أطال الله بقاء أخي وسيدي، لأهل الفرائض يحسن الاحتيال في مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسّأ، معدّة لتحليل هذا الصّنف المنشّأ من الصّلصال والحمأ. فمن ميّت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى وكفن ينشر، ومن رمس يفتح وباب يغلق، ومن عاصب يحبس ونعش يطلق، فكلما خربت ساحة، نشأت في الحانوت راحة، وكلما قامت في شعب مناحة، اتّسعت للرزق مساحة، فيباكر سيدي الحانوت وقد احتسى مرقته، وسهّل عنقفته، فيرى الصّعبة بالمناصب شطرا، فيلحظ هذا برفق وينظر إلى هذا شزرا، ويأمر بشقّ الجيوب تارة والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذا رفيقا، ويقول وقد خامره السرور: رحم الله فلانا لقد كان لنا صديقا، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك
المراتب، وتتبين الأصدقاء والأجانب، فينصرف هذا، وحظّه التهريب، والنظر الحديد، وينفصل هذا وبين يديه المنذر الصّيت والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت ويسأل عن الكيت والكيت، ويقول: عليّ بما في البيت. أين دعاء الثّاغية والرّاغية؟
أين عقود الأملاد بالبادية؟ وقد كانت لهذا الرجل حالا في حال. وقد ذكر في الأسماء الخمسة فقيل: ذو مال. وعيون الأعوام ترنو من عل، وأعناقهم تشرئبّ إلى خلف الكلل، وأرجلهم تدبّ إلى الأسفاط دبيب الصّقور إلى الحجل. والموتى قد وجبت منهم الجنوب، وحضر الموروث والمكسوب، وقيّد المطعوم والمشروب. وعدّت الصحاح، ووزنت الأرطال وكيلت الأقداح. والشّهود يغلظون على الورثة في الأليّة، ويصونهم بالبتات في النشأة الأوّلية. والروائح حين تفعم الأرض طيبا، وتهدي الأرواح شذا يفعل في إزعاجها على الأبدان فعلا عجيبا. والدلّال يقول: هذا مفتاح الباب، والسّمسار يصيح: قام النّدا فما تنتظرون بالثبات؟ والشّاهد يصيح فتعلو صيحته، والمشرف يشرب فتسقط سبحته. والمحتضر يهسّ ألا حيّ فلا تسمعون، ويباهي لون العباء عليه الجواب رب أرجعون. ما هذا النّشيج والضّجيج؟ متّ كلا لم أمت. ومن حجّ له الحجيج، فترتفع له الأصوات، كي لا يفسح فيه الممات. ويبقر بطنه برغمه، ويحفر له بجانب أبيه وبحذا أمّه. ثم يشرع في نفسه الفرض، ولو أكفئت السماوات على الأرض. ويقال لأهل السّهام: أحسنوا، فالإحسان ثالث مراتب الإسلام، وقد نصّ ابن القاسم على أجرة القسّام. وسوّغه أصبغ وسحنون، ولم يختلف فيه مطّرف وابن الماجشون. إن قيل إيصال الحقائق إلى أرجائها، حسن فجزاء الإحسان إحسان، وقيل إخراج النّسب والكسور كفايه، فللكاهنين حلوان. اللهمّ غفرا، ونستقيل الله من انبساط يجرّ غدرا، ونسأل الله حمدا يوجب المزيد من نعمائه وشكرا. ولولا أن أغفل عن الخصم، وأثقل رحل الفقيه أبي النجم، لأستغلّن المجلس شرحا، ولكان لنا في بحر المباسطة سبح، ولأفضنا في ذكر الوارث والورّاث، وبيّنّا العلّة في أقسام الشهود مع المشتغل بنسبة الذكور مع الإناث. والله يصل عزّ أخي ومجده، ويهب له قوة تخصّه بالفائدة وجدّه، ويزيده بصيرة يتّبع بها الحقوق إلى أقصاها، وبصرا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، ودام يحصي الخراريب والفلوس والأطمار، ويملأ الطّوامر بأقلامه البديعة الصّنعة، ويصل الطّومار بالطّومار والسلام.
والشيء بالشيء يذكر، قلت: ومن أظرف ما وقعت عليه في هذا المعنى، قال بعض كتاب الدولة الحكمية (1) بمنورقة، وقد ولّاه خطّة المواريث، وكتب إليه راغبا
__________
(1) هي دولة أبي عثمان سعيد بن حكم بن عمر بن حكم القرشي الذي ضبط منورقة وأقام عليها(2/158)
في الإعفاء: [الطويل]
وما نلت من شغل المواريث رقعة ... سوى شرح نعش كلّما مات ميّت
وأكتب للأموات صكّا كأنهم ... يخاف عليهم في الجباب التّفلّت
كأني لعزرائيل صرت مناقضا ... بما هو يمحو كلّ يوم وأثبت
وقال: فاستظرفها الرئيس أبو عثمان بن حكم وأعفاه.
مولده: في أواخر أربعة وسبعين وستمائة.
وفاته: قال في العائد: ومضى لسبيله، شهابا من شهب هذا الأفق، وبقيّة من بقايا حلبة السّبق، رحمه الله، في ليلة السبت الثاني من شهر شعبان المكرم عام سبعة وأربعين وسبعمائة، وتخلّف وقرا لم يشتمل على شيء من الكتب، لإيثاره اقتناء النّقدين، وعيّن جراية لمن يتلو كتاب الله على قبره على حدّ من التّعزرة والمحافظة على الإتقان. ودفن بباب إلبيرة في دار اتخذها لذلك.
محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا القاسم.
حاله: مجموع خلال بارعة، وأوصاف كاملة، حسن الخطّ، ذاكر للتاريخ والأخبار، مستول على خصال حميدة من حسن رواء وسلامة صدر، إلى نزاهة الهمّة، وإرسال السّجية، والبعد عن المصانعة، والتحلّي بالوقار والحشمة، شاعر، كاتب.
ومناقبه يقصر عنها الكثير من أبناء جنسه، كالفروسيّة، والتجنّد، والبسالة، والرّماية، والسّباحة، والشطرنج، متحمّد بحمل القنا، مع البراعة، مديم على المروءة، مواس للمحاويج من معارفه. ارتسم في الديوان فظهر غناؤه، وانتقل إلى الكتابة، معزّزة بالخطط النّبيهة العلمية، وحاله الموصوفة متّصلة إلى هذا العهد، وهو معدود من حسنات قطره.
__________
أحسن قيام، وهادن الأعداء، وطالت مدته في ذلك، وحسنت سيرته إلى أن مات سنة 680هـ.
ترجمته في بغية الوعاة (ص 255) واختصار القدح المعلى (ص 28) والمغرب (ج 2ص 469) والحلة السيراء (ج 2ص 318) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 274) والذيل والتكملة (ج 4ص 28) والروض المعطار (ص 549، مادة: منورقة).
(1) ترجم ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 289) لرجل قد يكون هو نفسه المترجم له، تحت عنوان: «الكاتب أبو القاسم محمد بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن قطبة الهرميسي» وقال إن ابن قطبة كتب له قصيدتين، الأولى لامية ساكنة والثانية يائية، وهذا ما ينطبق على المترجم له هنا في الإحاطة.(2/159)
وثبت في «التاج المحلى» بما نصّه: «سابق ركض المحلّى، أتى من أدواته بالعجائب، وأصبح صدرا في الكتّاب وشهما في الكتائب. وكان أبوه، رحمه الله، بهذه البلدة، قطب أفلاكها، وواسطة أسلاكها، ومؤتمن رؤسائها وأملاكها، وصدر رجالها، ووليّ أرباب مجالها، فقد نثل ابنه سهامها، فخبر عدالة وبراعة وفهما، وألقاه بينهم قاضيا شهما، فظهر منه نجيبا، ودعاه إلى الجهاد سميعا مجيبا، فصحب السّرايا الغريبة المغيرة، وحضر على هذا العهد من الوقائع الصغيرة والكبيرة، وعلى مصاحبة البعوث، وجوب السّهول والوعوث، فما رفض اليراعة للباتر (1)، ولا ترك الدّفاتر للزمان الفاتر.
شعره: وله أدب بارع المقاصد، قاعد للإجادة بالمراصد. وقال من الرّوضيات وما في معناها: [الطويل]
دعيني ومطلول الرّياض فإنني ... أنادم في بطحائها الآس والوردا
أعلّل هذا بخضرة شارب ... وأحكي بهذا في تورّده الخدّا
وأزهر غضّ البان رائد نسمة ... ذكرت به لين المعاطف والقدّا
وقال: [الطويل]
وليل أدرناها سلافا كأنها ... على كفّ ساقيها تضرّم نار (2)
غنينا عن المصباح في جنح ليلها ... بخدّ مدير لا بكأس عقار
وقال: [الرمل]
يومنا يوم سرور فلتقم ... تصدع الهمّ بكاسات المدام
إنما الدّنيا منام فلتكن ... مغرما فيها بأحلى المنام
وقال: [الطويل]
وبي منك ما لو كان للشرب ما صحا ... وبالهيم ما روّت صداها المناهل
أحبّك ما هبّت من الروض نسمة ... وما اهتزّ غصن في الحديقة مائل
فإن شئت أن تهجر وإن شئت فلتقبل ... فإنّي لما حمّلتني اليوم حامل
وقال: [الكامل]
كم قلت للبدر المنير إذا بدا ... هيهات وجه فلانة تحكي لنا
__________
(1) في الأصل: «الباتر». والباتر: السيف القاطع. لسان العرب (بتر).
(2) في الأصل: «نارا».(2/160)
فأجابني بلسان حال واعتنى ... لا الشمس تحكيها فأحكيها أنا
وصرفت وجهي نحو غصن أملد ... قد رام يشبه قدّها لمّا انثنى
فضحكت هزءا عند هزّ قوامها ... إذا رام أن يحكى قواما كالقنا
وكتبت إليه في غرض يظهر من الأبيات: [الطويل]
جوانحنا نحو اللقاء جوانح ... ومقدار ما بين الدّيار قريب
وتمضي الليالي والتزاور معوز ... على الرغم منّا إنّ (1) ذا لغريب
فديتك عجّلها لعيني زيارة ... ولو مثل ما ردّ اللّحاظ مريب
وإنّ لقائي جلّ عن ضرب موعد ... لأكرم ما يهدى الأريب أريب
فراجعني بقوله، والتجنّي شيمة: [الطويل]
لعمرك ما يومي إذا كنت حاضرا ... سوى يوم صبّ من عداه يغيب
أزور فلا ألفي لديك بشاشة ... فيبعد منّي الخطو وهو قريب
فلا ذنب للأيام في البعد بيننا ... فإني لداعي القرب منك مجيب
وإنّ لقاء جاء من غير موعد ... ليحسن لكن مرّة ويطيب
وإحسانه كثير، وفيما ثبت كفاية لئلّا نخرج عن غرض الاختصار.
محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (2)
يكنى محمد أبا بكر، أخو الذي قبله.
حاله: تلوه في الفضل والسّراوة، وحسن الصورة، ونصاعة الطّرف، مرب عليه بمزيد من البشاشة والتنزّل، وبذل التودّد، والتبريز في ميدان الانقطاع، متأخر عنه في بعض خلال غير هذا. ذكيّ الذهن، مليح الكتابة، سهلها، جيّد العبارة، متأتّي اليراع، مطلق اليد، حسن الخطّ، سريع بديهة المنثور، معمّ، مخول في التخصّص والعدالة.
كتب الشّروط بين يدي أبيه، ونسخ كثيرا من أمّهات الفقه، واستظهر كتبا، من ذلك «المقامات الحريرية». وكتب بالدار السلطانية، واختصّ بالمراجعة عمّن بها، والمفاتحة أيام حركات السلطان عنها إلى غيرها. حميد السيرة، حسن الوساطة، نجديّ الجاه،
__________
(1) في الأصل: «وإنّ» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) ترجمة أبي بكر محمد بن محمد ابن قطبة الدوسي في نثير فرائد الجمان (ص 318) والدرر الكامنة (ج 4ص 167).(2/161)
مشكور التصرّف، خفيف الوطأة. وولّي الخطابة العليّة، مع الاستمساك بالكتابة. ولم يؤثر عنه الشعر (1)، ولا عوّل عليه.
محمد بن محمد بن محمد بن قطبة الدّوسي
يكنى أبا بكر، وقد ذكرنا أباه وعمّه، ويأتي ذكر جدّه.
حاله: نبيل المقاصد في الفن الأدبي، مشغول به، مفتوح من الله عليه فيه، شاعر مطبوع، مكثر، انقاد له مركب النظم، في سنّ المراهقة، واشتهر بالإجادة، وأنشد السلطان، وأخذ الصّلة، وارتسم لهذا العهد في الكتابة. وشرع في تأليف يشتمل على أدباء عصره.
شعره: ومما خاطب به أحد أصحابه: [الطويل]
إذا شمت من نحو الحمى في الدّجا برقا ... أبى الدّمع إلّا أن يسيل ولا يرقى
ومهما تذكّرت الزمان الذي مضى ... تقطّعت الأحشاء من حرّ ما ألقى
خليليّ، لا تجزع لمحل فأدمعي ... تبادر سقيا في الهوى لمن استسقى
وما ضرّ من أصبحت ملك يمينه ... إذا رقّ لي يوما وقد حازني رقّا
فنيت به عشقا وإن قال حاسد ... أضلّ الورى من مات في هاجر شقّا
تلهّب قلبي من تلهّب خدّه ... فيا نعم ذاك الخدّ فاض بأن أشقى
ومنها:
وكم من صديق كنت أحسب أنه ... إذا كذبت أوهامنا رفع الصّدقا
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي (2)
ابن عمّ المذكورين قبله، يكنى أبا القاسم.
حاله: حسن (3) الصورة، لازم القراءة على شيوخ بلده، ونظم الشعر على الحداثة، وترشح للكتب بالدار السلطانية مع الجماعة، ممن هو في نظمه.
__________
(1) قال عنه ابن الأحمر إنّ الشعر فتح له بابه وهو صغير، وأتى منه بما ملأ الأقطار بالكثرة، وأورد له بعض في «نثير فرائد الجمان» (ص 320319).
(2) ترجمة أبي القاسم محمد بن محمد ابن قطبة الدوسي في الكتيبة الكامنة (ص 272).
(3) يبدو أن نظرة ابن الخطيب لأبي القاسم تغيرت عند تأليف الكتيبة الكامنة، فهو هناك يذمّه وينعته بأقبح النعوت، على خلاف ما ورد هنا.(2/162)
ومن شعره، كتب إليّ بما نصّه: [الكامل]
احسب وحدّه يوم رأسك ربما ... تعطي السّلامة في الصراع سلّما
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي
أخو الفقيه أبي بكر بن القاسم بن محمد المذكور.
حاله: شاب حسن فاضل، دمث، متخلّق، جميل الصورة، حسن الشكل، أحمر الوجنتين. حفظ كتبا من المبادىء النحوية، وكتب خطّا حسنا، وارتسم في ديوان الجند مثل والده، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعره: قيّد أخوه لي من الشعر الذي زعم أنه من نظمه، قوله: [المتقارب]
حلفت بمن ذاد عنّي الكرى ... وأسهر جفني ليلا طويلا
وألبس جسمي ثياب النّحول ... وعذّب بالهجر قلبي العليلا
ما حلت عن ودّه ساعة ... ولا اعتضت منه سواه بديلا
محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزيّ الكلبي (1)
من أهل غرناطة وأعيانها، يكنى أبا عبد الله.
أوّليّته: تنظر في اسم أبيه في ترجمة المقرئين والعلماء.
حاله: من أعلام الشّهرة على الفتاوة، وانتشار الذكر على الحداثة، تبريزا في الأدب، واضطلاعا بمعاناة الشعر، وإتقان الخطّ، وإيضاحا للأحاجي والملغزات. نشأ بغرناطة في كنف والده، رحمه الله، مقصور التّدريب عليه، مشارا إليه في ثقوب الذهن، وسعة الحفظ، ينطوي على نبل لا يظهر أثره على التفاتة، وإدراك، تغطّي شعلته مخيّلة غير صادقة، من تغافله. ثم جاش طبعه، وفهق حوضه، وتفجّرت ينابيعه، وتوقّد إحسانه.
ولمّا فقد والده، رحمه الله، ارتسم في الكتابة، فبذّ جلّة الشعراء، إكثارا واقتدارا، ووفور مادة، مجيدا في الأمداح، عجيبا في الأوضاع، صدّيقا في النّسيب، مطبوعا في المقطوعات، معتدلا في الكتابة، نشيط البنان، جلدا على العمل، سيّال
__________
(1) ترجمة محمد بن جزي في الكتيبة الكامنة (ص 223) ونثير فرائد الجمان (ص 292) وأزهار الرياض (ج 3ص 189) ونفح الطيب (ج 8ص 70).(2/163)
المجاز، جموح عنان الدّعابة، غزلا، مؤثرا للفكاهة. انتقل إلى المغرب لشفوف خصله، على ما قد قسّم الحظوظ. سبحانه من رزقه بهذه البلاد، فاستقرّ بباب ملكه، مرعيّ الجناح، أثير الرتبة، مطلق الجراية، مقرّر السّهام، معتبا وطنه، راضيا عن جيرته، ديدن من يستند إلى قديم، ويتحيّز إلى أصالة.
تواليفه: أخبرني عند لقائه إياي بمدينة فاس في غرض الرسالة عام خمسة (1)
وخمسين وسبعمائة، أنه شرع في تأليف تاريخ غرناطة، ذاهبا هذا المذهب الذي انتدبت إليه، ووقفت على أجزاء منه تشهد باضطلاعه، وقيّد بخطّه من الأجزاء الحديثة والفوائد والأشعار ما يفوت الوصف، ويفوق الحدّ. وجرى ذكره في «التاج» بما نصه (2):
«شمس في سماء (3) البلاغة بازغة، وحجّة على بقاء الفطرة الغريزية (4) في هذه البلاد المغربية بالغة، وفريدة وقت أصاب من فيها نادرة أو نابغة، من جذع (5) بن علي القادح، وجرى (6) من المعرفة كل بارح، لو تعلّقت الغوامض بالثريّا لنالها، وقال أنا لها. وربما غلبت الغفلة على ظاهره، وتنطبق (7) أكمامها على أزاهره، حتى إذا قدح في الأدب زنده، تقدّم المواكب بنده، إلى خطّ بارع، يعنو طوال الطويل منه إلى سرّ وبراعة، كما ترضى المسك والكافور عن طرس وحبر.
شعره: فمن غرامياته وما في معناها قوله (8): [الطويل]
متى يتلاقى شائق ومشوق ... ويصبح عاني (9) الحبّ وهو طليق
أما أنها أمنيّة عزّ نيلها ... ومرمى لعمري في الرّجاء (10) سحيق
ولكنني (11) خدعت (12) قلبي تعلّة ... أخاف انصداع القلب فهو رقيق
وقد يرزق الإنسان من بعد يأسه ... وروض الرّبى بعد الذبول يروق
__________
(1) في الأصل: «خمس» وهو خطأ نحوي.
(2) قارن بالكتيبة الكامنة (ص 224223).
(3) كلمة «سماء» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة الكامنة.
(4) في الكتيبة: «العربية هي بالمغربية بالغة».
(5) في الكتيبة: «من جذع أبرّ على القارح».
(6) في الكتيبة: «وزجر كل سانح، لا بارح».
(7) في الأصل: «وتنطفق» ولا معنى له. وفي الكتيبة الكامنة: «وانطبق كمامه».
(8) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 226225).
(9) في الأصل: «عير» وقد اخترنا هذه الكلمة من الكتيبة لأنها أكثر ملاءمة للمعنى.
(10) في الأصل: «الرجا» وهكذا ينكسر الوزن.
(11) في الأصل: «ولكني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(12) في الكتيبة: «خادعت».(2/164)
تباعدت لما زادني القرب لوعة ... لعلّ فؤادي من جواه يفيق
ورمت شفاء الداء بالداء مثله ... وإني (1) بألّا أشتفي لحقيق
وتالله ما للصّبّ في الحبّ راحة ... على كلّ حال إنه لمشوق
ويا (2) ربّ قد ضاقت عليّ مسالكي (3) ... فها أنا في بحر الغرام غريق
ولا سلوة ترجى ولا صبر (4) ممكن ... وليس إلى وصل الحبيب طريق
ولا الحبّ عن تعذيب قلبي ينثني ... ولا القلب للتّعذيب منه يطيق
شجون يضيق الصّدر عن زفراتها ... وشوق نطاق الصبر عنه يضيق
نثرت عقود الدّمع ثم نظمتها ... قريضا فذا درّ وذاك عقيق
بكيت أسى حتى بكى حاسدي معي ... كأنّ عذولي عاد وهو صديق (5)
ولو أنّ عند الناس بعض محبّتي ... لما كان يلفى (6) في الأنام مفيق
أيا عين كفّي الدمع ما بقي الكرى ... إذا منعوك النّوم (7) سوف تذوق
ويا نائما (8) عن ناظريّ أما ترى (9) ... لشمسك من بعد الغروب شروق؟
رويدك رفقا بالفؤاد فإنه ... عليك وإن عاديته (10) لشفيق
نقضت عهودي ظالما بعد عقدها ... ألا إنّ عهدي كيف كنت وثيق
كتمتك حبّي (11) يعلم الله مدّة ... وبين ضلوعي من هواك حريق
فما زلت بي حتى فضحت (12) فإن أكن ... صبرت (13) فبعد (14) اليوم لست أطيق
وقال (15): [الكامل]
ومورّد الوجنات معسول اللّمى ... فتّاك لحظ (16) العين في عشّاقه
__________
(1) في الكتيبة: «فإني».
(2) في الكتيبة: «أيا».
(3) في الكتيبة: «مذاهبي».
(4) في الكتيبة: «ولا الصبر».
(5) في الكتيبة الكامنة: «حتى بكت لي حسّدي كأنّ عدوّي صار وهو».
(6) في الأصل: «يلقى» والتصويب من الكتيبة.
(7) في الكتيبة: «اليوم».
(8) المصدر نفسه: «غائبا».
(9) المصدر نفسه: «يرى».
(10) المصدر نفسه: «عذّبته».
(11) المصدر نفسه: «حبّا».
(12) المصدر نفسه: «حتى افتضحت».
(13) المصدر نفسه: «صبوت».
(14) في الأصل: «بعد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(15) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 224).
(16) في الأصل: «فتّاك بلحظ»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.(2/165)
الخمر بين لثاته والزّهر في ... وجناته والسّحر في أحداقه
ميّاد (1) غصن البان في أثوابه ... ويلوح بدر التّمّ في أطواقه
من للهلال (2) بثغره أو خدّه (3) ... هب أنه يحكيه في إشراقه
ولقد تشبّهت الظّباء (4) بشبهة ... من خلقه وعجزن عن أخلاقه
نادمته وسنا محيّا الشمس قد ... ألقى على الآفاق فضل رواقه
في روضة ضحكت ثغور أقاحها ... وأسال (5) فيها المزن من آماقه
أسقيه كأس سلافة كالمسك في ... نفحاته والشهد عند مذاقه
صفراء لم يدر الفتى أكواسها ... إلّا تداعى همّه لفراقه
ولقد تلين الصّخر (6) من سطواته ... فيعود للمعهود من إشفاقه
وأظلّ أرشف من سلافة (7) ثغره ... خمرا تداوي القلب من إحراقه
ولربما عطفته عندي (8) نشوة ... تشفي (9) الخبال بضمّه وعناقه
أرجو نداه (10) إذا تبسّم ضاحكا ... وأخاف منه العتب في إطراقه
أشكو القساوة من هواي (11) وقلبه ... والضّعف من جلدي ومن ميثاقه
يا هل لعهد قد مضى من عودة ... أم لا سبيل بحالة للحاقه
يا ليت (12) لو كانت لذلك حيلة ... أو كان يعطى المرء باستحقاقه
فلقد يروق الغصن بعد ذبوله ... ويتمّ (13) بدر التّمّ بعد محاقه
__________
(1) في الأصل: «ينادى غصن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(2) في الأصل: «للهلاك» والتصويب من الكتيبة.
(3) في الكتيبة: «بخدّه أو ثغره».
(4) في الأصل: «الظبا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(5) في الأصل: «وأمال»، وقد اخترنا هذه الكلمة من الكتيبة لأنها أكثر ملاءمة للمعنى.
(6) في الكتيبة: «الصمّ».
(7) في الكتيبة: «أقاحي».
(8) في الكتيبة: «نحوي».
(9) في الأصل: «فشفى الخيال» والتصويب من الكتيبة.
(10) في الكتيبة: «رضاه».
(11) في الكتيبة: «هواه».
(12) في الأصل: «يا ليت شعري لو» وهكذا ينكسر الوزن، ولذلك حذفنا كلمة «شعري» ليستقيم الوزن، كما في الكتيبة الكامنة.
(13) في الكتيبة: «ويروق».(2/166)
ومما اشتهر عنه في هذا الغرض (1): [الكامل]
ذهبت حشاشة قلبي المصدوع (2) ... بين السّلام ووقفة التوديع
ما أنصف الأحباب يوم وداعهم ... صبّا (3) يحدّث نفسه برجوع
أنجد بغيثك (4) يا غمام فإنني ... لم أرض يوم البين فعل (5) دموع
من كان يبكي الظاغنين بأدمع ... فأنا الذي أبكيهم بنجيع
إيه وبين الصّدر مني والحشا ... شجن طويت على شجاه ضلوعي (6)
هات الحديث عن (7) الذين تحمّلوا ... واقدح (8) بزند الذّكر نار ولوعي
عندي شجون في التي جنت النّوى (9) ... أشكو الغداة (10) وهنّ في توديع (11)
من وصلي الموقوف أو من سهدي (12) ال ... موصول أو من نومي المقطوع (13)
ليت الذي بيني وبين صبابتي ... بعد (14) الذي بيني وبين هجوعي
يا قلب (15) لا تجزع لما فعل النّوى (16) ... فالحرّ ليس لحادث بجزوع
أفبعد (17) ما غودرت في أشراكه ... تبغي النّزوع؟ ولات حين نزوع
ومهفهف مهما هبت ريح الصّبا ... أبدت له عطفاه عطف مطيع
جمع المحاسن وهو منفرد بها ... فاعجب لحسن مفرد مجموع
والشمس لولا إذنه ما آذنت ... خجلا وإجلالا له بطلوع (18)
__________
(1) القصيدة في نثير فرائد الجمان (ص 298296)، وبعضها في نفح الطيب (ج 8ص 77 78) وأزهار الرياض (ج 3ص 197).
(2) في الأصل: «الصدوع» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من نثير فرائد الجمان.
(3) في النثير: «صبّ».
(4) في النثير: «بدمعك».
(5) في الأصل: «قلّ» والتصويب من نثير فرائد الجمان.
(6) في الأصل: «ضلوع» والتصويب من النثير.
(7) في النثير: «على».
(8) في النثير: «تقدح».
(9) في النثير وأزهار الرياض: «من أي أشجاني التي جنت الهوى». وفي النفح: «من أي أشجاني التي جنت النوى»
(10) في النفح وأزهار الرياض: «العذاب».
(11) في المصادر الثلاثة: «تنويع».
(12) في المصادر الثلاثة: «هجري».
(13) في هذا البيت والبيتين التاليين مصطلحات الحديث وهي: الموقوف، والموصول، والمقطوع، والصحيح، والموضوع، والمسند.
(14) في النثير: «مثل».
(15) في النثير: «يا قلبي».
(16) في النثير: «الهوى».
(17) في الأصل: «أبعد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من نثير فرائد الجمان.
(18) في الأصل: «مطلوع»، والتصويب من النثير.(2/167)
ما زلت أسقي خدّه من أدمعي ... حتى تفتّح عن رياض ربيع
إن كان يرنو عن نواظر شادن ... فلربّ ضرغام بهنّ صريع
عجبا لذاك الشعر زاد بفرقه ... حسنا كحسن الشّعر بالتّصريع
منع الكرى ظلما وقد منع الضّنا ... فشقيت (1) بالممنوح والممنوع
جرّدت ثوب العزّ عني طائعا ... أتراه يعطفه عليّ خضوعي؟
لم أنتفع (2) لبسا من الملبوس في ... حبّي ولا بعذاري المخلوع
بجماله استشفعت في إجماله ... ليحوز أجر منعّم وشفيع
يا خادعي عن سلوتي وتصبّري (3) ... لولا الهوى ما كنت بالمخدوع
أوسعتني بعد (4) الوصال تفرّقا ... وأثبتني سوءا لحسن صنيعي
أسرعت فيما ترتضي فجزيتني (5) ... بطويل هجران إليّ سريع (6)
أشرعت رمحا من قوامك ذابلا (7) ... فمنعت من (8) ماء الرّضاب شروعي
خذ من حديث تولّعي وتولّهي ... خبرا صحيحا ليس بالمصنوع (9)
يرويه خدّي مسندا عن أدمعي ... عن مقلتي عن قلبي المصدوع (10)
كم من ليال في هواك قطعتها ... وأنا (11) لذكراهنّ في تقطيع
لا والذي طبع الكرام على الهوى ... ويعزّ سلوان (12) الهوى المطبوع
ما غيّرتني الحادثات ولم أكن ... بمذيع سرّ للعهود مضيع
لا خير في الدنيا وساكنها (13) معا ... إن كان قلبي منك غير جميع
وقال في غير ذلك في غرض يظهر من الأبيات: [الطويل]
وقالوا عداك البخت والحزم عندما ... غدوت غريب الدّار منزلك الفنت
__________
(1) في النثير: «فسقيت».
(2) في النثير: «لم أقنع بسقامي الملبوس في».
(3) في النثير: «ويا خادعي ومصبّري».
(4) في النثير: «بعدا بفضل تقرّبي وجزيتني سوءا».
(5) في النثير: «فأثبتني».
(6) في النثير: «صريع».
(7) في الأصل: «دايلا» والتصويب من النثير.
(8) في النثير: «في».
(9) في النثير: «تولعي وصبابتي ليس بالموضوع». وفي النفح: «أو من حديث تولّهي وتولّعي ليس بالموضوع».
(10) في النفح: «المفجوع».
(11) في النثير: «قلبي».
(12) في الأصل: «وبرّ سوا أن»، والتصويب من نثير فرائد الجمان.
(13) في النثير: «الدنيا وفي لذاتها إن كان جمعي منك».(2/168)
ألم يعلموا أنّ اغترابي حرامة ... وأن ارتحالي عن دارهم هو البخت؟
نعم لست أرضى عن زماني أو أرى ... تهادي السفن المواخر والبخت
لقد سئمت نفسي المقام ببلدة ... بها العيشة النّكراء والمكسب السّحت
يذلّ بها الحرّ الشريف لعبده ... ويجفوه بين السّمت من سنة ستّ
إذا اصطافها المرء اشتكى من سمومها ... أذى ويرى فيه أدّا يبتّ
ولست كقوم في تعصبّهم عتوا ... يقولون بغداد لغرناطة أخت
رغبت بنفسي أن أساكن معشرا ... مقالهم زور وودّهم مقت
يدسّون في لين الكلام دواهيا ... هي السّمّ بالآل المشود لها لتّ
فلا درّ درّ القوم إلّا عصيبة ... إليّ بإخلاص المودّة قد متّوا
وآثرت أقواما حمدت جوارهم ... مقالهم صدق وودّهم بحت
لهم عن عيان الفاحشات إذا بدت ... تعام وعن ما ليس يعينهم صمت
فما ألفوا لهوا ولا عرفوا خنى ... ولا علموا أنّ الكروم لها بنت
به كل مرتاح إلى الضّيف والوغى ... إذا ما أتاه منهما النبأ البغت
وأشعث ذي طمرين أغناه زهده ... فلم يتشوّف للذي ضمّه التّخت
صبور على الإيذاء بغيض على العدا ... معين على ما يتّقي جأشه الشّتّ (1)
ولي صاحب مثلي يمان جعلته ... جليسي نهارا أو ضجيعي إذا بتّ
وأجرد جرّار الأعنّة فارح ... كميت وخير الخيل قدّاحها الكمت
تسامت به الأعراق في آل أعوج ... ولا عوج في الخلق منه ولا أمت
وحسبي لعضّات النوائب منجدا ... عليها الكميت الهند والصّارم الصّلت
قطعت زماني خبرة وبلوته ... فبالغدر والتّخفيف عندي له نعت
ومارست أبناء الزمان مباحثا ... فأصبح حبلي منهم وهو منبتّ
وذي صلف يمشي الهوينا ترفّقا ... على نفسه كيلا يزايلها السّمت
إذا غبت فهو المروة القوم عندهم ... له الصّدر من ناديهم وله الدّست
وإن ضمّني يوما وإياه مشهد ... هو المعجم السّكيت والعمّة الشّخت
فحسبي عداتي أن طويت مآربي ... على عزمهم حتى صفا لهم الوقت
وقلت لدنياهم إذا شئت فاغربي ... وكنت متى أعزم فقلبي هو البتّ
وأغضيت عن زلّاتهم غير عاجز ... فماذا الذي يبغونه لهم الكبت؟
__________
(1) الشّتّ: المتفرّق. محيط المحيط (شتت).(2/169)
وقال (1): [الكامل]
لا تعد ضيفك إن ذهبت لصاحب ... تعتدّه لكن تخيّر وانتق
أو ما ترى الأشجار مهما ركّبت ... إن خولفت أصنافها لم تغلق (2)
ومنه في المقطوعات: [السريع]
وشادن تيّمني حبّه ... حظّي منه الدّهر هجرانه
مورّد الخدين حلو اللّمى ... أحمر مضني الطّرف وسنانه
لم تنطو الأغصان في الروض بل ... ضلّت له تسجد أغصانه
يا أيها الظّبي الذي قلبه ... تضرّم في القلب نيرانه
هل عطفة ترجى لصبّ شبح ... ليس يرجى عنك سلوانه؟
يودّ أن لو زرته في الكرى ... لو متّعت بالنوم أجفانه
قد رام أن يكتب ما نابه ... والحبّ لا يمكن كتمانه
فأفضيت أسراره واستوى ... إسراره الآن وإعلانه
وقال (3): [مخلع البسيط]
نهار وجه وليل شعر ... بينهما الشّوق يستثار
قد طلبا بالهوى فؤادي ... فأين (4) لي عنهما الفرار؟
وكيف يبغي النجاة شيء ... يطلبه الليل والنهار؟
وقال في الدّوبيت:
زارت ليلا وأطلعت فجرها ... صبحا فجمعت بين صبح وظلام
لما بصرت بالشمس قالت يا فتى ... جمع الإنسان بين الأختين حرام
وقال في غرض التّورية (5): [الطويل]
أبح لي يا روض (6) المحاسن نظرة ... إلى ورد ذاك الخدّ أروي به الصّدى (7)
وبالله لا تبخل عليّ بعطفة (8) ... فإني رأيت (9) الرّوض يوصف بالنّدى
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 83).
(2) في النفح: «تعلق» بالعين غير المعجمة.
(3) الأبيات في نثير فرائد الجمان (ص 302).
(4) في النثير: «وأين».
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 227) ونثير فرائد الجمان (ص 300).
(6) في الأصل: «لي في رياض المحاسن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(7) في المصدرين: «الخدّ كنت لك الفدا».
(8) في الكتيبة: «بقطفة».
(9) في المصدرين: «عهدت».(2/170)
وقال (1): [السريع]
وعاشق صلّى ومحرابه ... وجه غزال ظلّ يهواه
قالوا تعبّدت (2)؟ فقلت نعم ... تعبّدا يفهم معناه
وقال وهو مليح جدّا (3): [الخفيف]
وصديق شكا بما (4) حمّلوه ... من قضاء يقضي بطول (5) العناء
قلت فاردد ما حمّلوك عليهم ... قال من يستطيع (6) ردّ القضاء؟
وقال (7): [المتقارب]
لسانان هاجا (8) من خاصماه ... لسان الفتى ولسان القضا
إذا لم تحز واحدا منهما ... فلست أرى لك أن تنطقا
وقال (9): [الكامل]
تلك الذّؤابة (10) ذبت من شوقي لها ... واللّحظ يحميها بأيّ سلاح
يا قلب فانجح (11) لا إخالك ناجيا ... من فتنة الجعديّ والسفّاح (12)
وإحسانه كثير. ويدل بعض الشيء على كلّه، ويحجر طلّ الغيث على وبله.
وفاته: اتصل بنا خبر وفاته بفاس مبطونا في أوائل ثمانية وخمسين وسبعمائة.
ثم تحقّقت أن ذلك في آخر شوال من العام قبله (13).
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 83).
(2) في الأصل: «تعبد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(3) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 28) ونثير فرائد الجمان (ص 301).
(4) في الكتيبة: «لما».
(5) في المصدرين: «بفرط».
(6) في الأصل: «يستطع» وهو خطأ نحوي لأنه ليس مجزوما، وكذا أيضا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(7) كلمة «وقال» ساقطة في الأصل.
(8) في الأصل: «هجيا» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 83).
(10) في النفح: «الذوائب».
(11) في الكتيبة: «فانج وما إخالك».
(12) أراد بالجعدي الشّعر الذي عبّر عنه بالذؤابة، وأراد بالسفّاح اللّحظ، وفي الكلمتين تورية.
(13) كذا جاء في نفح الطيب (ج 8ص 7170).(2/171)
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن الحكيم اللخمي (1)
يكنى أبا القاسم.
حاله: من كتاب «عائد الصلة»: فرع دوحة الأصالة والخصوصيّة، والعلم والدين، والمكانة والجلالة، مجلي بيته، ومجدّد مآثره برّا، ومجاملة، وخيريّة. نشأ بأطراف جملته من الفنون من حساب وفريضة وأدب وقراءة ووثيقة، إلى خطّ حسن، وأدب تكفّله، حتى انقاد له أو كاد. أعبط في وقيعة الطاعون قاضيا ببعض الجهات، وكاتبا للدار السلطانية، فكانت فيه الفجيعة عظيمة.
وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (2): «من فروع (3) مجد وجلالة، ورث الفضل لا عن كلالة. أشرف، مجيد، معظّم، مخوّل في العشيرة، وصل لباب المجد بفرائد الخلال الأثيرة، وأصبح طرفا في الخير والعفاف، واتّصف من العدالة بأحسن اتّصاف، وسلك (4) من سنن سلفه، أثر هاد (5) لا يزال يرشده ويدلّه، ويسدّده فيما يعقده أو يحلّه، واتّسم بميسم الحياء، والحياء خير كله، إلى نزاهة لا ترضى بالدّون، ونجابة تتهالك في صون الفنون، وطمح في هذا العهد إلى نمط في البلاغة رفيع، وجنح إلى مساجلة ما يستحسنه من مخترع وبديع، وصدرت منه طرف تستملح، وتستحلى إذا استحلى. ونحن نورد ما أمكن من آياته، ونجلي بعض غرره وشيّاته.
شعره: ومن مقطوعات آياته: [الطويل]
وهبّت فهزّت عندما أن (6) رأت به ... الطّلا مثل الطفل يرضع في المهد
وروض (7) حباه المزن خلعة برقة ... وباتت رباه من حباه على وعد
يحدّثنا عن كرمها ماء (8) مزنها ... فتبدي ابتسام الزّهر في لثمة الخدّ
عجبنا لما رأينا من برّها (9) ... بدور حباب الكأس تلعب بالنّرد
__________
(1) ترجمة محمد بن محمد ابن الحكيم اللخمي في الكتيبة الكامنة (ص 196).
(2) قارن بالكتيبة الكامنة (ص 196).
(3) في الكتيبة: «فرع محمدة وجلالة».
(4) في المصدر نفسه: «واقتفى».
(5) في الأصل: «هذا» والتصويب من الكتيبة.
(6) كلمة «أن» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(7) في الأصل: «والروض حياه» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «ما من» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له.
(9) صدر هذا البيت مضطرب، ومنكسر الوزن.(2/172)
وقال: [الطويل]
شربنا وزنجيّ الدّياجي موقد ... مصابيح من زهر النجوم الطّوالع
عقارا رأته حين أقبل حالكا ... فجاءت بمصفرّ من اللون فاقع
عجبت لها ترتاع منه وإنها ... لفي الفرقد قرّت لدم المدامع (1)
وقال: [الخفيف]
لاح في الدّرّ والعقيق (2) فحيّا ... أم مزاج أدّاه صرف المحيّا؟
من بنات الكروم والرّوم بكرا ... أقبلت ترتدي حياء (3) يهيّا
خلتها والحباب يطفو عليها ... شفقا فوقه نجوم الثّريّا
قهوة كالعروس في الكأس تجلى ... صاغ من لؤلئتها (4) المزج حليا
وقال: [البسيط]
ويوم أنس صقيل الجوّ ذي نظر ... كأنه من وميض البرق قد خلقا
ما زلت فيه لشمس الطّست مصطحبا ... وبالنجوم وبالأكواس مغتبقا
صفراء كالعسجد المسبوك إن شربت ... تبدي احمرارا على الخدّين مؤتلقا
كذلك الشمس في أخرى عشيّتها ... إذا توارت أثارت بعدها شفقا
وقال (5): [الطويل]
بنفسي حبيب صال (6) عامل قدّه ... عليّ ولمّا ينعطف وهو كالغصن
ويا عجبا منه متى صار ذابلا ... ونضرته لم تنأ عن خوطه اللّدن (7)
وأعجب من ذا أن سيف لحاظه ... يمزّق أفلاذ الحشا وهو في الجفن
وقال (8): [الكامل]
بأبي وغير أبي غزال نافر ... بين الجوانح يغتدي ويروح
قمر تلألأ واستنار جبينه (9) ... غارت به بين الكواكب يوح
__________
(1) عجز البيت منكسر الوزن.
(2) في الأصل: «العقيق» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «حيا» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «لؤلئها» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 197).
(6) في الكتيبة: «مال».
(7) في الأصل: «ونضرته تنار عن حوطة اللّدن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 197).
(9) في الأصل: «حبيبه» والتصويب من الكتيبة.(2/173)
لم يرض غير القلب منزلة فهل ... يا ليت شعري بالذّراع يلوح
ومما نسب لنفسه وأنشدنيه: [الكامل]
ليل الشّباب انجاب أول وهلة ... عن صبح شيب لست عنه براض
إن سرّني يوما سواد خضابه ... فنصوله عن ساقي (1) ببياض
هلّا اختفى فهو الذي سرق الصّبا ... والقطع في السّرقات أمر ماض
فعليه ما اسطاع (2) الظهور بلمّتي ... وعليّ أن ألقاه بالمقراض
وفاته: توفي، رحمه الله، بغرناطة في السابع عشر شهر ربيع الآخر عام خمسين وسبعمائة، في وقيعة الطاعون، ودفن بباب إلبيرة رحمة الله عليه.
محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي ابن محمد اللّوشي اليحصبي (3)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف باللوشي.
أوّليّته: من لوشة، وقرأ العلم بها، وتعرّف بالسلطان الغالب بالله محمد قبل تصيّر الملك له، وتقدم عنده. تضمّن ذكره الكتاب المسمّى ب «طرفة العصر في أخبار بني نصر»، وتقرر ذلك في حرف الحاء في اسم أبي عمر اللوشي، كاتب الدولة النّصرية، رحمه الله.
حاله: من كتاب «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، من أهل الحسب والأصالة، شاعرا، مدّاحا. نشأ مدلّلا في حجور الدولة النصرية، خفيفا على أبوابها، مفضّلا على مدّاحها. ثم تجنّى بآخرة، ولزم طورا من الخمول في غير تشكّ، أعرض به عن أرباب الدّنيا، وأعرض عنه، واقتصر على تبلّغ من علالة مؤمّل كان له خارج غرناطة، غير مساد من ثلمه، ولا مصلح في خلله، أخذ نفسه بالتّقشّف، وسوء المسكن، والتهاون بالملبس، حملا عليها في غير أبواب الرياضة، مجانبا أرباب الخطط، وفيّا لمن لحقته من السلطان موجدة، تختلف معاملته لمن يعرفه في اليوم مرّات، من إعراض عنه، وقبول عليه، ولصوق به، كل ذلك عن سلامة، وتهيّب نفس. مليح الدّعابة، ذاكرا لفنون من الأناشيد، حسن الجدّ، متجافيا عن الأعراض.
__________
(1) في الأصل: «ساق» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ما استطاع» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) ترجمة محمد بن محمد اللوشي اليحصبي في الكتيبة الكامنة (ص 175) ونثير فرائد الجمان (ص 329).(2/174)
وجرى ذكره في «التاج» بما نصّه (1): شاعر مفلق، وشهاب في أفق (2) البلاغة متألّق، طبّق مفاصل الكلام بحسام لسانه، وقلّد نحور الكلام (3) ما يزري بجواهر الملوك (4) من إحسانه. ونشأ في حجور الدولة النصرية مدللا بمتاته، متقلبا في العزّ في أفانينه وأشتاته، إذ لسلفه الذّمام الذي صفت منه الحياض والحمام، والوداد الذي قصرت عنه الأنداد، والسابقة التي أزرى بخبرها العيان، وشهدت بها أرجونة وجيّان، محيّز ثمرة الطيب. وله همّة عالية، بعيدة المرمى، كريمة المنتمى، حملته بآخرة على الانقباض والازدراء والزهد في الازدياد والاستكثار، والاقتصاد والاقتصار، فعطف على انتجاع غلّته، والتزام محلّته، ومباشرة فلاحة صان بها وجهه ووفّاه الدهر حقّه ونجمه، واحتجبت عقائل بيانه لهذا العهد وتقنّعت، وراودتها النّفس فتمنّعت، وله فكاهة وأنس الزمان مناجاة القينات، عند البيات، وأعذب من معاطاة الرّاح في الأقداح».
شعره: قال: وله أدب بلغ في الإجادة الغاية، ورفع للجبين من السّنن الرّاية. ومن مقطوعاته يودع شيخنا الفقيه القاضي أبا البركات بن الحجاج:
[الطويل]
رأوني وقد أغرقت في عبراتي ... وأحرقت في ناري لدى زفراتي
فقالوا سلوه تعلموا كنه حاله ... فقلت سلوا عني أبا البركات
فمن قال إني بالرّحيل محدّث ... روت عنه أجفاني غريب ثبات
ونادى فؤادي ركبه فأجابه ... ترحّل وكن في القوم بعض عدات
ومن مقطوعاته البديعة من قصيدة مجازيّة: [الطويل]
سيخطب قسّ العزم في منبر السّرى ... وهل في الدّنا يوم المسير أطيق؟
وأقطع زند الهجر والقطع حقّه ... فما زال طيب العمر عنّي يريق (5)
مولده: في حدود ثمانية وسبعين وستمائة.
وفاته: في الموفّى عشرين من شهر ربيع الثاني من عام اثنين وخمسين وسبعمائة.
__________
(1) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 175).
(2) كلمة «أفق» ساقطة من الكتيبة الكامنة.
(3) في الكتيبة: «الملوك».
(4) في المصدر نفسه: «السلوك».
(5) في الأصل: «يسترقّ» وهكذا ينكسر الوزن، وفيه عيب القافية.(2/175)
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى ابن الحكيم اللخمي (1)
يكنى أبا بكر.
أوّليّته: مرّت في اسم ذي الوزارتين.
حاله: من كتاب «عائد الصلة»: «كان صدر أبناء أصحاب النّعم، وبقيّة أعلام البيوت، ترف نشأة، وعزّ تربية، وكرم نفس، وطيب مجالسة، وإمتاع محاضرة، وصحة وفاء، وشياع مشاركة في جملة فاضلة، محدّثا تاريخيا، كاتبا بليغا، حسن الخطّ، مليح الدّعابة، ظريف التوقيع، متقدم الحيلة في باب التحسين والتنقيح، يقرض الشعر، ويفكّ المعمّى، ويقوم على جمل الكتاب العزيز، حفظا وتجويدا، وإتقانا، ويسرد نتف التاريخ، وعيون الأخبار، إلى حسن الخلق، وكمال الأبّهة، وحلاوة البساطة، واحتمال المنابشة، والمثابرة على حفظ المودة، والاستقالة من الهفوة، والتمسّك بالاستعتاب والمعذرة. كتب بالدار السلطانية أكثر عمره، وتصدّر بعد في قيادة المواضع النّبيهة، محاربا ذا قدرة في ذلك، ومع ذلك فشائع المعروف، ذائع المشاركة. قيّد الكثير، ودوّن وصنّف، وحمل عن الجلّة ممن يشقّ إحصاؤهم، وكان غرّة من غرر هذا القطر، وموكبا من مواكب هذا الأفق، لم يتخلف بعده مثله.
وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (2): «ماجد أقام رسم (3) المجد بعد عفائه، فوفّى الفضل حقّ وفائه. بيته في رندة أشهر في الأصالة من بيت امرئ القيس، وأرسى في بحبوحة الفخر من قواعد الرّضوى وأبي قيس. استولى على الجود البديع البعيد المدى، وحجّت إليه من كل فج طلّاب النّدى، وعشت إلى ضوء ناره فوجدت على النار التّقى والهدى. ولّي الوزارة النّصرية التي اعتصر منها طريفا بتالد، فأحيت مآثرها الخالدة مآثر يحيى بن خالد (4). ولمّا أدار عليها الدهر كأس النّوائب، وخلص إليها سهمه الصّائب، بين صحائف الكتب وصفائح الكتائب، تطلّعت من خلالها الرائقة لباب الوجود، وبكتها بسيل أجفانها عين الباس والجود، وطلع على
__________
(1) ترجمة محمد بن محمد بن الحكيم في الكتيبة الكامنة (ص 195) ونفح الطيب (ج 8ص 42).
(2) قارن بالكتيبة الكامنة (ص 195).
(3) في الكتيبة: «ربع».
(4) هو يحيى بن خالد البرمكي، وزير الخليفة هارون الرشيد.(2/176)
أعقاب هذه الفضائل محلّى من صفحاتها، وأعاد لو ساعده الدهر من لمحاتها، وارتقى من الكتابة إلى المحلّ النّبيه، واستحقّها من بعض ميراث أبيه، وبنى وشيّد، ودوّن فيها وقيّد، وشهر في كتب الحديث وروايته، وجنى (1) ثمرة رحلة أبيه، وهو في حجر ذؤابته (2)، وأنشأ الفهارس، وأحيا الأثر الدّارس، وألّف كتابه المسمى ب «الموارد المستعدبة والمقاصد المنتخبة» فسرح الطّرف، وروضه طيّب الجنى والعرف. وله شعر أنيق الحلية، حاز في نمط العلية. وبيني وبين هذا الفاضل وداد صافي الحياض، وفكاهة كقطع الرّياض، ودعابة سحبت الدّالة أذيالها، وأدارت الثّقة والمقة جريالها.
وسيمرّ في هذا الديوان كل رائق المحيّا، عاطر الريّا.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي جعفر الحريري، والأستاذ أبي الحسن القيجاطي، والأستاذ إسحاق بن أبي العاصي. وأخذ عن الطّم والرّمّ، من مشايخ المشرق والمغرب، فمنهم الولي الصالح فضل بن فضيلة المعافري، إلى العدد الكثير من أهل الأندلس، كالخطباء الصلحاء أبي عبد الله الطّنجالي، وأبي جعفر الزيّات، وأبي عبد الله بن الكمّاد، وغيرهم من الرّنديين والمالقيين والغرناطيين، حسبما تضمنه برنامجه.
تواليفه: ألّف الكتاب المسمى، «الفوائد المنتخبة والموارد المستعدبة». وكمّل التاريخ المسمى ب «بميزان العمل» لابن رشيق. ودوّن كتابا في عبارة الرؤيا سمّاه «بشارة القلوب بما تخبره الرؤيا من الغيوب» و «الأخبار المذهّبة» و «الإشارة الصّوفية، والنّكت الأدبية». والهودج في الكتب. والإشارة في ألف إنشاده.
شعره وكتابته: قال في التاريخ ما نصّه: «وتهادته إلى هذا العهد رتب السّيادة، واستعمل في نبيهات القيادة فوجّه إلى معقل قرطمة من كورة ريّه وهو واليه، وبطاحه في مجرى جياده وصحر عواليه. وقد حللت مالقة صحبة الرّكب السلطاني في بعض التّوجّهات، إلى تلك الجهات، في بعض ما أتحف من مقعده، المتصل المستمر، بهديّة مشتملة على ضروب من البرّ فخاطبته مقيما لسوق الانبساط، وغير حائد على الوداد والاغتباط، على ما عوّل عليه من حمل الإفراط، والانتظام في هذا المعنى والانخراط: [الطويل]
ألام على أخذ القليل وإنما ... أعامل أقواما أقلّ من الذّرّ
فإن أنا لم آخذه منهم فقدته ... ولا بدّ من شيء يعين على الدّهر
__________
(1) في الكتيبة: «واجتنى ثمره رحلة إليه وهو».
(2) في المصدر نفسه: «دايته، ودوّن الفهارس».(2/177)
سيدي، أطلق الله يدك بما تملك، وفتر عن منحك البخل لئلّا تهلك. كنت قد هوّمت، وحذّرني القلق فتلوّمت. ولومي كما علمت سيء الخصال، عزيز الوصال. يمطل ديني، ويعاف طيره ورد عيني. فإذا الباب يدقّ بحجر، فأنبأني عن ضجر، وجار الجنب يؤخذ بالذّنب، فقمت مبادرا وجزعت، وإن كان الجزع مني نادرا. واستفهمت من وراء الغلق، عن سبب هذا القلق. فقالت امرأة من سكان البوادي: رابطة الفؤاد يا قوم، رسول خير، وناعق طير، وقرع إذلال، لا فرع إدلال. حطّوا شعار الحرب والحرب، فقد ظفرتم ببلوغ الأرب، فتأخرت عن الإقدام، وأنهدت إليه، فحنّ عمر بن أبي ربيعة عمن كان بالدّار من الخدّام، فأسفرت الوقيعة عن سلام وسلم، ولم يزن أحد منا بكلم. ونظرت إلى رجل قرطبي الطّلعة والأخلاق، خاو على الإطلاق، تنهّد قبل أن يسلّم، وارتمض لما ذهب من الشّبيهة وتألّم. شنشنة معروفة، وعين تلك الجهات معاذ الله مصروفة.
وقد حمّلته سيادتكم من المبرّة ضروبا شتّى، وتجاوزت في المسرّات غاية حتى.
