة، استنشقنا مهبّك ولا قبل هذه البارقة الفائقة، استكثرنا غيّك، يا أيها الساحر ادع لنا ربّك. أأضغاث أحلام ما تريه الأقلام، أم في لحظة تلد الأيام فرائد الأعلام؟ لقد عهدت بربعك محسن دعابة، ما فرعت شعابه، أو
__________
(1) في الأصل: «تعتبه» وقد صوبناه لتستقيم السجعة.(3/373)
مصيبا في صبابة، ما قرعت بابه، ولا استرجعت قبل أن أعبر عبابه. اللهمّ إلّا أن تكون تلك الآيات البيّنات من بنات يراعتك، لا براعتك، ومغترس تلك الزّهر، الطالعة كالكواكب الزّهر، مختلس يد استطاعتك، لا زراعتك، وإلّا فنطّرح مصائد التعليم والإنشاء، وننتظر معنى قوله عزّ وجلّ يؤتي الحكمة من يشاء، أو نتوسّل في مقام الإلحاح والإلحاف، أن ننقل من غائلة الحسد إلى الإنصاف، وحسبي أن أطلعت بالحديقة الأنيقة، ووقفت من مثلى تلك الطّريقة على حقيقة، فألفيت بها بيانا، قد وضح تبيانا أو أطلق عنانا، ومحاسن وجدت إحسانا، فتمثّلت إنسانا، سرّح لسانا، وأجهد بنانا، إلّا أنّ صادح أيكتها يتململ في قيظ، ويكاد يتميّز من الغيظ، فيفيض ويغيض، ويهيض وينهض ثم يهيض، ويأخذ في طويل وعريض، بتسبيب وتعريض، ويتناهض في ذلك بغير مهيض، وفاتن كمائمها تسأل عن الصّادح، ويتلقّف عصا استعجاله ما يفكّه المادح، ويحرق بناره زند القادح، ويتعاطى من نفسه بالإعجاب، ويكاد ينادي من وراء حجاب، إن هذا لشيء عجاب. إيه بغير تمويه رجع الحديث الأول، إلى ما عليه المعوّل، لا درّ درّها من نصيحة غير صحيحة، ووصيّة مودّة صريحة، تعلقت بغير ذي قريحة، فهي استعجلتني بداهية كاتب، واستطالة ظالم عاتب، قد سلّ مرهفه، واستنجد مترفه، وجهّزها نحو كتيبته تسفر عن تحجيل، بغير تبجيل، وسحابة سجلّ ترمي بسجّيل، ما كان إلّا أن استقلّت، ورمتني بدائها وانسلّت، وألقت ما فيها وتخلّت، فحسبي الله تغلّب على فهمي، ورميت بسهمي، وقتلت بسلاحي، وأسكرت براحي، برئت برئت، مما به دهيت، أنت أبقاك الله لم تدن بها مني منالا وعزّا، فكيف بها تنسب إليّ بعدك وتعزى؟ نفسي التي هي أرقّ وأجدر بالمعالي وأحقّ، وشكلي أخفّ على القلوب وأدقّ، وشمائلي أملك فلا تسترق، ولساني هو الذي يسأل فلا يفلّ، وقدري يعزّ ويجلّ، عما فخرت أنت به من ملعب مائدة، ومجال رقاب متمايدة، فحاشى سيدي أن يقع منه بذلك مفخر، إلا أن يكون يلهو ويسخر، وموج بحره بالطّيّب والخبيث تزخر، وعين شكلي هي بحمد الله عين الظّرف، المشار إليه بالبنان والطّرف. وأما تعريض سيدي بصغر القامة، وتكبيره لغير إقامة، فمطّرد قول، ومدامة غول، وفريضة نشأ فيها عول، إذ لا مبالاة تجسم كائنا ما كان، أو ما سمعت أنّ السّر في السّكان، وإنما الجسد للرّوح مكان، ولم يبق إليه فقد يروح، وقد قال ويسألونك عن الرّوح، والمرء بقلبه ولسانه، لا بمستظهر عيانه، ولله درّ القائل: [الكامل]
لم يرضني أني بجسم هائل ... والرّوح ما وفّت له أغراضه
ولقد رضيت بأنّ جسمي ناحل ... والروح سابغة به فضفاضه
ولما وقّع سيدي بمكتوبي على المرفوع والمنصوب، وظفرت يده بالمغضوب، والباحث المعصوب، لم يقلها زلّة عالم، وإني وقد وجدتها منية حالم، فعدّد وأعاد، وشدّد وأشاد. هلّا عقل ما قال، وعلم أن المقيل سيكون مقال، وزلّة العالم لا تقال، وأن الحرب سجال، وقبضة غيره هو المتلاعب في الحجال؟ وبالجملة فلك الفضل يا سيدي ما اعتني بمعناك، وارتفع بين مغاني الكرام مغناك، فمدة ركوبك الحمران لا تجارى، ولا يشقّ أحد لك غبارا. أبقاك الله تحفظ عرى هذا الوداد، ويشمل الجميع بركة ذلك النّاد، والسلام عليك من ابن الفصّال، ورحمة الله وبركاته.(3/374)
لم يرضني أني بجسم هائل ... والرّوح ما وفّت له أغراضه
ولقد رضيت بأنّ جسمي ناحل ... والروح سابغة به فضفاضه
ولما وقّع سيدي بمكتوبي على المرفوع والمنصوب، وظفرت يده بالمغضوب، والباحث المعصوب، لم يقلها زلّة عالم، وإني وقد وجدتها منية حالم، فعدّد وأعاد، وشدّد وأشاد. هلّا عقل ما قال، وعلم أن المقيل سيكون مقال، وزلّة العالم لا تقال، وأن الحرب سجال، وقبضة غيره هو المتلاعب في الحجال؟ وبالجملة فلك الفضل يا سيدي ما اعتني بمعناك، وارتفع بين مغاني الكرام مغناك، فمدة ركوبك الحمران لا تجارى، ولا يشقّ أحد لك غبارا. أبقاك الله تحفظ عرى هذا الوداد، ويشمل الجميع بركة ذلك النّاد، والسلام عليك من ابن الفصّال، ورحمة الله وبركاته.
وجعلا إليّ التّحكيم، وفوّضا لنظري التّفضيل فكتبت: [البسيط]
بارك عليها بذكر الله من قصص
واذكر لها (1) ما أتى في سورة القصص
حيث اغتدى السّحر يلهو بالعقول وقد
أحال بين حؤول (2) كيده وعصي (3)
عقائل العقل والسحر الحلال قوت
من كافل الصّون بعد الكون جحر وصي (4)
وأقبلت تتهادى كالبدور إذا
بسحر من فلك النّذور في حصص
من للبدور وربّات الخدور بها
المثل غير مطيع والمثيل (5) عصي (6)
ما قرصة البدر والشّمس المنيرة أن
قيست بمن قاسها (7) من جملة القرض
تالله ما حكمها يوما بمنتقض
كلّا ولا بدرها يوما بمنتقص
إن قال حكمي فيها بالسّواد فقد
أمنت ما يحذر القاضي من الغصص
__________
(1) كلمة «لها» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «حال» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «وعص» بدون ياء.
(4) في الأصل: «وص» بدون ياء.
(5) في الأصل: «والمثلان» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «عص» بدون ياء.
(7) في الأصل: «سوى» وكذا ينكسر الوزن.(3/375)
أو كنت أرخصت في التّرجيح مجتهدا
لم يقبل الورع الفتيا مع الرّخص
يا مدلج ليل التّرجيح، قف فقد خفيت الكواكب، ويا قاضي طرف التّحسين والتّقبيح، تسامت والحمد لله المناكب، ويا مستوكف خبر الوقيعة من وراء أقتام القيعة تصالحت المواكب. حصحص الحقّ فارتفع اللّجاج، وتعارضت الأدلّة فسقط الاحتجاج، ووضعت الحرب أوزارها فسكن العجاج، وطاب نحل الأقلام بأزهار الأحلام فطاب المجاج، وقلّ لفرعون البيان وإن تألّه، وبلّد العقول وبلّه، وولّى بالغرور ودلّه. أوسع الكنائن نثلا، ودونك أيّدا شثلا، وشحرا حثلا، لا خطما ولا أثلا. إن هذان لساحران إلى قوله: ويذهبا بطريقتكم المثلى وإن أثرت أدب الحليم، مع قصّة الكليم، فقل لمجمل جياد التّعاليم، وواضع جغرافيا الأقاليم، أندلسا ما علمت بلد الأجم، لا سود العجم، ومداحض السّقوط، على شوك قتاد القوط، ولم يذر إن محل ذات العجائب والأسرار التي تضرب إليها أباط النّجاب في غير الإقليم الأول، وهذا الوطن بشهادة القلب الحوّل، إنما هو رسم دارس ليس عليه من معوّل. فهنالك يتكلم الحق فيفصح ويعجم، ويرد المدد على النفوس الجريئة من مطالع الأضواء فيحدّث ويلهم، ويجود خازن الأمداد، على المتوسّل بوسيلة الاستعداد، فيقطع ويسهم. وأما إقليمنا الرابع والخامس، بعد أن تكافأت المناظر والملامس، وتناصف الليل الدّامس واليوم الشّامس، باعتدال ربيعي، ومجرى طبيعي، وذكيّ بليد، ومعاش وتوليد، وطريف في البداوة وتليد، ليس به برباه ولا هرم، يخدم بها درب محترم، ويشبّ لقرياته حرم، فيفيد روحانيا يتصرف، ورئيسا يتعرّض ويتعرّف، كلما استنزل صاب، وأعمل الانتصاب، وجلب المآرب وأذهب الأوصاب، وعلم الجواب، وفهم الصواب. ولو فرضنا هذه المدارك ذوات أمثال، أو مسبوقة بمثال، لتلقينا منشور القضاء بامتثال، لكنّا نخاف أن نميل بعض الميل، فنجني بذلك أبخس الجري وإرضاء الذّميل، ونجرّ تنازع الفهري مع الصّميل. فمن خيّر ميّز، ومن حكم أزري به وتهكّم، وما سلّ سيوف الخوارج، في الزمن الدّارج، إلّا التّحكيم، حتى جهل الحكيم، وخلع الخطام ونزع الشّكيم، وأضرّ بالخلق نافع، وذهب الطفل لجراه واليافع، وذم الذّمام وردّ الشّافع، وقطر سيف قطري، بكل نجيع طري، وزار الشّيب الأسد الهصور، وصلّت الغزالة بمسجد الثّقفي وهو محصور، وانتهبت المقاصير والقصور، إلّا أن مستأهل الوظيفة الشّرعية عند الضرورة يجبر، والمنتدب للبرّ محيي عند الله ويجبر، واجعلني على خزائن الأرض وهو الأوضح والأشهر، فيها به يستظهر. وأنا فإن حكمت على التّعجيل،
فغير مشهد على نفسي بالتّسجيل، إنما هو تلفيق يرضى وتطفيل، يعتب عليه من تصدّع بالحق ويمضى، إلّا أن يغضى، ورأيي فيها المراضاة والاستصلاح، وإلّا فالسّلاح والرّكاب الطلّاح، والصلح خير، وما استدفع بمثل التّسامح ضير. ومن وقف عليه، واعتبر ما لديه، فليعلم أني صدعت وقطعت، والحقّ أطعت، وإن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، والسلام.(3/376)
أو كنت أرخصت في التّرجيح مجتهدا
لم يقبل الورع الفتيا مع الرّخص
يا مدلج ليل التّرجيح، قف فقد خفيت الكواكب، ويا قاضي طرف التّحسين والتّقبيح، تسامت والحمد لله المناكب، ويا مستوكف خبر الوقيعة من وراء أقتام القيعة تصالحت المواكب. حصحص الحقّ فارتفع اللّجاج، وتعارضت الأدلّة فسقط الاحتجاج، ووضعت الحرب أوزارها فسكن العجاج، وطاب نحل الأقلام بأزهار الأحلام فطاب المجاج، وقلّ لفرعون البيان وإن تألّه، وبلّد العقول وبلّه، وولّى بالغرور ودلّه. أوسع الكنائن نثلا، ودونك أيّدا شثلا، وشحرا حثلا، لا خطما ولا أثلا. إن هذان لساحران إلى قوله: ويذهبا بطريقتكم المثلى وإن أثرت أدب الحليم، مع قصّة الكليم، فقل لمجمل جياد التّعاليم، وواضع جغرافيا الأقاليم، أندلسا ما علمت بلد الأجم، لا سود العجم، ومداحض السّقوط، على شوك قتاد القوط، ولم يذر إن محل ذات العجائب والأسرار التي تضرب إليها أباط النّجاب في غير الإقليم الأول، وهذا الوطن بشهادة القلب الحوّل، إنما هو رسم دارس ليس عليه من معوّل. فهنالك يتكلم الحق فيفصح ويعجم، ويرد المدد على النفوس الجريئة من مطالع الأضواء فيحدّث ويلهم، ويجود خازن الأمداد، على المتوسّل بوسيلة الاستعداد، فيقطع ويسهم. وأما إقليمنا الرابع والخامس، بعد أن تكافأت المناظر والملامس، وتناصف الليل الدّامس واليوم الشّامس، باعتدال ربيعي، ومجرى طبيعي، وذكيّ بليد، ومعاش وتوليد، وطريف في البداوة وتليد، ليس به برباه ولا هرم، يخدم بها درب محترم، ويشبّ لقرياته حرم، فيفيد روحانيا يتصرف، ورئيسا يتعرّض ويتعرّف، كلما استنزل صاب، وأعمل الانتصاب، وجلب المآرب وأذهب الأوصاب، وعلم الجواب، وفهم الصواب. ولو فرضنا هذه المدارك ذوات أمثال، أو مسبوقة بمثال، لتلقينا منشور القضاء بامتثال، لكنّا نخاف أن نميل بعض الميل، فنجني بذلك أبخس الجري وإرضاء الذّميل، ونجرّ تنازع الفهري مع الصّميل. فمن خيّر ميّز، ومن حكم أزري به وتهكّم، وما سلّ سيوف الخوارج، في الزمن الدّارج، إلّا التّحكيم، حتى جهل الحكيم، وخلع الخطام ونزع الشّكيم، وأضرّ بالخلق نافع، وذهب الطفل لجراه واليافع، وذم الذّمام وردّ الشّافع، وقطر سيف قطري، بكل نجيع طري، وزار الشّيب الأسد الهصور، وصلّت الغزالة بمسجد الثّقفي وهو محصور، وانتهبت المقاصير والقصور، إلّا أن مستأهل الوظيفة الشّرعية عند الضرورة يجبر، والمنتدب للبرّ محيي عند الله ويجبر، واجعلني على خزائن الأرض وهو الأوضح والأشهر، فيها به يستظهر. وأنا فإن حكمت على التّعجيل،
فغير مشهد على نفسي بالتّسجيل، إنما هو تلفيق يرضى وتطفيل، يعتب عليه من تصدّع بالحق ويمضى، إلّا أن يغضى، ورأيي فيها المراضاة والاستصلاح، وإلّا فالسّلاح والرّكاب الطلّاح، والصلح خير، وما استدفع بمثل التّسامح ضير. ومن وقف عليه، واعتبر ما لديه، فليعلم أني صدعت وقطعت، والحقّ أطعت، وإن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، والسلام.
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن ابن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي (1)
من ذرّية (2) عثمان أخي كريب المذكور في نبهاء ثوار الأندلس. وينتسب (3)
سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف (4).
أوليته: قد ذكر بعض منها. وانتقل (5) سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعيّن وشهرة (6) عند الحادثة بها، أو قبل ذلك، واستقرّ (7) بتونس منهم ثالث (8) المحمدين محمد بن الحسن، وتناسلوا على سراوة (9) وحشمة ورسوم حسنة، وتصرّف جدّ المترجم به لملوكها (10) في القيادة.
حاله: هذا (11) الرجل الفاضل حسن الخلق، جمّ الفضائل باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصّيّ الزّيّ، عالي الهمّة، عزوف عن الضّيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن (12) الرئاسة، خاطب للحظّ، متقدّم في فنون عقلية ونقلية، متعدّد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التّصوّر، بارع الخطّ، مغرى بالتجلّة، جواد الكفّ (13)، حسن العشرة، مبذول
__________
(1) ترجمة ابن خلدون في نفح الطيب (ج 8ص 306وما بعدها)، وجاء فيه أنه «عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن» والضوء اللامع (ج 4ص 145) والأعلام (ج 3ص 330).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 306).
(3) في النفح: «وينسب».
(4) في النفح: «معروفة».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 306).
(6) كلمة «وشهرة» غير واردة في النفح.
(7) في النفح: «فاستقرّ».
(8) في النفح: «ثاني».
(9) في النفح: «على حشمة وسراوة».
(10) كلمة «لملوكها» غير واردة في النفح.
(11) النص في نفح الطيب (ج 8ص 307306).
(12) القنن: جمع قنّة وهي أعلى الجبل. لسان العرب (قنن).
(13) كلمة «الكف» غير واردة في النفح.(3/377)
المشاركة، مقيم لرسوم التّعين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخرة (1) من مفاخر التّخوم المغربية.
مشيخته: قرأ (2) القرآن ببلده على المكتّب ابن برال، والعربية على المقرئ الزواوي (3)، وابن العربي، وتأدّب بأبيه، وأخذ عن المحدّث أبي عبد الله بن جابر الوادي آشي. وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام، وروى عن الحافظ عبد الله (4) السّطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلي، وانتفع به.
توجّهه إلى المغرب: انصرف (5) عن (6) إفريقية منشئه، بعد أن تعلّق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة. وعرف فضله، وخطبه السلطان منفّق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن علي بن عثمان، واستقدمه (7)، واستحضره بمجلس المذاكرة، فعرف حقّه، وأوجب فضله، واستعمله في (8) الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصّة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأنّي، وشفوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، فأغروا به السلطان إغراء عضّده ما جبل عليه عندئذ (9) من إغفال التّحفّظ، ممّا يريب لديه، فأصابته شدّة تخلّصه منها أجله كانت مغربة في جفاء ذلك الملك، وهناة جواره، وإحدى العواذل لأولي الهوى في القول بفضله، [واستأثر به الاعتقال باقي أيام دولته على سنن الأشراف من الصّبر] (10) وعدم الخشوع، وإهمال التوسّل، وإبادة المكسوب في سبيل النّفقة، والإرضاخ على زمن المحنة، وجار المنزل الخشن، إلى أن أفضى الأمر إلى السّعيد ولده، فأعتبه قيّم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه. ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال، قبل تسوّغ المحنة، بما أكد حظوته، فقلّده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات، محرّر السّهام، نبيه الرّتبة، إلى آخر أيامه. ولمّا ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله، مدبّر الأمر، وله إليه قبل ذلك (11) وسيلة، وفي حليه شركة، وعنده حقّ، رابه تقصيره عمّا ارتمى إليه أمله، فساء ما بينهما إلى أن آل إلى انفصاله عن الباب المريني.
__________
(1) في النفح: «مفخر».
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 307).
(3) في النفح: «الزواوي وغيره».
(4) في النفح: «أبي عبد الله».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 308307).
(6) في النفح: «من».
(7) كلمة «واستقدمه» غير واردة في النفح.
(8) في النفح: «على».
(9) في النفح: «عهدئذ».
(10) ما بين قوسين غير وارد في النفح.
(11) قوله: «قبل ذلك» غير وارد في النفح.(3/378)
دخوله غرناطة: ورد (1) على الأندلس في أوائل (2) شهر ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعمائة، واهتزّ له السلطان، وأركب خاصّته لتلقّيه، وأكرم وفادته، وخلع عليه، وأجلسه بمجلسه الخاص (3)، ولم يدّخر عنه برّا ومؤاكلة ومطايبة وفكاهة.
وخاطبني لما حلّ بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن، فأجبته عنها بقولي (4): [الطويل]
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرّحب والسّهل
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشّيخ والطفل المهدّإ (5) والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسّي اغتباطي بالشّبيبة والأهل (6)
أقسمت (7) بمن حجّت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمّة الأحياء لميته، [ونور ضربت الأمثال بمشكاته (8) وزيته، لو خيّرت أيها الحبيب] (9) الذي زيارته الأمنية السّنيّة، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشّباب يقطر ماء، ويرفّ نماء، ويغازل عيون الكواكب، فضلا عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط (10) يلمّ بسياج لمّته، أو يقدح ذبالة (11) في ظلمته، أو يقوم حواريّه في ملّته (12)، من الأحابش وأمّته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النّعيم ومراح، وقصف صراح (13)، [ورقّى (14) وجراح،] (15) وانتحاب (16) واقتراح، وصدور ما بها إلّا انشراح، ومسرّات تردفها أفراح. وبين قدومك خليع الرّسن، ممتّعا والحمد
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 308).
(2) في النفح: «أول ربيع الأول عام».
(3) كلمة «الخاص» غير واردة في النفح.
(4) الرسالة، بما فيها الأبيات، في التعريف بابن خلدون (ص 82) وريحانة الكتاب (ج 2ص 185 186) ونفح الطيب (ج 8ص 309308).
(5) في ريحانة الكتاب: «المعصّب».
(6) جاء في الريحانة بعد هذا البيت البيت التالي:
وودّي لا يحتاج فيه لشاهد ... وتقريري المعلوم ضرب من الجهل
(7) في الريحانة: «يمينا بربّ حجّت».
(8) المشكاة هنا: المصباح.
(9) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من المصادر.
(10) الوخط: الشّيب. لسان العرب (وخط).
(11) الذّبالة: الفتيلة. لسان العرب (ذبل).
(12) في الريحانة: «لمتّه».
(13) في الريحانة: «ونصب وصراح».
(14) في الأصل: «ورفى»، والتصويب من النفح والتعريف.
(15) ما بين قوسين ساقط في الريحانة.
(16) في الأصل: «وانتخاب»، وكذلك في الريحانة، والتصويب من النفح.(3/379)
لله (1) باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد أو فتك الحسن، ممتعا بظرف المعارف، مالئا أكفّ الصّيارف، ماحيا بأنوار البراهين شبه الزّخارف لما اخترت الشّباب وإن شاقني (2) زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب (3) دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى (4) جنون اغترابي، وملّكني أزمة آرابي، وغبّطني بمائي وترابي، [ومألف أترابي،] (5) وقد أغصّني بلذيذ شرابي، ووقّع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجّلت هذه مغبّطة بمناخ المطيّة (6)، ومنتهى الطّيّة، وملتقى السّعود (7)
غير البطيّة، وتهنّي الآمال الوثيرة الوطيّة، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريّك، متجمّلة بزيّك، عاقلة خطى مهريّك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظانّ (8)
مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع (9) فضل مجدك في (10) التخلّف عن الإصحار (11)، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسّلام.
ولما (12) استقرّ بالحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظّرف جانبه، وأوضح الأدب فيها (13) مذاهبه. فمن ذلك ما خاطبته به، وقد تسرّى جارية روميّة اسمها هند صبيحة الابتناء بها: [السريع]
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشّكّ إذا جئته ... جنّبك الرحمن ما تكره
سيدي، لا زلت تتّصف بالوالج، بين الخلاخل والدّمالج (14)، وتركض فوقها ركض الهمالج (15) أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطّت بالقاع من خير البقاع الرّحال، وأحكم بمرود (16) المراودة الاكتحال، وارتفع بالسّقيا الإمحال، وصحّ
__________
(1) قوله: «والحمد لله» ساقط في الريحانة.
(2) في النفح: «راقني».
(3) في النفح: «سحائب».
(4) في الريحانة: «وقى».
(5) ما بين قوسين ساقط في الريحانة.
(6) في الريحانة: «الطّية».
(7) في الأصل: «للسعود» والتصويب من المصادر.
(8) في الريحانة: «ومطابق».
(9) في الريحانة: «ويسمعني».
(10) في الريحانة: «عن».
(11) الإصحار: الخروج إلى الصحراء. محيط المحيط (صحر).
(12) النص في نفح الطيب (ج 8ص 315309).
(13) كلمة «فيها» غير واردة في النفح.
(14) الخلاخل: جمع خلخال وهو حلية تلبسها المرأة في ساقها. والدمالج: جمع دملج وهي حلية تلبسها المرأة في ساعدها. وأراد هنا: بين الأيدي والأرجل. لسان العرب (خلخل) و (دملج).
(15) الهمالج: جمع هملاج وهو الدابّة الحسنة السّير والسريعة. لسان العرب (هملج).
(16) المرود: الميل يكتحل به. محيط المحيط (رود).(3/380)
الانتحال، وحصحص الحقّ وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفّت هند منك إلى بشر، فلله من عشيّة تمتّعت من الربيع بفرش موشيّة، وابتذلت (1) منها أي وساد وحشية، وقد أقبل ظبي الكناس، من الدّيماس، ومطوق الحمام، من الحمّام، وقد حسّنت الوجه الجميل التّطرية (2)، وأزيلت عن الفرع الأثيث الإبرية (3)، وصقلت الخدود فهي (4) كأنها الأمرية (5)، وسلّط الدّلك على الجلود، وأغريت النّورة بالشّعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللّمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسّحنة يجول في صفحتها الفضّيّة ماء النعيم، والمسواك يلبّي من ثنيّة التّنعيم والقلب يرمي من الكفّ الرّقيم (6) بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول: إني سقيم. وقد تفتّح ورد الخفر، وحكم لزنجي الظّفيرة بالظّفر، واتّصف أمير الحسن بالصّدود المغتفر، ورشّ بماء الطّيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرّطيب. وأقبلت الغادة، يهديها اليمن وتزقّها السعادة، فهي تمشي على استحياء وقد ذاع طيب الريّا، وراق حسن المحيّا، حتى إذا نزع الخفّ، وقبّلت الأكفّ، وصخب (7) المزمار وتجاوب الدّف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوّز اللّوا والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزّت الأرض وربت، وعوصيت الطّباع البشرية فأبت. ولله درّ القائل (8): [المتقارب]
ومرّت فقالت (9): متى نلتقي؟ ... فهشّ اشتياقا إليها الخبيث
وكاد يمزّق سرباله ... فقلت: إليك يساق الحديث (10)
فلمّا انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام (11)، وخاطت خيوط المنام، عيون الأنام، تأتّى دنوّ الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضّة النهد، وقبلة الفم والخدّ، وإرسال اليد من النّجد إلى الوهد،
__________
(1) في النفح: «وأبدلت منها أي آساد وحشية».
(2) في الأصل: «النظريّة». وتطرية الوجه: تحسينه وتزيينه. لسان العرب (طرا).
(3) الفرع: الشّعر. الأثيث: الكثير، والمراد هنا شعر الرأس. الإبرية: قشر الرأس يسقط عند المشط. محيط المحيط (فرع) و (أثث) و (برى).
(4) كلمة «فهي» غير واردة في النفح.
(5) الأمرية: المرايا، جمع مرآة.
(6) الرقيم: المزيّن. لسان العرب (رقم).
(7) في الأصل: «وصحب» والتصويب من النفح.
(8) البيتان لبشار بن برد، وهما في ديوانه (ص 289).
(9) في الديوان: «فقلت».
(10) أخذ عجز البيت من المثل: «إليك يساق الحديث». مجمع الأمثال (ج 1ص 48).
(11) في النفح: «السلام».(3/381)
وكانت الإمالة القليلة قبل المدّ، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوّش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السّرير (1): [الطويل]
وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال
هذا (2) بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في حلّ (3) التّكة، ونزع الشّكة، وتهيئة الأرض العزاز (4) عمل السّكة، ثم كان الوحي والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطّبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النّبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السّبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطّع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق، وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التّراوغ والتّزاور، وشكي التجاور (5)، وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أو تربح الأموال، فمن عصا تنقلب ثعبانا مبينا، ونونة (6) تصير تنينا، وبطل لم يهله (7) المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرّته (8) الحائل، فتعدّى فتكة السّليك إلى فتكة البرّاض، وتقلّد مذهب الأزارقة (9) من الخوارج في الاعتراض، ثم شقّ الصفّ، وقد خضّب الكفّ، بعد أن كاد يصيب البريّ (10) بطعنته، ويبوء بمقت الله ولعنته (11): [الطويل]
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقّع فاستراح البال، وتشوّف إلى مذهب الثنوية من لم يكن للتّوحيد بمبال، وكثر السؤال عن البال، بما بال، وجعل الجريح يقول: وقد نظر إلى دمه، يسيل على قدمه: [البسيط]
إنّي له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول: حمّلته في سفكه تعبا
__________
(1) البيت لامرىء القيس وهو في ديوانه (ص 32).
(2) في النفح: «وهذا».
(3) كلمة «حلّ» ساقطة في النفح.
(4) في الأصل: «الغرار» والتصويب من النفح، والأرض العزاز: الأرض الصلبة. لسان العرب (عزز).
(5) في النفح: «التحاور».
(6) النونة: السمكة. لسان العرب (نون). وفي النص كنايات تنطوي على الغمز والسخرية.
(7) في النفح: «يهمله».
(8) في النفح: «قرنه».
(9) الأزارقة: فرقة من فرق الخوارج منسوبة إلى نافع بن الأزرق. الملل والنحل (ج 1ص 118).
(10) في النفح: «البوسى بطعنته».
(11) البيت لقيس بن الخطيم، وهو في ديوانه (ص 7).(3/382)
ومن (1) سنان عاد عنانا، وشجاع صار هدانا (2) جبانا، كلما شابته شائبة ريبة، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحيّة، وماتت الغريزة الحيّة، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأسر، ويغلب الحصر، ويجفّ اللّباب (3)، ويظهر العاب (4)، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق، ويشتدّ الكرب والأرق، وينشأ في محلّ الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق، ويقوى اللّجاج ويعظم الخرق. فلا تزيد الحال إلا شدّة، ولا تعرف تلك الجارحة (5) المؤمنة إلّا ردّة: [الطويل]
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر (6) ما يجني عليه اجتهاده
فكم مغرى بطول اللّبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرّة، ليزيل المعرّة، ويستنصر الخيال، ويعمل باليد الاحتيال: [الرجز]
إنك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثّقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه، جرّعه أوصابه (7)، ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحيانا، فقال: سيحدث الله بعد عسر يسرا وبعد عيّ بيانا، اللهمّ إنّا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها، ولم تسم (8) بالنّجيع أغفالها (9)، ومن معرّات الأقذار (10)، والنكول عن الأبكار، ومن النّزول عن البطون والسّرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدّرر، ولا تجعلنا ممن يستحي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت رويّة وارتجال. فمن قائل: [السريع]
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطرب (11) أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله
__________
(1) معطوفة على قوله فيما سبق: «فمن عصا تنقلب ثعبانا».
(2) كلمة «هدانا» غير واردة في النفح.
(3) في النفح: «اللعاب».
(4) العاب: العيب. محيط المحيط (عيب).
(5) في النفح: «الجائحة».
(6) في النفح: «فأول».
(7) الأوصاب: جمع وصب وهو المرض. لسان العرب (وصب).
(8) في النفح: «ولم تتّسم».
(9) في الأصل: «أعفالها» والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «الأقدار» بالدال المهملة، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «مضطربة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(3/383)
أو قائل (1): [السريع]
عدمت من أيري قوى حسّه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خرّ على أسّه
وقائل: [الطويل]
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي ورأسي دمّلا وزكاما؟
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يريد (2) قياما (3)
وقائل: [الطويل]
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به: خبت من أير وعالتك (4) داهيه
إذا لم يك للأير بخت تعذّرت ... عليه وجوه النيك (5) من كلّ ناحيه
وقائل: [الطويل]
تعقّف (6) فوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركيّة ملتفّ
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضّعف
وقائل: [الطويل]
تكرّش أيري بعدما كان أملسا ... وكان غنيّا من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي ... «مضى الوصل إلّا منية تبعث الأسى»
وقائل: [الطويل]
بنفسي من حيّيته فاستخفّ بي ... ولم يخطر الهجران منه (7) على بالي (8)
وقابلني بالغور والنّجد (9) بعدما ... حططت به رحلي (10) وجرّدت سربالي
وما أرتجي من موسر فوق دكّة (11) ... عرضت له شيئا من الحشف البالي
__________
(1) في النفح: «وقائل».
(2) في النفح: «لا يطيق».
(3) بعد هذا البيت جاء في النفح البيت التالي:
إذا نهضت للنيك أزباب معشر ... توسّد إحدى خصيتيه وناما
(4) في الأصل: «وغالتك» والتصويب من النفح.
(5) بياض في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(6) في الأصل: «تعفّف» والتصويب من النفح.
(7) في النفح: «يوما».
(8) في الأصل: «بال» والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «وقابلني بالهزء والنجة» والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «رجلي» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «تكّة»، وهما بمعنى واحد.(3/384)
علل (1) لا تزال تبكى، وعلل على الدهر تشكى، وأحاديث تقصّ وتحكى، فإن كنت أعزّك الله من النّمط الأول، ولم تقل: [الطويل]
وهل عند رسم دارس من معوّل (2)
فقد جنيت الثّمر، واستطبت السّمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزّينة (3)، واستبشر بالوفود، وعرّف المسمع عازفة (4) الجود، وتبجّح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمّان النّهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللّثم أقاح الثّغور وورد الخدود، وإن كانت الأخرى، فأخف الكمد، وارض الثمد، وانتظر الأمد، وأكذب التوسّم، واستعمل التّبسّم، واستكتم النّسوة، وأفض فيهنّ الرّشوة، وتقلّد المغالطة وارتكب، وجىء على قميصك (5) بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمورك (6) بالكتمان:
[الكامل]
لا تظهرنّ لعاذل أو عاذر ... حاليك في السّرّاء والضّرّاء (7)
فلرحمة المتفجّعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طبّق وما همى (8)، {وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ} (9)، واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكّنك الفرصة، وترفع إليك القصّة، ولا تشتره (10) إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله درّ عروة بن حزام (11): [الكامل]
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم ... أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي
ففررت منهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
__________
(1) في النفح: «هموم».
(2) هو عجز بيت لامرىء القيس، وصدره:
وإنّ شفائي عبرة إن سفحتها
ديوان امرئ القيس (ص 9).
(3) يشير إلى زهوه فيشبهه بقارون.
(4) في الأصل: «عارفة» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «قميصه».
(6) في النفح: «أمرك».
(7) في النفح: «في الضرّاء والسرّاء».
(8) في النفح: «غمام طما».
(9) سورة الأنفال 8، الآية 17.
(10) في النفح: «ولا تسرع».
(11) في النفح: «درّ الحارث بن هشام».(3/385)
واللّبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح (1)، وكم من شجاع خام (2)، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضلّ الفريق، والله عزّ وجلّ يجعلها خلّة موصولة، وشملا أكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركاب (3) اليمن مأمولة، حتى يكثر (4) خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتضفو عليه نعمة (5) باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عيص (6)، وأدرك مرام عويص (7)، وأعطي زاهد وحرم حريص، والسّلام.
تواليفه: شرح (8) القصيدة المسماة بالبردة (9) شرحا بديعا، دلّ فيه على انفساح ذرعه، وتفنّن إدراكه، وغزارة حفظه. ولخّص كثيرا من كتب ابن رشد.
وعلّق للسلطان أيام نظره في العلوم (10) العقلية تقييدا مفيدا في المنطق، ولخّص محصّل الإمام فخر الدين ابن الخطيب (11) الرازي. وبذلك (12) داعبته أول لقية لقيته (13) [ببعض منازل الأشراف، في سبيل المبرّة بمدينة فاس،] (14) فقلت له:
لي عليك مطالبة، فإنك لخّصت «محصّلي». وألّف كتابا في الحساب. وشرع في هذه الأيام في شرح الرّجز الصادر عني في أصول الفقه، بشيء لا غاية وراءه (15)
في الكمال. وأمّا نثره وسلطانيّاته، مرسلها ومسجعها (16)، فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع.
وأما نظمه، فنهض لهذا العهد قدما في ميدان الشّعر، وأغري (17) نقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوّه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة. من (18) ذلك قوله يخاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة
__________
(1) تسمح: هنا بمعنى تلين.
(2) خام: جبن. محيط المحيط (خيم).
(3) في النفح: «لركائب».
(4) في النفح: «تكثر».
(5) في النفح: «نعم».
(6) العيص: الشجر الكثير الملتفّ. لسان العرب (عيص).
(7) العويص: الصعب. لسان العرب (عوص).
(8) النص في نفح الطيب (ج 8ص 316315).
(9) في النفح: «شرح البردة».
(10) في النفح: «في العقليات».
(11) في النفح: «فخر الدين الرازي».
(12) في النفح: «وبه».
(13) في النفح: «أول لقيه».
(14) ما بين قوسين ساقط في النفح.
(15) في النفح: «فوقه».
(16) في النفح: «وسلطانياته السجعية».
(17) في النفح: «الشّعر، ونقده».
(18) في النفح: «غريبة. خاطب السلطان».(3/386)
بقصيدة طويلة (1): [الكامل]
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي وتحيبي
وأبين يوم البين موقف (2) ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
لله عهد الظّاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب (3)
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي (4)
يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصّبّ الملام وإنني ... ماء الملام لديّ غير شريب (5)
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكّر منزل وحبيب
أهفو إلى الأطلال كانت مطلعا ... للبدر منهم أو كناس ربيب
عبثت بها أيدي البلى وتردّدت ... في عطفها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإنّ عهودها ... ليجدّها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرّضت لمتيّم ... هزّته ذكراها إلى التّشبيب
إيه على الصّبر الجميل فإنه ... ألوى (6) بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغضّ طرفي حاسد ورقيب
والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كلّ قشيب (7)
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الإسآد (8) بالتّأويب (9)
متهافتا عن رحل كلّ مذلّل ... نشوان من أين ومسّ لغوب
تتجاذب النّفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا وجنوب
__________
(1) في النفح: «طويلة أولها» والقصيدة في التعريف بابن خلدون (ص 7270) ونفح الطيب (ج 8ص 317316).
(2) في النفح: «وقفة».
(3) الظاعنون: الراحلون. الوجيب: خفقان القلب واضطرابه. لسان العرب (ظعن) و (وجب).
(4) الغروب: جمع غرب وهو عرق في العين يسيل منه الدمع. لسان العرب (غرب).
(5) الشريب: الماء دون العذب. محيط المحيط (شرب).
(6) ألوى: أنكر يقال: ألوى بحقّه إذا جحده إياه. محيط المحيط (لوى).
(7) القشيب: الجديد. لسان العرب (قشب).
(8) في الأصل: «الآساد»، والتصويب من النفح. والإسآد: سير الليل كله بغير تعريس. لسان العرب (سأد).
(9) التأويب: سير النهار كله إلى الليل. لسان العرب (أوب).(3/387)
إن هام من ظمإ الصّبابة صحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب (1)
في كلّ شعب منية من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلّا عطفت صدورهنّ إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤمّ من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوّة آيها مجلوّة ... تتلو من الآثار كلّ غريب
سرّ غريب لم تحجّبه (2) الثّرى ... ما كان سرّ الله بالمحجوب
يا سيّد الرّسل الكرام ضراعة ... تقضي منى (3) نفسي وتذهب حوبي (4)
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعلّلني بكل كذوب
لا كالألى (5) صرفوا العزائم للتّقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب
لم يخلصوا لله حتى فرّقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحا جميلا عن قبيح ذنوبي
إنّ النجاة وإن أتيحت لامرىء ... فبفضل جاهك ليس بالتّسبيب
إني دعوتك واثقا بإجابتي ... يا خير مدعوّ وخير مجيب
قصّرت في مدحي فإن يك طيّبا ... فبما لذكرك من أريج الطّيب
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كلّ مطيب
يا هل تبلّغني الليالي زورة ... تدني إليّ الفوز بالمرغوب؟
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحطّ أوزاري وإصر ذنوبي (6)
في فتية هجروا المنى وتعوّدوا ... إنضاء كلّ نجيبة ونجيب (7)
يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب (8)
__________
(1) بعد هذا البيت جاء في نفح الطيب البيت التالي:
أو تعترض مسراهم سدف الدّجى ... صدعوا الدّجى بغرامه المشبوب
(2) في النفح: «يحجّبه».
(3) في الأصل: «من» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) الحوب: الذنب والإثم. محيط المحيط (حوب).
(5) في الأصل: «كاللآلىء» وهكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) الأوزار: جمع وزر وهو الذّنب. الإصر: ثقل الذنب. لسان العرب (وزر) و (أصر).
(7) أنضى ناقته: حملها على السير حتى أهزلها. النجيبة: الناقة الحسنة السير بسرعة. لسان العرب (نضا) و (نجب).
(8) الخبب والتقريب: ضربان من السير السريع. لسان العرب (خبب) و (قرب).(3/388)
إن رنّم الحادي بذكرك ردّدوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرّد الرّكب الخليّ بطيبة ... حنّوا لمغناها حنين النّيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النّقع كلّ سبيب (1)
والواهبون المقربات هواتنا ... من كلّ خوّار العنان لعوب (2)
والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعزّ شيمة مرتجى ومهيب
ومنها بعد كثير (3):
سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح (4) العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنّة وعزائم ... يصدعن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلم الضّلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب
يا ابن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب
لله مجدك طارفا أو تالدا ... فلقد شهدنا منه كلّ عجيب
كم رهبة أو رغبة لك والعلا ... تقتاد بالتّرغيب والتّرهيب
لا زلت مسرورا بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غاديا أو رائحا ... وجديد سعدك ضامن المطلوب
وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هديّة ملك السودان (5)، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزّرافة (6): [الكامل]
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولربّ وصل كنت آمله ... فاعتضت منه مؤلم الصّدّ
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إنّ الغرام أضاع من عهدي
__________
(1) السبيب: شعر ذنب الفرس أو عرفه. محيط المحيط (سبب).
(2) المقربات: الخيل. خوّار العنان: ليّن العطف. لسان العرب (قرب) و (خور).
(3) في النفح: «ومنها».
(4) في التعريف بابن خلدون: «تزجيه ريح».
(5) في النفح: «السودان إليه، وفيها الزرافة».
(6) القصيدة في التعريف بابن خلدون (ص 7574) ونفح الطيب (ج 8ص 321319).(3/389)
يلحى العذول فما أعنّفه ... وأقول: ضلّ فأبتغي رشدي
وأعارض النّفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعلّلي بضعيف ما تهدي
يا سائق الوجناء (1) معتسفا ... طيّ الفلاة لطيّة الوجد
أرح الرّكاب ففي الصّبا نبأ ... يغني عن المستنّة الجرد (2)
وسل الرّبوع برامة خبرا ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلّا الرّشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرّشد
نعم الخليفة (3) في هدى وتقى ... وبناء عزّ شامخ الطّود
نجل السّراة الغرّ شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصه إليه، وما ارتكبه فيه (4):
لله منّي إذ تأوّبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفلّ بواترا (5) قضبا ... وجموع أقيال أولي أيد (6)
أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حقّ المجد من قصدي
ووردت عن ظمإ مناهلة ... فرويت من عزّ ومن رفد (7)
هي جنّة المأوى لمن كلفت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعلّ بورد كوثرها ... ما قلت: هذي جنّة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النّوى وتنوفة (8) البعد
أني أنفت على رجائهم ... وملكت عزّ جميعهم وحدي
__________
(1) في التعريف بابن خلدون: «الأضعان».
(2) المستنّة: الفرس الذي يقبل ويدبر في ركضه. الجرد: جمع أجرد وهو القصير الشعر. لسان العرب (سنن) و (جرد).
(3) في الأصل: «الخليقة» والتصويب من المصدرين.
(4) اكتفى في النفح بالقول: «ومنها».
(5) في الأصل: «بواتر» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) الأيد: القوة. لسان العرب (أيد).
(7) الرّفد: العطاء. لسان العرب (رفد).
(8) التنوفة: الأرض البعيدة الواسعة التي لا ماء فيها. لسان العرب (تنف).(3/390)
ومنها:
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشيّة بوشائح (1) البرد
وحشيّة الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقود (2)
تسمو بجيد بالغ صعدا ... شرف الصّروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفا وصلت ... آسادها (3) بالنّصّ والوخد (4)
تخدي (5) على استصعابها ذللا ... وتبيت طوع القنّ والقدّ (6)
بسعودك اللائي ضمنّ لنا ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلّبهم ... أيدي السّرى بالغور والنّجد
كالطّيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسلّ من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند
يا مستعينا جلّ في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربّك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما يسدي (7)
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزّة أبدا وفي سعد
وقال يخاطب (8) صدر الدولة فيما يظهر من غرض المنظوم (9): [الكامل]
يا سيّد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البثّ خير سميع
ما لي وللإقصاء بعد تعلّة ... بالقرب كنت لها أجلّ شفيع
__________
(1) في الأصل: «بوشائج» والتصويب من النفح.
(2) هكذا في التعريف بابن خلدون. وفي النفح: «بالقرد».
(3) في النفح: «إسآدها».
(4) النص والوخد: ضربان من السير السريع. لسان العرب (نعص) و (خدد).
(5) في الأصل: «تحدى»، والتصويب من النفح.
(6) خدى الفرس والبعير يخدي: يسرع. الذّلل: جمع ذلول وهي التي ريضت حتى سهل قيادها.
والقنّ والقدّ: أراد بهما ما تربط به من حبل ونحوه. لسان العرب (خدى) و (ذلل) و (قنن) و (قدد).
(7) في النفح: «ما تسدي».
(8) في النفح: «وقال يخاطب عمر بن عبد الله ملك المغرب».
(9) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 322321).(3/391)
وأرى الليالي رنّقت لي صافيا ... منها فأصبح في الأجاج شروعي (1)
ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأيّ وعد صادق ... إني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي
رغمت نفوسهم (2) بنجح وسائلي ... وتقطّعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموا عليّ خلائقي ... حسدا فراموني بكلّ شنيع
لا تطمعنّهم ببذل في التي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوعي
أنّى أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيّعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمك (3) ذاك من تفريعي
قسما بمجدك وهو خير أليّة (4) ... أعتدّها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفا عليّ بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي
أغدو إذا باكرتهم متجلّدا ... وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسرّ في الأوهام كلّ مروع
أطوي على الزّفرات قلبا إدّه (5) ... حمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع
مهلا عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له أجنّ دروع (6)
إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذّ الجميع بفضله المجموع
وأنشد السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله ابن أمير المسلمين أبا الحجاج، لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم، من عام أربعة وستين وسبعمائة (7): [البسيط]
حيّ المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إنّ الألى نزحت داري ودارهم ... تحمّلوا القلب في آثارهم دوني
__________
(1) رنّقت: كدّرت. الأجاج: الملح الأجاج وهو الشديد الملوحة. لسان العرب (رنق) و (أجج).
(2) في النفح: «أنوفهم».
(3) في النفح: «بعلمي».
(4) الأليّة: القسم. لسان العرب (ألا).
(5) في النفح: «آده».
(6) أجنّ دروع: أكثرها وقاية. لسان العرب (جنن).
(7) القصيدة في التعريف بابن خلدون (ص 8685) ونفح الطيب (ج 8ص 326324).(3/392)
وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسما لا يناجيني
أمثّل الرّبع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد منّي كلّ لؤلؤة ... ما زال جفني (1) عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الرّبع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أنّ قلبي إلى السّلوان يدعوني
أحبابنا، هل لعهد الوصل مدّكر ... منكم وهل نسمة منكم تحيّيني؟
ما لي وللطّيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلا لا يداويني
يا أهل نجد، وما نجد وساكنها ... حسنا سوى جنّة الفردوس والعين (2)
أعندكم أنّني ما مرّ ذكركم ... إلّا انثنيت كأنّ الرّاح تثنيني
أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقا، ولولاكم ما كان يصبيني (3)
يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قربا يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوما بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادّكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في ذكر التفريط:
أبعد مرّ الثلاثين التي ذهبت ... أولي الشّباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيسا ما وردت به ... إلّا سراب غرور ليس يروّيني
وا حسرتا (4) من أمان (5) كلّها خدع ... تريش غيّي ومرّ الدّهر يبريني
ومنها في وصف المشور (6) المبتنى (7) لهذا العهد:
يا مصنعا شيّدت منه السّعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطّرف مفتتنا ... فما يروقك من شكل وتلوين (8)
__________
(1) في التعريف بابن خلدون: «قلبي».
(2) العين: جمع عيناء وهي الواسعة العينين. لسان العرب (عين).
(3) يصبيني: يجعلني أصبو. لسان العرب (صبا).
(4) في النفح: «وا حسرتي».
(5) في الأصل: «أمانيّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) المشور: المكان الذي يجلس فيه السلطان للحكم.
(7) في النفح: «المبني».
(8) في النفح: «وتكوين».(3/393)
بعدا لإيوان كسرى إنّ مشورك السّ ... امي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... «أشهى إلى القلب من أبواب جيرون»
ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه من المغرب لأجله (1):
من مبلغ عنّي الصّحب الألى جهلوا ... ودّي وضاع حماهم إذ أضاعوني
أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحيّيني
وإنني ظاعن لم ألق بعدهم ... دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلّب الطّرف بين الخوف والهون
سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظّ غير مغبون
أرتاد منها مليّا لا يماطلني ... وعدا وأرجو كريما لا يعنّيني (2)
وهاك منها قواف طيّها حكم ... مثل الأزاهر في طيّ الرياحين
تلوح إن جليت درّا، وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كلّ شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني (3)
يمانع الفكر عنها ما تقسّمه ... من كلّ (4) حزن بطيّ الصّدر مكنون
لكن بسعدك ذلّت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين (5)
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين
وهو (6) الآن قد بدا له في التّحول طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله ابن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص، لما عاد إليه ملك بجاية، وطار إليه بجناح شراع تفيّأ ظلّه، وصكّ من لدنه رآه مستقرّا عنده، يدعّم ذلك بدعوى تقصير خفيّ أحسّ به، وجعله علّة منقلبة، وتجنّ سار منه في مذهبه وذلك في (7) من عام ثمانية وستين وسبعمائة. ولما بلغ بجاية صدق رأيه، ونجحت مخيّلته، فاشتمل عليه أميرها، وولّاه
__________
(1) في النفح: «انصرافه بسببه».
(2) لا يعنّيني: لا يتعبني. لسان العرب (عنى). وجاء في النفح بعد هذا البيت كلمة «ومنها» وأورد الأبيات التالية.
(3) تواتيني: توافقني، تسعفني.
(4) كلمة «كل» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(5) الشوارد: جمع شاردة، وأصلها الدابّة التي تنفر من راكبها وتصعب عليه فلا يزال يروّضها ويذلّلها حتى يسلس له قيادها، والمراد هنا القوافي التي يصعب على الشعراء الإتيان بها.
والتحبير هنا: التحسين. لسان العرب (شرد) و (حبر).
(6) بياض في الأصل.
(7) بياض في الأصل.(3/394)
الحجابة بها. ولم ينشب أن ظهر عليه ابن عمّه الأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، وتملّك البلدة بعد مهلكه، وأجرى المترجم به على رسمه بما طرق إليه الظّنّة بمداخلته في الواقع. ثم ساء ما بينه وبين الأمير أبي العباس، وانصرف عنه، واستوطن بسكرة، متحوّلا إلى جوار رئيسها أبي العباس بن مزنى، متعلّلا برفده إلى هذا العهد.
وخاطبته برسالة في هذه الأيام، تنظر في اسم المؤلّف في آخر الديوان.
مولده: بمدينة تونس بلده، حرسها الله، في شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة (1).
عبد الرحمن بن الحاج بن القميي الإلبيري
حاله: كان شاعرا مجيدا، هجا القاضي أبا الحسن بن توبة، قاضي غرناطة، ومن نصره من الفقهاء، فضربه القاضي ضربا وجيعا، وطيف به على الأسواق بغرناطة، فقال فيه الكاتب أبو إسحاق الإلبيري الزاهد، وكان يومئذ كاتبا للقاضي المذكور، الأبيات الشهيرة: [البسيط]
السّوط أبلغ من قول ومن قيل ... ومن نباح سفيه بالأباطيل
من الدّار كحرّ النار أبراه ... يعقل التقاضي أي تعقيل
عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد بن تفليت الفازازي (2)
يكنى أبا زيد.
حاله: كان حافظا، نظّارا، ذكيا، ذا حظّ وافر من معرفة أصول الفقه وعلم الكلام، وعناية بشأن الرّواية، متبذّلا في هيئته ولباسه، قلّما يرى راكبا في حضر إلّا لضررة، فاضلا، سنيّا، شديد الإنكار والإنحاء على أهل البدع، مبالغا في التحذير منهم، عامر الإتاء، يطلب العلم شغفا به وانطباعا إليه وحبّا فيه وحرصا عليه، آية من آيات الله في سرعة البديهة، وارتجال النّظم والنّثر، وفور مادّة، وموالاة استعمال، لا يكاد يقيد، ولا يصرفه عنه إلّا نسخ أو مطالعة علم، أو مذاكرة فيه، حتى صار له
__________
(1) كذا جاء في نفح الطيب (ج 8ص 326). وفي الضوء اللامع للسخاوي (ج 4ص 145) والأعلام للزركلي (ج 3ص 330) أن وفاته سنة 808هـ.
(2) ترجمة عبد الرحمن الفازازي في التكملة (ج 3ص 47) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 163) وبغية الوعاة (ص 304) ونفح الطيب (ج 6ص 225) و (ج 10ص 340) واختصار القدح المعلى (ص 203) وجاء فيه أنه «الفزاريّ».(3/395)
ملكة. لا يتكلف معها الإنشاء، مع الإجادة وتمكّن البراعة. وكان متلبّسا بالكتابة عن الولاة والأمراء، ملتزما بذلك، كارها له، حريصا على الانقطاع عنه، واختصّ بالسيد أبي إسحاق بن المنصور، وبأخيه أبي العلاء، وبملازمتهما استحقّ الذّكر فيمن دخل غرناطة، إذ عدّ ممّن دخلها من الأمراء.
مشيخته: روى عن أبيه أبي سعيد، وأبي الحسن جابر بن أحمد، وابن عتيق بن مون، وأبي الحسن بن الصائغ، وأبي زيد السّهيلي (1)، وأبي عبد الله التّجيبي، وأبي عبد الله بن الفخّار، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي المعالي محمود الخراساني، وأبي الوليد بن يزيد بن بقي (2) وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو عبد الله، وأبو بكر بن سيّد الناس، وابن مهدي، وأبو جعفر بن علي بن غالب، وأبو العباس بن علي بن مروان، وأبو عمرو بن سالم، وأبو القاسم عبد الرحيم بن سالم، وابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن سالم، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران، وأبو يحيى بن سليمان بن حوط الله، وأبو محمد بن قاسم الحرار، وأبو الحسن الرّعيني، وأبو علي الماقري.
تواليفه ومنظوماته: له المعشّرات الزّهدية التي ترجمها بقوله: «المعشرات الزهدية، والمذكرات الحقيقية الجدّية، ناطقة بألسنة الوجلين المشفقين، شائقة إلى مناهج السّالكين المستبقين، نظمها متبرّكا بعبادتهم، متيمنا بأغراضهم وإشاراتهم، قابضا عنان الدّعوى عن مداناتهم ومجاراتهم، مهتديا إهداء السّنن الخمس بالأشعّة الواضحة من إشاراتهم، مخلّدا دون أفقهم العالي إلى حضيضه، جامعا لحسن أقواله وقبح أفعاله بين الشّيء ونقيضيه عبد الرحمن». وله «المعشّرات الحبّية، وترجمتها النّفحات القلبيّة، واللّفحات الشّوقية، منظومة على ألسنة الذاهبين وجدا، الذّائبين كمدا وجهدا، الذين غربوا وبقيت أنوارهم، واحتجبوا وظهرت آثارهم، ونطقوا وصمتت أخبارهم، ووفّوا العبودية حقّها، ومحضوا المحبّة مستحقّها، نظم من نسج على منوالهم، ولم يشاركهم إلّا في أقوالهم فلان». والقصائد، في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم، التي كل قصيدة منها عشرون بيتا، وترجمتها الوسائل المتقبّلة، والآثار المسلمة المقبلة، مودعة في العشرنية النبوية، والحقائق اللّفظية والمعنوية، نظم من اعتقدها من أزكى الأعمال، وأعدّها لما يستقبله من مدهش الأهوال، وفرع خاطره لها على توالي القواطع وتتابع الأشغال، ورجال بركة خاتم الرّسالة، وغاية السّؤدد والجلالة، محو ما
__________
(1) في بغية الوعاة: «أبي القاسم السهيلي».
(2) في التكملة: «عن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الرحمن بن بقي».(3/396)
لسلفه من خطأ في الفعل، وزلل في المقال، والله سبحانه وليّ القبول للتّوبة، والمنّان بتسويغ هذه المنّة المطلوبة، فذلك يسير في جنب قدرته، ومعهود رحمته الواسعة ومغفرته.
شعره: وشعره كثير جدا، ونثره مشهور وموجود. فمن شعره في غرض الشكر لله عزّ وجلّ، على غيث جاء بعد قحط: [الكامل]
نعم الإله بشكره تتقيّد ... فالله يشكر في النّوال ويحمد
مدّت إليه أكفّنا محتاجة ... فأنالها من جوده ما نعهد
وأغاثنا بغمائم وكّافة ... بالبشر تشرق والبشائر ترعد
حملت إلى ظمإ البسيطة ريّة ... فلها عليه منّة لا تجحد
فالجوّ برّاق والشّعاع مفضّض ... والماء فيّاض الأثير معسجد
والأرض في حلي الأتيّ كأنما ... نطف الغمام ولؤلؤ (1) وزبرجد
والرّوض مطلول الخمائل باسم ... والقضب ليّنة الحمائل ميّد
تاهت عقول الناس في حركاتها ... ألشكرها أم سكرها تتأوّد؟
فيقول أرباب البطالة تنثني ... ويقول أرباب الحقيقة تسجد
وإذا اهتديت إلى الصواب فإنها ... في شكر خالقها تقوم وتقعد
هذا هو الفضل الذي لا ينقضي ... هذا هو الجود الذي لا ينفد
احضر فؤادك للقيام بشكره ... إن كنت تعلم قدر ما تتقلّد
وانفض يديك من العباد فكلّهم ... عجز الحلّ وأنت جهلا تعقد
وإذا افتقرت إلى سواه فإنما ال ... لذي بخاطرك المجال الأبعد
نعم الإله كما تشاهد حجّة ... والغائبات أجلّ مما يشهد
فانظر إلى آثار رحمته التي ... لا يمترى فيها ولا يتردّد
يا ليت شعري والدليل مبلّغ ... من أيّ وجه يستريب الملحد
من ذا الذي يرتاب أنّ إلهه ... أحد وألسنة الجماد توحّد
كلّ يصرّح حاله ومقاله ... أن ليس إلّا الله ربّ يعبد
ومن شعره أيضا قوله: [الكامل]
عجبا لمن ترك الحقيقة جانبا ... وغدا لأرباب الصواب مجانبا
__________
(1) في الأصل: «لؤلؤ»، وكذا ينكسر الوزن.(3/397)
وابتاع بالحق المصحّح حاضرا ... ما شاء للزّور المعلّل عائبا
من بعد ما قد صار أنفذ أسهما ... وأشدّ عادية وأمضى قاضبا
لا تخدعنك سوابق من سابق ... حتى ترى الإحضار منه عواقبا
فلربما اشتدّ الخيال وعاقه ... دون الصّواب هوى وأصبح غالبا
ولكم إمام قد أضرّ بفهمه ... كتب تعبّ من الضّلال كتائبا
فانحرف بأفلاطون وأرسطا ... ليس ودونهما تسلك طريقا لاحبا (1)
ودع الفلاسفة الذّميم جميعهم ... ومقالهم تأتي الأحقّ الواجبا
يا طالب البرهان في أوضاعهم ... أعزز عليّ بأن تعمّر جانبا
أعرضت عن شطّ النّجاة ملجّجا ... في بحر هلك ليس ينجي عاطبا
وصفا الدّليل فما نفعت بصفوه ... حتى جعلت له اللّجين (2) شائبا
فانظر بعقلك هل ترى متفلسفا ... فيمن ترى إلّا دعيّا كاذبا؟
أعيته أعباء الشّريعة شدّة ... فارتدّ مسلوبا ويحسب سالبا
والله أسأل (3) عصمة وكفاية ... من أن أكون عن المحجّة ناكبا
ومن شعره: [الطويل]
إليك مددت الكفّ في كلّ شدّة ... ومنك وجدت اللّطف في كل نائب
وأنت ملاذ والأنام بمعزل ... وهل مستحيل في الرّجا (4) كرّآيب؟
فحقّق رجائي فيك يا ربّ واكفني ... شمات (5) عدوّ أو إساءة صاحب
ومن أين أخشى من عدوّ إساءة ... وسترك ضاف من جميع الجوانب؟
وكم كربة نجّيتني من غمارها ... وكانت شجا بين الحشا والتّرائب
فلا قوة عندي ولا لي حيلة ... سوى حسن ظنّي بالجميل المواهب
فيا منجي المضطرّ عند دعائه ... أغثني فقد سدّت عليّ مذاهبي (6)
رجاؤك رأس المال عندي وربحه ... وزهده (7) في المخلوق أسنى المواهب
__________
(1) هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «الحبر» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «أسل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «الرجاء»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «شماتة» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «مذاهب» بدون ياء.
(7) في الأصل: «وزهد» وكذا ينكسر الوزن.(3/398)
إذا عجزوا عن نفعهم في نفوسهم ... فتأميلهم بعض الظّنون الكواذب
فيا محسنا فيما مضى أنت قادر ... على اللّطف في حالي وحسن العواقب
وإنّي لأرجو منك ما أنت أهله ... وإن كنت حطّا في كثير المعايب
فصلّ على المختار من آل هاشم ... إمام الورى عند اشتداد النوائب
وقال في مدّعي قراءة الخطّ دون نظر: [الطويل]
وأدور ميّاس العواطف أصبحت ... محاسنه في الناس كالنّوع في الجنس
يدير على القرطاس أنمل كفّه ... فيدرك أخفى الخطّ في أيسر اللّمس
فقال فريق: سحر بابل عنده ... وقال فريق: ليس هذا من الإنس
فقلت لهم لم تفهموا سرّ دركه ... على أنه للعقل أجلى من الشمس
ستكفه حبّ القلوب فأصبحت ... مداركها أجفان أنمله الخمس
وفاته: استقدمه المأمون (1) على حال وحشة، كانت بينه وبينه، فورد ورود الرّضا على مرّاكش في شعبان سنة سبع وعشرين وستمائة. وتوفي في ذي قعدة بعده (2)، ودفن بجبانة الشيوخ مع أخيه عبد الله وقرنائهما، رحم الله جميعهم.
انتهى السفر التاسع بحمد الله
* * * ومن السفر العاشر العمال الأثرا في هذا الحرف
عبد الرحمن بن أسباط
الكاتب المنجب، كاتب أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين.
حاله: لحق به بالعدوة، فاتّصل بخدمته، وأغراه بالأندلس، إذ ألقى إليه أمورها على صورتها، حتى كان ما فرغ الله، عزّ وجلّ، من استيلائه على ممالكها، وخلعه لرؤسائها. وكان عبد الرحمن، قبل اتصاله به، مقدورا عليه في رزقه، يتحرّف بالنّسخ، ولم يكن حسن الخطّ، ولا معرّب اللفظ، إلى أن تسيّر للكتابة في باب
__________
(1) هو أبو العلاء إدريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 624هـ إلى سنة 629هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 274).
(2) في نفح الطيب (ج 6ص 225): «وتوفي بمراكش سنة 637». وجاء في بغية الوعاة (ص 304) ونفح الطيب (ج 6ص 225) أنه ولد بعد الخمسين وخمسمائة.(3/399)
الدّيوان بألمريّة، ورأى خلال ذلك، في نومه، شخصا يوقظه، ويقول له: قم يا صاحب ربع الدّنيا، وقصّ رؤياه على صاحب له بمثواه، فبشّره، فطلب من ذلك الحين السّموّ بنفسه، فأجاز البحر، وتعلّق بحاشية الحرّة العليا زينب (1)، فاستكتبته، فلمّا توفّيت الحرّة، أقرّه أمير المسلمين كاتبا، فنال ما شاء مما ترتمي إليه الهمم جاها ومالا وشهرة. وكان رجلا حصيفا، سكونا، عاقلا، مجدي الجاه، حسن الوساطة، شهير المكانة.
وفاته: توفي فجأة بمدينة سبتة، في عام سبعة وثمانين وأربعمائة. وتقلّد الكتابة بعده أبو بكر بن القصيرة. ذكره ابن الصّيرفي.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مالك المعافري (2)
وتكرر مالك في نسبه.
أوليته: قالوا: من ولد عقبة بن نعيم الداخل إلى الأندلس، من جند دمشق، نزيل قرية شكنب من إقليم تاجرة الجمل من عمل بلدنا لوشة، غرناطي، يكنى أبا محمد.
حاله: كان (3) أبو محمد هذا أحد وزراء الأندلس، كثير الصّنائع، جزل المواهب، عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك، وأخلاق السادة الكرام (4). لم ير بعده مثله في رجال (5) الأندلس، ذاكرا للفقه والحديث، بارعا في الأدب (6)، شاعرا مجيدا وكاتبا بليغا، حلو الكتابة والشعر، هشّا مع وقار، ليّنا على مضاء، عالي الهمّة، كثير الخدم والأهل (7).
من آثاره الماثلة إلى اليوم الحمّام، بجوفيّ الجامع الأعظم من غرناطة. بدأ بناءه (8) أول يوم من جمادى الأولى سنة تسع وخمسمائة. وشرع في الزّيادة في سقف
__________
(1) هي زينب النفزاوية التي كانت مضرب المثل في الجمال تزوجت أبا بكر بن عمر، ابن عم يوسف بن تاشفين المرابطي، في سنة 460هـ، ثم طلقها فتزوجها يوسف بن تاشفين فأنجبت له ولده الفضل، وكانت أحب ما لديه امرأة غالبة عليه. البيان المغرب (ج 4ص 18، 30).
(2) ترجمة عبد الرحمن بن محمد المعافري في التكملة (ج 3ص 18) وقلائد العقيان (ص 169) ونفح الطيب (ج 4ص 203).
(3) قارن بنفح الطيب (ج 4ص 205203).
(4) كلمة «الكرام» ساقطة في النفح.
(5) في الأصل: «حال» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «الآداب».
(7) في الأصل: «الخادم والأمل» والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «بناه».(3/400)
الجامع من صحنه سنة ست عشرة، وعوّض أرجل قسيّه أعمدة الرخام، وجلب الرّءوس والموائد من قرطبة، وفرش صحنه بكذّان الصّخيرة (1). ومن مكارمه أنه لمّا ولّي مستخلص غرناطة وإشبيلية، وجّهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها، وإصلاح خللها، فلمّا استوفى الغاية فيها قلّده، واستصحب جملة من ماله لمؤنته المختصّة به، فلما احتلّها سأل قاضيها، فكتب إليه جملة من أهلها ممن ضعف حاله وقلّ تصرفه من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء في كل وجه جميل، ووسّع أرزاقهم، حتى كمل له ما أراد من عمله. ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله. وصدر عنها وقد أنعش خلقا كثيرا.
شعره: من قوله في مجلس أطربه سماعه، وبسطه احتشاد الأنس فيه واجتماعه (2): [الخفيف]
لا تلمني إذا طربت لشجو (3) ... يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شقّ الجيوب حقّا علينا ... إنما الحقّ (4) أن تشقّ القلوب
وقال، وقد قطف غلام من غلمانه نوّارة، ومدّ بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله (5)، فقال أبو نصر (6): [الطويل]
وبدر بدا والطّرف مطلع حسنه ... وفي كفّه من رائق النّور كوكب
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
فقال أبو محمد بن مالك (7): [الطويل]
ويحسد (8) منه الغصن أيّ مهفهف ... يجيء على مثل الكئيب ويذهب
__________
(1) في النفح: «الصخر». والكذّان: حجارة رخوة.
(2) البيتان في قلائد العقيان (ص 169) ونفح الطيب (ج 2ص 205) و (ج 4ص 204).
(3) في القلائد: «لشدو».
(4) في النفح: (ج 2ص 205): «الشأن».
(5) هو أبو نصر الفتح بن خاقان، صاحب «قلائد العقيان» و «مطمح الأنفس».
(6) البيتان في نفح الطيب (ج 4ص 204). وورد البيت الأول في نفح الطيب (ج 2ص 205) منسوبا إلى ابن مالك. وورد البيت الثاني في قلائد العقيان (ص 170) ونفح الطيب (ج 2ص 205) منسوبا إلى محمد بن مالك.
(7) البيت في قلائد العقيان (ص 170) ونفح الطيب (ج 2ص 204).
(8) في القلائد: «ويحسن».(3/401)
نثره: قال أبو نصر (1): كتبت إليه مودّعا، فكتب (2) إليّ مستدعيا، وأخبرني رسوله (3) أنه لما قرأ الكتاب وضعه، وما سوّى ولا فكّر ولا روى:
يا سيدي، جرت الأيام (4) بجمع افتراقك، وكان الله جارك في انطلاقك (5)، فغيرك روّع بالظّعن، وأوقد للوداع جاحم (6) الشّجن، فأنت (7) من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر لا يستقرّ (8) على وطن، كأنّك والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه، موكّل بفضاء الأرض تذرعه (9)، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدّك (10)
من العواري السّريعة الارتجاع (11)، فلا يأسف على قلّة الثّوا (12)، وينشد:
[الطويل]
وفارقت حتى ما أبالي من النّوى
وفاته: اعتلّ (13) بإشبيلية فانتقل إلى غرناطة، فزادت علّته بها، وتوفي، رحمه الله، بها في غرّة شعبان سنة ثماني (14) عشرة وخمسمائة، ودفن إثر صلاة الظهر من يوم الجمعة المذكورة بمقبرة باب إلبيرة، وحضر جنازته الخاصة والعامة.
من رثاه: رثاه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال، رحمه الله، فقال:
[الكامل]
إن كنت تشفق من نزوح نواه ... فهناك مقبرة وذا مثواه
قسّم زمانك عبرة أو عبرة ... وأحل تشوّقه على ذكراه
__________
(1) قلائد العقيان (ص 170) ونفح الطيب (ج 4ص 205).
(2) في القلائد: «فجاوبني جوابا مستبدعا».
(3) في القلائد: «رسولي».
(4) في القلائد: «الأقدار».
(5) هذا من قول البحتري وهو بحلب، قاله لأبي جعفر بن سهل المروزي ولم يودّعه: [مخلع البسيط]
الله جارك في انطلاقك ... تلقاء شامك أو عراقك
ديوان البحتري (ج 2ص 12).
(6) في الأصل: «جامح» والتصويب من المصدرين.
(7) في المصدرين: «فإنك».
(8) في القلائد: «لا تستقرّ».
(9) قوله: «موكّل بفضاء الأرض تذرعه» عجز بيت لابن زريق البغدادي، وصدره هو: [البسيط]
كأنما هو في حلّ ومرتحل
(10) في القلائد: «يعتدّك».
(11) في القلائد: «الاسترجاع».
(12) الثوا: أصل القول: الثواء، بالهمز. والثواء: الإقامة.
(13) قارن بنفح الطيب (ج 4ص 205).
(14) في الأصل: «ثمان» وهو خطأ نحوي.(3/402)
وأعدده ما امتدّت حياتك غائبا ... أو عاتبا إن لم تزر زرناه
أو نائما غلبت عليه رقدة ... لمسهد لم تغتمض عيناه
أو كوكبا سرت الرّكاب بنوره ... فمضى وبلّغنا المحلّ سناه
فمتى تبعد والنفوس تزوره ... ومتى تغيب والقلوب تراه
يا واحدا عدل الجميع وأصلحت ... دنيا الجميع ودينهم دنياه
طالت أذاتك بالحياء كرامة ... والله يكرم عبده بأذاه
لشهادة التّوحيد بين لسانه ... وجنانه نور يرى مسراه
وبوجهه (1) سيما أغرّ محجّل ... مهما بدا لم تلتبس سيماه
وكأنما هو في الحياة سكينة ... لولا اهتزاز في النّدى يغشاه
وكأنّه لحظ العفاة توجّعا ... فتلازمت فوق الفؤاد يداه
أبدى رضى الرحمن عنك ثناؤهم ... إنّ الثّناء علامة لرضاه
يا ذا الذي شغف القلوب به ... وذا لا ترتجيه وذاك لا تخشاه
ما ذاك إلّا أنه فرع زكا ... وسع الجميع بظلّه وحناه
فاليوم أودى كلّ من أحببته ... ونعى إلى النفس من ينعاه
ماذا يؤمل في دمشق مسهد ... قد كنت ناظره وكنت تراه؟
يعتاد قبرك للبكا أسفا بما ... قد كان أضحكه الذي أبكاه
يا تربة حلّ الوزير ضريحها ... سقاك بل صلّى عليك الله
وسرى إليك ومنك ذكر ساطع ... كالمسك عاطرة به الأفواه
عبد الرحمن بن عبد الملك الينشتي (2)
يكنى أبا بكر، أصله من مدينة باغة (3)، ونشأ بلوشة، وهو محسوب من الغرناطيين.
حاله: كان شيخا يبدو على مخيّلته النّبل والدّهاء، مع قصور أدواته. ينتحل النّظم والنثر في أراجيز يتوصّل بها إلى غرضه من التصرّف في العمل.
__________
(1) في الأصل: «ويوجهه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) ترجمة الينشتي في نفح الطيب (ج 8ص 246).
(3) باغة: بالإسبانية، وهي مدينة بالأندلس من كورة إلبيرة، في قبلي قرطبة، ولمائها خاصية عجيبة. معجم البلدان (ج 1ص 326) والروض المعطار (ص 78).(3/403)
وجرى ذكره «في التّاج المحلّى» وغيره بما نصه (1): قارض (2) هاج، مداهن مداج، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبّس بشعار وفي، إلى مكيدة مبثوتة الحبائل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبائل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلّبين من أحوالها بين الصّحو والثّمل، المتعلّلين برسومها حين اختلط المرعيّ والهمل (3). وهو ناظم أرجاز، ومستعمل حقيقة ومجاز. نظم مختصر السّيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزا في الزّجر والفال، نبّه به تلك الطريقة بعد الإغفال. فمن نظمه ما خاطبني به مستدعيا إلى إعذار ولده (4): [البسيط]
أريد من سيدي الأعلى تكلّفه ... على (5) الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفا منه ويبصر لي ... صناعة القاطع الحجّام في ولدي
فأجبته: [البسيط]
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي ... وذا الوسيلة من أهل ومن بلد (6)
دعوت في يوم الاثنين الصّحاب ضحى ... وفيه ما ليس في بيت (7) ولا أحد
يوم السّلام على المولى وخدمته ... فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم ... فعدّ إن غبت عن لوم وعن فند (8)
بقيت في ظلّ عيش لا نفاد له ... مصاحبا غير محصور إلى أمد
ومنه أيضا: [الكامل]
قل لابن سيّد والديه: لقد علا ... وتجاوز المقدار فيما يفخر
ما ساد والده فيحمد أمره ... إلّا صغير العنز حتى يكبر
وصدرت عنه مقطوعات في غير هذا المعنى، ممّا عذب به المجنى، منها قوله (9): [الكامل]
إنّ الولاية رفعة لكنها ... أبدا إذا حقّقتها تتنقّل (10)
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 247).
(2) في النفح: «مادح».
(3) في المصدر نفسه: «بالهمل». والمرعيّ الذي له راع يحفظه. والهمل: الذي ترك مهملا لا راعي له. لسان العرب (رعى) و (همل).
(4) البيتان وجوابهما في نفح الطيب (ج 8ص 246).
(5) في النفح: «إلى».
(6) في النفح: «من أهلي ومن بلدي».
(7) في المصدر نفسه: «سبت».
(8) الفند، بالفتح: تخطئة الرأي. لسان العرب (فند).
(9) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 247).
(10) في الأصل: «تنتقل»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(3/404)
فانظر فضائل من مضى من أهلها ... تجد الفضائل كلّها لا تعزل
وقال: [الطويل]
هنيّا أبا إسحاق دمت موفّقا ... سعيدا قرير العين بالعرس والعرس
فأنت كمثل البدر في الحسن والتي ... تملّكتها في الحسن أسنى من الشمس
وقالوا: عجيب نور بدرين ظاهر ... فقلت: نعم إنّ ألف الجنس للجنس
وكتب إليّ: [الطويل]
إذا ضاق ذرعي بالزّمان شكوته ... لمولاي من آل الخطيب فينفرج
هو العدّة العظمى هو السيّد الذي ... بأوصافه الحسنى المكارم تبتهح
وزير علا ذاتا وقدرا ومنصبا ... فمن دونه أعلا الكواكب يندرج
وفي بابه نلت الأماني وقادني ... دليل رشادي حيث رافقني الفرج
فلا زال في سعد وعزّ ونعمة ... تصان به الأموال والأهل والمهج
وفاته: توفي في الطاعون عام خمسين وسبعمائة بغرناطة.
وفي سائر الأسماء التي بمعنى عبد الله وعبد الرحمن، وأولاد الأمراء:
عبد الأعلى بن موسى بن نصير مولى لخم (1)
أوليته: أبوه المنسوب إليه فتح الأندلس، ومحلّه من الدّين والشهرة وعظم الصّيت معروف.
حاله: كان عبد الأعلى أميرا على سنن أبيه في الفضل والدين، وهو الذي باشر فتح غرناطة ومالقة، واستحقّ الذكر لذلك. قال الرّازي (2): وكان موسى بن نصير قد أخرج ابنه عبد الأعلى فيمن رتّبه من الرجال إلى إلبيرة وتدمير لفتحها، ومضى إلى إلبيرة ففتحها، وضمّ بها إلى غرناطة اليهود مستظهرا بهم على النّصر، ثم مضى إلى كورة ريّه، ففتحها.
__________
(1) راجع أخبار عبد الأعلى بن موسى بن نصير في نفح الطيب (ج 1ص 264).
(2) قارن بنفح الطيب (ج 1ص 264).(3/405)
عبد الحليم بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ابن محيو
يكنى أبا محمد، أوّليته معروفة.
وفسد ما بين أبيه وبين جدّه، أمير المسلمين، بما أوجب انتباذه إلى سكنى مدينة سجلماسة، معزّزة له ألقاب السلطان بها، مدوّخا ما بأحوازها من أماكن الرئاسة، منسوبة إليه بها الآثار، كالسّدّ الكبير الشهير، وقصور الملك. فلمّا نزل عنها على حكم أخيه أمير المسلمين أبي الحسن، وأمضى قتلته بالفصاد، نشأ ولده، وهم عدّة بباب عمّهم، يسعهم رفده، ويقودهم ولده، ثم جلاهم إلى الأندلس ابنه السلطان أبو عنان، عندما تصيّر الأمر إليه، فاستقرّوا بغرناطة تحت برّ وجراية، قلقا بمكانهم من جلاهم ومن بعده، لإشارة عيون التّرشيح إليهم، مغازلة من كثب، وقعودهم بحيث تعثر فيهم المظنّة، إلى أن كان من أمرهم ما هو معروف.
حاله: هذا الرجل من أهل الخير والعفاف والصّيانة ودمث الخلق وحسن المداراة، يألف أهل الفضل، خاطب للرّتبة بكل جهد وحيلة، وسدّ عنه باب الأطماع. حذّر من كان له الأمر بالأندلس من لدن وصوله كي لا تختلف أحوال هذا الوطن في صرف وجوه أهله إلى غزو عدو الملّة، ومحوّلي القبلة، وإعراضهم عن الإغماض في الفتنة المسلمة، وربما يميت عنهم الحركات والهموم، فثقّفوا من فيها عليهم، إلى أن تبرأ ساحتهم ويظن به السكون. فلمّا دالت الدولة، وكانت للأخابث الكرّة، واستقرّت بيد الرئيس الغادر الكرّة، وكان ما تقدّم الإلماع به من عمل السلطان أبي سالم، ملك المغرب، على إجازة السلطان، وليّ ملك الأندلس، المزعج عنها بعلّة البغي، ذهب الدّايل الأخرق إلى المقارضة، فعندما استقرّ السلطان أبو عبد الله بجبل الفتح، حاول إجازة الأمير عبد الحليم إلى تلمسان بعد مفاوضة، فكان ذلك في أخريات ذي قعدة، وقد قضي الأمر في السلطان أبي سالم، وانحلّت العقدة، وانتكثت المريرة، وولّى الناس الرجل المعتوه، وفد إلى تلمسان من لم يرض محلّه من الإدالة، ولا قويت نفسه على العوض، ولا صابرت غضّ المخافة، وحرّك ذلك من عزمه، وقد أنجده السلطان مستدعيه بما في طوقه. ولما اتصل خبره بالقائم بالأمر بفاس، ومعمل التدبير على سلطانه، أعمل النظر فيهم زعموا بتسليم الأمر، ثم حذّر من لحق به من أضداده، فصمّم على الحصار، واستراب بالقبيل المريني، وأكثف الحجاب دونهم بما يحرّك أنفتهم، فنفروا عنه بواحدة أول عام ثلاثة وستين وسبعمائة، واتفق رأيهم على الأمير عبد الحليم، فتوجّهت إليه
وجوههم اتّفاقا، وانثالوا عليه اضطرارا، ونازل البلد الجديد، دار الملك من مدينة فاس، يوم السبت السادس لشهر المحرم من العام. واضطربت المحلّات بظاهره، وخرج إليه أهل المدينة القدمى، فأخذ بيعتهم، وخاطب الجهات، فألقت إليه قواعدها باليد، ووصلت إليه مخاطباتها.(3/406)
حاله: هذا الرجل من أهل الخير والعفاف والصّيانة ودمث الخلق وحسن المداراة، يألف أهل الفضل، خاطب للرّتبة بكل جهد وحيلة، وسدّ عنه باب الأطماع. حذّر من كان له الأمر بالأندلس من لدن وصوله كي لا تختلف أحوال هذا الوطن في صرف وجوه أهله إلى غزو عدو الملّة، ومحوّلي القبلة، وإعراضهم عن الإغماض في الفتنة المسلمة، وربما يميت عنهم الحركات والهموم، فثقّفوا من فيها عليهم، إلى أن تبرأ ساحتهم ويظن به السكون. فلمّا دالت الدولة، وكانت للأخابث الكرّة، واستقرّت بيد الرئيس الغادر الكرّة، وكان ما تقدّم الإلماع به من عمل السلطان أبي سالم، ملك المغرب، على إجازة السلطان، وليّ ملك الأندلس، المزعج عنها بعلّة البغي، ذهب الدّايل الأخرق إلى المقارضة، فعندما استقرّ السلطان أبو عبد الله بجبل الفتح، حاول إجازة الأمير عبد الحليم إلى تلمسان بعد مفاوضة، فكان ذلك في أخريات ذي قعدة، وقد قضي الأمر في السلطان أبي سالم، وانحلّت العقدة، وانتكثت المريرة، وولّى الناس الرجل المعتوه، وفد إلى تلمسان من لم يرض محلّه من الإدالة، ولا قويت نفسه على العوض، ولا صابرت غضّ المخافة، وحرّك ذلك من عزمه، وقد أنجده السلطان مستدعيه بما في طوقه. ولما اتصل خبره بالقائم بالأمر بفاس، ومعمل التدبير على سلطانه، أعمل النظر فيهم زعموا بتسليم الأمر، ثم حذّر من لحق به من أضداده، فصمّم على الحصار، واستراب بالقبيل المريني، وأكثف الحجاب دونهم بما يحرّك أنفتهم، فنفروا عنه بواحدة أول عام ثلاثة وستين وسبعمائة، واتفق رأيهم على الأمير عبد الحليم، فتوجّهت إليه
وجوههم اتّفاقا، وانثالوا عليه اضطرارا، ونازل البلد الجديد، دار الملك من مدينة فاس، يوم السبت السادس لشهر المحرم من العام. واضطربت المحلّات بظاهره، وخرج إليه أهل المدينة القدمى، فأخذ بيعتهم، وخاطب الجهات، فألقت إليه قواعدها باليد، ووصلت إليه مخاطباتها.
ومن ذلك ما خوطب به من مدينة سلا، وأنا يومئذ بها: [الخفيف]
يا إمام الهدى، وأيّ إمام ... أوضح الحقّ بعد إخفاء رسمه
أنت عبد الحليم حلمك نرجو ... فالمسمّى له نصيب من اسمه
وسلك مسلكا حسنا في الناس، وفسح الآمال، وأجمل اللقاء، وتحمّل الجفاء، واستفزّ الخاصة بجميل التأتّي وأخذ العفو، والتّظاهر بإقامة رسوم الدّيانة، وحارب البلد المحصور في يوم السبت الثالث عشر لشهر الله المحرم المذكور، كانت الملاقاة التي برز فيها وزير الملك ومدير رحاه بمن اشتملت عليه البلدة من الرّوم والجند الرّحل، واستكثر من آلات الظهور وعدد التّهويل، فكانت بين الفريقين حرب مرّة تولّى كبرها النّاشبة، فأرسلت على القوم حواصب النّبل، غارت لها الخيل، واقشعرّت الوجوه، وتقهقرت المواكب. وعندها برز السلطان المعتوه، مصاحبة له نسمة الإقدام، وتهوّر الشجاعة عند مفارقة الخلال الصّحيّة، وتوالت الشدات، وتكالبت الطّائفة المحصورة، فتمرّست بأختها، ووقعت الهزيمة ضحوة اليوم المذكور على قبيل بني مرين ومن لفّ لفّهم، فصرفوا الوجوه إلى مدينة تازي، واستقرّ بها سلطانهم، ودخلت مكناسة في أمرهم، وضاق ذرع فاس للملك بهم، إلى أن وصل الأمير المستدعى، طيّة الصبر، وأجدى دفع الدّين، ودخل البلد في يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر من العام. وكان اللقاء بين جيش السلطان، لنظر الوزير، مطعم الإمهال ومعوّد الصّنع. وبين جيش بني مرين، لنظر الأخ عبد المؤمن ابن السلطان أبي علي، فرحل القوم من مكناسة، وفرّ عنهم الكثير من الأولياء، وأخلوا العرصة، واستقرّوا أخيرا ببلد أبيهم سجلماسة، فكانت بين القوم مهادنة.
وعلى أثرها تعصّب للأخ عبد المؤمن معظم عرب الجهة، وقد برز إليهم في شأن استخلاص الجبابة، فرجعوا به إلى سجلماسة. وخرج لمدافعتهم الأمير عبد الحليم، بمن معه من أشياخ قبيله والعرب أولى مظاهر، فكانت بينهم حرب أجلت عن هزيمة الأمير عبد الحليم، واستلحم للسّيف جملة من المشاهير، كالشيخ الخاطب في حبله، خدن النّكر وقادح زند الفتنة، الدّاين بالحمل على الدول على التفصيل والجملة، المعتمد بالمغرب بالرأي والمشورة، يحيى بن رحّو بن مسطى وغيره.
وأذعن عبد الحليم بعدها للخلع، وخرج عن الأمر لأخيه، وأبقي عليه، وتحرّج من
قتله، وتعرّف لهذا الوقت صرفه عنه إلى الأرض الحجازية على صحراء القبلة، فانتهى أمره إلى هذه الغاية.(3/407)
وأذعن عبد الحليم بعدها للخلع، وخرج عن الأمر لأخيه، وأبقي عليه، وتحرّج من
قتله، وتعرّف لهذا الوقت صرفه عنه إلى الأرض الحجازية على صحراء القبلة، فانتهى أمره إلى هذه الغاية.
دخوله غرناطة: قدم على الحضرة مع الجملة من إخوته وبني عمّه في (1).
جلاهم السلطان أبو عنان عندما تصيّر له الأمر، فاستقرّوا بها، يناهز عبد الحليم منهم بلوغ أشدّه.
وفاته: وتوفي (2) وستين وسبعمائة.
عبد المؤمن بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ابن محيو
أخو الأمير عبد الحليم، يكنى أبا محمد.
حاله: كان رجلا وقورا، سكونا، نحيفا، آية الله في جمود الكفّ، وإيثار المسك، قليل المداخلة للناس، مشتغلا بما يغنيه من خويصة نفسه، موصوفا ببسالة وإقدام، حسن الهيئة. دخل الأندلس مع أخيه، وعلى رسمه، وتحرّك معه وابن أخ لهما، فتولّى كثيرا من أمره، ولقي الهول دونه. ولمّا استقرّوا بسجلماسة، كان ما تقرّر من توبته على أمره، والعمل على خلعه، معتذرا، زعموا إليه، موفيا حقّه، موجبا تجلّته إلى حين انصرافه، ووصل الأندلس خطابه يعرّف بذلك بما نصّه في المدرجة.
ولم ينشب أن أحسّ بحركة جيش السلطان بفاس إليه، فخاطب عميد الهساكره (3)، عامر بن محمد الهنتاتي، وعرض نفسه عليه، فاستدعاه، وبذل له أمانا.
ولما تحصّل عنده، قبض عليه وثقّفه، وشدّ عليه يده، وحصل على طلبه دهيّة من التّوعّد بمكانه، واتخاذ اليد عند السلطان بكفّ عاديته إلى هذا التاريخ.
ومن الأفراد أيضا في هذا الحرف وهم طارؤون
عبد الحق بن علي بن عثمان بن أبي يوسف يعقوب ابن عبد الحق
الأمير المخاف بعد أبيه أمير المسلمين أبي الحسن بمدينة الجزائر، بعد ما توجّه إلى المغرب، وجرت عليه الهزيمة من بني زيّان.
__________
(1) بياض بالأصول.
(2) بياض بالأصول.
(3) نسبة إلى هسكورة وهي إحدى القبائل البربرية المغربية، الضاربة في بلاد السوس جنوب شرقي مراكش، وغربي سجلماسة.(3/408)
حاله: كان صبيّا ظاهر السكون والأدب، في سنّ المراهقة، لم ينشب أن نازله جيش عدوّه. ومالأه أهل البلد، وأخذ من معه لأنفسهم وله الأمان، فنزل عنها ولحق بالأندلس. قال في كتاب «طرفة العصر»: وفي ليلة العاشر من شهر ربيع الأول اثنين وخمسين وسبعمائة، اتّصل الخبر من جهة الساحل، بنزول الأمير عبد الحق ابن أمير المسلمين أبي الحسن ومن معه، بساحل شلوبانية (1)، مفلتين من دهق الشّدة، بما كان من منازلة جيش بني زيّان مدينة الجزائر، وقيام أهلها بدعوتهم، لما سموه من المطاولة، ونهكهم من الفتنة، وامتنع الأمير ومن معه بقصبتها، وأخذوا لأنفسهم عهدا، فنزلوا وركبوا البحر، فرافقتهم السّلامة، وشملهم ستر العصمة. ولحين اتصل بالسلطان خبره، بادر إليه بمركبين ثقيلي الحلية، وما يناسب ذلك من بزّة، وعجّل من خدامه بمن يقوم ببرّه، وأصحبه إلى منزل كرامته. ولرابع يوم من وصوله كان قدومه، وبرز له السلطان بروزا فخما، ونزل له، قارضا إياه أحسن القرض بما أسلفه من يد، وأسداه من طول. وأقام ضيفا في جواره، إلى أن استدعاه أخوه ملك المغرب، فانصرف عن رضى منه، ولم ينشب أن هلك مغتالا في جملة أرداهم الترشيح.
عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني (2)
يكنى أبا ملك (3). وبيته في الموحّدين الملوك بتونس. وأبوه سلطان إفريقية، المترقّي إليها من رتبة الشّياخة الموحدية.
حاله: كان رجلا طوالا نحيفا، فاضلا حسيبا، مقيما للرّسوم الحسبيّة، حسن العشرة، معتدل الطّريقة. نشأ بالبلاد المشرقية، ثم اتصل بوطنه إفريقية، وتقلّد الإمارة بها برهة يسيرة، ثم فرّ عنها ولحق بالمغرب، وجاز إلى الأندلس، وقدم على سلطانها، فرحّب به، وقابله بالبرّ، ونوّه محلّه، وأطلق جرايته، ثم ارتحل أدراجه إلى العدوة، ووقعت بيني وبينه صحبة، وأنشدته عند وداعه (4): [المتقارب]
أبا ملك، أنت نجل الملوك ... غيوث النّدى وليوث النزال
ومثلك يرتاح للمكرمات ... وما لك بين الورى من مثال
__________
(1) شلوبانية أو شلوبينية: بالإسبانية:، وهي قرية على ضفة البحر، بينها وبين المنكب عشرة أميال، يجود فيها الموز وقصب السكر. الروض المعطار (ص 343).
(2) أخبار عبد الواحد بن زكريا في نفح الطيب (ج 9ص 196) وأزهار الرياض (ج 1ص 261).
(3) في المصدرين السابقين: «أبا مالك».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 9ص 197196) وأزهار الرياض (ج 1ص 262261).(3/409)
عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال
وقد خبرت منك خلقا كريما ... أناف على درجات الكمال
وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في النّوم (1) طيف الخيال
فلولا (2) تعلّلنا أننا ... نزورك فوق بساط الجلال
ونبلغ فيك الذي نشتهي (3) ... وذاك على الله سهل (4) المنال
لما فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال
تلقّتك حيث احتللت السّعود ... وكان لك الله في (5) كلّ حال
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا
عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا إدريس، شيخ الغزاة بالأندلس.
حاله: كان شجاعا عفيفا تقيّا، وقورا جلدا، معروف الحقّ، بعيد الصّيت. نازع الأمر قومه بالمغرب، وانتزى بمدينة تازي، على السلطان أبي الرّبيع، وأخذ بها البيعة لنفسه. ثم ضاق ذرعه، فعبر فيمن معه إلى تلمسان. ولما هلك أبو الربيع، وولي السلطان أبو سعيد، قدّم للكتب في شأنه إلى سلطان الأندلس، وقد تعرّف عزمه على اللحاق، ولم ينشب أن لحق بألمرية من تلمسان، فثقّف بها قضاء لحقّ من خاطب في شأنه. ثم بدا للسلطان في أمره، فأوعز لرقبائه في الغفلة عنه، وفرّ فلحق ببلاد النصري (6) فأقام بها، إلى أن كانت الوقيعة بالسلطان بغرناطة، بأحواز قرية العطشا على يد طالب الملك أمير المسلمين أبي الوليد، وأسر يومئذ شيخ الغزاة حمّو بن عبد الحق، وترجّح الرأي في إطلاقه وصرفه، إعلانا للتّهديد، فنجحت الحيلة، وعزل عن الخطّة، واستدعي عبد الحق هذا إليها، فوصل غرناطة، وقدّم شيخا على الغزاة.
ولما تغلّب السلطان أبو الوليد على الأمر، واستوسق له، وكان ممن شمله أمانه، فأقرّه مرءوسا بالشيخ أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء برهة. ثم لحق بأميره المخلوع
__________
(1) في المصدرين: «في الليل».
(2) في المصدرين: «ولولا».
(3) في المصدرين: «نبتغي».
(4) في الأصل: «وذاك على السّهل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدرين.
(5) في الأصل: «على» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) المراد ببلاد النصري: أي بلاد النصارى.(3/410)
نصر، المستقرّ موادعا بوادي آش، وأوقع بجيش المسلمين مظاهر الطاغية، الوقيعة الشّنيعة بقرمونة، وأقام لديه مدّة. ثم لحق بأرض النّصري، وأجاز البحر إلى سبتة، مظاهرا لأميرها أبي عمرو يحيى بن أبي طالب العزفي، وقد كشف القناع في منابذة طاعة السلطان، ملك المغرب، وكان أملك لما بيده، وأتيح له ظفر عظيم على الجيش المضيّق على سبتة، فبيّته وهزمه. وتخلّص له ولده، الكائن بمضرب أمير الجيش في بيت من الخشب رهينة، فصرف عليه، فما شئت من ذياع شهرة، وبعد صيت، وكرم أحدوثة. ثم بدا له في التّحول إلى تلمسان، فانتقل إليها، وأقام في إيالة ملكها عبد الرحمن بن موسى بن تاشفين إلى آخر عمره.
وفاته: توفي يوم دخول مدينة تلمسان عنوة، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة، قتل على باب منزله، يدافع عن نفسه، وعلى ذلك فلم يشهر عنه يومئذ كبير غناء، وكوّر واستلحم، وحزّ رأسه. وكان أسوة أميرها في المحيا والممات، رحم الله جميعهم، فانتقل بانتقاله وقتل بمقتله. وكان أيضا علما من أعلام الحروب، ومثلا في الأبطال، وليثا من ليوث النّزال.
عبد الملك بن علي بن هذيل الفزاري وعبد الله أخوه (1)
حالهما: قال ابن مسعدة: أبو محمد وأبو مروان تولّيا خطّة الوزارة في الدولة الحبّوسية (2)، ثم تولّيا القيادة بثغور الأندلس، وقهرا ما جاورهما من العدوّ، وغلباه، وسقياه كأس المنايا، وجرّعاه. ولم يزالا قائمين على ذلك، ظاهرين علمين، إلى أن استشهدا، رحمهما الله.
عبد القهار بن مفرج بن عبد القهار بن هذيل الفزاري
حاله: قال ابن مسعدة: كان بارع الأدب، شاعرا، نحويا، لغويا، كاتبا متوقّد الذهن، عنده معرفة بالطّب، ثم اعتزل الناس، وانقبض، وقصد سكنى البشارات (3)
لينفرد بها، ويخفي نفسه فرارا من الخدمة، فتهيّأ له المراد.
__________
(1) راجع أخبارهما في: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 109).
(2) نسبة إلى حبوس بن ماكسن بن زيري بن مناد، وقد حكم غرناطة في عصر ملوك الطوائف من سنة 410هـ إلى سنة 429هـ. انظر أخباره مفصلة في: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 117105).
(3) البشارات أو البشرّات، هي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير، على مقربة من البحر المتوسط. نفح الطيب (ج 1ص 150) و (ج 4ص 225524) ومملكة غرناطة (ص 46).(3/411)
شعره: وكان شاعرا جيّد القريحة سريع الخاطر، ومن شعره: [السريع]
يا صاح، لا تعرض لزوجيّة ... كلّ البلا من أجلها يعتري
الفقر والذّلّ وطول الأسى ... لست بما أذكره مفتري
ما في فم المرأة شيء سوى ... اشتر لي واشتر لي واشتر
القضاة الفضلاء وأولا الأصليون
عبد الحق بن غالب بن عطية بن عبد الرحمن بن غالب ابن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد ابن عطية بن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكتوم المحاربي (1)
أوليته: من ولد زيد بن محارب بن عطيّة، نزل جدّه عطية بن خفاف بقرية قسلة من زاوية غرناطة، فأنسل كثيرا ممن له خطر، وفيه فضل.
حاله: كان (2) عبد الحق فقيها، عالما بالتفسير والأحكام والحديث والفقه، والنحو والأدب واللغة، مقيّدا حسن التّقييد، له نظم ونثر، ولّي القضاء بمدينة ألمريّة في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكان غاية في الدّهاء والذكاء، والتّهمّم بالعلم، سريّ الهمّة في اقتناء الكتب. توخّى الحق، وعدل في الحكم، وأعزّ الخطّة.
مشيخته: روى (3) عن الحافظ أبيه، وأبوي علي الغسّاني والصّدفي، وأبي عبد الله محمد بن فرج مولى الطلاع، وأبي المطرّف الشعبي، وأبي الحسين بن البيّان، وأبي القاسم بن الحصّار المقري، وغيرهم.
تواليفه: ألّف كتابه المسمى ب «الوجيز في التفسير» فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيّته كل مطار. وألف برنامجا ضمنه مرويّاته، وأسماء شيوخه، وجرز وأجاد.
__________
(1) يكنى عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي أبا محمد، وترجمته في الصلة (ص 563) وقلائد العقيان (ص 207) وبغية الملتمس (ص 389) وفوات الوفيات (ج 2ص 256) وبغية الوعاة (ص 295) ومعجم أصحاب القاضي الصدفي (ص 265) والحلة السيراء (ج 1ص 6) والمغرب (ج 2ص 117) ورايات المبرزين (ص 147) وقلائد العقيان (ص 207) والديباج المذهب (ص 174) ونفح الطيب (ج 3ص 272).
(2) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 272).
(3) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 272).(3/412)
شعره: قال الملّاحي: ما حدّثني به غير واحد من أشياخه عنه، قوله (1):
[البسيط]
وليلة جبت فيها الجزع (2) مرتديا
بالسّيف أسحب أذيالا من الظّلم
والنّجم حيران في بحر الدّجا غرق
والبدر (3) في طيلسان اللّيل كالعلم
كأنما اللّيل زنجيّ بكاهله
جرح فيثعب (4) أحيانا له بدم
وقال يندب عهد شبابه (5): [البسيط]
سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في
ريعانه وليالي العيش أسحار
أيام روض الصّبا لم تذو أغصنه
ورونق العمر غضّ والهوى جار (6)
والنّفس تركض في تضمين ثرّتها
طرفا له في زمان اللهو إحضار (7)
عهدا كريما لبسنا منه (8) أردية
كانت عيونا ومحّت (9) فهي آثار
__________
(1) الأبيات في قلائد العقيان (ص 208207) ورايات المبرزين (ص 148147) ونفح الطيب (ج 3ص 274).
(2) في الأصل: «جيت فيها الجذع»، وقد فضلنا ما جاء في المصادر الثلاثة.
(3) في القلائد: «والبرق فوق رداء الليل». وفي الرايات والنفح: «والبرق» بدل «والبدر».
(4) في الأصل: «فيثغب» بعين معجمة، والتصويب من المصادر الثلاثة. ويثعب: يجري ويسيل.
لسان العرب (ثعب).
(5) الأبيات في قلائد العقيان (ص 208) ونفح الطيب (ج 3ص 273272).
(6) في الأصل: «حمار» وهكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدرين.
(7) في القلائد: «في رهان اللهو». وفي النفح: «في تضمير شرّتها». والشّرّة: الحدّة والنشاط.
(8) في المصدرين: «لبسنا منه أردية كانت عيانا».
(9) في الأصل: «ومحيت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.(3/413)
مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى
كوني سلاما وبردا (1) فيه يا نار
أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في
ليل الشباب لصبح الشّيب إسفار (2)
ونازعتني الليالي وانثنت كسرا (3)
عن ضيغم ما له ناب وأظفار
إلّا (4) سلاح خلال أخلصت فلها
في منهل المجد إيراد وإصدار
أصبو إلى روض عيش روضه خضل (5)
أو ينثني بي عن اللّقاء (6) إقصار
إذا فعطّلت (7) كفّي من شبا قلم
آثاره في رياض العلم أزهار
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن أبي جمرة، وأبو محمد بن عبد الله، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو جعفر بن مضاء، وأبو محمد عبد المنعم، وأبو جعفر بن حكم، وغيرهم.
مولده: ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وفاته: توفي في الخامس والعشرين لشهر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة بمدينة لورقة (8). قصد مرسية (9) يتولّى قضاءها، فصدّ عنها، وصرف منها إلى لورقة، اعتداء عليه.
__________
(1) في الأصل: «أو بردا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) في الأصل: «أسفار» بفتح الهمزة، والتصويب من المصدرين.
(3) رواية صدر البيت في المصدرين هي:
وقارعتني الليالي فانثنت كسرا
(4) في الأصل: «ألّا» والتصويب من المصدرين.
(5) رواية صدر البيت في القلائد هي:
أصبو إلى خفض عيش دوحه خضل
(6) في الأصل: «اللقيا» وهكذا ينكسر الوزن. وفي القلائد والنفح: «العلياء».
(7) في الأصل: «إذا تعطّلت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(8) في الصلة (ص 564) توفي في سنة 542هـ، دون أن يحدد ابن بشكوال المدينة التي توفي بها. وفي بغية الملتمس (ص 389): توفي بمدينة لورقة سنة 542هـ، وقيل: 541هـ. وفي فوات الوفيات (ج 2ص 256): توفي سنة 542هـ بحصن لورقة. وفي بغية الوعاة (ص 295): توفي بأورفة في 25رمضان سنة 542هـ، وقيل: 541هـ، وقيل: 546هـ.
(9) في القلائد والنفح: «قصد ميورقة».(3/414)
عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم بن فرج الخزرجي (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن الفرس، وقد تقدم ذكر طائفة من أهل بيته.
حاله: كان حافظا جليلا، فقيها، عارفا بالنحو واللغة، كاتبا بارعا، شاعرا مطبوعا، شهير الذكر، عالي الصّيت. ولّي القضاء بمدينة شقر، ثم بمدينة وادي آش، ثم بجيّان، ثم بغرناطة، ثم عزل عنها، ثم وليها الولاية التي كان من مضمن ظهيره بها قول المنصور (2) له: أقول لك ما قاله موسى، عليه السلام، لأخيه هارون:
{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلََا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (3)، وجعل إليه النظر في الحسبة، والشّرطة، وغير ذلك، فكان إليه النظر في الدّماء فما دونها، ولم يكن يقطع أمر دونه ببلده وما يرجع إليه.
وقال ابن عبد الملك: كان (4) من بيت علم وجلالة، مستبحرا في فنون المعارف على تفاريقها، متحقّقا بها، نافذا فيها، ذكيّ القلب، حافظا للفقه. استظهر أوان طلبه الكتابين (5): المدوّنة، وكتاب سيبويه وغيرهما، وعني به أبوه وجدّه عناية تامة. وقال أبو الربيع بن سالم (6): سمعت أبا بكر بن الجدّ، وحسبك به (7) شاهدا، يقول غير ما (8) مرة: ما أعلم بالأندلس أحفظ لمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس، بعد أبي عبد الله بن زرقون.
مشيخته: روى (9) عن أبيه الحافظ أبي عبد الله، وعن جدّه أبي القاسم، سمع عليهما وقرأ، وعن أبي بكر بن النّفيس، وأبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي محمد عبد الجبار بن موسى الجذامي، وأبي عامر محمد بن أحمد
__________
(1) ترجمة عبد المنعم الخزرجي في التكملة (ج 3ص 127) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 142) وبغية الوعاة (ص 315) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 134) والديباج المذهب (ص 218) ونفح الطيب (ج 2ص 376) ورايات المبرزين (ص 148) والذيل والتكملة (ج 5ص 58).
(2) هو الخليفة الموحدي يعقوب بن يوسف، الذي حكم المغرب والأندلس من سنة 580هـ إلى سنة 595هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 170).
(3) سورة الأعراف 7، الآية 142.
(4) الذيل والتكملة (ج 5ص 60).
(5) في الأصل: «للكتابين» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) الذيل والتكملة (ج 5ص 62).
(7) كلمة «به» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(8) كلمة «ما» ساقطة في الذيل والتكملة.
(9) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 5958).(3/415)
الشّلبي، وأبي العباس أحمد وأخيه أبي الحسن، ابني زيادة الله. هذه جملة من لقي من الشيوخ وشافهه وسمع منه، وأجاز له من غير لقاء، وبعضهم باللّقاء من غير قراءة ابن ورد، وابن بقي، وأبو عبد الله بن سليمان التونسي، وأبو جعفر بن قبلال، وأبو الحسن بن الباذش، ويونس بن مغيث، وابن معمّر، وشريح، وابن الوحيدي، وأبو عبد الله بن صاف، والرّشاطي، والحميري، وابن وضّاح، وابن موهب، وأبو مروان الباجي، وأبو العباس بن خلف بن عيشون، وأبو بكر بن طاهر، وجعفر بن مكّي، وابن العربي، ومساعد بن أحمد بن مساعد، وعبد الحق بن عطية، وأبو مروان بن قزمان، وابن أبي الخصال، وعياض بن موسى، والمازري، وغيرهم.
تواليفه: ألّف عدة تواليف، منها «كتاب الأحكام» (1)، ألّفه وهو ابن خمسة وعشرين عاما، فاستوفى ووفّى، واختصر الأحكام السلطانية، وكتاب النّسب لأبي عبيد بن سلام، وناسخ القرآن ومنسوخه لابن شاهين، وكتاب المحتسب لابن جنّي.
وألّف كتابا في المسائل التي اختلف فيها النحويون من أهل البصرة والكوفة، وكتابا في صناعة الجدل، وردّ على ابن غرسيّة في رسالته في تفضيل العجم على العرب.
وكتب بخطه من كتب العربية واللغة والأدب والطب وغير ذلك.
من روى عنه: حدّث (2) عنه الحافظ أبو محمد القرطبي، وأبو علي الرّندي، وابنا حوط الله، وأبو الربيع بن سالم، والجمّ الغفير.
شعره: [الطويل]
أبى ما بقلبي اليوم أن يتكتّما ... وحسبك بالدمع السّفوح مترجما
وأعجب به من أخرس بات مفصحا ... يبيّن للواشين ما كان مبهما
فكم عبرة في نهر شقر بعثتها ... سباقا فأمسى النهر مختضبا دما
يرجع ترجيع الأنين اضطراره ... كشكوى الجريح للجريح تألّما
كملن بصحبي فوقه (3) الدّمع ناثر ... شقائق نعمان على متن أرقما
ولله ليل قد لبست ظلامه ... رداء (4) بأنوار النجوم منمنما
__________
(1) في الذيل والتكملة (ج 5ص 61) أن «أحكام القرآن» من أجلّ مصنفاته.
(2) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 6059).
(3) في الأصل: «في قوفة»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «رادا»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/416)
أناوح فيه الورق فوق غصونها ... فكم أورق منهنّ قد باب معجما
وما لي إلّا الفرقدين (1) مصاحب ... ويا بعد حالي في الصّبابة منهما
أبيت شتيت الشّمل والشّمل فيهما ... جميع كما أبصرت عقدا منظّما
فيا قاصدا تدمير، عرّج مصافحا ... نسائلك (2) رسما بالعقيق ومعلما
وأعلم بأبواب السلام صبابتي ... كما كان عرف المسك بالمسك علّما
وإن طفت في تلك الأجارع لا تضع ... بحقّ هواها إن (3) تلمّ مسلّما
وما ضرّها لو جاذبت ظبية النّقا ... فضول رداء قد تغشّته معلما
فيثني قضيبا أثمر البدر مائسا ... بحقف مسيل لفّه السّيل مظلما
وما كنت إلّا البدر وافى غمامة ... فما لاح حتى غاب فيها مغيّما
وما ذاك من هجر ولكن لشقوة ... أبت أن يكون الوصل منها متمّما
فيا ليتني أصبحت في الشّعر لفظة ... تردّدني مهما أردت تفهّما
ولله ما أذكى نسيمك نفحة ... أأنت أعرت الرّوض (4) طيبا تنسّما؟
ولله ما أشفى لقاءك (5) للجوى ... كأنّك قد أصبحت عيسى ابن مريما
وما الرّاح بالماء القراح مشوبة ... بأطيب من ذكراك إن خامرت فما
فما لي وللأيام قد كان شملنا ... جميعا فأضحى في يديها مقسّما
ولمّا (6) جنيت الطّيب من شهد وصلها ... جنيت من التّبديد للوصل علقما
وقد ذقت طعم البين حتى كأنني ... لألفة من أهواه ما ذقت مطعما
فمن لفؤاد شطره حازه الهوى ... وشطر لإحراز الثّواب مسلّما
ويا ليت أنّ الدّار حان مزارها ... فلو صحّ قرب الدار أدركت مغنما
ولو صحّ قرب الدار لي لجعلته ... إلى مرتقى السّلوان والصّبر سلّما
فقد طال ما ناديت سرّا وجهرة ... عسى وطن يدنو بهم ولعلّما؟
__________
(1) في الأصل: «للفرقدين»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «نسألك» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «إن لم تلمّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، لذا حذفنا كلمة «لم».
(4) في الأصل: «للروض» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «لقاك» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «وما»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/417)
ومن شعره: [الطويل]
سلام على من شفّني بعد داره ... وأصبحت مشغوفا بقرب مزاره
ومن هو في عيني ألذّ من الكرى ... وفي النفس أشهى من أمان المكاره
سلام عليه كلّما ذرّ شارق ... ينمّ كعرف الزّهر غبّ فطاره
لعمرك ما أخشى غداة وداعنا ... وقد سعرت في القلب شعلة ناره
وسال على الخدّين دمع كأنه ... بقيّة ظلّ الروض (1) في جلّناره
وعانقت منه غصن بان منعّما ... ولا حظت منه الصّبح عند اشتهاره
وأصبحت في أرض وقلبي بغيرها ... وما حال مسلوب الفؤاد مكاره
نأى وجه من أهوى فأظلم أفقه ... وقد غاب عن عينيه شمس نهاره
سل البرق عن شوقي يخبّرك بالذي ... ألاقيه من برح الهوى وأواره
وهل هو إلّا نار وجدي وكلّما ... تنفّست عمّ الجوّ ضوء شراره
ومن شعره أيضا رحمة الله عليه: [مخلع البسيط]
اقرأ على شنجل (2) سلاما ... أطيب من عرفه نسيما
من مغرم القلب ليس ينسى ... منظره الرائق الوسيما
إذا رأى منظرا سواه ... عاف الجنى منه والشّميما
وإن أتى مشربا حميدا ... كان وإن راقه ذميما
وقف بنجد وقوف صبّ ... يستذكر الخدن والحميما
واندب أراكا بشعب رضوى ... قد رجعت بعدنا مشيما
واذكر شبابا مضى سريعا ... أصبحت من بعده سقيما
هيهات ولّى وجاء شيب ... وكيف للقلب أن يهيما؟
ما يصلح الشّيب غير تقوى ... تحجب عن وجهه الجحيما
في كل يوم له ارتحال ... أعجب به ظاعنا مقيما
ما العمر إلّا لديه دين ... قد آن أن يقضي الغريما
__________
(1) في الأصل: «للروض» وكذا لا يستقيم الوزن.
(2) شنجل وشنجيل وشنيل: بالإسبانية، وهو نهر غرناطة الكبير، وينبع من جبل شلير، ثم يمرّ بلوشة وإستجة ويصل إلى إشبيلية فيصب في نهرها الشهير بالوادي الكبير. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 4947).(3/418)
فعد إلى توبة نصوح ... وارج إلها بنا رحيما
قد سبق الوعد منه حتى ... أطمع ذا الشّقوة النّعيما
مولده: في سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
وفاته: عصر يوم الأحد الرابع من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسمائة (1). وشهد دفنه بباب إلبيرة الجمّ الغفير، وازدحم الناس على نعشه حتى حملوه على أكفّهم ومزّقوه. وأمر أن يكتب على قبره: [الطويل]
عليك سلام الله يا من يسلّم ... ورحمته ما زرتني تترحّم
أتحسبني وحدي نقلت إلى هنا؟ ... ستلحق بي عمّا قريب فتعلم
ألا قل (2) لمن يمسي لدنياه مؤثرا ... ويهمل أخراه ستشقى وتندم
فلا تفرحن إلّا بتقديم طاعة ... فذاك الذي ينجي غدا ويسلّم
ومن غير الأصلبين
عبد الحكيم بن الحسين بن عبد الملك بن يحيى ابن باسيو بن تادررت التّنمالي اليدرازتيني ثم الواغديني
أصله من تينملّل (3)، من نظر مرّاكش، وانتقل جدّه عبد الملك مع الخليفة عبد المؤمن بن علي إلى إقليم بجاية. ونشأ عبد الملك ببجاية، وانتقل إلى تونس في حدود خمسة وثمانين. وورد أبو محمد الأندلس في حدود سبعمائة.
حاله: من تعريف شيخنا أبي البركات: كان من أهل المعرفة بالفقه وأصوله على طريقة المتأخرين. وكان مع ذلك، رجلا كريم النفس، صادق اللهجة، سليم الصدر، منصفا في المذاكرة. قلت: يجمع هذا الرجل إلى ما وصفه به، الأصالة ببلده إفريقية. وثبتّ اسمه في «عائد الصلة» بما نصّه: الشيخ الأستاذ القاضي، يكنى أبا محمد. كان، رحمه الله، من أهل العلم بالفقه، والقيام على الأصلين، صحيح
__________
(1) كذا جاء في التكملة (ص 128) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 134) والذيل والتكملة (ج 5ص 63). وفي بغية الوعاة (ص 315) والديباج المذهب (ص 218): توفي سنة 599هـ.
(2) في الأصول: «فيا» بدل: «ألا قل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) تين ملّل أو تينملّل، بميم مفتوحة واللام الأولى مشدّدة مفتوحة: جبال بالمغرب، كان بها سرير ملك بني عبد المؤمن. معجم البلدان (ج 2ص 69).(3/419)
الباطن، سليم الصدر، من أهل الدين والعدالة والأصالة. بثّ في الأندلس علم أصول الفقه، وانتفع به. وتصرّف في القضاء في جهات.
مشيخته: منقولا من خطّ ولده الفقيه أبي عبد الله صاحبنا، الكاتب بالدار السلطانية: قرأ ببلده على الفقيه الصّدر أبي علي بن عنوان، والشيخ أبي الطاهر بن سرور، والإمام أبي علي ناصر الدين المشدالي، والشيخ أبي الشّمل جماعة الحلبي، والشيخ أبي الحجاج بن قسوم وغيرهم. ومن خط المحدّث أبي بكر بن الزيات:
يحمل عن أبي الطاهر بن سرور، وعن أبي إسحاق بن عبد الرفيع.
تواليفه: من تواليفه: «المعاني المبتكرة الفكرية، في ترتيب المعالم الفقهية»، «والإيجاز، في دلالة المجاز»، ونصرة الحق، وردّ الباغي في مسألة الصّدقة ببعض الأضحية، والكرّاس الموسوم (1) ب «المباحث البديعة، في مقتضى الأمر من الشريعة».
مولده: ببجاية في أحد لجمادى الأولى من عام ثلاثة وستين وستمائة.
وفاته: وتوفي قاضيا بشالش يوم الجمعة، وهو الرابع عشر لجمادى الأولى من عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة. ودفن بجبانة باب إلبيرة بمقربة من قبر ولي الله أبي عبد الله التونسي. وكانت جنازته مشهورة.
ومن المقرئين والعلماء
عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جلهمة ابن العباس بن مرداس السلمي (2)
أصله من قرية قورت، وقيل: حصن واط من خارج غرناطة، وبها نشأ وقرأ.
حاله: قال ابن عبد البر: كان جمّاعا للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيها، نحويا، عروضيا، شاعرا، نسّابة، أخباريا. وكان أكثر من يختلف إليه الملوك
__________
(1) في الأصل: «المرسوم».
(2) يكنى عبد الملك بن حبيب أبا مروان، وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص 459). وفيه:
«جاهمة» بدل «جلهمة»، وجذوة المقتبس (ص 282) والمغرب (ج 2ص 96) وبغية الوعاة (ص 312) وبغية الملتمس (ص 377) ومطمح الأنفس (ص 233) والبيان المغرب (ج 2ص 110) والديباج المذهب (ص 154) ومعجم البلدان (ج 1ص 244) مادة إلبيرة ونفح الطيب (ج 1ص 52) و (ج 2ص 226).(3/420)
وأبناؤهم. قال ابن مخلوف: كان يأتي إلى معالي الأمور. وقال غيره: رأيته يخرج من الجامع، وخلفه نحو من ثلاثمائة، بين طالب حديث، وفرائض، وفقه، وإعراب. وقد رتّب الدّول عليه، كل يوم ثلاثين دولة، لا يقرأ عليه فيها شيء إلّا تواليفه وموطّأ مالك. وكان يلبس الخزّ والسّعيد. قال ابن نمير: وإنما كان يفعله إجلالا للعلم، وتوقيرا له. وكان يلبس إلى جسمه ثوب شعر، وكان صوّاما قوّاما. وقال المغامي (1): لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب، لازدريت غيره. وزعم الزّبيدي أنه نعي إلى سحنون (2) فاسترجع، وقال: مات عالم الأندلس. قال ابن الفرضي:
جمع (3) إلى إمامته في الفقه التبحبح في الأدب، والتفنّن في ضروب العلوم، وكان فقيها مفتيا. قال ابن خلف أبو القاسم الغافقي: كان له أرض وزيتون بقرية بيرة من طوق غرناطة، حبس جميع ذلك على مسجد قرطبة. وله ببيرة مسجد ينسب إليه.
وكان يهبط من قرية قورت يوم الاثنين والخميس إلى مسجده ببيرة، فيقرأ عليه، وينصرف إلى قريته.
مشيخته: روى عن صعصعة بن سلّام، والغازي (4) بن قيس، وزياد بن عبد الرحمن. ورحل إلى المشرق سنة ثمان ومائتين، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رحلته من قريته بفحص غرناطة (5)، وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون، ومطرّف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وابنه موسى، وجماعة سواهم. وأقام في رحلته ثلاثة أعوام وشهورا. وعاد إلى إلبيرة، إلى أن رحّله عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة، في رمضان سنة ثماني (6) عشرة ومائتين.
من روى عنه: سمع منه ابناه محمد وعبد الله، وسعيد بن نمر، وأحمد بن راشد، وإبراهيم بن خالد، وإبراهيم بن شعيب، ومحمد بن فطيس. وروى عنه من
__________
(1) هو إبراهيم بن المنذر المغامي كما في معجم البلدان (ج 1ص 244).
(2) سحنون: هو لقب القاضي عبد السلام بن سعيد بن حبيب الشوقي، المتوفي سنة 240هـ.
ترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص 47) ووفيات الأعيان (ج 3ص 153) والديباج المذهب (ص 160) وقضاء قرطبة (ص 130) وشذرات الذهب (ج 2ص 94) وكتاب الوفيات (ص 174).
(3) قول ابن الفرضي لم يرد حرفيا في كتابه (تاريخ علماء الأندلس ص 462) كما هنا.
(4) في معجم البلدان (ج 1ص 244): «والغار بن قيس».
(5) فحص غرناطة: هو مرج غرناطة الشهير، وهو عبارة عن سهل أفيح وبسيط شاسع أخضر خصب وغوطة فيحاء مترامية الأطراف. يطلق عليه بالإسبانية اسم، يقع غربيّ غرناطة، ويمتد غربا حتى مدينة لوشه. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 41).
(6) في الأصل: «ثمان» وهو خطأ نحوي.(3/421)
عظماء القرطبيين، مطرّف بن عيسى، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضّاح، والمقامي في جماعة.
تواليفه: قال أبو الفضل عياض بن موسى، في كتابه في أصحاب مالك (1):
قال بعضهم: قلت لعبد الملك بن حبيب: كم كتبك التي ألفت؟ قال: ألف كتاب وخمسون كتابا. قال عبد الأعلى: منها كتب المواعظ سبعة، وكتب الفضائل سبعة، وكتب أجواد قريش وأخبارها وأنسابها خمسة عشر كتابا، وكتب السلطان وسيرة الإمام ثمانية كتب، وكتب الباه والنساء ثمانية، وغير ذلك. ومن كتب سماعاته في الحديث والفقه، وتواليفه في الطب، وتفسير القرآن، ستّون كتابا. وكتاب المغازي، والنّاسخ والمنسوخ، ورغائب القرآن، وكتاب الرّهون والحدثان، خمسة وتسعون كتابا. وكتاب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنان وعشرون كتابا، وكتاب في النّسب، وفي النجوم، وكتاب الجامع، وهي كتب فيها مناسك النّبي، وكتاب الرّغائب، وكتاب الورع في المال، وكتاب الرّبا، وكتاب الحكم والعدل بالجوارح. ومن المشهورات الكتاب المسمّى بالواضحة. ومن تواليفه كتاب إعراب القرآن، وكتاب الحسبة في الأمراض، وكتاب الفرائض، وكتاب السّخاء واصطناع المعروف، وكتاب كراهية الغناء.
شعره: أنشد ابن الفرضي ممّا كتب بها إلى أهله من المشرق سنة عشر ومائتين (2): [الطويل]
أحبّ بلاد الغرب والغرب موطني ... ألا كلّ غربيّ إليّ حبيب
فيا جسدا أضناه شوق كأنّه ... إذا انتضيت عنه الثّياب قضيب
ويا كبدا عادت زمانا كأنما ... يلذّغها بالكاويات طبيب
بليت وأبلاني اغترابي ونأيه ... وطول مقامي بالحجاز أجوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ... ومن دونهم بحر أجشّ مهيب
وهول كريه ليله كنهاره ... وسير حثيث للرّكاب دؤوب
فما الداء إلّا أن تكون بغربة ... وحسبك داء أن يقال غريب
فيا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بأكناف نهر الثّلج حين يصوب
وحولي أصحابي وبنتي وأمّها ... ومعشر أهلي والرؤوف مجيب
__________
(1) هو كتاب «ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك».
(2) الأبيات غير واردة في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي.(3/422)
وكتب إلى الأمير عبد الرحمن في ليلة عاشوراء (1): [البسيط]
لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا (2) ... واذكره لا زلت في الأحياء (3) مذكورا
قال الرسول (4)، صلاة الله تشمله، ... قولا وجدنا عليه الحقّ والنّورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول محبورا
فارغب، فديتك، فيما فيه رغبتنا (5) ... خير الورى كلّهم حيّا ومقبورا
وفاته: توفي في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين، وقيل: تسع وثلاثين ومائتين (6). قال ابن خلف: كان يقول في دعائه: إن كنت يا ربّ راضيا عني، فاقبضني إليك قبل انقضاء سنة ثمان وثلاثين، فقبضه الله في أحبّ الشهور إليه، رمضان من عام ثمانية وثلاثين، وهو ابن أربع وستين سنة (7)، وصلّى عليه ولده محمد، ودفن بمقبرة أم سلمة بقبلي محراب مسجد الضّيافة من قرطبة. قالوا: والخبر متصل، إنه وجد جسده وكفنه وافرين لم يتغيّرا بعد وفاته، بتسع وأربعين سنة، وقطعت من كفنه قطعة رفعت إلى الأمير عبد الله، وذلك عندما دفن محمد بن وضّاح إلى جنبه، رحمهم الله. ورثاه أبو عبد الله الرشّاش وغيره، فقال: [الطويل]
لئن أخذت منّا المنايا مهذّبا ... وقد قلّ فيها من يقال المهذّب
لقد طاب فيه الموت والموت غبطة ... لمن هو مغموم الفؤاد معذّب
ولأحمد بن ساهي فيه: [البسيط]
ماذا تضمّن قبر أنت ساكنه ... من التّقى والنّدى يا خير مفقود
عجبت للأرض في أن غيّبتك وقد ... ملأتها حكما في البيض والسّود
قلت: فلو لم يكن من المفاخر الغرناطية إلا هذا الحبر لكفى.
__________
(1) الأبيات الأول والثالث والرابع في البيان المغرب (ج 2ص 111)، والبيتان الأول والثاني فقط في نفح الطيب (ج 2ص 226)، كتبها إلى أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، المعروف بعبد الرحمن الثاني.
(2) في الأصل: «عاشوراء» والتصويب من المصدرين.
(3) في البيان المغرب: «في الأخيار». وفي النفح: «في التاريخ».
(4) في النفح: «النبيّ».
(5) في البيان المغرب: «رغّبنا».
(6) في جذوة المقتبس (ص 283) وبغية الملتمس (ص 377): توفي بقرطبة في شهر رمضان سنة 238هـ، وقيل: يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 239هـ.
(7) في مطمح الأنفس (ص 235): توفي في رمضان سنة 238هـ، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
وفي معجم البلدان (ج 1ص 245): توفي سنة 238هـ. بعلّة الحصى عن أربع وستين سنة.(3/423)
ومن الطارئين عليها
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الأموي المالقي، الشهير بالباهلي (1)
حاله: كان، رحمه الله، بعيد المدى، منقطع القرين في الدّين المتين والصلاح، وسكون النفس، ولين الجانب، والتواضع، وحسن الخلق، إلى وسامة الصّورة، وملاحة الشّيبة، وطيب القراءة، مولى النّعمة على الطّلبة من أهل بلده، أستاذا حافلا، متفنّنا، مضطلعا، إماما في القراءات، حائزا خصل السباق إتقانا، وأداء، ومعرفة، ورواية، وتحقيقا، ماهرا في صناعة النحو، فقيها، أصوليّا، حسن التعليم، مستمرّ القراءة، فسيح التّحليق، نافعا، متحبّبا، مقسوم الأزمنة على العلم وأهله، كثير الخضوع والخشوع، قريب الدّمعة. أقرأ عمره، وخطب بالمسجد الأعظم من مالقة، وأخذ عنه الكثير من أهل الأندلس.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الإمام أبي جعفر بن الزبير، وكان من مفاخره، وعلى القاضي أبي علي بن أبي الأحوص، وعلى المقرئ الضّرير أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن سالم بن خلف السّهيلي، والرّاوية أبي الحجاج ابن أبي ريحانة المربليّ. وكتب له بالإجازة العامة الرّاوية أبو الوليد العطار، والإمام أبو عبد الله بن سمعون الطائي. وسمع على الراوية أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله الأنصاري. وقرأ على القاضي أبي القاسم، قاسم بن أحمد بن حسن الحجري، الشهير بالسّكوت المالقي، وأخذ عن الشيخ الصالح أبي جعفر أحمد بن يوسف الهاشمي الطّنجالي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ويحمل عن خاله ولي الله أبي محمد عبد العظيم ابن ولي الله محمد بن أبي الحجاج ابن الشيخ، رحمه الله.
تواليفه: شرح التّيسير في القراءات. وله تواليف غيره في القرآن والفقه.
شعره: حدّث الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج المنتشافري، قال: رأيت في النّوم أبا محمد الباهلي أيام قراءتي عليه بمالقة في المسجد الجامع بها، وهو قائم يذكّر الناس ويعظهم، فعقلت من قوله: أتحسبونني غنيّا فقيرا، أنا فقير، أنا.
__________
(1) ورد ذكر عبد الواحد بن محمد الباهلي في نفح الطيب (ج 7ص 361) و (ج 10ص 261)، وتقدم ذكره في الجزء الثاني من الإحاطة.(3/424)
فاستيقظت وقصصتها عليه، فاستغفر الله، وقال: يا بنيّ، حقا ما رأيت. ثم رفع إلى ثاني يوم تعريفه رقعة فيها مكتوب: [المتقارب]
لئن ظنّ قوم من أهل الدّنا ... بأنّ لهم قوّة أو غنا
لقد غلطوا جمع (1) مالهم ... فتاهوا عقولا، عموا (2) أعينا
فلا تحسبوني أرى رأيهم ... فإنّي ضعيف فقير أنا
وليس افتقاري وفقري معا ... إلى الخلق ما (3) عند خلق غنى
ولكن إلى خالقي وحده ... وفي ذاك عزّ ونيل المنى
فمن ذلّ للحقّ يرقى العلا ... ومن ذلّ للخلق يلق العنا
وفاته: ببلده مالقة، رضي الله عنه، ونفع به، في خامس ذي القعدة من عام خمسة وسبعمائة. وكان الحفل في جنازته عظيما، وحفّ الناس بنعشه، وحمله الطّلبة وأهل العلم على رؤوسهم. سكن غرناطة وأقرأ بها.
ومن الكتّاب والشعراء في هذا الحرف
عبد الحق بن محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة ابن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي (4)
صاحبنا الكاتب للدولة الغادرة.
حاله: كان (5) هذا الرجل في حال الدّعة التي استصحبها، وقبل أن تبعته أيدي الفضول، بعفاف وطهارة، إلى خصل خطّ، نشط البنان، جلد على العمل. ونظمه وسط، ونثره جمهوري عامي، مبين عن الأغراض. وولّي ببلده الخطابة والقضاء (6) في الحداثة. ثم انتقل إلى غرناطة، فجأجأت (7) به الكتابة السلطانية
__________
(1) في الأصل: «لقد غلطوا ويحهم بجمع»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وعموا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «فما»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) ترجمة عبد الحق بن محمد بن عطية في الكتيبة الكامنة (ص 269). وترجم له المقري في نفح الطيب (ج 10ص 137) وعدّه من تلاميذ لسان الدين ابن الخطيب ولكن تحت عنوان:
«القاضي الكاتب أبو محمد عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي».
(5) قارن بنفح الطيب (ج 10ص 138137).
(6) بياض في الأصول. وفي النفح: «وولّي الخطابة بالمسجد الأعظم والقضاء سنتين ببلده في حداثة السّنّ».
(7) جأجأت به الكتابة: دعته.(3/425)
باختياري، مستظهرة منه ببطل كفاية، وباذل حمل كلفة، فانتقل (1) رئيسا في غرض إعانتي وانتشالي من الكلفة (2)، على الضّعف وإلمام المرض، والتّرفّع عن الابتذال، والأنفة من الاستخدام، فرفع الكلّ، ولطف من الدولة محلّه. ثم لمّا حال الأمر، وحتم التّمحيص، وتسوّرت القلعة، وانتثر النّظم، واستأثر به الاصطناع، كشفت الخبرة منه عن سوءة لا توارى، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى، فسبحان من علّم النفس فجورها وتقواها، إذ لصق بالدّائل (3) الفاسق، فكان آلة انتقامه، وجارحة صيده، وأحبولة كيده، فسفك الدّماء، وهتك الأستار، ومزّق الأسباب، وبدّل الأرض غير الأرض، وهو يزقّه في أذنه، فيؤمّ (4) النّصيحة، وينحله (5) لقب الهداية، ويبلغ في شدّ أزره إلى الغاية: «عنوان عقل الفتى اختياره، يجري في جميل (6)
دعوته»، طوالا، أخرق، يسيء السمع، وينسى (7) الإجابة، بدويّا، قحّا، جهوريّا، ذاهلا عن عواقب الدنيا والآخرة، طرفا في سوء العهد، وقلّة الوفاء، مردودا في الحافزة (8)، منسلخا من آية السّعادة، تشهد عليه بالجهل (9) يده، ويقيم عليه الحجج شرهه، وتبوّئه (10) هفوات الندم جهالته. ثم أسلم المحروم مصطنعه، أحوج ما كان إليه، وتبرّأ منه، ولحقته بعده مطالبة ماليّة، لقي لأجلها ضغطا. وهو الآن بحال خزي، واحتقاب تبعات، خلّصنا الله من ورطات الدّنيا والآخرة.
أوليته وشيوخه: وبسط كثير من مجمل حاله حسبما نقلت من خطه.
قال يخاطبني بما نصّه (11): [البسيط]
يا سيّدا، فاق في مجد وفي شرف
وفات سبقا بفضل الذات والسّلف
وفاضلا عن سبيل الذّمّ منحرفا
وعن سبيل المعالي غير منحرف
__________
(1) في النفح: «فاستقلّ».
(2) في النفح: «من هفوة الكلفة على جلل الضعف».
(3) في النفح: «بالداهي». والداهي: الفاسق، والمراد به سلطان بني نصر، الذي هرب منه لسان الدين ابن الخطيب إلى المغرب.
(4) في النفح: «زقوم النصيحة». والزّقوم: شجرة في جهنم، منها طعام أهل النار.
(5) في النفح: «ويستحله».
(6) في النفح: «سبيل».
(7) في النفح: «فيسيء».
(8) في النفح: «الحافرة» بالراء المهملة.
(9) في الأصل: «بالحمل» والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «وتبوه» والتصويب من النفح.
(11) القصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 139138).(3/426)
وتحفة الزمن الآتي به (1) فلقد
أربى (2) بما حازه منها على التّحف
ومعدنا لنفيس الدّرّ فهو لما
حواه منه لدى التّشبيه كالصّدف
وبحر علم (3) جميع الناس مغترف
منه، ونيل المعالي حظّ مغترف (4)
وسابقا بذّ أهل العصر قاطبة
فالكلّ في ذاك منهم غير مختلف
من ذا يخالف في نار على علم
أو يجحد الشمس نورا وهو غير خفي؟
ما أنت إلّا وحيد العصر في شيم
وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف
لله من منتم للمجد منتسب
بالفضل متّسم، بالعلم متّصف
لله من حسب عد ومن كرم
قد شاده السّلف الأخيار للخلف
إيه أيا من به تبأى (5) الوزارة إذ
كنت الأحقّ بها في الذّات والشرف
يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت
فيه المعالي ببعض (6) البعض لم أصف
يا من يقصّر وصفي في علاه ولو
أنسى مديح حبيب (7) في أبي دلف
__________
(1) كلمة «به» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(2) في النفح: «ربا».
(3) في الأصل: «وبحر بعلم» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «خير مؤتلف».
(5) تبأى: تفتخر.
(6) في النفح: «فبعض».
(7) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.(3/427)
شرّفتني عندما استدعيت من قبلي (1)
نظما تدوّنه في أبدع الصّحف
وربما راق ثغر في مباسمه (2)
حتى إذا ناله إلمام مرتشف
أجلّ قدرك أن ترضى لمنتجع
بسوء كيلته حظّا مع الحشف
هذا، ولو أنني فيما أتيت به
نافحت في الطّيب زهر الرّوضة الأنف (3)
لكنت أفضي إلى التّقصير من خجل
أخليت (4) بالبعض ممّا تستحقّ أفي
فحسبي العجز عمّا قد أشرت به
والعجز (5) حتما قصارى كلّ معترف
لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلا
وإن غدوت بمرمى (6) القوم كالهدف
فانظر إليها بعين الصّفح عن زلل
واجعل تصفّحها من جملة الكلف
بقيت للدهر تطويه وتنشره
تسمو من العزّ باسم غير منصرف
جئتك (7)، أعزّك الله، ببضاعة مزجاة، وأعلقت رجائي من قبولك بأمنية مرتجاة، وما مثلك يعامل بسقط المتاع، ولا يرضى له بالحشف مع بخس المدّ والصّاع. لكن فضلك يغضي عن التّقصير ويسمح، ويتجاوز عن الخطإ ويصفح، وأنت في كل حال إلى الأدنى من الله أجنح. ولولا أنّ إشارتك واجبة الامتثال، والمسارعة إليها مقدّمة على سائر الأعمال، لما أتيت بها تمشي على استحياء، ولا عرّضت نفسي أن أقف
__________
(1) في النفح: «نظمي».
(2) في النفح: «تبسّمه».
(3) الروضة الأنف: التي لم يسبق أحد إلى رعيها.
(4) في النفح: «إذ لست».
(5) في النفح: «فالعجز».
(6) في الأصل: «بمرقى» والتصويب من النفح.
(7) اكتفى في النفح بقوله: «ثم ذكر نثرا، وأن مولده بوادي آش».(3/428)
موقف حشمة وحياء، فما مثلي فيما أعرضه عليك، أو أقدّمه من هذا الهذر بين يديك، إلّا مثل من أهدى الخرز لجالب الدّرّ، أو عارض للوشل موج البحر، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزّهر، على أني لو نظمت الشّعرى شعرا، وجئتك بالسّحر الحلال نظما ونثرا، ونافحتك بمثل تلك الرّوضة الأدبية التي تعبق أزاهرها نثرا، لما وصفتك ببعض البعض من نفائس حلاك، ولا وفّيت ما يجب من نشر مآثر علاك.
فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية، والذّات الموسومة باسم التعريف والعلميّة، أو أعبّر عنه في وصف تلك المحاسن الأدبية، والمفاخر الحسبيّة. إن وصفت ما لك من شرف الذات، ملت إلى الاختصار وقلت: آية من الآيات، وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات، بلغت في مدى الفخر والحسب إلى أبعد الغايات، وإن حلّيتك ببعض الحلى والصّفات، سلبت محاسن الرّوض الأريج النّفحات. فكم لك من التّصانيف الرائقة، والبدائع الفائقة، والآداب البارعة، والمحاسن الجامعة. فما شئت من حدائق ذات بهجة كأنما جادتها سحب نيسان، وجنّات ثمراتها صنوان وغير صنوان، تزري ببدائع بديع الزّمان، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان. نظم كما انتثر الدّرّ، ونثر تتمنّى الجوزاء أن تتقلّده والأنجم الزّهر، ومعان أرقّ منّ نسيم الأسحار، تهبّ على صفحات الأزهار. فأهلا بك يا روضة الآداب، وربّ البلاغة التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب، فما أنت إلّا حسنة الزّمان، ومالك أزمّة البيان، وسبّاق غايات الحسن والإحسان. وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك، وما في تحلّيك بالفضائل واتّصافك. لكنّي رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب، وأتيت فيه بالعجب العجاب، فليس لي إلّا تقصير عن المطاولة وإمساك، والعجز عن درك الإدراك إدراك. إيه أيها السّيّد الأعلى، والفاضل الذي له في قداح الفخر القدح المعلّى، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي، فعلمت أن هذا إنما هو تهمّم منك بشاني، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني. وإلّا فمن أنا في الناس حتى أنسب، أو من يذهب إلّا أنت هذا المذهب؟
أما التّعريف بنفسي، فأبدأ فيه باسم أبي: هو أبو القاسم محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي. وجدّي عطية هو الدّاخل إلى الأندلس عام الفتح، نزل بإلبيرة، وبها تفرّع من تفرّع من عقبه، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة، فتأثّل بها حالهم، واستمرّ بها
استيطانهم، إلى حدود المائة السابعة، فتسبّب في الانتقال من بقي منهم، وهو جدّي الأقرب الأنساب، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش، ولكل أجل كتاب، وذلك أنه استقضي بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله (1)، أول ملوك هذه الدولة النصرية، نصر الله خلفها، ورحم سلفها، فاتخذ فيها صهرا ونسبا، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا، واستمرّ مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة فكان إلى أشرف الحالات مرتحله، وقضى في إيابه من الحج أمله. واستمرّت به الاستيطان، وتعذّرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان. على أنه لم يعدم من الله السّتر الجميل، ولا حظّ من عنايته بإيصال النّعمة كفيل، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف، وجعلهم في حال الاغتراب فيمن اشتهر بنباهة الحال واتّصف، وقيّض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف، وبذلك حفظ الله بيتهم، وشمل باتصال النّعمة حيّهم وميتهم. فالحمد لله، بجميع محامده، على جميل عوائده. وتخلّف بوادي آش أبي وأعمامي، تغمّدهم الله وإياي برحمته، وجمع شملنا في جنّته.(3/429)
أما التّعريف بنفسي، فأبدأ فيه باسم أبي: هو أبو القاسم محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي. وجدّي عطية هو الدّاخل إلى الأندلس عام الفتح، نزل بإلبيرة، وبها تفرّع من تفرّع من عقبه، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة، فتأثّل بها حالهم، واستمرّ بها
استيطانهم، إلى حدود المائة السابعة، فتسبّب في الانتقال من بقي منهم، وهو جدّي الأقرب الأنساب، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش، ولكل أجل كتاب، وذلك أنه استقضي بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله (1)، أول ملوك هذه الدولة النصرية، نصر الله خلفها، ورحم سلفها، فاتخذ فيها صهرا ونسبا، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا، واستمرّ مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة فكان إلى أشرف الحالات مرتحله، وقضى في إيابه من الحج أمله. واستمرّت به الاستيطان، وتعذّرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان. على أنه لم يعدم من الله السّتر الجميل، ولا حظّ من عنايته بإيصال النّعمة كفيل، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف، وجعلهم في حال الاغتراب فيمن اشتهر بنباهة الحال واتّصف، وقيّض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف، وبذلك حفظ الله بيتهم، وشمل باتصال النّعمة حيّهم وميتهم. فالحمد لله، بجميع محامده، على جميل عوائده. وتخلّف بوادي آش أبي وأعمامي، تغمّدهم الله وإياي برحمته، وجمع شملنا في جنّته.
وأمّا التعريف بهم، فأنت أبقاك الله، بمن سلف قديما منهم أعلم، وسبيلك في معرفتهم أجدى وأقوم، بما وهبكم الله من عوارف المعارف، وجعل لكم من الإحاطة بالتالد منها والطّارف. وأمّا من لم يقع به تعريف، ممن بعدهم، فمن اقتفى رسمهم في الطريقة العلمية، ولم يتجاوز جدّهم، وهو جدّي أبو بكر عبد الله بن طلحة ورابع أجدادي. كان، رحمه الله، ممن جرى على سنن آبائه، وقام بالعلم أحسن قيام ونهض بأعبائه. ألّف كتابا في «الرقائق»، ففات في شأوه سبق السابق، وتصدّر ببلده للفتيا، وانتفع به الناس، وكان شيخهم المقدّم. ولم أقف على تاريخ مولده ولا وفاته، غير أنه توفي في حدود المائة الخامسة، رحمه الله. وأمّا من بيني وبينه من الآباء، كجدّي الأقرب وأبيه ومن خلفه من بنيه، فما منهم من بلغ رتبة السّابق، ولا قصر أيضا عن درجة اللّاحق، وإنما أخذ في الطلب بنصيب، ورمى فيه بسهم مصيب.
وأما مولدي (2)، فبوادي آش، في أواخر عام تسعة وسبعمائة. وفي عام ثلاثة وعشرين، ابتدأت القراءة على الأستاذ أبي عبد الله الطّرسوني وغيره ممن يأتي ذكره.
ثم كتبت بعد ستة أعوام على من وليها من القضاة، أولي العدالة والسّير المرتضاة،
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف، أول سلاطين بني نصر بغرناطة، حكم من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).
(2) قارن بنفح الطيب (ج 10ص 139).(3/430)
ولم يطل العهد حتى تقدّمت في جامعها الأعظم خطيبا وإماما، وارتسمت في هذه الخطّة التي ما زالت على من أحسن تماما، وذلك في أواخر عام ثمانية وثلاثين. ثم ولّيت القضاء بها، وبما يرجع إليها من النّظر، في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وأربعين، واستمرّت الولاية إلى حين انتقالي للحضرة، آخر رجب من عام ستة وخمسين، أسأل الله الإقالة والصّفح عما اقترفت من خطإ أو زلل، أو ارتكبته من عمد وسهو، في قول أو عمل، بمنّه.
وأمّا أشياخي، فإني قرأت بالحضرة على الأستاذ الخطيب أبي الحسن القيجاطي، والأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزي. وبمالقة على الأستاذ القاضي أبي عمرو بن منظور. وبألمريّة على الأستاذ القاضي أبي الحسن بن أبي العيش، وسيّدي القاضي أبي البركات ابن الحاج، والأستاذ أبي عثمان بن ليون، وبوادي آش على الأستاذ القاضي أبي عبد الله بن غالب، والأستاذ أبي عامر بن عبد العظيم. على كل هؤلاء قرأت قراءة تفقّه، وعرضت على أكثرهم جملة كتب في النحو والفقه والأدب، أكبرها كتاب المقامات للحريري، وأمّا من لقيته من المشايخ واستفدت، منهم أبو الحسن بن الجيّاب بالحضرة، وبمالقة القاضي أبو عبد الله بن بكر، والقاضي أبو عبد الله بن عيّاش، والأستاذ أبو عبد الله بن حفيد الأمين. ومن لقيته لقاء بترك، سيدي أبو جعفر بن الزيات ببلّش. وبمالقة الخطيب أبو عبد الله السّاحلي، والصّوفي أبو الطاهر بن صفوان، والمقرئ أبو القاسم بن درهم. وبألمرية الخطيب أبو القاسم بن شعيب، والخطيب ابن فرحون. ولقيت أيضا القاضي أبا جعفر بن فركون القرشي، والقاضي الخطيب أبا محمد بن الصايغ. وممن رأيته بوادي آش، وأنا إذ ذاك في المكتب، وأخذت بحظّ من التبرّك به، سيدي أبو عبد الله الطّنجالي نفع الله به. والحمد لله ربّ العالمين.