ولم تضع عضوا من جسده، فضلا عن منكبه ويده، إلّا علّقته وعاء ثقيلا، وناطت به زنبيلا. واستلقى كالمنيّ إذا ترك المعترك، وعلت حوله تلك الأثقال، وتعاورها الانتقال، وكثر بالزّقاق القيل والقال. فلمّا تخلّصت إلى الدار، وسترت معرفتها بالجدار، وتناولها الاختبار الفاضح، وبان قصورها الواضح، فتلاشت، بعد ما جاشت، ونظرت إلى قعب من اللّبن الممزوق، الذي لا يستعمل في البيوت ولا يباع في السّوق، فأذكرتني قول الشاعر: [البسيط]
تلك (1) المكارم لا قعبان من لبن ... شيبت بماء فعادت بعد أبوالا
أما زبده فرفع، وأما جبنه فاقتيت به وانتفع، وأما من بعثه من فضلاء الخدّام فدفع، وكأني به قد ألحّ وصفع، والتفت إلى قفّة قد خيطت، وبعنق ذاك البائس قد نيطت، رمس فيها أفراخ الحمائم، وقلّدت بجيده كما يتقلد بالتمائم، وشدّ حبلها بمخنقه، وألزم منها في العاجل طائره في عنقه، هذا بعد ما ذبحت، وأما حشوها فربحت. ولو سلكتم الطريقة المثلى، لحفظتم جثّتها من العفن كما تحفظ جثة القتلى، وأظنكم لم تغفلوا هذا الغرض الأدنى، ولا أهملتم هذه الهمم التي غريزة في المبنى. فإني رميت منها اللهو رمي المختبر، فكلح من مرارة الصبر، ولما أخرجتها من كفن القفّة، واستدعيت لمواراتها أهل الصّفة، تمثّلت تمثّل اللبيب،
__________
(1) في الأصل: «في تلك» وهكذا ينكسر الوزن.(2/178)
بقول أبي تمام حبيب (1): [الكامل]
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة (2) ... من حائهنّ فإنهنّ حمام (3)
ولو أن إحدى الدّجاجتين لاحت عليها مخيّلة سرّ، لكانت من بقايا مواطني ديوك بني مرّ، وبعث بها حلالك حلاله، وأهدى منها اجتهاد من أحسن. ولم يكن بالهديّة ما يذكر، ولا كانت مما ينكر، أستغقر الله، فلو لم تكن التّحفة، إلّا تلك الفكاهة العاطرة والغمامة الماطرة، التي أحسبها الأمل الأقصى، وتجاوزت إلّا من التي لا تعدّ ولا تحصى، للزم الشكر ووجب، وبرز من حرّ المدح ما تيسّر واحتجب.
فالمكارم وإن تغيّرت أنسابها، وجهل انتسابها، وادّعي إرثها واكتسابها، إليكم تنشر يدها، وتسعى لأقدامها، ولبيتكم تميل بهواديها، وبساحتكم يسيل واديها، وعلى أرضكم تسحّ غواديها. ومثلي أعزكم الله، لا يغضي من قدر تحفكم الحافلة، ولا يقدر من شكرها على فريضة ولا نافلة، ولكنها دعابة معتادة، وفكاهة أصدرتها ودادة. ولا شكّ أنكم بما جبلتم عليه قديما وحديثا، تغتفرون جفائي، الذي سيّرتموه سمرا وحديثا في جنب وفائي، وتغضون وتتحملون، وبقول الشاعر تتمثّلون، وأسمع من الألفاظ اللغوية التي يسرّ بها سمعي، وإن ضمنت شتمي ووصفي: [الطويل]
بعثت بشيء كالجفاء وإنما ... بعثت بعذري كالمدلّ إلى غدر
وقلت لنفسي لا تردعي فإنه ... كما قيل شيء قد يعين على الدهر
وما كان قدر الودّ والمجد مثله ... فخذه على قدر الحوادث أو قدري
وإن كنت لم أحسن صنيعي فإنّني ... سأحسن في حسن القبول له شكري
وقدرك قدر النيل عندي وإنني ... لدى قدرك العالي أدقّ من الذّرّ
قنعت وحظّي من زماني وودّكم ... هباء ومثلي ليس يقنع بالنّزر
أتاني كتاب منك باه مبارك ... لقيت به الآمال باهتة الثّغر
جلا من بنات الفكر بكرا وزفّها ... إلى ناظري تختال في حبر الحبر
فألفاظها كالزّهر والزهر يانع ... وقدر المعاني في الأصالة كالزهر
نجوم معان في سماء صحيفة ... ولكنها تسري النجوم ولا تسري
تضمّن من نوع الدعابة ما به ... رجوت الذي قد قيل في نشوة الخمر
__________
(1) البيت في ديوان أبي تمام (ص 247) من قصيدة من 56بيتا.
(2) العيافة: زجر الطير.
(3) الحمام، بكسر الحاء: الموت.(2/179)
رعى الله مسراها الكريم فجلّ ما ... جلته من البشرى وأبدت من البشر
لعمري لقد أذكرتني دولة الصّبا ... وأهديت لي نوع الجلال من السّحر
ولما أتت تلك الفكاهة غدوة ... وجدت نشاطا سائر اليوم في بشري
ولا سيما إن كان ملحم بردها ... عميد أولي الألباب نادرة العصر
نشرت بها ما قد طويت بساطه ... زمانا وبي طيّ الأمور مع النشر
ونعم خليل الخير أنت محافظا ... على سنن الإخلاص في السّرّ والجهر
ودونكها تلهو بها وتديرها ... سحيريّة الأنفاس طيّبة النّشر
فراجعني بقوله:
وقد منّ سيدي الجواب، محتويا على العجب العجاب، فيالك من فكاهة كوثرية المناهل، عنبرية المسائل، ولو لم يكن إلّا وصف القرطبي المستوى الطّلعة، الشّرطي الصّنعة. وأما وصف اللبن وفراخ الحمام، فقد بسطتم في المزاح القول. وامتنعتم في الكلام الفصل. وذلك شيء يعجز عن مساجلتكم فيه أرباب البلاغة والبيان، فكيف بمثلي ممن له القول المهلهل النّسيج الواهي البيان. ولا بدّ من عرض ذلك على سيدي القطب الكبير الإمام، وأستاذنا علم الأعلام، وكبير أئمة الإسلام، فيحكم بيننا بحكم الفصل، وينصف بما لديه من الحق والعدل. وقد كنت أحيد عن مراجعتكم حيدة الجبان، وأميل عن ذلك ميلة الكودن (1) عن مجاراة السّمر الهجان، وأعدل عن مساجلة أدبكم الهتّان، عدول الأعزل عن مبارزة جيّد السّنان. إلى أن وثقت بالصفح، وعوّلت على ما لديكم من الإغضاء والسّمح، ووجّهت حاملة السرّ والظروف، كي تتصل الهدايا ولا ينقطع المعروف. وأستقيل من انبساط يجرّ عذرا، وأسأله سبحانه وتعالى حمدا يوجب المزيد من إنعامه وشكرا. دام سيدي وآماله مساعدة، والكلمة على فضله واحد.
ومن شعره في النّسك واللّجإ إلى الله تعالى (2):
أيا من له الحكم في خلقه ... ويا من (3) بكربي له أشتكي
تولّ أموري ولا تسلمني ... وإن أنت أسلمتني أهلك
تعاليت من مفضل (4) منعم ... ونزّهت من طالب مدرك
__________
(1) الكودن: الفيل، والمراد هنا البطيء في مشيه. محيط المحيط (كود).
(2) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 196).
(3) في الأصل: «ومن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(4) في الكتيبة: «من منعم مفضل».(2/180)
ومن ذلك ونقلته من خطّه (1): [الطويل]
تصبّر إذا ما أدركتك ملمّة ... فصنع إله العالمين عجيب
وما يدرك (2) الإنسان عار بنكبة ... ينكّب (3) فيها صاحب وحبيب
ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة (4) ... وعيش كرام الناس ليس يطيب
ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ... فيخصب ربع للسّرور (5) جديب
إلهك يا هذا مجيب (6) لمن دعا ... وكلّ الذي عند القريب قريب
مولده: عام خمسة وستين وستمائة.
وفاته: من «عائد الصلة»، قال: وختم الله عمره بخير العمل من الإنابة والتهدّج، والتزام الورد، وإن كان مستصحب الخيرية. وحلّ ببلد ولايتهم رندة، فكانت بها تربته في الثالث والعشرين لربيع الآخر عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن محمد بن علي بن العابد الأنصاري
ولد المذكور بعد، الكاتب بالدار السلطانية.
حاله: من كتاب طرفة العصر وغيره، قال: كان كاتبا مشهورا، بليغا، ذا معرفة، بارع الخطّ، أوحد زمانه في ذلك، وقورا، معذب اللفظ، منحطا في هوى نفسه، محارفا (7) بحرفة الأدب على جلالة قدره. وكتابته نقيّة، جانحة إلى الاختصار.
شعره: وثيق، تقلّ فيه أرواح المعاني كشعر أبيه، وتوشيحه فائق. تولّى كتابة الإنشاء لثاني الملوك النصريين (8)، واستمرّ قيامه بها على حجر شديد من السلطان ومحمل لملازمته المعاقرة وانهماكه في البطالة، واستعمال الخمر، حتى زعموا أنه قاء يوما بين يديه، فأخّره عنها، وقدّم الوزير أبا عبد الله بن الحكيم. وفي ذلك
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 195) ونفح الطيب (ج 8ص 42).
(2) في النفح: «وما يلحق».
(3) في الكتيبة: «فينكب».
(4) الأسوة: بضم الهمزة وكسرها هو ما يأتسي به الحزين يتعزّى به. مختار الصحاح (أسا).
(5) في الأصل: «من ربع السرور» والتصويب من المصدرين.
(6) في النفح: «قريب».
(7) المحارفة: الاحتيال، والمراد هنا الاحتراف. محيط المحيط (حرف).
(8) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 671هـ حتى سنة 701هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 50)، وتقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.(2/181)
يقول: [الطويل]
أمن عادة الإنصاف والعدل أن أجفا ... لأن زعموا أني تحسّيتها صرفا؟
وأقام بقيّة عمره تحت رفد وبرّ.
وفاته: توفي في حدود التسعين وستمائة. وكان شيخنا ابن الجيّاب قد آثره بكتبه، وكانت نفيسة أعلاها بخط أبيه، رحمه الله.
محمد بن مالك المرّي الطّغنري (1)
من أهل غرناطة، من ذوي البيتية والحسب فيها. ذكره الأستاذ (2) في الكتاب المسمّى بالصلة، والغافقي (3)، وغيرهما.
حاله: أديب نبيل، شاعر على عهد الأمير عبد الله بن بلقّين بن باديس، صاحب غرناطة. قال: وكان أولا يميل إلى البطالة والراحة. ثم إنه استيقظ من غفلته، وأقلع عن راحته، وأجبّ في توبته. وكان من أهل الفضل والخير والعلم.
من تواليفه: كتابه الشهير في الفلاحة، وهو بديع، سمّاه «زهرة البستان، ونزهة الأذهان»، عبرة في الظّرف. قال: وجرى له مع سماجة (4) خليفة عبد الله بن بلقّين قصة. إذ فاجأه سماجة مع إخوان له، ولم يشعروا به، فأنشده ابن مالك ارتجالا، وقد أخذ بلجام دابته: [الخفيف]
بينما نحن في المصلّى نساق ... وجناح العشيّ فيه جنوح
إذ (5) أتانا سماجة يتلألأ ... فردى (6) الشمس من تجلّيه (7) يوح
فطفقنا يقول بعض لبعض ... أغبوق شرابنا أم صبوح؟
__________
(1) ترجمة محمد بن مالك في الذخيرة (ق 1ص 805)، والطّغنري، نسبة إلى طغنر، إحدى قرى غرناطة. وكنيته كما جاء في الذخيرة، أبو عبد الله.
(2) المقصود هنا الأستاذ ابن الزبير صاحب كتاب «صلة الصلة».
(3) هو محمد بن عبد الواحد الغافقي، المعروف بالملاحي.
(4) سماجة الصنهاجي من وزراء باديس بن حبوس، صاحب غرناطة، وكان حازما شديد السطوة، مرهوب الجانب، شجاعا، جوادا، فاضلا. ثم لزم أمير غرناطة عبد الله بن بلقين بن باديس مدة كوزير، ثم أبعده عبد الله عن غرناطة، فلجأ إلى ألمرية وعاش في كنف صاحبها المعتصم بن صمادح. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 161).
(5) في الأصل: «إذا» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «ردى» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «تجليله» وهكذا ينكسر الوزن ولا معنى له.(2/182)
قال: فتكلّم الوزير سماجة باللسان البربري مع عبيده، فرجعوا مسرعين، ووقف سماجة مع الوزير ابن مالك، إلى أن أتاه عبيده، بوعاء فيه جملة كبيرة من الدراهم، تنيف على الثلاثمائة دينار. فقال: ادفعوها إليه، وانصرف. وأتاهم العبيد مع الدراهم، بطعام وشراب. قال ابن مالك: وذلك أوّل مال تأثّلته.
شعره: ومنه (1) [السريع]
صبّ على قلبي هوى لاعج ... ودبّ في جسمي ضنى دارج
في شادن أحمر (2) مستأنس ... لسان تذكاري به لاهج
ما (3) قدر نعمان إذا ما مشى ... وما عسى يفعله (4) عالج؟
فقدّه من رقّة مائس ... وردفه من ثقله (5) مائج
عنوان ما في ثوبه وجهه ... تشابه الداخل والخارج
فلا تقيسوه ببدر الدّجى ... ذا معلم الوجه وذا ساذج
وقد نسبها بعض الناس لغيره.
وفاته: قال الأستاذ: كان حيّا سنة ثمانين وأربعمائة. وأمر أن يكتب على قبره:
[الخفيف]
يا خليلي، عرّج على قبري تجد ... أكلة (6) التّرب بين جنبي ضريح
خافت الصوت إن نطقت ولكن ... أيّ نطق إن اعتبرت فصيح؟
أبصرت عينيّ العجائب لكن ... فرّق (7) الموت بين جسمي وروحي (8)
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأوسي
المدعو بالعقرب، من إقليم الآش (9).
حاله: كان حسن النظم والنثر، ذكيّا من أهل المعرفة بالعربية والأدب، موصوفا بجودة القريحة، والنبل والفطنة.
__________
(1) الأبيات في الذخيرة (ق 1ص 808).
(2) في الذخيرة: «أحور».
(3) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذخيرة.
(4) في الذخيرة: «يبلغه».
(5) في الذخيرة: «ثقل».
(6) في الأصل: «من أكلة» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «لما فرّق» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «وروح» بدون ياء.
(9) أي من إقليم وادي آش.(2/183)
أدبه وشعره: ذكره الملّاحي وقال: حدّثني قاضي الأحكام بغرناطة، أبو القاسم الحسن بن قاسم، الهلالي صاحبنا، قال: كان الأستاذ أبو عبد الله العقرب جارنا، قد وقع بينه وبين زوجه زهرة بنت صاحب الأحكام، أبي الحسن علي بن محمد تنازع، فرفعته إلى القاضي بغرناطة، أبي عبد الله بن السّماك العاملي، وكنت يومئذ كاتبا له، فرأى القاضي قوّته وقدرته على الكلام وضعفها، وإخفاق نظمها، وشفق لحالها. وكان يرى أن النساء ضعاف، وأن الأغلب من الرجال يكون ظالمهن. وكان كثيرا ما يقول في مجلسه: رويدك، رفقا بالقوارير، وحين رأى ما صدر عن القاضي من الجمل، فقلت له: وأين حلاوة شعرك والقاضي أديب يهتز إليه ويرتاح؟ فطلب مني قرطاسا، وجلس غير بعيد، ثم كتب على البديهة بما نصّه:
[الكامل]
لله حيّ، يا أميم، حواك ... وحمائم فوق الغصون حواك
غنّين حتى خلتهنّ عنينني ... بغنائهنّ فنحت في مغناك
ذكّرنني (1) ما كنت قد أنسيته ... بخطوب هذا الدهر من ذكراك
أشكو الزّمان إلى الزّمان ومن شكى ... صرف الزمان إلى الزمان فشاكي
يا ابن السّماك (2) المستظلّ برمحه ... والعزل (3) ترهب ذا السلاح الشاكي
راع الجوار فبيننا في جوّنا ... حقّ السّرى والسير في الأفلاك
وابسط إلى الخلق المؤوب ببسطة ... ظرف الكرام بعفّة النّساك
وأنا ذاكر إن لم يفت من لم يمت ... فدارك ثم دارك ثم ذاك (4)
ثم دفعها إلى القاضي، فكتب القاضي بخطه في ظهر الرقعة: لبّيك، لبّيك. ثم أرسلني أصلح بين العقرب وزوجه، فإن وصل صلحهما إلى خمسين دينارا، فأنا أؤدّيها عنه من مالي، فجمعت بينهما، وأصلحت بينهما عن تراض منهما، رحمهما الله تعالى.
محمد بن علي بن عبد الله بن علي القيسي العرادي
من أهل غرناطة.
__________
(1) في الأصل: «ذكّرتني» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) السّماك: كوكب نيّر صغير في جهة الشمال، يقال له السماح الرامح. محيط المحيط (سمك).
(3) في الأصل: «والعزّل» بتشديد الزاي، وهكذا ينكسر الوزن. والعزل: جمع أعزل وهو أحد السماكين لأنه لا سلاح معه. محيط المحيط (عزل).
(4) هذا البيت منكسر الوزن.(2/184)
حاله: كان فتى حسن السّمت، ظاهر السكون، بادي التّصوّن والعفّة، دمث الأخلاق، قليل الكلام، كثير الحياء، مليح الخط، ظريفه، بادي النّجابة. أبوه وجدّه من تجار سوق العطر، نبهاء السوق. نظم الشعر، فجاء منه بعجب، استرسالا وسهولة، واقتدارا، ونفوذا في المطوّلات، فأنفت له من الإغفال، وجذبته إلى الدار السلطانية، واشتدّت براعته، فكاد يستولي على الأمر لولا أن المنية اخترمته شابا، فثكل منه الشعر، قريع إجادة، وبارع ثنيّة شهرة، لو انفسح له الأمد.
مولده: في ذي الحجة عام أحد وثلاثين وسبعمائة.
وفاته: توفي مبطونا على أيام قريبة من إسراعه بغرناطة، عن سنّ قريبة من العشرين، في عام خمسة وخمسين وسبعمائة. وأبوه أمين العطارين.
محمد بن علي بن العابد الأنصاري
يكنى أبا عبد الله، أصله من مدينة فاس.
حاله: من خطّ القاضي أبي جعفر بن مسعدة، علم كتّاب دار الإمارة النّصرية الغالبيّة، الذي بنوره يستصبحون، وسراجهم الذي بإشراقه وبهجته ونهج محدته يهتدون. رفع لواء الحمد، وارتدى بالفهم والعلم والحلم. كان، رحمه الله، إماما في الكتابة، والأدب، واللغة، والإعراب، والتاريخ والفرائض والحساب، والبرهان عليه، عارفا بالسّجلات والتّوثيق، أربى على الموثّقين من الفحول المبرّزين في حفظ الشعر ونظمه، ونسبته إلى قائله حافظا مبرّزا. درس الحديث، وحفظ الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، ونسخ الدواوين الكبار، وضبط كتب اللغة، وقيّد على كتب الحديث، واختصر التّفسير للزمخشري، وأزال عنه الاعتزال، لم يفتر قطّ من قراءة أو درس أو نسخ أو مطالعة، ليله ونهاره. لم يكن في وقته مثله.
مشيخته: أخذ بفاس عن أبي العباس أحمد بن قاسم بن البقّال الأصولي، وأبي عبد الله بن البيوت المقرّي، وعن الزاهد أبي الحسن بن أبي الموالي، وغيرهم.
شعره: ومنه قوله: [الكامل]
طرقت تتيه على الصّباح الأبلج ... حسناء تختال اختيال تبرّج
في ليلة قد ألبست بظلامها ... فضفاض برد بالنجوم مدبّج
وشعره مدوّن كثير.
وفاته: توفي بحضرة غرناطة عام اثنين وستين وسبعمائة في ذي القعدة منه.(2/185)
محمد بن هاني بن محمد بن سعدون الأزدي الإلبيري الغرناطي (1)
من أهل قرية سكون، يكنى أبا القاسم، ويعرف بالأندلسي، وكأنها تفرقة بينه وبين الحكمي أبي نواس.
أوّليّته: قال غير واحد من المؤرخين (2): هو من ذرية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة، وقيل: من ولد أخيه روح بن حاتم.
حاله: كان من فحول الشعراء، وأمثال النظم، وبرهان البلاغة، لا يدرك شأوه، ولا يشقّ غباره، مع المشاركة في العلوم، والنفوذ في فكّ المعمّى. خرج من الأندلس ابن سبع وعشرين سنة، فلقي جوهرا المعروف بالكاتب مولى المعزّ بن المنصور العبيدي، صاحب المغرب، وامتدحه، وكان لئيما، فأعطاه مائتي درهم، فوجد لذلك، وقال: أههنا كريم يقصد؟ فقيل: بلى، جعفر بن يحيى بن علي بن فلاح بن أبي مروان، وأبو علي بن حمدون، فامتدحهما، ثم اختصّ بجعفر بن يحيى وأبي علي، فبالغا في إكرامه، وأفاضا عليه من النعم والإحسان ما لم يمرّ بباله، وسارت أشعاره فيهما، حتى أنشدت للمعزّ العبيدي، فوجهه جعفر بن علي إليه في جملة طرف وتحف بعث بها إليه، كان أبو القاسم أفضلها عنده، فامتدح المعز لدين الله، وبلغ المعزّ من إكرامه الغاية. ثم عاد إلى إفريقية، ثم توجه إلى مصر، فتوفي ببرقة.
وجرى ذكره في «تخليص الذهب» من تأليفنا بما نصّه: «العقاب الكاسرة، والصّمصامة الباترة، والشّوارد التي تهادتها الآفاق، والغايات التي أعجز عنها السّباق».
وصمته: وذكره ابن شرف في مقاماته، قال: وأما ابن هاني محمد، فهو نجدي الكلام، سردي النظام، إلّا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق،
__________
(1) ترجمة ابن هانىء الأندلسي في التكملة (ج 1ص 295، رقم 1021) ومطمح الأنفس (ص 322) والمطرب (ص 192) وجذوة المقتبس (ص 96) وبغية الملتمس (ص 140) ووفيات الأعيان (ج 4ص 215) ومعجم الأدباء (ج 5ص 468) وعبر الذهبي (ج 2ص 328) وشذرات الذهب (ج 3ص 41) والفلاكة والمفلوكون (ص 102) والمغرب (ج 2ص 97) والنجوم الزاهرة (ج 4ص 67) ورايات المبرزين (ص 150) ومرآة الجنان (ص 375) والأعلام (ج 7ص 130) ونفح الطيب (ج 1ص 282) و (ج 4ص 183) و (ج 5ص 187).
(2) قارن بالتكملة (ج 1ص 296295).(2/186)
لا يؤثر في النّفيق. وله غزل معرّي، لا عذري، لا يقنع بالطّيف، ولا يصفع بغير السيف، وقد قدّه به الذات، وعظم شأنه فاحتمل الثواب، وكان يقف دولته في أعلى منزلته، ناهيك من رجل يستعين على صلاح دنياه، بفساد أخراه، لرداءة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشّعر، حتى يستعين عليه بالكفر.
شعره: كان أول ما مدح به جعفر بن علي قوله (1): [الكامل]
أحبب بتيّاك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الرّكاب ركابا (2)
فيها قلوب العاشقين تخالها ... عنما بأيدي البيض والعنّابا (3)
وقال يمدح جعفر بن علي من القصيدة الشهيرة (4): [الطويل]
أليلتنا إذا أرسلت واردا وحفا (5) ... وبانت (6) لنا الجوزاء في أذنها شنفا (7)
وبات لنا ساق يقوم (8) على الدّجى ... بشمعة صبح (9) لا تقطّ (10) ولا تطفا
أغنّ غضيض خفّف (11) اللّين قدّه ... وأثقلت (12) الصّهباء أجفانه الوطفا (13)
ولم يبق إرعاش المدام له يدا ... ولم يبق إعنات (14) التّثنّي له عطفا
نزيف قضاه السّكر إلّا ارتجاجة ... إذا كلّ عنها (15) الخصر حمّلها الرّدفا
__________
(1) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص 49).
(2) الحداة: الذين يسوقون الإبل أراد أنه يحب القباب لأنها تخص الحبيب، ولا يحب الحداة ولا الإبل لأنها سبب بعد الحبيب عنه.
(3) العنم: شجرة حجازية لها ثمر أحمر يشبّه به البنان المخضب. يقول: إن تلك القباب حمر، كأنها عنم أو عناب بأيدي النساء البيض.
(4) ديوان ابن هانىء الأندلسي (ص 210207) ورايات المبرزين (ص 154151). وورد منها في المغرب (ج 2ص 9897) فقط سبعة أبيات.
(5) في الأصل: «وجفا» والتصويب من الديوان والمغرب. والوارد: الشعر الطويل المسترسل.
والوحف: الكثيف المسودّ.
(6) في الديوان والمغرب: «وبتنا نرى الجوزاء».
(7) الشّنف: ما يعلّق في أعلى الأذن، وهو القرط.
(8) في المغرب: «يصول».
(9) في الديوان: «نجم».
(10) لا تقط: لا يقطع رأسها.
(11) في الأصل: «جفّف» والتصويب من الديوان والمغرب.
(12) في الديوان: «وثقّلت».
(13) الأغن: الذي في صوته غنّة. والغضيض: الفاتر الطرف المسترخي الأجفان. والوطف: جمع أوطف وهو الذي كثر شعر حاجبيه وعينيه.
(14) الإعنات: من أعنته: أي أدخل عليه مشقّة شديدة.
(15) في الديوان: «عنه الخصر حمّله».(2/187)
يقولون حقف فوقه (1) خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا؟
جعلنا حشايانا (2) ثياب مدامنا ... وقدّت لنا الظّلماء من جلدها لحفا
فمن كبد تدني إلى كبد هوى ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبّه كأسه وجفونه ... فقد نبّه الإبريق من بعد ما أغفا
وقد فكّت الظلماء بعض قيودنا ... وقد قام جيش الليل للصبح فاصطفّا (3)
وولّت نجوم للثّريّا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفى
ومرّ على آثارها دبرانها ... كصاحب ردء (4) كمّنت خيله خلفا
وأقبلت الشّعرى العبور ملمّة (5) ... بمرزمها اليعبوب تجنبه طرفا (6)
وقد قبّلتها (7) أختها من ورائها ... لتخرق من ثنيي مجرّتها سجفا (8)
تخاف زئير الليث قدّم (9) نثرة ... وبربر في الظّلماء ينسفها نسفا (10)
كأنّ معلّى قطبها (11) فارس له ... لواءان مركوزان قد كره الزّحفا
كأن السّماكين اللذين تظاهرا ... على لبّتيه (12) ضامنان له الحتفا (13)
فذا رامح يهوي إليه سنانه ... وذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا
كأنّ قدامى النّسر والنّسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا (14)
كأن أخاه حين دوّم طائرا ... أتى دون نصف البدر فاختطف النّصفا
كأن رقيب الليل (15) أجدل مرقب ... يقلّب تحت الليل في ريشه طرفا
__________
(1) في الأصل: «فوقي» والتصويب من الديوان والمغرب
(2) الحشايا: جمع حشية وهي الفراش المحشوّ.
(3) في الديوان: «وقد ولّت الظلماء تقفو نجومها جيش الفجر لليل واصطفّا».
(4) في الأصل: «ردىء» والتصويب من الديوان.
(5) في الديوان: «مكبّة».
(6) المرزم: نجم من الشّعرى اليمانية. اليعبوب: الفرس السريع الطويل. تجنبه: تقوده إلى جانبها.
الطّرف: المهر.
(7) في الديوان: «وقد بادرتها».
(8) أختها: الشعرى الشامية. الثّني: الطيّ، الطاقة. السّجف: السّتر.
(9) في الديوان: «يقدم».
(10) النّثرة: أنف الأسد، وكوكبان بينهما قدر شبر. بربر: غضب وصاح.
(11) معلّى القطب: نجم في القطب.
(12) في الديوان: «على لبدتيه».
(13) في الديوان: «حتفا». والسماكان: كوكبان، يقال لأحدهما السماك الرامح وللآخر السماك الأعزل.
(14) في الديوان: «به ضعفا». والقدامى: الريشات الكبار في مقدم الجناح. النسر: كوكب، وهما كوكبان النسر الطائر، والنسر الواقع. الخوافي: الريشات الصغار في مؤخر الجناح.
(15) في الديوان: «النجم». ورقيب النجم: هو النجم الذي يغيب بطلوع النجم الذي يراقبه.(2/188)
كأنّ بني نعش ونعش (1) مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا (2)
كأنّ سهاها (3) عاشق بين عوّد ... فآونة يبدو وآونة يخفى
كأنّ سهيلا (4) في مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا
كأنّ الهزيع الآبنوسيّ موهنا (5) ... سرى بالنسيج الخسروانيّ ملتفّا (6)
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن نجوم الصّبح خاقان معشر (7) ... من التّرك نادى بالنّجاشيّ فاستخفى (8)
كأن لواء الشمس غرّة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا (9)
وقد جاشت الظلماء (10) بيضا صوارما ... ومركوزة (11) سمرا وفضفاضة زعفا (12)
وجاءت عتاق الخيل تردي كأنها ... تخطّ لنا أقلام آذانها صحفا
هنالك تلقى جعفرا خير (13) جعفر ... وقد بدّلت يمناه من لينها (14) عنفا
وكائن (15) تراه في الكريهة جاعلا (16) ... عزيمته برقا وصولته خطفا
وشعره كثير مدوّن، ومقامه شهير. وفيما أوردناه كفاية. وهو من إلبيرة الأصيلة.
وفاته: قالوا: لمّا توجّه إلى مصر، شرب ببرقة وسكر ونام عريانا، وكان البرد شديدا فأفلج، وتوفي في سنة إحدى وستين وثلاثمائة (17)، وهو ابن
__________
والأجدل: الصّقر.
(1) في الديوان: «ونعشا».
(2) في الأصل: «قشفا» والتصويب من الديوان. وبنات نعش: سبعة كواكب. والمطافل: ذوات الأطفال من الإنس والوحش، وأراد هنا بها الظّباء، واحدها: مطفل. وجرة: موضع بين مكة والبصرة. الخشف: الظبي.
(3) السّهى: كوكب خفيّ.
(4) سهيل: كوكب.
(5) في الديوان: «لونه».
(6) الهزيع: قطعة من الليل. الآبنوسيّ: نسبة إلى الآبنوس وهو شجر لون عوده أسود، صلب.
الخسرواني: حرير رقيق أبيض منسوب إلى خسرو أحد ملوك الفرس.
(7) في الديوان: «كأن عمود الفجر خاقان عسكر».
(8) شبّه عمود الفجر بملك الترك، وهو الخاقان، في بياضه، وشبّه الليل بالنجاشيّ ملك الحبشة في سواده.
(9) القرن: الخصم. طلاقته: بشاشته.
(10) في الديوان: «الدأماء».
(11) في الديوان: «ومارنة».
(12) الزّعف: الواسعة من الدروع.
(13) في الديوان: «غير».
(14) في الديوان: «من رفقها».
(15) في الأصل: «وكاين» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(16) في الأصل: «عاجلا» والتصويب من الديوان.
(17) جاء في التكملة (ج 1ص 296) أنه توفي سنة 361هـ، وقيل: سنة 362هـ. وفي وفيات(2/189)
اثنتين (1) وأربعين سنة. ولما بلغت المعزّ وفاته، تأسّف عليه وقال: هذا رجل كنا نطمع أن نفاخر به أهل المشرق.
محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم ابن علي الغسّاني البرجي الغرناطي (2)
يكنى أبا القاسم، من أهل غرناطة.
حاله: فاضل (3) مجمع على فضله، صالح الأبوّة، طاهر النشأة، بادي الصّيانة والعفّة، طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب، جمّ المشاركة، ثاقب الذهن (4)، جميل العشرة، ممتع المجالسة، حسن الخطّ (5) والشعر والكتابة، فذّ في الانطباع، صنيع (6) اليدين، يحكم على (7) الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تفسير الكتاب (8).
رحل إلى العدوة (9)، وتوسّل إلى ملكها، مجدّد الرسم، ومقام (10) الجلّة، وعلم دست الشعر والكتابة، أمير المسلمين أبي عنان فارس (11)، فاشتمل عليه، ونوّه به، وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة وشهرة وذكرا (12)، وانقبض مع استرسال الملك (13)، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرّحلة الحجازية، ونبذ الكلّ، وسلا الخطّة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبله (14) على غاربه، وأصحبه رسالة إلى النبيّ الكريم من إنشائه، متصلة بقصيدة من نظمه، وكلاهما تعلن (15) في الخلفاء بعد شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة، في نسب خصله، حسبما تضمّنه الكتاب
__________
الأعيان: توفي سنة 362هـ.
(1) في الأصل: «اثنين» وهو خطأ نحوي.
(2) ترجمة محمد بن يحيى الغساني البرجي في الكتيبة الكامنة (ص 250) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص 172) والتعريف بابن خلدون (ص 64) وجذوة الاقتباس (ص 197) ونفح الطيب (ج 7 ص 241) وأزهار الرياض (ج 5ص 77).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 203).
(4) في النفح: «الفهم».
(5) في النفح: «حسن الشّعر والخط».
(6) في النفح: «صناع».
(7) في النفح: «محكم لعمل الكثير».
(8) في النفح: «الكتب».
(9) في النفح: «العدوة ولقي جلّة وتوسّل».
(10) في النفح: «ومقام أولي الشهرة وعامر دست».
(11) كلمة «فارس» غير واردة في النفح.
(12) كلمة «وذكرا» غير واردة في النفح.
(13) في النفح: «الملك لفضل عقله، حتى تشكى إليّ سلطانه بثّ ذلك عند قدومي عليه، وآثر الراحة».
(14) في النفح: «حبل همّه». والمعنى أنه تركه وشأنه.
(15) في النفح: «يعلن».(2/190)
المسمى ب «مساجلة البيان». ولما هلك وولّي ابنه، قدّمه قاضيا بمدينة ملكه، وضاعف التّنويه به، فأجرى الخطّة، على سبيل من السّداد والنزاهة. ثم لمّا ولّي السلطان أبو سالم عمّه، أجراه على الرسم المذكور، وهو الآن بحاله الموصوفة، مفخر من مفاخر ذلك الباب السلطاني على تعدّد مفاخره، يحظى بكل اعتبار.
شعره: ثبتّ (1) في كتاب «نفاضة الجراب» من تأليفنا، عند ذكر المدعى الكبير بباب ملك المغرب، ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من أنشد ليلتئذ من الشّعراء ما نصّه:
وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي، جملة (2) السّذاجة، وكرم الخلق، وطيب النفس، وخدن العافية، وابن الصّلاح والعبادة، ونشأة القرآن، المتحيّز إلى حزب السلامة، المنقبض عن الغمار، العزوف عن فضول القول والعمل، جامع المحاسن، من عقل رصين، وطلب ممتع، وأدب نقّادة (3)، ويد صناع، أبو القاسم بن أبي زكريا البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة (4): [البسيط]
أصغى إلى الوجد لمّا جدّ عاتبه ... صبّ له شغل عمّن يعاتبه
لم يعط للصبر من بعد الفراق يدا ... فضلّ من ظلّ إرشادا يخاطبه
لولا النّوى لم يبت حرّان (5) مكتئبا ... يغالب الوجد كتما وهو غالبه
يستودع (6) الليل أسرار الغرام وما ... تمليه أشجانه فالدّمع كاتبه
لله عصر بشرقيّ الحمى سمحت ... بالوصل أوقاته لو عاد ذاهبه
يا جيرة أودعوا إذ ودّعوا حرقا ... يصلى بها من صميم القلب ذائبه (7)
يا هل ترى تجمع (8) الأيّام فرقتنا ... كعهدنا أو يردّ القلب ساكبه؟
ويا أهيل ودادي، والنّوى قذف ... والقرب قد أبهمت دوني مذاهبه
هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ... وصادع الشّمل يوم الشّعب شاعبه؟
__________
(1) النص في نفاضة الجراب (ص 382) ونفح الطيب (ج 8ص 204).
(2) في نفاضة الجراب: «حملة».
(3) في نفاضة الجراب: «نقاوة». وفي نفح الطيب: «وأدب ونقاوة».
(4) القصيدة في نفاضة الجراب (ص 386382) والكتيبة الكامنة (ص 254252) ونفح الطيب (ج 8ص 208204)، وجاء في الكتيبة الكامنة أنه قال هذه القصيدة عام 701هـ.
(5) في الأصل: «حيران» والتصويب من المصادر الثلاثة.
(6) في الكتيبة: «يوادع».
(7) في الكتيبة: «نائبه».
(8) في الكتيبة: «ترجع الأيام ألفتنا ويردّ سالبه».(2/191)
ويا ربوع الحمى لا زلت ناعمة ... يبكي عهودك مضنى الجسم شاحبه
يا من لقلب مع الأهواء منعطف ... في كل أوب له شوق يجاذبه
يسمو إلى طلب الباقي بهمّته ... والنفس بالميل للفاني تطالبه
وفتنة المرء بالمألوف معضلة ... والأنس بالإلف نحو الإلف جاذبه
أبكي لعهد الصّبا والشّيب يضحك بي (1) ... يا للرّجال سبت جدّي ملاعبه
ولن ترى كالهوى أشجاه سالفه ... ولا كوعد المنى أحلاه كاذبه
وهمّة المرء تغليه وترخصه ... من عزّ نفسا لقد عزّت مطالبه
ما هان كسب المعالي أو تناولها ... بل هان في ذاك ما يلقاه طالبه
لولا سرى الفلك السّامي لما ظهرت ... آثاره ولما لاحت كواكبه
في ذمّة الله ركب للعلا ركبوا ... ظهر السّرى فأجابتهم نجائبه
يرمون عرض الفلا بالسّير عن عرض (2) ... طيّ السّجلّ إذا ما جدّ كاتبه
كأنهم في فؤاد (3) الليل سرّ هوى ... لولا الضّرام لما خفّت جوانبه
شدّوا على لهب الرّمضاء وطأتهم ... فغاص في لجّة الظّلماء راسبه
وكلّفوا الليل من طول السّرى شططا ... فخلّفوه وقد شابت ذوائبه
حتى إذا أبصروا الأعلام ماثلة (4) ... بجانب الحرم المحميّ جانبه
بحيث يأمن من مولاه خائفه ... من ذنبه وينال القصد راغبه
فيها وفي طيبة الغرّاء لي أمل ... يصاحب القلب منه ما يصاحبه
لم (5) أنس لا أنس أياما بظلّهما ... سقى ثراه عميم الغيث ساكبه
شوقي إليها وإن شطّ المزار بها ... شوق المقيم وقد سارت حبائبه
إن ردّها الدهر يوما بعد ما عبثت ... في الشّمل منّا يداه لا نعاتبه (6)
معاهد شرفت بالمصطفى فلها ... من فضله (7) شرف تعلو مراتبه
محمد المجتبى الهادي الشّفيع إلى ... ربّ العباد أمين الوحي عاقبه
أوفى الورى ذمما، أسماهم همما ... أعلاهم كرما، جلّت مناقبه
هو المكمّل في خلق وفي خلق ... زكت حلاه (8) كما طابت مناسبه
__________
(1) في الكتيبة: «لي».
(2) في الأصل: «غرض» والتصويب من المصادر الثلاثة.
(3) في الكتيبة: «سواد».
(4) في نفاضة الجراب: «مائلة».
(5) في الكتيبة: «ما أنس».
(6) في نفاضة الجراب: «تعاتبه».
(7) في الكتيبة: «من أجله».
(8) في الكتيبة: «علاه».(2/192)
عناية قبل بدء الخلق سابقة ... من أجلها (1) كان آتيه وذاهبه
جاءت تبشّرنا الرّسل الكرام به ... كالصّبح تبدو تباشيرا كواكبه (2)
أخباره سرّ علم الأوّلين وسل ... بدير تيماء ما أبداه راهبه
تطابق الكون في البشرى بمولده ... وطبّق الأرض أعلاما تجاوبه
فالجنّ تهتف إعلانا هواتفه ... والجنّ تقذف إحراقا ثواقبه
ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ... حتى انجلى الحقّ وانزاحت شوائبه
سرى وجنح ظلام الليل منسدل ... والنّجم لا يهتدي في الأفق ساربه
يسمو لكلّ سماء منه منفرد ... عن الأنام وجبرائيل صاحبه
لمنتهى وقف الرّوح الأمين به ... وامتاز قربا فلا خلق يقاربه
لقاب (3) قوسين أو أدنى فما علمت ... نفس بمقدار ما أولاه واهبه
أراه أسرار ما قد كان أودعه ... في الخلق والأمر باديه وغائبه
وآب والبدر في بحر الدّجى غرق ... والصّبح لمّا يؤب للشرق آيبه
فأشرقت بسناه الأرض واتّبعت ... سبل النجاة بما أبدت مذاهبه
وأقبل الرّشد والتاحت زواهره ... وأدبر الغيّ فانجابت (4) غياهبه
وجاء بالذكر آيات مفصّلة ... يهدى بها من صراط الله لا حبه
نور من الحكم لا تخبو سواطعه ... بحر من العلم لا تفنى عجائبه
له مقام الرّضا المحمود شاهده ... في موقف الحشر إذ نابت نوائبه
والرّسل تحت لواء الحمد يقدمها ... محمد أحمد السامي مراتبه
له الشّفاعات مقبولا وسائلها ... إذا دهى الأمر واشتدّت مصاعبه
والحوض يروي الصّدى من عذب مورده ... لا يشتكي غلّة الظمآن شاربه
محامد المصطفى لا ينتهي أبدا ... تعدادها، هل يعدّ القطر حاسبه؟
فضل تكفّل بالدّارين يوسعها ... نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه
حسبي التوسّل منها بالذي سمحت ... به القوافي وجلّتها غرائبه
حيّاه من صلوات الله صوب حيا ... تحدى إلى قبره الزّاكي نجائبه
__________
(1) في الكتيبة: «من أجله».
(2) هذا البيت والأبيات التالية غير واردة في الكتيبة الكامنة.
(3) القاب: المقدار، وما بين المقبض والسّية من القوس. وفي القرآن الكريم: {فَكََانَ قََابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ََ} (9) [النجم: 9]، ومحيط المحيط (قوب).
(4) انجابت: انجلت وانكشفت. محيط المحيط (جيب).(2/193)
وخلّد الله ملك المستعين به ... مؤيّد الأمر منصورا كتائبه
إمام عدل بتقوى الله مشتمل ... في الأمر والنهي يرضيه يراقبه
مسدّد الحكم ميمون نقيبته ... مظفّر العزم صدق الرأي صائبه
مشمّر للتّقى أذيال مجتهد ... جرّار أذيال سحب الجود ساحبه
قد أوسعت أمل الرّاجي مكارمه ... وأحسبت (1) رغبة العافي رغائبه
وفاز بالأمن محبورا مسالمه (2) ... وباء بالخزي مقهورا محاربه
كم وافد آمل معهود نائله ... أثنى وأثنت بما أولى حقائبه
ومستجير بعزّ من مثابته ... عزّت مراميه وانقادت مآربه
وجاءه الدهر يسترضيه معتذرا ... مستغفرا من وقوع الذنب تائبه
لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ... طرق المعالي ونال الملك غاصبه
سمت لنيل تراث المجد همّته ... والملك ميراث مجد وهو عاصبه (3)
ينميه للعزّ والعليا أبو حسن ... سمح الخلائق محمود ضرائبه
من آل يعقوب حسب الملك مفتخرا ... بباب عزّهم السامي تعاقبه
أطواد حلم رسا بالأرض محتده ... وزاحمت (4) منكب الجوزا مناكبه
تحفّها من مرين أبحر زخرت ... أمواجها وغمام ثار صائبه
بكلّ نجم لدى الهيجاء ملتهب ... ينقضّ وسط سماء النّقع ثاقبه
أكفّهم في دياجيها مطالعه ... وفي نحور أعاديهم مغاربه
يا خير من خلصت لله نيّته ... في الملك أو خطب العلياء خاطبه
جرّدت والفتنة الشّعواء ملبسة ... سيفا من العزم لا تنبو مضاربه
وخضتها غير هيّاب ولا وكل ... وقلّما أدرك المطلوب هائبه
صبرت نفسا لعقبى الصبر حامدة ... والصبر مذ (5) كان محمود عواقبه
فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره ... أمن يواليه أو خوف يجانبه
لا زال ملكك والتأييد يخدمه ... تقضي بخفض مناويه قواضبه (6)
__________
(1) أحسبت: أكثرت وأجزلت. لسان العرب (حسب).
(2) في نفاضة الجراب: «مسالبه».
(3) في النفاضة والنفح: «غاصبه» بالغين المعجمة.
(4) في الأصل: «وزاحت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفاضة والنفح.
(5) في نفاضة الجراب: «منذ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الأخرى.
(6) القواضب: جمع قاضب وهو السيف القطّاع. محيط المحيط (قضب).(2/194)
ودمت في نعم تضفو (1) ملابسها ... في ظلّ عزّ علا تصفو مشاربه
ثم الصلاة على خير البريّة ما ... سارت إليه بمشتاق ركائبه
ومن شعره ما قيّده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة (2) المرينية، الفقيه الرئيس الصدر المتفنن أبو زيد بن خلدون (3): [الطويل]
صحا القلب عمّا تعلمين فأقلعا ... وعطّل من تلك المعاهد أربعا (4)
وأصبح لا يلوي على حدّ منزل ... ولا يتبع الطّرف الخليّ المودّعا
وأضحى من السّلوان في حرز معقل ... بعيد على الأيام أن يتضعضعا
يرد الجفان النّجل عن شرفاته ... وإن لحظت عن كل أجيد أتلعا
عزيز على داعي الغرام انقياده ... وكان إذا ناداه للوجد أهطعا (5)
أهاب به للشّيب أنصح واعظ ... أصاخ له قلبا منيبا ومسمعا
وسافر في أفق التفكّر والحجا ... زواهره لا تبرح الدّهر طلّعا
لعمري لقد أنضيت عزمي تطلّبا ... وقضّيت عمري رقية (6) وتطلّعا
وخضت عباب البحر أخضر مزبدا ... ودست أديم الأرض أغبر أسفعا (7)
ومن شعره حسبما قيّده المذكور (8): [المتقارب]
نهاه النّهى بعد طول التجارب ... ولاح له منهج الرّشد لاحب (9)
وخاطبه دهره ناصحا ... بألسنة الوعظ من كلّ جانب
فأضحى إلى نصحه واعيا ... وألغى حديث الأماني الكواذب
وأصبح لا تستبيه (10) الغواني ... ولا تزدريه حظوظ المناصب
__________
(1) في الأصل: «تضفوا». وفي نفاضة الجراب: «تصفو».
(2) الحضرة المرينية: هي عاصمة بني مرين بالمغرب.
(3) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 208).
(4) الأربع: جمع ربع وهو الدار. لسان العرب (ربع).
(5) أهطع: أسرع. لسان العرب (هطع).
(6) في النفح: «رقبة».
(7) الأسفع: الأسود المائل إلى الحمرة. لسان العرب (سفع).
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 251) ونفح الطيب (ج 8ص 208).
(9) اللاحب: الطريق الواضح. محيط المحيط (لحب).
(10) في الكتيبة: «لا تشتهيه».(2/195)
وإحسانه (1) كثير في النظم والنثر، والقصار والمطولات. واستعمل في السّفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة، وهو الآن قاضي (2) مدينة فاس، نسيج وحده في السلامة والتّخصيص (3)، واجتناب فضول القول والعمل، كان الله له.
محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف ابن محمد الصّريحي (4)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه ربض البيّازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله: هذا (5) الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختص (6)، مقبول، هشّ، خلوب، عذب الفكاهة، حلو المجالسة، حسن التوقيع، خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره المذاكرة، فطن بالمعاريض (7)، حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده، مشارك لإخوانه. نشأ عفّا، طاهرا، كلفا بالقراءة، عظيم الدّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النّبل، بعيد مدى الإدراك، جيّد الفهم، فاشتهر فضله، وذاع أرجه، وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض، وشارك في جملة (8)
من الفنون، وأصبح متلقّف كرة البحث، وصارخ الحلقة، وسابق الحلبة، ومظنّة الكمال. ثم ترقّى في درج المعرفة والاضطلاع، وخاض لجّة الحفظ، وركض قلم التّقييد والتّسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس، متكلّما فوق الكرسي المنصوب، وبين (9) الحفل المجموع، مستظهرا بالفنون (10) التي بعد فيها شأوه، من العربية والبيان واللغة، وما يقذف به في لج النقل، من الأخبار والتفسير. متشوّفا مع ذلك إلى السّلوك، مصاحبا للصّوفية، آخذا نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب، فكان
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 209).
(2) في النفح: «قاضي حضرة الملك».
(3) في النفح: «والتخصّص».
(4) ترجمة ابن زمرك في الكتيبة الكامنة (ص 282) ونثير فرائد الجمان (ص 327) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص 282) وأزهار الرياض (ج 2ص 7) ونفح الطيب (ج 10ص 3) واسمه في الأزهار والنفح: «محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي».
(5) النص في نفح الطيب (ج 10ص 54) وأزهار الرياض (ج 2ص 98).
(6) في النفح: «مختصر».
(7) أي المعاريض من الكلام، وهو ما عرض به ولم يصرّح.
(8) في النفح: «كثير».
(9) في النفح: «وفوق المحفل».
(10) مستظهرا بالفنون: متقوّيا بها.(2/196)
أملك به، وأعمل الرّحلة في طلب العلم والازدياد، وترقّى (1) إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في باب (2) الإجادة. ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقرّ بالمغرب، أنس به، وانقطع إليه، وكرّ صحبة (3) ركابه إلى استرجاع حقّه، فلطف منه محلّه، وخصّه بكتابة سرّه.
وثابت الحال، ودالت الدولة، وكانت له الطائلة، فأقرّه على رسمه معروف الانقطاع والصّاغية، كثير الدالّة، مضطلعا بالخطّة خطّا وإنشاء ولسنا ونقدا، فحسن منابه، واشتهر فضله، وظهرت مشاركته، وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلّقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتدّ في ميدان النثر (4) والنظم باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشّأو في مدى الإجادة، [حسبما يشهد بذلك، ما تضمّنه اسم السلطان، أيّده الله، في أول حرف الميم، في الأغراض المتعددة من القصائد والميلاديّات، وغيرها (5)]. وهو بحاله الموصوفة إلى الآن (6)، أعانه الله تعالى (7)
وسدّده.
شيوخه: قرأ (8) العربية على الأستاذ رحلة الوقت (9) في فنّها أبي عبد الله بن الفخّار ثم على إمامها (10) القاضي الشريف، إمام الفنون اللّسانية، أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب، واختصّ بالفقيه الخطيب الصّدر المحدّث أبي عبد الله بن مرزوق فأخذ عنه كثيرا من الرّواية، ولقي القاضي الحافظ أبا عبد الله المقري عندما قدم (11) رسولا إلى الأندلس، وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزّواوي، وروى (12) عن جملة، منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدّث أبو الحسن (13) ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرئ أبو عبد الله ابن بيبش. وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشّريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوي التّلمساني، واختصّ به اختصاصا لم يخل فيه من إفادة (14) مران وحنكة في الصّناعة (15).
__________
(1) في النفح: «فترقّى».
(2) في النفح: «في بابه بالإجادة».
(3) في النفح: «في صحبة».
(4) في النفح: «النظم والنثر».
(5) ما بين قوسين ساقط في النفح.
(6) في النفح: «إلى هذا العهد».
(7) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(8) النص في نفح الطيب (ج 10ص 5).
(9) في النفح: «رحلة إلى المغرب في».
(10) كلمة «إمامها» ساقطة في النفح.
(11) في النفح: «قدم من الأندلس».
(12) في النفح: «ويروي عن جماعة».
(13) في النفح: «أبو الحسين».
(14) في النفح: «استفادة».
(15) في النفح: «في الصنعة».(2/197)
شعره: وشعره (1) مترام إلى نمط (2) الإجادة، خفاجيّ (3) النّزعة، كلف بالمعاني البديعة، والألفاظ الصّقيلة، غزير المادة. فمنه في غرض النّسيب (4):
رضيت بما تقضي عليّ وتحكم ... أهان فأقصى أم أصافي فأكرم
إذا كان قلبي في يديك قياده ... فمالي عليك في الهوى أتحكّم
على أن روحي في يديك بقاؤه ... بوصلك يحيى أو بهجرك يعدم
وأنت إلى المشتاق نار وجنّة ... ببعدك يشقى أو بقربك ينعم
ولي كبد تندى إذا ما ذكرتم ... وقلب بنيران الشوق يتضرّم
ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى ... ولا استصحب الأنواء تبكي وتبسم
أراعي نجوم الأفق في اللّيل ما دجى ... وأقرب من عينيّ للنوم أنجم
وما زلت أخفي الحبّ عن كل عادل ... وتشفي دموع الصّب ما هو يكتم
كساني الهوى ثوب السّقام وإنه ... متى صحّ حبّ المرء لا شيء يسقم
فيا من له العقل الجميل سجيّة ... ومن جود يمناه الحيا يتعلّم
وعنه يروّي الناس كلّ غريبة ... تخطّ على صفح الزمان وترسم
إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى ... فمن ذا الذي يحني عليّ ويرحم
وحلمك حلم لا يليق بمذنب ... فما بال ذنبي عند حلمك يعظم؟
وو الله ما في الحيّ حيّ ولم ينل ... رضاك وعمّته أياد وأنعم
ومن قبل ما طوّقتني كل نعمة ... كأنّي وإياها سوار ومعصم
وفتّحت لي باب القبول مع الرضى ... يغضّ الحيّ طرفي كأني مجرم
ولو كان لي نفس تخونك في الهوى ... لفارقتها طوعا وما كنت أندم
وأترك أهلي في رضاك إلى الأسى ... وأسلم نفسي في يديك وأسلم
أما والذي أشقى فؤادي في الهوى ... وإن كان في تلك الشّقاوة ينعم
لأنت من قلبي ونزهة خاطري ... ومورد آمالي وإن كنت أحرم
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 209) و (ج 10ص 5).
(2) في النفح: «هدف».
(3) نسبة إلى ابن خفاجة، شاعر الطبيعة في الأندلس.
(4) لم ترد هذه الأبيات في نفح الطيب.(2/198)
ومن ذلك ما خاطبني به، وهي (1) من أول نظمه، قصيدة مطلعها: [الطويل]
«أما وانصداع النّور في (2) مطلع الفجر»
وهي طويلة (3). ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزّهد بأويس (4)، ولم يحل مجاريه ومباريه إلّا بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه، المنوّه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه (5): [الطويل]
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا
دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي ... ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام المراميا
وقلب إذا ما البرق أومض موهنا (6) ... قدحت به زندا من الشوق واريا
خليليّ إني يوم طارقة النّوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم باليا
وبالخيف يوم النّفر يا أمّ مالك ... تخلّفت (7) قلبي في حبالك عانيا (8)
وذي أشر عذب الثّنايا مخصّر ... يسقّي به ماء النعيم الأقاحيا
أحوم عليه ما دجا الليل ساهرا ... وأصبح دون الورد ظمآن صاديا (9)
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النّجديّ وهنا بدا ليا
أجيرتنا بالرّمل والرّمل منزل ... مضى العيش فيه بالشّبية حاليا
ولم أر ربعا منه أقضى لبانة ... وأشجى حمامات وأحلى مجانيا
سقت طلّه (10) الغرّ الغوادي ونظّمت ... من القطر في جيد الغصون لآليا
__________
(1) في نفح الطيب (ج 10ص 5): «وهو».
(2) في النفح: «من».
(3) وردت في الكتيبة الكامنة (ص 288284) وأزهار الرياض (ج 2ص 166164)، وعدد أبياتها 59بيتا، ومطلعها:
لك الله من فذّ الجلالة أوحد ... تطاوعه الآمال في النّهي والأمر
(4) هو أويس القرني أحد أعلام الزهد في العصر الأموي، قتل في وقعة صفين عام 27هـ. الأعلام (ج 2ص 32) ومصادر حاشيته.
(5) القصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 6) وأزهار الرياض (ج 2ص 56).
(6) الموهن من الليل: نصفه أو بعد ساعة منه. لسان العرب (وهن).
(7) تخلّفت: تركته خلفي. لسان العرب (خلف).
(8) العاني: الأسير. لسان العرب (عنا).
(9) في الأصل: «ضاريا» والتصويب من المصدرين.
(10) في الأزهار: «ظلّه».(2/199)
أبثّكم أني على النّأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا
أناشدكم والحرّ أوفى بعهده ... ولن يعدم الأحسان والخير (1) جازيا
وورد (2) على السلطان أبي سالم ملك المغرب، رحمة الله تعالى عليه، وفد الأحابيش بهديّة من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمّى بالزّرافة (3)، فأمر من يعاني الشعر من الكتّاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:
[الكامل]
لولا تألّق بارق التّذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار
لكنه مهما تعرّض خافقا ... قدحت يد الأشواق زند أواري (4)
وعلى (5) المشوق إذا تذكّر معهدا ... أن يغري الأجفان باستعبار
أمذكّري غرناطة حلّت بها ... أيدي السّحاب أزرّة النّوّار؟
كيف التخلّص للحديث وبيننا (6) ... عرض الفلاة وطافح زخّار (7)؟
وغريبة قطعت إليك على الونى ... بيدا تبيد بها هموم السّاري
تنسيه طيّته (8) التي قد أمّها ... والرّكب فيها ميّت الأخبار
يقتادها من كلّ مشتمل الدّجى ... وكأنما عيناه جذوة نار
خاضوا بها لجج الفلا فتخلّصت ... منها خلوص البدر بعد سرار
سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار
وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النّواظر نزهة الأبصار
موشيّة الأعطاف رائقة (9) الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار
راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتّح عن شقيق بهار
ما بين مبيضّ وأصفر فاقع ... سال اللّجين به خلال نضار
يحكي حدائق نرجس في شاهق ... تنساب فيه أراقم الأنهار
__________
(1) في الأصل: «الخير والإحسان» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) النص والقصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 1110) وأزهار الرياض (ج 2ص 170 172).
(3) في النفح: «الزرافة».
(4) الأوار: حرّ النار، واللهب. محيط المحيط (أور).
(5) في أزهار الرياض: «علّ المشوق».
(6) في أزهار الرياض: «ودونها».
(7) في نفح الطيب: «وطافح الزّخّار».
(8) الطيّة: النّيّة والوجهة. لسان العرب (طوى).
(9) في أزهار الرياض: «رائعة».(2/200)
وأنشد (1) السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه، رحمه الله تعالى: [الطويل]
تأمّل أطلال الهوى فتألّما ... وسيما الجوى والسّقم منها تعلّما
أخو زفرة هاجت له منه (2) ذكرة ... فأنجد في شعب الغرام وأتهما
وأنشد (3) السلطان في وجهة للصّيد أعملها، وأطلق أعنّة الجياد في ميادين ذلك الطّراد وأرسلها قوله: [الكامل]
حيّاك يا دار الهوى من دار ... نوء السّماك بديمة مدرار
وأعاد وجه رباك طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النّوّار
أمذكّري دار الصّبابة والهوى ... حيث الشّباب يرفّ (4) غصن نضار
عاطيتني عنها الحديث كأنما ... عاطيتني عنها كؤوس عقار
إيه وإن أذكيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشّوق بالتّذكار
يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار
حنّت إلى نجد وليست دارها ... وصبت إلى هنديّة والقار (5)
شاقت به برق الحمى واعتادها ... طيف الكرى بمزارها المزوار (6)
ومن شعره في غير المطولات (7): [الطويل]
لقد زادني وجدا وأغرى بي الجوى ... ذبال (8) بأذيال الظّلام قد التفّا
تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضّبة والليل قد حجب الكفّا
تلوح سنانا حين لا تنفح الصّبا ... وتبدو (9) سوارا حين تثني له العطفا
قطعت به ليلا يطارحني الجوى ... فآونة يبدو وآونة يخفى
__________
(1) النص مع بيتي الشعر في نفح الطيب (ج 10ص 12).
(2) في النفح: «له نار ذكرة».
(3) النص والقصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 1312) وأزهار الرياض (ج 2ص 103).
(4) في أزهار الرياض: «يروق حسن نضار».
(5) في النفح: «هنديّة والغار».
(6) رواية البيت في أزهار الرياض هي:
لكنها شامت به برق الحمى ... واعتادها طيف الكرى بمزار.
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 10ص 16) وأزهار الرياض (ج 2ص 169).
(8) الذّبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة، وأراد المصباح الذي يصفه ابن زمرك في هذه الأبيات.
(9) في النفح: «وتبدي».(2/201)
إذا قلت لا يبدو أشال لسانه ... وإن قلت لا يخبو الصّبابة إذ لفّا (1)
إلى أن أفاق الصّبح من غمرة الدّجى ... وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا
لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفّها من لوعة الحبّ ما شفّا
وممّا ثبت له في صدر رسالة (2): [الطويل]
أزور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم رسائلا
ومهما سألت البرق يهفو من الحمى ... يبادره (3) دمعي مجيبا وسائلا
فياليت شعري والأماني تعلّل ... أيرعى لي الحيّ الكرام الوسائلا؟
وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من جاء سائلا؟
ومن أبياته الغراميات (4): [الوافر]
قيادي قد تملّكه الغرام ... ووجدي لا يطاق ولا يرام (5)
ودمعي دونه صوب الغوادي ... وشجوي (6) فوق ما يشدو (7) الحمام
إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي ... على الدّنيا وساكنها السّلام
وفي غرض يظهر من الأبيات (8): [الطويل]
ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف ... قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر (9)
فأبصرت أشباه الرياض محاسنا ... وفي خدّه جرح بدا منه لي أثر
فقلت لجلّاسي خذوا الحذر إنما ... به وصب من أسهم الغنج والحور
ويا وجنة قد جاورت سيف لحظه ... ومن شأنها تدمي من اللّمح بالبصر
تخبّل للعينين جرحا وإنما ... بدا كلف منه على صفحة القمر
__________
(1) في النفح: «لا يخفى الضياء به كفّا» وفي أزهار الرياض: «لا يخبو الضياء به كفّا».
(2) نفح الطيب (ج 10ص 16) وأزهار الرياض (ج 2ص 170).
(3) في أزهار الرياض: «يبادر به».
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 288) ونفح الطيب (ج 10ص 1716).
(5) يرام: يطلب. لسان العرب (روم).
(6) في الكتيبة: «وشوقي».
(7) في الكتيبة: «يشكي». وفي النفح: «يشكو».
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 10ص 17).
(9) الأحوى: الأسمر، ومن كان لونه لون صدإ الحديد. الوطر: الحاجة. لسان العرب (هوى) و (وطر).(2/202)
وممّا يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق في ذلك (1): [الطويل]
ألائمة (2) في الجود والجود شيمتي (3) ... جبلت على آثارها (4) يوم مولدي
ذريني فلو أنّي أخلّد بالغنى ... لكنت ضنينا بالذي ملكت يدي
ومن مقطوعاته (5): [المتقارب]
لقد علم الله أنّي امرؤ ... أجرّر ثوب العفاف القشيب
فكم غمّض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب
وقيل رقيبك في غفلة ... فقلت أخاف الإله الرّقيب
وفي مدح كتاب «الشّفا» (6) طلبه الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق عندما شرع في شرحه (7): [الطويل]
ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به ... نجائب سحب للتراب نزوعها
تسلّ سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهلّ خوفا من سطاها دموعها
ومنها:
ولا مثل تعريف الشّفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول جميعها
بمرآة حسن قد جلتها يد النّهى ... فأوصافه يلتاح فيه بديعها
نجوم اهتداء، والمداد يجنّها ... وأسرار غيب واليراع تذيعها
لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا ... فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها
ولله ممّن قد تصدّى لشرحه ... فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها
فكم مجمل فصّلت منه وحكمة ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افترّ (8) عن زهر البطاح ربيعها
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 10ص 17) وأزهار الرياض (ج 2ص 10).
(2) في الأصل: «يا لائمي» والتصويب من نفح الطيب. وفي أزهار الرياض: «ولائمتي».
(3) في النفح: «شيمة».
(4) في المصدرين: «إيثارها».
(5) الأبيات في أزهار الرياض (ج 2ص 10) ونفح الطيب (ج 10ص 17).
(6) كتاب «الشفا» للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، واسمه كاملا: «الشفا، بالتعريف بحقوق المصطفى».
(7) البيتان في نفح الطيب (ج 10ص 1817).
(8) افترّ: ابتسم. مختار الصحاح (فرر).(2/203)
إذا ما أصول المرء طابت أرومة (1) ... فلا عجب أن أشبهتها فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدى ولأحداث الخطوب تروعها
ومما امتزج فيه نثره ونظمه، وظهر فيه أدبه وعلمه، قوله يخاطبني جوابا عن رسالة خاطبت بها الأولاد، وهم مع مولانا أيّده الله بالمنكّب (2): [مخلع البسيط]
ما لي بحمل الهوى يدان ... من بعد ما أعوز التّداني
أصبحت أشكو إلى (3) زمان ... ما بتّ منه على أمان
ما بال عينيك تسجمان ... والدّمع يرفضّ كالجمان؟
ناداك والإلف عنك وان ... والبعد من بعده كواني؟ (4)
يا شقّة (5) النفس، من هوان ... لجج (6) في أبحر الهوان
لم يثنني (7) عن هواك ثان ... يا بغية القلب (8) قد كفاني (9)
يا جانحة الأصيل، أين يذهب قرصك المذهّب، وقد ضاق بالشوق المذهب.
أمست شموس الأنس محجوبة عن عيني، وقد ضرب البعد الحجاب بينها وبيني.
وعلى كل حال، من إقامة وارتحال. فما محلك من قلبي محلا بينها. وما كنت لأقنع من وجهك تخيّلا وشبيها. ومن أين انتظمت لك عقول التّشبيه واتّسقت، ومن بعض المواقع والشمس لو قطعت. صادك منذور، وأنت تتجمل بثوبي زور، وجيب الظلام على دينارك حتى الصباح مزرور، ووراءك من الغروب غريم لا يرحم، ومطالب تتقلّب منه في كفّه المطالب. ويا برق الغمام من أي حجاب تبتسم، وبأي صبح ترتسم، وأي غفل من السحاب تسم. أليست مباسم الثغور، لا تنجد بأفقي ولا تغور؟
هذا وإن كانت مباسمك مساعدة، والجوّ ملبس لها من الوجوم شعارا، فلطالما ضحكت فأبكت الغوادي، وعقت الرائح والغادي. أعوذ بواشم البروق، بنواسم الطّفل والشروق، ذوات الزائرات المتعددة الطّروق، فهي التي قطعت وهادا ونجادا، واهتدت بسيف الصباح من السحاب قرابا ومن البروق نجادا، واهتدت خبر الذين أحبّهم
__________
(1) الأرومة: الأصل. لسان العرب (أرم).
(2) الأبيات في أزهار الرياض (ج 2ص 1110).
(3) في الأصل: «من» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من أزهار الرياض.
(4) في الأصل: «كوان» والتصويب من أزهار الرياض.
(5) في الأزهار: «يا شقوة».
(6) في الأزهار: «لججت».
(7) في الأصل: «لم يثن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من أزهار الرياض.
(8) في الأصل: «القلوب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من أزهار الرياض.
(9) في الأصل: «كفان» والتصويب من أزهار الرياض.(2/204)
مستظرفا مستجادا، فعالها ولعلها، والله يصل في أرض الوجود نهلها وعلّها، وأن يبل ظعين الشوق بنسيمها البليل، وأن نعوضه من نار الغليل، بنار الخليل، وخير طبيب يداوي الناس وهو عليل. فشكواي إلى الله لا أشكو إلى أحد. هل هو إلّا فرد تسطو رياح الأشواق على ذبالته، وعمر الشوق قد شبّ على الطّوق، ووهب الجمع للفرق ولم يقنع بالمشاهدة بالوصف دون الذّوق. وقلب تقسم أحشاؤه الوجد، وقسم باله الغور والنّجد. وهموم متى وردت قليب القلب، لم تبرح ولم تعد، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
أستغفر الله يا سيدي الذي يوقد أفكاري حلو لقائه، وأتنسّم أرواح القبول من تلقائه، وأسأل الله أن يديم لي آمالي بدوام بقائه. إن بعد مداه، قربت منّا يداه، وإن أخطأنا رفده أصبنا نداه. فثمرات آدابه الزّهر تجيء إلينا، وسحائب بنانه الغرّ تصوّب دوالينا أو علينا، على شحط هواه، وبعد منتواه. ولا كرسالة سيدي الذي عمّت فضائله وخصّت، وتلت على أولياء نعمته أنباء الكمال وقصّت، وآي قضى كل منها عجبا، ونال من التماح غرّتها واجتلاء صفحتها أربا. فلقد كرمت عنه بالاشتراك في بنوّته الكريمة نسبا، ووصلت لي بالعناية منه سببا. تولّى سيدي خيرك من يتولّى خير المحسنين، ويجزل شكر المنعمين. أما ما تحدّث به من الأغراض البعيدة العذيبة، وأخبر عنه من المعاني الفريدة العجيبة، والأساليب المطيلة، فيعجز عن وصفه، وإحكام رصفه، القلم واللسان، ويعترف لها بالإبداع المستولي على أمد الإحسان البديع وحسّان. ولقد أجهدت جياد الارتجال، في مجال الاستعجال، فما سمحت القريحة إلّا بتوقّع الآجال، وعادت من الإقدام إلى الكلال. فعلمت أن تلك الرسالة الكريمة، من الحق الواجب على من قرأها وتأمّلها، أن لا يجري في لجّة من ميادينها، ويديم يراع سيدي الإحسان كرينها، لكن على أن يفسح الرياض للقصي مدى، ويقتدي بأخلاق سيدي التي هي نور وهدى، فإنه والله يبقيه، ويقيه ممّا يتّقيه، بعد ما أعاد في شكوى البين وأبدى، وتظلّم من البعد واستعدى، ورفع حكم العتاب عن ذرات النّسيم والاقتعاب، ورعى وسيلة ذكرها في محكم الكتاب. وولّى فضله ما تولّى، وصرف هواه إلى هوى المولى أن صور السعادة على رأيه، أيّده الله تجلّى، وثمرة فكره المقدس، أيّده الله تتحلّى. شكر الله له عن جميع نعمه التي أولى، وحفظ عليه مراتب الكمال التي هو الأحقّ بها والأولى. وقد طال الكلام، وجمحت الأقلاح. ولسيدي وبركتي الفضل، أبقى الله بركته، وأعلى في الدارين درجته، والسلام الكريم يخصّكم، من مملوككم ابن زمرك، ورحمة الله وبركاته، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين.(2/205)
وخاطبني كذلك، وهو من الكلام المرسل: أبو معارفي، ووليّ نعمتي، ومعيد جاهي، ومقوّم كمالي، ومورد آمالي، ممن توالى نعمه عليّ، ويتوفّر قسمه لدي وأبوء له بالعجز، عن شكر أياديه التي أحيت الأمل، وملأت أكفّ الرغبة، وأنطقت الحدائق، فضلا عن اللسان، وأياديه البيض وإن تعددت، ومننه العميمة وإن تجدّدت، تقصر عن إقطاع أسمى شرف المجلس في الروض الممطور بيانه. فماذا أقول، فيمن صار مؤثرا إليّ بالتقديم، جاليا صورة تشريفي، بالانتساب إليه في أحسن التقويم (1) وإني ثالث اثنين أتشرف بخدمتها، وأسحب في أذيال نعمتها:
[الطويل]
خليليّ، هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من تمشي إليه عبيد؟
اللهمّ، أوزعني شكر هذا المنعم، الذي أثقلت نعمه ظهر الشكر، وأنهضت كمال الحمد، اللهمّ أدم بجميع حياته، وأمتع بدوام بقائه الإسلام والعباد، وأمسك بيمن آرائه رمق ثغر الجهاد. يا أكرم مسئول، وأعزّ ناصر. تفضّل سيدي، والفضل عادته، بالتعريف بما يقرّ عين التطلّع ويقنع غلّة التشوّف. ولقد كان المماليك لما مثلنا بين يدي مولانا، أيّده الله، لم يقدم عملا عن السؤال ولا عن الحال، إقامة لرسم الزيارة، وعملا بالواجب، فإنني أرى الديار بطرفي، فعلى أن أرى الديار بعيني، وعلى ذلك يكون العمل إن شاء الله. وإن سأل سيدي شكر الله احتفاءه، وأبقى اهتمامه، عن حال المماليك، من تعب السفر، وكدّ الطريق، فهي بحمد الله دون ما يظنّ. فقد وصلنا المنكّب تحت الحفظ والكلاءة، محرزين شرف المساوقة، لمواكب المولى، يمن الله وجهته، وكتب عصمته، واستقرّ جميعنا بمحلّ القصبة، وتاج أهبتها، ومهبّ رياح أجرائها، تحت النعم الثرّة، والأنس الكامل الشامل. قرّب الله أمد لقائكم، وطلع على ما يسرّ من تلقائكم. ولما بلغنا هذه الطّيّة، وأنخنا المطيّة، قمنا بواجب تعريفكم على الفور بالأدوار، ورفعنا مخاطبة المالك على الابتدا. والسلام.
مولده: في الرابع عشر من شوال ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
انتهى السفر السادس هنا، والحمد لله ربّ العالمين
__________
(1) بياض في الأصل.(2/206)
ومن السفر السابع المفتتح بقوله ومن الطّارئين منهم في هذا الباب
محمد بن أحمد بن محمد بن أبي خيثمة الجبّائي
سكن غرناطة، يكنى أبا الحسن.
حاله: كان مبرّزا في علوم اللسان نحوا ولغة وأدبا، متقدما في الكتابة والفصاحة، جامعا فنون الفضائل، على غفلة كانت فيه.
مشيخته: روى عن أبي الحسن بن سهل، وأبي بكر بن سابق، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي علي الغساني وغيرهم. وصحب أبا الحسن بن سراج صحبة مواخاة.
تواليفه: صنّف في شرح غريب البخاري مصنّفا مفيدا.
وفاته: توفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة أربعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الإستجّي الحميري
من أهل مالقة، وأصله من إستجّة، انتقل سلفه إلى مالقة، يكنّى أبا عبد الله.
حاله: كان من جملة حملة العلم، والغالب عليه الأدب، وكان من أهل الجلالة، ومن بيت علم ودين. أقرأ ببلده، وقعد بالجامع الكبير منه، يتكلّم على صحيح البخاري، وانتقل في آخر عمره إلى غرناطة.
وقال الأستاذ (1): كان من أبرع أهل زمانه في الأدب نظما ونثرا.
شعره: منقولا من خط الوزير الرّاوية أبي محمد عبد المنعم بن سماك، وقد ذكر أشياخه فقال: الشيخ المتفنن الأديب، البارع، الشاعر المفلق، قرأ على أشياخها، وأقرأ وهو دون العشرين سنة. وكانت بينه وبين الأستاذ المقرئ الشهير أبي العباس، الملقب بالوزعي، قرابة، وله قصيدة أولها: [الكامل]
ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ومنها:
حتى النسيم إذا ألّم بأرضهم ... خلعوا عليه رقّة ونحولا
__________
(1) هو ابن الزبير، صاحب كتاب «صلة الصلة».(2/207)
وكان يقول: كان الأستاذ أبو العباس يستعيدني هذا البيت ويقول: نعم أنت قريبي. وقدم على غرناطة، أظنّ سنة تسع وثلاثين وستمائة.
محنته: قال الأستاذ: جرى له قصة، نقل بعض كلامه فيها، على بعض أحاديث الكتّاب من جهة استشهاد أدبي عليه فيها، غالب أدبه، فأطلق عنان الكلام، وما أكثر مما يطاق فيما يأنفه إدراكات تلك الأفهام، ولكل مقام مقال، ومن الذي يسلم من قيل وقال. وكان ذلك سبب الانقطاع، ولم يؤت من قصر باع، وانتقل إلى غرناطة، فتوفي في أثر انقطاعه وانتقاله.
شعره: من ذلك قوله في غرض يظهر من الأبيات: [الطويل]
قضوا في ربى نجد ففي القلب مرساه ... وغنّوا إن أبصرتم (1) ثمّ مغناه
أما هذه نجد أما ذلك الحمى؟ ... فهل عميت عيناه أم صمّ (2) أذناه؟
دعوه يوفّي ذكره باتّشامه ... ديون هواه قبل أن يتوفّاه
ولا تسألوه سلوة فمن العنا ... رياضة من قد شاب في الحب فوداه (3)
أيحسب من أصلى فؤادي بحبّه ... بأني (4) سأسلو عنه، حاشاه حاشاه؟
متى غدر الصّبّ الكريم وفى (5) له ... وإن أتلف القلب الحزين تلافاه
وإن حجروا معناه وصرّحوا به ... فإن معناه أحقّ بمعناه
ويا سابقا عيس الغرام سيوفه ... وكلّ إذا يخشاه في الحبّ يخشاه
أرحها فقد ذابت من الوجد والسّرى ... ولم يبق إلّا عظمها أو بقاياه
ويا صاحبي عج بي على الخيف (6) من منى ... وما للتعنّي (7) لي بأنّي ألقاه
وعرّج على وادي العقيق لعلّني ... أسائل عمّن كان بالأمس مأواه
وقل للّيالي قد سلفن بعيشه ... وعمر على رغم العذول قطعناه
هل العود أرجوه أم العمر ينقضي ... فأقضي ولا يقضى الذي أتمنّاه؟
__________
(1) في الأصل: «إن أبصرتم» وهكذا ينكسر الوزن، لذلك جعلنا همزة القطع همزة وصل.
(2) في الأصل: «صمّت» وكذا ينكسر الوزن.
(3) الفود: معظم شعر الرأس مما يلي الأذن. محيط المحيط (فود).
(4) في الأصل: «أني أسلو» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «وفّى» بتشديد الفاء، وكذا ينكسر الوزن.
(6) الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل. محيط المحيط (خيف).
(7) في الأصل: «وما التعني لي من بأني ألقاه» وكذا لا يستقر الوزن والمعنى معا.(2/208)
ومن شعره أيضا، قوله، رحمه الله: [الطويل]
سرت من ربى نجد معطّرة الرّيّا ... يموت لها قلبي وآونة يحيا
تمسّح أعطاف الأراك بليلة ... وتنثر كافورا على التربة اللّميا
وترتدّ (1) في حجر الرياض مريضة ... فتحيي بطيب العرف من لم يكن يحيا
وبشرى (2) بأنفاس الأحبّة سحرة ... فيسرع دمع العين في إثرها جريا
سقى (3) الله دهرا ذكره بنعيمه ... فكم لجفوني عند ذكراه من سقيا
نآني (4) محيّاه الأنيق وحسنه ... ومن خلقي قد كنت لا أحمل النأيا
وبي رشأ من أهل غرناطة غدا ... يجود بتعذيبي ويبخل باللّقيا
رماني فصابني (5) بأول نظرة ... فيا عجبا من علّم الرّشأ الرّميا
وبدّد جسمي نوره وكأنه ... أشعّة شمس قابلت جسدي مليا
تصوّر لي من عالم الحسن خالصا ... فمن عجب أن كان من عالم الدنيا
وهمّ بأن يرقى إلى الحور جسمه ... فثقّلته كتبا وحمّلته حليا
إذا ما انثنى أو لاح أو جاح أو رنا ... سبا القصب والأقمار والمسك والضيا
رعى الله دهرا كان ينشر وصله ... برود طواها البين في صدره طيّا
مشيخته: ومما يشتمل على أسماء شيوخه، ويدلّ على تبحّره في الأدب ورسوخه، إجازته أبا الوليد إسماعيل بن تبر الأيادي، وعندها يقال: أتى الوادي:
[الخفيف]
إنّ لي عند كلّ نفحة بستا ... ن من الورد أو من الياسمينا
نظرة والتفاتة أتمنّى ... أن تكوني حللت فيما تلينا
ما هذه الأنوار اللائحة، والنّوار الفائحة، إني لأجد ريح الحكمة، ولا مفنّد، وأرد مورد النعمة، ولا منكد، أمسك دارين ينهب، أم المندل الرطب في الغرام الملهب، أم نفحت أبواب الجنّة ففاح نسيمها، وتوضحت أسباب المنّة فلاح
__________
(1) في الأصل: «ومرتد».
(2) في الأصل: «وبشرت».
(3) في الأصل: «سقني» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «ملني». ونآني محيّاه: بعد عني.
(5) في الأصل: «فأصابني» وهكذا ينكسر الوزن.(2/209)
وسيمها: [الطويل]
محيّاك أم نور الصباح تبسّما ... وريّاك أم نور الأقاحي (1) تنسّما
فمن شمّ من ذا نفحة رقّ شيمة ... ومن شام من ذا لمحة راق مبسما؟
أجل خلق الإنسان من عجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتفهموا أسرار الحكم وتعوا، وإذا رأيتم رياض الجنّة فارتعوا، يعني مجالس الذّكر، ومأنس النظر والفكر، ومطالع المناظرة، ومواضع المحاضرة، فهذه بتلك، وقد انتظمت الجواهر النبوية في سلك، ولهان حمى للعطارة وطيس، بين مسك المداد وكافور القراطيس. فيا أيها المعلم الأوحد، والعالم الذي لا تنكر أمامته ولا تجحد، حوّمت على علم الملوك، ولزمت بحلم طريق الحكم المسلوك، فلم تعد أمل الحكماء، ولم تعد إلّا بعمل العلماء، وقد قال حكيمهم الفاضل، وعظيمهم الذي لا مناظر له ولا مفاضل: إذا خدمت الأمراء فكن بين استلطاف واستعطاف، تجن المعارف والعوارف دانية القطاف، فتعلّمهم وكأنك تتعلّم منهم، وترويهم وكأنك تروي عنهم، فأجريت الباب، وامتريت من العلم اللّباب، ثم لم تبعد، فقد فعل النحويون ذلك في يكرم، ويعد، ويعزّ، ولا غرو أن تقرأ على من هو دونك، وتستجيز الإجازة عن القوم العظام يقصدونك. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمره الله بأن يقرأ على أبيّ بن كعب، فهل في حيّ الخواطر الذكية من حيّ؟ فقال له، رضي الله عنه: الله أمرك أن تقرأ عليّ، والعناية الرّبانية تنادي إليّ إليّ، وإذا قال لي: من أحبّ مولاي، واستعار لزينته حلاي:
فما على الحبيب من اعتراض ... وللطّبيب تصرّف في المراض (2)
قد يرحل المرء لمطلوبه ... والسبب المطلوب في الرّاحل (3)
عجت متواضعا، فما أبرمت في معاجك، ولا ظلمت في السؤال نعجته إلى نعاجك، فإنه سرّ الله، لا يحلّ فيه الإفشاء، وحكمة الله البالغة، والله يؤتي الحكمة من يشاء، وإن لبست من التواضع شعارا، ولبست عن الترفع تنبيها على السّر المكتوم وإشعارا، فهذه الثريّا من العجائب إذا ارتفعت في أعلى صعودها، وأسمى راياتها الخافقة وبنودها، نهاية وجودها الحسّي عدم، وغاية وصفها الشّبهي أن تشبّه بقدم، فإذا همّت بالركوع، وشمّت في المغرب ريح الوقوع، كان لها من السّمو القدح
__________
(1) في الأصل: «الأقاح».
(2) المراض: جمع مرض وهو ذو المرض. محيط المحيط (مرض).
(3) هذا البيت على البحر السريع.(2/210)
المعلّى، وعادت قرطا تتزيّن به الآذان وتتحلّى:
وفي الشرق كأس وفي مغاربها ... قرط وفي وسط السماء قدم
هذه آثار التواضع متلوّة السّور، مجلوّة الصّور، وكان بعضهم إذا أعطى الصّدقة، يعطيها ويده تحت يد السّائل، وهكذا تفهم المسائل. فإنه لما سمع النبوة تقول: اليد العليا خير من اليد السّفلى، أراد أن يؤثر المقام الأعلى. ولما أعطى أبو بكر، رضي الله عنه، ماله كله، أعطى عمر، رضي الله عنه، النصف من المال، لا احتياطا على ماله، ولكن ليقف لأبي بكر في مقام القصور عن كماله، تفويضا وتسليما، وتنبيها لمن كان له قلب وتعليما. ورؤي الدّارقطني، رحمه الله عليه، يحبس أباه بركابه، فلا ينكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال: رأيته يبادر إلى فضيلة، فكرهت مخالفته: [البسيط]
فوق السماء وفوق الزّهر ما طلبوا ... وهم إذا (1) ما أرادوا غاية نزلوا
وإلى هذا وصل الله حفظك، وأجزك من الخيرات حظّك، فإنه وصلتني الكرّاسة المباركة، الدّالّة على التفنن في العلوم والمشاركة، فبينما أنا أتلو الإجازة، وأريق صدور البيان وإعجازه، ألقي إليّ كتاب كريم، إنه من أبي الوليد، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فحرت، ووقفت كأنني سحرت، وقلت: ساحران تظاهرا معا، وأحدهما قاتلي، فكيف إذا اجتمعا: [الطويل]
فلو كان رمحا واحدا لاتّقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث
ومن لعبت بشيمته المثاني ... فأحرى أن تطير به المثالث (2)
وطار بي الشوق كلّ مطار، وقرأت سماء فكرتي سورة الانفطار، وكدت أصعد إلى السماء توقّدا، واختلط بالهواء تودّدا: [الكامل]
كانت جواهرنا أوائل قبل ذان ... فالآن صارت بالتحول ثوان
وجدت وراء الحسن وهي كثيفة ... فوجودهن الآن في الأذهان
ولم يكف أن بهرت بالحسن الخلوب، حتى أمرت أن أنظم على ذاك الأسلوب، وبالحريّ لذلك النثر البديع، الحريريّ أو البديع، ولذلك النّظم العجيب، المتنبي أو حبيب، ولذلك التصوف الرقيق، الحارث بن أسد ذي التحقيق. وأما الحديث، فما لك تقطع تلك المسالك، إلّا أن العربية ليس لأحد معه فيها دليل،
__________
(1) في الأصل: «وإذا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) هذا البيت على البحر الوافر.(2/211)
أستغفر الله إلّا للخليل، لكن أصول الدين مجريّة، تركت تلك الميادين. هنّاك الله جمع كل منقبة جليلة، فترى الفضيلة لا تردّ فضيلة، فمر الرديف وقد ركب غضنفرا، أو المدّعي صفة فضل، وكلّ الصّيد في جوف الفرا (1). من يزحم البحر يغرق، ومن يطعم الشجر يشرق. وهل يبارى التوحيد بعمل، أو يجارى البراق بجمل؟ ذلك انتهى إلى سدرة المنتهى، وهل انبرى ليلطم خدّه في الثرى؟ لا تقاس الملائكة بالحدّادين، ولا حكماء يونان بالفدادين. أفي طريق الكواكب يسلك، وعلى الفلك الأثير يستملك؟ أين الغد من الأمس، وظلمة الغسق من وضح الشمس؟ ولولا ثقتي بغمام فضلك الصّيّب، لتمثلت لنفسي بقول أبي الطيب (2): [الطويل]
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له ألحق (3)
فإن رضيت أيها العلم، فما لجرح إذا أرضاكم. ألم تر كيف أجاري أعوج بمغرب أهوج وأجاري ذا العقال بجحش في عقال؟ ظهر بهذه الظّلمة، ذلك الضياء، وبضدّها تتبين الأشياء. وما يزكو بياض العاج حتى يضاف إلى سواد الأبنوس. ألفاظ تذوب رقّة، وأغراض تملك حبّ الكريم ورقّة الزّهر، والزّهر بين بنان وبيان، والدرّ طوع لسان وإحسان: [الوافر]
وقالوا ذاك سحر باهليّ (4) ... فقلت وفي مكان الهاء باء
وأما محاسن أبي الوليد، فيقصر عنها أبو تمام وابن الوليد: [المتقارب]
معان لبسن ثياب الجمال ... وهزّت لها الغانيات القدودا
كسون عبيدا ثياب عبيد ... وأضحى لبيد لديها بليدا
وكيف أعجب من إجرائك لهذه الجياد، وأياديك من إياد؟ أورثت هذه البراعة المساعدة، عن قسّ بن ساعدة؟ أجدّك أنت الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أورق، وهو يقول أيها الناس: مطر ونبات، وآباء وأمهات، إلى قوله: [مجزوء الكامل]
في الذاهبين الأوّلي ... ن من القرون لنا بصائر
__________
(1) قوله: «كلّ الصّيد في جوف الفرا» مثل يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا: الحمار الوحشي، وجمعه فراء. مجمع الأمثال (ج 2ص 136).
(2) هو بيت من قصيدة مؤلفة من 43بيتا، وهو في ديوان المتنبي (ص 362).
(3) يقول: إذا أراد سيف الدولة أن يسخر بأحمق من الشعراء أراه أثر المتنبي، ثم أمره أن يلحق به، لأنه لا يقدر على ذلك. والغبار واللحاق استعارة من سباق الخيل.
(4) في الأصل: «بأهلي».(2/212)
لمّا رأيت موارد ... للموت ليس لها مصادر
أيقنت أنّي لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
إيه بغير تمويه. رجع الحديث الأول إلى ما عليه المعوّل. سألتني، أيها السيد الذي يجب إسعافه، أن أرغم أنف القلم حتى يجري رعافه، وأن أكحّل جفون الأوراق بمداد الأقلام، وأن أجمع الطّروس والأمدّة (1)، بين إصباح وإظلام، وأطرّز بياض السّوسن بخضرة الآس، وأبرز العلم الأبيض تحت راية بني العباس، فقلت مبادرا ممتثلا، وجلت في ميدان الموافقة متمثّلا: [البسيط]
لبّيك لبّيك أضعافا مضاعفة ... إنّي أجبت ولكن داعي الكرم
أتى من المجد أمر لا مردّ له ... أمشي على الرأس فيه لا على القدم
دعاء والله مجاب ونداء ليس دونه حجاب: [المتقارب]
كتبت ولو أني أستطيع ... لإجلال قدرك بين البشر
قددت البراعة من أنملي ... كأنّ (2) المداد سواد البصر
نعم أجزت، سيدي الفقيه الأجل، الخطيب الأكرم، العالم العلم، الأوحد الأكمل، الحسيب الأحفل الأطول، أبا الوليد بن الفقيه الأجل، المعظم الموقر، المكرم المبارك الأظهر، المرحوم أبي زكريا يحيى بن سعيد بن قتري الأيادي القرموني، ونبيه السّادات النجباء المباركين، أبا القاسم أحمد، وأبا إسحاق إبراهيم، وأبا الحسين بتزيا. ونعمت الأغصان والشجرة، والأقنان والثمرة، أقرّ الله بهم أعين المجد، ولا زالوا بدورا في مطالع السّعد، ولا برحوا في مكارم يجنون نوّارها، ويجتلون أنوارها، وتفيض عليهم يد العناية الإلهية، نهرها الكوثري ونهارها، جميع ما رويته قراءة وسماعا، وإجازة ومناولة، من العلوم على اختلافها، وتباين أصنافها، بأي وجه رويته، وعلى أي وصف تقلّدته ودريته، وكذلك أجزتهم جميع ما قلته وأقوله، من مسطور ومرسوم، ومنثور ومنظوم، وتصرّفت فيه من منقول ومفهوم، وقصائدي المسماة بالرّوحانيات، ومعشّراتي الحبيبات، وما نظمته من الوتريات، وشرحي لشعر أبي الطيب المسمى ب «ظهور الإعجاز بين الصدور والأعجاز»، وكتابي المسمى «شمس البيان في لمس البنان»، والزهرة الفائحة في الزّهرة اللائحة، ونفح
__________
(1) الطروس: جمع طرس وهو الصحيفة. والأمدّة: سدى الغزل والمساك في جانبي الثوب إذا ابتدئ به، والمراد هنا: الحبر، مفردها: مداد. لسان العرب (طرس) و (مدد).
(2) في الأصل: «وكأن» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفت الواو.(2/213)
الكمامات في شرح المقامات، واقتراح المتعلمين في اصطلاح المتكلمين، وكتاب التّصوّر والتصديق، في التوطية لعلم التحقيق، ورقم الحلل، في نظم الجمل، ومفتاح الإحسان، في إصلاح اللسان. وما أنشأته من السلطانيات نظما ونثرا، وخطابة وشعرا.
والله تعالى يجعل أعمالنا خالصة لوجهه بمنّه وكرمه، فليقل الفقيه الأجل، وبنوه الأكرمون، رضي الله عنهم، أنبأنا وأخبرنا وحدّثنا، أو ما شاءوا من ألفاظ الرواية، بعد تحري الشروط المرعيّة، في الإجازات الشرعية، وإن ذهبوا حفظ الله كمالهم، وأراهم في الدارين آمالهم، إلى تسمية من لي من المشايخ، قدّس الله أرواحهم، وزحزح عن النار أشباحهم:
فمنهم الأستاذ الخطيب الكبير، العالم الفاضل الجليل، البقيّة الصالحة، آخر الأدباء، وخاتمة الفضلاء، أبو جعفر أحمد بن يحيى بن إبراهيم الحميري القرطبي الدّار، رضي الله عنه. قرأت عليه بقرطبة شعر أبي الطيب قراءة فهم لمعانيه، وإعراب لألفاظه وتحقيق للغته، وتنقير عن بديعه. وكذلك قرأت عليه أكثر شعر أبي تمام.
وسمعت عليه كتاب الكامل لأبي العباس المبرّد، ومقامات التميمي، كان يرويها عن منشئها، وكانت عنده بخط أبي الطاهر. وتفقهت عليه «تبصرة الضمري». وكان على شياخته، رحمه الله، ثابت الذهن، مقبل الخاطر، حافظ المعيّا: [الوافر]
يروع ركانة ويذوب ظرفا ... فما تدري أشيخ أم غلام
نأتيه بمقاطيع الشعر فيصلحها لنا. ويقف على ما نستحسنه منها، فنجده أثبت منّا، ولقد أنشدته يوما، في فتى مفقود العين اليسرى: [الكامل]
لم تزو إحدى زهرتيه ولا انثنت ... عن نورها وبديع ما تحويه
لكنه قد رام يغلق جفنه ... ليصيب بالسّهم الذي يرميه
فاستفادهما وحفظهما، ولم يزل، رحمه الله، يعيدهما مستحسنا لهما، متى وقع ذكرى. وكان يروي عن الإمام المازري بالإجازة، وعن القاضي أبي مروان بن مسرّة، وعن الأستاذ عباس، وعن أبي عبد الله بن أبي الخصال.
ومنهم الفقيه الأجل العالم العدل، المحدّث الأكمل، المتفنن، الخطيب، القاضي أبو محمد بن حوط الله. سمعت عليه كتبا كثيرة بمالقة، بقراءة الفقيه الأستاذ أبي العباس بن غالب، ولقيته بقرطبة أيضا، وهو قاضيها. وحدّثني عن جدّي، وعن جملة شيوخ، وله برنامج كبير، وأخوه القاضي الفاضل أبو سليمان أيضا منهم.(2/214)
ومنهم الفقيه الأجلّ، العالم العلم، الأوحد، النحوي، الأديب المتفنن، أبو علي عمر بن عبد المجيد الأزدي، قرأت عليه القرآن العزيز مفردات، وكتاب الجمل، والإيضاح، وسيبويه تفقها، وكذلك الأشعار السّتة تفقها، وما زلت مواظبا له إلى أن توفي رحمه الله. وكان فريد عصره في الذكاء والزكا. ولم يكن في حلبة الأستاذ أبي زيد السّهيلي أنجب منه على كثرتهم. وقد قال الأستاذ أبو القاسم السهيلي للإمام المنصور، رضي الله: هو أقعد لكتاب سيبويه منّا. وقال لي يوما، وقد نظر إلى طالب يصغي بكليته إلى ثان، فقلت: ماذا؟ فقال: إنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ، فقلت له:
ويعيد الصّبح ليلا مدلهمّ، فاستحسنه.
ومنهم الفقيه الأجلّ، الأديب الأريب الكامل، اللغوي الشهير، أبو علي ابن كسرى الموري، قريبي ومعلّمي. وكان من طلبة أبي القاسم السّهيلي، وممن نبغ صغيرا. وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا إسحاق الكبير بإشبيلية: [الكامل]
قسما بحمص (1) وإنه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة الأستاذ أبو القاسم السهيلي، فقام عند إتمامه القصيدة، فقال: لمثل هذا كنت أحسيك الحسا، ولمثل هذا كنت أواصل في تعليمك الإصباح والإمساء. وقد أنشد هذا لأمير المؤمنين أبي يعقوب (2)، رضي الله عنه:
[الطويل]
أمعشر أهل الأرض بالطّول والعرض ... بهذا أنادي في القيامة والعرض
فقد قال الله فيك ما أنت أهله ... فيقضى بحكم الله فيك بلا نقض
فإياك يعنى ذو الجلال بقوله ... كذلك مكّنّا ليوسف في الأرض
ومنهم الفقيه الأجل، العالم المحدّث، الحافظ الفاضل المؤثر، السيد أبو محمد القرطبي، قرأت عليه القرآن بالروايات مفردات، وتفقهت في الجمل والأشعار، وأجازني جميع ما رواه. وكذلك فعل كل واحد ممن تقدّم ذكره. وكان، رحمه الله، آخر الناس علما ونزاهة وحسن خلق، وجمال سمت وأبهة ووقار، وإتقان وضبط، وجودة وحفظ.
__________
(1) حمص هنا هي إشبيلية، وقد سميت إشبيلية بحمص لشبهها بها.
(2) هو أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 558هـ إلى سنة 580هـ. ترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83، 130) والحلل الموشيّة (ص 119).(2/215)
ومنهم الفقيه الأجل، الحاج الفاضل، الشّهيد في كائنة العقاب (1)، المحدّث الورع، الزاهد الطاهر، أبو عبد الله بن حسين بن صاحب الصلاة الأنصاري، وعليه كان ابتدائي للقراءة، وكان مبارك التعليم، حسن التفهيم، شديد التواضع.
ومنهم الفقيه الأجل الفاضل الورع، المحدث، الحاج الملهم، المجاب الدعوة، الميمون النّقيبة، الأوّاب، أبو الحجاج بن الشيخ، رضي الله عنه. وهذا الكتاب على الإطالة مني، ولكن القرطاس فنّي، والسلام الأتمّ عليكم، ورحمة الله وبركاته. قال ذلك، وكتبه العبد المعترف بذنبه، الراجي رحمة ربّه، محمد بن عبد الله الحميري ثم الإستجي، في أواسط شعبان المكرم من عام أحد وأربعين وستمائة.
وفاته: من خطّ الوزير أبي محمد عبد المنعم بن سماك، قال: قدم غرناطة، أظنّ سنة تسع وثلاثين وستمائة، وشكى علّة البطن مدة ثمانية أشهر بدار أبي، رحمه الله، مرّضناه الثلاثة الأخوة، إلى أن توفي، رحمه الله، ودفن بمدفنه، مغنى الأدب، بروضة الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك.
محمد بن أحمد بن علي الهوّاري (2)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر، من أهل ألمريّة.
حاله: رجل (3) كفيف البصر، مدلّ على الشعر، عظيم الكفاية والمنّة على زمانته (4). رحل إلى المشرق، وتظافر (5) برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر الإلبيري، صارا روحين في جسد، ووقع الشّعر منهما بين لحيي أسد، وشمّرا (6)
للكدية، فكان وظيف الكفيف النّظم، ووظيف (7) البصير الكتب، وانقطع الآن
__________
(1) كانت وقعة العقاب في منتصف شهر صفر سنة 609هـ، بين الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين، فكانت السبب في هلاك الأندلس. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 263) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 149).
(2) ترجمة ابن جابر الهواري في نفح الطيب (ج 10ص 155).
(3) النص في نفح الطيب (ج 10ص 155).
(4) الزمانة: العاهة الدائمة. لسان العرب (زمن).
(5) في النفح: «وتظاهر».
(6) في النفح: «وشمّر للعلم وطلبه، فكان وظيفة الكفيف».
(7) في النفح: «ووظيفة».(2/216)
خبرهما. وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (1): محسوب من طلبتها الجلّة، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلّة، رحل إلى المشرق، وقد أصيب ببصره، واستهان في جنب الاستفادة (2) بمشقّة سفره، على بيان عذره، ووضوح ضرّه.
شعره: وشعره كثير، فمنه قوله (3): [الطويل]
سلو مسرّ (4) ذاك الخال في صفحة الخدّ ... متى رقموا بالمسك في ناعم الورد
ومن هزّ (5) غصن القدّ منها لفتنتي ... وأودعه رمّانتي ذلك النّهد
ومن متّع (6) القضب اللّدان بوصلها (7) ... إلى أن أعرن (8) الحسن من ذلك القدّ
فتاة تفتّ القلب مني بمقلة ... له رقّة الغزلان في سطوة الأسد
تمنّيت أن تهدي إليّ نهودها ... فقالت رأيت البدر يهداه أو يهدي
فقلت وللرّمان (9) بدّ من الجنى ... فتاهت وقالت باللّواحظ لا الأيدي
فقلت أليس القلب عندك حاصلا (10)؟ ... فقالت (11) قلوب الناس كلّهم عندي
وقلت (12) اجعليني من عبيدك في الهوى ... فقالت كفاني كم لحسني من عبد
إذا شئت أن أرضاك عبدا فمت جوى (13) ... ولا تشتكي (14) واصبر على ألم الصّدّ
ألم تر النّحل يحمل ضرّها ... لأجل الذي تجنيه من خالص الشهد؟
كذلك بذل النّفيس سهل لذي النّهى ... لما يكسب الإنسان من شرف الحمد
ألست ترى كفّ ابن جانة طالما (15) ... أضاع كريم المال في طلب المجد
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 10ص 156).
(2) في النفح: «الإفادة».
(3) القصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 157156).
(4) في النفح: «حسن».
(5) في الأصل: «هو» والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «ومز متى» ولا معنى له، وقد صوبناه من النفح.
(7) في النفح: «بوصفها».
(8) في الأصل: «أعزر» ولا معنى له، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «أللرمّان».
(10) في الأصل: «فقلت ليس للقلب عندك حاصل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «وقالت» والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «فقلت».
(13) في الأصل: «هوى» والتصويب من النفح.
(14) في الأصل: «ولا تشكي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(15) في الأصل: «ترى أزجاته طالما» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/217)
ومن شعره أيضا قوله (1): [الكامل]
عرّج على بان العذيب وناد ... وأنشد فديتك أين (2) حلّ فؤادي
وإذا مررت على المنازل بالحمى ... فاشرح هنالك لوعتي وسهادي
إيه فديتك يا نسيمة خبّري ... أرب (3) الأحبّة والحمى والوادي
يا سعد، قد بان العذيب وبانه ... فانزل فديتك قد بدا إسعادي
خذ في البشارة مهجتي يوما إذا ... بان العذيب ونور حسن سعاد (4)
قد صحّ عيدي يوم أبصر حسنها ... وكذا الهلال علامة الأعياد
وممّا نقلناه من خبر قيّده لصاحبنا الفقيه الأستاذ أبي علي منصور الزواوي، وممّا ادعاه لنفسه (5): [الوافر]
عليّ لكلّ ذي كرم ذمام ... ولي بمدارك المجد اهتمام
وأحسن ما لديّ لقاء حرّ ... وصحبة (6) معشر بالمجد هاموا (7)
وإني حين أنسب من أناس ... على قمم النجوم لها (8) مقام
يميل بهم إلى المجد ارتياح ... كما مالت بشاربها المدام (9)
هم لبسوا أديم الليل (10) بردا ... ليسفر من مرادهم (11) الظلام
هم جعلوا متون العيس (12) أرضا ... فمذ عزموا الرّحيل فقد أقاموا (13)
فمن كلّ البلاد لنا ارتحال ... وفي كلّ البلاد لنا مقام
وحول موارد العلياء منها (14) ... لنا مع كلّ ذي شرف زحام
تصيب سهامنا غرض المعالي ... إذا ضلّت عن الغوص (15) السّهام
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 10ص 157).
(2) في الأصل: «إن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «كيف».
(4) في الأصل: «ونوّر حسنه سعادي»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) القصيدة في نفح الطيب (ج 10ص 158157).
(6) في الأصل: «وصحبته معشر» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «هام» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «لهم».
(9) في الأصل: «بشارتها المرام»، والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «القيل» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «عن أديمهم».
(12) في الأصل: «العيش» والتصويب من النفح.
(13) في الأصل: «أقام» والتصويب من النفح.
(14) في النفح: «منّا».
(15) في النفح: «الغرض».(2/218)
وليس لنا من المجد اقتناع ... ولو أنّ النجوم لنا خيام (1)
ننزّه عرضنا عن كل لوم ... فليس يشين سؤددنا ملام
ونبذل لا نقول العام ماذا ... سواء كان خصب أو حطام
إذا ما المحل عمّ بلاد قوم ... أثبناها فجاد بنا الغمام
وإن حضر الكرام ففي يدينا ... ملاك أمورهم ولنا الكلام
وفينا المستشار بكل علم ... ومنّا اللّيث والبطل الهمام
فميدان الكلام لنا مداه ... وميدان الحروب بنا يقام
كلا الأمرين ليس له بقوم ... سوانا يوم نازلة تمام
يريق دم المداد بكل طرس ... وليس سوى اليراع لنا سهام
وكتب بالمثقّفة العوالي ... بحيث الطّرس لبّات وهام
إذا عبست وجوه الدهر منّا ... إليها فانثنت ولها انتقام
لقد علمت قلوب الرّوم أنّا ... أناس ليس يعوزنا مرام
وليس يضيرنا أنا قليل ... لعمر أبيك ما كثر الكرام
إذا ما الرّاية الحمراء هزّت ... نعم فهناك للحرب ازدحام
وما أحمرّت سدى بل من دماء ... ليس على جوانبها انسجام
تظلّل من بني نصر ملوكا ... حلال النّوم عندهم حرام
فكم قطعوا الدّجى في وصل مجد ... وكم سهروا إذا ما الناس ناموا (2)
أبا الحجاج لم تأت الليالي ... بأكرم منك إن عدّ الكرام
ولا حملت ظهور الخيل أمضى ... وأشجع منه إن هزّ الحسام
وأنّى جئت من شرق لغرب ... ورمت بي الزمان كما ترام
وجرّبت الملوك وكل شخص ... تحدّث عن مكارمه الأنام
فلم أر مثلكم يا آل نصر ... جمال الخلق والخلق العظام
ومنها:
لأندلس بكم شرف وذكر ... تودّ بلوغ أدناه الشّآم
سعى صوب الغمام بلاد قوم ... هم في كل مجدبة غمام
__________
(1) في الأصل: «قيام» والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «نام».(2/219)
إليك بها مهذّبة المعاني ... يرينها ابتسام وانتظام
لها لجناب مجدكم انتظام ... طواف وفي أركان إسلام
نجزت وما كادت، وقد وطي الإيطاء صروحكم، وأعيا الإكثار حارثها وسروجها، والله وليّ التّجاوز بفضله.
محمد بن أحمد بن الحدّاد الوادي آشي (1)
يكنى أبا عبد الله.
حاله: شاعر (2) مفلق، وأديب شهير، مشار إليه في التعاليم، منقطع القرين منها في الموسيقى، مضطلع بفكّ المعمّى. سكن ألمريّة، واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح. وقال ابن بسّام: كان (3) أبو عبد الله هذا شمس ظهيرة، وبحر خبر وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة، وضح في طريق المعارف وضوح الصّبح المتهلّل، وضرب فيها بقدح ابن مقبل (4)، إلى جلالة مقطع، وأصالة منزع، ترى العلم ينمّ على أشعاره، ويتبيّن في منازعه وآثاره.
تواليفه: ديوان (5) شعر (6) كبير معروف. وله في العروض تصنيف (7)، مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الجليلة.
بعض أخباره: حدّث (8) بعض المؤرخين ممّا يدلّ على ظرفه أنه فقد سكنا (9) عزيزا عليه، وأحوجت الحال (10) إلى تكلّف سلوة، فلمّا حضر الندماء، وكان قد رصد الخسوف بالقمر (11)، فلمّا حقّق أنه قد (12) ابتدأ، أخذ العود
__________
(1) ترجمة ابن الحداد في مقدمة ديوان ابن الحداد الأندلسي، بقلمنا، وفيها ثبت بأسماء المصادر والمراجع التي ترجمت له.
(2) النص في نفح الطيب (ج 9ص 252).
(3) النص في الذخيرة (ق 1ص 692691) ومسالك الأبصار (ج 11، الورقة 401).
(4) هو أبو كعب تميم بن أبيّ بن مقبل شاعر خنديد، كان من أوصف العرب لقدح، ولذلك يقال: قدح ابن مقبل. توفي بعد 37هـ. الشعر والشعراء (ص 366) وطبقات الشعراء (ص 61) والأعلام (ج 2ص 87).
(5) النص في نفح الطيب (ج 9ص 252).
(6) في النفح: «شعره».
(7) في النفح: «تصنيف مشهور مزج فيه من الألحان الموسيقية والآراء الخليلية».
(8) النص في نفح الطيب (ج 9ص 253).
(9) السّكن: المرأة لأنها يسكن إليها، والساكن. لسان العرب (سكن).
(10) في النفح: «الحاجة».
(11) في النفح: «القمري».
(12) كلمة «قد» ساقطة في النفح.(2/220)
وغنّى (1): [المتقارب]
شقيقك غيّب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده
فهلّا خسفت وكان الخسوف (2) ... حدادا لبست على فقده؟
وجعل يردّدها، ويخاطب البدر، فلم يتمّ ذلك إلّا واعترضه الخسوف، وعظم من الحاضرين التعجّب. قال (3): وكان مني في صباه بصبية من الرّوم، نصرانية، ذهبت بلبّه وهواه، تسمّى نويرة، افتضح بها، وكثر نسيبه.
شعره: قال في الغرض المذكور (4): [الطويل]
حديثك ما أحلى! فزيدي وحدّثي ... عن الرّشإ الفرد الجمال المثلّث
ولا تسأمي ذكراه فالذّكر مؤنسي ... وإن بعث الأشواق من كلّ مبعث
وبالله فارقي خبل نفسي بقوله ... وفي عقد وجدي بالإعادة فانفثي (5)
أحقّا وقد صرّحت ما بي أنه ... تبسّم كاللاهي، بنا، المتعبّث
وأقسم بالإنجيل إنّي شابق (6) ... وناهيك دمعي من محقّ محنّث
ولا بدّ من قصّي على القسّ قصّتي ... عساه مغيث المذنف المتغوّث
ولم (7) يأتهم عيسى بدين قساوة ... فيقسو على بثّي (8) ويلهو بمكرث
وقلبي من حلي التجلّد عاطل ... هوى في غزال الواديين المرعّث (9)
سيصبح سرّي كالصباح (10) مشهّرا ... ويمسي حديثي عرضة المتحدّث
ويغرى بذكري بين كأس وروضة ... ويشدو (11) بشعري فوق مثنى ومثلث
__________
(1) البيتان في ديوان ابن الحداد الأندلسي (ص 207).