شعره: من مطولاته قوله: ومن خطّه نقلت (1): [الطويل]
ألا أيّها اللّيل البطيء الكواكب ... متى ينجلي صبح بنيل المآرب؟
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا ... فمن طالع منها على إثر غارب (2)
أحدّث نفسي أن أرى الرّكب سائرا ... وذنبي يقصيني بأقصى المغارب
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 141139).
(2) أخذه من قول ابن خفاجة: [الطويل]
وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا ... فمن طالع، أخرى الليالي، وغارب
ديوان ابن خفاجة (ص 43).(3/431)
فلا فزت من نيل الأماني بطائل ... ولا قمت في (1) حقّ الحبيب بواجب
وكم (2) حدّثتني النفس أن أبلغ المنى ... وكم علّلتني بالأماني الكواذب
وما قصّرت بي عن زيارة قبره ... معاهد أنس من وصال الكواعب
ولا حبّ أوطان نبت بي ربوعها ... ولا ذكر خلّ حلّ (3) فيها وصاحب
ولكن ذنوب أثقلتني فها أنا ... من الوجد قد ضاقت عليّ مذاهبي
إليك، رسول الله، شوقي مجدّدا (4) ... فيا ليتني يمّمت صدر الركائب
وأعملت (5) في تلك الأباطح والرّبى ... سراي مجدّا بين تلك السباسب (6)
وقضيت من لثم البقيع لبانتي ... وجبت الفلا ما بين ماش وراكب
وروّيت من ماء زمزم (7) غلّتي ... فلله ما أشهاه يوما لشارب!
حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي ... أرجّي ومن يرجوه ليس بخائب
محمد المختار والحاشر الذي ... بأحمد حاز الحمد (8) من كل جانب
رؤوف رحيم خصّه (9) الله باسمه ... وأعظم لاج (10) في الثّناء وعاقب
رسول كريم رفّع الله قدره ... وأعلى له قدرا رفيع الجوانب
وشرّفه أصلا وفرعا ومحتدا ... يزاحم آفاق السّهى بالمناكب (11)
سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا ... وخير الورى الهادي الكريم المناسب
هو المصطفى المختار من آل هاشم ... وذو الحسب العدل (12) الرفيع المناصب
هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي ... ينال به مرغوبه كلّ راغب
إمام النّبيّين الكرام، وإنه ... لكالبدر فيهم بين تلك المواكب
بشير (13) نذير مفضل متطوّل ... سراج منير بذّ نور الكواكب
__________
(1) في الأصل: «من» والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «فكم».
(3) كلمة «حلّ» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(4) في الأصل: «مجدّد» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «فأعلمت».
(6) السباسب: جمع سبسب وهو الأرض الواسعة التي لا ماء فيها.
(7) في النفح: «بزمزم».
(8) في النفح: «المجد».
(9) في النفح: «خصّنا».
(10) في النفح: «وأعظم بماح». والماحي والعاقب: من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك «الحاشر» في البيت السابق.
(11) في النفح: «السما بالكواكب».
(12) في النفح: «العدّ».
(13) في النفح: «شريف».(3/432)
شريف منيف باهر الفضل كامل ... نفيس المعالي والحلى والمناقب
عظيم المزايا ما له من تماثل (1) ... كريم السّجايا ما له من مناسب
ملاذ منيع ملجأ عاصم لمن ... يلوذ به من بين آت وذاهب
حليم (2) جميل الخلق والخلق ما له ... نظير، ووصف الله حجّة غالب
وناهيك من فرع نمته أصوله ... إلى خير مجد من لؤيّ بن غالب
أولي الحسب العدّ الرفيع جنابه ... بدور الدّياجي أو بدور (3) الركائب
له معجزات ما لها من معارض ... وآيات صدق ما لها من مغالب
تحدّى (4) بهنّ الخلق شرقا ومغربا ... وما ذاك عمّن حاد عنها بغائب (5)
فدونكها كالأنجم الزّهر (6) عدّة ... ونور سنا لا يختفي (7) للمراقب
فإحصارها (8) مهما تتبّعت معوز ... وهل بعد نور الشمس نور لطالب؟
لقد شرّف الله الوجود بمرسل ... له في مقام الرّسل أعلى المراتب
وشرّف شهرا فيه مولده الذي ... جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب
فشهر ربيع في الشهور مقدّم ... فلا غرو أنّ الفخر (9) ضربة لازب (10)
فلله منه ليلة قد تلألأت ... بنور شهاب نيّر (11) الأفق ثاقب (12)
ليهن أمير المسلمين بها المنى ... وأن نال من مولاه أسنى الرّغائب
على حين أحياها بذكر حبيبه ... وذكر الكرام الطاهرين الأطايب
وألّف شملا للمحبّين فيهم ... فسار على نهج من الرشد لاحب (13)
فسوف يجازى عن كريم صنيعه ... بتخليد سلطان وحسن عواقب
وسوف يريه الله في لهم (14) دينه ... غرائب صنع فوق كلّ الغرائب
فيحمي حمى الإسلام عمّن يرومه ... بسمر العوالي أو ببيض القواضب (15)
__________
(1) في النفح: «مماثل».
(2) في النفح: «جليل».
(3) في النفح: «أو صدور الكتائب».
(4) في الأصل: «تهّدى» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «بعايب» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «الشّهب».
(7) في الأصل: «تختفي» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «وإحصاؤها».
(9) في الأصل: «للفخر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من النفح.
(10) ضربة لازب: أي لازمة لا بدّ من حصولها.
(11) في النفح: «بين».
(12) في النفح: «شاهب».
(13) اللاحب: الواسع الواضح.
(14) في النفح: «نصر».
(15) القواضب: السيوف القاطعة، واحدها قاضب.(3/433)
ويعتزّ دين الله شرقا ومغربا ... بما سوف يبقى ذكره في العجائب
إلهي، ما لي بعد رحماك مطلب ... أراه بعين الرّشد أسنى المطالب
سوى زورة القبر الشريف وإنها (1) ... لموهبة فاتت (2) جميع المواهب
عليه سلام الله ما لاح كوكب ... وما فارق (3) الأظعان حادي الرّكائب
وقال في غرض المدح والتّهنئة بعرض الجيش، وتضمّن ذلك وصف حاله في انتقاله إلى الحضرة: [البسيط]
يا قاطع البيد يطوي السّهل والجبلا ... ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا
يبكي بآفاق (4) أرض لا يؤانسه (5) ... إلّا تذكّر عهد للحبيب خلا
أو ظبية أذكرت عهد التواصل تح ... كي للّحاظ (6) التي عاهدت والمقلا
أستغفر الله في تلك اللّحاظ فقد ... أربى بها الحسن عن ضرب المها مثلا
أو هادل فوق غصن البان تحسبه ... صبا لفقد حبيب بان قد ثكلا
أو لامع البرق إذ تحكي إنارته ... كفّا خضيبا مشيرا بالذي عذلا
ماذا عسى أن تقضّي من زمانك في ... قطع المهامه ترجو أن تنال علا؟
وكم معالم أرض أو مجاهلها ... قطعتها لا تملّ الرّيث والعجلا
إن كنت تأمل عزّا لا نظير له ... وتبتغي السّؤل فيما شئت والأملا
فالعزّ مرسى بعيد لا ينال سوى ... بعزم من شدّ عزم البين وارتحلا
والدّرّ في صدف قلّت نفاسته ... ولم يبن فخره إلّا إذا انتقلا
فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن ... (7)
وانس الدّيار التي منها نأى وطني ... وعهد أنس به قلب المحبّ سلا
وعدّ عن ذكر محبوب شغفت به ... ولا تلمّ (8) به مدحا ولا غزلا
واقصد إلى الحضرة العليا وحطّ بها ... رحلا ولا تبغ عن أرجائها حولا
غرناطة لا عفا رسم بها أبدا ... ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا
__________
(1) في النفح: «وإنه».
(2) في النفح: «فاقت».
(3) في النفح: «رافق».
(4) في الأصل: «في آفاق»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «يؤنسه»، وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «اللحاظ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(7) بياض في الأصول.
(8) في الأصل: «تلم» بسكون الميم، وكذا ينكسر الوزن.(3/434)
فهي التي شرّف الله الأنام بمن ... في مقعد الملك من حمرائها نزلا
خليفة الله مولانا وموئلنا ... وخير من أمّن الأرجاء والسّبلا
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... قد قام فينا بحقّ الله إذ عدلا
من آل نصر أولى الملك الذي بهرت ... علاه كالشمس لمّا حلّت الحملا
هو الذي شرّف الله البلاد ومن ... فيها بدولته إذ فاقت الدّولا
أقام عدلا ورفقا في رعيّته ... وكان أرحم من آوى ومن كفلا
فهو المجار به من لا مجير له ... لم يخش إحن الليالي فادحا جللا
إنّ المدائح طرّا لا تفي أبدا ... ببعض ما قد تحلّا من نفيس علا
بالحزم والفهم والإقدام شيمته ... والجود ممّا على أوصافه اشتملا
إن قال أجمل في قول وأبدعه ... والفعل أجمل منه كلّما فعلا
يولي الجميل ويعطي عزّ نائله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي عن بني نصر فما أحد ... منهم بأبلغ منهم كلّما سئلا
هم الذين إذا ما استمنحوا منحوا ... أسنى العطاء (1) وأبدوا بعده الخجلا
هم الألى مهّدوا أرجاء أندلس ... إذ حكّموا في الأعادي البيض والأملا
فإن تسل عنهم يوم الرّهان فلم ... يعدل بأحدثهم في سنّه بطلا
من ذا يجاريهم في كل مكرمة ... أيشبه البحر في تمثيله الوشلا؟
مولاي، يا خير من للنّصر قد رفعت ... راياته ولواء الفخر قد حملا
لله عيني لمّا أبصرتك وقد ... أعددت بين يديك الخيل والخولا
وأنت في قبّة يسمو بها عمد ... أقام منّا لأمر (2) الدّين فاعتدلا
والجيش يعشى عيون الخلق منظره ... لما اكتسى منك نور الحقّ مكتملا
لا غرو أنّ شعاع الشمس يشمل ما ... أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا
وراية النصر والتأييد خافقة ... قد أسبل الله منها النّصر فانسدلا
والخيل قد كسيت أثواب زينتها ... فمن براقعها قد ألبست حللا
ترى الحماة عليها يوم عرضهم ... يمشون من فرط زهو مشية الخيلا
فمن رماة قسيّ العرب عدّتها ... تحكي الأهلّة مهما نورها اكتملا
__________
(1) في الأصل: «العطا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «دامر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/435)
ومن كماة شداد البأس شأنهم ... أن يعملوا البيض والخطّيّة الذّبلا
بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن ... أسهمت في نظمها أسلافك الأولا
وخلّد الله ملكا أنت ناصره ... ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا
لا زلت تزداد بي (1) نعمى مضاعفة ... لتملأ الأرض منها السّهل والجبلا
ومن ذلك قوله: [البسيط]
يا عاذلي في الهوى، أقصر عن العذل ... وعن حديثي مع المحبوب لا تسل
فكيف أصغي إلى عذل العذول وقد ... تقلّص القلب مني صائد المقل؟
تملّكته كما شاءت بنظرتها ... فتّانة الطّرف والألحاظ تنهدل
معبرة عن نفيس الدّرّ فاضحة ... بقدّها الغضّ الميّاس (2) في الميل
من نور غرّتها شمس تروق سنى ... تحتلّ منها محلّ الشمس في الحمل
يا حبّذا عهدنا والشّمل منتظم ... بجانب الغور في أيّامنا الأول
أيام أعين هذا الدهر نائمة ... عنّا وأحداثه منّا على وجل
وحبّذا أربع قد طال ما نظمت ... عقد التّواصل في عيش بها خضل
قضيت منها أماني النّفس في دعة ... من الزمان موفّى الأنس والجذل
سطا الغمام رباها كلّ منهمر ... وكم سطتها دموعي كلّ منهمل
وجادها من سماء الجود صوب حيا ... بالعارض الهطل ابن العارض الهطل
خليفة الله والماحي بسيرته ... رسم الضّلال ومحيي واضح السّبل
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... سارت أحاديث علياه سرى المثل
والباعث الجيش في سهل وفي جبل ... حتى تغصّ نواحي السّهل والجبل
من آل نصر أولي الفخر الذين لهم ... مزيّة أورثت من خاتم الرسل
مهما أردت غناء في الأمور به ... شاهدت منه جميع الخلق في رجل
لن يستظلّ بعلياه أخو أمل ... إلّا غدا تحت ظلّ منه منسدل
ولا استجار به من لا مجير له ... إلّا كفاه انتياب الحادث الجلل
ينمى إلى معشر شاد الإله لهم ... ملكا على سالف الأعصار لم يزل
بملكهم قد تحلّى الدهر فهو به ... والله واليه لا يخشى من العطل
__________
(1) في الأصل: «بها»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «الميّاس»، وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع.(3/436)
هم الألى نصروا أرجاء أندلس ... بالمشرفيّات والخطيّة الذّبل
هم الألى مهّدوا دين الهدى فسمت ... في الخلق ملّته العليا على الملل
من أمّهم صادي الآمال نال بهم ... جودا كفيلا له بالمعل والنّهل
أو أمّهم ضاحيا أضحى يجرّر من ... فضل النّوال ذيول الوشي والحلل
إنّ الفضائل أضحت لاسمه تبعا ... كالنّعت والعطف (1) والتأكيد والبدل
مولاي، خذها تروق السّامعين لها ... بما أجادته من مدح ومن غزل
لكنني باعتبار عظم ملكك لم ... أجد لعمري في مدحي ولم أطل
فإن خبرت كذاك الخلق أجمعهم ... سيّان محتفل أو غير محتفل
لا زلت فخر ملوك الأرض كلّهم ... تسمو بك الدولة العلياء (2) على الدول
ودمت للدهر تطويه وتنشره ... مبلّغا كلّما تبغي من الأمل
ومن ذلك ما نظمه لينقش في بعض المباني التي أنشأتها (3): [الطويل]
أنا مصنع قد فاق كل المصانع ... فما منزل يزهى (4) بمثل بدائعي
فرسمي، إذا حقّقته واعتبرته (5) ... لكل المعاني، جامع أيّ جامع
فقد جمع الله المحاسن كلّها ... لديّ، فيا لله إبداع صانع (6)!
كما (7) جمعت كلّ الفضائل في الذي ... بسكناي قد وافاه أيمن طالع
وزير أمير المسلمين وحسبه ... مزيّة فخر ما لها من مدافع
وذو القلم الأعلى الذي فعله لمن ... يؤمّله مثل السّيوف القواطع
ومطلع آيات البيان لمبصر ... كشمس الضّحى حلّت بأسنى المطالع
وإنسان عين الدهر قرّت لنا به ... عيون وطابت منه ذكرى المسامع
هو ابن الخطيب السّيّد المنتمي إلى ... كرام سموا ما بين كهل ويافع
لقد كنت لولا عطفة من حنانه (8) ... أعدّ زمانا في الرّسوم البلاقع
__________
(1) كلمة «والعطف» ساقطة في الأصل.
(2) في الأصل: «العليا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 272271) وفيها أن المباني أنشأها بغرناطة.
(4) في الأصل: «زهى» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(5) في الأصل: «واعترته»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) في الكتيبة: «صانعي».
(7) في الأصل: «ظلّ كما»، وكذا لا يستقيم الوزن، لذا حذفنا كلمة «ظلّ».
(8) في الكتيبة: «جنابه».(3/437)
فصيّرني مغنى كريما ومربعا (1) ... لشمل بأنس من حبيبي جامع
فها أنا ذو (2) روض يروق نسيمه (3) ... كما رقّ طبعا ما له من منازع
وقد جمعتنا نسبة الطّبع عندما ... وقعت لمرآه بأسنى المواقع
فأشبه إزهاري بطيب ثنائه ... وفضل هوائي (4) باعتدال الطبائع
فلا زلت معمورا به في مسرّة ... معدّا لأفراح وسعد مطالع
ولا زال من قد حلّني أو يحلّني ... موفّى الأماني من جميل الصّنائع
ودام لمولانا المؤيّد سعده ... فمن نوره يبدو (5) لنا كلّ ساطع
وفي التهنئة بإبلال من مرض: [البسيط]
الآن قد قامت الدّنيا على قدم ... لما استقلّ رئيس السيف والقلم
والآن قد عادت الدنيا لبهجتها ... مذ أنست برءه من طارق الألم
والآن قد عمت البشرى براحته ... فلم تزل للورى من أعظم النعم
لا سيّما عند مثلي ممن اتّضحت ... منه دلائل صدق غير متهم
فكيف لي وأيادي فضله ملكت ... رقّي بما أجزلت من وافر القسم
وصيّرتني في أهلي وفي وطني ... وبين أهل النّهى نارا على علم
وأحسبت أملي الأقصى لغايته ... إذ صرت من جاهه المأمول في حرم
ماذا (6) عسى أن أوفّي من ثنائي أو ... أنهي إلى مجده من فاضل الشّيم
ولو ملكت زمام الفضل طوع يدي ... قصّرت في ضمن منثور ومنتظم
يهنيك بشرى قد استبشرت مذ وردت ... بها لعمرك وهو البرّ في الضّيم
ومذ دعت هذه (7) البشرى بتهنئة ... فنحن أولى ومحض العهد والكرم
لا زلت للعزّة القعساء ممتطيا ... مستصحبا لعلاء غير منصرم
ودمت بدر سنى تهدي إنارته ... في حيث يعضل خطب أو يحار عم
ولا عدمت بفضل الله عافية ... تستصحب النّعم المنهلّة الديم
__________
(1) في المصدر نفسه: «ومرتعا».
(2) كلمة «ذو» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة.
(3) في الكتيبة: «جماله».
(4) في الأصل: «هواي»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(5) كلمة «يبدو» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة.
(6) في الأصل: «وماذا»، وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «هذ».(3/438)
وليس لهذا العهد للرجل انتحال لغير الشّعر والكتابة. وغير هذا للشعر فراره، فقلّ أن ينتهي الشّعر في الضّعة والاسترذال إلى ما دون هذا النّمط، فهو بعير (1)
ثان، شعرا وشكلا وبلدا، لطف الله به. وهو لهذا العهد، على ما تقدّم من النكبة، واتّصال السّخط من الدولة، تغمّدنا الله وإياه بلطفه، ولا نكص عنّا ظلّ عنايته وستره.
مولده: حسبما تقدّم من بسط حاله مما قيّده بخطّه في عام تسعة وسبعمائة.
عبد الرزّاق بن يوسف بن عبد الرزّاق الأشعري
من أهل قرية الأنجرون من إقليم غرناطة، أبو محمد.
حاله: فقيه أديب كاتب سري، موصوف بكرم نفس، وحسن خلق. لقي أشياخا وأخذ عنهم.
شعره: [السريع]
يا منعما ما زال من أمّه ... يرفل في السّابغ من أمّته (2)
ويا حساما جرّدته العلا ... فريع صرف الدهر من سكتته (3)
عبدك قد ساءت هنا حاله ... شوقا لمن خلّف من إخوته
شوقا يبثّ الجمر في قلبه ... ويخلع السّهد (4) على مقلته
فسكّن المؤلم من شوقه ... وانسين (5) المقلق من وحشته
وامنن عليه ببلوغ المنى ... في علمكم من مقتضى بغيته
وهاكها نفثة ذي خجلة ... تفهم ما يلقيه من نفثته
إذا شدا مدّاحكم ساجعا ... يحسده الطيّار في نغمته
وفاته: سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، عن سنّ عالية.
__________
(1) يريد أنه شاعر كبير وهنا يشبهه بشاعر آخر يلقب بالبعير.
(2) في الأصل: «أميّته»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «سكوته»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «للسهد» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «وانس»، وكذا لا يستقيم الوزن.(3/439)
عبد الملك بن سعيد بن خلف العنسي (1)
من أهل قلعة يحصب (2) من عمل إلبيرة.
حاله ونسبه: هو عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عينا من أعيان الأندلس، مشارا إليه في البيت والرأي، والجزالة والفضل. علقت به الآمال، ورفعت إليه الممادح، وحطّت لديه الرّحال. وكان من أولي الجلالة والنّباهة، والطّلب والكتابة الحسنة، والخطّ البارع.
واشتمل على حظوة الأمير يحيى بن غانية اللّمتوني، وكتب عنه. بلده قلعة بني سعيد، فثقفها، وجعل بها أكبر بنيه عبد الرحمن ضابطا لها وحارسا، فحصّنها أبو مروان ومهدها بالعمارة، فكانت في الفتنة مثابة وأمنا، وحرزا له ولبنيه، فانجلت الناس إليها من كل مكان. ولما قبض ابن غانية على القمط مرين وأصحابه النصارى عندما وصلوا لاستنجاز الوعد في الخروج عن جيّان، وتحصّلوا بيده بإشارة عبد الملك بن سعيد، حسبما ثبت في اسم الأمير يحيى، ثقّفهم بالقلعة بيد ثقته المذكور وأمينه أبي مروان، فتحصلوا في معقل حريز، عند أمير وافر العقل، سديد الرأي. ومات ابن غانية بغرناطة لأيام قلائل، واختلف قومه، فنظر أبو مروان لنفسه، وعاهد القمط مرين ومن معه من الزعماء على عهود، أخذها عليهم وعلى سلطانهم، أن يكون تحت أمن وحفظ طول مدّته، فأجريت القلعة في الأمن والحماية، وكفّ أيدي التّعدّي مجرى ما لملك النّصري (3) من البلاد، فشمل أهلها الأمن، واتسعت فيها العمارة، وتنكبتها النّكبات، وتحاشتها الغارات. ولم يزل أبو مروان بها إلى أن دخل في أمر الموحدين. ووصل هو وابنه إلى السيد أبي سعيد بغرناطة، وحضر معه غزوة ألمريّة، ثم دخل بجملته، فكمل له الأمن، وأقرّ على القلعة، وأمر بسكنى غرناطة بولده. ثم وصل ثانية إلى مراكش صحبة السيد أبي سعيد، ولقي من البرّ ولطف المكانة عادته، واستكتب ابنه أحمد بن أبي مروان الخليفة في هذه الوجهة، وانتظم في جملة الكتّاب والأصحاب.
__________
(1) ترجمة عبد الملك بن سعيد في المغرب (ج 2ص 161) ورايات المبرزين (ص 169) ونفح الطيب (ج 3ص 91، 97) و (ج 4ص 161) و (ج 5ص 79).
(2) قلعة يحصب: بالإسبانية، أي القلعة الملكية، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب أو القلعة السعدية، أي قلعة بني سعيد. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 62).
(3) النصري هنا النصراني، والمراد: أن تنعم قلعة بني سعيد بالأمن كما تنعم بلاد النصارى.(3/440)
محنته: وعاد أبو مروان وبنوه إلى غرناطة صحبة واليها السّيد أبي سعيد، فبقي في جملة العسكر عند دخول ابن مردنيش وصهره غرناطة، وقد اضطربت الفتنة، وفسد ما بين السيد وبين أبي جعفر بن أبي مروان منهم، بما تقدّم في اسمه من حديث حفصة (1). ولما ظهرت دلائل التغيير، وخافوا على أنفسهم، أداروا الرأي في الانحياز إلى خدمة ابن مردنيش، ونهاهم والدهم أبو مروان، وأشار عليهم بمصابرة الأمر، فلحق عبد الرحمن بالقلعة، وفرّ أحمد لما انكشف الأمر، وعثر عليه بجهة مالقة، فقتل، وانجرّت بسبب ذلك النكبة على عبد الملك وابنه محمد، فبقيا بغرناطة، ومن يشار إليه من أهل بيتهما، واستصفيت أموالهما، واستخلصت (2)
ضياعهما، إلى أن ورد كتاب الخليفة أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي بإطلاقهم وردّ أموالهم، بما اقتضته السياسة من استمالة من نزع منهم عن الطاعة، وأمر عبد الملك باستيلاف نافرهم. ولما هلك ابن مردنيش، وردّ من اتصل به صحبة المستأمنين من أولاد الأمير الهالك، فقدموا على رحب وسعة، وثاب جاه أبي مروان، واتصل عزّه، واتسعت حظوته، إلى أن هلك بعد أن ولي بمراكش النّظر في العدّة والأسلحة، والقيام على دار الصّنعة.
وفاته: بغرناطة سنة ستين وخمسمائة.
عبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن عبد العزيز بن يست (3)
من أهل غرناطة، يكنى أبا سلطان.
حاله: فاضل (4)، حييّ، حسن الصورة، بادي الحشمة، فاضل البيت سريّه.
كتب في ديوان الأعمال (5)، وترقّى إلى الكتب (6) مع الجملة بالدار السلطانية، وسفر في بعض الأغراض الغربية، ولازم الشيخ أبا بكر (7) بن عتيق بن مقدّم، من شيوخ (8)
الصّوفية بالحضرة، فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده الأدبية (9).
__________
(1) تقدم ذلك في ترجمة حفصة في الجزء الأول من الإحاطة.
(2) أي صارت في المستخلص، أو ضمن أملاك الدولة.
(3) ترجمة ابن يست في الكتيبة الكامنة (ص 293) وفيه: «بن برشيت»، وفي نفح الطيب (ج 8ص 247، 249) وفيه: «بن يشت».
(4) النص في نفح الطيب (ج 8ص 250249).
(5) في النفح: «الأعمال فأتقن، وترقّى».
(6) في النفح: «إلى الكتابة السلطانية».
(7) في النفح: «أبا بكر عتيق».
(8) في النفح: «مشيخة».
(9) كلمة «الأدبية» غير واردة في النفح.(3/441)
شعره: وشعره لا بأس به، ومن أمثله قوله ما أنشد له في ليلة الميلاد الأعظم (1): [الكامل]
القلب يعشق والمدامع تنطق
برح الخفاء فكلّ عضو منطق (2)
[قلت: قد ذكرها ابن الخطيب في جملة ما أنشد في الميلاد الأعظم في السفر الخامس، فلا فائدة في تكرارها هنا] (3).
ومما خاطبني به (4): [البسيط]
أطلت عتب زمان فلّ من أمل (5)
وسمته (6) الذّمّ في حلّ ومرتحل
عاتبته ليلين للعتب جانبه
فما تراجع عن مطل ولا بخل (7)
فعدت أمنحه العتبى (8) ليشفق بي (9)
فقال لي: إنّ سمعي عنك في شغل
فالعتب عندي والعتبى (10) فلست أرى
أصغي لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنّفس: كفّي عن معاتبة
لا تنقضي وجواب صيغ من وجل (11)
من يعتلق بالدّنا (12) بابن الخطيب فقد
سما عن الذّلّ واستولى (13) على الجذل
__________
(1) البيت مطلع قصيدة طويلة من 58بيتا وردت في نفح الطيب (ج 8ص 252250). وورد منها 20بيتا في الكتيبة الكامنة (ص 295294).
(2) في الكتيبة الكامنة: «ينطق».
(3) ما بين قوسين هو ليس لابن الخطيب، ويبدو أنه تعليق من ناسخ المخطوطة.
(4) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 294293) ونفح الطيب (ج 8ص 249247).
(5) في الكتيبة: «ملّ من أملي». وفي النفح: «من أملي».
(6) في الكتيبة: «وشمته».
(7) في الكتيبة: «من مطل ومن نجل».
(8) العتبى: الرضى. لسان العرب (عتب).
(9) في النفح: «لي».
(10) في المصدرين: «كالعتبى».
(11) في الكتيبة: «من جدل».
(12) في المصدرين: «في الدّنا».
(13) في الأصل: «واستوى»، والتصويب من المصدرين.(3/442)
فقلت (1): من لي بتقريبي لخدمته
فقد أجاب قريبا من جوابك لي
قد اشتغلت عن الدّنيا بآخرتي
وكان ما كان في (2) أيّامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح
فكيف يختلط المرعيّ بالهمل؟
ولست أرجع للدّنيا وزخرفها
من (3) بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن
نيل الحظوظ وإعداد (4) إلى أجل
فقال (5): ذلك قول صحّ مجمله (6)
لكنّ من شأنه التّفصيل للجمل
ما أنت طالب (7) أمر تستعين به
على المظالم في حال (8) ومقتبل
ولا تحلّ حراما أو تحرّم ما
أحلّ ربّك في قول ولا عمل
ولا تبع (9) آجل الدّنيا بعاجلها
كما الولاة تبيع اليمّ بالوشل (10)
وأين عنك الرّشا إن كنت (11) تطلبها
هذا لعمري أمر غير منفعل
__________
(1) في النفح: «قالت فمن لي».
(2) في الكتيبة: «من أيامك». وفي النفح: «من أيامي».
(3) كلمة «من» غير واردة في الأصل، وبذلك ينكسر الوزن، وقد أضفناها من المصدرين.
(4) في النفح: «وإغذاذي إلى أجلي».
(5) في المصدر نفسه: «فقلت».
(6) في الكتيبة: «محمله» بالحاء المهملة.
(7) في النفح: «جالب».
(8) في الكتيبة: «جاه».
(9) في الأصل: «ولا تبغ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(10) الوشل: القليل من الماء. لسان العرب (وشل).
(11) في النفح: «ظلت».(3/443)
هل أنت تطلب إلّا أن تعود إلى
كتب المقام الرّفيع القدر في الدول؟
فما لأوحد أهل الكون (1) قاطبة
وأسمح الخلق (2) من حاف ومنتعل
لم يلتفت نحو ما تبغيه من وطر
ولم يسدّ (3) الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرة منه عليك فما
يصبو لديك الّذي (4) أمّلت من أمل
فدونك السّيّد الأعلى فمطلبكم (5)
قد نيط منه بفضل غير منفضل (6)
فقد خبرت بني الدنيا بأجمعهم
من عالم وحكيم عارف وولي (7)
فما رأيت له في الناس من شبه
قلّ النّظير له عندي فلا تسل
فقد (8) قصدتك يا أسمى الورى نسبا (9)
وليس لي عن حمى (10) علياك من حول (11)
فما سواك لما أمّلت من أمل
وليس لي عنك من زيغ ولا ميل (12)
__________
(1) في الكتيبة: «الأرض».
(2) في الكتيبة: «الناس».
(3) في الأصل: «يشدّ»، والتصويب من المصدرين.
(4) في الأصل: «للذي»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(5) في الكتيبة: «فطالبه قلّ النظير له عندي فلا تسل».
(6) في النفح: «منفصل» بالصاد المهملة.
(7) في الأصل: «دول» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «وقد».
(9) في النفح: «همما».
(10) كلمة «حمى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح ليستقيم المعنى والوزن معا.
(11) في الكتيبة: «لي من علاك اليوم من وجل». والحول: التحول والانتقال. لسان العرب (حول).
(12) في الكتيبة: «وليس عندك من زيغ ولا ملل».(3/444)
فانظر لحالي فقد رقّ الحسود لها
واحسم زمانة (1) ما قد ساء من علل
قدّم (2) لنا ولدين الله ترفعه
ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لا زلت معتليا عن كلّ حادثة
كما علت ملّة الإسلام في الملل
عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الله ابن عبد الرحمن الغساني (3)
وادي آشي الأصل، يكنى أبا محمد.
حاله: كان (4) من جلّة الأدباء، وفحول الشّعراء، وبرعة الكتّاب. كتب عن الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسّوفي الميورقي (5)، الثائر على منصور (6) بني عبد المؤمن، ثم على من بعده من ذرّيته إلى أيام الرّشيد (7) منهم، وانقطع (8) إليه وصحبه في حركاته، وكان آية في بعد الهمّة، والذهاب بنفسه،
__________
(1) الزمانة: المرض الدائم. لسان العرب (زمن).
(2) في الكتيبة: «ودم لها». وفي النفح: «ودم لنا».
(3) ترجمة عبد البر الغساني في التكملة (ج 3ص 143) وفيه أنه توفي سنة 610هـ أو نحوها، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 168) وفيه أنه توفي سنة 611هـ. ورايات المبرزين (ص 164) والمغرب (ج 2ص 142) ونفح الطيب (ج 3ص 354) و (ج 5ص 47، 106).
(4) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 356).
(5) أبو زكريا يحيى بن إسحاق المسوفي هو ابن غانية، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي، قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس فقتلوه سنة 543هـ.
(6) هو أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، حكم المغرب والأندلس من سنة 580هـ إلى سنة 595هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 170) والحلل الموشية (ص 121).
(7) هو أبو محمد عبد الواحد بن إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، حكم المغرب والأندلس من سنة 630هـ إلى سنة 640هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 299) والحلل الموشية (ص 125).
(8) في النفح: «وكان منقطعا إليه، وممن صحبه».(3/445)
والعناء (1)، ومواقف الحرب، فإنه دهم في المثل، أشبه امرءا يعض برّه، فقد كان أليق الناس بصحبة الميورقي، وأنسبهم إلى خدمته.
مشيخته: روى عن أبي زيد بن السّهيلي (2).
بعض أخباره في البأو والصّرامة: حدّثنا شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب عمن حدّثه من أشياخه، قال (3): وجّهه الميورقي في عشيّة يوم من أيام حروبه إلى المأزق، وقد طال العراك، وكاد يكلّ الناس عن الحرب، إلى أن يباكروها من الغد، فنفذ لما أمر به. ولما بلغ الصّدر اشتدّ على الناس، وذعر (4) أرباب الحفيظة، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة، فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة، ولم يعد أبو محمد إلّا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال له: الذي عملت هو شأني، وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم، فانظر غيري.
وحدّثني (5) كذلك أنّ ولدا له صغيرا تشاجر مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا، فنال منه ولد الأمير، وقال: وما قدر أبيك؟ ولمّا بلغ ذلك أباه خرج مغضبا لحينه، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده، فقال: حفظك الله! لست أشكّ في أنّي خديم أبيك، ولكني أحبّ أن أعرّفك بمقداري (6) ومقداره، اعلم إنّ أباك وجّهني رسولا إلى الخليفة (7) ببغداد بكتاب عن نفسه، فلمّا بلغت بغداد نزلت (8) في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر، وأجري عليّ سبعة دراهم في اليوم، وطولع بكتابي، وقيل: من الميورقي الذي وجّهه؟ فقال بعض الحاضرين: هو رجل مغربي ثائر على أستاذه. وأقمت شهرا، ثم استدعيت إلى الانصراف، ولمّا دخلت دار الخلافة وتكلّمت مع من بها من الفضلاء، أرباب (9) المعارف والآداب، اعتذروا لي، وقالوا للخليفة: هذا رجل جهل مقداره، فأعدت إلى محلّ اكتري (10) لي بسبعين درهما، وأجري عليّ مثلها في اليوم، ثم استدعيت، فودعت الخليفة، واقتضيت ما تيسّر من جوابه (11)، وصدر لي شيء له حظّ (12) من صلته. وانصرفت إلى أبيك.
__________
(1) في النفح: «والغناء في مواقف».
(2) في التكملة (ج 3ص 143) والمقتضب (ص 168) «روى عن أبي القاسم السهيلي».
(3) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 356).
(4) في النفح: «وذمّر».
(5) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 357).
(6) في النفح: «بنفسي ومقداري ومقدار أبيك».
(7) في النفح: «إلى دار الخلافة».
(8) في النفح: «أنزلت».
(9) في النفح: «وأرباب».
(10) في الأصل: «اكتريت» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «حوائجه».
(12) في الأصل: «خطر» والتصويب من النفح.(3/446)
والمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار، والثانية كانت على قدري والمنّة لله. وأخبار ابن فرسان كثيرة.
شعره: وقد تعمّم الأمير (1) بعمامة بيضاء، وليس غفارة حمراء على جبّة خضراء، فقال (2): [الطويل]
فديتك بالنّفس التي قد ملكتها ... بما أنت موليها من الكرم الغضّ
تودّدت (3) للحسن الحقيقيّ بهجة ... فصار بها الكلّيّ في ذاك كالبعض (4)
ولمّا تلالا (5) نور غرّتك التي ... تقسّم في طول البلاد وفي العرض
تلقّفتها (6) خضراء أحسن ناظر ... نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض
وأسدلت حمر (7) الملابس فوقها ... بمفرق تاج المجد والشّرف المحض
وأصبحت (8) بدرا طالعا في غمامة ... على شفق دان إلى خضرة الأرض
ومن شعره، ولا خفاء ببراعته (9): [الطويل]
ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما ... وسقيا وإن لم تشك يا ساجعا (10) ضما
أعدهنّ ألحانا على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر (11) غير مقصوص الجناح مرفّها ... مسوّغ أشتات الحبوب منعّما
وقال أيضا رحمه الله (12): [الطويل]
كفى حزنا أنّ الرماح (13) صقيلة ... وأنّ الشّبا رهن الصّدى بدمائه
وأنّ بياذيق (14) الجوانب فرزنت ... ولم يعد رخّ الدّست بيت بنائه
__________
(1) الأمير هو ابن غانية، مخدوم عبد البر بن فرسان.
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 355).
(3) في النفح: «تردّيت».
(4) في الأصل: «البعض»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «تلألأ»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «تلفّعتها».
(7) في النفح: «حمراء».
(8) في النفح: «فأصبحت».
(9) الأبيات في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 168) ونفح الطيب (ج 3ص 356).
(10) في الأصل: «يأسا جعاضما» وبه لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدرين.
(11) في المقتضب: «فطر».
(12) البيتان في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 169) ونفح الطيب (ج 3ص 356).
(13) في المقتضب: «الزجاج».
(14) في المقتضب: «بياديق» بالدال المهملة.(3/447)
عبد المنعم (1) بن عمر بن عبد الله بن حسّان الغسّاني
جلياني (2)، من أهل وادي آش، وتردّد إلى غرناطة، يكنى أبا محمد، وأبا الفضل.
حاله: تجوّل ببلاد المشرق سائحا، وحجّ ونزل القاهرة، وكان أديبا، بارعا حكيما، ناظما ناثرا.
تواليفه: وله مصنّفات منها «جامع أنماط السائل، في العروض والخطب والرسائل» (3)، أكثر كلامه فيه نظما ونثرا.
مشيخته ومن روى عنه: روى عنه أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الرحيم الخطيب بضريح الخليل، وأبو عبد الله بن يحيى المرسي.
شعره: قال من شعره (4): [الطويل]
ألا إنّما الدّنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من (5) لاقيت (6) يغرق إلفه ... وقلّ فتى ينجي (7) من الغمرات
وفاته: سنة ثلاث وستمائة (8).
__________
(1) في الأصل: «عبد العظيم» والتصويب من المصادر التي ترجمت له وهي: التكملة (ج 3ص 129) وفوات الوفيات (ج 2ص 407) والذيل والتكملة (ج 5ص 57) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 143) ومعجم البلدان (ج 2ص 157، مادة جليانة) وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 630) ونفح الطيب (ج 2ص 313) و (ج 3ص 357، 378) و (ج 6ص 100) والغصون اليانعة (ص 104).
(2) نسبة إلى جليانة، وهي حصن بالأندلس من أعمال وادي آش، يقال لها جليانة التّفاح لجلالة تفاحها وطيبه وريحه، إذا أكل وجد فيه طعم السكر والمسك. معجم الأدباء (ج 2ص 157).
(3) في التكملة (ج 3ص 129) وفي الذيل والتكملة (ج 5ص 57): «جامع أنماط الوسائل، في القريض والخطب والرسائل».
(4) البيتان قالهما في سنة 568هـ، وهما في التكملة (ج 3ص 129) والذيل والتكملة (ج 5ص 57) ونفح الطيب (ج 3ص 357) و (ج 6ص 100).
(5) في الذيل والتكملة: «ما».
(6) في التكملة: «صاحبت».
(7) في الأصل: «ينجو» والتصويب من المصادر.
(8) في التكملة (ج 3ص 129): توفي سنة 603أو نحوها. وفي فوات الوفيات (ج 2ص 407): توفي سنة 602هـ. وفي نفح الطيب (ج 3ص 357) مات سنة 603هـ، وفي المصدر نفسه (ج 3ص 378): ولو بجليانة سابع المحرم سنة 531هـ، ومات بدمشق سنة 602هـ.(3/448)
فهرس المحتويات
محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي 3
محمد المكودي 8
المقرئون والعلماء الأصليون منهم 10
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزيّ الكلبي 10
محمد بن أحمد بن فتّوح بن شقرال اللخمي 13
محمد بن جابر بن يحيى بن محمد بن ذي النّون التّغلبي 15
محمد بن محمد بن محمد بن بيبش العبدري 16
محمد بن محمد النّمري الضّرير 19
محمد بن عبد الولي الرّعيني 21
محمد بن علي بن أحمد الخولاني 22
محمد بن علي بن محمد البلنسي 25
محمد بن سعد بن محمد بن لب بن حسن بن حسن بن عبد الرحمن بن بقيّ 25
محمد بن سعيد بن علي بن يوسف الأنصاري 27
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان النّفزي 28
ومن الطارئين عليها في هذا الحرف 43
محمد بن أحمد بن داود بن موسى بن مالك اللّخمي اليكّي 43
ومن السفر الثامن من ترجمة المقرئين والعلماء 45
محمد بن أحمد بن محمد بن علي الغسّاني 45
محمد بن أحمد بن علي بن قاسم المذحجي 46
محمد بن أحمد بن محمد بن علي الغسّاني 47
محمد بن أحمد الرّقوطي المرسي 48
محمد بن إبراهيم بن المفرّج الأوسي 48
محمد بن إبراهيم بن محمد الأوسي 49(3/449)
محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد ابن مأمون الأنصاري 49
محمد بن حكم بن محمد بن أحمد بن باق الجذامي 51
محمد بن حسن بن محمد بن عبد الله بن خلف بن يوسف بن خلف الأنصاري 52
محمد بن محمد بن أحمد بن علي الأنصاري 53
محمد بن محمد بن إدريس بن مالك بن عبد الواحد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله القضاعي 53
محمد بن محمد بن محارب الصّريحي 55
محمد بن محمد بن لب الكناني 56
محمد بن محمد البدوي 57
محمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد بن عبد الله العبدري 60
محمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النّميري 62
محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج ابن الجدّ الفهري 63
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن الفخّار الجذامي 64
محمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغستاني 67
محمد بن علي بن محمد العبدري 68
ومن الغرباء في هذا الباب 75
محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي 75
محمد بن عبد الرحمن بن سعد التّميمي التّسلي الكرسوطي 98
محمد بن عبد المنعم الصّنهاجي الحميري 101
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري 102
محمد بن علي بن هاني اللّخمي السّبتي 108
محمد بن يحيى العبدري 118
المحدّثون والفقهاء والطلبة النجباء وأولا الأصليون 119
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزّبير 119
محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغسّاني 121
محمد بن أحمد بن محمد الدّوسي 122
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن يوسف بن روبيل الأنصاري 122
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي زمنين المرّي 124
محمد بن جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم بن حسّان القيسي 124
محمد بن خلف بن موسى الأنصاري الأوسي 126
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الخولاني 127
محمد بن محمد بن علي بن سودة المرّي 129
محمد بن عبد العزيز بن سالم بن خلف القيسي 131
محمد بن عبد الله بن أبي زمنين 132(3/450)
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرّي 132
محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قاسم بن مشرّف بن قاسم بن محمد بن هاني اللخمي القائصي 133
محمد بن عبد الرحمن بن عبد السلام بن أحمد بن يوسف بن أحمد الغساني 134
محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرّج بن أحمد بن عبد الواحد بن حريث بن جعفر بن سعيد بن محمد بن حقل الغافقي 135
محمد بن علي بن عبد الله اللخمي 136
محمد بن علي بن فرج القربلياني 137
محمد بن علي بن يوسف بن محمد السّكوني 138
محمد بن سودة بن إبراهيم بن سودة المرّي 139
محمد بن يزيد بن رفاعة الأموي البيري 139
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي بكر بن خميس الأنصاري 140
محمد بن أحمد بن عبد الله العطار 141
محمد بن أحمد بن المراكشي 142
محمد بن بكرون بن حزب الله 143
محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي 144
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري الساحلي 145
محمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي 146
محمد بن محمد بن ميمون الخزرجي 147
محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري 148
ومن الغرباء في هذا الاسم 151
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التّلمساني الأنصاري 151
محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن قطرال الأنصاري 153
العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون 154
محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل 154
محمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي 157
محمد بن محمد بن حسّان الغافقي 157
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم النّميري، المدعو بابن الحاج 158
محمد بن عبد الرحمن الكاتب 159
محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر 161(3/451)
محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن عمار بن ياسر العنسي 163
ومن الطارئين في هذا الاسم من العمال 164
محمد بن أحمد بن المتأهّل العبدري 164
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد البلوي 166
محمد بن محمد بن شعبة الغسّاني 170
محمد بن محمد بن العراقي 171
محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن فرتون الأنصاري 172
محمد بن عبد الله بن محمد بن مقاتل 173
محمد بن علي بن عبد ربه التجيبي 173
الزّهاد والصّلحاء والصّوفية والفقراء وأولا الأصليون 174
محمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد الأنصاري 174
محمد بن أحمد الأنصاري 175
محمد بن حسنون الحميري 175
محمد بن محمد البكري 175
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري 176
ومن الطّارئين عليها في هذا الاسم 177
محمد بن أحمد بن جعفر بن عبد الحق بن محمد بن جعفر بن محمد بن أحمد بن مروان بن الحسن بن نصر بن نزار بن عمرو بن زيد بن عامر بن نصر بن حقاف السلمي 177
محمد بن أحمد بن حسين بن يحيى بن الحسين بن محمد بن أحمد بن صفوان القيسي 179
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري 181
محمد بن أحمد بن قاسم الأمي 182
محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي بن خالد بن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطّنجالي 186
محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي بن الحاج 187
محمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عبّاد النّفزي 190
محمد بن يوسف بن خلصون 194
ومن الغرباء في هذا الاسم 202
محمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل بن يوسف العراقي 202
محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المرّاكشي 203
محمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي بن الحلفاوي 205
محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن يوسف اللّواتي 206(3/452)
سائر الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء وما منهم إلّا طارىء علينا أو غريب 207
مزدلي بن تيولتكان بن حمنى بن محمد بن ترقوت بن وربابطن بن منصور بن نصاله بن أمية بن واباتن الصّنهاجي اللّتموني 207
موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاني 207
منديل بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيّان 208
ومن الطارئين 210
المطرّف بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية 210
منذر بن يحيى التّجيبي 211
موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان 216
مبارك ومظفّر الأميران موليا المنصور بن أبي عامر 220
ومن ترجمة الأعيان والوزراء بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها 228
منصور بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو 228
مقاتل بن عطية البرزالي 229
ومن السّفر التاسع من ترجمة القضاة 230
مومّل بن رجاء بن عكرمة بن رجاء العقيلي 230
ومن الطارئين والغرباء 231
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي 231
ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليّون 231
مالك بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج بن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج 231
ومن طارئي المقرئين والعلماء 248
منصور بن علي بن عبد الله الزواوي 248
مسلم بن سعيد التّنملّي 251
ومن العمال الأثراء 252
مؤمّل، مولى باديس بن حبّوس 252
حرف النون الملوك والأمراء نصر بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد بن محمد بن خميس بن عقيل الخزرجي الأنصاري 254
ومن الأعيان والوزراء 261
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري 261
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح بن نصر بن إبراهيم بن نصر الفهري 261
ومن الكتّاب والشعراء 262
نزهون بنت القليعي 262(3/453)
حرف الصاد من الأعيان والوزراء الصّميل بن حاتم بن عمر بن جذع بن شمر بن ذي الجوشن الضّبابي الكلبي 264
ومن الكتّاب والشعراء 266
صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التّجيبي 266
صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف النّفزي 275
حرف العين من ترجمة الملوك والأمراء عبد الله بن إبراهيم بن علي بن محمد التجيبي الرئيس أبو محمد بن إشقيلولة 287
عبد الله بن بلقّين بن باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي 289
عبد الله بن علي بن محمد التّجيبي، الرئيس أبو محمد بن إشقيلولة 291
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد العزفي 292
عبد الله بن الجبير بن عثمان بن عيسى بن الجبير اليحصبي 293
عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السّلماني 294
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزيّ 298
ومن المقرئين والعلماء 305
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مجاهد العبدري الكوّاب 305
عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون الكناني 306
عبد الله بن سهل الغرناطي 308
عبد الله بن أيوب الأنصاري 309
عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري 309
عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن أحمد بن إسماعيل بن سماك العاملي 313
ومن ترجمة القضاة 314
عبد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أيوب بن الحسن بن منخل بن زيد الغافقي 314
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المرّي 315
عبد الله بن يحيى بن محمد بن أحمد بن زكريا بن عيسى بن محمد بن يحيى بن زكريا الأنصاري 315
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأزدي 316
عبد الله بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي الأزدي 317
عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري 318
عبد الله بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين الثقفي العاصمي 319
عبد الله بن موسى بن عبد الرحمن بن حمّاد الصّنهاجي 320
ومن ترجمة الكتّاب والشعراء بين أصلي وطارىء 320
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي 320
عبد الله بن إبراهيم بن وزمّر الحجاري الصّنهاجي 328(3/454)
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب السّلماني 331
عبد الله بن محمد بن سارة البكري 333
عبد الله بن محمد الشرّاط 335
عبد الله بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان النّجاري 337
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر 347
ومن الصوفية والفقراء 349
عبد الله بن عبد البر بن سليمان بن محمد بن محمد بن أشعث الرّعيني 349
عبد الله بن فارس بن زيان 351
عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي 352
ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء 353
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله [بن محمد] بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معوية، أمير المؤمنين، الناصر لدين الله 353
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية 355
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس 356
عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن سعيد بن محمد اللخمي 359
عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجي 360
ومن ترجمة المقرئين والعلماء والطلبة النجباء من ترجمة الطارئين منهم 363
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسن بن سعدون بن رضوان بن فتّوح الخثعمي 363
عبد الرحمن بن هانىء اللخمي 366
عبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي 367
عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الأنصاري 368
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي 377
عبد الرحمن بن الحاج بن القميي الإلبيري 395
عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد بن تفليت الفازازي 395
ومن السفر العاشر العمال الأثرا في هذا الحرف 399
عبد الرحمن بن أسباط 399
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مالك المعافري 400
عبد الرحمن بن عبد الملك الينشتي 403
وفي سائر الأسماء التي بمعنى عبد الله وعبد الرحمن، وأولاد الأمراء 405(3/455)
عبد الأعلى بن موسى بن نصير مولى لخم 405
عبد الحليم بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو 406
عبد المؤمن بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو 408
ومن الأفراد أيضا في هذا الحرف وهم طارؤون 408
عبد الحق بن علي بن عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق 408
عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحياني 409
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا 410
عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق بن محيو 410
عبد الملك بن علي بن هذيل الفزاري وعبد الله أخوه 411
عبد القهار بن مفرج بن عبد القهار بن هذيل الفزاري 411
القضاة الفضلاء وأولا الأصليون 412
عبد الحق بن غالب بن عطية بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن عطية بن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكتوم المحاربي 412
عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم بن فرج الخزرجي 415
ومن غير الأصليين 419
عبد الحكيم بن الحسين بن عبد الملك بن يحيى بن باسيو بن تادررت التّنمالي اليدرازتيني ثم الواغديني 419
ومن المقرئين والعلماء 420
عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جلهمة بن العباس بن مرداس السلمي 420
ومن الطارئين عليها 424
عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الأموي المالقي، الشهير بالباهلي 424
ومن الكتّاب والشعراء في هذا الحرف 425
عبد الحق بن محمد بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي 425
عبد الرزّاق بن يوسف بن عبد الرزّاق الأشعري 439
عبد الملك بن سعيد بن خلف العنسي 440
عبد العزيز بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يست 441
عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الغساني 445
عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسّان الغسّاني 448(3/456)
المجلد الرابع
تتمة قسم الثانى
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
ومن الغرباء
عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد ابن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي (1)
يكنى أبا محمد، شيخنا الرئيس، صاحب القلم الأعلى بالمغرب.
حاله: من «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، خاتمة الصّدور، ذاتا وسلفا وتربية وجلالة. له القدح المعلّى في علم العربية، والمشاركة الحسنة في الأصلين، والإمامة في الحديث، والتّبريز في الأدب والتاريخ واللغة، والعروض والمماسة في غير ذلك.
نشأ فارس الحلبة، وعروس الوليمة، وصدر المجلس، وبيت القصيد، إلى طيب الأبوّة، وقدم الأصالة، وفضل الطّعمة، ووفور الجاه، والإغراق في النّعمة، كثير الاجتهاد والملازمة، والتفنّن والمطالعة، مقصور الأوقات على الإفادة والاستفادة، إلى أن دعته الدولة المرينيّة بالمغرب إلى كتابة الإنشاء، فاشتملت عليه اشتمالا، لم يفضل عنه من أوقاته ما يلتمس فيه ما لديه. واستمرت حاله، موصوفا بالنّزاهة والصّدق، رفيع الرّتبة، مشيد الحظوة، مشاركا للضيف فاضلا، مختصر الطّعمة والحلية، يغلب عليه ضجر يكاد يخلّ به، متصل الاجتهاد والتّقييد، لا يفتر له قلم، إلى أن مضى بسبيله.
__________
(1) ترجمة عبد المهيمن بن محمد الحضرمي في جذوة الاقتباس (ص 279) والتعريف بابن خلدون (ص 20، 38) وكتاب العبر (م 7ص 516) ونفح الطيب (ج 7ص 277) و (ج 8ص 9) وأزهار الرياض (ج 5ص 55) والوفيات (ص 352) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 214).(4/3)
وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» من تأليفنا بما نصّه (1): تاج المفرق، وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نورا أضاءت الآفاق (2)، وأثرى (3) منه بذخيرة حملت أحاديثها الرّفاق. ما شئت من مجد سامي المصاعد والمراقب، عزيز عن لحاق المجد الثاقب، وسلف زيّنت سماؤه بنجوم المناقب. نشأ بسبتة بين علم يفيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيّأ وارفها، وأبوه رحمه الله قطب مدارها، ومقام حجّها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسّهول، وبذّ على حداثة سنّه الكهول، فلمّا تحلّى من الفوائد العلمية بما تحلّى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلّى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذّخائر، فاستقلّت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي به يسهب أو يختصر. وقد تقدّمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلّت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكها، وانتظم في عقودها الرّفيعة وسلوكها، وله في الأدب (4) الرّاية الخافقة، والعقود المتناسقة.
مشيخته: قرأ ببلده سبتة على الأستاذ الإمام أبي إسحاق الغافقي المديوني، وعلى الأستاذ المقرئ أبي القاسم محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الطيّب، والأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وعلى الأستاذ العارف أبي عبد الله محمد بن عمر بن الدّراج التلمساني، وعلى ابن خال أبيه الأمير الصالح أبي حاتم العزفي، والعدل الرّضا أبي فارس عبد الرحمن بن إبراهيم الجزيري.
وقرأ بغرناطة على الشيخ العلّامة أبي جعفر بن الزبير، وروى عن الوزير الراوية أبي محمد عبد الله المرادي ابن المؤذن، وعلى الأستاذ أبي بكر القللوسي، وأخذ عن الشيخ الوزير أبي الوليد الحضرمي القرطبي. وبمالقة عن الإمام الولي أبي عبد الله الطّنجالي. وببلّش عن الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، وعن الخطيب أبي عبد الله بن شعيب المروي، والعلّامة أبي الحسين بن أبي الربيع، وأبي الحكم بن منظور، وابن الشّاط، وابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن ربيع، وابن البنّاء، وسميّه ابن البنّاء المالقي، وابن خميس النحوي، وأبي أمية بن سعد السّعود بن عفير الأمدي. هؤلاء كلهم لقيهم وسمع منهم، وأجازوا له ما عندهم. وممن أجاز له مشافهة أو مكاتبة من أهل المغرب، الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري التّلمساني ابن الدراج، والكاتب أبو علي الحسين بن عتيق، وتناول تواليفه، والأديب
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 109).
(2) في النفح: «له الآفاق».
(3) في النفح: «وأثر».
(4) في النفح: «الآداب».(4/4)
الشهير أبو الحكم مالك بن المرحّل، والشريف أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي الشرف الحسيني، وأبو بكر بن خليل السّكوني، وأبو العباس المطري، والجزّاري، وشرف الدين بن معطي، وابن الغمّاز، وابن عبد الرفيع القاضي، وأبو الشمل جماعة بن مهيب، وأبو عبد الله محمد بن أحمد التجاني وأبناء عمّه عمر وعلي، وابن عجلان، ومحمد بن إبراهيم القيسي السلولي، ومحمد بن حماد اللبيدي، وابن سيد الناس، وابنه أبو الفتح، وابن عبد النور، والمومناني، والخطيب ابن صالح الكتّاني، وابن عياش المالقي، والمشدالي، وابن هارون، والخلاسي، والدبّاغ، وابن سماك، وابن أبي السّداد، وابن رزين، وابن مستقور، وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو بكر بن محزز. وكتب له من أهل المشرق جماعة منهم: الأبرقيشي، وابن أبي الفتح الشيباني، وابن حمادة، وابن الطاهري، وابن الصابوني، وابن تيمية، وابن عبد المنعم المفسر، وابن شيبان، وابن عساكر، والرضي الطبري، وابن المخزومي، وابن النحاس. قلت: من أراد استيفاءهم ينظر الأصل، فقد طال على استيفاء ما ذكره الشيخ رحمه الله. وقد ذكر جماعة من النساء، ثم قال بعد تمام ذلك: ولو قصدنا الاستقصاء لضاق عن مجاله المتبع.
شعره: وشعره متخلّ عن محلّه من العلم والشهرة، وإن كان داخلا تحت طور الإجادة.
فمن ذلك قوله (1): [الطويل]
تراءى سحيرا والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر بحر (2) خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه حجول (3)
بريق بأعلى الرّقمتين كأنه ... طلائع شهب في السواد (4) تجول
فمزّق ساجي الليل منه شرارة ... وخرّق ستر الغيم منه نصول
تبسّم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول
ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنّت على تلك الغصون حمائم ... لهنّ حفيف فوقها وهديل
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 1310). وهي تدخل في مدح الشاعر الوزير ابن الحكيم الرندي.
(2) في النفح: «نهر».
(3) في الأصل: «خجول» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «في السماء».(4/5)
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعا لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونه وطلول
جاد رباه (1) كلما ذرّ شارق ... من الودق هتّان أجشّ هطول
وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص (2) همول
وعاذلة ظلّت (3) تلوم على السّرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول: إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيّلت ورحيل
ذريني أسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذّكر وهو جميل
فإمّا تريني من ممارسة الهوى ... نحيلا فحدّ المشرفيّ (4) نحيل
فوق أنابيب اليراعة صفرة (5) ... تزين، وفي قدّ القناة ذبول
ولولا السّرى لم يجتل البدر كاملا ... ولا بات منه للسّعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال (6) ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السّماك جلالة ... وليس له إلّا النجوم قبيل
من القوم، أمّا في النّديّ (7) فإنهم ... هضاب وأمّا في النّدى فسيول
حووا شرف العلياء إرثا ومكسبا ... وطابت فروع منهم وأصول
وما جونة هطّالة ذات هيدب ... مرتها شمال مرجف وقبول (8)
لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كفّ الوزير محمد ... إذا ما توالت للسّنين محول
ولا (9) روضة بالحسن طيبة الشّذا ... ينمّ عليها إذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطّر منها للنسيم ذيول
__________
(1) في الأصل: «رياه» والتصويب من النفح.
(2) العراص: جمع عرصة وهي كل بقعة بين الدّور واسعة ليس فيها بناء. مختار الصحاح (عرص).
(3) في النفح: «باتت».
(4) المشرفي: السيف، ينسب إلى مشارف اليمن. لسان العرب (شرف).
(5) في النفح: «صعدة».
(6) في النفح: «اغتراب».
(7) النديّ: مجلس القوم. مختار الصحاح (ندا).
(8) الجونة هنا: السحابة. مرتها: أسالت ماءها. الشمال: ريح الصبا. القبول: ريح الجنوب. لسان العرب (جون) و (مرى) و (شمل) و (قبل).
(9) في الأصل: «ولولا»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/6)
وفي مقل النّوار للطلّ (1) عبرة ... تردّدها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغرّ كلّما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الإله مناقبا ... تفوت يدي (2) من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل (3)
فداك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل، وهل نال العلاء بخيل؟
تخيّرك المولى وزيرا وناصحا ... فكان له ممّا أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوّضا ... إليك فلم يعدم يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيّد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أروع (4) باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقّاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنّضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينته في الحبّ وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ... إليه قلوب العالمين تميل
وأعدى قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هو جاء النّجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهنّ ذميل (5)
تسدّدني سهما لكلّ ثنيّة ... ضوامر أشباه القسيّ نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي (6) هوجل وهجول
فقيّدت أفراسي به وركائبي ... ولذّ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمّة ... عليها لأحداث الزمان ذحول (7)
ويهوى (8) العلا حظّي ويغرى (9) بضدّه ... لذاك اعترته رقّة ونحول
__________
(1) في الأصل: «للظلّ» والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «يدا» والتصويب من النفح.
(3) أخذ المعنى من قول أبي نواس في مدح الخصيب [الكامل]:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفّقا فكلاكما بحر
ديوان أبي نواس (ص 479).
(4) في النفح: «أشوس».
(5) السير الذميل: السريع. لسان العرب (ذمل).
(6) في الأصل: «برجلي» والتصويب من النفح.
(7) الذحول: جمع ذحل وهو الثأر. لسان العرب (ذحل).
(8) في النفح: «وتهوى».
(9) في النفح: «وتغري».(4/7)
وتأبى لي الأيام إلّا إدالة ... فصونك لي إنّ الزمان مديل
فكلّ خضوع في جنابك عزّة ... وكلّ اعتزاز قد عداك (1) خمول
وهي طويلة. ومن شعره (2): [السريع]
سقى ثرى سبتة بين البلاد ... وعهدها المحبوب صوب العهاد
وجاد منهل الحيا ربعها ... بوبله تلك الرّبى والوهاد
وكم لنا في طور سينائها ... من رائح للأنس في إثر غاد
وعينها البيضاء كم ليلة ... بيضاء فيها قد خلت لو تعاد
وبالمنارة التي نورها ... لكلّ من ضلّ دليل وهاد
نروح منها مثلما نغتدي ... للأنس والأفراح ذات ازدياد
في فتية مثل نجوم الدّجى ... ما منهم إلّا كريم جواد
ارتشفوا كأس الصفا بينهم ... وارتضعوا أخلاف محض الوداد
ويالأيام ببنيولش (3) ... لقد عدت عنها صروف العوادي
أدركت من لبنى بها كلّما ... لبانة وساعدتني سعاد
ونلت من لذّات دهري الذي ... قد شئته وللأماني انقياد
منازل ما إن على مبدل ... هاء مكان اللام فيها انتقاد
سلوتها مذ ضمّني بعدها ... نادي الوزير ابن الحكيم الجواد
ومن المقطوعات قوله (4): [المتقارب]
أبت همّتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوما له ذا خضوع
وما ذاك إلّا لأني اتّقيت ... بعزّ القناعة ذلّ القنوع (5)
ومن ذلك في المشط والنشفة من آلات الحمّام: [الكامل]
إني حسدت المشط والنّشف الذي ... لهما مزايا القرب دوني مخلصه
فأنامل من ذا تباشر صدغه ... ومراشف من ذا تقبّل أخمصه (6)
__________
(1) عداك: جاوزك. محيط المحيط (عدا).
(2) يظهر من فاتحة الأبيات أنه يحنّ إلى وطنه سبتة.
(3) في الأصول: «بنيولش»، وكذا ينكسر الوزن. وبنيولش: ضاحية من ضواحي سبتة.
(4) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 13).
(5) في النفح: «الخشوع».
(6) حرك المحقق كلمتي «فأنامل» و «مراشف» بضمة واحدة فوق اللام والفاء، والصواب تنوينها، برغم أنها ممنوعة من الصرف، وذلك لكي لا ينكسر الوزن.(4/8)
نثره: وقع هنا بياض مقدار وجهة في أصل الشيخ.
مولده: ولد ببلده سبتة في عام ستة وسبعين وستمائة.
وفاته: وتوفي بتونس في الثاني عشر لشوال من عام تسعة وأربعين وسبعمائة في وقيعة الطاعون العام، بعد أن أصابته نبوة من مخدومه السلطان أبي الحسن (1)، ثم استعتبه وتلطف له. وكانت جنازته مشهورة، ودفن بالزّلاج من جبانات خارج تونس، رحمه الله.
عبد المهيمن بن محمد الأشجعي البلّذوذي
نزيل مراكش.
حاله: من كتاب «المؤتمن» (2)، قال: كان شاعرا مكثرا، سهل الشعر، سريعه، كثيرا ما يستجدي به، وكان يتقلّد مذهب أبي محمد علي بن حزم، الفقيه الظاهري، ويصول بلسانه على من نافره. دخل الأندلس وجال في بلادها بعد دخوله مراكش.
وكان أصله من بلّذوذ. ورد مالقة أيام قضاء أبي جعفر بن مسعدة، وأطال بها لسانه، فحمل عليه هنالك حملا أذاه، إلى أن كان مآل أمره ما أخبرني به شيوخ مالقة، وأنسيته الآن، فتوصّل إلى مآل أمره من جهة من بقي بها الآن من الشيوخ، نقلت اسمه ونسبه من خطّه.
شعره: [مجزوء الرجز]
أما على ذي شرك ... في صيدنا من درك؟
تصيدنا لواحظ ... وما لها من حرك
والبدر إن غاب فمن ... يجلو ظلام الحلك؟
قد تاب للقلب (3) فما ... يدري إن لم تدركي (4)
عدا السقام أو عدا ... وعد الذي لم يأفك
أو لم (5) يكن حلّ دمي ... فلتبطلي (6) أو أترك
__________
(1) هو المنصور علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني حكم المغرب من سنة 731هـ إلى سنة 752هـ. اللمحة البدرية (ص 94، 105) والحلل الموشية (ص 134).
(2) عنوان هذا الكتاب هو: «الكتاب المؤتمن في أنباء أبناء الزمن» وهو لابن الحاج البلفيقي، شيخ لسان الدين ابن الخطيب.
(3) في الأصل: «القلب» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «تدرك» بدون ياء المخاطبة.
(5) في الأصل: «لن» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) في الأصل: «فلتبطى» وكذا ينكسر الوزن.(4/9)
حاربت من لا قدرة ... لديه في المعترك
يفلّ غرب سيفه ... سيف لحاظ فتّك
يا لفتى يا قبلتي ... يا حجّتي يا نسكي (1)
إن عظم الحزن فما ... أرجل حسن الفلك (2)
أو أهديت الحيّ ... فلابن عبد الملك (3)
خطيب ومران للّذي ... سلك على سلك (4)
ركن التّقى محمد ... ذو النّبل والطبع الزكي (5)
منفرد في جوده ... بماله المشترك
يا نوق، هذا بابه ... فهو أجلّ مبرك
وأنت يا حادية، ... قربت، ما أسعدك!
فبرّكي وكبّري ... وأبركي (6) وبرّك
فقد أتينا بشرا ... له صفات الملك
كفّك يهمي ملكت ... كأنّها لم تملك
قصيدتي لو لم تنل ... منك حلّى لم تسبك
أبكيت ديمة النّدى ... فزهرها ذو ضحك
لكنني يا سيدي ... من فاقتي في شرك
وشعره على هذه الوتيرة. حدّثني أبي، قال: رأيته رجلا طوالا، شديد الأدمة، حليق الرأس، دمينه، عاريه، كثير الاستجداء والتّهاتر مع المحابين من أدباء وقته، يناضل عن مذهب الظاهرية بجهده.
وفاته: من خط الشيخ أبي بكر بن شبرين: وفي عام سبعة وتسعين وستمائة توفي بفاس الأديب عبد المهيمن المكناسي، المكتنى بأبي الجيوش البلّذوذي، وكان ذا هذر وخرق، طوّافا على البلاد، ينظم شعرا ضعيفا يستمنح به الناس، وآلت حاله إلى أن سعي به لأبي فارس عزّوز الملزوزي الشاعر، شاعر السلطان أبي يعقوب وخديمه، وذكر له أنه هجاه، فألقى إلى السلطان ما أوجب سجنه، ثم ضربت عنقه صبرا، نفعه الله.
__________
(1) في الأصل: «نسك» بدون ياء.
(2) في الأصل: «فلك» وكذا ينكسر الوزن.
(3) صدر هذا البيت منكسر الوزن.
(4) هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(5) في الأصل: «الزّك» بدون ياء.
(6) في الأصل: «وابركي»، وكذا ينكسر الوزن.(4/10)
عبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد الملزوزي
من أهل العدوة الغربية، يكنى أبا فارس، ويعرف بعزّوز.
حاله: كان شاعرا مكثرا سيّال القريحة، منحطّ الطبقة، متجنّدا، عظيم الكفاية والجرأة، جسورا على الأمراء، علق بخدمة الملوك من آل عبد الحق وأبنائهم، ووقف أشعاره عليهم، وأكثر النظم في وقائعهم وحروبهم، وخلط المعرّب باللّسان الزناتي في مخاطباتهم، فعرف بهم، ونال عريضا من دنياهم، وجمّا من تقريبهم. واحتلّ بظاهر غرناطة في جملة السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب، وأمير المسلمين أبيه، واستحقّ الذكر بذلك.
شعره: من ذلك أرجوزة نظمها بالخضراء في شوال سنة أربع وثمانين وستمائة، ورفعها إلى السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، سماها ب «نظم السلوك، في الأنبياء والخلفاء والملوك» لم يقصر فيها عن إجادة.
ومن شعره، قال مخبرا عن الأمير أبي مالك عبد الواحد ابن أمير المسلمين أبي يوسف:
دعاني يوما والسما قد ارتدت بالسحائب ... والغيث يبكي بالدموع السّواكب
كأنه عاشق صدّ عنه حبيبه ... ففاضت دموعه عليه وكثر نحيبه
ولم يرق له مدمع ... كأنه لم يبق له فيه مطمع
فكان الوعد حسرته ... والبرق لو عته وزفرته
فقال لي: ما أحسن هذا اليوم ... لو كان في غير شهر الصوم
فاقترح غاية الاقتراح عليّ ... وقال: قل فيه شعرا بين يديّ
فأنشدته هذه الأبيات: [الكامل]
اليوم يوم نزهة وعقار ... وتقرّب الآمال والأوطار
أو ما ترى شمس النهار قد اختفت ... وتستّرت عن أعين النظّار
والغيث سحّ غمامه فكأنّه ... دنف بكى من شدّة التذكار
والبرق لاح من السماء كأنه ... سيف تألّق في سماء غبار
لا شيء أحسن فيه من نيل المنى ... بمدامة (1) تبدو كشعلة نار
__________
(1) في الأصل: «بمدامته»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/11)
لولا صيام عاقني عن شربها ... لخلعت في هذا النهار عذاري (1)
لو كان يمكن أن يعار أعرته ... وأصوم شهرا في مكان نهار
لكن تركت سروره ومدامه ... حتى أكون لديه ذا أفكار
ونديرها في الكأس بين نواهد ... تجلو الهموم بنغمة الأوتار
فجفونها تغنيك عن أكواسها ... وخدودها تغنيك عن أزهار
فشكره لمّا سمعه غاية الشكر، وقال: أسكرتنا بشعرك من غير سكر. قال:
وأتيته بهذه الأبيات: [الكامل]
أعلمت بعدك زفرتي وأنيني ... وصبابتي يوم النّوى وشجوني (2)؟
أودعت إذ ودّعت وجدا في الحشا ... ما إن تزال سهامه تصميني (3)
ورقيب شوقك حاضر مترقّب ... إن رمت صبرا بالأسى يغريني
من بعد بعدك ما ركنت لراحة ... يوما ولا غاضت عليك شؤوني
قد كنت أبكي الدمع أبيض ناصعا ... فاليوم تبكي بالدّماء جفوني
قل للذين قد ادّعوا فرط الهوى ... إن شئتم علم الهوى فسلوني
إنّي أخذت كثيره عن عروة ... ورويت سائره عن المجنون
هذي روايتنا عن اشياخ (4) الهوى ... فإن ادّعيتم غيرها فأروني
يا ساكني أكناف رملة عالج ... ظفرت بظبيكم الغرير يميني
كم بات في جنح الظلام معانقي ... ومجنت في صفر (5) إلى مجنون
في روضة نمّ النسيم بعرفها ... وكذاك عرف الرّوض غير مصون
والورق (6) من فوق الغصون ترنّمت ... فتريك بالألحان أيّ فنون
تصغي الغصون لما تقول فتنثني ... طربا لها فاعجب لميل غصون
والأرض قد لبست غلائل سندس ... قد كلّلت باللؤلؤ المكنون
تاهت على زهر السماء بزهرها ... وعلى البدور بوجهها الميمون
__________
(1) في الأصل: «عذار» بدون ياء.
(2) في الأصل: «وشجون» بدون ياء.
(3) في الأصل: «تصمين» بدون ياء.
(4) في الأصل: «عن أشياخ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا الهمزة الأصلية همزة وصل.
(5) في الأصل: «صفروى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) الورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.(4/12)
قال أبو فارس: وكان أمير المسلمين أبو يوسف سار إلى مدينة سلا، فبويع بها ولده أبو يعقوب، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام أحد وسبعين وستمائة، يوم مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنشدته يوم بيعته هذه القصيدة ورفعتها إليه:
[الكامل]
يا ظبية الوعساء، قد برح الخفا ... إنّي صبرت على غرامك ما كفى
كم قد عصيت على هواك عواذلي ... وأناب بالتّبعيد منك وبالجفا
حمّلتني ما لا أطيق من الهوى ... وسقيتني من غنج لحظك قرقفا (1)
وكسوتني ثوب النحول فمنظري ... للناظرين عن البيان قد اختفى
هذا قتيلك فارحميه فإنه ... قد صار من فرط النحول على شفا
لهفي على زمن تقضّى بالحمى ... وعلى محلّ بالأجيرع قد عفا
أترى يعود الشّمل كيف عهدته ... ويصير بعد فراقه متألّقا؟
لله درّك يا سلا من بلدة ... من لم يعاين مثل حسنك ما اشتفا
قد حزت برّا ثم بحرا طاميا ... وبذاك زدت ملاحة وتزخرفا
فإذا رأيت بها القطائع خلتها ... طيرا يحوم على الورود مرفرفا
والجاذفين على الرّكيم كأنهم ... قوم قد اتخذوا إماما مسرفا
جعل الصّلاة لهم ركوعا كلها ... وأتى ليشرع في السجود مخفّفا
والموج يأتي كالجبال عبابه ... فتظنّه فوق المنازل مشرفا
حتى إذا ما الموج أبصر حدّه ... غضّ العنان عن السّرى وتوقّفا
فكأنّه جيش تعاظم كثرة ... قد جاء مزدحما يبايع يوسفا
ملك به ترضى الخلافة والعلا ... وبه تجدّد في الرّئاسة ما عفا
من لم يزل يسبي الفوارس في الوغى ... إن سلّ في يوم الكريهة مرهفا
ألفت محبّته القلوب لأنه ... ملك لنا بالجود أضحى متحفا
ألقى إليه الأمر والده الذي ... عن كل خطب في الورى ما استنكفا
يعقوب الملك الهمام المجتبى ... الماجد الأوفى الرحيم الأرأفا
يهواه من دون البنين كأنما ... يعقوب يعقوب ويوسف يوسفا
__________
(1) القرقف: الخمر.(4/13)
طوبى لمن في الناس قبّل كفّه ... والويل منه لمن غدا متوقّفا
أعطاك ربّك وارتضاك لخلقه ... فاقتل بسيفك من أبى وتخلّفا
وامدد يمينك للوفود فكلهم ... لليوم عاد مؤمّلا متشوّفا
فاليوم لا تخشى النّعاج ذئابها ... ويعود من يسطو بها متعطّفا
صلح الزمان فلا عدوّ يتّقى ... لم يخش خلق في علاك تخوّفا
لم لا وعدلك للبريّة شامل؟ ... طبعا وغيرك لا يزال تكلّفا
يا من سررت بملكه وعلائه ... اليوم أعلم أنّ دهري أنصفا
فإذا ملكت فكن وفيّا حازما ... واعلم بأنّ الملك يصلح بالوفا
وأفض بذلك (1) للوجود وكن لهم ... كهفا وكن ببعيدهم مستعطفا
فالجود يصلح ما تعلّم في العلا ... وسواه يفسد في الخلافة ما صفا
إنّ البريّة في يديك زمامها ... فاحذر فديتك أن تكون معنّفا
يا من تسربل بالمكارم والعلا ... ما زال حاسدكم يزيد تأسّفا
خذها إليك قصيدة من شاعر ... في نظم فخرك كيف شاء (2) تصرّفا
خضع الكلام له فصار كعبده ... ما شاء يصنع ناظما ومؤلّفا
لا زالت الأمجاد تخدم مجدكم ... ما زارت الحجّاج مروة والصّفا
ومن شعره في رثاء الأمير أبي مالك: [الكامل]
سهم المنيّة أين منه فرار ... من في البريّة من رجاه يجار
حكم الزمان على الخلائق بالفنا ... فالدار لا يبقى بها ديّار
عش ما تشاء فإنّ غايتك الرّدى ... يبلى الزمان وتذهب الأعمار
فاحذر مسالمة الزمان وأمنه ... إنّ الزمان بأهله غدّار
وانظر إلى الأمراء قد سكنوا الثرى ... وعليهم كأس المنون تدار
تركوا القصور لغيرهم وترحّلوا ... ومن اللّحود عليهم أستار
قد وسّدوا بعد الحرير جنادلا ... ومن اللحود عليهم أستار
منعوا القباب (3) وأسكنوا بطن الثّرى ... حكمت بذاك عليهم الأقدار
__________
(1) في الأصول: «بذلك» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «شا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «منعوا السرى للقباب وأسكنوا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/14)
لم تنفع الجرد الجياد ولا القنا ... يوم الرّدى والعسكر الجرّار
في موت عبد الواحد الملك الرّضا ... لجميع أملاك الورى إنذار
أن ليس يبقى في الملوك مملّك ... إلّا أتته منيّة وبوار
ناديته والحزن خامر مهجتي ... والقلب فيه لوعة وأوار
يا من ببطن الأرض أصبح آفلا ... أتغيب في بطن الثّرى الأقمار؟
أين الذين عهدت صفو ودادهم ... هل فيهم بعد الرّدى لك جار؟
تركوك في بطن الثّرى وتشاغلوا ... بعلا سواك فهجرهم إنكار
لما وقفت بقبره مترحّما ... حان العزاء (1) وهاجني استعبار
فبكيت دمعا لو بكت بمثاله ... غرّ السّحائب (2) لم تكن أمطار
يا زائريه استغفروا لمليككم ... ملك الملوك فإنه غفّار
وفاته: توفي خنقا بسجن فاس بسعاية سعيت به، جناها تهوّره في وسط عام سبعة وتسعين وستمائة، وقد كان جعل له النّظر في أمور الحسبة ببلاد المغرب.
ومن العمّال
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز الأسدي العراقي
من أهل وادي آش، نزل سلفه طرّش من أحوازها، وجدّه استوطنها، وذكروا أنه كان له بها سبعون غلاما. وجدّه للأمّ أبو الحسن بن عمر، شارح الموطّأ ومسلم، ومصنّف غير ذلك. كذا نقلته عن أبي عبد الله العراقي، قريبه.
حاله: كان طبيبا، شاعرا مجيدا، حسن الخط، طريف العمل، مشاركا في معارف، تولّى أعمالا نبيهة.
شعره: نقلته من خطّه ما نصّه: [الوافر]
صرفت لخير صدر في الزمان ... عريق في أصالته عنان
كريم المنتمى من خير بيت ... سليل مجادة ورفيع شان
رحيب بان (3) فضل غير وان ... عن الأفضال في هذا الأوان
__________
(1) في الأصل: «العزا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «السحاب».
(3) في الأصل: «بنا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/15)
ومن هذا؟ أذاك هو ابن عيسى ... محمد المعان على المعان؟
أبو عبد الإله (1) المنتمي من ... مساوي الفضل في سرو (2) العنان
ذراني في مجادته محبّا ... فهشّ لما به يحوي جناني (3)
فأنس ثم بشر بالأماني ... ورفع بعد تأنيس مكاني
وسرّ الله (4) ما أولى ليرأى (5) ... وليس كمن رآني فازدراني
ويوجب ذو الفضائل كلّ فضل ... بما فيها ترشّحت الأواني
وكم زهر رآه وسط روض ... وكم هاذ يدي بين الدّنان
بمالقة وبالأقطار أضحت ... معاليكم مشيّدة المباني
فأبدوا للإله (6) لسوف يأتي ... لكم منّي سوابق في الرّهان
قواف كم (7) من الحكم قواف ... محامد للسّماع وللعيان
يفوق نظيمها من كل معنى ... سلوك الدّرّ من حلي الحسان
متى خفّ ازدحام من همومي ... ورجّيت الأماني (8) مع أمان
شكرت الله ثم صفا فؤادي ... وأملي ما تحبّ على لساني (9)
فهأنذا ببرّكم غذائي ... ولي منكم على بعدي تدان
محبّك حيث كنت بلا سلوّ ... وضيفك في البعاد وفي التّوان
ثنائي ثابت يبقى بقائي (10) ... ومن بعدي على طول الزمان
وما تهب الأكفّ قراك فان ... وما تهب الطّروس فغير فان
هنيئا بالنّزاهة في سرور ... ومع من لا له في الفضل ثان
فلا زالت مسرّته توالي ... ولا زالت تزفّ لك التّهاني
وفاته: ببلدة وادي آش عام خمسة عشر وسبعمائة.
__________
(1) في الأصل: «أبو عبدلي إنه المنتمي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «سرى».
(3) في الأصل: «جنان» بدون ياء.
(4) في الأصل: «سرّ لله» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «لير» وكذا لا يستقيم الوزن.
(6) في الأصل: «فأيّدوا الإله» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(7) كلمة «كم» ساقطة في الأصل.
(8) في الأصل: «الأمان» بدون ياء، وكذا ينكسر الوزن.
(9) في الأصل: «لسان» بدون ياء.
(10) في الأصل: «بقاي» وكذا ينكسر الوزن.(4/16)
عبد القادر بن عبد الله ابن عبد الملك بن سوّار المحاربي
حاله: هذا الرجل دمث الأخلاق، سكون، وقور. خدم أبوه بغرناطة كاتبا للغزاة، منوّها به، مشهورا بكرم وظرف. وانتقل إلى العدوة، ونشأ ابنه المذكور بها، وارتسم بخدمة ولي العهد الأمير أبي زيّان، وورد على الأندلس في وسط عام سبعة وخمسين وسبعمائة في بعض خدمه، وأقام بغرناطة أياما يحاضر محاضرة يتأنّس به من أجلها الطالب، وينتظم بها مع أولي الخصوصية من أهل طريقه، وينقل حكايات مستطرفة فمن ذلك أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي كان مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي، فتلقاه الزياني وتأيّده، وتوجهوا إلى الثّريّا بالقرويين وقد أوقدت، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج، فأنشد الزياني: [السريع]
انظر إلى ناريّة نورها ... يصدع بالّألاء حجب الغسق
فقال ابن عبدون: [السريع]
كأنّها في شكلها زهرة ... انتظم النور بها فاتّسق
وحكيت القصة للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحّل، فقال: لو حضرت أنا لقلت: [السريع]
أعيذها من شرّ ما يتّقى ... من فجأة العين بربّ الفلق
واستنشد من شعره في الثامن والعشرين لربيع الآخر من العام بقصر نجد، فقال من حكايات: إن السلطان أمير المسلمين وجد يوما على رجل أمر بتنكيله، ثم عطف عليه في الحال وأحسن إليه، وكان حاضرا مجلسه أبو الحسن المزدغي، رحمه الله، فأنشده بديهة: [البسيط]
لا تونسنّك من عثمن سطوته ... وإن تطاير من أثوابه الشرر
فإنّ سطوته والله يكلأه ... كالبرق والرّعد يأتي بعده المطر
قال المترجم به: فحدّثني بذلك والدي، فتعقّبتها عليه عام تسعة وعشرين وسبعمائة، لموجب جرّ ذلك بقولي: [البسيط]
لا تيأسن من رجا كهف الملوك أبي ... سعيد المرتجى للنّفع والضّرر
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 2(4/17)
وإن بدا منه سخط أو رأيت له ... من سطوة أقبلت ترميك بالشّرر
فإنما شيء مثل الرّعد يتبعه ... برق ومن بعده ينهل المطر
وأنشدني لبعض الأحداث من طلبة فاس، يخاطب صاحبنا الفقيه الكاتب أبا عبد الله بن جزي، وقد توعده على مطل باستنساخ كتاب كان يتناول له، وهو بديع:
[الطويل]
إذا ما أتت أبطال قيس وعامر ... وأقيال عبس من بغام (1) وقسور (2)
تصادمني وسط الفلا لا تهولني ... فكيف أبالي بابن جزء مصغّر؟
مولده: بفاس في العشر الأول لذي حجة عام تسعة وسبعمائة.
ومن الزهّاد والصلحاء وأولا الأصليون
عبد الأعلى بن معلا
يكنى أبا المعلى الإلبيري، من قرى القلعة (3)، ونشأ بالحاضرة. وكان ينسب إلى خولان. ويذكر أنه أسلم على يدي رجل من خولان، فتولّاه وانتسب إليه، وخرج إلى إلبيرة، ونشأ بها، وشغف بكتب عبد الملك بن حبيب، ولم يكن أحد في عصره يشبهه في فضله وزهده وورعه، وتواضعه وانقباضه، وتستّره أرسل إليه حسين بن عبد العزيز، أخو هاشم بن عبد العزيز، وهو بإلبيرة يرغب إليه في أن يشهد جنازة ابنة توفيت له، كان يشغف بها، فتعذّر عليه إذ خشي الشّهرة. وقال لبعض جلسائه: ما علمت أن حسينا يعرفني، وعمل على الخروج من إلبيرة، وتهيّأ للخروج للحج، فحج، فلمّا كان منصرفه ونزل في بعض السّواحل، وجد هنالك مركبين يشحنان، فرغب كل من أصحاب المركبين أن يركب عنده، وتنافسا في ذلك، حتى خشي أن تقع الفتنة بينهم، فاهتم لذلك، ثم اصطلح أرباب
__________
(1) في الأصل: «بغمام» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، وأغلب الظن أنه بغام بن الحارث بن عبد الله بن عمران، وهو أول من أغار على الفرس من جهة عمان. جمهرة أنساب العرب (ص 370).
(2) قد يكون قسورة بن معلّل بن الحجاج بن جذيمة، الذي ولي سجستان أيام بني أمية. جمهرة أنساب العرب (ص 447).
(3) هي القلعة الملكية، وتسمى أيضا قلعة يحصب أو قلعة يعقوب، أو القلعة السعدية، أي قلعة بني سعيد، وهي إحدى مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 62).(4/18)
المركبين على أن يخرج كل واحد منهما قاربه إلى البرّ، فمن سبق قاربه إليه دخل عنده. ونزل في منصرفه ببجانة (1) وسكنها إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
عبد المنعم بن علي بن عبد المنعم بن إبراهيم ابن سدراي بن طفيل
يكنى أبا العرب، ويشهر بالحاج، ويدعى بكنيته.
حاله: كان عالما فاضلا صالحا، منقطعا متبتّلا، بارع الخطّ، مجتهدا في العبادة، صاحب مكاشفات وكرامات. نبذ الدنيا وراء ظهره، ولم يتلبّس منها بشيء، ولا اكتسب مالا ولا زوجة، وورث عن أبيه مالا خرج عن جميعه، وقطع زمن فتائه في السّياحة وخدمة الصالحين، وزمان شيخوخته في العزلة والمراقبة والتزام الخلوة. ورحل إلى الحج، وقرأ بالمشرق، وخدم مشايخ من الصالحين، منهم الفخر الفارسي، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهما، وكان كثير الإقامة بالعدوة، وفشا أمره عند ملوكها، فكانوا يزورونه، ويتبرّكون به، فيعرض عنهم، وهو أعظم الأسباب في جواز أهل المغرب لنصرة من بالأندلس في أول الدولة النّصرية، إذ كان الرّوم قد طمعوا في استخلاصها، فكان يحرّض على ذلك، حتى عزم صاحب العدوة على الجواز، وأخذ في الحركة بعد استدعاء سلطان (2) الأندلس إياه، وعندما تعرّف يغمور بن زيّان، ملك تلمسان، ذلك كله على بلاده بما منع من الحركة، فخاطبه الحاج أبو العرب مخاطبته المشهورة التي كفّت عدوانه، واقتصرته عما ذهب إليه.
وكان حيّا في صفر عام ثلاثة وستين وستمائة، وهو تاريخ مخاطبته أبا يحيى يغمور بن زيان.
__________
(1) في الأصل: «ببجاية»، وقد صوّبنا الخطأ لأن بجاية أول من اختطّها هو الناصر بن علناس بن حماد بن زيري بن مناد بن بلكين، في حدود سنة 457هـ، وهي مدينة على ساحل البحر بين إفريقيا والمغرب. معجم البلدان (ج 1ص 439). وبجانة مدينة بالأندلس من أعمال كورة إلبيرة. معجم البلدان (ج 1ص 439).
(2) أغلب الظن أنه أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف، أول سلاطين بني نصر بغرناطة (671635هـ). اللمحة البدرية (ص 42).(4/19)
ومن الطارئين وغيرهم
عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن فتح ابن سبعين العكّي (1)
مرسي، رقوطي (2) الأصل، سكن بآخرة مكّة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سبعين.
حاله: قال ابن عبد الملك (3): درس العربية والأدب بالأندلس، عند جماعة من شيوخها. ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوف، بإشارة بعض أصحابه، وعكف برهة على مطالعة كتبه، وتعرّض بعد لإسماعها، والتكلّم على بعض معانيها، فمالت إليه العامة، وغشيت محلّه. ثم فصل عن سبتة، وتجوّل في بلاد المغرب منقطعا إلى طريقة التصوف، داعيا إليها، محرّضا عليها. ثم رحل إلى المشرق، وحجّ حججا، وشاع ذكره، وعظم صيته هنالك، وكثر أتباعه على مذهبه الذي يدعو إليه من التصوف نحلة، ارتسموا بها من غير تحصيل لها، وصنّف في ذلك أوضاعا كثيرة، تلقّوها منه، وتقلّدوها عنه، وبثّوها في البلاد شرقا وغربا، ولا يخلو أحد منها بطايل، وهي إلى وساوس المخبولين، وهذيان الممروضين أقرب منها إلى منازع أهل العلم، ولفظه غير ما بلد وصقع، لما كان يرمى به من بلايا الله أعلم بحقيقتها، وهو المطلع على سريرته فيها. وكان حسن الأخلاق، صبورا على الأذى، آية في الإيثار، أبدع الناس خطّا.
وقال أبو العباس الغبريني في كتاب «عنوان الدّراية» (4) عند ذكره: وله علم وحكمة ومعرفة، ونباهة وبلاغة وفصاحة. ورحل إلى العدوة، وسكن بجاية مدة، ولقيه من أصحابنا ناس (5) كثير، وأخذوا عنه، وانتفعوا به في فنون خاصة له، مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، ووجاهة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان (6)،
__________
(1) ترجمة ابن سبعين في فوات الوفيات (ج 2ص 253) والبداية والنهاية (ج 13ص 261) ونفح الطيب (ج 2ص 407) ومقدمة كتاب «رسائل ابن سبعين» بتحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي.
(2) نسبة إلى رقوطة وهي بلدة قريبة من مرسية. البداية والنهاية (ج 13ص 261).
(3) نص ابن عبد الملك في نفح الطيب (ج 2ص 407) وفيه بعض اختلاف عما هنا.
(4) عنوان الدراية (ص 140139ونفح الطيب (ج 2ص 414).
(5) في عنوان الدراية: «أناس». وفي النفح: «ولقي من أصحابنا ناسا».
(6) الجنان، بالفتح: القلب. مختار الصحاح (جنن).(4/20)
وهو آخر (1) الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء، ومن عامّة الناس، وله موضوعات كثيرة، موجودة بأيدي الناس (2)، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد (3). وله تسميات مخصوصات (4) في كتبه، هي نوع من الرّموز. وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريقة (5) الأدباء. وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجّته (6) مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام. ولقد مشى به للمغاربة بحظّ في الحرم الشريف، لم يكن لهم في غير مدّته.
وكان أصحاب (7) مكة، شرّفها الله، يهتدون بأفعاله، ويعتمدون على مقاله.
قلت (8): وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم الموهن (9) المكفّر، ومنهم المقلّد المعظّم، وحصل لطرفي هذين الاعتقادين من الشهرة والذّياع ما لم يقع لغيره. والذي يقرب من الحق، أنه كان من أبناء الأصالة ببلده، وولّي أبوه خطّة المدينة، وبيته نبيه، ونشأ ترفا مبجّلا، في ظل جاه، وعزّ نعمة، لم تفارق معها نفسه البلد. ثم قرأ وشدا، ونظر في العلوم العقلية، وأخذ التحقيق عن أبي إسحاق بن دهاق، وبرع في طريقة الشّوذية (10)، وتجرّد واشتهر، وعظم أتباعه، وكان وسيما جميلا، ملوكي البزّة، عزيز النفس، قليل التصنع، يتولّى خدمته الكثير من الفقراء السّفارة، أولي العبا والدقاقيس، ويحفون به في السّكك، فلا يعدم ناقدا، ولا يفقد متحاملا. ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء زيّا وانتباذا ونحلة وصحبة واصطلاحا، كثر عليه التأويل، ووجهت لألفاظه المعاريض، وفلّيت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، ولقيه فحول من منتابي تلك النّحلة، قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاضطلاع، والخوض في بحار تلك الأغراض. وساءت منه لهم في الملاطفة السيرة، فانصرفوا عنه مكظومين (11) يندّرون في الآفاق عليه من سوء القيلة، ما لا شيء فوقه. ورحل إلى المشرق، وجرت بينه وبين الكثير من أعلامه خطوب. ثم نزل مكة، شرفها الله تعالى، واختارها قرارا، وتلمذ له أميرها، فبلغ من
__________
(1) في النفح: «وهو أحد العلماء الفضلاء».
(2) في النفح: «أصحابه».
(3) في الأصل: «أبي جاد»، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «مخصوصة».
(5) في النفح: «طريق».
(6) في النفح: «وحجّه».
(7) في النفح: «أهل».
(8) قارن بنفح الطيب (ج 2ص 407، 414413).
(9) في النفح: «المرهق».
(10) الشوذية: هم متصوفة.
(11) في النفح: «مكلومين».(4/21)
التعظيم الغاية. وعاقه الخوف من أمير المدينة المعظمة النبوية، عن القدوم عليها، إلى أن توفي، فعظم عليه الحمل لأجل ذلك، وقبحت الأحدوثة.
شهرته (1) ومحلّه من الإدراك:
أما اضطلاعه، فمن وقف على «البدّ» من كتبه، رأى سعة ذرعه وانفساح مدى نظره، لما اضطلع به من الآراء والأوضاع والأسماء، والوقوف على الأقوال، والتعمق في الفلسفة، والقيام على مذاهب المتكلمين، بما (2) يقضي منه العجب (3).
ولما وردت على سبتة المسائل الصّقلية، وكانت جملة من المسائل الحكمية، وجهها علماء الروم تبكيتا للمسلمين، انتدب إلى الجواب عنها، على فتيّ من سنّه، وبديهة من فكرته. وحدّثني شيخنا أبو البركات (4)، قال (5): حدّثني أشياخنا من أهل المشرق، أن الأمير أبا عبد الله بن هود، سالم طاغية النصارى، فنكث عهده (6)، ولم يف بشرطه، فاضطرّه ذلك إلى مخاطبته (7) إلى القومس الأعظم برومة، فوكّل أبا طالب بن سبعين، أخا أبي محمد (8)، المتكلم عنه، والاستظهار بالعقود بين يديه. قال: فلما (9) بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة، وهو بلد لا تصل إليه المسلمون، ونظر إلى ما بيده، وسئل عن نفسه، كلّم ذلك القسّ من دنا منه محلّه من علمائهم بكلام، ترجم لأبي طالب بما معناه: اعلموا أنّ أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه.
دعواه وإزراؤه:
وقد شهر (10) عنه في هذا الباب كثير، والله أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه أو غير ذلك. فقد ذكروا أنه قال: وقد مرّ ذكر الشيخ أبي مدين رحمه الله: «شعيب عبد عمل، ونحن عبيد حضرة» (11). وقال لأبي الحسن الشّشتري عندما لقيه، وقد سأله عن وجهته، وأخبره بقصده الشيخ أبا أحمد، إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت، وإن كنت تريد ربّ الجنة فهلم إلينا. وفي كتاب «البدّ» ما يتشوف إليه من
__________
(1) ورد بعض هذا النص في نفح الطيب (ج 2ص 411).
(2) في النفح: «منه».
(3) لهنا فقط ورد النص في النفح.
(4) هو أبو البركات ابن الحاج البلفيقي كما ورد في نفح الطيب (ج 2ص 411).
(5) النص في نفح الطيب (ج 2ص 411).
(6) في النفح: «فنكث به».
(7) في النفح: «مخاطبة القسّ الأعظم برومية».
(8) في النفح: «أبي محمد عبد الحق ابن سبعين في التكلم عنه».
(9) في النفح: «فلما بلغ ذلك الشخص رومية».
(10) قارن بنفح الطيب (ج 2ص 412411).
(11) هنا ينتهي النص في نفح الطيب.(4/22)
هذا الغرض عند ذكره حكماء الملة. وأما ما ينسب إليه من آثار السّيمياء والتصريف فكثير.
تواليفه: وتواليفه كثيرة تشذّ عن الإحصاء، منها كتابه المسمى بالبدّ «بدّ العارف»، وكتاب الدّرج، وكتاب الصفر، والأجوبة اليمينة، والكلّ والإحاطة. وأما رسائله في الأذكار، كالنورية في ترتيب السلوك، وفي الوصايا والعقايد فكثير، يشتمل على ما يشهد بتعظيم النبوة، وإيثار الورع، كقوله من رسالة (1): «سلام الله عليك ورحمته. سلام الله عليك ثم سلام مناجاتك. سلام الله ورحمته الممتدّة على عوالمك كلّها، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، وصلّى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعزّ ملائكته من حيث حقيقتك، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته. السلام عليك يا حبيبه (2). السلام عليك يا قياس الكمال، ومقدّمة السعد (3)، ونتيجة الحمد، وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قد أنعم العيد (4)، السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء، وأسرار مشروطات الأزكياء الأتقياء. السلام عليك يا من جاوز في السماء (5) مقام الرّسل والأنبياء، وزاد رفعة، واستولى على ذوات الملأ الأعلى، ولم يسعه في وجهته تلك إلّا ملاحظة الرّفيق الأعلى، وذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} (6) إلى الأخرى والأولى، لا إلى الآخرة والأولى، وبلغ الغاية والمطلوب، التي عجزت عنه قوة ماهيّة النّهى، وزاد بعد ذلك حتى نظر تحته من ينظر دونه سدرة المنتهى، إلى استغراق كثير، أفضى إلى حال من مقام».
ومن وصاياه يخاطب تلاميذه وأتباعه: حفظكم الله، حافظوا على الصلوات، وجاهدوا النفس في اجتناب الشهوات، وكونوا أوّابين، توّابين، واستعينوا على الخيرات بمكارم الأخلاق، واعملوا على نيل الدّرجات السّنية، ولا تغفلوا عن الأعمال السّنيّة، وحصّلوا مخصص الأعمال الإلهية ومهملها، وذوقوا مفصّل الذات الرّوحانية ومحملها، ولازموا المودة في الله بينكم، وعليكم بالاستقامة على الطريقة، وقدموا فرض الشريعة على الحقيقة، ولا تفرقوا بينهما لأنهما من الأسماء المترادفة،
__________
(1) الرسالة في نفح الطيب (ج 2ص 412).
(2) في النفح: «يا حبيب الله».
(3) في النفح: «العلم».
(4) في النفح: «إليه قرأ (نعم العبد)». وهي سورة ص 38، الآية 30.
(5) في النفح: «السماوات».
(6) سورة الأعلى 87، الآية 1.(4/23)
واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا، وقولوا عليها وعلى أهلها لعنة الله لأنها حقيقة كما سمّي اللّديغ سليما، وأهلها مهملون حدّ الحلال والحرام، مستخفّون بشهر الصوم والحج وعاشوراء والإحرام، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.
ومنها: واعلموا أن القريب إليّ منكم، من لا يخالف سنّة أهل السّنّة ويوافق طاعة رب العزّة والمنّة، ويؤمن بالحشر والنار والجنّة، ويفضل الرّؤية على كل نعمة، ويعلم أن الرّضوان بعدها، أجلّ كل رحمة، ثم يطلب الذّات بعد الأدب مع الصفات والأفعال، ويغبط نفسه بالمشاهدة في النوم والبرزخ والأحوال، وكل مخالف سخيف، متّهم منه الفساد، وإن كان من إخوانكم، فاهجروه في الله، ولا تلتفتوا إليه، ولا تسلموا له في شيء، ولا تسلّموا عليه حتى يستغفر الله العظيم بمحضر الكل منهم، ويرضى عن نفسه وحاله وعنكم، ويخرج من صفاته المذمومة، ويترك نظام دعوته المحرومة. وأنا مذ أشهدت الله العظيم، أني قد خرجت من كل مخالف متخلّف العقل واللسان، ولا نسبة بيتي وبيته في الدنيا والآخرة، فمن زلّ قدمه يستغفر الله، ولا يخدعه قدمه، وأمثال هذا كثير.
دخوله غرناطة: أخبرني غير واحد من أصحابنا المعتنين بهذا، أنه دخل غرناطة في رحلته، وأظنّه يجتاز إلى سبتة، وأنه حلّ وسطه، على اصطلاح الفقراء، برابطة العقاب (1) من خارجها، في جملة من أتباعه.
شعره: وشعره كثير، مما حضرني منه الآن قوله (2): [البسيط]
كم ذا تموّه بالشّعبين والعلم ... والأمر أوضح من نار على علم (3)
وكم تعبّر على سلع وكاظمة ... وعن زرود وجيران بذي سلم
ظللت تسأل (4) عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة، هذا فعل متّهم
في الحيّ حيّ سوى ليلى فتسأله (5) ... عنها! سؤالك وهم جرّ للعدم
__________
(1) رابطة العقاب أو رباط العقاب: كانت تخصص للعبادة، وكانت على مقربة من مدينة غرناطة.
الإحاطة (ج 2ص 155) حاشية رقم 4من تعليق الأستاذ محمد عبد الله عنان.
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 2ص 413).
(3) العلم، بالفتح: الجبل. مختار الصحاح (علم).
(4) في الأصل: «تسأل»، والتصويب من النفح.
(5) رواية صدر البيت في الأصول هي:
في الحي حتى ولا سوى ليلى وتسألها
وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من نفح الطيب.(4/24)
وفاته: توفي بمكة، شرّفها الله تعالى، يوم الخميس التاسع لشوال من عام تسعة وستين وستمائة (1).
وفيما يسمى بإحدى عيون الإسلام من الأسماء العينية وهم عتيق وعمر وعثمان وعلي، وأولا الأمراء والملوك وهم ما بين طارىء وأصلي وغريب
عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر الإسلامي (2)
ابن كسمسم بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش (3)
كبير الثوار، وعظيم المنتزين، ومنازع الخلفاء بالأندلس.
أوليته وحاله: قال صاحب التاريخ (4): أصله من رندة، من كورة تاكرنّا، وجدّه جعفر إسلامي، وانتقل إلى رندة لأمر دار عليه بها في أيام الحكم بن هشام، فسكن قرية طرجيلة من كورة ريّه المجاورة لحصن أوطة، فاستوطن بها، وأنسل بها عمر، ثم أنسل بها عمر حفصا، وفخّم فقيل حفصون. ثم أنسل عمر هذا الثائر مع أخوة له، منهم أيوب وجعفر. ولمّا ترعرع عمر، ظهر له من شراسته وعتوّه ما لم يعدم معه أبواه هربا عن مواضعهما، فزالا عن وطنهما، فذكر أنه لم يمسك من حين كان عن أحد ممن ناظره، ولا سكت عن أقبح ما يمكن من السّب لمن عاتبه، وأنه قتل أحد جيرانه على سبب يسير دافعه عنه، فتغرّب لذلك عن الموضع زمانا.
وذكر ابن القوطيّة (5) أن عامل ريّه (6) عاقبه في جناية وفرّ إلى العدوة، وصار يتهرّب عند خياط كان من أهل ريّه، فبينا هو جالس في حانوته يوما إذ أتاه شخص
__________
(1) في فوات الوفيات (ج 2ص 254): «ومات بمكة في ثامن عشرين شوال سنة ثمان وستين وستمائة، وله من العمر خمس وخمسون سنة». وجاء في البداية والنهاية أنه ولد سنة 614هـ، وتوفي 28شوال بمكة سنة 669هـ.
(2) أي إنّ جدّه جعفر هو أول من أسلم من أسلافه.
(3) ترجمة عمر بن حفصون في تاريخ افتتاح الأندلس (ص 103) وجذوة المقتبس (ص 301) وبغية الملتمس (ص 406) والمقتبس بتحقيق العربي (ص 78) والمقتبس بتحقيق مكي (ص 199، 393) والمقتبس بتحقيق ب. شالمينا وف. كورنيطي (ص 112) وكتاب العبر (م 4ص 286) والبيان المغرب (ج 2ص 106، 131).
(4) قارن بالبيان المغرب (ج 2ص 106).
(5) تاريخ افتتاح الأندلس (ص 105103).
(6) عامل رية، كما في المصدر السابق، هو أحد بني خالد، المعروف بدونكير.(4/25)
بثوب يقطعه، فقام إليه الخياط، فسأل ذلك الشخص الخياط عن عمر، فقال له:
هو رجل من جيراني، فقال الشيخ: متى عهدك بريّه؟ فقال له: منذ أربعين يوما، فقال له: أتعرف جبلا يقال له ببشتر (1)؟ فقال: أنا ساكن عند أهله (2)، فقال: أله حركة؟ قال: لا. قال الشيخ: قد أذن ذلك، ثم قال: تعرف فيما يجاوره رجلا يقال له عمر بن حفصون؟ ففزع من قوله، فأحدّ الشيخ النظر فيه وقال: يا منحوس، تحارب الفقر بالإبرة، ارجع إلى بلدك، فأنت صاحب بني أمية، وستملك ملكا عظيما، فقام من فوره، وأخذ خبزة (3) في كمّه، ورجع إلى الأندلس، فداخل الرجال، حتى ضبط الجبل المذكور، وانضوى إليه كل من يتوقّع التهمة على نفسه، أو تشهره إلى الانتزاء بطبعه، وضمّ إلى القلعة كل من كان حولها من العجم والمولّدين. ثم تملّك حصن أوطة وميجش، ثم تملّك قمارش وأرجدونة. ثم اتسع نظره حتى تملّك كورة ريّه، والخضراء، وإلبيرة، إلى بسطة، وأبّدة، وبيّاسة، وقبرة، إلى حصن بلي المطل على قرطبة، وأشرق الخلافة بريقها، وقطع الزمان من استكانة إلى عهد، وكشف الوجه في ختر، وتشمير الساعد عن حرب، وحسر اللّثام عن أيد وبسطة، وشدّ الحزام على جهد وصبر، ونازله الخلائف والقواد، فلم يحل بطائل، وأصابته جراحات مثخنة في الوقائع وأصبحت فتنته سمر الرّكاب، وحديث الرّفاق، شدّة أسر، وثقل وطأة، وسعة ذرع، واتّصال حبل، وطول إملاء، استغرق بها السنين، وطوى الأعمار، وأورث ذلك ولده بعده. وعند الله جزاء وحساب، وإن امتدّ المآب، لا إله إلّا هو.
دخوله غرناطة وإلبيرة:
قال ابن الفيّاض وغيره (4): ودخل إلبيرة مرات، عندما ثار بدعوته قاتل، وانضوى إلى حصن منتشافر (5)، من إقليم برجيلة قيس، في نحو ستة آلاف، وتغلّب على يحيى بن صقالة، ثم نازله سوّار بن حمدون، أمير العرب بغرناطة، حتى غلبه وأخذه أسيرا. ثم أوقع بجعد ومن معه من أهل إلبيرة وقائع مستأصلة، وتملّك بعدها
__________
(1) ببشتر: بالإسبانية، وهو حصن منيع بالأندلس، بينه وبين قرطبة ثمانون ميلا. الروض المعطار (ص 79).
(2) في تاريخ افتتاح الأندلس: «عند أصله».
(3) في المصدر نفسه: «فأخذ خبزتين من الخباز وألقاهما في كمّه».
(4) قارن بالمقتبس بتحقيق العربي (ص 7978).
(5) في المقتبس بتحقيق العربي (ص 78): حصن منت شاقر، وهو بالإسبانية:، وهو حصن يقع على الجبل الذي يطل على سهل غرناطة.(4/26)
بيّاسة وأبّدة في أخبار تطول. قال أبو مروان: قصد ابن حفصون حاضرة إلبيرة وحصونها، وناصب الحرب سوّارا، وقد استمدّ سوّار رجالات العرب من كورتي جيّان وريّه وإلبيرة، فوقعت الهزيمة على ابن حفصون، وجرح جراحات مثخنة، وأصيب جماعة من فرسانه، وانقلب منهزما، فغضب عند ذلك على أهل إلبيرة فأغرمهم مغرما فدحهم، واستعمل عليهم حفص بن المرّة، فلم يزل يعمل الحيل على سوّار حتى أوقع به، وأتى بجثته إلى إلبيرة، وحمل رأسه إلى ببشتر، واستشرى داؤه، وأعيا أمره، فاتصل ملكه بالقواعد والأقطار، وغلب أكثر المدن ما بين الموسّطة والغرب، وأحدق ملكه بقرطبة، وحجر عليها الخيل من حصن بلي من حصون قبرة، فجلت الكنبانية (1)، وامتدّ إلى بنيان المعاقل. ولمّا رأى الأمير محمد (2) ما أحاط به منه، تأهّب إلى غزوه، ونزل حصن بلي، وناهضه، فأوقع به، وهزمه وألجأه إلى أن سلّم في حصنه. فلمّا خرج منه بمن معه، تطيّرهم ريح الفرار والسيوف تأخذهم، استولى الخليفة (3) على الحصن. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد ربه، شاعر دولتهم (4): [الرمل]
وله يوم بليّ وقعة ... لم تدع للكفر رأسا في ثبج
لم يجد إبليس في حومتها ... نفعا من رهبة حيث بلج
دفعتهم حملة السّيل إلى ... كافح الأمواج مخض للّجج (5)
فتح الله على الدّين به ... وعلى الإسلام يا عامر تتج
وكان هذا الفتح سنة سبع وسبعين ومائتين (6). ثم استخلص مدينة إستجّة.
وفاته: قال: ومن هذا العهد أدبر أمر ابن حفصون، وتوقّف ظهوره، بعد تخبّط شديد، ولجاج كبير، وشرّ مبير، وكانت وفاته ببشتر، موضع انتزائه على عهد
__________
(1) الكنبانية: كلمة إسبانية، وتعني الأرض الجرداء. راجع نفح الطيب (ج 4ص 191) حاشية المحقق.
(2) الصواب: الأمير عبد الله بن محمد، الذي حكم الأندلس من سنة 275إلى سنة 300هـ.
والذي هزم ابن حفصون كما سيأتي بعد أسطر، وذلك في سنة 278هـ.
(3) لم يكن عبد الله بن محمد خليفة، بل كان أميرا.
(4) هذه الأبيات لم ترد في ديوان ابن عبد ربه.
(5) في الأصل: «مخضّ اللّجج»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) الصواب أن فتح حصن بلاي كان سنة 278هـ، كما جاء في المقتبس بتحقيق العربي (ص 116) وفي البيان المغرب (ج 2ص 123).(4/27)
الخليفة (1) عبد الرحمن في سنة ست وثلاثمائة، بعد مرض شمل النّفخ به جسده، حتى تشقّق جلده، وانتقل أمره إلى ولده جعفر، ثم إلى ولده سليمان، ثم إلى ولده حفص. وعلى حفص انقرض أمرهم.
عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي (2)
بطليوسي، مكناسي الأصل، من مكناسة الجوف، الأمير بالثغر الغربي، الملقب من ألقاب السلطنة بالمتوكل على الله، المكنى بأبي محمد، المنبز بابن الأفطس.
أوليته: قال ابن حيان: كان (3) جدّهم عبد الله بن مسلمة، المعروف بابن الأفطس، أصله من فحص البلّوط (4)، من قوم لا يدّعون نباهة، غير أنه كان من أهل المعرفة التامة، والعقل، والدهاء، والسياسة. ثم كان بهذا الصّقع الغربي، بطليوس وأعمالها، وشنترين والأشبونة، وجميع الثغر الجوفي في أمر الجماعة، رجل من عبيد الحكم المستنصر، يسمى سابور، فلمّا وقعت الفتنة، وانشقّت العصا (5)، انتزى سابور على ما كان بيده. وكان عبد الله يدبّر أمره إلى أن هلك سابور، وترك ولدين لم يبلغا الحلم، فاشتمل عبد الله على الأمر، واستأثر به على ولديه، فحصل على ملك غرب الأندلس، واستقام أمره، إلى أن مضى بسبيله، وأعقبه ابنه المظفّر محمد بن عبد الله، وكان ملكا شهيرا عالما شجاعا أديبا، وهو مؤلف الكتاب الكبير المسمّى بالمظفّري، فاستقامت أموره إلى أن توفي (6)، فقام بأمره ولده عمر هذا المترجم به.
حاله: قال ابن عبد الملك: كان (7) أديبا بارع الخطّ، حافظا للغة، جوادا، راعيا حقوق بلده، مواخيا (8) لهم، محبّبا فيهم، مرّت لهم معه أيام هدنة وتفضّل إلى حين القبض عليه.
__________
(1) لم يكن عبد الرحمن الثالث آنذاك قد تسمّى خليفة، وقد تسمّى بذلك في سنة 316هـ.
(2) ترجمة عمر بن محمد بن مسلمة في المغرب (ج 1ص 364) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 186) والذيل والتكملة (ج 5ص 466) وقلائد العقيان (ص 36) والذخيرة (ق 2ص 646) والمعجب (ص 127) ورايات المبرزين (ص 95) والحلة السيراء (ج 2ص 96) وفوات الوفيات (ج 3ص 155) ونفح الطيب (ج 2ص 193وصفحات أخرى متفرقة).
(3) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 236235).
(4) فحص البلوط: ناحية بالأندلس تتصل بجوف قرطبة، يكثر فيها شجر البلوط. معجم البلدان (ج 1ص 492).
(5) في البيان المغرب: «عصا الأمة».
(6) توفي عبد الله بن مسلمة بن الأفطس لإحدى عشرة ليلة بقيت لجمادى الأولى من سنة 437هـ.
البيان المغرب (ج 3ص 236).
(7) الذيل والتكملة (ج 5ص 466).
(8) في الذيل والتكملة: «موجبا».(4/28)
وقال الفتح في قلائده (1): ملك جنّد الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت، إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافدين (2) وساحة، ونظم يزري بالدّرّ النظيم، ونثر تسري رقّته سرى النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور ومجتمع، راقت إشراقا وتبلّجا، وسالت مكارمه فيها (3) أنهارا وخلجا، إلى أن عادت الأيام عليه بمعهود العدوان، ودبّت إليه دبيبها لصاحب الإيوان، وانبرت إليه انبراءها لابن زهير وراء عمان.
شعره: بلغه أنه ذكر في مجلس المنصور يحيى أخيه بسوء، فكتب إليه بما نصّه (4): [الطويل]
فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينيطون (5) بي ذمّا وقد علموا فضلي
يسيئون لي (6) في القول جهلا وضلّة ... وإنّي لأرجو أن يسوءهم (7) فعلي
لئن كان حقّا ما أذاعوا فلا مشت (8) ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح (9) العافين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كلّ غريبة (10) ... وورد التّقى شمّي وحرب العدا نقلي؟
ولي خلق في السّخط كالشّري (11) طعمه ... وعند الرّضى أحلى جنى من جنى النّحل
فيا أيها السّاقي أخاه على النّوى ... كؤوس القلى مهلا (12) رويدك بالعلّ
لنطفئ (13) نارا أضرمت في صدورنا (14) ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي
__________
(1) قلائد العقيان (ص 36).
(2) في القلائد: «للوافد».
(3) كلمة «فيها» ساقطة في القلائد.
(4) القصيدة في قلائد العقيان (ص 4140) والذخيرة (ق 2ص 649648) والحلة السيراء (ج 2ص 104) وفوات الوفيات (ج 3ص 156).
(5) في الحلة والفوات: «ينوطون».
(6) في القلائد والذخيرة والحلة: «يسيئون فيّ القول».
(7) في الأصل: «وإني لا أرجو أن يسيئهم»، وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى، والتصويب من المصادر.
(8) في الذخيرة والحلة: «خطت».
(9) في فوات الوفيات: «ولم أسخ للعافين في الزمن».
(10) في فوات الوفيات: «فضيلة».
(11) في المصدر نفسه: «كالشوك».
(12) في المصدر نفسه: «جهلا».
(13) في القلائد: «لتطفىء».
(14) في الفوات والقلائد والذخيرة: «نفوسنا».(4/29)
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكيا ... فقل لي: لمن أشكو صنيعك بي؟ قل لي
فبادر إلى الأولى وإلّا فإنني ... سأشكوك يوم الحشر للحكم (1) العدل
وكتب جوابا لأبي محمد بن عبدون مع مركوب عن أبيات ثبتت في القلائد (2):
[المتقارب]
بعثت إليك جناحا فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... وفي ظلل (3) من نسيج الشّجر
فحسبي ممّن (4) نأى من (5) دنا ... فمن (6) غاب كان كمن (7) قد حضر
قال الفتح (8): أخبرني الوزير (9) أبو أيوب بن أمية (10) أنه مرّ في بعض أيامه بروض مفتر المباسم، معطر الرياح النواسم، فارتاح إلى الكون به بقيّة نهاره، والتّنعّم ببنفسجه وبهاره، فلمّا حصل من أنسه في وسط المدى، عمد إلى ورقة كرنب قد بلّلها النّدى، وكتب فيها بطرف غصن، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم أحد ندمائه، ونجوم سمائه (11): [مخلع البسيط]
أقبل (12) أبا طالب (13) إلينا ... واسقط (14) سقوط النّدى علينا
فنحن عقد بغير (15) وسطى ... ما لم تكن حاضرا لدينا
نثره: وهو أشفّ من شعره، وإنّه لطبقة تتقاصر عنها أفذاذ الكتاب، ونهاية من نهاية الآداب. قال (16): كان ليلة مع خواصّه للأنس معاطيا، ولمجلس كالشمس
__________
(1) في الحلة: «للملك».
(2) قلائد العقيان (ص 43) والحلة السيراء (ج 2ص 106) ونفح الطيب (ج 2ص 194).
(3) في الأصل: «في ظلّ»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(4) في الحلة: «عمّن».
(5) في الأصل: «ومن»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(6) في النفح: «ومن».
(7) في المصادر: «كان فدا من حضر».
(8) قلائد العقيان (ص 46).
(9) في القلائد: «الفقيه».
(10) في القلائد: «بن أبي أمية».
(11) البيتان أيضا في الذخيرة (ق 2ص 652) والمغرب (ج 1ص 365) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 185) ورايات المبرزين (ص 96) والحلة السيراء (ج 2ص 107) وفوات الوفيات (ج 3ص 156) ونفح الطيب (ج 5ص 294).
(12) في الذخيرة والمغرب وأعمال الأعلام والرايات والحلة والفوات: «انهض».
(13) في المغرب والفوات: «غانم».
(14) في القلائد: «وقع وقوع الندى».
(15) في المغرب والفوات: «من غير».
(16) النص في قلائد العقيان (ص 4645).(4/30)
واطيا، قد تفرّغ للسّرور، وتفرغ (1) عيشا كالأمل المزرور، والمنى قد أفصحت ورقها، وأومض برقها، والسّعد تطلع مخايله، والملك يبدو زهوه وتخايله، إذ ورد عليه كتاب بدخول أشبونة في طاعته، وانتظامها في سلك جماعته، فزاد في مسرّته، وبسط من أسرّته وأقبل على (2) خدّامه، وأسبل نداه على جلسائه وندّامه، فقال له ابن خيرة، وكان يدلّ بالشباب، وينزل منه منزلة الأحباب: لمن تولّيها، ومن يكون واليها؟ فقال (3) له: أنت، فقال: فاكتب الآن بذلك، فاستدعى (4) الدواة والرّق، وكتب وما جفّ له قلم، ولا توقّف له كلم: لم يسوّغ أولياء النّعم مثل الذي سوّغتموه من التزام الطاعة، والدخول في نهج الجماعة، وذلك (5) لا آلوكم، ونفسي فيكم، نصحا فيمن أتخيّره للنيابة عني في تدبيركم، والقيام بالدّقيق والجليل من أموركم، وقد ولّيت عليكم من لم أوثر والله فيه دواعي التّقريب، على بواعث التّجريب، ولا فوات التّخصيص، على لوازم التّمحيص، وهو الوزير القائد أبو عبد الله بن خيرة، ابني (6) دربة، وبعضي صحبة، ونشأتي سكّة (7) وقرية، وقد رسمت له من وجوه الذّبّ والحماية، ومعالم الرّفق والرّعاية، ما التزم الاستيفاء بعهده، والوقوف بجدّه عند حدّه، والمسؤول في عونه من لا عون إلّا من عنده، ولن أعرّفكم من حميد خصاله، وسديد فعاله إلّا بما سيبدو للعيان، ويزكو (8) مع الامتحان، ويفشو من قبلكم إن شاء الله على كل لسان. وقد حدّدت له أن يكون لناشئكم أبا ولكهلكم أخا ولذي النفوس (9) والكبرة ابنا ما أعنتموه على هذا المراد، ولزوم الجواد، وركوب الانقياد. وأمّا من شقّ العصا، وبان عن الطاعة وعصى (10)، وظهر منه المراد والهوى، فهو القصيّ منه، وإن متّ إليه بالرّحم الدّنيا، فكونوا خير رعيّة بالسمع والطاعة في جميع الأحوال، يكن لكم بالبرّ والموالاة خير وال، إن شاء الله عزّ وجلّ.
وصوله إلى غرناطة: وصلها صحبة حليفه ابن عباد، لمّا قبض يوسف بن تاشفين على صاحبها ونزل بالمشيجة من خارجها في رجب من عام ثلاثة وثمانين
__________
(1) في القلائد: «وتسوّغ».
(2) كلمة «على» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من القلائد.
(3) في القلائد: «فقال: لك. فقال: فاكتب لي بذلك».
(4) في القلائد: «فاستدنى».
(5) في القلائد: «ولذلك».
(6) في القلائد: «بن درية بعضي».
(7) في القلائد: «شبكة».
(8) في القلائد: «ويذكو».
(9) في القلائد: «التقويس».
(10) كلمة «وعصى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من القلائد.(4/31)
وأربعمائة ورابهما الأمر، كما تقدّم في ذكر المعتمد بن عباد، فتعجّلا الرجوع إلى وطنهما بحيلة دبّراها.
نكبته ووفاته: ولمّا اشتدّ خوفة من أمير لمتونة، ورأى أنه أسوة ابن عباد في الخلع عن ملكه، وضيّقت الخيل على أطرافه وانتزعتها داخل طاغية الرّوم، وملّكه من مدينة الأشبونة رغبة في دفاعه عنه، فاستوحشت لذلك رعيته، وراسلت اللّمتونيين، واقتحمت عليه مدينة بطليوس، واعتصم بالقصبة، وخانه المحاربة، فدخلت عليه عنوة، وتقبّض عليه وعلى بنيه وعبيده، وتحصّلوا في ثقاف قائد الجيش اللّمتوني.
وبادر إعلام الأمير سير بن أبي بكر، فلحق بها. واستخرج ما كان عند المتوكل من المال والذّخيرة، وأزعجه إلى إشبيلية مع ابنين له، فلمّا تجاوز وبعد عن حضرته، أنزل وقيل له: تأهّب للموت، فسأل أن يقدّم ابناه يحتسبهما عند الله، فكان ذلك، وقتلا صبرا بين يديه، ثم ضرب عنقه، وذلك صدر سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وانقرضت دولة بني الأفطس.
وممن رثاهم، فبلغ الأمد وفاء وشهرة وإجادة، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون بقصيدته الفريدة (1): [البسيط]
الدّهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصّور؟
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة (2) ... عن نومة بين ناب اللّيث والظّفر
فالدّهر (3) حرب وإن أبدى مسالمة ... والبيض والسّمر (4) مثل البيض والسّمر (5)
ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضّراب وبين الصّارم الذّكر
__________
(1) القصيدة في قلائد العقيان (ص 4037) والمطرب (ص 3327) والمعجب (ص 129 140). ووردت في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 189186) عدا الأبيات السبعة الأوائل.
ووردت في الذخيرة (ق 2ص 724721) وفوات الوفيات (ج 2ص 391388) غير كاملة. وورد فقط البيت الأول في نفح الطيب (ج 1ص 181) و (ج 6ص 3) و (ج 7ص 146). وورد في الذيل والتكملة (ج 5ص 467) فقط البيت السادس.
(2) في القلائد والفوات: «معذرة».
(3) في الفوات: «والدهر».
(4) في الفوات والمطرب والمعجب: «والسود». وفي الذخيرة: «والسود والبيض».
(5) البيض والسّمر: هي الأيام والليالي. والبيض والسّمر: هي السيوف والرماح.(4/32)
فلا تغرّنك (1) من دنياك نومتها ... فما صناعة (2) عينيها سوى السّهر
ما للّيالي، أقال الله عثرتنا ... من اللّيالي وخانتها (3) يد الغير
في كلّ حين لها في كل جارحة ... منّا جراح وإن زاغت عن البصر (4)
تسرّ بالشيء لكن كي تغرّ به (5) ... كالأيم (6) ثار إلى الجاني من الزّهر
كم دولة وليت بالنّصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
هوت بدارا وفلّت غرب قاتله ... وكان (7) عضبا على الأملاك ذا أثر (8)
واسترجعت من بني ساسان (9) ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت (10) أختها طسما وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقض (11) المرر (12)
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
__________
(1) في القلائد والفوات والمطرب: «يغرّنك».
(2) في الذخيرة: «سجيّة».
(3) في الفوات «وغالتها».
(4) في المطرب والمعجب: «النظر».
(5) في الأصل: «لكن تغرّبه»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا، والتصويب من المصادر.
(6) الأيم: الحيّة.
(7) في الأصل: «وكانت غصبا»، وكذا لا يستقيم الوزن، والتصويب من المصادر.
(8) دارا: أحد ملوك الفرس، حكم ثلاثين سنة ثم قتله الإسكندر. والعضب: السيف. والأملاك:
جمع ملك. والأثر: فرند السيف.
(9) بنو ساسان: الأكاسرة من ملوك فارس، حكموها حتى الفتح العربي.
(10) في المعجب: «وألحقت».
(11) في الأصل: «ناقص»، والتصويب من الذخيرة والمطرب والمعجب والفوات. وفي القلائد:
«ناقف».
(12) في الفوات: «المدر». وأخت طسم: جديس. وجديس وطسم وعاد: قبائل عربية بائدة.
وجرهم: قبيلة أذهب الله ريحها. وناقض المرر: هو الدهر لأنه لا يدع قوة على قوته.(4/33)
ومزّقت سبأ في كلّ قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر
وأنفذت في كليب حكمها (1) ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر (2)
ولم تردّ (3) على الضّلّيل صحّته ... ولا ثنت أسدا عن ربّها حجر
ودوّخت آل ذبيان وإخواتهم (4) ... عبسا (5) وعضّت (6) بني بدر على النهر (7)
وألحقت بعديّ بالعراق (8) على ... يد ابنه أحمر (9) العينين والشّعر (10)
وأهلكت أبرويزا بابنه ورمت ... بيزد جرد إلى مرو فلم يحر
وأشرفت بخبيب فوق فارعة (11) ... وألصقت (12) طلحة الفيّاض بالعفر
ومزّقت (13) جعفرا بالبيض واختلست ... من غيله حمزة الظّلام للجزر
__________
(1) في فوات الوفيات: «كلمها».
(2) كليب: هو كليب بن ربيعة. ومهلهل: هو الحارث بن ربيعة، أخو كليب، لقّب بذلك لأنه أول من هلهل الشّعر، أي رقّقه.
(3) في الذخيرة: «وما أعادت على الظّلّيل». والظّلّيل: هو امرؤ القيس، أسماه هكذا إشارة منه إلى أنه مات مسموما.
(4) في الذخيرة وأعمال الأعلام والفوات: «وجيرتهم».
(5) في المصادر السابقة: «لخما».
(6) في المعجب وأعمال الأعلام: «وغصّت».
(7) ذبيان وعبس أخوان، كانت بينهما حرب داحس والغبراء التي دامت أربعين سنة. وبنو بدر: بطن من ذبيان.
(8) في المطرب: «في العراق».
(9) في المطرب: «الأحمر».
(10) أحمر العينين والشّعر: هو النعمان بن المنذر، صاحب النابغة الذبياني. وعديّ: هو عديّ بن زيد، الشاعر النصراني.
(11) في الأصل: «بحبيب فوق قارعة»، والتصويب من القلائد والمعجب والمطرب. ويشير هنا إلى مصرع خبيب بن عديّ الأنصاري.
(12) في الأصل: «وألحقت»، والتصويب من المصادر السابقة.
(13) في الفوات: «ومرّغت جمهرة الظلام للجزر».(4/34)
وبلّغت يزدجرد الصّين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع التّرك والخزر
ولم تردّ (1) مواضي رستم وقنا ... ذي حاجب عنه سعدا (2) في ابنة الغير
وخضّبت (3) شيب عثمان دما وخطت ... إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وما (4) رعت لأبي اليقظان صحبته ... ولم تزوّده إلّا الضّيح في الغمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليّا بمن شاءت من البشر
وفي ابن (5) هند وفي ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة (6) الألباب والفكر
فبعضنا قائل: ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
وعمّمت (7) بالرّدى (8) فودي أبي أنس ... ولم تردّ الرّدى عنه قنا زفر (9)
وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر
__________
(1) في الذخيرة والفوات والمطرب: «تكفّ».
(2) في القلائد: «سمعا».
(3) في أعمال الأعلام: «وخاضبت».
(4) في المصادر كلها: «ولا».
(5) ابن هند: هو معاوية بن أبي سفيان، أمّه هند بنت عتبة بن ربيعة.
(6) في المطرب: «بمذهلة».
(7) في الأصل: «وعمّت» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصادر.
(8) في كل المصادر: «بالظّبا».
(9) أبو أنس: هو الضحاك بن قيس الفهري. وزفر: هو ابن الحارث، كان مع الضحاك في معركة مرج راهط لحرب مروان بن الحكم، وفيها قتل الضحاك.(4/35)
وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة ... كانت بها مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان ابن الزّبير ولا ... راعت (1) عياذته بالبيت (2) والحجر
ولم تدع لأبي الذّبّان (3) قاضبه (4) ... ليس اللّطيم (5) لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
حبابة حبّ رمّان ألمّ بها (6) ... وأحمر قطّرته نفحة القطر
ولم تعد قضب السّفّاح نابية ... على رأس مروان أو أشياعه الفجر
وأسبلت دمعة الروح الأمين على ... دم يثجّ (7) لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفرا والفضل ينظره ... والشيخ يحيي بريق الصّارم الذّكر (8)
وأخفرت في الأمين العهد وانتدبت ... لجعفر بابنه والأعبد (9) الغدر
__________
(1) في القلائد والفوات والذخيرة والمطرب: «رعت».
(2) في المطرب: «بالرّكن».
(3) في الأصل: «الزّيّان»، والتصويب من المصادر. وأبو الذّبّان: هو عبد الملك بن مروان.
(4) في الذخيرة: «ماضية». وفي المطرب والفوات: «قائمة». والقاضب: «السيف».
(5) اللطيم: هو عمرو بن سعيد بن العاص.
(6) في المعجب والمطرب: «أتيح لها». وحبابة: جارية مغنية كانت ليزيد بن عبد الملك، ماتت لشرقها بحبة رمّان.
(7) في الفوات والمطرب والمعجب وأعمال الأعلام: «بفخّ».
(8) في المطرب: «بكأس الصاب والصبر».
(9) في الأصل: «بالأعبد» والتصويب من المصادر.(4/36)
وروّعت كلّ مأمون ومؤتمن ... وأسلمت (1) كلّ منصور ومنتصر
وأعثرت آل عبّاس لعا لهم ... بذيل زبّاء (2) من بيض ومن سمر
ولا (3) وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكّد للمعتزّ من مرر
وأوثقت في عراها كلّ معتمد ... وأشرقت بقذاها كلّ مقتدر
بني المظفر والأيام ما برحت (4) ... مراحلا (5) والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما وما (6) حملت ... بمثله ليلة في سالف (7) العمر
من للأسرّة أو من للأعنّة أو ... من للأسنّة يهديها إلى الثّغر
من لليراعة أو من للبراعة أو ... من للسّماحة أو للنّفع والضّرر
من للظّبا وعوالي الخطّ قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعيّ والحصر
وطوّقت (8) بالمنايا السّود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر (9)
__________
(1) في أعمال الأعلام: «وصمّمت».
(2) في الذخيرة: «ربّاء»، وفي المطرب: «ريّاء»، وفي المعجب: «زبّاء لم تنفر من الذّعر».
(3) في الذخيرة: «وما».
(4) في المعجب: «لا نزلت».
(5) في الأصل: «مراحل» والتصويب من الذخيرة والقلائد وأعمال الأعلام والمطرب.
(6) في كل المصادر: «ولا».
(7) في الذخيرة والقلائد: «مقبل». وفي المطرب والمعجب: «غابر».
(8) في المطرب: «وطرّزت».
(9) في المطرب والمعجب: «الذكر».(4/37)
أو رفع كارثة أو دفع حادثة ... أو قمع آزفة تعيي على القدر (1)
ويح السّماح وويح الجود (2) لو سلما ... وحسرة الدّين والدّنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعباس هامية ... تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى (3) النّسران حيث رقوا ... وكلّ ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا ... عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
ومرّ من كلّ شيء فيه أطيبه ... حتى التمتّع بالآصال والبكر
من للجلال (4) الذي عمّت مهابته ... قلوبنا وعيون الأنجم الزّهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عزّ ومن ظفر
أين الوفاء (5) الذي أصفو شرائعه ... فلم يرد أحد منهم (6) على كدر
كانوا رواسي أرض الله مذ نأوا (7) ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
__________
(1) رواية هذا البيت في المصادر المذكورة جاءت مختلفة عمّا هنا، فلتنظر.
(2) في القلائد والمطرب وأعمال الأعلام: «البأس».
(3) في الذخيرة: «رقى».
(4) في المطرب والفوات والمعجب: «أين الجلال الذي غضّت».
(5) في فوات الوفيات: «الرواء».
(6) في الذخيرة والفوات والمطرب والمعجب: «منها».
(7) في المعجب: «مضوا».(4/38)
كانوا مصابيحها دهرا فمذ خبوا ... هذي الخليقة تالله في سدر (1)
كانوا شجى الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد في خطا الخضر (2)
من لي (3) ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضي إلى سحر
من لي ولا من بهم إن طبّقت (4) محن ... ولم يكن وردها (5) يفضي (6) إلى صدر
من لي (7) ولا من بهم إن عطّلت سنن ... وأخفيت ألسن الآثار (8) والسّير
ويلمّه من طلوب الثأر مدركه ... لو كان دينا على الأيام ذي عسر (9)
على الفضائل إلّا الصّبر بعدهم ... تسليم (10) مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها طمع (11) ... والدّهر ذو عقب شتّى وذو غير
__________
(1) رواية هذا البيت جاءت في القلائد والمطرب والمعجب مختلفة عما هنا، فلتنظر.
(2) في المطرب: «الخطر»، وفي المعجب: «الحضر».
(3) في المطرب: «من لي ومن لهم إن». وفي القلائد: «من لي ومن بهم إن».
(4) في القلائد: «من لي ومن بهم إن أطنبت محن». وفي المطرب: «من لي ومن لهم إن أطبقت». وفي المعجب: «أطبقت» بدلا من «طبّقت». وفي أعمال الأعلام: «أعضلت» بدلا من «طبّقت».
(5) في الأصل: «ورودها» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(6) في المطرب وأعمال الأعلام والمعجب: «يدعو».
(7) في المطرب: «من لي ومن لهم إن». وفي أعمال الأعلام: «من لي ولا من لهم إن
وأخفتت ألسن». وفي القلائد: «من لي ومن بهم إن وأخفتت السن».
(8) في الذخيرة: «الأيام والبشر».
(9) رواية عجز البيت في المعجب هي:
منهم بأسد سراة في الوغى صبر
وفي المطرب:
منهم بأسد سواهم في الوغى صبر
(10) في كل المصادر: «سلام».
(11) في المعجب والمطرب والذخيرة: «أمل».(4/39)
قرّطت آذان من فيها بفاضحة ... على الحسان حصا الياقوت والدّرر
سيّارة في أقاصي الأرض قاطعة ... شقاشقا هدرت (1) في البدو والحضر
مطاعة الأمر في الألباب (2) قاضية ... من المسامع ما لم يقض من وطر
ومن الغرباء
عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن (3)
الدّائل بتلمسان، يكنى أبا سعيد.
حاله: كان شيخا مخيلا بسمة الخير، متظاهرا بالنّسف، بقية آل زيّان، متقدّما في باب الدهاء والذّكر، بالغا أقصى المبالغ في ذلك. سكن غرناطة ووادي آش، وولد بغرناطة. وكان أبوه ممن هلك في وقعة فرتونة، فارتزق مع الجند الغربي بديوانها في حجر أبيه وبعده، ثم ثنى عنانه إلى وطنه، وتخطّته المتالف عند تغلّب السلطان صاحب المغرب على بلده تلمسان، وغاص في عرض من تهنّأ الإبقاء من قبيله. وكان ممن شمله حصار الجزيرة، ووصل قبله ممدّا مع الجيش الغربي بجيش غرناطة عند منازلة القلعة. ولمّا جرت على واترهم السلطان أبي الحسن الهزيمة بظاهر القيروان، وبعد الطمع في انتشاله وجبره، ولحق كل بوطنه، حوم الفلّ من بني زيّان على ضعفهم، ومذ رحل عنه السلطان القائم بملك المغرب أبو عنان، إلى محل الأمر ودار الملك، وسدّ تلمسان بشيخ من قبيلهم يعرف بابن حرار له شهرة وانتفاخ لتنسيق رياح الاختلاف، فذ في إدارة الحيلة، وإحالة قداح السياسة، رأس الرّكب الحجازي غير ما مرة، وحلّ من الملوك ألطف محلّة. ولمّا نهد القوم إلى تلمسان، ناهضهم ابن الحرار بمن استركب من جنده، وانضمّ إليه من قومه، فدارت عليهم الهزيمة، وأحيط به، فتملّك البلد، وتحصّل في الثّقاف، إلى أن هلك به مغتالا، واستولى عثمان بن يحيى على المدينة، وانقاد إليه ما يرجع إليها من البلاد والقبائل، فثاب لهم ملك لم
__________
(1) في الأصل: «هذرت» بالذال المعجمة، والتصويب من المطرب والمعجب.
(2) في الأصل: «الباب» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المطرب والمعجب.
(3) ترجمة عثمان بن عبد الرحمن في نفح الطيب (ج 7ص 207) والأعلام (ج 4ص 208).(4/40)
تكد شعلته تقد حتى خبت، وعلى ذلك فبلغوا في الزمان القريب من وفور العدّة، واستجادة الآلة، وحسن السّيرة، ما يقضي منه العجب. وانفرد عثمان بالأمر، وعيّن أخاه أبا ثابت الزعيم إلى إمارة الجيش، فاستقام الصفّ، وانضمّ النّشر، وترتّبت الألقاب، واستأنفوا الدولة، وتلقّفوا الكرة، وقلّ ما أدبر شيء فأقبل. وبادر السلطان بالأندلس مفاتحته مهنّئا، وللحلف مجدّدا، بكتاب من إنشائي من فصوله:
«بعد الصّدر والتحميد، ولا زائد بفضل الله المرجو في الشّدائد، لجميل العوائد، إلّا ما شرح الصدور، وأكّد السرور، وبسط النفوس، وأضحك الرّسن العبوس، من اتّساق أمور ذلك الملك لديكم، واجتماع كلمته عليكم، وما تعرّفنا أن الدولة الزّيانيّة، وصل الله لبدورها استئناف الكمال، وأعلى أعلامها في هضاب اليمن والإقبال، تذكّرت الرسائل القديمة والأذمّة، وألقت إلى قومها بالأزمّة، وحنّت إلى عهدهم على طول النّوى، وأنشد لسان حالها: «نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى»، فأصبح شتيتك بأهلها مجموعا، وعلم عليائها بأيدي أوليائها مرفوعا، وملابس اعتزازها بعد ابتزازها جديدة، وظلال سعودها على أغوارها ونجودها مديدة، وقبيلها قد أنجح الله في ائتلافه أمل الآمل، ومبتداها مرفوعا مع وجود العوامل، والكثير من أوطانها قد سلكت مسلكها في الطاعة، وتبادرت إلى استباق فضيلة الوفاق بحسب الاستطاعة، فعظم الاستبشار بأن كان لكم مالها، وفي إيالتكم انتيالها، من غير أن يعلق بأسبابها من ليس من أربابها، ويطمع في اكتسابها من لم يكن في حسابها. وقلنا موارث وجب، وعاصب حجب، وركب علج من بعد القفول، وشمس طلعت من بعد الأفول، وجيد حلّي بعد ما اشتكى العطل، وغريم قضى بعد ما مطل، وطرف تنبّه بعد ما سجع، ودرّيّ استقام سيره عقب ما رجع، وقضية انصرف دليلها عن حدود القواطع، وطرحت عليه أشعة السّعود السّواطع، لا بل عبد أبق، لقدر سبق، حتى إذا راجع نهاه، وعذله العقل ونهاه، جنح بعد هجره، إلى كنف من نشأ في حجره.
وعلمنا أن الدولة التي عرفنا مكارمها قد دالت، والغمامة التي شكرنا مواقعها قد انثالت، فجرينا في المسرّة ملء الأعنّة، وشاركنا في شكر هذه المنّة، وأصدرنا إليكم هذا الخطاب مهنّئا، وعن الود الكريم والولاء الصّميم منبيا، وفي تعزيز ما بين الأسلاف جدّد الله عليهم ملابس الرّضوان معيدا مبديا، وإن تأخّر منه الغرض، وقضى بهذا العهد واجبه المفترض، والأعذار واضحة، وأدلّتها راجحة، وللضّرار أحكام تمضى، والفروض للفوات تقضى، فكيف والاعتقاد الجميل مسيّر مسكّن، والوقت والحمد لله متمكن؟ وما برحنا في مناط اجتهاد، وترجيح استشهاد، والأخبار يضطرد مفهومها، والألفاظ لا يتخصّص عمومها، والأحاديث يجول في متعارضها النّظر، ولا(4/41)
يلزم العمل ما لم يصحّ الخبر. فلمّا تحققنا الأمر من قصّه، وتعاضد قياسه بنصّه، لم نقدّم على المبادرة عملا، وبيّنا لكم من حسن اعتقادنا ما كان مجملا، فليهن تلك الإيالة ما استأنفته من شبابها، وتسربلته من جديد أثوابها، وليستقبل العيش خضرا، والدهر معتذرا، والسّعد مسفرا».
وتمادى ملكه من الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى أن استوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان، واستأثر إليه أبيّه، وتحرك إلى منازلة تلمسان في جمادى الآخرة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وكسر جمعهم، واستولى على ملكهم حسبما يأتي، وبرز إليه سلطانها المذكور مؤثرا الإصحار على الاجتحار، واللقاء على الانحصار، وكانت بين الفريقين حرب ضروس، ناشب الزّيّانيون محلّات المغرب القتال، بموضع يعرف بإنكاد، على حين غفلة، وبين يدي شروع في تنقّل وسكون، وتفرّق من الحامية في ارتياد الخلا، وابتغاء الماء، فلم يرع إلّا إطلال الرّايات، وطلوع نواصي الخيل، فوقع الصراخ، وعلا النّداء، وارتفع القتام، وبادر السلطان بمن معه من الخالصة، وروّم الركاب الصّدمة، ومضى قدما، وقد طاش الخبر بهزيمته، فعاثت العربان في محلّته، وكانوا على الأموال أعدى من عدوّه، وفرّ الكثير إلى جهة المغرب بسوء الأحدوثة.
ولمّا تقاربت الوجوه، وصدق المصاع، قذف الله في قلوب الزيّانيين الرّعب، واستولى عليهم الإدبار، فانهزموا أقبح هزيمة، وتفرّقوا شذر مذر، واختفى سلطانهم عثمان المترجم به، وذهب متنكرا وقد ترجّل، فعثر عليه من الغد، وأوتي به فشدّ وثاقه، وأسرع السلطان اللّحاق بتلمسان، وقد تلقّاه أهلها معلنين بطاعته ولائذين بجناب عفوه، وتنكّبها الجيش المفلول لنظر الأمير أبي ثابت، فاستقرّ بأحواز جزائر بني مزغناي. ودخل السلطان تلمسان في يوم الأحد الحادي عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وتدامر بنومرين، واستدركوا دحض الوصمة في اتّباع أضدادهم المحروبين، فكان اللقاء بينهم وبين الجيش المفلول، وحكم الله باستئصالهم، فمضى عليهم السيف، وأوتي بزعيمهم الزعيم، فاحتمل مع أخيه في لمّة من أوليائهم، ونفذ الأمر لأقتالهم من بني حرار بأخذ حقهم، فقتل عثمان والزّعيم، رحمهما الله، بخارج تلمسان ذبحا، وألحق بهما عميد الدّولة يحيى بن داود بعد أن استحضر عثمان بين يدي السلطان، وأسمع تأنيبا، حسن عنه جوابه بما دلّ على ثبات وصبر. وانقضى أمر كرّتهم الثانية، وخلت منهم الأوطان، وخلصت لبني مرين الجهة، وصفت العمالة. والله يعطي ملكه من شاء سبحانه لا إله إلّا هو، وكان مقتل عثمان وأخيه في أوائل شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة.(4/42)
علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله ابن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن علي ابن أبي طالب (1)
أوّل ملوك (2) بني هاشم بالأندلس، يكنّى أبا الحسن، ويلقّب من الألقاب السلطانية، بالناصر لدين الله.
حاله: كان شهما لبيبا، جريء اللقاء، باطش السّيف، شديد السّطوة، أسمر، أعين، نحيف الجسم، طويل القامة، حادّ الذهن، من أولي الحزم والعزم.