(2) رواية صدر البيت في الديوان هي: فهلّا خسفت وكان الخسوف.
(3) القول لابن بسام وهو في الذخيرة (ق 1ص 693) ولكن ببعض اختلاف عمّا هنا. كذلك ورد النص في مسالك الأبصار، (ج 11، الورقة 401).
(4) القصيدة في ديوان ابن الحداد الأندلسي (ص 172169).
(5) في الأصل: «فابعث» والتصويب من الديوان.
(6) في الديوان: «لمائن».
(7) في الديوان: «فلم».
(8) في الديوان: «مضنى».
(9) في الديوان: «غزال ذي نفار مرعّث».
(10) في الأصل: «كالصبح» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(11) في الديوان: «وينشد شعري بين مثنى».(2/221)
ومن شعره في الأمداح الصّمادحية (1): [الطويل]
لعلّك بالوادي المقدّس شاطىء ... وكالعنبر الهنديّ ما أنت واطئ (2)
وإنّي في ريّاك واجد ريحهم (3) ... فروح الجوى بين الجوانح ناشئ
ولي في السّرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافىء
لذلك ما حنّت ركابي (4) وحمحمت ... عرابي وأوحى سيرها المتباطىء
فهل هاجها ما هاجني؟ أو لعلّها ... إلى الوخد من نيران وجدي لواجىء
رويدا فذا وادي لبيني وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامىء
ميادين تهيامي ومسرح ناظري ... فللشّوق غايات لها (5) ومبادئ
ولا تحسبوا غيدا حمتها مقاصر ... فتلك قلوب ضمّنتها جآجىء
ومنها:
محا ملّة السّلوان مبعث حسنه ... فكلّ إلى دين الصّبابة صابىء
فكيف أرفّي كلم طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهنّد رافىء؟
وما لي لا أسمو مرادا وهمّة ... وقد كرمت نفس وطابت ضآضىء؟
وما أخّرتني عن تناه مبادئ ... ولا قصّرت بي عن تباه مناشئ
ولكنّه الدّهر المناقض فعله ... فذو الفضل منحطّ وذو النقص نامئ
كأنّ زماني إذ رآني جذيله ... يلابسني منه (6) عدوّ ممالئ
فداريت إعتابا ودارأت عاتبا ... ولم يغنني أني مدار مدارىء
فألقيت أعباء الزمان وأهله ... فما أنا إلّا بالحقائق عابىء
ولازمت سمت الصّمت لاعن فدامة (7) ... فلي منطق للسّمع والقلب صابىء (8)
ولولا علا الملك ابن معن محمد ... لما برحت أصدافهنّ اللآلئ
لآلىء إلا أنّ فكري غائص ... وعلمي ذو ماء (9) ونطقي شاطىء
__________
(1) القصيدة في ديوان ابن الحداد الأندلسي (ص 149140).
(2) في الديوان: «فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ».
(3) في الأصل: «واجد عرف ريحهم»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(4) في الأصل: «ركايبي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(5) في الديوان: «به».
(6) في الديوان: «قلاني فلي منه».
(7) في الأصل: «مذامة» والتصويب من الديوان. والفدامة: قلّة الفهم والفطنة.
(8) في الديوان: «مالئ».
(9) في الديوان: «دأماء».(2/222)
تجاوز حدّ الوهم واللّحظ والمنى ... وأعشى الحجا لألاؤه المتلالىء
فتنعكس الأبصار (1) وهي حواسر ... وتنقلب الأفكار وهي خواسىء
وقال من أخرى (2): [الكامل]
أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين في (3) حلل الوراشين (4) القطا
سرب الجوى لا الجوّ عوّد حسنه ... أن يرتعي حبّ القلوب ويلقطا
مالت معاطفهنّ من سكر الصّبا ... ميلا يخيف قدودها أن تسقطا
وبمسقط العلمين أوضح معلم ... لمهفهف سكن الحشا (5) والمسقطا
ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والخوط النضير إذا خطا
ومنها في المدح:
يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتما خيل الوفادة فاربطا
ورأيتما ملك البريّة فاهنآ ... ووردتما أرض المريّة فاحططا
يدمي نحور الدّارعين إذا ارتأى ... ويذلّ عزّ العالمين إذا سطا
وإحسانه كثير. دخل غرناطة، ومن بنات عملها وطنه، رحمه الله.
محمد بن إبراهيم بن خيرة (6)
يكنى أبا القاسم. ويعرف بابن المواعيني (7)، حرفة أبيه، من أهل قرطبة.
واستدعاه السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة إليه، فأقام عنده مدة من عامين في جملة من الفضلاء مثله.
حاله: قال ابن عبد الملك (8): كان كاتبا بليغا، شاعرا مجيدا، استكتبه أبو حفص بن عبد المؤمن، وحظي عنده حظوة عظيمة، لصهر كان بينهما بوجه ما،
__________
(1) في الديوان: «الأنصار وهي خواسر وتنقلب الأبصار».
(2) القصيدة في ديوان ابن الحداد الأندلسي (ص 233232).
(3) كلمة «في» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من الديوان.
(4) في الأصل: «الوارشين» والتصويب من الديوان. والوراشين: طيور تشبه الحمام، واحدها ورشان. لسان العرب (ورش).
(5) في الأصل: «الحسا» بالسين المهملة، والتصويب من الديوان.
(6) ترجمة ابن المواعيني في التكملة (ج 2ص 43) واسمه فيه: «محمد بن إبراهيم بن خير».
والذيل والتكملة (ج 6ص 91) والمغرب (ج 1ص 247) وتأريخ المن بالإمامة (ص 311).
(7) في التكملة: «يعرف بالمواعيني».
(8) الذيل والتكملة (ج 6ص 91).(2/223)
ونال (1) فيه جاها عظيما، وثروة واسعة. وكان حسن الخطّ رائقه، سلك فيه (2) في ابتدائه مسلك المتقن أبي بكر بن خيرة (3).
مشيخته: روى (4) عن أبي بكر بن عبد العزيز، وابن العربي، وأبي الحسن شريح، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله حفيد مكّي، وابن أبي الخصال، وابن بقيّ (5).
تواليفه: له (6) تصانيف تاريخية وأدبية منها «ريحان الآداب (7)، وريعان الشباب» لا نظير له. و «الوشاح المفضّل» (8). وكتاب في الأمثال السائرة. وكتاب في الأدب (9)
نحا فيه (10) منحى أبي عمر بن عبد البرّ في «بهجة المجالس».
وفاته: توفي بمرّاكش سنة أربع وستين وخمسمائة (11).
محمد بن إبراهيم بن علي بن باق الأموي (12)
مرسي الأصل، غرناطي النشأة، مالقي الإسكان، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من عائد الصلة (13): كان، رحمه الله تعالى (14)، كاتبا أديبا ذكيّا، لوذعيّا، يجيد الخطّ، ويرسل النادرة، ويقوم (15) على العمل، ويشارك في الفريضة.
وبذّ السّبّاق في الأدب الهزلي المستعمل بالأندلس. عمر (16) زمانا من عمره، محارفا للفاقة، يعالج بالأدب الكدية، ثم استقام له الميسم، وأمكنه البخت من امتطاء غاربه، فأنشبت الحظوة فيه أناملها بين كاتب وشاهد ومحاسب ومدير تجر، فأثرى ونما ماله، وعظمت حاله، وعهد (17) عندما شارف الرحيل بجملة تناهز الألف من العين، لتصرف في وجوه من البرّ، فتوهّم أنها كانت زكاة امتسك (18) بها.
__________
(1) في الذيل والتكملة: «ونال باختصاص أبي حفص إياه جاها عريضا وغزوة واسعة».
(2) في المصدر نفسه: «به».
(3) في المصدر نفسه: «خير».
(4) الذيل والتكملة (ج 6ص 91).
(5) جاء في الذيل والتكملة أنه أبو القاسم أحمد بن محمد بن بقي.
(6) الذيل والتكملة (ج 6ص 91).
(7) في التكملة: «الألباب».
(8) في الذيل والتكملة: «المفصل» بالصاد المهملة.
(9) في المصدر نفسه: «في الآداب».
(10) في المصدر نفسه: «به».
(11) قال ابن الأبار في التكملة: «وتوفي في نحو السبعين وخمسمائة».
(12) ترجمة ابن باق الأموي في الدرر الكامنة (ج 3ص 376) ونفح الطيب (ج 8ص 400).
(13) النص في نفح الطيب (ج 8ص 401).
(14) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(15) في النفح: «ويقدم».
(16) في النفح: «غبر».
(17) في النفح: «عهد».
(18) في النفح: «أمسك».(2/224)
وجرى ذكره في التاج بما نصّه (1): مدير أكواس (2) البيان المعتّق، ولعوب بأطراف الكلام المشقّق، انتحل لأول أمره الهزل من أصنافه، فأبرز درّ معانيه من أصدافه، وجنى ثمرة الإبداع لحين قطافه. ثم تجاوزه إلى المعرّب (3) وتخطّاه، فأدار كأسه المترع وعاطاه، فأصبح لفنّيه (4) جامعا، وفي فلكيه شهابا لامعا، وله ذكاء يطير شرره، وإدراك تتبلّج غرره، وذهن يكشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض (5)، وعلى ذلاقة لسانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الصّبابة بشعره (6)، مغل لسعره.
شعره: أخبرني الكاتب أبو عبد الله بن سلمة، أنه خاطبه بشعر أجابه عنه بقوله، في رويّه (7): [الخفيف]
أحرز الخصل من بني سلمه ... كاتب تخدم الظّبا قلمه
يحمل الطّرس عن (8) أنامله ... أثر الطّرس (9) كلّما رقمه (10)
وتمدّ البيان فكرته (11) ... مرسلا حيث يمّمت ديمه
خصّني متحفا بخمس إذا ... بسم الرّوض فقن مبتسمه
قلت أهدى زهر الرّبا خضلا ... فإذا كلّ زهرة كلمه
أقسم الحسن لا يفارقها ... فأبرّ انتقاؤها قسمه
خطّ أسطارها ونمّقها ... فأتت كالقعود منتظمه
كاسيا من حلاه لي حللا ... رسمها من بديع ما رسمه
طالبا عند عاطش نهلا ... ولديه الغيوث منسجمه
يبتغي الشّعر من أخي بله ... أخرس العيّ والقصور فمه
أيها الفاضل الذي حمدت (12) ... ألسن المدح والثّنا شيمه
لا تكلّف أخاك مقترحا ... نشر عار لديه قد كتمه
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 401400).
(2) في النفح: «أكؤس».
(3) في النفح: «المغرب».
(4) أي فنّي النظم والنثر.
(5) الوامض: المضيء. لسان العرب (ومض).
(6) في الأصل: «الضنانة يشعره» والتصويب من النفح.
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 402401).
(8) في النفح: «من».
(9) في النفح: «الحسن».
(10) في الأصل: «رقّه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «ويمدّ البيان بفكرته» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «حفظت».(2/225)
وابق في عزّة وفي دعة ... صافي (1) العيش واردا شبمه (2)
ما ثنى الغصن عطفه طربا ... وشدا الطير فوقه (3) نغمه
مشيخته: قرأ (4) على الأستاذ أبي جعفر بن (5) الزّبير، والخطيب أبي عثمان بن عيسى.
وفاته: توفي (6) بمالقة في اليوم الثامن والعشرين لمحرم (7) عام اثنين وخمسين وستمائة (8)، وأوصى بعد أن حفر قبره بين شيخيه الخطيبين أبي عبد الله الطّنجالي وأبي عثمان بن عيسى، أن يدفن به (9)، وأن يكتب على قبره هذه الأبيات:
[الطويل]
ترحّم على قبر ابن باق وحيّه ... فمن حقّ ميت الحيّ تسليم حيّه
وقل آمن الرحمن روعة خائف ... لتفريطه في الواجبات وغيّه
قد اختار هذا القبر في الأرض راجيا ... من الله تخفيفا بقرب (10) وليّه
فقد يشفع الجار الكريم لجاره ... ويشمل بالمعروف أهل نديّه
وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حبّ نبيّه
محمد بن إبراهيم بن سالم بن فضيلة المعافري (11)
من أهل ألمرية، يدعى بالبيوّ (12)، ويكنى أبا عبد الله.
حاله: من الإكليل الزاهر: شيخ (13) أخلاقه ليّنة، ونفسه كما قيل هيّنة، ينظم الشعر سهلا مساقه، محكما اتّساقه، على فاقة ما لها من إفاقة. أنشد السلطان (14)
__________
(1) في النفح: «ضافي».
(2) الشّبم: البارد. لسان العرب (شبم).
(3) في الأصل: «فوق» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 8ص 403402).
(5) كلمة «بن» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(6) في النفح: «وتوفي».
(7) في النفح: «لمحرم فاتح عام».
(8) في النفح: «وسبعمائة».
(9) كلمة «به» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(10) في النفح: «بقدر».
(11) ترجمة ابن فضيلة المعافري في الدرر الكامنة (ج 3ص 367) ونفح الطيب (ج 8ص 403).
(12) في النفح: «المدعوّ بالتنوء».
(13) النص مع بعض أبيات القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 404403).
(14) في النفح: «أنشد المقام السلطاني».(2/226)
بظاهر بلده قوله: [الطويل]
سرت ريح نجد من ربى أرض بابل ... فهاجت إلى مسرى سراها بلابلي (1)
وذكّرني عرف النّسيم الذي سرى ... معاهد أحباب سراة أفاضل
فأصبحت مشغوفا بذكرى منازل ... ألفت، فوا شوقي لتلك المنازل
فيا ريح هبّي بالبطاح وبالرّبا ... ومرّي على أغصان زهر الخمائل
وسيري بجسمي للتي الروح عندها ... فروحي لديها من أجلّ الوسائل
وقولي لها عني معنّاك بالهوى (2) ... له شوق معمود وعبرة ثاكل (3)
فيا بأبي هيفاء كالغصن تنثني (4) ... بقدّ يقدّ (5) كاد ينقدّ مائل
فتاة براها الله من فتنة فمن ... رآها ولم يفتن فليس بعاقل
لها منظر كالشمس في رونق الضّحا ... ولحظ كحيل ساحر الطّرف بابلي (6)
بطيب شذاها عطّرت كلّ عاطر ... كما بحلاها زيّنت كلّ عاطل
رمتني بسهم من سهام جفونها ... فصادف ذاك السّهم مني مقاتلي (7)
فظلت غريقا في بحار من الهوى ... وما الحبّ إلّا لجّة دون ساحل
فيا من سبت عقلي وأفنت تجلّدي ... صليني فإنّ البعد لا شكّ قاتلي (8)
فلي كبد شوقي إليك تفطّرت ... وقلب بنيران الجوى في مشاعلي (9)
ولي أدمع تحكي ندا كف يوسف ... أمير العلى الأرضي الجميل الفضائل
إذا مدّ بالجود الأنامل لم تزل ... بحور النّدى تهمي بتلك الأنامل
ومن شعره قوله من قصيدة (10): [الكامل]
بهرت كشمس في غلالة عسجد ... وكبدر تمّ في قضيب زبرجد
ثم انثنت كالغصن هزّته الصّبا ... طربا فتزري بالغصون الميّد
__________
(1) في الأصل: «بلابل» والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «بالنوى».
(3) المعمود: اسم مفعول من قولهم: عمده الحب إذا أحزنه. والثاكل: الفاقد. والعبرة: الدمعة.
لسان العرب (عمد) و (ثكل) و (عبر).
(4) في الأصل: «تثنّى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «تقدّ بقدّ».
(6) في الأصل: «بابل».
(7) في الأصل: «مقاتل».
(8) في الأصل: «قاتل».
(9) في الأصل: «مشاعل».
(10) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 404403).(2/227)
حوراء بارعة الجمال غريرة (1) ... تزهى فتزري بالقضيب الأملد
إن أدبرت لم تبق عقل مدبّر ... أو أقبلت قتلت ولكن لا تدي (2)
تواليفه: قال شيخنا أبو البركات: وابتلي (3) باختصار كتب الناس، فمن ذلك مختصره المسمّى ب «الدّرر المنظومة الموسومة، في اشتقاق حروف الهجا المرسومة» (4)، وكتاب في حكايات تسمى «روضة الجنان» (5)، وغير ذلك.
وفاته: توفي في أواخر رمضان من عام تسعة وأربعين وسبعمائة، ودخل غرناطة غير مرة.
محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم
من أهل جزيرة شقر (6)، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل (7).
حاله: كان شاعرا مفلقا (8) غزلا، بارع التّوليد، رقيق الغزل. وقال الأستاذ أبو جعفر: كان (9) شاعرا مطبوعا، حسن الكفاية، ذاكرا للأدب، متصرّفا فيه. قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات، ظهرت فيها إجادته.
وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال إنه كان أمّيّا.
__________
(1) في الأصل: «غريدة» والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «تد» والتصويب من النفح. وتدي: تدفع الدّيّة. لسان العرب (ودى).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 404).
(4) في النفح: «الدرر الموسومة، في اشتقاق الحروف المرسومة».
(5) في النفح: «وكتاب حكايات يسمى دوحة الجنان وراحة الجنان».
(6) شقر، بالإسبانية: جزيرة بالأندلس، قريبة من شاطبة كثيرة الأشجار والأنهار. الروض المعطار (ص 349).
(7) ترجمة ابن مرج الكحل في المغرب (ج 2ص 373) واسمه فيه: محمد بن الدمن، المعروف بمرج الكحل. وزاد المسافر (ص 27) والوافي بالوفيات (ج 2ص 181) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 278) في ترجمة محمد بن يوسف بن هود الجذامي، وبرنامج شيوخ الرعيني (ص 208) ورايات المبرزين (ص 220) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 114، 152) والتكملة (ج 2ص 136) وجاء فيه أنه يعرف بمرج الكحل. والذيل والتكملة (السفر السادس ص 110) ونفح الطيب (ج 7ص 47). والترجمة هنا مع الشعر في نفح الطيب (ج 7ص 5147) ووفيات الأعيان (ج 2ص 331) في ترجمة سكينة بنت الحسين.
(8) في التكملة «كان شاعرا مغلقا بديع التوليد والتجويد».
(9) في النفح: «شاعر مطبوع، حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه».(2/228)
من أخذ عنه: روى عنه أبو جعفر بن عثمان الورّاد، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن الأبّار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد بن عبد الرحمن بن برطلة، وأبو الحسن الرعيني.
شعره ودخوله غرناطة
قال في عشيّة بنهر الغنداق، خارج (1) بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها فقد دخل إلبيرة، وقد قيل: إن (2) هذا النهر من أحواز برجة، وهذا الخلاف داع إلى ذكره (3): [الكامل]
عرّج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شطّ الكوثر
ولنغتبقها (4) قهوة ذهبيّة ... من راحتي أحوى المراشف (5) أحور
وعشيّة قد (6) كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذّر
نلنا بها آمالنا (7) في روضة ... تهدي لناشقها (8) شميم العنبر
والدّهر من ندم (9) يسفّه رأيه ... فيما مضى منه بغير تكدّر
والورق تشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميص أصفر
والرّوض بين مفضّض ومذهّب (10) ... والزّهر بين مدرهم ومدنّر
والنهر مرقوم الأباطح والرّبى (11) ... بمصندل من زهره ومعصفر
وكأنّه وكأنّ خضرة شطّه ... سيف يسلّ على بساط أخضر
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهر
وكأنّه، وجهاته محفوفة ... بالآس والنّعمان، خدّ معذّر
__________
(1) في النفح: «من خارج».
(2) في النفح: «إن نهر الغنداق».
(3) في النفح: «لذكره». والشعر في الذيل والتكملة (السفر السادس ص 112111) ورايات المبرزين (ص 221) وأزهار الرياض (ج 2ص 316315)، ونفح الطيب (ج 7ص 46 49) والمغرب (ج 2ص 374373) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 115114).
(4) في النفح والمغرب والمقتضب والذيل والتكملة: «ولتغتبقها».
(5) في المغرب والمقتضب والذيل والتكملة: «المدامع».
(6) في الذيل والنفح: «كم كنت». وفي رايات المبرزين والمقتضب والمغرب: «كم بتّ».
(7) في النفح: «فلنا بهذا ما لنا في». وفي المغرب ورايات المبرزين: «في جنّة أهدت».
(8) في الأصل: «لنا بشقّها» وهكذا ينكسر الوزن. والتصويب من النفح. وفي المقتضب: «شفها نسيم العنبر».
(9) في أزهار الرياض: «قدم».
(10) في أزهار الرياض: «ومعسجد».
(11) رواية صدر البيت في رايات المبرزين هي: والنهر فيها والنبات يحفّه.(2/229)
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشّعر من لم يشعر
ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها ... إلّا لفرقة حسن ذاك المنظر
ولا خفاء ببراعة هذا النظم (1). وقال منها (2):
أرأت جفونك مثله من منظر ... ظلّ وشمس مثل خدّ معذّر (3)
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه. ثم قال منها:
وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر
فكأنّها مشكولة بمصندل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر
أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرّزته يد الغمام الممطر
فكأنه والزّهر تاج فوقه ... ملك تجلّى في بساط أخضر
راق النّواظر منه رائق منظر ... يصف النّضارة عن جنان الكوثر
كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفزّ جماله من مبصر
لو لاح لي فيما تقدّم (4) لم أقل ... (عرّج بمنعرج الكثيب الأعفر)
قال أبو الحسن الرّعيني، وأنشدني لنفسه (5): [الكامل]
وعشيّة كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصّريح شيوخا
فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الانحناء إلى الوقوع فخوخا
شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سرّ السّرور محدّثا ومصيخا
والورق تقرأ سيرة (6) الطرب التي ... ينسيك منها ناسخا (7) منسوخا
والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيمّمت من كان فيه منيخا
فتخالهم حلل (8) السّماء كواكبا ... قد قارنت بسعودها المرّيخا
خرق العوائد في السّرور نهارهم ... فجعلت أبياتي لهم (9) تاريخا
__________
(1) في النفح: «هذا الشعر».
(2) في الأصل: «أيضا» والتصويب من النفح.
(3) المعذّر: الذي نبت عذاره وهو شعر الخدّ. لسان العرب (عذر). وجاء في النفح بيت آخر لم يرد في الإحاطة وهو:
وجداول كأراقم حصباؤها ... كبطونها وحبابها كالأظهر
(4) في النفح: «تقادم».
(5) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 49).
(6) في النفح والذيل: «سورة».
(7) في الذيل والنفح: «ناسخ».
(8) في الذيل والنفح: «خلل»، بالخاء المعجمة.
(9) في النفح والذيل والتكملة: «له».(2/230)
ومن أبياته في البديهة (1): [الوافر]
وعندي من مراشفها (2) حديث ... يخبّر أنّ ريقتها مدام
وفي أجفانها (3) السّكرى دليل ... وما (4) ذقنا ولا زعم الهمام
تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنّت (5) لمقلتي الخيام
وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنّت حمام (6)
ومن قصيدة (7): [الطويل]
عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظّ منها الأخابث
وقالوا: ذكرنا بالغنى، فأجبتهم ... خمولا وما ذكر مع البخل ماكث
يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثائث (8)
وما ضرّ أصلا طيّبا عدم الغنى ... إذا لم يغيّره من الدهر حادث
وله يتشوق إلى أبي (9) عمرو بن أبي غياث: [الوافر]
أبا (10) عمرو متى تقضى الليالي ... بلقياكم وهنّ قصصن ريشي
أبت نفسي هوى إلّا شريشا ... وما (11) بعد الجزيرة من شريش
وله من قصيدة (12): [الكامل]
طفل المساء وللنسيم تضوّع ... والأنس ينظم (13) شملنا ويجمّع
والزّهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع
والنّهر من طرب يصفّق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع
فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 49) وأزهار الرياض (ج 2ص 316). وورد البيتان الأول والثاني في المغرب (ج 2ص 374).
(2) في المغرب: «معاطفها».
(3) في المغرب: «ألحاظها».
(4) في المغرب: «ولا».
(5) في أزهار الرياض: «عرضت».
(6) في أزهار الرياض: «إذا غنّى الحمام».
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 49).
(8) في الأصل: «الأثابت»، والتصويب من نفح الطيب.
(9) في النفح (ج 7ص 49) «إلى عمرو بن أبي غياث». والبيتان في المصدر المذكور.
(10) في النفح: «أيا».
(11) في المصدر نفسه: «ويا».
(12) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 50).
(13) في النفح: «يجمع».(2/231)
يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع
الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كلّ حين يسطع
إن غاب نور الشمس بتنا (1) نتقي ... بسناك ليل تفرّق يتطلّع
أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقّع
فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... «فوددت يا موسى لو أنّك يوشع» (2)
وقال (3): [الطويل]
ألا بشّروا بالصبح من كان باكيا ... أضرّ به الليل الطويل مع البكا
ففي الصبح للصّبّ المتيّم راحة ... إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا
ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدّم ممسكا
ومن بديع مقطوعاته قوله (4): [الرمل]
مثل الرّزق الذي تطلبه ... مثل الظّلّ الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متّبعا ... فإذا ولّيت عنه أتبعك (5)
وقال (6): [الطويل]
دخلتم فأفسدتم قلوبا بملككم (7) ... فأنتم على ما جاء في سورة النّمل (8)
وبالعدل (9) والإحسان لم تتخلّقوا ... فأنتم على ما جاء في سورة النحل (10)
__________
(1) في النفح: «لسنا».
(2) عجز هذا البيت للرصافي البلنسي، والبيت بتمامه هو:
سقطت ولم تملك يمينك ردّها ... فوددت يا موسى لو أنّك يوشع
ديوان الرصافي البلنسي (ص 105).
(3) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 50).
(4) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 50) ووفيات الأعيان (ج 2ص 331) والتكملة (ج 2ص 136).
(5) في النفح والوفيات: «تبعك».
(6) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 5150).
(7) في النفح: «بملكها».
(8) يشير هنا إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا} [النمل: 34].
(9) في النفح: «وبالجود».
(10) يشير هنا إلى ما جاء في سورة النحل 16، الآية 76: {أَيْنَمََا يُوَجِّهْهُ لََا يَأْتِ بِخَيْرٍ}.(2/232)
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل مرجا أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب، فقلت (1): [البسيط]
يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
يا حمرة (2) الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعا في رزقها العجل
فإنّ من شأنها إخلاف آملها ... فما تفارقها كيفيّة الخجل
فقال مجيبا بما نصّه (3): [البسيط]
يا قائلا إذ رأى مرجي وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل
هو احمرار دماء الرّوم سيّلها ... بالبيض من مرّ من آبائي الأول
أحببته أن حكى (4) من فتنت به ... في حمرة الخدّ أو إخلافه أملي
وفاته: توفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة (5) أربع وثلاثين وستمائة، ودفن في اليوم بعده.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري
من أهل مرسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الجنّان (6).
حاله: كان (7) محدّثا راوية، ضابطا، كاتبا بليغا، شاعرا بارعا، رائق الخطّ، ديّنا فاضلا، خيّرا، زكيّا (8). استكتبه بعض أمراء الأندلس، فكان يتبرّم من ذلك، ويقلق منه. ثم خلّصه الله تعالى (9) منه. وكان من أعاجيب الزمان في إفراط القماءة (10)، حتى يظنّ رائيه إذا (11) استدبره أنه طفل ابن ثمانية أعوام أو نحوها، متناسب الخلقة، لطيف الشمائل، وقورا. خرج من بلده حين تمكّن العدو من بيضته (12) عام أربعين.
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 51).
(2) في النفح: «ما حمرة».
(3) قوله: «بما نصّه» ساقط من النفح (ج 7ص 51).
(4) في الأصل: «أحببته إنّ من فتنت به» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «عام أربعة».
(6) ترجمة ابن الجنان في عنوان الدراية (ص 213) ونفح الطيب (ج 10ص 259).
(7) النص في نفح الطيب (ج 10ص 261260).
(8) في النفح: «ذكيّا».
(9) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة، وأضفناها من النفح.
(10) القماءة: القصر. لسان العرب (قمأ).
(11) في النفح: «الذي».
(12) في النفح: «قبضته سنة 640».(2/233)
وستمائة، فاستقرّ بأوريولة (1)، إلى أن استدعاه (2) إلى سبتة الرئيس بها (3)، أبو علي بن خلاص (4)، فوفد عليه، فأجلّ وفادته، وأجزل إفادته، وحظي عنده حظوة تامة. ثم توجّه إلى إفريقية، فاستقرّ ببجاية. وكانت بينه وبين كتّاب عصره مكاتبات ظهرت فيها براعته.
مشيخته: روى (5) ببلده وغيرها (6) عن أبي بكر عزيز بن خطّاب، وأبي الحسن (7) سهل بن مالك، وابن قطرال، وأبي الرّبيع بن سالم، وأبي عيسى بن أبي السّداد، وأبي علي الشّلوبين، وغيرهم.
من روى عنه: روى عنه صهره أبو القاسم بن نبيل، وأبو الحسن محمد بن رزيق.
شعره: قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك: وكان له في الزّهد، ومدح النبيّ صلى الله عليه وسلم، بدائع، ونظم في المواعظ للمذكّرين كثيرا. فمن ذلك قوله في توديع رمضان وليلة القدر: [الطويل]
مضى رمضان كأن (8) بك قد مضى ... وغاب سناه بعد ما كان أومضا
فيا عهده ما كان أكرم معهدا ... ويا عصره أعزر عليّ أن انقضا
ألمّ بنا كالطيف في الصيف زائرا ... فخيّم فينا ساعة ثم قوّضا
فياليت شعري إذ نوى غربة النّوى ... أبالسّخط عنّا قد تولّى أم الرّضا؟
قضى الحقّ فينا بالفضيلة جاهدا ... فأي فتى فينا له الحق قد قضا؟
وكم من يد بيضاء أسدى لذي تقى ... بتوبته فيه الصحائف بيّضا
وكم حسن قد زاده حسنا وسنا ... محاه وبالإحسان والحسن عوّضا
فلله من شهر كريم تعرّضت ... مكارمه إلّا لمن كان أعرضا
__________
(1) في النفح: «بأريولة». وهي بالإسبانية، من بلاد شرقي الأندلس، تقع على نهر شقوره. الروض المعطار (ص 67).
(2) في النفح: «دعاه».
(3) كلمة «بها» ساقطة في النفح.
(4) هو أبو علي الحسن بن خلاص البلنسي، تولّى سبتة سنة 637هـ، ثم ثار فيها على عهد السعيد أبي الحسن علي بن إدريس بن المنصور الموحدي سنة 641هـ، وبايع الأمير أبا زكريا الحفصي، صاحب تونس. توفي سنة 646هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 359 360).
(5) النص في نفح الطيب (ج 10ص 261).
(6) في النفح: «وغيره».
(7) في الأصل: «وأبي الحسن بن سهل» والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «وكأن» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا حرف الواو.(2/234)
نفى بينه وبين شجوك (1) معلما ... وفي إثره أرسل جفونك فيّضا
وقف بثنيّات الوداع فإنها ... تمحّص مشتاقا إليها وتمحضا
وإن قضيت قبل التفرّق وقفة ... فمقضيها من ليلة القدر ما قضى
فيا حسنها من ليلة جلّ قدرها ... وحضّ عليها الهاشميّ وحرّضا
لعلّ بقايا الشهر وهي كريمة ... تبيّن سرّا للأواخر أغمضا
وقد كان أضفى ورده كي يفيضه ... ولكن تلاحى من تلاحى فقيّضا
وقال اطلبوها تسعدوا بطلابها ... فحرّك أرباب القلوب وأنهضا
جزى الله عنّا أحمدا للجزاء (2) ... على كرم أضفاه بردا وفضفضا
وصلّى عليه من نبيّ مبارك ... رؤوف رحيم للرسالة مرتضى
له عزّة أعلى من الشمس منزلا ... وعزمته أمضى من السّيف منتضى
له الذّكر يهمي فضّ مسك ختامه ... تأرّج من ريّا فضائله الفضا
عليه سلام الله ما انهلّ ساكب ... وذهّب موشيّ الرياض وفضّضا
ومن ذلك قصيدة في الحج: [الطويل]
مذاكرة الذّكرى تهيج اللّواعجا (3) ... فعالجن أشجانا يكاثرن عالجا (4)
ركابا سرت بين العذيب وبارق ... نوافيج (5) في تلك الشّعاب نواعجا (6)
تيمّمن من وادي الأراك منازلا ... يطرّينها في الأراك سجاسجا (7)
لهنّ من الأشواق حاد فإن ونت ... حداه يرجّعن الحنين أهازجا
ألا بأبي تلك الركاب إذا سرت ... هوادي يملأن الفلاة هوادجا
__________
(1) في الأصل: «شجونك» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «أحمد الجزا» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «تذاكر الذكر وتهيج اللواعجا» وكذا ينكسر الوزن.
(4) عالج: رمال بالبادية، سمي بذلك تشبيها له بالبعير العالج وهو الذي يأكل العلجان. معجم البلدان (ج 4ص 69).
(5) في الأصل: «نواريج».
(6) الرّكاب: الإبل، واحدتها راحلة. الشّعاب: جمع شعب وهو الطريق في الجبل. النواعج: جمع ناعجة وهي الناقة البيضاء والسريعة والتي يصاد عليها. محيط المحيط (ركب) و (شعب) و (نعج). والعذيب: ماء بين القادسية والمغيثة. معجم البلدان (ج 4ص 92). وبارق: ماء بالعراق وهو الحد بين القادسية والبصرة. معجم البلدان (ج 1ص 319).
(7) في الأصل: «يطرنها إلّا في الأراك سجاسجا» وكذا ينكسر الوزن. والأراك: شجر يستاك به وترعاه الإبل.(2/235)
براهم سوامح أو سراهم فأصبحوا ... رسوما على تلك الرسوم عوالجا
لهم في منّى أسنى المنا ولدى الصّفا ... يرجّون من أهل الصّفاء (1) المناهجا
سما بهم طوف ببيت طامح ... أراهم قبابا للعلى ومعارجا
فأبدوا من اللّوعات ما كان كامنا ... وأذروا دموعا بل قلوبا مناضجا
ولمّا دنوا نودوا هنيّا وأقبلوا ... إلى الرّكن من كل الفجاج أدراجا
وقضّوا بتقبيل الجدار ولثمه ... حقوقا تقضّي للنفوس حوائجا
إذا اعتنقوا تلك المعالم خلتهم ... أساور في إيمانها وجهالجا
فلله ركب يمّموا نحو مكة ... لقد كرموا قصدا وحلّوا مناسجا
أناخوا بأرجاء الرّجاء وعرّسوا ... فأصبح كلّ مايز (2) القدح فالجا
فبشرى (3) لهم كم خوّلوا من كرامة ... فكانت لما قدّموه نتائجا
بفتحهم باب القبول وللرّضا (4) ... ووفدهم أضحى على الباب والجا
تميّز أهل السّبق لكنّ غيرهم ... غدا همجا بين الخليقة هامجا
أيلحق جلس (5) للبيوت مداهم ... ولم يله (6) في تلك المدارج دارجا؟
ألا ليت شعري للضرورة هل أرى ... إلى الله والبيت المحجّب خارجا؟
له الله من ذي كربة ليس يرتجى ... لمرتجّها (7) يوما سوى الله فارجا
قد أسهمت شتّى المسالك دونه ... فلا نهج يلقى فيه لله ناهجا
يخوض بحار الذّنب ليس يهابها ... ويصعق ذعرا إن يرى البحر هائجا
جبان إذا عنّ الهدى وإذا الهوى ... يعنّ له كان الجريء المهارجا
يتيه ضلالا في غيابة همّه ... فلا حجر تهديه لرشد ولا حجا
فواحربا لاح الصباح لمبصر ... وقلبي لم يبصر سوى الليل إذ سجا
لعلّ شفيعي أن يكون معاجلا ... لداء ذنوب بالشّفاء معالجا
فينشقني بيت الإله نوافحا ... ويعبق لي قبر النّبيّ نوافجا
__________
(1) في الأصل: «الصفا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ما بزّ» وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «فبشروا» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «بفتح باب للقبول وللرضا» وكذا ينكسر الوزن.
(5) الجلس: الجليس. محيط المحيط (جلس).
(6) في الأصل: «ولم يلعب» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.
(7) في الأصل: «لمرتجيها» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.(2/236)
فما لي لإمالتي (1) سوى حبّ أحمد ... وصلت له من قرب قلبي وشائجا
عليه سلام الله من ذي صبابة ... حليف شجا يكنّى من البعد ناشجا
ولو أنصفت أجفانه حقّ وجده ... سفكت دما للدموع موازجا
كتابته: وكتابته شهيرة، تضرب بذكره فيها الأمثال، وتطوى عليه الخناصر.
قالوا: لما عقد أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود البيعة لابنه الواثق بالإمارة من بعده، تولّى إنشاءها، وجعل الحاء المهملة سجعها مردفا إياها بالألف، نحو «صباحا» و «صلاحا»، وما أشبه ذلك، طال مجموعها فناهزت الأربعين، وطاب مسمعها، فأحرزت بغية المستمعين، فكتب إليه أبو المطرّف ابن عميرة، رسالته الشهيرة، يداعبه في ذلك، وهي التي أولها:
«تحييك الأقلام تحيّة كسرى، وتقف دون مداك حسرى». ومنها في الغرض:
«وما لك أمنت تغيّر الحالات، فشننت غارتك على الحاءات، ونفضت عنها المهارق، وبعثت في طلبها السّوابق، ولفظتها من الأفواه، وطلبتها بين الشّفاه، حتى شهد أهل اللسان بتزحزحها عن ذلك المكان، وتوارت بالحلوق، ولو تغلغلت إلى العروق، لآثرتها جيادك، واقتنصها قلمك ومدادك». وهي طويلة.
فراجعه بقوله: «ما (2) هذه التحية الكسرويّة؟ وما هذا الرأي وما (3) هذه الرويّة؟
أتنكيت من الأقلام؟ أم (4) تبكيت من الأعلام؟ أم (5) كلا الأمرين توجّه القصد إليه، وهو الحق مصدّقا لما بين يديه؟ وإلّا فعهدي بالقلم يتسامى عن عكسه (6)، ويترامى إلى الغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم، ودانت أعاربه (7) بدين الأعاجم؟
وا عجبا لقد استنوق الجمل (8)، واختلف القول والعمل، لأمر ما جدع أنفه قصير (9)، وارتدّ على عقبه الأعمى أبو بصير. أمس أستسقي من سحابه فلا يسقيني، وأستشفي بأسمائه فلا يشفيني. واليوم يحلّني محلّ أنو شروان، ويشكو مني شكوى اليزيديّة (10)
__________
(1) في الأصل: «لإمالني» وكذا ينكسر الوزن. والإملة: الأمل. محيط المحيط (أمل).
(2) النص في نفح الطيب (ج 10ص 267261).
(3) في النفح: «وهذه».
(4) في النفح: «وهذه».
(5) في النفح: «أو».
(6) عكس القلم هو: الملق.
(7) في النفح: «أعاريبه للأعاجم».
(8) أخذه من المثل: «قد استنوق الجمل» أي صار ناقة، يضرب هذا المثل في التخليط، والمراد:
تغيّرت الطباع. مجمع الأمثال (ج 2ص 93) ومحيط المحيط (نوق).
(9) هو مثل آخر، قيل في قصة احتيال قصير بن سعد القضاعي على الزبّاء ملكة تدمر حتى أخذ منها بالثأر. محيط المحيط (زبأ).
(10) في النفح: «الزيدية».(2/237)
من بني مروان، ويزعم أني أبطلت سحره (1) كما أبطل سحر بردوران، ويخفي في نفسه ما الله مبديه (2)، ويستجدي بالأثر ما عند مستجديه. فمن أين جاءت هذه الطريقة المتّبعة، والطّريفة (3) المبتدعة، أيظنّ أنّ معمّاه لا يفكّ (4)، وأنه لا يتجلّى (5) هذا الشّك؟ هل هذا (6) منه إلّا إمحاض التّيه، وإحماض تفتّيه، ونشوة من خمرة (7) الهزل، ونخوة من ذي ولاية آمن العزل؟ تالله لولا محلّه من القسم، وفضله في تعليم النّسم، لأسمعته (8) ما ينقطع به صلفه، وأودعته ما ينصدع به صدفه، وأشدت (9) بشرف المشرقي ومجده (10)، وأشرت إلى تعاليه عن اللّعب بجدّه. ولكن هو القلم الأول، فقوله على أحسن الوجوه يتأوّل، ومعدود في تهذيبه، كلّ ما لسانه يهذي به. وما أنسانيه (11)، إلّا الشيطان أياديه، أن أذكرها (12)، وأنما أقول: [البسيط]
ليت التحيّة كانت لي فأشكرها (13)
ولا عتب إلّا على الحاء (14)، المبرّحة بالبرحاء، فهي التي قيّمت (15) قيامتي في الأندية، وقامت عليّ قيام المعتدية (16)، يتظلّم وهو عين الظالم، ويلين القول وتحته سمّ الأراقم (17)، ولعمر البراعة وما نصعت (18)، واليراعة وما صنعت، ما خامرني هواها (19)، ولا كلفت بها دون سواها. ولقد عرضت نفسها عليّ مرارا، فأعرضت عنها ازورارا، ودفعتها عني بكل وجه، تارة بلطف وأخرى بنجه (20)،
__________
(1) في النفح: «سحره ببئر ذروان».
(2) أخذه من قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللََّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النََّاسَ} [الأحزاب: 37].
(3) في النفح: «والشريعة».
(4) في النفح: «لا ينفكّ».
(5) في النفح: «لا ينجلي».
(6) في النفح: «ذلك».
(7) في النفح: «خمر».
(8) في النفح: «لأسلمته».
(9) في النفح: «وأشرت».
(10) في النفح: «المشرفي وحدّه».
(11) في النفح: «وما أنساني».
(12) أخذه من قوله تعالى: {وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63].
(13) هو صدر بيت لكثير عزّه، والبيت بتمامه هو: [البسيط] ليت التحيّة كانت لي فأشكرها ... مكان يا جمل حيّيت يا رجل
الأغاني (ج 9ص 43) والشعر والشعراء (ص 418).
(14) قد تكون قصيدة حائية، أو رسالة بنيت على تكرير حرف الحاء في كل كلمة.
(15) في النفح: «أقامت».
(16) في النفح: «المتعدية».
(17) الأراقم: جمع أرقم وهو الثعبان. لسان العرب (رقم).
(18) في النفح: «ولعمر اليراعة وما رضعت».
(19) هاء الضمير يعود إلى «الحاء».
(20) النّجه: الردّ القبيح. لسان العرب (نجه).(2/238)
وخفت منها السآمة، وقلت انكحي أسامة. فرضيت منها (1) بأبي جهم (2) وسوء سلكته (3)، وابن أبي سفيان وصعلكته، وكانت أسرع من أمّ خارجة للخطبة، وأسمج من سجاح (4) في استنجاح تلك الخطبة. ولقد كنت أخاف من انتقال الطباع في عترتها (5)، واستثقال الاجتماع من عشرتها (6)، وأرى من الغبن والسّفاه، أخذها وترك بنات الأفواه والشّفاه (7)، إذ هي أيسر مؤونة، وأكثر (8) معونة، فغلطي (9) فيها أن كانت بمنزل تتوارى صونا عن الشمس، ومن نسوة خفرات لا ينطقن إلّا بالهمس، ووجدتها أطوع من البنان للكفّ، والعنان للوكف (10)، والمعنى للاسم، والمغنى للرّسم، والظّلّ للشخص، والمستبدل (11) للنصّ. فما عرفت منها إلّا خبرا (12) أرضاه، حتى حسبتها من الحافظات للغيب بما حفظ الله، فعجبت لها الآن كيف زلّت نعلها، ونشزت فنشرت ما استكتمها بعلها، واضطربت في رأيها اضطراب المختار بن (13) أبي عبيد، وضربت في الأرض تسعى عليّ بكلّ مكر وكيد، وزعمت أنّ حرف (14) الجيم خدعها، وألان (15) أخدعها، وأخبرها أن سيبلّغ بخبرها الخابور (16)، وأحضرها لصاحبها كما أحضر بين يدي قيصر سابور (17)، فقد جاءت إفكا وزورا، وكثرت من أمرها شزورا (18)، وكانت كالقوس أرنّت وقد أصمت القنيص، والمراودة قالت {مََا جَزََاءُ} (19) وهي التي قدّت
__________
(1) في النفح: «مني».
(2) يشير هنا إلى قصة فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك، حين خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم، فتزوجت أسامة بن زيد لأن معاوية وصف بأنه صعلوك لا مال له، وأبو جهم كان لا يضع عصاه عن عاتقه، أي أنه كان يضرب النساء.
(3) في النفح: «ملكته».
(4) في النفح: «وأسمح من سجاح». وأخبار سجاح مع مسيلمة الكذاب معروفة، وقد ضرب بها المثل في الإسماح.
(5) في النفح: «عشرتها».
(6) في النفح: «عترتها».
(7) بنات الأفواه والشفاه: الحروف مثل الباء والميم وغيرهما.
(8) في النفح: «وأكبر».
(9) في النفح: «فغلطني».
(10) في النفح: «للكفّ».
(11) في النفح: «والمستدلّ».
(12) في النفح: «خيرا أرضاه، وحسبتها».
(13) كلمة «بن» ساقطة من الإحاطة. وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي، الذي ثار عام 65هـ، مطالبا بدم الحسين بن علي، عليهما الصلاة والسلام.
(14) في النفح: «أن الجيم».
(15) في الأصل: «والآن» والتصويب من النفح.
(16) الخابور: من روافد نهر الفرات يريد أن يقول: إنه سيبلغ خبرها إلى مكان ناء.
(17) هو سابور ذو الأكتاف، يقال إنه تنكّر ودخل بلاد الروم فوقع في يدي قيصر.
(18) في النفح: «منزورا».
(19) سورة يوسف 12: الآية 25.(2/239)
القميص (1)، وربما يظنّ بها الصدق، وظنّ الغيب ترجيم، ويقال: لقد خفضت الحاء بالمجاورة لهذا الأمر الجسيم (2)، وتنتصر لها أختها (3) التي خيّمت بين النرجسة والرّيحانة، وختمت السورة باسم جعلت ثانيه أكرم نبيّ على الله سبحانه، فإن امتعضت لهذه المتظلّمة (4)، تلك التي سبقت بكلمتها بشارة المتكلّمة (5)، فأنا ألوذ بعدلها، وأعوذ بفضلها، وأسألها أن تقضي قضاء مثلها، وتعمل بمقتضى:
{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهََا} (6) على أنّ هذه التي قد أبدت مينها (7)، ونسيت الفضل بيني وبينها، أن قال الحكمان: منها كان النشوز، عادت حرورية (8) العجوز، وقالت: التّحكّم (9) في دين الله لا يجوز، فعند ذلك يحصحص (10) الحقّ، ويعلم من الأولى بالحكم والأحقّ، ويصيبها ما أصاب أروى، من دعوة سعيدة (11) حين الدّعوى، ويا ويحها أن (12) أرادت أن تجني عليّ فجنت لي، وأناخت لي مركب السعادة وما ابتغت إلّا ختلي، فأتى شرّها بالخير، وجاء النّفع من طريق ذلك الضّير. أتراها علمت بما يثيره اعوجاجها، وينجلي عنه عجاجها؟ فقد أفادت عظيم الفوائد، ونظيم الفرائد، ونفس الفخر، ونفيس الذّخر (13)، وهي لا تنكر (14) أن كانت من الأسباب، ولا تذكر إلّا يوم الملاحاة والسّباب. وإنما يستوجب الشكر جسيما، والثناء الذي يتضوّع نسيما، الذي شرّف إذ أهدى أشرف السّحاءات، وعرّف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات، فإنه وإن ألمّ بالفكاهة، فما أملى (15) من البداهة، وسمّى باسم السابق السّكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصّفات (16)، تلاعب السّيل بالصفاة، والصّبا بالبانة، والصّبا بالعاشق ذي اللّبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى
__________
(1) إشارة إلى قصة امرأة العزيز في قوله تعالى: {وَرََاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهََا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ} [يوسف: 23]. وعندما انفضح أمرها قالت: {مََا جَزََاءُ مَنْ أَرََادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلََّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} الآية.
(2) في النفح: «لهذا الجيم».
(3) كلمة «أختها» ساقطة في النفح.
(4) في النفح: «التكملة».
(5) في النفح: «الكلمة».
(6) سورة النساء 4، الآية 35.
(7) المين: الكذب. لسان العرب (مين).
(8) حرورية: أي ترفض التحكيم وتقول: لا حكم إلّا لله.
(9) في النفح: «التحكيم».
(10) يحصحص الحقّ: يظهر ويبين. لسان العرب (حصحص).
(11) في النفح: «سعدية».
(12) كلمة «أن» ساقطة في النفح.
(13) في النفح: «الدرّ».
(14) في النفح: «لا تشكر».
(15) في النفح: «بما أملّ».
(16) في النفح: «في الصفات تلاعب الصفاح والصّبا بالبانة».(2/240)
القلوب بفتونه، ونفث بجفنه (1) الأطراف، وعبث من الكلام المشقّق الأطراف (2)، وعلم كيف يلخّص (3) البيان، ويخلّص العقيان. فمن الحقّ أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه (4) من معناه في طرف النقيض. تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والخبر (5) الذي يشفي سائله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل (6) النور لهذا الحلك؟ وصحّ أن يقاس بين الحدّاد والملك؟ إنه لتواضع الأعزّة، وما يكون للأكارم (7) عند المكارم من العزّة، وتحريض الشيخ للتلميذ، في (8) إجازة الوضوء بالنّبيذ. ولو حضر الذي قضي له بجانب الغربيّ أمر البلاغة، وارتضى ما له في هذه الصناعة، من حسن السّبك لحليتها (9) والصّياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، وأتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان، لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محلّ دعوى (10) الإجادة كما ظعنت، وأنّى يضاهى الفرات المعين (11) بالنّغبة (12)، ويباهى بالفلوس من أوتي من الكنوز ما أنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظّ للكلالة في النّشب (13)، وقد اتصل للورثة عمود النّسب. هيهات والله بعد (14) المطلب، وشتّان الدّرّ والخشلب (15)، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قيادة السّلب، وإن كنّا ممّن تقدّم لشدّة الظمإ إلى المنهل، وكمن أقدم إلى عين تبوك بعد النّهي للعل والنّهل. فقد ظهرت بذلك (16)
المعجزة عيانا، وملئ ما هناك (17) جنانا، وما تعرّضنا بإساءة الأدب واللّوم، ولكن علمنا أن آخر الشّرب (18) ساقي القوم، وإن أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلّة، وجارنا من الفقر في فقر وذلّة. ومن لنا بواحدة يشرق ضياؤها، ويخفي النجوم خجلها منها وحياؤها؟ إن لم تطل فلأنها للفروع كالأصل، وفي المجموع (19) كليلة الوصل. فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه
__________
(1) في النفح: «بخفية».
(2) في النفح: «بالأطراف».
(3) في النفح: «يمحض».
(4) في النفح: «وإن أخذ لفظة».
(5) في النفح: «والحبر».
(6) في النفح: «حصل ذلك النور».
(7) في النفح: «عند الكرام من الهزّة».
(8) في النفح: «وترخيص في».
(9) في النفح: «لحليها».
(10) كلمة «دعوى» ساقطة في النفح.
(11) كلمة «المعين» ساقطة في النفح.
(12) النّغبة: الجرعة من الماء. لسان العرب (نغب).
(13) في النفح: «بالنشب».
(14) كلمة «بعد» ساقطة في النفح.
(15) في النفح: «والمخشلب».
(16) في النفح: «بعد ذلك».
(17) في النفح: «وملأ ما هنالك».
(18) في الأصل: «الشرّاب» والتصويب من النفح.
(19) في النفح: «الجموع».(2/241)
الأنوار الأزاهر، لسجدت النّيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات ريّاها في أعطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النّفر، وسار خبرها وسرى فصار حديث المقيمين والسّفر. وما أظن (1) تلك السّاخرة في تدلّيها (2)، إلّا السّاحرة بتجنّيها، إذ كانت ربيبتها، بل ربيئتها، هذه التي سبقتني لمّا سقتني بسينها (3)، ووجدت ريحها، لما فصلت من مصرها غيرها (4) وحين وصلت لم يدلني على سابقها (5) إلّا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها في هذه المغاني، فأغراني بهاؤها وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني. وهل كان ينفعها تلفّحها بمرطها وتلفّعها؟ إذ نادتها المودّة، فقد عرفناك يا سودة. فأقبلت على شمّ نشرها وعرفها، ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقرأتها فزيّنت بها المحاضر والمحافل (6). ورمت أمر الجواب، فغرّتني (7) في الخطاب، لكن رسمت هذه الرّقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم منيّ على استحياء ماشية، وإن رقّ وجهها فما رقّت لها حاشية، فمنوا بقبولها على علّاتها (8)، وانقعوا بماء سماحتكم حرّ غللها، فإنها وافدة من استقرّ قلبه عندكم وثوى، وأقرّ بأنه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النّوى. بقيتم، سيدي الأعلى (9) للفضل والإغضاء، ودمتم غرّة في جبين السّمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة المتّصلة مدّة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه. انتهى.
ومحاسنه عديدة، وآماده بعيدة.
دخوله غرناطة: دخلها مع المتوكل مخدومه، أو وجده بها.
من روى عنه: روي عن أبي الحسن سهل بن مالك.
وفاته: قال الأستاذ في الصلة (10): انتقل إلى بجاية فتوفي بها في عشر الخمسين وستمائة (11).
__________
(1) في النفح: «وما ضرّ تلك».
(2) في النفح: «في تجلّيها، الساحرة بتجنّيها، أن كانت بمنزلة ربيبتها بل تربها، هذه».
(3) في النفح: «بسيبها».
(4) في النفح: «من مصر عيرها».
(5) في النفح: «ساريها».
(6) في النفح: «فزيّنت بها المحافل».
(7) في النفح: «فعزّني».
(8) في النفح: «عللها».
(9) كلمة «الأعلى» ساقطة في النفح.
(10) المراد «صلة الصلة» لابن الزبير.
(11) كذا ورد في نفح الطيب (ج 10ص 276).(2/242)
محمد بن محمد بن أحمد بن شلبطور الهاشمي (1)
من أهل (2) ألمريّة، يكنى أبا عبد الله، من وجوه بلده وأعيانه، نشأ نبيه البيت، ساحبا بنفسه وبماله ذيل الحظوة، متحلّيا بخصل من خطّ وأدب، وزيرا، متجنّدا، ظريفا، دربا على ركوب البحر وقيادة الأساطيل. ثم انحطّ في هواه انحطاطا أضاع مروءته، واستهلك عقاره، وهدّ بيته، وألجأه أخيرا إلى اللّحاق بالعدوة فهلك بها.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (3): مجموع شعر وخطّ، وذكاء عن درجة الظّرفاء غير منحطّ، إلى مجادة أثيلة البيت، شهيرة الحيّ والميت. نشأ في حجر التّرف والنعمة، محفوفا بالماليّة الجمّة، فلما غفل (4) عن ذاته، وترعرع بين لداته، أجرى خيول لذّاته، فلم يدع منها ربعا إلّا أقفره، ولا عقارا إلّا عقره، حتى حطّ بساحلها، واستولى بسعر (5) الإنفاق على جميع مراحلها، إلّا أنه خلص بنفس طيّبة، وسراوة سماؤها صيّبة، وتمتّع ما شاء من زير وبمّ (6)، وتأنّس لا يعطي (7) القياد لهمّ.