خلافته: ذكروا (3) أن هشام بن الحكم (4)، لمّا ضيّق به الحجر، كتب إليه في السّرّ بعهد ولايته، وأهّله للأخذ بثأره، فكان كذلك، وأجاز البحر من سبتة، مظهرا القيام بنصر هشام عندما خلع، فانحاش إليه كثير من الناس، وقصد قرطبة، وبرز إليه الخليفة سليمان خالع هشام ومغتاله، فظهر عليه علي بن حمّود وهزمه، ودخل قرطبة، فقتل سليمان، وبحث عن هشام، وقد فات فيه الأمر، وتسمّى بأمير المؤمنين. وأنس به أهل قرطبة لقهره من كان لنظره من البرابرة، وإمضاء الأحكام عليهم. قال المؤرخ: فبرقت للعدل يومئذ بارقة، لم تكد تقد حتى خبت. وكان الأغلب عليه السّخاء والشجاعة.
ومدحه الكثير من الشعراء، منهم أبو عمر بن درّاج، وفيه يقول (5):
[المتقارب]
لعلّك يا شمس عند الأصيل ... شجيت (6) بشجو (7) الغريب الذّليل
__________
(1) ترجمة علي بن حمود في الذخيرة (ق 1ص 37، 96) والبيان المغرب (ج 3ص 113، 119) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 121، 128) وكتاب العبر (م 4ص 328، 330)، وجذوة المقتبس (ص 22) وبغية الملتمس (ص 27) والكامل في التاريخ (ج 9ص 269) والمعجب (ص 90، 98) وسير أعلام النبلاء (ج 17ص 135، 280) والمختصر في أخبار البشر (ج 2ص 145) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 1ص 495).
(2) لم يكن علي بن حمود ملكا، بل كان خليفة.
(3) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 121120).
(4) هو هشام بن الحكم المستنصر، المعروف بهشام المؤيّد بالله.
(5) الأبيات في ديوان ابن دراج القسطلي (ص 7675، 79) والبيان المغرب (ج 3ص 124).
(6) في الأصل: «تحنّ»، والتصويب من المصدرين.
(7) في الديوان: «لشجو».(4/43)
فكوني شفيعي إلى ابن الشّفيع ... وكوني رسولي إلى ابن الرسول
فإمّا شهدت فأزكى شهيد ... وإمّا دللت فأهدى دليل
إلى الهاشميّ إلى الطّالبيّ ... إلى الفاطميّ العطوف الوصول
وصوله إلى إلبيرة: قال: ولمّا استوسق الأمر، واضطرب عليه خيران صاحب ألمرية، أغراه وأذن لحربه، فخرج من قرطبة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة من سنة ثمان وأربعمائة، وساء إلى أن بلغ وادي آش، وترادفت عليه الأمطار والسّيول، وانصرف إلى إلبيرة ثم إلى قرطبة.
وفاته: قال المؤرخ: وفي (1) سنة ثمان وأربعمائة كان مقتل علي بن حمّود، وذلك أن صقالبته قتلوه بموضع أمنه، في حمام قصره، وكانوا ثلاثة من أغمار صبيان قصره، منهم نجح (2) وصاحباه، وسدّوا باب الحمّام عليه، وتسلّلوا، ولم يحسّ أحد بهم، واستطال نساؤه بقاءه، فدخلوا عليه، ودمه يسيل، فصحّ خبر مقتله، وبعثت زناتة إلى أخيه (3) بإشبيلية، فخاف (4) أن تكون (5) حيلة، حتى كشف عن الأمر، ولحق بقرطبة، فأخرج جسده، وصلّى عليه، وأنفذه إلى سبتة، فدفن بها، وبني عليه مسجد هو الآن بسوق الكتان، وقبض من قاتليه على صبيّين عذّبا بأنواع العذاب، ثم قتلا وصلبا (6).
علي بن يوسف بن تاشفين بن ترجوت (7)
وينظر اتصال نسبه في اسم أبيه.
هو أمير المسلمين بالعدوة والأندلس بعد أبيه، يكنى أبا الحسن، تصيّر إليه الملك بالعهد من أبيه عام سبعة وتسعين وأربعمائة، ثم ولّي أمره يوم وفاته وهو يوم الاثنين مستهل محرم عام خمسمائة (8).
__________
(1) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 122).
(2) في البيان المغرب: «منجح».
(3) أخوه: هو القاسم بن حمود.
(4) الضمير يعود إلى أخيه القاسم.
(5) في الأصل: «يكون» والتصويب من البيان المغرب.
(6) في البيان المغرب: «وصلبا على جسر قرطبة».
(7) في الأصل: «تومرت»، وقد صوّبناه من البيان المغرب (ج 4ص 46). وترجمة علي بن يوسف بن تاشفين في المعجب (ص 235) والمغرب (ج 2ص 438) والحلل الموشية (ص 61) ووفيات الأعيان (ج 5ص 480) والبيان المغرب (ج 4ص 48) ورايات المبرزين (ص 204) وجذوة الاقتباس (ص 291).
(8) في الحلل الموشية (ص 67): مات يوسف بن تاشفين في شهر ربيع الآخر سنة 500هـ.(4/44)
حاله: وكان ملكا عظيما، عالي الهمة، رفيع القدر، فسيح المعرفة، شهير الحلم، عظيم السياسة، أنفذ الحق، واستظهر بالأزكياء، ووالى الغزو، وسدّ الثغور، إلى أن دهمه من أمر الدولة الموحدية ما دهمه، وكل شيء إلى مدى، فأمهل السّرح، وحالف الإدبار، وجاز إلى الأندلس، وغزا فيها بنفسه، ودخل غرناطة وباشرها.
قال ابن عذاري: تقدم الأمير أبو الحسن لذلك فاستعان بالله واستنجده وسأله حسن الكفاية فيما قلّده، فوجده ملكا مؤسّسا، وجندا مجنّدا، وسلطانا قاهرا، ومالا وافرا، فاقتفى إثر أبيه، وسلك سبيله في عضد الحق، وإنصاف المظلوم، وأمن الخائف، وقمع المظالم، وسدّ الثغور، ونكاية العدو، فلم يعدم التوفيق في أعماله، والتسديد في حسن أفعاله.
دخوله غرناطة: وفي سنة خمس وخمسمائة، جاز البحر إلى الجهاد. قال المؤرخ: قدم علي بن يوسف غرناطة مرات مع أبيه. وفي سنة خمس وخمسمائة تلوّم بها ريثما تلاحقت حشوده، وتأهبت مطوّعته وجنوده، فافتتح مدينة طلبيرة عنوة (1). ثم عبر البحر عام أحد عشر وخمسمائة، فغزا قلمرية (2).
ظهور الموحدين في أيامه:
قال ابن عذاري: في (3) سنة أربع عشرة وخمسمائة، كان ابتداء أمر الثائر على الدولة، الجالب للفتن الجمة، الجارّ لها منذ ثلاثين سنة، حتى أقفر المعمور، وأصار الضياء كالديجور، محمد بن تومرت السوسي الملقّب بالمهدي. قلت: وأخباره عجيبة، وما زال أمره في ظهور، وأمر هذه الدولة في ثبار وإدبار، إلى أن محا رسومها، وقطع دابرها، والملك لله، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، سبحانه.
وفاته: قال: وفي (4) سنة سبع وثلاثين وخمسمائة (5) توفي أمير المسلمين علي بن يوسف، لسبع خلون من رجب، ولم يشهر موته إلّا لخمس خلون من
__________
(1) في البيان المغرب (ج 4ص 52): في سنة 503هـ تحرّك علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش إلى الأندلس، ثم يمّم غرناطة وتلوّم بها، ثم دخل مدينة طلبيرة ووقع النهب بها.
(2) في الأصل: «قولمرية»، والتصويب من البيان المغرب (ج 4ص 64). وفي الحلل الموشية:
«قلمريت». وقلمرية: بالإسبانية، وهي مدينة من بلاد البرتغال. الروض المعطار (ص 471).
(3) قارن بالبيان المغرب (ج 4ص 6059).
(4) قارن بالبيان المغرب (ج 4ص 101100).
(5) في جذوة الاقتباس (ص 291): توفي سنة 539هـ.(4/45)
شوال، فكانت مدته من حين قدّمه أبوه، تسعا وثلاثين سنة وأشهرا (1)، وعمره إحدى وستون سنة. قال ابن حماد: ولمّا يئس من نفسه، عهد أن يدفن بين قبور المسلمين، ودفن بها في جملتهم، رحمه الله.
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
عتيق بن زكريا بن مول التجيبي (2)
قرطبي الأصل، يمتّ إلى الإمارة النّصرية بقربى صهر، يكنى أبا بكر.
حاله: كان شهما جريّا مقداما، جهوريا، ذا أنفه وشارة، مليح التجنّد، ظاهر الرّجولية، معروف الحق، نبيه الولاية، فصيح اللسان، مطبوعا، ذكيّا، مؤثرا للفكاهة، ولّي القيادة بمدينة وادي آش عقب الرئيس المنتزي بها، ثم عزل عنها بسعاية رفعت فيه إلى ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الحكيم، فساء ما بينهما لذلك، وأعمل عليه التدبير بمداخلة الأمير نصر، وإغرائه بالأمر، فتمّ له التّوثّب على ملك أخيه، وخلعه يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة. وقتل الوزير ابن الحكيم بين يديه، وانتهبت منازله، واستقلّ بعد بالتدبير والوزارة، وحصل من صنائع الحائن، ومتوقّعي الضغط، على مال عريض، وقام بوظيف الوزارة محذور الشبا، مرهوب المدية، مسنوّ الفتكة، فلم ينشب أن عيّن للرسالة إلى باب السلطان ملك المغرب، وسدّ باب الإياب لوجهته، وأقام بالعدوة تحت الحظوة، مشارا إليه في وجوه الدولة، وزير المداخلة والرّتبة. وقد كان في ريان حداثته لحق بطاغية الرّوم، وركب في جملته، وعلقته جارية من بنات زعماء الروم، لفضل جماله، وزين شبيبته، ففرّ بها تحت حماية سيفه، ولحق ببلاد المسلمين، وكانت من أهل الأصالة والجمال، فاتصل بمحلة أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، وقد جاز إلى الأندلس غازيا، فاستخلصت منه لمزية الحسن، واستقرّت بقصر السلطان حظيّة لطيفة المحل، وجدّ أثر رفدها وانتفع، هو وبنوه بعائد جاهها، وقد هلك السلطان.
وقامت لمن خلفه مقام الأمومة، فنالوا بها دنيا عريضة، وباشر بالمغرب أهوالا، وخاض في فتن إلى أن أسنّ، وقيّدته الكبرة، واستولت على بصره الزمانة. ولما
__________
(1) في البيان المغرب: «وسبعة أشهر، وقيل: وتسعة أشهر».
(2) ورد اسمه في اللمحة البدرية (ص 7170) هكذا: «الوزير القائد أبو بكر عتيق بن محمد بن المول، الشّهم النّجد، وبيت بني مول بقرطبة بيت أصالة».(4/46)
ولّي الوزارة ولده على عهد سادس الأمراء من بني نصر (1) استقدمه في ربيع الثاني من عام تسعة وعشرين وسبعمائة، فقدم شيخا قد استثنى أديمه واحقوقب، ومسحة الظّرف واللوذعية تتعلق منه بطلل بائد. ثم اقتضى تقلّص ظل الولاية عن ولده انصراف جميعهم إلى العدوة، فكان ذلك في رجب أو أول شعبان من العام، وبها هلك.
وفاته: توفي بمدينة فاس رابع محرم عام ثلاثين وسبعمائة. وكان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر: [الطويل]
نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا ... فأنزلني نصحي بدار هوان
فإن عشت لم أنصح وإن متّ فالعنوا ... دون النصح من بعدي بكل لسان
أخبرني بذلك شيخنا أبو الحسن بن الجياب وغيره.
عمر بن يحيى بن محلّى البطّوي
يكنى أبا علي.
حاله: كان يمتّ إلى السلطان ملك المغرب، رحمه الله، بالخؤولة، وله جرأة وجرم واضطلاع بالمهمة، إلى نكراء وخفوف إلى الفتنة واستسهال العظيمة. ولمّا تصيرت مالقة (2) إلى إيالة السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق من قبل رؤسائها من بني إشقيلولة، استظهر عليها من عمر هذا بحجاج رجاله، وقدّمه بقصبتها، وجعل لنظره جيشا أخشن يقوده رجل من كبار وصفائه. وداخل السلطان ثاني (3) الملوك من آل نصر عمر بن محلّى هذا بوساطة أخيه طلحة السابق إلى إيالته، فأحكم بينهما صرف مالقة إليه، وانتقال عمر إلى خدمته، معوّضا عن ذلك بمال له بال، مسلّما إليه حصن شلوبانية، ولأخيه طلحة مدينة المنكب، على أرزاق مقررة، وأحوال مرتبة مقدرة، فتمّ ذلك، وتحمل ثقات السلطان بقصبة مالقة ليلا مع عمر، واستدعي للغداة قائد الجيش ومثله من الوجوه، موريا بمعارضتهم، فسقط الغشاء بهم
__________
(1) سادس سلاطين بني نصر هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، حكم غرناطة من سنة 725هـ إلى سنة 733هـ. وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة، وفي اللمحة البدرية (ص 90).
(2) قارن باللمحة البدرية (ص 5857).
(3) ثاني سلاطين بني نصر هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 708هـ. وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة وفي اللمحة البدرية (ص 50).(4/47)
على سرحان، وأخذهم اعتقاله رهينة استخلص بها من كان من عياله بالعدوة، وجاء بها جلواة عارية أعربت عن لؤمه وخبث أمانته، وانتقل له موفى له بعهده، فحل بحصن شلوبانية منتصف عام سبعة وستين وسبعمائة، حسبما كتب لي بعض الشّيوخ من مسنّي بقية أهله، واحتلّ أخوه طلحة بمدينة المنكب، ولم يلبث أن خرج عنها للسلطان معوضا بالمال، وأعمل الانصراف إلى الحج. وأقام عمر بشلوبانية وما يليها من العمالة، مظهرا للطاعة تمام العام المذكور، وفسد ما بينه وبين السلطان المذكور، وظهر الخلاف وأخيفت الطرق، وتحرك السلطان إلى منازلته لأشهر ثلاثة من خلافه، وحاصره أياما شدّ فيها مخنقه، فلمّا رأى عزمه، خاطب سلطانه الذي نزع عنه أمير المسلمين أبا يوسف، وعرض الحصن عليه، فبادر إليه بالأسطول، فلمّا احتل بمرسى حصنه واتصلت به يده ونشرت عنده بنوده، أفرج عنه السلطان، وانبت طمعه فيه، وصرف وجهه إلى حضرته، وبدا لعمر في أمره، فصرف الأسطول متعلّلا ببعض الأعذار، وأقام على سبيله، واتصل ذلك بالسلطان، فرتب عليه الحصن، وضيق السّبل، وتحرك في صائفة العام إلى منازلته في عدّة عظيمة، وحاصره ورماه بالمجانيق، وتتبع بها مجاثمه، فأعياه الصبر، وأعمل الحيلة بإظهار الإنابة، وعرض على السلطان التخلّي عن الحصن، وطلب منه أن يوجه لقبضه وزيره، وأحظى الرؤساء لديه، وصاحب بنده، فوجههم السلطان في طائفة من حاشيتهم، وقد أكمن لهم عمر بمعرجات الطريق، بين يدي باب القلعة، فلمّا توسطوا الكمناء، وبرز عمر ليسلم عليهم، ثار بهم رجاله الأساودة وغيرهم، وقبضوا عليهم بمرأى من السلطان، وأدخلوهم الحصن، وعاد السلطان إلى قتاله، فتوعد بقتلهم، وجعلهم بأعلى السور، ورمى عليه بحجر، فطرح أحدهم الحين، وعلا صراخهم يسترحمون السلطان، فكفّ عنه، وانصرف مكظوما. ولأيام وقعت المهادنة على تخلّيه عن شلوبانية في جملة شروط صعبة، منها العقد له على بنت السلطان المسماة بشمس، وانتقاله إلى مدينة المنكب، فتمّ ذلك في وسط ثمانية وستين بعده، وتمادت المهادنة شهورا أربعة، ثم ثاب خلافه، وضيقت عليه الحصص المرتّبة، وخرج للسلطان عن منكّب على مال وعهد، وصرف بعد وجهه إلى سلطانه، وتطارح عليه، وهو بجزيرة طريف، بعد أن أخذ أمانه، زعموا، وقد كان أخوه طلحة سبق إليه، فاعتقل يسيرا. ثم حلّ اعتقاله إيثارا للعفّة، ورعيا للمتات. ولمّا توفي السلطان أبو يوسف، اضطره حاله، وآل أمره إلى العود إلى الأندلس، وبها الأشياخ من بني عبد الله بن عبد الحق، مطالبو أبيه بدم عمّهم، سبقوا مقدمه على السلطان بإيعاز منه، وقد نزل بقرية أرملة (1) على وادي
__________
(1) أرملة: بالإسبانية، وهي إحدى قرى غرناطة وتقع على الضفة اليسرى لنهر شنيل.(4/48)
أفلم، واعتصم منهم ببرج، فقاتلوه واستنزلوه فقتلوه، فانقضى أمره على هذه الوتيرة، والبقاء لله سبحانه.
عامر بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق (1)
شيخ الغزاة بالأندلس، وابن شيخها، يكنى أبا ثابت، أجري مجرى الأصليين لولادته بالأندلس.
أوليته: تأتي في اسم أبيه.
حاله: كان رئيسا جليلا، فذّا في الكفاية والإدراك، نسيج وحده في الدّهاء والنّكراء، مشارا إليه في سعة الصدر، ووفور العقل، وانفساح الذّرع، وبعد الغور، باسلا مقداما، صعب الشّكيمة على الهمّة، لين الكلمة، ريّش جناح العزّ، وافر أسباب الرّئاسة، مجرّبا، محتنكا، عارفا بلسان قومه وأغراضهم، جاهلا جفوات أخلاقهم دبر أذنه، مهيبا على دماثة وإلحاح سقام. تولّى الأمر بعد أبيه، فقام به أحمد قيام، مسلّما لبقية من مسني القرابة وأكابر الإخوة، اعترافا بالفضل، وإيثارا لمزيّة العتاقة على الهجنة، فحلّ أرفع المحال، وتبنّك على حال الضّنا نعيما، وغزا غزوات شهيرة، إلى أن تناسى الأمر، وكبا بهم الجدّ، وحملهم قرب مخيفهم بالثّأر المنيم ملك المغرب، لما اقتحم فرضة المجاز إلى الجهاد على المبايتة ومراسلة الطاغية، فساءت القالة، وفسد ما بينهم وبين سلطانهم، وأعمل عليهم التدبير.
نكبته: ثبتّ في الكتاب المسمى ب «طرفة العصر»: ولما اتّصلت ليدي المسلمين، وفصل أميرهم من ملك المغرب، تنمّر أضدادهم المناوءون له، المعاندون قدرة الله فيه، المتهيّئون إلى القاصمة بمشاحنته، فأظهروا النّفور والحذر، وكانوا قد داخلوا ملك قشتالة وواعدوه اللحاق به، إن راعهم رائع، ووصلتهم مخاطبته بقبولهم، فلمّا تخلّف المسلمون عن اللحاق به، نسب لهم الفشل والتكاسل، فانطلقت الألسن، وملّت القلوب، وتشوّف إلى الفتك بهم، وهم عصابة بأسها شديد، أشهروا فروسية ونجدة وأتباعا، فعظم الخطب، وأعملت الشّورى في أمرهم، وصرفت الحيل إلى كف عاديتهم، ومعالجة أمرهم، فتمّ ذلك. ولما كان يوم السبت التاسع والعشرون من ربيع الأول، قعد لهم السلطان على عادته، ووجّه عنهم في غرض الاستشارة في حال السّفر إلى إمداد ملك المغرب، وقد عبر ونازل جزيرة طريف، وفاوضهم فيما عليه الناس من إنكار التّلوّم، ثم قام السلطان من
__________
(1) ترجمة عامر بن عثمان في اللمحة البدرية (ص 105).(4/49)
مجلسه، وثارت بهم الرجال، فأحيط بهم، ونزعت سيوفهم عن عواتقهم، وطارت الخيل في ضمّ من شذّ عنهم، فتقبّض على طائفة من أعلامهم، كانوا بين غرّ يباشر قنصا، أو مفلت لم يجد مهربا، وطارت الكتب إلى مالقة في شأن من بها منهم، فشملهم الاعتقال، ثم نقلوا إلى مدينة المنكب، فجعلوا في مطبق الأسرى بها، إبلاغا في النكال، وتناهيا في المثلة، فلم تجر عليهم مصيبة أعظم منها، لاضطرارهم إلى قضاء حاجة الإنسان برأي عين من أخيه، خطة خسف سئموها، مع العلم بنفور نفوسهم عن مثلها، وفيهم صدور البيت وأعلامه، كأبي ثابت المترجم به، وأخيه كبيره إبراهيم، وابن عمهم زين المواكب، وقريع السيوف، وعروس الخيل، حمّو بن عبد الله، وسواهم، وقانا الله شرّ الهلكات، واشرأب مخيفهم للسلطان صاحب المغرب، وولي الثّرة، إلى صرفهم إليه، وقد استوجب من ملك الأندلس الملاطفة لالتفاته لسيء البرد، واقتحامه باب القطر. وأخفق السعي، وضنّ بهم موقع النّقمة عن إسلامهم إليه، سيرة أحسنها في جنسهم من أولي الجهالف، فأجلاهم عما قريب في البحر إلى إفريقية، فاستقرّوا ببجاية، ثم استقدموا إلى تونس تحت إرصاد ورقبة، وأخفر فيهم ملكها الذّمة، وهم لديه، فوجّههم على بعد الدار، ونزوح المزار، إلى السلطان صاحب المغرب، مصحبين بشفاعة فيهم، كانت قصارى ما لديه، فاستقرّوا في الجملة تحت فلاح وكفاية، لا تلفت إليهم عين، ولا يتشبّث بذمل حظوتهم أمل. ثم نكبوا بظاهر سبتة نكبة ثقيلة البرك، مغارة البرك الحمل، وأودعوا شرّ السجون بمدينة مكناسة، فأصبحوا رهن قيود عديدة، ومسلحة مرتّبة، جرّ ذلك عليهم ذرّة من القول في باب طموحهم إلى الثورة، وعملهم على الانتزاء بسبتة، الله أعلم بحقّه من مينه. ولمّا صيّر الله ملك المغرب إلى السلطان، أمير المؤمنين أبي عنان، واضطره الحال إلى الاستظهار بمثلهم، انتشلهم من النكبة، وجبرهم بعد الصّدعة، وأعلق يد كبيرهم المترجم به بعروة العزّة، واستعان بآرائه على افتراع الهضبة، فألفى منه نقّابا قد هذّبته التجربة، وأرهفته المحنة، وأخلصته الصّنيعة، فسلّ منه سيفا على أعدائه، وزعموا أنه انقاد إلى هوى نفسه، واستفزّته قوة الثرّة، ولذّة التّشفي، وذهب إلى أن يكل للسلطان ناكبه المجاراة صاعا بصاع، فانتدب إلى ضبط ما بالأندلس من عمالة راجعة إلى ملك المغرب، فانقلب يجرّ وراءه الجيش، ويجنّب القوة، فقطع به عن أمله القاطع بالآمال، وأحانه الله ببعض مراحل طريقه مطعونا لطفا من الله به، وبمن استهدف إلى النّصب بمجادّته. وهو سبحانه مليء بالمغفرة عن المسرفين، سبحانه.
وفاته: في الأخريات من عام تسعة وأربعين وسبعمائة.(4/50)
علي بن بدر الدين بن موسى بن رحّو بن عبد الله ابن عبد الحق (1)
يكنى أبا الحسن.
حاله: هذا الرجل نسيج وحده في الفضل والتخلّق، والوفاء، ونصح الجيب، وسلامة الصدر، وحسن الخلق، راجح العقل، سريّ الهمّة، جميل اللقاء، رفيع البزّة، كريم الخصال، يكتب ويشعر، ويحفظ ويطالع غرائب الفنون، صادق الموقف، معروف البسالة، ملوكيّ الصّلات، غزل، كثير الفكاهة، على تيقور وحشمة، قدّمه السلطان شيخ الغزاة بمدينة وادي آش، فلما وقعت به المحنة، وركب الليل مفلتا إليها، اتّفق لقاؤه إياه صباحا على أميال منها، وجاء به، وأدخله المدينة على حين غفلة من أهلها، فاستقرّ بقصبتها وما كاد، وأخذ له صفقة أهلها، وشمّر في الذبّ عنه تشميرا نبا فيه سمعه عن المصانعة، ودهيه عن الجملة، وكفّه عن قبول الأعواض، فلم يلف فيه العدوّ مغمزا، ولا المكيدة معجما، ولا استأثر عنه بشيء ممّا لديه، إلى أن كان انتقال السلطان عنها إلى المغرب، فتبعه مشيّعا إلى مأمنه، فتركها غريبة في الوفاء، شاع خبرها وتعوطي حديثها، على حين نكر المعروف، وجحدت الحقوق، وأخوت بروق الأمل. ثم قلق المتغلّب على الدولة بمكانه، فصرفه إلى العدوة الغربية، فاستقرّت به الدار هنالك، في أوائل عام ثلاثة وستين أو أواخر العام قبله.
وخاطبته من مدينة سلا لمكان الودّ الذي بيني وبينه بما نصّه (2): [مخلع البسيط]
يا جملة الفضل والوفاء ... ما بمعاليك من خفاء
عندي بالودّ فيك عقد ... صحّفه (3) الدّهر باكتفاء
ما كنت أقضي علاك (4) حقّا ... لو جئت مدحا بكلّ فاء
فأول وجه القبول عذري ... وجنّب (5) الشّكّ في صفاء
__________
(1) ترجمة ابن عبد الحق في نفح الطيب (ج 8ص 304).
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 304).
(3) في الأصل: «صحّحه» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «حلاك».
(5) في النفح: «وحسبك الشّكّ».(4/51)
سيدي (1)، الذي هو فضل (2) جنسه، ومزيّة يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من الله (3) ببدره افتخر منه بشمسه، رحلت عن (4) المنشإ والقرارة (5)، ومحلّ الصّبوة والغرارة (6)، فلم تتعلّق نفسي بذخيرة، ولا عهد حيرة (7) خيرة، كتعلّقها بتلك الذات التي لطفت لطافة الرّاح، واشتملت بالمجد الصّراح، شفقة أن تصيبها معرّة (8) والله تعالى (9) يقيها، ويحفظها ويبقيها، إذ الفضائل في الأزمان الرّذلة غوائل (10)، والضّدّ منحرف بالطبع ومائل. فلمّا تعرّفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاءه (11) وراء الفرضة بالعطن، لم تبق لي تعلّة (12)، ولا أجرضتني (13) علّة، ولا أوتي جمعي من قلّة، فكتبت أهنىء نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمن (14) باليد الطولى. فالحمد لله الذي جمع الشّمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدّل لكلماته. وإياه أسأل أن يجعل العصمة حظّ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أحدج (15) عن بثّ كمين، ونصح أنابه قمين، بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التّشريق (16) أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه قد نجحت منه نيّة وعمل، فقد غني عن عوف (17)
والبقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات، برمي الجمرات، وتأنّس بوصل السّرى ووصال السّراة، وأناله (18) إن رضي مرافق، ولو أغري (19) به خافق.
وإن كان على السّكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير (20) سعده. والحقّ أن تحذف الأبهة وتختصر، ويحفظ (21) اللسان
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 306304).
(2) في النفح: «فصل»، بالصاد المهملة.
(3) في النفح: «من أبيك».
(4) في النفح: «على».
(5) القرارة: موضع الاستقرار. لسان العرب (قرر).
(6) في النفح: «والفرارة».
(7) في النفح: «جيرة».
(8) المعرّة: الإثم والخطيئة. محيط المحيط (عرر).
(9) كلمة «تعالى» غير واردة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(10) في الأصل: «غوامل» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «وإلقاه»، والتصويب من النفح.
(12) التّعلّة: ما يتعلّل به من طعام وغيره. محيط المحيط (علل).
(13) في النفح: «ولا أحرضتني له علّه».
(14) في النفح: «للزمان».
(15) في النفح: «وأنا أخرج له عن».
(16) في الأصل: «التفريق» والتصويب من النفح.
(17) في النفح: «عرف البقرات».
(18) في النفح: «وأنابه إن رضيني».
(19) في النفح: «ولواء عزي به».
(20) غير الدّهر: نوازله ومصائبه المغيرة. لسان العرب (غير).
(21) في الأصل: «وتحفّظ»، والتصويب من النفح.(4/52)
ويغضّ (1) البصر، وينخرط في الغمار، ويخلّى عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممّن لا يقبل الله تعالى (2) قوله ولا عمله، فلا يكتم سرّا، ولا يتطرّق (3) من الرّجولة زمرا (4)، ورفض (5) الصّحبة زمام السلامة، وترك النّجاة علامة. وأمّا حالي فكما (6) علمتم ملازم كنّ (7)، ومبهوظ (8) تجربة وسنّ، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرّق الالتئام، خالي اليد، مالئ (9) القلب والخلد، بفضل الواحد الصّمد، عامل على الرّحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، وآمل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قرّرته لكم ما أنتم أعلم به من ودّ قرّرته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختصّ بكم من موالاته، وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته. وأما ذكركم في هذه الأوضاع، فهو ممّا يقرّ عين المجادة، والوظيفة التي تنافس (10) فيها أولو السيادة، والله يصل بقاءكم، وييسّر لقاءكم، والسلام.
وهذا الفاضل ممن جال فيه لاختيار الإمارة أيام مقامه بالعدوة الغربية لذياع فضله، وكرم خلاله. وقفل إلى الأندلس عند رجوع الدولة، فجنى ثمرة ما أسلفه، وقدّم شيخ الغزاة بمالقة، ثم نقل إلى التي لا فوقها من تقديمه شيخ الغزاة بحضرته منّة لا على ميادين حظوته، مقطعا جانب تجلّته، فبلي الناس على عهد ولايته الفتوح الهنيّة، والنّعم السّنية. ولما قفل السلطان، أيّده الله، من فتح قاعدة جيّان، أصابه مرض، توفي منه في ثالث صفر من عام تسعة وستين وسبعمائة، فتأثّر الناس لفقده، لما بلوه من يمن طائره، وحسن موارده ومصادره. وكان قد صدر له المنشور الكريم، من إملائي، بما ينظر في اسم المؤلف، في آخر هذا الديوان.
__________
(1) في الأصل: «وبغيض» والتصويب من النفح.
(2) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(3) في النفح: «يتطوق».
(4) في النفح: «زرّا».
(5) في النفح: «ويرفض زمام السلامة، وترك العلامة على النجاة علامة».
(6) في الأصل: «فما» والتصويب من النفح.
(7) الكنّ: المخبأ، وقوله: ملازم كنّ: يريد أنه ملازم بيت.
(8) في النفح: «ومهبط».
(9) في النفح: «مليء».
(10) في النفح: «ينافس».(4/53)
علي بن مسعود بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله ابن مسعود المحاربي (1)
الوزير، يكنى أبا الحسن.
حاله: كان من أعيان أهل الحضرة، وذوي الهيئات والنباهة من بيوتاتها، أيّدا، حسن الشكل، جهير الصوت، فصيح اللسان ثرثاره، جيد الخطّ، حلو الدّعابة، طيّب النفس، لبقا، ذكيّا، أديبا، فاضلا، لوذعيّا، مدركا. وزر للسلطان أبي الوليد، نزع إليه لمّا دعا إلى نفسه بمالقة من إيالة مخلوعه بعد اصطناعه، وصرف وجهته إلى جهته، فتغلّب على هواه، وأشركه في الوزارة، مع القائد الوزير أبي عبد الله بن أبي الفتح الفهري، وقد مرّ ذكره، فأبرّ عليه بمزيد المعرفة بالأمور الاشتغالية وجماح عنان اللسان والجرأة في أبواب المداخلات الوزارية، فلم يزل يضمّ أذيال الخطّة ويقلّصها عن قسيمه إلى أن لم يبق له منها إلّا الاسم إلى حين وفاته.
وفاته: واستمرّت حاله على رسمه من القيام بالوزارة إلى أن فتك بسلطانه قرابته بباب داره كما تقدّم في اسم السلطان أبي الوليد في حرف الألف، فكرّ أدراجه وهاج بالباطشين، وسلّ سيفه يدافع عنه، فمالت إليه الأيدي، وانصرفت إليه الوجوه، وأصيب بجراحات مثخنة، أتى عليه منها جرح دماغي لأيام، وعلى ذلك فلم يبرح من سدّة السلطان، حتى تعجّل ثأره، وشمل السّيف قتلته، وأخذ البيعة لولده.
وكانت وفاته في السابع والعشرين لشعبان من عام خمسة وعشرين وسبعمائة. ودفن بباب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيما، والثناء عليه كثيرا، والرحمة له مستفيضة.
ورثاه شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، رحمه الله بقوله: [الطويل]
أيا زفرتي، زيدي ويا عبرتي جودي ... على فاضل الدّنيا على ابن (2) مسعود
على الشامخ الأبيات في المجد والعلا ... على السّابق الغايات في البأس والجود
على غرّة العصر التي جمعت إلى ... مهابة مرغوب طلاقة مودود
على من له في الملك غير منازع ... وزارة ميمون النّقيبة محمود
على من إذا عدّ الكرام فإنه ... بواجب حقّ الفضل أوّل معدود
__________
(1) ترجمة علي بن مسعود المحاربي في تاريخ قضاة الأندلس (ص 176).
(2) جعلنا همزة الوصل همزة قطع لكي لا ينكسر الوزن.(4/54)
ومن كعليّ ذي الشجاعة والرّضا ... لإصراخ مذعور وإيواء مطرود؟
ومن كعليّ ذي السّماحة والنّدى ... لإسباغ إنعام وإنجاز موعود؟
ومن كعليّ للوزارة قائما ... عليها بتصويب عليها وتصعيد؟
ومن كعليّ للإدارة سالكا ... لها نهج تليين مشوب بتشديد؟
ومن كعليّ للسياسة منفذا ... أوامر تنفيذ وأحكام توطيد
ومن كعليّ في رضا الله حاكما ... بإنجاد معدوم وإعدام موجود
ومن كعليّ واصل الرّحم التي ... تمتّ بتقريب له أو بتبعيد
ومسدي الأيادي البيض بدءا وعودة ... مردّدة تمحو دجى الثّوب للسّود (1)
أيا كافي السلطان كلّ عظيمة ... بآراء تسديد وأعمال تمهيد
ويا حامي الملك المشيد بناؤه ... بصولة محذور وغرّة مقصود
ويا كافل الأيتام يجري عليهم ... جراية نعمى بابها غير مسدود
ذكرتك في نادي الوزارة صادعا ... بأمر مطاع حكمه غير مردود
ذكرتك في صدر الكتيبة قائما ... بخدمة مولّى بعد طاعة معبود
ذكرتك في المحراب والليل دامس ... تردّد آي الذّكر أطيب ترديد
ودمعك مرفضّ وقلبك واجب ... لخشية يوم بين عينيك مشهود
عفاء (2) على الدنيا ولا درّ درّها ... فما جمعها إلّا رهين بتبديد
فمهما حلت منها لديك مسرّة ... ففي إثرها فارقب مرارة تنكيد
ألهفا على الوجه الجميل معطّرا ... بدار البلى رهين الأساود والدّود
وعهدي به مستبشرا ومبشّرا ... بتفريج مكروب وراحة مجهود
لأظلمت الدنيا عليّ لفقده ... فها أنا أرعاها بمقلة مرصود
وقلّص من ظلّ الرّجاء (3) فراقه ... فظلّ رجائي بعده غير ممدود
وكم سبحت فلك المنى في بحارها ... مواخر فاليوم استوت بي على الجود
وهوّن عندي كلّ خطب مصابه ... فبعد عليّ لست أبكي لمفقود
ولا أدّعي أني وفيت بعهده ... فلم أرع عهدا حين أودى ولم أود
فلا يشمت (4) الأعداء إن حان حينه ... فما بالرّدى عار فكل امرئ مود
__________
(1) في الأصل: «السود» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «عفا»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «الرجا»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «يشمتنّ»، وكذا ينكسر الوزن.(4/55)
ولا سيما إذ (1) مات ميتة عزّة ... بعيدا شهيدا ماضيا غير رعديد
وفيّا لمولاه مطيعا لربّه ... وقد بطلت ذعرا رقاب الصّناديد
فبشرى له أن فاز حيّا وميّتا ... بميتة مفقود وعيشة محسود
عليه سلام الله ما ذرّ شارق ... وما صدعت ورقاء في فرع أملود
وجادت ثرى اللّحد الزّكي سحائب ... مجدّدة الرّحمى بأحسن تجديد
علي بن لب بن محمد بن عبد الملك ابن سعيد العنسي
غرناطي، قلعي (2).
حاله: كان ظريفا، مليح الخطّ، حارّ التّندير، عينا من عيون القطر ووزرائه.
شعره: حدّث أبو الحسن بن سعيد، قال: تمشينا معا أيام استيلاء النهب والتهدم على معظم ديار مرّاكش بالفتنة المتصلة، قال: فانتهينا إلى قصر من قصور أحد كبرائهم، وقد سجدت حيطانه، وتداعت أركانه، وبقايا النّهب والأصبغة والمقربسات تثير الكمد، ولا تبقي جلدا لأحد، فوجدنا على بعضها مكتوبا بفحم:
[الكامل]
ولقد مررت على رسوم ديارهم ... فبكيتها والرّبع قاع صفصف
وذكرت مجرى الجور في عرصاتهم ... فعلمت أنّ الدهر منهم منصف
فتناول أبو الحسن بياضا من بقيّة جيار، وكتب تحتها ما نصّه: [الكامل]
لهفي عليهم بعدهم فمثالهم ... بالله قل لي في الورى هل يخلف؟
من ذا يجيب مناديا لوسيلة ... أم من يجير من الزمان ويعطف؟
إن جار فيهم واحد من جملة ... كم كان فيهم من كريم ينصف
وفاته: توفي بمراكش سنة سبع وعشرين وستمائة.
__________
(1) في الأصل: «إذا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) أي إنه ينسب إلى القلعة الملكية، وتعرف هذه القلعة أيضا بقلعة يحصب، أو قلعة يعقوب، أو القلعة السعدية، أي قلعة بني سعيد وهي إحدى مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 62).(4/56)
علي بن يوسف بن محمد بن كماشة (1)
القائد والوزير بين القتادة والخرط، يكنى أبا الحسن.
أوليته: كان جدّه من المنتزين ببعض حصون الأندلس، طلياطة (2)، وخدم طاغية الروم ببعضها، وانخرط في جملته، يشهد بذلك مكتوبات تلقّاها بشماله ووراء ظهره، صانها حافده المترجم به في خرقة من السّرق لا يزال يعرضها في سبيل الفخر على من يصل إلى باب السلطان من رسل الرّوم. ولقد عرضها أيام سفارته إلى ملك قشتالة على وزيره شمويل اللبي اليهودي، وطلب تجديدها، فقال له: هذا يتضمن خدمة جدّك للسلطان مولاي جدّ مولاي السلطان بجملة من بلاد المسلمين، وفيها الشّكر له والرّعاية على ذلك، فاذهب أنت هذا المذهب الذي ذهبه جدّك، يتجدّد لك ذلك إن شاء الله، فلمّا هلك ووري بين مدافن الروم، بعد أن علّق زمانا من سور الحصن في وعاء، توفية لشرط لا أحقّقه الآن. ولحق ولده بباب السلطان، فتفيّأوا ظلّ كفالته، ونشأوا في عداد صبيته. ولمّا صلحوا للاستعمال، استخدم منهم عليّا كبيرهم في العمل، فاستظهر به على حفزه بحمى ألمرية وما إليها، فأثرى وراه استغنى، وطالت مدّة ولايته، واستعمل أخاه يوسف والد المترجم به، في القيادة، وكان رجلا مضعوفا، فاستمرّت حاله إلى أن فقد بصره، جنى عليه شؤم ولده الجلا شيخا زمنا.
ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بها، حسبما يذكر في اسميهما. وكانوا يتبجّحون بنسبه إلى معن بن زائدة طوّق جدّهم بتلك النسبة، بعض أولي التّنفق والكدية، فتعلّلوا منها بنسيج العناكب، وأكذبوها بالخلق الممقوت، والبخل بفتات القوت، والتعبّد لعبدة الطّاغوت {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} (3).
حاله: هذا الرجل حسن الشكل، كثير الهشّة، جيّد الرّياش، كثير التعلّق والتّوسل، لصقت بشجرات الدول صمغته، وثبت بأسبابها قراده، شديد الملاطفة لحجبة الأبواب، والمداخلة لأذيال الأمراء، متصامم على أغراضهم، مكذّب لمحسوس جفوتهم، متنفّق بالسّعاية، متبذّل في أسواق الخدمة، يسبق في الطيالس، ويلفظ الزّبير، ويصرخ بالإطراء، ويولول بالدعاء، مدلّ في الأخونة، محكم في نفسه
__________
(1) لابن كماشة ترجمة في كتاب العبر (م 7ص 449) واللمحة البدرية (ص 126) وفيه أنه كان وزير الغني بالله، ثامن سلاطين بني نصر بغرناطة.
(2) في الأصل: «طلياطيه»، والتصويب من الروض المعطار (ص 395). وطلياطة بالإسبانية، وهي بلدة تبعد عن إشبيلية عشرين ميلا. الروض المعطار (ص 395).
(3) سورة الحجرات 49، الآية 13.(4/57)
للنّادرة التي تضحكهم، بذي مهذار، قليل التصنّع، بعيد عن التّسمت، أطمع خلق الله وأبخلهم بما لديه، وأبعدهم في مهاوي الخسّة. أما فلسه، فمخزون، وأمّا خوانه، فمحجوب، وأمّا زاده، فممنوع محجور، وأمّا رفده، فمعدوم العين والأثر. وأمّا ثوبه، فحبيس التّحت إلى يوم القيامة، قد جعل لكل فصل من فصول معاشه، ونفاضة مخاليه، وسور دوابه مؤنة ما. فالنّخالة بينة المصرف، وللسرجين معين الجهة، وفتات المنديل موقفة على فطور الغد، ودهن الاستصباح جار في التّجلة والادخار مجرى دهن البلسان.
أخباره: في هذا الباب مغربة، ولزمت كعبة المنحسة، وعلق في عنقه طائر الشّؤم، فلم تنجح له وجهة، ولا سعدت له حركة، واستقرّ عند الكائنة على الدولة، بباب السلطان بالمغرب، خاطبا في حبل الغادر، المتوثّب على الملك، ومعينا للدهر على الأحبّ الحقّ ووليّ النّعمة. ثم بدا له في المقام بالمغرب أمنا واضطرابا. ولمّا رحل السلطان أبو عبد الله بن نصر (1) المذكور إلى طلب حقه، وقد أعتبه، سدّد به رسم الوزارة في طريقه، كما اضطرّ صياد إلى صحبة كلب مخابت آماله، ولحقت به المشأمة، وتبر الجدّ، واشتهر ذلك، فعلقت به الشّفقة، إلى أن خاطب السلطان بعض من يهمّه أمره بهذه الأبيات: [الطويل]
كماشكم من أجله انكمش السّعد ... إذا ما اطّرحتم شؤمه نجز الوعد
ومن لم تكن للسّعد في بدء أمره ... مخيلة نجح، كيف ترجى له بعد؟
وتصريفه المشؤوم فلتتذكّروا ... وما قلت إلّا بالتي علمت سعد
واقتضى أمره تبرّما به أن صرف من رندة، وقد استقرّ أمره بها رسولا إلى باب ملك المغرب لأمور منها استخلاص ولده وإيصاله إليه، فتعذّر القصد، وسدّت الأبواب، وأزفت بدار المغرب عهد بذّ الآزفة، وتراخى مخنّق مرسله لخلو دسته منه، فثاب الرّجاء وقرب الفتح، وساعد السّعد بما طال منه التّعجب. ولمّا بلغ خبر صنع الله، وإفاقة الأيام، وجبر الله السلطان بدخول مالقة في طاعته، لحق به، وقد قلقت به الجوانب، وتنكّرت الوجوه، وساءت لطيرته الظّنون، فتوفّر العزم على صرفه عن الأندلس في أوليات رمضان عام ثلاثة وستين وسبعمائة، فقبض عليه، وصرف إلى البلاد الشرقية، وقد شرع في إغراء سلطان قشتالة بالمسلمين، وكان آخر العهد به،
__________
(1) هو سلطان غرناطة الغني بالله أبو عبد الله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري حكم غرناطة من سنة 755هـ إلى سنة 793هـ على مرحلتين. وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة وفي اللمحة البدرية (ص 113، 129).(4/58)
وذكروا أنه حجّ وقفل والعودة تتبعه، والنفوس لمتوقّع شؤمه مكرهة. ورجي أن يكون ماء زمزم وضوء النقع، أو أنّ مشاهدته الآثار الكريمة تصلح ما فسد من حاله، فآب شرّ إياب، وربما نبض له شريان من جدّه الذي تقدم في خدمة النصارى ذكره، فأجاز البحر إلى ملك برجلونة، فجعل تقبيل كفّه لاستلام الحجر الأسود وسيلة ثانية وقربة مزلفة، والقول بفضل وطنه حجّة صادقة، ثم قلق لخيبة قصده، وخلوّ يده من الزّقوم الذي كان قد احتجنه للمهمّ من أمره، واستيلاء النّحس على بيت سعده، فصرف وجهه المشؤوم إلى المغرب، فاحتلّ به، وجعل يطوق كل من أسلف له بداء الذّام، ويشيع عنه سوء القيلة، ويجهر في المجتمعات والدّكاكين بكل شنيع من القول، بالغا في ألفاظ السّغيلة أقصى مبالغ الفحش، لطف الله بنا أجمعين.
عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق بن محيو (1)
من قبيل بني مرين، يكنى أبا سعيد، شيخ الغزاة بجزيرة الأندلس على عهده.
أوليتهم: جدّ هؤلاء الأقيال الكرام، الذي يشترك فيه الملوك الغرّ من بني مرين بالعدوة، مع هؤلاء القرابة، المنتبين عنهم أضرار التّراث، ودواعي المنافسات، عبد (2) الحق بن محيو. وكان له من الولد إدريس وعثمان وعبد الله ومحمد وأبو يحيى ويعقوب، فكان الملوك بالمغرب من ولد يعقوب، وهؤلاء من ولد عبد الله وإدريس ويعقوب ورحّو. ولمّا قتل جدّهم يعقوب بيد ابن عمّه عبد الحق بن يعقوب، أجفل أخواه ومن معهم، وانتبذوا، واستقرّوا بتلمسان، بعد أمور يطول شرحها. ثم اجتاز الشيخ أبو سعيد في جملة من اجتاز منهم إلى الأندلس، فنال بها العزّة والشّهرة.
حاله: كان رجل وقته جلالة وأصالة، ودهاء وشهرة وبسالة، مرمى لاختيار عتاقة وفراهة، واحد الزّمن أبّهة ورواء، وخلقا ورجاحة، أيّدا، عظيم الكراديس، طوالا، عريض المنكب، أقنى الأنف، تقع العين منه على أسد عيص، وفحل هجمة، بعيد الصيت، ذائع الشهرة، منجب الولد، يحمي السّرح، ويزين الدّست. لحق بتلمسان مع زوج أمّه وعمّه، موسى بن رحّو، عندما فرّوا من الجبل بأحواز وزغة، شابا كما اجتمع، وأجاز البحر منها، وخدم مرتزقا بها. ثم عاد إلى العدوة برضا من
__________
(1) ترجمة عثمان بن إدريس في كتاب العبر (م 7ص 471، 491، 548) ونفح الطيب (ج 1ص 429).
(2) أخبار عبد الحق بن محيو في كتاب العبر (م 7ص 767).(4/59)
عمه السلطان بها. ثم فرّ عنه ولحق بالأندلس، واستقرّ بها، وولّي خطّة الشّياخة العامة، وهي ما هي، من سموّ الهضبة، وورود الرّزق، وانفساح الإقطاع، فشارك، وتبنّك النّعيم، وأقبل ما استظهر به على ما وراء مدينة سبتة، عند انتظامها في الإيالة النّصرية، فشنّ الغارة، ودعا إلى نفسه، وخلا فطلب النّزال، فغلبت غارته أحواز وادي سبو. ثم رجع أدراجه إلى الأندلس، وذمّر السلطان أبا الوليد، منفق حظوته على طلب الملك، ففازت به قداحه، واستولى على الجمّ من ريق دنياه، وسلّ الكثير من ماله وذخيرته في أبواب من العبادة، والاسترضاء والاستهداء. ولمّا توفي، تضاعف لطف محلّه من ولده، إلى أن ساء ما بينه وبين مدبّر أمره ابن المحروق، ونفر عنه، مؤاخذا بألقيات كانت سلّما إلى تجنّيه، يحسب أن الافتقار إليه يعبّد له كل وعث، فاغتنم المذكور نفرته، واستبصر في الانتباذ عنه، مطيعا دواعي الخور والرّهبة، من شؤوب حاله. وأجلى الأمير عن رحيله وولده إلى ساحل ألمريّة، موادعا، مزمعا الرحيل عن الأندلس. وارتاد الجهات، وراسل الملوك بالعدوة، فكلّ صمّ عن ندائه، وسدّ السبيل إليه، فداخل قوما من مشيخة حصن أندرش حاضرة وطن الجباية، فاستولى عليه، وانتقل إليه بجملته، وراسل الطّاغية، فتحرّك إلى منازلة حصن وبرة من الحصون التاكرونيّة، ففازت به قداحه، واستدعي عمّ السلطان، وهو الرئيس أبو عبد الله بن فرج بن نصر، من تلمسان، فدعا إليه، وشملت الفتنة، وكانت بينه وبين جيش الحضرة وقائع تناصف فيها القوم خطّتي المساجلة إلى أن نفد صبره وماله، وسمت فتنته الدولة، واقتضت مسالمته المصلحة، فعوهد على التخلّي عن الحصن، وصرف أميره إلى متبوّئه الأقصى، وانتقاله إلى مدينة وادي آش ليكون سكنه بها تحت جرايات مقدّرة، وذلك في شهر رمضان ثمانية وعشرين وسبعمائة، وعلى تفيئة ذلك، عدا على مناوءة أميره، ففتك به، واستقدم الشيخ أبا سعيد فأعاده إلى محلّه، واستمرّت على ذلك حياته إلى مدة حياته، إلى أن توفي في أخريات أيامه.
وفاته: ولمّا نزل العدوّ ثغر أطيبة، ونهض جيش المسلمين إلى مضايقته، أصابه المرض. ولمّا أشفى (1) نقل (2) إلى مالقة، فكانت بها وفاته يوم الأحد ثاني ذي حجة من عام ثلاثين وسبعمائة عن سنّ عاليه تنيف على الثمانين سنة، ونقل إلى غرناطة، فووري بها، وبنيت عليه بنية ضخمة، وصار أمره إلى ولده. ونقش على قبره في الرخام:
__________
(1) أشفى: أي أشفى على الموت.
(2) في الأصول: «ونقل».(4/60)
«هذا (1) قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال الكماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، القائم بباب «الجنّة تحت ظلال السيوف»، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الإمام (2) المجاهد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدّم (3)، المرحوم، أبي سعيد عثمان، ابن الشيخ الجليل، الإمام (4) الكبير، الأصيل الشهير، المقدّس، المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانيا وسبعين (5) سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله، وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة، وقطع عمره جاهدا مجاهدا (6) في طاعة الرّب، محتسبا في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفار، مصادما [بين جموعهم] (7) من تدفّق التيار، وصنع الله له فيهم من الصّنائع الكبار، ما صار (8) ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السّيّار، حتى توفي، رحمه الله، وغبار الجهاد طيّ أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفار وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به سعيدا مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدّمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلا عن نيّته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجّت الأندلس لفقده (9)، أتحفه الله رحمة من عنده، توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعمائة».
القضاة الأصليون
عتيق بن أحمد بن محمد بن يحيى الغساني (10)
غرناطي، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفرّاء، ويعرف عقبه ببني الوادي آشي، وقد مرّ ذكر ولده أبي الفرج، وينبز بقرنيّات.
حاله: حدّثني أبي، رضي الله عنه، وكان صديقا لأبيه، أنّه كان من أهل الجلالة والفضل، حسن السّمت، عظيم الوقار، جميل الرّواء، فاضلا، حسن العشرة.
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 1ص 432431).
(2) في النفح: «الهمّام».
(3) في المصدر نفسه: «المقدّسي».
(4) في المصدر نفسه: «الهمام».
(5) في النفح: «وثمانين».
(6) في النفح: «مجتهدا».
(7) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من النفح.
(8) في النفح: «سار».
(9) في النفح: «لبعده».
(10) ترجمة عتيق بن أحمد الغساني في الذيل والتكملة (ج 5ص 116).(4/61)
وقال القاضي ابن عبد الملك (1): كان جامعا لفنون من المعارف، معروف الفضل (2)
في كل ما يتناول (3) من الأمور العلمية، وقيّد كثيرا، وعني بالعلم العناية التامة، واستقضي بالمنكّب، وعرف في (4) ذلك بالعدالة والنّزاهة.
تواليفه: صنّف (5) «نزهة الأبصار، في نسب الأنصار»، و «نظم الحليّ، في أرجوزة أبي عليّ»، يعني ابن سينا (6).
شعره: قال: ومما نظمته ووجّهته به صحبة رسالتين: [الكامل]
يا راكبا يبغي الجناب الأشرفا ... ومناه أن يلقى الكريم المسعفا
عرّج بطيبة مرّة لترى بها ... علمي قبول رحمة وتعطّفا
وإذا حللت بها فقبّل تربها ... وارغب جلالهم عسى أن يسعفا
وأسل دموعك رغبة وتضرّعا ... وأطل بها عند التضرّع موقفا
واذكر ذنوبك واعترف بعظيمها ... فعسى الذي ترجو له أن يعطفا
واجعل شفيعك إن قصدت عناية ... قبرا تقدّس تربة وتشرّفا
قبر تضمّن نور هدي واضحا ... لم يحتجب عن مبصريه ولا اختفى
قبر حوى النّور المبين ونوره ... يهدي به سبل السّلام من اقتفى
قبر به للهاشميّ (7) محمد ... أبهى الأنام سنا وأوفى من وفى
خير الورى علم التّقى شمس الهدى ... للمنتقى (8) والمجتبى والمصطفى
سلّم عليه وخصّه بتحيّة ... واقرأ عليه من السلام مضاعفا
واذكر، هديت، أخا البطالة، عمره ... هيهات (9) كم نقض العهود وأخلفا!
ولكم تيقّن بالدليل فما له ... ركب العناد لجاجة وتعسّفا؟
وعصى فأسلم للقطيعة والجوى ... حقّ على من خان أو لا يعرفا
هل للعفو تنفّح نحوه (10) ... يوما فيضحى بالرّضا متعرّفا؟
__________
(1) الذيل والتكملة (ج 5ص 117).
(2) في الذيل والتكملة: «النبل».
(3) في الأصل: «يناول» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) قوله: «في ذلك» ساقط في الذيل والتكملة.
(5) الذيل والتكملة (ج 5ص 117).
(6) في الذيل والتكملة: «يعني الطبية المنسوبة إلى ابن سينا».
(7) في الأصل: «الهاشمي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(8) في الأصل: «المنتقى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(9) كلمة «هيهات» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(10) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.(4/62)
وأعد حديث مشوق قلب عنده ... من لم يذب شوقا له ما أنصفا
أخبره عن حبّي وطول تشوّقي ... تفديك (1) نفسي مخبرا ومعرّفا
وتشكّ من جاء الإله (2) فإنّ لي ... نفسا تسوّفني المتاب تسوّفا
مولده: بغرناطة في ذي حجة خمس وثلاثين وستمائة.
وفاته: ذكر أنه كان حيّا سنة خمس وثمانين وستمائة (3).
علي بن محمد بن توبة (4)
يكنى أبا الحسن.
حاله: كان من العلماء الجلّة الفقهاء الفضلاء. ولّي قضاء غرناطة لباديس بن حبّوس، وعلى يديه كان عمل منبر جامعها، وكان عمله في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من قضاة العدل، وإليه تنسب قنطرة القاضي بغرناطة والمسجد المتصل بها في قبلتها. وكان كاتبه الزاهد أبا إسحاق الإلبيري، وفيه يقول:
[الخفيف]
بعلي ابن (5) توبة فاز قدحي ... وسمت همّتي على الجوزاء
فهنيّا لنا وللدين قاض ... مثله عالم بفضل القضاء
يحسم الأمر بالسياسة والعد ... ل كحسم الحسام للأماء
لو أنا سيّرناه قال اعترافا ... غلط الواصفون لي بالذكاء
لو رأى أحنف وأكبر منه ... حلمه ما انتموا إلى الحلماء
أو رأى المنصفون بحر نداه ... جعلوا حاتما من البحر لاء
هو أوفى من الشّمول وعهدا (6) ... ولما زال مغرما بالوفاء
وحياء (7) المزن وحيّا أخاه ... أهملت كفّه بوبل العطاء
__________
(1) في الأصل: «عطفة نفسي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، لذا حذفنا كلمة «عطفة».
(2) في الأصل: «إليه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) لم يشر ابن عبد الملك إلى سنة وفاته.
(4) ترجمة علي بن محمد بن توبة في الصلة (ص 225) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 162161).
(5) جعلنا همزة الوصل همزة قطع كي لا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «عهدا»، وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «وحيا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/63)
يشهد العالمون في كل فنّ ... أنّه (1) كالشهاب في العلماء
وقضاة الزمان أرض لديهم ... وهو من فوقهم كمثل السّماء
لتعرّضت مدحه فكأنّي ... رمت بحرا مساجلا بالدّلاء
فأنا معجم على أنّ خيلي ... لا تجارى في حلبة الشّعراء
لكساني محبّرا ثوب فخر ... طال حتى حرّرته من ورائي
ولو انصفته (2) وذاك قليل ... كان خدّي لنعله كالحذاء
فأنا عبده وذاك فخاري ... وجمالي بين الورى وبهائي
وثنائي (3) وقف عليه وشكري ... ودعائي له بطول البقاء
علي بن عمر بن محمد بن مشرف بن محمد بن أضحى ابن عبد اللطيف بن الغريب بن يزيد بن الشمر ابن عبد شمس بن الغريب الهمداني (4)
والغريب بن يزيد هو أول مولود ولد للعرب اليمانيين بالأندلس، يكنى أبا الحسن.
ولي غرناطة، وكان من أهل العلم والفهم، والمشاركة في الطّب، والكفاية الجيدة، والشعر في ذروة همدان، وذوائبهما، حسن الخطّ، كريم النفس، جواد بما يمارى، عطاياه جزلة، ومواهبه سنيّة، وخلقه سهلة، كثير البشاشة، مليح الدّعابة، موطّأ الأكناف، على خلق الأشراف والسادة.
مشيخته: روى بألمرية عن القاضي أبي محمد بن سمحون وبه تفقّه، وقرأ الأدب على ابن بقنّة، وعلى الإمام الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش، وسمع الحديث على الحافظ أبي بكر بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية وغيره.
__________
(1) في الأصل: «أنه كان كالشهاب»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا كلمة «كان».
(2) جعلنا همزة القطع همزة وصل لئلّا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «وثناء».
(4) ترجمة أبي الحسن علي بن عمر بن أضحى في الحلة السيراء (ج 2ص 211) وجاء فيه:
«علي بن أحمد بن أضحى»، وقلائد العقيان (ص 215) والمغرب (ج 2ص 108) ورايات المبرزين (ص 145) والتكملة (ج 3ص 192) والذيل والتكملة (ج 5ص 270) ونفح الطيب (ج 2ص 206) و (ج 5ص 302).(4/64)
شعره: من شعره يخاطب الوزير ابن أبيّ (1) ويعتذر إليه، وكان الفقيه أبو جعفر المذكور قد خاطبه شافعا في بعض الأعيان، فتلقّى شفاعته بالقبول، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصّرا، فكتب إليه (2): [الطويل]
ومستشفع عندي بخير الورى عندي ... وأولاهم بالشّكر منّي وبالحمد
وصلت فلمّا لم أقم بجزائه ... (لففت له رأسي حياء من المجد) (3)
وكتب يخاطب أبا نصر بن عبد الله، وقد كان أبو نصر خاطبه قبل ذلك (4):
[الطويل]
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطّرف في الخطرات
فأعربت (5) عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللّحظات
غزال أحمّ المقلتين عرفته ... بخيف (6) منّى للحسن (7) أو عرفات
رماك فأصمى (8) والقلوب رميّة ... لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات
وظنّ بأنّ القلب منك محصّب ... فلبّاك من جنابه (9) بالجمرات
تقرّب بالنّسّاك في كلّ منسك ... وضحّى غداة النّحر بالمهجات
وكانت له جيّان مثوى فأصبحت ... ضلوعك مثواه بكلّ فلاة (10)
يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي ... كئيبا (11) على الأشجان والزّفرات
فلو قبلت للناس في الحبّ فدية ... فديناك بالأموال والبشرات
__________
(1) في القلائد: ذو الوزارتين أبو جعفر بن أبيّ.
(2) البيتان في قلائد العقيان (ص 216) والحلة السيراء (ج 2ص 217) ونفح الطيب (ج 5ص 302).
(3) عجز هذا البيت عجز بيت لأبي تمام وهو في ديوانه (ص 114):
أتاني مع الركبان ظنّ طننته ... لففت له رأسي حياء من المجد
(4) الأبيات في قلائد العقيان (ص 216) ونفح الطيب (ج 2ص 207) و (ج 5ص 303302).
(5) في القلائد: «فأعرب».
(6) في الأصل: «نحيّف» والتصويب من القلائد والنفح.
(7) في القلائد والنفح: «للحين».
(8) أصمى الصّيد: رماه فقتله مكانه. لسان العرب (صما).
(9) في القلائد والنفح: «من عينيه».
(10) في الأصل: «فلات» بتاء طويلة، والتصويب من القلائد والنفح.
(11) في الأصل: «كبيبا» وقد صوبناه من القلائد والنفح.
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 5.(4/65)
وخاطب أحد أوليائه شافعا في رجل طلّق امرأته، ثم علقت بها نفسه، فلم تسعفه، وكتب إليه (1): [المتقارب]
ألا أيها السّيّد المجتبى ... ويا أيها الألمعيّ العلم
أتتني أبياتك المعجزات (2) ... بما قد حوت من بديع الحكم
ولم أر من قبلها بابلا (3) ... وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدّين لا يشترى ... بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حمى مانعا ... وكيف أحلّل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله ... ونارا مؤجّجة تضطرم؟
أأصرفها طالقة (4) بتّة ... على أنوك (5) قد طغى (6) واجترم؟
ولو أنّ ذلك (7) الغبيّ الخمول (8) ... تثبّت في أمري (9) ما ندم
ولكنه طاش مستعجلا ... فكان أحقّ الورى بالنّدم
ومن شعره أيضا قوله رحمه الله: [الخفيف]
يا عليما بمضمرات القلوب ... أنا عبد مثقّل بالذنوب
فاعف عني وتب عليّ وفرّج ... ما أنا فيه من أليم الكروب
حالما أشتكي سواك طبيب ... كيف أشجى به وأنت طبيبي (10)؟
أنا ممن دعا قريب مجيب ... فأرح ما بمهجتي عن قريب
تواليفه: قال أبو القاسم بن خلف الغافقي: حدّثني عنه الفقيه أبو خالد بن يزيد بن محمد وغيره بتواليف، منها كتاب «قوت النفوس»، «وأنس الجليس» وهو كتاب حسن، ضمن فيه كثيرا من شمائل النبيّ عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) الأبيات في قلائد العقيان (ص 217) ونفح الطيب (ج 5ص 304303).
(2) في النفح: «المحكمات».
(3) في النفح: «مثلها».
(4) في النفح: «طالقا».
(5) حرّكها عنان بفتح الكاف لأنها ممنوعة من الصرف، على وزن افعل، وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «طعنّي». وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «ذاك» وهكذا ينكسر الوزن، وقد صوبناه من النفح.
(8) رواية صدر البيت في القلائد هي:
ولو أن ذاك الغبيّ الجهول
وهكذا ينكسر الوزن. وروايته في النفح هي:
ولو أن ذلك الغويّ الزريّ
(9) في القلائد والنفح: «أمره».
(10) في الأصل: «طبيب» بدون ياء.(4/66)
وفاته: توفي بغرناطة في سنة أربعين وخمسمائة، وهو يحاصر الملثمين (1)
بقصبة غرناطة حسبما ثبت في اسم ابن هود أحمد.
ومن الطارئين والغرباء
عثمان بن يحيى بن محمد بن منظور القيسي (2)
من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو (3)، ويعرف بابن منظور، الأستاذ القاضي، من بيت بني منظور الإشبيليين، أحد بيوت الأندلس المعمور بالنباهة.
حاله: كان (4)، رحمه الله، صدرا في علماء بلده، أستاذا ممتعا، من أهل النظر والاجتهاد (5) والتحقيق، ثاقب الذهن، أصيل البحث، مضطلعا بالمشكلات، مشاركا (6) في فنون، من فقه وعربية، برز فيهما، إلى أصول وقراءات وطب ومنطق.
قرأ كثيرا، ثم تلاحق بالشادين (7)، ثم غبّر في وجوه السوابق. قرأ على الأستاذ أبي (8)
عبد الله بن الفخار، ولازم الأستاذ أبا محمد بن أبي (9) السداد الباهلي، وتزوج ابنة (10) الفقيه أبي علي بن الحسن، فاستقرّت عنده كتب والدها، فاستعان بها على العلم والتبحّر في المسائل. وقيّد بخطّه الكثير، واجتهد، وصنّف، وأقرأ ببلده، متحرّفا (11) بصناعة التوثيق، فعظم به الانتفاع. وقعد للتدريس خلفا للراوية أبي عثمان بن عيسى في شوال عام تسعة وسبعمائة. وولي القضاء ببلّش (12) وقمارش،
__________
(1) الملثمون: هم المرابطون البربر الذين حكموا المغرب والأندلس معا. وفي التكملة (ج 3ص 193): توفي ابن أضحى في رمضان سنة 539هـ، وولد في ربيع الأول سنة 472هـ. وفي الذيل والتكملة (ج 5ص 271): توفي بعد رمضان 539هـ بأيام قلائل.
(2) ترجمة ابن منظور في تاريخ قضاة الأندلس (ص 184) وبغية الوعاة (ص 324) والكتيبة الكامنة (ص 114). وجاء اسمه في المصدرين الأولين هكذا: «عثمان بن محمد بن يحيى بن محمد بن منظور».
(3) كنيته في تاريخ قضاة الأندلس وبغية الوعاة: أبو عمر.
(4) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 184) وبغية الوعاة (ص 324).
(5) كلمة «والاجتهاد» ساقطة في تاريخ قضاة الأندلس.
(6) في تاريخ قضاة الأندلس: «مشاركا في الفقه والعربية، إلى أصول». وفي بغية الوعاة: «برز في الفقه والعربية، إلى أصول».
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «بأصحابه».
(8) في المصدر نفسه: «وقرأ على الأستاذ أبي بكر بن الفخار».
(9) في بغية الوعاة: «محمد بن السواد».
(10) في تاريخ قضاة الأندلس: «وتزوج زينب ابنة».
(11) في تاريخ قضاة الأندلس: «محترفا بضاعة».
(12) في المصدر نفسه: «بآش وملتماس، وقمارش». وفي بغية الوعاة: «ببلش ومالقة ومات(4/67)
وملتماس، ثم ببلده مالقة. وتوفي (1) قاضيا بها. لقيته وانتفعت بلقائه، وبلوت منه أحسن الناس خلقا، وأعذبهم فكاهة.
شعره: وكان قليلا ما يصدر عنه، كتب على ظهر الكتاب الذي ألّفه للوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، مقتديا بغيره من الأعلام في زمانه (2):
[السريع]
قد جمع الحكم وفصل الخطاب ... ما ضمّه مجموع هذا الكتاب
من أدب غضّ ومن علية ... تسابقوا للخير في كلّ باب
فجاء فذّا في العلى والنّهى ... ومنتقى صفو لباب اللّباب
ألّفه الحبر الجليل الذي ... حاز العلا إرثا وكسبا فطاب
تواليفه: ألّف كتاب «اللّمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية». وله تقييد في الفرائض، حسن سمّاه، «بغية المباحث في معرفة مقدمات الموارث»، وآخر في المسح على الأنماق الأندلسي.
وفاته: توفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة، ولم يخلف بعده مثله.
علي بن أحمد بن الحسن المذحجي
من أهل حصن ملتماس (3)، وابن وزيره الفقيه الحافظ القاضي، يكنى أبا الحسن، ويعرف بجدّه.
حاله: من أولي الأصالة والصّيانة والتعفّف، والعكوف على الخير، والآوين إلى طعمة متوارثة، ونباهة قديمة، صنّاع اليد، متقن لكل ما يحاوله من تسعير ونجارة، مبذول المودّة، مطعم للطعام بدار له معدّة للضّيفان من فضلاء من تطويه الطريق، ويغشاه من أبناء السبيل. ولي قضاء بلده في نحو عشرين سنة، فحمدت سيرته، ثم ولي قضاء مالقة فظهرت دربته ومعرفته بالأحكام، فأعفي وعاد إلى ما كان بسبيله من القضاء بموضعه والخطابة.
__________
بها».
(1) في تاريخ قضاة الأندلس: «وتوفي بها مصروفا عن القضاء دون عقب».
(2) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 114).
(3) كذا ورد اسم هذا الحصن في نفح الطيب (ج 8ص 254).(4/68)
مشيخته: قرأ على الشيخين الصالحين أبي جعفر بن الزيات، وأبي عبد الله بن الكماد ببلده بلّش، وأخذ عنهما.
تواليفه: له أجوبة حسنة في الفقه، وصنّف على كتاب البراذعي تصنيفا حسنا بلغ فيه إلى آخر رزمة البيوع ثلاثة عشر سفرا، واستمرّت على ذلك حاله.
وفاته: توفي ببلده بلّش في (1) من عام ستة وأربعين وسبعمائة.
علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي النّباهي المالقي (2)
صاحبنا أبو الحسن.
أوليته: تنظر فيما تقدم من أهل بيته والمذكورين فيه من سلفه (3).
حاله: هذا الرجل، ولّي قضاء الحضرة، وخطابة جامع السلطان، وعرض له تقزّز فيما يقف عليه من منتخب وصفه، وعدم رضا بما يجتهد فيه من تحليته، فوكلنا التعريف بخصائصه، إلى ما اشتهر من حميدها، تحرّجا مما يجرّ عتبه، أو يثير عدم رضاه.
مشيخته: ذكر أنه أخذ عن الشيخ الخطيب أبي بكر الطّنجالي، قريب أبيه، والناظر عليه بعده بوصاته. وكان من أهل الدّراية والرواية، وعن الشيخ الفقيه أبي القاسم محمد بن أحمد الغساني، شهر بابن حفيد الأمين، وقرأ عليه الفقه والقرآن، وسمع عليه، وتلا على الشيخ الأستاذ المقرئ أبي محمد بن أيوب، وسمع عليه الكثير. وهو آخر من حدّث عن أبي بن أبي الأحوص، وعلى الشيخ المقرئ أبي القاسم بن يحيى بن محمد بن درهم، وأخذ عن قريبه القاضي، نسيج وحده أبي بكر عبد الله بن بكر الأشعري. ومن أشياخه صهره القاضي الأستاذ أبو عمرو بن منظور،
__________
(1) بياض في الأصول.
(2) ترجمة أبي الحسن النباهي في الكتيبة الكامنة (ص 146) وفيه يذمّه ابن الخطيب أقذع الذمّ ويتعرض له فيصفه بالقرد الشارد، وذلك بعد أن تغيّرت النفوس، إذ كان النباهي أحد المتآمرين على ابن الخطيب. وانظر أيضا بعض أخبار النباهي في أزهار الرياض (ج 2ص 5) ونفح الطيب (ج 7ص 116) و (ج 8ص 255253). وللدكتورة مريم قاسم دراسة كافية عن النباهي أوردتها في مقدمة كتابة: «تاريخ قضاة الأندلس» أو «المرقبة العليا» وفيها ثبت بأسماء المصادر والمراجع التي ترجمت للنباهي، فلتراجع.
(3) تقدم في الجزء الأول من الإحاطة ترجمة للحسن بن محمد بن الحسن النباهي الجذامي، فلتنظر.(4/69)
والأستاذ الحافظ المتكلّم أبو عبد الله القطان، والصّوفي أبو الطاهر محمد بن صفوان، والقاضي الكاتب أبو القاسم محمد البناء. وصحب الشيخ أبا بكر بن الحكيم، ولازمه وروى عنه. ولقي الخطيب المقرئ أبا القاسم بن جزيّ، وأخذ نسبته عن الشيخ أبي القاسم بن عمران. وبرندة عن القاضي المحدّث المقيد أبي الحجاج يوسف المنتشافري. ورحل فلقي بتلمسان عمران أبا موسى المشدالي، وحضر مجلسه، والأخوين الإمامين أبا زيد وأبا موسى ابني الإمام. وبباجة (1)، أبا العباس أحمد بن الرّباعي، وأبا عبد الله بن هارون. وبتونس أعلاما، كقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد السلام. قال: ومن خطّه نقلت، وأجازني من أهل المشرق والمغرب، عالم كثير.
شعره: قال: نظمت مقطوعتين، موطّئا بهما على البيتين المشهورين.
الأولى منهما قولي (2): [الطويل]
بنفسي (3) من غزلان غزوى (4) غزالة (5) ... جمال محيّاها عن النّسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ... ولو أنه النّسر الذي هو طائر
معطّرة الأنفاس رائقة الحلى ... هواها بقلبي في المهامه (6) سائر
«إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحبّ: ميعاد السّلوّ المقابر»
والأخرى قولي (7): [الطويل]
وقائلة لمّا رأت شيب لمّتي ... لئن ملت عن سلمى فعذرك ظاهر
زمان التّصابي قد مضى لسبيله ... وهل لك بعد الشّيب في الحبّ عاذر؟
فقلت لها: كلّا وإن تلف الفتى ... فما لهواها عند مثلي آخر
«ستبقى (8) لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر»
__________
(1) المراد هنا باجة إفريقية، وليس باجة الأندلس لأنه جاء في النص أنه رحل من الأندلس إلى تونس.
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 255).
(3) بنفسي: أي أفدي بنفسي.
(4) في النفح: «حزوى».
(5) في الأصل: «وغزالة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) المهامه: جمع مهمه وهو الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها. لسان العرب (مهمه).
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 255).
(8) في النفح: «سيبقى».(4/70)
وكتب مع شكل يحذو على النّعل الكريم، من شأنه أن يكتب ذلك لكل مزمع سفر (1): [الطويل]
فديتك لا يهدى إليك أجلّ من ... حديث نبيّ الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى ... به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حامل ... له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفر به ... فقد ظفرت يمناه بالأمن كلّه
فدونك منه أيها العلم الرّضا ... مثالا كريما لا نظير لمثله
ومن ذلك قوله (2): [البسيط]
لا تلجأنّ لمخلوق من الناس ... من يافث كان أصلا أو من الياس (3)
وثق بربّك لا تيأس ترى (4) عجبا ... فلا أضرّ على عبد من الياس
ومن قوله يمدح السلطان ويصف الإعذار (5): [البسيط]
أبدى لنا من ضروب الحسن أفنانا ... هذا الزمان (6) لمولانا ابن مولانا
يقول فيها لطف الله بنا وبه:
ولا (7) تحرّك لسانا يا أخا ثقة ... بريم رامة إن وفّى وإن خانا
يظلّ ينشر ميت الوجد عن جدث ... من الجفون أو الأحشاء عريانا
ثم قال فيها بعد كثير يرجى عفو الله فيه:
فما النّسيب بأولى (8) من حديث علا ... عن الإمام ينيل المرء رضوانا
يمّمه تحظ بما أملت من أمل (9) ... يجنيك للسّول أفنانا فأفنانا
ومنها في المدح:
ملك يخفّ لراجيه بنائله ... على وقار يرى كالعين ثملانا
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 255).
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 256).
(3) إلياس: هو إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. قلائد الجمان (ص 133).
(4) في النفح: «تجد».
(5) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 151150).
(6) في الكتيبة: «هذا الطهور».
(7) في الكتيبة: «فلا».
(8) في الأصل: «أولى» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(9) في الكتيبة: «من نعم تجنيك».(4/71)
ملك ينصّ له الآلاء عزته ... على السعادة في الدارين فرقانا
العاطر الذّكر ترتاح النفوس له ... تخال فيه لها روحا وريحانا
السّاحر المنطق في شتّى العلوم ... إذا سألت منه لوجه الرّشد هانا
كسا الزمان ثياب الفضل حتى ... قضا عن منكبي صرفه ظلما وعدوانا
وعظّم الشرع حتى أنّ داعيه ... لا يستطيع له المدعوّ عصيانا
ومنها في ذكر الإعذار:
لله درّك يا مولاي من ملك ... شيّدت بالحق للإسلام بنيانا
ولم تبال ببذل المال في غرض ... يعمّ بالفضل ولدانا وبلدانا
وقمت في الولد الميمون طائره ... بسنّة الدين إكمالا وإتقانا
بدا لنا قمرا (1) ترنو العيون له ... مقلّدا من نطاق المجد شهبانا
وقام يسحب أذيال الجمال على ... بساط ملكك بالإعذار جذلانا
خجلان بالقصور عن بلوغ مدا ... من العلى بل الحسن منه قد بانا
فدته أنفسنا لو كان يقبلها ... منّا وكانت على الإبلال قربانا
فيا دما سال عن تقوى فعاد له ... بين الدّماء طهورا طيّبا زانا
ولا دليل على الغفلة المعبّر عنها بالسلامة والذهول كقوله: وقمت في الولد الميمون طائره. ومن ذلك قوله يخاطب صاحب العلامة بالمغرب أبا القاسم بن رضوان (2): [الطويل]
لك الله قلبي في هواك رهين ... وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلّي خالصا ... وملكك للحرّ الصّريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به ... يترجم سرّ في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابس ... وسحّ لدينا (3) من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ... بدنياك في الأمر المهمّ تعين
وقصّر من لم تعلم النفس أنه ... خذول إذا خان الزمان يخون
__________
(1) في الكتيبة: «قمر».
(2) هو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان، كما في نفح الطيب (ج 8ص 256). والقصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 258256).
(3) في الأصل: «لنا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/72)
وإني بحمد الله عنه لفي غنى ... وحسبي صبر عن سواك يصون
أبى لي مجد عن كرام ورثته ... وقوفا بباب للكرام (1) يهين
ونفسي (2) سمت فوق السّماكين همّة ... وما كلّ نفس بالهوان تدين
ولمّا رأت عيني محيّاك أقسمت ... بأنّك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ... بريّة إذ شرخ الشّباب خدين (3)
بحيث نشأنا لابسين حلى التّقى ... وكلّ بكلّ عند ذاك ضنين
أما وسنى تلك الليالي وطيبها ... ووجد غرامي والحديث شجون (4)
وفتيان صدق كالشّموس وكالحيا ... حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الدّيار فوجدنا ... عليها له بين الضّلوع أنين
إذا مرّ حين زاده الشوق جدّة ... وليس يعاب (5) للرّبوع حنين (6)
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا ... وحان افتراق لم نخله يحين
وبعد التقينا في محلّ تغرّب ... وكلّ الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله ... وما لك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي ... على شكرها الرّبّ العظيم يعين
يمينا لقد أوليتنا منك نعمة ... تلذّ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هي كلّها ... لها وجه حرّ بالحياء مصون
ولمّا قدمت الآن زاد سرورنا ... ومقدمك الأسنى بذاك قمين (7)
لأنك أنت الرّوح منّا وكلّنا ... جسوم، فعند البعد كيف تكون
ولو كان قدر الحبّ فيك لقاؤنا ... إليك لكنّا باللّزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد دوننا (8) ... فراحته شمل الجميع تصون
__________
(1) في النفح: «للكريم».
(2) في النفح: «ونفس».
(3) الخدين: الصديق. لسان العرب (خدن).
(4) أخذه من المثل: «الحديث ذو شجون»، أي ذو فنون وأغراض. مجمع الأمثال (ج 1ص 197) ولسان العرب (شجن).
(5) في النفح: «بعاب». والعاب: العيب. محيط المحيط (عيب).
(6) جاء في النفح بعد هذا البيت البيت التالي:
وأنّى بمسلاها وللبين لذعة ... أقلّ أذاها للسليم جنون
(7) القمين: الجدير، الخليق. لسان العرب (قمن).
(8) في النفح: «جهدنا».(4/73)
هنيئا هنيئا أيها العلم الرّضا ... بما لك في طيّ القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتّقى ... فحبّك دنيا للمحبّ ودين
وكم لك في دار (1) الخلافة من يد ... أقرّت لها بالصّدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلّة ... فأنت لديها ما حيّيت مكين
فلا وجه إلّا وهو بالبشر مقبل (2) ... ولا نطق إلّا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره (3) ... صحيحا كما قد صحّ منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنيّة ... من الفكر عن حال المحبّ تبين
أتتك ابن رضوان تمتّ بودّها ... وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخلّ انتقاد البحث عن هفواتها ... ومهّد لها بالسّمح حيث تكون
وخذها على علّاتها فحديثها ... حديث غريب قد عراه سكون
ومن شعره قوله في ليلة الميلاد الكريم من قصيدة (4): [الطويل]
خليليّ، مرّا على أرض (5) مأرب ... ولا تعذلاني إنني غير آئب
وهي طويلة أثبتت في الرّحلة، فلينظرها هنالك من أراد استيفاء غرضها.
نثره: من أمثل ما صدر عنه في غرض غريب، وهو وصف نخلة بإزاء باب الحمراء. ونثره كثير، ولكنا اخترنا له ما اختار لنفسه، وأشاد بشفوفه على أبناء جنسه:
يا أيها الأخلّاء الذين لهم الصّنائع، التي تحسدها الغمائم، والبدائع التي تودّها بدلا من أزهارها الكمائم، بقيتم وشملكم جميع، وروض أملكم مريع، والكل منكم للغريب الحسن من حديث المحبّ سميع: [الوافر]
بأرض النخل قلبي مستهام ... فكيف يطيب لي عنها المقام؟
لذاك إذا رأيت لها شبها ... أقول وما يصاحبني ملام
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
فسلّمت يوما تسليم المبرّة، على مدنها الحرّة البرّة، جارة حائط الدار، الواقفة للخدمة كالمنار، على سدّة الجدار، بياض النهار، وسواد الليل المتلفّعة بشعار
__________
(1) في النفح: «باب».
(2) في النفح: «مشرق».
(3) الذمار: ما يدافع عنه. لسان العرب (ذمر).
(4) البيت في الكتيبة الكامنة (ص 151).
(5) في الكتيبة: «أمّ».(4/74)
الوقار، المكفولة الذّيل، أنيسة مشيخة الجماعة، القاطنة من الحمراء العليّة، بباب ابن سماعة، فحين عطفت عليها، وصرفت زمام راحلتي إليها، ووقفت بإزاء فنائها، ولكنها وقوف المشفق من فنائي وفنائها، وقلت لها: كيف حالك أيتها الجارة، السّاكنة بنجدة الحجارة، الواعظة للقريب والبعيد، بمقامها صامتة على الصّعيد:
[الطويل]
سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها ... ولا زلت في خضراء غضّ نظيرها
فما أحقّك من باسقة بالتّرحيب، وأقربك من رحمات السّميع المجيب، خلتها اهتزّت عند النّداء اهتزاز السّرور، وتمايلت أكمامها تمايل الثّمل المسرور، ثم قالت لسائلها، بلسان وسائلها، عند مشاهدة مثلي تقول العرب: عينها فرارها، وابن جدّها للناظرين اصفرارها، وجملة بخيّتي، بعد إتمام تحيّتي، أنّ الدهر عجم قناتي، ومسّ الكبر كدّر سناتي، وما عسى أن أبثّ من ثكناتي، وجلّ علاتي من تركيب ذاتي.
ولكنّي أجد مع ذلك أنّ وقاري، حسّن لدى الحيّ احتقاري، وكثرة قناعتي، أثمرت إضاعتي، وكمال قدّي، أوجب قدّي، فما أنس م الأشياء، لا أنس عدوان جعسوس (1)، من لعبوش اليهود أو المجوس، يفحص بمديته عن وريدي، ويحرص على مدّ جريدي، ويجدع كل عام بخنجره أنفي، وكلّما رمت كفّ إذايته عني، كشم كفّ، فلو رأيتم صعصعة أفناني، وسمعتم عند جدم بناني، قعقعة جناني، والدمع لمّا جفاني، يفيض من أجفاني، والجعسوس الخبيث المنحوس قد شدّ ما حدّ بأمراسه، ورفعه لبيعة كفره على راسه، بعد الأمر بوضعه على أسنمة القبور، حسبما ثبت في الحديث المشهور، لحملتكم يا بني سام وحام، على الغيرة وشائج الأرحام، فقد علمتم بنصّ الأثر أني عمّتكم القديمة، وإن لم أكن لذلك بأهل فإني لكم اليوم خديمة، أو من ذرّيّة الفريق الموجب المضروب به المثل يوم السّقيفة، لمن رام من أشراف الأندلس أن يكون إذ ذاك خليفة. وخالة أبي كانت النخلة البرشاء الكبيرة، التي حادثها الأمير عبد الرحمن بالرّصافة (2) القريبة من كورة إلبيرة. فكيف
__________
(1) قال عنه ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 146): «القاضي علي بن عبد الله بن الحسن البني، المدعو بجعسوس». والجعسوس: القصير الذميم، والجمع جعاسيس. محيط المحيط (جعس).
(2) يشير إلى قول الأمير عبد الرحمن الداخل، وقد نزل بمنية الرصافة بقرطبة، فنظر فيها إلى نخلة، فهاجت شجنه، وتذكّر وطنه، فقال على البديهة أبياتا منها [الطويل]:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل
فقلت: شبيهي في التغرّب والنّوى ... وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي(4/75)
يسهل اليوم عليكم إهمالي، ويجمل لديكم إخمالي، وترك احتمالي، والأيام والحمد لله مساعدة، والملك ملك بني ساعدة؟ فلمّا سمعت عتابها، وعلمت أنها قد شدّت للمناضلة أقتابها، قلت لها: أهلا بك وسهلا، ومهلا عليك أو بهلا، لقد دسع بعيرك، وعادت بالخيبة عيرك. فليست الحقيقة كالمجاز، ولا جلّيقية في النّيّات كالحجاز. هنا جنّات من أعناب مرسلة الذّيول، مكملة الأطناب، قد طاب استيارها، وحمد اختبارها واختيارها، وعذبت عيون أنهارها، وتفتّحت كمائم أزهارها، عن وردها ونرجسها وبهارها، وسرت بطرف محاسنها الرّفاق، حتى قلقت منها الشّام واليمن والعراق. فحين كثر خيرها، سحر بالضّرورة غيرها، وأنت لا كنت يا خشبة، قد صرت من المنال عشبة، وأصبحت نذلي خالفة، ورذلي بالهم تالفة، لا يجتنى بلحك ولا طلعك، ولا يرتجى نفعك، فالأولى قطعك أو قلعك، وإلّا فأين قنوك أو صنوك، أو تمرك أو سبرك؟ هلا أبقيت يا فسيلة على نفسك، وراعيته صلحة جنسك؟ ولقد انتهت بك المحارجة إلى ارتكاب ما لا يجوز، وفي علمك أنّ من أمثال الحكماء كل هالك عجوز. حسبك السّمح لك بالمقام، ما دمت حيّة في هذا المقام. فانقطع كلامها، وارتفع بحكم العجز ملامها. وما كان إلّا أن نقل مقالي، فقال المتكلم بلسان القالي: أنا أتطوّع بالجواب، وعلى الله جزيل الثّواب، ليعلم كلّ سائل، أنّ تفضيل النخل على العنب من المسائل التي لا يسع فيها جحد جاحد، وإن كانا أخوين سقيا بماء واحد. وقد جرى مثل هذا الخطاب بين يدي عمر بن الخطاب، فقيل: يا بني حتمة: أيهما أطيب، الرّطب أم العنب؟ فقال: ليس كالصقر، في رؤوس الرّقل، الراسخات في العقل، المطعمات في المحل، تحفة الصّائم، ونقلة الصّبي القادم، ونزل مريم بنت عمران، والنخلة هي التي مثّل بها المؤمن من الإنسان، ليس كالزّبيب الذي إن أكلته ضرست، وإن تركته غربت، وكفى بهذه الرواية حجّة، لمن أراد سلوك المحجّة. وعلى كل تقدير، فقد لزم التفضيل للنخلة على الكرمة لزوم الصّلة للموصول، والنّصب للمنادى الممطول، والعجز لكتابي المحصّل والمحصول. وكم على ترجيح ذلك من قياس صحيح، ونقل ثابت صريح. قال:
واعتذاركم بالمهرمة، عن فعل المكرمة، لأمة في تلك الطّباع كامنة، وسامة للتّلف لا للخلف ضامنة. وذكرتم الثّمرة والبسرة، والوقت ليس بوقت عسرة، فأذكرتم قول القائل، في بعض المسائل: دعنا من تمرتان وبسرتان أو تمرتين وبسرتين، على الوجهين، المتوجّهين في المسلتين، وفي ضمن ذكركم لذلك أدلّة صدق على
__________
البيان المغرب (ج 2ص 60).(4/76)
تطلّع النفس الفقيرة، للأعراض التافهة الحقيرة، والإمامة العظمى، أجلّ عندنا وأسمى، من أن تلحظ بعينها تلك الملاحظ، ولواصل لديها مراتبها وأفكارها ببيانه وتبيانه عمرو بن بحر الجاحظ، إذ هي كافأ الله فضلها ولا قلّص ظلّها كالسّحاب، نجود بغيثها على الآكام والضّراب، ومنابت الشجر من التّراب، فضلا عن الخدمة والأتراب، فليس يضيع مع جميل نظرها ذو نسب، ولا يجهل في أيامها السّعيدة مقدار منتسب إلى حسب. وإن وقعت هفوة صغيرة، أعقبتها حسنة كبيرة، ومنن أثيرة، ونعم كثيرة. ولم لا، وروح أمرها، ومذهب نصرة جمرها، علم السادة للقادة الأكابر، المغرم بجبر كل كسير، وناهيك من به جابر الرازي، ذكر مآثره بعرف أطيب الطّيب، الوزير أبو عبد الله بن الخطيب. والمطلوب منه لهذه الشجرة الثّرما، الغريبة الشّما، التي أصلها ثابت وفرعها في السما، إنما هو يسير بنا، وظهير اعتنا، وخنجر يرما، لعل عباسة أديم دوها أن تذهب، وأكمام كباسة قنوها أن تفضّض بنعيم النضارة ثم تذهّب، ويعود إليها شرخ شبابها، وتستحكم صفرة ثيابها، وخضرة جلبابها، وذلك كله بمنّ اللطيف الخبير، من أسهل العمل على مجد الأمير، وفضل الوزير، إذ هما، دام عزّهما، على بيّنة من أن الإحسان ألقاح، والشكر نتاجه، والثناء إكليل، وهو في الحقيقة تاجه. قال المسلم: ومن يا إخوتي، لعلّي بمعارضة الحافظ أبي علي، ولو أني اشتملت شملة النّضر بن شميل، وأصبحت أفصح من عامر بن الطّفيل، وأخطب من شبيب، وأشعر من حبيب، وجزت من طرق الجدال، منازل نقدة صدور الأبدال. وعلى أنه ما قال إلّا حقّا، فبعدا للمرء وسحقا. ولكني أقسم عليكم بمقدّر الضّيا والحلك، ومسخّر نجوم الفلك، بإصابة الأعراب، وأصحاب الإغراب، وأرباب فنون الإعراب، ألا ما تأمّلتم فصول هذه المقالة، وأفتيتم بما يترجّح فيها لديكم من نسخ أو فسخ أو إجادة أو إقالة، فأنتم علماء الكلام، وزعماء كتائب الأقلام، والمراجعات بين شقاشق الرجال شنشنة معروفة، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة، لا زلتم مذكورين في أهل البيان، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان. والله سبحانه يجعل التّوفيق حاديكم، ونور العلم هاديكم، ومنه نسل، جلّ اسمه، التطهير من كل معابة، والسّمح فيما تخلّل هذه المقامة من دعابة، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد، والرّحمات والمسرات، والبركات والخيرات، من كاتبها علي بن عبد الله بن الحسن، أرشده الله.(4/77)
المقرئون والعلماء
علي بن أحمد بن خلف بن محمد بن الباذش الأنصاري (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، الشيخ الأستاذ، إمام الفريضة بجامع غرناطة.
حاله: من الملّاحي: أوحد زمانه إتقانا ومعرفة ومشاركة في العلوم وانفرادا بعلم العربية. وكان حسن الخطّ، كثير الكتب، ترك منها بخطه كثيرا جدا، مشاركا في الحديث، عالما بأسماء رجاله ونقلته، مع الدّين، والفضل، والزهد، والانقباض عن أهل الدنيا، وترك الملابسة لهم.
مشيخته: قرأ على المقرئ بغرناطة أبي القاسم نعم الخلف بن محمد بن يحيى الأنصاري، وأبي علي الصّدفي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وحدث عنه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى، والقاضي أبو محمد بن عطية، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الرحيم، والقاضي أبو بكر جابر بن يحيى التّغلبي، والقاضي أبو خالد عبد الله بن أبي زمنين، والقاضي أبو الحسن بن أضحى.
تواليفه: ألّف في النحو كتبا كثيرة، منها على كتاب سيبويه، وعلى كتاب المقتضب، وعلى الأصول لابن السّراج، وشرح كتاب الإيضاح، وكلامه على كتاب الجمل لأبي القاسم، وكلامه على الكافي لابن النحاس، مع التنبيه على وهمه في نحو مائة موضع، إلى غير ذلك.
شعره: قال أبو القاسم: وله نظم ليس بالكثير. فمن ذلك: [الكامل]
أصبحت تقعد بالهوى وتقوم ... وبه تقرّظ معشرا وتديم
تعنيك نفسك فاشتغل بصلاحها ... إنني بغير السّقام سقيم (2)
وفاته: توفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وصلّى عليه إثر صلاة العصر ابنه الأستاذ أبو جعفر، ودفن بمقبرة باب إلبيرة، وازدحم الناس على نعشه، وكانت جنازته حافلة، وتفجّع الناس على قبره. وقبره مشهور، يتبرّك به الناس.
__________
(1) ترجمة ابن الباذش في الصلة (ص 618) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 280).
(2) عجز هذا البيت مختل الوزن.(4/78)
علي بن محمد بن دري
المقرئ الفقيه، الخطيب أبو الحسن، الإمام بجامع غرناطة، أصله من طليطلة.
حاله: كان من خيار الناس وفضلائهم، وأهل المعرفة منهم، عارفا بإقراء كتاب الله، عزّ وجلّ، والرواية للحديث. أخذ الناس عنه، وكانت عنده مشاركة ومسارعة لقضاء الحوائج، والمشي للإصلاح بين الناس، والإشفاق على المساكين، كثير الصدقة، والسّعي في فداء الأسرى، والوسائط الجميلة في مهمّات الأمور ومشكلاتها.
دخل رجل تاجر غريب الميضأة للوضوء، فنسي بها وعاء فيه جملة مال، فتذكّر له، فرجع ولم يجده، فسقط مغشيا عليه، فاجتمع عليه الناس، وهو يقول: مالي، ووافق خروج الأستاذ أبي الحسن المذكور من الجامع، فسأل عنه، فجالس أذنه، فقال:
مالك عندي وديعة تركته أنت عندي، وإذا كان بعد صلاة العصر تأخذه. فقام الرجل، فكأنما نشط من عقال، ومشى الخطيب في حينه إلى مشرف غرناطة ابن مالك، فقال له: إني اشتريت لك قصرا في الجنة، بخمسمائة دنير، وأنا الضّامن لذلك، فشكره، وأخبره الخطيب بالقصة، فدفع إليه المال، فدفعه إلى الرجل. وكان الناس لا يتوقّفون له في أمر.
مشيخته: روى بطليطلة عن أبي عبد الله المقامي، وعن أبي مسلم الضرير المقرئ، والقاضي أبي الوليد الوقّشي، وأخذ عن أبوي علي الصّدفي والغساني، وعن أبي مروان بن سراج، وابنه سراج.
وفاته: توفي بغرناطة في رمضان سنة عشرين وخمسمائة، وصلّى عليه القاضي أبو القاسم بن ورد، ودفن في مقبرة باب إلبيرة، وكانت جنازته حافلة، وتفجّع الناس عليه، وأخلصوا الدعاء له.
وممن رثاه أبو عبد الله بن أبي الخصال بقوله: [الطويل]
عتاب وما يغني العتاب على الزمن ... وشكوى كما تشكو الرّياح إلى السفن
وما رضيت بعد الغضارة أيكة ... نبحت ولكن عالم الكون ممتحن
وماذا عليه والسّلامة حظّه ... بأن تتخطاه النّوائب والمحن
فليت كريما ينعش الناس (1) خيره ... يعمّر فيها عمره (2) الآن أو حضن
__________
(1) في الأصل: «للناس» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «عمرته»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/79)
ولكنه يمضي كظلّ غمامة ... ويبقى لسمّ سرّه غير مؤتمن
يودّ الفتى طول البقاء وطوله ... يورّثه ثكل الأحبّة والبدن
وأيّ اغتباط في حياة مرزّءا ... يروح على بثّ ويغدو على شجن
زيادته نغص (1) وجدّته بلى ... وراحته كرب وهدنته دخن
إذا فوّق السّهم المصيب فقلبه ... ومن صار فيه من أحبّته فنن
فيا عجبا للمرء يلتذّ عيشه ... معايش (2) قد لزّت مع الموت في قرن
أرى كلّ حيّ للمنيّة حاملا ... فيا ويحه ممّا تحمّل واحتضن
إذا زادت الأيام فينا إساءة ... نزيد على علم بما ساء حسن ظنّ
ولم أر مثل الموت حقّا كباطل ... وكلّ قباء (3) ليس بالموت مرتهن
أإخواننا، لم تبق إلّا تحيّة ... أرقّي (4) بها تلك المعاهد والدّمن
أإخواننا، هل تسمعون تحيّتي ... وذو كلم ما تحجب السّرّ والعلن؟
أبا الحسن، خلّد في الجنان منعّما ... جزاء بما أسلفت من سعيك الحسن
يطير فؤادي روعة فإذا رأى ... محيّاك في دار الغنا والرّضا سكن
وقد كنت ترتاد المواطن إذ نبت ... فبوّأك الرحمن فردوسه وطن
وبتّ معنّى بالجلاء فنلته ... وقد كان حاديه يغرّد بالظّعن
ولم ترض إلّا الأرض هجرتك التي ... تخيّرها الأولياء على القنن
وفي مثلها أنّ الرسول مهاجر (5) ... لسعد وقد واراه أكرم مدفن
على أنك المدعوّ من كل بلدة ... هلمّ فإنّا دونك الحجب الجنن (6)
سيرضيك من أرضيته في عباده ... وجاهدت فيه بالفروض وبالسّنن
ويبقى كما بقيت بعدك أنه ... لهم فلما استهوتهم روعة سكن
ويحفظهم حفظ اليتيمين أيّدا ... بوقع جدار قد تداعى وقد وهن
أبا الحسن، إنّ المدى، بعد ما بدا، ... طويل، ولا يعتدّ في جنب ما بطن
وأسير وجد في فراقك أنه ... سيبقى عليك الوجد ما بقي الزمن
__________
(1) في الأصل: «تغصّ»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) قوله: «معايش قد» ساقط في الأصل، وقد أضفناه ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «قباليّه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «أرقد»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(5) كلمة «مهاجر» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(6) في الأصل: «والجنن» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/80)
سقى الله والسّقيا بكفّيه تربة ... مباركة ضمّتك أسرع ما هتن
ولا برحتها ديمة مستهلة ... إذا ركضتها الرّيح قام بها جرن
فلا زلت في روض وروح ورحمة ... ومقبرة تترى على ذلك الجنن
علي بن عمر بن إبراهيم ابن عبد الله الكناني القيجاطي (1)
يكنى أبا الحسن، أصله من بسطة، واستوطن غرناطة، حتى عدّ من أهلها قراءة وإقراء ولزوما.
حاله: من «العائد» (2): أوحد زمانه علما وتخلّقا وتواضعا وتفنّنا. ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة، وقعد بمسجدها الأعظم يقرئ فنونا من العلم، من قراءات وفقه وعربية وأدب. وولّي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ، حسن السّيرة، عظيم النفع. وقصده الناس، وأخذ عنه البعيد والقريب (3). وكان أديبا لو ذعيّا، فكها، حلوا، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب، إثر قراءة المكتب.
مشيخته: قرأ على أبيه ببلده بسطة القرآن، بالرّوايات السبع، وجمعها في ختمة، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن مساعد الغسّاني. وقرأ بغرناطة القرآن على الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، والأستاذ أبي جعفر الطبّاع، والأستاذ الشهير أبي الحسن بن الضايع، والأستاذ النحوي أبي الحسن الأبّدي، وعلى القاضي أبي عمرو بن الرّندي، والفقيه القاضي أبي علي بن الأحوص، وعلى الفقيه النّسابة أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير. ولقي الشيخ الصالح وليّ الله أبا إسحاق بن عبيدس، وحضر مجالسه العامة. وذكر أنه كان يفتتح مجلسه الذي يتكلم فيه بقوله: لا حول ولا قوة إلّا بالله، كنز من كنوز الجنة، رزقنا الله الأدب مع الله، واستعملنا فيما يرضيه، ويرضي رسوله، وجعل حظّنا في الدار الآخرة. ولقي الإمام بجامع بسطة الخطيب الراوية أبا الحسن بن نافع، وغيرهم، وله تواليف في
__________
(1) ترجمة أبي الحسن علي بن عمر القيجاطي في الكتيبة الكامنة (ص 37) وبغية الوعاة (ص 344) والديباج المذهب (ص 207) ونفح الطيب (ج 8ص 51). والقيجاطي: نسبة إلى قيجاطة وهي مدينة بالأندلس من عمل جيان.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 51).
(3) في النفح: «الناس وأخذوا عنه».(4/81)
فنون، وشعر، ونثر. فمن شعره قوله (1): [الكامل]
روض المشيب تفتّحت أزهاره ... حتى استبان ثغامه (2) وبهاره
ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح فيه نهاره
فأتى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غراب (3) لا يخاف مطاره
والعمر مثل البدر يرمق (4) حسنه ... حينا ويعقب بعد ذاك سراره
ما للإخاء تقلّصت أفياؤه ... ما للصّفاء تكدّرت آثاره
والحرّ يصفح إن أخلّ خليله ... والبرّ يسمح إن تجرّأ جاره (5)
فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه يرفع (6) إن علا مقداره
ولأنت تعلم أنني زمن الصّبا ... ما زلت زندا والحياء سواره
والهجر ما بين الأحبّة لم يزل ... ترك الكلام أو السّلام مثاره
ولكم تجافى عن جفاء (7) خليله ... فطن وقد ظفرت به أظفاره
ولكم أصرّ على التّدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره
فأقام كالكسعيّ بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره (8)
أنكرتم من حقّ معترف لكم ... بالحقّ ما لا ينبغي إنكاره
والشّرع قد منع التقاطع نصّه ... قطعا وقد وردت به (9) أخباره
والسّنّ سنّ تورّع وتبرّع ... وتسرّع لتشرّع (10) تختاره
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 4038) ونفح الطيب (ج 8ص 5351).
(2) الثّغام: نبات أبيض الزهر والثمر، واحدته ثغامة. لسان العرب (ثغم).
(3) في الأصل: «غروب لا نخاف» والتصويب من المصدرين.
(4) في النفح: «يبدو». وفي الكتيبة الكامنة: «يونق».
(5) رواية البيت في النفح هي:
والحرّ يصفح إن تمكّن جاهه ... وتراه ينفع إن علا مقداره
(6) في النفح: «ينفع».
(7) في الأصل: «خفاء»، والتصويب من المصدرين.
(8) الكسعيّ: مضرب المثل في الندم، وقد ورد في شعر الفرزدق عندما ندم على طلاق زوجته النوار، وهي نوار ابنة أعين بن ضبيعة بن عقال المجاشعي، وهي ابنة عم الفرزدق [الوافر]:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت مني مطلّقة نوار
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
وفيات الأعيان (ج 5ص 83) وهما ليسا في ديوان الفرزدق.
(9) في الكتيبة: «بذا».
(10) في الأصل: «لتشرّح»، والتصويب من المصدرين.(4/82)
ما يومنا من أمسنا قدك (1) اتّئد ... ذهب الشّباب فكيف يبقى عاره؟
هلّا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حقّ (2) عليكم حظره وحذاره
عجبا لمن يجري هواه لغاية ... محدودة إضماره مضماره
يأتي ضحى ما كان يأتيه دجى ... فكأنّه ما شاب منه عذاره
فيعدّ ما تفنى (3) به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره
فالنفس قد أجرته ملء عنانه (4) ... يشتدّ في مضمارها (5) إحضاره (6)
والمرء من إخوانه في جنّة (7) ... بل جنّة تجري بها أنهاره
فاليمن (8) قد مدّت إليه يمينه ... واليسر قد شدّت عليه يساره
شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه (9) من أشعاره إشعاره
ولو اختبرتم نقده بمحكّه (10) ... لامتاز بهرجه ولاح (11) نضاره
هذا هدى فيه (12) اقتده تنل المنى (13) ... أو أنت في هذا وما تختاره
وعليكم مني سلام مثل ما ... أرجت بروض يانع أزهاره
ومن شعره في الرّثاء قوله من قصيدة (14): [الطويل]
حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد
وذلك شجو في حناجرنا شجى ... وذلك لهو (15) في ضمائرنا جدّ
أرى أرجل الأرزاء تشتدّ نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتدّ
ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد
__________
(1) في الأصل: «قطك اتّبت»، والتصويب من الكتيبة الكامنة. وفي النفح: «متدارك» بدل «قدك اتّئد».
(2) في الكتيبة: «فرض».
(3) في الأصل: «فبعد ما تنعى»، والتصويب من المصدرين.
(4) في النفح: «عنانها».
(5) في الكتيبة: «إحضارها».
(6) الإحضار: الجري السريع. لسان العرب (حضر).
(7) الجنّة، بضمّ الجيم: الدرع. لسان العرب (جنن).
(8) في النفح: «واليمن».
(9) في الكتيبة: «يبديه».
(10) في النفح: «بمحكّة».
(11) في الكتيبة: «وبان».
(12) في المصدرين: «فبه».
(13) في الكتيبة: «الرضى».
(14) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 38) ونفح الطيب (ج 8ص 53).
(15) في النفح: «هزل».(4/83)
فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحة (1) السّاهي إذا سمع الرّعد
مصاب به قدّت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد
تلين له الصّمّ الصّلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصّلد
فلا مقلة ترنو ولا أذن تعي ... ولا راحة تعطو ولا قدم تعدو
وقد كان يبدو الصّبر منّا تجلّدا ... وهذا مصاب صبرنا فيه لا (2) يبدو
مولده: عام خمسين وستمائة.
وفاته: توفي بغرناطة ضحى يوم السبت التاسع (3) والعشرين من شهر ذي حجة من عام ثلاثين وسبعمائة، ودفن في عصر اليوم بعد بجبانة باب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيما، حضرها السلطان، واحتمل الطلبة نعشه.
ومن الطارئين
عمر بن عبد المجيد بن عمر الأزدي (4)
المعروف بالرّندي، من أهل رندة، يكنى أبا علي (5).
حاله: كان من جملة المقرئين، وجهابذة الأستاذين، مشاركا في فنون، نقّادا، فاضلا.
مشيخته: روى (6) عن أبي زيد السّهيلي (7)، وعنه أخذ العربية والأدب، وبه تفقّه، وإياه اعتمد. وعن أبي محمد القاسم بن دحمان، وأبي عبد الله بن أبان، وتلا على هؤلاء القراءات بقراءات السّبعة. وعن أبي إسحاق بن قرقول، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي، وأبي محمد عبد الحق بن بونه، وأبي عبد الله الحميري الإستجّي، وأبي العباس بن اليتيم، وأبي عبد الله بن مدرك، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد. أخذ عن هؤلاء بمالقة، من أهلها، ومن الواردين عليها. ورحل إلى غرناطة، فأخذ بها عن يزيد بن رفاعة، وابن كوثر،
__________
(1) في الأصل: «فتسبيحه» والتصويب من المصدرين.
(2) في النفح: «ما يبدو».
(3) في نفح الطيب (ج 8ص 54): «السابع».
(4) ترجمة عمر بن عبد المجيد الأزدي في التكملة (ج 3ص 157) والذيل والتكملة (ج 5ص 450) وبغية الوعاة (ص 361).
(5) في التكملة والذيل والتكملة: «يكنى أبا علي وأبا حفص».
(6) قارن بالتكملة (ج 3ص 158157).
(7) في التكملة: «سمع أبا القاسم السهيلي».(4/84)
وابن عروس (1)، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وأبي جعفر بن حكم. وإلى قرطبة، فأخذ بها عن ابن بشكوال، وأبي القاسم المشراط. وإلى إشبيلية، فأخذ بها عن أبي بكر بن الجدّ، وأبي عبد الله بن رزق، وابن خير، وابن صاف. وأخذ بسبتة عن ابن عبيد الله. وبالجزيرة الخضراء عن القاضي أبي جعفر بن عزرة (2). هؤلاء جملة من أخذ عنهم باللقاء والمشافهة. وأجازه جماعة من أهل المشرق كبيرة، ذكرهم في برنامجه، كالخشوعي، والأرحي، والحرشاني (3)، وحدّث عن السلفي الحافظ بإجازته العامة.
تواليفه: شرح جمل أبي القاسم الزّجاجي، وردّ على ابن خروف، منتصرا بشيخه أبي زيد السهيلي في مسألة نحوية ردّ فيها ابن خروف على السّهيلي، وقيّد فيما جرى بينه وبين الأستاذ أبي محمد القرطبي، جزءا سماه ب «الحقبي، في أغاليط القرطبي»، لم يخل فيه عن حمل وتعسّف. وألّف برنامجا جامعا. روى عنه أبو عبد الله بن عسكر القاضي، والشيخ أبو عبد الله بن عبيد الأوسي، وأبو عبد الله الطّنجالي، والخطيب ابن أبي ريحانة.
مولده: سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
وفاته: توفي سحر يوم الجمعة الموفي عشرين لشهر ربيع الثاني سنة عشر وستمائة (4).
عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الأموي (5)
المقرئ، الحافظ المعروف بابن الصّيرفي، قرطبي الأصل، يكنى أبا عمرو، ويشتهر بالدّاني لاستيطانه دانية. ودخل إلبيرة، وقرأ على أبي عبد الله بن أبي زمنين، فوجب ذكره لذلك.
__________
(1) هو أبو بكر يحيى بن محمد السلمي الغرناطي، المعروف بابن عروس، وترجمته في التكملة (ج 4ص 181).
(2) في التكملة: أبو حفص بن عذرة.
(3) في التكملة: أبو القاسم الحرستاني.
(4) في التكملة: «وتوفي بمالقة سحر ليلة الجمعة الحادي والعشرين لشهر ربيع الآخر سنة 616، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقال ابن غالب: في جمادى الأولى». ومثله قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة (ج 5ص 454).
(5) ترجمة عثمان بن سعيد الداني الأموي في جذوة المقتبس (ص 305) وبغية الملتمس (ص 411) والصلة (ص 592) ونفح الطيب (ج 2ص 350).(4/85)
حاله: كان أحد الأئمة الأعلام في علم القرآن، وآياته، وتفسيره، ومعانيه وإعرابه، وجمع في ذلك كله التواليف العجيبة التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته. وكان حسن الخطّ، جيد الضبط، آية في الحفظ والعلم، والذكاء والفهم، ديّنا عارفا، ورعا سنيّا. قال المغامي (1):
وكان أبو عمرو مجاب الدعوة. وذكره الحميدي فقال (2): محدّث مكثر، مقرئ متقدّم.
مشيخته: روى (3) عن أبي المطرف عبد الرحمن بن عثمان القشيري بقرطبة، وعن أبي بكر حاتم بن عبد الله البزاز (4)، وأبي عبد الله محمد بن خليفة، وأحمد بن فتح بن الرّهان (5)، وأبي بكر بن خليل، ويونس بن عبد الله القاضي، وخلف بن يحيى، وغيرهم. وبإلبيرة عن محمد بن أبي زمنين كثيرا من رواياته وتواليفه.
وسمع بأستجّة وبجّانة وسرقسطة (6) من بلاد الثغر. ورحل إلى المشرق (7)، فلقي (8)
أبا الحسن بن أحمد بن مراس العنقي. وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس، وأبي القاسم بن ميسّر، وخلف بن إبراهيم بن خاقان، وفارس بن أحمد، وطاهر بن عبد المنعم، وبالقيروان من أبي الحسن القابسي (9). وقدم الأندلس فاستوطن دانية.
شعره: قال أبو القاسم بن بشكوال: ومما يذكر من شعره قوله (10):
[البسيط]
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... يجري (11) على كل من يعزى إلى الأدب
__________
(1) في الأصل: «المغلى»، والتصويب من الصلة (ص 593). والمغامي هو أبو عبد الله محمد بن عتيق بن فرج بن أبي العباس بن إسحاق التجيبي المغامي، نسبة إلى مقام بلد بالأندلس. معجم البلدان (ج 5ص 61).
(2) جذوة المقتبس (ص 305).
(3) قارن بالصلة (ص 592) ونفح الطيب (ج 5ص 350).
(4) في النفح: «البزار»، بالراء المهملة.
(5) في الصلة: «الرسان».
(6) في الصلة: «وغيرها من بلاد الثّغر».
(7) في نفح الطيب: «ورحل إلى المشرق سنة 397هـ وحجّ ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399».
(8) في الصلة: «ولقي بمكة أبا الحسن أحمد بن فراس العبقسي».
(9) في الأصل: «القانسي»، والتصويب من المصدرين.
(10) الأبيات في جذوة المقتبس (ص 305) وبغية الملتمس (ص 412) والصلة (ص 593).
(11) في الأصل: «يجرّ»، وكذا يختل الوزن، والتصويب من المصادر.(4/86)
لا شيء أبلغ من ذلّ يجرّعه (1) ... أهل الخساسة أهل الدّين والحسب
القائمين (2) بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزّيغ والرّيب
مولده: قال أبو عمرو (3): سمعت والدي يقول: إني ولدت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وابتدأت طلب العلم بعد خمس وثمانين.
وفاته: من خط أبي الحسن المقرئ (4): يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدانية، ودفن عصر اليوم المذكور ببقيعها. ومشى السلطان (5) راجلا أمام نعشه.
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح ابن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد (6)
الإمام أبو محمد بن حزم.
أوليته: أصله من الفرس، وجدّه الأقصى في الإسلام اسمه يزيد، مولى ليزيد بن أبي سفيان. قال أبو مروان بن حيان: وقد كان من عجائبه، انتماؤه في فارس وأتباع أهل بيته، له في ذلك بعد حقبة من الدهر تولّى فيها الوزير، المفضّل في زمانه، الراجح في ميزانه، أحمد بن سعيد بن حزم، لبني أمية أولياء نعمته، لا عن صحة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس مولّد الأرومة من عجم لبلة، جدّه الأدنى حديث عهد بالإسلام، لم يتقدّم لسلفه نباهة. فأبوه أحمد، على الحقيقة، هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر برأس رايته، وعمره بالخلال الفاضلة، من الرّجاحة والدّهاء والمعرفة والرجولة والرأي، فأسدى جرثومة شرف لمن نماهم، أغنتهم عن الرسوخ في أولى السابقة، فما من شرف إلّا مسبوق عن خارجته، ولم
__________
(1) في الأصل: «تجرّعه»، والتصويب من المصادر.
(2) في جذوة المقتبس: «العالمين».
(3) قارن بالصلة (ص 593).
(4) قارن بالصلة (ص 593).
(5) المراد بالسلطان إقبال الدولة علي بن مجاهد العامري، صاحب الجزر ودانية في عصر ملوك الطوائف. وترجمته في المغرب (ج 2ص 40) والبيان المغرب (ج 3ص 157) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 221).
(6) ترجمة ابن حزم في جذوة المقتبس (ص 308) وبغية الملتمس (ص 415) والذخيرة (ق 1ص 167) ومطمح الأنفس (ص 279) والمغرب (ج 1ص 354) والمعجب (ص 93) ومعجم الأدباء (ج 3ص 546) وشذرات الذهب (ج 3ص 299) والصلة (ص 605) والمطرب (ص 92) ورايات المبرزين (ص 118) والفلاكة والمفلوكون (ص 113) ووفيات الأعيان (ج 3ص 284) ونفح الطيب (ج 2ص 292).(4/87)
يكن إلّا كلّا ولا، حتى تخطّى على هذا أوليته لبلة، فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس. فالله أعلم كيف ترقّاها، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة، بل وصله بها وسع علم، ووشجة رحم معقومة، فلها يستأخر الصلة، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصف، وحسابه وحسابهم على الله الذي لا يظلم الناس مثقال ذرّة، عزّت قدرته.
حاله: قال الحميدي (1): كان حافظا، عالما بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنّة، متفنّنا في علوم جمّة، عاملا بعلمه، زاهدا في الدنيا بعد الرّئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله، في الإدارة (2) وتدبير الممالك، متواضعا، ذا فضائل جمّة. قال: وما (3) رأينا مثله فيما اجتمع له، مع الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتّديّن. قال أبو مروان بن حيان: كان أبو محمد حامل فنون، من حديث وفقه ونسب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة. وله في ذلك عدة تواليف.
وقد مال أولا به النّظر في الفقه إلى رأي أبي عبد الله الشافعي، وناضل عن مذاهبه، وانحرف عن مذهب غيره، حتى وسم به، واستهدف بذلك إلى كثير من الفقهاء، وعيب بالشّذوذ. ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظّاهر، مذهب داود بن علي، ومن تبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه إلى أن مضى بسبيله. وكان يحمل علمه، ويجادل عنه لمن خالفه فيه، على استرسال في طباعه، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيّنه للناس، ولا يكتمونه، فآل أمره إلى ما عرف.
مشيخته: قال (4): سمع سماعا جمّا، وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور قبل الأربعمائة.
تواليفه: قال (5): بلغت تواليفه أربعمائة مجلد. وقال: حمل بعير، فمنها في علم الحديث كتاب كبير سمّاه «الإيصال إلى فهم كتاب (6) الخصال، الجامعة لجمل شرائع الإسلام، في الواجب والحلال والحرام، وسائر الأحكام، على ما أوجبه القرآن والسّنة والإجماع» أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين،
__________
(1) جذوة المقتبس (ص 308).
(4) جذوة المقتبس (ص 308).
(2) في الجذوة: «الوزارة».
(3) جذوة المقتبس (ص 308).
(5) قارن بجذوة المقتبس (ص 309308) ووفيات الأعيان (ج 3ص 285284).
(6) كلمة «كتاب» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.(4/88)
وبيان ذلك كله، وتحقيق القول فيه. وله كتاب «الإحكام لأصول الأحكام» في غاية التقصّي وإيراد الحجاج. وكتاب «الفصل في الملل والأهواء والنّحل». وكتاب «الإجماع ومسائله» على أبواب الفقه. وكتاب «المجلّى والمحلّى» وكتاب «في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلّق بعضها ببعض». وكتاب «إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا (1) يحتمل التأويل». وهذا ممّا سبق إليه، وكتاب «التقريب لحدّ المنطق والمدخل إليه» بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظنّ عنه، وتكذيب المنحرفين (2) به طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا (3).
شعره: قال (4): وكان له في الأدب (5) والشعر نفس واسع، وباع طويل. وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. وشعره كثير، وقد جمع على حروف المعجم. ومنه قوله (6): [الطويل]
هل الدّهر إلّا ما عرفنا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذّاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرّة ساعة ... تولّت كمرّ الطّرف واستخلفت حزنا
إلى تبعات في الحساب (7) وموقف ... نودّ لديه أننا لم نكن كنّا
حصلنا على همّ وإثم وحسرة ... وفات الذي كنّا نلذّ (8) به عنّا (9)
حنين لما ولّى، وشغل لما (10) أتى ... وغمّ لما يرجى، فعيشك لا يهنا
كأنّ (11) الذي كنّا نسرّ بكونه ... إذا حقّقته النّفس لفظ بلا معنى
ومن ذلك قوله من قصيدة في الفخر (12): [الطويل]
أنا الشّمس في جوّ العلوم منيرة ... ولكنّ عيبي أنّ مطلعي الغرب
__________
(1) كلمة «لا» ساقطة في الجذوة.
(2) في المصدرين: «الممخرقين».
(3) في الجذوة: «علمناه».
(4) النص نثرا وشعرا في جذوة المقتبس (ص 311309).
(5) في الجذوة: «الآداب».
(6) الأبيات أيضا في بغية الملتمس (ص 416) والمعجب (ص 9594) والصلة (ص 606).
(7) في المصادر كلها: «المعاد».
(8) في المعجب: «نقرّ».
(9) في المعجب والصلة: «عينا».
(10) في المصادر كلها: «بما».
(11) في الأصل: «كان»، والتصويب من المصادر.
(12) الأبيات أيضا في المعجب (ص 95) وبغية الملتمس (ص 417) والذخيرة (ق 1ص 173 174) ونفح الطيب (ج 2ص 297296).(4/89)
ولو أنّني من جانب الشّرق طالع ... لجدّ على ما ضاع من ذكري النّهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصّبّ
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسّف والكرب
فكم قائل: أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أنّ للبعد قصة ... وأنّ (1) كساد العلم آفته القرب
ومنها في الاعتذار عن المدح لنفسه:
ولكنّ لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من سار (2) سيرته ذنب
يقول، وقال الحقّ والصّدق، إنني ... حفيظ عليم، ما على صادق عتب
ومن شعره قوله فيما كان يعتقده من المذهب الظاهري (3): [الطويل]
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول:
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل (4)؟
فقلت له: أسرفت في اللوم ظالما ... وعندي ردّ، لو أردت، طويل (5)
ألم تر أنّي ظاهريّ وأنني ... على ما بدا (6) حتى يقوم دليل؟
ومن ذلك قوله (7): [الطويل]
أبن وجه قول الحقّ في نفس سامع ... ودعه فنور الحقّ يسري ويشرق
سيؤنسه رفقا فينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثّق مطلق
__________
(1) في الأصل: «وأنه»، والتصويب من المصادر.
(2) في المصادر: «على من بالنبي ائتسى ذنب».
(3) الأبيات في الذخيرة (ق 1ص 175) ووفيات الأعيان (ج 3ص 287286) ومعجم الأدباء (ج 3ص 550) والمغرب (ج 1ص 356) ونفح الطيب (ج 2ص 297).
(4) في الذخيرة: «لم تر غيره ولم تذر». وفي معجم الأدباء: «أمن حسن وجه». وفي المغرب ونفح الطيب: «أمن أجل وجه أنت عليل».
(5) في الذخيرة والمغرب ومعجم الأدباء: «اللوم فاتئد فعندي ردّ، لو أشاء، طويل».
(6) في المغرب والنفح: «أرى».
(7) البيتان أيضا في بغية الملتمس (ص 417) والذخيرة (ق 1ص 174).(4/90)
ومن ذلك قوله (1): [الوافر]
لئن أصبحت مرتحلا بشخصي (2) ... فروحي (3) عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له (4) طلب (5) المعاينة الكليم
وفي المعنى (6): [الوافر]
يقول أخي: شجاك رحيل جسم ... وروحك ما له عنّا رحيل
فقلت له المعاين مطمئنّ ... لذا طلب المعاينة الخليل
دخوله غرناطة: وصل في جملة الإمام المرتضى، ولمّا جرت عليه الهزيمة واستولى باديس الأمير بغرناطة على محلّته، كان أبو محمد من عداد أسراه مع مثله، إلى أن أطلقه بعد لأي، وخلّصه الله منه.
محنته: قال ابن حيان: استهدف إلى فقهاء وقته، فتألّبوا على بغضه، وردّ قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا أعوامهم عن الدنوّ إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيّرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا، به يبثّ علمه فيمن ينتابه بباديته من عامّة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين لا يحسّون فيه الملامة بحداثتهم، ويفقّههم ويدرسهم، ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف حتى كمل من مصنّفاته في فنون العلم وقر بعير، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية، وفي ذلك يقول (7):
[الطويل]
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمّنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
__________
(1) البيتان أيضا في بغية الملتمس (ص 417) والمغرب (ج 1ص 357356) والمطرب (ص 92) والذخيرة (ق 1ص 174) والمعجب (ص 96) ووفيات الأعيان (ج 3ص 286) ونفح الطيب (ج 2ص 297).
(2) في وفيات الأعيان: «بجسمي».
(3) في النفح: «فقلبي».
(4) في النفح: «لذا».
(5) في المصادر كلها: «سأل».
(6) البيتان أيضا في بغية الملتمس (ص 418) والذخيرة (ق 1ص 174) ومعجم الأدباء (ج 3ص 556) ووفيات الأعيان (ج 3ص 286).
(7) البيتان في الذخيرة (ق 1ص 171).(4/91)
مولده: سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة.
وفاته: توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة (1).
علي بن إبراهيم بن علي الأنصاري المالقي (2)
يكنى أبا الحسن، صاحبنا حفظه الله.
حاله: آية الله في الحفظ، وثقوب الذهن، والنجابة في الفنون، وفصاحة الإلقاء، خريج طبعه، وتلميذ نفسه، ومبرز اجتهاده. إمام في العربية، لا يشقّ فيها غباره حفظا وبحثا وتوجيها واطلاعا وعثورا على سقطات الأعلام، ذاكر للغات والآداب، قائم على التفسير، مقصود للفتيا، عاقد للوثيقة، مشارك في الفنون، ينظم وينثر، فلا يعدو الإجادة والسّداد، سليم الصدر، أبيّ النفس، كثير المشاركة، مجدي الصّحبة، بعيد عن التّسمّت. رحل عن بلده مالقة بعد التبريز في العدالة والشهرة بالطلب، واستقرّ بالمغرب، فأقرأ بمدينة أنفا، منوّها به، ثم بسلا، واستوطن بها، رئيس المدرسة بها، مجمهرا بكرسيّها، فارعا بمنبرها بالواردة السلطانية، يفسر كتاب الله بين العشاءين، شرحا كثير العيون، محذوف الفضول، بالغا أقصى مبالغ الفصاحة، مسمعا على المحال النّابية، ويدرس من الغدوات بالمدرسة، دولا في العربية والفقه، أخذه بزمام النبل، مترامية إلى أقصى حدود الاضطلاع. وحضر المناظرة بين يدي السلطان، فاستأثر بشقص (3) من رعيه، وأعجب بقوة جأشه، وأصالة حفظة، فأنمى جراياته، ونوّه به.
مشيخته: قرأ ببلده على الأستاذين، علمي القطر القاضي العالم أبي عبد الله ابن تبر، والقاضي النظار أبي عمرو بن منظور. وتلا القرآن على المقرئ أبي محمد بن أيوب. وذاكر بغرناطة إمام العربية أبا عبد الله بن الفخّار ورئيس الكتاب شيخنا أبا الحسن ابن الجيّاب. وبالمغرب كثيرا من أعلامه، كالرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي أبي عبد الله المقرئ وغيرهما (4). وهو الآن بحاله الموصوفة قاضيا بشرقي مالقة، وأستاذا بها متكلما، معجز من مفاخر قطره.
__________
(1) في الجذوة (ص 309): مات بعد سنة 450هـ. وفي الصلة: مات قريبا من سنة 460هـ، وقيل: سنة 458هـ.
(2) ترجم له ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 94) تحت عنوان: «المتكلم أبو الحسن علي بن إبراهيم الرقاص، رحمه الله تعالى».
(3) الشّقص: النصيب والسّهم.
(4) في الأصل: «وغيرهم».(4/92)
شعره: مما يؤثر من شعره منقولا من خطّ صاحبنا أبي الحسن بن الحسن:
[البسيط]
رحماك رحماك في قلب يقلّبه ... شوق يكاد بلفح الوجد يذهبه
هام الفؤاد بمعنى للجمال بدا ... عليك في السّرّ للأرواح أعجبه
ولاح منك لذي الإشراف جوهرة ... ألاحت الحسن عمّا كان يحجبه
فلو هم الصّحب أن الرّوح تيّمها ... ماضي الجفون برود الثّغر أشنبه
يظلّ معتقلا من خوط قامته ... بأسمر غالني منه مؤرّبه
وذي فرند يدبّ الموت في شطب ... منه ويوحش في جنح تلهّبه
يخاله ذو الصّدا ماء فيبصره ... يودّ في الحال أن لو كان يشربه
بالهندوانيّ والذي (1) توشّجه ... وبالصّبابة والأرواح ملعبه
كساه سرّ الجمال المحض حلّته ... إذ جاده من نكوب الجود صيّبه
وقام يرفل فيها وهي ضافية ... فأقبلت نحوه الأرواح تطلبه
هيهات من دونه باب بظاهره ... يجر الفناء (2) وجند الروح يرهبه
فمرنا والموت فيه عين عيشته ... فأوج مرقى حياة الروح مرقبه
نيدت لوائحه من بحر جوهره ... برقا يغير على الغيران خلّبه
وتستعير له روحا مظاهره ... سرّ الجمال بها يبدو تحجّبه
بدر وفي أفق الأرواح مطلعه ... مهما أفاقت وإلّا فهي مغربه
بخاطر منه سرّ لا يفارقه ... وإن غدا بغرام الشوق يلهبه
لي هواه والبعد ينهاني ويصدقني ... في نصحه وصريح الوجد يكذبه
سرّ الغرام غريب ليس يعلمه ... إلّا الذي قد غدا يرضيه مغضبه
وللصّبابة أقوام وموردهم ... بها من الأنس أحلاه وأعذبه
وليس يعرف هذا حقّ معرفة ... إلّا الذي قد تجلّى عنه غيهبه
وأبصر الحسن قد لاحت لوائحه ... وغرّ مستبشر الأضواء كوكبه
بذات أهيف من سرّ الحياة (3) ... طرس يغالبه طورا فيغلبه
__________
(1) في الأصل: «والذي ندّ توشجه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «الفنا» وكذا ينكسر الوزن.
(3) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.(4/93)
وفي لجين الجمال المحض قد فعلت ... فعلا يردّ لها في الحكم مذهبه
أروم إعجامه هونا وتطمعني ... فيه النّفاسة والأنفاس تعرفه
فمن لمثلي بكتمان ومن نفسي ... أخو بيان مع الساعات يسهبه
لبانة السّرّ أن تحظى بمرقبة ... إلى سبيل من الزّلفى تقرّبه
تسمو على منكب الجوزاء ذروتها ... عن رقّة بشهود الفرق تسلبه
وفي مصافّات سرّ القبض يبسطه ... لدى الوجود الذي قد عزّ مطلبه
فيرتقي في مراقي الجمع مختطفا ... إلى المقام الذي إليه (1) بغيته
فذاك أعظم ما يرجوه أن سبقت ... عنّا يد نحو باب العزّ تجذبه
ومن منظومه في النسيب قوله: [الكامل]
لمحمد البرقاء حسن باهر ... كلّ الورى حلف الصّبابة فيه
السّحر مفتون بغنج لحاظه ... والشّهد ممزوج بريق (2) فيه
فسحره أضنى المتيّم في الهوى ... حتى يكاد سقامه يخفيه
ولو انه بالشّهد جاد ورشفه ... لصد لكان من الصّدا يشفيه
بصدوده قلبي يقطّع في الهوى ... يا ليته بوصاله رافيه
وصدّر كتابا بقوله يخاطبني (3): [الوافر]
أنسيانا فديتك يا حياتي ... لمن لم ينس (4) حبّك للممات
ورجما بالظنون أخا حنين ... إليك رهين (5) شوق وانبتات
يمينا بالنهار إذا تجلّى ... وبالقمر المنير وبالآيات (6)
لقد أحللت حبّك من فؤادي ... محلّ الروح من بثّ الجهات (7)
وشعره بديع، وإدراكه عجيب، وعارضته قوية.
__________
(1) في الأصل: «عند» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «بريقه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 94).
(4) في الأصل: «ينبيك»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(5) في الكتيبة: «حليف».
(6) أصل القول: «وبالآيات»، جمع آية، وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الكتيبة الكامنة: «من بيت الحياة».(4/94)
علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي (1)
يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الضّائع، من أهل إشبيلية.
حاله: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: بلغ (2) الغاية في الفنّ النحوي، وفاق أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين بأسرهم، وله في مشكلات الكتاب العجائب، وقرأ ببلده أيضا علم الكلام، وأصول الفقه، وكان متقدما في هذه العلوم الثلاثة، متصرّفا فيها. وأما فنّ العربية، وعلم الكلام، فلم يكن في وقته من يقاربه في هذين العلمين.
وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه، فما أراه يسبقه في ذلك أحد. وله إملاء على طائفة كبيرة من إيضاح الفارسي. وكان له اعتناء كبير بكلام الفارسي على الجملة، وبحسب ذلك استقضى اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على أبي علي بالردّ، واستوفى ما وقع له في ذلك حتى لم يبق بيده شيء على طريقة من الإنصاف ودليل الهدى، لم يسبق إليها، وكذا فعل في رد أبي محمد بن السيد على أبي القاسم الزجّاجي. وكذا فعل في اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على كتاب سيبويه. وكان بالجملة إماما في هذا كله لا يجارى. وأما اختيارات أبي الحسن بن عصفور في مغربه وغير ذلك من تعاليقه وما قيّد في ذلك، فردّ عليه معظمها أو أكثرها. ولم يلق بالأندلس والعدوة، ولا سمعنا بأنبه منه، ممن وقفنا على كلامه أو شاهدناه، ولا رأيت مختلفا عليه من أهل بلده من أترابه، ومن فوقهم. وكان إذا أخذ في فن أتى بعجائب. قال الأستاذ: لازمته، وأخذت عليه كتاب سيبويه في عدة سنين، وأكثر كتاب الإيضاح، وجمل الزجّاجي، إلى غير ذلك، وجميع التلقيحات للسّهروردي، وطائفة كبيرة من إرشاد أبي المعالي، ومن كتاب الأربعين لابن الخطيب، وغير ذلك.
مشيخته: أجاز (3) له من أهل بلده الراوية المسنّ أبو الحسن (4) بن السّراج، والقاضي أبو الخطاب بن خليل. ومن غيرهم، القاضي أبو بكر بن محرز، والمقرئ المعمّر أبو بكر الشّماتي المعروف بالشريشي، وأبو عبد الله الأزدي، وأبو عبد الله بن جوبر، وآخرين. وقرأ ببلده، ولازم الأستاذ أبا علي الشلوبين، حتى كمل عليه إيضاح
__________
(1) ترجمة علي بن محمد الكتامي في الذيل والتكملة (ج 5ص 373) وبغية الوعاة (ص 354) ونفح الطيب (ج 3ص 297).
(2) قارن ببغية الوعاة (ص 355354). وترجمته غير موجودة في صلة الصلة لابن الزبير، المطبوعة.
(3) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 373).
(4) في الذيل والتكملة: «أبو الحسين».(4/95)
الفارسي، وكتاب سيبويه. وسمع جمل الزجّاجي، وغير ذلك من كتب العربية، ممن كان يقرأ في المجلس، وقرأ عليه طائفة كبيرة من تذكرة الفارسي مما يتعلّق بمسائل الكتاب، بعد أن جرّدها من التذكرة. وبلغ الغاية في الفن النحوي، وفاق أصحاب أبي علي بأسرهم.
وفاته: توفي، رحمه الله، في شهر ربيع الآخر (1) من سنة ثمانين وستمائة، وقد قارب التسعين (2). [قلت: العجب من الشيخ الخطيب، رحمه الله، كيف لا يذكر للمترجم به، رحمه الله، شرحه لجمل الزجّاجي، بل شرحه الصغير والكبير؟ ولم يكن اليوم على الزجّاجي أجدى منها، ولا أنفع، ولا أقلّ فضولا، ولا أفصح عبارة، ولا أوجز خطابة، ولا أجمل إنصافا، ولا أجود نظرا (3)].
الكتاب والشعراء وأولا الأصليون منهم
علي بن محمد بن عبد الحق بن الصباغ العقيلي (4)
يكنى أبا الحسن، من أهل غرناطة.
حاله: صاحبنا أبو الحسن، من (5) أهل الفضل والسّراوة والرّجولة والجزالة. فذ في الكفاية، ظاهر السذاجة والسلامة، مصعب لأضداده، شديد العصبة (6) لأولي ودّه، في أخلاقه حدّة، وفي لسانه نبالة، أخلّا به، مشتمل على خلال من خطّ بارع، وكتابة حسنة، وشعر جيد، ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة، ومحاضرة ممتعة. ناب عن بعض القضاة، وكتب الشروط، وارتسم في ديوان الجند، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا يحيى (7) بن عمر على عهده. ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاثة (8) وخمسين وسبعمائة، فارتسم في الكتابة السلطانية منوّها به، مستعملا في خدم مجدية، بان غناؤه فيها، وظهرت كفايته.
__________
(1) في بغية الوعاة (ص 355): «مات في 25ربيع الآخر». وفي الذيل والتكملة: «ولد بإشبيلية سنة أربع عشرة وستمائة».
(2) في بغية الوعاة: «السبعين».
(3) ما بين قوسين، أغلب الظن أنه من كلام الناسخ أو المختصر.
(4) ترجمة ابن الصباغ في الكتيبة الكامنة (ص 228) ونفح الطيب (ج 8ص 393).
(5) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 395394).
(6) في النفح: «العصبية لأولي وداده، يشتمل على خلال من خطّ».
(7) كلمة «يحيى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(8) في الأصل: «ثلاث»، وهو خطأ نحوي.(4/96)
وجرى ذكره في كتاب التّاج بما نصّه (1): اللّسن العارف، والنّاقد (2) الجواهر المعاني كما يفعل بالسّكة الصّيارف، الأديب المجيد، الذي تحلّى به للعصر (3) النّحر والجيد، إن أجال جياد براعته فضح فرسان المهارق، وأخجل بين بياض طرسه وسواد نقسه (4) الطّرر تحت المفارق. وإن جلا أبكار أفكاره، وأثار طير البيان (5) من أوكاره، وسلب الرّحيق المفدّم (6) فضل أبكاره (7)، إلى نفس لا يفارقها ظرف، وهمّة لا يرتدّ إليها طرف، وإباية (8) لا يفلّ لها غرب ولا حرف. وله أدب غضّ، زهره عن (9)
مجتنيه مرفضّ (10). كتبت إليه أنتجز (11) وعده في الالتحاف (12) برائقه، والإمتاع بزهر هواتفه (13)، وهو قولي (14): [الكامل]
عندي لموعدك افتقار محوج (15) ... وعهودك افتقرت إلى إنجازها
والله يعلم فيك صدق مودّتي ... وحقيقة الأشياء غير مجازها
فأجابني بقوله: [الكامل]
يا مهدي الدّرّ الثمين منظّما ... كلما حلال السّحر في إيجازها
أدركت حلبات الأوائل وانيا ... ورددت أولاها على أعجازها
أحرزت في المضمار خصل سباقها ... ولأنت أسبقهم إلى إحرازها
حلّيت بالسّمطين مني عاطلا ... وبعثت من فكري متات (16) مفازها
فلأنجزنّ مواعدي مستعطفا ... فاسمح وبالإغضاء منك مجازها
ومن مقطوعاته قوله (17): [المديد]
ليت شعري والهوى أمل ... وأماني الصّبّ لا تقف
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 394393).
(2) في النفح: «الناقد».
(3) في الأصل: «تملّى به العصر والنحر»، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «وسواد نفسه الطور»، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «طير البيازين أوكاره»، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «المقدّم».
(7) في النفح: «إسكاره».
(8) في النفح: «وإبانة».
(9) في النفح: «على».
(10) في النفح: «منفض».
(11) في المصدر نفسه: «أستنجز».
(12) في المصدر نفسه: «الإتحاف».
(13) في النفح: «حدائقه، قولي».
(14) البيتان والمقطوعة التالية في نفح الطيب (ج 8ص 394).
(15) في النفح: «محرج».
(16) في النفح: «فتاة».
(17) هذان البيتان والبيتان التاليان في الكتيبة الكامنة (ص 229) ونفح الطيب (ج 8ص 395).(4/97)
هل لذاك الوصل مرتجع ... أو لهذا الهجر (1) منصرف؟
ومن ذلك: [الطويل]
وظبي سبى (2) بالطّرف والعطف والجيد (3) ... وما حاز من غنج ولين ومن غيد
أتيت (4) إليه بالدّنوّ مداعبا ... فقال: أيدنو الظّبي من غابة الأسد؟
وقال من مبدإ قصيدة مطولة فيما يظهر منها (5): [الطويل]
حديث المغاني بعدهنّ شجون ... وأوجه أيام التباعد جون (6)
لحا الله أيام الفراق فكم شجت ... وغادرت الجذلان وهو حزين
وحيّا ديارا في ربى أغرناطة ... وإنّي بذاك القرب فيه (7) ضنين
ليالي أنفقت الشباب مطاوعا ... وعمري لدى البيض الحسان ثمين (8)
فأرخصت (9) فيها من شبابي ما غلا ... وغرمي (10) على مال العفاف أمين
خليليّ، لا أمر، بأربعها قفا ... فعندي إلى تلك الرّبوع حنين
ألم ترياني كلّما ذرّ شارق ... تضاعف عندي عبرة وأنين؟
إذا لم يساعدني أخ منكما فلا ... حدت نحو (11) قرن بعد ذاك أمون
أليس عجيبا في البريّة من لنا ... إلى عهد إخوان الزمان (12) ركون؟
فلا تثقن من ذي (13) وفاء بعهده ... فقد أجن السّلسال وهو معين
لقلبي (14) عذر في فراق ضلوعه ... وللدمع في ترك الشؤون شؤون
ومن ترك الحزم المعين فإنه ... لعان بأيدي الحادثات رهين
رعى الله أيامي الوثيق ذمامها ... فإنّ مكاني في الوفاء مكين
__________
(1) في الأصل: «البحر»، والتصويب من المصدرين.
(2) في الكتيبة: «زها».
(3) في الكتيبة: «والطلا».
(4) في المصدرين: «أشرت».
(5) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 396395).
(6) الجون: السّود.
(7) في النفح: «منك».
(8) هذا البيت غير وارد في نفح الطيب.
(9) في النفح: «لأرخصت».
(10) في النفح: «وعزمي».
(11) في النفح: «حدت لخؤون بعد».
(12) في الأصل: «للزمان» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(13) في الأصل: «فلما تثغن من ذرى وفاء»، والتصويب من النفح.
(14) في الأصل: «أذلني» والتصويب من النفح.(4/98)
ولم أر مثل الدهر أمّا عدوّه ... فخبّ وأمّا خلّه فخؤون
ولولا أبو عمرو وجود يمينه (1) ... لما كان في عهد الزمان معين
ومن شعره قوله (2): [الكامل]
زار الخيال ويا لها من لذّة ... لكنّ لذّات (3) الخيال منام
ما زلت ألثم مبسما منظومه ... درّ (4) ومورده الشّهيّ مدام
وأضمّ غصن البان من أعطافه ... فأشمّ (5) مسكا فضّ عنه ختام
مولده: عام ستة وسبعمائة.
وفاته: وتوفي بمدينة فاس، وقد تخلّفه السلطان كاتب ولده، عند وجهته إلى إفريقية، في شوال عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، فتوفي في العشرين لرمضان منه.
علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان ابن حسن الأنصاري (6)
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الجيّاب، شيخنا ورئيسنا العلّامة البليغ.
حاله: من عائد الصّلة: كان، رحمه الله، على ما كان عليه من التفنّن، والإمامة في البلاغة، والأخذ بأطراف الطلب، والاستيلاء على غاية الأدب، صاحب مجاهدة، وملازمة عبادة، على طريقة مثلى من الانقباض والنزاهة، وإيثار التقشف، محبّا في أهل الخير والصلاح، منحاشا إليهم، منافرا عن أضدادهم، شيخ طلبة الأندلس، رواية وتحقيقا، ومشاركة في كثير العلوم، قائما على العربية واللغة، إماما في الفرائض والحساب، عارفا بالقراءات والحديث، متبحرا في الأدب والتاريخ، مشاركا في علم التصوّف، فذّا في المسائل الأدبية البيانية، حامل راية المنظوم والمنثور، والإكثار من ذلك، والاقتدار عليه، جلدا على الخدمة، مغتبطا بالولاية، محافظا على الرّتبة، مراقبا
__________
(1) في النفح: «بنانه».
(2) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 229) ونفح الطيب (ج 8ص 396).
(3) في الكتيبة: «لكن للذات».
(4) في الكتيبة: «درر».
(5) في النفح: «وأشمّ».
(6) ترجمة علي بن محمد بن الجياب في الكتيبة الكامنة (ص 183) ونثير فرائد الجمان (ص 239) ونيل الابتهاج (ص 193) والديباج المذهب (ص 207) ودرة الحجال في أسماء الرجال (ج 2 ص 435) ونفح الطيب (ج 7ص 407) و (ج 8ص 397).(4/99)
لو ظائف الأبواب السلطانية، متوقد الذهن، ذلق الجوانب، مشغوفا بالأنس والمفاوضة في الأدب، محسنا للنادرة الظريفة، مليح الدّعابة، غزير الحفظ، غيورا على الخطّة، كثير النشاط إلى المذاكرة، مع استغراق الكلف، وعلو السن. طال به المرض حتى أذهب جواهر بدنه، وعلى ذلك فما اختلّ تميّزه، ولا تغيّر إدراكه.
بعثت إليه باكور رمّان، فقال لي من الغد، نعم بالهدنة زمانك، يعني نعمت الهدية رمّانك. فعجب الناس من اجتماع نفسه، وحضور فكره. وهو شيخي الذي نشأت بين يديه وتأدبت به، وورثت خطّته عن رضى منه. كتب عن الدول النصرية نحوا من خمسين سنة أو ما ينيف عليها، متين الجاه، رفيع المكانة، بعيد الصيت، وسفر إلى الملوك، واشتهر بالخير، والحمل على أهل الظلم، وجرى ذكره في التاج بما نصّه (1):
صدر الصّدور الجلّة، وعلم أعلام هذه الملّة، وشيخ الكتابة وبانيها (2)، وهاصر أفنان البدائع وجانيها، اعتمدته الرياسة، فناء (3) بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة، فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه (4)، فتفيّأ للعناية ظلّا ظليلا، وتعاقبت (5) الدول فلم تر به بديلا، من ندب على علوّه متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمرّ (6) مذاكرة في فنّ إلّا وله فيه التّبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محاكاة (7) الأفهام إلّا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راويا لإحسانه، وناطقا بلسانه، وغرّب ذكره وشرّق، فأشام (8) وأعرق، وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذّبت الآداب شمائلها، وجادت الرياض خمائلها، ومراقبة لربّه، واستباق لروح الله من مهبّه، ودين لا يعجم عوده، ولا تخلف وعوده. وكلّ ما ظهر علينا معشر (9) بنيه من شارة تجلى (10) بها العين،
__________
(1) النص في الكتيبة الكامنة (ص 184183) ونفح الطيب (ج 8ص 397).
(2) في الأصل: «وبنيها»، والتصويب من النفح. وجاء في الكتيبة الكامنة: «وبنيها، ومتولّي أيام خدمتها وسنيها، وهاصر».
(3) في الأصل: «فنأى» والتصويب من المصدرين.
(4) اليراع: القلم، وأراد بالشباة طرف القلم الذي يكتب به، وأصل الشباة طرف الرمح ونحوه.
(5) في الكتيبة: «وتعاقبت دول العدل له عديلا».
(6) في الكتيبة: «لا يمرّ الكلام في فن».
(7) في النفح: «محكات». وفي الكتيبة الكامنة: «جواهر الأفهام على ميدان الإبهام إلّا انتسب إليه الإبريز».
(8) في النفح: «وأشأم».
(9) كلمة «معشر» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(10) في الكتيبة: «تحلّى».(4/100)
أو إشارة كما سبك (1) اللّجين، فهي إليه منسوبة، وفي حسناته محسوبة، فإنما هي أنفس راضها بآدابه، وأعلقها بأهدابه، وهذّب طباعها، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها، والصور الجميلة تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها، وما عسى أن أقول (2)
في إمام الأئمة، ونور الدياجي المدلهمّة، والمثل السائر في بعد الصيت وعلوّ الهمّة.
مشيخته: نقلت من خطه، في بعض ما كتب به إلى من الأشياخ الذين لقيتهم وأجازوني عامة الشيخ الفقيه الخطيب الصالح الصوفي المحقق صاحب الكرامات والمقامات، نسيج وحده، أبو الحسن فضل بن محمد بن علي ابن فضيلة المعافري، قرأت عليه كذا. ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ العالم العلم الكبير، خاتمة المسندين بالمغرب، أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، نشأت بين يديه، وقرأت عليه كثيرا وسمعت، وأجازني. ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الخشني البلّوطي، قرأت عليه القرآن العزيز بالقراءات السبع وغير ذلك. ومنهم الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي، لقيته بمالقة. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن علي الغساني السعدي الخطيب الصالح، قرأت عليه وسمعت. ومنهم الشيخ العدل أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مستقور الطائي. ومنهم قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد العنسي. ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب المحدّث الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد. ومنهم الشيخ الخطيب أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري الكحيلي. ومنهم الشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو محمد عبد الواحد بن محمد بن أبي السّداد الأموي الباهلي. ومنهم الشيخ الوزير الحسيب أبو عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري، والشيخ الخطيب الأستاذ النظار أبو القاسم بن الشّاط، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن مالك بن المرحّل، والشيخ المبارك أبو محمد عبد المولى بن عبد المولى الخولاني. هؤلاء كلهم لقيتهم، وأجازوني إجازة عامة، وأما من أجازني ولم ألقه، فعالم كثير من أهل المغرب والمشرق، منهم أبو العباس بن الغمّاز، قاضي الجماعة بتونس، وأبو عبد الله بن صالح الكناني، خطيب بجاية، والشريف أبو علي الحسن بن طاهر بن أبي الشرف بن رفيع الحسني، وأبو فارس عبد العزيز الهواري، وأبو محمد بن هارون القرطبي، وأبو علي ناصر الدين المشدالي، وغيرهم.
__________
(1) في الكتيبة: «سكب».
(2) في الكتيبة: «أن يقال».(4/101)
شعره: وشعره كثير مدوّن، جمعته ودونته، يشتمل على الأغراض المتعددة من المعشّرات النبويّات، والقصائد السلطانيات، والإخوانيات، والمقطوعات الأدبيات، والألغاز والأحجيات.
فمن ذلك من المعشّرات في حرف الجيم على وجه التبرك (1): [الطويل]
جريئا على الزلّات غير مفكّر ... جبانا على الطاعات غير معرّج
جمعت لما يفنى اغترارا بجمعه ... وضيّعت ما يبقى سجيّة أهوج
جنونا بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى ليست بعشّك فادرج (2)
جيادك في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدّى بين (3) الوجيه وأعوج (4)
جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج
جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرّب في السّبع الطّباق بمعرج
جمال أنار الأرض شرقا ومغربا ... فكلّ سنى من نوره المتبلّج
جلا صدأ المرتاب أن سبّح الحصا ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج
جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا أرتج (5)
ومن الأغراض الصوفية السلطانية قوله (6): [الكامل]
هات اسقني صرفا بغير مزاج ... واحي (7) التي هي راحتي وعلاجي
إن صبّ منها في الزجاجة قطرة ... شفّ الزجاج عن السّنى الوهّاج
فإذا (8) الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسّرّ المصون محاجي
وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحقّ المبين مناج
تاهت به في مهمه لا يهتدى ... فيه لتأديب (9) ولا إدلاج
يرتاح من طرب بها فكأنها (10) ... غنّته بالأرمال والأهزاج
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 408407).
(2) أخذه من المثل: «ليس هذا بعشّك فادرجي». أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حقّ فدعيه، يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. مجمع الأمثال (ج 2ص 181).
(3) في النفح: «سنّ».
(4) الوجيه وأعوج: فرسان من جياد خيل العرب. لسان العرب (وجه) و (عوج).
(5) في النفح: «مرتج».
(6) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 409408).
(7) في النفح: «راحي».
(8) في النفح: «وإذا».
(9) في النفح: «لتأويب».
(10) في النفح: «فكأنما».(4/102)
هبّت عليه نفحة قدسيّة ... في فتح (1) باب دائم الإرتاج
فإذا انتشى يوما وفيه بقيّة ... سارت به قصدا على المنهاج
وإذا تمكّن منه سكر معربد ... فليبصرنّ (2) لمصرع الحلّاج
قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يفيض بمنطق لجلاج
أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يهبط (3) في الظلام الدّاجي
رام الصعود بها لمركز أصله ... فرمت به في بحرها الموّاج
فلئن أمدّ برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج
وليرجعنّ بغنيمة موفورة ... ما شيب عذب شرابها بأجاج (4)
ولئن تخطّاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكسا على الأدراج
ما أنت إلّا درّة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج (5)
فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرّج بها في أرفع المعراج
واشدد يديك معا على حبل التّقى ... فإن اعتصمت به فأنت النّاجي
ولدى العزيز ابسط بساط تذلّل ... وإلى الغنيّ امدد يد المحتاج
هذا الطريق له مقدّمتان صا ... دقتان أنتجتا أصحّ نتاج
فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج
حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال وطول حجاج
والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج
ألا ترى إلّا الحقيقة وحدها ... والكلّ مضطرّ إليها لاجي
هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجّاج
وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثّجّاج
من آل نصر نخبة الملك الرّضا ... أمن المروّع هم وغيث اللّاجي (6)
من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج (7)
__________
(1) في النفح: «في فيء».
(2) في النفح: «فليصبرنّ».
(3) في النفح: «يخبط».
(4) الأجاج: الملح. محيط المحيط (أجج).
(5) أمشاج: مختلطة قال الله تعالى: {إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ} سورة الإنسان 76، الآية 2.
(6) في النفح: «الراجي».
(7) اللجاج: العناد في الخصومة، والجدل. لسان العرب (لجج).(4/103)
ماذا أقول وكلّ قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج
منه لباغي العرف درّ فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي (1)
دامت سعودك في مزيد، والمنى ... تأتيك أفواجا على أفواج
ومن الأمداح المطوّلة (2): [الكامل]
لمن المطايا في السّراب سوابحا ... تفلي الفلاة غواديا وروائحا
عوج (3) كأمثال القسيّ (4) ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا
أو كالسحاب تسير مثقلة ... حملته (5) من سقيا البطاح دوالحا (6)
ركب ييمّم غاية بل آية ... أبدت محيّا الحقّ أبلج واضحا
لما دعا داعي الرشاد مردّدا ... لبّوه شوقا والحمام هوادحا
فلهم عجيج بالبسيطة صاعد ... يذكي بنار الشوق منك جوانحا
وإذا حدا الحادي بذكر المصطفى ... أذروا على الأكوار دمعا سابحا
عيس تهادى بالمحبّين الألى ... ركبوا من العزم المصمم جامحا
طارت بهم أشواقهم سبّاقة ... فتركن أعلام المطيّ روازحا
رفقا بهنّ فهنّ خلق مثلكم ... أنضاء أسفار قطعن منادحا
قد جين للهادي وهادا جمّة ... وسلكن نحو الأبطحيّ أباطحا
ناشدتك الرحمن وافد مكة ... ألّا صرفت إليّ صرفا طامحا
وأخا أتيت القبر قبر محمد ... وحمدت سعيا من سفارك ناجحا
وذهلت عن هذا الوجود مغيبا ... لما لمحت من الجمال ملامحا
فاقرأ سلامي عند قبر المصطفى ... وامسح بيمناك الجدار مصافحا
قسما بوفد يزخرون رواحلا ... قطعت سباسبا بلقعا وضحاضحا
حتى أناخوا بالمحصّب من منى ... وتأمّلوا النور المبين اللائحا
__________
(1) أصل القول: «فاجىء»، وقد سهّل الهمزة فقلبها ياء.
(2) ورد فقط البيتان الأول والثاني في نفح الطيب (ج 7ص 409).
(3) العوج: النوق، واحدها أعوج. لسان العرب (عوج).
(4) في الأصل: «اللقيى» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «بما حملته»، وهكذا ينكسر الوزن.
(6) الدوالح: جمع دالح، والسحاب الدالح: الكثير الماء. محيط المحيط (دلح).(4/104)
وتعرّضوا لعوارض عرفيّة هب ... بت بها تلك الرياح لوافحا
وآووا إلى الحرم الشريف فطافعا ... بالبيت أوبا لركن منه ماسحا
وسقوا به من ماء زمزم شربة ... نالوا بها في الخلد حظّا رابحا
ثم انثنوا قصدا إلى دار الهدى ... يتسابقون عزائما وجوارحا
فتبوّؤا المغنى الذي بركاته ... فاضت على الآفاق بحرا طافحا
ختموا مناسكهم بزورة أحمد ... بختام مسك طاب عرفا نافحا
إنّ السماحة والشجاعة والنّدى ... والبأس والعقل الأصيل الراجحا
وقف على شمس المعالي يوسف ... أعلى الملوك خواتما وفواتحا
فهو الذي ملأ البلاد فضائلا ... صارت لمن بارى علاه فضائحا
إن أجملت سير الكرام فخلقه ... ما زال للإجمال منها شارحا
حامي الذّمار مدافعا وموادعا ... كافي العدو محاربا ومصافحا
للملك بالعزم المؤيد مانعا ... للعرف بالجود المردد مانحا
إن تلقه في يوم جود هامر ... تلق السحاب على البلاد سوابحا
أو تلقه في يوم بأس قاهر ... تلق الأسود لدى العرين كوافحا
أو تلقه في يوم فخر ظاهر ... تلق الكواكب في السماء لوائحا
من أسرة النصر الألى هم ناصحوا ... بعزائم الصدق الأمين الناصحا
هم أسّسوا الملك المشيد بناؤه ... فكفوا به الإسلام خطبا فادحا
فاستفهم الأيام عن آثارهم ... تطلع عليك صحائفا وصفائحا
كان إذا ضنّ الغمام سحائبا ... يهمي وإن جنّ الظلام مصابحا
شادوا له مجدا صميما راسخا ... يبقى على الأعقاب ذكرا صالحا
وسماء (1) فخر فوق أمن جهادهم ... سمكوا له منه (2) سماكا رامحا
الأعظمون مغانيا ومناقبا ... والأكرمون محامدا وممادحا
يا دولة نصريّة قد جددت ... نصرا لأبواب المعاقل فاتحا
وأمامة سعدية قد أطلعت ... سعدا ولكن للأعادي ذابحا
فاضت جدى فكأنما أيامها ... جعلت لأرزاق العباد مفاتحا
كفت عدا فكأنما أوقاتها ... جاءت لآيات الأمان شوارحا
__________
(1) في الأصل: «وسما» وكذا ينكسر الوزن.
(2) كلمة «منه» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.(4/105)
عدلا لأقطار الإيالة كالبا ... ولجامحات البغي منها كافحا
بشرى بيوسف ناصر الملك الذي ... ما زال عنه مجالدا ومكافحا
جمع المواهب للمواهب مانحا ... فوق المنى وعن الجرائم صافحا
ابن الإمام أبي الوليد وحسبنا ... مدحا تضمن في الفخار مدائحا
يهنيك عيد النّحر أسعد قادم ... وافاك من جدوى يمينك ماتحا
وفّيته قربانه وصلاته وأقمت ... فيه شعائرا وذبائحا
ورجعت في الجيش الذي أخباره ... تروي غرائبها الحسان صحائحا
أسد ضراغم فوق خيل ترتمي ... نحو العدو سوانحا وبوارحا
طيّارة بالدّارعين تخالها ... تنقضّ في يوم القتال جوارحا
من كلّ من تخذ القنا خيما له ... يلقى العدو مماسيا ومصابحا
والشمس أضرمت السبيكة عندما ... لقي الحديد شعاعها المطارحا
فاهنأ به وانعم بدولتك التي ... ترضي الوليّ بها وتشجي الكاشحا
دامت ودام الحقّ فيها ثابتا ... يعلو يدا والإفك فيها طالحا
وقال يمدح ويصف مصنعا سلطانيا (1): [الكامل]
زارت تجرر نحوه أذيالها ... هيفاء تخلط بالنّفار دلالها (2)
والشمس (3) من حسد لها مصفرّة ... إذ قصّرت عن أن تكون مثالها
وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طيّ العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحّت دلائل لم تطق إعلالها
تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجا كأنّ المسك فتّ خلالها
ما واصلتك محبّة وتفضّلا ... لو كان ذاك لواصلت إفضالها
لكن توقّعت السّلوّ فجدّدت ... لك لوعة لا تتّقي ترحالها
فوحبّها قسما بحق بروره ... لتجشّمنّك في الهوى أهوالها
حسّنت نظم الشّعر في أوصافها ... إذ قبّحت لك في الهوى أفعالها
يا حسن ليلة وصلها ما ضرّها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها
__________
(1) القصيدة في نثير فرائد الجمان (ص 242240) ونفح الطيب (ج 7ص 412410).
(2) في نثير فرائد الجمان: «تجرّر نخوة هيهات تخلط». وفي النفح: «تجرّ لنحوه».
(3) في النفح: «فالشمس».(4/106)
لمّا سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسك لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطالة جامحا ... واقرن بأسحار المنى (1) آصالها
في جنّة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضالها
وصميمها أصلا وفرعا خيرها ... ذاتا (2) وخلقا، سمحها بذّالها (3)
الطاهر الأعلى الإمام (4) المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابرا عن كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها
إن (5) تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطّالها (6)
أو تلقه في يوم حرب عداته ... تلق الضّراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوما صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيبه (7) وبسيفه نال (8) المنا ... واستعجلت أعداؤه آجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها
القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها
إن قلت بحر كفّه قصّرت إذ ... شبّهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله ونواله (9) ... فالوحش لا تعدو على من غالها
وسقى البريّة فيض كفّيه فقد ... عمّ البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بفنونها (10) ... آدابها وحسابها وجدالها
منقولها، معقولها، وأصولها ... وفروعها، تفصيلها، إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لمّا رأوا من كفّك استهلالها
وإذا عداتك أبصروك تيقّنوا ... أنّ المنيّة سلّطت رئبالها (11)
__________
(1) في النفح: «الهنا».
(2) في نثير فرائد الجمان: «ذاتا خلقا وسمحها».
(3) البذّال: الكثير البذل والعطاء. لسان العرب (بذل).
(4) في النفح: «الأمين».
(5) في نثير فرائد الجمان: «وإن».
(6) الهطّال: المتتابع الهطول. لسان العرب (هطل).
(7) في الأصل: «فبسيفه» والتصويب من المصدرين.
(8) في نثير فرائد الجمان: «نيل». وفي النفح: «نلت».
(9) في المصدرين السابقين: «وأمانه».
(10) في النفح: «بعيونها».
(11) الرئبال: الأسد. محيط المحيط (رأبل).(4/107)
بدّدت شملهم ببيض صوارم ... روّيت من علق (1) الكماة نصالها
وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... جزرا (2) تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رائقات ذكّرت ... دار النعيم جنانها وظلالها
وأجلّها قدرا وأرفعها مدى ... هذا الذي سامى النجوم فطالها (3)
هو جنّة فيها الأمير مخلّد ... بلغت إمارته بها آمالها
ولأرض أندلس مفاخر، أنتم ... أربابها، أضفيتم سربالها (4)
فحميتم أرجاءها، وكفيتم ... أعداءها، وهديتم ضلّالها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها (5)
بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألدّ نضالها
فهم الألى ركبوا لكلّ عظيمة ... جردا كسين من النجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكلّ ملمّة ... بابا أراح بفتحه إشكالها
متقلّدون من السيوف عضابها (6) ... متأبّطون من الرماح طوالها
الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها
أوليّ عهد المسلمين ونخبة ال ... أملاك صفوة محضها وزلالها
إنّ العباد مع البلاد مقرّة ... بفضائل لك مهّدت أحوالها
فتفكّ عانيها وتحمي سربها ... وتفيد حلما دائما جهّالها
ومن الرثاء قوله يرثي ولده أبا القاسم (7): [الطويل]
هو البين حتما، لا لعلّ ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عنده أسى
وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتبّا لهذا القلب سرعان ما قسا
ويا (8) لجفوني لا تفيض مورّدا ... من الدمع يهمي تارة ومورّسا (9)
__________
(1) العلق، بالفتح: الدم. لسان العرب (علق).
(2) في النفح: «خورا».
(3) في نثير والنفح: «وطالها».
(4) أضفيتم سربالها: جعلتم السربال ضافيا، والسربال: الثوب. لسان العرب (ضفى) و (سربل).
(5) الأقيال: جمع قيل وهو الذي يقول فلا يجسر أحد أن يردّ قوله. لسان العرب (قال).
(6) العضاب: جمع عضب وهو السيف الصارم. لسان العرب (عضب).
(7) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 414412).
(8) في النفح: «وما».
(9) المورّس: الأصفر بلون الزعفران. لسان العرب (ورس).(4/108)
وما للساني مفصحا بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينبسا
أمن بعد ما أودعت روحي في الثّرى ... ووسّدت مني فلذة القلب مرمسا (1)
وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي ... كساني ثوب الثّكل لا كان ملبسا
أؤمّل في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلا لدى أبنائها ومعرّسا (2)
فآها وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بدّ للمصدور أن يتنفّسا
على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران مفلسا
ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا (3)
إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبّس منه القلب ما قد تلبّسا
وصدمة (4) خطب نازلتني عشيّة ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا
فقد صدّعت شملي وأصمت مقاتلي ... وقد هدّمت ركني الوثيق المؤسّسا
ثبتّ لها صبرا لشدّة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا
وأطمع (5) أن يلقى برحمته الرضا ... وأجزع أن يشقى بذنب فينكسا
أبا القاسم اسمع شجو (6) والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا
وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... وأشهد (7) لا ينفكّ وقفا محبّسا
وقطّعت آمالي من الناس كلّهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا
تواريت يا شمسي وبدري وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا
وخلّفت لي عبئا من الثّكل فادحا ... فما أتعب الثّكلان نفسا وأتعسا
أحقّا ثوى ذاك الشباب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا
فيا غصنا نضرا ثوى عندما استوى ... فأوحشني أضعاف ما كان آنسا
ويا نعمة لمّا تبلّغتها انقضت ... فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا
فودّعته (8) والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المجنّسا (9)
__________
(1) المرمس: الموضوع في الرمس، والرمس هو القبر. لسان العرب (رمس).
(2) المقيل: المكان تقيل فيه وقت القيلولة. والمعرّس: المكان تنزل فيه ليلا. لسان العرب (قال) و (عرس).
(3) قرطس: أصاب الهدف. لسان العرب (قرطس).
(4) في نفح الطيب: «وهدّة».
(5) في الأصل: «وأطمع في أنا»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «شكو».
(7) في النفح: «فأشهد».
(8) في النفح: «لودّعته».
(9) في النفح: «المخمّسا».(4/109)
وقبّلت في ذاك الجبين مودعا ... لأكرم من نفسي عليّ وأنفسا
وخفّف (1) من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر ما (2) عسا
فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا
فلو أنّ هذا الموت يقبل فدية ... حبوناه أموالا كراما وأنفسا
ولكنه حكم من الله واجب ... يسلّم فيه من بخير الورى ائتسى (3)
تغمدك الرحمن بالعفو والرضا ... وكرّم مثواك الجديد وقدّسا
وألّف منّا الشمل في جنّة العلا ... فنشرب تسنيما (4) ونلبس سندسا
وكتبت إليه قصيدة أولها (5): [الطويل]
أمستخرجا كنز العتيق بآماقي ... أناشدك الرحمن في الرّمق الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضاقت عن زفيري أطواقي
فأجابني رحمة الله عليه عن ذلك (6): [الطويل]
سقاني فأهلا بالسّقاية (7) والعناق (8) ... سلافا بها قام السرور على ساق
ولا نقل (9) إلّا من بدائع حكمة ... ولا كأس إلّا من سطور وأوراق
فقد أنشأت لي نشوة بعد نشوة ... تمدّ بروحانية ذات أذواق
فمن حظّها (10) الفاني متاع لناظري ... وسمعي وحظّ الروح من حظّها (11) الباقي
__________
(1) في النفح: «وحقّقت».
(2) في النفح: «من عسا». وعسا: كبر وشاخ. لسان العرب (عسا).
(3) ائتسى: اقتدى. لسان العرب (أسا).
(4) التسنيم: عين في الجنة. لسان العرب (سنم).
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 186) ونفح الطيب (ج 8ص 258) و (ج 9ص 204).
(6) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 188186) ونفح الطيب (ج 8ص 260259).
(7) في النفح: «بالمدامة».
(8) في المصدرين: «والساقي».
(9) النّقل: ما يتنقّل به على الشراب.
(10) في الكتيبة: «خطّها الباهي». وفي النفح: «خطّها».
(11) في النفح: «خطّها».(4/110)
أعادت شبابي بعد سبعين حجّة ... فأثوابه قد جدّدت بعد إخلاق (1)
وما كنت يوما للمدامة صاحبا ... ولا قبلتها قطّ نشأة أخلاقي
ولا خالطت لحمي ولا مازجت دمي ... كفى شرّها مولاي فالفضل للواقي (2)
وهذا على عهد الشباب فكيف لي ... بها بعد ماء للشبيبة مهراق
تبصّر فحكما (3) القهوتين تخالفا ... فكم بين إثبات لعقل وإزهاق
وشتّان ما بين المدامين (4) فاعتبر ... فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق (5)
فتلك تهادى بين ظلم وظلمة ... وهذي تهادى بين عدل (6) وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازع ... شهادة إجماع عليها وإصفاق (7)
فضائلك الحسنى عليّ تواترت ... بمنهمر من سحب فكرك غيداق (8)
خزائن آداب بعثت بدرّها ... إليّ ولم تمنن بخشية (9) إنفاق
__________
(1) الحجّة، بكسر الحاء: السنة. والإخلاق: البلى والرثة.
(2) في الكتيبة: «وقى شرّها مولاي، فالشكر للواقي».
(3) في المصدر نفسه: «فحكم».
(4) في المصدرين: «القهوتين».
(5) في الكتيبة: «وإنفاق».
(6) في الكتيبة: «نور».
(7) في المصدر نفسه: «أيا علم الأعلام غير وإطباق».
(8) الغيداق: الكثير الانهمال.
(9) في الكتيبة: «لخشية».(4/111)
ولا مثل بكر حرّة عربيّة ... زكيّة أخلاق كريمة أعراق
فأقسم ما البيض الحسان تبرّمت (1) ... تناجيك سرّا بين وحي وإطراق
بدور بدت من أفق (2) أطواقها على ... رياض شدت في قضبها (3) ذات أطواق (4)
فناظر (5) منها الأقحوان ثغورها ... وقابل منها نرجس سحر (6) أحداق
وناسب منها الورد خدّا مورّدا ... سقاه الشباب النّضر (7)، بورك من ساق!
وألبسن من صنعاء وشيا منمنما ... وحلّين من درّ نفائس أعلاق
بأحلى لأفواه، وأبهى لأعين ... وأحلى (8) لألباب، وأشهى لعشّاق
رأيت بها شهب السماء تنزّلت ... إليّ تحيّيني تحية مشتاق
ألا إنّ هذا السحر لا سحر بابل ... فقد سحرت قلبي المعنّى فمن راق (9)؟
لقد أعجزت شكري (10) فضائل ماجد ... أبرّ بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبّها (11) ... رويدك لا تعجل عليّ بإرهاق
__________
(1) في الكتيبة والنفح: «تبرّجت».
(2) في الكتيبة: «فوق».
(3) في النفح: «قطبها».
(4) في الكتيبة: «أوراق».
(5) في المصدر نفسه: «يناظر».
(6) في المصدر نفسه: «حسن».
(7) في الكتيبة: «الغضّ».
(8) في الكتيبة: «وأجلى». وفي النفح: «وأحي».
(9) الراقي: الذي يرقي. لسان العرب (رقى).
(10) في الكتيبة: «نطقي».
(11) في الكتيبة: «بيانها».(4/112)
فلو نشر الصادّان من ملحديهما (1) ... لإنصاف هذا الدّين (2) لاذا بإملاق
فخذ بزمام (3) الرّفق شيخا تقاصرت ... خطاه وعاهده (4) بمعهود إشفاق (5)
فلا (6) زلت تحيي للمكارم رسمها ... وقدرك في أهل العلا والنّهى راق
وكتبت إليه في غرض العتاب والاستعتاب (7): [الطويل]
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ... مدامة عتب بيننا نقلها الرضا
فلله عينا من رآنا وللحيا ... حبيّ (8) بآفاق البشاشة أو مضا
نفرّ إلى عدل الزمان الذي أتى ... ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو (9) كلوم اللفظ باللفظ عاجلا ... كذا قدح الصّهباء داوى وأمرضا
فراجعني بقوله (10): [الطويل]
ألا حبّذا ذاك العتاب الذي مضى ... وإن جرّه واش بزور تمضمضا
أغارت له خيل فما ذعرت حمى ... ولكنها كانت طلائع للرضا
تألّق منها بارق صاب مزنه (11) ... على معهد الحبّ الصّميم فروّضا
تلألأ نور (12) للصداقة حافظا ... وإن ظنّ سيفا للقطيعة منتضى
فإن سوّد الشيطان منه صحيفة ... أتى ملك الرّحمى عليها فبيّضا
__________
(1) في الكتيبة: «مضجعيهما».
(2) في الكتيبة: «الدهر».
(3) في الأصل: «زمام» وهكذا ينكسر الوزن. والتصويب من النفح. وفي الكتيبة: «بذمام».
(4) في الكتيبة: «وعامله».
(5) في الأصل: «وإشفاق»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) في الكتيبة: «ولا».
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 261260).
(8) في الأصل: «حييّ»، والتصويب من النفح. والحبيّ: السّحاب يشرف من الأفق على الأرض.
محيط المحيط (حبا).
(9) نأسو: نداوي. لسان العرب (أسا).
(10) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 262261).
(11) في الأصل: «مزنة» والتصويب من نفح الطيب.
(12) في النفح: «نورا».(4/113)
وما كان حبّ أحكم الصدق عهده ... ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ ودادا زاكي القصد وافيا ... تخلّص من أدرانه فتمحّضا (1)
ونيّة صدق في رضى الله أخلصت ... سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها ... أيخفى شعاع الشمس قد ملأ الفضا؟
وكيف يحلّ المبطلون بإفكهم ... معاقد حبّ أحكمتها يد القضا
تعرّض يبغي هدمها فكأنه ... لتشييد مبناها الوثيق تعرّضا
وحرّض في تنفيره فكأنما ... على البرّ والتسكين والحبّ حرّضا
وأوقد نارا فهو يصلى جحيمها ... يقلّب منها القلب في موقد الغضا (2)
أيا واحدي المعدود بالألف وحده ... ويا ولدي البرّ الزكي إن ارتضى
بعثت من الدّرّ النفيس قلائدا ... على ما ارتضى حكم المحبة واقتضى
نتيجة آداب وطبع مهذّب ... أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفا ... كزورة خلّ بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغنّاء أينع زهرها ... تناظر حسنا مذهّبا ومفضّضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي ... مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضى
تطابق منها شعرها وجبينها ... فذا اللّيل مسودّا وذا الصّبح أبيضا
أو الشهب منها زينة وهداية ... ورجم لشيطان إذا هو قيّضا
أتت ببديع الشّعر طورا مصرّحا ... بأبياتك الحسنى وطورا معرّضا
ومهّدت الأعذار دون جناية ... ولو أنك الجاني لكنت المغمّضا
لك الله من برّ وفيّ وصاحب ... محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضّلا ... فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقلبك فاضت فيه أنوار خلّتي ... فأبقى (3) يدي تسليمه لي مفوّضا
وقصدك مشكور وعهدك ثابت ... وفضلك منشور وفعلك مرتضى
فهل مع هذا ريبة في مودّة ... بحال! وإن رابت (4) فما أنا معرضا
__________
(1) تمحّض: تخلّص من الشوائب. لسان العرب (محض).
(2) الغضا: شجر شديد الاشتعال. لسان العرب (غضا).
(3) في النفح: «فألقى».
(4) في الأصل: «رأيت». وهكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من النفح.(4/114)
فثق بولائي إنني لك مخلص ... هوى ثابتا يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبّت الصّبا ... وما بارق جنح الدّجنّة أو مضا
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش (1): [الطويل]
أهزلا وقد جدّت بك اللّمّة الشمطا (2) ... وأمنا وقد ساورتها حيّة رقطا (3)
أغرّك طول العمر في غير طائل ... وسرّك أنّ الموت في سيره أبطا
رويدا فإنّ الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطّا
فإذ ذاك لا تسطيع (4) إدراك ما مضى ... بحال ولا قبضا تطيق ولا بسطا
تأهّب فقد وافى مشيبك منذرا ... وها هو في فوديك أحرفه خطّا
فرافقت منه كاتب السّرّ واشيا ... له القلم الأعلى يخطّ به وخطا
معمّى كتاب فكّه «احذر» فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشّطّا
وإن طال ما خاضت بك (5) اللجج التي ... خبطت بها في كلّ مهلكة خبطا
وما زلت في أمواجها متقلّبا ... فآونة رفعا وآونة حطّا
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 416414).
(2) في الأصل: «الشمطاء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «وقد ساورت يا حيّة».
(4) في الأصل: «تستطيع» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «به».(4/115)
فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشدّ عليك الجانبين بها ضغطا
ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق، أرضوانا من الله أم سخطا
وأعجب شيء منك دعواك في النّهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطّى
قسطت (1) عن الحقّ المبين جهالة ... وقد غالطتك (2) النّفس فادّعت القسطا
وطاوعت شيطانا تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى وتأخذ إن أعطى
تناءى عن الأخرى وقد قربت مدى ... تدانى عن الدنيا وقد أزمعت شحطا (3)
وتمنحها حبّا وفرط صبابة ... وما منحت إلّا القتادة والخرطا (4)
فها أنت تهوى وصلها وهي فارك ... وتأمل قربا من حماها وقد شطّا
صراط هدى نكّبت عنه عماية ... ودار ردّى أوعيت في سجنها سرطا
فما لك إلّا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كلّ ما يرتجي يعطى
دليل إلى الرحمن فانهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا
محبّته شرط القبول فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشّرطا
__________
(1) قسطت عن الحق: انحرفت: لسان العرب (قسط).
(2) في النفح: «خالفتك».
(3) الشّحط: البعد. لسان العرب (شحط).
(4) القتادة: ضرب من الشجر الصلب له شوك كالإبر. وخرط القتادة: انتزاعها باليد. لسان العرب (قتد) و (خرط).(4/116)
وما قبلت منه لدى الله قربة ... ولا زكت الأعمال بل حبطت حبطا
به الحقّ وضاح، به الإفك زاهق ... به الفوز مرجوّ، به الذّنب قد حطّا
هو الملجأ الأحمى، هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطّا (1)
إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبّل تبجيلا أنا ملك السّبطا
وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتّى بدائعها بسطا
وتتلو آيات التشيّع إنها ... لموثقة عهدا ومحكمة ربطا
لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا
إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطى
ورهطك أهل البيت، بيت محمد ... فأعظم به بيتا وأكرم بهم (2) رهطا
بعثت به عقدا من الدّرّ فاخرا ... وذكر رسول الله درّته الوسطى (3)
وأهديت منها للسيادة غادة ... نظمت من الدّرّ الثمين بها سمطا
وحاشيتها من كل ما شانها (4)، فإن ... تجعّد حوشيّ تجد لفظها سبطا
__________
(1) الخطا: أصل القول: الخطاء، وقد حذف الهمزة للضرورة الشعرية.
(2) في النفح: «به».
(3) الدرة الوسطى: التي تكون في وسط العقد وهي أكبر حبّات العقد وأحسنها.
(4) في الأصل: «شأنها» والتصويب من النفح.(4/117)
وفي الطيبين الظاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا
عليك سلام الله ما ذرّ شارق ... وما ردّدت ورقاء في غصنها لغطا
ومن غريب ما خاطبني به قوله (1): [الرجز]
أقسم بالقيسين والنابغتين ... وشاعري طييء المولّدين
وبابن حجر وزهير وابنه (2) ... والأعشيين بعد ثمّ الأعميين
ثم بعشّاق الثريّا والرقي ... يات وعزّة وميّ وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن ... كشاعري خزاعة (3) المخضرمين
وولد المعتزّ والرّضيّ والسريّ ... ثم حسن وابن الحسين
واختم بقسّ وبسحبان (4) فإن (5) ... أوجب (6) حقّ أن يكونا أوّلين
وحليتي (7) نثرهم ونظمهم ... في مشرقي أقطارهم والمغربين
أنّ الخطيب ابن الخطيب سابق ... بنثره ونظمه للحلبتين
وافتني (8) الصحيفة الحسنا التي ... شاهدت فيها المكرمات رأي عين
تجمع من براعة المعنى إلى ... يراعة الألفاظ كلتا الحسنيين
أشهد أنك الذي سبقت في ... طريقي (9) الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقّة ... تصاغ منه حلية (10) للشّعريين
رسائل أزهارها منثورة ... سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذيّا، يا نسيج وحده ... شهادة تنزهت عن قول مين (11)
بقيت في مواهب الله التي ... تقرّ عينيك وتملأ اليدين
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 189188) ونفح الطيب (ج 8ص 263262).
(2) في الكتيبة: «بعده والأعشيين بعده والأعميين».
(3) في النفح: «خزامة».
(4) في الأصل: «وسحبان»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(5) في المصدرين: «وإن».
(6) في الكتيبة: «أوجبت أن».
(7) في النفح: «وحلبتني».
(8) في النفح: «راقتني».
(9) في الكتيبة: «طريقة».
(10) في النفح: «حلّة».
(11) المين: الكذب. لسان العرب (مين).(4/118)
ومن المقطوعات الموطّنات على المثال (1): [مخلع البسيط]
لله عصر الشباب عصرا ... فتّح للخير كلّ باب
حفظت ما شئت فيه حفظا ... كنت أراه بلا ذهاب
حتى إذا ما المشيب وافى ... ندّ (2) ولكن بلا إياب
لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيّدوا العلم بالكتاب
ومن ذلك قوله (3): [مخلع البسيط]
يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل
أنفق وثق بالإله تربح ... فإنّ إحسانه جزيل
وقدّم الأقربين واذكر ... ما روي ابدأ بمن تعول
ومن ذلك قوله (4): [المتقارب]
وقائلة لم عراك المشيب ... وما إن يعهد الصّبا من قدم
فقلت لها: لم أشب كبرة ... ولكنه الهمّ نصف الهرم
ومن ذلك قوله (5): [المتقارب]
هي النّفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه
وإن أنت جشّمتها خطّة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه
فإن شئت فوزا فناقض هواها ... وإن واصلتك اجزها بالقطيعه
ولا تعبأنّ بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعه
ومن المقطوعات أيضا (6): [الكامل]
من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدته سعوده
فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده
وليفنين عن نفسه ورسومه ... طرّا وفي ذاك الفناء وجوده
وليخطفنه (7) بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده
حتى يظلّ وليس يدري دهشة ... تقريبه المقصود أو تبعيده
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 416).
(3) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 416).
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 416).
(6) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 416).
(2) ندّ: نفر. محيط المحيط (ندد).
(5) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 417).
(7) في النفح: «وليحفظنه».(4/119)
لكنه ألقى السلاح مسلّما ... فمراده ما أنت منه تريده
فلقد تساوى عنده إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده
ومن ذلك قوله في المعنى (1): [الطويل]
يقيني أنّ الله جلّ جلاله ... يقيني (2) فراجي الله ليس يخيب
ومن مقطوعاته في الألغاز والأحاجي قوله في حجلة (3): [الرجز]
حاجيت (4) كلّ فطن لبيب ... ما اسم لأنثى (5) من بني يعقوب (6)
ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحقّ بالتقريب
تشركها في الاسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرّها المحجوب
وقد جرى في خاتم الوحي الرضا ... لها حديث ليس بالمكذوب
وهو إذا ما الفاء (7) منه صحّفت ... صبغ الحياء (8) لا الحيا المسكوب
فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب
وفي آب الشهر (9): [مجزوء الرجز]
حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم
يخبر بالرجعة وهـ ... وراجع كما زعم
وصف الحميم (10) هو ... بالتصحيف او بدء قسم
دونكه أوضح من ... نار على رأس علم
ومن ذلك قوله في كانون (11): [الهزج]
وما اسم لسميّين (12) ... ولم يجمعهما جنس
__________
(1) البيت في نفح الطيب (ج 7ص 417).
(2) يقيني: يحفظني. لسان العرب (وقى).
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 189) ونفح الطيب (ج 7ص 418417).
(4) في الكتيبة: «خاطبت».
(5) في الأصل: «الأنثى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) اليعقوب: ذكر الحجل. محيط المحيط (عقب).
(7) في الكتيبة: «الحاء»، و «الفاء»: فاء كلمة «الحجل» وهو حرف الحاء.
(8) في الأصل: «الحيا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(9) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 190189) ونفح الطيب (ج 7ص 418).
(10) في النفح: «الحبيب». وفي الكتيبة: «وهو الحميم معربا تصحيف او».
(11) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 190) ونفح الطيب (ج 7ص 418).
(12) أي إن كانون هو موقد النار، وهو أيضا: شهر من شهور السنة الرومية.(4/120)
فهذا كلّما يأتي ... فبالآخر لي أنس
وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حسّ
وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس (1)
وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس
وهذا واحد من سب ... عة تحيا بها النّفس
فمن محموله الجنّ ... ومن موضوعه الإنس
فقد بان الذي ألغز ... ت ما في أمره لبس
ومن ذلك قوله في نمر (2): [الرجز]
ما حيوان ما له من حرمة ... إن اسمه صحّف فابن العمّه (3)
وقلبه من بعد تصحيف له ... يريك في الذكر الحكيم أمّه
ومن ذلك قوله في سلّم (4): [الرجز]
ما اسم مركّب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع
ينصب لكن أكثر استعمال من (5) ... يعنى به في الخفض أو في الرفع
وهو إذا خفّفته مغيّرا (6) ... تراه شملا لم يزل ذا صدع
فالاسم إن طلبته تجده في ... خامسة من الطوال السّبع
وهو إذا صحّفته يعرب عن ... مكسّر في غير باب الجمع (7)
له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشّرع (8)
هما جميعا من بني النجار والأف ... ضل أصل في حنين الجذع
فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكلّ زاكي (9) الطبع
__________
(1) في الكتيبة: «وهذا سومه فلس».
(2) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 190).
(3) صحّف: أي جعل «تمر»، والعمّه: النخلة.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 191190) ونفح الطيب (ج 7ص 419).
(5) في الكتيبة: «أكثر استعماله يعني».
(6) في الكتيبة الكامنة: «وهو إذا صغّرته مخفّفا».
(7) إذا صحّفت «سلّم» أصبح «يتثلّم» أي يتكسّر.
(8) الأخ الأفضل: هو المنبر. وآثاره: هي المواعظ المحمودة في الشرع.
(9) في النفح: «ذاكي».(4/121)
ومن ذلك قوله في فنار (1): [مجزوء الرجز]
ما اسم إذا حذفت من ... هـ فاءه المنوّعه
فإنه بنت (2) الزّنا ... مضافة لأربعة
ومن ذلك قوله في حوت (3): [مجزوء الرجز]
ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون
حروفه (4) ثلاثة ... والكلّ منها نون (5)
تصحيفه قطع الفلا ... أو ما جناه المذنبون (6)
أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الخؤون (7)
وقلبه مصحّفا (8) ... عليه دارت السنون
كانت به في ما (9) مضى ... عبرة قوم يعقلون
أودع فيها (10) عنده ... سرّ من السّرّ المصون
فهاكه كالنار في ... الزّند لها فيه (11) كمون
ومن ذلك قوله في مائدة (12): [الرجز]
حاجيت كلّ فطن نظّار ... ما اسم لأنثى من بني النجار
وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلّ ما يغفل عنها القاري
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 191) ونفح الطيب (ج 7ص 426).
(2) في النفح: «ابنة». وبنت الزنا: يريد بنت الزناد وهي النار.
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 192191) ونفح الطيب (ج 7ص 429428).
(4) في النفح: «أحرفه».
(5) النون: الحوت. لسان العرب (نون).
(6) رواية البيت في النفح هي:
إن أنت صحّفت اسمه ... فما جناه المذنبون
وتصحيف «حوت» هو «حوب» بالباء، والحوب هو الذنب والإثم.
(7) إذا صحّفت «حوت» وأردت به الأبيض والأسود كان «الجون». وإذا أردت صفة النفس الخؤون كان «الحوب».
(8) في النفح: «قلب اسمه مصحّفا». ومقلوب «حوت» هو «توح»، وتصحيفه هو «يوح» وهو اسم الشمس.
(9) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(10) في الكتيبة: «فيه». وفي النفح: «فيه زمنا سرّ من».
(11) في النفح: «فيها».
(12) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 192) ونفح الطيب (ج 7ص 419).(4/122)
في خبر المهديّ فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار
ما هي إلّا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار
يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار (1)
فهاكه كالشمس في وقت الضّحى ... قد شفّ عنها حجب الأستار
ومن ذلك قوله في زبيب (2): [الرجز]
ما نقي العرض طاهر الجسد ... عندما خالطه الماء فسد
خالط الماء القراح فغوى ... بعد ما كان من أهل الرّشد
عجميّ الأصل تمّ حسنه ... عندما صاد الغزالة الأسد (3)
واسمه اسم امرأة مصحّفا (4) ... ولقد يكون وصفا لولد
هاكه قد بهرت أنواره ... فارم بالفكر تصب قصد الرشد (5)
جميع هذه الأغراض المنسوبة إليه بحر لا ينفد مدده، وقطر لا يبلغ عدده.
وأمّا نثره فسلطانيّات مطولات، عرضت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلّت لمكان الاستعجال والبديهة عيونها. وقد اقتضبت منها أجزاء سميته «تافها من جم ونقطة من يم».
مولده: ولد بغرناطة في جمادى الآخرة (6) عام ثلاثة وسبعين وستمائة.
وفاته: ليلة يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة. ودفن بباب إلبيرة. وكانت جنازته آخذة نهاية الاحتفال، حضرها السلطان فمن دونه.
ومما رثي به: رثيته بقصيدة أنشدتها على قبره خامس يوم دفنه ثبتت في غير ما موضع وهي (7): [الكامل]
ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النّعيّ فهنّ في إطراق
وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسّقم من جزع ومن إشفاق
__________
(1) يريد أن يقول: إن قضب الروضة تميد، فهي مائدة.
(2) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 193192).
(3) أي تمّ نضجه عندما وقعت الشمس في برج الأسد.
(4) تصحيف «زبيب» هو «زينب» أو «ربيب».
(5) في الكتيبة: «السدد».
(6) في نفح الطيب (ج 7ص 420): «الأولى».
(7) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 422420).(4/123)
ما للصحائف صوّحت (1) روضاتها ... أسفا وكنّ نضيرة الأوراق
ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام السّاقي
ما لي عدمت تجلّدي وتصبّري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي
خطب أصاب بني البلاغة والحجا ... شبّ الزفير به عن الأطواق (2)
أمّا وقد أودى أبو الحسن الرضا ... فالفضل قد أودى على الإطلاق
كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوما ولا تفنى على الإنفاق
من للبدائع أصبحت سمر السّرى ... ما بين شام للورى وعراق
من لليراع يجيل من خطّيّها (3) ... سمّ العدا ومفاتح الأرزاق
قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالتّرياق
من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق
تغتال أحشاء العدوّ كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق
وتهزّ أعطاف الوليّ كأنها ... راح مشعشعة براحة ساق
من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق
من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق
من للمساعي الغرّ تقصد جاهه ... حرما فينصرها على الإخفاق
كم شدّ من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحلّ وثاق
رحب الذراع بكلّ خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذّاق
صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين (4) والطّرّاق
ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق
فاعجب لأنس في مظنّة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق
أمطيّبا بمحامد العمل الرضى ... ومكفّنا بمكارم الأخلاق
ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى (5) تسير على الأعناق
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثّرى ... أنّ اللحود خزائن الأعلاق (6)
__________
(1) صوّحت الرياض: يبس نباتها. لسان العرب (صوح).
(2) شبّ عن الأطواق: عظم وكبر، وقد أخذ ذلك من المثل: «شبّ عمرو عن الطوق».
(3) في الأصل: «خطبها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) العافون: جمع عاف وهو طالب المعروف. لسان العرب (عفا).
(5) رضوى: «اسم جبل».
(6) الأعلاق: جمع علق وهو النفيس من كل شيء. محيط المحيط (علق).(4/124)
يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق
يا واحدا مهما جرى في حلبة ... جلّى بغرّة سابق السّبّاق
يا ثاويا بطن الضريح وذكره ... أبدا رفيق ركائب ورفاق
يا غوث من وصل الضريح (1) فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق
ما كنت إلّا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق
ما كنت إلّا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق
يا مزمعا عنّا العشيّ ركابه ... هلّا لبثت (2) ولو بقدر فواق (3)
رفقا أبانا جلّ ما حمّلتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق
واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منّا على الأرماق
وإذا اللقاء تصرّمت أسبابه ... كان الخيال تعلّة المشتاق
عجبا لنفس ودّعتك وأيقنت ... أن ليس بعد ثواك (4) يوم تلاق
ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق
إن قصّرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق
واستوقفت دهشا فإنّ قلوبنا ... نهضت بكلّ وظيفة الآماق
ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق
سجعت بما طوقتها من منّة ... حتى زرت (5) بحمائم الأطواق
تبكي فراقك خلوة عمّرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق
أمّا الثناء على علاك فذائع ... قد صحّ بالإجماع والإصفاق
والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق
جادت ضريحك ديمة هطّالة ... تبكي عليه بواكف رقراق
وتغمّدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحلّ الراقي
صبرا بني الجيّاب إنّ (6) فقيدكم ... سيسرّ مقدمه بما هو لاق
وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أيّ رواق
__________
(1) في النفح: «الصريخ».
(2) في النفح: «ثويت».
(3) الفواق، بضم الفاء: ما بين الحلبتين من الوقت، ومنه قولهم: «امهلني قدر فواق». وهو مثل يضرب في قصر المدة. لسان العرب (فوق).
(4) في النفح: «نواك».
(5) زرى به: ازدراه. لسان العرب (زرا).
(6) كلمة «إنّ» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.(4/125)
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله بن جزي رحمه الله (1): [الطويل]
ألم تر أنّ المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوّضت دعائمه
هوى من سماء المعلوات شهابها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه
وثلّت من الفخر المشيد عروشه ... وفلّت من العزّ المنيع صوارمه
وعطّل من حلي البلاغة قسّها ... وعرّي من جود الأنامل حاتمه (2)
أجل إنه الخطب الذي جلّ وقعه ... وثلّم غرب الدين والعلم هاجمه
وإلّا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصّت قوادمه
وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيّا الدهر قطّب باسمه
وما لدموع العين فضّت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه (3)
قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتّت ذاك الشّمل من هو ناظمه
ومن قارع الأيام سبعين حجّة ... ستنبو عراره (4) ويندقّ قائمه
وفي مثلها أعيا النطاسيّ (5) طبّه ... وضلّ طريق الحزم في الرأي حازمه
تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه
وما نفعت ربّ الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغنيّ كرائمه
وكلّ تلاق فالفراق أمامه ... وكلّ طلوع فالغروب ملازمه
وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه
ليبك (6) عليّا مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه
ليبك (7) عليّا مائح (8) بحر علمه ... يروّى بأنواع المعارف هائمه
ليبك (9) عليّا مظهر فضل نصحه ... يحلّأ (10) عن ورد المآثم حائمه
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 425422).
(2) قسّ: هو قسّ بن ساعدة الإيادي، الخطيب الجاهلي المشهور، وهو مضرب المثل في الفصاحة. وحاتم: هو حاتم الطائي، مضرب المثل في الجود والكرم. جمهرة أنساب العرب (ص 328327، 402).
(3) الكمائم: جمع كمامة وهي غلاف الزهر. لسان العرب (كمم).
(4) في النفح: «غراراه».
(5) النطاسيّ: الطبيب الحاذق. لسان العرب (نطس).
(6) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «ماتح» والتصويب من النفح. ومائح بحر العلم: مغترفه. لسان العرب (ماح).
(10) يحلّأ: يمنع ويذاد. لسان العرب (حلأ).(4/126)
ليبك (1) عليّا معتف (2) جود كفّه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه
ليبك (3) عليّا ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه
ليبك (4) عليّا فضل كلّ بلاغة ... يخلّده في صفحة الطّرس راقمه
وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشّرى في خيسها وضراغمه (5)
تكفّل بالرزق المقدّر للورى ... إذا الله أعطى فهو للناس (6) قاسمه
يسدّده سهما وينضوه صارما ... ويشرعه رمحا فكلّ يلائمه
إذا سال من شقّيه سائل حبره (7) ... بما شاء منه سائل فهو عالمه
ليبك عليه الآن (8) من كان باكيا ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه
تقلّد منه الملك عضب بلاغة ... يقدّ السلوقيّ المضاعف صارمه
وقلّده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعيّ حازم الرأي عازمه
ففي يده وهو الزعيم بحقّها ... براعته (9) والمشرفيّ وخاتمه
سخيّ على العافين سهل قياده ... أبيّ على العادين صعب شكائمه
إذا ضلّت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الحقّ (10) ناجمه
وقام بأمر الملك (11) للدين حاميا ... فذلّ معاديه وضلّ مراغمه
وقد كان نيط العلم والحلم والتّقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه
ودوّخ أعناق الليالي بهمّة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه
وزاد على بعد المنال تواضعا ... أبى الله إلّا أن تتمّ مكارمه
سقيت الغوادي! أيّ علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه
وما زلت (12) يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه
__________
(1) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «لبّيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) المعتفي: طالب المعروف. لسان العرب (عفا).
(5) الشّرى: مكان تسكنه الأسود. الخيس: مأوى الأسود. لسان العرب (شرا) و (خاس). وهنا كناية عن القلم.
(6) في النفح: «في الناس».
(7) في الأصل: «حبرة» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «اليوم».
(9) في الأصل: «يراعته» والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «الخطب».
(11) في النفح: «بأمر الدين والملك».
(12) في النفح: «وما زال».(4/127)
بكت فقدك الكتّاب إذ كان شملهم ... يؤلّفه من روح (1) فضلك ناعمه
وطوّقتهم بالبرّ ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه
ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقّد (2) في جنبيه للحزن جاحمه
فتى نال منه الدهر إلّا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه
عليل الذي زرّت عليه جيوبه ... قريح الذي شدّت عليه حزائمه
فقد كنت ألقى الخطب منه بجنّة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه
سأصبر مضطرّا وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرّة وأسالمه
وأهديك إذ عزّ اللقاء تحيّة ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه
وأنشد القاضي أبو بكر (3) القرشي قوله في قصيدة في ذلك (4): [الوافر]
هي الآجال (5) غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد
وأنشد الفقيه الكاتب أبو بكر (6) القاسم بن الحكيم قوله من قصيدة:
[الطويل]
لينع الحجا والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا
وأنشد الفقيه القاضي أبو بكر (7) بن جزي قصيدة أولها (8): [الطويل]
أبثّكما والصبر للعهد ناكث ... حديثا أملّته عليّ الحوادث
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريبا لم يتقدّم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلّة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر، فمضى بسبيله، رحمه الله.
__________
(1) في النفح: «دوح».
(2) في الأصل: «فوقّد» والتصويب من النفح.
(3) في نفح الطيب (ج 7ص 425): «أبو بكر بن علي القرشي».
(4) البيت في نفح الطيب (ج 7ص 425).
(5) في النفح: «الآمال».
(6) في المصدر نفسه والصفحة نفسها: «أبو القاسم بن الحكم».
(7) في نفح الطيب (ج 7ص 425). «أبو جعفر».
(8) البيت في نفح الطيب (ج 7ص 425).(4/128)
علي (1) بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد (2) بن الحسن ابن عثمان (3) بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر ابن كنانة بن قيس بن الحصين بن لوذم (4) بن ثعلب ابن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن نام بن عبس (5) واسمه زيد بن مالك بن أدد بن زيد العنسي المذحجي (6)
من أهل قلعة يحصب (7)، غرناطي، قلعي (8)، سكن تونس، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن سعيد.
أوليته: قد تقرر من كرم أوليته وذكر بيته ما ينظر في محله.
حاله: هذا الرجل وسطى عقد بيته، وعلم أهله، ودرّة قومه، المصنّف الأديب، الرحال، الطّرفة، الإخباري، العجيب الشأن في التجول في الأوطان، ومداخلة الأعيان، والتمتع بالخزائن العلمية، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية.
مشيخته: أخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشّلوبين، وأبي الحسن الدباج، وأبي الحسن بن عصفور وغيرهم.
__________
(1) ترجمة علي بن موسى ابن سعيد في المغرب (ج 2ص 172) واختصار القدح المعلى (ص 1) وفوات الوفيات (ج 3ص 103) وبغية الوعاة (ص 357) والذيل والتكملة (ج 5ص 411) ونفح الطيب (ج 3ص 29).
(2) في الذيل والتكملة: «سعد».
(3) في المصدر نفسه: «عثمان بن الحسين بن عبد الله الداخل إلى الأندلس ابن سعيد بن عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة».
(4) في المصدر نفسه: «لوذيم، ويقال: لوذين، بن ثعلبة».
(5) في الذيل والتكملة: «يام بن عنس».
(6) في نفح الطيب: «المدلجي».
(7) قلعة يحصب، أو قلعة يعقوب، أو قلعة بني سعيد، أو القلعة السعدية: بالإسبانية، أي القلعة الملكية نزلها بنو سعيد وسكنوها فسمّيت باسمهم، وهي من أعمال غرناطة، وتبعد عن إلبيرة ثلاثين ميلا. نصوص عن الأندلس (ص 89، 92) والذيل والتكملة (ج 5ص 412) والروض المعطار (ص 453) وتقويم البلدان (ص 177) ونفح الطيب (ج 1ص 286، حاشيته رقم 4).
(8) قلعي: نسبة إلى قلعة يحصب المذكورة.(4/129)
تواليفه: وتواليفه كثيرة، منها المرقصات والمطربات (1)، عزيز الوجود، والمقتطف أغرب وأعجب، والطالع السعيد في تاريخ بيته وبلده، والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار، وهما «المغرب في حلى المغرب»، «والمشرق في حلى المشرق»، وغير ذلك مما لم يتصل إلينا، فلقد حدّثني الوزير أبو بكر بن الحكيم، أنه تخلف كتابا يسمى «المرزمة»، يشتمل على وقر بعير، لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلّا الله.
شعره: قال: تعاطى نظم الشعر في حدّ زمن الشبيبة، يعجب فيه من مثله، فيذكر أنه خرج مع والده، وقد مرّ في صحبته إلى إشبيلية، وفي صحبته سهل بن مالك، فجعل سهل يباحثه عن نظمه، إلى أن أنشده في صفة النهر والنسيم يردّده، والغصون تميل عليه (2): [المنسرح]
كأنما النّهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشئها (3)
لمّا أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها (4)
فطرب أبو الحسن وأثنى عليه، ثم شدا. وناب عن أبيه في أعمال الجزيرة، ومازج الأدباء، ودوّن كثيرا من نظمه، وحفظ له في المدح: [الكامل]
يا أيها الملك الذي هباته ... وهباته شدّت عرى الإسلام
لمّا أسال نداه سلّ حسامه ... فأراك برقا في متون غمام
لله شيعتك التي ترك العدا ... أقداحهم بمواطئ الأقدام
طاروا بأجنحة السيوف إليهم ... مثل الحمام جلبن كل حمام
فهم سهام والجياد قسيّهم ... وعداهم هدف وسعدك رام
__________
(1) بهذا العنوان طبع الكتاب، واسمه في فوات الوفيات (ج 3ص 103) هو: «المرقص والمطرب».
(2) البيتان في اختصار القدح (ص 2) والمغرب (ج 2ص 173) وبغية الوعاة (ص 357) ونفح الطيب (ج 3ص 38).
(3) في المغرب: «منشئها». وفي اختصار القدح «منثؤها». وفي بغية الوعاة: «منشؤها».
(4) في المغرب: «حسن منظره الغصون تفرؤها». وفي بغية الوعاة: «حسن منظره».(4/130)
وقال: ومما نظمته بالحضرة في فرس كان لهم لوباني أغرّ أكحل بحلية (1):
[الطويل]
وأجرد تبري أثرت به الثّرى ... وللفجر (2) في خصر الظلام وشاح
عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلام وبين الناظرين صباح
رحلته المشرقية، وفيها الكثير من نظمه، قال في «الطالع»: لما قدم الديار المصرية واشتهر، كان مما نظمه سلما لمعرفة الأدباء والظرفاء قوله، وقد رأى بساحلها وجوها لا يعرفها، وألسنا غير ما عهد (3): [الكامل]
أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى ... من (4) بينها وجها لمن أدريه
ويح الغريب توحّشت ألحاظه ... في عالم ليس له بشبيه
عودي على بدئي ضلالا بينهم ... حتى كأني من بقايا التّيه
ودخل القاهرة، فصنع له أدباؤها صنيعا في ظاهرها، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس، وكان فيهم أبو الحسن الجزّار (5)، فجعل يدوس النرجس برجله، فقال أبو الحسن (6): [السريع]
يا واطئ النرجس بالأرجل ... ما تستحي أن تطأ الأعين بالأرجل؟ (7)
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته.
فقال ابن أبي الأصبغ (8): [السريع]
فقال (9): دعني لم أزل محرجا ... على لحاظ الرّشا (10) الأكحل
__________
(1) البيتان في المغرب (ج 2ص 173) ونفح الطيب (ج 3ص 34) وجاء فيهما أنه فرس أصفر أغرّ.
(2) في الأصل: «والفجر»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(3) الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 29).
(4) في النفح: «ما».
(5) في نفح الطيب (ج 1ص 36): جمال الدين أبو الحسين الجزار المصري الشاعر.
(6) البيت في فوات الوفيات (ج 3ص 106) ونفح الطيب (ج 3ص 36).
(7) رواية البيت في الوفيات ونفح الطيب هي:
يا واطئ النرجس، ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل؟
(8) هو زكي الدين بن أبي الإصبع، كما جاء في نفح الطيب (ج 3ص 36).
(9) في النفح: «فقلت».
(10) في الأصل: «الرشاد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/131)
وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال (1): [السريع]
قابل جفونا بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل
ثم استدعاه سيف الدين بن سابق، صاحب الأشغال السلطانية، إلى مجلس بضفة النيل، مبسوط بالورد، وقد قامت حوله شمامات نرجس، فقال في ذلك (2):
[السريع]
من فضّل النّرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النّرجس؟
ووافق ذلك مماليك الترك، وقوفا في الخدمة على عادة المشارقة، فطرب الحاضرون، من حسود ومنصف. ولقي بمصر محيي الدين بن ندا واقد التركي (3)، والإمام زهير الحجاري بهاء الدين، وبالقاهرة جمال الدين بن مطروح، وجمال الدين بن يغمور، وتعرف بكمال الدين بن العديم رسول سلطان حلب، فاستصحبه يتحف به الملك الناصر صاحب حلب، فلقي بحمص وبيت المقدس وحماه أعلاما جلّة، وله معهم أخبار يطول ذكرها، ودخل على السلطان (4) بحلب، وأنشده قصيدة أولها (5): [الكامل]
جد لي بما ألقى الخيال من الكرى ... لا بدّ للطّيف الملمّ من الكرى (6)
فقال كمال الدين: هذا رجل عارف (7) مذ روى لمقصده من أول كلمة. ثم قال بعد أبيات:
الناصر الملك الذي عزماته ... أبدا تكون مع العساكر عسكرا
ما كان أنبا الفتح يلزم لامه ... والجمع من أعدائه متكسّرا
__________
(1) البيت في فوات الوفيات (ج 3ص 106) ونفح الطيب (ج 3ص 36).
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 3ص 39).
(3) في النفح (ج 3ص 39): «أيدمر التركي».
(4) في النفح: «فدخل على الناصر صاحب حلب».
(5) هذا البيت وبعض الأبيات التالية في المغرب (ج 2ص 175).
(6) في النفح: «جد لي بمالقي للضّيف الملمّ من القرى». ورواية عجز البيت في المغرب هي:
لا بدّ للضّيف الملمّ من القرى
(7) في النفح: «عارف، ورّى بمقصوده».(4/132)
فعظم استظراف السلطان لهذه المقاصد، وأثنى عليه. ثم وصل فقال:
الدين أصلحه وعمّ صلاحه الدنيا ... وأصبح ناصرا ومظفّرا
فكأن كنيته غدت موضوعه ... من ربّه والوصف منه مقرّرا
وكأنما الأسماء قد عرضت على ... علياه قبل وجوده متخيّرا
فقال السلطان: كيف ترون؟ واستعاده. فقال عون الدين العجمي عميد المجلس وكاتب الإنشاء: استنباطه ما سمع الملوك بمثله يا خوند. ثم أنشد:
من آل أيوب الذين هم هم ... ورثوا الندى والبأس أكبر أكبرا
أهل الرياسة والسياسة والعلا ... بسيوفهم حلّوا الذّرى منحوا الذّرا (1)
سمّ العداة على حياء فيهم (2) ... لا تعجبوا فكذاك (3) آساد الشّرى
كادوا يقيلون العداة من الرّدى ... لو لم يمدّوا كالحجاب العثيرا
جعلوا خواتم سمرهم من قلب كل ... ل معاند عدّ (4) المثقّف خنصرا
وببيضهم قد توّجوا أعداءهم ... حتى لقد حلّوا لكيما تشكرا
لو لم يخافوا تيه سار (5) نحوهم ... وهبوا الكواكب والصّباح المسفرا
وهي طويلة. ثم استجلسه السلطان، وسأله عن بلاده ومقصده (6) بالرحلة، فأخبره أنه جمع كتابا في الحلى البلادية والحلى العبادية المختصّة بالمشرق، وأخبره أنه سمّاه «المشرق في حلى المشرق». وجمع مثله فسمّاه «المغرب في حلى المغرب». فقال: نعينك بما عندنا من الخزائن، ونوصلك إلى ما لا (7) عندنا، مثل خزائن الموصل وبغداد، وتضيف (8) لنا المغرب. فخدم على عادتهم، وقال: أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس، ثم قال له السلطان مداعبا: إن شعراءنا ملقّبون بأسماء الطيور، وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلّا لم يعلمه (9) غيرنا، وهو البلبل، فقال: قد رضي المملوك بذلك يا خوند.
__________
(1) رواية البيت في المغرب هي:
من معشر خبروا الزمان رئاسة ... وسياسة حلّوا الذّرى حمر الذّرا
(2) في الأصل: «على هيافيهم» وهكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المغرب.
(3) في المغرب: «لا تعجبنّ كذاك».
(4) في المغرب: «حسب».
(5) في الأصل: «تيسار»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المغرب.
(6) في نفح الطيب (ج 3ص 39): «ومقصوده برحلته، وأخبره».
(7) في النفح: «ما ليس عندنا كخزائن».
(8) في النفح: «وتصنّف لنا، فخدم».
(9) في النفح: «وإلّا لم نعلم به أحدا غيرنا».(4/133)
فتبسّم السلطان، وقال: اختر واحدة من ثلاث، إمّا الضيافة التي ذكرتها أول شعرك، وإمّا جائزة القصيدة، وإمّا حقّ الاسم. فقال: يا خوند، المملوك ممّن (1) لا يختنق بعشر لقم، فكيف بثلاث؟ فطرب السلطان، وقال هذا مغربي ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف. ولقي بحضرته عون الدين العجمي، وهو بحر لا تنزفه الدّلاء (2)، والشهاب التلعفري الشهير الذكر، والتاج ابن شقير، وابن نجيم الموصلي، والشرف بن سليمان الإربليّ، وطائفة من بني الصاحب.
ثم تحوّل إلى دمشق، ودخل الموصل وبغداد، ودخل مجلس السلطان المعظم ابن الملك الصالح بدمشق، وحضر بمجلس (3) خلوته. وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها. ثم رحل إلى البصرة، ودخل أرّجان، وحجّ. ثم عاد إلى المغرب. وقد صنّف في رحلته الأولى إليها مجموعا سمّاه ب «النفحة المسكيّة في الرحلة المكية». وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية (4) من إفريقية في إحدى جمادين من عام اثنين وخمسين وستمائة، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر (5) فنال الدرجة الرفيعة من حظوته. وقال عند اتصاله به لحين قدومه: [المتقارب]
وما زلت أضرب في الخافقين ... أروم البلاد وأرعى الدول
إلى أن رجعت إلى تونس ... محلّ الإمام وأقصى الأمل
فقلت البلاد لهذي قرى ... وقلت الأنام لهذا خول
نكبته: وحدّثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم، أن المستنصر جفاه في آخر عمره، وقد أسنّ لجراء خدمة مالية أسندها إليه، وقد كان بلاء منه قبل جفوة، أعقبها انتشال وعناية. فكتب إليه: [الرمل]
يا غزالا في الحشا منزله ... وبعيني دائما منهله
__________
(1) في النفح: «ممّا».
(2) الدّلاء: جمع دلو وهو الذي يستقى به. محيط المحيط (دلا). وقوله: لا تنزفه الدلاء: أي لا تستخرج ماءه كلّه، كناية عن الغزارة.
(3) في النفح: (ج 3ص 40): «مجلس».
(4) في الأصل: «إقلنية»، والتصويب من النفح. وإقليبية، بكسر الهمزة واللام والباء وسكون القاف، حصن منيع بإفريقية قرب قرطاجنة، مطل على البحر. معجم البلدان (ج 1ص 237).
(5) هو محمد بن يحيى بن عبد الواحد الحفصي، حكم تونس من سنة 647هـ إلى سنة 675هـ.
ترجمته في الأعلام (ج 7ص 138) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.(4/134)
لا ترعني (1) بالجفا ثانية ... ما بقي في الجسم ما يحمله
فرق له، وعاد إلى حسن النظر فيه، إلى أن توفي تحت برّ وعناية، رحمه الله.
مولده: ولد بغرناطة ليلة الفطر في سنة عشر وستمائة.
وفاته: توفي بتونس، حرسها الله، في أحواز عام خمسة وثمانين وستمائة (2).
علي بن عبد الرحمن بن موسى بن جودي القيسي (3)
الأديب الكاتب، يكنى أبا الحسن.
حاله: من أهل المعرفة بالعلوم القديمة، وأصله من عمل سرقسطة. وكان صديقا للوزير أبي الحسن بن هاني.
مشيخته: قرأ على الحكيم أبي بكر بن الصايغ، المعروف بابن باجة (4). وكان خليع الرّسن فيما ذكر عنه.
شعره: من شعره: [الطويل]
خليليّ من نعمان، بالله عرّجا ... على الأيك من وادي العقيق فسلّما
وقولا له ما حال لبنى لعلّه ... إذا سمع النجوى بلبنى تكلّما
فعهدي به والظلّ ينفضّ دوحه ... وقد خضلت عيدانه فتنعّما
تباكره لبنى لإتيان موعد ... عزيز عليها أن يخان ويصرما
نبثّ حديثها فنبكي بعبرة ... فترسلها ماء ونرسلها دما
__________
(1) في الأصل: «لا ترعبني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من نفح الطيب (ج 3ص 40).
(2) في فوات الوفيات (ج 3ص 104): «توفي بدمشق في شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة».
وفي بغية الوعاة (ص 357): «ومات حادي عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين».
(3) ترجمة ابن جودي في المغرب (ج 2ص 109) ومطمح الأنفس (ص 358) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 284) وأزهار الرياض (ج 5ص 153) ونفح الطيب (ج 9 ص 282).
(4) هو محمد بن يحيى بن باجة التجيبي الأندلسي السرقسطي. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4 ص 222) وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 283) وعيون الأنباء (ص 515) والمغرب (ج 2ص 119) واسمه فيه: محمد بن الحسين بن باجة، والوافي بالوفيات (ج 2 ص 140) ومطمح الأنفس (ص 397) ومعجم الأدباء (ج 4ص 547) في ترجمة ابن خاقان، وقلائد العقيان (ص 298).(4/135)
ومن شعره قوله (1): [الوافر]
أدر كأس المدام فقد تغنّى ... بفرع الأيك أورقها الصّدوح
وهبّ (2) على الرياض نسيم صبح ... يمرّ كما ونى (3) ساد طليح
وسال النّهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أنّ الجريح
وقال: [الطويل]
سقى الله دهرا ضمّ شمل مودّة ... وجمّع إخوان الصفاء بلا وعد
بميناء تعلوها الرياح بليلة ... وتنظر منها الشمس بالأعين الرّمد
وفاته: توفي بغرناطة في حدود الثلاثين وخمسمائة (4).
ومن الطارئين
عمر بن خلاف بن سليمان بن سلمة
من أهل شابش، يكنى أبا علي.
حاله: كان فقيها أديبا مكثرا، شهير المكان بجهته، مولعا بمكاتبة الأدباء وتقييد ما يصدر عنهم، مؤرّخا من أهل النباهة والعناية. ألّف كتابا سماه «نخبة الأعلاق، ونزهة الأحداق في الأدباء»، وحلّى من ذكر فما قصّر عن السّداد. وله نظم ونثر وخطب، وبيعات ومراجعات تضمّنها الكثير من كتبه.
فمن شعره ما قاله يخاطب بعض إخوانه: [البسيط]
خذها إليك أبا إسحاق تذكرة ... من ذاكر لك في قرب وفي شحط
يرعى ذمامك، لا تنسى لوازمه ... ولا يمازجه بالسّهو والغلط
ولا يزال بحفظ العهد معتنيا ... ولا يعامل في البحران بالشطط
فأنت عندي أولى من أذمّة ر ... بحي ومن صفوتي في أرفع النّمط
قد طال شوقي للإعلام منك بما ... لديك إذ فيه لي تأنيس مغتبط
وقد تبّت بنكري في التغافل عن ... معهود ما كنت توليه لذي الشّحط
__________
(1) الأبيات في مطمح الأنفس (ص 364).
(2) في المطمح: «ونمّ».
(3) في المطمح: «ورى سار طليح».
(4) في المعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 284): توفي بعد الثلاثين وخمسمائة.(4/136)
وقد عفا رسم عرفان الإخاء بما ... أوليت من كثرة الإهمال والغلط
اجبر (1) أخي وهيه وارجع لصالح ما ... عوّدت في الكتب من مستحسن الخطط
وجد ببسط انبساط أنت تبذله ... فإنّ أقبح شيء قبض منبسط
وخذ (2) سلاما كعرف المسك نفحته ... من ذي ولاء بذاك المجد مغتبط
وفي مفاتحة بعض الأدباء: [الطويل]
أبا جعفر، وافتك في صفحة الطّرس ... عقيلة ودّ لم تشنها يد اللّمس
لها حلل الإخلاص زيّا وحليها ... عطر ثنا عرف روض الربى ينبس (3)
وموجبها ما قد فشا من محامد ... حباك بها الرحمن ذو العرش والكرسي
وغرّ علوم حزتها ومعارف ... غلوت بها فحي على البدر والشّمس
فإن رزقت منك القبول تشرّفت ... وفازت بتحصيل المسرّة والأنس
خطابك يا قاضي العدالة بغيتي ... وروحي وريحاني وقصوى منى نفسي
اقتضبتها أعلى الله قدرك، كما أسنى في سماء المعارف والأدب التالد والطارف بدرك، عن ودّ ملك زمامي، وفضل في سبيل المنافسة في خطبة ودادك غاية اهتمامي، وقد تقرّر لديّ من محاسنك وإحسانك بالسماع، ما أوجب عليّ مخاطبتك عند تعذّر المشافهة بألسنة اليراع، فانقدت بزمام ذلك الواجب، وقصدت أداءه على أصحّ المذاهب، راجيا من تجاوزك وإغضائك، ما يليق بباهر علائك، وفي جوابك هو الشفاء، ولدى خطابك يلقى الاعتناء والاحتفاء، والله يطلع منك السّار، ويصل لك المبار. وقال يخاطب السلطان: [الطويل]
إلى الحضرة العلياء (4) يستبق العبد ... وفي القرب منها والدّنوّ هو القصد
إلى حضرة الولي الإمارية التي ... تبلّج فيها العدل وابتسم السّعد
وفيها وجود المرء (5) للدين والدّنا ... وقد خصّها بالرحمة الصّمد الفرد
وفاته: كان حيّا في سنة خمس وستمائة.
__________
(1) في الأصل: «جبر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «خذ» وكذا ينكسر الوزن.
(3) عجز هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(4) في الأصل: «العليا» وكذا ينكسر الوزن.
(5) كلمة «المرء» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.(4/137)
علي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن عمر الغساني (1)
من أهل قرية أرينتيرة من قرى سند مدينة وادي آش، يكنى أبا الحسن.
حاله: كان من جلّة الطلبة ونبهائهم وأذكيائهم وصلحائهم. عنده معرفة بالفقه، ومشاركة في الحديث، ومعرفة بالنحو والأدب، وحسن نظم ونثر، من أحسن الناس نظما للوثائق، وأتقنهم لها، وأعرفهم بنقدها، وأقصدهم لمعانيها، يستعين على ذلك بأدب وكتابة، فيأتي بأشياء عجيبة.
مشيخته: روى عن الراوية أبي العباس الخروبي، والمقرئ أبي الحسن طاهر بن يوسف بن فتح الأنصاري، والقاضي أبي محمد بن عبد الرحيم الخزرجي.
تواليفه: ألّف كتابا في شرح المسند الصحيح لمسلم بن الحجاج في أسفار كثيرة، أجاد فيها كل الإجادة. وله كتاب سماه ب «الوسيلة في الأسماء الحسنى». ونظم في شمائل النبيّ، عليه أفضل الصلاة والسلام.
شعره: له شعر في الزهد وغيره، فمنه قوله: [مجزوء الرجز] أيا كريما لم يضع ... لديك عبد أمّلك
بالباب من أنت له ... وودّ أن لو كان لك
عبد له أسئلة ... وليستحي أن يسألك
أفواههم تسأله ... ولم تحسّن عملك
ألست (2) أنت خنته ... أمانة قد حمّلك؟
ولم تكن تشكر ما ... من فضله قد خوّلك؟
وكلّما أهملته ... من حقّه ما أهملك
إنّا كما قالوا سوى ... أنك أعلى من ملك
تلك التي تؤنسني ... وترتجي من فضّلك (3)
بشراي إن نال الرّضا ... بها فقد (4) توسّلك
__________
(1) أغلب الظنّ أن ابن الخطيب سيترجم له بعد سبعة تراجم، مع اختلاف بسيط في الاسم، وسيرد هكذا: «علي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن مروان بن عمر الغساني».
(2) في الأصل: «فإن»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «وترتجي بفضلك»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) كلمة «فقد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.(4/138)
علي بن محمد بن (1) علي بن هيضم الرّعيني
من أهل إشبيلية، يكنى أبا الحسن.
حاله: الكاتب البليغ المحدّث الراوية. قال الأستاذ: كان من أهل العلم والمشاركة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية واعتمدها صناعة. وكتب لجلّة من ملوك الأندلس والعدوة. وكان انفصاله من الأندلس قبل سنة أربعين وستمائة.
قلت: وكتب للسلطان المتوكل على الله أبي عبد الله بن هود (2)، ثم للسلطان المتوكل الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر (3). وسكن بغرناطة مدة مديدة. ثم رحل إلى مراكش، فكتب عن أمير سبتة، وعن ملوك الموحدين بمراكش. ونمت حاله ونبهت رتبته، واستقلّ بالإنشاء بعد شيخه أبي زيد الفازازي، وكان محدّثا عارفا بالرواية، متعدد المشيخة، فاضلا، ديّنا، مشاركا في كثير من المعارف، حسن الخط، جيد الكتابة، متوسط الشعر. قلت: هذا الرجل له مشيخة في أصل ابن الخطيب، طويلة اختصرتها.
شعره ونثره: من ذلك ما جمع فيه بين النظم والنثر: [الكامل]
وافى الكتاب وقد تقلّد جيده ... ما أنت تحسن نظمه وتجيده
من كلّ معنى ضمن لفظه في حلى ... خطّ يزيل طلى الطرّوس فريده
أبا المطرّف، دعوة من خالص ... لعلاك غابت ودّه وشهيده
أنت الوحيد بلاغة وبراعة ... ولك البيان طريفه وتليده
فانثر فأنت (4) بديعه وعماده ... وانظم فأنت (5) حبيبه ووليده
إيه، أيها السيد الذي جلّت سيادته، وحلّت صميم الفؤاد سعادته، ودامت بها ينفع الناس عادته. ألقى إلى كتاب كريم خطّته تلك اليمنى التي اليمن فيها تخطّه، ونسّقت جواهر بيانه التي راق بها سمطه، فلا تسلوا عن ابتهاجي بأعاجيبه، وانتهاجي لأساليبه، وشدّة كلفي بالتماح وسيمه، وجدّة شغفي باسترواح نسيمه. فإنه قدم وأنس
__________
(1) كلمة «بن» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة البدرية (ص 45).
(2) أبو عبد الله بن هود هو محمد بن يوسف بن هود الجذامي، أول من قام على الموحدين سنة 626هـ. اللمحة البدرية (ص 32).
(3) الغالب بالله هو محمد بن يوسف بن نصر، أول سلاطين بني نصر، حكم غرناطة من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).
(4) في الأصل: «أنت» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «أنت» وكذا ينكسر الوزن.(4/139)
النّفس راحل، واستعاده وروض الفكر ماحل، فجاده لا جرم أنه بما حوى من حدق النّوى، وروى من طرق الهوى، وبكى الربيع المحيل، وشكى من صابح الرّحيل، هيّج لواعج الأشواق وأثارها، وحرّك للنفس حوارها، فحنّت، واستوهبت العين مدارها فما ضنّت. فجاشت لوعة أسكنت، وتلاشت سلوة عنت، وكفّ دمع كفّ، وثقل عذل حفّ، واشتدّ الحنين، وامتدّ الأنين، وعلا النحيب، وعرا الوجيب، والتقى الصّبّ والحين، وهدى المحب قدر ما جناه البين، وطالما أعمل في احتمال المشاق عزيمه، وشدّ لاجتياب الآفاق حيازيمه: [المنسرح]
وادع مثوى المقام معتزما ... فلا (1) يرى للغرام ملتزما
وأزمع البين (2) عن أحبّته ... والبين عن داره التي رئما
وما درى أنه بعزمته ... قد (3) أشعل البين في الحشا ضرما
وهل جرى ذاك في تصوّره؟ ... فربما أحدث الهوى لمما
إلهي، ألا نوى مشيئته (4) ... شملا من العيش كان منتظما؟
وعاذل قال لي يعنّتني ... لا تبد فيما فعلته ندما
ما حيلة في يدي فأعملها ... عدل من الله كلّ ما حكما
أما أنّ القلب لو فهم حقيقة البين قبل وقوعه، وعلم قدر ما يشبّ من الرّوع في روعه، لبالغ في اجتنابه، واعتقد المعفي عنه من قبيل المعتنى به، ولحا الله الأطماع، فإنها تستدرج المرء وتغرّه، وتغريه بما يسرّه، ما زالت تقتل في الغارب والذّروة، وتخيل بالترغيب والثّروة، حتى أنأت عن الأحباب والحبايب، ورمت بالغريب أقصى المغارب. فيا لوحشة ألوت بإيناسه، وبالغربة أحلّت في غير وطنه وناسه، ويا عجبا للأيام وإساءتها، وقرب مسرّتها عن مساءتها، كأنها لم تتحف بوصال، ولم تسعف باتصال، ولم تمتّع بشباب، ولم تفتح لقضاء أوطار النفس كل باب: [الخفيف]
عجبا للزمان عقّ وعاقا ... وعدمنا مسرّة ووفاقا
أين أيامه وأين ليال ... كلآل تلألؤأ واتّساقا؟
كم نعمنا بظلّها فكأنّا ... مرقها للصّبا علينا رماقا
__________
(1) في الأصل: «لا يرى الغرام»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «البائن»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) كلمة «قد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(4) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.(4/140)
كم بغرناطة وحمص وصلنا ... باصطباح من السرور اغتباقا
في (1) ربى نجد تلك أو نهر هدي ... والأماني تجري إلينا استباقا
في رياض راقت وراق ولكن ... حين ندّ الحيا لها فأراقا
رقّ فيها النسيم فهو نسيب ... قد سبا رقّة نفوسا رفاقا
وثنا للغصون منها قدودا ... تتلاقى تصافحا واعتناقا
كلّما هبّ من صباه عليل ... وتداوى بها العليل أفاقا
حكم السّعد للأحبة فيه ... بكؤوس الوصال أن تنساقا
ثم كرّت للدهر عادة سوء ... شقّ فيها خطب النوى حين شاقا
شتّت الشمل بعد طول اجتماع ... وسقى للفراق (2) كأسا دهاقا
وأعاد الأوطان قفرا ولكن ... قد أعاد القطان فيها الرفاقا
ليت شعري والعيش تطويه بالفي ... فى (3)، أشاما تبوءوا أم عراقا؟
يا حداة القلوب، رفقا بصبّ ... بلغت نفسه السياق اشتياقا
آه (4) من شجوة وآه لبين ... ألزم النّفس لوعة واحتراقا
هذه، يا سيدي، استراحة من فؤاد وقدته الفرقة والقطيعة، واستباحته لحمى الوقار بما لم تحظره الشريعة، فقديما تشوكيت الأحزان، وتبوكيت الأوطان، وحنّ المشتاق، وكنّ له من الوجد ما لا يطاق، فاستوقف الركب يشكو البلابل، واستوكف السحب لسقيا المنازل، وفدى الرّبع وإن زاده كربا، ومن له إن يلم لائما له تربا.
حسبه دموع تفيض مجاريها، ونجوم يسامرها ويسايرها: [الكامل]
ألف السهاد فشأنه إدمانه ... واستغرقت أحيانه أشجانه
وشكا جفاء (5) الطّيف إذ لم يأته ... هل ممكن من لم ينم إتيانه؟
واستعبدته صبابة وكذا الهوى ... في حكمه (6) أحراره عبدانه
كم رام كتمان المحبة جهده ... ودموعه يبدو بها كتمانه
__________
(1) في الأصل: «وفي» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الفراق» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «تطوي بالفيافي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والفيفى والفيفاء: المفازة لا ماء فيها، جمعها: فياف.
(4) في الأصل: «فآه»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «جفا» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «حكم» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/141)
وإذا المحبّ طوى حديث غرامه ... كبا الضلوع وشت به أجفانه
وهي طويلة.
وفاته: بمراكش سحر ليلة الأربعاء الرابعة والعشرين من رمضان سنة ست (1)
وستين وستمائة. ودفن عقب ظهره بجبانة الشيوخ مقاربا باب السادة أحد أبواب قصر مراكش. وكان الحفل في جنازته عظيما، لم يتخلّف كبير أحد.
علي بن محمد بن علي بن البنا (2)
من أهل وادي آش، يكنى أبا الحسن.
حاله: من «الإكليل الزاهر»، قال فيه (3): فاضل يروقك وقاره، وصقر بعد مطاره. قدم من بلده وادي آش (4) يروم اللحاق بكتّاب الإنشاء، وتوسل بنظم أنيق، وأدب (5) في نسب الإجادة عريق، تعرب براعته عن لسان ذليق، وطبع طليق، وذكاء بالأثرة خليق، وبيننا هو يلحم في ذلك الغرض ويسدي، ويعيد ويبدي، وقد كادت وسائله أن تنجح، وليلة (6) رجائه أن تصبح، اغتاله الحمام، وخانته الأيام، والبقاء لله والدّوام.
شعره: من شعره يخاطبني لما تقلدت الكتابة العليا (7): [البسيط]
هو العلاء (8) جرى باليمن طائره ... فكان منك على الآمال ناصره
ولو جرى بك ممتدّا إلى أمل (9) ... لأعجز الشمس ما أمّت (10) عساكره
لقد حباه منيع العزّ خالقه ... بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخرا فما خلق يعارضه ... ولا علاء (11) مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت ... من كلّ ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيبا عجز ذي لسن ... عن وصف بحر رمى بالدّرّ زاخره
__________
(1) في الأصل: «ستة» وهو خطأ نحوي.
(2) ترجمة ابن البنا في نفح الطيب (ج 8ص 263).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 266).
(4) قوله: «وادي آش» غير وارد في النفح.
(5) في النفح: «ونسيب».
(6) في النفح: «وليل رجائه أن يصبح».
(7) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 265264).
(8) في الأصل: «العلا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «أمد».
(10) في النفح: «ما آبت».
(11) في الأصل: «علا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/142)
هل أنت إلّا الخطيب ابن الخطيب ومن ... زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصّر عن الأوصاف ذو أدب ... فما بدا منك في التقصير عاذره
يا ابن الكرام الألى ما شبّ طفلهم ... إلّا وللمجد قد شدّت مآزره
مهلا عليك فما العلياء قافية ... ولا العلاء (1) بسجع أنت ناثره
ولا المكارم طرسا أنت راقمه ... ولا المناقب طبّا أنت ماهره
ماذا على سابق يسري على سنن ... إن كان من نفعه (2) خلّ يسايره
سر حيث شئت من العلياء متّئدا (3) ... فما أمامك سابق (4) تحاذره
أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا ... أنت الجواد الذي عزّت مفاخره (5)
ما بعد ما حزته من عزّة وعلا ... شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة النّصريّ (6) محتدها ... نداء مستنجد (7) أزرا يوازره
حلّيتها برداء البرّ مرتديا ... وصبح يمنك فجر السّعد سافره (8)
فالملك يرفل في أبراده مرحا ... قد عمّت الأرض إشراقا بشائره
فاهنأ (9) بها نعمة ما أن يقوم لها (10) ... من اللسان ببعض الحقّ شاكره
وليهننا أنه (11) ألقت مقالدها ... إلى سريّ (12) زكت منه عناصره
فإنه بدر تمّ في مطالعها ... قد طبّق الأرض بالأنوار نائره
ومن أطبع ما هزّ به إلى إقامة سوقه، ورعي حقوقه، قوله (13): [البسيط]
يا معدن الفضل موروثا ومكتسبا ... فكل (14) مجد إلى عليائها (15) انتسبا
__________
(1) في الأصل: «العلا»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «في رفقه».
(3) في الأصل: «العليا سيّدا»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «سبّاق».
(5) في النفح: «أوافره».
(6) في الأصل: «الشّعريّ»، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «مستجد»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «حلية لما برد البرّ مرتديا وصبّح سافره»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «فأضاء»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «فيها»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «وليهنها أنها».
(12) في النفح: «زكيّ».
(13) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 266).
(14) في النفح: «وكلّ».
(15) في النفح: «عليائه».(4/143)
بباب مجدكم الأسمى أخو أدب ... مستصرخ بكم يستنجد الأدبا
ذلّ الزمان له طورا فبلّغه ... من بعض آماله بعض (1) الذي طلبا
والآن أركبه من كلّ نائبة (2) ... صعب الأعنّة لا يألو به نصبا
فحمّلته دواعي حبّكم وكفى ... بذاك شافع صدق يبلّغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم فيها (3) ... خليفة الله فينا يمطر الذّهبا
وأهدى إليّ قباقب خشب برسمي ومعها من جنسها صغار للأولاد من مدينة وادي آش من خشب الجوز، وكتب لي معها (4): [الخفيف]
هاكها ضمّرا مطايا حسانا ... نشأت في الرياض قضبا لدانا
وثوت بين روضة وغدير ... مرضعات من النّمير لبانا (5)
ثم لمّا أراد إكرامها الله ... وسنّى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العليّ ابتدارا ... ورجت في قبولك الإحسانا (6)
قد قبلنا جيادك الدّهم لمّا ... أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كلّ حجر ببيع (7) ... خلعت وصفها عليه عيانا
فقبلنا (8) برعيها وفسحنا ... في ديار (9) العلى لها ميدانا
وأردنا امتطاءها (10) فاتّخذنا (11) ... من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحر ... من كتاب سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكي (12) ... عدّة للقاء مهما كانا
__________
(1) في النفح: «فوق».
(2) في الأصل: «نابية»، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «فبها».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 265).
(5) في الأصل: «ليانا»، والتصويب من النفح. وبعد هذا البيت جاء في النفح البيت التالي:
لابسات من الظلال برودا ... دونها القضب رقّة وليانا
(6) في نفح الطيب جاء بعد هذا البيت العبارة التالية: «قال: فأجبته»، ثم أورد ابن الخطيب الأبيات التالية.
(7) في النفح: «تبيع».
(8) في النفح: «فعنينا».
(9) في النفح: «في ربوع».
(10) في الأصل: «امتطاها»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «فأفخذنا»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من النفح.
(12) تجنب الجيوش: تسير بجانب الدواب التي تركبها. والمذاكي: الخيل الجواد. لسان العرب (جنب) و (ذكا).(4/144)
لم ترق مقلتي ولا رقّ قلبي ... كحلاها براعة وبيانا (1)
من يكن مهديا فمثلك يهدي ... لم أجد للثّنا عليك لسانا
وفاته: توفي في الرابع لشعبان من عام (2) خمسين وسبعمائة معتبطا في الطاعون، لم يبلغ الثلاثين.
علي بن محمد بن علي العبدري
سكن غرناطة، يكنى أبا الحسن ويعرف بالورّاد، ويشهر أبوه باليربوني.
حاله: بقية مسنّي أدباء الأندلس في فن الهزل والمعرب، والهزل متولي شهرته، وله القدح المعلّى فيه، والطريقة المثلى، ظريف المأخذ، نبيل الأغراض، حافظ للعيون، مال بآخرة إلى النّسك وصحبة الصالحين. ولم يزل بحاله الموصوفة إلى أن استولت عليه الكبرة، وظرفه يتألّق خلال النسك. وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» بما نصّه: أديب، نار ذكائه كأنه يتوقّد، وأريب لا يعترض كلامه ولا ينقد. أمّا الهزل فطريقته المثلى، التي ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلّى، فأصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها. إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، وألمّ بالربيع وفصله، والحبيب ووصله، والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شقّ الجيوب طربا، وعلّ النفوس إربا وضربا. وإن أشفق لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعدّاها إلى وصف الصّبوح، وأجهز على الرق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق، يرفلن في الحلل الزّرق، وقد اشتعلت الليل نار البرق، وطلعت بنور الصباح في شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع كأسه وعقاره، بلسان يتزاحم على مورده الخيال، ويتدفّق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيده صانع اللفظ محكمة المباني، ويكسو حلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى نادرة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويسار.
وقد أثبتّ من شعره المعرب، وإن كان لا يتعاطاه إلّا قليلا، ولا يجاوره إلّا تعليلا، أبياتا لا تخلو من مسحة جمال على صفحاتها، وهبّة طيب ينمّ في نفحاتها.
فمن ذلك قوله: [الطويل]
يذكّرني حسن الكواعب روضة ... لها خطر قيد النّواظر مونق
__________
(1) في النفح: «لم يرق راق قلبي كعلاها براعة».
(2) في النفح: «عام واحد وخمسين وسبعمائة».(4/145)
خدود من الورد النضير وأعين ... من النّرجس السامي إليها تحدّق
وخامات زرع يانع كذؤاب ... وما شقّها من جدول الماء مفرّق
ومن شعره قوله: [الوافر]
أسافرة النقاب، سحرت لمّا ... أمطت الخزّ عن بدر التمام
وتيّمت الفؤاد بغنج طرف ... كحيل ما يفيق من المنام
لعمر أبيك ما بالنوم بعد ... عن الجفن المكحّل بالظلام
ومن معانيه المخترعة وأغراضه المبتدعة، وكلها كذلك: [البسيط]
ما لي إذا غبتم تهمي لفرقتكم ... عيني بمنهمر كالغيث هتّان
أشبهت نيلوفرا والشمس بهجتكم ... إن غبتم غبت في أمواه أجفان
السّقم يشهد لي والدّمع برّح بي ... متى استوى عندكم سرّ وإعلان؟
وقال من المستحسن الذي رمى فأصاب، واستمطر طبعه فصاب: [الطويل]
يقولون: لاح الشيب فاله عن الصّبا ... وعن قهوة تصبو لها وتنيب
فقلت: دعوني نصطحبها سلافة ... على صبح شيبي فالصّبح عجيب
وقال كذلك: [الكامل]
لا تعجبنّ من البليد مخولا ... ومن اللبيب يعدّ في الفقراء
الماء أصل الخصب غير مدافع ... وأخو البلادة طبعه كالماء
والنار مؤثرة الجدوب وإنها ... لشبيهة بطبائع الفطناء
ومن قصائده الغريبة: [الكامل]
ومعذّر لحظ المشيب بعارضي ... فتصرّمت دوني حبال وصاله
هلّا ثنته نسبة لمحبّه؟ ... إنّ العذار لشيبة لجماله
وقال أيضا: [الوافر]
تحرّ الصّدق إن حدّثت يوما ... وإن حدّثت لا تنقل حديثا
وكن للسّرّ صوّانا كتوما ... وربما كان سرّك أو حديثا
وقال مما يكتب في غمد سيف: [الطويل] لئن راق منّي منظر بان حسنه ... لقد سامني بالمهنّد باطن
كأنّ أديمي رقعة من حديقة ... تلقّفها صلّ لدى الروض كامن
وقال مما يكتب على قوس: [البسيط](4/146)
تحرّ الصّدق إن حدّثت يوما ... وإن حدّثت لا تنقل حديثا
وكن للسّرّ صوّانا كتوما ... وربما كان سرّك أو حديثا
وقال مما يكتب في غمد سيف: [الطويل] لئن راق منّي منظر بان حسنه ... لقد سامني بالمهنّد باطن
كأنّ أديمي رقعة من حديقة ... تلقّفها صلّ لدى الروض كامن
وقال مما يكتب على قوس: [البسيط]
إن كان من وتر الألحان منبعثا ... سرور قوم مدى الآصال والبكر
فإنّ حزن العدا ما نال منبعثا ... منّي وحينهم في النّقر في وتر
وقال في غير هذا الغرض: [السريع]
الخير كلّ الخير في ستّة ... لم تلف إلّا في كرام الرجال
الحزم والحلم وحمل الأذى ... والصبر والصّمت وصدق المقال
ومما نختتم به محاسنه قوله: [الطويل]
ألا إنّ باب الله ليس بمغلق ... ولا دونه من مانع لموفّق
ولكن بلينا في سلوك طريقه ... بكلب من الشيطان ليس بمطرق
فمن يرم بالدنيا إليه كلقمة ... فذاك الذي من شرّه ليس يتّقي
فخلّ عن الدنيا ودع عنك حبّها ... يدعك إلى أوج السعادة ترتقي
وقوله: [البسيط]
أيقنت أنّ جميع الخلق ليس له ... شيء من الأمر في شيء فيصنعه
فلا أخاف ولا أرجو مدى عمري ... إلّا الذي في يديه الخلق أجمعه
مولده: بمدينة مالقة في اليوم الثالث والعشرين لذي حجة من عام أحد وثمانين وستمائة.
وفاته: في أحواز أحد وستين وسبعمائة.
علي بن عبد العزيز ابن الإمام الأنصاري
يكنى أبا الحسن، سرقسطي الأصل، غرناطي الاستيطان والاستعمال.
حاله: كان وزيرا جليلا، معظّم القدر، مبجلا أثيرا، ذا معارف جمة، أحد كتاب الزمن، وأهل البلاغة والفصاحة والكرم. وزر للأمير أبي الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين، صاحب غرناطة، فحمدت وزارته، وكتب للأمير علي بن يوسف.
وروى عن شيوخ غرناطة.
أخباره في الجود والجلالة:
قال أبو القاسم: شكى إليه بعض إخوانه من حادث طرقه، وأن النّفاق أخرجه من بلده، وحال بينه وبين بلده، فأنزله أكرم منزل، وخرج إلى المسجد الجامع،(4/147)
وأشهد على نفسه أنه وهبه الربع من أملاكه، وكتب بذلك عقدا ودفعه إليه، وقال: يا أخي، إن ذلك سيصلح من حالك، وحالي لا يتسع لأكثر من هذا، فاعذر أخاك.
وكان الذي وهبه يساوي فوق الألف دنير مرابطية، فرحم الله الوزير أبا الحسن فلقد كان نادرة الزمن.
شعره: من ذلك قوله: [الكامل]
يا ليت شعري والأماني كلّها ... زور يغرّك أو سراب يلمع
في كل يوم منزل لأحبّة ... كالظلّ يلبس للمقيل (1) ويخلع
ومن ذلك قوله: [الوافر]
تسمّوا بالمعارف والمعالي ... فليس المجد بالرحم البوال
وإن فاتا فبالبيض المواضي ... وبالسّمر المثقّفة العوالي
وإنّ المرء تنهضه هذه (2) ... فليس بناهض أخرى الليالي
ومن أسمته أسباب سواها ... فرفعتها تؤول إلى سفال
ومن المحدّثين والفقهاء والطلبة النجباء
علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم الجذامي (3)
القاضي المتفنن الحافظ، من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن.
حاله: من الصّلة: كان عدلا فاضلا جليلا، ضابطا لما رواه، فقيها حافظا، حسن التقييد.
تواليفه: قال: اختصر كتاب «الاستذكار» لأبي عمر بن عبد البر، وغير ذلك.
مشيخته: روى (4) عن أبي محمد عبد الحق بن بونة، والقاضي أبي عبد الله بن زرقون، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي زيد السّهيلي، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الوليد بن رشد.
__________
(1) في الأصل: «للقيل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «وإذا المرء تنهضه هذي»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) ترجمة علي بن إبراهيم الجذامي في الذيل والتكملة (ج 5ص 184) والديباج المذهب (ص 210).
(4) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 184).(4/148)
مولده: ضحوة يوم الأضحى من عام خمسة وخمسين وخمسمائة (1).
وفاته: وتوفي قريب الظهر من يوم الأربعاء التاسع عشر لذي حجة من عام اثنين وثلاثين وستمائة.
من روى عنه: روى عنه القاضي أبو علي بن أبي الأحوص (2).
علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفزاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن النّفزي.
حاله: قال أبو القاسم الغافقي: فقيه مشاور بغرناطة، محدّث متكلّم.
مشيخته: أخذ عن أبي الحسن شريح، وعن الإمام أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش، وعن أبي القاسم بن ورد، وعن القاضي أبي الفضل عياض بن موسى، وعن الإمام أبي عبد الله المازري، وعن أبي الطاهر السّلفي، وعن أبي مروان بن مسرّة، وأبي محمد بن سماك القاضي، وعلي بن عبد الرحمن بن سمحون القاضي، والقاضي أبي محمد بن عطية، والمشاور أبي القاسم عبد الرحيم بن محمد، والقاضي أبي القاسم بن أبي جمرة، وجماعة يطول ذكرهم.
تواليفه: وله تواليف في أنواع من العلم، منها كتاب «نزهة الأصفياء، وسلوة الأولياء، في فضل الصلاة على خاتم الرسل وصفوة الأنبياء» اثنا عشر جزءا، وكتاب «زواهر الأنوار، وبواهر ذوي البصائر والاستبصار، في شمائل النبيّ المختار» سفران كبيران، وكتاب «منهج السداد، في شرح الإرشاد» ثلاثون جزءا، وكتاب «مدارك الحقائق في أصول الفقه» خمسة عشر جزءا، وكتاب «تحقيق القصد السّني، في معرفة الصمد العلي» سفر، وكتاب «نتائج الأفكار، في إيضاح ما يتعلق بمسألة الأقوال من الغوامض والأسرار» سفر، وكتاب «تنبيه المتعلمين على المقدمات والفصول، وشرح المهمات منها والأصول» سفر، وكتاب «السّباعيات»، وكتاب «تبيين مسالك العلماء، في مدارك الأسماء»، وكتاب «رسائل الأبرار، وذخائر أهل الحظوة والإيثار، في انتخاب الأدعية المستخرجة من الأخبار والآثار» سفران اثنان، وكتاب «الإعلام، في استيعاب الرواية عن الأئمة الأعلام» سفران.
__________
(1) كذا جاء في الذيل والتكملة (ج 5ص 185). وأضاف ابن عبد الملك: «ولد بغرناطة».
(2) ذكر في الذيل والتكملة (ج 5ص 185184) أن عشرين رجلا رووا عنه، ولم يذكر من بينهم أبا علي بن أبي الأحوص.(4/149)
وفاته: توفي في الكائنة بغرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة. خرج منها يريد وادي آش، فلم يصل إليها، وفقد فلم يوقع له على خبر.
علي بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري
يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن زكريا.
أوّليّته: قد مرّ في ذكر أبيه وعمّه.
حاله: هذا الرجل فاضل، سكون، من أهل السذاجة والسلامة والعفاف والصيانة، معمّ مخول في الخير، طاهر النشأة، جانح للعدالة. قعد للعلاج، وبرز في صناعة الطب على فتا من سنّه، واستيم إليه بمهم من نبيه العمل وخطّته، متصف بالإجادة والبيان.
مشيخته: قرأ العربية والفقه وغيرهما من المبادىء على مشيخة وقته، والطب على الوزير أبي يزيد خالد بن خالد من أهل غرناطة، وقعد معه.
شعره: ينتحل من الشعر ما عينه في الشّرود أو غير ذلك فراره، كقوله:
[الرمل]
صعّدت نار فؤادي أدمعي ... فلذا ما جفّ قلبي فانفطر
لو أباح الله لي وصل إلى (1) ... صدع للقلب مني وانجبر
أصل دائي منك لحظ فاتر ... وأشدّ اللّحظ منه (2) ما فتر
كيف أرجو منه برءا وغدت ... قهوة للحسن (3) تسقيه درر؟
فانظر قوله الأنبل من شعره: [الطويل]
ولي همّة من دونها كلّ همّة ... أموت بها عطشان أو يخلص الشّرب
يعزّ على الكريم ورود ماء ... يكدّره شوب ويطرقه نهب
وإني وإن أضحى لودّك موضع ... من القلب أضحى دون موضعه الخلب
فتمنعني نفسي لأيمان أروا ... حهم لا (4) على شرب يؤنّقه قشب
__________
(1) في الأصل: «لي وصلك الأنبل صدع القلب»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «ما»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «الحسن» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) كلمة «لا» ساقطة في الأصل وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.(4/150)
غفر الله له على قشب، وتجاوز عنه، فلقد دفع منه فضحها.
وهو بحاله الموصوفة.
ومن الطارئين والغرباء
علي بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أحمد الخشني
من أهل مالقة، من قرية يعشيش من عمل ملتماس، من شرقيها، يكنى أبا الحسن. ودخل غرناطة ومدح أمراءها، وتردّد إليها.
حاله: من «عائد الصلة»: من صدور أهل الدين والفضل، والخير والصلاح والنزاهة، والاقتصاد والانقباض، تحرّف بصناعة التّوثيق بمالقة، جاريا على شاكلة مثله من الاقتصاد، والتبلّغ باليسير، ومصابرة الحاجة، مكبّا على المطالعة والنظر، مجانبا للناس، بعيدا عن الرّيب، مؤثرا للزهد في الدنيا. ولّي الخطابة بالمسجد الأعظم من قصبة مالقة في عام وفاته.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الصالح الخطيب أبي جعفر بن الزيات، والأستاذ المقرئ رحلة الوقت أبي عبد الله بن الكمّاد.
شعره: وشعره آخذ بطرف من الإجادة في بعض المقاصد، فمن ذلك قوله:
[الوافر]
أرى لك في الهوى نظرا مريبا ... كأنّ عليك عذلا (1) أو رقيبا
ولست بخائف في الحب شيئا ... على نفسي مخافتي المشيبا
يريني كل ما تهواه نفسي ... قبيحا مالئا عيني عنيبا
أنا منه ابن قيس لا يراح ... فذق مرّ التأسف مستطيبا
إذا ما كنت تبكي فقد حبّ ... فما مثل الشباب به حبيبا
وقال في مذهب المدح من المطولات: [الكامل]
الآن تطلب ودّها ووصالها ... من بعد ما شغلت بهجرك بالها
وقد استحالت فيك سيماء (2) الصّبا ... حالا يروع مثلها أمثالها
وأتيتها متلبسا بروائع ... نكر بفودك أصبحت عذّالها
__________
(1) في الأصل: «عاذلا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «سيما»، وكذا ينكسر الوزن.(4/151)
بيض تخيّل للنفوس نصولها ... سمرا تخوّل للنحور نصالها
مثل الأفاعي الرّقط تنفث في الحشا ... وأرى بفودك جثما أطالها
نار تضرّم في الفؤاد حريقها ... لكن تنير بمفرقيك ذبالها
جزعت لهذا الشّيب نفسي وهي ما ... زالت تهوّن كل صعب نالها
ولكم صدعت بنافذ من عزمتي ... همّا فلا (1) يهدي العليم ضلالها
صادمت من كرب الدّنا أشتاتها ... ما خفت غربتها ولا إقلالها
ولئن تقلّص عسرتي فيء الغنا ... عنّي فلي نفس تمدّ ظلالها
ما مزّقت ديباجتي غير امرئ ... عرضت عليه النفس قط سؤالها
ألقى الليالي غير هبّ صرفها ... والأسد غير مجنّب أغيالها
أمشي الهوينا والعداة تمرّ بي ... مرّا يطير عن الجياد نسالها
علمت لي الخلق الجميل محقّقا ... وتسيء فيّ على عم (2) أقوالها
تبغي انثناء، هل (3) سمعت بنسمة ... مرّت على نجد تهزّ جبالها؟
ولربما عرضت لعيني نظرة ... يرضى الحكيم غرامها وخبالها
من غادة سرق الصباح بهاءها ... والبدر في ليل التمام كمالها
تهوي المجرّة أن تكون نجومها ... من حليها وهلالها خلخالها
عرضت كما مرّت بعينك مطفل ... ترعى بناظرك الكحيل غرامها
ما نهنهت نفسي وإن ضمنت لها ... عبراتها يوم الوداع وصالها
من كان يأمل أن يقوم بمجلس ... حطّت به شهب السما أثقالها
محا أحاديث السّرى (4) أولي النّها ... نصّا ويضري في العلى أمثالها
ألقى هواه جانبا وسرى به ... وجنا تدوّي في الدجى إعمالها
ومنها في المدح:
ألبست دين الله حلّة أمن ... أضفت على إسرائه زلزالها (5)
أنتم بني نصر نصرتم ملّة ال ... إسلام حين شكت لكم عذّالها
كنتم لها أهلا ورحّبتم بها ... في الغربتين ومنتم إنزالها
__________
(1) في الأصل: «لا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «عملي»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «وهل»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «السّراة»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «ذلذالها»، وهو لا معنى له.(4/152)
نزلت على سعد ليسعد جدّها ... وأوت إلى نصر لينصر آلها
أحرزتم يوم السّقيفة عودها ... دون الأنام وقودها وسكالها
لكن حبوتم من أجرتم منّة ... بخلافة الله التي يعنى لها
إذ تؤثرون سواكم قالت بذا ... آي الكتاب، فمن يردّ مقالها؟
حتى إذا عثرت ولم ينهض بها ... إلّاكم بادرتم إنشالها
آويتم خير البريّة كلّها ... ومغيثها ونجاتها وثمالها
من ألبس الشّرف الرفيع وضيعها ... وكسا معصفرة الحجا جهّالها
من أمّ في السّبع العلى أملاكها ... جبريلها في الغرب أو ميكالها
من أنقذ الغرقى وقد شمل الرّدى ... هذا الأنام خيارها وحثالها
من فاضت الخيرات من تلقائه ... كالصّبح فاض على الدّجى فأزالها
من فجّر العين الفرات بكفّه ... يرو الورى ورد القطا سلسالها
من لا يقاسي (1) بالرياح إذا سرت ... نشرا تقلّ من السحاب ثقالها
معنى وجود الكون علّة كونه ... نفس الحياة منفّسا أهوالها
دامت صلاة الله ديمة عارض ... يهمي عليه ندى الدّنا هطّالها
لمّا تحقّقت النبوّة أنها ... قد زلزلت منها الورى زلزالها
وتقاعست عن منعها أعمامها ... أمّت أئمّة نصرها أحوالها
فوثبتم مثل الليوث لنصرها ... والحرب تجنب خلفها أشبالها
وأدرتم منها زبونا أصبحت ... ترمي رؤوس الملحدين ثقالها
بدر وما بدر وردّم قلبها ... بجنادل الطاغوت تملأ جالها
ولكم بأوطاس وقد حمي الوطي ... س على العدا يوم أطاح بحالها
فنزعتم أزواجها وسبيتم ... أولادها وسلبتم أموالها
وذهبتم بالمصطفى لدياركم ... وحيا سواكم ساقها وجمالها
فزتم به فوز المعلّى منحة ... أحرزتم دون الأنام منالها
يا أيها الملك الذي من ملكه ... جنت الملوك جمالها وجلالها
ما زال حزبك منهم يعلو على ... مرّ الدهور ويعتلي أجبالها
حتى حللت من المجادة ذروة ... ما حلّ غيرك في المجادة حالها
تحمي الهدى تهمي النّدى تولي الجدا ... وتقي الردى وتري العدا أوجالها
__________
(1) في الأصل: «يقاس»، وكذا ينكسر الوزن.(4/153)
قعدت شريعته بيمنك ليس من ... كدر يشين على العباد زلالها
يا سيّد السادات، يا ملك الملو ... ك وشمسها وصباحها وهلالها
يا بدرها، يا بحرها، أو غيثها ... أو ليثها أو حسنها وجمالها
خذها كما دارت بكأس سلافها ... حوراء تمزج باللّمى جريالها
تثني على السّحر المبين وشاحها ... وتدير من خمر الفتور جلالها
لمياء تبرز للعيون كشاطر ... والعقل يوجب حكمه إجلالها
وقفت وذو إحسانها من هاشم ... من سبط خير العالمين حيالها
يرجو رضاك وطالما أرضيتم ... آل النبيّ وكنتم أرسالها
كم من يد بيضا لدينا منكم ... شكرا (1) له وأولياه فعالها
آويتم، واسيتم، واليتم، ... أحللتمونا داركم وجلالها
وهجرتم لوصالنا أعداءنا ... ووصلتم لصلاتنا أوصالها
فصلوا حياءنا (2) ما استطعتم وصله ... تعطوا من اجزاء (3) الجزاء جزالها
وله تأليف غريب عكف عليه عمره في فضل مكّة، وكأنه يروم برهانا على وجوب كونها بالموضع الذي هي به، وفضله على سواه، وتكلم على حروف اسمها، من جهة تناسب أعداد الحروف، مما الناظر فيه مخير في نسبه إلى العرفان أو الهذيان.
وفاته: توفي بمالقة في أخريات صفر من عام خمسين وسبعمائة.
علي بن أحمد بن محمد بن يوسف بن مروان بن عمر الغساني
من أهل وادي آش، وروى وتردّد إلى غرناطة، يكنى أبا الحسن.
حاله: كان فقيها حافظا، يقظا، حسن النظر، أديبا، شاعرا مجيدا، كاتبا بليغا، فاضلا.
مشيخته: روى عن أبي إسحاق بن عبد الرحيم القيسي، وأبي الحسن طاهر بن يوسف، وأبي العباس الخرّوبي، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس الغرناطي، ومحمد بن علي بن مسرّة.
__________
(1) في الأصل: «شكرنا»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «أحياءنا»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «أجزا» وكذا ينكسر الوزن.(4/154)
وروى عنه أبو بكر بن عبد النور، وأبو جعفر بن الدلال، وأبو عبد الله بن أحمد المذحجي، وأبو سعيد الطّراز، وابن يوسف، وابن طارق، وأبو علي الحسن بن سمعان، وأبو القاسم بن الطّيلسان.
تواليفه: صنّف في شرح «الموطأ» مصنّفا سمّاه «نهج المسالك، للتفقه في مذهب مالك» في عشرة مجلدات. وشرح صحيح مسلم وسمّاه «اقتباس السراج، في شرح مسلم بن الحجاج». وشرح تفريع ابن الجلاب وسمّاه «الترصيع، في شرح مسائل التفريع». وصنّف في الآداب منظوماته ورسائله، وهي شهيرة، شاهدة بتبريزه وتقدّمه. وله نظم شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسالة بديعة تشتمل على نظم ونثر، بعث بها إلى القبر الشريف. وله كتاب «الوسيلة إلى إصابة المعنى، في أسماء الله الحسنى».
شعره: من شعره في «الوسيلة»، وقد ضمّن كل قطعة أو قصيدة اسما من أسماء الله تعالى، فمنها قوله في اسم الله سبحانه: [الطويل]
قل الله نستفتح من اسمائه الحسنى ... بأعظمها لفظا وأعظمها معنى
هو الله فادع الله بالله تقترب ... لأقرب قربى من وريدك أو أدنى
وآمله مضطرّا وقف عند بابه ... وقوف عزيز لا يصدّ ولا يثنى
بباب إله أوسع الخلق رحمة ... فلله ما أولى أبرّ وما أحنى
وقدّم من الإخلاص ثم وسيلة ... تنل رتبة العلياء (1) والمقصد الأسنى
أمولاي، هل للخلق غيرك مفضل ... يصرّح عن ذكراه في اللفظ أو يكنى؟
ببابك مضطر شكا منك فقره ... لأكرم من أغنى فقيرا ومن أقنى
وللفضل والمعروف منك عوائد ... لها الحمد ما أدنى قطوفا وما أهنى
فمنها لك الإنعام دأبا خوالدا ... تفاني بها الأيام طرّا ولا يفنى
وفاته: توفي شهيدا في ربيع الآخر سنة تسع وستمائة.
علي بن صالح بن أبي الليث الأسعد بن الفرج بن يوسف (2)
طرطوشي، سكن دانية، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن عزّ الناس (3).
__________
(1) في الأصل: «العليا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) ترجمة علي بن صالح في التكملة (ج 3ص 204) والذيل والتكملة (ج 5ص 218) والديباج المذهب (ص 212) ونيل الابتهاج (ص 199).
(3) في الذيل والتكملة (ج 5ص 219): «غرّ الناس».(4/155)
حاله: كان (1) عالما بالفقه، حافظا لمسائله، متقدّما في علم الأصول، ثاقب الذهن، ذكي الفؤاد، بارع الاستنباط، مسدّد النظر، متوقّد الخاطر، فصيح العبارة، ذا حظّ من قرض الشعر (2).
من روى عنه: روى (3) عنه أبو بكر أسامة بن سليمان، وسليمان بن محمد بن خلف، ويحيى بن عمر بن الفصيح.
دخوله غرناطة: قالوا (4): واستخلصه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية (5) أيام إمارته ببلنسية لمشهور معرفته ونباهته، ثم سار معه إلى قرطبة (6)، ولازمه إلى أن توفي أبو زكريا بن غانية بغرناطة سنة ثلاث وأربعين، فانتقل إلى شرق الأندلس، واستقرّ بدانية.
تواليفه: وله (7) مصنّفات منها «كتاب العزلة»، ومنها «شرح معاني التحيّة».
ولد بطرطوشة سنة ثمان وخمسمائة، وتوفي بدانية قتل مظلوما بإذن ابن سعد الأمير في رمضان (8) سنة ست وستين وخمسمائة.
علي بن أبي جلّا المكناسي (9)
يكنى أبا الحسن.
حاله: كان (10) شيخا ذكيا، طيب النفس، مليح الحديث، حافظا للمسائل الفقهية، عارفا لها، قائما على كتاب المدوّنة، تفقّه بالشيخ أبي يوسف الجزولي،
__________
(1) قارن بالتكملة (ج 3ص 205204) والذيل والتكملة (ج 5ص 219).
(2) في الأصل: «ذا خطّ مروض»، وكذا لا معنى له، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) قارن بالتكملة (ج 3ص 205) والذيل والتكملة (ج 5ص 219).
(4) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 219).
(5) يحيى بن غانية، المعروف بابن غانية، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي. قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس، فقتلوه سنة 543هـ.
(6) في الذيل والتكملة: «ثم صار صحبته إلى قرطبة سنة سبع وثلاثين، ولازمه إلى أن توفي أبو زكريا».
(7) قارن بالتكملة (ج 3ص 205) والذيل والتكملة (ج 5ص 219).
(8) في الذيل والتكملة: «في آخر رمضان».
(9) ترجم له المقري في نفح الطيب (ج 5ص 101) باسم: «علي بن أبي حلّى المكناسي»، بالحاء وليس بالجيم.
(10) النص في نفح الطيب (ج 5ص 101).(4/156)
وعليه اجتهد في مسائل الكتاب. وكان مضطلعا بمشكلاته، حسن المذاكرة، مليح المجلس أنيسه، كثير الحكايات، إلّا أنه كان يحكي غرائب شاهدها تملّحا وأنسا، فينمّقها عليه الطلبة (1)، وربما تعدّوا ذلك إلى الافتعال على وجه المزاح والمداعبة، حتى لجمعوا (2) من ذلك كثيرا في جزء سموه ب «السّلك (3) المحلّى، في أخبار ابن أبي جلّا». فمن ذلك ما زعموا أنه حدّث بأنه كانت له هرّة، فدخل البيت يوما، فوجدها قد بلّت أحد (4) كفّيها، وجعلته في الدقيق حتى علق به، ونصبته بإزاء كوّة فأر في الجدار، ورفعت اليد الأخرى لصيده، فناداها باسمها، فردّت (5) رأسها، وجعلت إصبعها في (6) فمها على هيئة المشير بالصمت. وأشباه ذلك كثير.
وفاته: في حدود ستة (7) وأربعين وسبعمائة.
علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن علي ابن سمحون الهلالي
يكنى أبا الحسن.
حاله: كان شيخا جليلا، فقيها، عارفا، نبيلا، نبيها، ذا مروءة كاملة، وخلق حسن، من بيت حسب وعلم ودين. قال أبو القاسم الملّاحي: حدّثني صاحبنا الفقيه الخطيب أبو جعفر بن حسان، قال: كنت أجاوره في بعض أملاكي، وكان له ملك يلاصقني، أتمنى أن أكتسبه، فينتظم لي به ما هو مفترق، فوافقته ذات يوم في القرية، فسألته المعاوضة به، وخيّرته في مواضع في أرضي، فضحك مني، وقال لي: انظر في ذلك إن شاء الله. ثم إنه وجّه لي بعد ذلك بأيام يسيرة، بعقد يتضمن البيع وقبض الثمن مني، فخجلت منه، وراودته في أخذ الثمن، فأبى وقال لي: هذا قليل في حقّك، وكان قد لقي شيوخا أخذ عنهم، وكانت له كتب كثيرة.
وفاته: توفي بالمنكّب صبح اليوم السادس من رمضان عام ستة وتسعين وخمسمائة. ولست أحقق أهو القريب أو سلفه، وعلى كلا التقديرين، فالفضل حاصل.
__________
(1) في النفح: «بعض الطلبة».
(2) في النفح: «حتى جمعوا».
(3) في النفح: «السالك والمحلّى حلّى».
(4) في النفح: «إحدى يديها، وجعلتها».
(5) في النفح: «فزوت».
(6) في النفح: «على».
(7) في النفح: «وتوفي المذكور سنة 406، قاله في الإحاطة».(4/157)
علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي (1)
يكنى أبا الحسن، ويعرف بالصّغير، بضم الصاد وفتح الغين والياء المشددة.
حاله: من «المؤتمن» (2): كان هذا الرجل قيّما على التهذيب للبرادعي، حفظا وتفقها، يشارك في شيء من أصول الفقه، يطرّز بذلك مجالسه، مغربا به بين أقرانه من المدرسين في ذلك الوقت، لخلوّهم من تلك الطريقة بالجملة.
حضرت (3) مجلس إقرائه، وكان ربعة، آدم اللون، خفيف العارضين، يلبس أحسن زيّ صنعة، وأحسن ما فيه ليس بحسن. وكان يدرس بجامع الأصدع من داخل مدينة فاس، ويحضر عليه نحو مائة نفس، ويقعد على كرسي عال ليسمع البعيد والقريب، على انخفاض كان في صوته، حسن الإقراء، وقورا فيه، سكونا، مثبتا، صابرا على هجوم طلبة البربر، وسوء طريقتهم في المناظرة والبحث، وكان أحد الأقطاب الذين تدور عليهم الفتوى أيام حياته، ترد عليه السؤالات من جميع بلاد المغرب، فيحسن التوقيع على ذلك، على طريقة من الاختصار وترك فضول القول. ولّي القضاء بفاس قدّمه أبو الربيع سلطان المغرب وأقام أوده، وعضده، فانطلقت يده على أهل الجاه، وأقام الحق على الكبير والصغير، وجرى من العدل على صراط مستقيم. ونقم عليه اتخاذ شمّام يستنشق على الناس الخمر، ويحقّ أن ينتقد ذلك.
مشيخته: أخذ عن الفقيه راشد بن أبي راشد الوليدي، وانتفع به، وعليه كان اعتماده. وأخذ عن صهره أبي الحسن بن سليم، وأبي عمران الجورماني، وعن غيرهما (4). وقيّدت عنه بفاس على التهذيب وعلى رسالة أبي زيد، قيّدها عنه تلاميذه، وأبرزوها تأليفا كأبي سالم بن أبي يحيى.
وفاته: وفاته يوم الثلاثاء السادس لرمضان عام تسعة عشر وسبعمائة، ودخل غرناطة لمّا وصل رسولا على عهد مستقضيه، رحمهما الله.
__________
(1) نسبة إلى قبيلة بني زروال البربرية.
(2) هو كتاب «المؤتمن، على أنباء أبناء الزمن» لأبي البركات ابن الحاج البلفيقي، أحد شيوخ لسان الدين ابن الخطيب.
(3) الفاعل يعود إلى أبي البركات ابن الحاج.
(4) في الأصل: «وغيرهم».(4/158)
علي بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبد الله ابن يحيى بن عبد الله بن يحيى الغافقي (1)
سبتي، ساري (2) الأصل، انتقل منها أبوه سنة اثنتين وستين وخمسمائة، يكنى أبا الحسن، ويشهر أهل بيته في سارة بني يحيى.
حاله: من «التكملة» (3): كان محدّثا راوية مكثرا، عدلا ثقة، ناقدا، ذاكرا للتواريخ وأيام الناس وأحوالهم وطبقاتهم، قديما وحديثا، شديد العناية بالعلم، والرغبة فيه، جاعلا الخوض فيه، مفيدا ومستفيدا، وظيفة عمره، جمّاعة للكتب، منافسا فيها، مغاليا في أثمانها، وربما أعمل الرحلة في التماسها حتى اقتنى منها بالابتياع والانتساخ كل علق نفيس. ثم انتقى منها جملة وافرة فحبسها في مدرسته التي أحدثها بقرب باب القصير، أحد أبواب بحر سبتة، وعيّن لها من خيار أملاكه وجيّد رباعه وقفا صالحا، سالكا في ذلك طريقة أهل المشرق، وقعد بها بعد إكمالها لتروية الحديث وإسماعه، في رجب خمس وثلاثين وستمائة، وكثر الأخذ بها عنه، واستمرّ على ذلك مدة. وكان سريّ الهمّة، نزيه النفس، كريم الطبع، سمحا، مؤثرا، معانا على ما يصدر عنه من المآثر الجليلة ونبل الأغراض السنية، بالجدة المتمكنة، واليسار الواسع. وكان سنّيّا، منافرا لأهل البدع، محبّا في العلم وطلابه، سمحا لهم بأعلاق كتبه، قوي الرجاء في ذلك. وممّا يؤثر عنه من النزاهة، أنه لم يباشر قط دنيرا ولا درهما، إنما كان يباشر ذلك وكلاؤه اللائذون به.
مشيخته: روى (4) عن أبوي الحسن أبيه والتجيبي، وأبي الحسن بن عطية بن غازي، وأبي عبد الله محمد بن عيسى، وابن عبد الكريم، وابن علي الكتّاني، وأبي إسحاق الشّقوري، وأبوي بكر بن الفصيح، ويحيى بن محمد بن خلف البوريني، وأبي الحسن بن خروف النحوي، وابن عبيدس، وابن جابر، وابن جبير، وابن زرقون، وابن الصائغ، وأبي بكر بن أبي ركب، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي العباس القوراني، وأبي القاسم عبد الرحيم بن الملجوم، وأبي محمد الحجري وأكثر عنه، وابن حوط الله، وابن محمد بن عيسى التّادلي، وعبد العزيز بن زيدان، ويشكر بن موسى بن الغزلقي، هؤلاء أخذ (5) عنهم بين سماع وقراءة، وأكثرهم أجازه
__________
(1) ترجمة علي بن محمد الغافقي في التكملة (ج 3ص 251).
(2) في التكملة (ج 3ص 252): «ويعرف بالشاري لأن أصله من الشارة شرق الأندلس».
(3) لم يرد هذا النص في التكملة المطبوعة.
(4) قارن بالتكملة (ج 3ص 252).
(5) في الأصل: «وأخذ».(4/159)
أو كتب إليه مجيزا. ولم يلقه أبو جعفر بن مضاء، وأبو الحسن بن القطان ونجبه، وأبو عبد الله بن حماد، وابن عبد الحق التّلمساني، وابن الفخار، وأبو القاسم السهيلي، وابن حبيش، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس. واستجاز بآخرة، مكثرا من الاستفادة، أبا العباس بن الرومية، فأجاز له من إشبيلية.
من روى عنه: روى أبو بكر أحمد بن حميد القرطبي، وأبو عبد الله الطّنجالي، وابن عياش، وأبو العباس بن علي الماردي، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران، وأبو محمد عبد الحق بن حكيم. وحدّث بالإجازة عنه أبو عبد الله بن إبراهيم البكري العباسي.
محنته ودخوله غرناطة:
غرّبه أمير سبتة اليانشتي الملقب بالواثق بالله، غاصّا به لجلالته وأهليته، وكونه قد عرضت عليه فأباها، فدخل الأندلس في شعبان عام أحد وأربعين وستمائة، فنزل ألمرية وأقام بها إلى المحرم من سنة ثمان وأربعين، وأخذ عنه بها عالم كثير. ثم انتقل إلى مالقة في صفر من هذه السنة ودخل غرناطة، فأخذ عنه جميع طلبتها إلّا النادر.
قال الأستاذ أبو جعفر الزبير: وقرأت إذ ذاك عليه، وكان يروم من مالقة الرجوع إلى بلده، ويحوم عليه، فلم يقض له ذلك، وأقام بها يؤخذ عنه العلم، إلى أن أتته منيّته.
مولده: بسبته يوم الخميس لخمس خلون من رمضان إحدى وسبعين وخمسمائة.
وفاته: توفي بمالقة ضحوة يوم الخميس لليلة بقيت من رمضان تسع وأربعين وستمائة، نفعه الله، بشهادة الموت غريقا.
علي بن عبد الله بن محمد ابن يوسف بن أحمد الأنصاري (1)
فاسي المولد، أصله منها قديما، ومن مراكش حديثا، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن قطرال.
__________
(1) ترجمة علي بن عبد الله الأنصاري في التكملة (ج 3ص 241) وشذرات الذهب (ج 5ص 254) والعبر في خبر من غبر (ج 5ص 209).(4/160)
حاله: كان ريان من الأدب، كاتبا بليغا، دمث الأخلاق، لين الجانب، فقيها حافظا، عاقدا للشروط، مقدما في النظر فيها، كتب طويلا عن قاضي الجماعة بمراكش، أبي جعفر بن مضاء، ثم عن أبي القاسم بن بقي، وأسنّ ممتعا بحواسه.
مشيخته: روى (1) عن أبوي بكر بن الجدّ، وابن أبي زمنين، وأبي جعفر بن يحيى ولازمه كثيرا، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبوي الحسن بن كوثر ونجبه، وأبي الحسن يحيى بن الصائغ، وأبي خالد بن رفاعة (2)، وأبي عبد الله بن حفص، وابن حميد، وابن زرقون، وابن سعادة الشاطبي، وابن عروس، وابن الفخار، وأبي العباس، وابن مضاء، ويحيى المجريطي، وأبي القاسم بن بقي، وابن رشد الوراق، وابن سمحون، وابن غالب، وابن جمهور، وابن حوط الله، وعبد الحق بن بونة، وعبد الصمد. وروى عنه ابناه أبو عبد الله وأبو محمد، وأبو عبد الله بن الأبار، وأبو محمد بن برطلة، وأبو محمد بن هارون الطائي، وأبو يعقوب بن عقاب. قال ابن عبد الملك: وحدّثنا عنه من شيوخنا أبو الحجاج بن حكم، وأبو الحسن الرعيني، وأبو الطيب صالح بن شريف، وأبو القاسم العزفي.
محنته: وامتحن بالأسر، وهو قاض بأبّدة، حين تغلّب العدوّ الرومي عليها إثر وقيعة «العقاب» (3)، وذهب لأجل ذلك أصول سماعه، وافتكّ بمشاركة الوزير أبي سعيد بن جامع، ويسّر الله عليه، فثاب جاهه، واستقام أمره، وقدّم للقضاء بمواضع نبيهة (4).
دخوله غرناطة: قال: دخل غرناطة وأقام بها، وقرأ على أبي محمد عبد المنعم بن الفرس، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي عبد الله بن عروس.
__________
(1) قارن بالتكملة (ج 3ص 241).
(2) في التكملة: «رقاعة».
(3) العقاب، بالإسبانية: موضع بين جيان وقلعة رباح، كانت فيه وقيعة عظيمة بين الناصر محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، وبين الإسبان بقيادة الأذفونش، في منتصف صفر من سنة 609هـ، وكانت الهزيمة فيها على المسلمين شنيعة، أتى القتل فيها على خلق كثير من المسلمين، وكانت أول وهن دخل على الموحدين. الروض المعطار (ص 416).
(4) جاء في التكملة أنه ولي بالأندلس بعد أبّذة قضاء شاطبة وشريش وجيان وقرطبة وسبتة، وبالمغرب قضاء فاس وأغمات.(4/161)
ولد بفاس سنة ثنتين وستين وخمسمائة (1). وتوفي، عفا الله عنه، يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى (2) عام أحد وخمسين وستمائة بمراكش.
«انتهى اختصار السفر العاشر بحمد الله تعالى، يتلوه، ومن السفر الحادي عشر ترجمة الطارئين في ترجمة العمال والأثرا.
والحمد لله رب العالمين» * * * ومن السّفر الحادي عشر من ترجمة الطارئين في ترجمة العمال والأثرا
عمر بن علي بن غفرون الكلبي (3)
من أهل منتفريد (4).
حاله: كان شيخا مخشوشن الظاهر بدويّه، سريع الجواب، جلدا على العمل، صليبا وقاحا. له ببلده نباهة وخصل من طلب وخطّ وحساب. أمّ ببلده، وانتقل إلى الحضرة عند انتزاء ثغره، وداخل السلطان في سبيل استرجاعه، فنشأت له غمامة رزق ببابه، وأقلّته هضبة حظوة ناطت به ديوان الجيش مدة أيام السلطان، وولّي بعده خططا نبيهة، ثم التأثت حاله وأسنّ، ومات تحت خمول.
وجرى ذكره في «الإكليل» بما نصّه (5): شيخ خدم، قام له الدهر فيها على قدم، وصاحب تعريض، ودهاء عريض، وفائز من الدولة (6) بأياد بيض، خدم الدولة النصرية ببلده عند انتزاء أهله، وكان ممن استنزلهم من حزنه إلى سهله، وحكّم الأمر الغالبي في يافعه وكهله، فاكتسب (7) حظوة أرضته، ووسيلة أرهفته وأمضته، حتى
__________
(1) جاء في التكملة: «ومولده بقرطبة عام 563».
(2) في التكملة: «وتوفي بمراكش في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وستمائة».
(3) ترجمة ابن غفرون في نفح الطيب (ج 8ص 398).
(4) منتفريد: بالإسبانية، أي جبل البرد، ويقع شمال مدينة لوشة.
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 398).
(6) في النفح: «من الدول النصرية بأياد بيض، أصله من حصن منتفريد، خدم به الدولة النصرية عند انتزاء».
(7) في النفح: «فكسب».(4/162)
عظم ماله (1)، واتسقت آماله. ثم دالت الدول، ونكرت (2) أيامه الأول، وتقلب (3) من يجانسه، وشقي بكل (4) من كان ينافسه، فجفّ عوده، والتاثت سعوده، وهلك والخمول يطلبه (5)، والدهر يقوته من صبابة حرث كان يستغلّه.
شعره: وله شعر لم يثقّفه النظر، ولا وضحت منه الغرر. كتب للسلطان أمير المسلمين منفق سوق خدمته، ومتغمده بنعمته، يطلب منه تجديد بعض عنايته:
[السريع]
يا ملكا، ساد ملوك الورى ... في الحال أو في الأعصر الخاليه
العبد لا يطلب شيئا سوى ... تجديد خطّ يدك العالية
ومن شعره يخبر عن وداده، ويعلن في جناب الملوك الغالبيين بحسن اعتقاده:
[الكامل]
حبّ الملوك من آل نصر ديني ... ألقى به ربّي بحسن يقيني
هو عدّتي في شدّتي وذخيرتي ... وبه يتحسّبني غدا ويقيني (6)
حتى أوان (7) الحشر لم أخدم سوى ... أبوابهم بوسيلة تكفيني (8)
أرجو نفاد العمر في أيامهم ... من تحت ستر رعاية ترضيني (9)
إن كان دهري في نفادي بعدهم ... فالله، عزّ وجلّ، لا يبقيني (10)
وسلم في أيام خموله، وانغلق على المتغلب على الدولة أبي عبد الله بن المحروق، وقد احتقره ببابه، وأعرض عن جوابه، فكتب إليه، ولم يرهب ما لديه:
[المجتث]
يا من سألتك وعدا (11) ... في كل يوم مرارا
اردد عليّ سلامي ... ولا تدعه احتقارا
__________
(1) في النفح: «جاهه وماله، وبسقت آماله».
(2) في النفح: «وتنكّرت».
(3) في النفح: «وتغلّب».
(4) في النفح: «وشقي بمن كان ينافسه».
(5) في النفح: «يظلّه».
(6) في الأصل: «ويقين» بدون ياء.
(7) في الأصل: «أبى»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(8) في الأصل: «تكفين» بدون ياء.
(9) في الأصل: «ترضين».
(10) في الأصل: «لا يبقين».
(11) في الأصل: «يا من سول وغدا» وهكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/163)
وفاته: قال شيخنا الكاتب أبو بكر بن شبرين، رحمه الله: وفي ذي حجة من عام أربعة وأربعين وسبعمائة توفي الفقيه أبو علي بن غفرون من أهل منتفريد من حصون براجلة غرناطة. قدم قديما بالباب السلطانية في تنفيذ واجب العسكر الأندلسي وإشراف الحضرة وحفازتها. وكان ميمون النقيبة، وجها في الناس فاضلا، رحمه الله.
علي بن يحيى الفزاري (1)
من أهل مالقة، بربري النسب فزاريه. يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن البربري.
حاله: كان من أماثل طريقته عدلا، وعفافا، وفضلا، ليّن العريكة، دمث الأخلاق، حسن الخط، جيد الشعر، تغلب عليه السلامة والغفلة، تصرف في إشراف مالقة وسواها عمره، محمود الطريقة، حسن السيرة. ومدح الملوك والكبراء.
شعره: ممّا خاطبني به قوله (2): [الطويل]
لبابك أمّ الآملون ويمّموا ... وفي ساحتي رحماك حطّوا وخيّموا (3)
ومن راحتي كفّيك جدواك تنهمي (4) ... فتروى عطاش من نداك وتنعم
وأنت لما راموه كعبة حجّهم ... إذا شاهدوا مرآك لبّوا وأحرموا (5)
يطوفون سبعا حول بابك عندما ... يلوح لهم ذاك المقام المعظّم
فيمناك يمن للرعايا (6) ومنّة ... ويسراك يسر (7) للعفاة ومغنم
ولقياك بشر للنفوس وجنّة ... تزقّ (8) بها ورق المنا وترنّم
فيا واحد الأزمان علما ومنصبا ... ويا من (9) به الدنيا تروق وتبسم
ومن وجهه كالبدر يشرق نوره ... ومن (10) جوده كالغيث بل هو أكرم
__________
(1) ترجمة الفزاري في نفح الطيب (ج 8ص 269).
(2) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 270269).
(3) في الأصل: «وخيم» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «جدوا تهمى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «وأحرم» والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «الرعايا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «ويسرا» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «ترنّ».
(9) في الأصل: «ومن به الدنيا»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «من» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/164)
ومن ذكره كالمسك فضّ ختامه ... وكالشمس نورا بشره المتوسّم
لقد حزت خصل (1) السّبق غير معاند (2) ... فأنت على أهل السباق مقدّم
حويت من العلياء كلّ كريمة ... بها الروض يندى والرّبى تتبسّم
وباهيت أقلام المقام (3) براعة ... فلا قلم إلّا يراعك يخدم
إذا (4) فاخر الأمجاد يوما فإنما ... لمجدك في حال الفخار يسلّم
وإن سكتوا كنت البليغ لديهم ... يعبّر (5) عن سرّ العلى ويترجم (6)
ومنها:
فيا صاحبي نجواي عوجا برامة ... على ربعه حيث النّدى والتّكرّم
وقولا له: عبد (7) ببابك يرتجي ... قضاء لبانات لديك تتمّم
وليس له إلّا علاك وسيلة ... ولا شيء أسمى من علاك وأعظم
فجد بالذي يرجوه منك (8) فما له ... كعقد ثمين من ثنائك ينظم
بقيت ونجم السّعد عندك طالع ... يضيء له بدر وتشرق أنجم
وقال مراجعا القاضي أبا عبد الله بن غالب، رحمه الله: [الطويل]
وما كنت عن ذكر الأحبّة ساليا ... ولا عن هوى بيض الدّما برغيب
فلمّا أتتني رقعة بلبليّة ... شغلت بها عن منزل وحبيب
وقبّلتها ألفا وقلت لها انعمي ... صباحا وممسى بالقبول وطيب
فيا حسن خطّ جاء من عند بارع ... ويا سحر لفظ من كلام أديب
وإنّ قريضا لم يحكه ابن غالب ... لخلو من الآداب غير عجيب
وفاته: بمالقة في الطاعون عام خمسين وسبعمائة.
__________
(1) في النفح: «فضل».
(2) في المصدر نفسه: «منازع».
(3) في المصدر نفسه: «الفئام». والفئام: الجماعة من الناس.
(4) في الأصل: «وإذا»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «تعبّر».
(6) في النفح: «وتترجم».
(7) كلمة «عبد» ساقطة في الأصل، وأضفناها من النفح.
(8) في الأصل: «لمنّك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/165)
الزهاد والصلحاء والصوفية والفقراء
عتيق بن معاذ بن عتيق بن معاذ بن سعيد بن مقدم بن سعيد بن يوسف بن مقدم اللخمي
من أهل غرناطة، يكنى أبا بكر، الشيخ الصوفي.
حاله: هذا الرجل فذّ الطريقة في الخصوصيّة والتخلّي، وإيثار الانقطاع والعزلة، طرفة في الوقار والحشمة. نشأ بغرناطة وطلب بها، وكتب بألمرية عن بعض ولاة قصبتها، وعني بمطالعة أقوال الصوفية، فآثر طريقهم، وعوّل عليه، وتجرّد وترك التسبّب، والتزم منزله، بحيث لا يريمه إلّا لصلاة الجمعة في أقرب محالّها وإليه، نظيف البزّة، حسن السّمت، مليح الترتيب والظّرف، طيب المجالسة، طلعة متعة، إخباري، يصل ماضي الزمان بمستقبله، جليس مصلّى، ومجيل سبحة، كثير الزوار، ممن يلتمس الخير وينقر عن أهله، محظوظ المجلس، حفيّ بالوارد، ذاكر، مأثرة من مآثر بلده.
مشيخته: أخذ عن الخطيب الصالح ولي الله أبي عبد الله الطّنجالي، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد، والأستاذ النظار أبي القاسم بن الشّاط، والخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والشيخ الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار الأركشي، نزيل مالقة، والوزير الراوية أبي عبد الله بن ربيع الأشعري، والعدل الراوية أبي الحسن بن مستقور، والأستاذ المقرئ أبي جعفر الجزيري الضرير، والخطيب أبي عبد الله بن الخشاب، والخطيب المقرئ أبي إسحاق بن أبي العاصي، والشيخ والمحدّث أبي تمام غالب بن حسن بن غالب الجهاري، والقاضي المسنّ أبي جعفر الشاطبي، والقاضي المحدّث أبي المجد يوسف بن الحسن بن أبي الأحوص، والأستاذ المحدّث أبي القاسم بن جابر، وأخيه المحدّث أبي جعفر، والقاضي أبي جعفر بن أبي جبل، والأستاذ الصوفي أبي محمد بن سلمون، والشيخ الشريف أبي الحسن علي بن جمرة بن القاسم الجهني، والأستاذ المقرئ أبي عبد الله بن بيبش العبدري، والشيخ المكتّب أبي عمرو عبد الرحمن بن يشت، والشيخ الراوية المحدّث الرحال أبي عبد الله بن جابر الوادآشي، الملقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين، والخطيبين أبوي الحسن بن فرحون، وابن شعيب، والقاضي أبي الحسن البلوي، والأستاذ المقرئ.
محنته: ناله امتحان من بعض القضاة ببلده، حملا عليه وإنكارا لما امتاز به من مثلى الطريقة، أدّاه إلى سجنه ومنع الناس عن لقائه. وهو الآن بحاله الموصوفة، قد ناهز السبعين، تمرّ الناس تلتمس بركته وتغشى لطلب الدعاء خلوته.(4/166)
علي بن علي بن عتيق بن أحمد بن محمد ابن عبد العزيز الهاشمي
من أهل غرناطة، ويعرف بالقرشي.
حاله: كان، رحمه الله، على طريقة مثلى، حياء ووقارا وصمتا، وانقباضا وتخلّقا وفضلا، عاكفا على الخير، كثير الملازمة لكسر البيت، مكبّا على المطالعة، مؤثرا للخلوة، كلفا بطريق الصوفية. كتب الشروط لأول أمره، فكان صدرا في الإثبات، وعلما في العدول، إلى لين الجانب، ودماثة الخلق، وطهارة الثوب، وحسن اللقاء، ورجوح المذهب، وسلامة الصدر. قيّد الكثير، ولقي في تشريقه أعلاما أخذ عنهم. وتقدّم خطيبا وإماما بالمسجد الأعظم في غرناطة، عام أحد عشر وسبعمائة، واستمرّت حاله، إلى حين وفاته، على سنن أولياء الله الصالحين.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، ولازمه وتأدّب به، وتلا عليه بالقراءات السبع، وسمع كثيرا من الحديث، وعلى الخطيب الولي أبي الحسن بن فضيلة، والشيخ الخطيب أبي عبد الله بن صالح الكناني، سمع عليه الكثير، قال:
أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطلة: [مخلع البسيط]
أسلمني للبلا (1) وحيدا ... من هو في ملكه وحيد
قضى عليّ الفناء حتما ... فلم يكن عنه لي محيد
وكيف يبقى غريق نزى ... فذاته أولا صعيد
يعيد أحواله إليه ... من نعته المبدىء (2) المعيد
وأخذ عن الشيخ الراوية المحدّث أبي محمد بن هارون الطائي، والشيخ الراوية المعمر أبي محمد الخلاسي، والشيخ الشريف تاج الدين أبي الحسن العرامي، والشيخ المحدّث الإمام شرف الدين أبي محمد عبد المؤمن الدمياطي، والشيخ رضيّ الدين الطبري، والمحدّث الحافظ فخر الدين التودري الميكالي قال: وأنشدني من لفظه بالحرم الشريف لشيخه الإمام أبي الحسن الخزرجي: [الرمل]
عن أهيل المنحنى لا أصبر ... فاعذلوني فيهم أو فاعذروا
فيه (3) أحبابي (4) وإن هم عذّبوا ... ومنائي وصلوا أم هجروا
__________
(1) في الأصل: «للبلاء» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «المبدي»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «هم» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «أحباب».(4/167)
والشيخ المحدّث المفتي بالحرم الشريف، رضي الدين محمد بن أبي بكر بن خليل قال: وأنشدني لبعض شيوخه: [الطويل]
أفي كل واد شاعر ومطيب ... وفي كل ناد منبر وخطيب؟
نعم كثر الأقوام قلّة ناقد ... لهم فتساوى مخطئ ومصيب
والشيخ المحدّث الإمام أنس الدين ابن الإمام قطب الدين القسطلانيّ، والأديب الواعظ نفيس الدين بن إبراهيم اللمطي قال: وأنشدني إجازة عن الشيخ الإمام شرف الدين أبي الفضل السلمي المرسي من قصيدة: [الطويل]
إذا جئت ألقى عند بابك حاجبا ... محيّاه من فرط الجهامة حالك
ومن عجب (1) مغناك جنّة قاصد ... وحاجبها من دون رضوان مالك
والشيخ الإمام تقي الدين بن دقيق العيد، وأبي العباس بن الظاهري، ومحيي الدين بن عبد المنعم، ومحمد بن غالب بن سعيد الجيّاني، والخطيب الجليل أبي عبد الله بن رشيد من أهل المغرب. وكتب له الشريف أبو علي الحسن بن أبي الشرف، والعدل أبو فارس الهواري، وأبو القاسم بن الطيب، وأبو بكر بن عبيدة، وأبو إسحاق الغافقي، وأبو عبد الله الدرّاج، وأبو الحكم مالك بن المرحّل، وأبو إسحاق التّلمساني، وغيرهم.