وفي عفو الله سعة، وليس مع التوكل على الله ضعة.
شعره: من شعره (8) قوله يمدح السلطان، وأنشدها إياه بالمضارب من وادي الغيران عند قدومه من ألمرية (9): [الطويل]
أثغرك أم سمط من الدّرّ ينظم؟ ... وريقك أم مسك به الرّاح تختم؟
ووجهك أم باد من الصّبح نيّر؟ ... وفرعك أم داج من الليل مظلم؟
أعلّل منك النفس والوجد متلفي ... وهل ينفع التّعليل والخطب أعظم (10)؟
وأقنع من طيف الخيال يزورني (11) ... لو أنّ جفوني بالمنام تنعم
حملت الهوى حينا فلمّا علمته ... سلوت لأني بالمكارم مغرم
__________
(1) ترجمة ابن شلبطور في نفح الطيب (ج 8ص 215) وجاء فيه «ابن سلبطور» بالسين المهملة.
وشلبطور: بالإسبانية، ما يدل على أنه من أصل مولّدي.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 317).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 317).
(4) في النفح: «عقل».
(5) في النفح: «بسفر».
(6) الزّير والبمّ: من أوتار العود. لسان العرب (زير) و (بمم).
(7) في النفح: «لم يعط».
(8) النص في نفح الطيب (ج 8ص 218).
(9) ورد من هذه القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 218) فقط الأبيات الأربعة الأول، وجاء هناك:
«عند قدومه ألمرية».
(10) في النفح: «منك الوجد والليل مظلم وهل والخطب مؤلم».
(11) في النفح: «بزورة».(2/243)
ولي في أمير المسلمين محبّة ... فؤادي مشغوف بها ومتيّم
بلغت المنى لما لثمت يمينه ... فها أنذا في جنّة الخلد أنعم
يصوغ قومي الشّعر في طيب ذكره ... ويحسن فيه النّظم من ليس ينظم
فاستمسك الدّين الحنيف زمانه ... وقام منار الحقّ والشّرك مغرم
له نظر في المشكلات مؤيّد ... والله مهد إلى الرشد ملهم
ويستغرق طارحا فيه وابل جوده ... فمن فعله في جوده يتعلم
فلو أن أملاك البسيطة أنصفوا ... لألقوا إليه الأمر طوعا وسلّموا
وفي الدّين والدنيا وفي البأس والنّدى ... لكم يا بني نصر مقام معظّم
ومنها:
إليك أمير المسلمين اقتضيتها ... حمائل شكر طيرها مترنّم
تنمّ بعرف المسك أنفاسها ... إذا يفوه لراو في الندى بها فم
فباسمك سيّرت في المسامع ذكرها ... ويغزى في أقصى البلاد ويشمم
ولو أنني في المدح سحبان وائل ... وأنجدني فيه حبيب ومسلم
لما كنت إلّا عن علاك مقصّر ... ومن بعض ما نشدت وتولي وتنعم
بقيت ملاذا للأنام ورحمة ... وساعدك الإسعاد حيث يتمّم
ومن شعره مذيّلا على البيت الأخير حسبما نسب إليه (1): [البسيط]
نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم ... ما ذاك إلّا لفرط الوجد والألم (2)
أشكو إلى الله ما بي من محبّتكم ... فهو العليم بما نلقى من السّقم (3)
«إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دمي»
وممّا نسب إليه كذلك (4): [السريع]
قف بي وناد بين تلك الطّلول ... أين الألى كانوا عليها نزول
أين ليالينا بهم والمنى ... نجنيه غضّا بالرضا والقبول
لا حمّلوا بعض الذي حمّلوا ... يوم تولّت بالقباب الحمول
إن غبتم يا أهل نجد ففي ... قلبي أنتم وضلوعي حلول
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 218).
(2) في النفح: «والسّقم».
(3) في النفح: «بما ألقى من الألم».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 218).(2/244)
وممّا خاطبني (1) به: [الرجز]
تالله ما أورى زناد القلق ... سوى ريح (2) لاح لي بالأبرق (3)
أيقنت بالحين (4) فلولا نفحة ... نجديّة منكم تلافت رمقي
لكنت أقضي بتلظّي زفرة ... وحسرة بين الدموع (5) تلتقي
فآه من هول النّوى وما جنى ... على القلوب موقف التّفرّق
يا حاكي الغصن انثنى متوّجا ... بالبدر تحت لمّة من غسق
الله في نفس معنّى أقصدت ... من لاعج الشّوق بما لم تطق
أتى على أكثرها برح (6) الأسى ... دع ما مضى منها وأدرك ما بقي
ولو بإلمام خيال في الكرى ... إن ساعد الجفن رقيب الأرق
فربّ زور من خيال زائر ... أقرّ عينيّ وإن لم يصدق
شفيت (7) من برح الأسى لو أنّ من ... أصبح رقّي في يديه معتقي
ففي معاناة الليالي عائق ... عن التّصابي وفنون القلق
وفي ضمان ما يعاني المرء من ... نوائب الدهر مشيب المفرق
هذا لعمري مع أني لم أبت ... منها بشكوى روعة أو فرق (8)
فقد أخذت من خطوب غدرها ... بابن الخطيب الأمن ممّا أتّقي (9)
فخر الوزارة الذي ما مثله ... بدر علا في مغرب أو مشرق
ومذ أرانيه زماني لم أبل (10) ... من صرفه من مرعد (11) أو مبرق
لا سيما منذ (12) حططت في حمى ... جواره (13) الأمنع رحل أينقي
أيقنت أني في رجائي لم أخب ... وأنّ مسعى بغيتي لم يخفق
ندب له في كلّ حسن آية ... تناسبت في الخلق أو في (14) الخلق
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 217215).
(2) في النفح: «بريق».
(3) الأبرق: اسم مكان.
(4) الحين: الهلاك. لسان العرب (حين).
(5) في النفح: «الضلوع».
(6) البرح: الشدّة. لسان العرب (برح).
(7) في النفح: «شقيت».
(8) الفرق، بالفتح: الخوف. لسان العرب (فرق).
(9) في الأصل: «إلّا من ممّا أتّق». والتصويب من النفح.
(10) لم أبل: أصله: لم أبال، أي لم أكترث.
(11) في النفح: «بمرعد».
(12) في الأصل: «مذ» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «مقامه».
(14) كلمة «في» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.(2/245)
في وجهه مسحة بشر إن بدت ... تبهرجت أنوار شمس الأفق
تعتبر الأبصار في لألئها (1) ... عليه من نور السّماح المشرق
كالدهر في استينائه وبطشه ... كالسيف في حدّ الظّبا والرونق
إن بخل الغيث استهلّت يده (2) ... بوابل من غيث جود غدق
وإن وشت صفحة طرس انجلى ... ليل دجاها عن سنى مؤتلق
بمثلها من حبرات أخجلت ... حواشي الرّوض خدود المهرق
ما راق في الآذان أشناف سوى ... ملتقطات لفظه المفترق
تودّ أجياد الغواني أن يرى ... حليّها من درّ ذاك المنطق
فسل به هل آده (3) الأمر الذي ... حمّل في شرخ الشباب المونق؟
إذا رأى الرّأي فلا يخطئه ... يمن اختيار للطريق الأوفق
إيه أبا عبد الإله هاكها ... عذراء تحثو في وجوه السّبق
خذها إليك بكر فكر يزدري ... لديك بالأعشى لدى المحلّق (4)
لا زلت مرهوب الجناب مرتجى ... موصول عزّ في سعود ترتقي
مبلّغ الآمال فيما تبتغي ... مؤمّن الأغراض فيما (5) تتّقي
ناب (6) في القيادة البحرية عن خاله القائد أبي علي الرّنداحي، وولّي أسطول المنكّب برهة. توفي (7) بمراكش في (8) عام خمسة وخمسين وسبعمائة رحمه الله.
محمد بن محمد بن جعفر بن مشتمل الأسلمي
من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالبلياني.
__________
(1) في الأصل: «لألأتها» وكذا ينكسر الوزن. وفي النفح: «في اللألأ ما».
(2) استهلّت يده: كثر إغداقها، وهنا يشبّه اليد بالديمة التي اشتدّ انصبابها على سبيل الاستعارة.
(3) آده: ثقل عليه. لسان العرب (أدي).
(4) الأعشى: هو الأعشى ميمون بن قيس. والمحلّق: رجل فقير استضاف الأعشى ونحر له وسقاه، ثم شكا له أن له بنات لم يتزوّجن، فأنشد الأعشى في عكاظ قصيدته الكافية بمدح المحلّق ومنها [الطويل]:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلّق
فلم يحل الحول حتى تزوجت بنات المحلق كلهنّ. لسان العرب (حلق).
(5) في النفح: «ممّا».
(6) النص في نفح الطيب (ج 8ص 219).
(7) في النفح: «وتوفي».
(8) كلمة «في» غير واردة في النفح.(2/246)
حاله: قال شيخنا أبو البركات: ناب عني في بعض الأعمال بألمريّة، وخطب بنحانس من غربيها، ثم خطب بحمة مرشانة، وهو الآن بها، وعقد الشروط قبل بألمريّة. عفيف طاهر الذّيل، نبيل الأغراض، مهذّب الأخلاق، قيّم على القراءات والنحو والأدب، جيّد الشعر والكتابة (1) من الضبط، وإجادة العبارة عن المعنى المراد.
تواليفه: قال: له رجز في علم الكلام جيد، ورجز آخر في ألفاظ فصيح ثعلب، عريّ عن الحشو، على تقعير فيه يغتفر لما جمع من اقتصاره، وله تأليف في الوباء (2) سماه بإصلاح النّيّة في المسألة (3) الطاعونية.
مشيخته: قال: أخذ عنّي وعن أبيه جملة من الدواوين، وعن غيري من أهل بلده.
شعره: قال: ومما أنشدني من شعره قوله: [الطويل]
هفا بي من بين المغاني عقيقها ... ومن بينه انفضّت لعيني عقيقها
ومالت من البيداء عنها قبابه (4) ... وأشرقني بالدمع منها شروقها
يهيّج أنفاسي غراما نسيمها ... وتقدح نار الشوق عندي بروقها
ومن دون واديها ظباء (5) خوادل (6) ... حكى لحظها ماضي الشّفار رقيقها
فلو برزت للشمس (7) منهنّ في الضحى ... مخدّرة أضحت كمالا تفوقها
نسيم الصّبا، إن سيّرت نحو الحمى ... تحيّي (8) الدّيار النّازحات تشوقها
غريب كئيب مستهام متيّم ... جريح الجفون السّاهرات عريقها
فهل عطفة ترجى وهل أمل يرى ... بعودة أيام تقضّى أنيقها؟
سقتنا ومن أدمع الصّبّ جودها (9) ... ومن (10) ديم الغيث الملتّات ريقها
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) في الأصل: «الوبا».
(3) في الأصل: «المسلة».
(4) قوله: «من البيداء عنها» ساقط في الأصل، وقد أضفناه ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(5) في الأصل: «ظبا» وكذا ينكسر الوزن.
(6) الخوادل: جمع خدلاء وهي المرأة الممتلئة الأعضاء لحما في دقة عظام. محيط المحيط (خدل).
(7) في الأصل: «الشمس» وكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «فقل تحي الديار» وكذا ينكسر الوزن.
(9) في الأصل: «سقى وتعلم من أدمع الصب جودها» وكذا ينكسر الوزن.
(10) في الأصل: «من».(2/247)
قال: وأنشدني أيضا، وقال: كلفت إجازة هذا البيت الأول من هذه القصيدة، إذ ليس لي: [الكامل]
من عادلي؟ من ناصري أو منصفي (1)؟ ... هذا دمي (2) سفكته بنت المنصف
أو من يخلّصني وقد أوهى صحي ... ح الجسم منّي لحظ طرف مدنف
جفن تحيّر والهوى يهديه ... لفؤاد كلّ من الهوى لم يألف
متناعس يهدي السّهاد ويصرع ال ... بطل الكميّ بلحظه المتضعّف
تبدو وتشدو للعيون وللمسا ... مع فهي بين مكحّل ومشنّف
ملكت بصنعتها عنان عنانها ... وعدت عليها كأنّها (3) لم تعرف
تغني إذا غنّت بطيب صوتها ... عن أن يزوّد لحنها بالمعزف
أمّا تغنّت أو تثنّت تهتف ... قمريّ نغمتها وغضّ المعطف
يأتي على تكرار (4) ما غنّت به ... صدقا بكلّ غريب مستطرف (5)
تهدي النفوس (6) على اختلاف طباعها ... من نبلها ما تشتهي بتلطّف
كنّا وجفن الدهر عنّا ناعس ... من (7) خلف ستر للأمان مسجّف
حتى وشى بالسّر دهر حاسد ... كلف بتنغيص الكريم الأشرف
واخجلتا إن لم أمت يوم النّوى ... لهفا وما إن كنت بعد بمنصف
لكنني مما نحلت وذبت لم ... يرني الحمام فكنت عنه أختفي (8)
كم ذا أبيت وليس لي من مسعد ... في حالتي غير الدموع الذّرف
يا هل ترى هذا الزمان وصرفه ... هل يسمحان بعودة وتألّف؟
صبرا أبا يعقوبهم فهي النّوى ... لولا همت شوقا للقيا يوسف
قال: وأنشدني أيضا لنفسه، والبيت الأخير لغيره: [البسيط]
ما للأحبّة في أحكامهم جاروا؟ ... نأوا جميعا فلا خلّ ولا جار
__________
(1) في الأصل: «من عادى ومن ناصري ومنصفي» وكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «دمعي» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «كأن» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «تكرّر» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «أو مستطرف» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «للنفوس» وهكذا يختل الوزن والمعنى معا.
(7) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(8) في الأصل: «أختف» بدون ياء.(2/248)
كيف البقاء (1) وقد بانت قبابهم ... وقد خلت منهم وا أسفي الدّار؟
حداة تمسهم بالقلب قد رحلوا ... يا ليتهم حملوا الجثمان إذ ساروا (2)
جار الزمان علينا في فراقهم ... من قبل أن تنقضي للصّبّ أوطار
ساروا فخيّمت الأشواق بعدهم ... ما لي عليها سوى الآماق أنصار
تراك يا ربعهم ترجو رجوعهم؟ ... يا ليت لو ساعدت في ذاك أقدار
ودّعت منهم شموسا ما مطالعها ... إلّا من الوشي أطواق وأزرار
أستودع الله من فاز الفراق بهم ... وخلّفونا (3) ودمع العين مدرار
قلت: ولا خفاء بتخلّف هذا النمط عن الإجادة، والله يقبض ويبسط، وشافعنا عرض الإكثار.
وفاته: توفي في آخر أربعة وستين وسبعمائة.
محمد بن محمد بن حزب الله (4)
من أهل وادي آش، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جدّه.
حاله: دمث، متخلق، سهل الجانب، كثير الدّعابة، خفيف الروح، له خطّ حسن، ووراقة بديعة، وإحكام لبعض العملية، واقتدار على النظم. اتصل بباب السلطان ملك المغرب، وارتسم كاتبا مع الجملة، فارتاش، وحسنت حاله.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصّه: راقم (5) واشي، رقيق الجوانب والحواشي، تزهى بخطّه المهارق والطروس، وتتجلّى في حلل بدائعه كما تتجلّى العروس، إلى خلق كثير التجمل، ونفس عظيمة التحمّل. ودود سهل الجانب، عذب المذانب. لمّا قضيت الوقيعة بطريف (6)، أقال الله عثارها، وعجّل ثارها، قذف به موج ذلك البحر، وتفلّت إفلات الهدي المقرب إلى النحر، ورمى به إلى رندة القرار، وقد عرى من أثوابه كما عرى الغرار، فتعرّف للحين بأديبها المفلق، وبارقها المتألق
__________
(1) في الأصل: «البقا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «سار».
(3) في الأصل: «وخلّفوا» وكذا ينكسر الوزن.
(4) ترجمة ابن حزب الله في الكتيبة الكامنة (ص 274).
(5) قارن بالكتيبة الكامنة (ص 274).
(6) كانت موقعة طريف الشهيرة بين الإسبان وبني مرين، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة سلطان غرناطة أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، سنة 741هـ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص 105).(2/249)
أبي الحجاج المنتشافري، فراقه ببشر لقائه، ونهل على الظمأ في سقائه، وكانت بينهما مخاطبات، أنشدنيها بعد إيابه، وأخبرني بما كان من ذهاب زاده وسلب ثيابه.
وخاطبني من شرح حاله في ارتحاله بما نصّه: ولما دخلت رندة الأنيقة البطاح، المحتوية على الأدب والسّماح، والعلم والصلاح، أبرز القدر أن لقيت بها شيخنا المعمّر رئيس الأدباء، وقدوة الفقهاء، أبا الحجاج المنتشافري، وكنت لم أشاهده قبل هذا العيان، ولا سمح لي بلقائه صرف الزمان، ولم أزل أكلف بمقطوعاته العجيبة، وأولع بضرائبه الغريبة، وتأتي منه مخاطبات تزري بالعقود بهجة، وتطير لها العقود لهجة. نظم كما تنفّس الصبح عن تسيمه، ونثر كما تأسس الدّر بتنظيمه، فأحلّني منه محلّ الروح من الجسد، وشهد لي أني أعزّ من عليه ورد، ورآني قد ظهرت على مضاضة الاكتئاب، لكوني قريب عهد بالإياب، مهزوما انهزام الأحزاب، خالي الوطاب (1)، نزر الثياب، فقال: فيم الجزع، ذهب بحول الله الخوف وأمن الفزع، فأجبته عجلا، وقلت أخاطبه مرتجلا: [الكامل]
لا تجزعي، نفسي، لفقد معاشري ... وذهاب مالي في سبيل القادر
يا رندة (2)، ها أنت خير بلاده ... وبها أبو حجاج المنتشافري
سيريك حسن فرائد من نظمه ... فتزيل كل كآبة في الخاطر
فأجابني مرتجلا: [الكامل]
سرّاي، يا قلبي المشوق، وناظري، ... بمزار ذي الشّرف السّنيّ الطاهر
روض المعارف زهرها الزّاهي ... أوصافه (3) أعيت ثناء (4) الشاكر
ولواد آش من (5) فخار لم يزل ... من كابن حزب الله نور النّاظر
وافى يشرّف رندة بقدومه ... فغدت به أفقا لبدر زاهر
من روضة الأدباء أبدى زهرة ... قد أينعت عن فكر حبر ماهر
جمع المآثر بالسّناء (6) وبالسّنا ... أعظم به من صانع لمآثر
ما زلت أسمع من ثناه مآثرا ... كانت لسامعها معا والذّاكر
__________
(1) الوطاب: جمع وطب وهو سقاء اللبن وهو جلد الجذع فما فوقه. وقوله: خالي الوطاب: أي انهزم أو قتل. محيط المحيط (وطب).
(2) في الأصل: «ورندة» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «ومن أوصافه» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «ثنا» وكذا ينكسر الوزن.
(5) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(6) في الأصل: «السناة».(2/250)
حتى رأى بصري حقائق وصفه ... فتنعّمت كالأقمار نواظري (1)
لا زال محبوّا بكل مسرّة ... تجري له بالحظّ حكم مغادر
ثم خاطبه القاضي المنتشاقري بعد انصرافه إلى وطنه بقوله: [المتقارب]
أبى الدّمع بعدك إلّا انفجارا ... لدهر ببعدك في الحكم جارا
أذاق اللقاء الحلو لو لم يصل (2) ... به للنّوى جرعات مرارا
رعى الله لمح ذاك اللقاء ... وإن يك أشواقنا قد أثارا
قصاراي شكواي طول النوى ... وفقدي أناة وصل قصارا
سقتني القداح ومن بعده ... فؤادي (3) القريح قد اذكت أوارا
ألا يا صبا، هبّ من أربعي ... إلى وادي آشي (4) تحي الدّيارا
ألا خصّ من ربعها منزلا ... بأربابه الأكرمين استنارا
وهم إلى حزب الإله الألى (5) ... تساموا فخارا وطابوا نجارا
فأجابه بأبيات منها (6):
تألّق برق العلا واستنارا ... فأجّج إذ لاح في القلب نارا
وذكّرني وقت (7) أنس مضى ... برندة حيث الجلال استشارا (8)
وكانت لنفسي سنا (9) في حماها ... طوالا فأصبحت (10) لديها قصارا
فأجريت دمع العيون اشتياقا ... ففاضت لأجل فراقي بحارا
وقالت لي النّفس من لم يجد ... نصيرا سوى الدّمع قلّ انتصارا
قطعت المنى عندها لمحة ... وودّعتها وامتطيت القفارا
وضيّعت تلك المنى غفلة ... ووافيت أبغي المنى (11) ديارا (12)
ومنها:
أرقت لذاك السّنا ليلة ... وما نومها ذقت إلّا غرارا
__________
(1) عجز هذا البيت منكسر الوزن.
(2) صدر هذا البيت منكسر الوزن.
(3) في الأصل: «فوادي القريح قد أذكت» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «واد آش» وكذا ينكسر الوزن.
(5) صدر هذا البيت منكسر الوزن.
(6) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 275).
(7) في الكتيبة الكامنة: «أنس وقت».
(8) في الكتيبة: «استنارا».
(9) في الكتيبة: «منى».
(10) في المصدر نفسه: «فأضحت».
(11) في الأصل: «نابس». ولا معنى لها.
(12) هذا البيت ساقط في الكتيبة الكامنة.(2/251)
وجسمي أجلّ الجسوم التهابا ... وقلبي أشدّ القلوب انكسارا
إلى أن تجرّعت كأس النّوى ... وقلت زماني على الشّمل جارا
وصبّرت نفسي لفقدانها ... هنالك بالرّغم ليس اختيارا
وقال من قصيدة (1): [الطويل]
حننت (2) لبرق لاح من سرحتي نجد ... حنين تهاميّ (3) يحنّ (4) إلى نجد
وقلت لعلّ القلب تبرا كلومه ... ومن ذا يصدّ النار عن شيمة الوقد؟
لكن (5) شاركتني في المحبّة فرقة ... فها أنا في وجدي وفي كلفي وحدي (6)
وهو إلى هذا العهد بالحال الموصوفة.
محمد بن إبراهيم بن عيسى بن داود الحميري (7)
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عيسى.
حاله: كان أديبا، حسن الخطّ، جيّد النظم، متظرّفا، لوذعيّا، مطبوعا، منحطّا في هواه، جامحا في ميدان بطالته، معاقرا للنّبيذ، على حفظ للرسم، واضطلاع بالخدمة، وإيثار للمروءة، ومعرفة بمقادير الأمور، وتشبّث بأذيال الحظوة. كتب للرئاسة السّعيدية بمالقة، ونظر على ألقاب جبايتها، وانتفع الناس بجاهه وماله، ووقع الثناء على حسن وساطته. ثم سافر عنها، وقد سمت مجادة السلطان في غرض انتقالها إلى العدوة، معوّضة بمدينة سلا من مالقة. وكان ما كان من معاجلة الأمر، والقبض على الريّس، وقيام ولده بالأمر، فانبتّ المذكور بالعدوة، وكانت بها وفاته.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه (8): علم من أعلام هذا الفن،
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 276275).
(2) في الأصل: «حللت» والتصويب من الكتيبة.
(3) التهامي: نسبة إلى تهامة وهي من اليمن. معجم البلدان (ج 2ص 63).
(4) في الأصل: «تحنّ» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الأصل: «إن» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) في الأصل: «وجد» بالجيم، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(7) ترجمة محمد الحميري في الكتيبة الكامنة (ص 158) وجاء فيه أنه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عيسى الحميري، ونفح الطيب (ج 8ص 365) وجاء فيه أنه: أبو عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم بن عيسى بن داود الحميري.
(8) النص في نفح الطيب (ج 8ص 366365) والكتيبة الكامنة (ص 159158) والدرر الكامنة (ج 4ص 271).(2/252)
ومشعشعي (1) راح هذا الدّن، بمجموع (2) أدوات، وفارس يراعة ودواة (3)، ظريف المنزع، أنيق المرأى والمسمع، اختصّ بالرئاسة وأدار (4) فلك إمارتها، واتّسم باسم كتابتها ووزارتها، ناهضا بالأعباء، راقيا (5) في درج (6) التقريب والاجتباء، مصانعا دهره في راح وراحة، آويا إلى فضل وسماحة، وخصب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن ربّ نعمته، عقد شربا، وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حربا، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده. فلما تقلّبت (7) بالرئاسة الحال، وقوّضت منها الرحال، استقرّ بالمغرب غريبا، يقلّب طرفا مستريبا، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريبا (8)، وإن كان لم يعدم من أمرائها (9) حظوة وتقريبا، وما برح يبوح بشجنه، ويرتاح إلى عهود وطنه.
شعره وكتابته: ممّا كتبه، وبيّن فيه أدبه قوله (10): [الكامل]
يا نازحين ولم أفارق منهم ... شوقا تأجّج في الضّلوع (11) ضرامه
غيّبتم عن ناظري وشخصكم ... حيث استقرّ من الضلوع مقامه
رمت النّوى شملي فشتّت نظمه ... والبين رام لا تطيش سهامه
وقد اعتدى فينا وجدّ مبالغا ... وجرت بمحكم جوره أحكامه
أترى الزمان مؤخّرا في مدّتي ... حتى أراه قد انقضت أيّامه
تحملها (12) يا نسيم نجديّة النّفحات، وجديّة اللّفحات، يؤدي (13) عني نغمها إلى الأحبّة سلاما، ويورد (14) عليهم لفحها بردا وسلاما، ولا تقل كيف تحمّلني نارا، وترسل على الأحبّة مني إعصارا، كلّا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وآنسوا من جانب هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزّوا في كفّ مسرى جنوبك،
__________
(1) في النفح: «ومشعشع».
(2) في النفح والكتيبة: «مجموع».
(3) كلمة «ودواة» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصادر الثلاثة.
(4) في النفح: «فأدار».
(5) في النفح: «صاعدا».
(6) في الكتيبة: «درجات».
(7) في الأصل: «تقليت» والتصويب من المصادر.
(8) التثريب: اللوم. لسان العرب (ثرب).
(9) في النفح: «أمرائه».
(10) الأبيات في الكتيبة (ص 161) ونفح الطيب (ج 8ص 366). والبيتان الأول والثاني في الدرر الكامنة (ج 4ص 272).
(11) في الكتيبة: «في الفؤاد».
(12) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 8ص 367366).
(13) في النفح: «تؤدي إلى الأحبة نفحها سلاما».
(14) في النفح: «وتورد».(2/253)
وتعللّوا بها تعليلا، وأوسعوا آثار مهبّك تقبيلا، أرسلها عليهم بليلا، وخاطبهم بلطافة تلطفّك تعليلا. ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلا (1): [الوافر]
كذاك (2) تركته ملقى بأرض ... له فيها التعلّل بالرّياح
إذا هبّت إليه صبا إليها ... وإن جاءته من كلّ النواحي
تساعده الحمائم حين يبكي ... فما ينفكّ موصول النّياح (3)
يخاطبهنّ مهما طرن شوقا ... أما فيكنّ واهبة (4) الجناح؟
ولولا (5) تعلّله بالأماني، وتحدّث نفسه بزمان التّداني، لكان قد قضى نحبه، ولم أبلّغكم إلّا نعيه أو ندبه، لكنه يتعلّل من الآمال بالوعد الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدّث نفسه وقد قنعت من بروق الآمال بالخلّب (6)، ووثقت بمواعيد الدهر القلّب (7)، فيناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره: كيف أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلّص من ربقة الاغتراب؟ أبائنة الحضور أم بادية الاضطراب؟ كأنّي بك وقد استفزّك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاقتك غشاوة الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيّا ذلك النهار (8): [البسيط]
يوم يداوي زماناتي من ازماني ... أزال (9) تنغيص أحياني فأحياني
جعلت لله نذرا صومه أبدا ... أفي به وأوفّي شرط إيماني
إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت ... أشطان دهر قد التفّت بأشطاني (10)
أعدّه (11) خير أعياد الزمان إذا ... أوطاني السّعد فيه ترب أوطاني
أرأيت (12) كيف ارتياحي إلى التّذكار، وانقيادي إلى معلّلات توهّمات الأفكار؟
كأنّ البعد باستغراقها قد طويت شقّته، وذهبت عني مشقّته، وكأنّي بالتّخيّل بين تلك
__________
(1) الأبيات أيضا في الكتيبة الكامنة (ص 162).
(2) في الكتيبة: «غريب بعدكم ملقى».
(3) في الكتيبة: «التياح». وفي النفح: «النّواح».
(4) في الأصل: «واهية» والتصويب من النفح والكتيبة.
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 367).
(6) البرق الخلّب: البرق الذي يظنّ فيه سحابة المطر وليس فيه مطر. لسان العرب (خلب).
(7) الدهر القلّب: الكثير التقلّب. لسان العرب (قلب).
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 367).
(9) في الأصل: «أزبر» والتصويب من النفح.
(10) الأشطان: جمع شطن وهو الحبل. لسان العرب (شطن).
(11) في الأصل: «أعدّده» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) النص في نفح الطيب (ج 8ص 371367).(2/254)
الخمائل أتنسّم صباها، وأتسنّم رباها (1)، وأجتني أزهارها، وأجتلي أنوارها، وأجول في خمائلها، وأتنعّم ببكرها وأصائلها، وأطوف بمعالمها، وأتنشّق أزهار كمائمها، وأصيخ بأذن الشّوق (2) إلى سجع حمائمها، وقد داخلتني الأفراح، ونالت منّي نشوة الارتياح، ودنا السّرور لتوسّم (3) ذهاب الأتراح. فلمّا أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجدت (4) مرارة ما شابه لبّي (5) في استغراق دهري، وكأنّي من حينئذ عالجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة الأشواق، وكأنما أغمضتني (6)
للنّوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم (7): [الكامل]
ذكر الدّيار فهاجه تذكاره ... وسرت به من حينه أفكاره
فاحتلّ منها حيث كان حلوله ... بالوهم فيها واستقرّ قراره
ما أقرب الآمال من غفواته ... لو أنها قضيت بها أوطاره (8)
فإذا جئتها أيها القادم، والأصيل قد خلع عليها بردا مورّسا، والربيع قد مدّ على القيعان منها سندسا، اتّخذها (9) فديتك معرّسا (10)، واجرر ذيولك فيها متبخترا (11)، وبثّ فيها من طيب نفحاتك عنبرا، وافتق عليها من نوافج (12)
أنفاسك مسكا أذفرا، واعطف معاطف (13) بانها، وأرقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح (14) نفحات زهرها. هذه كلّها أمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صبابات، تتعلّل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك، وتبدو لك في صفة الفاني المتهالك، لاطفها بلطافة
__________
(1) أتسنّم رباها: أعلوها وأرتفع إليها. لسان العرب (سنم).
(2) في الأصل: «الشون» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «لتوهّم».
(4) في الأصل: «وجدّدت» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «لي».
(6) في النفح: «أغمضني النوم».
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 369368).
(8) رواية البيت في أصل الإحاطة هي:
يا لقرب الآمال من هفواته ... لو أنه قضت بها أوطاره
وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «فاتّخذها».
(10) المعرّس: مكان النزول ليلا. لسان العرب (عرس).
(11) في الأصل: «تبخترا» والتصويب من النفح.
(12) في الأصل: «نوافح» بالحاء المهملة، والتصويب من النفح. والنوافج: جمع نافجة وهي وعاء المسك. لسان العرب (نفج).
(13) في الأصل: «بعاطف» والتصويب من النفح.
(14) المراد ب «نافح» المغالبة في إظهار الريح ليظهر أيهما أظهر أريحا. لسان العرب (نفح).(2/255)
اعتلالك، وترفّق بها ترفّق أمثالك، فإذا مالت (1) بهم إلى هواك الأشواق، ولووا إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلّبي بين الإشآم والإعراق، فقل لهم: عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سرّ (2) السّرار، وطاق (3) المحاق، وقد تركته وهو يسامر الفرقدين، ويساير النّيّرين، وينشد إذا راعه البين (4): [البسيط]
وقد نكون وما يخشى تفرّقنا ... واليوم (5) نحن وما يرجى تلاقينا
لم يفارق وعثاء (6) الأسفار، ولا ألقى من يده عصا التّسيار، يتهاداه الغور (7)
والنّجد، ويتداوله الإرقال (8) والوخد، وقد لفحته الرّمضاء، وسئمه (9) الإنضاء.
فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، تحمل (10) همومه الرّواسم، وتحفى (11) به النّواسم:
[البسيط]
لا يستقرّ بأرض حين يبلغها ... ولا له غير حدو العيس إيناس
ثم إذا استوفوا سؤالك عن حالي، وتقلّبي بين (12) حلّي وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلّت ذيولك بمائها، لا بل تضرّجت بدمائها، فحيّهم عنّي تحيّة منفصل، وودّعهم (13) وداع مرتحل. ثم اعطف عليهم ركابك، ومهّد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والرّبوع بعد ظعن أظعانها، بماذا أجيبه، وبماذا يسكن وجيبه (14). فسيقولون لك هي البلاقع (15) المقفرات، والمعارف (16) التي أصبحت نكرات: [السريع]
صمّ صداها وعفا (17) رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل
__________
(1) في الأصل: «أمالت» والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «من سرار».
(3) في النفح: «ولحاق».
(4) البيت لابن زيدون وهو في ديوانه (ص 9).
(5) في النفح: «فاليوم».
(6) الوعثاء: المشقّة والتعب. محيط المحيط (وعث).
(7) في الأصل: «للغور» والتصويب من النفح.
(8) الإرقال والوخد: ضربان من السير السريع. لسان العرب (رقل) و (وخد).
(9) في الأصل: «وسيّمه» والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «يحمل».
(11) في النفح: «وتحياته».
(12) في الأصل: «بين حالي حلّي»، والتصويب من النفح.
(13) كلمة «وودّعهم» غير واردة في النفح.
(14) الوجيب: الخفقان. لسان العرب (وجب).
(15) البلاقع: جمع بلقع وهو الأرض الخالية. لسان العرب (بلقع).
(16) كلمة «والمعارف» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(17) في الأصل: «وعفّى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/256)
قل لهم: كيف الرّوض وآسه؟ وعمّاذا (1) تتأرّج أنفاسه؟ عهدي به والحمام يردّد أسجاعه، والذّباب يغني به هزجا فيحكّ بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تتنسّم وآصاله تغتبق (2)، كما كانت بقية نضرته، وكما عهدتها أنيقة خضرته، وكيف التفاته (3) عن أزرق نهره، وتأنّقه في تكليل إكليله بيانع زهره. وهل رقّ نسيم أصائله (4)، وصفت موارد جداوله؟ وكيف انفساح ساحاته، والتفاف دوحاته؟ وهل تمتدّ كما كانت مع العشيّ فينانة سرحاته؟
عهدي بها، المديدة الظّلال، المزعفرة السّربال، لم تحدّق الآن به عيون نرجسه، ولا صدّ (5) بساط سندسه. وأين منه مجالس لذّاتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي؟ إذ أباري في المجون لمن أباري، وأسابق إلى اللّذات كلّ من يجاري (6). فسيقولون لك: ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدّرت غدرانه، وتغيّر ريحه (7) وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمائمه، واستحالت به (8) حلل خمائله، وتغيّرت وجوه بكره وأصائله، فإن صلصل حنين رعد فعن قلبي لفراقه خفق، وإن تلألأ برق فعن حرّ حشاي ائتلق، وإن سحّت السّحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فعنّي، حيّاها الله تعالى (9) منازل، لم تزل بمنظوم الشّمل أواهل. وحين انتثرت (10) نثرت أزهارها أسفا، ولم تثن الريح من أغصانها معطفا، أعاد الله تعالى (11) الشّمل فيها إلى محكم نظامه، وجعل الدهر الذي فرّقه يتأنّق في أحكامه. وهو سبحانه يجبر الصّدع، ويعجّل الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. إيه بنيّ، كيف حال من استودعتهم أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهّدت لهم حسبك؟ الله في حفظهم فهو اللّائق بفعالك، والمناسب لشرف خلالك، ارع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك، فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهو سبحانه يحفظك بحفظهم، ويوالي بلحظك أسباب لحظهم، وإن ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله ممتدّة الظّلال، وخيراته ضافية (12) السّربال لولا الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.
__________
(1) في النفح: «وعمّ».
(2) في النفح: «تتوسّم».
(3) في الأصل: «التفاتة» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «آصاله» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «ويمدّ».
(6) في النفح: «أجاري».
(7) في النفح: «روحه».
(8) كلمة «به» غير واردة في النفح.
(9) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(11) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(10) في الأصل: «انتثر»، والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «وارفة».(2/257)
ووقفت من شعره على قصيدة من جملة رسالة، أثبتها وهي (1): [الطويل]
أللبرق يبدو تستطير (2) الجوانح ... وللورق تشدو تستهلّ (3) السّوافح (4)
وقلبي (5) للبرق الخفوق مساعد ... ووجدي (6) للورق الثكالى مطارح
إذا البرق أورى في الظلام زنادي (7) ... فللوجد في زند الصّبابة قادح
وكم وقفة لي حيث مال بي الهوى ... أغادي (8) بها شكوى الجوى وأراوح
تنازعني منها الشّجون (9) فأشتكي ... ويكثر بثّي عندها فأسامح
أبثّ شجوني والحمام يصيخ لي ... ويسعدني فيما تبيح (10) التّبارح
وتطرب أغصان الأراك فتنثني ... إلى صفحة النهر الصّقيل (11) تصافح
فتبتسم الأزهار منها تعجّبا ... فتهدي إليها عرفها وتنافح
كذلك حتى ماد عطف مثقّفي (12) ... وطرفي أبدى هزّة وهو مارح
فلمّا التظى وجدي ترنّم صاهلا ... فقلت: أمثلي يشتكي الوجد نابح (13)؟
صرفت عدوّ البيد أرخو عنانه (14) ... وقلت له: شمّر فإنّي (15) سابح (16)
تهيّأ لقطع البيد واعتسف السّرى ... سيلقاك غيظان بها وممايح (17)
فحمحم لو يسطيع (18) نطقا لقال له (19) ... بمثلي تلقى هذه وتكافح
وحمّلته عزما تعوّد مثله ... فقام به مستقبلا من يناطح
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 161159).
(2) في الأصل: «تسطير» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(3) في الأصل: «وتستهل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(4) في الأصل: «السوابح» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «فقلبي».
(6) في الكتيبة: «وجدّي».
(7) في الكتيبة: «زناده».
(8) في الأصل: «أغاد»، والتصويب من الكتيبة.
(9) في الأصل: «للشجون» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(10) في الكتيبة: «تهيج».
(11) في الأصل: «الثقيل» والتصويب من الكتيبة.
(12) في الأصل: «شغفي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(13) في الكتيبة: «سابح».
(14) في الكتيبة: «صرفت إلى البيداء رخو عنانه».
(15) في الأصل: «فإنني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(16) في الكتيبة: «سائح».
(17) في الكتيبة: «سيلقاك غيطان بها وضحاضح».
(18) في الأصل: «يستطيع» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(19) في الكتيبة: «لي».(2/258)
ويمّمت بيدا لم أصاحب لجوّها (1) ... سوى جلد لا يتّقى منه فاضح (2)
وماضي الغرارين (3) استجدت مضاءه (4) ... إذا جرّدت يوم الجلاد الصّفائح
ومندمج صدق الأنابيب نافذ به ... عند كرّي في الحروب أفاتح
وسرت فلا ألقى سوى الوحش نافرا ... وقد شردت عنّي الظّباء (5) السوانح
تحدّق نحوي (6) أعينا لم يلح لها ... هنالك إنسيّ (7) ولا هو لائح
وقد زأرت أسد تقحّمت غيلها ... فقلت: تعاوت إنها لنوابح
وكم طاف بي للخبر (8) من طائف بها (9) ... فلم أصغ سمعا نحوها وهو صائح
ويعرض لي وجها دميما ومنظرا ... شنيعا له تبدو عليه القبائح
فما راعني منه تلوّن حاله ... بل ايقظ عزمي فانثنى وهو كالح
فلمّا اكتست شمس العشيّ شحوبها ... ومالت إلى أفق الغروب تنازح (10)
تسربلت للإدلاج جنح دجنّة ... فها (11) أنذا غرسي إلى القصد جانح
فخضت (12) ظلام الليل والنّجم شاخص ... إليّ بلحظ (13) طرفه لي لامح
يردّده (14) شزرا إليّ كأنما ... عليّ له حقد به لا يسامح
وراقب من شكل (15) السّماك نظيره ... خلا أنّ شكلي (16) أعزل وهو رامح
يخطّ وميض البرق لي منه أسطرا ... على صفحة الظّلماء فهي لوائح
إذا خطّها ما بين عينيّ لم أزل (17) ... أكلّف دمعي نحوها فهو طامح
وما زلت سرّا في حشا النبل (18) كامنا ... إلى أن بدا من ناسم الصّبح فاتح (19)
__________
(1) في الكتيبة: «لجوبها».
(2) في الكتيبة: «باطح».
(3) الغرار: حدّ السيف.
(4) في الأصل: «مضاه» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الأصل: «في الظّبا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) في الكتيبة: «عندي».
(7) في الأصل: «سنا لك أسنى» والتصويب من الكتيبة.
(8) في الكتيبة: «للجنّ». والخبر: الناقة الغزيرة اللبن. محيط المحيط (غزر).
(9) في الكتيبة: «لها».
(10) في الكتيبة: «تبارح».
(11) في الكتيبة: «فما أبدا عزمي إلى».
(12) في الكتيبة: «وخضت».
(13) في الكتيبة: «بطرف لحظه لي».
(14) في الأصل: «يردّه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(15) في الأصل: «شكلي» والتصويب من الكتيبة.
(16) في الأصل: «الخلا لزمكلي» والتصويب من الكتيبة.
(17) في الكتيبة: «لم يزل».
(18) في الكتيبة: «الليل».
(19) في الكتيبة: «نافح».(2/259)
وهبّ نسيم الصبح فانعطفت (1) له ... قدود غصون قد رقتها صوادح (2)
تجاذبن (3) من ذكري أحاديث لم تزل ... يردّدها منها (4) مجدّ ومازح
وملت إلى التّعريس لما انقضى السّرى ... أروض له نفسي وعزمي جامح
ومال الكرى بي ميلة سكنت لها ... على نصب الوعثاء منّي الجوارح (5)
كم (6) أخذت منه الشّمول بثارها ... فبات يسقّى (7) وهو ريّان طافح
وقرّبت الأحلام لي كلّ مأمل (8) ... فأدنته منيّ وهو في الحقّ نازح
أرتني وجوها لو بذلت لقربها ... حياتي لمن بالقرب منه يسامح
لقلّ لها عمري وما ملكت يدي ... وحدّثت (9) نفسي أنّ تجري (10) رابح
وما زلت أشكو بيننا غصص (11) النّوى ... وما طوّحت بي في الزمان الطوائح
فمنها ثغور للسّرور بواسم ... لقربه (12) ومنها للفراق نوائح
تقرّبها الأحلام منّي ودونها ... مهامه فيها للهجير لوافح
وبحر طمت أمواجه وشآبيب (13) ... وقفر به للسّالكين جوامح (14)
قضيت حقوق الشوق في زورة الكرى (15) ... فإنّ زيارات الكرى لموانح
يقرّبن (16) آمالا تباعد بينها ... وتعبث فيها بالنفوس الطّوامح (17)
فلمّا تولّى عنّي النوم أعقبت (18) ... هموم أثارتها الشّجون فوادح
وعدت إلى شكوى البلاء (19) ولم أزل ... أردّدها والعذر منّي واضح
وما بلّغت عني مشافهة الكرى ... تبلّغها عنّي الرياح اللّواقح (20)
وحسبك قلب في إسار اشتياقه ... وقد أسلمته في يديه الجوانح
__________
(1) في الكتيبة: «فانقطعت».
(2) في الكتيبة: «الصوادح».
(3) في الأصل: «تجاذب ذكرى أحاديث لم أزل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(4) في الأصل: «مني» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «الجوانح».
(6) في الكتيبة: «وكم».
(7) في الأصل: «يشقى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(8) في الكتيبة: «الأحلام كلّ مؤمّل».
(9) في الكتيبة: «وصدفت».
(10) التّجر: من تجر يتجر تجرا وتجارة أي باع وشرى. لسان العرب (تجر).
(11) في الكتيبة: «مضض».
(12) في الكتيبة: «لقربي منها».
(13) في الكتيبة: «وسباسب».
(14) في الكتيبة: «جوائح».
(15) في الأصل: «للكرى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(16) في الأصل: «يقرنّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(17) في الأصل: «للنفوس الطوايح» والتصويب من الكتيبة.
(18) في الكتيبة: «أقبلت».
(19) في الكتيبة: «البعاد».
(20) في الكتيبة: «النوافح».(2/260)
وفاته: قال شيخنا أبو بكر بن شبرين: توفي بسجلماسة في صفر عام ستة عشر وسبعمائة.
محمد بن محمد بن عبد الله بن مقاتل (1)
من أهل مالقة، يكنى أبا بكر.
حاله: من كتاب الإكليل: نابغة (2) مالقية، وخلف وبقيّة، ومغربي الوطن، أخلاقه مشرقيّة. أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود وسواد المفرق (3)، فلمّا توسّطت السفينة اللّجج، وقارعت الثّبج (4)، مال (5) عليها البحر فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضمّ على نوره سوادها، جملة (6) من الطلبة والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كلّ منهم مطيعا، لداعي الرّدى وسميعا، وأحيوا فرادى وماتوا جميعا، فأجروا الدموع حزنا، وأرسلوا العبرات عليهم مزنا. وكأنّ (7) البحر لمّا طمس سبل (8) خلاصهم وسدّها، وأحال (9) هضبة سفينتهم وهدّها، غار على نفوسهم النّفيسة واستردها (10). والفقيه أبو بكر مع إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه إلّا بالقليل التافه، بعد وداعه وانصرافه.
فمن ذلك قوله وقد أبصر فتى عاثرا (11): [الكامل]
ومهفهف هافي المعاطف أحور ... فضحت أشعّة نوره الأقمارا
زلّت له قدم فأصبح عاثرا ... بين الأنام لعا (12) لذاك عثارا
لو كنت أعلم ما يكون فرشت في ... ذاك المكان الخدّ والأشفارا (13)
__________
(1) ترجمة ابن مقاتل في الدرر الكامنة (ج 4ص 313) ونفح الطيب (ج 8ص 371).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 371).
(3) اخضرار العود وسواد المفرق: كنايتان عن الشباب.
(4) الثّبج: الموج. لسان العرب (ثبج).
(5) في النفح: «هال».
(6) في النفح: «من جملة».
(7) في الأصل: «وكان» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «سبيل».
(9) في النفح: «وأهال».
(10) في النفح: «فاستردّها».
(11) هذه المقطوعة في نفح الطيب (ج 8ص 371).
(12) لعا: كلمة دعاء لمن عثر، ومعناها: أنعشه الله.
(13) الأشفار: أهداب العيون. لسان العرب (شفر).(2/261)
وقال متغزّلا (1): [الطويل]
أيا لبني الرّفاء تنضي ظباؤهم ... جفون ظباهم والفؤاد (2) كليم
لقد قطّع الأحشاء منهم مهفهف ... له التّبر خدّ واللّجين أديم
يسدّد إذ يرمي قسيّ حواجب ... وأسهمها من مقلتيه تسوم
وتسقمني عيناه وهي سقيمة ... ومن عجب سقم جناه سقيم
ويذبل جسمي في هواه صبابة ... وفي وصله للعاشقين نعيم
وفاته: توفي في حدود أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعمائة غريقا بأحواز الغبطة من ساحل ألمريّة.
محمد بن أحمد بن أحمد بن صفوان القيسي
ولد الشيخ أبي الطاهر، من أهل مالقة.
من كتاب الإكليل: نبيل فطن، متحرك ذهن، كان أبوه، رحمه الله، يتبرّم بجداله، ويخشى مواقع رشق نباله، ويشيم بأرقّ الاعتراض في سؤاله، فيشفق من اختلال خلاله، إذ طريقه إنما هي أذواق لا تشرح، وأسرار لا تفضح. وكان ممن اخترم، وجدّ حبل أمله وصرم، فأفل عقب أبيه، وكان له أدب يخوض فيه.
فمن ذلك، وقد أبصر فتى وسيما على ريحانه: [البسيط]
بدر تجلّى على غصن من الآس ... يبري ويسقم فهو الممرض الآسي
عادى المنازل إلّا القلب منزلة ... فما له وجميع الناس من ناس
وقال:
يا عالما بالسّرّ والجهر ... وملجأي في العسر واليسر
جد لي بما أملته منك ... مولاي (3) واجبر بالرّضا كسري
وفاته: في عام خمسة وسبعمائة.
محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي (4)
من أهل ألمريّة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بنسبه، وقد مرّ ذكر أبيه في العمّال.
__________
(1) المقطوعة في نفح الطيب (ج 8ص 372371).
(2) في النفح: «فالفؤاد».
(3) في الأصل: «يا مولاي» وكذا ينكسر الوزن.
(4) ترجمة البلوي في نفح الطيب (ج 8ص 197).(2/262)
حاله: هذا (1) الرجل من أبناء النّعم، وذوي البيوتات، كثير السكون والحياء، آل به ذلك أخيرا للوثة (2) لم يستفق منها، لطف الله به. حسن الخطّ، مطبوع الأدب، سيّال الطبع، معينه. وناب عن بعض القضاة، وهو الآن رهين ما ذكر، يتمنّى أهله وفاته (3)، والله وليّ المعافاة بفضله (4).
وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (5): من أولي الخلال (6) البارعة والخصال، خطّا رائقا، ونظما بمثله لائقا، ودعابة يسترها تجهّم، وسكوتا (7) في طيّه إدراك وتفهّم. عني بالرواية (8) والتقييد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة ثبتت (9) في السّرو عروقها، وتألّقت في سماء المجادة بروقها، وتصرّف بين النيابة في الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العملية (10) المرعية.
شعره: ومن شعره فيما خاطبني به، مهنئا في إعذار أولادي، أسعدهم الله، افتتح ذلك بأن قال:
قال يعتذر عن خدمة الإعذار، ويصل المدح والثناء على بعد الدار، وذلك بتاريخ الوسط من شعبان في عام تسعة وأربعين وسبعمائة (11): [الكامل]
لا عذر لي عن خدمة الإعذار (12) ... ولئن (13) نأى وطني وشطّ مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه ... تقضي الأماني (14) عادة الأعصار
قد كنت أرغب أن أفوز (15) بخدمتي ... وأحطّ رحلي (16) عند باب الدار
بادي (17) المسرّة بالصنيع (18) وأهله ... متشمّرا فيه بفضل إزاري (19)
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 197).
(2) في النفح: «إلى لوثة». واللّوثة: اختلاط في العقل يشبه الجنون. لسان العرب (لوث).
(3) في النفح: «موته».
(4) كلمة «بفضله» غير واردة في النفح.
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 198).
(6) في النفح: «الاتصال».
(7) في النفح: «وسكونا».
(8) في النفح: «بالدراية».
(9) في النفح: «نبتت».
(10) في النفح: «العلمية».
(11) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 197196).
(12) الإعذار: طعام يتخذ لسرور حادث. لسان العرب (عذر).
(13) في الأصل: «وإن» والتصويب من النفح.
(14) في الأصل: «نقض الأمان» والتصويب من النفح.
(15) في الأصل: «أفوت».
(16) في الأصل: «وأخطر حلّي».
(17) في الأصل: «باب» والتصويب من النفح.
(18) في الأصل: «بالضبع» وكذا لا يستقيم المعنى.
(19) في الأصل: «إزار» بدون ياء، والتصويب من النفح.(2/263)
من شاء أن يلقى الزمان وأهله ... ويرى جلا الإشعاع في الأفكار (1)
فليأت حيّ ابن الخطيب ملبّيا ... فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضمّ من صيد (2) كرام فضلهم (3) ... يسمو ويعلو في ذوي الأقدار
إن جئت ناديه فنب (4) عنّي وقل ... نلت المنى بتلطف ووقار
يا من له الشرف القديم ومن له ال ... حسب الصميم العدّ يوم فخار
يهنيك ما قد نلت من أمل به ... في الفرقدين النّيّرين لساري (5)
تجلاك قطبا كلّ تجر (6) باذخ ... أملان مرجوّان في الإعسار (7)
عبد الإله وصنوه قمر العلا ... فرعان من أصل زكا ونجار (8)
ناهيك من قمرين في أفق العلا ... ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة (9) معرق (10) في مجده ... جمّ الفضائل طيّب الأخبار
رقّت طبائعه وراق جماله ... فكأنما خلقا من الأزهار
وحلت (11) شمائل حسنه فكأنما ... خلعت عليه رقّة الأسحار
فإذا تكلّم قلت طلّ (12) ساقط ... أو وقع درّ من نحور جواري
أو فتّ مسك الحبر (13) في قرطاسه ... بالروض (14) غبّ الواكف المدرار
تتبسّم (15) الأقلام بين بنانه ... فتريك نظم الدرّ في الأسطار (16)
فتخال من تلك البنان كمائما ... ظلّت (17) تفتّح ناضر النّوّار
تلقاه فيّاض الندى متهلّلا ... يلقاك بالبشرى والاستبشار
__________
(1) في النفح: ويرى جلالا شاع في الأقطار.
(2) في الأصل: «جيد» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «قدرهم».
(4) في الأصل: «إذ حيث ناديه فقف» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «يسار» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «مجد».
(7) في الأصل: «الاعتبار» والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «وبحار» والتصويب من النفح. والنّجار: الأصل. لسان العرب (نجر).
(9) الأرومة: أصل الشجرة ويستعار للحسب. محيط المحيط (أرم).
(10) في الأصل: «مغرق» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «وجلّت»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) في الأصل: «ظلّ» والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «حبر المسك».
(14) في النفح: «فالروض».
(15) في الأصل: «تتّسم» والتصويب من النفح.
(16) في النفح: «الأمطار».
(17) في الأصل: «كأنما نهلت» والتصويب من النفح.(2/264)
بحر البلاغة قسّها وأيادها ... سحبانها خبر من الأخبار (1)
إن ناظر العلماء فهو إمامهم ... شرف المعارف، واحد النّظّار
أربى على العلماء بالصّيت الذي ... قد طار (2) في الآفاق كل مطار
ما ضرّه إن لم يجيء متقدّما ... بالسّبق (3) يعرف آخر المضمار
إن كان أخّره الزمان لحكمة ... ظهرت وما خفيت كضوء نهار
الشمس تحجب وهي أعظم نيّر (4) ... وترى من الآفاق إثر دراري
يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ... بكرا تزفّ لكم من الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا ... قد طيّبت بثنائك المعطار
وأتت (5) تؤدّي بعض حقّ واجب ... عن نازح الأوطان والأوطار (6)
مدّت يد التّطفيل نحو علاكم ... فتوشّحت (7) من جودكم (8) بنضار
فابذل لها في النّقد صفحك إنها ... تشكو من التّقصير (9) في الأشعار
لا زلت في دعة وعزّ دائم ... ومسرّة تترى (10) مع الأعمار (11)
ومن السّلطانيات قوله من قصيدة نسيبها: [الطويل]
تبسّم ثغر الدهر في القضب الملد ... فأذكى الحياء (12) خجلة وجنة الورد
ونبّه وقع الطّلّ ألحاظ نرجس ... فمال إلى الوسنان، عاد إلى الشّهد (13)
وثمّ لسبر (14) الروض في مسكة الدّجى ... نسيم شذا الخير كالمسك والنّدّ
وغطّى ظلام الليل حمرة أفقه ... كما دار مسودّ العذار على الخدّ
وباتت قلوب الشّهب تخفق رقّة ... لما حلّ بالمشتاق من لوعة الوجد
وأهمى عليه الغيم أجفان مشفق ... يذكّره (15) فاستمطر الدّمع للخدّ
__________
(1) في النفح: «حبر من الأحبار».