تواليفه: صنّف في التصوّف كتابا سماه «مطالع أنوار التحقيق والهداية» وكتابا في غرض «الشفا» العياضي. ومن شعره، ثبتّ بظهر الكتاب المسمّى ب «الموارد المستعذبة» من تأليف شيخنا أبي بكر بن الحكيم ما نصّه: [الطويل]
كتابك ذا من هوته المفاخر ... سنا وسنا راق منه زواهر
لقد جاء كالعقد المنظّم ناثرا ... فرائد قسّ عنك في ذاك (2) قاصر
بلاغته في القوم تشهد عندما ... تشكك فيه أنه عنك صادر
فلله من روض أنيق غصونه ... بما تتمنّاه (3) فزاه وزاهر
فما شئته تجده فيه فإنه ... لناظره بحر بها هو زاخر
فنهنيكم بابن الألى شاع مجدهم ... قيادكم مجد بذاتك آخر
أتيت بما فيه تبثّ (4) حياة من ... حوته على مرّ الدهور المقابر
__________
(1) في الأصل: «عجيب» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ذا» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «تتمنا»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «انبتّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/168)
وأبديت فيه سحر لفظك رائقا ... تلذّ به الأجفان وهي سواهر
ومتّعت طرفي فيه لا زلت باقيا ... نحا (1) بك ربيّ يوم تبلى السرائر
وخصّك منّي بالسلام مردّدا ... عليك مدى الدنيا وما طار طائر
مولده: في حدود سنة سبع وستين وستمائة.
وفاته: في صفر من عام أربعة وأربعين وسبعمائة. وكانت جنازته بالغة أقصى مبالغ الاحتفال، وتزاحم الناس على قبره بما بعد العهد به.
وممن رثاه شيخنا أبو الحسن بن الجياب فقال: [الرمل]
قضي الأمر، فيا (2) نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر
وعزاء يا فؤادي إنّه ... حكم ملك قاهر مقتدر
حكمة قد (3) أحكمت تدبيرها ... نحن منها في سبيل السّفر
أجل مقتدر (4) ليس بمس ... تقدم منه (5) ولا مستأخر
أحسن الله عزاء كلّ ذي ... خشية من ربّه (6) في عمر
في أمانيّ (7) التّقيّ الخاشع ال ... طاهر الذات الزّكيّ السبر
قرشيّ من سليم (8) مستقى ... من صميم الشّرف المطّهّر
يشهد الليل دليلا (9) أنه ... دائم الذّكر طويل السّهر
في صلاة بعثت وفدا لها (10) ... زمر للمصطفى (11) من مضر
نائما أو (12) راكعا أو ساجدا ... لطلوع فجره المنفجر
جمع الرحمن شملينا (13) غدا ... بحبيب الله خير البشر
وتلقّته وفود، رحمة ال ... لّه تأتي بالرّضى والبشر
__________
(1) في الأصل: «ونحا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «يا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) كلمة «قد» ساقطة في الأصل.
(4) في الأصل: «مقدر»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) كلمة «منه» ساقطة في الأصل.
(6) في الأصل: «لربّه»، وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «إمامنا»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا.
(8) في الأصل: «سليمان»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا.
(9) كلمة «دليلا» ساقطة في الأصل.
(10) في الأصل: «وقودها»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا.
(11) في الأصل: «المصطفى»، وكذا ينكسر الوزن.
(12) في الأصل: «وراكعا وساجدا»، وكذا ينكسر الوزن.
(13) في الأصل: «شملنا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/169)
علي بن أحمد بن محمد بن عثمان الأشعري
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن المحروق.
أوّليته: قد مرّ ذلك عند ذكر عمّه وجدّه.
حاله: هذا الرجل شيخ الفقراء السّفّارة والمتسببة بالرّباط المنسوب إلى جدّه، وهو مقيم الرسم، حاجّ رحّال، عارف بالبلاد، طواف على كثير من مشاهير ما عرف الاصطلاح. وزار ترب الصالحين، وصحب السّفارة، حسن الشكل، أصيل البيت، حافظ للترتيب، غيور على الطريقة، محظوظ العقد، مجانب للأغمار، منافر لأهل البدع، مكبوح عن غلو الصافنة، أنوف، مترفّع، كلف بالتجلّة، يرى لنفسه الحق ولا يفارق الحظّ، خطيب متعاط لمواقف الإطالة وسرد الكثير من كلام الخطباء عن غير اختيار، يطبق المفصل، ويكافىء الغرض المقصود، على شرود عن قانون الإعراب، حسن الحديث، طبقة للرّسم الدّنيوي من هذا الفن كثرة، وحسن بزّة، ونفاذ أمره، ونباهة بيته، وتعاطيا لنتائج الحلوة.
محنته: قبض عليه المتغلب على الدولة وأزعجه بعد الثّقاف في المطبق، إلى مرسى ألمريّة، اتهاما بممالأة السلطان، فامتعض له من أهل مدينة وادي آش، وتبعهم المشيخة على المجاهرة، فاستنقذوه، وكاشفوا المتغلب، إذ كانوا على أرقاع الخلاف عليه، وعاجل الأمر تصير الملك لصاحبه، فعاد الشيخ إلى حاله، فهي معدودة عنه من أثر التصريف.
مشيخته: ومن خطه نقلت. قال: ولدت في اليوم الحادي والعشرين لرجب عام تسعة وسبعمائة، ولبست الخرقة من يد الشيخ الفقيه الخطيب البليغ الولي الشهير أبي علي عمر بن محمد بن علي الهاشمي القرشي في أوائل ذي قعدة من عام خمسة وثلاثين وسبعمائة. وحدّثني بها، رحمه الله، عن الشيخ الزاهد أبي محمد الخلاسي، عن شرف الأئمة أبي عبد الله بن مسدي، عن الشيخ الكبير أبي العباس بن العريف، عن أبي بكر عبد الباقي بن برال، عن أبي عمرو الطّلمنكي، عن أبي عمرو بن عون الله وأبي علي الحسن بن محمود الجرجاني، عن أبي سعيد ابن الأعرابي، عن أبي محمد سالم بن محمد بن عبد الله الخراساني، عن الفضل بن عياض، عن هشام بن حسّان ويونس بن عبيد، عن أبي الحسن بن الحسن البصري، عن الحسن البصري، عن علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه. ثم رحلت إلى المغرب، طالبا في لقاء أهل الطريقة، راغبا، فلقيت به من أعلام الرجال جملة يطول ذكرهم، ولا يجهل قدرهم. ولما توجهت إلى المشرق، لقيت به أعلاما(4/170)
وأشياخا كراما، لهم طرق سنّية، وأحوال سنية، أودعت ذكرهم هذا طلبا للاختصار، وخوفا من سآمة الإكثار، وكان اعتمادي فيمن لقيت منهم في أيام تجريدي واجتهادي، بعد إيابي من قضاء أربي، من حجّ بيت الله الحرام وزيارة قبر النبيّ عليه الصلاة والسلام، على من بهديه أستنير، وأعتمد عليه فيمن لقيت وصحبت، وإليه أشير، سيدي الشيخ الكبير الجليل الشهير وحيد عصره وفريد دهره، جمال الدين أبو الحجاج الكوراني جنسا، والتميمي قبيلة، والكلوري مولدا، والسهروردي خرقة وطريقة ونسبة، وهو الذي لقّنني، وسلكت على يده، وقطعت مفاوز العزلة عنده، مع جملة ولده. وحدّثني، رضي الله عنه، أنه لقّنه الشيخ الفقيه العارف أبو علي الشمشري، هو والشيخ الإمام نجم الدين الأصبهاني، والشيخ نجم الدين، والشيخ بدر الدين الطوسي، لقّنا الفقيه محسنا المذكور، والشيخ بدر الدين، لقّنه الشيخ نور الدين عبد الصمد النصيري، والشيخ عبد الصمد، لقّنه الشيخ نجيب الدين بن مرغوش الشّيرازي، والشيخ نجيب الدين، لقّنه الشيخ شهاب الدين السّهروردي والشيخ شهاب الدين، لقّنه عمّه ضياء الدين أبو الحسن السهروردي، والشيخ ضياء الدين فرج الزّنجاني، والشيخ فرج الزنجاني، لقّنه أبو العباس النهاوندي، والشيخ أبو العباس، لقّنه أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي، والشيخ أبو عبد الله، لقّنه أبو محمد رديم، والشيخ أبو محمد، لقّنه أبو القاسم الجنيد، والشيخ أبو القاسم، لقّنه سري السّقطي، والشيخ سري، لقّنه معروف الكرخي، والشيخ معروف، لقّنه داود الطائي، والشيخ داود، لقّنه حبيب العجمي، والشيخ حبيب، لقّنه الإمام الحسن البصري، والشيخ الحسن، لقّنه الإمام علي بن أبي طالب. ولبست الخرقة من يد الشيخ أبي الحجاج المذكور بسند التلقين المذكور إلى أبي القاسم الجنيد، رضي الله عنه، إلى جعفر الحذاء، إلى أبي عمر الإصطخري، إلى شقيق البلخي، إلى إبراهيم بن أدهم، إلى موسى بن زيد الراعي، إلى أويس القرني، إلى أميري المؤمنين عمر وعلي، رضي الله عنهما، ومنها إلى سيد الأولى والآخرين صلى الله عليه وسلم، وذلك في أوائل عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة. وقد ألّفت كتابا جمعت فيه بعض ما صدر من أورادي، أيام تجريدي واجتهادي، محتويا على نظم ونثر، مفرغا عن كلام الغير، إلّا مقطوعة واحدة لبعض المتصوفة، فإني سقتها على جهة لكونها غاية في الاحتفال وهي: [الرمل]
قل لمن طاف بكاسات الرضا ... وسقى العشّاق مما قد نهل
وسميت الكتاب ب «نكت الناجي، وإشارات الراجي». ولعلّ ذلك يكون اسما وافق مسمّاه، ولفظا طابق معناه. وإلى ما ذكرت من النكت، أشرت بما نظمت،(4/171)
فقلت: [البسيط]
في كل واحدة منهن أسرار ... لا تنقضي، ولها في اللفظ أسرار
إن رمت حصر معانيها بما سمعت ... أذناك ليس لها بالسّمع إخصار
فاصحب خبيرا بما يرضى الحجاب ... ستارها وكذاك (1) الحرّ ستّار
ولعلّه يكون، إن شاء الله، كما ذكرته، وأعرّف بما أنشدته.
ولي جملة قصائد وأزجال منظومة على البديهة والارتجال، نطق بها لسان المقال، معربا عمّا وجدته في الحال، قصدت بها الدخول مع ذلك الفريق، وأودعتها غوامض أسرار التحقيق. فمن بعض نكت الكتاب، ما يعجب منه ذو والألباب، نكتة سرّ الفقير، يشير إليه بجميع الكائنات، فلا حديث معجم، ولا موجود مبهم، فهو إذا يتكلم دون حدّه وبلسان وجده، والفقيه يتكلم فوق قدره وبلسان غيره، وهذا ما حضرني في الوقت، مع مزاحمة الشواغل، فتصفّحوا، واصفحوا، وتلمحوا واسمحوا. ولكم الفضل في قبول هذه العجالة واليسير من هذه المقالة. انتهى.
ومن الطارئين
علي بن عبد الله النميري الششتري (2)
عروس الفقراء، وأمير المتجرّدين، وبركة الأندلس، لابس العباءة الخرقة، أبو الحسن. من أهل ششتر، قرية من عمل وادي آش، معروفة، وزقاق الشّشتري معروف بها. وكان مجوّدا للقرآن، قائما عليه، عارفا بمعانيه، من أهل العلم والعمل.
حاله: قال شيخنا أبو عثمان بن ليون في صدور تهذيبه لرسالته العلمية: الإمام الصّوفي المتجرّد، جال البلاد والآفاق، ولقي المشايخ، وسكن الرّبط، وحجّ حجّات، وآثر التجرّد والعبادة. وذكره القاضي أبو العباس الغبريني، قاضي بجاية، في كتابه المسمّى عنوان الدّراية فيمن عرف في المائة السابعة بمدينة بجاية، وقال: الفقيه الصوفي الصالح العابد، أبو الحسن الشّشتري من الطلبة المحصّلين، والفقراء
__________
(1) في الأصل: «وكذلك»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) ترجمة الششتري في عنوان الدراية (ص 140) ونفح الطيب (ج 2ص 396) ومقدمة ديوانه بتحقيق الدكتور علي سامي النشار.(4/172)
المنقطعين، له علم وعمل بالحكمة، ومعرفة بطريق الصوفية، وله تقدم في النظم والنثر، على طريقة التحقيق. وأشعاره في ذلك، وتواشيحه ومقفّياته وأزجاله، غاية في الانطباع. وكان كثيرا ما يجوّد عليه القرآن. ونظمه في التحقيق كثير.
مشيخته: أخذ عن القاضي محيي الدين أبي القاسم محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الأنصاري الشاطبي، وعن غيره من أصحاب السّهروردي صاحب العوارف والمعارف. واجتمع بالنّجم بن إسرايل الدّمشقي الفقير سنة خمس وستمائة.
قال: ألفيته على قدم التجرد، وله أشعار وأذواق في طريق القوم، وكان من الأمراء وأولاد الأمراء، فصار من الفقراء وأولاد الفقراء، وخدم أبا محمد بن سبعين، وتلمذ له. وكان الشيخ أبو محمد دونه في السّن، لكن استمرّ باتّباعه، وعوّل على ما لديه، حتى صار يعبر عن نفسه في منظوماته وغيرها، بعبد الحق بن سبعين، وبه استدل أصحاب أبي محمد على فضله. ويقال: إنه لما لقيه يريد المشايخ، إن كنت تريد الجنة، فصر إلى الشيخ أبي مدين، وإن كنت تريد ربّ الجنة فهلم. ولما مات الشيخ أبو محمد، انفرد بعده بالرياسة والإمامة على الفقراء والمتجرّدين والسّفّارة، وكان يتبعه في أسفاره ما ينيف على أربعمائة فقير، فيقسّمهم الترتيب في وظايف خدمته.
كراماته: قالوا: نادى يوما، وهو مع أصحابه في برّية، يا أحمد، فقال أحدهم: ومن هذا، فقال تسرّون به غدا. فلما وردوا من الغد قابس، وجدوا أحمد قد جاء من الأسر، فقال: صافحوا أخاكم المنادى بالأمس. قالوا: ودخل عليه ببجاية أبو الحسن بن علّال من أمنائها، وهو يذكر في العلم، فأعجبته طريقته، فنوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دنيرا. ثم ساق شطرها، وحبس الباقي ليزوّدهم به، فرأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، في النّوم، ومعه أبو بكر وعمر، فقال: ادع لي يا رسول الله، فقال لأبي بكر: أعطه، فأعطاه نصف رغيف كان بيده، فقال له الشيخ في الغد: لو أتيت بالكل، لأخذت الرغيف كله.
تواليفه: له كتاب «العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم». وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته. وله «المقاليد الوجودية في أسرار إشارات الصوفية». وله الرسالة القدسية في توحيد العامة والخاصة. والمراتب الإيمانية والإسلامية والإحسانية. والرسالة العلمية، وغير ذلك.
دخوله غرناطة: دخلها ونزل برابطة العقاب، وتكرّر إليها، إذ بلده من عمالتها.(4/173)
شعره: من ذلك قوله (1): [الطويل]
لقد تهت عجبا بالتّجرّد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدّهر
وجاءت لقلبي نفحة قدسيّة ... فغبت بها عن عالم الخلق والأمر
طويت بساط الكون والطّيّ نشره ... وما القصد إلّا الترك للطّيّ والنّشر
وغمّضت عين القلب عن غير مطلق (2) ... فألفيتني ذاك الملقّب بالغير
وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزّهت من أعني من (3) الوصل والهجر
وما الوصف إلّا دونه غير أنني ... أريد به التشبيه (4) عن بعض ما أدري (5)
وذلك مثل الصوت أيقظ نائما ... فأبصر أمرا جلّ عن ضابط الحصر
نقلت (6) له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ سترا على ستر
ومن شعره أيضا قوله في الغرض المذكور (7): [الكامل]
من لامني لو أنه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيّرا
وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا
شذّت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال: سحر مفترى
ومن شعره القصيدة الشهيرة ولها حكاية (8): [الطويل]
أرى طالبا منّا الزيادة لا الحسنى ... بفكر رمى سهما فعدّى به عدنا
وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... يغيب (9) به عنّا (10) لدى الصّعق إن عنّا
تركنا حظوظا من حضيض لحوطنا (11) ... إلى المقصد الأقصى إلى المقصد الأسنى
__________
(1) الأبيات في ديوان أبي الحسن الششتري (ص 51) ونفح الطيب (ج 2ص 398397).
(2) في النفح: «القلب غير مطلّق».
(3) في النفح: «عن».
(4) في النفح: «التشبيب».
(5) في الأصل: «أدر» بدون ياء.
(6) في النفح: «فقلت».
(7) الأبيات في ديوان أبي الحسن الششتري (ص 41) ونفح الطيب (ج 2ص 398).
(8) ديوان أبي الحسن الششتري (ص 72). وورد في نفح الطيب فقط البيتان الأول والثاني.
(9) في النفح: «نغيب».
(10) كلمة «عنّا» ساقطة من الإحاطة، وقد أضفناها من المصدرين.
(11) في الأصل: «لحوطتنا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/174)
ولم نلف كون الكون إلّا توهّما ... وليس بشيء ثابت هاك (1) ألفينا
فرفض السّوا فرض علينا لأننا ... أناس بمحو الشّرك والشرك قد دنا
ولكنما (2) كيف السبيل لرفضه ... ورافضه المرفوض نحن وما كنّا؟
فيا قابلا بالوصل والوقفة التي ... حجبت بها اسمع وارعوي مثل ما أبنا
تبدّت لك الأوهام لمّا تداخلت ... عليك ونور العقل أورثك الشّجنا
وسمّت بأنوار فهمنا أصولها ... ومنبعها من أين كان فما سمنا
وقد تحجب الأنوار للعقل مثل ما ... تبعّد من إظلام نفس حوت ظعنا
وأنّى دجال في القضيّة يدّعي ... وأكمل من في الناس من (3) صدع الأمنا
فلو كان سرّ الله يلحق هكذا ... لقال لنا الجمهور: ها نحن ما خبنا
وكم دونه من فتنة وبليّة ... وكم بهمة من قبل ذلك قد جبنا
وكل مقام لا تقم فيه إنه ... حجاب فجدّ السّير واستنجد العونا
ولا تلتفت في السّير إذ كلّ ما (4) به ... سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
ومهما ترى كل المراتب تجتلى ... عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
__________
(1) في الأصل: «هكذا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ولكن»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «لمن»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «وكل ما»، وكذا ينكسر الوزن.(4/175)
وقل: ليس لي في غير ذلك مطلب ... فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى
وسر نحو أعلام اليمين فإنها ... سبيل بها يمن فلا تترك اليمنا
أمامك هول فاستمع لوصيّتي ... عقال من العقل الذي منه قد تبنا
إمام (1) الورى بالمشكلات وقبلهم ... بأوهامه قد أهلك الخرّ والبنّاء
محجّتنا قطع الحجا وهو حجّنا ... وحجّتنا شلوه ها بها همنا
يثبّتنا عند الصعود لأنه ... يودّ لأنّا للصّعيد قد اخلدنا
تلوح لنا الأطواق منه ثلاثة ... كراء وهارب (2) ورؤية ما قلنا
ويظهر باسم (3) السّرّ والنفس مدبرا ... وعقلا وخيرا مقبلا عندما يدنى
ولوح إذا لاحت سطور كتابنا ... له فيه وهو النّون فالقلم الأدنى
وعرش وكرسيّ وبرج وكوكب ... وحشي لجسم الكل في وصفه حرنا
تمرّ خطوط الذهن عند التفاتنا ... أحاطته للقصوى (4) التي فيه أحضرنا
__________
(1) في الأصل: «أيام»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «كرآ هربن»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «باسمه للسّرّ»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «حاطته القصوى»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.(4/176)
مقطّعه الأزمان (1) للدهر مثل ... يكيّف للأجسام من نحلة (2) أينا
أقام دوين الدهر مدرة ذاته ... ونحن ونفس الكل في بحره عمنا
وفتّق للأملاك جوهره الذي ... يشكّله سرّ الحروف فحرّفنا
يفرّق مجموع القضيّة ظاهرا ... ويجمع فرقا من تداخله فزنا
وعدّد شيئا لم يكن غير واحد ... بألفاظ أسمائها شتّت المعنى
ويعرج والمعراج منه ذواته ... لتطويره العلويّ بالوسم أسرينا
ليفلل (3) سفليّا ويوهم أنه ... لسفليّه المجهول بالذات أسبطنا
يقدّر خصلا بعد وصل لذاته ... وفرض مسافات يجدّ لها الذّهنا
يحلّ لها طور المغبّة شكله ... وإن لمعت فيه فيلحقه المفنا
ويلحقه بالشّرط من مثنويّة ... يلوح بها وهو الملوّح والمبنى
فنحن كدود القزّ يحصرنا الذي ... صنعنا بدفع الحصر سجنا لنا منّا
فكم واقف أردى وكم سائر هذا ... وكم حكمة أبدى وكم مملق أغنى!
__________
(1) في الأصل: «مقطع بالأزمان»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «نحلته»، وكذا لا يستقيم الوزن.
(3) في الأصل: «فليفلّ»، وكذا ينكسر الوزن.(4/177)
وتيّم أرباب الهرامس كلّهم ... وحسبك من سقراط أسكنه الدّنا
وجرّد أمثال العوالم كلها ... وأبدى لأفلاطون في المثل الحسنا
وهام أرسطو أن (1) مشى من هيامه ... وبثّ الذي ألقى إليه وما ضنّا
فكان لذي القرنين عونا على الذي ... تبدّى به وهو الذي طليه (2) العينا
ويفحص عن أسباب ما قد سمعتم ... وبالبحث غطّى العين إذ ردّه عينا
وذوّق للحلّاج طعم اتّحاده ... فقال لنا: من لا يحبّط به معنى
فقال له ارجع عن مقالك قال: لا ... شربت مداما كلّ من ذاقها غنّى
وأنطق للشّبليّ بالوحدة التي ... أشار بها لمّا محا عنده الكونا
أقام لذات الصّغريين (3) لنا حولا (4) ... يخاطب بالتّوحيد إذ ردّه خدنا
وكان خطا بابين ذاتين من يكن ... فقيرا يرى البحر فيه قد عمنا
فأصمت للحسنيّ تجريد خلقه ... مع الأمر إذ (5) صحّت فصاحته لكنا
تثنّى قضيب البان من سكر خمره ... وكان كمثل العمر لكنه ثنّى
__________
(1) في الأصل: «حتى»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «طلينه»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «الصّغرى»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «حولها»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(5) في الأصل: «إذا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/178)
وقد شذّ بالشّوذيّ عن ثوبه فلم ... يمل نحو أحواز ولا سكن الدّنا
وأصبح فيه السّهرورديّ حائرا ... يصيخ لما يلقى الوجود له أذنا
بعمر علي (1) بن الفارض الناظم الذي ... تجرّد للأسفار إذ سهّل الحزنا
ولابن قسيّ خلع نعلي (2) وجوب ... وليس أخا طلب من المجد قد تبنا
أقام على ساق المسرّة نحله ... لمن زمن الأسرار فاستمطر المزنا
ولاح سنا برق من القرب للسّنا ... لنجل ابن سينا للذي (3) ظنّ ما ظنّا
وقد قلّد الطّوسي بما قد ذكرته ... ولكنه نحو التصوف قد حنّا
ولابن طفيل وابن رشد تيقّظ ... رسالة يقظان (4) اقتضت فتحه الجفنا
كسا لشعيب ثوب جمع لذاته ... فجرّ على حسّاده الذّيل والودنا
وقد (5) طوّق الطائي بسبط كنانه ... بدسكرة الخلّاع إذ ذبّنا (6) الوهنا
__________
(1) كلمة «علي» ساقطة في الأصل. وهنا إشارة إلى المتصوف عمر بن علي بن الفارض، المتوفى سنة 632هـ. ترجمة ابن الفارض في وفيات الأعيان (ج 3ص 398).
(2) يشير إلى كتاب «خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين»، وهو مختصر في التصوف لأبي القاسم أحمد بن الحسين بن قسي المولدي، أول من ثار في الأندلس عند اختلال دولة المرابطين، وسمي أتباعه بالمريدين. الحلة السيراء (ج 2ص 198197).
(3) في الأصل: «الذي»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) هي رسالة «حي بن يقظان» لمحمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي، وقد تحدّثنا عنها بإسهاب في كتابنا: مدخل إلى الأدب الأندلسي (ص 226221)، فتنظر.
(5) في الأصل: «وعنه»، وكذا يختل المعنى والوزن معا.
(6) في الأصل: «إذا ذبّ»، وكذا ينكسر الوزن.(4/179)
تسمّى برفع الروح صبرا ولم ... يبل ما يهزّ (1) في المقام ولا قرنا
وباح به نجل الحرائيّ (2) عندما ... رأى كتمه ضعفا وتلويحه غينا
وللأمويّ النظم والنثر في الذي ... ذكرنا وإعراب كما عنه أعربنا
وأظهر منه الغافقيّ لما خفى ... وكشّف عن أطواره الغيم والدّجنا
وبيّن أسرار العبودية التي ... عن اعرابها لم ترفع اللّبس واللّحنا
كشفنا غطاء من تداخل سرّها ... فأصبح ظهرا ما رأيتم له بطنا
هوانا لدين (3) الحقّ من قد تولّهت ... إلى قربة (4) ألبابنا وله هدنا
فمن كان يبغي السّير للجانب الذي ... تقدّس لازبا فلا تأخذوا (5) عنّا
وهذه القصيدة غريبة المنزع، وإن لم تخل عن شذوذ من جهة اللّسان، وضعف في الصناعة، أشار فيها إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة، وكأنها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدمنا، إذ الحسنى الجنّة، والزيادة مقام النظر، فقوله: أرى طالبا منّا الزّيادة لا الحسنى، إشارة إلى ذلك، والله أعلم.
والغافقي الذي ختم به هو شيخنا أبو محمد، وهو مرسي الأصل غافقية، رحم الله جميعهم، ونفعنا بأولي الحظوة لديه.
__________
(1) في الأصل: «يهزّ ندّا في»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الحر إلى»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «الدين»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «لقربه»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «لازبا خذه»، وكذا ينكسر الوزن.(4/180)
نثره: وكلامه حسن، ومقاصده غريبة، رضي الله عنه، ونفع به. كتب إليه الشيخ الصوفي أبو علي بن تادررت، لمّا سافر ولم يودّعه، وكان قد قال له: أغيب عنكم أياما قلائل، وأعود إن شاء الله، فأبطأ عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الله وحده فقط ليس إلّا وصلواته على ملائه المقرب الأعلى، وعلى سيدهم الخاتم محمد وآله الهداة، وسلامه الحقّ يخصّ العليم بسرّه، في عالم الفرق، ورحمته وبركاته. من أخيه حقيقة في العوالم الأول، لا في عالم العلم الحق، من حيث هو موضوعه بحسب الإضاءة، بمنزله من مدينة بني مدار عمرها الله وأرشدهم، وليس إلّا أني نعتبكم عرفا وعادة، لسفركم دون موادعة، بخلاف سيرتكم الأولى من المشرق الأقصى، إلى المغرب الأقصى، وأمّا بكون حقيقة الأمر الموحد، فلا عتب، بل نقرأ على الماهية سورة الإخلاص التي توحيدها المحض أحاط وأحصى. ثم وعدتم، أنكم ولا بدّ، لا تطول إقامتكم ببجاية كلأها الله، إلّا ليالي (1) قليلة العدد، تأخذون فيها كتبكم وتنفصلون قافلين في أسرع أمد. ثم ظهر غير ذلك من الإقامة إلى هذه المهلة التي نبا كما عندنا الزمان.
وقد ورد من أناس بالتّواتر أنكم ولا بدّ تصومون هنالك رمضان المعظم على الأمان، فقلنا: لحظ البشريّة الحيوانية، وعلمنا أن الأمر ليس سرا لأجل القضايا الحكمية الطّلبية، والمقادير العلمية السرّية. ولا تتحرك ذرّة إلّا بإذنه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون في دهره وزمنه، يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أمّ الكتاب.
ولكنّا أيضا نقرأ، والله لا يخلف الميعاد. وقد يكون غير الوفاء بالعهد في الخلف لمصالح فيها وعد الله، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدّنيا، والله يفعل ما يشاء. ولا تكن معترضا، فلا تلوم إلّا بحسب فرقنا الأول. وأما من حيث الكمالات الثواني والأول، فلا لوم ولا عتب، لرفع المثنوية، وإحالة الكثرة والإضافة، حتى ليس إلّا الوحدة العلمية المعنوية العليّة.
وبالجملة الله معكم، ولن يتركم أعمالكم، فإن ما يرفع العمد والعماد. قال الله:
{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (2)، وهو معكم أينما كنتم، والله عليم بما تصنعون.
والرّغبة إلى ذاتكم الكاملة الوجودية، ذات الكمالات العلمية القدسية، أن تعجلوا لي، إذ وأنتم مقيمون هنالك: [الطويل]
وأين يجد في عليّين غرفة ... وإن شغلتم عن نسخها (3)
__________
(1) في الأصل: «ليال».
(2) سورة الأنعام 6، الآية 91.
(3) عجز البيت مختل الوزن والمعنى معا.(4/181)
والحق لا يشغله شأن عن شأن، فوجّهوا إليّ بها بعض الفقراء والإخوان، وأنا أقسم عليك في ذلك، يا أخي وسيدي، بالسّر فقط الذي يشغله أبدا سرمدا الله فقط، وأن تعجل لي بذلك، وتحيي مواتي، وتجمع أشتاتي، مع كلام تعتنوا لي به من كلامكم، تخصّوني به في كرّاس مبارك، علّمني الله العليم الحكيم منكم سرّ علمه العظيم وحكمته المحيطة، وكفانا سرّ هذه العوالم الأرضية المركبة الحطيطة، ونقلنا من البسيطة لغة إلى العوالم الرّيسة النفيسة البسيطة، ويرقينا به عنها إلى أن نتصل الحظّ المنفصل للتدبير بنقطته الأولى، وإن كان في الحقيقة ما انفصل، ويدخلها حضرة علمنا المحيط الوجودي، الذي ليس وراءها محيط إليه يرقى ويتصل. والسلام الحقّ محض مظهره ومجلاه ومرآته، ورحمة الله وبركاته.
فراجعه الشيخ أبو الحسن الشّشتري المترجم به، رضي الله عنه بما نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على النبيّ محمد، المرسل بالحق لإدحاض الشّك، وإيضاح الغلط، الموصل على أقرب السّبيل للحضرة الإلهية، ومن شطط المختص بجوامع الكلم، المبكت لكل من موّه وسفسط، المبعوث بكلمة الإخلاص، التي حاصلها الله فقط، ورضي الله عن مظهر الوراثة المحمدية في كل زمان، المترجم عن كنز الوجود الذي طلسمه الإنسان، وسلام الله ورحمته على المستمع بأذن أنيته لذلك التّرجمان، المتجوهر بمقام الإسلام والإيمان والإحسان، القارئ على أخباره المنبعثة في أرض فرقة كلّ من عليها فان، بالمعنى الفقير الباطن للسّيار الظاهر المشير الحائم على سلب الاسمين، الدّائر على دائرة قاب قوسين.
المشهور في العالم الأول، بأبي علي الحسين من خبر ماسيه، الوارث الطالب لذاته بها للوصل له. وهو به عنه باحث، المنظور في ذات كمالاته، المنعوت بالوافي لا بالناكث، المعتصم بحبل التحقيق، القائل بالحق، عبده علي الشّشتري، ابن إفادتكم عبد الحق بن سبعين، أما قبل من حيث الأصل، ومع من حيث الوصل، وبعد من حيث الفصل، فإني أقسم بالبدر إذا أدبر، والصّبح إذا أسفر، أن النصاب واقع من حيث الصور، لا من حبّة حقيقة المظهر. فأين هنا أنت أو أنا؟ أو قبل أو بعد؟ أو هند أو دعد؟ أو خلف أو وعد؟ ولا بدّ من المراح في ميدان الخطاب، وبيان المتشابه عليكم، المودع عليكم، في هذا الكتاب، فأول عائق عنكم مرض أحد الأصحاب، ولا انفكاك عند وجود هذه القضية، عند كل طائفة سنيّة، فما ظنّك بالسّبعينية، هذا مع وجود وعد مبين، وزمان معين. ونحن لم نعيّن للموضوع وقتا، ولو عيّنّا لكبر عند الله مقتا. وإنما قلنا: أيام قلائل، ويدخل في ذلك الجمعة والشهر والعام القابل، بل برزخ العالم وإنائه عند النحرير العاقل. ثم لو عيّنّا يوما أو يومين أو جمعتين، ولم
يكن فقلب المؤمن بين إصبعين. أما علمت أنّ الوعد المزعوم المراد منه الذي تتضمّنه صعقة العمود بالبعد أو بالتّواني، أو بالحواس أو بالمعاني؟ والمسكر هو الجريال لا الأواني. وأما قضية الوداع، فقد ارتفع بين الفقراء فيها النزاع، ووقع من الصّوفية في ذلك الإجماع، أنّ الاجتماع من غير ميعاد والافتراق عن غير مشورة، وقول إنه من حيث المذهب لازم بالضرورة، فإنّ المودع لا يخلق أن يكون من تربة الفرس والسبع، أو في مقام الفردانية والجمع، أو في البرزخ الذي بين المقامين، المعبّر عنه عند الصّوفية بالفناء. فإن كان في الوتريّة، فلا أنت ولا أنا، ولا مودع، ولا مودّع، وقلّة العتب لهذا أليق وأطبع. وإن كان في برزخ الفنا، فمن المودع هنا، وإن كان في الفرق هنا. وإن كان في الفرق، فترك المودع أقرب إلى الحق لألم التفرقة الموجود المحسوس، المعترض عند ذلك للنّفوس. واعلم أنّ الانفصال، كان بالطريق عند من يرى بالانفصال والاتّصال، ولا نقلة عند ذوي الاتّصال. وأما نكرة عرفة فهي عند الشيخ أبي عبد الله التّوزري لا عندي، ولو كانت ما ضننت بها بحمد الله لا بحمدي.(4/182)
المشهور في العالم الأول، بأبي علي الحسين من خبر ماسيه، الوارث الطالب لذاته بها للوصل له. وهو به عنه باحث، المنظور في ذات كمالاته، المنعوت بالوافي لا بالناكث، المعتصم بحبل التحقيق، القائل بالحق، عبده علي الشّشتري، ابن إفادتكم عبد الحق بن سبعين، أما قبل من حيث الأصل، ومع من حيث الوصل، وبعد من حيث الفصل، فإني أقسم بالبدر إذا أدبر، والصّبح إذا أسفر، أن النصاب واقع من حيث الصور، لا من حبّة حقيقة المظهر. فأين هنا أنت أو أنا؟ أو قبل أو بعد؟ أو هند أو دعد؟ أو خلف أو وعد؟ ولا بدّ من المراح في ميدان الخطاب، وبيان المتشابه عليكم، المودع عليكم، في هذا الكتاب، فأول عائق عنكم مرض أحد الأصحاب، ولا انفكاك عند وجود هذه القضية، عند كل طائفة سنيّة، فما ظنّك بالسّبعينية، هذا مع وجود وعد مبين، وزمان معين. ونحن لم نعيّن للموضوع وقتا، ولو عيّنّا لكبر عند الله مقتا. وإنما قلنا: أيام قلائل، ويدخل في ذلك الجمعة والشهر والعام القابل، بل برزخ العالم وإنائه عند النحرير العاقل. ثم لو عيّنّا يوما أو يومين أو جمعتين، ولم
يكن فقلب المؤمن بين إصبعين. أما علمت أنّ الوعد المزعوم المراد منه الذي تتضمّنه صعقة العمود بالبعد أو بالتّواني، أو بالحواس أو بالمعاني؟ والمسكر هو الجريال لا الأواني. وأما قضية الوداع، فقد ارتفع بين الفقراء فيها النزاع، ووقع من الصّوفية في ذلك الإجماع، أنّ الاجتماع من غير ميعاد والافتراق عن غير مشورة، وقول إنه من حيث المذهب لازم بالضرورة، فإنّ المودع لا يخلق أن يكون من تربة الفرس والسبع، أو في مقام الفردانية والجمع، أو في البرزخ الذي بين المقامين، المعبّر عنه عند الصّوفية بالفناء. فإن كان في الوتريّة، فلا أنت ولا أنا، ولا مودع، ولا مودّع، وقلّة العتب لهذا أليق وأطبع. وإن كان في برزخ الفنا، فمن المودع هنا، وإن كان في الفرق هنا. وإن كان في الفرق، فترك المودع أقرب إلى الحق لألم التفرقة الموجود المحسوس، المعترض عند ذلك للنّفوس. واعلم أنّ الانفصال، كان بالطريق عند من يرى بالانفصال والاتّصال، ولا نقلة عند ذوي الاتّصال. وأما نكرة عرفة فهي عند الشيخ أبي عبد الله التّوزري لا عندي، ولو كانت ما ضننت بها بحمد الله لا بحمدي.
والسلام على موضوعك ومحمولك، وسلوكك ووصولك، وجمعك وفرقك، وعبوديّتك وحقّك، بل على جملته الصالحة، ورحمة الله وبركاته.
وفاته: قالوا: إنه لما وصل بالشام إلى ساحل دمياط، وهو مريض مرضه الذي توفي منه، نزل قرية هناك على ساحل البحر الرومي يصاد فيها السمك، وقال: ما اسم هذه القرية، فقيل: الطّينة، فقال: حنّت الطّينة إلى الطينة، ووصّى أن يدفن بمقبرة دمياط، إذ الطينة بالمفازة بالساحل، ودمياط أقرب المدن إليها، فحمله الفقراء على أعناقهم، فتوفي بها يوم الثلاثاء سابع عشر صفر عام ثمانية وستين (1) وستمائة، ودفن بمقبرة دمياط.
وفي سائر الأسماء من حرف العين
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
عامر بن محمد بن علي الهنتاني (2)
رئيس متبوأ قبيلة من جبل درن، ومزوار المصامدة، والمطلقة يده على جباية الوطن المراكشي، يكنّى أبا ثابت.
__________
(1) كلمة «وستين» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها للتصويب لأن ولادة الششتري كانت في سنة 610هـ.
(2) ترجمة عامر بن محمد الهنتاني في نفح الطيب (ج 8ص 343، 350، 352) و (ج 9ص 131).(4/183)
حاله: هذا الرجل حسن الشكل، حصيف العقل، ثابت الجأش، معروف الأمانة والصدق، عفيف الفرج، مؤثر للجدّ، ماضي الحذر بأهل الحكم، نزيه اليد، مشهور بالرّجاحة، عين من عيون الحدود الغربية، وبقيّة من بقايا الجلّة العلمية، مسدّد اللسان للإبانة عن الأغراض، مختصر البزّة والحلية، متوسط الجود، مؤثر للخصوصية، بعيد النظر، سديد الرأي.
قدمت عليه بمحلّه من الجبل، زائرا متوفّى السلطان أبي الحسن، مستجيرا حماهم، فبلوت من برّه وبر الرئيس النّدي عبد العزيز أخيه ما تقصر عنه همم الملوك، وتقف دونه آمال الأشراف، تلقّيا، واحتفالا، وفرشا، وآنية، وطعاما، وصلة، وانتخابا، واحتشاما، وألطافا، حسبما يتضمن بسط ذلك كتاب «الرحلة» من تأليفي.
وأنشدتهم عند رحيلي، وقد رأيت إلى ما يبقي الذكر ويخلّد الآثار شيم السادة، وديدن الرؤساء (1): [الكامل]
يا حسنها من أربع (2) وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار
وجبال عزّ لا تذلّ أنوفها ... إلّا لعزّ الواحد القهّار
ومقرّ توحيد وأسّ خلافة ... آثارها تنبي عن الأخبار
ما كنت أحسب أنّ أنهار النّدى ... تجري بها في جملة الأنهار
ما كنت أحسب أنّ أنوار الحجا ... تلتاح في قنن وفي أحجار
مجّت (3) جوانبها البرود وإن تكن ... شبّت بها الأعداء جذوة نار
هدّت بناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عقار
لمّا توعّدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار
عمرت بحلّة (4) عامر وأعزّها ... عبد العزيز بمرهف بتّار (5)
فرسا رهان أحرزا قصب النّدى ... والبأس في طلق وفي مضمار
ورثا عن النّدب الكريم (6) أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار
__________
(1) القصيدة في نفاضة الجراب (ص 5452) ومشاهدات لسان الدين (ص 130128) ونفح الطيب (ج 8ص 352350) وأزهار الرياض (ج 1ص 295294).
(2) الأربع: جمع ربع وهو المنزل. لسان العرب (ربع).
(3) في المصادر: «محّت» بالحاء المهملة.
(4) في مشاهدات والنفح والأزهار: «بجلّة» بالجيم المعجمة.
(5) المرهف: السيف الحادّ. البتّار: القطّاع. لسان العرب (رهف) و (بتر).
(6) كذا في نفاضة الجراب. وفي بقية المصادر: «الكبير».(4/184)
وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في ورق وفي أثمار
أزرت وجوه الصّيد من هنتاتة ... في جوّها بمطالع الأقمار
لله أيّ قبيلة تركت لها ال ... نّظراء دعوى الفخر يوم فخار
نصرت أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار
آوت (1) عليّا عند ما ذهب الرّدى ... والروع بالأسماع والأبصار
وتخاذل الجيش اللهام وأصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار
كفرت صنائعه فيمّم دارها ... مستظهرا منها بعزّ جوار
وأقام بين ظهورها لا يتّقي ... وقع الرّدى وقد ارتمى بشرار
فكأنها الأنصار لمّا آنست (2) ... فيما تقدّم غربة المختار
لمّا غدا لحظا وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار (3)
حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلا لأمر الباري
لو كان يمنع من قضاء الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار
قد كان يأمل أن يكافىء بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار
ما كان يقنعه لو امتدّ المدى ... إلّا القيام بحقّها من دار
فيعيد ذاك الماء ذائب فضّة ... ويعيد ذاك التّرب ذوب نضار
حتى تفوز على النّوى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار (4)
حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر الرعاية (5) ساطع الأنوار
ويسوّغ الأمل القصيّ كرامها ... من غير ما ثنيا (6) ولا استعصار
ما كان يرضي الشّمس أو بدر الدّجى ... عن درهم فيه (7) ولا دينار
أو أن يتوّج أو يقلّد هامها ... ونحورها بأهلّة (8) ودراري
حقّ على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثار
فلمثلها ذخر الجزاء ومثله ... من لا يضيع صنائع الأحرار
__________
(1) في الأصل: «وآوت»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من نفاضة الجراب ومشاهدات لسان الدين. وفي النفح والأزهار: «وارت».
(2) كذا في نفاضة الجراب. وفي بقية المصادر: «أنّست».
(3) الشفار: أجفان العيون. والأشفار: السيوف.
(4) الأوطار: جمع وطر وهو القصد والغرض.
(5) في النفح والأزهار: «العناية».
(6) الثّنيا: الاستثناء.
(7) كذا في نفاضة الجراب ومشاهدات لسان الدين. وفي النفح والأزهار: «فيهم».
(8) في نفاضة الجراب: «بإهالة».(4/185)
وهو الذي يقضي الديون وبرّه (1) ... يرضيه في علن وفي إسرار
حتى تحجّ محلّة رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النّظّار
فيصير منها البيت بيتا ثانيا ... للطائفين إليه أيّ بدار
تغني قلوب القوم عن هدي به ... ودموعهم تكفي لرمي جمار
حيّيت من دار تكفّل سعيها ال ... محمود بالزّلفى وعقبى الدار
وضفت عليك من الإله عناية ... ما كرّ (2) ليل فيك إثر نهار
دخوله غرناطة: دخل الأندلس، وحلّ بغرناطة في حدود خمسين وسبعمائة، وأقام بها أياما، وقد أسند إليه السلطان أبو الحسن، لمّا رحل عن إفريقية، حفظ حرمه وأسبابه، في مراكب كان استقرارها بسواحل الأندلس، وحضر مجلس السلطان، فراق الحاضرين ملقاه وضمّ لسانه لأطراف الحديث وحسن تبويبه للأغراض. ولهذا الرجل في وطن المغرب ذكر بعيد، وقد أمسك الأمر مرات، على من استقرّ لديه من ولد السلطان، ورتّب له الألقاب والترشيح يغازله بذلك الوطن. وتنوعت الحال بهذا الرجل، من بعد وفاة السلطان أبي سالم ملك المغرب، وانحاز إليه ولده فقام بدعوته، ورتّب له الألقاب بوطن مراكش، ونظر لنفسه أثناء ذلك، فحصّن الجبل، واتّخذ به القلعة، وأكثر الطعمة والعدّة، فلمّا حاقت بأميره الدّبرة، لجأ إلى ما أعدّه، وهو الآن يزجي الوقت مهادنة تشفّ عن انتزاء، والله يهيئ له الخلاص من الورطة، ويتيح له إلى حزب السلامة الفيئة.
ومن الطارئين في القضاة والغرباء
عاشر بن محمد بن عاشر بن خلف بن رجا ابن حكم الأنصاري
بيّاسي (3) الأصل.
حاله: كان، رحمه الله، فقيها حافظا للمسائل، مفتيا بالرأي، معروفا بالفهم والإتقان، بصيرا بالفتوى، شوور ببلده وببلنسية، واستقضاه أبو محمد بن سمحون
__________
(1) في نفاضة الجراب: «ومثله».
(2) في الأصل: «باكر»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من المصادر.
(3) نسبة إلى بيّاسة، وهي مدينة كبيرة بالأندلس تابعة لكورة جيّان، مشهورة بالزعفران.
الروض المعطار (ص 121) ومعجم الأدباء (ج 1ص 518).(4/186)
على باغة أيام قضائه بغرناطة، إذ كان يكتب عنه ويلازمه، ثم استقضي بمرسية أعادها الله. وكان حافظ وقته، لم يعاصره مثله.
مشيخته: روى عن أبيه، وتلا بالسبع على ابن ذروة المرادي، ولقي أبا القاسم بن النحاس، وأخذ الحديث عن أبي بحر الأسدي، وأبي بكر بن العربي، وأبي جعفر بن جحدر، وأبي الحسن بن واجب، وغيرهم.
مولده: ببيّاسة سنة أربع، وقيل: ست وثمانين وأربعمائة.
وفاته: توفي بشاطبة، تسع وستين وخمسمائة.
تواليفه: شرح المدوّنة مسألة مسألة، بكتاب كبير سماه «الجامع البسيط، وبغية الطالب النشيط»، حشد فيه أقوال الفقهاء، ورجّح بعضها، واحتجّ له. قالوا: وتوفي قبل إكماله.
عياض بن محمد بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي
من أهل سبتة، حفيد القاضي العالم أبي الفضل، يكنى أبا الفضل.
حاله: من «الصّلة»: كان من جلّة الطلبة، وذوي المشاركة في فنون من العلوم العقلية وغيرها، فصيحا، شاعرا، لسنا، مفوّها، مقداما، موصوفا بجزالة وحدّة امتحن بسببها. وكان مع ذلك كثير التّواضع، فاضل الأخلاق، سريّا، مشاركا، معظّما عند الملوك، مشارا إليه، جليل القدر. حضر الأندلس أيام قضاء أبيه بغرناطة، وغير ذلك الوقت، وجال فيها، وأخذ بقرطبة وإشبيلية وغيرهما، واستقرّ أخيرا بمالقة، وتأثّل بها وبجهاتها أصول أملاك إلى ما كان له.
مشيخته: روى عن أبيه أبي عبد الله، وعن أبي محمد بن عبد الله، وأبي بكر بن الحدّاد القاضي بسبتة، وأبي القاسم بن بشكوال، وابن حبيش، وابن حميد، وأبي بكر بن بيبش الشّلطيشي، وغيرهم.
من روى عنه: قال الأستاذ: روى عنه جماعة ممن أخذت عنهم، منهم ابنه أبو عبد الله قاضي الجماعة، وأبو العباس بن فرتون، أخذ عنه كثيرا بمدينة فاس.
مولده: قال صاحب «الذيل»: سألته عن مولده: فقال: ولدت في اليوم التاسع عشر من محرم عام واحد وستين وخمسمائة بمدينة سبتة.
وفاته: توفي في العشر الوسط من جمادى الآخرة عام ثلاثين وستمائة بمالقة، وروضته بها في جنّة كانت له بربضها الشّرقي، رحمه الله.(4/187)
عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى ابن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى ابن عياض اليحصبي (1)
القاضي، الإمام المجتهد، يكنى أبا الفضل، سبتي الدّار والميلاد، أندلسي الأصل، بسطيّه (2).
أوليته: من كتاب ولده في مآثره، وهو كنّاش نبيه، قال: استقرّ أجدادنا في القدم بالأندلس بجهة بسطة، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس. وكان لهم استقرار في القيروان، لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك. وكان عمرون رجلا خيارا من أهل القرآن، وحجّ إحدى عشرة حجة، وغزا مع ابن أبي عامر غزوات كثيرة. وانتقل إلى سبتة بعد سكنى فاس، وكان موسرا، فاشترى بها من جملة ما اشتراه الأرض المعروفة بالمنارة، فبنى في بعضها مسجدا، وفي بعضها ديارا حبسها عليه، وهو الآن منسوب إليه، وولد له ابنه عياض، ثم ولد لعياض ابنه موسى، ثم ولد لموسى القاضي أبو الفضل المترجم به.
حاله: قال ولده في تأليفه النبيل: نشأ على عفّة وصيانة، مرضيّ الخلال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفا بالنّبل والفهم والحذق، طالبا للعلم، حريصا عليه، إلى أن برع في زمانه، وساد جملة أقرانه، فكان من حفاظ كتاب الله، مع القراءة الحسنة، والنّغمة العذبة، والصوت الجهير، والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه.
وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليا متكلّما، فقيها حافظا للمسائل، عاقدا للشروط، بصيرا بالأحكام، نحويا، ريّان من الأدب، شاعرا مجيدا، كاتبا غالبا بليغا، خطيبا، حافظا للغة والأخبار والتواريخ، حسن المجلس، نبيل النادرة، حلو الدّعابة،
__________
(1) ترجمة أبي الفضل عياض في قلائد العقيان (ص 221) ووفيات الأعيان (ج 3ص 424) وبغية الملتمس (ص 437) والصلة (ص 660) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 32، 132) وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 550) والديباج المذهب (ص 168) وإنباه الرواة (ج 2 ص 363) وتذكرة الحفاظ (ص 1304) وعبر الذهبي (ج 4ص 122) وشذرات الذهب (ج 4 ص 138) والنجوم الزاهرة (ج 5ص 285) وجذوة الاقتباس (ص 277) ومرآة الجنان (ج 3 ص 282) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 301) ونفح الطيب (ج 10ص 176، 185) وأزهار الرياض (ج 1ص 23) و (ج 4ص 5).
(2) نسبة إلى مدينة بسطة، وهي مدينة بالأندلس بالقرب من وادي آش، من كورة جيان، مشهورة بشجر التوت والمياه والبساتين. الروض المعطار (ص 113).(4/188)
صبورا، حليما، جميل العشرة جوادا، سمحا، كثير الصّدقة، دروبا على العمل، صلبا في الحق.
رحلته وولايته ومنشأ أمره: رحل إلى الأندلس سنة سبع وخمسمائة، فأخذ بقرطبة ومرسية وغيرهما، ثم عاد إلى سبتة، فأجلسه أهلها للمناظرة عليه في «المدوّنة»، وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عليها، ثم جلس للشورى. ثم ولّي القضاء، فسار في ذلك حسن السّيرة مشكور الطريقة، وبنى الزيادة الغربية في الجامع الأعظم.
وبنى بجبل الميناء الرابية الشهيرة، وعظم صيته. ثم نقل إلى غرناطة في أول صفر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فتقلّد خطّة القضاء بها. ثم ولّي قضاء سبتة ثانية. ولمّا ظهر أمر الموحّدين بادر بالمسابقة إلى الدخول في طاعتهم، ورحل إلى لقاء أميرهم بمدينة سلا، فأجزل صلته، وأوجب برّه، إلى أن اضطربت أمور الموحدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة، وحدث على من كان بقصبتها منهم ما هو معلوم من التغلب عليهم واستئصالهم، ثم من رجوع أمورهم، فالتاثت حاله، ولحق بمراكش مشرّدا به عن وطنه، فكانت بها وفاته.
مشيخته: ورتبهم ولده حسبما نقل من فهرسته على الحروف فمنهم أحمد بن محمد بن بقي، وأحمد بن سعيد بن مستقر، وأحمد بن محمد بن مكحول، وأحمد بن محمد السّلفي، الشيخ أبو الطاهر، وأحمد بن محمد بن غلبون بن الحصّار، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز المرحي، إلى غيرهم من جملة سبعة عشر رجلا، والحسن بن محمد الصّدفي بن سكّرة، والحسين بن محمد الغساني، والحسين بن عبد الأعلى السفاقسي، والحسن بن علي بن طريف، وخلف بن إبراهيم بن النحاس، وخلف بن خلف الأنصاري بن الأنقر، وخلف بن يوسف بن فرتون، ومحمد بن عيسى التجيبي القاضي، ومحمد بن علي بن حمدين القاضي، ومحمد بن أحمد التجيبي القرطبي القاضي ابن الحاج، ومحمد بن أحمد بن رشد، ومحمد بن سليمان النّفزي ابن أخت غانم. وأجازه محمد بن الوليد الطّرطوشي، ومحمد بن علي بن عمر المازري، ومحمد بن عبد الله المعافري القاضي ابن العربي، ومحمد بن عبد الرحمن بن شبرين القاضي، ومحمد بن علي الأزدي الخطيب الطّليطلي، ومحمد بن علي الشاطبي بن الصقيل، إلى غيرهم من جملة أحد وثلاثين شيخا، وعبد الله بن محمد الخشني، وعبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، وعبد الله بن محمد بن أيوب الفهري، وعبد الرحمن بن محمد السبتي ابن العجوز، وعبد الرحمن بن محمد بن بقي، وعلي بن أحمد الأنصاري ابن الباذش، وعلي بن عبد الرحمن التجيبي ابن الأخضر، من جملة من سبعة وعشرين، وغالب بن عطية(4/189)
المحاربي، وسراج بن عبد الملك بن سراج أبو الحسن، وسفيان بن العاصي الأسدي، من جملة خمسة من الأشياخ في هذا الحرف، وشريح بن محمد الرعيني الإشبيلي، وهشام بن أحمد القرطبي أبو الوليد بن العواد، وهشام بن أحمد الهلالي الغرناطي، ويونس بن محمد بن مغيث بن الصفار، ويوسف بن موسى الكلبي، سمع منه أرجوزته، ويوسف بن عبد العزيز بن عتريس الطليطلي.
شعره: قال: مما كتبته من خطّه (1): [المتقارب]
أعوذ بربّي من شرّ ما ... يخاف من الإنس والجنّه
وأسأله رحمة تقتضي ... عوارف توصل بالجنّه
فما للخلائق (2) من ناره ... سوى فضل رحماه من جنّه
ومن شعره، قال: أنشدنيه غير واحد من أصحابنا، فوا رحمة الله عليه: [الوافر]
أذات الخلّ (3)، كم ذا تنتضيها ... عليّ سيوف عينيك انتضاء (4)
بمطلك لي مواعد أقتضيها ... من التّوريد واللّعس اقتضاء (5)
فقضّي وعد مطلك وانجزيه ... «خيار الناس أحسنهم قضاء (6)»
قال: ومما كتبته من خطه (7): [البسيط]
يا من تحمّل عنّي غير مكترث ... لكنه للضّنى والسّقم أوصى بي (8)
تركتني مستهام القلب ذا حرق (9) ... أخا جوى وتباريح وأوصاب
أراقب النّجم في جنح الدّجى ولها (10) ... كأنّني (11) راصد للنجم أو صابي (12)
وما وجدت لذيذ النوم بعدكم ... إلّا جنى حنظل في الطعم أو صاب
__________
(1) الأبيات في أزهار الرياض (ج 4ص 270).
(2) في الأصل: «للخلّان»، والتصويب من أزهار الرياض.
(3) في الأصل: «الخلال» والتصويب من أزهار الرياض.
(4) في الأصل: «انتضاه»، والتصويب من الأزهار.
(5) في الأصل: «واللمس اقتضاه»، والتصويب من الأزهار.
(6) في الأصل: «قضاه»، والتصويب من الأزهار.
(7) الأبيات في أزهار الرياض (ج 4ص 241).
(8) في الأصل: «أوصاب»، والتصويب من الأزهار.
(9) في الأصل: «خوف»، والتصويب من الأزهار.
(10) في أزهار الرياض: «سهرا».
(11) في الأصل: «كأني»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الأزهار.
(12) في الأصل: «أوصاب»، والتصويب من الأزهار.(4/190)
ومن ذلك قوله رحمه الله (1): [البسيط]
الله يعلم أنّي منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
فلو قدرت ركبت الريح (2) نحوكم ... فإنّ (3) بعدكم عنّي جنى حيني (4)
قال: وكتبت من خطّه (5): [الكامل]
يا راحلين وبالفؤاد تحمّلوا ... أترى لكم قبل الممات قفول؟
أمّا الفؤاد فعندكم أنباؤه ... ولواعج تنتابه وغليل
أترى (6) لكم علم بمنتزح الكرى ... عن جفن صبّ ليله موصول؟
أودى بعزمة (7) صبره ولبابه ... طرف أحمّ (8) ومبسم مصقول
ما ضرّكم وأضنّكم بتحية ... يحيى بها عند الوداع قتيل
إن الخليل (9) بلحظه أو لفظه ... أو عطفه أو وقفه لبخيل
ومما نسبه إليه الفتح وغيره، ومن العجب إغفال ولده إياه، قوله يصف الزّرع والشقائق فيه (10): [السريع]
انظر إلى الزّرع وخاماته ... تحكي وقد (11) ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء (12) مهزومة ... شقائق النّعمان فيها جراح
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان (ج 3ص 425) وأزهار الرياض (ج 4ص 252).
(2) في الأصل: «المريخ»، وكذا ينكسر الوزن. وفي المصدرين: «البحر».
(3) في وفيات الأعيان: «لأنّ».
(4) في الأصل: «حين»، والتصويب من المصدرين.
(5) الأبيات في أزهار الرياض (ج 4ص 252251).
(6) في الأصل: «فترى» والتصويب من أزهار الرياض.
(7) في الأصل: «بعزته صبره وإبايه»، والتصويب من أزهار الرياض.
(8) في الأصل: «أصمّ» والتصويب من أزهار الرياض.
(9) رواية البيت في أزهار الرياض هي:
إن البخيل بلحظة أو لفظة ... أو عطفة أو وقفة لبخيل
(10) البيتان في قلائد العقيان (ص 223) ووفيات الأعيان (ج 3ص 425) ورايات المبرزين (ص 193) وأزهار الرياض (ج 4ص 241).
(11) في رايات المبرزين: «إذا».
(12) في رايات المبرزين: «كتائب تدبر». وفي القلائد: «كتائبا تحفل». وفي وفيات الأعيان: «كتيبة حمراء».(4/191)
نثره: وهو كثير. فمن خطبه، وكان لا يخطب إلّا بإنشائه:
الحمد لله الذي سبق كل شيء قدما، ووسع كل شيء رحمة وعلما ونعما، وهدى أولياءه طريقا نهجا أمما، وأنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا قيّما، لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا. أحمده على مواهبه، وهو أحقّ من حمد، وأسأله أن يجعلنا أجمع، ممن حظي برضاه وسعد، وأستعينه على طاعته، فهو أعزّ من استعين واستنجد، وأستهديه توفيقا، فإنّ من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده، لا شريك له، شهادة فاتحة لأقفال قلوبنا، راجحة بأثقال ذنوبنا، منزّهة له عن التّشبيه والتمثيل بنا، وأنه تعالى جدّ ربّنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أنزل عليه الفرقان، وبعثه بالهدى والإيمان، وأغزى بدعوته دعوة أولياء الشيطان، وأبعدهم مقاعد عن السمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
أيها السامع، قد أيقظك صرف القدر من سنة الهوى وتيّاراته، ووعظك كتاب الله بزواجره وعظاته، فتأمّل حدوده، وتدبّر محكم آياته، واتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته، ولن تجد من دونه ملتحدا. أين الذين عتوا على الله، وتعظّموا واستطالوا على عباده وتحكّموا، وظنّوا أنه لن يقدر عليهم حتى اصطلموا.
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. غرّهم الأمل وكواذب الظّنون، وذهلوا عن طوارق القبر وريب المنون، وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، حتى إذا رأوا ما يوعدون، فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا. فهذّبوا، رحمكم الله، سراركم بتقوى الله واخلصوا، واشكروا نعمته، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، واحذروا نقمته واتقوه. ولا تعصوا، واعتبروا بوعيده. {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحََابُ الصِّرََاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى ََ (135)} (1) وانهضوا لطاعته الهمم العاجزة، واركضوا في ميدان التّقوى، وحوزوا قصب خصله العابرة، وادخروا ما يخلصكم يوم المحاسبة والمناجزة، وانتظروا قوله: {وَيَوْمَ} [2] نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ فَلَمْ نُغََادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) (3) وذلك يوم تذهل فيه الألباب، وترجف القلوب رجفا، وتبدّل الأرض وتنسف الجبال نسفا، ولا يقبل الله فيه من الظالمين عدلا ولا صرفا. {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} (4) وعرضوا على ربّك صفّا، لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة،
__________
(1) سورة طه 20، الآية 135،
(2) في الأصل: «يوم».
(3) سورة الكهف 18، الآية 47.
(4) سورة طه 20، الآية 102.(4/192)
بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا، اللهمّ انفعنا بالكتاب والحكمة، وارحمنا بالهداية والعصمة، وأوزعنا شكر ما أوليت من النّعمة. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيّئ لنا من أمرنا رشدا.
تواليفه: مما أكمله وقرىء عليه كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» ستة أجزاء. وكتاب «إكمال المعلم في شرح مسلم» تسعة وعشرون جزءا. وكتاب «المستنبطة على الكتب المدوّنة والمختلطة» عشرة أجزاء. وكتاب «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك» خمسة أسفار، ولم يسمعه. وكتاب «الإعلام بحدود قواعد الإسلام». وكتاب «الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع» سفر. وكتاب «الرّائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد». وكتاب خطبه، سفر.
وكتاب المعجم في شيوخ أبي سكّرة. وكتاب الغنية في شيوخه، جزء. ومما تركه في المبيضة كتاب «مشارق الأنوار على صحيح الآثار» ستة أجزاء ضخمة، وهو كتاب جليل. وفيه يقول الشاعر: [الطويل]
مشارق أنوار تبدّت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب
وكتاب «نظم البرهان على صحّة جزم الأذان» جزء. وكتاب «مسألة الأهل المشترط بينهم التزاور» جزء. ومما لم يكمله «المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان».
وكتاب «الفنون الستّة في أخبار سبتة». وكتاب «غنية الكاتب وبغية الطالب» في الصدور والتّرسيل. وكتاب «الأجوبة المحبّرة، على الأسئلة المتخيّرة» وجدت منها يسيرا فضممته إلى ما وجدته في بطائقه وعند أصحابه. يقول هذا ولده من معان شاذة في أنواع شتى سئل عنها، رحمة الله عليه، فأجاب: جمعت ذلك في جزء.
وكتاب أجوبة القرطبيين وجدتها بطابق، فجمعتها مع أجوبة غيرهم. وأجوبته مما نزل في أيام قضائه، من نوازل الأحكام في سفر، وكتاب «سر السّراة في أدب القضاة».
نبذ من أخباره: وأولا في ثناء الأعلام عليه قال ولده: أخبرني ابن عمي الزاهد أن القاضي أبا عبد الله بن حمدين كان يقول له وقت رحلته إليه: وحتى، يا أبا الفضل، إن كنت تركت بالمغرب مثلك. وقال: وأخبرني أن أبا الحسين بن سراج قال له، وقد أراد الرحلة إلى بعض الأشياخ: فهو أحوج إليك منك إليه.
وقال: إن الفقيه أبا محمد بن أبي جعفر قال له: ما وصل إلينا من المغرب مثل عياض، وأمثال ذلك كثير، ومن دعابته، قال بعض أصحابنا: صنعت أبياتا تغزلت فيها، والتفت إلى أبيك، رضي الله عنه، ثم اجتمع بي، فاستنشدني إياها،
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 13
فوجمت، فعزم عليّ فأنشدت: [الطويل](4/193)
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 13
فوجمت، فعزم عليّ فأنشدت: [الطويل]
أيا مكثرا صدى ولم آت جفوة ... وما أنا عن فعل الجفاء براض
سأشكو الذي توليه من سوء عشرة ... إلى حكم الدنيا وأعدل قاض
ولا حكم بينك أرتضي قضاياه ... في الدنيا سوى ابن عياض
قال: فلمّا فرغت حسّن، وقال: متى عرفتني قوادا يا فلان، على طريق المداعبة. وأخباره حسنة وفضائله جمة.
مولده: بسبتة حسبما نقل من خطّه في النصف من شعبان عام ستة وسبعين وأربعمائة.
وفاته: توفي بمراكش ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة من عام أربعة وأربعين وخمسمائة، ودفن بها في باب إيلان من داخل السّور.
عقيل بن عطية بن أبي أحمد جعفر بن محمد ابن عطية القضاعي (1)
من أهل طرطوشة، يكنى أبا المجد (2).
حاله: كان فقيها متطرّفا في فنون من العلم، متقنا لما يتناوله من ذلك، حسن التهدّي، من بيت طلب. وقد تقدّم ذكر جدّه الأستاذ. ولّي عقيل قضاء غرناطة وسجلماسة.
مشيخته: روى (3) عن أبي القاسم بن بشكوال. قرأ عليه وسمع، وتناول من يده، وأجاز له. وقفت على ذلك بخطّه.
شعره: أنشد له في «الذيل» (4) قوله مما نظمه لجماعة من السّادة: [الوافر]
ملوك دون بابكم وقوف ... سطت بهم الحوادث والصّروف
أذلّهم الزمان وكان قدما ... لهم راع وحولهم يطوف
غدوا عبرا لمعتبر فسحقا ... لدنيا أمرها أمر سخيف
__________
(1) ترجمة عقيل بن عطية القضاعي في التكملة (ج 4ص 33) والديباج المذهب (ج 2ص 135).
(2) في التكملة: «يكنى أبا طالب وأبا المجد».
(3) قارن بالتكملة (ج 4ص 33).
(4) هذه الأبيات لم ترد في الذيل والتكملة المطبوع.(4/194)
وطال وحقّ مجدك ما تبدّوا ... وحولهم الغواضب والسيوف
أسود يقدمون أسود حرب ... وخلفهم العساكر والصفوف
أتى بهم الزمان إليك قصدا ... حيارى فيه يعجزهم رغيف
فعطفا أيها المولى عليهم ... وقاك السوء باريك اللطيف
فرحمة سيّد قد ذلّ فرض ... يقول به النّبي الهادي الشريف
وما يرعى الكرام سوى كريم ... وأنت الماجد النّدي العطوف
تواليفه: قال الأستاذ: وقفت على تأليف سماه «فصل المقال، في الموازنة بين الأعمال» تكلّم فيه مع أبي عبد الله الحميدي وشيخه أبي محمد بن حزم، فأجاد فيه وأحسن وأتى بكل بديع، وشرح المقامات الحريرية.
وفاته: في صفر سنة ثمان وستمائة.
ومن الكتّاب والشعراء
عاصم بن زيد بن يحيى بن حنظلة بن علقمة بن عدي بن محمد التميمي ثم العبادي الجاهلي (1)
يكنى أبا المخشي (2)، من أهل إلبيرة.
حاله: كان شاعرا مجيدا، شهير المكان، بعيد الصّيت على عهده. قال أبو القاسم: كان من أعلام الجند ومقدميهم. وقال الرّازي: دخل والده زيد بن يحيى من المشرق إلى الأندلس، واختطّ بكورة جند دمشق، وشهر ابنه عاصم هذا بالشّعر، إذ كان غزير القول، حسن المعاني، كثير النادر، سبط اللفظ، فاغتدى شاعر الأندلس، ومادح بني أمية، المخلّف فيهم قوافي شعر (3) المديح الشاردة، وقد كان في لسانه بذاءة زائدة، يتسرّع به إلى من لم يوافقه من الناس، فيقذع هجوهم، ويقذف نساءهم ويهتك حرمهم. وكان أفّاكا نهابا، لا يعدم متظلّما منه، وداعيا عليه، وذاكرا له بالسوء، وهو مستهزئ بذلك، جار على غلوائه.
__________
(1) ترجمة أبي المخشي عاصم بن زيد في جذوة المقتبس (ص 401) وبغية الملتمس (ص 528) والذيل والتكملة (ج 5ص 102) وتاريخ افتتاح الأندلس (ص 56) والمغرب (ج 2ص 123).
(2) في الأصل: «المخشبي»، وقد صوّبناه أينما ورد.
(3) في الأصل: «الشعر».(4/195)
محنته: قال (1): وكان مع ذلك منقطعا إلى سليمان ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية، كثير المدح له، على أنه ما أخلى الأمير هشاما من مدحه، وهو مع ذلك لا يسأل سخيمته وحقده عليه لانحطاطه في شعب سليمان أخيه، وبينهما من التنافس والمشاحة ما لا شيء فوقه. وروي (2) أن الذي هاج غضب هشام عليه، أن قال له الساعي عليه: قد عرّض بك بقوله في مديح أخيك سليمان في شعر له فيه منه (3):
[الوافر]
وليس كمثل من إن سيل عرفا (4) ... يقلّب مقلة فيها اعورار (5)
وكان هشام أحول، فاغتاظ لذلك. وركب فيه من المثلة وركبه، وحقد عليه، إلى أن استدعاه إلى مدينة ماردة، وهشام يومئذ واليها في حياة الأمير أبيه، فخرج إليه أبو المخشي من قرطبة، طامعا في نائله، غير مرتاب بباطنه، فلمّا دخل عليه قال له:
يا أبا المخشي، إن المرأة الصالحة التي هجوت ابنها فقذفتها، فأفحشت سبّها، قد أخلصت دعاءها لله في أن ينتقم لها منك، فاستجاب لها، وسلّطني وتأذّن بالاقتصاص لها على يدي منك، ثم أمر به فقطع لسانه، وسمّلت عيناه، وعولج من جراحه، فاستقل منها، وعاش زمنا ممثّلا به. فأما لسانه، فانجبر بعيد وقت إلّا قليلا، واقتدر على الكلام إلّا تلعثما كان يعترضه، واستمرّ العمى، فعظم عليه مصابه، فكثرت في شكواه أشعاره. قال: ويذكر أن قصة أبي المخشي في نبات لسانه، لما بلغت مالك بن أنس، أشار إليها في فتواه في التأنّي بديّة اللسان طمعا في نبتها، وقال:
يتأنّى بالحكم عاما، فإن نبت أو شيء منه، عمل في ديّته بحسب ذلك، فقد بلغني أن رجلا بالأندلس نبت لسانه أو أكثره بعدما قطع، فأمكنه الكلام.
شعره: قالوا: وبلغ الأمير عبد الرحمن بن معاوية صنيع ابنه هشام بمادحهم أبي المخشي، فساءه وكتب إليه يعنّفه، وأوصل أبا المخشي إليه عند استيلائه بعد حين، فاعتذر إليه ورقّ له، وأنشده بعض ما أحدثه بعد، فكان لا يبين الإنشاد، فينشد له صبيّ كان قد علّمه ودرّبه، فأنشده قصيدته التي وصف فيها عماه وأولها (6):
__________
(1) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 102).
(2) قارن بالمغرب (ج 2ص 124).
(3) البيت في المغرب (ج 2ص 124) والذيل والتكملة (ج 5ص 103).
(4) في الأصل: «وليسوا مثل من بان سيل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المغرب. وفي الذيل والتكملة: «وليس كشانىء إن سيل».
(5) في الأصل: «أعونه» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدرين.
(6) الأبيات في: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة (ص 8786). وورد منها ستة أبيات في الذيل والتكملة (ج 5ص 103) وأربعة أبيات في تاريخ افتتاح الأندلس (ص 57).(4/196)
[الرمل]
خضعت أمّ بناتي للعدى ... إذ قضى الله بأمر فمضى (1)
ورأت أعمى ضريرا إنما ... مشيه في الأرض لمس بالعصا
فبكت (2) وجدا وقالت قولة ... وهي حرّى (3) بلغت منّي المدى
ففؤادي قرح (4) من قولها: ... ما من الأدواء داء كالعمى (5)
وإذا نال العمى ذا بصر ... كان حيّا مثل ميت قد ثوى (6)
وكأنّ الناعم (7) المسرور لم ... يك مسرورا إذا لاقى (8) الرّدى
عانى بالقرب وهنا طرب ... بيّن لجّ في الحمى
(9) ... كيف يعتاد الصّبا من لا يرى
أبصرت مستبدلا من طرفه ... قائدا (10) يسعى به حيث سعى
بالعصا إن لم يقده قائد (11) ... وسؤال الناس يمشي إن مشى
وإذا ركب دنوا كان (12) لهم ... هوجلا في المهمه الخرق الصّوى (13)
لم يزل في كلّ مخشيّ الرّدى (14) ... يصطلي الحرب ويجتاب الدّجى
امتطيناها سمانا بدنا ... فتركناها نضاء بالفنا
وذريني (15) قد تجاورت بها ... مهمها فقرا إلى أهل النّدى
__________
(1) في الذيل وتاريخ افتتاح الأندلس: «أن قضى الله قضاء فمضى».
(2) في تاريخ افتتاح الأندلس: «فاستكانت ثم قالت».
(3) في الأصل: «وهي حدا حلّقت منّي»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المراجع الثلاثة.
(4) في الأصل: «فرح»، والتصويب من المراجع الثلاثة.
(5) في الأصل: «أس العما»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المراجع الثلاثة.
(6) في الأصل: «نعا»، والتصويب من الذيل والتكملة، والأدب الأندلسي.
(7) في الأصل: «وكان للناعم»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من الذيل والتكملة والأدب الأندلسي.
(8) في الذيل والتكملة: «لاح».
(9) بياض في الأصول.
(10) في الأصل: «فأنذا»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من الأدب الأندلسي.
(11) في الأصل: «فإنه»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المرجع السابق.
(12) في الأصل: «كأنّ»، وكذا يختل المعنى والوزن، والتصويب من الأدب الأندلسي.
(13) في الأصل: «هو حملا في المهمة الخراف الصدى»، والتصويب من المرجع السابق.
والهوجل: البطيء الثقيل. والمهمه: المفازة. والخرق: القفر. والصّوى: جمع صوة وهي ما غلظ وارتفع عن الأرض.
(14) في الأدب الأندلسي: «السّرى».
(15) في الأصل: «وذرّيتي»، وكذا يختل الوزن والمعنى.(4/197)
قاصدا خير مناف كلها ... ومناف خير من فوق الثّرى
وهي طويلة. ومن شعره في الوقيعة بأبي الأسود الفهري (1)، وكانت عظيمة من أعظم فتوحات الأمير عبد الرحمن (2): [الكامل]
ماذا تسائل (3) عن مواقع معشر ... أودى بهم (4) طلب الذي لم يقدر
رشد الخليفة إذا غووا فرماهم ... بالموبذيّ الجهم (5) والمتأزّر
فغدا (6) سليمان السّماح عليهم ... كالليث لا يلوي على متعذّر
غاداهم (7) متقنّعا في مأزق ... بالموت مرتجس العوارض ممطر (8)
أما سليمان السماح فإنه ... جلّى الدّجى وأقام ميل الأصعر
وهو الذي ورث النّدى أهل النّدى ... ومحا مغبّة (9) يوم وادي الأحمر
بعدا لقتلى بالمجانص (10) أصبحت ... جيفا تلوح عظامها لم تقبر
فالليل فيها للذئاب فرائس (11) ... ونهارها وقف لنهش (12) الأنسر
أفناهم سيف مبير صارم (13) ... في قسطلونة بل (14) بوادي الأحمر
فلتركبنّك (15) ما هربت مخافة ... منه فقع يا ابن اللّقيطة أو طر
__________
(1) هو محمد بن يوسف الفهري، الذي ثار على عبد الرحمن الداخل بعد مقتل أبيه يوسف.
(2) الأبيات في: الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة (ص 82).
(3) في المرجع السابق: «وإذا تساءل».
(4) في المرجع السابق: «وذويهم».
(5) في الأصل: «بالحزم»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المرجع السابق. والموبذيّ:
فقيه الفرس وحاكم المجوس. والجهم: الغليظ.
(6) في المرجع السابق: «وغدا».
(7) في الأصل: «عاداهم»، والتصويب من المرجع السابق.
(8) في الأصل: «في الموت من بخس العوارض الممطر»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المرجع السابق.
(9) في الأصل: «دجنة»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المرجع السابق.
(10) في الأصل: «بعد القتلى بالمخايض»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من المرجع السابق. والمجانص: جمع مجنص وهو اسم مكان من جنص أي مات فزعا.
(11) في الأصل: «للذباب عرايس»، والتصويب من المرجع السابق.
(12) في المرجع السابق: «وقع لنبش».
(13) في المرجع السابق: «مبيد طرفه».
(14) في الأصل: «وبل»، والتصويب من المرجع السابق.
(15) في الأصل: «هات عنك»، والتصويب من المرجع السابق.(4/198)
وفاته: قال ابن حيان: قرأت بخطّ عبادة الشاعر، قال: عمّر أبو المخشي بعد محنته الشنعاء حتى لحق دولة الأمير عبد الرحمن (1)، فوالى بين مديح أربعة أمراء (2)، ما بينه وبين جدّه عبد الرحمن بن معاوية الأمير الداخل. وتوفي بعد ذلك قريبا من تاريخ الثمانين والمائة (3)، وبعد عليه لحاق دولة الأمير عبد الرحمن لهذا التاريخ.
ومن الأصليين من ترجمة المحدّثين الفقهاء والطلبة النجباء
عيسى بن محمد بن أبي عبد الله بن أبي زمنين المرّي
يكنى أبا الأصبغ، من أهل إلبيرة.
حاله: نبيه القدر، وروى عن شيوخ بلده.
حاله: توفي بعد الأربعمائة. قلت: قد اعتذرت، وتقدم الاعتذار في إثبات من أثبته من هذا البيت في هذا الاختصار من هذا النمط، فلينظر هنالك إن شاء الله.
عيسى بن محمد بن عيسى بن عمر بن سعادة الأموي
لوشي الأصل، غرناطي الاستيطان والقراءة، يكنى أبا موسى، الشيخ الطبيب بالدار السلطانية.
حاله: من «عائد الصلة»: بقية أهل العلم، ونسيج وحده في لين الجانب، وخفض الجناح، وحسن الخلق، وبذل التواضع، ممتع من معارف قديمة، بين طلب وتعليم، على حال تديّن والتزام سنّة، أقرأ الطّبّ، وخدم به الدار السلطانية، وولّي القضاء بلوشة بلده.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي عبد الله الرّقوطي المرسي ولازمه، وأخذ عن أبي الحجاج بن خلصون، وأدرك أمّة من صدور العلماء.
تواليفه: له تأليف كبير متعدد الأسفار سماه كتاب «القفل والمفتاح، في علاج الجسوم والأرواح»، تضمّن كثيرا من العلم الطبي وما يتعلق به، رأيت أجزاء من مسودته بيد ولده.
__________
(1) المراد عبد الرحمن الثاني الذي حكم الأندلس من سنة 206هـ إلى سنة 238هـ.
(2) الأمراء الأربعة هم: عبد الرحمن الداخل (172138هـ) وهشام الرضا (180172هـ) والحكم الربضي (206180هـ) وعبد الرحمن الثاني (238206هـ).
(3) هذا التاريخ يناقض ما قاله ابن حيان نقلا عن عبادة الشاعر.(4/199)
وفاته: توفي بغرناطة ليلة السبت الخامس عشر لجمادى الآخرة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة.
حرف الغين من الأعيان
غالب بن أبي بكر الحضرمي
من أهل غرناطة، يكنى أبا تمام، ويعرف بابن الأشقر.
حاله: كان قائدا جزلا مهيبا، مليح التجنّد، معروف الدّربة والثقافة، مشهور الفروسية، ظريف الشكل، رائق الرّكبة، حسن الشّيبة، صليب العود، مرهوب السطوة، ولّي قيادة العسكر زمانا طويلا، فوقع الإجماع على أهليته لذلك تمييزا للطبقات، وانتهاضا بالخدمة، وإنفاذا للعزمة، ومعرفة بالعوائد، واقتدارا على السهر في تفقّد المسالح، واختبار المراصد، واختيار الحرس، وتنظيم المصاف، وإمساك السّيقة ممن يرجع إلى حصيف رأيه، ويركن إلى يمن حنكته، ويعترف بحقه. لقي الجند منه ضغطا لاضطلاعه باستخدامهم، وجعل العقاب من وراء تقصيرهم فقد كان بعض نقبائه يحمل معه مقصّا لإيقاع المثلة بذقون مضيّعي المسلحة أو متهيّبي الملحمة. ولمّا أوقع بالسلطان أمير المسلمين أبي الوليد قرابته بباب داره بما هو مشهور، نمي عنه أنه اخترط سيفه. وكان ممن أثخن الوزير يومئذ جراحة لا يعلم أحيرة وغلطا، أم تواطأ وقصدا، فقد كان من مرج الناس يومئذ، وإعمال بعضهم السلاح في بعض ما هو معلوم، فعزل عن الخطّة، وسئم خطة الخمول، ففقد مكانه من العناء، واضطر إليه.
وفاته: توفي بغرناطة عشية يوم الخميس الثاني والعشرين لشوال عام سبعة وعشرين وسبعمائة، ودفن قرب باب إلبيرة.
ومن المقربين
غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام ابن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن خفاف ابن أسلم بن مكتوم المحاربي، أبو بكر
حاله: كان من أهل العلم والعمل، مقرئا فاضلا، راوية، حجّ وروى، وكفّ بصره في آخر عمره.(4/200)
مشيخته: قرأ القرآن بالسّبع على أبي الحسن بن عبد الله الحضرمي، ودرس الفقه وناظر فيه على سعيد بن خلف بن جعفر الكناني. وروى عن أبي علي الغساني، وعن أبيه عبد الرحمن بن غالب، وأبي عمر بن عبد البر، الإمام الحافظ.
من روى عنه: حدّث عنه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال، وأبو عبد الله بن عبد الرحيم القاضي، وعبد الله بن طلحة بن أحمد بن عطية.
شعره: قال يحذر من أبناء الزمن: [الرمل]
كن بذيّا صائد مستأنسا ... وإذا أبصرت إنسانا ففر
إنما الإنسيّ بحر ما له ... ساحل فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذاك الشخص حذر
وله رحمه الله: [الكامل]
كيف السّلوّ ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لمّا درى أن الخيال مواصلي ... جعل السّهاد على الجفون رقيبا
مولده: ولد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
وفاته: توفي ليلة الجمعة لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة (1)
وخمسمائة.
غالب بن حسن بن غالب بن حسن بن أحمد بن يحيى ابن سيد بونه الخزاعي (2)
يكنى أبا تمام.
أوليته وحاله: أصل (3) سلفه من بونة (4) من بلد إفريقية، واستوطن جدّه بالأندلس قرية زنيتة من وادي (5) لستة شرقي الأندلس من عمل قسنطانية، وملك فيها
__________
(1) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.
(2) ترجمة غالب بن حسن ابن سيد بونة في تاريخ قضاة الأندلس (ص 172).
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 173172).
(4) بونة: مدينة قديمة من بلاد إفريقية، على ساحل البحر، مرساها من المراسي المشهورة، وتسمى بونة بلد العنّاب لكثرة العنّاب فيها. الروض المعطار (ص 115).
(5) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 173): «وادي آش من عمل دانية».(4/201)
أموالا عريضة. ولمّا ظهر سبطه وليّ الله أبو أحمد (1) شيخ المريدين بذلك الصقع، وظهرت عليه البركات، وشهدت بولايته الكرامات، غمرتهم بركته، ونوّهت بهم شهرته، إلى أن استولى العدو على تلك الجهات، بعد وفاة الشيخ، رضي الله عنه، فهاجرت ذريته إلى غرناطة، بعد استيطانهم مدينة ألش، وبنوا بالرّبض المعروف بربض البيّازين، واقتطعوا وامتطوا، واتخذوا دار إقامة، وانتشرت به نحلتهم الإرادية (2)، وانضمّ إليهم من تبعهم من جالية أهل الشرق، وتقدّم هذا الشيخ بعد، شيخا ويعسوبا وقاضيا وخطيبا به، بعد خاله، رحمه الله، فقام بالأعباء، سالكا سنن الصالحين من أهل الجلد والجدّة والقوة والرجولة، من الإيثار والمثابرة على الرباط، والحفوف (3)
إلى الجهاد، كان مليح الشّيبة، كثير التّخلق، جمّ التواضع، مألفا للغرباء، مبذول البشر، حسن المشاركة، رافضا للتصنّع، مختصر المطعم والملبس، بقية من بقايا الجلّة، معتمدا في مجالس الملوك بالتّجلّة.
مشيخته: يحمل عن والده أبي علي، وعن خاله، وعن الخطيب أبي الحسن ابن فضيلة، وغيرهم.
تواليفه: له تأليف في تحريم (4) سماع اليراعة المسماة بالشّبّابة، وعلى ذلك درج جمهورهم.
مولده: في ذي القعدة من عام ثلاثة وخمسين وستمائة.
وفاته: توفي في عاشر شوال من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وكان الحفل في جنازته يشذّ عن الوصف، ودفن بمقبرتهم.
غالب بن علي بن محمد اللخمي الشقوري
من أهل غرناطة، يكنى أبا تمام.
حاله: كان من أهل الفضل والدّماثة، حسن الخلق، وسيم الخلق، مليح الانطباع، مستطرف الأغراض، من بيت كسب وخيريّة. رحل في شبيبته إلى المشرق، فحجّ، وقرأ الطب بالمارستان من القاهرة المعزّية، وحذق العلاج على طريقة المشارقة، وأطرف بكثير من أخبارهم، وانتصب للمداواة ببجاية بعد مناظرة لها
__________
(1) هو أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة، كما جاء في تاريخ قضاة الأندلس (ص 173).
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «ونشروا مذهبهم في الإرادة».
(3) في المصدر نفسه: «والخفوق».
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «منع».(4/202)
حكاية. وقدم على بلده، فنبه به قدره، واستدعي إلى باب السلطان فخدم به، ثم تحول إلى العدوة، فاتصل بخدمة ملكها السلطان أمير المسلمين أبي سعيد، مسوّغا ما شاء من قبول، ولطف محلّه عنده لانطباعه ولين عريكته وتأنيه لما يوافق غرضه من سبيل الفكاهة، وولّي الحسبة بمدينة فاس، وأثرى وحسنت حاله. وكان مثالا لأهل بلده، موصوفا بالجود وبذل المشاركة لمتغرّبيهم.
وله تواليف طيّبة، كان لا يفتر عن الاشتغال بها، بحسب ما فتح له من الإدراك، فمنها نبيل ووبيل. ولمّا انتقل الأمر إلى أمير المسلمين أبي الحسن، وصل حبل رعيه، طاويا بساط الهزل في شأنه، واتصلت خدمته إياه إلى حين وفاته.
وفاته: توفي في أوائل عام أحد وأربعين وسبعمائة بسبتة، عند حركة أميره المذكور إلى الجواز للأندلس برسم الجهاد، الذي محصه الله فيه بالهزيمة الكبرى.
مولده: (1).
حرف الفاء الأعيان والكبراء
فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر (2)
الرئيس الجليل، أبو سعيد، وكان حقّه أن يفرد له باب في الأمراء، لكنه الأبواب المتعددة الأسماء، نؤثر فيها الجمع والاختصار كما شرطنا.
أوليته: معروفة وكان والده، رحمه الله، صنو أمير المسلمين الغالب بالله (3)
أبي عبد الله، وآثره بمدينة مالقة وما يرجع إليها، عند تصير الملك إليه أو بعده. وكان دونه في السّنّ، فاستمرّت أيامه بها إلى أن توفي، رحمه الله، وتصيّر أمره إلى الرئيس أبي محمد بن إشقيلولة، وتخللت ذلك الفتن، حسبما وقع الإلماع به، وتصيّر أمرها إلى ملوك المغرب. ثم لما انجلت الحال عن عودتها إلى الملك النّصري، ولّى عليها الرئيس أبا سعيد، ومكّنه من ميراث سلفه بها، وهو كما استجمع شبابه، وعقد له
__________
(1) بياض في الأصول.
(2) ترجمة أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر في اللمحة البدرية (ص 3635، 75، 88، 111).
(3) هو أول سلاطين بني نصر بغرناطة، وهو محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من عام 635هـ إلى عام 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).(4/203)
على ابنته الحرة لباب الملك، فقام بأمرها خير قيام، وثبت لزلزال الفتنة، حسبما هو مذكور في موضعه.
حاله: كان هذا الرئيس نسيج وحده في الحزم والجزالة وفخامة الأحوال، مما يرجع إلى الفتية. ناغى السلطان ابن عمّه في اقتناء العقار، وتخليد الآثار، فيما يرجع إلى الفلاحة والاعتمار والازدياد والاستكثار، وأربى عليه بإنشاء المراكب الكبار، فعظمت غلّاته، وضاقت المسارح عن سائمته، وغصّت الأهراء بحبوبه، وسالم الخرج دخل ماله، فبذّ الملوك جدة ويسارا، تقتحم العين منه ظاهرا ساذجا، غفلا من الزينة والتصنّع، في طيّه ظرف وذكاء وحنكة وحلاوة، جهوريا، مرسل عنان النّادرة، باذلا النصفة، مهيب السّطا، خصيب المائدة، شهير الجلالة، بعيد الصيت. ولّي مالقة عام سبعة وسبعين وستمائة، فعانى بها الشّدة واللّيان، حتى رسخت بها قدمه، وطالت لأهلها صحبته، وعظم بها قراره وعساكره، وأينعت غرسانه، ونمت متاجره، وتبنّكت النّعيم حاشيته، وأضيفت إليه الجزيرة الخضراء، فاتسعت العمالة، وانفسحت الخطّة، إلى أن كان من تغلّبه على مدينة سبتة، واستيلائه عليها، مما وقع الإلماع به في موضعه من هذا الكتاب، في شهر شوال عام خمسة وسبعمائة، فساس رعيتها، وتملّك جبالها، وشنّ الغارة على ما وراءها، وتملّك القصر المضاف لها، ولم يزل نظره عليها، إلى أواخر ذي قعدة من عام ثمانية وسبعمائة، فصرف عنها، وجهل قدره، وأوغر صدره، وأوعز للولاة بالتضييق على حاشيته، فدعا بمالقة إلى نفسه في شهر شعبان من عام أحد عشر وسبعمائة، وقدّم لطلب الملك ولده إسماعيل، وسمّاه السلطان، ورتّب له الألقاب، ودوّن الدواوين، فنزع إليه الجند، وانضافت إلى عمالته الحصون. ثم وقعت المهادنة، وأعقبتها المفاتنة، وكان من أمره ما وقع التّنبيه على عيون منه في ذكر ولده.
نكبته: ولمّا استأصلت القطيعة محتجنه الراكد في مغابن الخزائن من لدن عام سبعة وسبعين وستمائة، واستنفدت عتاده المطاولة، نظر لنفسه فوجّه كاتبه الوزير أبا عبد الله بن عيسى، وعاقده على الخروج له عن مالقة، متعوّضا عنها بمدينة سلا من عمل ملك المغرب، وتمّ ذلك في شهر رمضان من عام ثلاثة عشر وسبعمائة، وذاع خبره، وضاقت بأولياء انتزائه السّبل، إذ تحققوا بإخفاق المسعى، وسقوط العشيّ بهم على سرحان من سلطانهم الراغبين عنه، فداخلوا ولده المقدّم الأمر، أبا الوليد، واتفق أمرهم على خلعه، ومعاجلة الأمر قبل تمامه، في (1) من شهر رمضان، ركب
__________
(1) بياض في الأصول.(4/204)
الرئيس، رحمه الله، في نفر من مماليكه المروقة إلى بعض بساتينه، فلمّا قضى وطره، وهمّ بالخروج عنه، اعترضه القوم عند بابه، فالتفّوا به، وأشعروه غرضهم فيه، وجاءوا به إلى بعض القصور بظاهر البلد، فجعلوه به تحت رقبة، وقد بادر ولده القصبة، فاستولى عليها من غير ممانعة لعدم استرابة ثقاته به، إلّا ما كان من خائن يتولّى القيام ببعض أبوابها همّ بسدّه، فطاح لحينه، وتمّ لولده الاستبداد بالأمر، واستولى على النّصب والذخيرة وباقي المال، ونقل الرئيس إلى معقل قرطبة، فلمّا خلص الأمر لولده، انتقل إلى معقل شلوبانية، فلم يزل به لا يبرح عن باب قصره، مرفّها عليه إلى أن قضى نحبه.
وفاته: في الرابع عشر لشهر ربيع الأول من عام عشرين وسبعمائة، توفي، رحمه الله، بشلوبانية، وجيء بجنازته محمولا على رؤوس صدور الدولة ووجوه رجالها، متناغين في لباس شعار الحزن بما لم يتقدّم به عهد، ودفن بمقبرة السّبيكة، وولده أمير المسلمين واقف بإزاء لحده، مظهر الاكتراث لفقده، وعلى قبره الآن مكتوب نقشا في الرخام البديع ما نصّه:
«هذا قبر علم الأعلام، وعماد دين الإسلام، جواد الأجواد، أسد الآساد، حامي الثغور وممهّد البلاد، المجاهد في ذات الله حقّ الجهاد، شمس الملك وبدره، وعين الزمان وصدره، الكريم الأخلاق، الطاهر الذات والأعراق، الذي سار ذكره في الآفاق، وخلّد من فضائله ما تتحلّى به ظهور المنابر وبطون الأوراق، كبير الإمامة النّصرية، وعظيم الدولة الغالبية، فرع الملك وأصله، ومن وسع الأنام عدله وفضله، مخلّد الفخر الباقي على الأعصار، والعمل الصالح الذي ينال به الحسنى وعقبى الدار، بسلالته الطاهرة الكريمة المآثر والآثار، الإمام الرضي ناصر دين المختار، المنتخب من آل نصر ونعم النسب الكريم في الأنصار، الهمام، الأكبر، الأشهر، المقدم، المرحوم، الأطهر، أبو سعيد بن الإمام الأعلى، ناصر دين الإيمان، وقاهر عبدة الصلبان، صنو الإمام الغالب بالله، ومجهز الجيوش في سبيل الله، سهام العدا، وغمام النّدى، وضرغام الحروب، ذي البأس المرهوب، والجود المسكوب، بطل الأبطال، ومناخ الآمال، المجاهد، الظاهر، المقدّس، المرحوم، أبي الوليد بن نصر، قدّس الله مضجعه، ورقاه إلى الرفيق الأعلى ورفعه. كان، رضي الله عنه، وحيد عصره، وفريد دهره، علت في سماء المعالي رتبه، وكرم من أمير المسلمين صهره ونسبه، فلا يزاحم مكانه، ولا يدانى منصبه، نفذت أحكامه في الشرق والغرب، ومضت أوامره في العجم والعرب، إلى أن استأثر الله به، فكانت وفاته ليلة الخميس الرابع عشر لشهر ربيع الأول من عام عشرين وسبعمائة، وكان مولده يوم الجمعة(4/205)
الثامن لشهر رمضان المعظم من عام ستة (1) وأربعين وستمائة، فسبحان الله الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق: [الطويل]
سلام على قبر المكارم والمجد ... مقام الرضى والفوز والبشر والسّعد
مثابة إحسان ومعهد رحمة ... ومستودع العلياء (2) والسّرّ والعدّ
فيا أيها القبر الذي هو روضة ... تفوح شذى أذكى من المسك والنّدّ
لك الفضل إذ حملت أرضى أمانة ... تؤدّى بإكرام إلى جنة الخلد
ففيك من الأنصار من آل نصرهم ... همام كريم الذات والأب والجدّ
وقسم (3) أمير المسلمين ابن عمّه ... ونخبة بيت الملك واسطة العقد
وحامي ذمار الدين ناصره أبو ... سعيد عماد الملك في الحلّ والعقد
ليبكي (4) أمير العدوتين بواجب ... من الحق أبناء الوغى وبنو الرّفد
وتبكي بلاد كان مالك أمرها ... أفاض بها النّعماء سابغة الورد
أقام بها العدل والفضل سنّة ... بإنصاف مستعد وإسعاف مستجد
وتبكي أسى ملء العيون لفقده ... وبالحق لو فاضت نفوس من الوجد
فيا أيها المولى الذي لمصابه ... بدا الحزن حتى في المطهّمة الجرد
لك الله ما أعلى مكارمك التي ... تسير بها الركبان في الغور والنّجد
وحسبك أن أورثت خير خليفة ... وأبديت منه للورى علم الرّشد
إمام هدى أعماله لهي (5) رحمة ... تنال بها الزّلفى من الصّمد الفرد
عليك من الرحمن أزكى تحية ... توفّيك من إحسانه غاية القصد
فرج بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر (6)
الأمير أبو سعيد، ولد أمير المسلمين ثاني (7) الملوك النصريين، ابن الغالب بالله.
__________
(1) في الأصل: «ست»، وهو خطأ نحوي.
(2) في الأصل: «العليا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «قسم»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «لبّيك»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «لله»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) أخبار فرج بن محمد في اللمحة البدرية (ص 52).
(7) ثاني ملوك النصريين هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، حكم غرناطة بعد والده الغالب بالله، من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. اللمحة البدرية (ص 50).(4/206)
حاله: كان أميرا جليلا جميلا، بلغ الغاية في حسن الصورة، وفضل الفروسية على صغر سنّه، وكان زناتي الشكل والركض والآلة، عروس الميدان، وحلس الخيل، يؤثر من شجاعته وثبات موقفه على الغرارة، وعدم الحنكة، أنه أنشب في اتباع خنزير ضخم الكراديس، عظيم الناب، عريض الغبطة، طرح نفسه عليه في ضحضاح لفضل شجاعته، فكبا به الطرف، واستقبله ذلك الخنزير الفحل صامدا، فاستقلّ، زعموا، من السّقطة، وقد اخترط سيفا عضبا كان يتقلّده، وسبقه بضربة تحت عينيه، أبانت فكّيه، وأطارت محل سلاحه، وخالطه مع ذلك أعزل، فلم يغن، وتلاحق به فرسانه، وقد يئسوا من خلاصه، فرأوا ما بهتوا له، وبشّر بذلك أبوه، فملأ عينه قرّة، وكان يولع منه بفرع ملك، وصقر بيت، وسيف دولة. أسف بذلك وليّ العهد كبيره، فاعتبط لأيام من تصيّر الأمر إليه.
وفاته: توفي مغتالا في الأول من عام اثنين وسبعمائة.
مولده: عام ستة وثمانين وستمائة.
فرج بن محمد بن يوسف بن محمد بن نصر (1)
الأمير أبو سعيد، ولي عهد السلطان الغالب بالله.
حاله: كان هذا الأمير فاضلا ذكيا، من أهل الأدب والنّبل، قام الأدب في مدته على ساق، ولّاه أبوه الغالب بالله عنده، وأمّله لمكانه لو أنّ الليالي أمهلته.
شعره: وأدبه مما ينسب إليه بالأندلس، وهو عندي ما يبعد قوله: [الطويل]
أيا ربة الحسن التي سلبت منك ... على أي حال كنت لا بدّ لي منك
فإمّا بذلّ وهو أليق بالهوى ... وإمّا بغرّ وهو أليق بالملك
وكان ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم، رحمه الله، يقول: أخبرني كاتب هذا الأمير، وهو الوزير أبو عبد الله بن القصيرة الإشبيلي بتونس قال: نظم الأمير بيتا وطلبني بإجازته، وأن يكون المنظوم مشوب النسيب بالفخر. والبيت: [الطويل]
أرقت لبرق بالسّبيكة لا الخيف ... وإن كان فيه ما أحاذر من حتف
فقلت مجيزا: [الطويل]
تجور على قلبي لواحظ غادة ... بأنفذ من عزمي وأقطع من سيف
__________
(1) أخبار فرج بن محمد في اللمحة البدرية (ص 44).(4/207)
ولي هزّة نحو الوصال أو اللّقا ... كهزة آبائي الكرام إلى الضيف
أفيض وفيض في الجفون وبالحشا ... فأشكو بحالي في الشتاء وفي الصيف
لعمري لقد وفّى العلا حقّ مفخري ... لو اني في الدنيا مرادي أستوفي
قال: واستحسن ذلك ووقع عليه كاتبه، يعني بذلك نفسه.
وفاته: عصر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وستمائة، ابن خمس وعشرين سنة.
ومن الكتاب والشعراء
الفتح بن علي بن أحمد بن عبيد الله الكاتب المشهور (1)
من قرية تعرف بصخرة (2) الواد من قرى قلعة يحصب، يكنى أبا نصر، ويعرف بابن خاقان.
حاله: كان (3) آية من آيات البلاغة، لا يشقّ غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوبا بأطراف الكلام، معجزا في باب الحلى والصفات، إلّا أنه كان مجازفا، مقدورا عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف (4)، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلدا من بلاد الأندلس إلّا دخله، مسترفدا أميره، وواغلا على عليته (5). قال الأستاذ في «الصلة» (6): وكان معاصرا للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أنّ بطالته أخلدت (7) به عن
__________
(1) ترجمة الفتح ابن خاقان في المعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 308) والذيل والتكملة (ج 5ص 529) والمغرب (ج 1ص 259) وشذرات الذهب (ج 4ص 107) والخريدة قسم شعراء المغرب (ج 2ص 610) ومرآة الجنان (ج 3ص 264) ومعجم الأدباء (ج 4 ص 546) ونفح الطيب (ج 9ص 255) وأزهار الرياض (ج 5ص 97) وجاء فيهما:
«الفتح بن محمد بن عبيد الله».
(2) في النفح: «بقلعة الواد».
(3) النص في نفح الطيب (ج 9ص 257255).
(4) المعاقرة: شرب الخمر. والقصف: إقامة الرجل في أكل وشرب ولهو. لسان العرب (عقر) و (قصق).
(5) في النفح: «واغلا في عليته».
(6) لم ترد ترجمة ابن خاقان في الصلة المطبوع.
(7) يقال: أخلدت به إلى الأرض: أي نزلت به. لسان العرب (خلد).(4/208)
مرتبته. وقال ابن عبد الملك (1): دخل (2) يوما إلى مجلس قضاء أبي الفضل عياض (3) مخمرا، فتنسّم بعض حاضري (4) المجلس رائحة الخمر، فأعلم القاضي بذلك، فاستثبت (5)، وحدّه حدّا تاما، وبعث إليه بعد أن أقام عليه الحدّ، بثمانية دنانير وعمامة. فقال الفتح حينئذ لبعض أصحابه: عزمت على إسقاط اسم القاضي أبي الفضل من كتابي الموسوم (6) ب «قلائد العقيان» قال: فقلت: لا تفعل، وهي نصيحة، فقال (7): وكيف ذلك؟ فقلت (8) له: قصّتك معه من الجائز أن تنسى، وأنت تريد أن تتركها (9) مؤرخة، إذ كلّ من ينظر في كتابك يجدك قد ذكرت فيه من هو مثله ودونه في العلم والصيت، فيسأل عن ذلك، فيقال له، [اتّفق معك كيت وكيت] (10) فيتوارث العلم (11) عن الأكابر الأصاغر، قال: فتبين له ذلك، وعلم صحته وأقرّ اسمه (12).
وحدّثني بعض الشيوخ أنّ سبب حقده على ابن باجة أبي بكر (13)، آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، ما كان من إزرائه به، وتكذيبه إياه في مجلس إقرائه، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، [ويذكر الفخر بذلك] (14)، ووصف حليا، وكانت (15) تبدو من أنفه فضلة خضراء اللون. زعموا (16)، فقال له: فمن تلك
__________
(1) الذيل والتكملة (ج 5ص 530) ونفح الطيب (ج 9ص 257255).
(2) كذا في الذيل والتكملة. وفي النفح: «قصد».
(3) كلمة «عياض» غير واردة في الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «حضور».
(5) في المصدر نفسه: «بذلك، فأمر به فاستثبت في استنكاهه وحدّه».
(6) في الذيل والتكملة: «الموسم».
(7) في الذيل والتكملة: «فقال لي».
(8) في المصدر نفسه: «قال: فقلت له».
(9) في المصدر نفسه: «أن تخلّدها مؤرخة، فقال لي: وكيف؟ قال: فقلت له: كلّ من نظر».
(10) ما بين قوسين ساقط في المصدرين.
(14) ما بين قوسين ساقط في المصدرين.
(11) في الذيل والتكملة: «العلم بذلك الأصاغر عن الأكابر».
(12) في الذيل والتكملة: «فأقرّ اسمه في الكتاب قلائد العقيان».
(13) هو محمد بن يحيى بن باجة التجيبي الأندلسي السرقسطي، المعروف بابن الصائغ. وترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 222) وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 283) وعيون الأبناء في طبقات الأطباء (ص 515) والمغرب (ج 2ص 119) واسمه فيه: محمد بن الحسين بن باجة، والوافي بالوفيات (ج 2ص 140) ومطمح الأنفس (ص 397) ومعجم الأدباء (ج 4ص 547) وقلائد العقيان (ص 298).
(15) في المصدرين: «وكان يبدو».
(16) كلمة «زعموا» ساقطة من النفح.(4/209)
الجواهر إذن الزمردة التي على شاربك؟ فثلبه في كتابه بما هو معروف في الكتاب (1).
وعلى ذلك فأبو نصر نسيج وحده، غفر الله تعالى (2) له.
مشيخته: روى (3) عن أبوي بكر: ابن سليمان بن القصيرة، وابن عيسى ابن اللبّانة، وأبي جعفر بن سعدون الكاتب، وأبي الحسن بن سراج، وأبي خالد بن مستقور (4)، وأبي الطيّب بن زرقون، وأبي عبد الله بن خلصة الكاتب، وأبي عبد الرحمن بن طاهر، وأبي عامر بن سرور، وأبي محمد بن عبدون، وأبي الوليد بن حجاج، وابن دريد الكاتب.
تواليفه: ومصنفاته (5) شهيرة: منها «قلائد العقيان»، و «مطمح الأنفس»، و «المطمح» أيضا (6). وترسيله مدوّن، وشعره وسط، وكتابته فائقة.
شعره: من شعره قوله، وثبت في قلائده، يخاطب أبا يحيى ابن الحجاج (7):
[الطويل]
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئا لملك (8) زان نورك أفقه ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر
وإني لخفّاق الجناحين كلّما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطّر
وقد كان واش هاجنا لتهاجر (9) ... فبتّ وأحشائي جوى تتفطّر
فهل لك في ودّ ذوى لك ظاهرا ... وباطنه يندى صفاء ويقطر
ولست بعلق بيع بخسا وإنني ... لأرفع أعلاق الزمان وأخطر (10)
فروجع عنه بما ثبت أيضا في قلائده ممّا أوله (11): [الطويل]
ثنيت، أبا نصر، عناني، وربّما ... ثنت عزمة السّهم المصمّم أسطر
__________
(1) قوله: «في الكتاب» ساقط في النفح.
(2) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(3) النص في نفح الطيب (ج 9ص 257).
(5) النص في نفح الطيب (ج 9ص 257).
(4) في النفح: «بشتغير».
(6) يريد أن كتاب المطمح جزآن، ويقال: ثلاثة أجزاء.
(7) في النفح: «ابن الحاج». والأبيات أيضا في قلائد العقيان (ص 179178) والمطرب (ص 189).
(8) في الأصل: «هنيئا لمن زار» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من القلائد والمطرب. وفي النفح: «هنيئا لملك زار أفقك نوره».
(9) في المطرب: «لتنافر».
(10) في المطرب: «وأنضر». والأعلاق: جمع علق وهو الشيء النفيس. لسان العرب (علق).
(11) قلائد العقيان (ص 179) والمطرب (ص 189).(4/210)
نثره: ونثره (1) شهير، وثبتّ (2) له من غير المتعارف من السّلطانيات ظهيرا كتبه عن بعض الأمراء لصاحب الشرطة، ولا خفاء بإدلاله وبراعته: كتاب تأكيد اعتناء، وتقليد ذي منّة وغناء، أمر بإنفاذه فلان، أيّده الله تعالى (3)، لفلان ابن فلان صانه الله تعالى (4)، ليتقدّم لولاية المدينة بفلانة (5) وجهاتها، ويصرخ (6) ما تكاثف من العدوان في جنباتها، تنويها أحظاه بعلائه، وكساه رائق ملائه، لما علمه من سنائه، وتوسّمه من غنائه، ورجاه من حسن منابه، وتحققّه من طهارة ساحته وجنابه، وتيقّن أيّده الله تعالى (7)! أنه مستحق لما ولّاه، مستقل (8) بما تولّاه، لا يعتريه الكسل، ولا يثنيه (9)
عن إمضاء الصوارم والأسل، ولم يكل الأمر منه إلى وكل (10)، ولا ناطه مناط (11) عجز ولا فشل، وأمره أن يراقب الله تعالى في أوامره ونواهيه، وليعلم أنه زاجره عن الجور وناهيه، وسائله عمّا حكم به وقضاه، وأنفذه وأمضاه، {يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ (19)} (12) فليتقدم لذلك (13) بحزم لا يحمد توقدّه، وعزم لا ينفد تفقّده، ونفس مع الخير ذاهبة، وعلى سنن (14) البرّ والتقوى راكبة، ويقدّم للاحتراس من عرف اجتهاده، وعلم أرقه في البحث وسهاده، وحمدت أعماله، وأمن تفريطه وإهماله، ويضمّ إليهم من يحذو حذوهم، ويقفو شأوهم، ممّن لا يستراب بمناحيه، ولا يصاب خلل في ناحية من نواحيه، وأن يذكي العيون على الجناة، وينفي عنها لذيذ السّنات (15)، ويفحص عن مكامنهم، حتى يغصّ بالروع (16) نفس آمنهم، فلا يستقرّ بهم موضع، ولا يقرّ (17) منهم مخبّ ولا موضع، فإذا ظفر منهم بمن ظفر بحث عن باطنه، وبثّ السؤال في مواضع تصرفه ومواطنه، فإن لاحت شبهة أبداها الكشف والاستبراء، وتعدّاها البغي (18) والافتراء، نكّله بالعقوبة أشدّ نكال، وأوضح له منها ما كان ذا إشكال، بعد أن يبلغ أناه، ويقف على طرف (19) مداه، وحدّ له ألّا يكشف بشرة إلّا في حدّ يتعيّن، وإن جاءه فاسق أن يتبيّن، وأن لا يطمع في صاحب
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 9ص 260258).
(2) في النفح: «ونثبت».
(3) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(4) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(7) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(5) في النفح: «المدينة الفلانية».
(6) في النفح: «ويصوّح».
(8) مستقلّ: حامل للعبء. لسان العرب (قلل).
(9) في النفح: «تثنيه عن المضاء».
(10) الوكل: الذي يعتمد على غيره في قضاء أموره ويتّكل عليه. لسان العرب (وكل).
(11) في النفح: «بمناط».
(12) سورة الانفطار 82، الآية 19.
(13) في النفح: «إلى ذلك».
(14) في النفح: «متن».
(15) السّنات: جمع سنة وهي أول النوم. لسان العرب (وسن).
(16) في النفح: «بالرّيق».
(17) في النفح: «ولا يفرّ منهم خبّ».
(18) في الأصل: «للبغي».
(19) في النفح: «في طرفه».(4/211)
مال موفور، وأن لا يسمع من مكشوف في مستور، وأن يسلك السّنن المحمود، وينزّه عقوبته من الإفراط وعفوه من تعطيل الحدود. وإذا انتهت إليه قصّة مشكلة أخّرها إلى غده، فهو على العقاب أقدر منه على ردّه، فقد يتبيّن في وقت ما لا يتبيّن في وقت، والمعاجلة بالعقوبة من المقت، وأن يتغمّد هفوات ذوي الهيئات، وأن يستشعر الإشفاق، ويخلغ التّكبّر فإنه من ملابس أهل النفاق، وليحسن لعباد الله اعتقاده، ولا يرفض زمام العدل ولا مقاده، وأن يعاقب المجرم قدر زلّته، ولا يعتزّ عند ذلّته، وليعلم أنّ الشيطان أغواه، وزيّن له مثواه، فيشفق من عثاره، وسوء آثاره، وليشكر الله على ما وهبه من العافية، وأكسبه من ملابسها الضّافية، ويذكره جلّ وتعالى (1) في جميع أحواله، ويفكّر في الحشر وأهواله، ويتذكّر وعدا ينجز فيه ووعيدا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمََا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهََا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (2). والأمير أيّده الله، وليّ له ما عدل وأقسط، وبرىء منه إن جار وقسط. فمن قرأه فليقف عند حدّه ورسمه، وليعرف له حقّ قطع الشّرّ وحسمه، ومن وافقه من شريف أو مشروف، وخالفه في شيء (3) منكر أو أمر بمعروف، فقد تعرّض من العقاب لما يذيقه وبال خبله، {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} (4). وكتب في كذا.
وفاته: بمرّاكش ليلة الأحد لثمان بقين من محرم من عام تسعة (5) وعشرين وخمسمائة، ألفي قتيلا ببيت من بيوت فندق لبيب (6) أحد فنادقها، وقد ذبح وعبث به، وما شعر به إلّا بعد ثلاث (7) ليال من مقتله.
ومن المقرئين والعلماء
فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي (8)
من أهل غرناطة، يكنى أبا سعيد.
__________
(1) في النفح: «وعلا».
(2) سورة آل عمران 3، الآية 30.
(3) في النفح: «في نهي عن منكر».
(4) سورة فاطر 35، الآية 43.
(5) في الأصل: «تسع» وهو خطأ نحوي. وفي معجم الصدفي: توفي ذبيحا بفندق لبيت من حضرة مراكش سنة 528هـ. وفي وفيات الأعيان: توفي قتيلا سنة 535هـ بمدينة مراكش في الفندق.
(6) كلمة «لبيب» غير واردة في النفح.
(7) في الأصل: «ثلاثة» وهو خطأ نحوي.
(8) ترجمة فرج بن لب في الكتيبة الكامنة (ص 67) وبغية الوعاة (ص 372) ونفح الطيب (ج 8 ص 54).(4/212)
حاله: هذا (1) الرجل من أهل الخير والطهارة، والزّكا (2) والديانة، وحسن الخلق. رأس بنفسه، وحلّي بفضل ذاته، وبرّز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل عليه (3) بدار الشّورى، وإليه مرجع الفتوى ببلده، لغزارة حفظه، وقيامه على الفقه، واضطلاعه بالمسائل، إلى المعرفة بالعربية واللغة، والمران (4) في التوثيق، والقيام على القراءات، والتّبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب. جيد الخط، ينظم وينثر. قعد ببلده للتدريس على وفور المسجد. ثم استقلّ بعد، وولّي الخطابة بالمسجد الأعظم، وأقرأ بالمدرسة النّصرية، في ثامن وعشرين من رجب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، معظّما عند الخاصة والعامة، مقرونا اسمه بالتسويد. وهو الآن بالحالة الموصوفة.
مشيخته: قرأ على الخطيب المقرئ (5)، شيخنا أبي الحسن القيجاطي، والخطيب الصالح الفاضل أبي إسحاق بن أبي العاصي، والقاضي العدل المحدث العالم أبي عبد الله بن بكر، ولازم الشيخ الفقيه أبا عبد الله البيّاني، وأخذ العربية عن شيخ العصر أبي عبد الله بن الفخار، وروى عن الشيخ الرحال الراوية أبي عبد الله محمد بن جابر بن محمد القيسي الوادي آشي، وغيرهم.
شعره: من شعره في غرض النسيب قوله (6): [الطويل]
خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ... فما زال قلبي (7) للهوى كلّه رقّا (8)
دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى (9)
سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكلّ الذي يلقون بعض الذي ألقى
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 5655).
(2) في النفح: «والذكاء».
(3) في النفح: «وعليه مدار الشورى».
(4) في النفح: «ومعرفة التوثيق».
(5) في الأصل: «للقرى».
(6) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 6968) ونفح الطيب (ج 8ص 5756).
(7) في النفح: «قلبي كله للهوى».
(8) الرّقّ: العبد. لسان العرب (رقق).
(9) يشير إلى قوله تعالى: {لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} سورة الليل 92، الآية 15.(4/213)
فإن كان عبد يسأل (1) العتق مالكا (2) ... فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا
بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطّرقا
فطرق الهوى شتى ولكنّ أهله ... يحوزون (3) في يوم الرّهان بها سبقا (4)
فكم (5) جمعت طرق الهوى بين أهله (6) ... وكم أظهرت عند السّرى (7) بينهم فرقا
بسيما (8) الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا
فمن زفرة تزجي سحائب زفرة (9) ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا (10)
إذا سكتوا عن وجدهم أعربت (11) بهم (12) ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا
ومن منظومه في وداع شهر رمضان المعظم قوله (13): [الطويل]
أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر التمام (14) أفولا؟
أجدّك قد جدّت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا
نزلت فأزمعت الرحيل كلما (15) ... نويت رحيلا إذ نويت نزولا
__________
(1) في الأصل: «يسل»، والتصويب من المصدرين.
(2) في النفح: «سيدا».
(3) في الأصل: «يجوزون» والتصويب من المصدرين.
(4) في النفح: «يوم السّباق بها السّبقا».
(5) في النفح: «وكم».
(6) في النفح: «أهلها».
(7) في المصدر نفسه: «السّوى».
(8) السيما: العلامة، وفي القرآن الكريم: {سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}. سورة الفتح 48، الآية 29.
(9) في الكتيبة والنفح: «عبرة».
(10) في الكتيبة: «تبقى». وترقى: تصعد. وترقا: أصلها: ترقأ، أي تسكن. لسان العرب (رقأ).
(11) في الأصل: «أغرت» وهكذا ينكسر الوزن. والتصويب من النفح. وفي الكتيبة: «أعرفت».
(12) في النفح: «به».
(13) بعض أبيات هذه القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 5756).
(14) في النفح: «الزمان».
(15) في النفح: «كأنما».(4/214)
وما ذاك إلّا أنّ أهلك قد مضوا ... تفانوا فأبصرت الديار طلولا
وقفت بها من بعدهم فعل ناد (1) ... لربع خلا يبكي عليه خليلا
لقد كنت (2) في الأوقات ناشئة التّقى (3) ... أشدّ به وطأ (4) وأقوم قيلا
ولما انجلى وجه الهدى فيك مسفرا ... سدلت على وجه الضّلال سدولا
متى ارتاد مرتاد مقيلا لعثرة ... أتاك فألفى للعثار مقيلا
وناديت فينا صحبة الخير أقبلوا ... بإقبالكم حزتم لديّ قبولا
لقد كنت لما واصلوك ببرّهم ... حفيّا بهم برّا لهم ووصولا
أقاموا لدين الله فيك شعائرا ... هدتهم إلى دار السلام سبيلا
فكم أطلقوا فيها أعنّة جدّهم ... وكم أرسلوا فيها الدموع همولا
دموعا أثارت سحّها ريح زفرة ... فسالت وخدّت في الخدود مسيلا
لديك أيا شهر الهدى قصّروا المدى ... فكم لك في شأو الفضائل طولا
دلائل تشريف لديك كثيرة ... كفى بكتاب الله فيك دليلا
ومن الصوفية والصلحاء
فضل بن محمد بن علي بن فضيلة المعافري
يكنى أبا الحسن، من أهل الشرق الأندلسي، أبو الحسن الولي الصالح الصوفي.
حاله: كان وليّا فاضلا، زاهدا، على سنن الفضلاء، وأخلاق الأولياء، غزير العلم، كثير العمل، دائم الاعتبار، مشهور الكرامة، مستجاب الدعوة، صوفيّا محققا، انتهت إليه الرئاسة في ذلك على عهده. يدلّ على ذلك كلامه على أغراض القوم، وكشفه عن رموزهم وإشاراتهم، أديبا بليغا، كاتبا مرسلا، لا يشقّ غباره في ذلك.
قائما على تجويد كتاب الله، عالي الرواية، أسنّ وتناهى وازدلف إلى التّسعين، ممتّعا بجوارحه، وولّي الخطابة والإمامة بالمسجد الأعظم، أقرأ به مدة كبيرة.
قال ابن الزبير في «صلته»: كان جليلا في ذاته وخلقه ودينه، معدوم النظير في ذلك، مشاركا في فنون من العلم، أديبا بارعا، كاتبا بليغا، فصيح القلم، متقدما في ذلك، متصوّفا، سنيّا، ورعا، معدوم القرين في ذلك، متواضعا، مقتصدا في شؤونه
__________
(1) في الأصل: «نادى».
(2) في النفح: «تفكرت في».
(3) في الأصل: «التّعني» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «وطسا»، والتصويب من النفح.(4/215)
كلها، جاريا في خلقه وأفعاله وأحواله على سنن السلف، أحفظ الناس للسانه وجوارحه وأصدقائه، وأسلمهم عينا ومشهدا، وأشدّهم تمسكا بهدي السلف الصالح، مؤثرا للخمول، سريع العبرة، شديد الخوف لله سبحانه، تاليا لكتاب الله، كثير الصوم، خفيف القدم في حوائج أصحابه، مشاركا لهم بأقصى ما يمكنه. له تقاييد جوابية عما كان يسأل عنه في الفن الذي كان يؤثره، محررا ما يلزم التقييد به من كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، غير منافر لمذهب الأشعرية، مالكي المذهب، له اختيارات يسيرة لا يفتى بها، ولا تتعدّى علمه.
مشيخته: روى عن أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيد بونة (1)، وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن شهيد، وأخذ أيضا عن أبي بكر بن محرم، وأجاز له أبو بكر بن المرابط، وقرأ على القاضي أبي القاسم بن يحيى بن ربيع، والقاضي أبي عيسى بن أبي السّداد المرسي، وغيرهم.
من أخباره: وكراماته شهيرة، فمنها أن رجلا استفتاه، فأفتاه بجواب لم يحصل له به الإقناع، فرأى في عالم النوم وإثر سؤاله إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: الحق ما قال لك فلان في المسألة. قال الحاكي: فبكّر إليه الرجل من الغد، فلمّا أقبل عليه بموضع إقرائه، قال له: ألم ترد أن تستفتي يا أبا فلان إلّا من رأس العين؟ فبهت الرجل. وأحواله شهيرة.
مولده: ولد عام سبعة وستمائة.
وفاته: في الثامن عشر من محرم عام تسعة وتسعين وستمائة. ودفن بمقبرة ربض البيّازين مع قومه من صلحاء الشّرق، وكانت جنازته مشهودة.
ومن العمال الأثرا
فلّوج العلج
مولى يحيى بن غانية (2).
حاله: كان فلّوج شهما شجاعا، مهيبا حازما، نال من مولاه حظوة، واستعان به على أموره المهمة. وجرى على يده إغرام أهل قرطبة، وانطلقت على أموالهم يده، وأثرى وجمع مالا دبرا من الصامت والذخيرة عظيما.
__________
(1) ترجمة غالب بن حسن ابن سيد بونة في تاريخ قضاة الأندلس (ص 162).
(2) سيترجم ابن الخطيب ليحيى بن غانية بعد قليل في هذا الجزء من الإحاطة.(4/216)
نكبته: وكان يحيى بن غانية قد ولّاه حصن بني بشير، فثقّفه وحصّنه، ونقل إليه أمواله ومتاعه وذخيرته. ولمّا توفي مولاه لحق به وملك أمره واستعان بجماعة من النصارى، ثم بدا له لضعف رأيه وسوء تدبيره، أن ألقى بيده إلى ابن أخي مولاه إسحاق بن محمد بن غانية، فأناب ولحق به، معتذرا عن توقفه، فقبض عليه وصفّده، وعرض عليه العذاب، وأسكنه في تابوت، باطنه مسامير، لا يمكنه معها التصرف، وأجاعه بمرأى من الطعام بمطبخه، إلى أن مات جوعا وألما. وهو مع ذلك لا يطمعه في شيء من المال. وتخلّف بالحصن رجلا من جهة سرقسطة، يعرف بابن مالك، ويكنى أبا مروان، فلمّا ذاع خبر القبض عليه، بادر الموحدون الذين بلوشة، فتغلّبوا عليه، واستولوا على ما كان به من مال وذخيرة، ووجدوا فيه من أنواع الثياب والحلي والذّخيرة، كل خطير عظيم، وشدّوا على ابن مالك في طلب المال، فلم يجدوا عنده شيئا، إلى أن فدى نفسه منهم، بمال كبير، فمضى فلّوج على هذا السبيل.
ومن المقرئين والعلماء
قاسم بن عبد الله بن محمد الشّاط الأنصاري (1)
نزيل سبتة، وأصله من بلنسية، يكنى أبا القاسم. قال: والشّاط اسم لجدّي، وكان طوالا فجرى عليه الاسم.
حاله: نسيج وحده في إدراك النظر، ونفوذ الفكر، وجودة القريحة، وتسديد الفهم، إلى حسن الشمائل، وعلو الهمة، وفضل الخلق، والعكوف على العلم، والاقتصار على الآداب السّنية، والتحلي بالوقار والسكينة. أقرأ عمره بمدرسة سبتة الأصول والفرائض، متقدما، موصوفا بالأمانة. وكان موفور الحظ من الفقه، حسن المشاركة في العربية، كاتبا، مرسّلا، ريّان من الأدب، ذا مماسّة في الفنون، ونظر في العقليات، ضرورة لم يتزوج، ممن يتحلى بطهارة وعفاف.
وقال في «المؤتمن»: كان مع معارفه، عالي الهمة، نزيه النفس، ذا وقار وتؤدة في مشيه ومجلسه، يشاب وقاره بفكاهة نظيفة، لا تنهض إلى التأثير في وقاره، ظريف الملبس، يخضب رأسه بالحنّاء على كبره.
مشيخته: قرأ بسبتة على الأستاذ الكبير أبي الحسن بن أبي الربيع وبه تأدب، وعلى أبي بكر بن مشليون، وعلى الحافظ أبي يعقوب المحاسبي، وعلى الطبيب أبي
__________
(1) ترجمة ابن الشاط في نفح الطيب (ج 7ص 234).(4/217)
عبد الله محمد بن علي بن أبي خالد العبدري الأبّدي، وعلى أبي الحسن البصري، وعلى خاليه أبي عبد الله محمد وأبي الحسن ابني الطرطاني. وأجازه أبو القاسم بن البرّاء، وأبو محمد بن أبي الدنيا، وأبو العباس بن علي الغماز، وأبو جعفر الطباع، وأبو بكر بن فارس، وأبو محمد الأنباري، وغيرهم. وأخذ عنه الجملة من أهل الأندلس من شيوخنا كالحكيم الأستاذ أبي زكريا بن هذيل، وشيخنا أبي الحسن بن الجياب، وشيخنا أبي البركات، والقاضي أبي بكر بن شبرين، وقاضي الجماعة أبي القاسم الحسني الشريف، والوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، والقاضي أبي القاسم بن سلمون، وغيرهم.
شعره: وكان يقرض أبياتا حسنة من الشعر، فمن ذلك قوله يذيّل أبياتا لأبي المطرّف بن عميرة وهي (1): [الكامل]
فضل الجمال على الكمال بخدّه (2) ... والحقّ (3) لا يخفى على من وسّطه
عجبا له برهانه بشروطه ... معه فما مطلوبه (4) بالسّفسطه
علم التّباين في النفوس وإنها ... منها مفرّطة وغير مفرّطه (5)
فئة (6) رأت وجه الدّليل وفرقة ... أصغت إلى الشّبهات فهي مورّطه
فأراد جمعها معا في حكمة (7) ... هذي بمنتجة وذي بمغلّطه
ومن شعره قوله: [الكامل]
إني (8) سلكت من انقباضي مسلكا ... وجريت من صمتي على منهاج
وتركت أقوال البريّة جانبا ... كي لا أميّز مادحا من هاج
دخوله غرناطة: ورد على غرناطة عند تصيّر سبتة إلى الإيالة النّصرية مع الوفد من أهلها ببيعة بلدهم، فأخذ عنه بها الجملة، ثم انصرف إلى بلده. قال شيخنا أبو
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 234) وجاء فيه أن البيتين الأول والثاني هما لابن عميرة، وأن الأبيات الثلاثة الأخرى لابن شاط.
(2) في النفح: «بوجهه».
(3) في النفح: «فالحقّ».
(4) في النفح: «مقصوده».
(5) رواية عجز البيت في النفح هي:
منها مغلّطة وغير مغلّطه
(6) في الأصل: «فيه» وكذا لا يستقيم المعنى.
(7) في النفح: «ملكه».
(8) في الأصل: «وإني» وكذا ينكسر الوزن.(4/218)
البركات: وأنشدنا لنفسه: [الخفيف]
قلت يوما لمن تخذت هواه ... ملّة قد تبعتها وشريعه
لم تأبى (1) الوصال وهو مباح ... وتسوم المحبّ سوء القطيعه؟
قال: إني خشيت منك ملالا ... فتركت الوصال مدّ ذريعه
وأنشدنا: [الكامل]
وغزال أنس سلّ من ألحاظه ... سيفا أراق دم الفؤاد بسلّه
وبخدّه من ذاك (2) أعدل شاهد ... يقضي بأنّ الفتك بي (3) من فعله
ما لي أطالبه فيدحض حجّتي ... ودمي يطلّ وشاهدي من أهله؟
وأنشدنا الفقيه أبو القاسم الزقّاق، قال: أنشدنا الأستاذ أبو القاسم الشاط، وقد خرجنا معه مشيعين إياه في انصرافه عن غرناطة آئبا إلى بلده: [البسيط]
يا أهل غرناطة، إنّي أودّعكم ... ودمع عيني من جراكم جار
تركت قلبي غريبا في دياركم ... عساه يلقى لديكم حرمة الجار
تواليفه: منها «أنوار البروق، في تعقب مسائل القواعد والفروق». و «غنية الرابض، في علم الفرائض». و «تحرير الجواب، في توفير الثّواب». و «فهرسة حافلة». وكان مجلسه مألفا للصّدور من الطلبة، والنبلاء من العامة حدّثني شيخنا القاضي الشريف أبو القاسم، قال: كان يجلس عند رجل خياط من أهل سبتة، يعرف بالأجعد من العامة، فأخذ يوما يتكلم عن مسألة، فقال متمثلا: كما تقول: الأجعد الخياط فعل كذا، ثم التفت معتذرا يتبسم وقال: أتمثل بك، فقال الأجعد بديهة: إذا يا سيدي، أعتق عليكم، إشارة إلى قول الفقهاء: العبد يعتق على سيّده إذا مثّل به، فاستظرف قوله.
مولده: في ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وستمائة بمدينة سبتة.
وفاته: توفي بها في آخر عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة، وقد استكمل الثمانين.
__________
(1) في الأصل: «تأب» على أساس أنه مجزوم بلم، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ذلك» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «به» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/219)
قاسم بن عبد الكريم بن جابر الأنصاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن جابر.
حاله: كان، رحمه الله، من جلّة أهل العلم والفضل، حسن الأخلاق، مليح الحديث، عذب الفكاهة، لطيف الحاشية، على دين والتزام سنّة. رحل إلى المشرق، فلقي العلماء، وأخذ عنهم، وكلف بعلم الجدل، فقرأه كثيرا، وبهر فيه. وورد على غرناطة من رحلته، فأقرأ بها الأصول وغيرها من جدل ومنطق وفقه.
مشيخته: قرأ بغرناطة على الخطيب وليّ الله أبي الحسن بن فضيلة، والأستاذ خاتمة المقرئين أبي جعفر بن الزّبير، وولّي القضاء ببسطة، ثم كلف بالإقراء وعكف عليه، فلم ينتقل عنه.
من أخذ عنه: أخذ عنه كراسة الفخر المسماة ب «الآيات البينات»، وكان قائما عليها جملة من شيوخنا، كالأستاذ التعاليمي أبي زكريا بن هذيل، والأستاذ المقرئ أبي عبد الله بن البيّاني.
شعره: وله شعر أنشدنا الشيخ أبو القاسم بن سلمون، قال: أنشدنا في شيخنا ابن جميل قوله: [مخلع البسيط]
إن أطلع الشّرق شمس دنيا ... قد أطلع الغرب شمس دين
وبين شمس وبين شمس ... ما بين دنيا وبين دين
مولده: ولد بغرناطة عام تسعة وستين وستمائة.
وفاته: توفي بها في جمادى الآخرة أو رجب من عام أربعة عشر وسبعمائة.
قاسم بن يحيى بن محمد الزّروالي (1)
يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن درهم، مالقي، أصله من جبال تاغسى، ودخل غرناطة وقرأ بها.
حاله: من تذييل صاحبنا القاضي أبي الحسن، قال فيه: كان، رحمه الله، واحد زمانه، ينبوع الحكمة يتفجر من لسانه، وعنوان الولاية على طيلسانه. ومن «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، علما من أعلام الزهد والورع والديانة، والتقلّل من الدنيا،
__________
(1) ترجمة قاسم بن يحيى بن درهم في تاريخ قضاة الأندلس (ص 185).(4/220)
والعكوف على تجويد كتاب الله وإقرائه، منقطع القرين فيه، كثير المناقشة والتحقيق، يرى أن ليس في الأرض من يحكم ذلك حق إحكامه، ما لم يأخذه.
مشيخته: قرأ على جملة من حملة كتاب الله بالمشرق والمغرب والأندلس، وعني بذلك. ثم لم يعتمد منهم إلّا على الأستاذ أبي إسحاق الغافقي بسبتة، والخطيب أبي جعفر بن الزيات ببلّش من الأندلس، واستمرت حاله على سبيلها من الزهد والانقباض والتنطّع، والإغراق في الصلاح، والشّذوذ في بعض السجايا إلى أن توفي.
بعض من نوادره مع اخشيشانه: حدّثني القاضي أبو الحسن بن الحسن أن بعض الطلبة المتنسّكين قال له: أتيتك أقرأ عليك، فأستخير الله، ثم أتاه فقال: قد استخرت، وهمّ بالقراءة، فقال له الشيخ: أمسك حتى أستخير أنا الله في قراءتك عليّ، فقال الطالب: وهذا عمل برّ، فقال له: الحجة عليك، فانفصل عنه. ثم عاد إليه يسأل منه القراءة، فقال: يا بني، ظهر لي أن لا تقرأ عليّ، فانصرف.
ومن أخباره في الكرامة، قال لي المذكور: وقد أزمعت السفر إلى ظاهر طريف مع جمع المسلمين، أنك إن سافرت يا ولدي، تقاسي مشقّة عظمي إن سبق القدر بحياتك، والله يرشدك، وقد كنت شرعت في ذلك مع رفقائي. وفي سحر ليلة اليوم الذي انهزم فيه المسلمون، رأيته في النوم يقول لي منكرا عليّ: قلت لك لا تسافر، يكرّرها، فاستيقظت، وأوقع الله بقلبي الرجوع إلى الجزيرة، لآراب أقضيها، فما بلغ زوال الشمس من اليوم إلّا ومقدّمة الفلّ على أطواق البلد في أسوإ حال.
وفاته: توفي ببلدة مالقة خامس صفر، من عام خمسين وسبعمائة في وقيعة الطّاعون، توفي وآخر كلامه: رزقنا الله عملا صالحا يقربنا إليه زلفى، وجعلنا ممن يمرّ عقبتي الدنيا والآخرة مرور أهل التقوى.
ومن الكتّاب والشعراء
قرشي بن حارث بن أسد بن بشر بن هندي بن المهلب ابن القاسم بن معاوية بن عبد الرحمن الهمداني
حاله: هو أعرق الناس في الشعر لأنّ جدّه المهلّب كان شاعرا، وولده هندي كذلك، وأسد وحارث وقرشي، فهم شعراء سنة على نسق، ويدلّ شعرهم على شرف نفوسهم وبعد هممهم.(4/221)
شعره: قال أبو القاسم الغافقي: من شعره قوله في هاشم بن كعب التميمي، من أنجد الفرسان، قتل في يوم خمسة من أنجاد المولّدين: [الطويل]
هجرت القوافي والظّباء (1) الأوانسا ... وودّعت لذّاتي نعم واللواعسا
ورعت فؤادي بالمشيب عن الصّبا ... وأصبحت عن عهد الغواية يائسا
أبا خالد، ما زلت مذ كنت يافعا ... لكل سنات للمكارم (2) لابسا
فما حملت أنثى كمثلك سيّدا ... ولا حملت خيل كمثلك فارسا
قاسم بن محمد بن الجد العمري
يكنى أبا القاسم، ويعرف بالورسيدي، من أهل ألمريّة، وتكرر وروده على غرناطة.
حاله: قال شيخنا أبو البركات: كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، بعيدا عن إذاية الناس بيده أو لسانه بالجملة، له خطّ لا بأس به، ومعرفة بالعدد، وسلك الطريقة الزّمامية، وله حظ من قرض الشعر. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: من أئمة أهل الزمان، خليق برعي الذّمام، ذو حظ كما تفتّح زهر الكمام، وأخلاق أعذب من ماء الغمام. كان ببلده محاسبا، في لجة الأعمال راسبا، صحيح العمل، يلبس الطّروس من براعته أسنى الحلل.
شعره: قال يمدح المقام السلطاني (3): [الطويل]
أرى أوجه الأيام قد أشرقت بشرا ... فقل لي، رعاك الله، ما هذه البشرى؟
وما بال أنفاس الخزامى تعطّرت ... فأرّجت الأرجاء من نفحها عطرا؟
ونقّبت الشمس المنيرة وجهها ... قصورا عن الوجه الذي أخجل البدرا
وما زالت الأغصان (4) في أريحيّة ... كما عطفت أعطافها تنثني شكرا
فما ذاك إلّا أن بدا وجه يوسف (5) ... فأربت على الآيات آياته الكبرى
خليفة ربّ العالمين الذي به ... تمهّدت الأرجاء وامتلأت بشرا
وجرّت على أعلى المجرّة ساحبا ... ذيول العلى فاستكمل النّهي والأمرا
__________
(1) في الأصل: «والظبا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «المكارم»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) المقام السلطاني: هو أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، سلطان غرناطة، وقد حكم غرناطة من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ. اللمحة البدرية (ص 102).
(4) في الأصل: «بأغصان الرجال أريحية»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى».
(5) هو أبو الحجاج يوسف النصري، سلطان غرناطة.(4/222)
وقام بأمر الله يقضي ويقتضي ال ... فتوح التي تبقي له في العلى ذكرا
وأربى على كل الملوك وفاتهم ... بسيرته الحسنى التي قد علت قدرا
وهي طويلة. ومن شعره أيضا قوله: [مخلع البسيط]
من أين أقبلت يا نسيم ... جادت بساحاتك الغيوم
ولا عدمناه سروا (1) ... حلّ به عندنا النعيم
بلّغ سلامي أهيل ودّي ... بلّغك الله ما تروم
قل لهم صبّكم مشوق ... أنحله وجده القديم
لطالما يسهر الليالي ... وطيّ أضلاعه جحيم
هبوا رضاكم لذي غرام ... ما زال قدما بكم يهيم
إن غبتم عن سواد عيني ... فحبّكم في الحشا مقيم
لو (2) ساعد السّعد أن أراكم ... لما اشتكى قلبي السّقيم
يا حادي العيس نحو أرض ... بنيقة قدرها عظيم
إذا أتيت اللّوى وسلفا ... وبان للناظر الحطيم
ولاح بالأبرقين بدر ... بسيره تهتدي النجوم
فقل: غريب ثوى بقرب ... في بحر أوزاره يعوم
قد أثقلت ظهره الخطايا ... وشجبت ذكره الرسوم
إن أعمل الحزم لارتحال ... أقعده ذنبه العظيم
لهفي هذا الشباب ولّى ... والقلب في غيّه مقيم
يا ربّ، عفوا لذي اجترام ... لا تهتك السّتر يا حليم
ما لي شفيع سوى رجائي ... وحسن ظني أيا كريم
فلا تكلني إلى ذنوبي ... وارحمني الله (3) يا رحيم
وفاته: توفي في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعمائة.
__________
(1) في الأصل: «سرى»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا. والسّرو: الفضل.
(2) في الأصل: «لو ثرّ ساعد»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «يا الله»، وكذا ينكسر الوزن.(4/223)
ومن المحدّثين والفقهاء والطلبة النجباء
قاسم بن أحمد بن محمد بن عمران الحضرمي
من أهل سبتة.
حاله: من خطّ صاحبنا القاضي أبي الحسن بن الحسن، قال: كان شيخنا يتّقد ذكاء، رحل عن سبتة إلى الحجاز فقضى الفريضة، وتطور في البلاد المشرقية نحوا من أربعة عشر عاما، وأخذ بها عن جلّة من العلماء. وورد على غرناطة في حدود عام ثمانية عشر وسبعمائة، فأخذ عن بعض أشياخها، وعاد إلى بلده، وكان على خزانة الكتب به، وكان يقرئ القرآن به. قال: وأنشدني، لما لقيته، بيتا واحدا يحتوي على حروف المعجم، وهو: [السريع] قد ضمّ نصر وشكا بثّه ... مذ سخطت عضّ على الإبط
مشيخته: أخذ بالمشرق عن جماعة، منهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب الدمشقي الحجار، والشيخ المحدّث أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الشيرازي ابن جميل، قرأ عليه كتاب ابن الحاجب وحدّثه به عن مؤلفه، وقرأ على الشيخين المقرئين الجليلين أبي عبد الله محمد بن عبد الخالق، المعروف بابن الضائع، وأبي عبد الله بن يعقوب الجراش المقدسي، جملة من الكتب الحديثية وغيرها، وسمع عليهما كتاب «الشاطبية» وحدّثاه بها معا عن المقرئ أبي الحسن على كمال الدين بن شجاع العباسي الضرير، عن صهره، مؤلفها.
تواليفه: قال: له في القراءات تقييد حسن سماه «الشافي، في اختصار التيسير الكافي».
وفاته: توفي أيام الطاعون (1) العام ببلده.
قاسم بن خضر بن محمد العامري
يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن خضر، هكذا دون تعريف. يعرف سلفه ببني عمرون، من أهل ألمرية.
حاله: من خط شيخنا أبي البركات: كان هذا الشيخ من وجوه ألمرية، وممن تصرف سلفه في خطّة القضاء بها. وهو أقدم خطيب أدركته بسنّي بجامعها الأعظم.
__________
(1) عام الطاعون هو: 750هـ، وقد أشرنا إلى ذلك في هذا الكتاب غير ما مرة.(4/224)
وكان شيخا عفيفا من رجال الجد، ضيق العطن، سريع الغضب، غيورا على تلك الخطة، لا يحلى بعينه أحد. لما مات رفيقه في الصلاة والخطبة، الشيخ الشهير عند العامة، ثالث اثنين، الخراسي والنطية، أبو عبد الله بن الضايع، فكلّ من عرض عليه أن يكون معه أباه، فقال أهل البلد: فما العمل؟ فقال: يكتب إلى أبي القاسم ابن الحاج إلى سبتة، ليأتي إلى أرض سلفه، ويكون رفيقي في الصلاة والخطبة، يعني عمّي، فكتب إليه بذلك، فكانت المسألة عند الآخر أهون من أن يجيب عن (1)
الكتاب، ولو بالإباية، فبقي الأمر إلى أن قدّم معه الشيخ الصالح الخطيب المصقع أبو الحسن بن فرحون البلفيقي، فلم يجد فيه قادحا إلّا كونه ليس من أهل البلد، فبقي مرافقا له إلى حين وفاته.
غريبة: قال الشيخ: أخبرتني جدّتي عائشة بنت يحيى بن خليل، قالت: كان الرجل الصالح أبو جعفر بن مكنون، خال قاسم بن خضر هذا، فرآه يلعب مع الصبيان في أزقة ألمرية، فقال له: من يكون خطيب ألمرية يلعب، فبقيت في حفظه إلى أن ولّي الخطابة.
وفاته: توفي في صفر من عام ثلاثة وسبعمائة، وكانت جنازته مشهودة.
حرف السين
سوّار بن حمدون بن عبدة بن زهير بن ديسم بن قديدة ابن هنيدة (2)
وكان علما من أعلام العرب، وصاحب لواء قيس بالأندلس، ونزل جدّه بقرية قربسانة من إقليم البلاط من قرى غرناطة، وبها أنسل ولده، ولم يزالوا أعلاما، إلى أن ظهر سوّار هذا منهم في الفتنة.
حاله وبعض آثاره وحروبه:
قال أبو القاسم: كان سوّار هذا بعيد الصيت، رفيع الذكر، شجاعا، محبّا في الظهور، حامي العرب وناصرهم. وكان له أربعة من الإخوة، مثله في الشجاعة، حضروا معه في الحروب في الفتنة، وهو الذي بنى المدينة الحمراء بالليل، والشّمع
__________
(1) في الأصل: «على» وقد صوبناه.
(2) ترجمة سوار بن حمدون في المقتبس في تاريخ الأندلس بتحقيق الدكتور إسماعيل العربي (ص 78) والحلة السيراء (ج 1ص 147) وجمهرة أنساب العرب (ص 260).(4/225)
تزهر لعرب الفحص، وبنى مدينة وادي آش لبني سامي، وبنى مدينة منتيشة لبني عطاف، وبنى مدينة بسطة لبني قحطبة وبني مسيرة، وبنى كورة جيّان للعرب. ولولا أن الله منّ على العرب بسوّار ونصره لما أبقى العجم والمولدون منهم أحدا. وأنسل سوّار عبد العزيز المقتول بمنتشافر، وعبد الرؤوف وعبد الملك.
مبدأ أمره وحروبه وشعره:
قال أحمد بن عيسى، بعد اختصار، في صدر هذه السنة، يعني سنة خمس وسبعين ومائتين: ثار (1) سوّار بن حمدون بناحية البراجلة من كورة إلبيرة، وانضوت إليه العرب، قام على تفئة مهلك يحيى بن صقالة (2) أميرهم، قتيل المسالمة والمولّدين، فطلب بثأره، وكثرت أتباعه، واعتزت العرب به، وقصد بجمعه إلى منت شاقر (3)، وبه من عدوّه المذكورين نحو من ستة آلاف رجل (4) نازلهم حتى قهرهم، وطاف على حصونهم فافتتحها، وقتل وغنم، وتنادوا لقتاله في جموع عظيمة، عليها جعد بن عبد الغافر، عامل الأمير عبد الله، وبرز إليهم فيمن برز، وناشبهم الحرب، فانهزموا فقتل منهم خلق حرزوا بسبعة آلاف، وأسر جعد، ومنّ عليه وأطلقه. وكانت وقيعته الأولى هذه تعرف بوقيعة جعد. وغلظ، واستند إلى حصن غرناطة، بالقرب من مدينة إلبيرة. وكانت العرب يتألبون على المولّدين، إلى أن عزل الأمير جعدا عن الكورة إرضاء لسوّار، فأظهر عند ذلك الطاعة، وغزا الحصون الراجعة إلى ابن حفصون فأوقع بهم، فهاجمهم، واجتمعت عليه كلمتهم، فقصدوه وحصروه بغرناطة في نحو عشرين ألفا، وبرز إليهم في عدده القليل من عبيده، ورجال بيوتات العرب من أهل إلبيرة، ورجعوا من جبل الفخّار على تعبئة، يريدون الباب الشرقي من غرناطة، وكادهم لما التحمت الحرب وشبّ ضرامها، بما دبّره من انسلاله في لخمة من فرسانه، حتى استدبرهم، فحمل بشعاره، فانذعروا وانفضّوا، فتوهّم حماتهم أن مددا جاءهم من ورائهم، فولّوا منهزمين، وأعمل سوّار وأصحابه السيوف فيهم إلى باب إلبيرة، فيقال: إن قتلاهم في هذه الوقيعة الثانية كانوا اثني عشر ألفا، وهي الوقيعة المعروفة بوقعة المدينة، ولاذ المولّدون بعد هذا بعمر بن حفصون واستدعوه،
__________
(1) في الحلة السيراء (ج 1ص 147): ثار في سنة 246هـ.
(2) في الحلة السيراء (ج 1ص 148) أن سوّارا كان صاحبا ليحيى بن صقالة، أول الخارجين بالبراجلة بالعصبية العربية ضد المولّدين والعجم.
(3) في الأصل: «شافر»، والتصويب من الحلة السيراء (ج 1ص 148). ومنت شاقر:، حصن مطل على سهل غرناطة.
(4) في الحلة السيراء (ج 1ص 148): نحو من ستة آلاف رجل من المولدين والنصارى.(4/226)
فوافاهم في جيش عظيم، ودخل إلبيرة، وناهض سوّارا، وعنده رجالات عرب الكور الثلاث إلبيرة وجيّان، وريّه، واشتدّ القتال، وجال جيش ابن حفصون جولة جرح فيها جراحات صعبة، وكاد سوّار يأتي عليه لولا رجال صدقوه الكرّ واستنقذوه، وتمّت عليه الهزيمة، فانقلب على عقبه، ونالت الحضرة معرّته، فأغرم أهلها الذين استجلبوه ما تشعّث من عسكره، واستعمل عليهم قائده حفص بن المرّة، وانصرف، ونجح سوّار بما تهيّأ له على أعدائه، فاعتلت همّته، وأجلّته العرب، وعلا في الناس ذكره، وقال الأشعار الجزلة فيما تهيّأ له على المولدين، وأكثر الافتخار بنفسه، فشهر، من قوله في ذلك (1): [الكامل]
صرم الغواني، يا هنيد، مودّتي ... إذ شاب مفرق لمّتي وقذالي
وصددن عنّي، يا هنيد، وطالما ... علقت حبال وصالهنّ حبالي (2)
وهي طويلة، أكثر فيها الفخر، وألمّ بالمعنى.
وفاته: ولما انصرف عمر بن حفصون وترك قائده بإلبيرة، جهّز معه طائفة من خيله، وأقرّه لمغاورة سوّار ودرك النيل لديه، وأعمل حفص جهده وطلب غرّته، فأمكنه الله منه، وأنه دنا إليه يوما، وقد أكمن أكثر خيله، وظهر له مستغيرا بجانب من حصنه، فخرج سوّار مبادرا من غرناطة لأول الصّيحة في نفر قليل، لم يحترس من الحيلة التي يحذرها أهل الحزم، فأصحر لعدوه، وخرجت الكمائن من حوله، فقتل وجيء بجثّته إلى إلبيرة، فذكر أن الثّكالى من نسائهم قطّعن لحمه مرقا، وأكلنه حنقا لما نالهنّ من الثّكل. وكان قتل سوّار في سنة سبع وسبعين ومائتين، وقتلت العرب بقتل سوّار، وكلّ حدّها بما نزل بها.
سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله الخليفة بقرطبة (3)
المكنى بأبي أيوب، الملقب من الألقاب الملوكية بالمستعين بالله.
__________
(1) البيتان في الحلة السيراء (ج 1ص 154) والمقتبس، بتحقيق العربي (ص 80).
(2) في الأصل: «وصالها بحبالي»، وقد فضّلنا رواية الحلة والمقتبس.
(3) ترجمة سليمان بن الحكم في البيان المغرب (ج 3ص 91) والذخيرة (ق 2ص 35) وفوات الوفيات (ج 2ص 62) وأعمال الأعلام (ج 2ص 114) وكتاب العبر (م 4ص 324) والمعجب (ص 90) وجذوة المقتبس (ص 17) وبغية الملتمس (ص 22) والمختصر في أخبار البشر (ج 2ص 139، 145) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 1ص 484) والأعلام (ج 3 ص 123).(4/227)
أوّليّته: معروفة.
حاله: كان أديبا شاعرا، مجموع خلال فاضلة، أصيل الرأي، راجح العقل، ثبتا. ولي الخلافة غلابا، وقعصا، ومنازعة، وأوقع بأهل قرطبة وقائع أبادتهم.
وخلع ثم عادت دولته، وجرت له وعليه الهزائم، على قصر أمد خلافته، لقيام البربر بدعوته، وتدويخ البلاد باسمه، في أخبار فيها عبرة، دخل في بعض حركاتها وهو لاتها المبيرة، إلى أن طحنته رحى الفتنة، وشيكا عن دنيا غير هنيّة، وصبابة ليست بسنيّة.
شعره: من شعره يعارض المقطوعة الشهيرة المنسوبة للرشيد (1): [الكامل]
عجبا يهاب اللّيث حدّ سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
فأقارع (2) الأهوال لا متهيّبا ... منها سوى الإعراض والهجران
وتملّكت نفسي ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظّلماء لحن لناظري ... من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال وتلك أخت (3) المشتري ... حسنا، وهذي أخت غصن البان
حاكمت فيهنّ السّلوّ إلى الهوى ... فقضى بسلطان على سلطاني (4)
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني (5)
لا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى (6) ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثان
مقتله: قتله علي بن حمّود، المتقدم الذكر، متولّي الأمر بعده، صبرا بيده، بدم هشام المؤيد، وقال لما زحف إليه: لا يقتل الزّلطان إلّا الزّلطان، يعني السّلطان، إذ كان بربري اللسان، وذلك في أخريات المحرم من سنة سبع وأربعمائة.
__________
(1) الرشيد: هو الخليفة هارون الرشيد، ومقطوعته التي يشير إليها ابن الخطيب مطلعها هو:
[الكامل] ملك الثلاث الآنسات عناني ... حللن من قلبي بكلّ مكان
الذخيرة (ق 1ص 47) والحلة السيراء (ج 2ص 9) وجذوة المقتبس (ص 22) وبغية الملتمس (ص 26) والبيان المغرب (ج 3ص 118). وأبيات الخليفة سليمان المستعين الواردة أعلاه في الذخيرة (ق 1ص 47) والبيان المغرب (ج 3ص 119) والحلة السيراء (ج 2ص 9) وجذوة المقتبس (ص 21) وبغية الملتمس (ص 2625) ونفح الطيب (ج 1ص 412).
(2) في معظم المصادر: «وأقارع».
(3) في معظم المصادر: «بنت».
(4) في الأصل: «سلطان» بدون ياء، والتصويب من المصادر.
(5) في الأصل: «العان»، والتصويب من المصادر.
(6) في نفح الطيب: «في الهوى».(4/228)
سليمان بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان (1)
يكنى أبا أيوب.
حاله: كان شهما جريئا، أنوفا شجاعا، ديّنا فاضلا. ولما توفي أبوه بقصر قرطبة، وهشام وأبو أيوب هذا غائبان، وكّل ابنه عبد الله المعروف بالبلنسي، وقال:
من سبق إليك من أخويك، فارم إليه بالخاتم، فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه، فإن سبق إليك سليمان، فله فضل دينه ونجدته، وحبّ الشاميين له. فقدم هشام من ماردة، وتولّى الخلافة قبل سليمان. واتصل ذلك بسليمان، فأخذ لنفسه البيعة بطليطلة، وما اتصل بها، ودعا إلى نفسه، وواضع أخاه الحرب غير ما مرة، تجري عليه في كلها الهزائم، إلى أن تبرّم بنفسه، وأجاز البحر عن عهد إلى ستين ألفا بذلت له، واستقرّ بأهله وولده ببلاد البربر. ولما صار الأمر للحكم بن هشام، عاد إلى الأندلس سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان اللقاء في شوال منها، فانهزم سليمان، ثم عاد للّقاء فانهزم. وفي سنة أربع وثمانين (2) حشد واحتلّ بجيّان ثم بإلبيرة، والتقى بها معه الحكم، ودام القتال أياما حتى همّ الحكم بالهزيمة، ثم انهزم سليمان وقتل في المعركة بشر كثير، وأفلت سليمان إلى جهة ماردة. وبالتقاء الحكم وعمّه سليمان بإلبيرة وأحوازها استحقّا الذكر هنا على الشرط المعروف.
وفاته: وبعث الحكم أصبغ بن عبد الله في طلب سليمان، فأسره وأتاه به، فأمر بقتله، وبعث برأسه إلى قرطبة. قتل في سنة خمس وثمانين بعدها (3).
سعيد بن سليمان بن جودي السّعدي (4)
حاله: كان سعيد بن سليمان صديق سوّار، فغصبت العرب الإمارة به بعده، وعلقت به، فقام بأمرها وضمّ نشرها، وكان شجاعا بطلا، فارسا مجرّبا، قد تصرف
__________
(1) ترجمة سليمان بن الحكم في البيان المغرب (ج 2ص 61، 70) والكامل في التاريخ (ج 6 ص 168) والمغرب (ج 1ص 39، 70) و (ج 2ص 124، 246) ونفح الطيب (ج 1ص 323) و (ج 4ص 22).
(2) أي: في سنة أربع وثمانين ومائة.
(3) كذا جاء في الكامل في التاريخ (ج 6ص 168). وفي البيان المغرب (ج 2ص 70): قتل سليمان سنة 184هـ.
(4) ترجمة سعيد بن سليمان بن جودي في الحلة السيراء (ج 1ص 154) ونفح الطيب (ج 5ص 83) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 27، 31) وجذوة المقتبس (ص 229) وبغية الملتمس (ص 307).(4/229)
مع فروسيته في فنون من العلم، وتحقق بضروب من الآداب، فاغتدى أديبا نحريرا، وشاعرا محسنا، واتصل قيامه بأمر العرب إلى أن قتل.
شعره: ومن شعره في وقيعة سوّار بالمولدين قوله من قصيدة طويلة:
[الخفيف]
قد طلبنا بثأرنا فقتلنا ... منكم كلّ مارق وعنيد
قد قتلناكم بيحيى وما أن ... كان حكم الإله (1) بالمردود
هجتم يا بني العبيد ليوثا ... لم يكونوا لجارهم بقعود
فاصطلوا حرّها وحدّ سيوف ... تتلظّى (2) عليكم بالوقود
حاكم ماجد يقود إليكم ... فئة سادة كمثل الأسود
ورئيس (3) مهذّب من نزار ... وعميد ما مثله من عميد
يطلب الثأر بابن قوم كرام ... أخذوا بالعهود قبل المهود
فاستباح الحمى فلم (4) يبق منها ... غير عان وفقده (5) المصفود
قد قتلنا منكم ألوفا فما يع ... دل قتل الكريم قتل العبيد
مثّلوه لمّا أضاف إليهم ... لم يكن قتله برأي سديد
قتلته عبيد سوء لئام ... وفعال العبيد غير حميد
لم يصيبوا الرشاد فيما أتوه ... لا ولا كان جدّهم لسعود
قد غدرتم به بني اللؤم من بع ... د يمين قد أكّدت وعهود
فلئن كان قتله غدرة ما ... كان بالنّكس لا ولا الرّعديد
كان ليثا يحمي الحروب وحصنا ... وملاذا وعصمة المقصود
كان فيه التّقى مع الحلم والبأ ... س وجود ما مثله من (6) جود
عال مجد الأمجاد بعدكم (7) ... وقديما، وفتّ كل مجيد
فجزاك الإله جنة عدن ... حيث يجزي الثواب كلّ شهيد
__________
(1) في الأصل: «الله»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «تلظّى»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) كلمة «ورئيس» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «لم»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «فقده مصفود»، وكذا ينكسر الوزن.
(6) كلمة «من» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(7) في الأصل: «بعدك قديما»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.(4/230)
مقتله: قال الملّاحي: كان من الأعلام، وعدّ في الشعراء والفرسان والخطباء والبلغاء، خطب بين يدي الخليفة (1) المنذر، وهو حدث، أول ما أفضت الخلافة إليه، وعليه قباء خزّ، وقد تنكّب قوسا عربية، والكنانة بين يديه. خطب خطبة بليغة، وصلها بشعر حسن، ولم يزل اللّواء يتردد عليه في العزّ والمقام، ويخطب في أعلى المنبر في المسجد الجامع بإلبيرة. وسجل له الخليفة (2) عبد الله على الكورة، إلى أن همّ بالقيام على بني أمية عندما اشتدّت شكيمته، وظهر على عمر بن حفصون إلى أن قتل بسبب امرأة، تمت عليه الحيلة لأجلها بدار يهودية، إذ كان منحطّا في هوى نفسه، فطاح في ذي قعدة سنة أربع وثمانين ومائتين (3)، وصار أمر العرب بعده إلى محمد بن أضحى، حسبما يتقرّر في مكانه.
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
سهل بن محمد بن سهل بن مالك بن أحمد بن إبراهيم ابن مالك الأزدي (4)
صدر هذا البيت، وياقوتة هذا العقد، يكنى أبا الحسن. قال أبو جعفر بن مسعدة: كان رأس الفقهاء وخطيب الخطباء البلغاء، وخاتمة رجال الأندلس.
تفنّن في ضروب من العلم، وبالجملة فحاله ووصفه في أقطار الدنيا، لا يجمله أحد، فحدّث عن البحر ولا حرج، ضنّ الزمان أن يسمح برجل حاز الكمال مثله.
__________
(1) هو المنذر بن محمد، وكان أميرا وليس خليفة، وقد حكم الأندلس من سنة 273هـ إلى سنة 275هـ.
(2) هو الأمير عبد الله بن محمد، الذي حكم الأندلس من سنة 275هـ إلى سنة 300هـ.
واستعمال ابن الخطيب تعبير «الخليفة» ليس في محلّه لأن الخلافة في الأندلس أول من تلقّب بها هو عبد الرحمن الناصر، وذلك في عام 316هـ.
(3) جاء في جذوة المقتبس (ص 229) وبغية الملتمس (ص 307) أن سعيد بن جودي كان في عهد عبد الرحمن الناصر. والمعروف أن الناصر حكم الأندلس من سنة 300هـ إلى سنة 350هـ.
(4) ترجمة سهل بن مالك في رايات المبرزين (ص 149) والتكملة (ج 4ص 125) والمغرب (ج 2ص 105) واختصار القدح المعلّى (ص 60) والذيل والتكملة (ج 4ص 101) والوافي بالوفيات (ج 16ص 23) وبغية الوعاة (ص 264) وزاد المسافر (ص 96) وبرنامج شيوخ الرعيني (ص 59) ونفح الطيب (ج 2ص 327) و (ج 5ص 139، 157).(4/231)
حاله: قال ابن عبد الملك (1): كان من أعيان مصره، وأفضل أهل (2) عصره، تفنّنّا في العلوم، وبراعة في المنثور والمنظوم، محدّثا ضابطا، عدلا ثقة ثبتا، حافظا للقرآن العظيم، مجوّدا له، متقنا (3) في العربية، وافر النصيب من الفقه وأصوله، كاتبا، مجيدا (4) للنظم في معرب الكلام وهزله (5)، ظريف الدعابة، مليح التّندير. له في ذلك أخبار مستظرفة (6) متناقلة، ذا جدة ويسار، متين الدين، تام الفضل، واسع المعروف، عميم الإحسان، تصدق عند القرب من وفاته بجملة كبيرة من ماله ورباعه، وله وفادة على مراكش.
مشيخته: روى ببلده عن خاله أبي عبد الله بن عروس، وخال أمّه أبي بكر يحيى بن محمد بن عروس (7)، وأبي جعفر بن حكم، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس. وبمالقة عن أبي زيد السّهيلي، وأبي عبد الله بن الفخار. وبمرسية عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي القاسم بن حبيش. وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجدّ، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبوي عبد الله العباس بن مضاء، والجراوي الشاعر، وأبي الوليد بن رشد. قرأ عليهم وسمع، وأجازوا له. وأجاز له من أهل الأندلس أبو محمد عبد الله نزيل سبتة، وعبد الحق بن الخراط، نزيل بجاية. ومن أهل المشرق جماعة، منهم إسماعيل بن علي بن إبراهيم الجراوي، وبركات بن إبراهيم الخشوعي أبو الطاهر، وعبد الرحمن بن سلامة بن علي القضاعي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
من روى عنه: روى عنه أبو جعفر بن خلف، والطّوسي، وابن سعيد القزاز، وأبو الحسن العنسي، وأبو عبد الله بن أبي بكر البري، وابن الجنّان، وأبو محمد عبد الرحمن بن طلحية، وأبو محمد بن هارون، وأبو القاسم بن نبيل، وأبو يعقوب بن إبراهيم بن عقاب، وأبو جعفر الطّباع، وأبو الحجاج بن حكم، وأبو الحسن الرّعيني، وأبو علي بن النّاظر، وغيرهم.
ثناء الأعلام عليه: والمجال في هذا فسيح، ويكفي منه قول أبي زيد الفزاري:
[مجزوء الرمل]
عجبا للناس تاهوا ... بثنيّات المسالك
__________
(1) الذيل والتكملة (ج 4ص 103102). وانظر أيضا: بغية الوعاة (ص 265264).
(2) في الذيل والتكملة: «وأفاضل عصره».
(3) في المصدر نفسه: «متقدّما».
(4) في المصدر نفسه: «النظم».
(5) في المصدر نفسه: «وهزليّه».
(6) في المصدر نفسه: «مستطرفة».
(7) ترجمة أبي بكر يحيى بن محمد، المعروف بابن عروس، في التكملة (ج 4ص 181).(4/232)
وصفوا بالفضل قوما ... وهم ليسوا هنالك
كثر النّقل ولكن ... صحّ عن سهل بن مالك
شعره: وشعره كثير مما ينخرط في سلك الجيد، فمن ذلك قوله: [الطويل]
نهارك في بحر السّفاهة يسبح ... وليلك عن نوم الرّفاهة يصبح
وفي لفظك الدّعوى وليس إزاءها ... من العمل الزّاكي دليل مصحّح
إذا لم توافق قولة منك فعلة ... ففي كل جزء من حديثك تفصح
تنحّ عن الغايات لست من اهلها ... طريق الهوينا في سلوكك أوضح
إذا كنت في سنّ البنا غير صالح ... ففي أيّ سنّ بعد ذلك تصلح؟
إلى كم أماشيها على الرّغم غاية ... يصيب المزكّى عندها والمجرّح
عليها (1) ألا تني وتنوي فتحسن ... في عين الشّباب (2) وتقبح
عسى وطر موقى (3) فألتمس الرّضا ... وأقرع أبواب الرّشاد فتفتح
فقد ساء ظنّي بالذي أنا أهله ... وفضلك يا مولاي يعفو ويصفح
وقال في تشييع بعض الفقهاء من غرض الأمداح: [البسيط]
يلقاك من كل من يلقاك ترحيب ... ومن خليفتها عزّ وتقريب
وتصطفيك إلى أحوازها رتب ... لها على مفرق الجوزاء ترتيب
تأتي إليك بلا سعي بلا سبب ... كأنّ تركك للأسباب تسبيب
من كلّ مشغوفة بالحسن دام لها ... إلى غنائك تصعيد وتصويب
يلقاك بالبشر والإقبال خاطبها ... وحظّها منك إعراض وتقطيب
ما زلت ترغب عنها وهي راغبة ... كأنّ زهدك فيها عنك ترغيب
فانهض إليها فلو تسطيع (4) كان لها ... إلى لقائك إرجاء وتقريب
يحيى وتحيى فللباغي مواهبها ... عذب الزّلال وللباغين تعذيب
سارت على العدل والإحسان سيرتها ... حتى تلاقى عليها الشّاة والذّيب
لم تصبها لذّة الدنيا وزخرفها ... ولا سبتها المطايا والجلابيب
__________
(1) في الأصل: «وعليها ألّا تنو ولا تني»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الشيبان»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «مونق» وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «تستطيع»، وكذا ينكسر الوزن.(4/233)
إذا أهمّ بني الدنيا نعيمهم ... فهمّها البيض والجرد السّلاهيب
فوق الكواكب مضروب سرادقها ... منها (1) على أفق الأفلاك تطنيب
كرعت في ظلّها الصافي بسلسلها ... كأنها لك في المشروب شرّيب
في قبية من بني الآمال قد قرعت ... سهم إلى طلب العليا طبابيب
إذا حضرنا طعاما فهو (2) مأدبة ... وإن سمعنا كلاما فهو تأديب
ومن يلذ بأبي إسحاق كان له ... أعلاق مال وأغلاق وتهذيب
يا مالك (3) السّرّ من قلبي ويا ملكا ... إن ناب خطب فمن جدواه تأنيب
هب القرار لآمال مسافرة ... وقد أضرّ بها بعد وتغريب
ففي يمينك وهّابا ومنتظما ... بسط وقبض وترغيب وترهيب
وما يصرّ كتابا راق منظره ... إن ناله من تراب الأرض تتريب
لك السّيادة لا يلقى لسؤددها ... مثل وإن طال تنقير وتنقيب
عزم كحدّ سنان الرّمح يصحبه ... عدل كما اعتدلت فيه الأنابيب
كمال نفسك للأرواح تكملة ... وذكر فضلك للأرواح تشبيب
وعرف ذاتك كاف في تعرّفنا ... بنفحة الطّيب يدري أنّه طيب
إذا ذكرت فللأشعار مضطرب ... رحب المجال وللألحان تطريب
سر حيث شئت موفّى من مكارمها ... يهابك الدهر والشّبان والشّيب
في غرّة تخلق الأيام جدّتها ... لها على أفق الأملاك تطنيب
ومن نمط النّسيب والأوصاف قوله وهو بسبتة بعد وصوله من مراكش، وهو مما طار من شعره (4): [الكامل]
لمّا حططت (5) بسبتة قتب (6) النوى ... والقلب يرجو أن تحوّل (7) حاله
والجوّ مصقول الأديم كأنما ... يبدي الخفيّ من الأمور صقاله
__________
(1) كلمة «منها» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «فهي»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «يا ملدّ»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) الأبيات عدا البيت الثاني، في رايات المبرزين (ص 149) واختصار القدح المعلى (ص 62).
ووردت كلها في نفح الطيب (ج 5ص 158) والذيل والتكملة (ج 4ص 106).
(5) في رايات المبرزين واختصار القدح: «لمّا أنخت».
(6) القتب: إكاف البعير، وقد استعاره الشاعر للنوى تخييلا.
(7) في النفح: «أن يحوّل».(4/234)
عاينت (1) من بلد الجزيرة مكنسا (2) ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله
كالشّكل في المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعزّ مناله
ومن شعره قوله، رحمه الله: [الطويل]
تبسّم واستأثرت منه بقبلة ... فشمت أقاحا وارتشفت عقارا
ومرّ فأيدي الريح ترسل شعره ... كما ستر الليل البهيم نهارا
فيا لك ليلا بالكثيب قطعته ... كما رعت بالزّجر الغراب فطارا
تغصّ بنا زهر الكواكب غيرة ... فتقدح في فحم الظلام شرارا
ومن ذلك قوله (3): [الطويل]
ولمّا رأيت الصّبح هبّ نسيمه ... دعاني داعيه إلى البين والشّتّ (4)
وقلت (5): أخاف الشمس تفضح سرّنا ... فقالت: معاذ الله تفضحني أختي (6)
ومن الحكم وأبيات الأمثال قوله، رحمة الله عليه (7): [البسيط]
منغّص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا (8) بلد أو كان ذا ولد
والسّاكن النّفس من لم ترض همّته ... سكنى مكان ولم تسكن (9) إلى أحد
ومن شعره (10):
ولا مثل يوم قد نعمنا بحسنه ... مذهّب أثناء المروج صقيل
إلى أن بدت شمس النهار تروعنا ... بسير صحيح واصفرار عليل
ولا توارت شمسه بحجابها ... وأذّن باقي نورها برحيل
__________
(1) في الأصل: «عانيت» والتصويب من المصادر الأربعة.
(2) في الأصل: «مسكنا» والتصويب من المصادر الثلاثة. والمكنس: مسكن الظبي.
(3) البيتان في اختصار القدح المعلى (ص 62) ورايات المبرزين (ص 150).
(4) ورد في رايات المبرزين مكان هذا البيت البيت التالي:
ولمّا بدا ضوء الصباح رأيتها ... تنفّض رشح الطّلّ عن ناعم صلت
(5) في المصدرين: «فقلت».
(6) في الأصل: «أخت» والتصويب من اختصار القدح.
(7) البيتان في بغية الوعاة (ص 265) ونفح الطيب (ج 2ص 327) والذيل والتكملة (ج 4ص 104).
(8) في الذيل والتكملة: «في بلد».
(9) في النفح: «لم يسكن».
(10) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 4ص 107).(4/235)
وغابت فكان الأفق عند مغيبها ... كقلبي مسودّا (1) لفقد خليلي (2)
أتانا بها صفراء (3) يسطع نورها ... فمزّق سربال الدّجى بفتيل
فردّت علينا شمسنا وأصيلنا ... بمشبّه شمس في شبيه أصيل
ومن نثره قوله يخاطب بني أبي الوليد بن رشد، تعزية في أبيهم، واستفتحه بهذه الأبيات (4): [الطويل]
ألا ليت شعري، هل لطالب غاية ... وصول وأحداث الزمان تعوقه؟
مضى علم العلم الذي ببيانه ... تبيّن خافيه وبان طريقه
أخلّاي (5)، إني من دموعي بزاخر ... بعيد عن الشّطّين منه غريقه
وما كان ظنّي قبل (6) فقد أبيكم (7) ... بأنّ مصابا مثل هذا أطيقه
ولم أدر من أشقى الثلاثة بعده ... أأبناؤه (8) أم دهره أم صديقه؟
ومن شاهد الأحوال بعد (9) مماته ... تيقّن (10) أنّ الموت نحن نذوقه
رجوعا إلى الصّبر الجميل فحقّه ... علينا قضى أن لا توفّى (11) حقوقه
أعزّيكم في البعد عنه (12) فإنني ... أهنّيه قربا من جوار يروقه
فما كان فينا منه إلّا مكانه ... وفي العالم العلويّ كان رفيقه
إيه (13) عن المدامع، هلّا تلا انحدار الدّمعة انحدارها؟ والمطامع هل ثبت (14)
على قطب مدارها؟ والفجائع أغير دار بني رشد دارها؟ فإنه حديث أتعاطاه مسكرا، وأستريح الله مفكرا، وأبثّه باعثا على الأشجان مذكرا، ولا أقول كفى، وقد ذهب الواخذ (15) الذي كنت تتلافى، ولا أستشعر صبرا، وقد حلّ نور العلم قبرا، بل أغرق
__________
(1) في الأصل: «مسودّ»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الأصل: «خليل»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الأصل: «صفرا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في اختصار القدح (ص 63) أن الأبيات قيلت في رثاء القاضي أبي الوليد بن رشد. وقد ورد في المصدر المذكور فقط ستة أبيات. ووردت كلها في الذيل والتكملة (ج 4ص 121).
(5) في الأصل: «أخلائي» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) في الذيل والتكملة: «بعد».
(7) في اختصار القدح: «فقد جلاله».
(8) في الأصل: «أبناؤه» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) في اختصار القدح: «عند».
(10) في المصدر نفسه: «تبيّن».
(11) في اختصار القدح: «ألّا تؤدّى».
(12) في الذيل والتكملة: «منه».
(13) النص في الذيل والتكملة (ج 4ص 124121).
(14) في الذيل والتكملة: «والمطامع أثبت».
(15) في المصدر نفسه: «الواحد أرى به ألفا، ولا صبرا، وقد أسكن العالم قبرا، بل أعري الأجفان(4/236)
الأجفان بمائها، وأستدعي الأحزان بالشّهير من أسمائها، وأستوهب الأشجان غمرة غمائها. ثم أتهالك تهالك المجنون، وأستجير من الحياة بريب المنون، وأنافر السّلوة (1) منافرة وسواس الظّنون، ولا عتب، فإذا خامر الواله جزعه، فإلى نصرة المدامع مفزعه (2)، وإذا ضعف احتماله، فإلى غمرة الإغماء مآله، ومن قال: إنّ (3)
الصبر أولى، ولّيته من ذلك ما تولّى. أما أنا فأستعيد من هذا المقام وأستعفيه، وأنزّه نفس الوفاء عن الحلول فيه، فإنه متى بقي للصّبر مكان، ففي محلّ الحزن لقبول ما يقاومه إمكان، وقد خان الإخاء وجهل الوفاء، من رام قلبه السّلوّ، وألفت (4) عينه الإغفاء. هو الخطب الذي نقى (5) الهجود، وألزم أعين الثّقلين أن تجود (6)، وبه أعظم الدهر المصاب، وفيه أخطأ سهم المنيّة حين أصاب. فحقّنا أن نتجاوز الجيوب إلى القلوب (7)، وننقلب (8) إذا غالبنا الحزن بصفقة (9) المغلوب، وإذا كان الدهر السّالب فلا غضاضة على المستريح لأنه (10) المسلوب. أستغفر الله، فقد أتذكّر (11) من مفقودنا، رضي الله عنه حكمه، وأشاهد (12) بعين البصيرة شيمه (13)، فأجدهما يكفّان من واكف الدمع ديمه، ويقولان: الوله عند مماسة المصاب (14)، ومزاحمة الأوصاب، أمر إن وقع، فقد ضرّ فوق ما نفع، فإنه لا ألم الحزن شفاه، ولا حقّ المصيبة وفّاه، ولا الذّاهب الفائت استرجعه وتلافاه، فربما جنحت إلى الصّبر لا رغبة فيه، بل إيثارا لمقصده وتشيّعا لتصافيه، فأستروح رائحة السّلو، وأنحطّ قاب قوسين (15) أو أدنى عن سدرة ذلك العلو، وأقف بمقام الدّهش بين معنى الحزن
__________
من مائها».
(1) في الذيل والتكملة: «السلوّ منافرة اليقين لوساوس الظنون».
(2) في المصدر نفسه: «فزعه».
(3) كلمة «إن» ساقطة في الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «أو ألفت».
(5) في الأصل: «يقي» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) قوله: «أن تجود» ساقط في الأصل، وقد أضفناه من الذيل والتكملة ليكتمل المعنى وتكتمل السجعة.
(7) في الذيل والتكملة: «القلوب إلى الجيوب».
(8) في الأصل: «ونتغلّب» والتصويب من الذيل والتكملة.
(9) في الأصل: «بصفة» والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) قوله: «المستريح لأنه» ساقط في الأصل، وقد أضفناه من الذيل والتكملة.
(11) في الأصل: «قفا نتذكر» والتصويب من الذيل والتكملة.
(12) في الأصل: «ونشاهد»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(13) في الأصل: «سيمه» والتصويب من الذيل والتكملة.
(14) في الأصل: ويقولون: «عندي آسّه المصاب»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(15) في الذيل والتكملة: «قوس».(4/237)
المستحكم ولفظ العزاء (1) المتلوّ. فأبكي بكاء النساء، وأصبر صبر الرؤساء، وأحرز (2)
رزايا الفضلاء، بفضل (3) رزايا الأخسّاء، موازنة بين (4) هذا الوجود، وبخل يتعاقب على محل الجود (5). فالدهر يسترجع ما وهب، كان الصّفر (6) أو الذّهب. وإذا تحقّق عدم ثباته، وعدم (7) استرجاعه لجميع هباته، كان (8) المتعرّض لكثيره، محلا لتأثيره.
فلا غرو أن دهمكم الرّزء، مورد (9) الفلك الدّابر (10) منه الجزء، فطالما بتّم ترضعكم الحكمة أخلافها، وتهبكم الخلافة آلافها، وتؤملكم (11) الأيام خلافها. وإذا صحيت (12) العقول، وضنّ بما لديه المعقول، وصارت الأذهان إلى حيث لا تتصوّر والألسنة (13) بحيث لا تقول، وردتم معينا، ووجدتم معينا، وافتضضتموها كمثل (14)
اللؤلؤ المكنون صورا (15) عينا. أظننتم أن عين الله (16) تنام، أم رمتم أن يكون صرحا إلى إله موسى ذلك السّنام؟ لشدّ ما شيّدتم (17) البناء، وألزمتم اتّباع الأب الأبناء (18)، حتى غرق الأول في الآخر، وصار السّلف على ضخامته أقلّ المفاخر. ومن علت في علاها (19) قدم ترقّيه، ولم يصب (20) بكماله عينا (21) يحفظ من عين العلن ويقيه، فكثيرا ما يأتيه محذوره من جهة توقّيه. هذا أبوكم، رضي الله عنه، حين استكمل، فعرف (22) الضّارّ والشّافي، وتعذّرت صفات كماله على الحرف النّافي، فيا (23) لله لفظة أواليها، وأتبعها زفرة تليها، لقد بحثت الأيام عن حتفها بظلفها، وسعت على قدمها إلى رغم أنفها، [حين أتلفت الواحد يزن مائة ألفها] (24)، فمن لبثّ الوصل
__________
(1) في الأصل: «القرا» والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الذيل والتكملة: «وأجد».
(3) في المصدر نفسه: «تفضل».
(4) في المصدر نفسه: «في».
(5) في الأصل: «ونحل تتعاقب على نحل الجود»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الأصل: «الصفراء» والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في الذيل والتكملة: «وعلم».
(8) في المصدر نفسه: «صار».
(9) في الذيل والتكملة: «يؤود».
(10) في المصدر نفسه: «الدائر».
(11) في المصدر نفسه: «وتؤمنكم».
(12) في المصدر نفسه: «ظمئت».
(13) في الأصل: «الألسنة» والتصويب من الذيل والتكملة.
(14) في الذيل والتكملة: «كأمثال».
(15) في المصدر نفسه: «حورا».
(16) في المصدر نفسه: «الدّهر».
(17) في المصدر نفسه: «شدتم».
(18) في المصدر نفسه: «اتباع الأبناء الكرام الآباء».
(19) في المصدر نفسه: «علوها».
(20) في المصدر نفسه: «ولم يطف».
(21) في المصدر نفسه: «عيبا يحفظه من عين العائن ويقيه».
(22) في المصدر نفسه: «تعرّف».
(23) في المصدر نفسه: «فإنّا».
(24) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من الذيل والتكملة.(4/238)
ولرعي (1) الوسائل، وإلى من يلجأ في مشكلات المسائل؟ ومن المجيب إذا لم يكن المسؤول بأعلم من السّائل؟ اللهم صبّرنا على فقد الأنس بالعلم، وأدلنا من حفوف الوله بوقار الحلم، وأخلفه في بنيه وعامة أهليه، بشبيه ما أوليته في جوارك المقدس وتولّيه. وإليكم أيها الإخوة الأولياء، والعلية الذين عليهم قصرت العلياء، أعتذر من اتخاذ (2) الشيء من الكلام بنقصه (3) الأشياء. فقد خان في هذا الزمان (4)، حتى اللسان، وفقد منه حتى الحسان (5)، وليس لتأبين محمد صلى الله عليه وسلم، إلّا حسّان، فالعذر منفسح المجال، وإلى التقصير في حقّ رزئكم الكبير نصير (6) في الرّوية والارتجال.
ولذلك عدلت إلى الإيجاز، واعتقدت في (7) إرسال القول في هذا الموضع ضربا من المجاز، ومبلغ النفس عذرها مع العجز كالصّائر (8) للإعجاز. وأما حسن العزاء، على تعاقب هذه الأرزاء، فأمر لا أهبه بل أستجديه، ولا أذكركم به ونفس صبركم متوغلة فيه، فسواكم يلهم للإرشاد (9)، ويذكّر بطرق الرشاد، جعل الله منكم لآبائكم خلفا، وأبقى منكم لأبنائكم سلفا، ولا أراكم (10) الوجود بعده تلفا. والسلام (11).
محنته: امتحن، رحمه الله، بالتّغريب عن وطنه، لبغي بعض حسدته عليه، فأسكن بمرسية مدّة طويلة، إلى أن هلك بألمرية الأمير أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، آخر جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وستمائة. فسرّح أبو الحسن بن سهل إلى بلده في رمضان من هذه السنة.
ومن شعره في ذلك الحال مما يدلّ على بعد شأوه ورفعة همته، قوله (12):
[الطويل]
أدافع همّي (13) عن جوانب همّتي ... وتأبى هموم العافين عن (14) الدّفع
__________
(1) في الذيل والتكملة: «ورعي».
(2) في المصدر نفسه: «إيجاد».
(3) في المصدر نفسه: «تنقصه».
(4) في المصدر نفسه: «الزمن».
(5) في المصدر نفسه: «وفقد حتى منه الإحسان».
(6) في المصدر نفسه: «مصير ذي الروية».
(7) كلمة «في» ساقطة في الذيل والتكملة.
(8) في الأصل: «كالصابر»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(9) في الذيل والتكملة: «إلى الإرشاد».
(10) في الأصل: «ولا لد لكم» والتصويب من الذيل والتكملة.
(11) في الذيل والتكملة: «تلفا، بمنّ الله وكرمه، والسلام».
(12) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 4ص 104103) وبرنامج شيوخ الرعيني (ص 61).
(13) في الأصل: «الدمع همى»، وكذا ينكسر الوزن، والمعنى لا يتلاءم مع السياق.
(14) في الذيل والتكملة: «على».(4/239)
وألتمس العتبى وحيدا وعاتبي (1) ... وصرف الليالي والحوادث في جمع
وإنّي من حزمي وعزمي (2) وهمتي ... وما رزقته النّفس من كرم الطّبع
لفي منصب تعلو السماء سماته ... فتثبت (3) نورا في كواكبها السّبع
غلا صرف دهري إذ علا فإذا به ... تراب لنعلي أو غبار على شسعي (4)
تدرّعت بالصبر الجميل وأجلبت ... صروف الليالي كي تمزّق لي درعي (5)
فما ملأت قلبي ولا قبضت يدي ... ولا نحتت أصلي ولا هصرت فرعي (6)
فإن عرضت لي لا يفوه بها فمي ... وإن زحفت لي لا يضيق بها ذرعي (7)
وفي هذه الأبيات تأنيث السّبعة الكواكب، وحكمها التّذكير، وذلك إما لتأويل بعد أو غفلة، فلينظره. قال أبو الحسن الرعيني: ودخلت عليه بمرسية، وبين يديه شمّامة زهر، فأنشدني لنفسه (8): [الطويل]
وحامل طيب لم يطيّب بطيبه ... ولكنه عند الحقيقة طيب
تألّف من أغصان آس وزهرة (9) ... فمن صفتيه زاهر ورطيب
تعانقت الأغصان فيه كما التقى ... حبيب على طول النّوى وحبيب
وإن الذي أدناه دون (10) فراقه ... إليّ كبير (11) في الوجود عجيب
مناسبة للبين كان انتسابها ... وكلّ غريب للغريب نسيب
فبالأمس في إسحاره (12) وبداره ... وباليوم في دار الغريب غريب
__________
(1) في الأصل: «وغايتي» والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الذيل والتكملة: «من عزمي وحزمي».
(3) في الأصل: «فيثبت» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «سبع»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الأصل: «درع» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الأصل: «فما مللت ولا لحمت ولا حضرت فرع»، وهكذا ينكسر الوزن، والمعنى مضطرب، والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في الأصل: «ذرع» والتصويب من الذيل والتكملة.
(8) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 4ص 104) وبرنامج شيوخ الرعيني (ص 62).
(9) في الأصل: «تألف من أغصان زهره»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(10) في المصدرين: «بعد».
(11) في المصدرين: «كرّ».
(12) في المصدرين: «أشجاره».(4/240)
تواليفه: صنّف في العربية كتابا مفيدا، رتّب الكلام فيه على أبواب كتاب سيبويه. وله تعاليق جليلة على كتاب المستصفى في أصول الفقه، وديوان شعر كبير.
وكلامه الهزلي ظريف شهير.
مولده: عام تسعة وخمسين وخمسمائة.
وفاته: توفي بغرناطة منتصف ذي قعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة. وزعم ابن الأبّار (1) أن وفاته كانت سنة أربعين وستمائة، وليس بصحيح (2). ودفن بمقبرة شقستر. قال ابن عبد الملك (3): وكان كريم النفس، [فاضل الطبع، نزيه الهمّة] (4)، حصيف الرأي، شريف الطباع، وجيها، مبرورا، معظّما عند الخاصة والعامة.
من رثاه: ممن كتب إلى بنيه يعزّيهم في مصابهم بفقده، ويحضّهم على الصبر من بعده، تلميذه الكاتب الرئيس أبو عبد الله بن الجنّان (5): [الطويل]
دعوني وتسكاب الدموع السّوافك (6) ... فدعوى (7) جميل الصّبر دعوة آفك
أصبر جميل في قبيح حوادث ... خلعن على الأنوار ثوب الحوالك
تنكّرت الدنيا على الدّين ضلّة ... ومن شيمة الدنيا تنكّر فارك
فصبّحنا (8) حكم الردى بردائه ... فتلك وهذا (9) هالك في المهالك (10)
__________
(1) التكملة (ج 4ص 126).
(2) أظنّ أن ابن الخطيب يردّد هنا ما قاله ابن عبد الملك في الذيل والتكملة (ج 4ص 108):
وهو: «وليس بشيء».
(3) الذيل والتكملة (ج 4ص 105).
(4) ما بين قوسين ساقط في الذيل والتكملة.
(5) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 4ص 114108).
(6) في الأصل: «السوابك» والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في الأصل: «فدعوني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(8) في الذيل والتكملة: «فضمّهما».
(9) في الأصل: «وهذي»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) في الذيل والتكملة: «الهوالك».(4/241)
عفا طلل منها ومنه فأصبحا (1) ... شريكي عنان في بلا متدارك (2)
فلا بهجة تبدي (3) مسرّة ناظر ... ولا حجّة تهدي محجّة (4) سالك
وما انتظم الأمران إلّا ليؤذنا ... بأمر دها سير النجوم السّوابك (5)
وإنّ لمنشور الوجود انتظاره (6) ... بكفّي فناء للفناء مواشك (7)
أما قد علمنا والعقول شواهد ... بأنّ انقراض العلم أصل المهالك
إذا أهلك (8) الله العلوم وأهلها ... فما الله للدهر الجهول ببارك (9)
هل العلم إلّا الرّوح والخلق جثّة ... وما الجسم بعد الروح بالمتماسك
وما راعني في عالم الكون حادث ... سوى حادث في عالم ذي مدارك
لذلك ما أبكي كأني متمّم (10) ... أتمّم ما أبقى الأسى (11) بعد مالك
__________
(1) في الأصل: «فأصبحنا»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الأصل: «غماز في تلا متدارك»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الذيل والتكملة: «تهدي».
(4) في الأصل: «بحجة» والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل والتكملة: «بأن قد دنا نثر النجوم الشوابك».
(6) في الذيل والتكملة: «وآن لمنثور الوجود انطواؤه».
(7) في الأصل: «يكفى فنا للفنا بواشك»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من الذيل والتكملة.
(8) في الذيل والتكملة: «أذهب».
(9) في المصدر نفسه: «بتارك».
(10) في الأصل: «متيّم» والتصويب من الذيل والتكملة. وهنا إشارة إلى الشاعر متمم بن نويرة وبكائه لأخيه مالك حين قتل في حروب الردّة.
(11) في الأصل: «لا سمى» وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من الذيل والتكملة.(4/242)
وسهّل عندي أن أرى الحزن مالكي ... مصابي بالفيّاض سهل بن مالك
إمام هدى كنّا نقلّد رأيه ... كتقليد رأي الشّافعي ومالك
غمام ندى (1) كنّا عهدنا سماحه ... بساحل دارات العماد الحوائك (2)
أحقّا قضى ذاك (3) الجلال وقوّضت ... مباني معال في السماء سوامك؟
وأقفر في نجد من المجد ربعه ... وعمّر قبر مفرد بالدّكادك؟
وغيّب (4) طود في صعيد بملحد (5) ... وغيّض بحر في ثرى متلاحك (6)
ووارى شمس المعارف غيهب ... من الخطب يردي (7) بالشّموس الدّوالك (8)
ألا أيها النّاعي لك الثّكل لا تفه ... بها إنها أمّ الدّواهي الدّواهك (9)
لعلّك في نعي العلا متكذّب ... فكم ماحل من قبل فيه وماحك
__________
(1) في الأصل: «سدى» والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الذيل والتكملة: «يساجل درّات العهاد الحواشك».
(3) كلمة «ذاك» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «وغبّ» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل والتكملة: «ملحّد».
(6) في الأصل: «وغيض فجر في يدي متلاحك»، والتصويب من الذيل والتكملة: والمتلاحك:
المتلاحم.
(7) في الذيل والتكملة: «يودي».
(8) الدوالك: المائلة للغروب.
(9) في الأصل: «بهلك الدواهي الدواهك»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من الذيل والتكملة. والدواهك: التي تدق وتطحن.(4/243)
فكذّبهم (1) يا ليت أنك مثلهم ... تواتر أخبار وصدق مآلك
فيا حسن ذاك القول إذ بان كذبه ... ويا قبحه والصّدق بادي المسالك
لقد أرجفوا (2) فيه وقلبي راجف ... مخافة تصديق الظّنون الأوافك
كأنّ كمال الفضل كان يسوءهم (3) ... فأبدوا على نقص (4) هوى متهالك
كأنهم مستبطئون ليومه (5) ... كما استبطأ المصبور (6) هبّة باتك (7)
كأنهم مستمطرون لعارض ... كعارض عاد للتجلّد عارك
بلى إنهم قد أرهصوا لرزيّة ... تضعضع ركن الصّابر المتمالك
فقد كان ما قد أنذروا بوقوعه ... فهل بعده للصبر (8) صولة فاتك؟
مصاب مصيب للقلوب بسهمه (9) ... رمى عن قسيّ لليالي عواتك
__________
(1) في الأصل: «يكذبهم» والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الأصل: «لمقدار جفوا»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الأصل: «يسومهم»، والتصويب من المصدر السابق.
(4) في الأصل: «نغص هو متمالك»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من المصدر السابق.
(5) في الأصل: «يستبطون أيومة»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) قوله: «المصبور هبة» غير وارد في الأصل، وجاء مكانه بياض، وقد أضفناه من الذيل والتكملة.
(7) في الأصل: «فاتك»، والتصويب من المصدر السابق.
(8) في الذيل والتكملة: «للدهر».
(9) في الأصل: «بسيّد»، والتصويب من الذيل والتكملة.(4/244)
بكت حسنها (1) الغبراء فيه فأسعدت ... بأدمعها الخضراء ذات الحبائك (2)
على علم الإسلام قامت نوادب ... بهتن مباك أو بهتم مضاحك
فمن سنّة سنّت على الرأس تربها ... ومكرمة ناحت لأكرم هالك
ومن آية تبكي منوّر (3) صبحها ... إذا قام في جنح من الليل حالك
ومن حكمة تبكي (4) لفقد مفجّر ... لينبوعها السّلسال في الأرض سالك
فيا أسفي من للهوى ورسومه ... ومن لمنيخ عند تلك المبارك؟
ومن للواء الشّرع يرفع خفضه ... ويمنع من تمزيقه كفّ هاتك؟
ومن لكتاب الله يدرس وحيه ... ويقبس منه النور غير متارك؟
ومن لحديث المصطفى ومآخذ (5) ... يبيّنها (6) في فهمه ومتارك؟
ومن ذا يزيل اللّبس في متشابه ... ومن ذا يزيح الشّكّ عن متشابك؟
__________
(1) في الذيل والتكملة: «حزنها».
(2) في الأصل: «الجمايك»، والتصويب من الذيل والتكملة. والخضراء: السماء. والحبائك:
الطرق، أي طرق النجوم.
(3) في الأصل: «بنور»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «ترثي».
(5) في الأصل: «وماجد»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الأصل: «يبيّن بها»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.(4/245)
ومن لليراع الصّفر (1) طالت (2) بكفّه ... فصارت طوال السمر (3) مثل النيازك؟
ومن للرّقاع البيض طابت بطيبه (4) ... فجابت إلى الأملاك سبل المسالك؟
ومن لمقام الحفل يصدع بالتي ... تقصّ (5) لقسّ من جناح المدارك؟
ومن لمقال كالنّضار يخلّص (6) ... لإبريزه التبريز لا للسّبائك؟
ومن لفعال إن ذكرت بناءه ... فعال وإن تنشر فمسكة فارك؟
ومن لخلال كرّمت وضرائر (7) ... ضربن بقدح في عتاب (8) الضّرائك (9)؟
ومن لشعار الزهد أخفي بالغنى (10) ... ففي طيّه فضل الفضيل ومالك (11)؟
ومن لشعاب المجد أو لشعوبه ... إذا اختلطت ساداته بالصّعالك؟
ألا ليس من: فاكفف عويلك أو فرد ... فما بعد سهل في العلى من مشارك
أصبنا فيالله فيه وإنما ... أصبنا لعمري في الذّرى والحوارك
__________
(1) في الأصل: «المصفرّ»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.
(2) في الأصل: «طابت»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الأصل: «الشمس»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «طارت بذكره».
(5) في الأصل: «تغصّ»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الذيل والتكملة: «مخلّص».
(7) في الذيل والتكملة: «وضرائب».
(8) في المصدر نفسه: «غياث».
(9) الضرائك: الفقيرات الجائعات.
(10) في الأصل: «بالفنا» والتصويب من الذيل والتكملة.
(11) الفضيل: هو الفضيل بن عياض. ومالك: هو مالك بن دينار.(4/246)
فناد بأفلاك المحامد: أقصري ... فلا دوران، زال (1) قطب المدارك
وصح بالسناء (2) اليوم أقويت منزلا ... بوطء المنايا لا بوطء السّنابك
على هذه حام الحمام محلّقا ... ثمانين حولا كالعدوّ المضاحك
فسالمه في معرك الموت خادعا ... وحاربه إذ جاز ضنك المعارك
طواك الرّدى مهما يساكن فإنّه ... محرّك جيش ناهب العيش ناهك
سبى سبأ قدما وحيّ (3) السّكاسك ... ولم يأل عن خون لخان (4) ومالك
وأفنى من ابناء (5) البرايا جموعها ... وألقى البرى (6) بالرغم فوق البرامك
سواء لديه أن يصول بفاتك (7) ... من الناس (8) ناس للتقى أو بناسك
ولو أنه أرعى على ذي كرامة ... لأرعى (9) على المختار نجل العواتك (10)
__________
(1) في الأصل: «بل»، وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا، والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الأصل: «بالبناء» والتصويب من المصدر السابق.
(3) في الأصل: «نبا سبا قدما وهي»، وكذا يختل الوزن والمعنى، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «لحائز»، وكذا يختل الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل والتكملة: «من افناء».
(6) في الأصل: «البرايا»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.
(7) في الأصل: «بقلبك»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدر السابق.
(8) في الأصل: «للناس» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.
(9) في الأصل: «لأعيى»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) المختار: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعواتك: ثلاث، يعني جدّاته صلى الله عليه وسلم.(4/247)
ولو راعه عمر تكامل ألفه ... لما راع نوحا في السّنين الدّكادك (1)
وما من سبيل للدوام وإنما ... خلقنا لأرحاء المنون الدواهك (2)
فيا آل سهل أو بنيه مخصصا ... نداء عموم في غموم موالك
أعندكم أني لما قد عراكم ... أمانع صبري لن يلين عرائكي (3)؟
فكيف أعزّي والتعزّي محرّم ... عليّ ولكن عادة آل مالك (4)
فإن فرح (5) يبدو فذاك (6) تكرّه ... لتجريع صاب من مصاب مواعك
وإن كان صبر (7) إنها لحلومكم ... ثوابت (8) في مرّ الرياح السواهك
ورثتم سنا ذاك المقدّس (9) فارتقوا ... بأعلى سنام من ذرى العزّ تامك (10)
فلم يمض من أبقى من المجد إرثه ... ولم يلق ملكا (11) تارك مثل مالك
__________
(1) في الذيل والتكملة: «الدكائك».
(2) في الأصل: «الرامك»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدر السابق.
(3) في الأصل: «عزائك»، والتصويب من المصدر السابق.
(4) في الأصل: «الرمالك»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المصدر السابق.
(5) في المصدر السابق: «جزع».
(6) في الأصل: «فذلك»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.
(7) في الأصل: «صبرا» والتصويب من المصدر السابق.
(8) في الأصل: «توابة»، وكذا يختل المعنى والوزن معا.
(9) في الذيل والتكملة: «المقدّم».
(10) في الأصل: «نامك»، والتصويب من الذيل والتكملة. والتامك: المرتفع.
(11) في الذيل والتكملة: «هلكا».(4/248)
أتدرون لم جدّت ركاب أبيكم ... كما جدّ سير بالقلاص الرواتك (1)؟
تذكّر في أفق السماء قديمه ... فحنّ إلى عيص (2) هنالك شابك
وكان (3) سما في حضرة القدس حظّه ... فلم يله (4) عنه بالحظوظ الركائك
فيا عجبا منّا نبكّي مهنّأ ... تبوّأ دارا في جوار الملائك
يلاقيه في تلك المغاني رفيقه ... بوجه منير بالتّباشير ضاحك
فلا تحسبوا أنّ النّوى غال روحه ... لجسم ثوى تحت الدّكادك سادك (5)
فلو أنكم كوشفتم (6) بمكانه ... رأيتم مقيما في أعالي الأرائك
ينعّم في روض الرّضا وتجوده ... سحائب في كثبان مسك عوانك (7)
كذلك وعد الله في ذي مناسب ... من البرّ صحّت بالتّقى (8) ومناسك
فيا رحمة الرحمن وافي جنابه ... ويا روحه سلّم عليه وبارك
__________
(1) الرواتك: التي تمشي وكأنّ برجليها قيدا.
(2) في الأصل: «غيض» والتصويب من الذيل والتكملة. والعيص: الأصل. والعيص الشابك:
متصل القرابة.
(3) في الأصل: «وكلّ»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «يلب»، والتصويب من المصدر السابق.
(5) السادك: اللازم.
(6) في الأصل: «توشفتم» والتصويب من المصدر السابق.
(7) العوانك: جمع عانك، والعانك من الرمل: ما في لونه حمرة، أو ما هو تعقّد.
(8) في الأصل: «بالتغنّي»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.(4/249)
ويا لوعتي سيري إليه برقعتي ... وقصّي شجونا من حديثي هنالك
حديث (1) الأشجان شجون، ووجوه القراطيس به كوجوه الأيام جون، فارعني (2) سمعك أبثّك بثّي واكتئابي، وأعرني (3) نظرة في كتابي لتعلم ما بي، فعندي ضرب الأسى جناية (4)، وعلى وردي أطال باغي الأسى حماية (5)، وعبرتي أبكت من القطر سجامه، وزفرتي أذكت من الجمر ضرامه، ومني تعلّمت ذات الهديل كيف تنوح، وعنّي أخذت ذات الحسن (6) كيف تغدو والهة وتروح، فما مذعورة راعها القنّاص، وعلق بواحدها حبل الجهالة (7) فأعوزه الخلاص، فهي تتلفّت إليه والمخافة خلفها وأمامها، وتتلهف عليه فتكاد تواقع فيه حمامها، بأخفق ضلوعا، وأشفق روعا، وأضيق مجالا، وأوسع أوجالا، وأشغل بالا، وأشعل بلبالا، بل ما طلاها، وقد رآها، ترمي (8) طلاها، فوقف (9) حتى كاد يشركها في الحين، ويحصل من الشّرك تحت جناحين. ثم أفلت وهو يشكّ في الإفلات، ويشكو وحدته في الفلوات (10)، بأرهب نفسا، وأجنب أنسا، وألهب حشا، وأغلب توحّشا، وأضيع بالمومات، وأضرع لغير الأمّات، منّي وقد وافى النبأ العظيم، ونثر الهدى بكفّ الرّدى شمله (11) النظيم، وأصبح يعقوب الأحزان وهو كظيم. وقيل: أصيبت الدنيا بحبشتها (12) وحسنها، والدّيانة بمحسّنها وأبي حسنها، فحقّ على القلوب انفطارها، وعلى العيون أن تهمي قطارها، وعلى الصّبر أن يمزّق جلبابه، وعلى الصّدر أن يغلق في وجه السّلوّ بابه.
أنعي (13) الجليل السّعي، ورزيّة الجميل السّجية، ووفاة الكريم الصفات، وفقد الصّميم المجد، وذهاب السّمح الوهّاب، وقبض روحاني الأرض، وانعدام معنى الناس، وانهدام مغشى (14) الإيناس، وانكساف (15) شمس العلم، وانتساف قدس الحلم. يا له حادثا، جمع قديما من الكروب وحادثا، ومصابا جرّع أوصابا، وأضحى
__________
(1) من هنا حتى آخر الترجمة في الذيل والتكملة (ج 4ص 120114).
(2) في الذيل والتكملة: «فأصخ لي أبثّك».
(3) في المصدر السابق: «أو أعرني».
(4) في المصدر السابق: «خيامه».
(5) في المصدر السابق: «حيامه».
(6) في المصدر السابق: «الحنين».
(7) في المصدر السابق: «الحبالة».
(8) في الذيل والتكملة: «تدمى». والطّلا: ابن الظبية أو البقرة.
(9) كلمة «فوقف» ساقطة في الذيل والتكملة.
(10) في الذيل والتكملة: «بالفلاة».
(11) في المصدر السابق: «سلكه»، وهو أحسن للسياق.
(12) في المصدر السابق: «بحسنتها».
(13) في المصدر السابق: «لنعي».
(14) في المصدر السابق: «مغنى».
(15) في الأصل: «وانكشاف» والتصويب من المصدر السابق.(4/250)
كلّ به مصابا. لا جرم أني شربت من كأسه مستفظعها (1)، وشرقت بها وبماء (2) دمعي الذي ارفضّ معها، فغالت خلدي، وغالبت جلدي، حتى غبت عنّي، ولم أدر بآلامي التي تعنّي. ثم أفقت من سكري، ونفقت (3) مبدّد فكري، فراجعني التّذكار والتّهمام، وطاوعني شجونا (4) يتعاطاه الحمام، فبكيت حتى خشيت أن يعشيني، وغشيت إذ غشيني من ذلك أليم (5) ما غشيني، وظلت ألقى (6) انبجاسا للتّرح يلقيني، فتارة يعنيني، وتارة يبقيني، فلو أن احتدامي، والتّدامي، وجفني الدّامي، اطّلعت على بعضه الخنساء، لقالت: هذه عزمة حزن لا يستطيعها النّساء. ذلك بأن قسمة المراثي كقسمة الميراث، وللذّكران المزيّة، كان للسّرور أو للرّزيّة، على الإناث، هذا لو وازن مبكيّ مبكيا، ووارى ترابيّ فلكيّا، إنا (7) لنبكي نور علم وهي تبكي ظلمة جهل، وندبتي بجبل يدعى بسهل، كان (8) يتفجّر منه الأنهار، وينهال جانبه من خشية الله أو ينهار، في مثله ولا أريد بالمثل سواه، فما كان في أبناء الجنس من ساواه. يحسن الجزع من كل مؤمن تقي، ويقال للمتجلد: لا تنزع الرّحمة إلّا من شقي، فكل جفن بعده جاف، فصاحبه جلف أوصاف (9)، وكل فؤاد لم تصدع (10) له صفاته، ولم تتغيّر لفقده صفاته، فمتحقّق عند العلماء (11) معلوم، أنه معدود في الحجارة أو معدوم. فيا ليت شعري يوم ودّع للتّرحال، ودعا حاديه بشدّ (12) الرّحال، كيف كان حاضروه في تلك الحال، هل استطاعوا معه صبرا، وأطاعوا لتلبيته (13) أمرا؟ أو ضعف احتمالهم، وقوي في مفارقة النفوس اعتمالهم؟ ويا ليت شعري إذ أفادوا الماء طهارة زائدة بغسل جلاله! هل حنّطوه في غير ثنائه أو كفّنوه في غير خلاله؟ ويا ليت شعري إذا استقلّ به نعشه لأشرف، ترفرف عليه الملائكة ويظلّله الرّفرف! هل رأوا قبله حمل (14) الأطواد، على الأعواد؟ وسير الكواكب، في مثل تلك المواكب؟ فيأنسوا بالإلف، ويرفعوا منكم الطّرف، ويدعوا لفيض من أثر ذلك الظّرف؟ ويا ليت شعري إذ ودّعوا (15) درّة الوجود، صدفة اللّحد المجود، لم آثروا الثّرى على نفوسهم، ورضوا الأرض مغربا
__________
(1) في الأصل: «مستفضها» والتصويب من المصدر السابق.
(2) في المصدر السابق: «وبدمعي».
(3) في المصدر السابق: «ولفقت».
(4) في المصدر السابق: «شجو لا تتعاطاه».
(5) في المصدر السابق: «اليمّ».
(6) في المصدر السابق: «لقى أينما شاء الترح».
(7) في الذيل والتكملة: «أنا أبكي».
(8) في المصدر السابق: «كانت تتفجّر».
(9) في المصدر السابق: «أو جاف».
(10) في المصدر السابق: «تنصدع».
(11) في المصدر السابق: «العقلاء».
(12) في المصدر السابق: «لشدّ».
(13) في المصدر السابق: «لتثبيته».
(14) في الأصل: «حملة الأطوار»، والتصويب من المصدر السابق.
(15) في المصدر السابق: «أودعوا».(4/251)
لأنوار شموسهم؟ فهلا حفروا له بين أحناء الضلوع، وجعلوا الصفيح صريح الحبّ والولوع، فيكونوا قد فازوا بقربه، وجازوا فخرا خيّر لتربه؟ ويا ليت شعري إذا لم يفعلوا ذلك، ولم يهتدوا هذه المسالك! هل قضوا حقّ الحزن، وسقوا جوانب الضّريح من عبراتهم بأمثال المزن؟ وهل اتصفوا بصفة الأسف، أو قنعوا منها بأن وصفوها؟ وهل تلافوا بقايا الأنفس، بعد المفقود الأنفس، وأتلفوها (1)؟: [الطويل]
فكلّ أسى لا تذهب النفس عنده ... فما هو إلّا من قبيل التصنّع
يا قدّس الله مثوى ذلك المتوفّى، وما أظنّ الجزع تمّم (2) حقّه ووفّى. ولو درى الزمن (3) وبنوه، قدر من فقدوه، لوجدوا المفاجئ (4) الفاجع أضعاف ما وجدوه، فقد فقدوا واحدا جامعا للعوالم، وماجدا رافعا لأعلام المعالي والمعالم، ومفدّى ثقل له في الفدا، ونفوس الأودّاء والأعدا، ومبكى ما قامت على مثله النّوائح، ولا حسنت إلّا فيه المراثي كما حسنت من قبل فيه المدائح. رحمة الله عليه ورضوانه، وريحان الجنان يحيّيه به رضوانه. من لي بلسان يقضي حقّ ندبته، وجنان يقضي بما فيه إلى جثّته (5) وتربته، وقد نبّهني (6) حزني عليه وبلّدني، وتملّكني حصر الحسرة عليه وتعبّدني. وأين يقع مهلهل البديه، مما يخفيه مهلهل الثّكل ويبديه؟ يمينا لو لبثت في كهف الرويّة ثلاثمائة سنين، واستمددت سواد ألسنة الفصحاء اللسنين، ما كنت في تأبين ذلك الفصل المبين من المحسنين، إلّا أني أتيت بالطريف (7) من بيانه [المعلم المطارف] (8) والتّليد، ورثيت رشد كماله برثائه كمال ابن رشد أبي الوليد، فأنشدت بنيه قوله فيه (9): [الطويل]
أخلّاي، إني من دموعي بزاخر ... بعيد عن الشّطين منه غريقه
وما كان ظنّي قبل فقد أبيكم ... بأنّ مصابا مثل هذا أطيقه
ولم أدر من أشقى الثلاثة بعده ... أأبناؤه أم دهره أم صديقه؟
ثم استوفيت تلك الأبيات والرسالة، وأجريت بترجيعها من دم الكبد ونجيعها عبراتي المسالة، فحينئذ كنت أوفّي المصاب واجبه، وأشفي صدورا صديّة شجيّة
__________
(1) في الأصل: «وأتلفوه»، والتصويب من المصدر السابق.
(2) في الذيل والتكملة: «عمّ».
(3) في المصدر نفسه: «الزمان».
(4) في المصدر نفسه: «للفاجي».
(5) في المصدر نفسه: «جننه».
(6) في المصدر نفسه: «بلّهني».
(7) في المصدر نفسه: «بالطارف».
(8) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من المصدر السابق.
(9) تقدمت هذه الأبيات.
وقلوبا واجفة واجبة. ولو أن ما رثى به نفسه الكريمة من ثرّ إساءته (1)، حين رأى الحين مغتصبا (2) حشاشة مكرماته، أثار كامن وجدي بألفاظه المبكية، ومعانيه التي تحلّ من مزاد العيون الأوكية، لا هبّ لي رندا (3)، وأعقبني صفاة تندى، وأطمعني في أن يعود بكائي زبدا. فقد بلغني أنه لمّا (4) وقف على ثنيّة المنيّة، وعرف قرب انتقال السّاكن من البنيّة، جمع بنات فكره، كما جمع شيبة الحمد بنات خدره، وقال: يا بنياتي، قد آن ليومي أن يأتي، فهل لكن أن ترينني (5)؟ فوضعن أكبادهن على الوشيج (6)، ورفعن أصواتهن بالنّشيج، وأقبلن (7) يرجّعن الأناشيد، ويفجعن القريب والبعيد، حتى أومأ إليهنّ، بأن قضين ما عليهنّ، فيا إخوتاه (8)، ومثلي بهذا النداء نخي وتاه: أسهموا أخاكم في ميراث تلكم الكلم، واحموا (9) فؤادا بالملمّ المؤلم قد كلم، ولا تقولوا يكفيه ميراث الأحزان، فتبخسوا وحاشاكم في الميزان، فإني وإن تناولتها باليدين، وغلبت عليها فإني صاحب الفريضة (10) والدّين، فإني لحظّي من ميراث الحكمة سائل، ومع أنّ لي حقّا فلي ذمم ووسائل، فابعثوا إليّ ما يطارحني في أشجاني، وأقف على رسمه فأقول شجاني، ولا أطلب من كلام ذلكم الإمام، العزيز فقده على الإسلام، قوله في التصبير، على الرزء الكبير، ووصاته، لئلّا يلزمني ولست بالمستطيع إصغاء للمطيع لأمره (11) وإنصاته، فإن امتثلت، أصبت قتلي بما نثلت، وإن عصيت، أبعدت نفسي من رضاه وأقصيت، ولي في استصحاب حالي أمل، وما لم يرد خطاب لم يلزم عمل. على أني وإن صاب وابل دمعي وصب، وأصبحت بذكر المصاب الكلف الصّبّ، فلا أقول إلّا ما يرضي الربّ، فإني (12) أبكي عالما كبيرا، وعلما شهيرا، تسعدني في بكائه الملّة، وتنجدني بوجده (13) فأنا الكاتب وهي المملّة.(4/252)
وقلوبا واجفة واجبة. ولو أن ما رثى به نفسه الكريمة من ثرّ إساءته (1)، حين رأى الحين مغتصبا (2) حشاشة مكرماته، أثار كامن وجدي بألفاظه المبكية، ومعانيه التي تحلّ من مزاد العيون الأوكية، لا هبّ لي رندا (3)، وأعقبني صفاة تندى، وأطمعني في أن يعود بكائي زبدا. فقد بلغني أنه لمّا (4) وقف على ثنيّة المنيّة، وعرف قرب انتقال السّاكن من البنيّة، جمع بنات فكره، كما جمع شيبة الحمد بنات خدره، وقال: يا بنياتي، قد آن ليومي أن يأتي، فهل لكن أن ترينني (5)؟ فوضعن أكبادهن على الوشيج (6)، ورفعن أصواتهن بالنّشيج، وأقبلن (7) يرجّعن الأناشيد، ويفجعن القريب والبعيد، حتى أومأ إليهنّ، بأن قضين ما عليهنّ، فيا إخوتاه (8)، ومثلي بهذا النداء نخي وتاه: أسهموا أخاكم في ميراث تلكم الكلم، واحموا (9) فؤادا بالملمّ المؤلم قد كلم، ولا تقولوا يكفيه ميراث الأحزان، فتبخسوا وحاشاكم في الميزان، فإني وإن تناولتها باليدين، وغلبت عليها فإني صاحب الفريضة (10) والدّين، فإني لحظّي من ميراث الحكمة سائل، ومع أنّ لي حقّا فلي ذمم ووسائل، فابعثوا إليّ ما يطارحني في أشجاني، وأقف على رسمه فأقول شجاني، ولا أطلب من كلام ذلكم الإمام، العزيز فقده على الإسلام، قوله في التصبير، على الرزء الكبير، ووصاته، لئلّا يلزمني ولست بالمستطيع إصغاء للمطيع لأمره (11) وإنصاته، فإن امتثلت، أصبت قتلي بما نثلت، وإن عصيت، أبعدت نفسي من رضاه وأقصيت، ولي في استصحاب حالي أمل، وما لم يرد خطاب لم يلزم عمل. على أني وإن صاب وابل دمعي وصب، وأصبحت بذكر المصاب الكلف الصّبّ، فلا أقول إلّا ما يرضي الربّ، فإني (12) أبكي عالما كبيرا، وعلما شهيرا، تسعدني في بكائه الملّة، وتنجدني بوجده (13) فأنا الكاتب وهي المملّة.
وأما أنتم أيها الإخوة الفضلاء، والصفوة الكرماء، فقد تلقيتم وصلته (14) المباركة شفاها، وداوى صدوركم بكلامه النافع وشفاها، فلا يسعكم إلّا الامتثال، والصبر الذي تضرب به الأمثال، فعزاء عزاء، وانتماء إلى التأسّي واعتزاء، وإن فضل رزء
__________
(1) في الذيل والتكملة: «من كلماته».
(2) في المصدر السابق: «مقتضيا».
(3) في المصدر السابق: «لأثقب لي زندا».
(4) في الذيل والتكملة: «حين».
(5) في المصدر نفسه: «ترثينني».
(6) في الأصل: «الوشج» والتصويب من المصدر السابق.
(7) في المصدر السابق: «وانبرين».
(8) في المصدر السابق: «خوفاه».
(9) في المصدر السابق: «وارحموا».
(10) في المصدر السابق: «الفريضين».
(11) في المصدر السابق: «لأوامره».
(12) في المصدر السابق: «فأنا».
(13) في المصدر السابق: «بوجدها».
(14) في المصدر السابق: «وصاياه».(4/253)
أرزاء، وكان جزء منه يعدل (1) أجزاء، فعلى قدرها تصاب العلياء، وأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء. ذلك لتبيّن (2) فضيلة الرّضا والتسليم، وتتعيّن صفات (3) من يأتي الله بالقلب السّليم، ويعلم كيف يخلف (4) الكريم للكريم، وكيف يحلّ الأجر العظيم، وهب الله لكم في مصابكم صبرا على قدره، وسكب ديم مغفرته على مثوى فقيدكم وقبره، وطيّب بعرف روضات الجنّات جنبات قصره، ونفعه بما كان أودعه من أسرار العلوم في صدره، وخلّفه منكم بكل سريّ بحلّة المجد من كل نديّ (5) بصدره.
قلت: ذكر الشيخ ابن الخطيب في الأصل في هذه الترجمة «الأعيان والوزراء»، ستة من أهل هذا البيت، كلّهم يسمون بهذا الاسم، عدا واحدا، فإنه سمي بسعيد، وذاك مما يدلّ على كثرة النباهة والأصالة والوجاهة، رحمهم الله.
سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن أحمد ابن عبد السلام الحميري الكلاعي (6)
بلنسي الأصل، يكنى أبا الربيع، ويعرف بابن سالم.
حاله: كان (7) بقيّة الأكابر من أهل العلم بصقع الأندلس الشّرقي، حافظا للحديث، مبرّزا في نقده، تامّ المعرفة بطرقه، ضابطا لأحكام أسانيده، ذاكرا لرجاله (8)، ريّان من الأدب، كاتبا بليغا. خطب (9) بجامع بلنسية واستقضي، وعرف بالعدل والجلالة، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة، والإقدام والجزالة
__________
(1) في الذيل والتكملة: «يعادل».
(2) في المصدر نفسه: «لتتبيّن».
(3) في المصدر نفسه: «صفة».
(4) كلمة «يخلف» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(5) كلمة «نديّ» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(6) ترجمة سليمان بن موسى في الذيل والتكملة (ج 4ص 83) والتكملة (ج 4ص 100) وفوات الوفيات (ج 2ص 80) والحلة السيراء (ج 2ص 102) والمغرب (ج 2ص 316) والنجوم الزاهرة (ج 6ص 298) وشذرات الذهب (ج 5ص 164) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 152) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 191) والوافي بالوفيات (ج 5ص 144) والديباج المذهب (ص 122) والروض المعطار (ص 41) والوفيات (ص 313) ونفح الطيب (ج 4ص 473) و (ج 5ص 260) و (ج 6ص 97، 229) و (ج 7ص 222).
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 85) ونفح الطيب (ج 6ص 231).
(8) في الذيل والتكملة: «لرجاله وتواريخهم وطبقاتهم».
(9) في النفح: «خطب ببلنسية».(4/254)
والشهامة، يحضر الغزوات، ويباشر بنفسه القتال، ويبلى البلاء الحسن، آخرها الغزاة التي استشهد فيها.
مشيخته: روى (1) عن أبي القاسم بن حبيش وأكثر عنه، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي بكر بن الجدّ، وأبي محمد بن سيد بونة، وأبي بكر بن مغاور، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي جعفر بن حكم، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الحجاج بن أبي محمد بن أيوب، وأبي بكر عتيق بن علي العبدري، وأبي محمد عبد الوهاب بن عبد الصمد بن عتّاب الصّدفي، وأبي العباس بن مضاء، وأبي القاسم بن سمحون، وأبي الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري، وأبي زكريا الأصبهاني، وأبي بكر أسامة بن سليم، وأبي محمد عبد الحق الأزدي، وأبي محمد الشاذلي، وأبي الطاهر بن عوف، وأبي عبد الله الحضرمي، وجماعة غير هؤلاء من أهل المشرق والمغرب.
من روى عنه: روى (2) عنه أبو بكر بن أبي جعفر بن عمر (3)، وعبد الله بن حزب الله، وأبو جعفر بن علي، وابن غالب (4)، وأبو زكريا بن العباس، وأبو الحسن طاهر بن علي، وأبو الحسين عبد الملك بن مفوز، وابن الأبّار، وابن الجنّان، وابن الموّاق، وأبو العباس بن هرقد، وابن الغمّاز، وأبو عمرو بن سالم، وأبو محمد بن برطلة، وأبو الحسن الرعيني، وأبو جعفر الطّنجالي، وأبو الحجاج بن حكم، وأبو علي بن الناظر.
تصانيفه: منها (5) «مصباح الظّلم» في الحديث، و «الأربعون حديثا (6) عن أربعين شيخا لأربعين من الصحابة (7)»، و «الأربعون السباعية (8)»، و «السباعيات من حديث الصدفي (9)»، و «حلية الأمالي، في المراقبات (10) العوالي»، و «تحفة الوداد، ونجعة
__________
(1) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 8483).
(2) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 8584).
(3) في الذيل والتكملة: «عمرو».
(4) في المصدر نفسه: «وأبو جعفر بن علي بن غالب».
(5) قارن بالذيل والتكملة (ج 4ص 8685) ونفح الطيب (ج 6ص 231).
(6) كلمة «حديثا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(7) في الذيل والتكملة: «الصحابة في أربعين معنى».
(8) في المصدر نفسه: «السباعية من حديث السلفي».
(9) في المصدر نفسه: «أبي علي الصدفي».
(10) في الذيل والتكملة: «الموافقات». وفي النفح: «الموافقات والعوالي».(4/255)
الرّوّاد (1)»، و «المسلسلات والإنشادات (2)»، و «كتاب الاكتفاء في (3) مغازي رسول الله، ومغازي الثلاثة الخلفاء»، و «ميدان السابقين، وحلية (4) الصّادقين المصدّقين» في غرض كتاب الاستيعاب، ولم يكمله، و «المعجم ممن (5) وافقت كنيته زوجه من الصحابة»، و «الإعلام بأخبار البخاري الإمام»، و «المعجم في مشيخة أبي القاسم بن حبيش»، و «برنامج رواياته» (6). و «جني الرطب في سني الخطب»، و «نكتة الأمثال ونفثة السّحر الحلال»، و «جهد النصيح، في معارضة المعرّي في خطبة الفصيح»، و «الامتثال لمثال المنبهج (7) في ابتداع الحكم واختراع الأمثال»، و «مفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة أبي العلاء المعري في ملقى السبيل»، و «مجاز فتيا اللّحن للّاحن الممتحن»، يشتمل على مائة مسألة ملغّزة، و «نتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم»، و «الصحف المنشرة، في القطع المعشّرة»، و «ديوان رسائله»، سفر متوسط، و «ديوان شعره»، سفر (8).
شعره: من شعره ما كتب به إلى أبي بحر صفوان بن إدريس، عقب انفصاله من بلنسية عام سبعة وثمانين وخمسمائة (9): [الطويل]
أحنّ إلى نجد ومن حلّ في نجد ... وماذا الذي يغني حنيني أو يجدي؟
وقد أوطنوها وادعين وخلّفوا ... محبّهم رهن الصّبابة والوجد
تبيّن بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أجنّ (10) الذي يبدي (11)
وضاقت على الأرض حتى كأنها ... وشاح بخصر أو سوار على زند
__________
(1) في الذيل والتكملة: «وتحفة الرواد، في العوالي البدلية الإسناد». وفي نفح الطيب: «وتحفة الورّاد».
(2) في الذيل والتكملة: «والمسلسلات من الأحاديث والآثار والإنشاءات».
(3) في الذيل والتكملة: «وكتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي».
(4) في المصدرين: «وحلبة».
(5) في المصدرين: «فيمن وافقت كنيته كنية زوجه».
(6) في الذيل والتكملة: «مروياته».
(7) في المصدرين: «المبهج».
(8) في المصدرين: «سفير».
(9) القصيدة في نفح الطيب (ج 6ص 232).
(10) أجنّ: أخفي.
(11) في النفح: «أبدي».(4/256)
إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى ... وبعض الذي لاقيته من جوى يردي (1)
فراق أخلّاء وصدّ أحبّة ... كأنّ صروف الدهر كانت على وعد
فيا سرحتي نجد، نداء متيّم ... له أبدا شوق إلى سرحتي نجد
ظمئت، فهل طلّ يبرّد لوعتي؟ ... ضحّيت (2)، فهل ظلّ يسكّن من وجد؟
ويا زمنا قد مرّ (3) غير مذمّم ... لعلّ الأنس قد تصرّم من ردّ
ليالي نجني الأنس من شجر المنى ... ونقطف زهر الوصل من شجر الصّدّ
وسقيا لإخوان بأكناف حائل (4) ... كرام السّجايا لا يحولون عن عهد
وكم لي بنجد من سريّ ممجّد ... ولا كابن إدريس، أخي البشر والجدّ (5)
أخو همّة كالزّهر في بعد نيلها ... وذو خلق كالزّهر غبّ الحيا العدّ (6)
تجمّعت الأضداد فيه حميدة ... فمن خلق سبط ومن حسب جعد
أيا راحلا أودى بصبري رحيله ... وفلّل من عزمي وثلّم من حدّي (7)
__________
(1) في الأصل: «يرد» بدون ياء، والتصويب من النفح.
(2) ضحّيت: أصابتني الشمس عند الصباح.
(3) في النفح: «بان».
(4) في النفح: «حاجر».
(5) في النفح: «والمجد».
(6) غبّ الحيا: بعد الحيا، والحيا: المطر. والعدّ: الجاري الذي لا ينقطع.
(7) في الأصل: «حدّ» بدون ياء، والتصويب من النفح.(4/257)
أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم؟ ... ألا مذ نأيتم لا يعيد ولا يبدي (1)
فيا ليت شعري! هل تعود لنا المنى؟ ... وعيش كما نمنمت حاشيتي برد؟
عسى الله أن يدني السرور بقربكم ... فيبدو بنا الشّمل (2) منتظم العقد
ومن شعره في النسيب وفقد الشباب (3): [الطويل]
توالت (4) ليال للغواية جون ... ووافى صباح للرّشاد مبين
ركاب شباب أزمعت عنك رحلة ... وجيش مشيب (5) جهّزته منون
ولا أكذب الرحمن فيما أجنّه (6) ... وكيف وما (7) يخفى عليه جنين (8)؟
ومن لم يخل أنّ الرّياء يشينه ... فمن مذهبي أن الرّياء يشين
لقد ريع قلبي للشّباب وفقده ... كما ريع بالعقد (9) الفقيد ضنين (10)
وآلمني وخط المشيب بلمّتي ... فخطّت بقلبي للشجون فنون
وليل (11) شبابي كان أنضر منظرا ... وآنق مهما لاحظته عيون
فآها (12) على عيش تكدّر صفوه ... وأنس خلا منه صفا وحجون
ويا ويح فودي أو فؤادي كلّما ... تزيّد شيبي كيف بعد يكون؟
حرام على قلبي سكون بغرّة (13) ... وكيف مع الشّيب الممضّ (14) سكون؟
وقالوا: شباب المرء شعبة جنّة ... فما لي عراني للمشيب (15) جنون؟
__________
(1) في الأصل: «يبد» بدون ياء، والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «فيبدو، ومنّا الشّمل».
(3) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 4ص 88) ونفح الطيب (ج 6ص 230).
(4) في النفح: «تولّت».
(5) في الأصل: «شيب»، والتصويب من المصدرين.
(6) أجنّه: أخفيه.
(7) في النفح: «لا».
(8) الجنين: المخفيّ.
(9) في المصدرين: «بالعلق».
(10) الضنين: «البخيل».
(11) في الأصل: «دليل»، والتصويب من المصدرين.
(12) في الذيل والتكملة: «فآه».
(13) في المصدر نفسه: «يقرّه».
(14) الممضّ: المؤلم.
(15) في الذيل والتكملة: «بالمشيب».(4/258)
وقالوا شجاك الشيب (1) حدثان ما أتى ... ولم يعلموا أنّ الحديث شجون (2)
وقال في الاستعانة والتوكل عليه (3): [الطويل]
أمولى الموالي ليس غيرك لي مولى ... وما (4) أحد يا ربّ منك بذا أولى
تبارك وجه وجّهت نحوه المنى ... فأوزعها شكرا وأوسعها طولا
وما هو إلّا وجهك الدائم الذي ... أقلّ حلى عليائه يخرس القولا
تبرّأت من حولي إليك وقوّتي ... فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا (5)
وهب لي الرضا مالي سوى ذاك مبتغى ... ولا لقيت نفسي على نيله (6) الهولا
وقال (7): [الطويل]
مضت لي سبع (8) بعد عشرين (9) حجّة ... ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري كيف (10) أو أين أو متى ... يكون الذي لا بدّ أن سيكون؟
واستجاز المترجم به من يذكر بما نصه: المسؤول من السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين، أن يجيزوا لمن ثبت اسمه في هذا الاستدعاء، وهم المولى الوزير العالم الفاضل الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد ابن القاضي الأجل أبي عبد الرحمن بن علي البيساني، ولولديه أبي عبد الله، محمد، وأبي عبد الله الحسين وولده عبد الرحيم، ولأولاد ولده أبي الفتح حسن، وأبوي محمد عبد الرحمن ويوسف، ولمماليكه سنقر وأخيه الصغير وسنجر التركيون (11)، وأفيد وأقسر الروميان (12)، ولكمال بن يوسف بن نصر بن ساري الطباخ، وللوجيه أبي الفخر بن بركات بن ظافر بن عساكر. ولأبي الحسن بن عبد الوهاب بن وردان، ولأبي البقاء
__________
(1) كلمة «الشيب» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(2) أخذه من المثل: «الحديث ذو شجون»، أي ذو فنون وأغراض. مجمع الأمثال (ج 1ص 197) ولسان العرب (شجن).
(3) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 4ص 87) ونفح الطيب (ج 6ص 231230).
(4) في الذيل والتكملة: «وهل».
(5) الحول: القوة.
(6) في الأصل: «نيلها»، والتصويب من المصدرين.
(7) البيتان في نفح الطيب (ج 5ص 260). وذكرهما المقري في نفح الطيب (ج 6ص 97) وقال: «والصواب أنهما لغيره».
(8) في النفح: «ست».
(9) في النفح: «سبعين». وجاء في الذيل والتكملة (ج 4ص 89) أن منتهى عمره سبعون سنة.
(10) في النفح: «أين أو كيف».
(11) الصواب نحويا أن نقول: «التركيين».
(12) الصواب نحويا أن نقول: «الروميين».(4/259)
خالد بن يوسف الشّاذلي ولولده محمد، ولمحمد بن يوسف بن محمد البزالي الإشبيلي ولولده، ولعبد العظيم بن عبد الله المندري ولولده أبي بكر، ولأبي الحسن بن عبد الله العطّار جميع ما يجوز لهم روايته من العلوم على اختلافها، وما لهم من نظم ونثر، وإن رأوا تعيين موالدهم ومشايخهم وإثبات أبيات يخفّ موقعها ثراه من الزلل، ومما يخالف الحق، فعلوا مأجورين. وكتب في العشر الأخر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين وستمائة.
فكتب مجيزا بما نصه: قال سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، وكتب بيده تجاوز الله عنه، وأقام بالعفو من أوده: إني لمّا وقفت على هذا الاستدعاء، أجاب الله في مستدعيه المسمى فيه صالح الدعاء، اقتضى حق المسؤول له، الوزير الأجل، العالم الأشرف الأفضل بهاء الدين أبو العباس ابن القاضي الأجل، الفاضل العلم الأوحد، ندرة الزمان، ولسان الدهر، وقسّ البيان، أبو (1) علي عبد الرحيم بن علي، أعلى الله قدره ورفعه، ووسم سلفه الكريم ونفعه، تأكيد الإسعاف، بحكم الإنصاف، له ولكل من سمي معه، فأطلقت الإذن لجميعهم، على تباعد أفكارهم وتدانيها، وتباين أقدارهم وتساويها، من أب سنيّ، وذرّية عريقة في النّسب العلي، ومماليك له تميّزوا بالنسب المولوي، وسمّين بعدهم، اعتلقوا من الرغبة في نقل العلم بالحبل المتين والسبب القوي. والله بالغ بجميعهم من تدارك الآمال أبعد الشّأو القصي، ويجريهم من مساعدة الإمكان، ومسالمة الزمان، على المنهج المرضي، والسنن السّوي، أن يحدّثوا بكل ما اشتملت عليه روايتي، ونظمته عنايتي، من مشهور الدواوين، ومنثور الأجزاء المنقولة عن ثقات الرّاوين، وغير ذلك من المجموعات في أي علم كان من علوم الدين، وكل ما يتعلق بها من قرب أو بعد مما يقع عليه التّعيين، وبما يصح عندهم نسبته إليّ من مجموع جمعته، ومنظوم نظمته، أو نثر صنعته. الإباحة العامة على ذلك آتية، ومقاصد الإسعاف لرغباتهم فيه مطاوعة وموافية، فليرووا عني من ذلك موفّقين، ما شاءوا أن يرووه، وليلتزموا في تحصيله أولا وأدائه ثانيا أوفى ما التزمه العلماء واشترطوه. ومن جلّه شيوخي وصدورهم الذين سمعت منهم، وأخذت بكل وجوه الأخذ عنهم، القاضي الإمام الخطيب العلّامة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن حبيش، آخر أئمة المحدثين بالمغرب، رضي الله عنهم. والإمام الحافظ الصدر الكبير أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجدّ الفهري. والفقيه المشاور القاضي المسند أبو عبد الله محمد بن أبي الطيب.
__________
(1) في الأصل: «أبي».(4/260)
والفقيه الحافظ أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي. والقاضي الخطيب النحوي أبو عبد الله محمد بن جعفر بن حميد. والأستاذ الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جمهور القيسي. والشيخ الراوية الثقة أبو محمد عبد الحق بن عبد الملك بن بونه بن سعيد بن عصام العبدري. والشيخ الصالح أبو جعفر أحمد بن حكم القيسي الحصّار الخطيب بجامع غرناطة. والفقيه القاضي الأجزل أبو العباس يحيى بن عبد الرحمن بن الحاج. والقاضي الفقيه الحسيب أبو بكر بن أبي جمرة.
والقاضي أبو بكر بن مغمور. والقاضي المسند أبو الحسين عبد الرحمن بن ربيع الأشعري. وسوى هؤلاء ممن سمعنا منه كثيرا، وكلهم أجازني روايته وما سمعه.
وقرأت على الخطيب أبي القاسم بن حبيش غير هذا وسمعت كثيرا، وتوفي، رحمه الله، بمرسية في الرابع عشر لصفر لسنة أربع وثمانين وخمسمائة. ومولده سنة أربع وخمسمائة، على ما أخبرني به، رحمه الله ورضي عنه. ومما أخذته عن الحافظ أبي بكر بن الجدّ بإشبيلية بلده، موطّأ مالك، رواية يحيى بن يحيى القرطبي، أخبرني به عن أبي بحر سفيان بن العاصي الأسدي الحافظ، سماعا بأسانيده المعلومة. وتوفي الحافظ أبو بكر سنة ست وثمانين. وقرأت على الفقيه أبي عبد الله بن زرقون أيضا موطّأ مالك، وحدّثني به عن أبي عبد الله الخولاني إجازة، قال: سمعته على أبي عمرو عثمان بن أحمد بن يوسف اللخمي عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى، عن أبيه عبيد الله بن يحيى الليثي، عن أبيه عن مالك بن أنس، رضي الله عن جميعهم. ولا يوجد اليوم بأندلسنا ومغربنا بأعلى من هذه الأسانيد. وممن كتب لي بالإجازة من ثغر الإسكندرية الإمام الحافظ مفتي الديار المصرية ورئيسها أبو الطاهر بن عوف، والفقيه الحاكم أبو عبد الله بن الحضرمي، والفقيه المدرس أبو القاسم بن فيرّه، وغيرهم، نفعنا الله بهم، ووفقنا للاقتداء بصالح مذهبهم. وأما المولد الذي وقع السؤال عنه، فإني ولدت على ما أخبرني أبواي، رحمهما الله، بقاعدة مرسية، مستهل رمضان المعظم سنة خمس وستين وخمسمائة (1). ومما يليق أن يكتب في هذا الموضع ما أنشدني شيخنا (2) الفقيه أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور، رحمه الله، في منزله بشاطبة سنة ست وثمانين وخمسمائة، وهو بقيّة مشيخة الكتّاب بالأندلس لنفسه، مما أعدّه ليكتب على قبره: [الخفيف]
أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديم
__________
(1) في فوات الوفيات: ولد سنة 555هـ.
(2) في الأصل: «شيخا».(4/261)
قلت: لا تجزعوا عليّ فإنّي ... حسن الظّنّ بالرؤوف الرحيم
ودعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرّهن عند مولى كريم
انتهى. وكتب هذا بخطه في مدينة بلنسية، حماها الله، سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، في الموفي عشرين لجمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
والحمد لله رب العالمين.
وفاته: كان أبدا يقول: إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك، واستشهد في الكائنة على المسلمين بظاهر أنيشة (1) على نحو سبعة أميال منها لم يزل متقدما أمام الصفوف زحفا إلى الكفار، مقبلا على العدو، ينادي بالمنهزمين من الجند: أعن الجنّة (2) تفرّون؟ حتى قتل صابرا محتسبا، غداة يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة.
ورثاه أبو عبد الله بن الأبّار، رحمه الله، بقوله (3): [الطويل]
ألمّا بأشلاء العلى والمكارم ... تقدّ بأطراف القنا والصّوارم
وعوجا عليها مأربا وحفاوة (4) ... مصارع غصّت (5) بالطّلا والجماجم
نحيّي (6) وجوها في الجنان (7) وجيهة ... بما لقيت (8) حمرا وجوه الملاحم
__________
(1) أنيشة أو أنيجة: موضع على مقربة من بلنسية، فيه كانت الوقيعة بين المسلمين من أهل بلنسية وبين النصارى، استشهد فيها أبو الربيع الكلاعي، وكانت هذه الوقيعة سنة 634هـ. الروض المعطار (ص 41).
(2) قوله: «أعن الجنة» ساقط في الأصول، وقد أضفناه من بعض مصادر ترجمته.
(3) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 4ص 9590). وورد منها في تاريخ قضاة الأندلس (ص 157153) ثمانية وخمسون بيتا. وفي نفح الطيب (ج 6ص 229) الأبيات الأربعة الأوائل.
وفي الروض المعطار (ص 41) ثلاثة أبيات.
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «ومفازة».
(5) في نفح الطيب: «خصّت».
(6) في الأصل: «تحيّ» والتصويب من المصادر.
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «الحنان» بالحاء المهملة.
(8) في المصدر نفسه: «بقيت».(4/262)
وأجساد إيمان كساها نجيعها (1) ... مجاسد (2) من نسج (3) الظّبى واللهازم (4)
مكرّمة حتى عن الدّفن في الثرى ... وما يكرم الرحمن غير الأكارم
هم القوم راحوا للشهادة فاغتدوا (5) ... وما لهم في فوزهم من مقاوم
تساقوا كؤوس الموت في حومة الوغى ... فمالت بهم ميل الغصون النّواعم
مضوا في سبيل الله قدما كأنما ... يطيرون من أقدامهم بقوادم
يرون جوار الله أكبر مغنم ... كذاك جوار الله أسنى المغانم
عظائم نالوها (6) فخاضوا لنيلها ... ولا روع يثنيهم صدور العظائم
وهان عليهم أن تكون لحودهم ... متون الرّوابي أو بطون التّهائم
ألا بأبي تلك الوجوه سواهما ... وإن كنّ عند الله غير سواهم
عفا حسنها إلّا بقايا مباسم (7) ... يعزّ علينا وطؤها بالمناسم
وسؤر أسارير تنير طلاقة ... فتكسف أنوار النجوم العواتم
__________
(1) في المصدر نفسه: «نحيفها».
(2) في الأصل: «بحاسد»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا، والتصويب من المصادر.
(3) في الأصول: «نسيج» والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس ونفح الطيب. وفي الذيل والتكملة:
«حوك».
(4) اللهاذم: جمع لهذم وهو الحادّ القاطع من الأسنّة.
(5) في تاريخ قضاة الأندلس: «واغتدوا».
(6) في الذيل والتكملة: «راموها».
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «مياسم».(4/263)
لئن وكفت فيها الدموع (1) سحائبا ... فعن بارقات لحن فيها لشائم
ويا بأبي تلك الجسوم نواحلا ... بإجرائها نحو الأجور الجسائم
تغلغل فيها كلّ أسمر ذابل ... فجدّل (2) منها كلّ أبيض ناعم
فلا يبعد الله الذين تقرّبوا ... إليه بإهداء النفوس الكرائم
مواقف أبرار قضوا من جهادهم ... حقوقا عليهم كالفروض اللّوازم
أصيبوا وكانوا في العبادة أسوة ... شبابا وشيبا بالغواشي (3) الغواشم
فعامل رمح دقّ في صدر عامل ... وقائم سيف قدّ في رأس قائم
ويا ربّ صوّام الهواجر واصل ... هنالك مصروم الحياة بصارم
ومنقذ عان في الأداهم راسف ... ينوء برجلي راسف في الأداهم
أضاعهم يوم الخميس حفاظهم ... وكرّهم في المأزق المتلاحم
سقى الله أشلاء بسفح أنيشة ... سوافح تزجيها ثقال الغمائم
وصلّى عليها أنفسا طاب ذكرها ... فطيّب (4) أنفاس الرّياح النّواسم
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس ونفح الطيب: «العيون».
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «فجذّل».
(3) في الذيل والتكملة: «بالعواشي» بالعين المهملة.
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «بطيّب».(4/264)
لقد صبروا فيها كراما وصابروا ... فلا غرو أن فازوا بصفو المكارم
وما بذلوا إلّا نفوسا كريمة (1) ... تحنّ إلى الأخرى حنين الرّوائم (2)
ولا فارقوا (3) والموت يتلع جيده ... فحيث (4) التقى الجمعان صدق العزائم
بعيشك طارحني الحديث عن التي ... أراجع فيها بالدموع السّواجم (5)
وما هي إلّا غاديات فجائع ... تعبّر عنها رائحات مآتم
جلائل دقّ الصّبر فيها فلم نطق (6) ... سوى غضّ أجفان وغضّ (7) أباهم
أبيت لها تحت الظلام كأنّني ... رميّ نصال أو لديغ أراقم
أغازل من برح الأسى غير بارح ... وأزجر (8) من سأم (9) البكا غير سائم
وأعقد بالنجم المشرّق ناظري ... فيغرب عني ساهرا غير نائم
وأشكو إلى الأيام سوء صنيعها ... ولكنها شكوى إلى غير راحم
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «نفيسة».
(2) الروائم: جمع الرائمة وهي الناقة العاطفة على ولدها اللازمته.
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «ولا فرّقوا».
(4) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «بحيث».
(5) رواية عجز البيت في تاريخ قضاة الأندلس هي:
تعبّر عنها رائحات مآتم
(6) في تاريخ قضاة الأندلس: «تطق».
(7) في الذيل والتكملة: «وعضّ».
(8) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «وأصحب».
(9) في تاريخ قضاة الأندلس: «سام»، وفي الذيل والتكملة: «سامي».(4/265)
وهيهات هيهات العزاء ودونه ... قواصم شتّى أردفت بقواصم
ولو برّد السّلوان حرّ جوانحي ... لآثرت عن طوع سلوّ البهائم
ومن لي بسلوان يحلّ منفّرا ... بجاث من الأرزاء حولي جاثم
وبين الثّنايا والمخارم رمّة ... سرى في الثّنايا طيبها والمخارم
بكتها المعالي والمعالم جهدها ... فمن (1) للمعالي بعدها والمعالم؟
سعيد صعيد لم ترمه قرارة ... وأعظم بها وسط العظام الرّمائم
كأن دما أذكى أديم ترابها ... وقد مازجته الرّيح مسك اللّطائم
يشقّ على الإسلام إسلام مثلها ... إلى خامعات بالفلا وقشاعم
كأن لم تبت تغشى (2) السّراة (3) قبابها ... ويرعى حماها الصّيد رعي السّوائم
سفحت عليها الدّمع أحمر وارسا ... كما تنثر (4) الياقوت أيدي النّواظم
وسامرت فيها الباكيات نوادبا ... يؤرّقن تحت الليل ورق الحمائم
وقاسمت في حمل الرّزيّة أهلها (5) ... وليس قسيم البرّ غير المقاسم
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «فلهف المعالي».
(2) في الذيل والتكملة: «يغشى».
(3) في الأصل: «للسراة» والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة.
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «نثر».
(5) في المصدر نفسه: «قومها».(4/266)
فوا أسفا (1) للدّين أعضل (2) داؤه ... وآيس من أسّ (3) لمسراه حاسم
ويا أسفا (4) للعلم أقوت (5) ربوعه ... وأصبح مهدود (6) الذّرى والدّعائم
قضى حامل الآثار (7) من آل يعرب ... وحامي هدى المختار من آل هاشم
خبا الكوكب الوقّاد إذ متع الضّحى ... ليخبط (8) في ليل من الجهل فاحم
وخانت (9) مساعي السّامعين حديثه ... كما شاء يوم الحادث المتفاقم
فأيّ بهاء غار ليس بطالع ... وأيّ سناء غاب ليس بقادم
سلام على الدّنيا إذا لم يلح بها ... محيّا سليمان بن موسى بن سالم
وهل في حياتي متعة بعد موته ... وقد أسلمتني للدّواهي الدّواهم؟
فهأناذا في حرب (10) دهر محارب ... وكنت به في أمن دهر مسالم
أخو العزّة القعساء كهلا ويافعا ... وأكفاؤه ما بين راض وراغم
__________
(1) في الذيل والتكملة: «فوا أسفي».
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «أعظم».
(3) في المصدر نفسه: «من أسد». وفي الذيل والتكملة: «من حاس».
(4) في الذيل والتكملة: «ويا أسفي». وفي تاريخ قضاة الأندلس: «ووا أسفا».
(5) في تاريخ قضاة الأندلس: «أذوت».
(6) في المصدر نفسه: «ممدود».
(7) في الذيل والتكملة: «الآداب».
(8) في الأصل: «ليخبطه»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. وفي الذيل والتكملة: «لنخبط».
(9) في الأصل: «وخابت»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) في الذيل والتكملة: «خوف».(4/267)
تفرّد بالعلياء علما وسؤددا ... وحسبك من عال على الشّهب عالم
معرّسه فوق السّهى (1) ومقيله ... ومورده قبل النّسور الجواثم (2)
بعيد مداه لا يشقّ غباره ... إذا فاه فاض السّحر ضربة لازم
يفوّض منه كلّ ناد ومنبر ... إلى ناجح مسعاه في كلّ ناجم
متى صادم (3) الخطب الملمّ بخطبة (4) ... كفى صادما منه بأكبر صادم
له منطق سهل النّواحي قريبها ... فإن رمته ألفيت صعب الشّكائم
وسحر بيان فات كلّ مفوّه ... فبات عليه قارعا سنّ نادم
وما الروض حلّاه بجوهره النّدى ... ولا البرد وشّته (5) أكفّ الرّواقم
بأبدع حسنا في (6) صحائفه التي ... تسيّرها أقلامه (7) في الأقالم
يمان كلاعيّ نماه إلى العلا ... تمام حواه قبل عقد التّمائم
يروق رواق الملك في كلّ مشهد ... ويحسن وسما في وجوه المواسم
__________
(1) في المصدر نفسه: «السما».
(2) في المصدر نفسه: «الحوائم».
(3) في الذيل والتكملة: «صدم».
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «بخطبه».
(5) في الأصل: «وشّقه»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة.
(6) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «من».
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «أخلاقه».(4/268)
ويكثر أعلام البسيطة وحده ... كمال مثال (1) أو جمال مقاوم
لعا لزمان عاثر من خلاله (2) ... بواق (3) من الجلّى أصيب بواقم
مناد إلى دار السلام منادم ... بها الحور، واها للمنادي المنادم
أتاه رداه مقبلا غير مدبر ... ليحظى بإقبال من الله دائم
إماما لدين أو قواما لدولة ... تولّى ولم تلحقه لومة لائم
فإن (4) عابه حسّاده شرقا به ... فلن تعدم الحسناء ذاما بذائم (5)
فيا أيها المخدوم سامي (6) محلّه ... فدى لك من ساداتنا كلّ خادم
ويا أيها المختوم بالفوز سعيه ... ألا إنما الأعمال حسن الخواتم
هنيئا لك الحسنى من الله إنها ... لكلّ تقيّ خيمه، غير خائم
تبوّأت جنّات النعيم ولم تزل ... نزيل الثّريّا قبلها والنعائم (7)
ولم تأل عيشا راضيا أو شهادة ... ترى ما عداها في عداد المآتم
__________
(1) في الذيل والتكملة: «معال».
(2) في الذيل والتكملة: «جلاله».
(3) في الأصل: «براق»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «وإن».
(5) في المصدر نفسه: «لذائم».
(6) في المصدر نفسه: «عالي».
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «والنواعم».(4/269)
لعمري (1) ما يبلى بلاؤك في العدا ... وقد جرّت (2) الأبطال ذيل (3) الهزائم
وتالله (4) لا ينسى مقامك في الوغى ... سوى جاحد نور الغزالة كاتم
لقيت الرّدى في الرّوع جذلان باسما ... فبوركت من جذلان في الرّوع باسم
وحمت على الفردوس حتى وردته ... ففزت بأشتات المنى فوز غانم
أجدّك لا تثني عنانا لأوبة ... أداوي بها برح الغليل المداوم
ولا أنت بعد اليوم واعد هبّة ... من النوم تحدوني إلى حال حالم
لسرعان ما قوّضت رحلك ظاعنا ... وسرت على غير النواجي (5) الرّواسم
وخلّفت من يرجو دفاعك يائسا ... من النّصر أثناء الخطوب الضّوائم (6)
كأنّي للأشجان فوق هواجر ... بما عادني من عاديات هواجم
عدمتك مفقودا (7) يعزّ نظيره ... فيا عزّ معدوم ويا هون عادم
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «لعمرك».
(2) في الأصل: «جرّب»، والتصويب من المصدرين السابقين.
(3) في الأصل: «ذبل»، والتصويب من المصدرين السابقين.
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «وبالله».
(5) في الأصل: «النواحي»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الأصل: «الصرايم»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في تاريخ قضاة الأندلس والذيل والتكملة: «موجودا».(4/270)
ورمتك مطلوبا فأعيا مناله ... وكيف بما أعيا (1) منالا لرائم؟
وإني لمحزون الفؤاد صديعه ... خلافا لسال قلبه منك سالم
وعندي إلى لقياك شوق مبرّح ... طواني من حامي الجوى فوق جاحم
وفي خلدي والله ثكلك خالد ... أليّة برّ لا أليّة آثم
ولو أنّ في قلبي مكانا لسلوة ... سلوت ولكن لا سلوّ لهائم
ظلمتك أن لم أقض نعماك حقّها ... ومثلي في أمثالها غير ظالم
يطالبني فيك الوفاء بغاية ... سموت لها حفظا لتلك المراسم
فأبكي لشلو بالعراء كما بكى ... زياد لقبر بين بصرى وجاسم (2)
وأعبد أن يمتاز دوني عبدة ... بعلياء في تأبين قيس بن عاصم (3)
وهذي المراثي قد وفيت برسمها ... مسهّمة جهد الوفيّ المساهم
__________
(1) في الذيل والتكملة: «أعني».
(2) بصرى: قصبة كورة حوران. معجم البلدان (ج 1ص 441). وجاسم: قرية تبعد عن دمشق ثمانية فراسخ. معجم البلدان (ج 2ص 94). وزياد: هو النابغة الذبياني. وهنا يشير إلى قول النابغة الذبياني من قصيدة رثاء في النعمان بن الحارث بن أبي شمّر الغساني [الطويل]:
سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم ... بغيث، من الوسميّ، قطر ووابل
ديوان النابغة الذبياني (ص 212).
(3) هو عبدة بن الطبيب، الذي رثى قيس بن عاصم، بقصيدة ميمية، يقول فيها [الطويل]:
فلم يك قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
الشعر والشعراء (ص 612). وروى أبو الفرج هذا البيت في الأغاني (ج 21ص 31) باختلاف يسير عمّا هنا وقال: هو أرثى بيت قالته العرب.(4/271)
فمدّ إليها رافعا يد قابل ... أكبّ عليها خافضا فم لاثم (1)
ومن القضاة في هذا الحرف
سلمون بن علي بن عبد الله بن سلمون الكناني (2)
من أهل غرناطة، يكنى أبا القاسم، ويدعى باسم جده سلمون، وقد مرّ ذكر أبيه وأخيه.
حاله: من أهل العلم والهدى الحسن والوقار، قديم العدالة، متعدّد الولاية، مضطلع بالأحكام، عارف بالشروط، صدر وقته في ذلك، وسابق حلبته إلى الرواية والمشاركة والتّبجّح في بيت الخير والحشمة وفضل الأبوة والأخوة. قلّ في الأندلس مكان شذّ عن ولايته، وناب عن القضاة بالحضرة، فحمد نفاذه، وحسنت سيرته. ثم ولّي مستبدّا في الدولة الباغية، وخاض في بعض أهوائها، بما جرّ عليه عتبا، فعقبه الإعتاب عن كثب.
تواليفه: ألّف في الوثائق المرتبطة بالأحكام كتابا مفيدا، نسبه بعض معاصريه إلى أنّه قيّده عن شيخه أبي جعفر بن فركون، ودوّن مشيخته.
مشيخته: أجازه (3) الراوية المعمر أبو محمد بن هارون الطائي، والشيخ المسن أبو جعفر أحمد بن عيسى بن عياش المالقي، والشيخ الأديب أبو الحكم ابن المرحّل، والعدل أبو بكر بن إسحاق التجيبي، والقاضي أبو العباس بن الغمّاز، والفرضي أبو إسحاق التّلمساني، وأبو الحسن بن عبد الباقي بن الصواف، والمحدّث أبو محمد الخلاسي، والراوية أبو سلطان جابر بن محمد بن قاسم بن حيّان القيسي، والوزير أبو محمد بن سماك، والشيخ المدرّس بالديار المصرية أبو محمد الدّمياطي، والمقرئ الرّاوية أبو عبد الله بن عيّاش، وأبو الحسن بن مضاء، والمحدّث أبو عبد الله بن النجار، وأبو زكريا بن عبد الله بن محرز، والمقرئ أبو بكر بن عبد الكريم بن صدقة السّفاقسي، والشيخ زين الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن القرشي العوني، وأبو القاسم الأيسر الجذامي، وشهاب الدين الأبرقوسي،
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس: «وكبّ عليها حافظا يد لائم».
(2) ترجمة سلمون بن علي الكناني في تاريخ قضاة الأندلس (ص 206) والديباج المذهب (ص 125).
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 207206).(4/272)
والعدل أبو فارس الهواري، وأبو الكرم الحميري، وأبو الفدا بن المعلم، والشريف أبو الحسن القرافي، وأبو عبد الله بن رحيمة، والشيخ أبو عبد الله بن اللبيدي، وأبو الحسن بن عطية البودري، وأبو محمد بن سعيد المسرّاتي، وأبو عبد الله بن عبد الحميد، والخطيب أبو الحسن بن السفّاح الرّندي، وأبو محمد بن عطية، والوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، والعدل أبو الحسن بن مستقور، والخطيب أبو عبد الله بن شعيب، والشريف أبو علي بن طاهر بن أبي الشرف، والأستاذ أبو بكر بن عبيدة. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وبرنامج رواياته نبيه.
مولده (1): عام خمسة وثمانين وستمائة (2).
ومن المحدّثين والفقهاء وسائر الطلبة النجباء بين أصلي وغيره:
سعيد بن محمد بن إبراهيم بن عاصم بن سعيد الغساني (3)
من أهل غرناطة، يكنى أبا عثمان.
حاله: هذا الرجل من أهل الذكاء والمعرفة والإدراك، يقوم على الكتاب العزيز حفظا وتدريسا، ويشارك في فنون من أصول وفقه وحساب وتعديل، ومعرفة بالإلمامات الشّعاعية. يكتب خطّا حسنا، وينظم الشعر، ويحفظ الكثير من النّتف والأخبار، مقتصد، منقبض عن الناس، مشتغل بشأنه، قيد الكثير، يسير إليّ لزمانة أصابت أختها، بما يدل على نشاطه وهمته.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزي، ورحل إلى العدوة، فلقي بفاس وتلمسان جملة، كالأستاذ أبي إسحاق السّلاوي التلمساني، وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن المكناسي من أهل فاس، والحاج ابن سبيع، وغيرهم.
واستدعيته لتأديب ولدي، أسعدهم الله، فبلوت منه على السنين، نضحا وسلامة ودينا وعفّة.
__________
(1) في الأصل: «مولد».
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «ولد بغرناطة في صفر عام 688». وأضاف أنه توفي عام 767هـ.
(3) ترجمة ابن سعيد الغساني في نفح الطيب (ج 8ص 399).(4/273)
شعره: جرى ذكره (1) في «الإكليل الزاهر» بما نصّه (2): ممن (3) يتشوّق إلى المعارف (4) والمقالات، ويتشوّف (5) إلى الحقائق والمجالات (6)، ويشتمل على نفس رقيقة، ويسير من تعليم القرآن على خير طريقة، ويعاني من الشّعر ما يشهد بنبله، ويستظرف (7) من مثله. فمن شعره قوله: [الكامل]
لمّا نأوا في الظّاعنين وساروا ... أضحت قلوب العاشقين تحار
تركوهم في ظلمة وتوحّش ... ما انجابت الأضواء والأنوار
ذهبوا فأبقوا كلّ عقل ذاهلا ... ولكل قلب بالنّزوح مطار
ظعنوا وقد فتنوا الورى بجمالهم ... عبثوا بأفئدة الأنام وحاروا (8)
ما ضرّهم قبل (9) النّوى لو ودّعوا ... ما ضرّهم لو أعلموا إذ ساروا (10)
فقلوبنا من بعدهم في فجعة ... ودموعنا من بعدهم أمطار
يا دار، أين أحبّتي ووصالنا؟ ... أين الذي كنّا به يا دار؟
كنا نذيع به عبير حديثنا ... وكلامنا الألطاف والأشعار
والطّير تتلو فوقنا نغماتها ... والدهر يسمح والمدام تدار
ولطالما بتنا وبات رقيبنا ... في غفلة قضيت بها الأوطار
هل نحن في (11) زمن تقادم عهده ... نلنا به (12) النّعمى ونحن صغار؟
فلا تذر على الوصال وابكين (13) ... ما دامت الآصال والأسحار
ومن المقطوعات: [الطويل]
وكم عذلوني في هواه وما رأوا ... محيّاه حتى عاينوه وسلّموا
وقالوا: نعم هذا الكمال حقيقة ... فحطّوا وجاءوا صاغرين وسلّموا
وكتب إليّ صحبة كتاب أعرته إياه، عقب الفراغ من مطالعته: [السريع]
هذا كتاب كلّه (14) معجم ... أفحمني معناه إفحاما
__________
(1) في الأصل: «ذكر».
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 399).
(3) في النفح: «هو ممن».
(4) في النفح: «المعرفة».
(5) في النفح: «ويتّسق».
(6) في النفح: «والمحالات».
(7) في الأصل: «ويستطرف»، والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «وحار»، بضمة فوق الراء.
(9) في الأصل: «قبيل»، وكذا ينكسر الوزن.
(10) في الأصل: «سار» بضمة فوق الراء.
(11) قوله: «نحن في» ساقط في الأصل.
(12) في الأصل: «بها».
(13) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى معا.
(14) في الأصل: «كلّ»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.(4/274)
أعجمه منشئه أوّلا ... وزاده النّاسخ إعجاما
أسقط من إجماله جملة ... وزاد في التفصيل أقساما
وغيّر الألفاظ عن وضعها ... وصيّر الإيجاد إعداما
فليس في إصلاحه حيلة ... ترجى ولو قوبل أعواما
نثره: كتب إليّ شافعا في الولد، وأنا واجد عليه: من حلّ محلّ السيد نادرة الزمان، وسابق حلبة البيان، في رسوخ العلم، والسّمو في درجة الحلم، وأرضعته الحكم درّتها، وقلّدته المعارف دررها، وجلت عليه بدرها، وجلبت إليه بذرها، كان بالحنوّ والرأفة خليقا، وأن يهبّ نسيمه لدنا رفيقا، وأن يتعاهد بالعطف غرسا في زاكي تربته ظلي، وإلى محتده المنجب وفضله المنجب انتمى، فيلحفه من الرحمة جناحا، ويطلع عليه في ليل الوحشة المؤلمة من نور صفحه عن حفوته مصباحا، والذنب إذا لم يكن عقوقا ولا سوء أدب، وكان في المماليك والقيم المالية مغتفر عند الأكابر مثله من ذوي الرتب، وقد بلغ في الاعتراف غاية المدى، واندمل الجرح الذي أصابته المدى، البون واضح في المقاييس، بين المرؤوس والرئيس، وشتّان بين الزيف والجوهر النفيس. ومع أن الولد كمد فهو للنفس ريحانة، وفي فصّ خاتم الإنسان جمانة، وقد نال منه هذا الإمضاء، والصارم يتخذ فيزيد منه المضاء، وهو يرتجي كل ساعة أن يفد عليه البشير برضاك فيستأنف جهورا، وينقلب إلى أهله مسرورا، والله يبقيك والوزارة ترفل منك في مظهر حلل، ويريك في نفسك وبنيك غاية الأمل.
مولده: التاسع لذي الحجة عام تسعة وتسعين وستمائة، وهو الآن على حاله الموصوفة.
ومن الكتاب والشعراء
سهل بن طلحة
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن.
حاله: كان ظريفا، عنده مشاركة في الطّلب. مدح ولي العهد أبا عبد الله بن الغالب بالله بشعر وسط، فمن ذلك قوله من قصيدة أولها: [الكامل]
أنا للغرام وللهوى مدفوع ... فمتى السّلوّ ووصلها ممنوع؟
يقول أيضا منها بعد كثير:
يا حبّذا دار لزينب باللّوى ... حيث الفؤاد على الهوى مطبوع
يا حادي العيس التفت نحو اللّوى ... إني بسكان اللّوى مفجوع
وعج المطيّ بلعلع وبرامة (1) ... فهناك قلب للشّجيّ مروع
أطلال آرام وبيض خرّد ... هنّ الأهلّة بالجيوب طلوع
في ظبية من بينهنّ تصدّني ... حسنا ولي أبدا إليه نزوع
حوراء جائرة عليّ بحكمها ... ظلما وإنّي مذعن وسميع
تفنى الليالي والزمان وأنقضي ... كمدا ولا نبأ لها مسموع
يا (2) ليت! هل دهر يعود بوصلها ... فيكون للعيش الخصيب رجوع؟
وتعود أيام السّرور كمثل ما ... قد عاد روح حياتها والروع؟
فقدوم مولانا الأمير محمد (3) ... خير الملوك ومن له التّرفيع
وفاته: كان حيّا سنة اثنتين وخمسين وستمائة.(4/275)
يا حبّذا دار لزينب باللّوى ... حيث الفؤاد على الهوى مطبوع
يا حادي العيس التفت نحو اللّوى ... إني بسكان اللّوى مفجوع
وعج المطيّ بلعلع وبرامة (1) ... فهناك قلب للشّجيّ مروع
أطلال آرام وبيض خرّد ... هنّ الأهلّة بالجيوب طلوع
في ظبية من بينهنّ تصدّني ... حسنا ولي أبدا إليه نزوع
حوراء جائرة عليّ بحكمها ... ظلما وإنّي مذعن وسميع
تفنى الليالي والزمان وأنقضي ... كمدا ولا نبأ لها مسموع
يا (2) ليت! هل دهر يعود بوصلها ... فيكون للعيش الخصيب رجوع؟
وتعود أيام السّرور كمثل ما ... قد عاد روح حياتها والروع؟
فقدوم مولانا الأمير محمد (3) ... خير الملوك ومن له التّرفيع
وفاته: كان حيّا سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
سالم بن صالح بن علي بن صالح بن محمد الهمداني (4)
من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن سالم.
حاله: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزّبير: كان أديبا مقيّدا، كتب بخطّه كثيرا، وانتسخ أجزاء عدّة، واجتهد وأكثر، وكان متبذّلا في لباسه، متواضعا، مقتصدا، مليح المجالسة، حسن العشرة، جليل الأخلاق، فاضل الطبع.
مشيخته: روى (5) عن الحافظ أبي عبد الله بن الفخّار، وأبي زيد (6) السهيلي، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي جعفر بن حكم، وأبي بكر بن الجدّ، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي محمد بن عبيد الله. وشارك في كثير من شيوخه أبا محمد القرطبي، وكان يناهضه.
دخوله غرناطة: دخلها وأقام بها وأخذ عن شيوخها وتردّد إليها.
شعره: قال في رمح: [الوافر]
أنا الرّمح المعدّ إلى النوائب ... فصاحبني تجدني خير صاحب
__________
(1) لعلع ورامة: موضعان.
(2) في الأصل: «فيا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) هو سلطان غرناطة أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف بن محمد بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).
(4) ترجمة سالم بن صالح الهمداني في التكملة (ج 4ص 123).
(5) قارن بالتكملة (ج 4ص 123).
(6) في التكملة: «وأبي القاسم السهيلي».(4/276)
لئن فخر اليراع بكتب خطّ ... فإنّ الخطّ (1) فخر بالكتائب
ومما كتب له ابن خميس قوله: [الوافر]
إلهي قد عصينا منك ربّا ... تعالى (2) أن يقابل بالمعاصي
فكيف خلوصنا من هول يوم ... تشيب لهوله سود النّواصي؟
وجلب شعرا كثيرا دون شهرته، وما ذكر به. وتوفي بمالقة ليلة الاثنين لثماني (3)
عشرة ليلة خلت من رمضان المعظم سنة عشرين وستمائة (4).
حرف الهاء من الملوك والأمراء
هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله (5)
أخو المرتضى المتقدم الذّكر (6)، يكنى أبا بكر، ويلقّب بالمعتد بالله، الخليفة بقرطبة.
صفته: أبيض أصهب، إلى الأدمة، سبط الشعر، أخنس، خفيف العارض واللّحية، حسن الجسم، إلى قصر، أمّه أم ولد تسمّى عاتبا.
حاله: بويع له بالثّغر (7)، فقرطبة أيام استقراره بحصن ألبنت (8)، عند صاحبه عبد الله بن قاسم الفهري. قال ابن حيان، ثالبا إياه على عادته (9): قلّد الأمر في سنّ الشيخوخة، وكان معروفا بالشّطارة في شبابه، وأقلع (10) فرجي فلاحه. وقال: دخل
__________
(1) في الأصل: «فلخطّي»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «تعلّى».
(3) في الأصل: «لثمان»، بدون ياء، وهو خطأ نحوي.
(4) كذا قال ابن الأبار في التكملة. وأضاف: «وقد نيّف على الستين».
(5) ترجمة هشام بن محمد، المعتدّ بالله، في جمهرة أنساب العرب (ص 101) وجذوة المقتبس (ص 27) وبغية الملتمس (ص 34) والحلة السيراء (ج 2ص 30) والمغرب (ج 1ص 55) والبيان المغرب (ج 3ص 145) والمعجب (ص 109) ونفح الطيب (ج 1ص 289). واسمه فيها جميعا: «هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن».
(6) تقدمت ترجمة عبد الرحمن بن محمد، الملقب بالمرتضى، في الجزء الثالث من الإحاطة.
(7) بويع في ربيع الأول سنة 418هـ، وله من العمر أربع وخمسون سنة. المعجب (ص 109) والمغرب (ج 1ص 55).
(8) ألبنت، بالإسبانية: بلد بالأندلس من ناحية بلنسية. معجم البلدان (ج 1ص 498).
(9) البيان المغرب (ج 3ص 147).
(10) في البيان المغرب: «فأقلع مع شيبه».(4/277)
قرطبة (1) في زيّ تقتحمه العين، وهنا وقلّة، عديم (2) رواء وبهجة، وعدد وعدّة، فوق فرس دون مراكب الملوك، بحلية مختصرة، سادلا سمل غفارة على ما تحتها من كسوة رثّة، قدّامه سبع جنائب (3) من خيل العامريين دون علم ولا مضطرد، يسير هونا والناس ينظرون إليه، ويصيحون بالدّعاء في وجهه. فدخل القصر، وقلّد حكما المعروف بالقزاز الأعمال والأمر، وأطلق يده في المال، وهو الذي يقول فيه الشاعر (4): [مخلع البسيط]
هبك كما تدّعي وزيرا ... وزير من أنت يا وزير؟
والله ما للأمير معنى ... فكيف من وزّر (5) الأمير؟
وضعف (6) أمره، وآثر الناس الوثوب على وزيره، فأوقع به طائفة من الجند، وثارت العامة بهشام فخلع في خبر طويل، ودخل غرناطة مع أخيه المرتضى، ولحق يوم هزيمته بظاهرها، بحصن ألبنت إلى أن بويع له بقرطبة يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
محنته: ثارت العامة به بقرطبة كما تقدم، ملتفّة على أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، يوم الثلاثاء الثاني عشر لذي حجة من سنة اثنتين وأربعمائة، بسوء تدبير وزيره، وبادر الاعتصام بعلية القصر، وأنزل منها إلى ساباط الجامع بالأمان، فيمن تألّف إليه من ولده وحريمه، فحدّث بعض سدنة الجامع أنّ أوّل ما سأل الشيوخ، إحضار كسيرة من خبز يسدّ جوع طفيلة له كان قد احتضنها، ساترا لها بكمه من قرّ ليلته تلك، كانت تشكو الجوع ذاهلة عما أحاط به، فأبكى من كلّمه اعتبارا بعادية الدهر. وأخرج إلى حصن ابن الشرف إلى أن هلك.
وفاته: في صفر ثمان وعشرين وأربعمائة (7). وسنّه نحو أربع (8) وستين سنة.
وكان آخر ملوك (9) بني أمية بالأندلس.
__________
(1) دخل قرطبة في الثامن من ذي الحجة سنة 420هـ. المعجب (ص 110).
(2) في البيان المغرب: «وعدم».
(3) في الأصل: «خبايب»، والتصويب من البيان المغرب.
(4) البيتان في البيان المغرب (ج 3ص 147).
(5) في الأصل: «وزير»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا، والتصويب من البيان المغرب.
(6) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 148).
(7) في المعجب (ص 110): «مات في سنة 427، ولا عقب له».
(8) في الأصل: «أربعة» وهو خطأ نحوي.
(9) يريد: آخر خلفاء بني أمية.(4/278)
ومن ترجمة الأعيان والكبرا والأماثل والوزرا
هاشم بن أبي رجاء الإلبيري
الوزير، يكنى أبا خالد.
حاله: كان من عظماء أهل إلبيرة وحليتهم، وهو الذي عاد الفقيه الزاهد أبا إسحاق بن مسعود الإلبيري (1) في مرضه، وعذله على رداءة مسكنه، وقال له: لو سكنت دارا خيرا من هذه لكانت أولى لك، فأجابه، رحمه الله، بقوله (2): [مخلع البسيط]
قالوا: ألا تستجيد بيتا ... تعجب من حسنه البيوت؟
فقلت: ما ذاكم صواب ... حفش (3) كثير لمن يموت
لولا شتاء ولفح قيظ ... وخوف لصّ وحفظ قوت
ونسوة يبتغين كنّا (4) ... بنيت بنيان عنكبوت
وأيّ معنى لحسن مغنى ... ليس لسكّانه ثبوت
ما وعظ (5) القبر لو عقلنا ... موعظة الناطق (6) الصموت
يومي إلى ممتطي الحنايا ... ما لك عن مضجعي عميت؟
نسيت يومي وطول نومي ... وسوف تنسى كما نسيت
وسدت يا هادمي قصورا ... نعمت فيهنّ كيف شيت
معتنقا للحسان فيها ... مستنشقا مسكها الفتيت
تسحب ذيل الصّبا وتلهو ... بآنسات يقلن هيت
__________
(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود بن سعد التجيبي، المتوفّى في نحو الستين والأربعمائة.
وترجمته في المغرب (ج 2ص 132) وبغية الملتمس (ص 225) والتكملة (ج 1ص 118) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 231).
(2) الأبيات الأربعة الأوائل فقط في المغرب (ج 2ص 133).
(3) في الأصل: «حقير»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من المغرب. والحفش:
بيت صغير جدا.
(4) في المغرب: «سترا».
(5) في الأصل: «لوعظ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) في الأصل: «للناطق»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/279)
فاذكر سهادي قبل التّنادي (1) ... واسهد له قبل أن يفوت
فعن قريب يكون ظعني ... سخطت يا صاح أم رضيت
حرف الياء الملوك والأمراء
يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي (2)
أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجّاج.
حاله وصفته: كان (3) أبيض أزهر، أيّدا، برّاق الثنايا، أنجل، رجل الشّعر أسوده، كثّ اللحية، تقع العين منه على بدر تمام، يفضل الناس بحسن المرأى وجمال الهيئة كما يفضلهم مقاما ورتبة، عذب اللسان، وافر العقل، عظيم الهيبة، إلى ثقوب الذهن، وبعد الغور، والتفطّن للمعاريض، والتّبريز في كثير من الصنائع العملية، مائلا إلى الهدنة، مزجيا للأمور، كلفا بالمباني والأثواب، جمّاعة للحلي والذّخيرة، مستميلا لمعاصريه من الملوك. تولّى الملك بعد أخيه بوادي السّقائين من ظاهر الخضراء، ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة عام ثلاثة (4) وثلاثين وسبعمائة، وسنّه إذ ذاك خمسة عشر عاما وثمانية أشهر. واستقلّ (5) بالملك، واضطلع بالأعباء، وتملّأ الهدنة ما شاء. وعظم مرانه لمباشرة الألقاب، ومطالعة الرسم، فجاء نسيج وحده، ثم عانى شدائد العدو، فكرم يوم الوقيعة العظمى بظاهر طريف موقعه (6)، وحمد بعد في منازلة الطّاغية عند الجثوم على الجزيرة (7) صبره، وأجاز البحر في شأنها، فأفلت من مكيدة العدو التي تخطّاها أجله، وأوهن حبلها (8) سعده.
ولما نفذ فيها (9) القدر، وأشفت الأندلس، سدّد الله أمور (10) المسلمين بها على يده،
__________
(1) صدر هذا البيت مختل الوزن.
(2) ترجمة أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري في اللمحة البدرية (ص 102) ونفح الطيب (ج 7ص 74).
(3) النص في اللمحة البدرية (ص 112102) وبعضه في نفح الطيب (ج 7ص 7574).
(4) كذا في نفح الطيب. وفي اللمحة البدرية: «أربعة».
(5) في اللمحة البدرية: «واستقلّ بعد بالملك».
(6) في اللمحة: «موقفه».
(7) في اللمحة: «البلاد».
(8) في اللمحة: «حيلها».
(9) في المصدر نفسه: «في الجزيرة».
(10) في المصدر نفسه: «الأمور وامتسك الإسلام على يده».(4/280)
وراخى مخنّق الشّدة بسعيه، فعرفت الملوك رجاحته، وأثنت على قصده، إلى حين وفاته (1).
أمه: أم ولد تسمى بهارا، طرف في الخير والصون والرجاحة.
ولده: كان له ثلاثة من الولد، كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده، وتلوه أخوه إسماعيل (2) المستقر في كنفه، محجورا عليه التصرف إلى أعمال التدبير، وثالثهم اسمه قيس، شقيق إسماعيل.
وزراء دولته: تولّى وزارته لأول أمره، كبير الأكرة ونبيه الدهّاقين (3)، من منتجعي المدر بحضرته، أبو إسحاق بن عبد البر، لمخيّلة طمع نشأت لمقيمي الدولة فيما بيده، سدّا لحال بها على عوز طريقه إلى حضرته، إلى ثالث شهر المحرم من العام. وأنف الخاصة والنبهاء رياسته، فطلبوا من السلطان إعاضته، فعدل عنه إلى خاصة دولتهم الحاجب أبي النعيم رضوان (4)، مظنّة التّسديد، ومحطّ الإنفاق، فاتصل نظره مستبدا عليه، في تنفيذ الأمور، وتقديم الولاة والعمال، وجواب المخاطبات، وتدبير الرعايا، وقود الجيوش. ثم نكبه (5)، وأحاط به مكروها، مجهول السبب، ليلة الأحد الثاني والعشرين لرجب عام (6) أربعين وسبعمائة.
وتولّى الوزارة بعده، ابن عمة أبيه القائد (7) أبو الحسن علي بن مول بن يحيى بن مول الأمي، ابن عم وزير أخيه، رجل جهوري حازم مؤثر للغلظة على الشّفقة (8)، ولم ينشب أن كفّ استبداده، فانكدر نجم سعادتهم، والتأثث حاله، ولزمته شكاية سدكت فاستنقذته (9). وأقام لرسم (10) الوزارة كاتبه شيخنا نسيج وحده أبا الحسن بن الجياب إلى أخريات شوال عام (11) تسعة وأربعين وسبعمائة. وهلك، رحمه الله، فأجري لي الرّسم، وعصّب لي تلك المثابة، مضاعف الجراية، معزّزة بولاية القيادة.
__________
(1) في المصدر نفسه: «وفاته على أزكى عمله».
(2) في اللمحة: «إسماعيل محجوره، وثالثهم».
(3) في اللمحة: «المشيخة».
(4) كلمة «رضوان» ساقطة في اللمحة البدرية، وقد أشار محقق الإحاطة الأستاذ محمد عبد الله عنان إلى أنه أضافها زيادة في التعريف.
(5) في اللمحة: «ثم قبض عليه ليلة السبت».
(6) في اللمحة: «لعام».
(7) في اللمحة: «أبيه السلطان أبي الوليد القائد أبو الحسن».
(8) قوله: «على الشفقة» ساقط في اللمحة.
(9) في اللمحة: «استنفدته».
(10) في اللمحة: «رسم الوزارة بكاتبه».
(11) في اللمحة: «من عام».(4/281)
كتّابه: تولّى كتابته كاتب أخيه وأبيه، شيخنا المذكور إلى حين وفاته. وقلّدني كتابة سرّه مثنّاة بمزيد قربه، مظفّرة برسم وزارته.
قضاته: تولّى (1) أحكام القضاء، قاضي أخيه الصّدر البقيّة، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر (2) إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف، وفقد في مصافّه، وتحت لوائه (3). وتولى (4) القضاء الفقيه المفتي البقيّة أبو عبد الله محمد بن عيّاش (5)، من أهل مالقة أياما، ثم طلب الإعفاء، فأسعف عن أيام تقارب أسبوعا، وولّي مكانه الفقيه أبو جعفر أحمد بن محمد بن برطال من أهل مالقة، فسدّد الخطّة، وأجرى الأحكام، إلى الرابع من شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة. وقدّم (6) عوضا عنه، الفقيه الشريف الصّدر الفاضل أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السّبتي المولد والمنشأ (7)، الطالع على أفق حضرته في أيام أخيه، النازع إلى إيالتهم النصرية، معدودا في مفاخر أيامها، مشارا إليه بالبنان عند اعتبار أعلامها ثم عزله لغير جرمة تذكر، إلّا ما لا ينكر وقوعه، مما تجره تبعات الأحكام. وولّي الخطة شيخنا نسيج وحده الرّحلة البقية أبا البركات بن الحاج، شيخ الصّقع، وصدر الجلّة. واستمرّ قاضيا إلى (8) وأربعين وسبعمائة. ثم أعاد إليها القاضي المفوض هونه، الشريف الفاضل، أبا القاسم، إلى يوم وفاته.
رئيس الغزاة ويعسوب الجند الغربي:
تولّى ذلك لأول الأمر الشيخ أبو ثابت عامر بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق، قريع دهره في النكراء والدهاء، المسلّم له في الرتبة، عتاقة ورأيا وثباتا، إلى أن نكبه، وقبض عليه وعلى إخوته، يوم السبت التاسع والعشرين من ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعمائة. وأقام شيخا ورئيسا، دائلهم وابن عمّهم، المتلقّف لكرة عزّهم يحيى بن عمر بن رحّو، ولي ذلك بنفسه ونديمه ومبرز خصاله إلى تمام مدته.
من كان على عهده من الملوك:
وأولا بفاس دار الملك بالمغرب، السلطان المتناهي الجلالة، أبو الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. وجاز على عهده إلى الأندلس، إثر صلاة
__________
(1) في اللمحة: «تولى له».
(2) في اللمحة: «بكر الأشعري».
(3) في اللمحة: «لواء جهاده».
(4) في اللمحة: «وولي».
(5) في اللمحة: «محمد بن محمد بن عياش».
(6) في اللمحة: «وقدّم للقضاء عوضه».
(7) في اللمحة: «والنشأة».
(8) بياض في الأصول.(4/282)
يوم الجمعة تاسع عشر (1) صفر، من عام أحد وأربعين وسبعمائة، بعد أن أوقع بأسطول الروم، المستدعى من أقطارهم، وقيعة كبيرة شهيرة، استولى فيها من المتاع والسلاح والأجفان، على ما قدم (2) به العهد، واستقر بالخضراء في جيوش (3) وافرة، وكان جوازه، في مائة وأربعين جفنا غزويا. وبادر إلى لقائه، واجتمع به في وجوه الأندلسيين وأعيان طبقاتهم بظاهر الجزيرة الخضراء، في اليوم الموفي عشرين من الشهر المذكور (4). ونازل إثر انقضاء المولد النّبوي، مدينة طريف، ونصب عليها المجانيق، وأخذ بمخنّقها، واستحثّ من بها من المحصورين طاغية الروم (5)، فبادر يقتاد (6) جيشا يجرّ (7) الشّجر والمدر. وكانت المناجزة يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى من العام. ومحّص (8) المسلمون بوقيعة هائلة، أتت (9) على النفوس والأموال والكراع، وهلك فيها بمضرب الملك جملة من العقائل الكرام، فعظمت الأحدوثة، وجلّت المصيبة، وأسرع اللّحاق بالمغرب مفلولا في سبيل الله، محتسبا يروم الكرّة.
وكان ما هو معلوم من إمعانه في حدود الشّرق، عند إحكام المهادنة بالأندلس، وتوغّله في بلاد إفريقية، وجريان حكم الله عليه بالهزيمة، ظاهر القيروان التي لم ينتشله الدهر بعدها، وعلقت آمال الخلق بولده، مستحق الملك، من بين سائر إخوته، وهلك على تفئة لحاقه (10) بأحواز مراكش، ليلة الأربعاء السادس والعشرين لربيع الأول عام اثنين وخمسين وسبعمائة، فاختار الله له ما عنده (11)، بعد أن بلغ من بعد الصيت، وتعظيم الملوك له، وشهرة الذكر، ما لم يبلغه سواه.
ونحن نجلب دليلا على فضله، والإشادة بفخره، نسخة العقد الذي تضمن هديته إلى صاحب الديار المصرية، صحبة الرّبعة الكريمة بخطه، وذلك قبّة من مائة بنيقة، وفيها أربعة أبواب، وقبّة أخرى من ستة وثلاثين بنيقة داخلها حلة محلوقة ووجهها حرير أبيض، وركيزها أبنوس وعاج مرصع، والأهار فضة مذهبة، والشرائط حرير. وضربت القبّتان بالصفصيف، وحلّ فيها جميع الهدية. وصفّفت جميع الدواب
__________
(1) في اللمحة: «تاسع شهر صفر».
(2) في اللمحة: «بعد».
(3) في اللمحة: «جيش وافر».
(4) كلمة «المذكور» ساقطة في اللمحة.
(5) في اللمحة: «الروم بمصرهم».
(6) في اللمحة: «يقود».
(7) في اللمحة: «يسوق».
(8) في اللمحة: «ومحّص الله المسلمين بالوقيعة الشهيرة».
(9) من هنا حتى قوله: «وجلّت المصيبة» ساقط في اللمحة.
(10) في اللمحة: «التحاقه».
(11) في اللمحة: «اختار الله له ما لديه». ومن هنا حتى قوله: «من نسخ كتابه بأوثق الأسباب» ساقط في اللمحة البدرية.(4/283)
بجهازاتها أمام القبة، من الخيل ثلاثمائة، وخمسة وثلاثون من البغل بين ذكور وأناث، ومن الجمال سبعمائة، إلا أنها لم تصفّف، بل أعدّت لحمل الهدية، ومن البزاة الأحرار أربعة وثلاثون، ومن أحجار الياقوت مائتان وخمسة وعشرون، ومن قطب الزمرد مائة وثمانية وعشرون، ومن حبوب الجوهر الفاخر أكثره، ثلاثة آلاف وأربعة وستون. ومن أحجار الزبرجد ثمانية وعشرون، ومن المهنّدات بحلية الذهب عشرة، ومن أزواج مهاميز الذهب عشرة، ومن أزواج الأركب عشرة واحد كله ذهب، وثلاثة كلها فضة، وستة من حبحبة مذهبة على الحديد، واثنان من اللضمات من ذهب، وشاشية مذهبة، وحلل: ثلاث عشرة، وعشر كلل ومخاد حلة. وتوق ذهب:
مائتان، واشتراق ذهب: عشرون. وقدود: ستة وأربعون. وفرش جلّة. وعشر علامات معشّشة. وعشر وقايات مذهّبة. وثلاثون من وجوه اللّحف حرير وذهب.
ومائتان من المحررات الملونة الرفيعة المختمة. وحيطيان أحدهما حلة والآخر طوق.
وثلاثة وعشرون شّقة من الرهاز. واثنان من هنابل الحلة. وعشرة براقع للخيل، منها ثمانية من الحلة. ومن أسلة الخيل ثلاثون، وثلاثة طنافس من الحرير. وهنابل حرير:
اثنان. وعشرة هنابل من الحرير والصوف. وهنابل وانشريشية وزمورية: مائة وسبعة.
وأربعة آلاف من الجلد التركي والأغماتي. ومن درق اللّمط المثمنة مائتان. ومن الأكسية المحررة أربعة وعشرون. ومن البرانس المحررة ثمانية. ومن الأحارم ما بين محررة وصوف عشرون. ومن أزواج المحفف خمسون. وعشر لزمات من الفضة.
وست عشرة شقة من الملف. وأما أزودة الحجاج فأعطى للحرة المكرمة أخته، أعزّها الله، ثلاثة آلاف دنير من الذهب، ومائتي كسوة برسم العرب. ولمن سافر معها ستمائة وسبعين. ولأبي إسحاق بن أبي يحيى ثلاثمائة من الذهب وكسوة رفيعة.
ولعريفه يحيى السويدي ألف دنير من الذهب. إلى العدد الكثير من الذهب العين برسم الوصفان والخدام، ولرسوم التحبيس على قراء الرابعة الكريمة، ستة عشر ألفا وخمسمائة دنير. انتهى.
وكان هذا السلطان، رحمه الله، ممّن دوّخ الأقطار، وجاهد الكفار، ووطئ بالأساطيل خدود البحار، والتمس ما عند الله من الثواب، وأعلق يده من نسخ كتابه بأوثق الأسباب، إلى أن (1) استوسق الأمر لولده، أمير المؤمنين بالمغرب وما إليه، فارس المكني بأبي عنان، الملقب (2) بالمتوكل على الله. فقام بالأمر أحمد قيام.
__________
(1) في اللمحة: «واستوسق الأمر لولده أمير المسلمين».
(2) في اللمحة: «المتلقب من ألقاب الخلافة بالمتوكل».(4/284)
وجرت بين هذا السلطان وبينه المخاطبات والمراسلات. وسفّرني (1) إليه لأول الأمر، معزّيا (2) بأبيه، ومهنّئا بما صار إليه من ملكه، واستصحبت إليه كتابا من إنشائي، نجليه بحول الله، تجميما لمن يقف على هذه الأخبار، وإن اقتحمتها ثبج الإكثار، وهو:
المقام الذي رسخت منه في مقامي الصّبر والشكر قدم، فلا يغيره وجود لا يروعه عدم، وصدقت منه في كتاب المجد عزمة لم يختلجها وهن ولا ندم، حتى تصرفت بحكم معاليه، أيام دهره ولياليه، هو ولدان وهذه خدم. مقام محل أخينا الذي إن جاشت النوائب، وسعها صدره، أو عظمت المواهب، ترفع عنها قدره، أو أظلمت الكروب جلاها بدره. أو تألبت الخطوب هزمها صبره، أو أظلّت سحائب النعم أسدرها حمد الله وشكره، أو عرضت عقود الحمد في أسواق المجد أغلاها فجره، أو راقت حلل الصنائع طرّزها ذكره، أو طبّقت سيوف الناس أغمدها صفحه، وسلّها قهره. السلطان الكذا أبقاه الله ضاحك السعد كلما بكت عين، مجموع الشّمل كلما أزف بين، واري الزّند إذا اقتضى دين، محمي الذّمار بانفساح الأعمار كلما أغار على الأحياء حين. ولا زال يقيد منه شكر الله نعما ما في وعدها ليّ ولا في قولها مين، ويلبس منها حللا تقواه في عواتقها زين. مساهمة في كل خطب غمّ، أو فضل من الله عمّ، ومقاسمة في كل ما ألمّ. وتهنئة بالملك الذي خلص وتمّ، فلان.
أما بعد حمد الله الذي جعل الصّبر في الحوادث حصنا منيعا، والشكر يستدعي المزيد من النعم سريعا، فمتى أعملت للصبر دعوة كان بها الأجر سميعا، ومتى رفعت من الشكر رقعة كان المزيد عليها توقيعا، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بوّأنا من السعادة جنابا مريعا، وبين له حدود أوامره ونواهيه فطوبى لمن كان مطيعا، وكان لنا في الدنيا هاديا ونجده في الآخرة شفيعا، والرضا عن آله وصحبه الذين كانوا على العداة قيظا وللعفاة ربيعا، فحلّوا من الاقتداء به فيما ساء وسرّ وأحلى وأمرّ مقاما رفيعا. وخفض عليهم مضاضة فقده، مثابرتهم على ضمّ شمل المسلمين من بعده، اقتداء بقوله سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعا. والدّعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يشكر منه الجياد والبيض الحداد صنيعا، وتشرح منه ألسن الأقلام تهذيبا وتقريعا، والصبر الذي زرافات الأجر قطيعا فقطيعا. فإنا كتبناه
__________
(1) في اللمحة: «وسفرت إليه عنه، واتصلت أيامه إلى آخر مدته».
(2) من هنا حتى قوله: «فيمن عندنا، فعينّا فلانا»، ساقط في اللمحة البدرية.(4/285)
إليكم، كتب الله لكم من حظوظ الخير أوفرها عددا، وأقطعكم من خطط السّعد أبعدها مدا. وأتبعكم من كتائب العز أطولها يدا، وخوّلكم من بسطة الملك ما لا يبيد أبدا، وألهمكم من الصبر لما تقدّمونه فتجدونه غدا. من حمراء غرناطة، حرسها الله، وعندنا من الاعتداد في الله أسباب وثيقة، وأنساب صدق في بحبوحة الخلوص عريقة، ومن الثناء عليكم حدائق روض لا تحاكيها حديقة، ومن المساهمة لكم في شتّى الأحوال مقاصد لا تلتبس منها طريقة، ومن السّرور بما سناه الله لكم نعم بشكر الله عزّ وجلّ خليقة.
وإلى هذا، أيّدكم الله بنصره، وحكم لمقامكم بشدّ أزره، وإعلاء أمره، فإنّنا ورد علينا الخبر الذي قبض وبسط، وجار وأقسط، وبخس ووفى، وأمرض وشفى، وأضحى وظلّل، وتجهّم وتهلّل، وأمرّ وأحلى وأساء ثم أحسن، وبشّر بعد ما أحزن، خبر وفاة والدكم، محلّ أبينا، السلطان العظيم القدر، الكبير الخطر، قدّس الله طاهر تربته، وكرّم لحده، كما أحيا بكم معالم مجده. فيا له من سهم رمى أغراض القلوب فأثبتها، وطرق مجتمعات الآمال فشتّتها. ونعى إلى المجد إنسان عينه وعين إنسانه، وإلى الملك هيولى أركانه، وإلى الدين ترجمة ديوانه، وإلى الفضل عميد إيوانه.