(2) في الأصل: «كان» والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «السّبق» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «تبر» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «وأنت» والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «الإمكان والأفكار» والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «فتوحّشت» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «حليكم».
(9) في الأصل: «شكوى التقصير» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) تترى: متتابعة. محيط المحيط (ترى).
(11) في الأصل: «الأعصار» والتصويب من النفح.
(12) في الأصل: «الحيا»، وكذا ينكسر الوزن.
(13) في الأصل: «فمال الوسنان وعاد إلى الشهد» وكذا ينكسر الوزن.
(14) في الأصل: «سبر» وكذا ينكسر الوزن.
(15) في الأصل: «بذكره» وكذا يختل الوزن.(2/265)
ومنها:
كأن (1) لم أقف في الحيّ وقفة عاشق ... غداة افترقنا والنّوى رندها يعدي (2)
وناديت حادي العيس عرّج لعلّني ... أبثّك وجدي إن تمرّ على نجد
فقال اتّئد يا صالح ما لك ملجأ ... سوى الملك المنصور في الرّفق والرّفد
وممّا خاطبني به قوله: [الخفيف]
علّلوني ولو بوعد محال ... وحلّوني ولو بطيف خيال
واعلموا أنني أسير هواكم ... لست أنفكّ إنما (3) عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب ... وفؤادي من سحركم في اشتغال
يا أهيل الحمى كفاني غرامي ... حسبي (4) ما قد جرّ (5) ال
من مجيري من لحظ ريم ظلوم ... حلّل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطّرف أسمر الجفن مني ... طال منه الجوى بطول الليالي (6)
بابليّ اللّحاظ أصمى فؤاده ... ورماه من غنجه بنبال
وكسا الجسم من هواه نحولا ... قصده في النّوى بذاك النحال
ما ابتدا في الوصال يوما بعطف ... مذ روى في الغرام باب اشتغال
ليس لي منه في الهوى من مخبر ... غير تاج العلا وقطب الكمال
علم الدين عزّه وسناه ... ذروة المجد بدر أفق الجلال
هو غيث النّدى وبحر العطايا ... هو شمس الهدى فريد المعالي (7)
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا ... صفحة الطّرس حلّيت باللآلي (8)
أو دجا الخطب فهو فيه شهاب ... راية الصبح في ظلال (9) الضلال
أو يني العضب فهو في الأمن ماض ... صادق العزم ضيق المجال
لست تلقى مثاله في زمان ... جلّ في الدّهر يا أخي عن مثال
قد نأى حبّي ما (10) له عن دياري ... لا لجدوى ولا لنيل نوال
__________
(1) في الأصل: «كأني» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «يعدّ»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «إلّا» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «حسبي بما» وكذا ينكسر الوزن.
(5) بياض في الأصل.
(6) في الأصل: «الليال» بدون ياء.
(7) في الأصل: «المعال» بدون ياء.
(8) في الأصل: «باللآل» بدون ياء.
(9) في الأصل: «ظلل» وكذا ينكسر الوزن.
(10) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.(2/266)
لكن اشتقت أن أرى منه وجها ... نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفّا ... قد أتت بالنّوال قبل السؤال
سأل (1) ابن الخطيب عذرا أجابت ... تلثم النّعل قبل شسع (2) النعال
وتوفّي حقّ الوزارة عمن ... هو ملك لها على كل حال
محمد بن محمد بن الشّديد (3)
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: ذكر في الإكليل بما نصّه (4): شاعر مجيد حوك الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام. رحل إلى الحجاز لأوّل أمره فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه، وعمّيت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطّه غرضها نبيل، ومرعاها غير وبيل، تدلّ على نفس ونفس، وإضاءة قبس، وهي: [الوافر]
لنا في كلّ مكرمة مقام ... ومن فوق النجوم لنا مقام
روينا من مياه المجد لمّا ... وردناها وقد كثر الزحام
ومنها:
فنحن هم وقل لي من سوانا ... لنا التّقديم قدما والكلام
لنا الأيدي الطّوال بكلّ ضرب (5) ... يهزّ به لدى الروع الحسام
ونحن اللّابسون لكلّ درع ... يصيب السّمر (6) منهنّ انثلام
بأندلس لنا أيام حرب ... مواقفهنّ في الدنيا عظام
ثوى (7) منها قلوب الرّوم خوفا (8) ... يخوّف منه في المهد الغلام
حمينا جانب الدين احتسابا ... فها هو لا يهان ولا يضام
وتحت الراية الحمراء منّا ... كتائب لا تطاق ولا ترام
بنو نصر وما أدراك ما هم ... أسود الحرب والقوم الكرام
__________
(1) في الأصل: «سألها» وكذا ينكسر الوزن.
(2) الشّسع: قبال النّعل. محيط المحيط (شسع).
(3) ترجمة ابن الشديد في نفح الطيب (ج 8ص 372).
(4) النص مع القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 373372).
(5) في النفح: «صوب».
(6) في الأصل: «الشّمس» والتصويب من النفح لأن كلمة «السّمر» أنسب للمعنى.
(7) ثوى: أقام. لسان العرب (ثوى).
(8) في النفح: «خوف».(2/267)
لهم في حربهم فتكات عمرو ... فللأعمار عندهم انصرام
يقول: عداتهم مهما ألمّوا ... أتونا ما من الموت اعتصام
إذا شرعوا الأسنّة يوم حرب ... فحقّق أنّ ذاك هو الحمام
كأنّ رماحهم فيها نجوم ... إذا ما أشبه الليل الغمام (1)
أناس تخلف الأيام ميتا ... بحيّ منهم فلهم دوام
رأينا من أبي الحجاج شخصا ... على تلك الصفات له قيام
موقّى العرض محمود السجايا ... كريم الكفّ مقدام همام
يجول بذهنه في كلّ شيء ... فيدركه وإن عزّ المرام
قويم الرأي في نوب الليالي ... إذا ما الرأي فارقه القوام
له في كلّ معضلة مضاء ... مضاء الكفّ ساعده (2) الحسام
رؤوف قادر يغضي ويعفو ... وإن عظم اجتناء واجترام
تطوف ببيت سؤدده القوافي ... كما قد طاف بالبيت الأنام
وتسجد في مقام علاه شكرا ... ونعم الرّكن ذلك والمقام
أفارسها إذا ما الحرب أخنت (3) ... على أبطالها ودنا الحمام
وممطرها إذا ما السّحب كفّت ... وكفّ أخي الندى أبدا غمام
لك الذكر الجميل بكلّ قطر ... لك الشرف الأصيل المستدام
لقد جبنا (4) البلاد فحيث سرنا ... رأينا أنّ ملكك لا يرام
فضلت ملوكها شرقا وغربا ... وبتّ لملكها يقظا وناموا (5)
فأنت لكلّ معلوّة مدار ... وأنت لكلّ مكرمة إمام
جعلت بلاد أندلس إذا ما ... ذكرت تغار مصر والشآم
مكان أنت فيه مكان عزّ ... وأوطان حللت بها كرام
وهبتك من بنات الفكر بكرا ... لها من حسن لقياك ابتسام
فنزّه طرف مجدك في حلاها ... فللمجد الأصيل بها اهتمام
__________
(1) في النفح: «القتام».
(2) في النفح: «ساعدها».
(3) أخنت على أبطالها: أتت عليهم وأهلكتهم. لسان العرب (خنا).
(4) في الأصل: «جينا» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «ونام» والتصويب من النفح.(2/268)
محمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن مجاهد ابن أبي الخصال الغافقي (1)
الإمام البليغ، المحدّث الحجّة، يكنى أبا عبد الله. أصله من فرغليط من شقورة، من كورة جيّان، وسكن قرطبة وغرناطة.
حاله: قال ابن الزّبير عند ذكره: ذو الوزارتين، أبو عبد الله بن أبي الخصال.
كان من أهل المعارف الجمّة، والإتقان لصناعة الحديث، والمعرفة برجاله، والتقييد لغريبه، وإتقان ضبطه، والمعرفة بالعربية واللغة والأدب، والنّسب والتاريخ، متقدما في ذلك كله. وأما الكتابة والنظم، فهو إمامهما المتفق عليه، والمتحاكم فيهما إليه.
ولما ذكره أبو القاسم الملّاحي بنحو ذلك قال: لم يكن في عصره مثله، مع دين وفضل وورع.
قال أبو عمرو ابن الإمام الإستجّي في سمط الجمان، لما ذكره: البحر الذي لا يماتح ولا يشاطر، والغيث الذي لا يساجل ولا يقاطر، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر، والطّود الذي لا يزاحم ولا يخاطر، الذي جمع أشتات المحاسن، على ماء غير ملح ولا آسن وكثرت فواضله، فأمنت المماثل والمحاسن، الذي قصرت البلاغة على محتده، وألقيت أزمة الفصاحة في يده، وتشرّفت الخطابة والكتابة باعتزائهما إليه، فنثل كنانتها، وأرسل كمائنها، وأوضح أسرارها ودفائنها، فحسب الماهر النّحرير، والجهبذ العلّامة البصير إذا أبدع في كلامه، وأينع في روض الإجادة نثاره ونظامه، وطالت قنى الخطيّة الذبل أقلامه، أن يستنير بأنواره، ويقتضي بعض مناهجه وآثاره، وينثر على أثوابه مسك غباره، وليعلم كيف يتفاضل الخبر والإنشاء، ويتلو إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وعضّه العقور أبو نصر في قلائده، حيث قال (2): «هو وإن كان خامل المنشأ نازله، لم ينزله المجد منازله، ولا فرّع للعلاء هضابا، ولا ارتشف للسّنا رضابا، فقد تميّز بنفسه، وتحيّز من أبناء (3) جنسه، وظهر بذاته، وفخر بأدواته».
__________
(1) يكنى ابن أبي الخصال أبا عبد الله، وترجمته في المعجب (ص 237، 240) والذخيرة (ق 3 ص 786) وقلائد العقيان (ص 174) والمطرب (ص 187) وبغية الملتمس (ص 131) والصلة (ص 854) ورايات المبرزين (ص 188) والمعجم في أصحاب القاضي الصدفي (ص 152) والمغرب (ج 2ص 66) والمقتطف من أزاهر الطرف (ص 87، 89) وبغية الوعاة (ص 104).
(2) قلائد العقيان (ص 174).
(3) كلمة «أبناء» ساقطة في القلائد.(2/269)
مشيخته: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في الصلة (1): روى عن الغساني، والصّدفي، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي عمران بن تليد، وأبي بحر الأسدي، وأبي عبد الله النّفزي، وجماعة غيرهم.
تواليفه: قال الأستاذ: وأمّا كتبه وشعره وتواليفه الأدبية، فكل ذلك مشهور، متداول بأيدي الناس، وقلّ من يعلم بعده، أن يجتمع له مثله، رحمه الله.
من روى عنه: روى عنه ابن بشكوال، وابن حبيش، وابن مضاء وغيرهم، وكل ذلك ذكره في رحاله، وهو أعرف بتقدّمه في احتفاله.
شعره: وله شعر كثير، فمن إخوانياته ما خاطب به أبا إسحاق بن خفاجة:
[الكامل]
هبّ النسيم هبوب ذي إشفاق ... يذهبن الهوى بجناحه الخفّاق
وكأنما صبح الغصون بنشوة ... باحت لها سرائر العشاق
وإذا تلاعبت الرياح ببانه ... لعب الغرام بمهجة المشتاق
مه يا نسيم فقد كبرت عن الصّبا ... لم يبق من تلك الصّبابة باق
إن كنت ذاك فلست ذاك ولا ... أنا قد أذنت (2) مفارقي بفراق
ولقد عهدت سراك من عدد الهوى ... والموت في نظري وفي استنشاق
أيام لو عنّ السّلوّ لخاطري ... قرّبته هديا (3) إلى أشواقي (4)
الهوى إلفي والبطالة مركبي ... والأمن ظلّي والشباب رواقي (5)
في حيث قسّمت المدامة قسمة ... ضيزى (6) لأن السكر من أخلاقي (7)
لا ذنب للصّهباء أني غاصب ... ولذاك قام السكر باستحقاق
ولقد صددت الكأس فانقبضت بها ... من بعدها انبسطت يمين السّاقي
وتركت في وسط النّدامى خلّة ... هامت بها الوسطى من الأعلاق
فاستسرفوني مذكرين وعندهم ... أنى أدين اللهو دين نفاق
وحبابها نفث الحباب وربما ... سدكت يد الملسوع منه براق
__________
(1) المراد «صلة الصلة».
(2) في الأصل: «أذنتك» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) الهدي: ما يهدى إلى الحرم من النّعم. لسان العرب (هدى).
(4) في الأصل: «أشواق».
(5) في الأصل: «رواق».
(6) القسمة الضّيزى: الناقصة الجائرة. محيط المحيط (ضاز).
(7) في الأصل: «من أخلاق».(2/270)
وكأنه لما توقّر فوقها (1) ... نور تجسّم من ندى الأحداق
لو بارح نفح النّوى في روضة ... فأثارها وسرى عن الأحداق
ولقد جلوا والله يدرأ كيدهم ... فتّانة الأوصاف والأعراق
أغوى بها إبليس قدما آدم (2) ... والسّرّ يرمى في هواها الباقي (3)
تالله أصرف نحوها وجد الرضا ... لو شعشعت برضا أبي إسحاق
ومن نسيبه (4): [المنسرح]
وليلة عنبريّة الأفق ... رويت فيها السرور من طرق
وكنت حرّان فاقتدحت بها ... نارا من الرّاح برّدت حرقي (5)
وافت (6) بها (7) عاطلا وقد لبست ... غلالة فصّلت من الحدق
فاجا (8) بها الدهر من بنيه دجى (9) ... لقيته كالإصباح في نسق (10)
قامت لنا في المقام أوجههم ... وراحهم بالنجوم والشّفق
وأطلع (11) البدر من ذرى غصن ... تهفو عليه القلوب كالورق
من عبد شمس بدا سناه وهل ... ذا (12) النور (13) إلّا لذلك (14) الأفق
مدّ بحمراء من مدامته ... بيضاء كفّ (15) مسكيّة العبق
فخلتها وردة منعّمة ... تحمل من سوسن على طبق
__________
(1) في الأصل: «من فوقها» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «أدما».
(3) في الأصل: «وهي السّر يرتمي في هواها الباق».
(4) القصيدة في المغرب (ج 2ص 67) والذخيرة (ق 3ص 793).
(5) في الأصل: «حرق».
(6) في الذخيرة: «حلّت».
(7) في المصدرين: «بنا».
(8) في الأصل: «فأجا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المغرب. وفي الذخيرة: «فجاءها الدهر». وفاجا: أي: فاجأ، وقد خففها لكي لا ينكسر الوزن.
(9) في الذخيرة: «هوى».
(10) رواية عجز البيت في المصدرين هي: بفتية كالصباح في نسق.
(11) في المغرب: «واطّلع».
(12) في الأصل: «ذاك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(13) في المغرب: «البدر».
(14) في الأصل: «لذاك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(15) في الذخيرة: «كفّا».(2/271)
يشرب في الراح حين يشربها (1) ... ما غادرت مقلتاه من رمق (2)
وقال (3): [المنسرح]
يا حبذا ليلة لنا سلفت ... أغرت بنفسي الهوى وما (4) عرفت
دارت بظلمائها المدام فكم ... نرجسة من بنفسج قطفت
وقال في مغنّ زار، بعده أغبّ وشطّ المزار (5): [الكامل]
وافى وقد عظمت عليّ ذنوبه ... في غيبة قبحت بها آثاره
فمحا إساءته لنا (6) إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وقال يعتذر عن استبطاء مكاتبة (7): [الطويل]
ألم تعلموا (8) والقلب رهن لديكم ... يخبّركم (9) عني بمضجره (10) بعدي؟
فلو (11) قلّبتني (12) الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفري وأوطأتها (13) خدّي
ألم تعلموا أني وأهلي وواحد (14) ... فداء (15) ولا أرضى بتفدية (16) وحدي؟
ومن قوله في غرض المدح يخاطب تاشفين بن علي، ويذكر الوقعة بكركى، يقول فيها: [البسيط]
الله أعطاك فتحا غير مشترك ... وردّ عزمك عن فوت إلى درك
__________
(1) في الأصل: «نشرت حين نشرتها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين، وجاء في الذخيرة: «بالراح» بدل: «في الراح».
(2) في المغرب: «من رمقي».
(3) البيتان في الذخيرة (ق 3ص 794793). وبغية الوعاة (ص 105).
(4) في الذخيرة: «وقد».
(5) البيتان في قلائد العقيان (ص 175) وبغية الملتمس (ص 131) والمطرب (ص 187) والذخيرة (ق 3ص 796).
(6) في الذخيرة: «بنا».
(7) الأبيات في قلائد العقيان (ص 177) والمطرب (ص 188) والذخيرة (ق 3ص 797).
(8) في الذخيرة: «ألم تسألوا».
(9) في الذخيرة: «فيخبركم».
(10) في المصادر: «بمضمره».
(11) في القلائد والمطرب: «ولو».
(12) في المطرب والذخيرة: «قبلتني».
(13) في الأصل: «واودلّاتها». والتصويب من المصادر الثلاثة.
(14) في المصادر: «وواحدي».
(15) في الأصل: «فدا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(16) في المطرب: «بتقدمتي».(2/272)
أرسل عنان جواد أنت راكبه ... واضمم يديك ودعه في يد الملك
حتى يصير إلى الحسنى على ثقة ... يهدي سبيلك هاد غير مؤتعك
قد كان بعدك للأعداء مملكة ... حتى استدرّت عليهم كورة الفلك
سارت بك الجرد (1) أو طار الفضاء (2) بها ... والحين قد قيّد الأعداء في شرك
فما تركت كميّا غير منعفر ... ولا تركت نجيعا غير منسفك
ناموا وما نام موتور على حنق ... أسدى إذا فرصة ليست (3) من السلك
فصبّحتهم جنود الله باطشة ... والصبح من عبرات الفجر في مسك
من كل مبتدر كالنّجم منكدر ... تفيض أنفسهم غيظا من المسك
فطاعنوكم بأرماح وما طعنت ... وضاربوكم بأسياف ولم تحك
تعجّل النّحر فيهم قبل موسمه ... وقدّم الهدي منهم كلّ ذي نسك
فالطير عاكفة والوحش واقفة ... قد أثقلتها لحوم القوم عن حرك
عدت على كل عاد منهم أسر ... بعثن (4) في حنجر (5) رحب وفي حنك
كلي هنيئا مريئا واشكري ملكا ... قرتك أسيافه في كل معترك
فلو تنضّدت الهامات إذ نشرت ... بالقاع للغيظان بالنّبك
أبرح وطالب بباقي الدهر ماضيه ... فيوم بدر أقامه الفيء في فدك
وكم مضى لك من يوم بنت له ... في ماقط برماح الحظّ مشتبك
بالنّقع مرتكم بالموت ملتئم ... بالبيض مشتمل بالشمر محتبك
فحص القباب إلى فحص الصعاب ... إلى أريولة مداسات إلى السّكك
وكم على حبر محمود وجارته ... للرّوم من مرتكل غير متّرك
وفّيت للصّفر حتى قيل قد غدروا ... سموت تطلب نصر الله بالدّرك
فأسلمتهم إلى الإسلام غدوتهم ... وأذهب السيف ما بالدّن من حنك
يا أيها الملك السامي بهمّته ... إلى رضى الله لا تعدم رضى الملك
ما زلت تسمعه بشرى وتطلعه ... أخرى كدرّ على الأجياد منسلك
بيّضت وجه أمير المؤمنين بها ... والأرض من ظلمة الإلحاد في حلك
__________
(1) الجرد: جمع أجرد وهو الفرس السبّاق. محيط المحيط (جرد).
(2) في الأصل: «الفضا» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) كلمة «ليست» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «بعثّه» وهكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) المراد الحنجرة وهي الحلقوم.(2/273)
فاستشعر النّصر واهتزّت منابره ... بذكر أروع للكفار محتنك
فأخلدك ولمن والاك طاعته ... خلود برّ بتقوى الله ممتسك
وافيت والغيث زاخر قد بكى طربا ... لمّا ظفرت وكم بلّله من الضّحك
وتمّم الله ما أنشأت من حسن ... بكل منسبك منه ومنتمك
وعن قريب تباهي الأرض من زهير ... سماها بها غضّة الحبك
فعد وقد واعتمد واحمد وسد وأبد ... وقل وصل واستطل واستول وانتهك
وحسبك الله فردا لا نظير له ... تغنيك نصرته عن كل مشترك
ومن قوله في غرض الرثاء، يرثي الفقيد أبا الحسن بن مغيث (1): [البسيط]
الدهر ليس على حرّ بمؤتمن
وأيّ علق تخطّته يد الزمن
يأتي العفاء (2) على الدنيا وساكنها
كأنه (3) أدبر لم يسكن إلى سكن
يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط (4)
هلّا بكيت فراق الرّوح للبدن؟
نور (5) تقيّد (6) في طين (7) إلى أجل
وانحاز (8) علوا (9) وخلّى الطين في الكفن (10)
كالطير في شرك يسمو إلى درك
حتى تخلّص من سقم ومن درن
إن لم يكن في رضى الله اجتماعهما
فيا لها صفقة تمّت على غبن (11)
__________
(1) وردت من هذه القصيدة فقط الأبيات الثالث والرابع والسادس والسابع في المعجب (ص 313 314) منسوبة إلى ابن طفيل، صاحب رسالة «حي بن يقظان».
(2) في الأصل: «العفا» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «كأن» وكذا ينكسر الوزن.
(4) الشّحط: البعد.
(5) النور: كناية عن الروح.
(6) في المعجب: «تردّد».
(7) الطين: كناية عن البدن.
(8) في المعجب: «فانحاز».
(9) في الأصل: «عنوا»، والتصويب من المعجب.
(10) في المعجب: «الكفن».
(11) في الأصل: «الله التقي وهما فيا لها صفقه بثّت على دغن»، والتصويب من المعجب.
والغبن: الخطأ.(2/274)
يا شدّ ما افترقا من بعد ما اعتنقا (1)
أظنّها محرقة (2) كانت على دخن (3)
وربّ سار إلى وجه يسرّ به
وافى وقد نبت المرعى على الدّمن
أتى إلى الله لا سمع ولا بصر
يدعو إلى الرّشد أو يهدي إلى السّنن
في كل يوم فراق لا بقاء له
من صاحب كرم أو سيّد قمن
أعيا أبا حسن فقد الذين مضوا
فمن لنا بالذي أعيا أبا حسن
كأنّ البقية في قوم قد انقرضوا
فهاج ما شاء ذاك القرن من شجن
يعدّ فدا وفي أثوابه رمز من
كل ذي خلق عمرو وذي فطن
وإنّ من أوجدتنا كلّ مفتقد
حياته لعزيز الفقد والظّعن
من للملوك إذا خفّت حلومهم
بما يقاوم ذاك الطيش من سكن
ومنها:
يا يونس لا تسر أصبحنا لوحشتنا ... نشكو اغترابا وما بنّا عن الوطن
ويا مطاعا مطيعا لا عناد له ... في كل أمر على الإسلام مؤتمن
كم خطت كارتجاج البحر مبهمة ... فرّجتها بحسام سلّ من لسن
طود المهابة في الجلا وإن جذبت ... عنانه خلوة هزّت ذرى وتر
أكرم به سببا تلقى الرسول به ... لخمس واردة في الفرض والسّنن
ناهيك من منهج سمّ القصور به ... هوى فمن قدر عال إلى فدن
من كل وادي التّقى يسقى الغمام به ... فيستهل شروق الضّرع باللبن
تجمّلت بك في أحسابها مضر ... وأصل مجدك في جرثومة اليمن
__________
(1) في المعجب: «اعتلقا». وألف الاثنين يعود إلى الروح والبدن.
(2) في المعجب: «هدنة».
(3) الدّخن: الفساد.(2/275)
من دولة حولها الأنصار حاشدة ... في طامح شامخ الأركان والقنن
من الذين هم رووا وهم نصروا ... من عيسة الدّين لا من جذوة الفتن
إن يبد مطّلع منهم ومستمع ... فارغب بنفسك عن لحظ وعن أذن
ما بعد منطقه وشي ولا زهر ... ولا لأعلاق ذاك الدّرّ من ثمن
أقول وفينا فضل سؤدده ... أستغفر الله ملء السّر والعلن
محمد ومغيث نعم ذا عوضا ... هما سلالة ذاك العارض الهتن
تقيّلا هديه في كل صالحة ... نصر السّوابق عن طبع وعن مرن
ما حلّ حبوته إلّا وقد عقدا ... حبا بما اختار من أيد ومن منن
غرّ الأحبّة عند حسن عهدهما ... وإن يؤنس في الأثواب والجنن
علما وحلما وترحيبا وتكرمة ... للزائرين وإغضاء على زكن
يا وافد الغيث أوسع قبره نزلا ... وروما حول ذاك الدّيم من ثكن
وطبق الأرض وبلا في شفاعته ... فنعم رائد ذاك الرّيف واليمن
وأنت يا أرض كوني مرّة بأبي ... مثوى كريم ليوم البعث مرتهن
وإن تردّت بترب فيك أعظمه ... فكم لها في جنان الخلد من ردن
ومن شعره قوله مخمّسا، كتب بها، وقد أقام بمراكش يتشوق إلى قرطبة:
[الطويل]
بدت لهم بالغور والشّمل جامع ... بروق بأعلام العذيب لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... وربّ غرام لم تنله المسامع
أذاع بها من فيضها لا يصوّب (1)
ألا في سبيل الشّوق قلب مؤثّل ... بركب إذا شاء والبروق تحمل
هو الموت إلّا أنني أتحمّل ... إذا قلت هذا منهل عزّ منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب
أبى الله إمّا كلّ بعد فثابت ... وإما دنوّ الدار منهم ففائت
ولا يلفت البين المصمّم لافت ... ويا ربّ حيّ البارق المتهافت
غراب بتفريق الأحبّة ينعب
__________
(1) في الأصل: «فيضها التصويب» وهكذا ينكسر الوزن، ولا تتلاءم القافية مع التي تلتها.(2/276)
خذوا بدمي ذاك الوسيق المضرّجا ... وروضا بغيض العاشقين تأرّجا
عفى الله عنه قاتلا ما تحرّجا ... تمشّى الرّدى في نشره وتدرّجا
وفي كل شيء للمنيّة مذهب
سقى الله عهدا قد تقلّص ظلّه ... حيا قطره يحيى الربا مستهلّه
وعى به شخصا كريما أجلّه ... يصحّ فؤادي تارة ويعلّه
ويلمّه بالذكر طورا ويشعب
رماني على قرب بشرخ ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكائه
وغصّت بأدنى شعبة من سمائه ... شعابي وجاء (1) البحر في غلوائه
فكلّ بقرب (2) ردع خدّيه يركب
ألم يأته أنّى ركنت قعودا ... وأجمعت عن وفز الكلام قعودا
ولم أعتصر للذّكر بعدك عودا ... وأزهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب
على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكّرت روضا بالعقاب مريعا
وتملأ الشعب المذحجي جميعا ... وسربا بأكناف الرّصافة ريعا
وأحداق عين بالحمام تقلّب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النّخل ... بحيث تجافى الطود عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنه للملك قام على رجل
يقيه تباريح الشمال ويحجب
فكم وجع (3) ينتابه برسيسه ... ويرتحل الفتى بأرجل عيسه
أبق أمّ عمرو في بقايا دريسه ... كسحق اليماني معتليه نفيسه
فرقعته تسبي القلوب وتعجب
وبيضاء للبيض البهاليل تعتزي (4) ... وتعتزّ بالبان جلالا وتنتزي
سوى أنها بعد الصّنيع المطرّز ... كساها البلى والثّكل أثواب معوز
يبكي وتبكي للزائرين وتندب
__________
(1) في الأصل: «وجا» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «قرب» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «توجّع» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «تعتزيه».(2/277)
وكم لك بالزّهراء من متردّد ... ووقفة متّسق المجامع مقصد
يسكن من خفق الجوانح باليد ... ويهتك حجب النّاصر بن محمد
ولا هيبة تخشى هنالك وترهب
لنعم مقام الخاشع المتنسّك ... وكانت في محلّ العبشمين المملّك
متى يورد النّفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعّب
قصور كان الماء يعشق مبناها ... فطورا يرى تاجا بمفرق أعلاها
وطورا يرى خلخال أسوق سفلاها ... إذا زلّ وهنا عن ذوائب يهواها
يقول هوى بدرا أو انقضّ كوكب
أتاها على رغم الجبال الشّواهق ... وكلّ منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصّدر منه بعانق ... فأودع في أحشائها والمفارق
حسابا بأنفاس الرياح يذرب
هي الخود من قرن إلى قدم حسنا ... تناصف أقصاها جمالا مع الأدنى
ودرج كأفلاك (1) مبنى على مبنى ... توافقن في الإتقان واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعّب
فأين الشّموس الكالفات بها ليلا ... وأين الغصون المائسات بها ميلا
وأين الظّباء (2) السابحات بها ذيلا ... وأين الثّرى رجلا وأين الحصا خيلا
فوا عجبا لو أن من يتعجّب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم فاوحت فيها الرّياض المجامرا
وكم ساهرت فيها الكواكب سامرا ... وكم قد أجاب الطير فيها المزامرا
عظيم من الدنيا شعاع مطنّب
كأن لم يكن يقضى بها النّهي والأمر ... ويجبي إلى خزائنها البرّ والبحر
ويسفر مخفورا بذمّتها الفخر ... ويصبح مختوما بطينتها الدهر
وأيامه تعزى إليها وتنسب
__________
(1) في الأصل: «كالأفلاك» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الظبا» وهكذا ينكسر الوزن.(2/278)
ومالك عن ذات القسيّ النّواضح ... وناصحة تعزى قديما لناصح
وذي أثر على الدهر واضح ... يخبر عن عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليه فيض نهر وجدول ... تصعّد من سفل وأقبل من عل
فهذا جنوبيّ وذلك شمألي (1) ... وما اتفقا إلّا على خير منزل
وإلّا فإن الفضل منه مجرّب
كأنهما في الطّيب كانا تنافرا ... فسارا إلى وصل القضاء وسافرا
ولمّا تلاقى السابقان تناظرا ... فقال وليّ الحق مهلا تظافرا
فكلّكما عذب المجاجة طيّب
ألم يعلما أن اللّجاج هو المقت ... وأن الذي لا يقبل النّصف منبتّ
وما منكما إلّا له عندنا وقت ... فلما استبان الحقّ واتجه السّمت
تقشّع من نور المودة غيهب
وإن لها بالعامريّة لمظهرا ... ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا
وروضنا على شطّي خضارة أخضرا ... وجوسق ملك قد علا وتجبّرا
له ترّة عند الكواكب تطلب
أغيّره (2) في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحيّ المجاهد ... وكلّ فتى عن حرمة الدين زايد
حفيظته في صدره تتلهّب
تقدّم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصحر بالأرض الفضاء ليصرخا
فحالته أرض الشّرك فيها منوّخا ... كذلك من جاس الدّيار ودوّخا
فردعته في القلب تسري وترهب
أولئك قوم قد مضوا وتصدّعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا
فهل لهم ركز يحسّ ويسمع؟ ... تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع
إلّا أنهم في بطنها حيث غيّبوا (3)
__________
(1) في الأصل: «شمأل».
(2) في الأصل: «غيره» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له.
(3) في الأصل: «غيّب».(2/279)
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصّبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأجنّة قد عفا ... وكأنّ حديثا للوفود معرّفا
فأصبح وحش المنتدى يتجنّب
ولله في الدّارات ذات المصانع ... أخلّاء صدق كالنجوم الطّوالع
أشيع بينهم كلّ أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوما براجع
فياليتني في قسمتي أتهيّب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا بمثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ظمآن ... ولكن عداني عنك أمر له شان
وموطني آثار تعدّ وتكتب
لك الحقّ والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدّين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التّقى والهدى والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذّب
ألم تك خصّت باختيار الخلائف ... ودانت لهم فيها ملوك الطّوائف
وعضّ ثقاف الملك كلّ مخالف ... بكل حسام مرهف الحدّ راعف
به تحقن الآجال طورا وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا ... وكعبتها ندا الوفود ويمّموا
وفيها استفادوا شرحهم وتعلّموا ... وعاذوا بها من دهرهم وتحرّموا
فنكّب عنهم صرفه المتسحّب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقى ... هواؤك مختار وتربك منتقى
وجسرك للدنيا وللدّين ملتقى ... وبيتك مربوع القواعد بالتّقى
إلى فضله لأكباب تنضى وتضرب
تولّى خيار التابعين بقاءه ... وخطّوا بأطراف العوالي فناءه
ومدّوا طويلا صيته وثناءه (1) ... فلا زال مخلوع عليه سناءه (2)
ولا زال سعي الكائدين يخيّب
__________
(1) في الأصل: «وثناء».
(2) في الأصل: «سناه».(2/280)
وبالغ فيه كلّ أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم واليد
وشادوا وجادوا سيّدا بعد سيّد ... فبادوا جميعا عن صنيع مخلّد
يقوم عليه الثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشّوابك ... تمزّق أثواب النجوم الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجادل تنقضّ انقضاض النّيازك
فإبشارهم بالطبطبية تنهب
أجدك لم تشهد بها ليلة القدر ... وقد جاش برّ الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزّهر ... فلو أن ذلك النّور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفنى وينضب
كأن للثّريّات (1) أطواد نرجس (2) ... ذوائبه تهفو بأدنى تنفّس
وطيب دخان النّدّ من كل معطّس ... وأنفاسه في كل جسم وملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدّت راية الفجر تزحف ... وقد قضّى منهما (3) الذي لا يسوّف
تولّوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صونا تغضّ وتطرف
كما تنصل الأرماح ثم تركّب
سلام على غيابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صخرائها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهرها المعشوق كل مرفّع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع ... وكل بعيد المستغاث مدفّع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملء الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المواسون من صحب
بروعتها قبر الوالي لي وهبّ ... وناديت في التّرب المقدّس يا ربّ
فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب
__________
(1) في الأصل: «للثرياوات».
(2) في الأصل: «من نرجس».
(3) كلمة «منهما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.(2/281)
فيا صحبي حان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرّضا معي
فحطّ بضاحي ذلك السّرى مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروّع
فعندهم للجار أهل ومرحب
رعى الله من يرعى العهود على النّوى ... ويظهر بالقول المحبّر ما نوى
ولبيته من مستحكم الودّ والهوى ... يرى كلّ واد غير واديه مجتوى
وأهدى سبيله الذي يتجنّب
كتابته: وكتابة ذي الوزارتين، رحمه الله، كالشمس شهرة، والبحر والقطر كثرة ونحن نثبت له شيئا من ذلك لئلّا يخلو هذا الكتاب من شيء من بيانه. كتب يراجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، من رسالة كتب بها إليه مع حاج يضرب القرعة:
أطال الله بقاء وليّي وإمامي الذي له إكباري وإعظامي، وفي سلكه اتّسامي وانتظامي، وإلى ملكه انتسابي واعتزائي، وبودّه افتخاري وانتزائي، للفضائل مجيبا ومبديا، وللمحامد مشتملا ومرتديا، وبالغرائب متحفا ومهديا، ولا زال الرّخاء وأزل، وجدّ من المصافاة وهزل، وسحت من المراعاة وجزل. وصل كتابه صحبة عرّاف اليمامة، وفخر نجد وتهامة، يقرّظه ويزكّيه، ويصفه بالخبّ يفسّره ويجليه، والخفيّ يظهره ويبديه. ولعله رائد، لابن أبي صائد، أو هاد للمسيح الدّجال قائد. أشهد شهادة إنصاف، أن عنده لعضبا صاف، ولو كان هناك ناظر صادق طاف، ولله خفايا الألطاف، لقلت هو باد غير خاف، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك، أيّدك الله، بما اتّفق، وكيف طار ونعق، وتوسّد الكرامة وارتفق، طرق له وصفك ونعتك، وثقّفه بريك ونحتك، ورفعه للعيون جدّك وبختك، وامتدت نحوه النواظر، واستشرفه الغائب والحاضر، وتسابق إليه النّابه والخامل، وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيدا، وذاك يبتغي حظا جديدا، وهذا يطلب تقليدا، وذلك يسلّ إلى مغاليقه إقليدا.
فكلما حزب، وغلّ وجلب، حلب واستدرّ، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سرّ. وكنت واتغت جملة من الأعيان، ووافقت ثلّة من جلّة الإخوان، على تمشية أمره، وتوشية ذكره فلمّا صدقت تلك الفرقة، واستوت بهم تلك الفرقة، أحضرناه للسّبار، وأقعدناه للنّقد والاختيار، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار، فأحضرنا طحنا ونطعا، وسرينا عنه من الوحشة قطعا، وقلنا له خذ عفوك، ولا توردنا إلّا صفوك، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها، والحادثة تستفظع ذكراها فما عندنا جهل، وما منّا إلّا محتنك كهل، لا يتكاده حزن ولا يستخفّه سهل، فسكن جائش فوره، وضرب بلحيته على زوره، ثم صعّد فينا النظر وصوّب، واستهلّ صارخا وثوّب، وتحرّج من الكذب
وتحوّب، وقال: لست للعشرة خابطا، ولا للطّرف غامضا، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا، ولا لصريح الجدّ مداعبا، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ، ورفع وحطّ، ونحس وسعد، ونقد ووعد، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ، ونثل الطّحن وهاله، وأداره حتى استدار هاله، ثم قال: يا أيها الملأ هذا المبتدأ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا، وليتهم عند ذلك صفّروا، فقلت: يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما، وقتلت شأني كلّه علما، وعقدت بيني وبين غد سلما، فكيف أستكشف عما أعرف، وأسبقهم عمّا لا يستبهم.(2/282)
فكلما حزب، وغلّ وجلب، حلب واستدرّ، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سرّ. وكنت واتغت جملة من الأعيان، ووافقت ثلّة من جلّة الإخوان، على تمشية أمره، وتوشية ذكره فلمّا صدقت تلك الفرقة، واستوت بهم تلك الفرقة، أحضرناه للسّبار، وأقعدناه للنّقد والاختيار، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار، فأحضرنا طحنا ونطعا، وسرينا عنه من الوحشة قطعا، وقلنا له خذ عفوك، ولا توردنا إلّا صفوك، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها، والحادثة تستفظع ذكراها فما عندنا جهل، وما منّا إلّا محتنك كهل، لا يتكاده حزن ولا يستخفّه سهل، فسكن جائش فوره، وضرب بلحيته على زوره، ثم صعّد فينا النظر وصوّب، واستهلّ صارخا وثوّب، وتحرّج من الكذب
وتحوّب، وقال: لست للعشرة خابطا، ولا للطّرف غامضا، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا، ولا لصريح الجدّ مداعبا، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ، ورفع وحطّ، ونحس وسعد، ونقد ووعد، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ، ونثل الطّحن وهاله، وأداره حتى استدار هاله، ثم قال: يا أيها الملأ هذا المبتدأ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا، وليتهم عند ذلك صفّروا، فقلت: يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما، وقتلت شأني كلّه علما، وعقدت بيني وبين غد سلما، فكيف أستكشف عما أعرف، وأسبقهم عمّا لا يستبهم.
على الرحمن توكلت، وعلى الشيطان تركّلت، ومن كسبي أكلت، وفي مبرك السّلامة بركت، وجسيمات الأمور تركتني وتركت، والنفس المطمئنة رجوت، ولعلني قد نجوت، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه، وطواني صدقه ومينه.
ثم صار القوم دوني أنجية، وأعدّ له كل تورية وتعمية. فقال قائل منهم: تعالوا نشترك في ضمير، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير، ففي كل قلب منه ندب كبير، والسؤال عنه دين وأدب، فإن أصابه استرحنا من النّصب والشّخوص، وحرنا من العموم إلى الخصوص، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ، ولما يدّعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا: نعم ما عرضت، وأحسن بما رويت وفرضت. فلمّا رأيناه يثقل التّعريض، ويحكم التقرير والتعويض، قلنا له: حقّق ضميرك كل التحقيق، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر، وحسر عن ذراعه وشمّر، ومرت أصبعه في خطّه مرّ الذّر المتهالك، ووقعت وقع القطر المتدارك، لا تمس الطّحن إلّا تحليلا، وغمزا كالوهم قليلا، فطورا يستقيم سبيلا، وتارة يستدير إكليلا، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات، وللثّريا من أخوات، وطير قابضات، وصافّات وأسراب ناشرات خافقات.
فلمّا استوفى عدده، وبلغ أمده، وختم طرائقه وقدده، وأعطى الأصول وفروعها، وتدبّر تفاريقها وجموعها، فجمع وتقبّض، وفتر ثم انتفض، وصعّد ذهنه وتسافه، وأخذ الطّحن فسافه وزفر وشهق، وعشّر ونهق، وألصق بظهره حشاه، وكتم الرّبو ثم أفشاه، وقال: هذا الذي كنت أخشاه، عميتم الأثر، وكتمتم حقيقة الخبر، وعثرتم خاطي فما عثر، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر. سألتم عن روح شارد، وشيطان مارد، وصادر مع اللّحظات وارد، لا يوطن دارا، ولا يأوي قرارا، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا (1). نعم أمره عندي مستقر، هو زنديق مستتر وشهاب من شهب الكفر مستمر.
__________
(1) الغرار: السهم. لسان العرب (غرر).(2/283)
ثم رجّع البصر واختصر، وعاد إلى الحساب يتقرّاه، والصواب يتحرّاه، وتتبّع أديم الطّحن ففراه، وقال: أعوذ بالله من شرّ ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؟ كأني لست ذا أمرار وأحلاء، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلاء ما غاب عني اللّحياني ذو السّبلة، ولواجهنا البياض ذو الغرّة المستقلّة مواجهة حسان لجبلة. النّحس على هذه الروح قد رتّب وكتب عليه من الشقاء ما كتب، وأخرج النّصرة الداخلة من العتب.
ثم أشار إلى الحمرة، وكأنما وضع يده على جمرة، وقال: كوسج نعيّ، وسناط الوجه شقيّ، وثقاف وطريق، وجماعة وتفريق، وقبض خارج، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته، ولولب هامته، وأمال وجهه فجرا طلقا، ثم عرضه مجنا مطرقا، وعقد أنامله عضّا، وأدمى صدره دعّا ورضّا، وقطع بصره لمحا وغضّا، وتكفّأ وتقلّع، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا: شرّ تأبّطه، أو شيطان يتخبّطه، أو قرين يستنزله ويختله، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر، وتضاءل وتنازر، وقال: والذي أحيا عازر، وأخرج إبراهيم من آزر، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح، إنه لمن عبّاد المسيح، هيهات هيهات، لا أضعضع بظنّ، ولا يقعقع لي بشنّ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت، وصافحني الحجر الكميت، وأحرمت ولبّيت، وطفت ووفيت، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحفّيت. ثم ملت على عدن، وانحدرت عن اليمن، واستسقيت كل راعدة، وأتيت كل قاعدة ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة، ووردت عكاظ، وصدّقت الحفّاظ، وقدت العصية بنسع، ومسحت الشامات بأخمس وتسع، ووقفت حيث وقف الحكمان، وشهدت زحف التّركمان، وكيف تصاولت القروم، وغلبت الرّوم، وهزم المدبر المقبل، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا: لله أنت، لقد جليت عن نفسك، وأربى يومك على أمسك، ولقد صدق مطريك، ووفت صحيفة تزكّيك، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه، وطالع كواكبه وأبراجه، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم، وقال: أحلف بالله وأقسم، لقد استقام النّسم، وإنه لكما أرسم وأسم، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا، ومنكودا مقهورا، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه، وفلّ حدّه، وأتي عليه نقي خدّه، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه، فقلنا: صرّحت وأوضحت، وشهرت هذا المستور وفضحت، وإن ساعدك قدر، وكان لك عن هذا الورود صدر، فحظك مبتدر، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال: هذا أمر قد آن أو كان، وسيأتيكم الخبر الآن، فانفصلنا وأصغينا الآذان، وجعلنا نتلقى الرّكبان، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة، والبشرى الهاجمة، بما
بان، فأدهنا في شانه، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه، فإذا الخبر لم يخط صماخه، وكأنما كان عودا وافى مناخه، أو طائرا أمّ أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد، ويتعرضنا على عمد، تعرّض الجوزاء للنجوم وينقضّ انقضاض نيازك النجوم، وقال: ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟(2/284)
ثم أشار إلى الحمرة، وكأنما وضع يده على جمرة، وقال: كوسج نعيّ، وسناط الوجه شقيّ، وثقاف وطريق، وجماعة وتفريق، وقبض خارج، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته، ولولب هامته، وأمال وجهه فجرا طلقا، ثم عرضه مجنا مطرقا، وعقد أنامله عضّا، وأدمى صدره دعّا ورضّا، وقطع بصره لمحا وغضّا، وتكفّأ وتقلّع، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا: شرّ تأبّطه، أو شيطان يتخبّطه، أو قرين يستنزله ويختله، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر، وتضاءل وتنازر، وقال: والذي أحيا عازر، وأخرج إبراهيم من آزر، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح، إنه لمن عبّاد المسيح، هيهات هيهات، لا أضعضع بظنّ، ولا يقعقع لي بشنّ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت، وصافحني الحجر الكميت، وأحرمت ولبّيت، وطفت ووفيت، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحفّيت. ثم ملت على عدن، وانحدرت عن اليمن، واستسقيت كل راعدة، وأتيت كل قاعدة ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة، ووردت عكاظ، وصدّقت الحفّاظ، وقدت العصية بنسع، ومسحت الشامات بأخمس وتسع، ووقفت حيث وقف الحكمان، وشهدت زحف التّركمان، وكيف تصاولت القروم، وغلبت الرّوم، وهزم المدبر المقبل، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا: لله أنت، لقد جليت عن نفسك، وأربى يومك على أمسك، ولقد صدق مطريك، ووفت صحيفة تزكّيك، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه، وطالع كواكبه وأبراجه، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم، وقال: أحلف بالله وأقسم، لقد استقام النّسم، وإنه لكما أرسم وأسم، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا، ومنكودا مقهورا، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه، وفلّ حدّه، وأتي عليه نقي خدّه، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه، فقلنا: صرّحت وأوضحت، وشهرت هذا المستور وفضحت، وإن ساعدك قدر، وكان لك عن هذا الورود صدر، فحظك مبتدر، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال: هذا أمر قد آن أو كان، وسيأتيكم الخبر الآن، فانفصلنا وأصغينا الآذان، وجعلنا نتلقى الرّكبان، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة، والبشرى الهاجمة، بما
بان، فأدهنا في شانه، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه، فإذا الخبر لم يخط صماخه، وكأنما كان عودا وافى مناخه، أو طائرا أمّ أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد، ويتعرضنا على عمد، تعرّض الجوزاء للنجوم وينقضّ انقضاض نيازك النجوم، وقال: ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟
فقلنا: منك الإسجاح، فقد ملكت ومنك ولك النجاح، أيّة سلكت. فأطرق زهوا، وأعرض عنا لهوا، وقال: اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها، ومنعتني أخبارها، لمزّقت صدارها، وذروت غبارها، ولكان لي عنها أوسع منتدح، وأنجد زناد يقدح، أين أنتم عن رصدي الأحلاك، وعلمي بالأفلاك؟ أنا في مرج الموج، وأوج الأوج، والمتفرد بعلم الفرد والزّوج، ومسترط السّرطان، ومستدير الدّبران، وبائع المشتري بالميزان، والقابض بيوم الحساب والعمل، على روق الثّور وذنب الحمل، أعقد نصل العقرب، وأقيّد الأبعد والأقرب، لصيد أوابدها بالدقائق والدّرج، حتى اضطرّ سارحها إلى الحرج، وأصبحها في أضيق منعرج، أنا استذكرت بالأنبار، فرحة الإقبال وترحة الإدبار، وطالعت أقليدس فاستنبطته، وصارعت المجسطي فجسطنته، وارتمطت إلى الأرتماطيقا، وأطقت الألوطيقا، ولحظت التحليل بحلّ ما عقده، وانتضيته ما مطل به الجهابذة فنفّذه. وعاينت زحل، حين استقلّ على بعيره ورحل، وضايقته في ساحته، وحصرته في مساحته، وحضرت قرانه، وشهدت تقدّمه ومرانه، وشاهدته شفرا بشفر، وناجاني برقا يعدّ في الكفر، وتخريبه لملك الصّفر، وتفريقه لبلاد اللّطينة، وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدّلو، وذروت غبار الحوت للفلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر، فلاح بعد خفائه وظهر. أنا استثرت الهلال من مكامن سرره، وأخذت عليه ثنايا سفره، وقددت قلامته من ظفره، ودللت طير الصّاير على شجره، فجنيت المرّ من ثمره، أنا طرقت الزّهرة في خدرها، وصافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلّت تلتهب، وأحرزتها من الوهم شطنا أجذبها به فتنجذب. أنا أنعى للمعتبرين حياتها، فيشبهون الحسنة ويتحرّون أوقاتها، حتى تنتشر بعد الطيّ حياتها، وتستقيل من العثار آياتها.
أنا انتضيت للشباب شرخا، وأضرمت للمرّيخ عقارا ومرخا، حتى أتغانى بملاحم حروبه، وحوادث طلوعه وغروبه، وتلمّظه إلى النّجيع، وولوغه في مهجة البطل السّجيع. أنا أبرى من اللّمم، وأشفى من الصّمم، وأنقل العطس إلى الشّمم. فقلنا:
أمّا الأولى، فقد سلّمنا لك جميعها، وأمّا هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال: فلم تعجزون ولا تستخزون؟ فقلنا: من كان له علاج فبنفسه يبدأ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك، ولكن تهتزّ يدك. قال: أما من بينهم روي، وألقى في روعه ما ألقى في روعي، فمثله كالصّارم، حسنه في فرنده، لا غمده، وجماله في حدّه لا في خدّه،
والمرء كما قيل بأصغريه، لا بمنخريه، والشأن في الحيزوم، لا في الخيشوم، وفي الذّكرين، لا في الأنثيين، وبعد، فهو كلام ظاهره إجمال، وباطنه احتمال، وسأنبّئكم بغزارة سيله، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضّغنة، ويتزوج في آل جفنة. فإن الله أتمّ، جاء الولد أتمّ، وإن نام عرق خاله، بقي الولد بحاله. وأما الأصمّ، فيخرج عن الغلام، وبلا فال، ويطلب في بني السّميعة بركة الاسميّة والفال، فإن الله أراد، ظفر بالمراد، وجاء ابنه أسمع من قراد (1). فأحسّ من بعض الحاضرين تمريضا، وعاين طرفا غضيضا، فتعكّر وتشذّر، وطوّف وحذّر، وقال صاحب الشريعة، سمّاهم بني السّميعة، قوموا يا بني اللّكيعة، فقد قطعتم رزقي، وآذيتم طرقي، وأذللتم ضربي وطرقي، وسددتم طوقي، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي. ذروني للتي هي للبليّة تجني، ثم الوجد يعني، لو شرب نواديه إثر تجنّي.(2/285)
أمّا الأولى، فقد سلّمنا لك جميعها، وأمّا هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال: فلم تعجزون ولا تستخزون؟ فقلنا: من كان له علاج فبنفسه يبدأ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك، ولكن تهتزّ يدك. قال: أما من بينهم روي، وألقى في روعه ما ألقى في روعي، فمثله كالصّارم، حسنه في فرنده، لا غمده، وجماله في حدّه لا في خدّه،
والمرء كما قيل بأصغريه، لا بمنخريه، والشأن في الحيزوم، لا في الخيشوم، وفي الذّكرين، لا في الأنثيين، وبعد، فهو كلام ظاهره إجمال، وباطنه احتمال، وسأنبّئكم بغزارة سيله، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضّغنة، ويتزوج في آل جفنة. فإن الله أتمّ، جاء الولد أتمّ، وإن نام عرق خاله، بقي الولد بحاله. وأما الأصمّ، فيخرج عن الغلام، وبلا فال، ويطلب في بني السّميعة بركة الاسميّة والفال، فإن الله أراد، ظفر بالمراد، وجاء ابنه أسمع من قراد (1). فأحسّ من بعض الحاضرين تمريضا، وعاين طرفا غضيضا، فتعكّر وتشذّر، وطوّف وحذّر، وقال صاحب الشريعة، سمّاهم بني السّميعة، قوموا يا بني اللّكيعة، فقد قطعتم رزقي، وآذيتم طرقي، وأذللتم ضربي وطرقي، وسددتم طوقي، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي. ذروني للتي هي للبليّة تجني، ثم الوجد يعني، لو شرب نواديه إثر تجنّي.
ثم نجا بعزمته سميلا، وأرسل بنات نعش ذيلا، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلا، كذّبني أيّدك الله عند نواه، ولم يطلعني طلع ما نواه وما ذاك إلّا لمطمع لواه، ومغنم هواه. فرفعت لي بعد وداعه نجوة، ورمتني بشخصه فجوة، فقلت: ما أراك إلّا غائل، أورثت عنك الحبائل. فسراك سرى قين، وحديثك مين، ألم تعبر دجيلا، ويمّمت سهيلا؟ فقال: طربت إلى الأصفية الصّغار، وشاقني الشوق بين الطّواغيت والأصفار. فقلت له: هلمّ إلى خطّ نعيده، وحظّ نستفيده. فقال: لولا أن تقولوا الساعة متى، وتطالبوني بإحياء الموتى، لما أجمعت إلى الغرب غروبا، ولأريتكم من الحذق ضروبا. ثم قال: إن لي بالحضرة أفراخا، وأمّا استصرخت عليها استصراخا، وانسلخت منها انسلاخا، وأعيا عليّ أمره فلم أعلم له ظعنا ولا مناخا. فلبثت كذلك أياما، ثم اعتمّ عليّ أمره اعتياما، ولم أعرف له إنجادا ولا اهتماما، فإذا به وقد أضمرت عنه بأسا، ولم أطمع فيه رأسا، قد أشبّ لي شبابا، ولمعت صلعته شهابا، تكتنفه صرّة، وبيمناه قوصرة (2)، وتؤود يسراه جرّة. فقلت له: قاتلك الله، ما أشدّ فقداتك إلّا فقدتك، وما أذكر وجداتك إلّا وجدتك، أين أفراخك، والأمّ التي جذبها استصراخك؟ فقال: الصعلوك، لو أعلم مذاهبه، تحرّم مناهبه، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي، أحاجي وأداجي، وأعاين وأناجي، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له: مالك وللميت، ورحم الله من سمّيت. قال: لمّا أذن الله فالتأمت الشّيمة، وتمزّقت عني المشيمة، هممت بالسّرق، ولففت في
__________
(1) منه المثل: «أسمع من قراد»، وذلك أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم، فيتحرك لها. مجمع الأمثال (ج 1ص 349، رقم المثل 878).