حادث نبّه العيون من سنة غرورها، وذكّر النفوس بهم أمورها. وأشرق المحاجر بماء دموعها، وأضرم الجوانح بنار ولوعها. وبيّن أن سراب الآمال سراب، وأنّ الذي فوق التّراب تراب. فمن تأمل الدنيا وطباعها، والأيام وإسراعها، والحوادث وقراعها، بدا له الحقّ من المين، واستغنى عن الأثر بالعين. فشأنها أن لا تفترّ عن سهم تسدّده إلى غرض، وصحّة تعقبها بمرض، وجوهر ترميه بعرض. وداء للموت قديم، وقربه لا يبقي عليه أديم، وكأسه يشربها موسر وعديم. دبّت إلى كسرى الفرس عقاربه، فلم تمنعه أساورته ولا مرازبه. وقصر قيصر على حكمه فكدّرت مشاربه، وأتبر سيف بن ذي يزن عمدانه فلم ترعه مضاربه، وأردى تبّعا فلم يكن في أتباعه من يحاربه. لم تدافع عنهم الجنود المجنّدة، ولا الصّفاح المهنّدة، ولا الدّروع المحكمة، ولا النّياب المعلمة. ولا الجياد الجرد المسوّمة، ولا الرّماح المثقّفة المقومة. كلّ قدّم على ما قدّم. وجّد إلى ما أعدّ. جعلنا الله ممن يسّر لسفره زادا، وقدّم بين يديه رباطا شافعا لديه وجهادا. ووثّر لنفسه بمناصحة الله والمؤمنين في أعلى عليين مهادا، وطوّق المسلمين عدلا وفضلا وإمدادا. غير أن هذا الفاجىء الذي فجع، ومنع القلوب أن تقرّ والعين أن تهجع، غمرته البشرى، وغلبته المسرّة الكبرى، وعارضته من بقائكم الآية المحكمة الأخرى، فاضمحلّ من بعد الرّسوخ، وصار ليله في حكم المنسوخ.
ما كان من استخلاصكم الملك الذي أنتم أهله، واحتيازكم المجد الذي أشرق بكم(4/286)
محلّه. وكيف بسهم أخطأ ذاتكم الشريفة، أن يقال فيه: أصمى وأجهز، والأمل بعد بقائكم أن يقال فيه: تعذّر أو أعوز. إنما الآمال ببقائكم للملإ منوطة، وسعادة الإسلام بحياتكم المتّصلة مشروطة.
ومنها: فأي ترح يبقى بعد هذا الفرح، وأي كسل ينشأ بعد هذا المرح. إن أفل البدر، فقد تبلّج الفجر، أو غاض النّيل فقد فاض البحر. وإن مال فلك الملك فقد عاد إلى مداره، وإن أذنب الدّهر فقد أحسن ما شاء في اعتذاره. إنما هذا الخطب وهنّ أعقبه ضوء النهار، وسطعت بعده أشعة الأنوار، وصمصامة أغمدت وسلّ من بعدها ذو الفقار.
ومنها: وإنّنا لما (1) عن حقّه ورصدنا طالعه في أفقه قابلنا الواقع بالتّسليم، والمنحة الرّادفة بالشكر العظيم، وأنسنا في غمام الهدنة ربّ هذا الإقليم. وقلنا استقرّ الحق ووضحت الطرق، وهوى الرّائد وصدق البرق، وتقرّرت القاعدة وارتفع الفرق، واستبشر بإبلال المغرب أخوه الشّرق. وثابت آمال أولي الجهاد إلى اقتحام فرضة المجاز، وأولي الحج إلى مرافقه ركب الحجاز، وآن للدنيا أن تلبس الحلى العجيبة بعد الابتزاز. والحمد لله الذي زيّن بكم أفق الملك، وكيّف بسعدكم نظم ذلك السّلك. وهنّأ الله إيالتكم العباد والبلاد، والحجّ والجهاد. وصدّق الظنون الذي في مقامكم الذي جاز في المكارم الآماد. بادرنا، أيّدكم الله، من برّكم إلى غرضين، وقمنا من حقّ عزائكم وهنائكم بواجبين مفترضين وشرعنا ومن لدينا أن نباشر بالنفوس هذين القصدين. إلّا أننا عاقنا عن ذلك ما اتصل بنا من العدوّ الذي بلينا بجواره، ورمينا بمصابرة تيّاره، وإلّا فهذا الغرض قد كنّا لا نرى فيه بإجراء الاستنابة، ولا نحظى غيرنا بزيارة تلك المثابة. فليصل الفضل جلالكم، ويقبل العذر كمالكم. وإذا كان الاستخلاف مما تحتمله العبادة، ولا ينكره عند الضرورة العرف والعادة، فأحرى الأخوة والودادة، والفضل والمجادة. فتخيرنا جهدنا، واصطفينا لباب اللّباب فيمن عنادنا، فعينّا فلانا.
واتصلت أيامه إلى آخر مدته.
وبمدينة (2) تلمسان: عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان، يكنى أبا تاشفين. وقد تقدم (3) ذكره، وهو الذي انقضى ملك بني زيّان على يده (4).
__________
(1) بياض في الأصول.
(2) في اللمحة البدرية: «وبتلمسان».
(3) في اللمحة: «مرّ».
(4) في اللمحة: «على يده لأول مدته».(4/287)
تولّى الملك عام ثمانية عشر كما تقدم، وتهنّأه إلى أن تأكّدت الوحشة بينه وبين السلطان ملك المغرب، فتحرّك لمنازلته، وأخذ بكظمه (1)، وحصره سنين ثلاثا، واقتحم عليه ملعب البلدة ليلة سبع وعشرين من رمضان عام سبعة (2) وثلاثين وسبعمائة. وفي غرّة شوال منها، دخل (3) البلد من أقطاره عنوة، ووقف هو وكبير ولده برحبة قصره، قد نزعا لام الحرب المانعة من عمل السلاح استعجالا للمنيّة ورغبة في الإجهاز، وقاما مقام الثّبات والصبر والاستجماع، إلى أن كوثرا وأثخنا، وعاجلتهما (4) منيّة العزّ قبل شدّ الوثاق، وإمكان الشّمات، واستولى على الملك (5)
ملك المغرب. وفي ذلك قلت من الرّجز المسمى بقطع السلوك في الدول الإسلامية، مما يخص (6) ملوك تلمسان، ثم أميرها عبد الرحمن هذا (7): [الرجز]
وحلّ فيها عابد الرحمن ... فاغترّ بالدنيا وبالزمان
وسار فيها مطلق العنان ... من مظهر سام إلى جنان
كم زخرفت (8) علياه من بنيان ... آثاره تنبي عن العيان
وصرف العزم إلى بجايه ... فعظمت في قومها النّكايه
حتى ما إذا مدّة الملك انقضت ... وأوجه الأيام عنهم أعرضت
وحقّ حقّ الدهر فيها ووجب ... وكتب الله عليها ما كتب
حثّ إليها السير ملك المغرب ... يا لك من ممارس مجرّب
فغلب القوم بغير عهد ... بعد حصار دائم وجهد
فأقفرت من ملكهم أوطانه ... سبحان من لا ينقضي سلطانه
ثم نشأت لهم بارقة، لم تكد تقد حتى خبت (9)، عندما جرت على السلطان أبي الحسن الهزيمة بالقيروان وانبتّ عن أرضه، وصرفت البيعة في الأقطار إلى ولده، وارتحل إلى طلب منصور ابن أخيه، المنتزي (10) بمدينة فاس، فدخلوا تلمسان، وقبضوا على القائم بأمرها، وقدّموا على أنفسهم عثمان بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن، المتقدم الذكر في رسم عثمان، وذلك في الثامن والعشرين لجمادى الآخرة
__________
(1) في اللمحة: «بمخنقه».
(2) في اللمحة: «ثمانية».
(3) في اللمحة: «دخل عليه المدينة عنوة».
(4) في اللمحة: «فعاجلتهما ميتة العزّ».
(5) في اللمحة: «على ملك بني زيان ملك المغرب، واندرج فيه إلى هذا العهد».
(6) في اللمحة: «يختص».
(7) في اللمحة: «الرحمن ما نصّه».
(8) في الأصل: «زخرف» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية.
(9) قوله: «لم تكد خبت» ساقط في اللمحة البدرية.
(10) في اللمحة: «الداعي لنفسه بمدينة».(4/288)
من عام تسعة وأربعين وسبعمائة. واستمرت أيامه أثناء الفتنة وارتاش، وأقام رسم الإمرة، وجدّد ملك قومه. واستمرت حاله إلى أن أوقع بهم ملك (1) المغرب، أمير المسلمين أبو عنان الوقيعة المصطلمة (2) التي خضدت الشوكة، واستأصلت الشّأفة.
وتحصّل عثمان في قبضته. ثم ألحقت النكبة به أخاه (3)، فكانت سبيلهما في القتل صبرا عبرة، وذلك في وسط ربيع الأول من عام التاريخ.
وبتونس: الأمير أبو يحيى أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا (4)، إلى أن هلك. وولي الأمر (5) ولده عمر، ثم ولده أحمد، ثم عاد الأمر إلى عمر. ثم استولى ملك المغرب السلطان أبو الحسن على ملكهم. ثم ضمّ نشرهم بعد نكبته وخروجه عن وطنهم على أبي إسحاق بن أبي بكر.
ومن ملوك النصارى بقشتالة: ألفنش (6) بن هرنده بن دون جانجه بن ألفنش المستولي على قرطبة، ابن هرنده المستولي على إشبيلية، إلى عدد جمّ. وكان (7)
طاغية مرهوبا، وملكا مجدودا. هبّت له الريح، وعظمت به إلى المسلمين النكاية.
وتملّك الخضراء بعد أن أوقع بالمسلمين الوقيعة الكبرى (8) العظمى بطريف. ثم نازل جبل الفتح، وكاد يستولي (9) على هذه الجزيرة، لولا أن الله تداركها بجميل صنعه وخفيّ لطفه، لا إله إلّا هو. فهلك بظاهره في محلّته حتف أنفه ليلة عاشوراء من عام أحد وخمسين وسبعمائة، فتنفس المخنّق، وانجلت الغمّة، وانسدل السّتر. كنت منفردا بالسلطان، رحمه الله، وقد غلب اليأس، وتوقّعت الفضيحة، أؤنسه بعجائب الفرج بعد الشدة، وأقوي بصيرته في التماس لطف الله، وهو يرى الفرج بعيدا، ويتوقع من الأمر عظيما. وورد الخبر بمهلكه، فاستحالت الحال إلى ضدها من السّرور والاستبشار، والحمد لله على نعمه. وفي ذلك قلت (10): [الطويل]
ألا حدّثاني (11) فهي أم الغرائب ... وما حاضر في وصفها مثل غائب
__________
(1) في اللمحة: «بهم السلطان أبو عنان».
(2) في اللمحة: «المستأصلة».
(3) في اللمحة: «أخاه أبا ثابت».
(4) في اللمحة: «زكريا بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص إلى أن هلك».
(5) كلمة «الأمر» ساقطة في اللمحة.
(6) في اللمحة: «ألفونش».
(7) في اللمحة: «وكان هذا الطاغية».
(8) كلمة «الكبرى» ساقطة في اللمحة.
(9) في اللمحة: «يستولي على الأندلس».
(10) في اللمحة: «وفي ذلك قلت من كلمة استعجلتها في مخاطبة السلطان، رحمه الله تعالى، وأولها».
(11) في اللمحة: «حدثاها».(4/289)
ولا تخليا منها على خطر (1) السّرى ... سروج المذاكي أو ظهور النّجائب (2)
أيوسف، إنّ الدهر أصبح واقفا ... على بابك المأمول موقف تائب
دعاؤك أمضى من مهنّدة الظّبا ... وسعدك أقضى من سعود الكواكب
سيوفك في أغمادها مطمئنة ... ولكنّ سيف الله دامي (3) المضارب
فثق بالذي أرعاك أمر عباده ... وسل فضله فالله أكرم واهب
لقد طوّق الأذفنش سعدك خزية ... تجدّ على مرّ العصور الذواهب
وفّيت وخان العهد في غير طائل ... وصدّق أطماع الظنون الكواذب
هوى في مجال العجب غير مقصّر ... وهل نهض العجب المخل براكب؟
وغالب أمر الله جلّ جلاله ... ولم يدر أنّ الله أغلب غالب
ولله في طيّ الوجود كتائب ... تدقّ وتخفى عن عيون الكتائب
تغير على الأنفاس في كل ساعة ... وتكمن حتى في مياه المشارب
فمن قارع في قومه سنّ نادم ... ومن لاطم في ربعه خدّ نادب
مصائب أشجى وقعها مهج العدا ... وكم نعم في طيّ تلك المصائب
شواظّ أراد الله إطفاء ناره ... وقد نفج الإسلام من كل جانب
وإن لم يصب منه السلاح فإنّما ... أصيب بسهم من دعائك صائب
ولله من ألطافه في عباده ... خزائن ما ضاقت لمطلب طالب
فمنهما غرست الصّبر في تربة الرضا ... بأحكامه فلتجن حسن العواقب
ولا تعدّ الأمر البعيد وقوعه ... فإن الليالي أمّهات العجائب
وهي (4) طويلة سهلة على ضعف كان ارتكابه مقصودا في أمداحه.
وببرجلونة (5): السلطان بطره المتقدم ذكره في اسم أخيه.
ومن الأحداث (6) في أيامه الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى، من عام أحد وأربعين وسبعمائة، وما اتصل بذلك من منازل الطاغية
__________
(1) في الأصل: «قطر» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة.
(2) عند الانتهاء من رواية هذا البيت جاء في اللمحة البدرية: «ومنها في وصف الكائنة»، وأورد الأبيات التالية.
(3) في اللمحة: «ماضي».
(4) قوله: «وهي في أمداحه» غير وارد في اللمحة البدرية.
(5) برجلونة: هي نفسها برشلونة.
(6) قارن باللمحة البدرية (ص 110109).(4/290)
ألهنشه قلعة يحصب الماسة الجوار من حضرته، واستيلائه عليها، وعلى باغة. ثم منازلة الجزيرة الخضراء عشرين شهرا، أوجف خلالها بجيوش المسلمين من أهل العدوتين إلى أرضه. ثم استقرّ منازلا إياها إلى أن فاز بها قداحه، والأمر لله العلي الكبير، في قصص يطول ذكره، تضمن ذلك «طرفة العصر» من تأليفنا. ثم تهنأ السلم، والتحف جناح العافية والأمنة برهة، رحمه الله.
وفاته (1): وما استكمل أيام حياته، وبلغ مداه، أتمّ ما كان شبابا واعتدالا وحسنا وفخامة وعزّا، حتى أتاه أمر الله من حيث لا يحتسب، وهجم (2) عليه يوم عيد الفطر، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، في الركعة الأخيرة، رجل من عداد الممرورين (3)، رمى بنفسه عليه، وطعنه بخنجر كان قد أعدّه (4)، وأغرى بعلاجه، وصاح، وقطعت الصلاة، وقبض عليه، واستفهم، فتكلم بكلام مخلّط، واحتمل إلى منزله، على فوت لم يستقر به، إلّا وقد قضى، رحمه الله ورضي عنه، وأخرج ذلك الخبيث (5) للناس، وقتل وأحرق بالنار، مبالغة في التشفي، ودفن السلطان عشية اليوم في مقبرة قصره لصق والده (6)، وولي أمره ابنه أبو عبد الله محمد، وبولغ في احتفال قبره، بما أشف على من تقدمه، وكتب عليه ما نصه:
«هذا قبر السلطان الشهيد، الذي كرمت أحسابه وأعراقه، وحاز الكمال خلقه وأخلاقه، وتحدّث بفضله وحلمه شام المعمور وعراقه، صاحب الآثار السّنيّة، والأيام الهنيّة، والأخلاق الرضيّة، والسير المرضيّة. الإمام الأعلى، والشّهاب الأجلى، حسام الملة، علم الملوك الجلّة، الذي ظهرت عليه عناية ربّه، وصنع الله له في سلمه وحربه. قطب الرّجاحة والوقار، وسلالة سيّد الأنصار، حامي حمى الإسلام برأيه ورايته، المستولي في (7) ميدان الفخر على غايته، الذي صحبته عناية الله في بداية أمره وغايته، أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف ابن السلطان الكبير، الإمام الشهير، أسد دين الله، الذي أذعنت الأعداء لقهره، ووقفت الليالي (8) والأيام عند نهيه وأمره. رافع ظلال العدل في الآفاق، حامي حمى السّنة بالسمر الطوال والبيض الرّقاق، مخلّد صحف الذّكر الخالد والعزّ الباقي، الشّهيد السعيد المقدس أبي الوليد، ابن الهمام الأعلى الطاهر النسب والذات، ذي العز البعيد الغايات، والفخر الواضح الآيات، كبير الخلافة النصرية، وعماد الدولة الغالبيّة، المقدس
__________
(1) قارن باللمحة البدرية (ص 110).
(2) في اللمحة: «فهجم».
(3) في اللمحة: «رجل ممرور، ورمى نفسه».
(4) في اللمحة: «اتخذه».
(5) في اللمحة: «الممرور».
(6) في اللمحة: «أبيه».
(7) في اللمحة: «من».
(8) في اللمحة: «الأيام والليالي».(4/291)
المرحوم أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن نصر، تغمّده الله برحمة من عنده، وجعله في الجنّة جارا لسعد بن عبادة جدّه، وجازى عن الإسلام والمسلمين حميد سعيه، وكريم قصده. قام بأمر المسلمين أحمد القيام، ومهّد لهم الأمن من (1) ظهور الأيام، وجلّى لهم وجه العناية مشرق القسام، وبذل فيهم من تواضعه وفضله كل واضح الأحكام، إلى أن قضى الله بحضور أجله، على خير عمله، وختم له بالسعادة، وساق إليه على حين إكمال شهر الصوم هديّة الشهادة. وقبضه ساجدا خاشعا، منيبا إلى الله ضارعا، مستغفرا لذنبه، مطمئنا في الحالة التي أقرب ما يكون العبد فيها من ربّه. على يد (2) شقيّ قيضه الله لسعادته، وجعله سببا لنفوذ سابق مشيئته وإرادته، خفي مكانه لخمول قدره، وتمّ بسببه أمر الله لحقارة أمره، وتمكّن له عند الاشتغال بعبادة الله، ما أضمره من غدره، وذلك في السجدة الأخيرة من صلاة العيد، غرة شوال، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، نفعه الله بالشهادة التي كرم منها الزمان والمكان، ووضح منها على قبول رضوان الله البيان، وحشره مع سلفه الأنصار الذين عزّ بهم الإيمان، وحصل لهم من النار الأمان. وكانت ولايته الملك في غرة اليوم الرابع عشر لذي الحجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة. ومولده في الثامن والعشرين لربيع الآخر عام ثمانية عشر وسبعمائة. فسبحان من انفرد بالبقاء المحض، وحتّم الفناء على أهل الأرض، ثم يجمعهم إلى يوم الجزاء والعرض، لا إله إلا هو.
وفي الجهة الأخرى من (3) النظم، وكلاهما من إملائي، ما نصه: [الطويل]
يحيّيك بالريحان والروح من قبر ... رضى الله عمّن حلّ فيك مدى الدّهر
إلى أن يقوم الناس تعنو وجوههم ... إلى باعث الأموات في موقف الحشر
ولست بقبر إنما أنت روضة ... منعّمة الريحان عاطرة النّشر
ولو أنني أنصفتك الحقّ لم أقل ... سوى يا كمام الزّهر أو صدف الدّرّ
ويا ملحد التقوى ويا مدفن الهدى ... ويا مسقط العليا ويا مغرب البدر
لقد حطّ فيك الرحل أيّ خليفة ... أصيل (4) المعالي غرّة في بني نصر
لقد حلّ فيك العزّ والمجد والعلى ... وبدر الدّجا والمستجار لدى (5) الدهر
__________
(1) كلمة «من» غير واردة في اللمحة.
(2) في اللمحة: «يدي».
(3) قوله: «من النظم ما نصّه» ساقط في اللمحة البدرية.
(4) في الأصل: «أصل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية.
(5) في اللمحة: «من الدهر».(4/292)
ومن كأبي الحجاج حامي حمى الهدى؟ ... ومن كأبي الحجاج ماحي دجا الكفر؟
إمام الهدى غيث النّدى دافع العدا ... بعيد المدى في حومة المجد والفخر
سلالة سعد الخزرج بن عبادة ... وحسبك من بيت رفيع ومن قدر
إذا ذكر الإغضاء والحلم والتّقى ... وحدّثت عن علياه حدّث عن البحر
تخوّنه طرف الزمان وهل ترى ... بقاء لحيّ أو دواما على أمر؟
هو الدهر ذو وجهين يوم وليلة ... ومن كان ذا وجهين يعتب في غدر
تولّى شهيدا ساجدا في صلاته ... أصيل التقى رطب اللسان من الذكر
وقد عرف الشّهر المبارك حقّ ما ... أفاض من النّعمى ووفّى من البرّ
وباكر عيد الفطر والحكم مبرم ... وليس سوى كأس الشهادة من فطر
أتيح له وهو العظيم مهابة ... وقدرا حقير الذّات والخلق والقدر
شقيّ أتته (1) من لدنه سعادة ... ومنكر قوم جاء بالحادث النّكر
وكم من عظيم قد أصيب بخامل ... وأسباب حكم الله جلّت عن الحصر
فهذا عليّ قد قضى بابن ملجم ... وأوقع وحشي بحمزة ذي الفخر
نعدّ الرّماح المشرفيّة والقنا ... ويطرق أمر الله من حيث لا تدري
ومن كان بالدّنيا الدّنية واثقا ... على حالة يوما فقد باء بالخسر
فيا مالك الملك الذي ليس ينقضي ... ويا من إليه الحكم في النهي والأمر
تغمّد بستر العفو منك ذنوبنا ... فلسنا نرجّي غير سترك من ستر
فما عندك اللهمّ خير ثوابه ... وأبقى ودنيا المرء خدعة مغترّ
ومما رثي به قولي في غرض ناء عن الجزالة، متحرّيا اختيار ولده (2):
[الكامل]
العمر يوم (3) والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمرّ منام (4)
وإذا تحقّقنا لشيء (5) بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام
والنفس تجمع في مدى آمالها ... ركضا، وتأبي ذلك الأيام
من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه نفذت بذا الأحكام
__________
(1) في الأصل: «أتت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية.
(2) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 7875).
(3) في النفح: «نوم».
(4) في النفح: «مقام».
(5) في الأصل: «الشيء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/293)
بعد الشبيبة كبرة ووراءها ... هوم (1) ومن بعد الحياة حمام
ولحكمة ما أشرقت شهب الدّجا ... وتعاقب الإصباح والإظلام
دنياك يا هذا محلّة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام
هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السّماح وأعدم الإعدام (2)
سرّ الإمامة (3) والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضّرغام
قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعزّ سام والخميس لهام
فجعت به الدنيا وكدّر شربها ... وشكى العراق مصابه والشام
أسفا على الخلق الجميل كأنه (4) ... بدر الدّجنّة قد جلاه تمام
أسفا على العمر الجديد كأنه ... غضّ (5) الحديقة زهره بسّام
أسفا على الخلق الرّضيّ كأنها (6) ... زهر الرّياض همى عليه غمام
أسفا على الوجه الذي مهما (7) بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام
يا ناصر الثّغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسماء قتام
يا صاحب الصّدمات (8) في جنح الدجا ... والناس في فرش النعيم نيام
يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام
مولاي، هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام؟
مولاي، هل لك للعبيد تذكّر؟ ... حاشاك أن تنسى (9) لديك ذمام
يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزّة نصره (10) الأعلام
وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النّهى والجود والإقدام
ورحلت عنّا الرّكب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام
نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزّاد فيه تهجّد وصيام
وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم كيل (11) والضياء ظلام
__________
(1) في النفح: «هرم».
(2) الإعدام: الفقر. لسان العرب (عدم).
(3) في النفح: «الأمانة».
(4) في النفح: «كأنما».
(5) في النفح: «زهو».
(6) في النفح: «كأنه».
(7) في الأصل: «الذي يهمي ندى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «والصدقات».
(9) في النفح: «ينسى».
(10) في الأصل: «بعزه نصرة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «ليل».(4/294)
وسقاك (1) عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحيّ (2) مدام
وختمت عمرك بالصلاة فحبّذا ... عمل كريم سعيه وختام (3)
مولاي، كم هذا الرقاد؟ إلى متى ... بين الصّفائح والتّراب تنام؟
أعد التحيّة واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام
تبكي عليك مصانع شيّدتها (4) ... بيض كما تبكي الهديل حمام
تبكي عليك مساجد عمّرتها ... فالناس فيها سجّد وقيام
تبكي عليك خلائق أمّنتها ... بالسّلم وهي كأنها أنعام
عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام
لو كنت تفدى أو تجار (5) من الرّدى ... بذلت نفوس من لدنك كرام
لو كنت تمنع بالصّوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام
لكنه أمر الإله وما لنا ... إلّا رضى بالحكم واستسلام
والله قد كتب الفنا على الورى ... وقضاؤه جفّت به الأقلام
نم في جوار الله مسرورا بما ... قدّمت يوم تزلزل الأقدام
واعلم بأن سليل ملك (6) قد غدا ... في مستقرّ علاك وهو إمام
ستر (7) تكنّف منه من خلّفته ... ظلّ ظليل فهو ليس يضام
كنت الحسام وصرت في غمد الثّرى ... ولنصر ملكك سلّ منه حسام
خلّفت أمّة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمّة الأحكام
فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام
أبقى رسومك كلّها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام
العدل والشّيم الكريمة والتّقى ... والدّار والألقاب والخدّام
حسبي بأن أغشى (8) ضريحك لائما ... وأقول والدمع السّفوح سجام
__________
(1) في الأصل: «سقاك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «الحرمى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح. والأجل الوحيّ: الموت السريع.
(3) يريد أن يقول: كريم سعيه وختامه.
(4) في الأصل: «شهدتها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «تجاز» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «ملكك».
(7) في الأصل: «بستر» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «أخشى»، ولا معنى له، والتصويب من النفح.(4/295)
يا مدفن التّقوى ويا مثوى الهدى ... منّي عليك تحية وسلام
أخفيت من حزني عليك وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام
ولو انني أدّيت حقّك لم يكن ... لي بعد فقدك في الوجود مقام
وإذا الفتى أدّى الذي في وسعه ... وأتى بجهد ما عليه ملام
وكتبت في بعض المعاهد التي كان يأنس بها رحمة الله عليه (1): [السريع]
غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب
يا يوسف، أنت لنا يوسف ... وكلّنا في الحزن يعقوب
يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة ابن نافع الفهري (2)
أوليته: كان عبد الرحمن أحد زعماء العرب بالأندلس، وكان ممن ثار منها من أصحاب بلج (3) عصبيّة لقتله، فخرج عن الأندلس إلى إفريقية، وجدّه عقبة بن نافع، هو الذي اختطّ قيروانها أيام معاوية بن أبي سفيان. قال عيسى بن أحمد: وهرب ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضبا له، أيام بشر بن صفوان الكلبي، فهوى الأندلس واستوطنها، فساد بها ثم تأمّر فيها.
حاله: كان شريفا جليلا، حازما عاقلا، اجتمع عليه أهل الأندلس من أجل أنه قرشي، بعد موت أميرهم ثوابة بن سلامة، ورضي به الخيار من مضر واليمن، فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر، وكان آخر الأمراء (4) بالأندلس، وعنه انتقل سلطانها إلى بني أمية. وأشرك الصّميل (5) بن حاتم في أمره، فتركت لذلك نسبة الأمر له، وكانت الحرب التي لم يعرف بالمشرق والمغرب أشدّ جلادا ولا أصبر رجالا منها، واعتزلها يوسف تحرّفا، وقام بأمرها الصّميل، وانهزم اليمانيون واستلحموا ملحمة عظيمة، واستوسق الأمر ليوسف. وغزا جلّيقية فعظم في عدوّها
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 78) و (ج 9ص 189).
(2) ترجمة يوسف الفهري في البيان المغرب (ج 2ص 35) وجذوة المقتبس (ص 8) وبغية الملتمس (ص 12) والحلة السيراء (ج 2ص 347) وكتاب العبر لابن خلدون (م 4ص 261) ونفح الطيب (ج 1ص 228، 241، 279، 288) و (ج 4ص 20).
(3) هو بلج بن بشر القشيري، وقد ولي الأندلس مدة أحد عشر شهرا، فمات سنة 124هـ.
(4) المراد: آخر الولاة بالأندلس.
(5) هو الصميل بن حاتم، إذ كان له الرسم، وكان ليوسف الفهري الاسم.(4/296)
أثره. ولما تمّ له الأمر طرقه ما تقدم به الإلماع، من عبور صقر بني أمية عبد الرحمن الداخل في خبر طويل. والتقى بظاهر قرطبة سنة ثمان وثلاثين ومائة في ذي الحجة، وانهزم يوسف بن عبد الرحمن والصّميل، ولحقا بإلبيرة. وأتبعهما عبد الرحمن بن معاوية، فنازله، وقد تحصن بمعقل إلبيرة حصن غرناطة، وترددت بينهما الرّسل في طلب المهادنة والبقاء على الصلح. وتخلّى يوسف عن الدعوة، واستقرّ سكناه بقرطبة، وذلك في صفر سنة تسع وثلاثين ومائة، وأقبل معه في عسكره إلى قرطبة. وذكر أنه تمثّل عند دخوله عسكر عبد الرحمن ببيت جرور ابن ابنة النعمان (1): [الطويل]
فبتنا (2) نسوس الأمر (3) والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
فتبّا لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلّب ساعات بنا وتصرّف
واستقرّ بقرطبة دهرا، ثم بدا له في الخلاف. ولحق بأحواز طليطلة، وأعاد عهد الفتنة، فاغتاله مملوكان له، وقتلاه، رحمه الله، في سنة اثنتين وأربعين ومائة. وأخبار يوسف بن عبد الرحمن معروفة، وهو محسوب من الأمراء الأصلاء بغرناطة، إذ كانت له قبل الإمارة بها ضياع يتردّد إليها.
ومن غير الأصليين
يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي عزفة اللخمي
الرئيس أبو زكريا وأبو عمرو ابن الرئيس أبي طالب ابن الرئيس أبي القاسم. كنّاه أبوه أبا عمرو، وغلبت عليه الكنية المعروفة.
حاله: كان قيّما على طريقة أصحاب الحديث، رواية وضبطا وتقييدا وتخريجا، مع براعة خط، وطرف ضبط، شاعرا مجيدا مطبوعا، ذا فكاهة وحسن مجالسة. رأس بسبتة، بعد إجازته البحر من الأندلس والاحتلال بفاس، نائبا عن ملك المغرب السلطان أبي سعيد بن عبد الحق، لأمر متّ به إليه قبل استقلاله، ليس هذا موضع ذكره. ثم استبدّ بها مخالفا عليه، لأمر يطول شرحه، أجرى فيه موفّى الجانب من الخلع، باسلا مقداما، سكون الطائر، مثقّفا بخلال رئاسته، ضاما لأطرافها. ونازله
__________
(1) ورد فقط البيت الأول في الحلة السيراء (ج 2ص 350).
(2) في الحلة السيراء: «بينا».
(3) في المصدر نفسه: «الناس».(4/297)
جيش المغرب، وبيد أميره ولده أبو القاسم مرتهنا، فأتيح له ظفر أجلى ليلة غربيات المحلّة، والأثر فيها، واستخلاص ولده.
مشيخته: أخذ عن جماعة من أهل بلده وغيرهم، قراءة وسماعا وإجازة. فممن أخذ عنه من أهل بلده سبتة، أبو إسحاق الغافقي، وأبو عبد الله بن رشيد، وأبو الظفر المنورقي، وأبو القاسم البلفيقي، وأبو علي الحسن بن طاهر الحسيني، وأبو إسحاق التّلمساني، وأبو محمد عبد الله بن أبي القاسم الأنصاري، وأبو القاسم بن الشّاط.
وبغرناطة لما قدم عليها، مغرّبا عن وطنه، عند تصيّره إلى الإيالة النّصرية من أيديهم، وسكناه بها، عن أبي محمد عبد المنعم بن سماك، وأبي جعفر بن الزبير، وأبي محمد بن المؤذن، وأبي الحسن بن مستقور، وغيرهم. ومن أهل ألمرية أبو عبد الله محمد بن الصايغ، وأبو عبد الله بن شعيب. ومن أهل مالقة الولي أبو عبد الله بن الطّنجالي، وأبو محمد الباهلي، وأبو الحسن بن منظور، وأبو الحسن بن مصامد.
ومن أهل الخضراء، أبو جعفر بن خميس. ومن أهل بلّش أبو عبد الله بن الكماد.
ومن أهل أرجبة (1) أبو زكريا البرشاني. ومن أهل بجاية أبو علي ناصر الدين المشدالي، وأبو عبد الله بن غربوز. ومن أهل فاس أبو عبد الله المومناني. ومن أهل تيزى أبو عبد الله محمد القيسي. وكتب له بالإجازة طائفة كبيرة من أهل المشرق، منهم قطب الدين القسطلاني.
شعره: قال لي شيخنا أبو البركات: سألته، وأنا معه واقف بسور قصبة سبتة، أن يجيزني ويكتب لي من شعره، فكتب لي قطيعات منها في تهنئة السلطان أبي الجيوش يوم ولايته: [الكامل]
الآن عاد إلى الإمامة نورها ... وارتاح منبرها وهشّ سريرها
وبدا لنا من بعد طول قطوبها ... منها التهلّل واستبان سرورها
وضعت أزمّتها بكفّ خليفة ... هو أصلها الأولى بها ونصيرها
من معشر عرفت بطون أكفّهم ... بذل النّدى واللّاثمين ظهورها
خرصانهم ووجوههم في ظلمة ال ... نّقع المثار نجومها وبدورها
وسع الرعايا منه عدله ... لم يزل إليه قلوبهم ويصورها (2)
حتى اغتدت بالحب فيه صدورها ... ملأى وأخلص في الولاء ضميرها
__________
(1) أرجبة: بالإسبانية، وهي بلدة تقع جنوب شرقي غرناطة.
(2) هذا البيت مختل الوزن والمعنى.(4/298)
رام العداة لمجده كيدا فلم ... تنجح مساعتها وساء مصيرها
وكذاك فعل الله فيمن كاده ... جهلا وغرّته المنى وغرورها
مولاي، إنّا عصبة معروفة ... بالحبّ فيك صغيرها وكبيرها
جئنا نقضّي من حقوقك واجبا ... نسدي المدائح (1) تارة ونبيرها
ولقد خدمت مقامكم من قبلها ... بفرائد حسنا يعزّ نظيرها
فاجذب بضبعي من حضيض مزارتي ... من (2) عرّست وعلى يديك مسيرها
وافتكّني من أسر فرط خصاصة ... عنفت فلم يقصد سواك أسيرها
لا زلت للإسلام تحمي أمّة ... دانته مما يتّقي ويجيرها
وبقيت في عزّ وسعد شامل ... حتى يحين من الرفات نشورها
وفي الإلغاز بالأقلام والمحبرة: [الوافر]
وسرب ضمّهم دست ستير ... شباب ليس يفزعهم قتير
قد اختصروا فلم يفرش سآد ... لمجلسهم ولم ينصب سرير
لهم كأس إذا دارت عليهم ... فقد أزف التّرحّل والمسير
وأفشوا سرّ ساقيهم (3) بلفظ ... مبين ليس يفهمه البصير
وهزّت من رؤوسهم نشاطا ... وعند الصّحو يعروهم فتور
فصاح إن تحلّلهم وإلّا ... فشأنهم التّلعثم والقصور
صلاب حين تعجمهم ولكن ... إذا طعنوا فدمعهم غزير
لهم عقل يلوم على القوافي ... لذلك (4) نومهم أبدا كثير
طويلهم يطول العمر منه ... أخا نعب ويخترم القصير
وهم لم يشف يوما (5) ... بغير القطع عضوهم الكبير
فقل لي: من هم، لا زلت فردا ... دياجي المشكلات به تسير
نكبته: تنظر في العبادلة في اسم أبيه (6).
مولده: سنة سبع وسبعين وستمائة.
وفاته: عام تسعة عشر وسبعمائة، في شعبان، رحمه الله.
__________
(1) في الأصل: «بالمدائح»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(3) في الأصل: «سياقهم»، وكذا يختل الوزن والمعنى.
(4) في الأصل: «لذاك»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) صدر هذا البيت مختل الوزن.
(6) تقدمت ترجمة أبيه عبد الله بن محمد بن أبي عزفة اللخمي في الجزء الثالث من الإحاطة.(4/299)
يحيى بن علي بن غانية الصحراوي، الأمير أبو زكريا (1)
حاله: كان بطلا شهما حازما، كثير الدهاء والإقدام، والمعرفة بالحروب، مجمعا على تقدمه. نشأ في صحبة الأمير بقرطبة محمد ابن الحاج اللّمتوني وولّاه مدينة إستجة، فهي أول ولايته. وليها يحيى، وتزوج محمد بن الحاج أمّه غانية بعد أبيه وكفله، وأقام معه بقرطبة، إلى أن كان من محمد ابن الحاج ما كان من مداخلة أشياخ مسّوفة على خلع محمد بن يوسف بن تاشفين عن الأمر، وصرف البيعة إلى يحيى الحفيد، الوالي في ذلك العهد بمدينة فاس، ولم يتمّ له الأمر، فأجلي عن نكبته. وانفصل يحيى بن غانية عن جماعته، وأقام متصرّفا في الحروب، معروف الحق والغناء، إلى أن اشتهرت بسالته وديانته، ورغب يديّر بن ورقا، صاحب بلنسية، من السلطان في توجيهه إليه، ليستعين به على مدافعة العدوّ، فأجيب إلى ذلك.
فوصل يحيى بلنسية، وأقام بها ذابّا عن المسلمين، إلى أن توفي يدّير بن ورقا، فولّاه علي بن يوسف إياها وشرق الأندلس، فظهر غناؤه وجهاده، وهزم الله بها ابن رذمير الطّاغية منازلا إفراغة على يده، فطار ذكره، وعظم صيته، واشتهر سعده، وأسل عن البيضة دفاعه.
أخبار عزمه: حكي عنه أنه تزوج في فتوّته امرأة من قومه شريفة جميلة، وقرّ بها عينا، ثم تركها وطلّقها، فسئل عن ذلك، فقال: والله ما فارقتها عن خلّة تذمّ، ولكن خفت أن أشتغل بها عن الجهاد. ولم يزل يدافع النصارى عن المسلمين بالأندلس، فهزم ابن رذمير، وأقلع محلاتهم عن مدينة الأشبونة، واستمسك به حال الأندلس. وولّي قرطبة وما إليها من قبل تاشفين بن علي بن يوسف، عام ثمانية وثلاثين وخمسمائة، فاستقامت الأمور بحسن سيرته، وظهور سعده، إلى صفر من عام تسعة وثلاثين. وكانت ثورة ابن قسي باكورة الفتنة. ولما خرج إلى لبلة، ثار ابن حمدين بقرطبة دار ملكه في رمضان من العام، واستباح قصره، وانطلقت الأيدي على قومه، وتمّ له الأمر. وبلغ يحيى الخبر، فرجع أدراجه إلى إشبيلية، فثار به أهلها، وناصبوه الحرب وأصابوه بجراحة، فلجأ إلى حصن مرجانة، فأقام به يصابر الهول، ويرقّع القنن. ثم تحرّك إليه جيش ابن حمدين، وكانت بينهما وقيعة انهزم فيها ابن حمدين، واستولى ابن غانية على قرطبة، في شعبان من عام أربعين، وتحصّن ابن حمدين بأندوجر ممتنعا بها. ونهض يحيى إلى منازلته، فاستعان ابن حمدين بملك
__________
(1) ترجمة يحيى بن غانية في المعجب (ص 343) وصفحات متفرقة من المغرب ونفح الطيب.(4/300)
قشتالة، وأطمعه في قرطبة، فتحرّك إلى نصرته. ولما وصل أندوجر، أعذر يحيى في الدفاع والمصابرة، ثم انصرف بالجيش إلى قرطبة، وأخذ العدوّ في آثارهم، صحبة مستغيثه ابن حمدين. فنازل قرطبة، وامتنع ابن غانية بالقصر ومائليه من المدينة.
وأدخل ابن حمدين النصارى قرطبة في عاشر ذي الحجة من عام أربعين، فاستباحوا المسجد، وأخذوا ما كان به من النواقيس (1)، ومزقوا مصاحفه، ومنها زعموا مصحف عثمان، وأنزلوا المنار من الصّومعة، وكان كله فضّة، وحرقت الأسواق، وأفسدت المدينة، وظهر من صبر ابن غانية، وشدّة بأسه، وصدق دفاعه، ما أيأس منه. وكان من قدر الله، أن بلغ طاغية الروم يوم دخولهم قرطبة، اجتياز الموحّدين إلى الأندلس، فأجال طاغيتهم قداح الرأي، فاقتضى أن يهادن ابن غانية، ويتركه بقرطبة في نحر عدوّه من الموحدين، سدّا بينهم وبين بلاده. فعقدت الشروط، ونزل إليه ابن غانية فعاقده، واستحضر له أهل قرطبة، وقال لهم: أنا قد فعلت معكم من الخير، ما لم يفعله من قبلي، غلبتكم في بلدكم وتركتكم رعيّة لي، وقد ولّيت عليكم يحيى بن غانية، فاسمعوا له وأطيعوا. قال المؤرخ: وفخر الطاغية في ذلك اليوم بقومه، وقال:
ولا يريبنكم أن تكونوا تحت يدي ونظري، فعندي كتاب نبيكم إلى جدّي. حدّث ابن أم العماد أبو الحسن، قال: حضرت، وأحضر حقّ من ذهب، فتح وأخرج منه كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى قيصر ملك الروم، وهو جدّه بزعمه. والكتاب بخط علي بن أبي طالب. قال أبو الحسن: قرأته من أوله إلى آخره، كما جاء في حديث البخاري.
وانصرف إلى بلاده، وانصرف ابن حمدين، فكان هلاكه بمالقة، بعد اضطراب كثير.
واستقرّ ابن غانية بقرطبة الغادر به أهلها، فشرع في بنيان القصبة وسدّ عورتها، وسام أهلها الخسف وسوء العذاب، ووالى إغرامهم، واستعجل أمرهم، واتصل سلمه مع العدو إلى تمام أحد وأربعين وخمسمائة، وقد تملك الموحدون إشبيلية وما إليها.
وضيّق عليه النصارى في طلب الإتاوة، واشتطّوا عليه في طلب ما بيده، ونزل طاغيتهم أندوجر وبه رجل يعرف بالعربي، واستدعى ابن غانية، فلمّا تحصّل بمحلّته، طلبه بالتخلّي عن بيّاسة وأبّدة، فكان ذلك. وتشاغل الموحدون بأمر ثائر نازعهم بالمغرب، فكلب العدو على الأندلس، فنازل الأشبونة وشنترين، وألمرية وطرطوشة ولا ردة وإفراغة، وطمع في استئصال بلاد الإسلام، فداخل ابن غانية سرّا من بإشبيلية من الموحّدين، ووصله كتاب خليفتهم بما أحبّ، وتحرك الطاغية في جيوش لا ترام.
وطالب ابن غانية بالخروج عن جيّان وتسليمها إليه، وكاده، حسبما تقدم في اسم
__________
(1) المراد بالنواقيس مصابيح المسجد المغطاة بأغطية نحاسية تشبه النواقيس. من تعليق الأستاذ محمد عبد الله عنان، الإحاطة (ج 4ص 346) حاشية رقم 1.(4/301)
عبد الملك بن سعيد. ونهض بعد هذه الكائنة إلى غرناطة، وهي آخر ما تبقى للمرابطين من القواعد ليجمع بها أعيان لمتونة ومسّوفة، في شأن صرف الأمر إلى الموحدين.
وفاته: ولما وصل الأمير يحيى بن غانية إلى غرناطة أقام بها شهرين، وتوفي عصر يوم الجمعة الرابع عشر من شعبان عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة، ودفن بداخل القصبة في المسجد الصغير، المتصل بقصر باديس بن حبّوس (1)، مجاورا له في مدفنه، وعليه في لوح من الرخام تاريخ وفاته، والناس يقصدوه للتبرك به.
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن توقورت بن وريابطن ابن منصور بن مصالة بن أمية بن وايامى الصنهاجي ثم اللمتوني (2)
يكنى أبا يعقوب ويلقب بأمير المسلمين.
أوليته: ذكروا أن يحيى بن إبراهيم بن توقورت حجّ، وهو كبير قبيل الصحراويين في عشر الأربعين وأربعمائة، واجتاز على القيروان وهي موفورة بالعلماء، وتعرّف بالفقيه أبي عمران الفاسي، ورغب إليه أن ينظر له في طلب من يستصحبه، ليعلّم قومه ويفقههم، فخاطب له فقيها من فقهاء المغرب الأقصى اسمه واجاج، واختار له واجاج عبد الله بن ياسين القائم بدولتهم، البادي نظم نشرهم، وتأليف كلمتهم، فاجتمع عليه سبعون شيخا من نبهائهم ليعلمهم، فانقادوا له انقيادا كبيرا، وتناسل الناس، فضخم العدد، وغزا معهم قبائل الصحراء. ثم التأثت حاله معهم، فصرفوه، وانتهبوا كتبه، فلجأ إلى أمير لمتونة يحيى بن عمر بن تلايكان اللمتوني، فقبله، وأعاد حاله، وثابت طاعته، فأمضى القتل على من اختلف عليه.
وكان يحيى بن عمر يمتثل أمر عبد الله امتثالا عظيما. ثم خرج بهم إلى سجلماسة، فتملّكوها، وتملّكوا الجبل. ثم ظهروا على المغرب، ثم قتل الأمير يحيى بن عمر، فقدّم عبد الله أخاه أبا بكر بن عمر بدرعة، ونهد به، فتملّك
__________
(1) في الأصل: «حيوس» بالياء.
(2) ترجمة يوسف بن تاشفين وأخباره في وفيات الأعيان (ج 5ص 469) والكامل في التاريخ (ج 9ص 621) و (ج 10ص 417) وجذوة الاقتباس (ص 342) وتاريخ ابن الوردي (ج 2ص 3) ومذكرات الأمير عبد الله (ص 102) ونخبة الدهر (ص 236) وبغية الرواد (ج 1ص 86) والحلل الموشية (ص 59) والبيان المغرب (ج 4ص 111) والمعجب (ص 226) والروض المعطار (ص 287، مادة الزلاقة) وكتاب العبر (م 6ص 382) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 235).(4/302)
جبال المصامدة، واحتلّ بأغمات وريكة واستوطنها. ولعبد الله أخبار غريبة وشذوذ في الأحكام، الله أعلم بصحتها. وقتل عبد الله بن ياسين برغواطة. ولم يزل الأمير أبو بكر بن عمر حتى أخذ ثأره، وأثخن القتل فيهم، وقدّم ابن عمه يوسف بن تاشفين بن إبراهيم على عسكر كبير، فيهم أشياخ لمتونة، وقبائل البرابرة والمصامدة، واجتاز على بلاد المغرب، فدانت له. وطرق الأمير أبا بكر خبر من قومه من الصحراء انزعج له، فولّى يوسف بن تاشفين على مملكة المغرب، وترك معه الثلث من لمتونة، إخوانه، وأوصاه، وطلّق زوجته زينب، وأمره يتزوّجها لما بلاه من يمنها، فبنى يوسف مدينة مراكش وحصّنها، وتحبّب إلى الناس، واستكثر من الجنود والقوة، وجبى الأموال، واستبدّ بالأمر. ورجع الأمير أبو بكر من الصحراء سنة خمس وستين وأربعمائة، فألفى يوسف مستبدّا بأمره، فسالمه، وانخلع له عن الملك، ورجع إلى صحرائه، فكان بها تصله هدايا يوسف إلى أن قتله السّودان. واستولى يوسف على المغرب كله، ثم أجاز البحر إلى الأندلس، فهزم الطاغية الهزيمة الكبرى بالزلّاقة، وخلع أمراء الطّوائف، وتملّك البلاد إلى حين وفاته.
حاله: قال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصيرفي: كان، رحمه الله، خائفا لربّه، كتوما لسرّه، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، مديما للاستغفار، أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه الاعتقال الطويل، والقيد الثّقيل، والضرب المبرّح، إلّا من انتزى أو شقّ العصا، فالسيف أحسم لانتثار الداء. يواصل الفقهاء، ويعظّم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه وغيره بفتياهم، ويحضّ على العدل، ويصدع بالحق، ويعضّد الشّرع، ويحزم في المال، ويولع بالاقتصاد في الملبس والمطعم والمسكن، إلى أن لقي الله، مجدّا في الأمور، ملقنا للصواب، مستحبّا حال الجد، مؤدّيا إلى الرعايا حقّها، من الذّب عنها، والغلظة على عدوها، وإفاضة الأمن والعدل فيها. يرى صور الأشياء على حقيقتها، تسمّى بأمير المسلمين لما احتل الأندلس وأوقع بالروم، وكان قبل يدعى الأمير يوسف، وقامت الخطبة فيها جميعا باسمه، وبالعدوة، بعد الخليفة العباسي. وكان درهمه فضّة، ودنيره تبر محض، في إحدى صفحتي الدّنير «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وفي الداير: «ومن يتّبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين». وفي الصفحة الأخرى:
«الإمام عبد الله أمير المسلمين»، وفي الداير: تاريخ ضربه وموضع سكّته، وفي جهتي الدرهم ما حمله من ذلك.(4/303)
بعض أخباره: في سنة سبعين وأربعمائة وردت عليه كتب الأندلس، يبثّون حالهم، ويحرّكونه إلى نصرهم. وفي سنة اثنتين بعدها ورد عليه عبد الرحمن بن أسباط من ألمرية يشرح حال الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين بعدها وجّه إلى شراء العدد فيها واستكثر منها. وفي سنة ستّ بعدها فتح مدينة سبتة ودخلها عنوة على الثّائر بها سقوت البرغواطي. وفي سنة ثمان اتصل به تملّك طاغية قشتالة مدينة طليطلة، وجاز إليه المعتمد بن عباد بنفسه، وفاوضه واستدعاه لنصرة المسلمين، وخرج إليه عن الجزيرة الخضراء. وعلم بذلك الأدفنش، فاخترق بلاد المسلمين معرضا عن رؤساء الطوائف، لا يرضى أخذ الجزية منهم، حتى انتهى إلى الخضراء، ومثل على شاطىء البحر، وأمر أن يكتب إلى الأمير يوسف بن تاشفين، والموج يضرب أرساغ فرسه، بما نسخته:
«من أمير الملتين أذفونش بن فردلند إلى الأمير يوسف بن تاشفين. أمّا بعد، فلا خفاء على ذي عينين أنك أمير الملّة المسلمة، كما أنا أمير الملّة النصرانية. ولم يخف عليكم ما عليه رؤساؤكم بالأندلس من التّخاذل، والتواكل، وإهمال الرعية، والإخلاد إلى الراحة، وأنا أسومهم سوء الخسف، وأضرب الدّيار، وأهتك الأستار، وأقتل الشبّان، وأسبي الولدان، ولا عذر لك في التّخلّف عن نصرتهم، إن أمكنتك قدرة.
هذا وأنتم تعتقدون أن الله، تبارك وتعالى، فرض على كل منكم، قتال عشرة منّا، ثم خفّف عنكم فجعل على كل واحد منكم قتال اثنين منّا، فإنّ قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار، ونحن نعتقد أن الله أظهرنا بكم، وأعاننا عليكم، إذ لا تقدرون دفاعا، ولا تستطيعون امتناعا. وبلغنا عنك أنك في الاحتفال على نيّة الإقبال، فلا أدري إن كان الحين يبطئ بك أمام التكذيب لما أنزل عليك. فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إليّ ما عندك من المراكب لأجوز إليك، وأنا جزك في أحبّ البقاع، فإن غلبتني، فتلك غنيمة جاءت إليك، ونعمة مثلت بين يديك. وإن غلبتك، كانت لي اليد العليا، واستكملت الإمارة. والله يتمّ الإرادة».
فأمر يوسف بن تاشفين أن يكتب في ظهر كتابه: «جوابك يا أذفونش، ما تراه، لا ما تسمعه إن شاء الله». وأردف الكتاب ببيت أبي الطيب (1): [الطويل]
ولا كتب إلّا المشرفيّة والقنا (2) ... ولا رسل إلّا الخميس العرمرم
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 309). وقد ورد هذا البيت في وفيات الأعيان (ج 5ص 375) استشهد به الخليفة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي في سنة 590هـ، ردّا على كتاب الأذفونش صاحب طليطلة وغرب جزيرة الأندلس.
(2) في الديوان ووفيات الأعيان: «عنده».(4/304)
وعبر البحر، وقد استجاش أهل الأندلس. وكان اللقاء يوم الجمعة منتصف (1) رجب من عام تسعة وسبعين وأربعمائة. ووقعت حرب مرّة، اختلط فيها الفريقان، بحيث اقتحم الطاغية محلة المسلمين، وصدم يسارة جيوش الأندلس، واقتحم المرابطون محلّته للحين. ثم برز الجميع إلى مأزق، تعارفت فيه الوجوه، فأبلوا بلاء عظيما، وأجلت عن هزيمة العدو، واستئصال شأفته. وأفلت أذفونش في فلّ قليل، قد أصابته جراحة، وأعزّ الله المسلمين ونصرهم نصرا لا كفاء له، وأكثر شعراء المعتمد القول في ذلك، فمن ذلك قول عبد المجيد بن عبدون من قصيدة:
[الوافر]
فأين العجب يا أذفونش هلّا ... تجنّبت المشيخة يا غلام؟
ستشملك (2) النساء ولا رجال ... فحدّث ما وراءك يا عصام (3)
أقمت لدى الوغى سوقا فخذها ... مناجزة وهون لا تنام
فإن شئت اللّجين فثمّ سام ... وإن شئت النّضار فثمّ حام
رأيت الضّرب تطييبا فصلّب ... فأنت على صليبك لا تلام
أقام رجالك الأشقون كلّا ... وهل جسد بلا رأس ينام؟
رفعنا هامهم في كلّ جذع ... كما ارتفعت على الأيك الحمام
سيعبد بعدها الظّلماء لمّا ... أتيح له بجانبها اكتتام
ولا ينفكّ كالخفّاش يغضي ... إذا ما لم يباشره الظلام
نضا إذ راعه واجتاب ليلا ... يودّ لو انّ طول الليل عام
سيبقى حسرة ويبيد إن لم ... أبادتنا القناة أو الحسام
__________
(1) كذا في أعمال الأعلام (القسم الثالث ص 242). وقد اختلفت الرواية الإسلامية في تحديد تاريخ تلك الموقعة، فاتفق صاحب الحلل الموشية وابن الأبار وابن دحية وابن أبي زرع وابن أبي دينار، على أنها كانت يوم الجمعة الثاني عشر من رجب سنة 479هـ. الحلل الموشية (ص 4140) والتكملة (ج 1ص 23) والمطرب (ص 119) والأنيس المطرب (ص 9796) والمؤنس (ص 108). وذهب ابن خلكان مذهب ابن الخطيب في أنها كانت يوم الجمعة الخامس عشر من رجب من العام المذكور. وفيات الأعيان (ج 3ص 289) و (ج 4ص 281) و (ج 5ص 474).
(2) في الأصل: «شملك»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) أخذه من المثل: «ما وراءك يا عصام»، يضرب في الاستخبار. مجمع الأمثال (ج 2ص 362).(4/305)
وعاد إلى العدوة. ثم أجاز البحر ثانية إلى منازلة حصن ليّيط (1)، وفسد ما بينه وبين أمراء الأندلس، وعاد إلى العدوة، ثم أجاز البحر عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، عاملا على خلعهم، فتملّك مدينة غرناطة في منتصف رجب من العام المذكور، ودخل القصر بالقصبة العليا منها، واستحسنه، وأمر بحفظه ومواصلة مرمّته، وطاف بكل مكان منه. ثم تملّك ألمرية وقرطبة وإشبيلية وغيرها، في أخبار يطول اقتضاؤها، والبقاء لله.
وفاته: توفي، رحمه الله، بمدينة مراكش يوم الاثنين مستهل محرم سنة خمسمائة. وممن رثاه أبو بكر بن سوّار من قصيدة أنشدها على قبره: [الكامل]
ملك الملوك، وما تركت لعامل ... عملا من التّقوى يشارك فيه
يا يوسف، ما أنت إلّا يوسف ... والكلّ يعقوب بما يطويه
اسمع، أمير المؤمنين، وناصر ال ... دين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيرا عن رعيتك التي ... لم ترض فيها غير ما يرضيه
أمّا مساعيك الكرام فإنها ... خرجت عن التّكييف والتّشبيه
في كل عام غزوة مبرورة ... تردي عديد الروم أو تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفّقا ... حتم القضاء بكل ما تقضيه
ويجيء ما دبّرته كمجيئه ... فكأنّ كلّ مغيّب تدريه
متواضعا لله مظهر دينه ... في كل ما تبديه أو تخفيه
ولقد ملكت بحقّك الدنيا وكم ... ملك الملوك الأمر بالتّمويه
لو رامت الأيام أن تحصي الذي ... فعلت سيوفك لم تكد تحصيه
إنا لمفجوعون منك بواحد ... جمعت خصال الخير أجمع فيه
وإذا سمعت حمامة في أيكة ... تبكي الهديل فإنها ترثيه
ومضى (2) قد استرعى رعيّة أمّه ... فأقام فيهم حقّ مسترعيه
إذا هزبر الغاب صرّى شبله ... في الغاب كان الشّبل شبه أبيه
وإذا عليّ كان وارث ملكه ... فالسّهم يلقى في يدي باريه
__________
(1) اختلف المؤرخون الذين تحدّثوا عن حصار هذا الحصن في كتابة اسمه، فرسموه: «ألييط»، و «أليط»، و «ليط» و «الليط» و «لبّيط» و «يلبط» و «بلبيط» و «ليّيط». راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 204).
(2) في الأصل: «وميض»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا.(4/306)
يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن نصر (1)
ولي عهد أبيه أمير المسلمين، الغالب بالله.
حاله: كان أميرا جليلا حصيفا فاضلا، ظاهر النبل، محبّا في العلم (2) من فنونه. مال إلى التعاليم والنجوم، أفرط في الاستغراق في ذلك، ونمى إلى أبيه، فأنكره، وقصد يوما منزله لأجل ذلك، ودخل المجلس، وبه مجلّدات كثيرة، وقال:
ما هذه يا يوسف؟ فقال، سترا لغرضه المتوقّع فيه نكير أبيه: يا مولاي، هي كتب أدب، فقال السلطان، وقد قنع منه بذلك: يا ولدي، ما أخذناها، يعني السلطنة، إلّا بقلّة الأدب، تورية حسنة، إشارة إلى الثورة على ملوك كانوا تحت إيالتهم، فغرب في حسن النادرة، وكان قد ولّاه عهده بعد أخيه، لو أمهلته المنية.
وفاته: توفي يوم الجمعة ثالث عشر صفر عام ستين وستمائة.
يوسف بن عبد المؤمن بن علي (3)
الخليفة أبو يعقوب الوالي بعد أبيه.
حاله: كان فاضلا كاملا عدلا ورعا جزلا، حافظا للقرآن بشرحه، عالما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطئه وصحيحه، آية الموحّدين في الإعطاء والمواساة، راغبا في العمارة، مثابرا على الجهاد، مشيعا للعدل. أصلح العدوة وأمّنها، وأنس شاردها، وحصّن جزيرة الأندلس ببعوثه لها، فقمعوا عاصيها، وافترعوا بالفتح أقاصيها، وأحسن لأجنادها، وأمدّهم من الخيل بالمبين من أعدادها، رحمه الله.
ولده: ثمانية عشر، أكبرهم يعقوب ولي عهده، نجم بني عبد المؤمن وجوهرتهم.
حاجبه: أبو حفص شقيقه.
وزراؤه: إدريس بن جامع، ثم أبو بكر بن يوسف الكومي.
__________
(1) ترجمة يوسف بن الغالب بالله محمد بن يوسف النصري في اللمحة البدرية (ص 44).
(2) بياض في الأصول.
(3) ترجمة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83) ووفيات الأعيان (ج 5ص 486) والحلل الموشية (ص 119) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 269) وكتاب العبر لابن خلدون (م 6ص 579) وتاريخ المن بالإمامة (ص 228) والكامل في التاريخ (ج 11ص 505) والمعجب (ص 308).(4/307)
قضاته: حجاج بن يوسف بن عمران، وابن مضاء.
كتّابه: أبو الحسن بن عيّاش القرطبي، وأبو العباس بن طاهر بن محشرة.
بعض أخباره: في أيامه استوصلت دولة ابن مردنيش، بعد حروب مبيرة، ودوّخ إفريقية، وردّ أهل باجة إلى وطنهم، بعد تملّك العدوّ إياه، وجبرهم جدا واستنقاذا، وفتح حصن بلج.
وفاته: في الثامن والعشرين لربيع الآخر سنة ثمانين وخمسمائة، بظاهر شنترين من سهم أصابه في خبائه، وهو محاصر لها، فقضى عليه، وكتم موته، حتى اشتهر بعد رحيله. ذكر ذلك أبو الحسن بن أبي محمد الشّريشي، فكانت خلافته اثنين وعشرين عاما، وعشرة أشهر، وعشرة أيام، وعمره سبع وأربعون سنة.
مولده: في مستهل سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ودخل غرناطة لأول مرة، ووجب ذكره فيمن حلّ بها.
يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو (1)
أمير المسلمين بالمغرب، يكنى أبا يعقوب.
أوّليته: معروفة مذ وقع الإلماع بذلك في اسم أمير المسلمين أبيه.
حاله: كان ملكا عالي الهمة، بعيد الصيت، مرهوب الشّبا، رابط الجأش، صعب الشّكيمة، على عهده اعتلي الملك، وناشب القبيل، واستوسق الأمر. جاز إلى الأندلس مع والده، ودوّخ بين يديه بلاد الروم، ووقف بظاهر قرطبة وإشبيلية، وحضر الوقيعة بذنونه (2)، وجرت بينه وبين سلطان الأندلس، على عهده، منافرات أجلت أخيرا عن لحاق السلطان به مستعتبا، واستقرّ آخرا محاصرا لتلمسان، غازيا لبني زيّان الأمراء بها، وابتنى مدينة سمّاها تلمسان الجديدة، وأقام محاصرا لها، مضيّقا على أهلها نحوا من ثمانية أعوام، وعظّمته الملوك شرقا وغربا، ووردت عليه الرّسل والهدايا من كل جهة، وهابه الأقارب والأباعد.
__________
(1) ترجمة يوسف بن يعقوب بن عبد الحق في اللمحة البدرية (ص 64) والحلل الموشية (ص 133) والأعلام (ج 8ص 258).
(2) ذنونه: كذا ورد اسمه في الرواية الإسلامية، واسمه في الرواية الإسبانية هو: دون نونيو دي لارا،.(4/308)
وفاته: ولما أراد الله إنفاذ حكمه فيه، قيّض له عبدا خصيّا حبشيّا، أسفه بقتل أخ له أو نسيب، في باب خيانة عثر له عليها، فاقتحم عليه دار الملك على حين غفلة، فدجّاه بسكين أعدّه لذلك، وضجّ القصر، وخرج وبالسلطان رمق، ثم توفي من الغد، أو قريبا منه، في أوائل ذي قعدة من عام ستة وسبعمائة، فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشهرا، وانتقل إلى مدفن سلفه بسلا، وقبره بها. وركب قاتله فرسا أزعجها ركضا، يروم النجاة واللّحاق بالبلد المحصور، وسبقه الصّياح، فسدّ بعض الأبواب التي أمل النجاة منها، وقتل وألحق به كثير من جنسه.
وجرى ذكره في الرّجز المتضمن دول الملوك (1) من تأليفنا، بما نصّه:
[الرجز]
حتى إذا الله إليه قيّضه ... قام ابنه يوسف فيها عوّضه
وهو الهمام الملك الكبير ... فابتهج المنبر والسّرير
وضخم الملك وذاع الصّيت ... بملكه وانتظم الشّتيت
وساعد السّعد وأغضى الدّهر ... وخلص السّرّ له والجهر
وأمل الجود وخيف الباس ... واستشعر الخشية منه الناس
ثم تقضّى معظم الزمان ... مواصلا حصر بني زيّان
حتى أهلّ تلمسان للفرج ... ونشقوا من جانب اللطف الفرج
لما توفي درج السعد درج ... فانفرج ضيق الحصر عنها وانفرج
ونزل بظاهر غرناطة وببعض مروجها بقرية أشقطمر، في بعض غزوات أبيه إلى قرطبة، وتقدّم السلطان إليهم من البرّ والقرى، ما كثر الإخبار به والتعجب منه، ووجّه إليهم ولده وولي عهده.
يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن بكر بن حمامة ابن محمد بن رزين بن فقوس بن كرناطة بن مرين (2)
من قبيلة زناتة، أمير المسلمين، المكنى بأبي يوسف، الملقّب بالمنصور، رحمه الله.
__________
(1) المراد كتاب «رقم الحلل، في نظم الدول»، وهو كتاب للسان الدين ابن الخطيب.
(2) ترجمة يعقوب بن عبد الحق المريني في اللمحة البدرية (ص 42) والحلل الموشية (ص 129) والأعلام (ج 8ص 199).(4/309)
أوليته: ظهر بالمغرب أبوه الأمير عبد الحق، وقد اضطربت دولة الموحّدين، والتأث أمرهم، ومرجت عرب رياح لعجز الدولة عن كفّ عدوانهم، فخرج الأمير عبد الحق في بحبوحة قومه من الصحراء، ودعا إلى نفسه، واستخلص الملك بسيفه، عام عشرة وستمائة، وكان على ما يكون عليه مثله، ممن جعله الله جرثومة ملك وخدم دولة، من الصّدق والدّهاء والشجاعة. ورأى في نومه كأنّ شعلا أربع من نار، خرجن منه، فعلون في جوّ المغرب، ثم احتوين على جميع أقطاره، فكان تأويلها تملّك بنيه الأربعة بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء. وكان له من الولد إدريس، وعثمان، وعبد الله، ومحمد، وأبو يحيى، وأبو يوسف، ويعقوب هذا. ولمّا هلك هو وابنه إدريس في وقيعة رياح، ولي أمره عثمان ولده، ثم ولي بعده أخوه محمد، ثم ولي بعده أبو يحيى أخوهما. وفي أيامه اتّسق الملك، وضخم الأمر، وافتتحت البلاد. ولمّا هلك حتف أنفه بفاس في رجب من عام ستة وخمسين وستمائة، قام بالملك أخوه يعقوب المترجم به، وأرّث الملك بنيه.
حاله: كان ديّنا فاضلا حييّا، جوادا سمحا، شجاعا، محبّا في الصالحين، منقادا إلى الخير، حريصا على الجهاد. أجاز ولده في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة إلى الأندلس، ثم عبر بنفسه في سرار صفر من العام بعده، فاحتلّ بظاهر إشبيلية، وكسر جيش الرّوم المنعقد على زعيمهم المسمّى ذنونه، بظاهر إستجة في ربيع الآخر من العام. ثم عبر ثانيا، مغتنما ما نشأ بين الروم من الفرقة، فغزا مدينة قرطبة، وصار أمر العدو في أطواق الفرنتيرة، بحيث لا يوجد في بطن القتيل منها إلّا العشب أزلا ومسغبة، لانتشار الغارات، وانتساف الأقوات، وحديث الفتنة.
وسببها ما كان من تصيّر مالقة إليه، من أيدي المنتزين عليها من بني إشقيلولة، ثم عودتها إلى سلطان الأندلس، من أيدي رجاله، شيوخ بني محلّى، ثم تدارك الله المسلمين بصلاح ذات البين، واحتلّ بظاهر غرناطة، في بعض هذه الغزوات، فنزل بقرية إسقطمر من مرجها، واحتفل السلطان، رحمه الله، في برّه، وأجزل نزله، وتوجيه ولده إليه. وذكر سيرته شاعرهم أبو فارس عزّوز في أرجوزته، فقال:
[الرجز]
سيرة يعقوب بن عبد الحقّ ... قد حاز فيها قصبات السّبق
بغيتان، يقرأ الكتاب ... وتذكّر العلوم والآداب
يقوم للكتاب ثلث الليل ... وما له عن ورده من سبيل
حتى إذا الصباح لاح وارتفع ... قام وصلّى للإله وركع
وضجّ بالتّسبيح والتّقديس ... حتى يتمّ الحزب في التّغليس
يقرأ أولا كتاب السّير ... والقصص الآتي بكلّ خبر
ثم فتوح الشّام باجتهاد ... وبعده المشهور بالإنجاد
سؤاله تعجز عنه الطّلبه ... ومن لديه من أجلّ الكتبه
يعقد الكتب إلى وقت الضّحى ... ثم يصلّيها كفعل الصّلحا
ويأمر الكتّاب بالأوامر ... في باطن من سرّه وظاهر
ويدخل الأشياخ من مرين ... للرأي والتدبير والتّزيين
مجلسه ليس به فجور ... ولا فتى في قوله يجور
كأنهم مثل النجوم الزّهر ... وبينهم يعقوب مثل البدر
قد أسبر الوقار والسكينه ... وحلّ في مكانة مكينه
حتى إذا ما جاز وقت الظهر ... قام إلى بيت للنّدى والفخر
يبقى إلى وقت صلاة العصر ... يأتي إلى بيت العلى والأمر
وينصف المظلوم ممن ظلمه ... ولم يزل إلى صلاة العتمه
ثم يؤمّ بيتة الكريما ... ويترك الوزير والخديما
ثم ينام تارة، وتارة ... يدبّر الأمور بالإداره
ما إن ينام الليل إلّا ساهرا ... ينوي الجهاد باطنا وظاهرا
فهل سمعتم مثل هذه السّيره ... وهذه المآثر الأثيره
لملك كان من الملوك ... أو مالك في الدهر أو مملوك
كذاك كان فعله قديما ... بذاك نال الملك والتّعظيما
ومن الرّجز المسمى بقطع السّلوك (1) من تأليفنا، في ذكره، قولي: [الرجز](4/310)
سيرة يعقوب بن عبد الحقّ ... قد حاز فيها قصبات السّبق
بغيتان، يقرأ الكتاب ... وتذكّر العلوم والآداب
يقوم للكتاب ثلث الليل ... وما له عن ورده من سبيل
حتى إذا الصباح لاح وارتفع ... قام وصلّى للإله وركع
وضجّ بالتّسبيح والتّقديس ... حتى يتمّ الحزب في التّغليس
يقرأ أولا كتاب السّير ... والقصص الآتي بكلّ خبر
ثم فتوح الشّام باجتهاد ... وبعده المشهور بالإنجاد
سؤاله تعجز عنه الطّلبه ... ومن لديه من أجلّ الكتبه
يعقد الكتب إلى وقت الضّحى ... ثم يصلّيها كفعل الصّلحا
ويأمر الكتّاب بالأوامر ... في باطن من سرّه وظاهر
ويدخل الأشياخ من مرين ... للرأي والتدبير والتّزيين
مجلسه ليس به فجور ... ولا فتى في قوله يجور
كأنهم مثل النجوم الزّهر ... وبينهم يعقوب مثل البدر
قد أسبر الوقار والسكينه ... وحلّ في مكانة مكينه
حتى إذا ما جاز وقت الظهر ... قام إلى بيت للنّدى والفخر
يبقى إلى وقت صلاة العصر ... يأتي إلى بيت العلى والأمر
وينصف المظلوم ممن ظلمه ... ولم يزل إلى صلاة العتمه
ثم يؤمّ بيتة الكريما ... ويترك الوزير والخديما
ثم ينام تارة، وتارة ... يدبّر الأمور بالإداره
ما إن ينام الليل إلّا ساهرا ... ينوي الجهاد باطنا وظاهرا
فهل سمعتم مثل هذه السّيره ... وهذه المآثر الأثيره
لملك كان من الملوك ... أو مالك في الدهر أو مملوك
كذاك كان فعله قديما ... بذاك نال الملك والتّعظيما
ومن الرّجز المسمى بقطع السّلوك (1) من تأليفنا، في ذكره، قولي: [الرجز]
تبوّا (2) هذا الأمر عبد الحقّ ... أكرم من نال العلى بحقّ
واستخلص الملك بحدّ المرهف ... لسن مجد عظيم الشرف
وكان سلطانا عظيم الجود ... وصدقت رؤياه في الوجود
فأعلى الأيام نور سعده ... ونالها أبناؤه من بعده
عثمان ثم بعده محمد ... ثم أبو يحيى الحمام الأسعد
تمهّد الملك له لما هلك ... وسلك السّعد به حيث سلك
__________
(1) هو كتاب «رقم الحلل، في نظم الدول» للسان الدين ابن الخطيب.
(2) في الأصل: «تبوّأ»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا الهمزة وأبقينا على الألف.(4/311)
وفتحت فاس على يديه ... والملك العليّ حلّه لديه
وكان ذا فضل وهدى وورع ... قد رسم الملك فيهم واخترع
ثم أتت وفاته المشهوره ... فولّي المنصور تلك الصّوره
وهو أبو يوسف غلّاب العدا ... وواحد الأملاك بأسا وندى
ممهّد الملك وموري الزّند ... وباسط العدل ومولي الرّفد
مدّت إلى نصرته الأكفّ ... والروم في العدوان لا تكفّ
فاقتحم البحر سريعا وعبر ... ودافع الأعداء فيها وصبر
ووقعت في عهده أمور ... وفتنة ضاقت لها الصّدور
وآلت الحال إلى التئام ... فما أضيعت حرمة الإسلام
حتى إذا الله إليه قبضه ... قام ابنه يوسف فيها عوضه
وفاته: توفي في شهر المحرم عام خمسة وثمانين وستمائة، بالجزيرة الخضراء ودفن بها. ثم احتمل بعد إلى سلا، فدفن بالجبانة المعروفة هنالك لملوك من بني مرين. ومحلّ هذا السلطان في الملوك المجاهدين المرابطين معروف، تغمّده الله برحمته.
الأعيان والوزراء والأماثل والكبراء
يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي بن شريفين
أقرب القبائل المرينية إلى قبيل سلطانهم من بني حمامة. خدم جدّه بتونس، ثم بالأندلس، يكنى أبا زكريا، شيخ القبيل الزّناتي، ومحراب رأيهم، وقطب رحى حماتهم.
حاله: كان هذا الشيخ وحيد دهره، وفريد وقته، وشامة أهل جلدته، في النّبل والفطانة، والإدراك والرّجاحة، شديد الهزل مع البأو، والممالقة مع التّيقور، والمهاترة مع الحشمة، عارفا بأخلاق الملوك وشروط جلسائها، حسن التوصّل إليها، والتأتّي لأغراضها، بعيد الغور، كثير النّكراء، لطيف الحيلة، عارفا بسياسة الوطن، قيوما على أخلاق أهله، عديم الرّضا بسير الملوك وإن أعلقوا بالعروة الوثقى يده ويسّروا على عبور عقبة الصّراط عونه، وأقطعوه الجنّة وحده، طنازا (1) بهم، مغريا خائنة الأعين بتصرّفاتهم، مقتحما حمى اغتيابهم، قد اتخذ ذلك سجيّة أقطعته جانب القطيعة برهة،
__________
(1) طنازا بهم: استهزاء بهم.(4/312)
فارتكب لها الأداهم مدّة، جمّاعة للمال، ذائدا عنه بعصا التّقتير، وربما غمس فيه إبرة للصدقة وساما بينه وبين الوزير، مكفي السماء على الأرض برأيه المستعين على الفتكة وما وراءها، بمنيع موالاتهم، وبانيه يوم مكاشفة الملإ إياه بالنّفرة، وكان قطب الرّحى للقوم في الوجهة إلى الأمير عبد الحليم، ومقيم رسمه. وانصرف إلى جهة مرّاكش عند الهزيمة عليه، فاتّصل بعميدها عامر بن محمد بن علي الهنتاتي، وجرت عليه خطوب، وعاثت في الكثير من نعمته أكفّ التّمزيق، ديدن الدهر، في الأموال المحتجنة، والنقود المكتنزة، واستقرّ أخيرا بسجلماسة، في مظاهرة الأمير عبد الحليم المذكور، وبها هلك. وكان على إزرائه ولسب لسانه، واخز تلال حيّة حدّته، ناصح الرأي لمن استنصحه، قوّاما فيه بالقسط، ولو على نفسه والوالدين والأقربين، فضيلة عرف فيها شأوه، مقيما لكثير من الرّسوم الحسبية.
دخوله غرناطة: قدم غرناطة في جمادى من عام تسعة وخمسين وسبعمائة في غرض الرّسالة، ووصل صحبته قاضي الجماعة بالمغرب أبو عبد الله المقري، وكان من امتساكه بالأندلس، ما أوجب عودة المترجم به في شأنه، فتعدد الاستمتاع بنبله.
وفاته: توفي قتيلا في الهزيمة على الأمير عبد الحليم بظاهر سجلماسة في ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعمائة.
يحيى بن طلحة بن محلّى البطوي، الوزير أبو زكريا
حاله: كان مجموعا رائعا، حسن شكل وجمال رواء، ونصاعة ظرف، واستجادة مركب وبزّة، قديم الجاه، مرعى الوسيلة، دربا على الخدمة، جلدا على الوقوف والملازمة، مجدي الجاه، تلمّ به نوبة تواضع، يتشبّث به الفقراء وأولي الكدية، فكه المجلس، محبّا في الأدب، ألفا للظرفاء، عاملا على حسن الذّكر وطيب الأحدوثة. تولّى الوزارة للسلطان أبي الحسن، ونشأ في حجر أبيه، ماتّا إليهم بالخؤولة القديمة، فتملّأ ما شاء من قرب ومزيّة، وباشر حصار الجبل لمّا نازله الطاغية لقرب عهد بفتحه، فأبلى وحسن أثره. نشأ بالأندلس، وسكن وادي آش وغرناطة، واستحقّ الذكر لذلك.
شعره: وكان ينظم الشعر، فمن ذلك قوله في مزدوجة في غرض الفخر:
[الرجز]
أنا ابن طلحة ولا أبالي ... ليث السّرى في الحرب والنزال
يحيى حياة البيض والعوالي ... مبيد كلّ بطل مغتال
إن سمعوا باسمي في مجال ... يلقوا بأيديهم إلى النّكال
أستنزل القرن لدى الصّيال ... وأكسر النّصل على النّصال
من أملي التفريق للأموال ... والجمع بين الأقوال والفعال
والشّعر إن تسمعه من مقال ... تعلم بأن السّحر في أقوال
أوشج الغريب فالأمثال ... وأقرن الأشباه بالأمثال
وأفضلّ المرجان باللّآل ... وأذكر الأيام واللّيال
فمن أبو أمية الهلال ... ومن وحيد عصره الميكال
هذا ولي في غير ذا معال ... بها أعالي الدّهر من أعال
كما لحسب الصّميم والمعال ... والمحتد الضّخم الحفيل الحال
وكرم الأعمام والأخوال ... والصّون والعفاف والأفضال
فمن يساجلني فذا سجال ... ومن يناضلني فذا نضال
وفاته: توفي في أواخر عام خمسة وثلاثين وسبعمائة أصابه سهم نفط رمي به من سور تلمسان أيام الحصار، فقضى عليه، نفعه الله.(4/313)
أنا ابن طلحة ولا أبالي ... ليث السّرى في الحرب والنزال
يحيى حياة البيض والعوالي ... مبيد كلّ بطل مغتال
إن سمعوا باسمي في مجال ... يلقوا بأيديهم إلى النّكال
أستنزل القرن لدى الصّيال ... وأكسر النّصل على النّصال
من أملي التفريق للأموال ... والجمع بين الأقوال والفعال
والشّعر إن تسمعه من مقال ... تعلم بأن السّحر في أقوال
أوشج الغريب فالأمثال ... وأقرن الأشباه بالأمثال
وأفضلّ المرجان باللّآل ... وأذكر الأيام واللّيال
فمن أبو أمية الهلال ... ومن وحيد عصره الميكال
هذا ولي في غير ذا معال ... بها أعالي الدّهر من أعال
كما لحسب الصّميم والمعال ... والمحتد الضّخم الحفيل الحال
وكرم الأعمام والأخوال ... والصّون والعفاف والأفضال
فمن يساجلني فذا سجال ... ومن يناضلني فذا نضال
وفاته: توفي في أواخر عام خمسة وثلاثين وسبعمائة أصابه سهم نفط رمي به من سور تلمسان أيام الحصار، فقضى عليه، نفعه الله.
يحيى بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن الحكيم اللخمي
أخو الوزير أبي عبد الله بن الحكيم وكبيره، يكنى أبا بكر، رندي الأصل. قد مرّ شيء من ذكر أوّليته. دخل غرناطة مرات، وافدا وزائرا، وساكنا ومغرّبا.
حاله: كان وزيرا جليلا، وقورا عفيفا، سريّا فاضلا، رحب الجانب، كثير الأمل، جمّ المعروف، شهير المحل، عريض الجاه، صريح الطّعمة، من أقطاب أرباب النعم، ومنتجعي الفلاحة بالأندلس. استبدّ ببلده برهة، بإسناد ذلك إليه وإلى أخيه، من السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب ملك المغرب، الصائر إليه أمره عند نبذها مغاضبا، ثم أصاره إلى إيالة السلطان، ثاني الملوك من بني نصر، على يدي أخيه كاتبه ووزير ولده.
محنته ووفاته: ولمّا تقلّد أخوه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الحكيم الأمر، سما جاهه، وعظم قدره، وتعدّد أمله، إلى أن تعدّى إليه أمر المحنة يوم الفتك بأخيه، فطاح في سبيله نشبه، وذهب في حادثه الشنيع مكسبه. واستقرّ مغرّبا بمدينة فاس، تحت ستر وجراية، وبها أدركته وفاته في أوائل شوال من عام عشرة وسبعمائة.(4/314)
يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق
جدّ الملوك من بني مرين، يكنى أبا زكريا، شيخ الغزاة، ورئيس جميع القبائل بالأندلس.
أوليته: قد تقدمت الإشارة إلى أوّلية هذا البيت، ونحن نلمع بسبب انتباذهم عن قومهم، وهو ما كان من قتل أخي جدّهم، يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق، ابن أخي السلطان أبي يوسف، إذ كان ثائرا مصعبا، مظنّة للملك، ومحلّا للآمال، فنافسه وليّ العهد وأوقع به، فوقع بينهم الشّتات، وفرّ شيوخ هذا البيت وأتباعهم إلى تلمسان، ثم اجتازوا إلى الأندلس، منهم من آثر الجهاد، أو نبا به ذلك الوطن، أو شرّده الخوف، أو أحطب به الاستدعاء. فمنهم موسى وعمران والعباس، أبناء رحّو بن عبد الله، وعثمان بن إدريس، وغيرهم، فبدت فيهم الشياخة، وصحبهم التّقديم، وأقامت فيهم الخطّة، وتردّدت بينهم الولاية.
حاله: هذا الشيخ مستحقّ الرّتبة، أهل لهذه الرئاسة، بأسا ونجدة، وعتقا وأصالة، ودهاء ومعرفة، طرف في الإدراك، عامل على الحظوة، مستديم للنعم، طيّب بالخدمة، كثير المزاولة والحنكة، شديد التّيقظ، عظيم الملاحظة، مستغرق الفكرة في ترتيب الأمور الدنيوية، بحّاث عن الأخبار، ملتمس للعيون، حسن الجوار، مبذول النّصفة، بقية بيته بالعدوتين وشيخ رجاله. له الإمامة والتّبريز في معرفة لسانهم، وما يتعلّق به من شعر ومثل وحكمة وخبر، لو عرضت عليه رمم من عبر مهم لأثبتها، فضلا عن غير ذلك، نسّابة بطونهم وشعابهم، وعلّامة سيرهم، وعوائدهم، ألمعيّ، ذكي، حافظ للكثير من الحكم والتواريخ، محفوظ الشّيبة من العصمة، طاهر الصون والعفّة، مشهور الشّهامة والنّجدة، معتدل السّخاء، يضع الهناء مواضع النّصب فلا يخدع عن جدته، ولا يطمع في غفلته، ولا ينازع فيما استحقّه من مزيّته، خدم الملوك، وخبر السّير، فترك الأخبار لعلمه، وعضل عقله بتجربته.
تولّى رئاسة القبيل وسط صفر من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، معوّضا به عن شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء، فتنعّم البيت، وخدن الشّهرة، عندما أظلم ما بينه وبين ابن المحروق مدبّر الدولة، ودافعه بالجيش في ملقى حرانه، من أحواز حصن أندرش مرات، تناصف الحرب فيها، وربما ندر الفلج في بعضها، واستمرّت حاله إلى سابع محرم من عام تسعة وعشرين وسبعمائة، وأعيد عثمان بن أبي العلاء إلى رتبته على تفئة مهلك ابن المحروق، وانتقل هو إلى مكانه بوادي آش في قومه،(4/315)
تحت حفظ ومبرّة. ثم دالت له الدولة، وعادت إلى ولده الكرة، يوم القبض على نظرائه وقرابته، مترفي حظوته، ولد الشيخ أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء، عند إيقاع الفتكة بهم يوم السبت التاسع والعشرين لربيع الأول عام أحد وأربعين وسبعمائة. واستمرّت له الولاية، وألقت عصاها كلفة منه بالكفؤ الذي سلّم له المنازع، إلى أن قبض سلطانه، رحمه الله، فجرى ولده على وتيرة أبيه، ووفّى له صاع وفائه، فجدّد ولايته، وشدا حسّه، ونوّه رتبته، وصدر له يوم بيعته منشور كريم من إنشائي نصّه:
«هذا ظهير كريم منزلته في الظهائر الكريمة منزلة المعتمد في الظّهر الكرام، أطلع وجه التعظيم سافر القسام، وعقد راية العزّ السامي الأعلام، وجدّد كريم المتات وقديم الذّمام، وانتضى للدفاع عن حوزة الدين حساما يقرّ بمضائه صدر الحسام، فأعلن تجديده بشدّ أزر الملك ومناصحة الإسلام، وأعرب عن الاعتناء الذي لا تخلق جديده أيدي الليالي والأيام. أمر به الأمير عبد الله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجّاج، ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أيّد الله أمره وأعزّ نصره، لوليّه الذي هو عماد سلطانه، وواحد خلصائه، وسيف جهاده، ورأس أولي الدفاع عن بلاده، وعقد ملكه، ووسطى سلكه، الشيخ الجليل الكبير الشهير، الأعزّ الأسنى، الصدر الأسمى، الأحفل، الأسعد، الأطهر، الأظهر، الكذا، أبي زكريا ابن الشيخ الكذا، أبي علي ابن الشيخ الكذا، أبي زيد رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، زاد الله قدره علوّا، ومجده سموّا، وجهاده ثناء متلوّا.
لمّا كان محلّه من مقامه، المحل الذي تتقاصر عنه أبصار الأطماع فترتدّ حاسرة، وكان للدولة يدا باطشة، ومقلة باصرة، فهو ملاك أمورها واردة أو صادرة، وسيف جهادها الذي أصبحت بمضائه ظافرة، وعلى أعدائها ظاهرة، وكان له الصّيت البعيد، والذكر الحميد، والرأي السديد، والحسب الذي يليق به التمجيد، والقدر الذي سما منه الجيد، وعرفه القريب والبعيد، والجهاد الذي صدق به في قواعده الاجتهاد والتّقليد، فإن أقام جيشا أبعد غارته، وإن دبّر أمرا أحكم إدارته، مستظهرا بالجلال الذي لبس شارته. فهو واحد الزمان، والعدّة الرفيعة من عدد الإيمان، ومن له بذاته وسلفه علو الشّان، وسمو المكان، والحسب الوثيق البنيان، ولبيته الكريم بيت بني رحّو السّابقة في ولاية هذه الأوطان، والمدافعة عن حوزة الملك وحمى السلطان. إن فوخروا صدعوا بالمكارم المعلومة، ومتّوا إلى ملك المغرب ببنوة العمومة، وتزيّنوا من حلى الغرب بالتيجان المنظومة. فهم سيوف الدين، وأبطال الميادين، وأسود العرين، ونجوم سماء بني مرين. وكان سلفه الكريم، رضي الله(4/316)
عنه، يستضيء من رأيه بالشّهاب الثاقب، ويحلّه من بساط تقريبه أعلى المراتب، ويستوضح ببركته جميع المذاهب، ويستظهر بصدق دفاعه على جهاد العدوّ الكاذب، ويرى أنه عزّ دولته، وسيف صولته، وذخيرة فخره، وسياج أمره. جدّد له هذا الرّتب تجديدا صيّر الغاية منها ابتداء، واستأنف به إعلاء، ولم يدّخر عنه حظوة ولا اعتناء.
وحين صيّر الله إليه ملك المولى أبيه بمظاهرته، وقلّده قلادة الملك بأصيل اجتهاده، وحميد سعيه، بعد أن سبق الألوف إلى الأخذ بثاره، وعاجلت البطشة الكبرى يد ابتداره، وأردى بنفسه الشّقي الذي سعى في تبديد شمل الإسلام وإطفاء أنواره، على تعدّد الملك يومئذ وتوفر أنصاره، فاستقرّ الملك في قراره، وانسحب السّتر على محلّه وامتدّ ظل الحفظ على داره، عرف وسيلة من المقام الذي قامه، والوفاء الذي رفع أعلامه، وألقى إليه في أهم الأمور بالمقاليد، وألزمه ملازمة الحضور بمجلسه السّعيد، وشديد الاغتباط على قربه مستنجحا منه بالرأي السّديد، ومستندا من ودّه إلى الركن الشّديد، وأقامه بهذه الجزيرة الأندلسية عماد قومه فهو فيهم يعسوب الكتيبة ووسطى العقد الفريد، وفذلكة الحساب وبيت القصيد، فدوّاره منهم للشريد، مأوى الطّارف والتليد، الكفيل بالحسنى والمزيد. يقف ببابه أمراؤهم، وتنعقد في مجلسه آراؤهم، ويركض خلفه كبراؤهم، مجدّدا من ذلك ما عقده سلفه من تقديمه، وأوجبه مزيّة حديثه وقديمه. فهو شيخ الغزاة على اختلاف قبائلهم، وتشعّب وسائلهم، تتفاضل درجات القبول عليهم بتعريفه، وتشرف أقدارهم لديه بتشريفه، وتثبت واجباتهم بتقديره، وينالهم المزيد بتحقيقه للغناء منهم وتقريره، فهو بعده، أيّده الله، قبلة آمالهم، وميزان أعمالهم، والأفق الذي يصوب من سحاب قطره غمام نوالهم، واليد التي تستمنح عادة أطمعتهم وأموالهم. فليتولّ ذلك عظيم القدر، منشرح الصدر، حالّا من دائرة جمعهم محلّ القلب من الصدر، متألّقا في هالتها تألّق البدر، صادعا بينهم باللّغات الزّناتية التي تدل على الأصالة العريقة والنّجار الحرّ. وهو إن شاء الله الحسام الذي لا ينبه على الضريبة، ولا يزيده حسنا جلب الحليّ العجيبة، حتى يشكر الله والمسلمون اغتباط مقامه بمثله، ويزري برّه به على من أسرّ برّه من قبله، ويجني الملك ثمرة تقريبه من محلّه. ومن وقف على الظهير الكريم من الغزاة آساد الكفاح، ومتقلدي السيوف ومعتلقي الرماح، كماة الهيجاء وحماة البطاح، حيث كانوا من موسطة أو ثغر، ومن أقيم في رسم من الجهاد أو أمر، أن يعلموا قدر هذه الغاية المشرقة، واليد المطلقة، والحظوة المتألّقه، فتكون أيديهم فيما قلّدوه ردّا ليده، وعزائمهم متوجّهة إلى مقصده، فقصده، فقدره فوق الأقدار، وأمره الذي ناب أمره مقابل الابتدار، على توالي الأيام وتعاقب الأعصار. وكتب في كذا(4/317)
مولده: ولد بظاهر تلمسان، عند لحاق أبيه، رحمه الله، بسلطانها عام أحد وتسعين وستمائة، تلقّيته من لفظه.
ومن «المستدرك»: وتمادت ولايته إلى الأوائل من شهر رمضان عام اثنين وستين وسبعمائة، فلمّا تصيّرت إلى قدار ناقتها، محمد بن إسماعيل بن نصر، عزله، وهمّ به، فغرّبه إلى بلد الروم، فرارا أرّق به البسالة والصبر، وتبعه الجيش، فأصيب بجراحة، ورد من صامته، وجلى عن نفسه، فتخلصه عزمه ومضاؤه، واستقرّ عند طاغية الروم، فأولاه من الجميل ما يفوت الوصف، واجتاز العدوة، فعرف بها حقّه، وعادت رتبة هذا الرجل، بعد أن ردّ الله على سلطانها ملكه، إلى أحسن أحوالها من الجاه والحظوة، وانطلاق اليد. والسلطان مع ذلك منطو له على الضّغن لأمور منها غمس اليد في أمر عمّه، وقعوده عنه، وهو أحوج ما كان لنصره، وانزحاله عنه في الشّدة، عندما جمعه المنزل الخشن، فسحب عليه أذيال النكبة لابنه عثمان، مترفى مرقب الظهور في عودته، والمستأثر بجواره، والمحكّم في أمره، فتقبّض عليهما، وعلى من لهما، مخالفا للوقت فيهما، إذ كان متوافرا على الحلم لحدثان العودة، وجدة الإيالة، صبيحة يوم الاثنين لثالث عشر لرمضان عام أربعة وستين وسبعمائة، فأحاط بهم الرجال لهذا السلطان، والتقطوا من بين قبيلهم، ودهمهم الرجال، آخذين بحجزهم وأيديهم إلى دور الثقاف. ثم أركبوا الأداهم، وانتقلوا إلى بعض الأطباق المتفرّقة بقصبة المنكّب، واقتضى نظر السلطان جلأ المترجم به وأولاده من مرسى المنكّب، ونقل ولده الأكبر إلى ألمريّة حسبما مرّ في اسمه، فلينظر هنالك. واستقرّ إلى هذا العهد، بعد قفوله من الحجّ بمدينة فاس، فلقي بها برّا وعناية، ولحق ولداه بالأندلس، وهما بها، تحت جراية وولاية.
يوسف بن هلال (1)
صهر الأمير أبي عبد الله بن سعد (2).
حاله: كان (3) شجاعا حازما، أحظاه الأمير المذكور وصاهره، وجعل لنظره حصن مطرنيش (4) ومواضع كثيرة. وفسدت طاعته إياه، فقبض عليه ونكبه وعذّبه،
__________
(1) ترجمة يوسف بن هلال في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 260، 262).
(2) هو محمد بن سعد بن مردنيش، صاحب بلنسية وأطرافها، وقد توفي سنة 567هـ. ترجم له لسان الدين ابن الخطيب في المجلد الثاني من الإحاطة.
(3) قارن بأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 262).
(4) في أعمال الأعلام: «مطريشة».(4/318)
واستخلص ما كان لنظره وتركه. فأعمل الحيلة، ولحق بمورتلّة فثار بها، وعاقد صاحب برجلونة (1) على تصيير ما يملكه إليه. فأعانه بجيش (2) من النصارى، ولم يزل يضرب ويوالي الضّرب على بلنسية ويشجي أهلها، وتملّك الصّخرة والصّخيرة وغيرهما. واتفق أنّ خيلا جهّزها ابن سعد للضرب عليه، عثرت بجملته متوجها إلى شنت بيطر (3)، فقبض عليه، وقيّد أسيرا، فنهض به للحين إلى مورتلّة وطلبه بإخلائها، فأبى، فأمر ابن مردنيش بإخراج عينه اليمنى، فأخرجت بعود. ثم قرّب من الحصن (4) وطلبه بإخلائها، فدعا بزوجه وطلبها بإخلاء الحصن، وإلّا فتخرج عينه الأخرى، فحمل على التكذيب، ولم يجبه أحد، فأخرجت للحين عينه الأخرى، وسيق إلى شاطبة، فبقي (5) إلى أن مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودخل غرناطة، وباشر منازلتها مع الأمير صهره، فاستحق الذكر لذلك.
ومن القضاة الأصليين وغيرهم
يحيى بن عبد الله بن يحيى بن كثير بن وسلاسن ابن سمال بن مهايا المصمودي
أوليته وحاله: دخل أبو عيسى يحيى بن كثير (6) الأندلس مع طارق بن زياد، وقيل له اللّيثي لأنه أسلم على يد رجل اسمه يزيد بن عامر الليثي، فنسب إليه، وقيل: إنهم نزلوا بنزل اللّيث، فنسبوا إليه. يكنى يحيى هذا (7)، أبا عيسى، وكان جليل القدر، عالي الدرجة في القضاء، ولّي قضاء إلبيرة وبجّانة مدة، وولي قضاء جيّان وطليطلة، ثم عزل عن طليطلة، وأضيفت إليه كورة إلبيرة مع جيّان. ثم استعفى عن جيّان وبقي يلي قضاء إلبيرة، وكان لا يرى القنوت في الصلاة، ولا يقنت في مسجده البتّة.
مشيخته: روى عن أبي الحسن النحاس، وسمع الموطأ من حديث اللّيث وغيره من عمّ أبيه عبيد الله بن يحيى.
مولده: في ذي القعدة سنة سبع وثمانين ومائتين.
__________
(1) برجلونة: هي نفسها برشلونة.
(2) في أعمال الأعلام: «بخيل».
(3) في المصدر نفسه: «شنطبيطور».
(4) هو حصن مورتلّة كما في المصدر السابق.
(5) في المصدر السابق: «فبقي بها إلى».
(6) ترجمة يحيى بن كثير الليثي في التكملة (ج 4ص 160).
(7) يريد يحيى بن عبد الله المصمودي، المترجم له.(4/319)
وفاته: توفي ليلة الثلاثاء بعد صلاة العشاء، ودفن يوم الثلاثاء بعد العصر، لثمان خلت من رجب عام سبعة وستين وثلاثمائة.
يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري (1)
يكنى أبا عامر.
حاله: العالم الجليل، المحدّث الحافظ، واحد عصره، وفريد دهره، كان، رحمه الله، علما من أعلام الأندلس، ناصرا لأهل السنة، رادعا لأهل الأهواء، متكلّما دقيق النظر، سديد البحث، سهل المناظرة، شديد التّواضع، كثير الإنصاف، مع هيبة ووقار وسكينة. ولّي قضاء الجماعة بقرطبة ثم بغرناطة (2)، وأقرأ بغرناطة لأكابر علمائها ونبهائها الحديث والأصلين وغير ذلك، بالمسجد الجامع منها وبغيره.
مشيخته: حدّث (3) عن والده العالم المحدّث أبي الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع، وعن الشيخ الأستاذ الخطيب أبي جعفر أحمد بن يحيى الحميري، وعن الراوية المحدّث أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، وعن الحافظ المسن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن الجدّ الفهري، والقاضي أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، والزاهد الورع أبي الحجاج يوسف بن محمد البلوي المالقي، عرف بابن الشيخ، وأبي زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن عبد المنعم الأصبهاني الواعظ، والفقيه القاضي أبي محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي.
وفاته: بمالقة سنة سبع وثلاثين وستمائة (4).
يحيى بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري
أوليته: تقدمت في اسم عمّه أبي إسحاق، فلينظر هنالك.
حاله: من أهل العدالة والزّكاء والسّلف في الخطط الشرعية، سكون، متفنّن في العلوم الشرعية من فقه وأحكام، وله التقدم في الوقت في علم الفرائض والحساب.
حبس على الزاوية التي اتّخذتها بالحضرة موضوعات في ذلك الغرض نبيهة، لم يقصر
__________
(1) ترجمة يحيى بن عبد الرحمن الأشعري في تاريخ قضاة الأندلس (ص 159).
(2) نقله الغالب بالله أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، إلى قضاء الجماعة بحضرته من غرناطة. تاريخ قضاة الأندلس (ص 159).
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 159).
(4) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 159): «توفي في شهر ربيع الأول من عام 639».(4/320)
فيها عن الإجادة. وتولّى قضاء مواضع من الأندلس، ثم استعمل في النّيابة عن قاضي الحضرة العلية، وهو الآن قاض بمدينة وادي آش، وخطيب بمسجدها الأعظم، تنتابه الطّلبة للأخذ عنه، والقراءة عليه.
مشيخته: روى مع الجملة ممن هو في نمطه، وأخذ بالإجازة عن الشيخ الأستاذ الصالح أبي إسحاق بن أبي العاصي، والخطيب أبي علي القرشي، وعن الفقيه الخطيب أبي عبد الله البيّاني، وعن الأستاذ شيخ الجماعة أبي عبد الله بن الفخّار، وأخذ عن والده وعمه أبي إسحاق. وأجازه الشيخ القاضي الخطيب أبو البركات ابن الحاج، والخطيب الصالح أبو محمد بن سلمون، والكاتب الجليل أبو بكر بن شبرين، ورئيس الكتاب أبو الحسن بن الجيّاب، وقاضي الجماعة أبو القاسم الشريف، والخطيب أبو عبد الله القرشي، وهو الآن بالحال المذكورة.
يوسف بن الحسن بن عبد العزيز بن محمد ابن أبي الأحوص القرشي الفهري
يكنى أبا المجد، ويعرف بابن الأحوص.
حاله: كان من أهل العلم والعدالة والنزاهة. ولّي كثيرا من القواعد، فظهر من قصده الحق، وتحرّيه سبيل الصواب، ما يؤثر عن الجلّة.
مشيخته: قرأ على والده وروى عنه، واستدعى له بالإجازة من أعلام زمانه، فأجازه الراوية أبو يحيى بن الفرس، وأبو عمر بن حوط الله، وأبو القاسم بن ربيع، وأبو جعفر أحمد بن عروس العقيلي، وأبو الوليد العطار، والخطيب أبو إسحاق الأوسي القرطبي، والقاضي أبو الخطاب بن خليل، وأبو جعفر الطبّاع، وغيرهم.
قال القاضي أبو المجد شيخنا، رحمه الله: أنشدني أبو علي الحسن قال:
أنشدني الخطيب أبو الربيع بن سالم قال: أنشدنا أبو عمرو السّفاقي قال: أنشدنا أبو نعيم الحافظ قال: أنشدنا عبد الله بن جعفر الجابري قال: أنشدنا ابن المعتز:
[الطويل]
ألم تر أنّ الدّهر يوم وليلة ... يكرّان من سبت عليك إلى سبت؟
فقل لجديد العيش: لا بدّ من بلى ... وقل لاجتماع الشّمل: لا بدّ من شتّ
وبالسند المذكور إلى أبي الربيع بن سالم قال: أنشدنا أبو محمد عبد الحق بن عبد الملك بن بونة قال: أنشدنا أبو بكر غالب بن عطية الحافظ
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 12
لنفسه: [الطويل](4/321)
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 4/ م 12
لنفسه: [الطويل]
جفوت أناسا كنت إلفا لوصلهم (1) ... وما بالجفا عند الضرورة من ناس
بلوت فلم أحمد فأصبحت يائسا ... ولا شيء أشفى للنفوس من الياس
فلا تعذلوني في انقباضي فإنني ... وجدت جميع الشّرّ في خلطة الناس
وفاته: في اليوم التاسع عشر من شهر رجب الفرد عام خمسة وسبعمائة.
يوسف بن موسى بن سليمان بن فتح بن أحمد ابن أحمد الجذامي المنتشاقري (2)
من أهل رندة، يكنى أبا الحجاج.
حاله: هذا الرجل حسن اللقاء، طرف في التخلّق والدماثة، وحسن العشرة، أديب ذاكر للأخبار، طلعة، يكتب ويشعر، سيال الطبع معينه. ولّي القضاء ببلده رندة، ثم بمربلّة. وورد غرناطة في جملة وفود من بلده وعلى انفراد منهم.
وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (3): حسنة الدهر الكثير العيوب، وتوبة الزمان الجمّ الذنوب، ما شئت من بشر (4) يتألّق، وأدب تتعطّر به النّسمات وتتخلّق، ونفس كريمة الشمائل والضرائب، وقريحة يقطف بحرها بدرر (5) الغرائب، إلى خشية لله تحول بين القلوب وقرارها، وتثني النفوس عن اغترارها، ولسان يبوح بأشواقه، وجفن يسخو بدرر آماقه، وحرص على لقاء كل ذي علم وأدب، وممن (6) يمتّ إلى أهل الدّيانة والعبادة بسبب، سبق بقطرة الحلبة، وفرع (7) من الأدب الهضبة، ورفع الراية، وبلغ في الإحسان الغاية، فطارت قصائده كل المطار، وتغنّى بها راكب الفلك وحادي القطار. وتقلّد خطّة القضاء ببلده، وانتهت إليه رياسة الأحكام بين أهله وولده، فوضحت المذاهب بفضل مذهبه، وحسن مقصده. وله شيمة في الوفاء تعلّم
__________
(1) في الأصل: «إلف وصلهم»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «المنتشافري»، والتصويب من نفح الطيب (ج 8ص 271). والمنتشاقري: نسبة إلى منتشاقر في مقاطعة أكشونبة. وترجمة يوسف بن موسى المنتشاقري في نفح الطيب (ج 8ص 271، 274) والكتيبة الكامنة (ص 119) وجاء فيه: «المتشافري».
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 274).
(4) في النفح: «من أدب يتألق، وفضل تتعطّر».
(5) في الأصل: «بدور» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «ومن».
(7) فرع الهضبة: علاها ووصل إلى قمتها. لسان العرب (فرع).(4/322)
منها الآس (1)، ومؤانسة عذبة لا تستطيعها الأكواس (2). وقد أثبتّ من كلامه ما تتحلّى به ترائب (3) المهارق، ويجعل طيبه فوق المفارق. وكنت أتشوّق إلى لقائه، فلقيته بالمحلّة من ظاهر (4) جبل الفتح لقيا لم تبلّ صدا، ولا شفت كمدا، وتعذّر بعد ذلك لقاؤه فخاطبته بقولي (5): [الطويل]
حمدت (6) على فرط المشقّة رحلة ... أتاحت لعينيّ اجتلاء محيّاكا
وقد كنت في التّذكار بالبعد (7) قانعا ... وبالريح أن هبّت بعاطر ريّاكا
فجلّت (8) لي النّعمى بما أنعمت به ... عليّ فحيّاها الإله وحيّاكا
أيها (9) الصّدر الذي بمخاطبته يبأى (10) ويتشرّف، والعلم الذي بالإضافة إليه يتعرّف، والروض الذي لم يزل على البعد بأزهاره الغضّة يتحف. دمت تتزاحم على موارد ثنائك الألسن، وتروي (11) للرواة ما يصحّ من أنبائك ويحسن، طالما مالت إليك النفوس منّا وجنحت، وزجرت الطائر الميمون من رقاعك كلّما سنحت. فالآن اتّضح البيان، وصدّق الأثر العيان. ولقد كنّا للمقام بهذه الرّحال نرتمض (12)، ويجنّ الظّلام فلا نغتمض، هذا يقلقه إصفار كيسه، وذا يتوجّع لبعد أنيسه، وهذا تروّعه الأهوال، وتضجره بتقلّباتها الأحوال. فمن أنّة لا تنفع، وشكوى إلى الله تعالى ترفع.
فلمّا ورد بقدومك البشير، وأشار إلى ثنيّة (13) طلوعك المشير، تشوّفت النفوس الصّديّة (14) إلى جلائها وصقالها، والعقول إلى حلّ عقالها (15)، والألسن المعجمة (16)
إلى فصل مقالها. ثم إنّ الدهر راجع التفاته، واستدرك ما فاته، فلم يسمح من لقائك
__________
(1) في النفح: «الأس».
(2) في المصدر نفسه: «الأكؤس».
(3) في النفح: «مراتب».
(4) كلمة «ظاهر» غير واردة في النفح.
(5) في النفح: «فخاطبته بهذه الرقعة». والأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 120) ونفح الطيب (ج 8 ص 273).
(6) في الكتيبة: «حفظت».
(7) في المصدرين: «بالتذكار في البعد».
(8) في الكتيبة: «فجاءت». وفي النفح: «فحلّت».
(9) النص في نفح الطيب (ج 8ص 274273).
(10) في النفح: «يباهى».
(11) في النفح: «ويروي الرواة من أنبائك ما يصحّ ويحسن».
(12) نرتمض: نحترق. لسان العرب (رمض).
(13) أصل الثنيّة المكان الصاعد في الجبل. لسان العرب (ثنا).
(14) الصّديّة: العطشى. لسان العرب (صدى).
(15) العقال في الأصل ما تربط به الدابة. لسان العرب (عقل).
(16) في النفح: «والأنفس المفحمة».(4/323)
إلّا بلمحة، ولا بعث من نسيم روضك بغير نفحة، فما زاد أن هيّج الأشواق فالتهبت، وشنّ غاراتها على الجوانح فانتهبت، وأعلّ القلوب وأمرضها، ورمى ثغرة الصّبر فأصاب غرضها. فإن رأيت أن تنفّس عن نفس شدّ الشوق مخنّقها، وكدّر مشارب أنسها وأذهب رونقها، وتتحف من آدابك بدرر تقتنى، وروضة طيّبة الجنى، فليست ببدع في شيمك، ولا شاذّة في باب كرمك. ولولا شاغل لا يبرح، وعوائق أكثرها لا يشرح، لنافست هذه السّحاءة (1) في القدوم عليك، والمثول بين يديك، فتشوّفي (2)
إلى اجتلاء أنوارك شديد، وتشيّعي فيك (3) على إبلاء الزمان جديد. فراجعني بقوله (4): [الطويل]
حباك فؤادي نيل بشرى وأحياكا (5) ... وحيد بآداب نفائس حيّاكا
بدائع أبداها بديع زمانه ... فطاب بها يا عاطر الرّوض ريّاكا
أمهديها أودعت قلبي علاقة ... وإن لم يزل (6) مغرى قديما بعلياكا
إذا ما أشار العصر نحو فرنده (7) ... فإيّاك أعني (8) بالإشارة إيّاكا
لأتحفني لقياك أسمى (9) مؤمّلي ... وهل تحفة في الدهر إلّا بلقياكا؟
وأعقبت إتحافي فرائدك التي ... وجوب ثناها يا لساني أعياكا
خصصتني (10) أيها الحبر (11) المخصوص بمآثر أعيا عدّها وحصرها، ومكارم طيّب أرواح الأزاهر عطرها، وسارت الركبان بثنائها، وشملت الخواطر محبة علائها، بفرائدك الأنيقة، وفوائدك المزرية جمالا على أزهار الحديقة، ومعارفك التي زكت حقّا وحقيقة، وهدت الضالّ عن سبيل الأدب مهيعه (12) وطريقه، وسبق تحفتك عندي أعلى التحف (13)، وهو مأمول لقائك، والتمتّع بالتماح سناك الباهر وسنائك، على حين امتدت لذلك (14) اللقاء أشواقي، وعظم من فوت استنارتي بنور محيّاك إشفاقي،
__________
(1) السحاءة: ما يكتب عليه من ورق وغيره.
(2) في النفح: «فتشوقي».
(3) في النفح: «وتشيعي إلى إبلاء».
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 120) ونفح الطيب (ج 8ص 271).
(5) في الكتيبة: «فأحياكا».
(6) في الكتيبة: «أزل».
(7) في المصدرين: «فريده».
(8) في المصدرين: «يعني».
(9) في المصدرين: «أسنى».
(10) النص في نفح الطيب (ج 8ص 272271).
(11) كلمة «الحبر» غير واردة في النفح.
(12) المهيع: الطريق الواسع الواضح. لسان العرب (هيع).
(13) في النفح: «أعلى التحف عندي».
(14) في النفح: «لذلكم».(4/324)
وتردّد لهجي بما يبلغني من معاليك ومعانيك، وما شاده فكرك الوقّاد من مبانيك، وما أهلّت به بلاغتك من دارسه، وما أضفت (1) على الزمان من رائق ملابسه، وما جمعت من أشتاته، وأحيت من أمواته، وأيقظت من سناته (2)، وما جاد به الزمان من حسناته.
فلترداد هذه المحاسن من أنبائك، وتصرّف الألسنة بثنائك، علقت النفس من هواها بأشدّ علاقة، وجنحت إلى لقائك جنوح والهة مشتاقة، والحوادث الجارية تصرفها، والعوائق الحادثة كلما عطفت بأملها (3) إليه لا تتحفها به ولا تعطفها، إلى أن ساعد الوقت، وأسعد البخت، بلقياكم (4) هذه السفرة الجهادية، وجاد إسعاف الإسعاد من أمنيتي بأسنى هديّة، فلقيتكم لقيا خجل، ولمحت أنواركم لمحة على وجل، ومهجتي (5) في محاسنكم الرائقة، ومعاليكم الفائقة، على ما يعلمه ربّنا عزّ وجلّ.
وتذكرت عند لقائكم المأمول، إنشاء قائل يقول: [البسيط]
كانت محادثة (6) الركبان تخبر عن ... محمد بن خطيب (7) بأطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري
قسما (8) لعمري أقوله وأعتقده، وأعتدّه وأعتمده، فلقد بهرت منك المحاسن، وفقت من يحاسن، وقصر عن شأوك كلّ بليغ لسن، وسبقت فطنتك النّارية النّوريّة بلاغة كلّ فطن، وشهد لك الزمن (9) أنك وحيده، ورئيس عصبته الأدبية وفريده. فبورك لك فيما أنلت من الفضائل، وأوتيت من آيات المعارف التي بها نور الغزالة هائل (10)، ولا زلت مرقّى (11) في مراتب المعالي، موقّى صروف الأيام والليالي.
ومن شعره يمدح الجهة النّبوية، مصدّرا بالنسيب لبسط الخواطر النّفسانية (12):
[الكامل]
لما تناهى الصّبّ في تشويقه ... درر الدموع اعتاضها بعقيقه
__________
(1) في النفح: «وما أضفيت».
(2) السّنات: جمع سنة وهي النوم. لسان العرب (وسن).
(3) في النفح: «أملها».
(4) في النفح: «بلقائكم في هذه».
(5) في المصدر نفسه: «ومحبتي».
(6) في المصدر نفسه: «مساءلة».
(7) في النفح: «الخطيب».
(8) في النفح: «قسم».
(9) في النفح: «الزمان».
(10) في النفح: «ضائل».
(11) في النفح: «ترقى».
(12) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 278275). وورد منها فقط البيت الأول في الكتيبة الكامنة (ص 121).(4/325)
متلهّف وفؤاده متلهّب ... كيف البقاء (1) مع احتدام حريقه؟
متموّج بحر الدموع بخدّه (2) ... أنّى خلاص يرتجى لغريقه
متجرّع صاب (3) النّوى من هاجر ... ما إن يحنّ للاعجات مشوقه
يسبي الخواطر حسنه ببديعه ... يصبي النّفوس جماله بأنيقه
قيد النواظر إذ يلوح لرامق ... لا تنثني (4) الأحداق عن تحديقه
للبدر لمحته كبشر ضيائه ... للمسك نفحته كنشر فتيقه (5)
سكرت خواطر لا محيه كأنّهم ... شربوا من الصّهباء (6) كأس رحيقه
عطشوا لثغر لا سبيل لريقه ... إلّا كلمحهم للمع بريقه
ما ضرّ مولى عاشقوه عبيده ... لو رقّ إشفاقا لحال رقيقه
عنه اصطباري ما أنا بمطيعه ... مثل السّلوّ ولا أنا بمطيقه
سجع الحمام يشوق ترجيع الهوى ... فأثار شجو مشوقه بمشوقه
وبكت هديلا راعها تفريقه ... ويحقّ أن يبكي أخو تفريقه
وبكاء أمثالي أحقّ (7) لأنني ... لم أقض للمولى أكيد حقوقه
وغفلت في زمن الشباب المنقضي ... أقبح بنسخ بروره بعقوقه
وبدا المشيب وفيه زجر ذوي النّهى ... لو كنت مزدجرا لشيم (8) بروقه
حسبي ندامة آسف ممّا جنى ... يصل النّشيج (9) لوزره بشهيقه
ويرمّ (10) ما خرم الهوى زمن الصّبا ... ويروم من مولاه رتق فتوقه
ويردّد الشكوى لديه تذلّلا ... علّ الرّضا يحييه (11) درك لحوقه
فيصحّ من سكر التّصابي صحوه (12) ... نسخا لحكم صبوحه بغبوقه (13)
__________
(1) في النفح: «البقا».
(2) في الأصل: «بنجده» والتصويب من النفح.
(3) الصاب: شجر مرّ.
(4) في الأصل: «لا تنشني»، والتصويب من النفح.
(5) الفتيق: المسك تستخرج رائحته بضمّ شيء إليه. لسان العرب (فتق).
(6) في الأصل: «الصّبا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «حقّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) الشّيم: مصدر «شام» يقال: شام البرق إذا نظر أين يقع مطره. لسان العرب (شيم).
(9) النشيج: الصوت في الصدر. لسان العرب (نشج).
(10) في النفح: «ويروم».
(11) في الأصل: «يحبيه»، والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «سكره».
(13) في النفح: «وغبوقه».(4/326)
لو كنت يمّمت التّقى وصحبته ... وسلكت إيثارا سواء طريقه (1)
لأفدت منه فوائدا وفرائدا ... عرضت تسام لرابح في سوقه
لله أرباب القلوب فإنهم ... من حزب من نال الرّضا وفريقه
قاموا وقد نام الأنام فنورهم ... هتك الدّجا بضيائه وشروقه
وتأنّسوا بحبيبهم فلهم به ... بشر لصدق الفضل في تحقيقه
قصّرت عنهم عندما سبقوا المدى ... ولسابق فضل على مسبوقه
لولا رجاء تلمّحي (2) من نورهم ... يحيي الفؤاد بسيره وطروقه
وتأرّج يستاف من أرواحهم ... سبب انتعاش الرّوح طيب خلوقه (3)
لفتنت (4) من جرّا (5) جرائري (6) التي ... من خوفها قلبي حليف خفوقه
ومعي رجاء توسّل أعددته ... ذخرا لصدمات الزمان وضيقه
حبّي ومدحي أحمد الهادي الذي ... فوز الأنام يصحّ في تصديقه
أسمى الورى في منصب وبمنسب ... من هاشم زاكي النّجار عريقه
الحقّ أظهره عقيب خفائه ... والدّين نظّمه لدى تفريقه
ونفى هداه ضلالة من جائر ... مستوثق بنعوته ولعوقه (7)
سبحان مرسله إلينا رحمة ... يهدي ويهدى الفضل من توفيقه
والمعجزات بدت بصدق رسوله ... وحقيقه بالمأثرات خليقه
كالظّبي في تكليمه والجذع في ... تحنينه والبدر في تشقيقه
والنّار إذ خمدت بنور ولادة (8) ... وأجاج ماء قد حلا من ريقه
والزّاد قلّ فزاد من بركاته ... فكفى الجيوش بتمره وسويقه
ونبوع ماء الكفّ من آياته ... وسلام أحجار غدت بطريقه
والنخل لمّا أن دعاه مشى له ... ذا سرعة بعروقه وعذوقه (9)
والأرض عاينها وقد زويت له ... فقريب ما فيها رأى كسحيقه (10)
__________
(1) سواء الطريق: نهجه المستقيم.
(2) في النفح: «تلمّح».
(3) يستاف: يشمّ. الخلوق: الطّيب.
(4) في النفح: «لعنيت».
(5) في الأصل: «جرّاء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) الجرائر: جمع جريرة وهي الجرم والذّنب.
(7) في النفح: «مستوثق بيغوثه ويعوقه».
(8) في الأصل: «ولاده» والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «بعذوقه وعروقه». والعذوق: جمع عذق وهو الغصن. لسان العرب (عذق).
(10) السحيق: البعيد.(4/327)
وكذا ذراع الشّاة قد نطقت له ... نطق اللسان فصيحه وذليقه
ورمى عداه بكفّ حصبا (1) فانثنت ... هربا كمذعور الجنان فروقه (2)
وعليه آيات الكتاب تنزّلت ... تتلى بعلو جلاله وبسوقه
فأذيق (3) من كأس المحبّة صرفها ... سبحان ساقيه بها ومذيقه
حاز السّناء وناله بعروجه ... جاز السماء طباقها بخروقه
ولكم له من آية من ربّه ... ورعاية (4) وعناية بحقوقه
يا خيرة الأرسال عند إلهه ... يا محرز العليا على مخلوقه
علّقت آمالي بجاهك عدّة ... والقصد ليس يخيب في تعليقه
ووثقت (5) من حبل اعتمادي عمدة ... لتمسّكي بقويّه ووثيقه
ولئن غدوت أخيذ ذنبي إنني ... أرجو بقصدك أن أرى كطليقه
وكساد سوقي مذ لجأت لبابكم (6) ... يقضي حصول نفوذه ونفوقه
ويحنّ قلبي وهو في تغريبه ... لمزاره لرباك (7) في تشريقه
وتزيد لوعته متى حثّ السّرى ... حاد حدا بجماله وبنوقه
وأرى قشيب العمر أمسى باليا ... ومرور دهري جدّ في تمزيقه
وأخاف أن أقضي ولم أقض المنى ... بنفوذ سهم منيّتي ومروقه
فمتى أحطّ على اللّوى رحلي وقد ... بلغت ركابي للحمى وعقيقه
وأمرّغ الخدّين في ترب غدا ... كالمسك في أرج شذا منشوقه
وأعيد إنشادي وإنشائي (8) الثّنا ... ببديع نظم قريحتي ورقيقه
حتى أميل العاشقين تطرّبا ... كالغصن مرّ صبا على ممشوقه
وتحيّة التسليم أبلغ شافعي (9) ... وثنا المديح حديثه وعتيقه
ولذي الفخار وذي العلى (10) ووزيره ... صدّيقه وأخي الهدى فاروقه
مني السلام عليهم كالزّهر في ... تأليفها والزّهر في تأليفه (11)
__________
(1) في الأصل: «حصباء»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) الفروق: الجبان. لسان العرب (فرق).
(3) في النفح: «وأذيق».
(4) في النفح: «وعناية ورعاية».
(5) في المصدر نفسه: «وعلقت».
(6) في الأصل: «إلى بابكم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «لريّاك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «إنشائي وإنشادي».
(9) في النفح: «شافع».
(10) في النفح: «الحلى».
(11) في النفح: «في تأنيقه».(4/328)
قال: وكتب بذلك إليّ في جملة من شعره (1): [الطويل]
هواكم بقلبي ما (2) لأحكامه (3) نسخ ... ومن أجله جفني بمدمعه يسخو (4)
ومن نشأتي ما إن صحت منه نشوتي ... سواء به عصر المشيب (5) أو الشّرخ
عليه حياتي مذ تمادت وميتتي ... وبعثي إذا بالصّور يتّفق النّفخ
ولي خلد (6) أضحى قنيص غرامه ... ولا شرك يدني إليه ولا فخّ
قتلت سلوّي حين أحييت لوعتي ... وما اجتيح (7) بالإقرار في حالتي لطخ (8)
وناصح (9) كتمي إذ زكت بيّناته ... يجول عليه من دموع الأسى نضخ
وأرجو بتحقيقي (10) هواكم بأن أفي ... فعهد (11) ولا نقض (12) وعقد ولا فسخ
وما الحبّ إلّا ما استقلّ ثبوته ... لمبناه رصّ في الجوانح (13) أو رسخ
إذا مسلك لم يستقم (14) بطريقه ... سلكت اعتدالا مثل ما يسلك الرّخّ
بدا لضميري من سناكم تلمّح ... فبخّ لعقل لم يطر عندها بخّ
على عود ذاك اللّمح ما زلت نادبا ... كما تندب الورقاء (15) فارقها الفرخ
يدي بأياديكم وقلبي شاغل ... فمن فكرتي نسج ومن أنملي نسخ
ومن شعره أيضا قوله في غرض يظهر منه (16): [الطويل]
إليك تحنّ النّجب والنّجباء ... فهم وهي في أشواقهم شركاء
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 121) ونفح الطيب (ج 8ص 279278).
(2) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(3) في الكتيبة: «لمحكمه».
(4) في الأصل: «يسخ» والتصويب من المصدرين.
(5) في الكتيبة: «الشباب».
(6) في الكتيبة: «جلد».
(7) في الكتيبة: «وما احتيج للإقرار».
(8) بعد هذا البيت جاء في نفح الطيب البيت التالي:
وأغدو إلى سعدى بكرخ علاقتي ... وقصدي قصدي ليس سعدي ولا الكرخ
(9) في الكتيبة: «وما صحّ جسمي إذ زكت».
(10) في الأصل: «بتحقيق»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(11) في الكتيبة: «بعهد».
(12) في الأصل: «نقص»، والتصويب من المصدرين.
(13) في الكتيبة: «في الجوانب».
(14) في المصدر نفسه: «لم تستقم».
(15) في الأصل: «الورق» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(16) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 280279). وورد منها فقط البيت الأول في الكتيبة الكامنة (ص 121).(4/329)
تخبّ بركّاب تحبّ وصولها ... لأرض بها باد سنى وسناء
فأنفاسها ما إن تني صعداؤها ... وأنفاسهم (1) من فوقها سعداء
هم عالجوا إذ عجّل السّير داءهم ... وأشباه مثلي مدنفون بطاء
فعدت ودوني للحبيب ترحّلوا ... وما قاعد والراحلون سواء
له وعليه حبّ قلبي وأدمعي ... وقد صحّ لي حبّ وسحّ بكاء
بطيبة هل أرضى وتبدو سماؤها؟ ... وإن تك أرضا فالحبيب سماء
شذا نفحها واللّمح منها كأنه ... ذكاء عبير والضّياء ذكاء (2)
فيا حاديا غنّي وللرّكب حاديا ... عنائي (3) بعد البعد عنك عناء
بسلع فسل عمّا أقاسي من الهوى ... وسل بقباء إذ يلوح قباء
وفي عالج منّي بقلبي لاعج (4) ... فهل لي علاج عنده وشفاء؟
وفي الرقمتين أرقم الشوق لاذع ... ودرياقه أن لو يباح لقاء
أماكن تمكين وأرض بها الرضى ... وأرجاء فيها للمشوق رجاء
ومن المقطوعات قوله (5): [الكامل]
أدب الفتى في أن يرى متيقّظا ... لأوامر من ربّه ونواه
فإذا (6) تمسّك بالهوى يهوي به ... والحبل (7) منه لمن تيقّن واه
ومن ذلك (8): [المنسرح]
يا من بدنياه ظلّ في لجج ... حقّق بأنّ النّجاة في الشاطي (9)
تطمع في إرثك الفلاح وقد ... أضعت ما قبله من اشراط
كن حذرا في الذي طمعت به ... من حجب نقص وحجب إسقاط
وقال (10): [الطويل]
ترى شعروا أني غبطت نسيمة ... ذكت بتلاقي الرّوض غبّ الغمائم
__________
(1) في النفح: «وأنفسهم».
(2) ذكاء: اسم للشمس. محيط المحيط (ذكا).
(3) في الأصل: «عناني»، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «لاذع».
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 122) ونفح الطيب (ج 8ص 280).
(6) في الكتيبة: «وإذا».
(7) في الكتيبة: «فالحبل».
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 122) ونفح الطيب (ج 8ص 280).
(9) في الأصل: «الشاط» والتصويب من المصدرين.
(10) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 122) ونفح الطيب (ج 8ص 280).(4/330)
كما قابلت زهر الرياض وقبّلت ... ثغور أقاحيه بلا لوم لائم
وقال (1): [الكامل]
ورد المشيب مبيّضا بوروده ... ما كان من شعر الشّبيبة حالكا
يا ليته لو كان بيّض بالتّقى ... ما سوّرته (2) مآثم من حالكا
إنّ المشيب غدا رداء للرّدى ... فإذا علاك أجدّ في ترحالكا (3)
وأنشدني صاحبنا القاضي أبو الحسن، قال: مما أنشدني الشيخ أبو الحجاج لنفسه (4): [الخفيف]
لوعة الحبّ في فؤادي تعاصت ... أن تداوى ولو أتى ألف راق (5)
كيف يبرا (6) من علّة وعليها ... زائد علّة النّوى والفراق؟
فانسكاب الدموع جار فجار ... والتهاب الضّلوع راق فراق
نبذة من أخباره: نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، قال حاكيا عنه: ومن غريب ما حدّثني به، قال: كنت (7) جالسا بين يدي (8)
الخطيب أبي القاسم التاكرونّي صبيحة يوم بمسجد مالقة الأعظم (9)، فقال لنا في أثناء حديثه: رأيت البارحة في عالم النّوم كأنّ أبا عبد الله الجلياني يأتيني ببيتي شعر في يده وهما: [الخفيف]
كلّ علم يكون للمرء شغلا ... بسوى الحقّ قادح في رشاده
فإذا كان فيه لله (10) حظّ ... فهو ممّا يعدّه لمعاده
قال: فلم ينفصل المجلس حتى دخل علينا الفقيه الأديب أبو عبد الله الجلياني، والبيتان عنده (11)، فعرضهما على الشيخ، وأخبره (12) أنه صنعهما البارحة، فقال له
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 280).
(2) في النفح: «سوّدته».
(3) التّرحال هنا بمعنى الانتقال إلى العالم الآخر.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 122) ونفح الطيب (ج 8ص 281).
(5) الراقي: الذي يستعمل الرقية لمداواة المرضى. لسان العرب (رقى).
(6) في الأصل: «يبرأ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح. وفي الكتيبة: «برئي».
(7) النص والبيتان التاليان في نفح الطيب (ج 8ص 281).
(8) في الأصل: «أيدي» والتصويب من النفح.
(9) كلمة «الأعظم» غير واردة في النفح.
(10) في الأصل: «فإذا كان لله فيه حظ»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «معه».
(12) في النفح: «فأخبره».(4/331)
كل من في المجلس: أخبرنا بهذا (1) الشيخ قبل مجيئك، فكان هذا من العجائب.
وقد وقعت الإشارة لذلك في اسم الشيخ.
مشيخته: منقول من خطّه في ثبت أجاز فيه أولادي، أسعدهم الله، بعد خطابة بليغة. قال: فمن شيوخي الذين رويت عنهم، واسترفدت البركة منهم، الشيخ الخطيب الصالح المتفنن أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي، والشيخ الإمام أبو جعفر بن الزّبير، والشيخ الوزير المشاور أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، والقاضي العدل أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن برطال، والشيخ الخطيب الصالح أبو عبد الله الطّنجالي، والراوية المسنّ أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن الرندي الطنجي، والمدرس الصالح أبو الحسن علي بن أحمد الإشبيلي بن شالة، والخطيبان الأستاذان الحاجان أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهري، وأبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن عيسى الحميري، والشيخ الصالح أبو الحسين عبد الله بن محمد بن محمد بن يوسف بن منظور، والخطيب الصالح العلّامة المصنف أبو جعفر بن الزيات، والفقيه القاضي أبو جعفر بن عبد الوهاب، والشيخ الراوية المحدّث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الكماد، والخطيب أبو العباس أحمد بن محمد اللورقي، والعدل أبو الحسن علي بن محمد الطائي ابن مستقور، والخطيب الصالح أبو العباس أحمد بن محمد بن خميس الجزيري، والقاضي العدل الحاج أبو محمد عبد الله بن أبي أحمد بن زيد الغرناطي، والشيخ الراوية الحاج الرّحال الصوفي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الفارسي العجمي الأقشري، والقاضي الحسيب أبو عبد الله محمد بن عياض بن محمد بن عياض، والقاضي أبو عبد الله بن عبد المهيمن الحضرمي، والأستاذ أبو إسحاق الغافقي، والإمام أبو القاسمي بن الشّاط، والخطيب القاضي أبو عبد الله القرطبي، والراوية أبو القاسم البلفيقي، والمحدّث أبو القاسم التجيبي، والخطيب أبو عبد الله الغماري، والإمام الكبير ناصر الدين المشدالي، والفقيه الصوفي أبو عبد الله محمد بن محمد الباهلي، عرف بالمسفر من أهل بجاية، وقاضي القضاة بتونس أبو إسحاق بن عبد الرفيع، والعلّامة أبو عبد الله بن راشد، والخطيب أبو عبد الله بن عزمون، والعلّامة الخطيب أبو محمد عبد الواحد بن منظور بن محمد بن المنير الجذامي. قال: وكلهم أجازني عامة ما يرويه، وكان ممن لقيته، وقرأت عليه، إلّا المدرّس أبا الحسن بن شالة، فوقع لي شك في إجازته.
__________
(1) في المصدر نفسه: «بهما».(4/332)
تواليفه: قال: وممّا يسّر الله تعالى فيه من التأليف، كتاب «ملاذ المستعيذ (1)، وعياذ المستعين، في بعض خصائص سيد المرسلين، في الأحاديث الأربعين المروية على آيات من الذكر الحكيم والنور المبين». وكتاب «تخصيص القرب، وتحصيل الأرب»، و «قبول الرأي الرشيد، في تخميس الوتريات النبويات (2) لابن رشيد». و «انتشاق النّسمات النّجدية، واتّساق النزعات الجدّية».
و «غرر الأماني المسفرات، في نظم المكفّرات». و «النّفحات الرّندية، واللّمحات الزّندية»، وهو مجموع شعري. و «حقائق بركات المنام، في مرأى المصطفى خير الأنام». و «الاستشفاء بالعدّة، والاستشفاع (3) بالعمدة، في تخميس (4) القصيدة النبوية المسماة بالبردة». و «توجّع الراثي، في تنوّع المراثي». و «اعتلاق المسائل (5)، بأفضل الوسائل». و «لمح البهيج، ونفح الأريج»، في ترجيز (6) ما لولي الله أبي مدين شعيب بن الحسين الأنصاري، رضي الله عنه، من عبارات حكمة وإشارات صوفية.
و «تجريد (7) رؤوس مسائل البيان والتحصيل، لتيسير البلوغ لمطالعتها والتوصيل».
وفهرسة روايتي. ورجز في (8) ذكر مشيخة (9) شيخنا الراوية أبي عمر الطّنجي، رحمه الله، وإسناده. قال: وممّا كنت شرعت فيه ولم يتّفق تمامه، كتاب سميته «عواطف الأعتاب، في لطائف أسباب المتاب». ومما بيدي الآن جمعه وهو إن شاء الله على التمام، أربعون حديثا متصلة الإسناد، أول حديث منها في الخوف، والثاني في الرجاء، بلواحق تتبعها، وسميته «أرج الأرجاء، في مزج الخوف والرجاء». والله يصفح عنا، ويغفر زلّاتنا، وأن لا يجعل ما نتولاه من ذلك حجة علينا، وأن نكون ممن منح مقولا، ومنع معقولا، ويختم لنا بخواتم السّعداء من عباده، وممن وفّق وهدى إلى سبيل رشاده.
وفاته: كان حيّا عام أحد وستين وسبعمائة.
__________
(1) ورد اسم الكتاب في نفح الطيب (ج 8ص 281) هكذا: «ملاذ المستعين، في بعض خصائص سيّد المرسلين».
(2) في النفح: «النبوية».
(3) في الأصل: «والاستشعاع»، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «في تخميس البردة».
(5) في النفح: «السائل».
(6) في النفح: «ترجيز كلام الشيخ أبي مدين من عبارات حكمية».
(7) في النفح: «وكتاب تجريد».
(8) كلمة «في» غير واردة في النفح.
(9) في النفح: «مشايخ أبي عمر».(4/333)
ومن المقرئين
يحيى بن أحمد بن هذيل التجيبي (1)
يكنى أبا زكريا، شيخنا أبو زكريا بن هذيل، رحمه الله، أرجدوني (2) الأصل، ينسب إلى سلفه أملاك ومعاهد كولابج هذيل، مما يدل على أصالة.
حاله: كان آخر حملة الفنون العقلية بالأندلس، وخاتمة العلماء بها، من طبّ وهندسة وهيئة وحساب وأصول وأدب، إلى إمتاع المحاضرة، وحسن المجالسة، وعموم الفائدة، وحسن العهد، وسلامة الصّدر، وحفظ الغيب، والبراءة من التصنّع والسّمت، مؤثرا للخمول، غير مبال بالناس، مشغولا بخاصّة نفسه.
خدم أخيرا باب السلطان بصناعة الطّب، وقعد بالمدرسة بغرناطة يقرئ الأصول والفرائض والطب.
عمن أخذ: قرأ على جملة من شيوخ وقته، كالأستاذ أبي بكر بن الفخار، أخذ عنه العربية والأدب. وقرأ الطب على أبي عبد الله الأركشي، وأبي زكريا القصري، وجملة من الإسلاميين بالعدوة. وقرأ كراسة الإمام فخر الدين الرازي، المسماة بالآيات البيّنات، على الأستاذ أبي القاسم بن جابر. ونظر الأصول على الأستاذ النظّار أبي القاسم بن الشّاط. وأخذ الحساب عن أبي الحسن بن راشد. والحساب والهندسة والأصول وكثيرا من عمليات الحساب وجبره ومقابلته والنجوم، على الأستاذ أبي عبد الله بن الرّقام، ولازمه كثيرا.
تواليفه: وله تصانيف وأوضاع منها، ديوان شعره المسمى بالسليمانيات والعربيات وتنشيط الكسل. ومنها شرحه لكرّاسة الفخر، وهو غريب المأخذ، جمع فيه بين طريقتي القدماء والمتأخرين من المنطقيين. وكتابه المسمى ب «الاختيار والاعتبار في الطّب». وكتابه المسمى ب «التذكرة في الطبّ».
شعره: وجرى ذكره في التاج المحلّى بما نصه (3): درّة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضّنين لبنيه محتفلة. أبدع من رتّب
__________
(1) ترجمة يحيى بن أحمد بن هذيل في نثير فرائد الجمان (ص 320) والدرر الكامنة (ج 4ص 412) ونفح الطيب (ج 8ص 32) والكتيبة الكامنة (ص 73) وفيه أن الترجمة وردت خطأ تحت اسم: ابن شقرال.
(2) نسبة إلى بلدة أرجدونة أو أرشدونة.
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 32).(4/334)
التعاليم وعلّمها، وركّض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثّلها، وأسس قواعد البراهين وأثّلها، وأعرف من زاول شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزّة للحلوم، والدّعابة التي ما خلع (1) العذار فيها بالملوم. فما شئت من نفس عذبة الشّيم، وأخلاق كالزهر من بعد الدّيم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر (2) زهرها الناضر. وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمرّ له في هذا الديوان، ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول.
فمن ذلك ما خرّجته من ديوان شعره المسمّى ب «السّليمانيات والعربيات (3)» من النّسيب (4): [الطويل]
ألا استودع الرحمن بدرا مكمّلا ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه
وفي (5) فلك الأزرار يطلع (6) سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه
يصيّر مرآه منجّم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه
تجسّم من نور (7) الملاحة خدّه ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه
تلوّن كالحرباء في خجلاته ... فيحمرّ قانيه ويبيضّ ناصعه
إذا اهتزّ غنّى حليه فوق نحره ... كغصن النّقا غنّت عليه سواجعه
يذكر حتف الصّبّ عامل قدّه (8) ... وتقطف (9) من واو العذار توابعه
أعدّ الورى (10) سيفا كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك يضارعه (11)
__________
(1) في النفح: «خالع».
(2) في النفح: «في النواظر».
(3) في النفح: «العزفيّات».
(4) في النفح: «قوله» مكان «من النسيب». والقصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 77) ونفح الطيب (ج 8ص 3332).
(5) في النفح: «ففي».
(6) في الكتيبة: «مطلع».
(7) في النفح: «ماء».
(8) في الأصل: «قدره» والتصويب من المصدرين.
(9) في المصدرين: «وتعطف».
(10) في الأصل: «للورى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(11) في الكتيبة: «مضارعه».(4/335)
ومن أخرى في النّسيب، وتضمّنت التّورية الحسنة (1): [الطويل]
وصالك هذا أم تحيّة بارق؟ ... وهجرك أم ليل السّليم (2) لتائق؟
أناديك والأشواق تركض حجرها (3) ... بصفحة خدّي من دموع سوابق
أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق
ومنها (4):
فلا تتعبن ريح الصّبا في رسالة ... ولا تخجل الطّيف الذي هو (5) طارقي
متى طمعت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق
قوله: «أبارق ثغر من عذيب رضابه» ينظر إلى قول ابن النبيه في مثل ذلك:
[الكامل]
يلوي على زرد العذار دلاله ... كم فتنة بين اللّوى وزرود
ومن قصيدة ثبتت في السليمانيات (6): [الطويل]
بدا بدر تمّ فوقه الليل عسعسا ... وجنّة أنس في صباح تنفّسا
حوى النجم قرطا والدّراري مقلّدا ... وأسبل من مسك الذوائب حندسا
كأنّ سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلّسا
أتى يحمل التوراة ظبيا مزنّرا ... لطيف التثنّي أشنب الثّغر ألعسا
وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك ربّي (7) عليه وقدّسا
ومنها، وتماجن ما شاء، غفر الله له:
رويت ولوعي من (8) ضلوعي مسلسلا ... فأصبحت في علم الغرام مدرّسا
نفى النوم عني كي أكون مسهدا ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا
غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مثيلا (9) ومكنسا
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 77) ونفح الطيب (ج 8ص 33).
(2) في الأصل: «السلم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(3) في الكتيبة: «حمرها».
(4) هذان البيتان لم يردا في الكتيبة الكامنة.
(5) في النفح: «كان».
(6) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 3433).
(7) في النفح: «مولانا».
(8) في النفح: «عن».
(9) في النفح: «مقيلا».(4/336)
طغى ورد خدّيه بجنّات صدغه ... فأضعفه بالآس نبتا وما أسا
قوله: طغى ورد خديه، البيت، محال على معنى فلاحي، إذ من أقوالهم: أنّ الآس، إذا اغترس بين شجر الورد، أضعفته بالخاصية.
وقال أيضا من قصيدة مهيارية (1): [الرمل]
نام طفل النّبت في حجر النّعامى ... لاهتزاز الطّلّ (2) في مهد الخزامى
وسقى الوسميّ أغصان النّقا ... فهوت تلثم أفواه النّدامى
كحّل الفجر لهم جفن الدّجى ... وغدا في وجنة الصّبح لثاما
تحسب البدر محيّا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما
حوله الزهر (3) كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهنّ ختاما
يا عليل الريح (4) رفقا علّني ... أشف بالسّقم الذي حزت سقاما
وابلغن (5) شوقي عريبا (6) باللّوى ... همت في أرض بها حلّوا غراما
فرشوا فيها من الدّرّ حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلّة من صدّكم (7) ... لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستفدت (8) الرّوح من ريح الصّبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما
نشأت للصّبّ منها زفرة ... تسكب الدّمع على الرّبع سجاما
طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنّات طارحن الحماما
طلل لا تستفي (9) الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما
ترك السّاكن لي من وصله ... ضمّة الجدران لثما والتزاما (10)
نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما
شادن يرعى حشاشات الحشا ... حسب حظّي منه أن أرعى الذّماما
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 7574) ونثير فرائد الجمان (ص 323322) ونفح الطيب (ج 8ص 3534).
(2) في نثير فرائد الجمان والكتيبة الكامنة: «الظلّ».
(3) في المصدرين المذكورين: «الشّهب».
(4) في الكتيبة: «الروح».
(5) في النفح: «أبلغن».
(6) عريب: حيّ من اليمن.
(7) في الكتيبة: «من طيفكم». وفي نثير فرائد الجمان: «كنت أشري زورة من طيفكم».
(8) في النثير: «واستعدت».
(9) في الأصل: «تستشفى»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(10) هذا البيت والبيتان التاليان غير واردة في نثير فريد الجمان.(4/337)
وقال من قصيدة أولها في غرض النسيب (1): [الطويل]
أأرجو أمانا منك واللحظ غادر ... ويثبت عقلي (2) فيك والطّرف ساحر؟
أعدّ سليمان أليم عذابه ... لهدهد (3) قلبي فهو للبين صائر (4)
أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه (5) ناظر
دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر
إذا شقّ عن بدر الدّجى أفق زرّه (6) ... فإني بتمويه العواذل كافر
وفي حرم السّلوان طافت (7) خواطري ... وقلبي لما في وجنتيه مجاور
وقد ينزع القلب المبلّى (8) لسلوة ... كما اهتزّ من قطر الغمامة طائر
يقابل أغراضي بضدّ مرادها ... ولم يدر أنّ الضّدّ للضّدّ قاهر
ونار اشتياقي صعّدت مزن أدمعي ... فمضمر سرّي فوق خدّي ظاهر
وقد كنت باكي العين والبين غائب ... فقل لي كيف (9) الدمع والبين حاضر
وليس النّوى بالطبع مرّا وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر
ومنها في وصف ليلة (10):
وزنجيّة فات الكؤوس بنحرها ... قلائد ياقوت عليها الجواهر
ولا عيب فيها غير أنّ ذبالها ... يقطّب فتبدو للكؤوس (11) سرائر
تجنّبت فيها نيل كل صغيرة ... وقد غفرت فيها لديّ الكبائر
ومن السّليمانيات من قصيدة (12): [الكامل]
يا بارقا، قاد الخيال فأومضا ... اقصد بطيفك مدنفا قد غمّضا
ذاك الذي قد كنت تعهد نائما ... بالسّهد من بعد الأحبّة عوّضا
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 7675) ونفح الطيب (ج 8ص 3635).
(2) في الكتيبة: «قلبي».
(3) في النفح: «لطائر».
(4) في الكتيبة: «صابر».
(5) في الكتيبة: «لمعناه».
(6) في الأصل: «ذرّه» والتصويب من المصدرين.
(7) في النفح: «طابت».
(8) في الكتيبة: «الشجي».
(9) في الأصل: «فقل لي كيف حال الدمع» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح. وفي الكتيبة الكامنة: «فقل كيف حال الدمع».
(10) هذه الأبيات غير واردة في الكتيبة والنفح.
(11) في الأصل: «الكؤوس» وهكذا ينكسر الوزن.
(12) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 36).(4/338)
لا تحسبنّي معرضا عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا
عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النّوى وتشكّكت فيما مضى
ومنها:
خفيت لهم من سرّ صبري آية ... ما فهّمت إلّا سليمان الرّضا
لله درّك ناهجا سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوّضا
أمّنت نملا فوق خدّك سارحا ... وسللت سيفا من جفونك منتضى
ومن الأمداح قوله من قصيدة (1): [الطويل]
حريص على جرّ الذوائب والقنا ... إذا كعّت (2) الأبطال والجوّ عابس
وتعتنق الأبطال لولا سقوطها ... لقلت لتوديع أتته الفوارس
إذا اختطفتهم كفّه فسروجهم ... مجال وهم في راحتيه فرائس
وقال يمدح السلطان أمير المسلمين أبا الوليد بن (3) نصر عند قدومه من فتح أشكر (4) من قصيدة أولها (5): [الطويل]
بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب، سكّان (6) السماء لها جند
وتحت لواء النصر ملك هو الورى (7) ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو
تأمّنت الأرواح في ظلّ بنده ... كأنّ جناح الروح (8) من فوقه بند
فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو همّ لانقادت له (9) السّند والهند
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 36).
(2) كعّت الأبطال: جبنت وضعفت. لسان العرب (كعع).
(3) كلمة «بن» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح. وأبو الوليد بن نصر هو سلطان غرناطة إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف الأنصاري الخزرجي، وقد حكم من عام 713إلى عام 725هـ. اللمحة البدرية (ص 9078).
(4) أشكر، بالإسبانية: بلدة أندلسية تقع شمال مدينة بسطة.
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 7877) ونفح الطيب (ج 8ص 3736).
(6) سكان السماء: هم الملائكة.
(7) رواية صدر البيت في الكتيبة الكامنة هي:
وتحت لواء الشرع ملك هو الهدى
(8) الروح: جبريل عليه السلام.