(2) القوصرة: وعاء للتّمر. محيط المحيط (قوصر).(2/286)
الخرق، وفارقت من الضيق منتداه، وأفلتتني يداه فحنّكني السعد بتمر المدينة، وسقاني من ماء البلدة الأمينة، وعوّذني بدعوات متينة. فها أنا كما ترى أتهادى وأجتذب، وأستحلي وأستعذب. فقلنا: لعمرك إنه لفضل عميم، لولا الصّميم، وإنها لمنقبة، لولا العقبة، وأثرة ملتمسة، لولا العطسة، فقال: دعنا من زخاريفك، وأغضض من عنان تصاريفك. البازل (1) لا يكون إلّا ذميما، والليث لا يوجد إلّا شميما. ثم قام وحمل، وابتدر وارتجل: [مجزوء الخفيف]
عيشنا كلّه خدع ... فاترك اللوم عنك ودع
أنا كالليث والليو ... ث بأرسائها ترع
ولها الأوجه السّي ... مه من يلقها يرع
أيّ حسن لمازن ... بيد الدّلّ يخترع؟
أنا كالسّيف حدّه ... لا يبالي بما وقع
إنما الحسن للمها ... ة وللظّبي يا لكع
فقلت: تبّا لك سائر اليوم، إنك لتريش وتبري، وتقدّ وتفري، وتحاسن وتقابح، وتهارش وتنابح، وتحبّ وتتأمل، وتحسن وتغلغل، وتشاعر وتراجز، وتناطح وتناجز. وأنت على هذا كله مصرّ، ما جزاؤك إلّا ريح فيها صرّ، فما هو إلّا أن غفلت عنه لمحة طرف، أو نفحة عرف، ثم التفتّ وإذا به قد أفلس، وكأنما كان برقا خلّس، ولم أدر أقام أو جلس.
ومحاسنه القطر الذي لا يعدّ، والأمر الذي يأخذه الحدّ. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة مقداره، وتدفّق بحاره وفخاره لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان، وبساط حال أنت على خبره بعيان، وعلوم ذات افتنان، خلّد الله عليه الرحمة، وضاعف له المنّة والنعمة.
مولده: بأوائل ربيع الثاني عام خمسة وستين وأربعمائة (2).
وفاته: من خطّ الحافظ المحدّث أبي القاسم بن بشكوال، رحمه الله: كان (3)
ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة، فعظم المصاب به، الشيخ الأجلّ، ذو الوزارتين، السيد الكامل، الشهير الأثير، الأديب، اللغوي، السّري، الكاتب البليغ، معجزة زمانه
__________
(1) البازل: ما بزل نابه من الإبل في السنة التاسعة. محيط المحيط (بزل).
(2) قال في معجم الصدفي (ص 154): «ومولده سنة خمس، وقيل: سنة ثلاث وستين وأربعمائة».
(3) هذا النص غير وارد في الصلة. وجاء في الصلة بعض مما ذكر هنا.(2/287)
وسابق أقرانه، ذو المحاسن الجمة، الجليلة الباهرة، والأدوات الرفيعة الزكية، الطاهرة الكاملة، المجمع على تناهي نباهته، وحمد خصاله وفصاحته، من لا يشقّ غباره، ولا تلحق آثاره، معجزة زمانه في صناعة النثر والنظم، أبو عبد الله بن أبي الخصال، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضّر وجهه. ألفي مقتولا قرب باب داره بالمدينة، وقد سلب ما كان عليه، بعد نهب داره، واستئصال حاله، وذهاب ماله، وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسمائة. فاحتمل إلى الرّبض الشرقي بحومة الدرب، فغسّل هنالك وكفّن، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده، ونعي إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة. فكثر التفجّع لفقده، والتأسّف على مصاب مثله، وأجمعوا على أنه كان آخر رجال الأندلس علما وحلما، وفهما ومعرفة، وذكاء وحكمة ويقظة، وجلالة ونباهة، وتفننا في العلوم. وكان له، رحمه الله، اهتمام بها، وتقدم في معرفتها وإتقانها. وكان، رحمه الله، صاحب لغة وتاريخ وحديث، وخبر وسير، ومعرفة برجال الحديث مضطلعا بها، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول، عذب اللفظ، حلو الكلام، عذب الفكاهة، فصيح اللسان، بارع الخطّ حسنه ومتقنه. كان في ذلك كله واحد عصره، ونسيج وحده، يسلّم إليه في ذلك كله، مع جمال منظره، وحسن خلقه، وكرم فعاله، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع، حسن المعاشرة لأهل العلم، مسارعا لمهماتهم، نهاضا بتكاليفهم، حافظا لعهدهم، مكرما لنبهائهم، واسع الصدر، حسن المجالسة والمحادثة، كثير المذاكرة، جمّ الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة، ظهر فيها علمه وفهمه، أخذها الناس عنه مع سائر ما كان يحمله ويتقنه، عن أشياخه الذين أخذ عنهم، وسمع منهم، وقرأ عليهم.
وقال غيره: قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبة أبان، بداخل مدينة قرطبة، قرب باب عبد الجبّار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة، يوم قيام ابن حمدين، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسّوفي الملثّم المرابطي يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجّالة أهل دولة اللثام لحسن ملبسه، ولم يعرفوه، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود، وكان أنكحه ابنته، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ، وعبد الله خيرة الأحداث، رحمهما الله تعالى.
محمد بن مفضل بن مهيب اللخمي
يكنى أبا بكر، من أهل شلب من العليا.(2/288)
حاله: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: كان منقبضا عن الناس، أديبا، شاعرا، خمّس عشرينيات الفازازي، رحمه الله تعالى. وذكره صاحب الذيل، وقال لي شيخنا أبو البركات، وهو جدّه، أبو أبيه، ما معناه: كان شريفا، عالي الهمة، عظيم الوقار، ألوفا، صموتا، نحيف الجسم، آدم اللون، خفيف العارض، مقطّب الوجه، دائم العبوس، شامخ الأنف، إلّا أنه كان رجلا عالما راسخا، عظيم النزاهة، حافظا للمروءة، شهير الذكر، خطيبا مصقعا، مهيبا كشهرته، قديم الرياسة، يعضّد حديثه قديمه. واستقرّ بألمرية، لمّا تغلّب العدو على بلد سلفه.
ولمّا توفي شيخ المشايخ أبو إسحاق بن الحجاج، تنافس الناس من البلدين، وغيرهم، في خطبة بنته. قال شيخنا أبو البركات: ومن خطّه نقلت، وكان ابن مهيب واحدا منهم في الإلحاح بالخطبة، متقدما في حلبتهم، بجيوش الأشعار.
ورام غلبته ذوو اليسار، من حيث كان بحمراء جيش الإعسار، فأذلّهم بالمقابلة في عقر الدار، فلم يراجعوا من الغنيمة إلّا بالفرار. قلت: وجلب في هذا المعنى شعرا كثيرا، ناسب الغرض. ونال من المتغلب على ألمريّة، على عهده، حظوة، فاستظهر به تارة على معقل مرشانة، وتارة على الرسالة إلى الحضرة الحفصية بتونس. ولما آب من سفره إليها، سعى به لديه بما أوجب أن يحجر عليه التّصرف، وسجنه بمنزله. فلمّا قصد ألمرية الغالب بالله، مستخلصا إياها من يد الرئيس أبي عبد الله بن الرّميمي، ونزل بمدينتها، وحاصر قصبتها، وقع اختيار الحاصر والمحصور على تعيين ابن مهيب، بمحاولة الأمر، وعقد الصلح، رضى بدينه وأمانته، فعقد الصلح بينهما على أن يسلم ابن الرميمي القصبة، ويعان على ركوب البحر بماله وأهله وولده، فتأتّى ذلك واكتسب عند الغالب بالله، ما شاء من عزّة وتجلة.
وقفني شيخنا أبو البركات على ظهير سلطاني، صدر عن الأمير الغالب بالله، يدل على جلالة قدره، نصّه:
هذا ظهير كريم، أظهر العناية الحافلة لمستوحيها ومستحقّها، وأجراه من الرعاية الكاملة على الحبّ طرقها. أمر بإحكام أحكامه، والتزام العمل بفصوله وأقسامه، الأمير أبو (1) عبد الله محمد بن يوسف بن نصر نصر الله أعلامه، وأدام لإقامة قسط العدل أيامه، لوليّه العليّ المكانة، وصفيّه المليء بأثرتي المعرفة
__________
(1) كلمة «أبو» ساقطة في الأصل. وقد حكم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر غرناطة من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).(2/289)
والدّيانة، الحريّ بما اختصّه، أيّده الله، من الحفظ لمرتبته السامية والصّيانة. للشيخ الفقيه، الجليل، العالم، الأوحد، العلم، الأتقى، الأزهر، الفاضل، الخطيب الأرفع، المحدّث الثقة، الرّاوية، الصالح، السّني، الحافظ، الحافل، الماجد، السّري، الطاهر، المكرّم، المبرور، الكامل، أبي بكر ابن الشيخ الوزير الأجلّ، الفقيه، الحسيب، الأصيل، الأمجد، المكرم، المبرور، الأفضل، المرحوم، أبي عمرو بن مهيب، أدام الله عزّة جانبه، ووصل بالعلم والعمل ارتقاء مراتبه، أقام به الشّواهد على اعتقاده، أنه أخلص أوليائه ودّا، وأفضلهم قصدا، وأكرمهم عهدا، حين ظهرت له، أيّده الله، آثار آرائه الأصيلة، وبانت في الصلاح والإصلاح ميامن مناقبه الجميلة، ووجب له من العناية والمزيّات أتمّ ما توجبه معارفه، وتقتضيه مجادته، وزهادته، التي لا يفنّد في وصفها واصف. وأعلن بأنه دام عزّه، أحقّ من حفظت عليه مرتبة صدور العلماء الراسخين في العلم، وأبقيت مزيّة ما تميز به التّقى والورع الكافي والحلم، وبرع بصلة العناية بجانبه، لما أهّلته إليه معرفته من نفع المتعلمين، وإرشاد من يسترشده في مسائل الدين من المسلمين، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلّة والتوقير، وأجدر منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر، أعلى الله أمره، أن يستمرّ له ولزوجه الحرّة الأصيلة الزكية، التقية الصالحة، المصونة المكرمة المبرورة، عائشة بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السّني، الزاهد الفاضل، المرحوم المقدس، الأرضى، أبي إسحاق ابن الحاج ما اطّردت به العادة لهما قديما وحديثا، وتضمنه الظهيران الكريمان، المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستمائة، من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما، ليضعا ذلك في أحقّ الوجوه، ويؤدّيا فيه حقّ لله تعالى، ما مثلهما علما ودينا من يؤدّيه، موكولا ذلك لله، إلى ما لديهما، من نشر الأمانة، مصروفا إلى نظرهما الجاري مع العلم والديانة، وتجديد أحكام ما بأيديهما من الظّهائر والأوامر القديمة والحديثة، المتضمنة تسويغ الأملاك، على اختلافها، وتباين أجناسها وأوصافها، لهما ولأعقاب أعقابهما، على التأبيد والتّخليد، والمحاشاة من اللّوازم، والمعاوز والمغارم، وأن يطّرد لشركائهما، وعمرة أملاكهما، ووكلائهما، وحواشيهما، ومن اتصل بهما، جميل العناية، وحفيل الرعاية، وموصول الحماية، الاستمرار الذي يطّرد العمل به مدى الأيام، وتتوالى التّمشية له من غير انصرام على الدوام، موفى بذلك، ما يحقّ لجانب الفقيه العالم، الأوحد الأسنى، أبي بكر، أدام الله عزته، من حظوظ الإجلال، منتهى فيه إلى أبعد آماد العنايات الشريفة، الفسيحة المجال، مقضى على حقّ ما انفرد به من العلم، واتصف به من الديانة، اللذين أضفيا عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة
والعمّال، وسائر ولاة الأشغال، وليتلقّه بغاية الائتمار والامتثال، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.(2/290)
والدّيانة، الحريّ بما اختصّه، أيّده الله، من الحفظ لمرتبته السامية والصّيانة. للشيخ الفقيه، الجليل، العالم، الأوحد، العلم، الأتقى، الأزهر، الفاضل، الخطيب الأرفع، المحدّث الثقة، الرّاوية، الصالح، السّني، الحافظ، الحافل، الماجد، السّري، الطاهر، المكرّم، المبرور، الكامل، أبي بكر ابن الشيخ الوزير الأجلّ، الفقيه، الحسيب، الأصيل، الأمجد، المكرم، المبرور، الأفضل، المرحوم، أبي عمرو بن مهيب، أدام الله عزّة جانبه، ووصل بالعلم والعمل ارتقاء مراتبه، أقام به الشّواهد على اعتقاده، أنه أخلص أوليائه ودّا، وأفضلهم قصدا، وأكرمهم عهدا، حين ظهرت له، أيّده الله، آثار آرائه الأصيلة، وبانت في الصلاح والإصلاح ميامن مناقبه الجميلة، ووجب له من العناية والمزيّات أتمّ ما توجبه معارفه، وتقتضيه مجادته، وزهادته، التي لا يفنّد في وصفها واصف. وأعلن بأنه دام عزّه، أحقّ من حفظت عليه مرتبة صدور العلماء الراسخين في العلم، وأبقيت مزيّة ما تميز به التّقى والورع الكافي والحلم، وبرع بصلة العناية بجانبه، لما أهّلته إليه معرفته من نفع المتعلمين، وإرشاد من يسترشده في مسائل الدين من المسلمين، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلّة والتوقير، وأجدر منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر، أعلى الله أمره، أن يستمرّ له ولزوجه الحرّة الأصيلة الزكية، التقية الصالحة، المصونة المكرمة المبرورة، عائشة بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السّني، الزاهد الفاضل، المرحوم المقدس، الأرضى، أبي إسحاق ابن الحاج ما اطّردت به العادة لهما قديما وحديثا، وتضمنه الظهيران الكريمان، المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستمائة، من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما، ليضعا ذلك في أحقّ الوجوه، ويؤدّيا فيه حقّ لله تعالى، ما مثلهما علما ودينا من يؤدّيه، موكولا ذلك لله، إلى ما لديهما، من نشر الأمانة، مصروفا إلى نظرهما الجاري مع العلم والديانة، وتجديد أحكام ما بأيديهما من الظّهائر والأوامر القديمة والحديثة، المتضمنة تسويغ الأملاك، على اختلافها، وتباين أجناسها وأوصافها، لهما ولأعقاب أعقابهما، على التأبيد والتّخليد، والمحاشاة من اللّوازم، والمعاوز والمغارم، وأن يطّرد لشركائهما، وعمرة أملاكهما، ووكلائهما، وحواشيهما، ومن اتصل بهما، جميل العناية، وحفيل الرعاية، وموصول الحماية، الاستمرار الذي يطّرد العمل به مدى الأيام، وتتوالى التّمشية له من غير انصرام على الدوام، موفى بذلك، ما يحقّ لجانب الفقيه العالم، الأوحد الأسنى، أبي بكر، أدام الله عزته، من حظوظ الإجلال، منتهى فيه إلى أبعد آماد العنايات الشريفة، الفسيحة المجال، مقضى على حقّ ما انفرد به من العلم، واتصف به من الديانة، اللذين أضفيا عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة
والعمّال، وسائر ولاة الأشغال، وليتلقّه بغاية الائتمار والامتثال، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.
مشيخته: أخذ عن أبي العباس أحمد بن منذر الإشبيلي، تلا عليه بإشبيلية، وعلى عباس بن عطية أبي عمرو. وروى عن أبي محمد عبد الكبير الإشبيلي، وصحب أبا الحسن بن زرقون، وتفقّه عليه. وانتقل إلى ألمرية، فصحب أبا إسحاق البليفيقي وأخذ عنه، وتزوج ابنته. وأجاز له أبو عبد الله بن هشام الشّواش وغيره. ثم انتقل آخر عمره إلى سبتة.
شعره: نقلت من خطّ شيخنا أبي البركات قوله في غرض الوصية: [الطويل]
أليل النّوى، هل من سبيل إلى فجر؟ ... ويا قلب، كم تأسى ويا دمع، كم تجري
أبى القلب إلّا أن يهيم بحبّكم ... وأن تبرحوا إلّا القليل عن الفكر
رحّلت عنكم لا بقلبي وإنما ... تركت لديكم حين ودّعتكم سرّي
أعود بدهر الوصل من حين هجركم ... وربّ وصال مستعاد من الهجر
لتلعاب (1) نفسي لست أنفق قربكم ... لزهدي فيكم بل حرصت على البرّ
تقطّع أكباد عليكم صبابة ... فاصبر فإنّ (2) الخير أجمع في الصبر
وبالقلب من لا يصلح الصبر عنهم ... وإن كان خيرا فهو عنهم من الشّرّ
فلولاهم ما كنت أحسب ساعة ... فقدتكم فيها عيانا من العمر
ألا يا أخي فاسمع وصاتي (3) فإنها ... أتتك (4)، لعمري، من أخ سالم الصّدر
يحبّك في ذات الإله ويبتغي ... بحبّك عند الله مدّخر الأجر
ألا إنما التوفيق كنت من أهله (5) ... مراعاة حقّ الله في السّرّ والجهر
بتوحيده في ذاته وصفاته ... وأفعاله أيضا وفي النّدّ (6) والأمر
فثابر على القرار والأثر الذي ... يصحّ عن المختار والسّادة الغرّ
وعدّ لك الخيرات عما سواها ... وكن بها مستمسكا أبد الدهر
إذا يسلك الشيطان فجّا سوى الذي ... سلكت ولا يلفي سبيلا إلى مكر
__________
(1) في الأصل: «للعباب» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «إن» وكذا ينكسر الوزن.
(3) الوصاة، بفتح الواو: الوصية. محيط المحيط (وصى).
(4) في الأصل: «لبّتك»، وهو ما لا معنى له.
(5) في الأصل: «من أهله» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة القطع همزة الوصل.
(6) في الأصل: «الندى» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.(2/291)
وفرّق من (1) الأجناس حاشا تقيّهم ... فقد ظهر الإفساد في البرّ والبحر
ولا تنسني واذكر أخاك بدعوة ... فإنك منه يا أخي لعلى ذكر
قال شيخنا أبو البركات: ومن شعره، ومن خطّه نقلت: [الكامل]
للصالحين إلى الصلاح طريق ... رحبت بهم وغدت عليك تضيق
صرفوا النفوس من الهوى عن صوبها ... فغدت إلى طلب النّجاة تتوق
منها بعد أبيات:
يا قرّة العين استمع من ناصح ... في صدره قلب عليك شفيق
أنت الشّقيق ولادة ولذلك لي ... روح لروحك في الخلوص شقيق
لا تخدعنّك ترّهات أحدثت ... وخزعبلات للجهول تروق
واعكف على القرآن دهرك واجتمع ... فالشّغل عنك لغيره تفريق
إنّ الحديث وفقهه وعلومه ... هذا الذي للمؤمنين يليق
واهجر بني الدنيا فإنّ بهجرهم ... يتضاعف الإيمان والتصديق
والحق بقوم قد عنوا بتجارة ... نفقت لهم يوم القيامة سوق
واحفظ لسانك عن أذيّة (2) مسلم ... فسبابه قال الرسول فسوق
لا تبك همّ الرزق فهو مقدّر ... والعبد طول حياته مرزوق
ولترض بالرحمن ربّا حاكما ... ودع الفضول فمنه ضلّ فريق
حلّوا عقال عقولهم وتحكّموا ... إنّ التحكم بالعقول مروق
ولقد أتتك نصيحتي ولشمسها ... في أفق حبّك يا حبيب شروق
فكن القريب مكانه من نفعها ... فمكان سدّتها إليك سحيق
واصطد بباري العزم أطيار الرضا ... فأخوك غاية بازه التّحليق
ولتجعل التسبيح شأنك إنه ... في الصّعب ممن شأنه التّصفيق
واقنع بعلم الوحي علما ثم لا ... يذهب بك التّشقيق والتوفيق
لا ترض فيه بالدنيّة ولتمت ... عطشا إذا لم تسق منه رحيق
ما كلّ علم يهتدى بحصوله ... منه الرّكيك نعم ومنه رقيق
__________
(1) كلمة «من» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(2) في الأصل: «إذاية».(2/292)
كمدارك الأصوات منها طيّب ... تسلو النفوس به ومنه نهيق
وعليكم منّي تحيّة من له ... قلب إليكم أجمعين (1) مشوق
وقال: ألفيت بخطه ما نصّه: وكان بعض السفهاء قد كتب إليّ بيتين من شعر وهما: [الطويل]
إليك، أبا بكر، رفعت وسيلتي ... ومثلك من تلقى إليه الوسائل
غرقت ببحر الذّل يوما وليس لي ... بأرضكم إلّا اهتمامك ساحل
وأساء المحاولة في دفعها، فصرفته، ولم أقف عليهما، فضرب عليهما، وكتب في ظهرهما: [الطويل]
حللت، أبا بكر، بموطن عزة ... فأنسيت ما قد كنت فيه من الذّلّ
وأصلك من كبر وكن متكبّرا ... وكيف يطيب الفرع من ذلك الأصل؟
وكتبت إليه صحبة دراهم وجّهت بها إليه: [الطويل]
جفوت وما زال الجفاء (2) سجيّة ... لمثلك ما إن زال تبلى بها مثلي (3)
وما قلت في أصلي فكذبة فاجر ... رأى الفرع محمودا فعاب على الأصل
وبالإفك ما عثرت لا بحقيقة ... فما الكبر من شأني ولا كنت في ذلّ
وما زلت، والله، الحميد مكرّما ... وفي نائبات الدهر للعقد والحلّ
ولو كنت من يتّقي الله لم تكن ... تمرّ (4) متى تسخط وعند الرّضا تحلي (5)
أما قلت أني ساحل لك عندما ... غرقت ببحر الذّلّ في زمن المحل؟
وكيف نسخت المدح بالذّمّ قبل أن ... تبثّ لي الشكوى وتدلي بما تدلي (6)
ولكنّ لؤم الطّبع يحمل أهله ... على الصّعب من سبّ الكرام أو النّيل
إذا (7) كان بعض الكبر نقصا فإنه ... عليك من الأوغاد يحسب في الفصل
وما الذّلّ إلّا ما أتى بك نحونا ... فقيرا من التّقوى سليبا من العقل
ومطلوبك الدّنيا فخذها خسيسة ... توافي خسيس النّفس والقول والفعل
__________
(1) في الأصل: «أجمعه» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الجفا» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «مثل» وهكذا ينكسر الوزن، وأعتقد أنه خطأ في الطبع.
(4) في الأصل: «تمد» بالدال.
(5) في الأصل: «تحل». يقول: يضرّ متى يسخط، وعند الرضا ينفع.
(6) في الأصل: «تدل» بدون ياء.
(7) في الأصل: «إن» وكذا ينكسر الوزن.(2/293)
وما الجود إلّا ما أصبت مكانه ... ومهما فقدت الأصل لا عار في البخل
ومثلك من يجفي ويقلب خاسئا ... فلست لإسداء الصّنيعة بالأهل
ولكنني عوّدت نفسي عادة ... من البذل لم أعدل بها قطّ عن نذل
فخذها، لحاك الله، غير مبارك ... لسعيك فيها يا ابن خانية النّعل
ومثلي من يؤذى فيحتمل الأذى ... ولكنه قد يدرأ (1) الجهل بالجهل
وقد قال من لا شكّ في قوله من حك ... مة إنما القتل أذهب للقتل (2)
فإن زدتنا زدنا وإن كنت نادما ... قبلناك أخذا في أمورك بالعدل
ففي كل شيء لست عنك مقصّرا ... بما شئت من قطع وما شئت من وصل
قال الشيخ: قول الهاجي: وأصلك من كبر، معناه التعريض يكون سلف أبي بكر بن مهيب، علوا في أنفسهم وتكبروا، فثاروا بسبب ذلك بطبيرة وجهاتها، ثار منهم عبد الرحمن جدّ أبي بكر، ثم حسن، ثم عامر أخوه، وإلى هذا أشار أبو بكر بن مهيب بقوله في بعض شعره: [الكامل]
إن لم أكن ملكا فكنت رئيسا (3)
وأنشد في الصلة الزبيرية (4)، قوله رحمه الله: [الكامل]
أملي من الدنيا المباحة كسرة ... أبقي بها رمقي ودار نابيه
قد أضرب الزمان عن سكانها ... فكأنها في القفر دار خاليه
ومن شعره في المقطوعات: [الطويل]
ترحّل صبري والولوع مقيم ... وصحّ اشتياقي والسّلوّ سقيم
فياليت شعري هل أفوز بعطف من ... زيّنت خدّي وردا عليه أقوم (5)؟
ويا جنّة قد حيل بيني وبينها ... بقلبي من شوقي إليك جحيم
دخوله غرناطة: قال الشيخ: دخل غرناطة مرتين، أخبرني بذلك الشيخ القاضي أبو الحسن بن عبيدة، وهو بصير بأخباره، إذ هو من أصحاب سلفه، وممن رافق جدّه في الكتب عن بعض الأمراء مدة، وفي الخطابة بألمريّة أخرى.
__________
(1) في الأصل: «يدر» وكذا لا يستقيم المعنى والوزن معا. ودرأ الجهل بالجهل: دفعه دفعا شديدا.
(2) في الأصل: «من الحكما القتل» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(3) في الأصل: «ريّسا» وكذا ينكسر الوزن.
(4) أي كتاب «صلة الصلة» لابن الزبير.
(5) عجز هذا البيت لا يستقيم وزنه ولا معناه.(2/294)
وفاته: توفي بسبتة أول ليلة من جمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وستمائة.
محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي
حاله: من صلة ابن الزبير: كان كاتبا بارعا، شاعرا مجيدا، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام، وغير ذلك، مع نباهة وحسن فهم، ذو فضل وتعقل، وحسن سمت. وورد على غرناطة، واستعمل في الكتابة السلطانية مدة، وكان معلوم القدر، معظّما عند الكافة. ثم إنه رجع إلى مرسية، وقد ساءت أحوالها، فأقام بها مدة، ثم انفصل عنها، وقد اشتدّت أحوالها، واستقر بالعدوة بعد مكابدة.
قلت: أخبرني شيخنا أبو الحسن الجياب، رحمه الله، قال: كان شكس الأخلاق، متقاطبا، زاهيا بنفسه ابتدأ يوما كتابا مصدّرا بخطبته، فقال فيه يصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم «عفوة العفوة»، وتركه لأمر عرض له، فنظر إليه الفقيه عمر اللّوشي، وهو كاتب المقام السلطاني، فظنّ لقصوره أنه وهم، وأراد «الصفوة» فأصلحه، فلمّا عاد ونظر إليه مزّقه، وكسر الآلة، وقال: لا أقيم بموضع بلغ فيه الجهل إلى هذا القدر، ويتسوّر به الإصلاح على قلم يطمع بعد في مقامه.
وانصرف، واستقرّ بتلمسان، كاتبا عن سلطانها أبي يحيى يغمراسن بن زيّان.
وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله ابن الأمير أبي زكريا، استقدمه على عادته في استدعاء الكتّاب المشاهير والعلماء، وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين، فاعتذر وردّ عليه المال، وكانت أشقّ ما مرّ على المستنصر، وطهر له علوّ شأنه، وبعد همّته.
مشيخته: روى عن القاضيين أبي عيسى بن أبي السّداد، وأبي بكر بن محرز، وعن الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد، المعروف بالقرشي، وقرأ وسمع على هؤلاء ببلده، وأجاز له كتابة أبو الربيع بن سالم وغيره.
شعره: من ذلك قوله: [الكامل]
اقنع بما أوتيته تنل الغنى ... وإذا دهتك ملمّة فتصبّر
واعلم بأنّ الرزق مقسوم فلو ... رمنا زيادة ذرّة لم نقدر
والله أرحم بالعباد فلا تسل ... أحدا تعش عيش الكرام وتؤجر
وإذا سخطت لبؤس حالك مرة ... ورأيت نفسك قد غوت فلتبصر
وانظر إلى من كان دونك تدّكر ... لعظيم نعمته عليك وتشكر(2/295)
ومما قاله في صباه: [الكامل]
يا دعوة شاك (1) ... ما قد دهاه من لحاظ رشاك
ظبي تصدّى للقلوب يصيدها ... من ناظريه في سلاح شاك
ورمى وإن قالوا رنا عن فاتر ... ساج عليه سيمة (2) النّسّاك
قد كنت أحذر بطشه لو أنني ... أبصرت منه مخايل الفتّاك
أو ما عليه ولا عليه حاكم ... يحمي ثغورك أو يحوط حماك
أو ما لجارك ذمّة مرعيّة ... أبذا يظلّ دم الغريب طلاك؟
إني استنمت إلى ظلالك ضلّة ... فإذا ظباؤك ماضيات ظباك
ما لي أخاطب بانة ما أن تعي ... قولا ولا ترثي لدمعة باك؟
أكريمة الحيّين، هل لمتيّم ... رحمى لديك فأرتجي رحماك؟
أصبتني بعد المشيب وليس من ... عذر لمن لم يصبه ثراك
لولاك (3) ما جذبت عناني لوعة ... والله يشهد أنني لولاك
لمّا دعا داعي هواك أجبته ... من لا يجيب إذا دعت عيناك؟
أصليتني نار الصّدود وإنّني ... راض بأن أصلى ولا أسلاك
وأبحت ما منع التشرّع من دمي ... بالله من أفتاك قتل فتاك؟
وتركت قلبي طائرا متخبّطا ... بشباك (4) ختلك أو بطعن سباك
ومنعت أجفاني لذيذ منامها ... كي لا يتيح لي الكرى لقياك
ولقد عجبت وأنت جدّ بخيلة ... كأن (5) أعرت الشمس بعض حلاك
إني لأيأس من وصلك تارة ... لكن أعلّل مطمعي بعلاك
أسماك أنك قد خفضت مكانتي ... هلّا خلعت عليّ من سيماك؟
إني معنّاك المتيّم فليكن ... حظّي لديك مناسبا مغناك
تثني معاطفك الصّبا خوطيّة ... وكذا الصّبا فصباك مثل حماك
أبعدتني منها بطعنة رامح ... ألذاك سمّتك الورى بسماك؟
أأموت من عطش وثغرك مورد ... فيه الحياة استودعتها فاك؟
هلا تني عن حلوة فلعلّة ... وضعت أداة النفي في اسم لماك
__________
(1) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «سيم» وكذا لا يستقيم الوزن.
(3) في الأصل: «لولا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «شباك» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «أن» وكذا ينكسر الوزن.(2/296)
وقال يجيب أبا عبد الله بن خميس، رحمه الله، عن قصيدة بعث بها إليه أولها:
[الكامل]
رد في حدائق مائها مرتاد ... قد لذّ مورود وطاب مراد
زرق الأسنّة دون زرق حمامها ... وظبى كما رنت العيون حداد
هذه الأبيات: [الكامل]
نعم المراد لمن غدا يرتاد ... مرعى يرفّ نباته ومهاد
سالت على العافي جداوله كما ... صالت على العادي ظبى تناد (1)
فشددت رحل مطيتي منه إلى ... حيث السيادة تبتنى وتشاد
وركبت ناجية (2) مبارية الصّبا ... خضراء (3) فوق خضارة (4) تعتاد
يغتادها سكانها قلّب على ... من كان من سكانها استبداد
عجبا لهم أحلامهم عاديّة ... تمضي عليهم حكمها أعواد
خبّر تلمسانا بأني (5) جئتها ... لمّا دعاني نحوها الرّواد
وأعاقها (6) سمعا ولم أر حسنها ... إلّا أناسا حدّثوا فأجادوا (7)
ولربّ حسن لا ثواه ناظر ... ويراه لا يخفى عليه فؤاد
ودخلتها فدخلت منها جنّة ... سكانها لا تخفى ولا حياد (8)
ورأيت فضلا باهرا ومكارما ... وعلا تغاضر دونها التّعداد
أهل الرّواية والدراية والنّدى ... في نورهم أبدا لنا استمداد
فهم إذا سئلوا بحار معارف ... ولدى السكينة والنهى أطواد
درجاتها ينحطّ عنها غيرهم ... ومن الورى قتر ومنه وهاد
فأجلّهم وأحلّهم من مهجتي ... بمكانة ما فوقها مزداد
وأودّ حين أخطّ أطيب ذكرهم ... لو أنّ أسود مقلتيّ مداد
__________
(1) في الأصل: «العادي بدا ناد» وكذا لا يستقيم الوزن ولا معنى له. والعادي: العدو.
(2) الناجية: الناقة السريعة تنجو بمن ركبها. محيط المحيط (نجا).
(3) في الأصل: «خضرا» وكذا ينكسر الوزن. والخضراء: السماء. محيط المحيط (خضر).
(4) الخضارة: علم للبحر غير منصرف. محيط المحيط (خضر).
(5) في الأصل: «بأنني» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «وعاقتها» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن.
(7) في الأصل: «فأجاد».
(8) عجز البيت مختل الوزن والمعنى معا.(2/297)
وقال يخاطبه وقد وقف على بعض قصيدة: [الكامل]
رقّت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك بي وهاج رسيسي
ولمثله يصبو الحليم ويمتري ... ما للشروق به وسير العيس
لك في البلاغة والبلاغة بعض ما ... تحويه من أثر محلّ رئيسي
نظم ونثر لا تبارى فيهما ... مهّدت (1) ذاك وذا بعلم الطّوس
وقال عند وفاته وربما نسبت لغيره: [الخفيف]
ربّ أنت الحليم فاغفر ذنوبي ... ليس يعفو عن الذنوب سواكا
ربّ ثبّت عند السؤال لساني ... وأقمني على طريق هداكا
ربّ كن لي (2) إذا وقفت ذليلا ... ناكس الرأي أستحي أن أراكا
ربّ من لي والنار قد قربت لي ... وأنا قد أبحت عهد حماكا؟
ربّ مالي من عدّة لمآلي ... غير أني أعددت صدق رجاكا
ربّ أقررت أنّني (3) عبد سوء ... حلمك الجمّ غرّه فعصاكا
ربّ أنت الجواد بالخير دوما ... لم تزل راحما فهب لي رضاكا
ربّ إن لم أكن لفضلك أهلا ... باجترائي فأنت أهل لذاكا
نثره: ومن نثره ما خاطب به صديقين له بمرسية من مدينة إشبيلية:
كتبته، كتب الله لكما فوزا بالحسنى، وأجناكما من ثمرات إحسانه أكثر ما يجنى. من إشبيلية، وحالي بحمد الله حسنة، ونفسي بحبّ قربكما مرتهنة، وعليّ بما لديكما من السّراوة التي جبلتما على فطرتها، وامتزتما في الاجتلاء بغرّتها، علم لا يدخله الشكّ، ونسبتي إلى ودّكما الذي لبسته معلما، وتقلّدته محرما، لا يعبّر عن معناها إلّا بما لا يزال ولا ينفكّ. فلنثن عنان القلم عن مداده، ونأخذ في حديث سواه. وصلنا إشبيلية ضحوة يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر، ولقينا الإفانت (4) على ميلين، وفزنا بما ظهر من بشره واعتنائه بقرار الخاطر، وقرة العين، ونزلنا في الأخبية
__________
(1) في الأصل: «تمهدّت» وكذا ينكسر الوزن.
(2) كلمة «لي» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(3) في الأصل: «أني» وكذا ينكسر الوزن.
(4) المراد: الإنفانت، بالإسبانية، وهو لقب كان يطلق على ولي عهد ملك قشتالة، إذ كانت إشبيلية آنذاك تابعة لقشتالة لأنها سقطت في أيدي الإسبان سنة 646هـ. وصارت عاصمة لقشتالة. راجع: الإحاطة (ج 2ص 431) تحقيق عنان، حاشية رقم 6.(2/298)
خارج البلد، موضعا يعرف بالقنب (1)، قد تفجّر عيونا، وجمع ماؤه وهواؤه من المحاسن فنونا، وعرض علينا النزول في الدّيار داخل المدينة، فرأينا المقام فيه أحد الأسباب المسعدة على حفظ الصحة المعينة، ورغبنا عن المدينة لحرّها الوهاج، وغبارها العجاج، ومائها الأجاج. ولمّا ثاب من النشاط البارح، واستقلّ من المطيّ الرازح، طفت في خارجها وداخلها، ووقفت على مبانيها المشيّدة ومنازلها، ورأيت انسياب أراقشها، وتقصيت آثار طريانتها (2) وبراقشها، فشاهدت من المباني العتيقة، والمنارة (3) الأنيقة، ما يملأ أعين النّظّار، وينفسح فيه مجال الاعتبار، على أني ما رأيتها إلّا بعد ما استولى عليها الخسف، وبان عنها الظّرف، ونبا عنها الطّرف، فلا ترى من مغانيها إلّا طللا دارسا، ولا تلمح من بدائعها إلا محيّا عابسا، لكن الرائي إذا قدّر وضعها الأول، وركب وهمه من مبانيها ما تحلّل، وتخيّل في ذهنه حسنها وتمثل، تصور حسنا يدعو إلى المجون، ويسلي عن الشجون، لولا أنها عرضت لأشمط راهب، لما دان إلّا بدن ولا تقرّب بغير قارب، وحسبي أن أصفها بما يقيها من القبول، وأقول إنها في البلاد بمنزلة الربيع من الفصول، ولولا أن خاطري مقسّم، وفكري حدّه مثلم، لقضيت من الإطناب وطرا، ولم أدع من معاهدها عينا إلّا وصفتها ولا أثرا.
وفاته: توفي بتلمسان يوم عاشوراء سنة ست وثمانين وستمائة.
محمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي (4)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الصايغ، بالصاد المهملة، والغين المعجمة، من أهل ألمريّة.
حاله: من خطّ (5) شيخنا أبي البركات في «الكتاب المؤتمن على أنباء أبناء الزمن»: كان سهلا، سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميّالا إلى الدّعة، نفورا عن النّصب، يركن إلى فضل نباهة وذكاء، يحاسب بها (6) عند التحصيل والدراسة والدّؤوب على الطلب، من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف،
__________
(1) القنب: بالإسبانية، وهو الحقل أو الميدان.
(2) طريانة: بالإسبانية وهي ضاحية بإشبيلية على نهر الوادي الكبير.
(3) هي منارة المسجد الجامع بإشبيلية، وتعرف اليوم باسم.
(4) ترجمة ابن لب الأمي في الكتيبة الكامنة (ص 88) وبغية الوعاة (ص 60) والدرر الكامنة (ج 4 ص 103) ونفح الطيب (ج 8ص 358وما بعدها).
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 359).
(6) في النفح: «بهما».(2/299)
ولم يكن له صوت رخيم، يساوق (1) انطباعه في التّلحين، يخبر (2) ذلك بالأوتار.
وحاول من ذلك بيده مع أصحابه، ما لاذ به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان، وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه (3). ثم نهضت به همّته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى غرناطة، وقرأ (4) بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة. ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها (5) علّة كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور: ورأى في صغره فأرة أنثى، فقال: هذه قرينة، فلقّب بذلك، وصار هذا اللقب أغلب عليه (6) من اسمه ومعرفته.
وجرى ذكره في التاج بما نصه (7): لجّ معرفة لا يغيض (8)، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مشمّرا عن ساعد اجتهاده، وشارك (9) في قنن (10) العلم ووهاده، حتى أينع روضه، وفهق (11) حوضه. ثم أخذ في إراحة (12) ذاته، وشام بارقة (13) لذّاته، ثم سار في البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصّبوح، حتى قضى وطره، وسيم بطره، وركب الفلك، وخاض اللّجج الحلك، واستقرّ بمصر على النعمة العريضة، على شكّ في قضائه (14) الحجّة العريضة، وهو اليوم (15) بمدرستها الصالحية، نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة.
مشيخته: قرأ بألمرية على المكتّب أبي عبد الله الميرقي، وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن (16)
القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيّان، وانتفع به وبجاهه.
__________
(1) يساوق: يجاري ويوازي. لسان العرب (سوق).
(2) في النفح: «فجبر».
(3) في النفح: «من شأنه».
(4) في النفح: «فقرأ».
(5) في الأصل: «هواها» والتصويب من النفح.
(6) كلمة «عليه» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(7) النص في نفح الطيب (ج 8ص 359358).
(8) لا يغيض: لا ينضب. لسان العرب (غيض).
(9) في النفح: «وسائرا».
(10) القنن: جمع قنّة وهي القمّة. لسان العرب (قنن).
(11) فهق: امتلأ. لسان العرب (فهق).
(12) في النفح: «راحة».
(13) في النفح: «بارق».
(14) في النفح: «في قضاء حجة الفريضة».
(15) كلمة «اليوم» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(16) في نفح الطيب (ج 8ص 359): «على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته».(2/300)
شعره: قال شيخنا أبو البركات: وكان أخذ من قرض جيد الشعر بالحظّ الوافر.
فمن شعره ما نقله إلينا الحاج الحافظ المكتّب أبو جعفر بن غصن، حسبما قيّده عنه بمصر (1): [الكامل]
بعد المزار ولوعة الأشواق (2) ... حكما بفيض مدامع الآماق
وحفوق نجديّ النسيم إذا سرى ... أذكى لهيب فؤادي الخفّاق
أمعلّلي إنّ التّواصل في غد ... من ذا الذي لغد فديتك باق؟
إنّ الليالي سبّق قد (3) أقبلت ... وإذا تولّت لم تنل بلحاق
عج (4) بالمطيّ على الحمى، سقي الحما ... صوب الغمام الواكف الرّقراق
فيه (5) لذي القلب السليم وداده ... قلب سليم يا (6) له من راق (7)
قلب غداة فراقهم فارقته ... لا كان في الأيام يوم فراق (8)
يا ساريا والليل ساج عاكف ... يفري الفلا (9) بنجائب (10) ونياق
عرّج على مثوى النّبيّ محمد ... خير البريّة ذي المحلّ الراقي (11)
ورسول ربّ العالمين ومن له ... حفظ العهود وصحّة الميثاق
الظّاهر الآيات قام دليلها ... والطّاهر الأخلاق والأعراق
بدر الهدى (12) البادي الذي (13) آياته (14) ... وجبينه كالشمس في الإشراق
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 9088) ونفح الطيب (ج 8ص 363359).
(2) في الأصل: «ولوّعته أشواق» والتصويب من المصدرين.
(3) في المصدرين: «إن».
(4) في الأصل: «فصفح تمدّونه على». وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(5) في الكتيبة: «فبه».
(6) في النفح: «ما له».
(7) جاء في الكتيبة بدل عجز هذا البيت عجز البيت التالي. والسليم: المريض. والراقي: الذي يستعمل الرقية لمداواة المرض. لسان العرب (سلم) و (رقى).
(8) هذا البيت غير وارد في الكتيبة.
(9) في الأصل: «يفتري للعلا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(10) النجائب: الإبل السريعة. لسان العرب (نجب).
(11) في الأصل: «المنخل البراق» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة. وفي النفح: «المقام» بدل «المحلّ».
(12) في الكتيبة: «الهوى».
(13) كلمة «الذي» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(14) في النفح: «الهدى وهو الذي آياته».(2/301)
الشّافع المقبول من عمّ الورى ... بالجود والإرفاد والإرفاق
والصّادق (1) المأمون أكرم مرسل ... سارت رسالته إلى الآفاق
أعلى الكرام ندى وأبسطهم يدا ... قبضت عنان المجد باستحقاق
وأشدّ خلق الله إقداما إذا ... حمي الوطيس وشمّرت عن ساق
أمضاهم والخيل تعثر في القنا (2) ... وتجول سبحا في الدّم المهراق
من صيّر الأديان دينا واحدا ... من بعد إشراك (3) مضى ونفاق
وأحلّنا من حرمة الإسلام في ... ظلّ ظليل وارف الأوراق
لو أنّ للبدر المنير كماله ... ما ناله (4) كسف ونكس (5) محاق
لو أنّ للبحرين جود يمينه ... أمن السّفين غوائل الإغراق (6)
لو (7) أنّ للآباء رحمة قلبه ... ذابت نفوسهم (8) من الإشفاق
ذو العلم (9) والحلم الخفيّ (10) المنجلي ... والجاه والشّرف القديم الباقي
آياته شهب وغرّ بنانه ... سحب النّوال تدرّ بالأرزاق
ماجت (11) فتوح الأرض وهو غياثها ... وربت ربى الإيمان وهو الساقي (12)
ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة ... وهدى وتأديب بحسن سياق
وخصال مجد أفردت بالخصل في ... مرمى الفخار وغاية السّبّاق
ذو المعجزات الغرّ والآي التي ... كم آية فقدت وهنّ بواقي
ثنت المعارض حائرا (13) لمّا حكت ... فلق الصّباح وكان ذا إفلاق
يقظ الفؤاد سرى وقد هجع الورى ... لمقام صدق فوق ظهر براق
وسما وأملاك السّماء تحفّه ... حتى تجاوزهنّ سبع طباق
__________
(1) في النفح: «الصادق».
(2) في النفح: «الوغى».
(3) في الأصل: «إشراق»، والتصويب من المصدرين.
(4) في الكتيبة: «ما طاله».
(5) في الكتيبة: «وكشف».
(6) في النفح: «الإيساق».
(7) في الكتيبة: «أو».
(8) في الكتيبة: «قلوبهم».
(9) في الكتيبة: «ذو الحلم والعلم».
(10) في الأصل: «ذو العلم والخفيّ المنجلي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(11) في الأصل: «فاحت فيوح الأرض»، والتصويب من النفح.
(12) في الأصل: «وهو الشاق» والتصويب من النفح.
(13) في الأصل: «خيرا» والتصويب من النفح.(2/302)
منها:
يا ذا الذي اتصل الرّجاء (1) بحبله ... وانبتّ من هذا الورى (2) بطلاق
حبّي إليك وسيلتي وذخيرتي ... إني من الأعمال ذو إملاق (3)
وإليك أعملت الرّواحل ضمّرا ... تختال بين الوخد والإعناق (4)
نجبا إذا نشرت (5) حلى (6) تلك العلا (7) ... تطوي الفلا ممتدّة الأعناق
يحدو بهنّ من النّحيب مردّد ... وتقودهنّ أزمّة الأشواق
غرض إليه فوّقتنا (8) أسهما ... وهي القسيّ برين كالأفواق
وأنختها (9) بفنائك الرّحب الذي ... وسع الورى بالنائل الدفّاق (10)
وقرى (11) مؤمّلك الشفاعة في غد ... وكفى بها هبة من الرزّاق
وعليك يا خير الأنام تحيّة ... نحيى النفوس بنشرها الفتّاق
تتأرّج الأرجاء من نفحاتها (12) ... أرج النّديّ بمدحك المصداق
منها (13):
قسما بطيب تراب طيبة إنه ... مسك الأنوف وإثمد (14) الأحداق
وبشأن (15) مسجدها الذي برحابه ... لمعامل الرّحمن أيّ نفاق
لأجود فيه بأدمع أسلاكها ... منظومة بترائب وتراق
__________
(1) في الأصل: «الرجا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) في الأصل: «للورى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(3) الإملاق: الفقر. لسان العرب (ملق).
(4) الوخد والإعناق: ضربان من السير السريع. لسان العرب (وخد) و (عنق).
(5) في النفح: «نشدت».
(6) كلمة «حلى» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من المصدرين.
(7) في الأصل: «الفلا» والتصويب من المصدرين.
(8) في الأصل: «فوّقنا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح. وفي الكتيبة: «فوّقتها».
(9) في المصدرين: «فأنختها».
(10) في الأصل: «الدّقّاق»، والتصويب من المصدرين.
(11) في الأصل: «وقوّى» والتصويب من المصدرين.
(12) في الأصل: «لفحاتها» والتصويب من المصدرين.
(13) الأبيات التالية غير واردة في الكتيبة.
(14) الإثمد: حجر يكتحل به. محيط المحيط (ثمد).
(15) في الأصل: «وأثبار مسجده» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/303)
أغدو بتقبيل على حصبائه ... وعلى كرائم (1) جدره بعناق
وعليك ذا النّورين (2) تسليم له ... نور يلوح بصفحة المهراق
كفؤ (3) النبيّ وكفؤ أعلى جنّة ... حيزت له بشهادة وصداق
وعلى أبي السّبطين (4) من سبق الألى ... سبقوا إلى الإسلام أيّ (5) سباق
الطاهر الصّهر (6) ابن عمّ المصطفى ... شرف على التّعميم (7) والإطلاق
مبدي القضايا (8) من وراء حجابها ... ومفتّح الأحكام عن إغلاق
يغزو العداة بغلظة فيهدّهم (9) ... بصوارم تفري الفقار رقاق
راياته لا شيء من عقبانها ... بمطار يوم وغى ولا بمطاق
وعلى كرام ستّة عثرت (10) بهم ... عند النظام ليالي (11) النّسّاق
ما بين أروع ماجد نيرانه ... جنح الظلام تشبّ للطرّاق
وأخي حروب صدّه رشف (12) القنا ... عمّا قدود مثلهنّ رقاق
ما غرّدت شجوا مطوّقة وما ... شقّت كمام الرّوض (13) عن أطواق
وعلى القرابة والصّحابة كلّهم ... والتابعين لهم ليوم تلاق
ولمّا سنّى الله في الرّوم الوقعة المبيرة والوقيعة الشهيرة التي أجلت عن قتل مليكهم معركتها، وانتهت للفتح معركتها وحركتها، وعمّت الإسلام بإتعاس فلّ الكفر بركتها، قدم مع الوفود من أهل بلده، وهنّأ أمير المسلمين (14) بفتحه ذلك، وطلوع
__________
(1) في الأصل: «كرام جدره» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) ذو النورين: هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، تزوج بنتين من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعاقب، فلقّب بذي النورين.
(3) في الأصل:
«كفوا لنبي وكفوا على جنة ... خيّرت»
والتصويب من النفح.
(4) أبو السبطين: هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام.
(5) في النفح: «يوم».
(6) في النفح: «الطهر».
(7) في النفح: «التخصيص».
(8) في الأصل: «القضا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «فيعيدهم»، والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «عشرت».
(11) في المصدر نفسه: «لآلىء».
(12) في النفح: «رشق».
(13) في الأصل: «روض» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(14) هو السلطان أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد، حكم غرناطة من سنة 713هـ إلى سنة 725هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 78).(2/304)
ولده، فقال: [الكامل]
أمليك أم بدر الدّجى الوضّاح ... وحسامه أم بارق لمّاح؟
أعلى المسالك ما بنته يد التّقى ... وعمادها الأعلام والأرماح
وأحقّ من يدعى خليفة ربّه ... ملك خلافته هدى ونجاح
كأمير أندلس وناصرها الذي ... أفنى العداة حسامه السّفاح
أسمى الملوك أبو الوليد المرتضى ... وأعزّ من شرفت به الأمداح
هو دوحة الملك العليّ فروعها ... وبراحتيه ترزق الأدواح
وبمحو رسم عداته بلبانه (1) ... نطق الكتاب وخطّت الألواح
بدر الكمال لو أنّ (2) بدرا مثله ... لم يبد خشية نوره الإصباح
بحر النّوال لو أنّ (3) بدرا مثله ... لارتاع خشية فيضه الملّاح
ولمثله قاد الجياد عدوّه ... فخبا له قدح وخاب قداح
أهواه شيطان الهوى في لجّة ... إنّ الهوى بأليفه طمّاح
طمع الشّقيّ أضلّه وأذلّه ... كل المطالع للغبيّ فصاح
فأبادهم وملوكهم فتح بدا ... وبسعد جدّك ربّنا فتّاح
وفواصل تبرى بهنّ مفاصل ... وصفائح (4) يفرى بهنّ صفاح
لم تفن كلّهم سيوف الهند بل ... لسيوف جودك في النفوس جراح
ما زال حيّ عداك يحسد ميتهم ... ويحثّ فوتا عاجلا فيراح
فاقتل كبيرهم وأحيى صغيرهم ... واسب النّساء (5) فما عليك جناح
تسبيح (6) ما حاط العداة وما حموا ... وحماك يا منصور ليس يباح
يا أمّة الكفران تفنيدا وهل ... لجفون أعمى ينجلي مصباح؟
أتركتم بطرو (7) وحيدا مفردا ... يشدو عليه الطائر الصيّاح؟
وجوان (8) يرتشف الندى فنديمه ... غربانه ووساده الصّفّاح (9)
__________
(1) في الأصل: «بلبّاته» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «أنّ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة القطع همزة وصل.
(3) في الأصل: «أنّ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة القطع همزة وصل.
(4) في الأصل: «وصفاح» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «النسا» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «تستبيح» وكذا ينكسر الوزن.
(7) هو بطره بن ألهونش بن هرانده بن شانجه، صاحب قشتالة. راجع اللمحة البدرية (ص 119).
(8) هو الدون خوان، الوصيّ على ملك قشتالة.
(9) الصّفّاح: حجارة عريضة رقيقة. محيط المحيط (صفح).(2/305)
وكذلك المطران جاد رسومه ... قطر المنايا الصارم الطّفّاح
أرؤوس (1) تبيضّ النعام بمرجنا ... أصنافكم هذي أم الأشباح؟
ما للمطامير اشتكت من ضيقها ... بالمال والأسرى وهنّ فساح؟
جارت بكم أبطالنا فكأنكم ... كشح وجيش المسلمين وشاح
تبّا لروميّ يهيم براحة ... أيرام عن خيل الإله براح؟
قصّت قوادمكم فما إقدامكم ... والليل (2) جنح الكفر تغيض جناح
هذا فلا تستعجلوا ببلادكم ... سترون كيف يكون الاستفتاح
قد انثنت (3) بطحاؤنا بحطامكم ... ونباتها الرّيحان والتفاح
تالله ما كنتم بأول عسكر ... أمل النجاح وحينه يجتاح
القسّ غرّكم ليهلك نسلكم ... بسيوفنا إن إفكه لصراح
كم ذا يسخّركم ويسخر منكم ... غدرا ومكرا إنه لوقاح
منها:
وفوارس نشأوا لنهب فراس ... طلبوا انتشاء للدّما لا الراح (4)
أربوا على الأسد الهزبر بسالة ... مع أنهم غرّ الوجوه صباح
خاضوا بحار الحرب يطمو بحرها ... ووطيسها حامي الصّلى لفّاح
ما هم ببذل نفوسهم ونفيسهم ... وعن (5) النوال أو النّزال سجاح
وإذا هم ذكروا بناد فانتشق ... مسكا تضوّع عرفه النفّاح
فغدا وراح النصر يقدم جمعهم ... ويحفّهم حيث اعتدوا أو راحوا (6)
سنّاك مولانا بسعد مقبل ... خلصاء قد عمّتهم الأفراح (7)
وبنجلك البدر الذي آفاقه ... ملك وهالته هدى وصلاح
بدر البدور فلا بدار عليه ... وبذا أنارت (8) أربع وبطاح
__________
(1) في الأصل: «أم تبيض» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا كلمة «أم».
(2) في الأصل: «ولليل» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «قد انثنت» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع.