(9) في الأصل: «إليه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.(4/339)
بعيني بحر النّقع تحت أسنّة ... تنمنمه وهنا كما نمنم البرد
سماء عجاج والأسنّة (1) شهبها ... ووقع القنا رعد إذا برق الهند
وفي وصف آلة النّفط:
وظنّوا بأنّ الرعد والصّعق في السما ... فحاق بهم من دونها الصّعق والرعد
عجائب (2) أشكال سما هرمس بها ... مهندمة (3) تأتي الجبال فتنهدّ
ألا إنّها الدنيا تريك عجائبا ... وما في القوى منها فلا بدّ أن يبدو
وكتب وهو معتقل بسبب عمل تولّاه جحدرية أولها (4): [الطويل]
تباعد عني منزل وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب
وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتدّ الأنين يجيب
لقد بعدت عني ديار قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو غريب
ومنها:
أعاشر قوما (5) ما تقرّ نفوسهم ... فللهمّ فيها عند ذاك ضروب
إذا شعروا من جارهم بتأوّه ... أجابته منهم زفرة ونحيب
فلا ذاك يشكو همّ هذا تأسّفا ... لكلّ امرئ مما دهاه نصيب
كأني في غاب الليوث مسلّما (6) ... يروّعني منها الغداة وثوب
تحكّم فينا (7) الدهر والعقل حاضر ... بكلّ قياس والأديب أريب (8)
ولو مال بالجهّال ميلته بنا ... لجاء بعذر، إنّ ذا لعجيب
رفيق بمن لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته (9) ذنوب
وتطمعنا (10) منه بوارق خلّب ... نقول (11): عساه يرعوي ويتوب (12)
إذا ما تشبّثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جرّ الذيول (13) خطوب
أدار علينا صولجانا ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب
__________
(1) في الكتيبة: «والقوانس».
(2) في اللمحة: «غرائب».
(3) في النفح: «مهندسة».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 37).
(5) في النفح: «أقواما تقرّ».
(6) في النفح: «مسالم».
(7) في النفح: «فيها».
(8) في النفح: «أديب».
(9) أوبقته: أهلكته. لسان العرب (وبق).
(10) في النفح: «ويطمعنا».
(11) في النفح: «تقول».
(12) في النفح: «فيؤوب».
(13) في النفح: «الخطوب».(4/340)
ومنها:
أيا دهر، إني قد سئمت تهدّفي ... أجرني فإنّ السّهم منك مصيب
إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب
وإن طلع الكفّ الخضيب بسحره (1) ... فدمعي بحنّاء الدماء خضيب
تذكّرني الأسحار دارا ألفتها ... فيشتدّ حزني والحمام طروب
إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب
دعوتك ربّي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب
لئن كان عقبى الصبر فوزا وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب
وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكا، وكتب بذلك، رحمة الله عليه (2): [المنسرح]
أيا صديقا جعلته سندا ... فراح فيما أحبّه وغدا
طلبت منكم صريدكا (3) خنثا ... وجّهتموني (4) مكانه لبدا
صيّر مني مؤرخا ولكم ... ظللت في علمه من البلدا
قلت له: آدم أتعرفه؟ ... قال: حفيدي بعصرنا ولدا
نوح وطوفانه رأيتهما؟ ... قال: علونا لفيضه (5) أحدا
فقلت: هل لي بجرهم خبر؟ ... فقال: قومي وجيرتي السّعدا
فقلت: قحطان هل مررت به؟ ... قال: نفثنا ببرده العقدا
فقلت: صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفّس الصّعدا
وقال (6): كم لي بدجنهم سحرا ... من صرخة لي وللنؤوم (7) هدا
فقلت: هاروت هل سمعت به؟ ... فقال: ريشي لسحره (8) نفدا
فقلت: كسرى وآل شرعته؟ ... فقال: كنّا بجيشه وفدا
ولّوا وصاروا وها أنا لبد (9)؟ ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا؟
__________
(1) في النفح: «سحيرة».
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 38).
(3) في النفح: «سريدكا».
(4) في المصدر نفسه: «وجئتم لي».
(5) في النفح: «بفيضه».
(6) في النفح: «فقال».
(7) في الأصل: «وللنوم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «لسهمه».
(9) لبد: آخر نسور لقمان، وهو مضرب المثل في التعمير وطول البقاء.(4/341)
ديك إذا ما انثنى لفكرته ... رأى وجودا (1) طرائقا قددا (2)
يرفل في طيلسانه ولها ... قد صيّر الدهر لونه كمدا
إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأنّ حبرا عليه قد جمدا
كأنما جلّنار لحيته ... برجان حازا عن الهواء مدا
كأنّ حصنا علا بهامته ... أعدّه للقتال فيه عدا
يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا
كأنّ منجالتي ذؤابته (3) ... قوس سماء (4) من أجله بعدا
وعوسج مدّ من مخالبه ... طغى بها في نقاره وعدا
فذاك ديك جلّت محاسنه ... له صراخ بين الدّيوك غدا (5)
يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبّتيه مدى
وجّهته محنة لآكله ... والله ما كان ذاك منّي (6) سدى
ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه في (7)
العمل، فيوجه الدّيّة لنا في ذلك رسائل.
ومن شعره في غرض الحسن بن هانىء (8): [الطويل]
طرقنا ديور القوم وهنا وتغليسا ... وقد شرّفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى
وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدّسوا الروح المقدّس تقديسا
فما استيقظوا إلّا لصكّة بابهم ... فأدهش رهبانا وروّع قسّيسا
وقام بها البطريق يسعى ملبّيا ... وقد ليّن (9) الناقوس رفقا (10) وتأنيسا
__________
(1) في الأصل: «الوجود» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) القدد: جمع قدّة وهي الفرقة من الناس. لسان العرب (قدد). وفي التنزيل الكريم: {كُنََّا طَرََائِقَ قِدَداً}. سورة الجن 72، الآية 11.
(3) في النفح: «ذوائبه».
(4) في الأصل: «قوس سما»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «بدا».
(6) في النفح: «منك».
(7) في النفح: «بالعمل».
(8) في النفح: «في غرض أبي نواس». والأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 8079) ونفح الطيب (ج 8ص 4140).
(9) في الكتيبة: «أصمت».
(10) في النفح: «رفعا».(4/342)
فقلنا له: آمنّا (1) فإنّا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا (2)
وما قصدنا إلّا الكؤوس وإنما ... لحنّا له في القول خبثا وتدليسا (3)
ففتّحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرّس طلاب المدامة تعريسا (4)
فلما رأى زقّي (5) أمامي ومزهري ... دعاني: أتأنيسا (6) لحنت وتلبيسا؟
وقام إلى دنّ يفضّ ختامه ... فكبّس أجرام الغياهب تكبيسا (7)
وطاف بها رطب البنان مزنّر ... فأبصرت عبدا صيّر الحرّ مرءوسا
سلافا حواها القار لبسا فخلتها ... مثالا من الياقوت في الحبر مغموسا (8)
إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس قتيل (9) الشمع نكّس تنكيسا
وثبت إليه بالعناق فقال لي: ... بحقّ الهوى هب لي من الضّمّ تنفيسا
كتبت بدمع العين صفحة خدّه ... فطلّس حبر الشعر كتبي تطليسا
فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا
فبتنا يرانا الله شرّ عصابة ... نطيع (10) بعصيان الشريعة إبليسا
وقال بديهة في غزالة من النحاس على بركة في محل طلب منه ذلك فيه (11):
[الكامل]
عنّت لنا من وحش وجرة ظبية ... جاءت لورد الماء ملء عنانها
وأظنّها إذا حدّدت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها
حيّت بقرني رأسها إذ لم نجد (12) ... يوم اللقاء تحية (13) ببنانها
حنّت على النّدمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها
لله درء غزالة أبدت لنا ... درّ الحباب تصوغه بلسانها
__________
(1) في المصدرين: «أمنّا».
(2) التثليث: شرب ثلاث كؤوس. والتسديس: شرب ست كؤوس.
(3) يقول: إننا أوهمناه بالتورية في التثليث، ونحن قصدنا أن نشرب ثلاثا أو ستا.
(4) التعريس: النزول آخر الليل. لسان العرب (عرس).
(5) في النفح: «رقّي».
(6) في الكتيبة: «تأنيسا».
(7) في الكتيبة الكامنة: «فغضّ ختامه فكيّس تكييسا».
(8) في المصدر نفسه: «ملبوسا».
(9) في الأصل: «قبيل» والتصويب من المصدرين.
(10) في الكتيبة: «تطيع».
(11) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 41).
(12) في النفح: «تجد».
(13) في النفح: «تحيفة».(4/343)
وفاته: فلج فالتزم المنزل عندي لمكان فضله، ووجوب حقّه، وقد كانت زوجه توفيت، وصحبه عليها وجد شديد، وحزن ملازم، فلمّا ثقل، وقربت وفاته، استدعاني، وقد كان لسانه لا يبين القول، وأملى عليّ فيما وصاني به من مهم أمره (1): [الطويل]
إذا متّ فادفنّي حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التّراب عظامها
ولا تدفننّي في البقيع فإنّني ... أريد إلى يوم الحساب التزامها
ورتّب ضريحي كيفما شاء الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها
وفاته: ومات في ليلة الخامس والعشرين من عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، ودفنته عصره بباب إلبيرة حذاء حليلته كما عهد، رحمة الله عليه.
يحيى بن عبد الكريم الشنتوفي
من أهل الجزيرة الخضراء.
حاله: كان كاتبا ثرثارا، أديبا لوذعيا، كثير النظم والنثر. كتب عن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب (2)، وابنه أبي يعقوب، واحتلّ معهما (3) بظاهر غرناطة.
كتابته: كتب عن المذكور عند نزوله غازيا ومجاهدا بظاهر شريش ما نصّه:
أخونا الذي يسير بما يخلّده بطون أوراق الدفاتر، من مأثور حميد المآثر، ويتلقّى ما يرد عليه من قبلنا من منشور حزب البشائر، بمعاشر القبائل والعشائر، ويفوّق ما قبسته المنن لأقلام وأفواه المحابر، في مراقب مراقي المنابر، ويجمع لما وشته سحائب الخواطر، من روضات السّجلّات في النوادي والمحاضر، الأمير الكذا، أدام الله اهتزازه للأنباء السارّة وارتياحه، ونعّم بها أرواحه، ووصل بكل أرج من نسيم الجذل، ومبهج من وسيم الأمل، غدوه ورواحه، وأحبّ به أرواحه. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. من أخيكم الذي لا يتمّ بشره إلّا بأخذكم منه بأوفى حظّ، وأوفر نصيب، ومصافيكم الذي لا يكمل سروره، ويجمل حبوره، حتى يكون لكم فيه سهم
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 41).
(2) هو الخليفة الموحدي المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 558هـ إلى سنة 580هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83، 130).
(3) في الأصل: «معهم».(4/344)
مصيب، ومرعى خصيب، الأمير يوسف ابن أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن عبد الحق.
أمّا بعد حمد الله، محقّ الحقّ بتصعيده فوق النّجوم ومعليه، ومبطل الباطل بتصريبه تحت النجوم ومدليه، ومطهّر الأرض من نجس دنس الكفر وأوليه، ضربا بالمرهفات صبرا وطعنا بالمشفعات دراكا، وجاعل بلاد الشّرك الأسار عبّاد الإفك، بما نظمهم من سلك الملك، وبدّدهم من هتك السّتر، بالفتك والسّفك، حبائل لا يخرجون منها وأشراكا، وخاذل من زلّت عن السّور قدمه، وخرجت من الدّور ذممه، بأن يراق دمه، ويعدم وجوده وقدمه، بلوغا لأمان أماني الإيمان وإدراكا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، ناظم فرائد الفرائد، ومنضّد عوائد المواعد، بالظّفر المنتظر بكل جاحد معاند، قلائد لا تنتثر وأسلاكا وسالك مسالك الغزوات، وناسك مناسك الخلوات، ومدرك مدارك قبول الدّعوات، إفناء لأعداء الله وإهلاكا، والرضا على آله وصحبه، المرتدين بمننه، المهتدين بسننه، في إباحة حرم الحرم، وإزاحة ظلم الظّلم، حنادس وأحلاكا، القارعين بأسيافهم أصلاب كلاب الصّلبان تباكا، والقارعين أبواب ثواب الرحمن نسّاكا، وموالاة الدّعاء لسيدنا ومولانا الوالد، بتخليد السّعد المساعد، وإدارة الإرادة بعضد من النّصر وساعد، مقادير كما يشاء وأفلاكا، وممالآت آياته آيات، هذه الرّايات، بإدراك نهايات الغايات، في اشتباه أشياء ذوي الشّايات، فلا تذر في الأرض كفرا ولا تدع فيها إشراكا. فكتبناه، كتب الله لإخائكم الكريم أرفع الدرجات علا وأتمّها تعظيما، وفضلكم مع القعود عن الشهود بالنّية التي لها أكرم ورود، وأصدق وفود، أجرا عظيما. من منزلنا بمخنّق شريش حيث الكتائب الهائلة هالة بدرها البادية الخسوف، والحماة الكماة أكمام زهرها الدّاني القطوف، وسوار معصمها النائي عن العصمة مجرّدات صفوف صنوف السيوف. فالشّفار بالأحداق كالأشفار بالأحداق إدارتها، الطّاقة بحيزومها نطاقا، والفتح قد لاحت مخايله، وباحت مقاوله، والكفر فلّت مناصله وعرفت مقاتله، والمترف يتمنى أن يلقاه قاتله، فلا يقاتله فرقا، لا يجدون له فراقا فواقا، فحماتها العتاة لا يرون إلّا سماء نقع الكفاح، لمعا متلاقيا وائتلافا، وكماتها لا يشربون إلّا من تحت دمهم المطهّر بنجسه وجه الأرض، المعدي به هريقه من فيح حثّهم يوم العرض، المودي بإراقته واجب الفرض، إعدادا لامتثال الأمر الإلهي واعتناقا.
ومن هذا الكتاب وهو طويل: ووصلنا والخيل تمرح في أعنّتها تصلّفا، وتختال في مشيها تغطرفا، وتعضّ على لجمها تحدّقا وتحرّفا، كأنها لم ترم قصارى قصور النصارى، دون تصور عنها، أغراضا وأهدافا، ودون معاهدة العيون وصف(4/345)
الواصف، ولأقلّ مما احتوى عليه هذا الفتح تهتزّ المعاطف، إذ الإيمان اهتزّ إعطافا، وتوشح به عطافا. وهل الكتب وإن طال، نبذة من نبذ الفتوح، وفلذة من كبد النّصر الممنوح، وزهرة من غصن النّدى المروح، أدنينا لإخائكم الكريم منه اقتطافا، والسلام.
شعره: [البسيط]
ما لي وللصبر عني دونكم حجبا ... وطالما هزّني أنسي لكم طربا
فحين شبّ النوى في أضلعي لهبا ... هززت سيف اصطباري بعدكم فنبا
وقلت للقلب يسلو بعدكم فأبى
غبتم فغاب لذيذ الأنس والوسن ... وخانني جلدي فيكم فأرّقني
ذكرى ليالينا في غفلة الزمن ... فارقتموني وطيب العيش فارقني
وصرت من بعدكم حيران مكتئبا
من لي بقربكم في حفظ عهدكم ... فكم ظفرت به أيام ودّكم
وكم جرى دمع أجفاني لفقدكم ... فلو بكيت دما من بعدكم
لم أقض من حقّ ذاك القرب ما وجبا
لله أيامنا ما كان أجملها ... أعزت (1) بآخرها شكرا وأولها
من حسنها لم أزل أصبو بها ولها ... يا صاح، صبرا على الأيام إنّ لها
على تصاريفها من أمرها عجبا
صبرا على زمن يبديك شيمته ... اقبل مساءته واحمد مسرّته
فما عسى يبلغ الإنسان منيته ... ومن كرهت ومن أحببت صحبته
لا بدّ أن يفقد الإنسان من صحبا
قلت (2): عجبا من الشيخ ابن الخطيب، رحمه الله، في ذكره هذا المترجم به في ترجمة المقرئين، مع تحليته له، ووصفه إياه بما وصفه من الكتابة والشّعر، بل وإثباته له كتابته، وشعره، فكان حقّه أن يكون في ترجمة الكتّاب والشعراء بعد هذه الترجمة.
__________
(1) في الأصل: «أوزعت»، وكذا يختلّ الوزن والمعنى معا.
(2) من هنا حتى آخر الترجمة ليس لابن الخطيب، وقد يكون للناسخ.(4/346)
يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن محمد بن قاسم ابن علي الفهري
من أهل غرناطة، يكنى أبا الحجاج، ويعرف بالسّاحلي (1).
حاله: من «العائد» (2): صدر (3) في حملة القرآن، على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين، من لين الجانب، والعكوف على الخير، وبذل المعروف، وحسن المشاركة، والخفوف إلى الشّفاعة. أبّ الأمراء، وحظي بتسويدهم، وناب في الخطابة بالمسجد الأعظم من حمرائهم (4)، وكان إماما به، ذا هدى وسكينة ووقار. وحجّ، ولقي المشايخ (5)، واعتنق الرواية والتّقييد، فانتفع بلقائه.
مشيخته: قرأ على الأستاذ العلّامة أبي جعفر ابن الزبير ببلده، وعلى الشيخ الخطيب الصوفي أبي الحسن ابن فضيلة، وعلى الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والمحدّث الرّحال أبي عبد الله بن رشيد. وأخذ في رحلته عن جملة، كالخطيب الراوية أبي عبد الله محمد بن محمد بن فرتون، وناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي، والأستاذ أبي عبد الله بن جعفر اليحصبي، وقاضي الجماعة ببجاية الإمام أبي عبد الله بن يحيى الزواوي، والفقيه المحدّث أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن الحسن الشافعي. وأجازه سوى من تقدّم ذكره من أهل المشرق، عبد الغفار بن محمد الكلابي، وحسن بن عمر بن علي الكردي، وعتيق بن عبد الرحمن بن أبي الفتح العمري، ومحمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني، وعمر بن أبي بكر الوادي آشي، وصالح بن عباس بن صالح بن أبي الفوارس الأسعد الصدفي، وأحمد بن محمد بن علي الكناني، ومحمد بن أحمد، وأحمد بن إسماعيل بن علي بن محمد بن الحباب، وأمّ الخير ابنة شرف الدين ابن الطباخ الصّوفي. وقرأ ببلده غرناطة على الأستاذ أبي جعفر الطبّاع، والشيخ أبي الحسن معن بن مؤمن، وأبي محمد النبغدي، وأبي الحسن البلوطي.
أنشدنا، قال: كتب إليّ شيخنا محمد بن عتيق بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني، ولمن سمّى فيه (6): [الطويل]
أجزت لهم أبقاهم الله كلّما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدّهر
__________
(1) ترجمة أبي الحجاج الساحلي في نفح الطيب (ج 3ص 20).
(2) هو كتاب «عائد الصلة» لابن الخطيب، والنص في نفح الطيب (ج 3ص 2120).
(3) في النفح: «صدر من صدور حملة».
(4) المراد قصر الحمراء بغرناطة.
(5) في النفح: «الأشياخ».
(6) الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 21).(4/347)
وما سمعت أذناي عن كلّ عالم ... وما جاد من نطمي وما راق من نثري (1)
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريّ من (2) التّصحيف عار من (3) النّكر
وجدّي رشيق شاع في الغرب ذكره ... وفي الشّرق أيضا فادر إن كنت لا تدري (4)
ولي مولد من بعد عشرين حجّة ... ثمان على السّتّ المئين (5) ابتدا عمري (6)
وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين (7) في العسر واليسر
حدّثني شيخنا أبو بكر بن الحكيم، قال: أصابتني حمّى، فلمّا انصرفت عني، تركت في شفتي بثورا علي، فزارني الفقيه أبو الحجاج السّاحلي، فأنشدني (8):
[السريع]
حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموما ضعيف القوى ... فإنّني أحسد حمّاكا
ما رضيت حمّاك إذ باشرت ... جسمك حتى قبّلت فاكا
مولده: عام سبعة وستين وستمائة (9).
وفاته: توفي، رحمه الله، بالحمراء العليّة، في السابع والعشرين لشهر رمضان من عام اثنين وخمسين وسبعمائة.
ومن الكتّاب والشعراء بين أصلي وغيره:
يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري (10)
يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الصّيرفي، من أهل غرناطة.
__________
(1) في الأصل: «نثر» والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «عن».
(3) في النفح: «عن».
(4) في الأصل: «تدر» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «المبين»، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «عمر»، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «الحالتين»، وهكذا ينكسر الوزن، وقد صوبناه من النفح.
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 21).
(9) في النفح: «ومولد أبي الحجاج المذكور سنة 662، وتوفي سنة 702».
(10) ترجمة ابن الصيرفي في التكملة (ج 4ص 173) والمغرب (ج 2ص 118) وبغية الوعاة (ص 416) والبيان المغرب (ج 4ص 91، 95) وجيش التوشيح (ص 120) وأعمال الأعلام (القسم الثالث ص 257) وهدية العارفين (ص 520) والأعلام للزركلي (ج 8ص 164).(4/348)
حاله: كان نسيج وحده في البلاغة والجزالة، والتّبريز في أسلوب التاريخ، والتملؤ من الأدب، والمعرفة باللغة والخبر. قال أبو القاسم (1): من أهل المعرفة بالأدب والعربية والفقه والتاريخ، ومن الكتاب المجيدين والشعراء المطبوعين المكثرين. كتب بغرناطة عن الأمير أبي محمد تاشفين (2)، وله فيه نظم حسن.
مشيخته: قرأ على شيوخ بلده، وأخذ عن العالم الحافظ أبي بكر بن العربي ونمطه.
تواليفه: ألّف في تاريخ الأندلس كتابا سماه «الأنوار الجلية، في أخبار الدولة المرابطيّة» ضمّنه العجاب إلى سنة ثلاثين وخمسمائة. ثم وصله إلى قرب وفاته، وكتابا آخر سمّاه «تقصّي الأنباء وسياسة الرؤساء».
شعره: قال: أنشدت الأمير تاشفين في هلاك ابن رذمير: [البسيط]
أشكو الغليل بحيث المشرب الخضر ... حسبي وإلّا فورد ما له صدر
تجهّمت لي وجوه الصبر منكرة ... ولا حظتني عيون حشوها حذر
إني لأجزع من ذاك الوعيد وفي ... ملقى الأسنّة منّا معشر صبروا (3)
فلّت سلاحي الليالي أيّ ظالمة ... ولو أعادت شبابي كنت أنتصر
مشيّعا كنت ما استصحبت من أمل ... كما يشيّع سهم النّازع الوتر
فها أنا وعزيز في نامسة ... تسود في عينه الأوضاح والغرر
يا حيّ عذرة، فتياكم بنازلة ... لم تنفصل يمن عنها ولا مضر
ما الحكم عندكم إذ نحن في حرم ... على جناية رام سهمه النّظر
أرعاني الشّهب في أحشاء ليلتها ... حمل من الصّبح أرجوه وأنتظر
يفترّ عن برد من حوله لهب ... أو عن نبات أقاح أرضه سقر
وبين أجفانه نهيف الأمير أبي ... محمد تاشفين أو هو القدر
سيف به ثلّ عرش الروم واطّادت ... قواعد الملك واستولى به الظّفر
وأدرك الدين بالثّأر المنيم على ... رغم وجاءت صروف الدهر تعتذر
منى تنال وأيام مفضّضة ... مذهبات العشايا ليلها سحر
__________
(1) قارن ببغية الوعاة (ص 416).
(2) هو الأمير أبو محمد تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي، حكم الأندلس سنة 537هـ. وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.
(3) في الأصل: «صبر».(4/349)
وفي الذّؤابة من صنهاجة ملك ... أغرّ أبلج يستسقى به المطر
مؤيد من أمير المسلمين له هوى ... ورأي ومن سير له سير
أنحى على الجور يمحو رسم أحرفه ... حتى استجار بأحداق المهى الحور
يا تاشفين، أما تنفكّ بادرة ... من راحتيك المنايا الحمر تبتدر؟
وكم ترنّح في روض جداوله ... بيض السيوف وملتفّ للقنا شجر
هي التّرايك فوق الهام لا حبب ... والسّابغات على الأعطاف لا القدر
لك الكتائب ملء البيد غازية ... إذا أتت زمر منها مضت زمر
على ساكبها للنّقع أردية من ... تحتها جلّق من تحتها زبر
تدبّ منها إلى الأعداء سابلة ... عقارب ما لها إلّا القنا إبر
بعثتها أسدا شتّى إذا مرجت ... جنّ الوغا انقضّ منها أنجم زهر
يا أيها الملك الأعلى الذي سجدت ... لسيفه الهام في الهيجاء والقصر
أعر حرار ضلوعي برد ما نهلت ... خيل الزّبير ونار الحرب تستعر
حيث الغبار دخان والظّبا لهب ... والأسنّة في هام العدا شرر
والنّقع يطفو وبيض الهند راسية ... إن الصواعق يوم الغيم تنكدر
أعطى الزبير فتى العلياء صارمه ... لكن بسعدك ما لم يعطه عمر
ولّته أظهرها الأبطال خاضعة ... تكبو وتصفعها الهنديّة البتر
بحر من الخلق المسرود ملتطم ... يسيل من كل سيف نحوه نصر
أمّ ابن الزبير ابن رذمير بداهية ... عضّت ومسّك من أظفاره ظفر
لقد نفحت من التّيجان في محم ... وأين من فتكات الضّيغم النّمر؟
لقد نجوت طليق الركض في وهن ... من الأسنّة حتى جاءك القدر
خلعت درعا واعتضت الظّلام بها ... وخاض بحر الوغا مركوبك الخطر
ومنها:
ما بال إنجيلك المتروك ما ذمرت ... نفوس قومك منه الآي والسّور
أهديتها غير مشكور مضمّرة ... ملء الأعنّة منها الزّهو والأسر
وظلّ طفل من البولاد دانية ... سمراء (1) ترضعه اللبّات والثّغر
__________
(1) في الأصل: «سمرا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/350)
وعابس للمنايا (1) وهي ضاحكة ... من خدّه بثغور زانها أشر
وكل حارسة في الرّوع لابسها ... منسوجة من عيون ما لها نظر
أعدت للحرب إنذارا سخوت بها ... على الرّجال التي منها لها وزر
قضتك من حمير صيد غطارفة ... فضّ الرجاحة عوص الدهر ينحبر
ملثّمون حياء كلّما سفرت لهم ... وجوه المنايا في الوغا سفروا
جادوا بطعن كأسماع المحاص ... إلى ضرب كما فغرت أفواهها الحمر
وحدت عنها محيّا مروّعة ... فضت بما مجّ في أحشائك الذّعر
فرّت إلى حتفها من حتفها فمضت ... والموت يطردها والموت ينتظر
قالوا: نجا بذماء (2) النّفس منك فما ... نجا وقد بقرته الحيّة الذّكر
توزّعت نفسا على حشيّتها ... من (3) للوساوس يحدو جيشها السّهر؟
نصر عزيز وفتح ليس يعدله ... فتح ولله فيه الحمد والشكر
فاهنأ به ابن أمير المسلمين ودم ... للملك ما قامت الآصال والبكر
واهنأ بعيدك وافخر شانئيك به ... فإنّها نسك الأسياف لا الجزر
جاورت بحرك تغشاني مواهبه ... فمن بذاك ونظمي هذه الدّرر
وأنشد أيضا من شعره قوله، رحمة الله عليه: [الخفيف]
ركبت خيلها جيوش الضّلال ... وسرت من رماحها بذبال
ملقيات دروعها لا لوقت ... فيه تنضو الجلود رقش الصّلال
حثّ في إثرها الأمير بعقبا ... ن جياد هوت بأسد رجال
في صقيل البريك تحدث للشم ... س بعكس الشّعاع حمّى اشتعال
لاث بالريح عمّة من غبار ... ومشى للحديد في أذيال
كلّما جرّها على الصّلد أبقت ... كخطوط الصّلال فوق الرمال
لبست أمرها على الرّوم حتى ... فجئتها كعادة الآجال
أبدلت هامها قصار قدود ... بطوال من الرّماح الطوال
والذي فرّ عن سيوفك أودى ... بقنا الرّعب في ثنايا الجبال
كنت فيها وأنت في كل حرب ... مغمد النّصل في طلى الأبطال
__________
(1) في الأصل: «وعابس المنايا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «بذما»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «طنبا»، وكذا ينكسر الوزن.(4/351)
يطلع البدر منك حاجب شمس ... ويرى الليث في إهاب هلال
يا لصنهاجة وحولك منهم ... خير جيش عليهم خير وال
ملك ليس يركب الدهر إلّا ... كلّ عالي الركاب عالي القذال
ما عرا الجدب أو علاه (1) الخطب ... سال غيثا ولاح بدر كمال
وحفيف على أمور خفاف ... وثقيل على أمور ثقال
لاعب المعطفين بالحمد زهوا ... شيمة الرّمح هزّة في اعتدال
مسترقّ النفوس خوفا وحسنا ... إنما السيف هيبة في جمال
شيم كالغمام ينشر في الرو ... ض بأندابه صغار اللّآل
وسجايا تفتّحت زهرات ... وخلال تسدّ كل اختلال
أنت يا تاشفين والله واق ... لك شخص العلا ونفس الكمال
ليس آمال من على الأرض إلّا ... أن ترى وأنت غاية الآمال
وهنيّا بأن نهضت وأقبل ... ت عزيز النّهوض والإقبال
وعلى الكفر منك حرّ مجير ... وعلى الدّين منك برد ظلال
يا فتى والزمان نعمى وبؤس ... شرّ حال أفضت إلى خير حال
وبما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال
ربّ أشياء ليس يبلغ منها ... كنه ما في النّفوس بالأقوال
غير أن الكلام إن جلّ قدرا ... وعلا كنت فوقه في الفعال
ومن شعره، وقد بيّت العدوّ محلّة الأمير تاشفين، ويذكر حسن ثباته، وقد أسلمه قومه، وهي من القصائد المفيدة، المبدية في الإحسان المعيدة (2): [الكامل]
يا أيها الملك (3) الذي يتقنّع (4) ... من منكم البطل الهمام الأروع (5)؟
__________
(1) في الأصل: «علا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) وردت هذه القصيدة في الحلل الموشية (ص 9693)، وقال صاحب الحلل الموشية إن الفقيه الكاتب أبا زكريا بن العربي هو الذي هنّأ تاشفين بالسلامة بهذه القصيدة العينية. وجاء في البيان المغرب (ج 4ص 91) أن أبا بكر يحيى بن يوسف الأنصاري، المعروف بابن الصيرفي، هو الذي قال في تاشفين، عندما استقرّ بقرطبة، قصيدة طويلة ذكر فيها بلاءه في الحروب، وذكر فقط بعضا من مطلع القصيدة وهو: «كم يبكي الهمام الأروع». والقصيدة وردت أيضا في جيش التوشيح (ص 255252).
(3) في جيش التوشيح: «الملأ».
(4) في الحلل الموشية: «يتوقّع».
(5) في الحلل الموشية وجيش التوشيح: «الأورع».(4/352)
ومن الذي غدر العدوّ به دجى ... فانفضّ كلّ وهو لا يتزعزع؟
تمضي الفوارس والطعان يصدّها ... عنه ويزجرها (1) الوفاء فترجع
والليل من وضح التّرائك والظّبا (2) ... صبح على هام الكماة ممنّع (3)
عن أربعين ثنت أعنّتها دجى ... ألفان ألف حاسر ومقنّع
لولا رجال كالجبال تعرّضت ... ما كان ذاك السيل مما يردع (4)
يتقحّمون على الرماح كأنهم ... إبل (5) عطاش والأسنة تكرع (6)
ومن الدّجى لهم (7) على قمم الرّبى ... وذؤابة بين الظّبا تتقطّع
نصرت ظلام الكفر ظلمة ليلة ... لم يدر فيها الفجر أين المطلع (8)
لولا ثبوتك تاشفين لغادرت ... أخرى الليالي وهيبة لا ترقع
فثبتّ والأقدام تزلق والرّدى (9) ... حول السّرادق والأسنّة تقرع
لا تعظمنّ (10) على الأمير فإنها ... خدع الحروب وكل حرب تخدع (11)
ولكل يوم حنكة وتمرّس ... وتجارب في مثل نفسك تنجع
يا أشجع الشجعان (12) ليلة أمسه ... اليوم (13) أنت على التجارب أشجع
أهديك من أدب الوغا حكما بها ... كانت ملوك الحرب مثلك تولع
لا أنّني أدرى بها لكنها ... ذكرى تخصّ المؤمنين وتنفع
اختر من الخلق المضاعفة التي ... وصّى بها صنع السّوابغ تبّع (14)
__________
(1) في الحلل الموشية: «ويدمرها». وفي جيش التوشيح: «ويدعوها».
(2) في الحلل: «والليل مرضج الترايك بينهم». وفي جيش التوشيح: «بينهم» بدل «والظّبا».
(3) في المصدرين: «ملمّع».
(4) في الحلل: «يودّع».
(5) في الحلل: «أبطل».
(6) في المصدرين: «مكرع».
(7) في الجيش: «لمم».
(8) هذا البيت والبيت التالي ساقطان في المصدرين.
(9) في الجيش: «بالردى».
(10) في الحلل: «لا يعظمن». وفي الجيش: «ولا يعظمن» وهكذا ينكسر الوزن.
(11) في الحلل: «يخدع».
(12) في المصدرين: «الأبطال».
(13) في الجيش: «واليوم».
(14) هذا البيت والأبيات الخمسة التالية ساقطة في المصدرين. ومعنى هذا البيت أخذه من قول أبي ذويب الهذلي [الكامل]:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود، أو صنع السّوابغ تبّع
وتبّع: هو تبّع الحميري الذي اشتهر بصناعة الدروع. راجع ديوان ابن الحداد الأندلسي (ص 192).(4/353)
والهند وانى للرفيق (1) فإنه ... أمضى على حلق الدلاص وأقطع
ومن الرواجل ما إذا زعزعته ... أعطاك هزّة معطفيه الأشجع
ومن الجياد الجرد كلّ مضمّر ... تشجى بأربعه الرياح الأربع
والصّمّة البطل الذي لا يلتوي ... منه الصّليب ولا يلين الأخدع
وكذاك قدر في العدو حزامة ... فالنّبع بالنّبع المثقّف يقرع
خندق عليك إذا اضطربت (2) محلّة ... سيّان تتبع ظافرا (3) أو تتبع
واجعل ببابك في الثّقات ومن له ... قلب على هول الحروب مشيّع (4)
وتوقّ من كذب الطلائع إنّه ... لا رأي للمكذوب (5) فيما (6) يصنع
فإذا احترست بذاك لم يك للعدا ... في فرصة أو في انتهاز مطمع
حارب بمن يخشى (7) عقابك بالذي ... يخشى (8) ومن في جود كفّك يطمع
قبل التّناوش عبّ جيشك مفحصا (9) ... حيث التمكّن والمجال الأوسع
إياك تعبئة الجيوش مضيّقا ... والخيل تفحص بالرجال وتمرع (10)
حصّن حواشيها وكن في قلبها ... واجعل أمامك منهم من يشجع
والبس لبوسا لا يكون مشهّرا ... فيكون نحوك للعدوّ تطلّع
واحتل لتوقع في مضايقة الوغى ... خدعا ترويها وأنت موسّع (11)
واحذر كمين الرّوم عند لقائها ... واخفض (12) كمينك خلفها إذ تدفع
لا تبقين (13) النهر خلفك عندما ... تلقى العدوّ فأمره (14) متوقّع
واجعل (15) مناجزة العدوّ عشيّة ... ووراءك (16) الصدف (17) الذي هو أمنع
__________
(1) في الأصل: «الرفيق» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الجيش: «ضربت».
(3) في المصدرين: «ظاهرا».
(4) هذا البيت ساقط في المصدرين.
(5) في الحلل الموشية: «للكذاب».
(6) في الأصل: «فيها» والتصويب من المصدرين.
(7) في الحلل: «تخشى».
(8) في الحلل: «تخشى».
(9) في الحلل: «مفصحا». وفي الجيش: «مفسحا».
(10) في الجيش: «وتمزع».
(11) في الجيش: «واخل التوقع في مدافعة توقّ بها وأنت».
(12) في الأصل: «واقض» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(13) في الحلل: «لا تلقين».
(14) في جيش التوشيح: «فشرّه».
(15) في الحلل: «اجعل».
(16) في الأصل: «ووراء»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(17) في جيش التوشيح: «الهدف».(4/354)
واصدمه أول وهلة لا ترتدع ... بعد التقدم فالنّكول (1) يضعضع
وإذا تكاثفت (2) الرجال بمعرك ... ضنك فأطراف الرّماح توسع
حتى إذا استعصت (3) عليك ولم يكن ... إلّا شماس دائم وتمنّع
ورأيت نار الحرب تضرم بالظّبا ... ودخانها (4) فوق الأسنّة يسطع (5)
ومضت تؤذّن بالصّميل جيادها ... والهام تسجد والصّوارم تركع (6)
والرمح يثني معطفيه كأنه ... في الرّاح لا علق الفوارس يكرع
والريح تنشأ سجسجا هفّافة ... وهي السّكينة عن يمينك توضع
أقص (7) الكمين على العدوّ فإنه ... يعطيك من أكتافه ما يمنع
وإذا هزمت عداك فاحذر كرّها ... واضرب وجوه كماتها إذ ترجع
وهي الحروب قوى النّفوس وحزبها ... من قوّة الأبدان فيها أنفع
ثم انتهض بجميع من (8) أحمدته (9) ... حتى يكون لك المحلّ الأرفع
وبذاك (10) تعتب إن تولّت عصبة ... كانت ترفّه للوغى (11) وترفّع
من معشر إعراض وجهك عنهم ... فعل الجميل وسخطك المتوقّع
يكبو (12) الجواد وكل حبر (13) عالم ... يهفو وتنبو المرهفات القطّع
أنّى قرعتم (14) يا بني صنهاجة ... وإليكم في الرّوع كان المفزع؟
ما أنتم إلّا أسود خفيّة (15) ... كلّ بكلّ عظيمة تستطلع (16)
__________
(1) في الحلل: «فالنكوس تضعضع». وفي الجيش: «فالنكوص».
(2) في الحلل: «تكنّفت». وفي الجيش: «تكنّفه».
(3) في الحلل: «صعبت».
(4) في المصدرين: «ودخانه».
(5) في الجيش: «فوق الدجنّة يطلع».
(6) هذا البيت والأبيات الخمسة التالية ساقطة في المصدرين.
(7) في الأصل: «أقصر» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الحلل: «ما».
(9) في الجيش: «ثم اتّئد بجميع من أحملته».
(10) في الحلل: «إياك». وفي الجيش: «ونراك».
(11) في الأصل: «الوغى»، وهكذا ينكسر الوزن. وفي الحلل: «توفه للوعاد وتدفع». وفي الجيش:
«ترفع للدعاء وترفع».
(12) في المصدرين: «تكبو الجياد».
(13) في الجيش: «حرّ».
(14) في الحلل: «فزعتم». وفي الجيش: «نزعتم».
(15) في الجيش: «حقيقة».
(16) في الحلل: «مستطلع». وفي الجيش: «يتطلع».(4/355)
ما بال سيدكم تورّط (1)؟ لم يكن ... لكم التفات نحوه وتجمّع
إنسان عين لم يصبه (2) منكم ... جفن وقلب أسلمته الأضلع
تلك التي جرّت عليكم خطّة ... شنعاء وهي على رجال أشنع
أو ما ليوسف جدّه منن (3) على ... كلّ وفضل سابق لا يدفع (4)؟
أو ما لوالده عليّ (5) نعمة ... وبكل جيد ربقة لا تخلع؟
ولكم بمجلس تاشفين كرامة ... وشفيعكم فيما يشاء مشفّع
ألا رعيتم ذاك وأحسابكم ... وأنفتم من قالة تستشنع
أبطأتم عن تاشفين ولم يزل ... إحسانه لجميعكم (6) يتسرّع
ردّت مكارمه لكم وتوطّأت ... أكنافه إنّ الكريم سميدع
خاف العدى لكن عليكم مشفقا (7) ... فهجعتم (8) وجفونه لا تهجع
ومن العجائب أنه مع (9) سنّه ... أدرى وأشهر (10) في الخطوب (11) وأضلع
ولقد (12) عفا والعفو منه سجيّة ... ولسطوة لو شاء فيكم موضع
يا تاشفين، أقم (13) لجيشك عذره ... فالليل (14) والقدر الذي لا يدفع
هجم العدوّ دجى فروّع مقبلا ... ومضى يهينم (15) وهو منك مروّع
لا يزدهي إلّا سواك بها ولا ... إلّا لغيرك بالسّنان يقنّع (16)
لمّا سددت له الثّنيّة لم يكن ... إلّا على ظهر المنيّة مهيع
وكذاك للعيرات (17) إقدام على ... أسد العرين الورد ممّا يجزع
__________
(1) في الحلل: «تظلّم».
(2) في الحلل: «لم تصبه منكم جفر». وفي الجيش: «لم يصنه».
(3) في المصدرين: «منّ».
(4) في الأصل: «يرفع» والتصويب من المصدرين.
(5) في الجيش: «عليكم».
(6) في الحلل: «بجميعكم».
(7) في الحلل: «مشفق».
(8) في الجيش: «بحقوقكم».
(9) في الجيش: «من».
(10) في المصدرين: «وأشهم».
(11) في الحلل: «في الحرب».
(12) في الحلل: «وعفا».
(13) في الجيش: «لهم بجيشك غدرة».
(14) في المصدرين: «بالليل».
(15) في الأصل: «يهيم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(16) في الأصل: «يقنقع»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(17) في الأصل: «للعير»، وهكذا ينكسر الوزن. والعيرات: جمع عير وهي القافلة أو الإبل تحمل الميرة. محيط المحيط (عير).(4/356)
ولقد تقفّاها الزبير وقد نجت ... إلّا فلولا إنّ (1) منه المصرع
وغدا يعاقب والنفوس حميّة ... والسّمر هيم والصّوارم جوّع
أعطش سلاحك ثم أوردها الوغا ... كيما يلذّ لها ويصفو المشرع
كم وقعة لك في ديارهم انثنت ... عنها أعزّتها تذلّ وتخضع
النّعمة العظمى سلامتك التي ... فيها من الظّفر الرّضى والمقنع
لا ضيّع الرحمن سعيك إنه ... سعي به الإسلام ليس يضيّع
نستحفظ (2) الرحمن منك وديعة ... فهو الحفيظ لكلّ ما يستودع
وفاته: بغرناطة في حدود السبعين وخمسمائة (3).
ومن ترجمة الشعراء من السفر الأخير وهو الثاني عشر المفتتح بالترجمة بعد
يحيى بن محمد بن أحمد بن عبد السلام التطيلي الهذلي (4)
أصله من تطيلة، وهو غرناطي، يكنى أبا بكر.
حاله: قال أبو القاسم الملّاحي: أديب (5) زمانه، وواحد أقرانه، سيال القريحة، بارع الأدب، رائق الشعر، علم في النحو واللغة والتاريخ والعروض وأخبار الأمم، لحق بالفحول المتقدّمين، وأعجزت براعته براعة (6) المتأخرين، وشعره مدوّن، جرى (7) في ذلك كلّه طلق الجموح. ثم انقبض وعكف على قراءة القرآن، وقيام الليل، وسرد الصوم، وصنع (8) المعشّرات في شرف النبيّ عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) في الأصل: «وإنّ»، وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الحلل: «نستودع».
(3) في التكملة (ج 4ص 173): توفي بأريولة من أعمال مرسية سنة 557هـ، وهو ابن تسعين سنة أو نحوها. وفي بغية الوعاة (ص 416): «مات في حدود السبعين وخمسمائة، أو قبل ذلك عن سنّ عالية».
(4) ترجمة يحيى بن محمد الهذلي في التكملة (ج 4ص 188) وبغية الوعاة (ص 412). وجاء في التكملة أنه «يحيى بن عبد الله بن محمد بن عبد السلام الهذلي». وجاء في بغية الوعاة:
«يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد السلام التطيلي الأصل الغرناطي».
(5) قارن ببغية الوعاة (ص 413412).
(6) كلمة «براعة» ساقطة في بغية الوعاة.
(7) في البغية: «جريء».
(8) في البغية: «والنظم في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم، والزهد وأمور الآخرة».(4/357)
وأشعاره كثيرة، من الزهد والتذكير للآخرة، والتّجريد من الدنيا، حتى جمع له من ذلك ديوان كبير.
شعره: من ذلك قوله من قصيدة: [الطويل]
أذوب حياء إن تذكّرت زلّتي ... وحلمك حتى ما أقلّ نواظري
وأسكت مغلوبا وأطرق خجلة ... على مثل أطراف القنا والتّواتر
تعود بصفح إثر صفح تكرّما ... على الذنب بعد الذنب يا خير غافر
وتلحظني بالعفو أثناء زلّتي ... وتنظر مني في خلال جرائر
وحقّ هواك المستكنّ بأضلعي ... وما لك عندي من خفيّ ضمائر
لما قمت بالمعشار من عشر عشرة ... ولو جئت فيه بالنجوم الزّواهر
فيا أيها المولى الصّفوح ومن به ... تنوء احتمالاتي بأعباء شاكر
أنلني من برد اليقين صبابة ... ألفّ بها حدّ الهوى والهواجر
وخلت الدّجى عذرا أهاب (1) سرى العدا ... إليّ تغطّيني بسود الغدائر
وخافت على عيني من السّهد والبكا ... فذرّت بقايا الكحل من جفن ساهر
وقال رادّا على ابن رشد حين ردّ على أبي حامد في كتابه المسمى «تهافت التهافت»: [الطويل]
كلام ابن رشد لا يبين رشاده ... هو اللّيل يعشى الناظرين سواده
ولا سيما نقض التهافت إنه ... تضمّن برساما يعزّ اعتقاده
كما اطّرد (2) المحموم في هذيانه ... يفوه بما يملي عليه احتداده
أتى فيه بالبهت الصّريح مغالطا ... فما غيّر البحر الخضمّ ثماده
وحاول إخفاء الغزالة بالسّها ... فأخفق مسعاه وردّ اعتقاده
دلائل تعطيك النّقيضين بالسّوى ... وأكثر ما لا يستحيل عناده
إذا أوضح المطلوب منها وضدّه ... يبين على قرب وبان انفراده
وأنت بعيد الفكر عن ترّهاته ... فمعظمها رأي يقلّ سداده
__________
(1) في الأصل: «هابت»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «لطرد»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/358)
ومن شعره (1):
إليك بسطت الكفّ في فحمة الدجى ... نداء (2) غريق في الذنوب عريق
رجاك ضميري كي تخلّص جملتي ... فكم من فريق شافع لفريق
مشيخته: أخذ عن أبيه أبي عبد الله، وحدّث عن الأستاذ أبي الحسن جابر بن محمد التميمي، وعن الأستاذ المقرئ ببلنسية أبي محمد عبد الله بن سعدون التميمي الضرير، عن أبي داود المقرئ. وقرأ أيضا على الخطيب أبي عبد الله محمد بن عروس، وعلى القاضي العالم أبي الوليد بن رشد.
مولده: فجر يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لمحرم تسعة وخمسين وخمسمائة.
وفاته: بغرناظة عام تسعة وعشرين وستمائة.
يحيى بن بقي (3)
من أهل وادي آش (4).
حاله: بارع الأدب، سيّال القريحة، كثير الشعر جيّده في جميع أنواعه. وكان مع ذلك موصوفا بغفلة.
شعره (5): [الكامل]
بأبي غزال غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطّي بارق
__________
(1) البيتان في بغية الوعاة (ص 413).
(2) في البغية: «فداء».
(3) يكنى أبا بكر، وقد اختلف في اسم أبيه، وترجمته في الذخيرة (ق 2ص 615) وقلائد العقيان (ص 278) ومعجم الأدباء (ج 5ص 626) والتكملة (ج 4ص 171) والمغرب (ج 2ص 19) وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 130) والمطرب (ص 198) والفلاكة والمفلوكون (ص 134) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 137) وأخبار وتراجم أندلسية (ص 50) وجيش التوشيح (ص 2) ودار الطراز (ص 196) وأزهار الرياض (ج 2ص 208) ونفح الطيب (ج 2ص 17) و (ج 6ص 14) ووفيات الأعيان (ج 5ص 167) ومعجم السفر (ص 151).
(4) كما اختلف في اسم أبيه، اختلف في البلد الذي هو منه ففي الذخيرة والمغرب: طليطلي.
وفي معجم الأدباء ووفيات الأعيان: قرطبي. وفي التكملة: من أهل فرتش من أحواز شقورة.
وفي المطرب: من شعراء الجزيرة. وفي معجم السفر وأخبار وتراجم أندلسية: سرقسطي. وفي المقتضب من كتاب تحفة القادم: إشبيلي.
(5) القصيدة في وفيات الأعيان (ج 5ص 168) ومعجم الأدباء (ج 5ص 627) والمطرب (ص 198) والمغرب (ج 2ص 21) وقلائد العقيان (ص 278) والمقتضب (ص 137) والذخيرة (ق 2ص 636) والفلاكة (ص 135) ونفح الطيب (ج 4ص 184) و (ج 6ص 15).(4/359)
وسألت منه قبلة (1) تشفي الجوى ... فأجابني (2) عنها (3) بوعد صادق
وأتيت منزله وقد هجع العدا ... أسري إليه كالخيال الطّارق
بتنا ونحن من الدّجى في لجّة (4) ... ومن النجوم الزّهر تحت سرادق
عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء (5) كالمسك العتيق (6) لناشق
حتى إذا مالت (7) به سنة الكرى ... باعدته (8) شيئا (9) وكان معانقي
أبعدته (10) من أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق
وضممته ضمّ الكميّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي
لمّا رأيت الليل ولّى (11) عمره ... قد شاب في لمم له ومفارق
ودّعت من أهوى وقلت تأسّفا (12): ... أعزز عليّ بأن أراك مفارقي
وفاته: توفي بمدينة وادي آش سنة أربعين وخمسمائة (13).
يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر (14) الفهري
فرتشي (15)، وقال صفوان: إنه بلّشي (16)، يكنى أبا بكر.
__________
(1) في وفيات الأعيان: «زيارة».
(2) في الأصل: «فأجاب»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من وفيات الأعيان.
(3) في وفيات الأعيان: «منها».
(4) في المصدر نفسه: «خيمة».
(5) في الأصل: «صبا»، والتصويب من المصادر.
(6) في وفيات الأعيان والمطرب والنفح: «الفتيق». وفي الذخيرة: «الذكيّ».
(7) في الأصل: «حتى إذا ما مالت»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(8) في وفيات الأعيان والقلائد والفلاكة والمطرب والنفح: «زحزحته».
(9) في وفيات الأعيان: «عين». وفي المطرب: «رفقا».
(10) في المغرب والمطرب والفلاكة: «باعدته عن». وفي الذخيرة: «زحزحته عن».
(11) في وفيات الأعيان: «آخر».
(12) في معجم الأدباء: «مشيّعا».
(13) في التكملة: «توفي سنة خمس وأربعين وخمسمائة».
(14) في الأصل: «ابن مجير» بالياء المثناة، وقد صوّبناه كما جاء في المصادر التي ترجمت له وهي:
بغية الملتمس (ص 508) والتكملة (ج 4ص 183) ووفيات الأعيان (ج 5ص 380) وزاد المسافر (ص 9) وفوات الوفيات (ج 4ص 275) والبيان المغرب قسم الموحدين (ص 192، 200، 203) ونفح الطيب (ج 4ص 109) و (ج 5ص 300) و (ج 6ص 106، 148). وفي الحلل الموشية (ص 109) وكشف الظنون (ص 868): «ابن مجير» بالياء المثناة.
(15) في الأصل: «فرنشي»، والتصويب من التكملة. وفرتشي: نسبة إلى فرتش وهي من أحواز شقورة.
(16) في الأصل: «بليي»، والتصويب من زاد المسافر والتكملة. وبلّشي: نسبة إلى بلّش.(4/360)
حاله: قال ابن عبد الملك: كان (1) في وقته شاعر المغرب، لم يكن يجري أحد مجراه من فحول الشعراء. يعترف له بذلك أكابر الأدباء، وتشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالا، وبعدت على قربها منالا. وشعره كثير مدوّن، ويشتمل على أكثر من سبعة (2) آلاف بيت وأربعمائة بيت. امتدح الأمراء والرؤساء، وكتب عن بعضهم، وحظي عندهم حظوة تامة، واتصل بالأمير أبي عبد الله بن سعد (3)، وله فيه أمداح كثيرة. وبعد موته انتقل إلى إشبيلية، وبملازمته للأمير المذكور، وكونه في جملته، استحقّ الذكر فيمن حلّ بغرناطة. ومن أثرته لدى ملوك مراكش، أنه أنشد يوسف بن عبد المؤمن (4) يهنّئه بفتح من قصيدة (5): [الخفيف]
إنّ خير الفتوح ما جاء (6) عفوا ... مثل ما يخطب البليغ (7) ارتجالا
قالوا: وكان أبو العباس الجراوي الأعمى الشاعر حاضرا، فقطع عليه لحسادة وجدها، فقال: يا سيدنا، اهتدم فيه بيت ابن (8) وضّاح: [الرجز]
خير شراب ما جاء (9) عفوا ... كأنه خطبة ارتجالا (10)
فبدر المنصور، وهو حينئذ وزير أبيه، وسنّه في حدود العشرين من عمره، فقال: إن كان قد اهتدمه، فقد استحقّه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف، فسرّ أبوه لجوابه، وعجب منه الحاضرون.
ومرّ المنصور أيام إمرته بأونبة (11) من أرض شلب، ووقف على قبر أبي محمد بن حزم، وقال: عجبا لهذا الموضع، يخرج منه مثل هذا العالم. ثم قال: كلّ
__________
(1) قارن بنفح الطيب (ج 4ص 209).
(2) في النفح: «تسعة».
(3) هو محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش، أمير بلنسية وشرق الأندلس، توفي سنة 567هـ. وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(4) حكم يوسف بن عبد المؤمن الموحدي المغرب والأندلس، وتوفي سنة 558هـ. ولم يكن، هو ومن جاء بعده، ملوكا، بل خلفاء. ترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83) والحلل الموشية (ص 119).
(5) البيت في نفح الطيب (ج 4ص 209).
(6) في الأصل: «جاءت»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في النفح: «الخطيب».
(8) كلمة «ابن» ساقطة في النفح.
(9) في النفح: «كان».
(10) في الأصل: «ارتجال»، على أساس مضاف إلى «خطبة»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «بلوقية»، والتصويب من النفح. وأونبة: مدينة تبعد عن لبلة ستة فراسخ.
الروض المعطار (ص 63).(4/361)
العلماء عيال على ابن حزم. ثم رفع رأسه، وقال: كما أنّ الشعراء عيال عليك يا أبا بكر، يخاطب ابن مجير.
شعره: من شعره يصف الخيل العتاق من قصيدة في مدح المنصور (1):
[الطويل]
له خطّت (2) الخيل العتاق كأنها ... نشاوى تهادت (3) تطلب العزف (4) والقصفا
عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ... فلم تبغ خلخالا ولا التمست وقفا
فمن يقق (5) كالطّرس تحسب أنه ... وإن جرّدوه في ملاءته التفّا
وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصبح فاحتبس النّصفا
وورد تغشّى جلده شفق الدّجى ... فإذا حازه حلّى (6) له الذّيل والعرفا
وأشقر مجّ الراح صرفا أديمه ... وأصفر لم يسمح بها جلده صرفا
وأشهب فضّيّ الأديم مدنّر ... عليه خطوط غير مفهمة حرفا
كما خطر (7) الزاهي بمهرق كاتب ... يجرّ (8) عليه ذيله وهو ما جفّا (9)
تهبّ على الأعداء منها عواصف ... ستنسف (10) أرض المشركين بها نسفا
ترى كلّ طرف (11) كالغزال فتمتري ... أظبيا (12) ترى تحت العجاجة أم طرفا؟
وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربّته مهرا وهي تحسبه خشفا
تناوله لفظ الجواد لأنه ... متى (13) ما أردت الجري أعطاكه ضعفا
__________
(1) هو المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي، الذي حكم المغرب والأندلس من سنة 580هـ إلى سنة 595هـ. البيان المغرب. قسم الموحدين (ص 170). والقصيدة في نفح الطيب (ج 4 ص 210209).
(2) في النفح: «له حلبة الخيل».
(3) في النفح: «تهاوت».
(4) في الأصل: «العرف» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «يفق»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من النفح. واليقق: الشديد البياض.
(6) في النفح: «دلّى».
(7) في النفح: «خطّط».
(8) في النفح: «فجرّ».
(9) في الأصل: «جرفا»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(10) في الأصل: «تنسف»، وكذا لا يستقيم الوزن، والتصويب من النفح.
(11) الطّرف: الكريم من الخيل.
(12) في الأصل: «أطيبا» والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «على».(4/362)
ولمّا (1) اتخذ المنصور ستارة المقصورة بجامعه (2)، وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقرّ المنصور ووزراؤه بمصلّاه، واختفائها إذا انفصلوا عنها، أنشد في ذلك الشعراء، فقال ابن مجبر (3) من قصيدة أولها: [الكامل]
أعلمتني ألقي عصا التّسيار ... في بلدة ليست بدار قرار
ومنها في وصف المقصورة (4):
طورا تكون بمن حوته محيطة ... فكأنها سور من الأسوار
وتكون حينا (5) عنهم مخبوّة (6) ... فكأنها سرّ من الأسرار
وكأنما (7) علمت مقادير الورى ... فتصرّفت لهم على مقدار
فإذا أحسّت بالإمام (8) يزورها ... في قومه قامت إلى الزّوّار
ويكفي من شعر ابن مجبر هذا القدر العجيب، رحمه الله.
من روى عنه: حدّث عنه أبو بكر محمد بن محمد بن جمهور، وأبو الحسن بن الفضل، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو علي الشّلوبين، وأبو القاسم بن أحمد بن حسان، وأبو المتوكل الهيثم، وجماعة.
وفاته: توفي بمراكش سنة ثمان وثمانين وخمسمائة (9)، وسنّه ثلاث وخمسون سنة.
يوسف بن محمد بن محمد اليحصبي اللوشي، أبو عمر (10)
حاله: من كتاب ابن مسعدة (11): خطيب الإمامة السّعيدة النّصرية الغالبية، وصاحب قلمها الأعلى. كان شيخا جليلا، فقيها، بارع الكتابة، ماهر الخطّة، خطيبا
__________
(1) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 4ص 210).
(2) في النفح: «المنصور مقصورة الجامع بمراكش».
(3) قوله: «ابن مجبر» ساقط في الأصل، وقد أضفناه من النفح.
(4) الأبيات أيضا في الحلل الموشية (ص 109).
(5) في الحلل الموشية: «طورا».
(6) في النفح: «محبوّة».
(7) في النفح: «وكأنها».
(8) في الحلل الموشية: «بالأمير».
(9) في وفيات الأعيان: توفي سنة 587هـ. وفي التكملة: توفي سنة 588هـ، وقيل: 587هـ.
(10) كان يوسف بن محمد بن محمد اليحصبي كاتبا لسلطان الأندلس الغالب بالله أبي عبد الله محمد بن يوسف. اللمحة البدرية (ص 45).
(11) هو أحمد بن محمد بن سعيد بن مسعدة، المتوفى سنة 699هـ، وكتابه الذي يشير إليه ابن الخطيب ألّفه ابن مسعدة في تاريخ قومه وقرابته، كما في ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.(4/363)
مصقعا، منقطع القرين في عصره، منفردا عن النّظير في مصره، عزيزا، أنوفا، فاضلا، صالحا، خيّرا، شريف النفس، منقبضا، وقورا، صموتا، حسن المعاشرة، طيب المحادثة.
مشيخته: حدّث عن والده الشيخ الراوية أبي عبد الله، وعن الأستاذ ابن يربوع. ولقي بإشبيلية الأستاذ أبا الحسن الدبّاج، ورئيس النحاة أبا علي الشّلوبين، وغيرهما.
شعره: ومن شعره، وإن كان غير كثير، قوله: [الخفيف]
شرّد النوم عن جفونك وانظر ... كلمة توقظ النفوس النّياما
فحرام على امرئ يشاهد ... حكمة الله أن يلذّ المناما
وقوله: [الرمل]
ليس للمرء اختيار في الذي ... يتمنّى من حراك وسكون
إنّما الأمر لربّ واحد ... إن يشا (1) قال له: كن فيكون
وفاته: توفي في المحرم من عام ستين وستمائة، ودفن بمقبرة باب إلبيرة.
وحضر جنازته الخاصة والعامة، السلطان فمن دونه، وكلّ ترحّم عليه، وتفجّع له.
حدّثني حافده شيخنا، قال: أخرج الغالب بالله، يوم وفاته، جبّة له، لبسته مرفوعة، من ملفّ أبيض اللون، مخشوشنة، زعم أنها من قديم مكسبه من ثمن مغنم ناله، قبل تصيّر الملك إليه، أمر ببيعها، وتجهيزه من ثمنها، ففعل، وفي هذا ما لا ما مزيد عليه من الصّحة والسلامة، وجميل العهد، رحم الله جميعهم.
يوسف بن علي الطرطوشي، يكنى أبا الحجاج (2)
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، من أهل الفضل والتواضع، وحسن العشرة، مليح الدّعابة، عذب الفكاهة، مدلّا على الأدب جدّه وهزله، حسن الخط، سلس الكتابة، جيّد الشعر، له مشاركة في الفقه وقيام على الفرائض. كتب بالدار السلطانية، وامتدح الملوك بها، ثم توجّه إلى العدوة، فصحب خطة القضاء عمره، مشكور السيرة، محفوفا بالمبرّة.
__________
(1) في الأصل: «يشاء» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) ترجمة أبي الحجاج الطرطوشي في الدرر الكامنة (ج 5ص 242) ونفح الطيب (ج 8ص 399).(4/364)
وجرى ذكره في «الإكليل» بما نصّه (1): روض أدب لا تعرف الذّواء (2) أزهاره، ومجموع فضل لا تخفى آثاره، كان في فنون الأدب مطلق الأعنّة، وفي معاركه ماضي الظّبا والأسنّة. فإن هزل، وإلى تلك الطريقة اعتزل، أبرم من الغزل (3) ما غزل، وبذل من دنان راحته ما بذل (4). وإن صرف إلى المعرب (5) غرب (6) لسانه، وأعاره لمحة من إحسانه، أطاعه عاصيه، واستجمعت لديه أقاصيه. ورد على الحضرة الأندلسية والدنيا شابّة، وريح القبول هابّة، فاجتلى محاسن أوطانها، وكتب عن سلطانها. ثم كرّ إلى وطنه (7) وعطف، وأسرع اللحاق كالبارق إذا خطف. وتوفي عن سنّ عالية، وبرود من العمر بالية (8).
ومن شعره أيام حلوله بهذه البلاد، قوله يمدح الوزير ابن الحكيم، ويلمّ بذكر السّلم في أيامه: [البسيط]
رضاكم إن مننتم خير مرهوب ... وما سوى هجركم عندي بموهوب
لكم كما شئتم العتبى وعتبكم ... مقابل الرضى من غير تثريب
منوا بلحظ رضى لي ساعة فعسى ... أنال منه لدهري طبّ مطبوب
فكم أثارت لي الأيام وابتسمت ... ثغور سعدي بتقريب فتقريب
قد كنّ بيضا رعابيبا بقربكم ... والآن يوصفن بالسّود الغرابيب
آها لدهر تقضّى لي بباكم ... مرتّب للأماني أيّ ترتيب
ما كان إلّا كأحلام سررت بها ... فواصلت حال تقويض بتطنيب
يا ليت شعري هل تقضى بعودته ... فأقدر الحسن منه بعد تجريب؟
ومنها:
يا أيها السيد الأعلى الذي يده ... حازت ندى السّحب مسكوبا بمسكوب
فلو سألنا بلاد الله عن كرم ... فيها لكفّيه والأنواء منسوب
لقلن: إن كان جود لا يضاف لذي ال ... وزارتين فجود غير محسوب
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 399).
(2) في الأصل: «الدواة» والتصويب من النفح. والذّواء: الذبول. لسان العرب (ذوى).
(3) في الأصل: «في الغزال»، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «وبزل من دنان راحه ما بزل».
(5) في النفح: «المغرب».
(6) غرب اللسان: صرامته، وغرب السيف: حدّه. لسان العرب (غرب).
(7) في النفح: «أوطانه».
(8) في النفح: «غالية».(4/365)
فالعود جنس ولكن في إضافته ... للهند يختصّ عود الهند بالطّيب
من سيّد لا يوفّي الحمد واجبه ... ولو تواصل مكتوبا بمكتوب
له المحامد لا تحصى ولا عجب ... فرمل عالج (1) شيّ غير محسوب
تناول الشّرف الأقصى بعزمة ذي ... ظنّ نبيل الأماني غير مكذوب
وواصل المجد من آياته شرفا ... بمجده وصل أنبوب بأنبوب
وجاء مكتسبا أعلى ذخائره ... والمجد ما بين موروث ومكسوب
ردء الخليفة لا يرتاح من نصب ... في بذل نصح لحفظ قائم (2) منصوب
موفّق الرأي مأمون النّقيبة في ... تدبير ذي حنكة صحّت وتدريب
تهابه النفس إذ ترجوه من شرف ... فشأنه بين مرهوب ومرغوب
ومنها:
يا أوحد العصر في فضل وفي كرم ... خصال قاطع دهر (3) في التّجاريب
أعد فديت لأمري منعما نظرا ... ينل به همّ حالي بعض تشبيب
لولا ارتكاب حسود الأمر (4) في ضرري ... ما كان ظهر النّوى عندي بمركوب
هذا زماني ومنك الأمن حاربني ... حتى أراني في حالات محروب
فامنن بتفريج كربي بالرضا فإذا ... رضيت لم أك من شيء بمكروب
إن لم أذق من رضاكم ما ألذّ به ... فلا حياة بمأكول ومشروب
ومن شعره: [المتقارب]
بذكرك تشرح آي العلا ... وتسند أخباره في الصحيح
بأفقك يشرق بدر السّنا ... وباسمك يحسن نظم المديح
وما يحسن العقد إلّا إذا ... تحلّت به ذات وجه مليح
وفاته: كان حيّا عام أحد وأربعين وسبعمائة.
__________
(1) عالج: موضع سمّي بذلك تشبيها به بالبعير العالج، وهو رملة بالبادية مسمّاة بهذا الاسم. معجم البلدان (ج 4ص 69).
(2) كلمة «قائم» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «دهره»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «حسودي لأمر»، وكذا يختل الوزن والمعنى معا.(4/366)
ومن ترجمة المحدّثين والفقهاء وسائر الطلبة النجباء:
يحيى بن محمد بن عبد العزيز بن علي الأنصاري
يكنى أبا بكر، ويعرف بالعشّاب، ويعرف بالبرشاني (1).
حاله: كان هذا الشيخ من أهل الخير، كثير التؤدة والصمت، معرضا عمّا لا يعنيه. رحل إلى الحج، وأقام هنالك سنين، وقفل منها فخطب بأرجبة (2). وأخذ ببلاد المشرق عن قطب الدين القسطلانيّ، وأبي الفضل ابن خطيب المري، وزين الدين أبي بكر محمد بن إسماعيل الأنماطي. ولقي أبا علي بن الأحوص بالأندلس ولم يأخذ عنه. أنشدني شيخنا أبو البركات، قال: أنشدني الشيخ أبو بكر البرشاني، وقد لقيته بأرجبة، قال: أنشدنا الإمام أبو عبد الله بن النعمان عن قطب الدين:
[الطويل]
إذا كان أنسي في لزومي وحدتي ... وقلبي من كلّ البريّة خال
فما ضرّني من كان للدّهر (3) قاليا ... وما سرّني من كان فيّ موال
ومن العمال
يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان بن يوسف ابن رضوان بن يوسف بن رضوان بن محمد بن خير بن أسامة الأنصاري النّجاري
قال القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن ممليه: والذي رفع إليّ هذا النسب للركانة هو صاحبنا الفقيه أبو القاسم ولده، ورفع هذا النسب بحاله من التكرار دليل على أصالته.
حاله: من أهل الخير والخصوصية، وحسن الرّواء والوقار والحياء والمودّة.
نبيه القدر، معروف الأمانة، صدر في أهل العقد والحل ببلده، بيته بيت صون وخير واستعمال، ولو لم يكن من بركات هذا الرجل وآثار فضله إلّا ابنه صدر الفضلاء وبقية
__________
(1) البرشاني: نسبة إلى برشانة، وهي من مدن ألمرية.
(2) أرجبة: بالإسبانية، وهي من مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 53).
(3) في الأصل: «لي الدّهر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(4/367)
الخواص أبو القاسم لكفاه. تولّى قيادة الديوان بمالقة بلده، أرفع الخطط الشرعية العملية، فحمدت سيرته.
وفاته: وفاته بمالقة في (1) وعلى قبره مكتوب من نظم ولده: [الطويل]
إلاهي، خدّي في التراب تذلّلا ... بسطت، عسى رحماك يحيا بها الروح
وجاوزت أجداث الممالك خاضعا ... وقلبي مصدوع ودمعي مسفوح
ووجّهت وجهي نحو جودك ضارعا ... لعلّ الرضى من جنب حلمك ممنوح
أتيت فقيرا والذنوب تؤدني ... وفي القلب من خوف الجرائم تبريح
ولم أعتمد إلّا الرّجاء (2) وسيلة ... وإخلاص إيمان به الصّدر مشروح
وأنت غنيّ عن عذابي وعالم ... بفقري وباب العفو عندك مفتوح
فهب لي عفوا من لدنك ورحمة ... يكون بها من ربقة الذنب تسريح
وصلّ على المختار ما همع الحيا ... وما طلعت شمس وما هبّت الريح
ومن ترجمة الزهاد والصلحاء
يحيى بن إبراهيم بن يحيى البرغواطي (3)
من أهل أنفا، من بيت عمال يعرفون ببني التّرجمان، أولي شهرة وشدّة على الناس وضغط. وكان من الحظوة وضدّها بباب سلطانهم ديدن الجباة. غرّب (4) عنهم وانقطع إلى لقاء الصالحين وصحبة الفقراء المتجرّدين، وقدم على الأندلس عابدا، كثير العمل، على حداثة سنّه، ونزل برباط السّودان، من خارج مالقة، واشتهر، وانثال عليه الناس. ثم راض طول ذلك الاجتهاد، وأنس بمداخلة الناس.
حاله: هذا (5) الرجل نسيج وحده في الكفاية، وطلاقة اللسان، مدل على أغراض الصوفية، حافظ لكل غريبة من غرائب طريقتهم، متكلّم (6) في مشكلات أقوالهم، قائم على كثير من أخبارهم، يستظهر حفظ جزءي إسماعيل الهروي المسمى ب «منازل السائرين إلى الحق»، والقصيدة الكبيرة لابن الفارض. عديم النظير في ذلك
__________
(1) بياض في الأصول.
(2) في الأصل: «الرجا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) ترجمة يحيى البرغواطي في نفح الطيب (ج 8ص 327).
(4) من هنا حتى كلمة «المتجرّدين» في نفح الطيب (ج 8ص 327)، وجاء فيه: «عزف» بدل «غرّب».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 328327) والمقري ينقل بتصرف.
(6) في النفح: «يتكلّم في مشكلاتهم».(4/368)
كله، مليح الملبس، مترفّع عن الكدية، عزيز النفس، قليل الإطراء، حسن الحديث، عذب التّجاوز فيه، على سنن من السّذاجة والسّلامة والرجولة والحمل، صاحب شهرة قرعت به أبواب الملوك بالعدوتين. وعلى ذلك فمغضوض منه، محمول عليه، لما جبل عليه من رفض الاضطلاع (1)، وترك السّمت، واطّراح (2) التغافل، وولوعه بالنقد والمخالفة في كل ما يطرق سمعه، مرشّحا ذلك بالجدل (3) المبرم، ذاهبا أقصى مذاهب القحة، كثير الفلتات. نالته بسبب هذه البليّة محن كثيرة، أفلت منها بجريعة الذقن، ووسم بالوهن (4) في دينه، مع صحة العقل. وكان الآن عامرا للرّباط المنسوب إلى اللّجام، على رسوم الشياخة، وعدم التابع، مهجور الفناء.
مشيخته: زعم أنه حجّ، ولقي جلّة، منهم الشيخ أبو الطاهر بن صفوان المالقي، ولقاؤه إياه وصحبته معروف بالأندلس، وغير ذلك مما يدّعيه متعدّد الأسماء.
تواليفه: قيّد (5) الكثير من الأجزاء، منها في نسبة الذنب إلى الذاكر جزء نبيل غريب المأخذ، وفيما (6) أشكل من كتاب أبي محمد ابن الشيخ. وصنّف كتابا كبير الحجم في الاعتقاد (7)، جلب فيه كثيرا من الأقوال والحكايات (8)، رأيت عليه بخط شيخنا عبد الله (9) بن المقري ما يدلّ على استحسانه. وطلب (10)
مني الكتب عليه بمثل ذلك، فكتبت له ببعض ورقاته (11)، إثارة لضجره، واستدعاء لفكاهة انزعاجه، ما نصّه: وقفت من الكتاب المنسوب لأبي (12) زكريا البرغواطي، على برسام (13) محموم، واختلاط مذموم، وانتساب زنج في روم، وكان حقّه أن يتهيّب طريقا لم يسلكها، ويتجنّب عقيلة (14) لم يملكها، إذ المذكور لم يتلقّ شيئا من علم الأصول، ولا نظر في الإعراب في فصل من الفصول. إنما
__________
(1) في النفح: «الاصطلاح».
(2) في الأصل: «واضطراح»، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «بالجد» والتصويب من النفح. والجدل المبرم: المضجر. لسان العرب (برم).
(4) في النفح: «بالرهق».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 328).
(6) في النفح: «ومنها فيما».
(7) في المصدر نفسه: «الاعتقادات».
(8) في المصدر نفسه: «كثيرا من الحكايات».
(9) في النفح: «أبي عبد الله المقري».
(10) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 8ص 330329).
(11) في النفح: «أوراقه».
(12) في النفح: «لصاحبنا أبي زكريا».
(13) البرسام في الأصل التهاب يصيب غشاء الرئة ويسمّى ذات الجنب، وهو هنا بمعنى الهذيان لأن من لوازم البرسام أن يهذي صاحبه نتيجة ارتفاع حرارته. لسان العرب (برسم).
(14) في الأصل: «غفلة»، والتصويب من النفح.(4/369)
هي قحة (1) وخلاف، وتهاون بالمعارف واستخفاف، غير أنه يحفظ في طريق القوم كلّ نادرة، وفيه رجولة (2) ظاهرة، وعنده طلاقة لسان، وكفاية قلّما تتأتّى لإنسان.
فإلى الله نسأل (3) أن يعرّفنا بمقادير (4) الأشياء، ويجعلنا بمعزل عن الأغبياء. وقد قلت مرتجلا عند (5) أول نظرة، واجتزأت (6) بقليل من كثرة: [الخفيف]
كلّ جار لغاية مرجوّة ... فهو عندي لم يعد حدّ (7) الفتوّه
وأراك اقتحمت ليلا بهيما ... مولجا منك ناقة في كوّه (8)
لا اتّباعا ولا اختراعا أرتنا (9) ... إذ نظرنا عروسك المجلوّه
كلّ ما قلته فقد قاله النا ... س مقالا آياته متلوّه
لم تزد غير أن أبحت حمى الإع ... راب في كلّ لفظة مقروّه
نسأل (10) الله فكرة تلزم العق ... ل إلى حشمة تحوط (11) المروّه
وعزيز عليّ أن كنت (12) يحيى ... ثم لم تأخذ (13) الكتاب بقوّه (14)
ومن البرسام الذي يجري على لسانه بين الجدّ والقحة، والجهالة والمجانة، قوله لبعض خدّام باب السلطان، وقد ضويق في شيء أضجره منقولا من خطّه، بعد ردّ كثير منه إلى الإعراب:
الله نور السماوات من غير نار ولا غيرها، والسلطان ظلاله وسراجه في الأرض، ولكل منهما فراش مما يليق به ويتهافت عليه، فهو تعالى محرق فراشه بذاته، مغرقهم بصفاته، وسراجه وظلّه. وهو السلطان محرق فراشه بناره، مغرقهم بزيته ونواله. ففراش الله ينقسم إلى حامدين، ومسبّحين، ومستغفرين، وأمناء وشاخصين. وفراش السلطان ينقسمون إلى أقسام، لا ينفكّ أحدهم عنها. وهم وزغة ابن وزغة، وكلب ابن كلب، وكلب مطلقا، وعار ابن عار، وملعون ابن ملعون، وقط
__________
(1) القحة: الجفاء. لسان العرب (وقح).
(2) في النفح: «رجولية».
(3) في النفح: «نضرع».
(4) في النفح: «مقادير».
(5) في النفح: «من».
(6) في النفح: «واجتزاء».
(7) في النفح: «حقّ».
(8) في الأصل: «كوّبه» والتصويب من النفح. والكوّة: الخرق في الحائط.
(9) في النفح: «أتتنا».
(10) في الأصل: «نسل» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «تحوطها»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) في الأصل: «كب»، والتصويب من النفح.
(13) في الأصل: «نأخذ»، والتصويب من النفح.
(14) يشير هنا إلى قوله تعالى في شأن يحيى بن زكريا: {يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ}. سورة مريم 19، الآية 12.(4/370)
ابن قط، ومحق. فأما الوزغة، فهو المحرق في زيت نواله، المشغول بذلك عما يليق بصاحب النّعمة من النصح وبذل الجهد. والكلب ابن الكلب، هو الكيّس المتحرّز في تهافته من إحراق وإغراق، يعطي بعض الحق، ويأخذ بعضه. وأما الكلب مطلقا، فهو الواجد والمشرّد للسفهاء عن الباب المعظّم لقليل النّعمة. وأما العار ابن عار، فهو المتعاطي في تهافته ما فوق الطّوق، ولهذا امتاز هذا الاسم بالرئاسة عند العامة، إذا مرّ بهم جلف أو متعاط، يقولون: هذا العار بن عار، يحسب نفسه رئيسا، وذلك بقرب المناسبة، فهو موضوع لبعض الرئاسة، كما أن الكلب ابن الكلب لبعض الكياسة.
وأما الملعون ابن الملعون، فهو الغالط المعاند، المشارك لربّه، المنعم عليه في كبريائه وسلطانه. وأمّا القطّ، فهو الفقير مثلي، المستغنى عنه، بكونه لا تخصّ به رتبة، فتارة في حجر الملك، وتارة في السّنداس، وتارة في أعلى المراتب، وتارة محسن، وتارة مسيء، تغفر سيئاته الكثيرة بأدنى حسنة، إذ هو من الطوافين، متطير بقتله وإهانته، تيّاه في بعض الأحيان لعزّة يجدها في نفسه، من حرمة أبقاها الشارع له، وكل ذلك لا يخفى. وأما الفراش المحق، فهو عند الدّول نوعان، تارة يكون ظاهرا وحظّه مسح المصباح، وإصلاح فتيله، وتصفية زيته، وستر دخانه، ومسايسة ما أعوز من المطلوب منه. ووجود هذا شديد الملازمة ظاهرا. وأما المحقّ الباطن، فهو المشار إليه في دولته بالصلاح والزهد والورع، فتستقبله الخلق لتعظيمه وتركه لما هو بسبيله، فيكون وسيلة بينهم وبين ربّهم، وخليفته الذي هو مصباحهم، فإذا أراد الله بهلاك الدولة، وإطفاء مصباحها تولّى ذلك أهل البطالة والجهالة، فكان الأمر كما رأيتم، والكلّ يعمل على شاكلته.
وأفضى به الهوى وتسور حمى السياسة، والإغياء في ميدان القحة إلى مصرع السوء، فجلد جلدا عنيفا بين يدي السلطان، كان سبب وفاته في المطبق، وذلك في شهر المحرم من عام ثمانية وستين وسبعمائة، وقانا الله المعرّات، وجنّبنا سبل المضرّات، وفي كثرة تبجّحه باصطلاح المنطق قيل: [الطويل]
لقد كان يحيى منطقيّا مجادلا ... تجارى سيل (1) الهوى وتهوّرا
غدا مطلق التقوى وراح مكمّما ... وأصبح من فوق الجدار مسوّرا
فما نال من معنى اصطلاح أداره ... سوى أن بدا في نفسه وتصوّرا
تجاوز الله عنّا وعنه.
__________
(1) في الأصل: «تجارى في سبل» وهكذا ينكسر الوزن، فاقتضى التصويب.(4/371)
ترجمة ابن الخطيب
بقية السفر الثاني عشر من كتاب الإحاطة مشتملة على ترجمة ابن الخطيب مكتوبة بقلمه بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما يقول (1) مؤلف هذا الديوان، تغمّد الله خطله في ساعات أضاعها، وشهوة من شهوات اللسان أطاعها، وأوقات للاشتغال بما لا يعنيه، استبدل بها اللهو لما باعها:
أمّا بعد حمد الله الذي يغفر الخطيّة، ويحثّ من النّفس اللّجوج المطيّة، فيحرّك (2) ركابها البطيّة، والصلاة (3) على سيدنا ومولانا محمد ميسّر سبل الخير القاصدة (4) الوطيّة، والرضا عن آله وصحبه منتهى القصد (5) ومناخ الطّيّة (6)، فإني لمّا فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط، مع الالتزام لمراعاة السياسة السلطانية والارتباط، والتفتّ إليه فراقني منه صوان درر، ومطلع غرر، قد تخلّدت مآثرهم بعد (7) ذهاب أعيانهم، وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم، نافستهم في اقتحام تلك الأبواب، ولباس تلك الأثواب، وقنعت باجتماع الشّمل بهم ولو في الكتاب. وحرصت على أن أنال منهم قربا، وأخذت من (8) أعقابهم أدبا وحبّا، وكما قال (9): ساقي القوم آخرهم شربا، فأجريت نفسي مجراهم في التّعريف، وحذوت بها حذوهم في باب النّسب والتّصريف، بقصد التشريف، والله لا يعدمني
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 7ص 106).
(2) في النفح: «فتحرّك ركائبها البطيّة». والبطيّة: أصلها: البطيئة، فسهّل الهمزة بقلبها ياء، ثم أدغم الياء في الياء.
(3) في النفح: «والصلاة والسلام على».
(4) كلمة «القاصدة» ساقطة في النفح. والوطيّة: الممهّدة الميسّرة، وأصلها: «الوطيئة».
(5) في النفح: «الفضل».
(6) الطيّة: النيّة والقصد. محيط المحيط (طوى).
(7) في النفح: «مع».
(8) كلمة «من» ساقطة في النفح.
(9) في النفح: «وكما قيل».(4/373)
وإيّاهم واقفا يترحّم، وركاب الاستغفار بمنكبيه (1) يزحم، عندما ارتفعت وظائف الأعمال، وانقطعت من التّكسّبات حبال الآمال، ولم يبق إلّا رحمة الله التي تنتاش (2)
النفوس وتخلّصها، وتعينها بميسم السّعادة وتخصصها، جعلنا الله ممّن حسن ذكره، ووقف على التماس ما لديه فكره، بمنّه.
المؤلف (3): محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السّلماني. قرطبي الأصل، ثم طليطليّه، ثم لوشيّه، ثم غرناطيّه. يكنى أبا عبد الله، ويلقّب من الألقاب المشرقية بلسان الدين.
أوّليّتي: يعرف بيتنا في القديم ببني وزير (4)، ثم حديثا (5) بلوشة ببني الخطيب.
انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية، كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله، عند وقعة الرّبض الشهيرة (6) إلى طليطلة، ثم تسرّبوا محوّمين على وطنهم، قبل استيلاء الطاغية عليها (7)، فاستقرّ منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء، تضمّن منهم ذكر خلف (8)، كعبد الرحمن قاضي كورة باغة، وسعيد المستوطن بلوشة، الخطيب بها، المقرون اسمه بالتّسويد عند أهلها، جاريا مجرى التسمية بالمركّب (9)، تضمن ذلك تاريخ الغافقي وغيره. وتناسل (10) عقبهم بها، وسكن بعضهم بمنتفريو (11)، مملكين إياها، مختطين قبل (12) التحصين والمنعة، فنسبوا إليها. وكان سعيد هذا، من أهل العلم، والخير والصلاح، والدّين والفضل، وزكاء الطعمة (13). وقفني الشيخ المسنّ
__________
(1) في المصدر نفسه: «بمنكبه».
(2) تنتاش: تنقذ. لسان العرب (ندش).
(3) كلمة «المؤلف» ساقطة في النفح.
(4) في النفح: «بوزير».
(5) في الأصل: «حديثنا»، والتصويب من النفح.
(6) وقعة الربض تطلق على الثورة التي قام بها أهل قرطبة بتحريض من الفقهاء ضد الحكم بن هشام، بقصد خلعه، وذلك في رمضان سنة 202هـ، وقد بدأت في الربض الجنوبي لقرطبة في الناحية المسماة، «شقندة». وكان الربض متصلا بقصر الحكم، وقد استطاع الحكم سحق الثورة ومطاردة الثوار وصلب الكثير منهم على شاطىء النهر وهدم ديارهم ومساجدهم. وفرّ الكثير من أعيان قرطبة وتفرّقوا في مختلف القواعد، وسارت طائفة كبيرة منهم إلى المشرق، ولذلك سمّي الحكم بالربضي. جذوة المقتبس (ص 10) وبغية الملتمس (ص 14). وقد تحدث ابن الخطيب عن هذه الوقعة في الجزء الثالث في ترجمة والده عبد الله بن سعيد السلماني.
(7) في النفح: «عليه».
(8) في النفح: «خلق».
(9) في النفح: «بالمركب في تاريخ».
(10) في النفح: «وسكن».
(11) في النفح: «منتقرير». ومنتفريو، بالإسبانيّة:، وهو اسم موضع، ومعناه: الجبل البارد.
(12) في النفح: «مختطين جبل التحصّن».
(13) في النفح: «وذكاء الفطنة. أوقفني الوزير».(4/374)
الوزير أبو الحكم بن محمد المنتفريدي (1)، رحمه الله، وهو بقية هذا البيت وإخباريه، على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة، تطأه الطريق المارة من إغرناطة (2) إلى إشبيلية، وقال: كان جدّك يربع (3) بهذا المكان فصولا من العام (4)، ويجهر بقراءة (5)
القرآن، فيستوقف الرّفق (6) المدلجة، الحنين إلى نغمته، والخشوع لصدقه (7)، فتعرّس رحالها لصق جداره، وتريح ظهرها موهنا، إلى أن يأتي على ورده. وتوفي، وقد أصيب بأهله وحرمته (8)، عندما تغلب العدوّ على بلده عنوة في خبر طويل. وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله، محمد بن يوسف بن هود، أمير المسلمين بالأندلس، [القائم بها بدعوة الأئمة من ولد العباس، رضي الله عنهم، ومن ولده أبي بكر الواثق بالله ولي عهده،] (9) في غرض إعانته، والشّفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة، بما يدلّ على نباهة قديم (10) ويفيد إثارة عبرة، واستقالة عثرة.
وتخلّف ولده عبد الله، جاريا مجراه في التجلّة (11)، والتّمعش من حرّ النّشب، والتزيّي بالانقباض، والتحلّي بالنزاهة، إلى أن توفي، وتخلّف ولده سعيد (12) جدّنا الأقرب، وكان صدرا خيّرا، مستوليا على خلال حميدة، من خطّ وتلاوة وفقه، وحساب، وأدب، نافس جيرته من (13) بني الطّنجالي الهاشميين، وتحوّل إلى غرناطة، عندما شعر بعملهم على الثورة، واستطلاعهم إلى النّزوة التي خضدت الشوكة، واستأصلت منهم الشّأفة، وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني، أشراف جند حمص، الداخلين إلى الجزيرة في طليعة بلج بن بشر القشيري، ولحقه من جرّاء منافسيه، لما جاهروا السلطان بالخلعان، اعتقال أعتبه السلطان بعده وأحظاه على تفئته، وولّاه الأعمال النّبيهة، والخطط الرّفيعة. حدّثني من أثقه (14)، قال: عزم السلطان أن يقعد جدّك أستاذا لولده، فأنفت من ذلك أمّ الولد، إشفاقا عليه من فظاظة كانت فيه. ثم صاهر القوّاد من بني الجعدالة على أمّ أبي، وتمتّ (15) إلى زوج السلطان ببنوّة الخؤولة، فنبه القدر، وانفسحت الحظوة، وانتاب البيت (16) الرؤساء والقرابة. وكان على قوّة شكيمته، وصلابة مكسرة، مؤثرا للخمول،
__________
(1) في النفح: «المنتقريري».
(2) في النفح: «غرناطة».
(3) في النفح: «يذيع».
(4) في النفح: «من العلم».
(5) في النفح: «بتلاوة».
(6) في النفح: «الرفاق».
(7) في النفح: «إلى صدقه».
(8) في النفح: «وحرمه».
(9) ما بين قوسين ساقط في النفح.
(10) في النفح: «على نباهته قديما».
(11) في النفح: «التجلّد».
(12) في النفح: «سعيدا».
(13) كلمة «من» ساقطة في النفح.
(14) في النفح: «أثق به».
(15) في النفح: «ومتّت».
(16) في النفح: «وانثال على البيت».(4/375)
محبّا في الخير. حدّثني أبي عن أمّه، قالت: قلّما تهنّأنا نحن وأبوك طعاما حافلا لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره، من أهل الحاجة، وأحلاف الضرورة، يهجم علينا منهم بكل وارش (1)، يجعل يده ثني يده (2)، ويشركه في أكيلته، ملتذّا بموقعها من فؤاده. توفي (3) في ربيع الآخر من عام ثلاثة (4) وثمانين وستمائة، صهرته الشمس مستسقيا في بعض المحول، وقد استغرق في ضراعته، فدلّت الحتف على نفسه.
وتخلّف والدي، نابتا في التّرف نبت العلّيق، يكنفه رعي أيّم (5)، تجرّ ذيل النعمة (6)، وتحنو منه على واحد تحذر عليه الحولى من ولد الذر (7)، ففاته لترفه حظّ كبير من الاجتهاد. وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلّوطي، والمقرئ أبي عبد الله بن مستقور (8)، وأبي إسحاق بن زورال، وخاتمة الجلّة أبي جعفر بن الزّبير، وكان يفضّله. وشارك (9) أهل عصره في الرّواية المستدعاة عن أعلام المشرق، كجار الله أبي اليمن وغيره. وانتقل إلى لوشة بلد سلفه، مقيما للرسم (10)، مخصوصا بلقب الوزارة، مرتّبا بعادة التّرف (11)، إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد، متخطّيا إلى الحضرة، هاويا إلى ملك البيضة (12)، وأجزل نزله، وعضّد أمره، وأدخله بلده، لدواع يطول استقصاؤها. ولمّا تمّ له الأمر، صحبه (13) إلى دار ملكه، مستأثرا بشقص (14)
عريض من دنياه. وكان من رجال الكمال، طلق الوجه، أنيق المجلس، حلو النادرة، مستوليا على كثير من الخصل، متجنّدا مع الظرف، تضمّن كتاب «التّاج المحلّى» و «الإحاطة» جزءا رائعا (15) من شعره، وفقد في الكائنة العظمى بطريف، يوم الاثنين السابع (16) من جمادى الأولى عام (17) أحد وأربعين وسبعمائة، ثابت الجأش، غير جزوع ولا هيّابة. حدّث (18) الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة، الفقيه أبو
__________
(1) في النفح: «وارد».
(2) في المصدر نفسه: «ويجعل يده مع يده».
(3) في المصدر نفسه: «وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث».
(4) في الأصل: «ثلاث»، وهو خطأ نحوي.
(5) في النفح: «أمّ».
(6) في النفح: «نعمة».
(7) في النفح: «تحذر عليه النسيم إذا سرى، ففاته».
(8) في النفح: «بن سمغور، وأبي جعفر بن الزبير خاتمة الجلّة، وكان يفضّله».
(9) من هنا حتى قوله: «أبي اليمن وغيره» ساقط في النفح.
(10) قوله: «مقيما للرسم» ساقط في النفح.
(11) قوله: «مرتبا بعادة الترف» ساقط من النفح.
(12) في النفح: «البيضة، فعضّد أمره وأدخله بلده».
(13) في النفح: «صحب ركابه إلى».
(14) الشّقص، بكسر الشين وسكون القاف: النصيب. القاموس المحيط (شقص).
(15) في النفح: «رائقا».
(16) في النفح: «سابع».
(17) في النفح: «سنة إحدى».
(18) في النفح: «حدّثني».(4/376)
عبد الله بن اللوشي، قال: كبا بأخيك الطّرف يومئذ (1)، وقد غشى العدو، وجنحت إلى إردافه، فانحدر إليه والدك وصرفني، وقال: أنا أولى به، فكان آخر العهد بهما (2).
وخلفني (3) عالي الدرجة، شهير الخطّة، مشمولا بالقبول، مكنوفا بالعناية، «وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها». فقلّدني السلطان كتابة سرّه، ولمّا يجتمع الشباب، ويستكمل (4) السّن، معزّزة بالقيادة، ورسوم الوزارة، واستعملني في السّفارة إلى الملوك، واستنابني بدار ملكه، ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه، وائتمنني على صوان ذخيرته (5) وبيت ماله، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه. ومن فصول منشوره:
«وأطلقنا يده على كل ما جعل الله لنا النّظر فيه». ولما هلك، قدّس الله روحه، ضاعف ولده، مولاي رضي الله عنه، حظوتي، وأعلى مجلسي، وقصر المشورة على نصحي، إلى أن كانت عليه الكائنة، فاقتدى فيّ، أخوه المتغلب على الأمر (6)، فسجل الاختصاص، وعقد القلادة، ثم قطع الإبقاء، وعكس الاختصاص، وحلّ القلادة، لمّا حمله أولو (7) الشحناء من أعوان ثورته على القبض عليّ، فكان ذلك، وقبض (8) عليّ، ونكث ما أبرم من أمانيّ، واعتقلت بحال ترفيه. وبعد أن كبست المنازل والدّور، واستكثر من الحرس، وختم على الأعلاق، وأبرد (9) إلى ما نأى (10)، فاستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربّات الأمثال، في تبحّر الغلّة، وفراهة الحيوان، وغبطة العقار، ونظافة الآلات، ورفعة الثياب، واستجادة العدّة، ووفور الكتب، إلى الآنية والخرثى (11)، والفرش، والماعون، والزجاج، والمحكم (12)
والطّيب، والذّخيرة، والمضارب، والأقبية (13). واكتسحت السّائمة، وثيران الحرث، وظهر الحمولة (14)، وقوام الفلاحة، وأذواد (15) الخيل، فأخذ الجميع (16)
__________
(1) كلمة «يومئذ» ساقطة في النفح. والطّرف، بكسر الطاء وسكون الراء: الكريم من الخيل. لسان العرب (طرف).
(2) لهنا ينتهي النص في نفح الطيب (ج 7ص 106).
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 7370).
(4) في النفح: «ويجتمع».
(5) في النفح: «حضرته».
(6) في النفح: «الأمر به».
(7) في النفح: «أهل الشحناء من أهل أعوان».
(8) في النفح: «وتقبّض».
(9) أبرد: أرسل البريد.
(10) في النفح: «ناء».
(11) كلمة «والخرثى» ساقطة من النفح.
(12) كلمة «والمحكم» ساقطة في النفح.
(13) في النفح: «والأبنية».
(14) ظهر الحمولة: الدواب التي يحمل عليها.
(15) في النفح: «والخيل».
(16) في النفح: «ذلك».(4/377)
البيع، وتناهبتها الأسواق، وصاحبها البخس، ورزأتها الخونة، وشمل الخاصة والأقارب الطّلب، واستخلصت (1) القرى والجنّات (2)، وأعملت الحيل، ودسّت الإخافة، وطوّقت الذنوب، وأمدّ الله بالصبر (3)، وأنزل السكينة، وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى، وتعلّقت الآمال به، وطبقت نكبة مصحفيّة (4)، مطلوبها الذّات، وسبب (5) إفاتتها المال، حسبما قلت عند إقالة العثرة، والخلاص من الهفوة:
[الطويل]
تخلّصت منها نكبة مصحفيّة ... لفقداني المنصور من آل عامر
ووصلت الشّفاعة فيّ مكتتبة بخطّ ملك المغرب، وجعل خلاصي شرطا في العقدة، ومسالمة الدولة، فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحقّ إلى المغرب. وبالغ ملكه في برّي، واغيا في حلّة رعيي منزلا رحبا، وعيشا حفضا، وإقطاعا جمّا، وجراية ما وراءها مرمى، وجعلني بمجلسه صدرا. ثم أسعف قصدي في تهنيء (6)
الخلوة بمدينة سلا، منوّه الصّكوك، مهنّأ القرار، متفقّدا باللهى والخلع، مخوّل العقار، موفور الحاشية، مخلّى بيني وبين إصلاح معادي، إلى أن ردّ الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه، وصيّر إليه حقّه، وصرف إليه كرسيه، فطالبني بوعد ضربته، وعهد (7) في القدوم عليه بولده أحكمته، ولم يوسعني عذرا، ولا فسح في التّرك مجالا. فقدمت عليه بولده، في اليوم الأغرّ المحجّل، وقد ساءه بإمساكه رهينة ظنّه (8)، ونغّص مسرّة الفتح بعده، على حال من التقشّف، والرغبة (9) عمّا بيده، وعزف عن الطمع في الكسب (10) وزهد في الرّفد (11)، حسبما قلت، في بعض المقطوعات في مخاطبته، شكر الله عني فضله:
[الكامل]
قالوا لخدمته دعاك محمد ... فكرهتها (12) وزهدت في التّنويه
فأجبتهم أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محبّ فيه
__________
(1) استخلصت: أضيفت إلى مستخلص السلطان أو الأملاك الملكية الخاصة.
(2) كلمة «والجنّات» ساقطة في النفح.
(3) في النفح: «بالعون».
(4) نسبة إلى جعفر بن محمد المصحفي، حاجب الحكم المستنصر، وقد نكبه المنصور محمد بن أبي عامر.
(5) في النفح: «وسببها المال».
(6) في النفح: «تهيؤ».
(7) في النفح: «وعمل».
(8) في النفح: «ضدّه».
(9) في النفح: «والزهد فيما بيده».
(10) في النفح: «في ملكه».
(11) في النفح: «رفده».
(12) في النفح: «فأنفتها».(4/378)
عاهدت الله على ذلك، وشرحت صدري إلى (1) الوفاء به، وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي، ومرمى نيّتي، فعلق بي علوق الكرمة، وصارفني بدار العبرة، وخرج لي عن الضرورة، وأراني أنّ مؤازرته أبرّ القربة (2)، وراكنني إلى عهد بخطه، فسح لعامين أمد الثّواء، واقتدى بشعيب صلوات الله عليه، في خطب (3) الزيادة، وعلى تلك النّسبة، وأشهد من حضر من العلية. ثم رمى إليّ بعد ذلك مقاليد رأيه، وحكم عذلي (4) في اختبارات عقله، وغطّى على (5) جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته بتراب زجري، ووقف القبول على وعظي، واستنزل (6) هواي في التحوّل، نابيا (7) عن قصدي، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت الله عليه، وعاملت وجهه فيه، من غير تلبّس بخديعة (8)، ولا تشبّث بولاية، مقتصرا على الكفاية، حذرا من النّقد، خامل المركب، معتمدا على المنسأة (9)، مستمتعا بخلق النّعل، راضيا بغير النّبيه من الثّوب، مشفقا من موافقة الغرور، هاجرا للزخرف (10)، صادعا بالحقّ في أسواق الباطل، كافّا عن السّخال (11) براثن السباع، مفوّتا للأصول في سبيل الصّدقة. ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة، بكر الحسنات بهذه الخطّة، بل بالجزيرة فيما سلف من المدّة، فتأتى بمنّة الله من صلاح السلطان، وعفاف الحاشية، ونشر (12) الأمن، وروم الثغور، وتثمير الجباية، وإنصاف الحماة والمقاتلة، ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدّينية، والصّدع فوق المنابر، ضمانا عن السلطان بترياق سمّ الثورة، وإصلاح بواطن الخاصّة والعامّة ما الله المجازي عليه، والمعوّض من سهر خلعته على أعطافه، وكدّ أعملته من جرّائه، وخطر اقتحمته من أجله، لا للثّريد الأعفر، ولا للجرد تمرح في الأرسان، ولا للبدر تثقل الأكتاد (13)، فهو الذي لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، سبحانه إليه الرّجعى، والآخرة والأولى. ومع ذلك فقد عادت هيف إلى أديانها من الاستهداف للشّرور، والاستعراض للمحذور، والنّظر الشّزر المنبعث من خزر العيون، شيمة من ابتلاه الله بسياسة الدّهماء،
__________
(1) في النفح: «للوفاء».
(2) في النفح: «القرب».
(3) في النفح: «طلب».
(4) في النفح: «عقلي».
(5) في النفح: «من».
(6) في النفح: «وصرف».
(7) في النفح: «ثانيا وقصدي».
(8) في النفح: «بجراية».
(9) المنسأة: العصا. لسان العرب (نسأ).
(10) في النفح: «هاجر الزخرف».
(11) السّخال: جمع سخلة وهي ولد الشاة. محيط المحيط (سخل).
(12) في النفح: «والأمن».
(13) في النفح: «للأكتاد». والأكتاد: جمع كتد وهو مجتمع الكتفين. لسان العرب (كتد).(4/379)
ورعاية سخطة أرزاق السماء، وقتلة الأنبياء، وعبدة الأهواء، ممّن لا يجعل لله إرادة نافذة، ولا مشيئة سابغة، ولا يقبل معذرة، ولا يجمل في الطلب، ولا يتلبّس مع الله بأدب. ربّنا لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، والحال إلى هذا العهد، وهو أول عام أحد وسبعين وسبعمائة (1)، على ما ذكرته، أداله الله بحال السّلامة، وبفيأة العافية، والتمتّع بالعبادة، وربّك يخلق ما يشاء ويختار. وقال الشاعر (2): [مجزوء الكامل]
وعليّ أن أسعى ولي ... س عليّ إدراك النجاح
ولله فينا سرّ (3) غيب نحن صائرون إليه، ألحفنا الله بلباس التّقوى، وختم لنا بالسّعادة، وجعلنا في الآخرة من الفائزين. نفثت عن بثّ، وتأوّهت عن حمّى، ليعلم (4) بعد المنقلب قصدي، ويدلّ مكتتبي على عقدي.
ذكر بعض ما صدر لي من التشريعات الملوكية أيام تأبّشي بهذه الغرور
من ذلك ظهير من مولاي السلطان أبي عبد الله، عندما صار له أمر والده المقدّس أبي الحجاج، رحمة الله عليه، وقد ثبتّ في المحمدين، في اسم السلطان، أيّده الله، فلينظره هنالك من تشوّف لاحتفاله واحتفائه، وظاهر برّه واعتنائه.
وكتب إليّ مخبرا بما فتح الله عليه، قبل الوصول إليه:
«من أمير المسلمين أبي عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أيّد الله أوامرهم، ونصر أجنادهم المظفّرة وعساكرهم، وخلّد مفاخرهم الكريمة ومآثرهم.
«إلى وليّنا في الله تعالى، الذي نعلم ما له في الإخلاص لجانبنا من حسن المذاهب، ونعتدّ به اعتدادا يتكفّل بنجاح المقاصد والمآرب، وخلاصتنا، الذي نثني على مجده البعيد الغايات، في الشّاهد والغائب، الفقيه، الوزير الجليل، الصّدر الأوحد المثيل، العالم العلم الأوحد، الرّفيع الشهير، الحسيب الأصيل، الماجد الأثيل الخطير، الخطيب البليغ الكبير، الأوحد، الحافل الفاضل الكامل، إمام البلغاء، وصدر الخطباء، وعلم العلماء، وكبير الرؤساء، الحبيب المخلص، الأودّ الأصفى،
__________
(1) في النفح: «وهو منتصف عام خمسة وسبعين وسبعمائة».
(2) قوله: «وقال الشاعر» ساقط من النفح.
(3) في النفح: «علم غيب».
(4) في النفح: «ليظهر».(4/380)
أبي عبد الله ابن الوزير الفقيه الجليل، الأعزّ الأرفع، الماجد الأسمى، الصّدر الحافل، الفاضل الكامل، الأعلى الكبير، الخطير الأثير، الأرضى، المعظّم الموقّر، المبرور المقدّس، المرحوم الشهيد، أبي محمد بن الخطيب، وصل الله سعده، وحرس مجده، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، وليّ الحمد وأهله، وناصر الحقّ، ومطلع أنواره، من آفاق رحمته وفضله، وقاهر كل باغ، وخاذله ومذلّه. والصلاة على سيّدنا ومولانا محمد، صفوة أنبيائه، وخاتم رسله، المبتعث بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدّين كلّه، نبي الرحمة، الذي ببركة محبّته نلنا الأمنية، في جمع الدّين ونظم شمله، وبفضيلة جاهه عدنا إلى أرفع رتبة ملكنا، وأعلى محلّه. والرضا على آله وصحبه، المقتدين بهديه في أمرهم كله. فكتبناه إليكم، كتب الله لكم، عزّا لا يبلى جديده، وسعدا لا ينقطع مزيده. من حمرائنا بغرناطة، حرسها الله ومهّدها، ولا متعرّف بفضل الله سبحانه إلّا ما عوّد من ألطافه الخفيّة، وأسدى من صنائعه السّنية، وعنايته التي كفلت ببلوغ الأمنية. والحمد لله كثيرا، كما ينبغي لجلاله، ويليق بصفات كماله، وعندنا من إجلالكم، ما يليق بكمالكم، ومن المعرفة بمقداركم، ما يعرب عن حسن اعتقادنا في كريم نجاركم، ومن قدر أحسابكم، ما يلزم بسببه تعظيم جنابكم. وإلى هذا وصل الله سعدكم، وحفظ مجدكم، فإننا بحسب الودّ الذي نصل لمعاليكم، والحب الذي نضاعفه فيكم، خاطبناكم بهذا المكتوب بشرح ما منّ الله علينا من الفتح العظيم الذي أشرقت به أقطار هذه البلاد، وما منّ به من العودة إلى ملكنا المتوارث عن كرام الآباء والأجداد، وما أنعم به من قهر ذوي الشّقاق والعناد. وذلك أنّا، أعزّكم الله، طال علينا المقام برندة، ولم نزل نوجه إلى أهل الحصون التي بغربي مالقة وغيرهم، نقصّ عليهم ما ألزمهم الله من الوفاء ببيعتنا، ونحذّرهم عار النّكث لطاعتنا، إلى أن آن آوان الفرج، ونفذ قضاء الله وقدره، بالعودة إلى ما كنا تغلّبنا عليه. فاقتضى نظرنا أن خرجنا إلى مالقة في مائتي فارس، فما وصلنا واديها، وعلم بنا أهلها، إلّا وخرج لنا جميعهم، ملبّين بالبيعة، فرحين بقدومنا. وفي الحين بادرنا لقتال القصبة حتى استخلصت وأنزل من فيها بنواحيها. وليوم آخر، وصلتنا بيعات أهل الجهات التي تواليها، من أنتقيرة، ولوشة، وبلّش، وصالحة، وقمارش، والحمّة، وسائر الحصون الغربية، فلمّا وصل الخبر إلى الغادر الخاسر، خاف وذعر، ورأى أن لا ملجأ له إلّا أن يفرّ، فجمع شرذمته، وألّف حاشيته، وخرج عن الحمراء ليلا في ليلة الخميس الماضي، قريبا من التاريخ، هاربا إلى أرض الكفّار. وفي صبيحة الليلة، وجّه إلينا أهل حضرتنا، وتوجّهت الأجناد إلى بيعتنا، وانصرفنا إلى دار ملكنا، وحللناها يوم(4/381)
السبت الماضي، من غير حرب ولا قتال، بل بفضل الله تعالى، ذي العظمة والجلال. وعرّفناكم بذلك، لتأخذوا بحظّكم من هذه المسرّة الكبرى، إذ أنتم الحبيب الذي لا يشكّ فيه، والخلاصة، الذي نعلم صدق خلوصه وتصافيه، والله يصل سعودكم، ويحفظ وجودكم، والسلام الكريم عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم الأربعاء الرابع والعشرين لجمادى الثانية، من عام ثلاثة وستين وسبعمائة».
وعند استقراري لديه، وقدومي عليه، أصدر لي هذا الظّهير الكريم، بما يظهر من فصوله:
«هذا ظهير كريم، أقام مراسم الوفاء، وأحيا معالم الحقّ الفسيحة الأرجاء، وقلص ظلال الجود المتكاثفة الأفياء، وجلى بأنوار الحق ظلم الظّلم والاعتداء، وأدّى الأمانة إلى أهلها إذ كانت متعيّنة الأداء. أمر بتسويغ إنعامه، وإبرام أحكامه، أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر، أعلى الله مقامه وشكر إنعامه، لوليّ مقامه، ومحلّ إجلاله وإعظامه، كبير دولته، وفخر مملكته، ومشيّد سلطانه، وعين زمانه، ظهيره الذي ببركاته أنجحت مقاصده، وحامل لواء وزارته الذي بيمن رأيه عذبت مصادره وموارده، الفقيه الأجلّ الوزير المثيل، الماجد الأثيل، الحسيب الأصيل، العالم العلم، الطّاهر الظّاهر، العظيم المفاخر، الكريم المآثر، إمام البلاغة، وفارس البراعة واليراعة، فخر الرئاسة، ومدبّر فلك السّياسة، الخطيب الحافل، الصّدر الفاضل الشّمائل، الحبيب الخالص، الأودّ الأصفى، أبي عبد الله محمد ابن الوزير الجليل الأوحد الأعلى، الصدر الكبير الخطير الشهير الأسنى، الحافل الفاضل، الظّاهر الطاهر، السّامي الأرقى، المعظّم الموقر، الشهيد المقدّس السعيد، أبي محمد بن الخطيب، وصل الله سعادته، وحرس مجادته، وحفظ رتبته الرّفيعة ومكانته، وبلّغه أمله الأرضى وإرادته. لما كان أبقاه الله مدبّر ملك المولى أبيه، وظهيره الذي لم يزل يدنيه ويصطفيه، وعماده الذي ألقى إليه مقاليد الملك، حين علم أنه صدر الأولياء وواسطة السّلك، ووزيره الذي اعتمده بإدارة أمره، وركن إلى مناصحته في سرّه وجهره، وقلّده نجاد الوزارتين، وحلّاه بحلى الرّئاستين، فاكتفى منه عن الأثر بالعين، ونشر له لواء الولايتين، فتلقّاه بيمينه، وقام مضطلعا بأمره قيام الأسد دون عرينه.
وحين انعقد هذا الأمر العلي، قام بسياسة ملكه أحسن قيام وأوفاه، وأداره فأصاب في إدارته مرمى السّداد الذي لم يوافقه إلّا إياه. واستولى في هذه الميادين على غاية الكمال، واضطلع بالرّئاسة والسّياسة اضطلاع أفذاذ الرجال. ولم يزل يدفع عن حماه،(4/382)
ويذبّ عن حوزته بما يحبّه الله ويرضاه، حتى انتظمت بالسّعود أفلاكه المنيفة وأملاكه، ودارت بالتّأييد أفلاكه.
ولما كان الشّقي الغادر الذي اغتصب الحقّ، وطهر منه الطرق، قد جار على جانب المعتمد به في ماله، وتعدّى بالبغي على حاله، ظلما وعدوانا، وجورا وطغيانا، لم يقدّم، أيّده الله، عملا، عند العودة إلى ملكه المؤيد، وسلطانه الأسعد، وفخره المجدّد المؤيد، وأخذ الله تعالى له، من الظّالم أعظم الثّار، وأمدّه بإعلامه وإظهاره بأعظم الأنصار، على أن صرف عليه جميع أملاكه التي خلصت له بالشّرع موجباتها، ووضعت في سبيل الاستحقاق بيّناتها، مما كان الغادر قد غصبه له وانتهبه، وقطع بالباطل عنه سببه، ومكّنه، أيّده الله، منها باحتيازها، وتولّى لنفسه إحرازها، وعاد بهذا التّسويغ الملكي يوم عودتها إليه خيرا من أمسه، هنّأه الله الانتفاع بها في العمر الطويل، وحفظها عليه وعلى عقبه، يتملّكها الجيل منهم بعد الجيل. وهي كذا وكذا، بداخل الحضرة وخارجها، وكذا وكذا من البلاد. سوّغ إليه، أيّده الله، ذلك تسويغا شرعيّا، ورفع به عنه فيه الأغراض، رفعا كلّيّا أبديّا، وتبرّأ من حق يتعلّق به، أو شبهة تتطرّق بسببه. فليتصرف، أعزّه الله، في ذلك بما شاء من أنواع التصرفات، على ما توجبه السّنّة الواضحة الآيات، من غير حجر عليه، ولا تعقّب لما لديه. وشمل حكم هذا التّسويغ الجسيم، والإنعام العميم، جميع ما يستغلّ على الأرض والجنّات والكروم، والثّمرات من العوائد المستقبلة عليها، والغلّات، شمولا تاما، مطلقا عاما، وأن يكون هذا ثابتا صحيحا، ومن الشّكّ مزيحا، وحكمه على الأيام، واتصال الشهور والأعوام، متصل الدوام. كتبنا خطّ يدنا شاهدا بإمضائه، وسجّلنا الحكم باستقلاله واقتضائه. فليعلم ذلك من يقف عليه، ويعتبر ما لديه. وذلك في اليوم الثاني لرمضان المعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة. صح هذا».
ولمّا قضى الله بالانصراف إلى العدوة الغربية، صدرت عن سلطانها أمير المسلمين أبي سالم (1) منشورات رفيعة منها، وقد تشوّفت إلى مطالعة بلاده الغربية، وجهاتها المرّاكشيّة، بقصد لقاء أهل الصلاح والعبادة، وزيارة ملاحد السّادة، ما نصّه:
«هذا ظهير كريم أشاد بالتّنويه الفسيح المجال، والإكرام السّابغ الأذيال، وأعاد النعم بعد إبدائها عميمة النّوال، ووارفة الظّلال، وألقى في يد المعتمد به صحيفة الاعتناء حميدة المقال، مقتضبة ديوان الآمال، ورفع له لواء الفخر العزيز المنال، على
__________
(1) هو سلطان المغرب المستعين بالله إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن المريني.(4/383)
النّظراء والأمثال. حكم بإعماله، وإمضاء أمره الكريم وامتثاله، عبد الله المستعين بالله إبراهيم ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل الله رب العالمين، أبي الحسن ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف بن عبد الحق. أيّد الله أمره، وأعزّ نصره، للشيخ الفقيه الأجلّ، الأعزّ الأسنى، الوزير الأمجد الأنوه المحترم، الملحوظ، الأثير الأكمل، السّري الحظيّ الذكي الأخلص، أبي عبد الله ابن الشيخ، الوزير، الفقيه الأجلّ، الأعز الأسنى الأمجد، الحسيب الأصيل، الأنوه الأنزه، الأثير الأكمل، المبرور المرحوم أبي محمد بن الخطيب، وصل الله حظوته، ووالى عزّته.
جدّد له الحظوة التي يضفى لباسها، وصحح بنظر البرّ والإكرام قيامها وشيّد بمباني الحفاية التي مهّد أساسها، لما وفد على بابه الكريم عائذا بجواره، وملقيا في ساحة العزّ المشيد عصا تسيار ومجريا في ميدان الثّنا جياد أفكاره، ومعتمدا على نظرنا الجميل في بلوغ آماله وحصول أوطاره، فسحنا له في ميدان البرّ والتّرحيب فبلغ مداه، وأنس في حضرتنا الكريمة أنوار العناية التي كانت هداه، وأحللناه من بساطنا المحلّ الذي اشتمل به العزّ وارتداه، وكمل له الأمل ووفّاه. وأذنّا له تفنّنا في إسداء النّعم الثرة، وتلقّي وفادته بوجوه القبول والمبرّة، في زيارة التّربة المقدّسة بشالة (1) المعظمة، حيث ضريح مولانا المقدّس، ومن معه من أسلافنا الكرام، نوّر الله مثواهم، وجعل في الجنة مأواهم. وهذا الغرض الجميل، وإن عدّ من أنواع التكريم، والإحسان العميم، فهو السّعي الذي تصرف إليه وجوه القبول والرضا والاهتمام، والرغبة التي يصفى لها موارد الإسعاف عذوبة الحمام، والتقرّب الذي تؤثره مهاد البرّ المستدام، ولفاعله مزيّة الاعتناء والتّقديم، وجزاء القيام بخدمة سلفنا الكريم، وقد أذنّا له في مشاهدة تلك الجهات من حضرتنا العليّة إلى مرّاكش المحروسة للقاء الأعلام، واجتلاء المعاهد الكرام، والآثار الباقية على الأيام، كيف أحبّ وعلى ما شاء من إراحة أو إلمام، مصحبا بمن ينوّه به في طريقه من الخدّام تنويها للكرامة وتعديدا، وتجديدا للعناية وتأكيدا. فليعلم بذلك، ما له في بابنا الكريم من الاعتناء، وما اعتدنا لمحبي أسلافنا الكرام من الجزاء، ويجري في جميع مآربه وأحواله على النّهج السواء، مراعى حال إيابه إلى مقرّه من حضرتنا العليّة، ومحلّه من بساطنا الأشرف، وعرضه أعمال القائمين ببرّه، وأكرمنا بين أيدينا، فيجني المبادرة إلى توفية آماله، وثمرة أعماله، ويقابل القائم بمبرّته، والله المستعان. وكتب بالمدينة البيضاء، مهّدها الله، في الحادي
__________
(1) شالة: ضاحية مدينة سلا. وقد ذكرها ابن الخطيب في مواضع متفرقة من كتابه «نفاضة الجراب».(4/384)
والعشرين لربيع الثاني عام أحد وستين وسبعمائة: وليعتمد لوزيرنا الشيخ الأجلّ الحظي الأكمل أبو الحسن علي بن العباس، أكرمه الله، على أن يدخله إلى المساكن العلية بقصبة مراكش، حرسها الله، ليشاهد الآثار السلطانية التي انتظمت في سلكنا، وعفّى عليها جديد ملكنا، فليعلم ذلك، وليعمل به، والله المستعان، وكتب في التاريخ المؤرخ به».
وجرّ هذا الإنعام دنيا عريضة، تفتّقت فيها المواهب، ووضحت من اشتهارها المذاهب، شكر الله نعمته، ووالى على تربته رحمته.
وصدر لي عن المتصيّر إليه أمره ما نصّه، وهو بعض من جملة، ونوع من أجناس مبرّة:
«هذا ظهير كريم، نظم العناية ووصلها، وأجمل الرعاية وفصّلها، وأحرز مواهب السعادة وحصّلها، أمر بإبرامه، والوقوف عند أحكامه، عبد الله المتوكل على الله محمد، أمير المسلمين، المجاهد في سبيل ربّ العالمين، ابن مولانا الأمير عبد الرحمن ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين أبي سعيد، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف بن عبد الحق، أيّده الله ونصره، وسنى له الفتح المبين ويسّره، للشيخ الفقيه الأجلّ، الأسنى الأعزّ، الأحظى والأرفع، الأمجد الأسنى، الأنوه الأرقى، العالم العلم، الرئيس الأعرف، المتفنّن الأبرع، المصنّف المفيد، الصّدر الأحفل، الأفضل الأكمل، أبي عبد الله، ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجلّ، الأسنى الأغرّ، الأرفع الأمجد، الوجيه الأنوه، الأحفل، الأفضل، الحسيب الأصيل الأكمل، المبرور المرحوم أبي محمد بن الخطيب، أيّده الله بوجه القبول والإقبال، وأضفى عليه ملابس الإنعام والإفضال، ورعى له خدمة السّلف الرفيع الجلال، وما تقرّر من مقاصده الحسنة في خدمة أمرنا العال، وأمر في جملة ما سوّغ من الآلاء الوارفة الظّلال، الفسيحة المجال، بأن يجدّد له حكم ما بيده من الأوامر المتقدم تاريخها، المتضمنة تمشية خمسمائة من الفضّة العشرية في كل شهر، عن مرتّب له ولولده الذي لنظره، من مجبى مدينة سلا، حرسها الله، في كل شهر، من حيث جرت العادة أن يتمشى له، ورفع الاعتراض ببابها فيما يجلب من الأدم والأقوات على اختلافها، من حيوان وسواه، وفيما يستفيده خدّامه بخارجها وأحوازها من عنب وقطن وكتّان، وفاكهة وخضر وغير ذلك، فلا يطلب في شيء من ذلك بمغرم ولا وظيف، ولا يتوجّه فيه إليه بتكليف. يتّصل له حكم ما ذكر في كل عام، تجديدا تاما، واحتراما عاما، أعلن بتجديد الحظوة واتصالها، وإتمام النّعمة(4/385)
وإكمالها، من تواريخ الأوامر المذكورة إلى الآن، ومن الآن إلى ما يأتي على الدوام، واتصال الأيام، وأن يحمل جانبه فيمن يشركه أو يخدمه محمل الرّعي، والمحاشاة من السّخرة متى عرضته، والوظائف إذا افترضت، حتى يتّصل له تالد العناية بالطّارف، وتتضاعف أسباب المنن والعوارف، بفضل الله، وتحرّر له الأزواج التي يحرثها، تبالغت من كل وجيبة، ويحاش من كل مغرم أو ضريبة، بالتحرير التّام، بحول الله وعونه. ومن وقف على هذا الظهير الكريم، فليعمل بمقتضاه، وليمض ما أمضاه، إن شاء الله. وكتب في العاشر لشهر ربيع الآخر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة. وكتب في التاريخ».
وهذا ومثله، لولا أنه أحظوظ ربما انتفع العقب بوضمها، ورمى غرض الإغفال بسهمها، لم يعن بها، من يرى أن لا جدوى إلّا في التقوى، وأنّ يد الله من هذه الأسباب الضّعيفة أقوى.
وأما (1) ما رفع إليّ من الموضوعات العلمية، والوسائل الأدبية، والرسائل الإخوانية، لمّا أقامني الملك صنما يعبد (2)، وجبلا (3) إليه يستند، صادرة عن الأعلام، وحملة الأقلام، ورؤساء النّثار والنّظام (4)، فجمّ يضيق عنه الإحصاء، ويعجز عن ضمّ نشره الاستقصاء. فربما (5) تضمّن هذا الكتاب كتاب الإحاطة هذا (6) منه كثيرا، منظوما (7) ونثيرا، جرى في أثناء الأسماء، وانتمى إلى الإجادة أكبر الانتماء.
غفر الله لي ولقائله، فما كان أولاني وإيّاه بستر وزره (8)، وإغراء الإضراب بغروره، فأهون بما لا ينفع، وإن ارتفع الكلم الطّيّب لا يدفع (9)، اللهمّ تجاوز عنّا بكرمك وفضلك (10).
المشيخة: قرأت (11) كتاب الله، عزّ وجلّ، على المكتّب، نسيج وحده، في تحمّل المنزّل حقّ حمله، تقوى وصلاحا، وخصوصيّة وإتقانا، ونغمة، وعناية
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 297296).
(2) في النفح: «يعتمد».
(3) في النفح: «وخيالا».
(4) النثار: النثر. والنظام: الشّعر. لسان العرب (نثر) و (نظم).
(5) في النفح: «وربما».
(6) كلمة «هذا» غير واردة في النفح.
(7) في النفح: «ومنظوما أثيرا، ودرّا نثيرا، جرى».
(8) في النفح: «زوره».
(9) في النفح: «لا يرفع». وقد أخذ المعنى من قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ} سورة فاطر 35، الآية 10.
(10) في النفح: «بفضلك وكرمك».
(11) النص في نفح الطيب (ج 7ص 358) و (ج 8ص 144142).(4/386)
وحفظا، وتبحّرا في هذا الفن، واضطلاعا بضرائبه (1)، واستيعابا لسقطات الأعلام، الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن عبد الولي العوّاد، كتبا (2) ثم حفظا، ثم تجويدا، إلى (3) مقرئ أبي عمرو، رحمة الله عليهما. ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة، ومطيّة الفنون، ومفيد الطلبة، الشيخ الخطيب (4) أبي الحسن (5) القيجاطي، فقرأت عليه القرآن والعربيّة، وهو أول من انتفعت به (6). وقرأت على الحسيب (7) الصدر أبي القاسم بن جزي. ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير، على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن الفخّار البيري، الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله فيه (8)، حفظا، واضطلاعا (9)، ونقلا وتوجيها، بما لا مطمع فيه لسواه.
وقرأت على قاضي الجماعة الصدر المتفنّن أبي عبد الله بن بكر، رحمه الله. وتأدّبت بالشيخ الرئيس صاحب القلم الأعلى، الصالح الفاضل، أبي الحسن بن الجيّاب.
ورويت عن كثير (10) ممن جمعهم الزمان بهذا القطر من أهل الرّواية، كالمحدّث أبي عبد الله بن جابر، وأخيه أبي جعفر، والقاضي الشهير (11) بقيّة السلف، شيخنا أبي البركات ابن الحاج، والشيخ المحدّث الصالح أبي محمد بن سلمون، وأخيه القاضي أبي القاسم بن سلمون، وأبي عمرو ابن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، وله رواية عالية. والأستاذ اللغوي أبي عبد الله بن بيبش، والمحدّث الكاتب أبي الحسين (12)
التّلمساني، والشيخ الحاج أبي القاسم بن البناء، والعدل أبي محمد الزرقون (13)، يحمل (14) عن الإمام ابن دقيق العيد، والقائد الكاتب ابن ذي الوزارتين أبي عبد (15) الله بن الحكيم، والقاضي المحدّث الأديب، جملة الظّرف، أبي بكر بن شبرين، والشيخ أبي عبد الله بن عبد الملك، والخطيب أبي جعفر الطّنجالي، والقاضي أبي بكر بن منظور، والرّاوية أبي عبد الله بن حزب الله، كلّهم من مالقة، والقاضي أبي عبد الله المقري التّلمساني، والشّريف أبي علي حسن بن يوسف،
__________
(1) في النفح الجزء السابع: «بغرائبه» وفي الجزء الثامن: «لغرائبه».
(2) في النفح: «تكتيبا».
(3) في النفح الجزء السابع: «على» وفي الجزء الثامن: «إلى مقرعات».
(4) في النفح: «الخطيب المتفنن».
(5) في النفح الجزء الثامن: «علي القيجاطي».
(6) هنا ينتهي النص في نفح الطيب الجزء السابع.
(7) في النفح: «على الخطيب الحسيب».
(8) كلمة «فيه» ساقطة في النفح.
(9) في النفح: «واطلاعا».
(10) في النفح: «الكثير».
(11) في النفح: «الشهير الشيخ بقيّة».
(12) في النفح: «أبي الحسن التلمساني المسنّ والحاج أبي القاسم بن المهني المالقي، والعدل».
(13) في النفح: «السعدي».
(14) في النفح: «تحمل».
(15) في النفح: «أبي بكر».(4/387)
والخطيب الرئيس أبي عبد الله بن مرزوق، كلّهم من تلمسان. والمحدّث الفاضل الحسيب أبي (1) العباس بن يربوع السّبتي (2)، والرئيس أبي محمد الحضرمي السّبتي (3)، والشيخ المقرئ أبي محمد بن أيوب المالقي، آخر الرواة عن ابن أبي الأحوص، وأبي عثمان بن ليون من (4) ألمرية، والقاضي أبي الحجاج المنتشاقري (5)
من أهل رندة، وطائفة كبيرة من المعاصرين، ومن أهل العدوة الغربية والمشرق (6)، الكثير بالإجازة. وأخذت الطبّ والتّعاليم (7) وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا بن هذيل (8)، ولازمته. هذا على سبيل الإلمام (9). ولو تفرّغت لذكرهم (10)، لخرج هذا التّقييد (11) عمّا وضع له.
التواليف: من ذلك (12): «اللمحة البدرية، في الدولة النّصرية»، والحلل المرقومة، و «مثلى الطّريقة»، و «السّحر والشّعر»، و «ريحانة الكتّاب» في أسفار ثمانية، وكتاب «المحبّة» في سفرين، و «الصّيّب والجهام» مجموع شعري، و «معيار الاختيار»، و «مفاضلة بين مالقة وسلا». و «رسالة الطّاعون»، و «المسائل الطبّية»، سفر. و «الرّجز في عمل التّرياق». و «اليوسفي في الطّب»، في سفرين. و «التّاج المحلّى»، في سفر. و «نفاضة الجراب»، في أربعة أسفار. و «البيزرة» في سفر.
«والبيطرة» في سفر، جامع لما يرجع إليها من محاسن الخيل، وغير ذلك. ورسالة «تكوين (13) الجنين». و «الوصول، لحفظ الصحة في الفصول». و «رجز الطّب».
و «رجز الأغذية». و «رجز السّياسة». وكتاب «الوزارة»، و «مقامة السّياسة». وكتاب «الإحاطة» هذا في خمسة عشر سفرا. إلى ما صدر مني في هذا العهد القريب، وهي «الغيرة، على أهل الحيرة»، و «حمل الجمهور، على السّنن المشهور».
و «الزّبدة الممخوضة»، و «الرّميمة». و «الرّد على أهل الإباحة»، و «سدّ الذّريعة، في تفضيل الشّريعة». و «تقرير الشّبه، وتحرير المشبّه (14)». و «استنزال اللطف الموجود، في سر الوجود».
__________
(1) في النفح: «أبو»، وهو خطأ نحوي.
(2) كلمة «السبتي» غير واردة في النفح.
(3) في النفح: «السبتين».
(4) في النفح: «من أهل ألمرية».
(5) في الأصل: «المنتشافري»، والتصويب من النفح، والمنتشافري: نسبة إلى منت شاقر، وهو حصن مطل على سهل غرناطة.
(6) في النفح: «والمشرق وإفريقية».
(7) في النفح: «والتعاليم والمنطق».
(8) في النفح: «مذيل».
(9) في النفح: «الإلماع».
(10) في النفح: «لذكر أفذاذهم».
(11) في النفح: «التأليف».
(12) نفح الطيب (ج 9ص 323).
(13) في النفح: «تكوّن».
(14) في النفح: «الشبه».(4/388)
ومن التواليف الصادرة قديما (1): «بستان الدول»، وهو موضوع غريب، ما سمع بمثله، قلّ أن شذّ عنه فنّ من الفنون، يشتمل على شجرات عشر: أولها شجرة السلطان، ثم شجرة الوزارة، ثم شجرة الكتابة، ثم شجرة القضاء والصلاة، ثم شجرة الشّرطة والحسبة، ثم شجرة العمل، ثم شجرة الجهاد، وهو فرعان، أسطول وخيول.
ثم شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطبّاء، والمنجمين، والبيازرة (2)، والبياطرة، والفلاحين، والندماء، والشّطرنجيين، والشعراء والمغنّين. ثم شجرة الرّعايا. وتقسيم هذا كله غريب، يرجع إلى شعب وأصول، وجراثيم وعمد، وقشر ولحاء، وغصون، وأوراق، وزهرات مثمرات (3) وغير مثمرات، مكتوب على كل جزء من هذه الأجزاء (4) اسم الفن المراد به. وبرنامجه صورة بستان، كمل منه نحو ثلاثين (5) جزءا تقارب الأسفار، ثم قطع عنه الحادث على الدولة. و «أبيات الأبيات». و «فتات الخوان، ولقط الصّوان» في سفر، يتضمن المقطوعات. و «عائد الصلة» في سفرين، وصلت به «صلة» الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. و «تخليص الذهب في اختيار عيون الكتب الأدبيات». و «جيش التّوشيح». و «طرفة العصر، في دولة بني نصر»، ثلاثة أسفار. إلى غير ذلك، حتى في الموسيقا وسواها. هذر كثّف به الحجاب، ولعب بالنفس الإعجاب، وضاع الزمان ولا تسل بين الرّد والقبول والنفي والإيجاب. ولله درّ القائل (6): [السريع]
والكون أشراك نفوس الورى ... طوبى لنفس حرّة فازت
إن لم تحز معرفة الله قد ... أورطها الشيء الذي حازت
وكلّ ميسّر لما خلق له، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
هذا (7)، وقد ذكرت مؤلفات ابن الخطيب، التي أوردها في ختام ترجمته لنفسه، بصور مختلفة، وفقا لتواريخ كتابتها، وقد أورد لنا المقري منها صورة رتّبت على نمط آخر، وبها زيادات لم ترد في نسخة الإسكوريال مما يدلّ على أن نسخة الإحاطة التي وردت بها، قد كتبت في وقت لاحق. وقد رأينا أن ننقلها فيما يلي:
__________
(1) نفح الطيب (ج 9ص 321320).
(2) أراد بهم العلماء بالأدوية، كما يفهم من السياق.
(3) في النفح: «مثمرة وغير مثمرة».
(4) في النفح: «الأجزاء بالصبغ اسم».
(5) في النفح: «نحو من ثلاثين سفرا».
(6) القائل هو ابن الخطيب نفسه، والبيتان في نفح الطيب (ج 9ص 322).
(7) من هنا حتى قوله: «وديوان شعري في سفرين» ليس من أصل الإحاطة، وإنما هو، على الأرجح، من كلام الناسخ.(4/389)
التواليف: (1) «التّاج المحلّى، في مساجلة القدح المعلّى». و «الكتيبة الكامنة، في أدباء المائة الثامنة». و «الإكليل الزاهر، فيما فضل عند نظم التّاج من الجواهر». ثم «النّفاية (2)، بعد الكفاية»، هذا في نحو «القلائد» و «المطمحين» لأبي نصر الفتح بن محمد. و «طرفة العصر، في دولة بني نصر»، في أسفار ثلاثة. و «بستان الدول» موضوع غريب ما سمع بمثله (الخ الأوصاف التي وردت في البيان السابق).
وديوان شعري في سفرين، سمّيته الصّيّب والجهام، والماضي والكهام». والنثر في غرض السّلطانيات كثير. والكتاب المسمّى ب «اليوسفي في صناعة الطّب» في سفرين كبيرين، كتاب ممتع، و «عائد الصّلة»، وصلت به صلة الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، في سفرين. وكتاب «الإحاطة بما تيسّر من تاريخ غرناطة»، كتاب كبير في أسفار تسعة، هذا متّصل بآخرها. و «تخليص الذهب، في اختيار عيون الكتب الأدبيات الثلاثة». و «جيش التّوشيح» في سفرين. ومن بعد الانتقال إلى الأندلس، وما وقع من كياد الدولة: «نفاضة الجراب في علالة الاغتراب»، موضوع جليل في أربعة أسفار.
وكتاب «عمل من طبّ، لمن حبّ»، ومنزلته في الصناعة الطبية، بمنزلة كتاب أبي عمرو بن الحاجب المختصر في الطريقة الفقهية، لا نظير له. ومن الأراجيز المسمّاة ب «رقم الحلل في نظم الدول». والأرجوزة المسماة ب «الحلل المرقومة، في اللمع المنظومة»، ألفيّة من ألف بيت في أصول الفقه. والأرجوزة المسمّاة ب «المعلومة»، معارضة للمقدمة المسمّاة ب «المجهولة»، في العلاج من الرأس إلى القدم، إذا أضيفت إلى رجز الرئيس أبي علي، كملت بها الصّناعة كمالا لا يشينه نقص. والأرجوزة المسماة ب «المعتمدة، في الأغذية المفردة». والأرجوزة في «السياسة المدنية». إلى ما يشذّ عن الوصف، كالرجز «في عمل الترياق الفاروقي»، و «الكلام على الطاعون المعاصر»، و «الإشارة»، و «قطع السلوك»، و «مثلى الطريقة، في ذمّ الوثيقة». حتى في الموسيقى (3) والبيطرة والبيزرة. هذر (4) به كثف الحجاب، ولعب بالنفس الإعجاب (5)، ولله درّ القائل: الشعر السابق ذكره.
الشعر: من ذلك قولي في الجناب الكريم النّبوي، شرفه الله، وهو من أوليات نظمي في ذلك الغرض (6): [الكامل]
هل كنت تعلم في هبوب الريح ... نفسا يؤجّج لاعج التّبريح؟
__________
(1) نفح الطيب (ج 9ص 321320).
(2) في النفح: «النقاية».
(3) في النفح: «المويسيقى».
(4) في النفح: «هذر كثف به الحجاب».
(5) في النفح: «الإيجاب».
(6) القصيدة في نفح الطيب (ج 9ص 165163).(4/390)
أهدتك من مشج (1) الحجاز تحيّة ... غاضت (2) لها عرض الفجاج الفيح
بالله قل لي كيف نيران الهوى ... ما بين ريح بالفلاة (3) وشيح؟
وخضيبة المنقار تحسب أنها ... نهلت بمورد دمعي المسفوح
باحت بما تخفي وناحت في الدّجى ... فرأيت في الآفاق دعوة نوح
نطقت، بما يخفيه قلبي، أدمعي ... ولطالما صمتت عن التّصريح
عجبا لأجفاني حملن شهادة ... عن خافت بين الضلوع جريح
ولقلّما كتبت رواة مدامعي ... في طرّتيها (4) حلية التّجريح
جاد (5) الحمى بعدي وأجراع الحمى ... جود تكلّ به متون الريح
هنّ المنازل ما فؤادي بعدها ... سال، ولا وجدي بها بمريح
حسبي ولوعا أن أزور بفكرتي ... زوّارها والجسم رهن نزوح
فأبثّ فيها من حديث صبابتي ... وأحثّ فيها من جناح جنوحي
ودجنّة كادت تضلّ بني (6) الشّرى ... لولا وميضا بارق وصفيح
رعشت (7) كواكب جوّها فكأنها ... ورق تقلّبها بنان شحيح
صابرت منها لجّة مهما ارتمت ... وطمت رميت عبابها بسبوح
حتى إذا الكفّ الخضيب بأفقها ... مسحت بوجه للصباح صبيح
شمت المنى وحمدت إدلاج السّرى ... وزجرت للآمال كلّ سنيح
فكأنما ليلي نسيب قصيدتي ... والصّبح فيه تخلّص (8) لمديح
لمّا حططت لخير من وطئ الثّرى ... بعنان كلّ مولّد وصريح
رحمى إله العرش بين عباده ... وأمينه الأرضى على ما يوحي
والآية الكبرى التي أنوارها ... ضاءت أشعّتها بصفحة يوح (9)
ربّ المقام (10) الصّدق والآي التي ... راقت بها أوراق كلّ صحيح
كهف (11) الأنام إذا تفاقم معضل ... مثلوا بساحة بابه المفتوح
يردون منه على مثابة راحم ... جمّ الهبات عن الذنوب صفوح
__________
(1) في النفح: «شيح».
(2) في النفح: «فاحت».
(3) في النفح: «في الفلاة».
(4) في النفح: «في صفحتيها».
(5) في الأصل: «أجاد»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «بها السّرى».
(7) في الأصل: «وعشت» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «تخلّصي».
(9) يوح: اسم الشمس. محيط المحيط (يوح).
(10) في النفح: «المقال».
(11) في الأصل: «كيف»، والتصويب من النفح.(4/391)
لهفي على عمر مضى أنضيته ... في ملعب للتّرّهات فسيح (1)
يا زاجر الوجناء يعتسف الفلا ... والليل يعثر في فضول مسوح
يصل السّرى سبقا إلى خير الورى ... والرّكب بين موسّد وطريح
لي في حمى ذاك الضّريح لبانة ... إن أصبحت لبنى (2) أنا ابن ذريح
وبمهبط الرّوح الأمين أمانة ... اليمن فيها والأمان لروحي
يا صفوة الله المكين مكانه ... يا خير مؤتمن وخير نصيح
أقرضت فيك الله صدق محبّتي ... أيكون تجري فيك غير ربيح؟
حاشا وكلّا أن (3) تخيب وسائلي ... أو أن أرى مسعاي غير نجيح
إن عاق عنك قبيح ما كسبت يدي ... يوما فوجه العفو غير قبيح
واخجلتا (4) من حلبة (5) الفكر التي ... أغريتها بغرامي المشروح
قصرت خطاها بعد ما ضمّرتها ... من كلّ موفور الجمام جموح
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي (6)
وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ... كان القصور قصار كلّ فصيح
صلّى عليك الله (7) ما هبّت صبا ... فهفت بغصن في الرّياض مروح
واستأثر الرحمن جلّ جلاله ... عن خلقه بخفيّ سرّ الروح
وأنشدت السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الأعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة هذه القصيدة (8): [الطويل]
تألّق نجديّا فأذكرني نجدا ... وهاج بي الشّوق المبرّح والوجدا
وميض رأى برد الغمامة معقلا (9) ... فمدّ يدا بالتّبر أعلمت البردا
تبسّم في مجريّة (10) قد تجهّمت ... فما بذلت وصلا ولا ضربت وعدا
وراود منها فاركا قد تنعّمت ... فأهوى لها نصلا وهدّدها رعدا
__________
(1) أنضيته: اختبرته. التّرّهات: الأباطيل، واحدها ترّهة. محيط المحيط (نضا) و (تره).
(2) لبنى: معشوقة ابن ذريح.
(3) في الأصل: «أنت»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «واخجلتي».
(5) في الأصل: «جلبة»، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «مديح»، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «صلى الله عليك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) القصيدة في نفح الطيب (ج 9ص 169165).
(9) في النفح: «مغفلا».
(10) في النفح: «بحريّة».(4/392)
فحلّتها (1) الحمراء من شفق الضّحى ... نضاها وحلّ المزن من جيدها عقدا
لك الله من برق كأنّ وميضه ... يد الساهر المقرور قد قدحت زندا
تعلّم من سكّانه شيم النّدى ... فغادر أجراع الحمى روضة تندى
وتوّج من نوّارها قنن (2) الرّبا ... وختّم من أزهارها القضب الملدا
لسرعان ما كانت مناسف للصّبا ... فقد ضحكت زهرا وقد خجلت وردا
بلاد عهدنا في قرارتها الصّبا ... يقلّ لذاك العهد أن يألف العهدا
إذا ما النّسيم اعتلّ في عرصاتها ... تناول فيها البان والشّيح والرّندا
فكم في مجاني وردها من علاقة ... إذا ما استثيرت أرضها أنبتت وجدا
إذا استشعرتها النّفس عاهدت الجوى ... إذا ما التمحتها العين عاقدت السّهدا
ومن عاشق حرّ إذا ما استماله ... حديث الهوى العذريّ صيّره عبدا
ومن ذابل يحكي المحبّين رقّة ... فيثني إذا ما هبّ عرف الصّبا قدّا
سقى الله نجدا ما نضحت بذكرها ... على كبدي إلّا وجدت لها بردا
وآنس قلبي فهو للعهد حافظ ... وقلّ على الأيام من يحفظ العهدا
صبور وإن لم يبق إلّا ذبالة ... إذا استقبلت مسرى الصّبا اشتعلت وقدا
صبور إذا الشّوق استجاد كتيبة ... تجوس خلال الصّبر كان لها بندا
وقد كنت جلدا قبل أن يذهب النّوى ... ذمائي وأن يستأصل العظم والجلدا
أأجحد حقّ الحبّ والدمع شاهد ... وقد وقع التّسجيل من بعد ما أدّى؟
تناثر في إثر الحمول (3) فريده ... فلله عينا من رأى الجوهر الفردا
جرى يققا في ملعب الخدّ (4) أشهبا ... وأجهده ركض الأسى فجرى وردا
ومرتحل أجريت دمعي خلفه ... ليرجعه فاستنّ في إثره قصدا
وقلت لقلبي: طر إليه برقعتي ... فكان حماما في المسير بها هدّا
سرقت صواع العزم يوم فراقه ... فلجّ ولم يرقب صواعا (5) ولا ودّا
وكحّلت عيني من غبار طريقه ... فأعقبها دمعا وأورثها سهدا
إلى الله كم أهدى بنجد وحاجر ... وأكنى بدعد في غرامي أو سعدى
__________
(1) في الأصل: «فخلتها»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) القنن: جمع قنة وهي أعلى مكان في الجبل، وأراد بها هنا: المرتفعات. لسان العرب (قنن).
(3) الحمول: الهوادج أو الإبل عليها الهوادج، الواحد حمل، والمراد هنا الأحباب الذين على الهوادج.
(4) في الأصل: «الجدّ»، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «سواعا».(4/393)
وما هو إلّا الشّوق ثار كمينه ... فأذهل نفسا لم تبن عنده قصدا
وما بي إلّا أن سرى الركب موهنا ... وأعمل في رمل الحمى النّصّ والوخدا
وجاشت جنود الصّبر والبين والأسى ... لديّ فكان الصّبر أضعفها جندا
ورمت نهوضا واعتزمت مودّعا ... فصدّني المقدور عن وجهتي صدّا
رقيق بدت للمشترين عيوبه ... ولم تلتفت دعواه فاستوجب الرّدّا
تخلّف عنّي ركب طيبة عانيا ... أما آن للعاني المعنّى بأن يفدى؟
مخلّف سربي (1) قد أصيب جناحه ... وطرن فلم يسطع مراحا ولا مغدى
نشدتك يا ركب الحجاز، تضاءلت ... لك الأرض مهما استعرض السّهب وامتدّا
وجمّ لك المرعى وأذعنت الصّوى ... ولم تفتقد ظلّا ظليلا ولا وردا
إذا أنت شافهت الدّيار بطيبة ... وجئت بها القبر المقدّس واللّحدا
وآنست نورا من جناب محمد ... يجلّي القلوب الغلف (2) والأعين الرّمدا
فنب عن بعيد الدار في ذلك الحمى ... وأذر به دمعا وعفّر به خدّا
وقل يا رسول الله عبد تقاصرت ... خطاه وأضحى من أحبّته فردا
ولم يستطع من بعد ما بعد المدى ... سوى لوعة تعتاد أو مدحة تهدى
تداركه يا غوث العباد برحمة ... فجودك ما أجدى وكفّك ما أندى
أجار بك الله العباد من الرّدى ... وبوّأهم ظلّا من الأمن ممتدّا
حمى دينك الدّنيا وأقطعك الرّضا ... وتوّجك العليا وألبسك الحمدا
وطهّر منك القلب لمّا استخصّه ... فجلّله نورا وأوسعه رشدا
دعاه فما ولّى هداه فما غوى ... سقاه فما يظما، جلاه فما يصدا
تقدّمت مختارا، تأخّرت مبعثا ... فقد شملت علياؤك القبل والبعدا
وعلّة هذا الكون أنت، وكلّ ما ... أعاد وأنت (3) القصد فيه وما أبدى
وهل هو إلّا مظهر أنت سرّه ... ليمتاز في الخلق المكبّ من الأهدى
ففي عالم الأسرار ذاتك تجتلي ... ملامح نور لاح للطّور فانهدّا
وفي عالم الحسن (4) اغتديت مبوّأ ... لتشفي من استشفى وتهدي من استهدى
فما كنت لولا أن ثبتّ (5) هداية ... من الله مثل الخلق رسما ولا حدّا
__________
(1) في النفح: «سرب».
(2) في الأصل: «الغلق»، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «فأنت».
(4) في النفح: «الحسّ».
(5) في الأصل: «بثّت»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(4/394)