(4) في الأصل: «انتشاو الدّما للراح» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «عن النوال والنزال»، وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «راح».
(7) في الأصل: «له أفراح» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(8) في الأصل: «نارت» وكذا ينكسر الوزن. وأنارت ونارت: كلاهما بمعنى وهو أضاء.(2/306)
فلكم عدوّ ما (1) أفلّ بزوغه ... خسفت به الأوجال والأتراح
وهنا ونالك بالأمير تجدّد ... كلّ بحبّك نفسه ترتاح
قد جاء بعد العسر يسر شامل ... قد جاء بعد الشّدة الإنجاح
فالحمد لله الذي قد خصّنا ... ولنا بحمدك بعده إفصاح
وعلى المقام المولويّ تحيّة ... كالزّهر إذ تهدي شذاه رياح
ما خطّ مدحك في الطّروس محبّر ... ومحا (2) دياجير الأصيل صباح
وقال يرثي الخطيب ببلده، الشهير الفاضل، أبا الحسن بن شعيب، رحمه الله:
[الطويل]
بوادي لقد حملت ما ليس لقواه ... فراق ولا (3) من شرف الأرض تقواه
بليت بذا التفريق فاصبر فربما ... بلغت بحسن الصبر ما تتمنّاه (4)
شجا كلّ نفس فقد أنفس جوهر ... تعدّ ولا تحصى كرام سجاياه
بكى كلّنا حزنا عليه كما بكى ... لفرقته محرابه ومصلّاه
فلله خطب جليل لقد رمى ... أجلّ خطيب بالجلالة مصماه
فلولاكم يغلب تأسّينا الأسى ... ولم يشمل الشّمل التفجّع لولاه
فلم يبق إلّا من جفا جفنه الكرى ... ومن جانبت وصل المضاجع جنباه
وفاء (5) المرّي وفّى فوفّي أجره ... وأصفى بإصفاء الإله وصافاه
أبي الحسن العدل الرّضا المحسن الذي ... أتته بأضعاف الزيادة حسناه
خطيب جلا فصل الخطاب بيانه ... وأعدل قاض فاضل في قضاياه
وجسم الهدى الرّحب السبيل وروحه ... ولفظ العلى الفخر الأصيل ومعناه
مطيع رفيع خاضع متواضع ... كريم حليم طاهر القلب أوّاه
متى يمش (6) هونا ليس إلّا لمسجد ... تمد (7) خجلا أرض بها حطّ نعلاه
تكلّمه عرف وذكر وحكمة ... تلذّ بها الأسماع ما كان أحلاه
__________
(1) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها لكي يستقيم الوزن.
(2) في الأصل: «ومحي دجاجر» وكذا لا يستقيم لا المعنى ولا الوزن. والدياجير: جمع ديجور وهو الظلام. محيط المحيط (دجا).
(3) في الأصل: «ولى شرف» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «ما تمناه» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «وفاة».
(6) في الأصل: «يمشى» وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «تميد» وكذا ينكسر الوزن. وهو فعل مجزوم لأنه جواب فعل الشرط.(2/307)
كذا صمته خوف وفكر وخشية ... فما زال يخشى الله والكلّ يخشاه
يصوم وقد طال النهار مهجّرا ... وتبحر بالليل التغمّض (1) عيناه
فكم دارس أحياه من أربع التّقا ... وكم غاسق من حندس الليل أحياه
فيا طيّبا أصلا وذكرا وتربة ... ومنه استفاد الطّيب أطيب ريّاه
وفي حرقة تحنو ومرأى وباطنا (2) ... وأمن سنا شمس الضحى من محيّاه
محيّا يروّي الناظرين تهلّلا ... فتعرفه في الصالحين بسيماه
بحبّك هامت كلّ نفس منيبة ... كذا من أحبّ الله حبّبه الله
فما أنعم الأرض التي بك قدّست ... وآثر ذيّاك الضريح وأنداه
بشراك إنّا قد شغلنا بحزننا ... ورضوان بشراه بذلك بشراه
عزا لأهليه الأهلة أنهم ... لهم يعتري من بعده العزّ والجاه
نال شعيب في الزمان بدوره ... ولم تكن الشمس المنيرة إلّاه
أعزّي أولي الإيمان كلّا بفقده ... نعم وأسنّيه بحبّه مأواه
سقى الله وسميّ الحيا ذلك الثرى ... وغاداه صوب الغاديات وميّاه
كما قد سقاه ليلة الدّفن ربّه ... من الغيث وكّاف السحاب وأسخاه
ترضّوا عن القاضي الإمام خطيبكم ... فقد رضي الرحمن عنه وأرضاه
وصلّوا على هادي الأنام نبيّكم ... صلاة بها يمحو المسيء خطاياه
عليك سلام الله ما الروض فاح إن ... سرت سحرا ريح الصّبا بخزاماه
وفاته: توفي، رحمه الله، في رمضان، تحقيقا من سنة خمس (3) على شكّ وسبعمائة، أخبرني بذلك من يوثق به.
محمد بن عبد الله بن الحاج البضيعة
من أهل مالقة، وتردّد كثيرا على الحضرة، مسترفدا ومنشدا، وفي غير ذلك من الأغراض، يكنّى أبا عبد الله.
حاله وشعره: من الإكليل: شاعر اتخذ النظم بضاعة، وما ترك السعي في مذاهبه ساعة، أجرى في الملا، لا في الخلا، وجعل ذكره دلوه من الدّلا، وركض
__________
(1) في الأصل: «للتغمض» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وفي حشرقة تحن ومرتجا وباطنا» وكذا لا يستقيم لا المعنى ولا الوزن.
(3) الصواب أنه توفي سنة خمسين وسبعمائة كما جاء في بغية الوعاة (ص 60). وجاء في الدرر الكامنة (ج 4ص 103) أنه مات بالطاعون عام 749هـ.(2/308)
في حلبة النجبا النجائب، ورمى في الخواطي بسهم صائب، فخرج بهرجه ونفق، وارتفد بسببه وارتفق. وهو الآن قد سالمته السنون، وكأنّما أمن المنون، من رجل مكفوف الأذى، حسن الحالة إلّا إذا، هذا قلت، ثبت هذا والمذكور حيّ، وقد مات، رحمه الله.
ومن شعره: [الطويل]
رجائي (1) في المولى العظيم عظيم ... غنيت به حيث الغناء مديم
وحسبي الرجا فيمن عليه معوّلي ... حديث حديث لم يزل وخديم
وما عرفت نفسي سوى باب فضله ... على ثقة أنّ الكريم كريم
فإن قيل عنّي مذنب قلت سيّد ... كفيل بغفران الذنوب رحيم
وما اعتصم المملوك إلّا بحبله ... فجانبه نعمى لنا ونعيم
رضاه سبيل للنجاة وحبّه ... طريق لجنّات النّعيم قديم
وأنشد يوما الأمير ثالث الأمراء من بني نصر (2) يهنيه بالملك ويعزّيه (3):
[الوافر]
على من تنشر اليوم البنود؟ ... وتحت لواء من تسري الجنود؟
وقال (4): على هذا الكذا، الذي بين يديك، فخجل، وعظم استظراف الحاضرين لذلك.
وفاته: توفي في كذا وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن فطيس
يكنى أبا عبد الله، من أهل مالقة. وقال الأستاذ (5): من بيت فطيس الألبيريين.
__________
(1) في الأصل: «رجاى» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) هو السلطان أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الملقب بالمخلوع، وقد حكم من سنة 701هـ حتى سنة 708هـ. اللمحة البدرية (ص 60).
(3) الحكاية والبيت في اللمحة البدرية (ص 61).
(4) في اللمحة البدرية أن ضمير «قال» يعود إلى السلطان أبي عبد الله المخلوع، وجاء هناك هذه العبارة: «فقال له السلطان: على هذا الزبّلح الذي ترى قدّامك يعني نفسه فاستطرفها الناس، وخجل الشاعر».
(5) الأستاذ: هو أبو جعفر بن الزبير، صاحب كتاب صلة الصلة.(2/309)
حاله: قال: طبيب ماهر، وأديب شاعر كان في أيام بني حسّون، يخفّ عليهم، وله فيهم أمداح كثيرة. يذكر أنه دخل يوما على القاضي أبي مروان بن حسّون، بعد انقطاع عن زيارته، فعتبه القاضي، فاعتذر، ثم أنشد: [مخلع البسيط]
يا حاملا من علاه تاجا ... ومن سنا وجهه سراجا
لو كان رودي عديل ودّي ... لكنت من بابك الرّتاجا
إن لم يعرّج عليك شخصي ... نفسي وروحي عليك عاجا
وذكره ابن عسكر في كتابه.
محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن فتوح بن محمد بن أيوب بن محمد بن الحكيم اللخمي ذو الوزارتين (1)
يكنى (2) أبا عبد الله، رندي النشأة، إشبيلي الأصل، يرجع بيته، وبيت بني حجاج، وبيت بني عباد، إلى جرثومة واحدة. وانتقل سلفه إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جدّ والده هو المعروف بالحكيم لطبّه. وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر، إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق فيها العلّامة أبا عبد الله بن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتّابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أن توفي هذا السلطان، وتقلّد الملك بعده وليّ عهده أبو عبد الله المخلوع، فقلّده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الدّاني، فلمّا توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقّبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره، إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلا، نفعه الله تعالى، غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين، أبي الجيوش، مكانه.
حاله: كان (3)، رحمه الله تعالى، علما في الفضيلة والسّراوة، ومكارم الأخلاق، كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي الهمة، كاتبا بليغا، أديبا،
__________
(1) ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم في نفح الطيب (ج 3ص 360) و (ج 8ص 42) ضمن ترجمة ولده أبي بكر محمد بن أبي عبد الله بن الحكيم الرندي.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 4342).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 43).(2/310)
شاعرا، حسن الخطّ، يكتب خطوطا على أنواع كلّها جميلة الانطباع، خطيبا، فصيح القلم، زاكي الشّيم، مؤثرا لأهل العلم والأدب، برّا بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للفضائل آفاق (1). ومن «عائد الصلة»:
كان (2)، رحمه الله، فريد دهره سماحة، وبشاشة، ولوذعيّة، وانطباعا، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزّا للمديح، طلقا للأمل، كهفا للغريب، برمكي المائدة (3)، مهلّبي الحلوى (4)، ريّان من الأدب، مضطلعا بالرواية، مستكثرا من الفائدة. يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التّحسين والتّقبيح، ورفع راية الحديث والتّحديث، نفّق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقه تدبير الملك عن المطالعة والسماع والإفراط (5) في اقتناء الكتب، حتى ضاقت قصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها. قام له الدّهر على رجل (6)، وأخدمه صدور البيوتات، وأعلام الرّياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمّل من (7) الآفاق النائية.
رحلته ونباهته: رحل (8) إلى الحجاز الشريف من بلده، على فتاء سنّه، أول عام ثلاثة (9) وثمانين وستمائة، فحجّ وزار، وتجوّل في بلاد المشرق، منتجعا عوالي الرواية في مظانّها، ومنقّرا عنها عند مسنّي شيوخها، وقيّد الأناشيد الغريبة، والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرّفها الله، من شهر رمضان إلى انقضاء الموسم، فأخذ بها عن جماعة يأتي ذكرهم في مشيخته. وانصرف إلى المدينة المشرّفة، ثم قفل مع الرّكب الشامي إلى دمشق، ثم كرّ إلى المغرب، لا يمرّ بمجلس علم أو تعلّم إلّا روى أو روّي. واحتلّ رندة، حرسها الله، أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، وأقام (10) بها عينا في قرابته، وعلما في أهله، معظّما عندهم (11)، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب، الوقيعة البرمكيّة (12). وورد رندة في أثر ذلك، في شهر جمادى الآخرة من عام ستة وثمانين وستمائة، فتعرّض إليه، ومدحه (13)، وهنّأه بقصيدة طويلة
__________
(1) هنا ينتهي النص في نفح الطيب.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 4847).
(3) برمكي المائدة: نسبة إلى البرامكة الذين كانوا مضرب المثل في الكرم والضيافة.
(4) مهلبي الحلوى: نسبة إلى بني المهلب بن أبي صفرة، وكانوا مضرب المثل في أكل الحلوى.
(5) في النفح: «وأفرط».
(6) قام له الدهر على رجل: كناية عن مطاوعة الدهر له.
(7) في النفح: «في».
(8) النص في نفح الطيب (ج 8ص 4948).
(9) في الأصل: «ثلاث»، وهو خطأ نحوي.
(10) في النفح: «فأقام».
(11) في النفح: «لديهم».
(12) المراد وقيعة هارون الرشيد بالبرامكة.
(13) كلمة «ومدحه» غير واردة في النفح.(2/311)
من أوليات شعره، أولها (1): [الرمل]
هل إلى ردّ عشيّات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال؟
فلمّا أنشدها إياه، أعجب به، وبحسن خطّه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد (2) إليها في آخر العام المذكور، فأثبته في خواصّ دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقّاه إلى كتابة الإنشاء ببابه. واستمرّت حاله، معظّم القدر، مخصوصا بالمزية، إلى أن توفي السلطان، ثاني الملوك من بني نصر، وتقلّد الملك بعده، وليّ عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقّبه بذي الوزارتين وأعطاه العلامة، وقلّده الأمر، فبعد الصّيت، وطاب الذّكر، إلى أن كان من الأمر (3) ما يأتي به الذكر قريبا إنشاء الله تعالى.
مشيخته: قرأ (4) برندة على الشيخ النحوي أبي الحسن علي بن يوسف العبدري السّفاح، القرآن العظيم بالروايات السّبع، والعربية وغير ذلك. وعلى الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر، وأخذ عن والده جميع مرويّاته. واستجاز له في صغره أعلام ذلك الزمان، وأخذ في رحلته عن الجلّة من الجملة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر.
فمنهم أبو اليمن جار الله ابن عساكر، لقيه بالحرم الشّريف، وانتفع به، واستكثر من الرواية عنه. ومنهم الشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحرّاني، المعروف بابن هبة الله الحراني. ومنهم الشيخ الشريف (5) أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري جزائر المغرب نزيل بغداد. ومنهم الشيخ أبو الصفا خليل بن أبي بكر بن محمد المرادي الحنبلي، لقيه بالقاهرة. ومنهم الشيخ رضي الدين القسطميني أبو بكر. ومنهم الشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطي، إمام الديار المصرية، في الحديث ومؤرخها وحافظها. ومنهم عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد الخيمي، شهاب الدين أبو عبد الله، نزيل مشهد الحسين بن علي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها (6): [البسيط]
يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التّقصّي وانتهى الطلب
__________
(1) هو مطلع قصيدة طويلة سترد في هذه الترجمة بعد قليل.
(2) في النفح: «فوفد آخر عام ستة وثمانين».
(3) في النفح: «من أمره ما كان».
(4) النص في النفح (ج 3ص 362361).
(5) في النفح: «الشرف».
(6) البيت في نفح الطيب (ج 3ص 361) و (ج 7ص 246) وجاء في الجزء السابع: «التقضي» بالضاد المعجمة.(2/312)
ومنها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه (1):
يا بارقا بأعالي الرّقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك السّبب (2)
ومنهم عبد المولى يحيى بن حماد البعلبكي مولده سنة إحدى عشرة وستمائة. ومنهم محمد بن بكر بن خلف بن أبي القاسم الصّفار. ومنهم الشيخ أبو الفضل الأديب جمال الدين بن أبي الخير بن علي بن عبد الله بن رواحة. ومنهم محمد بن يحيى بن عبد الله القرشي جمال الدين أبو صادق، ومن تخريجه «الأربعون المرويّة بالأسانيد المصرية»، وسمع الحلبيّات من ابن عماد الحرّاني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة، ومولده سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. ومنهم الشيخ محمد بن عباس الأشعري تقي الدين الحافظ أبو القاسم. ومنهم الشيخ محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن عبد المجيد الأنماطي. ومنهم أبو البدر بن عبد الله بن أبي الزبير، الكاتب المصري. ومنهم الشيخ عبد الرحيم بن عبد المنعم بن خلف التّدميري. ومن رؤساء شيوخه الشيخ محيي الدين أبو الفضل. ومنهم زينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي، تكنّى أم الفضل، وسمعت من أبيها. ومنهم محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الخراساني، أبو عبد الله موقّر الدين، وألبسه خرقة التصوف.
ومنهم الشيخ محمد بن يحيى بن هبيرة الشّيباني شرف الدين. ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عيسى بن عيسى بن يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل السّلفي. ومنهم الشيخ علي بن عبد الكريم بن عبد الله الدّمشقي، أبو الحسن ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ومنهم الشيخ غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الجلاوي.
ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد أبي البركات الأنصاري المقرئ بحرم الخليل، سمع من أبي الحسن علي بن شجاع. ومنهم يوسف بن داود بن عيسى بن أيوب الحنفي.
ومنهم الملك الأوحد يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين (3) داود بن الملك المعظّم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ومنهم عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر القرشي الزّهري خطيب القدس. ومنهم الشيخ عبد الحفيظ بن بدران، ويدعى عليّ الدين من أهل بانياس، سمع من ابن صيصرى.
ومنهم الشيخ علي بن عبد الرحمن بن عبد المنعم المقدّسي. ومنهم الشيخ محمد بن
__________
(1) البيت في نفح الطيب (ج 3ص 361).
(2) في النفح: «الشّنب».
(3) في الأصل: «صلاح الدين وداود»، والتصويب من النفح.(2/313)
محمد بن سالم بن يوسف بن أسلم القرشي، جمال الدين. ومنهم عبد الواسع بن عبد الكافي شمس الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن أحمد الزّجاجي البغدادي الإمام تقي الدين. ومنهم عبد الجميل بن أحمد بن الزّجاج. ومنهم فاطمة بنت إبراهيم بن محمد بن محمود بن جوهر البعلبكي، الشيخة الكاتبة الخيّرة أم الخير. ومنهم الشيخ يوسف ابن أبي ناصر السفاوي. ومنهم الشيخ عبد السلام بن محمد بن مزروع، أبو محمد عفيف الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان بن محمد الشافعي البخاري شمس الدين. ومنهم الشيخ عبد الله بن خير بن أبي محمد بن خلف القرشي. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الباقي بن علي الصّواف شرف الدين. ومنهم الشيخ علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن زريق الكاتب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ سليمان بن علي بن عبد الله الكاتب التّلمساني عفيف الدين الصّوفي الأديب نزيل دمشق، ومولده بتلمسان. ومنهم الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني البستي القسطلاني قطب الدين، الإمام المفتي شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة المعزّية. ومنهم الشيخ عبد الكريم بن علي بن جعفر القرشي جمال الدين.
ومنهم الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الظاهر جمال الدين. ومنهم محمد بن محمد بن إبراهيم النجاشي. ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر الطبري، إمام الروضة النبوية ثم الصخرة القدسية. ومنهم الشيخ فخر الدين عثمان بن أبي محمد بن إسماعيل بن جندرة. ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن أنسكرت فخر الدين. ومنهم الشيخ ثابت بن علي بن عبد العزيز بن قاسم بن عبد الرازق، سمع على ابن المغير البغدادي. ومنهم الشيخ أمين الدين أبو الهامات جبريل بن إسماعيل بن سيد الأهل الغساني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله الأندلسي الأصل شرف الدين، سمع من علم الدين الشيخوني وغيره. ومنهم الشيخ محمد بن محمد الشامي الشافعي الدمشقي، إمام مسجد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يدعى شمس الدين، سمع من الزبيدي. ومنهم الشيخ يحيى بن الخضر بن حاتم الأنصاري، يعرف بابن عزّ الدولة.
وأجاز له جماعة، منهم ابن عماد الحرّاني، ومنهم ابن يحيى بن محمد بن محمد الهمداني كمال الدين، وسمع من ابن الزّجّاج وابن رواح الحميري. ومنهم الشيخ عبد الملك أبو المعالي بن مفضل الواسطي، عرف بابن الجوزي، سمع على جماعة، منهم شعيب الزعفراني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن ياسر بن شاكر الحاكمي. ومنهم الإمام مفتي المسلمين، رضي الله عنه. ومنهم أبو عبد الله محمد بن
أبي بكر بن خليل العسقلاني المكّي. ومنهم الخطيب أبو عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن رحيمة الكناني، خطيب بجايه. ومنهم قاضي القضاة ببلاد إفريقية أبو العباس ابن الغمّاز البلنسي، لقيه بتونس. ومنهم الفقيه العلّامة الوزير أبو القاسم محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن يوسف الخلابي. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج بن يوسف بن إبراهيم بن عتّاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن يربوع السّبتي. ومنهم الإمام قدوة النحاة أبو الحسين عبيد (1) الله بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن أبي الربيع القرشي. ومنهم الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد بن عبد الحق الزّواوي المشدالي، من أهل بجاية. ومنهم الخطيب القاضي أبو عمرو إسحاق بن أبي إسحاق بن عبد الوهاب الرّندي، إلى طائفة كبيرة من أهل المشرق والمغرب.(2/314)
وأجاز له جماعة، منهم ابن عماد الحرّاني، ومنهم ابن يحيى بن محمد بن محمد الهمداني كمال الدين، وسمع من ابن الزّجّاج وابن رواح الحميري. ومنهم الشيخ عبد الملك أبو المعالي بن مفضل الواسطي، عرف بابن الجوزي، سمع على جماعة، منهم شعيب الزعفراني. ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن ياسر بن شاكر الحاكمي. ومنهم الإمام مفتي المسلمين، رضي الله عنه. ومنهم أبو عبد الله محمد بن
أبي بكر بن خليل العسقلاني المكّي. ومنهم الخطيب أبو عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن رحيمة الكناني، خطيب بجايه. ومنهم قاضي القضاة ببلاد إفريقية أبو العباس ابن الغمّاز البلنسي، لقيه بتونس. ومنهم الفقيه العلّامة الوزير أبو القاسم محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن يوسف الخلابي. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج بن يوسف بن إبراهيم بن عتّاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن يربوع السّبتي. ومنهم الإمام قدوة النحاة أبو الحسين عبيد (1) الله بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن أبي الربيع القرشي. ومنهم الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد بن عبد الحق الزّواوي المشدالي، من أهل بجاية. ومنهم الخطيب القاضي أبو عمرو إسحاق بن أبي إسحاق بن عبد الوهاب الرّندي، إلى طائفة كبيرة من أهل المشرق والمغرب.
محنته: أغرى به الأمير ولي العهد، بسبب أمور اختلف فيها، منها أبيات في هجو الدولة النصرية، الله أعلم بصحة نسبتها إليه، فأوقع به، وناله بين يديه نكال كبير أفلت منه برفق، واختفى مدة في المآذن المقفلة والأماكن الخفية، حتى أصحى له جوّ سخطه، وقضى الله بردّ أمره إليه، واستيلائه على ما وراء بابه.
من روى عنه: أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق بن أبي العاصي، وتدبّج معه رفيقه عبد الله بن رشيد وغير واحد. وكان ممدوحا، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، والرئيس أبو الحسن بن الجيّاب، وناهيك بهما. ومن بديع مدح ابن الجياب له، قصيدة رائية رائقة، يهنّئه فيها بعيد الفطر، منها في أولها (2): [البسيط]
يا قادما عمّت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره
ومرحبا بك من عيد تحفّ به ... من السعادة أجناد تظاهره (3)
قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدى بك البشر باديه وحاضره (4)
والأرض قد لبست أثواب سندسها ... والرّوض قد بسمت منه أزاهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللا ... لمّا ساقها دراكا منك باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النّوّار عاطره
__________
(1) في النفح: (ج 3ص 362): «عبد الله».
(2) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 4543) وأزهار الرياض (ج 2ص 344342).
(3) في المصدرين: «تظافره».
(4) أراد بحاضره سكان الحاضرة.(2/315)
وقام فيها خطيب الطّير مرتجلا ... والزّهر قد رصّعت منه منابره
موشيّ ثوب طواه الدّهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطّير من طرب تشدو مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خلّ ضمائره
لله يومك ما أذكى فضائله ... قامت لدين الهوى (1) فيه شعائره
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره
فافخر بحقّ على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ندّ يظاهره (2)
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره
مجد صميم على عرش السّماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره
وزارة الدّين والعلم الذي رفعت ... أعلامه والنّدى الفيّاض زاخره
وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعى أمور الرّعايا معملا نظرا ... كمثل علياه معدوما نظائره
والملك سيّر في تدبيره حكما ... تنال ما عجزت عنه عساكره
سياسة الحكم (3) لا بطش يكدّرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره
لا يصدر الملك إلّا عن إشارته ... فالرّشد لا تتعدّاه مصائره
تجري الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيه يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره
ففضلها طبّق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلّا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشى منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبّره ... لا ملك أسعد من ملك يؤازره
يا عزّ أمر به اشتدّت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره
تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وعابره (4)
بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعسا لحاسده المقطوع دابره
فالعلم قد أشرقت نورا مطالعه ... والجود قد أسبلت سحّا مواطره
__________
(1) في المصدرين: «الهدى».
(2) في أزهار الرياض: «يناظره».
(3) في المصدرين: «الحلم».
(4) في المصدرين: «وغابره» بالغين المعجمة.(2/316)
والناس في بشر (1) والملك في ظفر ... عال على كلّ عالي القدر قاهره
والأرض قد ملئت أمنا جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره
والى (2) أياديه من مثنى وواحدة (3) ... تساجل البحر إن فاضت زواخره
فكلّ يوم تلقّانا عوارفه ... كساه أمواله الطّولى دفاتره
فمن يؤدّي لما أولاه من نعم ... شكرا ولو أنّ سحبانا يظاهره
يا أيها العبد (4) بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره
وافخر بأن قد (5) لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره
ولّى الصيام وقد عظّمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلا ... واهنأ به قادما عمّت بشائره
ومن مدح الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي له قوله: [الطويل]
تراءى سحيرا والنسيم عليل ... وللنّجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظّلماء منه خجول
بريق بأعلى الرّقمتين كأنه ... طلائع شهب والسماء تجول
فمزّق ساجي الليل منه شرارة ... وخرّق ستر الغيم منه نصول
تبسّم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول
ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنّت على تلك الغصون حمائم ... لهنّ حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعا لا يزال يشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول
وجاد رباه (6) كلّما ذرّ شارق ... من الودق (7) هتّان أجشّ هطول
وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول؟
وعاذلة باتت تلوم على السّرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيّلت ورحيل
__________
(1) في أزهار الرياض: «يسر».
(2) في الأصل: «وإلى» والتصويب من المصدرين.
(3) في المصدرين: «وموحدة».
(4) في المصدرين: «العيد».
(5) كلمة «قد» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من المصدرين.
(6) في الأصل: «ريّاه» وكذا ينكسر الوزن.
(7) الودق: المطر. محيط المحيط (ودق).(2/317)
ذريني أسعى للّتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذّكر وهو جميل
فأمّا تريني من ممارسة الهوى ... نحيلا فحدّ المشرفيّ نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صفوة ... تزين وفي قدّ القناة ذبول
ولولا السّرى لم يحتل البدر كاملا ... ولا بات منه للسّعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السّماك جلالة ... وليس له إلّا نجوم قبيل
من القوم أمّا في النّديّ (1) فإنهم ... هضاب وأمّا في النّدى فسيول
حووا شرف العلياء إرثا ومكسبا ... وطابت فروع منهم وأصول
وما جونة هطّالة ذات هيدب ... مرتها شمول مرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كفّ الوزير محمد ... إذا ما توالت للسّنين محول
ولا روضة بالحسن طيّبة الشّذا ... ينمّ عليها أذخر وجليل
وقد أذكيت للزّهر فيها مجامر ... تعطّر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النّوّار للطّلّ عبرة ... تردّدها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغرّ كلّما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت، أبا عبد الإله، مناقبا ... تفوت يدي من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فداك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء بخيل؟
تخيّرك المولى وزيرا وناصحا ... فكان له مما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوّضا ... إليك فلم يعدل يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيّد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقّاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنّضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينة في الحبّ وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاؤها ... حسام لما نالت ظباه فلول
__________
(1) النديّ: النادي للمجلس.(2/318)
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ... إليه قلوب العالمين تميل
وأغدى قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء الثّجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهنّ ذميل
تسدّدني سهما لكل ثنيّة ... ضوامر أشباه القسيّ نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول
فقيّدت أفراسي به وركائبي ... ولذّ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمّة ... عليها لأحداث الزمان دحول
وتهوى العلا حظي وتغري بضدّه ... لذاك اعترته رقّة ونحول
وتأبى لي الأيام إلّا إدالة ... فصونك لي أنّ الزمان مديل
فكل خضوع في جنابك عزّة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول
شعره: وبضاعته في الشعر مزجاة، وإن كان أعلم الناس بنقده، وأشدّهم تيقّظا لمواقعه الحسنة وأضدادها. فمن ذلك قوله، ورفعه إلى السلطان ببلده رندة، وهو إذا ذاك فتى يملأ العين أبّهة، ويستميل القلوب لباقة، وهي، ومن خطه نقلت (1):
[الرمل]
هل إلى ردّ عشيّات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال؟
حالة يسري بها الوهم إلى ... أنها تثبت برءا باعتلال
وليال (2) ما تبقّى بعدها ... غير أشواقي إلى تلك اللّيالي
إذ مجال الوصل فيها مسرحي ... ونعيمي آمر فيها ووال
ولحالات التّراضي جولة ... مزجت (3) بين قبول واقتبال
فبوادي الخيف خوفي مسعد ... وبأكناف منى أسنى نوال (4)
لست أنسى الأنس فيها أبدا ... لا ولا بالعذل في ذاك أبالي
وغزال قد بدا لي وجهه ... فرأيت البدر في حال الكمال
ما أمال التّيه من أعطافه ... لم يكن إلّا على فضل (5) اعتدال
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 3ص 363362).
(2) في الأصل: «وليالي» وهكذا ينكسر الوزن، وهو خطأ نحوي، لذلك صوبناه من نفح الطيب.
(3) في النفح: «مرحت».
(4) في النفح: «موال».
(5) في النفح: «خصل».(2/319)
خصّ بالحسن فما أنت ترى ... بعده للناس حظّا في الجمال
من تسلّى عن هواه فأنا ... بسواه عن هواه غير سال
فلئن أتعبني حبّي له ... فكم نلت به أنعم حال
إذ لآلي (1) جيده من قبلي ... ووشاحاه يميني وشمالي
خلّف النوم لي السّهد به ... وترامى الشّخص لا طيف الخيال
فيداوى (2) بلماه ظمئي ... مزجك الصّهباء بالماء الزّلال
أو إشادات (3) بناء الملك ال ... أوحد الأسمى الهمام المتعالي
ملك إن قلت فيه ملكا ... لم تكن إلّا محقا في المقال
أيّد الإسلام بالعدل فما ... أن ترى رسما لأصحاب الضّلال
ذو أياد شملت كلّ الورى ... ومعال يا لها خير معال
همّة هامت بأحوال التقى ... وصفات بالجلالات حوال
وقف النّفس على إجهادها ... بين صوم وصلاة ونوال
ومنها في ذكر القوم الموقع بهم (4):
وفريق من عتاة عاندوا ... أمره فاستوجبوا سوء نكال
غرّهم طول التّجافي عنهم ... مع شيطان لهم كان موال
فلقد كانت بهم رندة أو ... أهلها في سوء تدبير وحال
ولقد كان النّفاق مذهبا ... فاشيا بين هاتيك التلال
ما يعود اليوم إلّا بادروا ... برواة ونكيرات ثقال
طوّقوا النّعمى فلمّا أنكروا ... طوّقوا العدل بذي البيض العوال
ماطل الدهر بهم غريمه ... فهو الآن وفي بعد المطال
ولقد كنت غريم الدهر إذ ... شدّني جورهم شدّ عقال
ولكم نافرته مجتهدا ... عندما ضاق بهم صدر احتمالي
أعقبوا جزاء ما قد أسلفوا ... في الدّنا ويعقبوه في المآل
__________
(1) في الأصل: «لآلىء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «فتداوى».
(3) في الأصل: «أو أشادت ثنا الملك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) من هنا حتى آخر البيت: (في المآل) غير وارد في نفح الطيب.(2/320)
وهي طويلة ومنها:
أيها المولى الذي نعماؤه ... أعجزت عن شكرها كنه المقال
ها أنا أنشدكم مهنّئا ... من بديع النّظم بالسّحر الحلال
فأنا العبد الذي حبّكم ... لم يزل والله في قلبي وبالي
أورقت روضة آمالي لكم ... وتولّاها الكبير المتعالي (1)
واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهو (2) ما أذخره من كنز مال
ومنها:
يا أمير المسلمين هذه ... خدمة تنبىء عن أصدق حال
هي بنت ساعة أو ليلة ... سهلت بالحبّ في ذاك الجلال
ما عليها إذ أجادت مدحها ... من بعيد الفهم يلغيها وقال
فهي في تأدية الشكر لكم ... أبدا بين احتفاء واحتفال
وكتب، رحمه الله، يخاطب أهله من مدينة تونس (3):
حيّ حيّ بالله يا ريح نجد ... وتحمّل عظيم شوقي ووجدي
وإذا ما بثثت حالي فبلّغ ... من سلامي لهم على قدر ودّي
ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... هم (4) نسوني على تطاول بعدي
بي شوق إليهم ليس يعزى ... لجميل (5) ولا لسكّان نجد
يا نسيم الصّبا إذا جئت قوما ... ملئت أرضهم بشيح ورند
فتلطّف عند المرور عليهم ... وحقوقا لهم عليّ فأدّ
قل لهم قد غدوت من وجدهم في ... حال شوق لكلّ رند وزند
وإن استفسروا حديثي فإني ... باعتناء الإله بلّغت قصدي
فله الحمد إذ حباني بلطف ... عنده قلّ كلّ شكر وحمد
__________
(1) في النفح: «بكم مذ تولّاها الرباب المتوالي».
(2) في النفح: «فهي».
(3) القصيدة في نفح الطيب (ج 3ص 364363).
(4) في النفح: «قد».
(5) أراد جميل بن معمر، صاحب بثينة.(2/321)
قال شيخنا أبو بكر ولده: وجدت بخطّه، رحمة الله عليه، رسالة خاطب بها أخاه أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (1): [الكامل]
ذكر اللّوى شوقا إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره
لو كنت تبصر خطّه في خدّه ... لقرأت سرّ الوجد من أسطاره
يا عاذليه أقصروا فلربما (2) ... أفضى عتابكم إلى إضراره
إن لم تعينوه على برحائه (3) ... لا تنكروا بالله خلع عذاره
ما كان أكتمه لأسرار الهوى ... لو أنّ جند الصّبر من أنصاره
ما ذنبه والبين قطّع قلبه ... أسفا وأذكى النار في أعشاره
بخلّ اللّوى بالساكنيه وطيفهم ... وحديثه ونسيمه ومزاره
يا برق خذ دمعي وعرّج باللّوى ... فاسفحه في باناته وعراره
وإذا لقيت بها الذي بإخائه ... ألقى خطوب الدّهر أو بجواره
فاقر السلام عليه قدر محبتي ... فيه وترفيعي إلى مقداره
والمم (4) بسائر إخوتي وقرابتي ... من لم أكن لجوارهم بالكاره
ما منهم إلّا أخ أو سيّد ... أبدا أرى دأبي على إكباره
فاثبت (5) لذاك الحيّ أنّ أخاهم ... في حفظ عهدهم على استبصاره
ما منزل اللذات في أوطانه ... كلّا ولا السّلوان من أوطاره (6)
وقال، رحمه الله، في غرض كلّفه سلطانه القول فيه (7): [الوافر]
ألا وأصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلّق بالوقار
وقم واخلع عذارك في غزال ... يحقّ لمثله خلع العذار
قضيب مائس من فوق دعص ... تعمّم بالدّجى فوق النهار
ولاح بخدّه ألف ولام ... فصار معرّفا بين الدراري
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 3ص 365364) وورد البيتان الأول والثاني أيضا في نفح الطيب (ج 8ص 49).
(2) في النفح: «فلشدّ ما».
(3) في الأصل: «عليّ برجائه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «وألمم» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) في النفح: «فابثث».
(6) هذا البيت لم يرد في النفح.
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 365).(2/322)
رماني قاسم والسين صاد ... بأشفار تنوب عن الشّفار
وقد قسمت محاسن وجنتيه ... على ضدّين من ماء ونار
فذاك الماء من دمعي عليه ... وتلك النار من فرط استعاري (1)
عجبت له أقام بربع قلبي ... على ما شبّ فيه من الأوار
ألفت الحبّ حتى صار طبعا ... فما أحتاج فيه إلى ادّكار
فما لي عن مذاهبه ذهاب ... وهذا فيه أشعاري شعاري (2)
وقال العلّامة ابن رشيد في «ملء العيبة» (3): لما قدمنا المدينة سنة 684هـ، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم الحكيم، وكان أرمد (4)، فلمّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حلّ في (5) تلك الديار، فأحسّ بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله: [الطويل]
ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبّا
وبالتّرب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا
وحين تبدّى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنّا أديلت لنا قربا
نزلنا من (6) الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ فيها أن نلمّ به ركبا
نسحّ سجال الدّمع في عرصاتها ... ونلثم من حبّ لواطئه التّربا
وإن بقائي دونه لخسارة ... ولو أنّ كفّي تملأ الشرق والغربا
فيا عجبا ممن يحبّ بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا
وزلّات مثلي لا تعدّ كثيرة (7) ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
ومن شعره قوله (8): [السريع]
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
__________
(1) في الأصل: «استعار» والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «شعار» والتصويب من النفح.
(3) النص مع الأبيات في نفح الطيب (ج 3ص 366365).
(4) الأرمد: المصاب بمرض الرمد. لسان العرب (رمد).
(5) كلمة «في» ساقطة في النفح.
(6) في النفح: «عن».
(7) في النفح: «لا تعدّد كثرة».
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 46). كما وردت في المصدر نفسه (ج 4ص 310) منسوبة إلى صالح بن شريف.(2/323)
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحرّ أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
وقوله رحمه الله (1): [البسيط]
إني لأعسر أحيانا فيلحقني ... يسر من الله إنّ العسر قد زالا
يقول خير الورى في سنّة ثبتت ... (أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا)
وهو من أحسن ما قاله رحمه الله.
ومن شعره قوله (2): [الطويل]
فقدت حياتي بالفراق (3) ومن غدا ... بحال نوى عمّن يحبّ فقد فقد
ومن أجل بعدي من (4) ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظّى وقد وقد
وحكي أن ذا الوزارتين المترجم، لما اجتمع مع الفقيه الكاتب ابن أبي مدين، أنشده ابن أبي مدين (5): [الطويل]
عشقتكم بالسّمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري (6) كطرفه
وحبّبني ذكر الجليس إليكم ... فلمّا التقينا كنتم فوق وصفه
فأنشده ذو الوزارتين ابن الحكيم قوله (7): [البسيط]
ما زلت أسمع عن علياك كلّ سنا ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر
حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ... أذني فوفّق بين السّمع والبصر
ومن نظمه مما يكتب على قوس (8): [الكامل]
أنا عدّة للدين في يد من غدا ... لله منتصرا على أعدائه
أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم (9) سمائه
قد جاء في القرآن أني عدّة ... إذ نصّ خير الخلق محكم آيه
وإذا العدوّ أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 46).
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 46).
(3) في النفح: «بالعراق».
(4) في النفح: «عن».
(5) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 47).
(6) في الأصل: «لعمر»، والتصويب من النفح.
(7) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 47).
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 5049).
(9) في النفح: «نجوم».(2/324)
ومن (1) توقيعه ما نقلته من خط ولده أبي بكر في كتابه المسمى ب «الموارد المستعذبة»، وكان (2) بمدينة وادي آش الفقيه الكذا أبو عبد الله محمد بن غالب الطريفي، فكتب (3) يوما إلى الشيخ خاصة والدي (4) أبي جعفر بن داود، قصيدة طويلة على روي السّين، يشتكي (5) فيها من جور (6) مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم بن حسّان، منها: [البسيط]
فيا صفيّ أبي العباس، كيف ترى ... وأنت كيّس (7) من فيها من اكياس
ولّوه إن كان ممّن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس
ومنها يستطر ذكر ذي الوزارتين، رحمه الله:
للشرق فضل منه أشرقت شهب ... من نورهم أقبسونا كل مقباس
فوقع عليها رحمة الله تعالى عليه ورضوانه (8): [البسيط]
إن أفرطت بابن حسّان غوائله ... فالأمر يكسوه ثوب الذّل والياس (9)
وإن تزلّ به في جوره قدم ... كان الجزاء له ضربا على الرّاس
فقد أقامني المولى بنعمته ... لبثّ أحكامه بالعدل في الناس
كتابته: وهي مرتفعة عن نمط شعره، فمن ذلك رسالة كتبها عن سلطانه في فتح مدينة قيجاطة (10):
من الأمير فلان، أيده الله ونصره، ووفّقه لما يحب حتى يكون ممن قام بفرض الجهاد ونشره. إلى ابننا الذي نمنحه الحبّ والرضى، ونسأل الله أن يهبه الخلال التي تستحسن والشّيم التي ترتضى، الولد الأنجب، الأرضى، الأنجد، الأرشد، الأسعد، محمد، وإلى الله تعالى إسعاده، وتولى بالتوفيق والإرشاد سداده،
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 50).
(2) في النفح: «وكان بوادي آش الفقيه الطريفي».
(3) في النفح: «فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر».
(4) في الأصل: «والدي وخاصة أبي»، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «يتشكّى».
(6) كلمة «جور» غير واردة في النفح.
(7) في النفح: «أكيس».
(8) كلمة «ورضوانه» غير واردة في النفح.
(9) في النفح: «ثوب الذكر والباس».
(10) قيجاطة، بالإسبانية: مدينة من أعمال ولاية جيان. الإحاطة (ج 2ص 465) حاشية 8.(2/325)
وأطلع عليه من أنباء الفتوح المبشّرة بالنصر الممنوح ما يكمل من بغيته في نصر دين الإسلام ويسني مراده.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الجهاد في سبيله أفضل الأعمال، الذي يقربه إلى رضاه، وندب إليه بما وعد من الثواب عليه، فقال: يا أيها النبي، حرّض المؤمنين على القتال، تنبيها على محل الثقة، بأن الفئة القليلة من أوليائه، تغلب الفئة الكثيرة من أعدائه، وتدارك دين الإسلام بإنجاز وعده في قوله، ولينصرنّ الله من ينصره، على رغم أنف من ظن أنه خاذله، تعالى الله عن خذلان جنده. والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله ومجتباه، لهداية الخلق لسلوك سبيل الحق، والعمل بمقتضاه. قال تعالى فيما أنزل: {قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ} (1) تحريضا على أن يمحو ظلام ضلالهم بنور هداه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأبرار، وأصحابه الأشداء على الكفار، الذين جرّدوا في نصرة دينه صوارم العزم وأمضوا ظباه، وفتحوا ما زوّى له من مشارق الأرض ومغاربها حتى عمّ الإسلام حدّ المعمور ومنتهاه. فإنّا كتبنا لكم، كتب الله لكم من سماع البشائر ما يعود بتحويل الأحوال، وأطلع عليكم من أنباء الفتوح ما يلوح بآفاق الآمال، مبشرا باليمن والإقبال. من قيجاطة، وبركات ثقتنا بالله وحده، تظهر لنا عجائب مكنونات ألطافه، وتجنينا ثمار النصر في إبّان قطافه، وتسخّر لنا ورد مشرع الفتح فترد عذب نطافه، والحمد لله الذي هدانا لأن نتقلّد نجادها، ونمتطي جوادها، ونستوري زنادها، ونستفتح بها مغالق المآرب، ولطائف المطالب، حتى دخلت الملّة الحنيفية في هذه الجزيرة الأندلسية أغوارها وأنجادها. وقد (2) تقرّر عند الخاص والعام، من أهل الإسلام، واشتهر في جميع (3) الأقطار اشتهار الصبح في سواد الظلام، أنّا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لغرض (4) دنيا. وأنّا ما قصّرنا في الاستنصار والاستنفار (5)، ولا قصرنا (6) عن الاعتضاد لكلّ من أمّلنا معونته (7) والاستظهار، ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفوسنا لجج البحار، وسمحنا بالطّارف من أموالنا والتّلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم
__________
(1) سورة التوبة 9، الآية 123.
(2) من هنا حتى قوله: «إلى بلوغ الأمنية والمأمول» وارد في نفح الطيب (ج 3ص 367366).
(3) في النفح: «آفاق».
(4) في النفح: «لا لعرض الدنيا».
(5) في النفح: «في الاستنفار والاستنصار».
(6) في النفح: «ولا أقصرنا».
(7) في النفح: «معاملته».(2/326)
يكن بين تلبية المدعوّ وزهده، وبين قبوله وردّه، إلّا كما يحسو الطائر ماء الثّماد ويأبى الله أن يكل نصر (1) هذه الجزيرة إلى سواه، وأن يجعل فيها سببا إلّا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه. ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه (2)، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه، ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده يد الاستسلام، وشمّرنا عن ساعد الجدّ والاجتهاد (3) في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (4) أخذ الاعتزام، فأمدّنا الله تعالى بتوالي البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قوّاد (5) العساكر، ونفلنا (6) على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما عدّ (7) ذكره في الآفاق كالمثل السائر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} (8)، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا العناية الربّانيّة وجوه الفتوح (9) سافرة المحيّا، وانتشقنا نسيم (10) النّصر الممنوح عبق الرّيّا، استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا (11) ونعم المستخار، وكتبنا إلى من قرب من عمّالنا (12) بالحضّ على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطوّعين، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين، تقضي بتقريب البعيد من آمالنا، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرّضا والقبول، وأن يرشدنا إلى طريق يفضي (13) إلى بلوغ الأمنية والمأمول (14)، إلى أن حللنا عشيّة يوم الأحد ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللّقوة فأدرنا به التّدبير، واستشرنا من أوليائنا من تحققنا نصحه فيما يشير، فاقتضى الرأي المقترن بالرّشاد، المؤذن بالإسعاد، قصد قيجاطة لما رجى من تيسير فتحها، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها، وبيان صبحها، فسرنا نحوها في جيش يجرّ على المجرّة ذيل النقع المثار، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار، ويقرّ عين الإسلام بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار، تطير بهم نيّاتهم بأجنحة العزم إلى
__________
(1) في النفح: «نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه، ولا يجعل فيها شيئا إلّا».
(2) في النفح: «مناويه».
(3) كلمة «والاجتهاد» ساقطة في النفح.
(4) سورة البقرة 2، الآية 195.
(5) في النفح: «قود».
(6) في الأصل: «ونقلنا» والتصويب من النفح. ونفّل القائد جنده: أعطاهم ما غنموه. لسان العرب (نفل).
(7) في النفح: «ما غدا».
(8) سورة إبراهيم 14، الآية 34.
(9) في النفح: «الفتح».
(10) في النفح: «نسائم».
(11) في النفح: «بنفسنا».
(12) في النفح: «أعمالنا».
(13) في النفح: «تفضي».
(14) لهنا ينتهي النص في النفح.(2/327)
قبض أرواح الكفار. فلمّا وصلنا إلى وادي على مقربة منها نزلنا به نريح الجياد، ونكمل التأهّب للقتال والاستعداد، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار، وقدحت به الأصباح زند الأنوار، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها، والسيوف قد كادت تلفظها غمودها، وبصائر الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلمّا وصلناها وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس، وهتكوا ستر عصمتها المحروس، وأذن لها بزوال النعم وذهاب النفوس، فعاجلها الأولياء بالقتال، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النّصال، ورشقوا جنودها بالنّبال، وجدّوا بنات الآجال، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به لاذوا بالفرار من الأسوار، وولّوا الأدبار، وودّعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنّم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه، وخرقوا حجاب السّتر المسدول عليه وهتكوه، وتسرعوا إلى البلد الثاني وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم، وانتقوهم من متخيّري أبطالهم، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم، فحمل عليهم المسلمون حملة عرّفوهم بها كيف يكون اللّقاء، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشّقاء، وأظهروا لهم من صدق العزائم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصارا لا يرغبون بأنفسهم عن الذّبّ عنه وحماية راياته، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدّخان، ورموا النصارى من النّبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى، وولوا أدبارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأخلوا بروجهم وأسوارهم، وتسنّمها المسلمون معلنين شعار الإسلام، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السّعادة تبشّر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة فألفوا بها من القوت والعتاد، والمتاع الفاخر الذي يربو على التّعداد، ما ملأ كلّ يمين وشمال، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال، وقتلوا بها من الحماة أعداء أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الفنا والاعتزام، وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع النصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها، معتصمين بعلوّها وارتفاعها، متخيّلين لضلالهم، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحلّ بديارهم. فرأينا أن نرقي الرجال إلى أبراج البلد وأسواره، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيّقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلمّا بدا ضوء الصباح بنور الإشراق، ولاح وجه الغزالة طارحا شعاعه على الآفاق، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار، وعيّنّا لكل جماعة منهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشدّ البدار، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر
للكافرين ببال، وجرّعوهم كؤوس المنايا، وأداروا بها بنات الحنايا، فأفضت السّجال وأظهر الكفار، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا أن يقيموا بذلك لصلبانهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم، ألقوا بأيديهم إلى التّهلكة إلقاء من هاله لمعان الأسنّة واهتزاز ردينيات القنا، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل بعد ما أشرف على الفنا، وهبط زعيمهم مقتحما خطر تلك المسالك، متضرّعا تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك، وشرط أن يملّكنا القصبة، ويبقى خديما لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المنتخبة، فلم نظهر له عند ذلك قبولا، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبيلا، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط، بعد عهد المسلمين بمثلها، وهيّئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حقّ التكميل، وظهرت لنا منه أمارات الوفاء الجميل، دخلنا القصبة حماها الله، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام، ناطقة عن الإسلام، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون، أمناء رجالنا.(2/328)
قبض أرواح الكفار. فلمّا وصلنا إلى وادي على مقربة منها نزلنا به نريح الجياد، ونكمل التأهّب للقتال والاستعداد، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار، وقدحت به الأصباح زند الأنوار، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها، والسيوف قد كادت تلفظها غمودها، وبصائر الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلمّا وصلناها وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس، وهتكوا ستر عصمتها المحروس، وأذن لها بزوال النعم وذهاب النفوس، فعاجلها الأولياء بالقتال، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النّصال، ورشقوا جنودها بالنّبال، وجدّوا بنات الآجال، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به لاذوا بالفرار من الأسوار، وولّوا الأدبار، وودّعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنّم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه، وخرقوا حجاب السّتر المسدول عليه وهتكوه، وتسرعوا إلى البلد الثاني وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم، وانتقوهم من متخيّري أبطالهم، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم، فحمل عليهم المسلمون حملة عرّفوهم بها كيف يكون اللّقاء، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشّقاء، وأظهروا لهم من صدق العزائم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصارا لا يرغبون بأنفسهم عن الذّبّ عنه وحماية راياته، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدّخان، ورموا النصارى من النّبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى، وولوا أدبارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأخلوا بروجهم وأسوارهم، وتسنّمها المسلمون معلنين شعار الإسلام، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السّعادة تبشّر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة فألفوا بها من القوت والعتاد، والمتاع الفاخر الذي يربو على التّعداد، ما ملأ كلّ يمين وشمال، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال، وقتلوا بها من الحماة أعداء أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الفنا والاعتزام، وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع النصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها، معتصمين بعلوّها وارتفاعها، متخيّلين لضلالهم، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحلّ بديارهم. فرأينا أن نرقي الرجال إلى أبراج البلد وأسواره، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيّقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلمّا بدا ضوء الصباح بنور الإشراق، ولاح وجه الغزالة طارحا شعاعه على الآفاق، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار، وعيّنّا لكل جماعة منهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشدّ البدار، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر
للكافرين ببال، وجرّعوهم كؤوس المنايا، وأداروا بها بنات الحنايا، فأفضت السّجال وأظهر الكفار، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا أن يقيموا بذلك لصلبانهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم، ألقوا بأيديهم إلى التّهلكة إلقاء من هاله لمعان الأسنّة واهتزاز ردينيات القنا، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل بعد ما أشرف على الفنا، وهبط زعيمهم مقتحما خطر تلك المسالك، متضرّعا تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك، وشرط أن يملّكنا القصبة، ويبقى خديما لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المنتخبة، فلم نظهر له عند ذلك قبولا، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبيلا، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط، بعد عهد المسلمين بمثلها، وهيّئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حقّ التكميل، وظهرت لنا منه أمارات الوفاء الجميل، دخلنا القصبة حماها الله، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام، ناطقة عن الإسلام، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون، أمناء رجالنا.
فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشارا، وخفضت علم التثليث ورفعت للتوحيد منارا، وأظهرت للملّة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكبارا. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر، باقي الذكر بقاء الدهر، فإننا لنرجو من فضل الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة، وأعظم في قلوب أهل الإيمان موقعا وأعز مكانة، وأن يرغم بما يظهر على أيدينا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عنادا وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشّروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والأسار، ويحكّمون أينما نزلوا السّيف والنار، والسلام.
ومن نثر آخر إجازة ما صورته (1):
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 45) وأزهار الرياض (ج 2ص 347346)، وفي الأزهار يخاطب ابن الجياب الشيخ أبا علي عمر الجراوي.(2/329)
وها أنا أجري منه (1) على حسن معتقده، وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودّده، وأجيز له ولولديه، أقرّ الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته (2)، وحسن اطلاعه يفصّل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه. والله سبحانه وتعالى (3) يخلّص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته. قال هذا (4) محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامدا لله عزّ وجلّ، ومصلّيا ومسلما.
وفاته: قتل، رحمه الله، صبيحة عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة (5)، وذلك لتاريخ خلع سلطانه. واستولت (6) يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبّر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب، والذّخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثيّ، وأخفرت ذمّته (7)، وتعدّي به عدوة القتل إلى المثلة (8)، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى.
مولده: برندة ظهر يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول المبارك، من عام ستين وستمائة. وممّن رثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله تعالى بقوله (9):
[الطويل]
سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غضّ من مقدارها حادث البلا
وممّا شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدر ما عهدناه مهملا
ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلّا عبدها المتذلّلا
سفكت وما كان الرّقوء نواله ... لقد جئتها (10) شنعاء فاضحة الملا
__________
(1) في المصدرين: «معه».
(2) في أزهار الرياض: «ما حملته ونقلته».
(3) في أزهار الرياض: «والله عزّ وجلّ يخلّص».
(4) في الأزهار: «قال هذا وكتبه محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد اللخمي بن الحكيم، عفا الله عنه، حامدا الله عزّ وجلّ، ومصليا على رسوله المصطفى، ومسلما عليه وعلى آله، في منتصف جمادى الآخرة عام ثلاثة وسبعمائة».
(5) كذا جاء في نفح الطيب (ج 3ص 367).
(6) النص في نفح الطيب (ج 8ص 5150).
(7) أخفرت ذمّته: نقضت عهوده ولم تحفظ حرمته. لسان العرب (خفر).
(8) المثلة: التمثيل بالقتل. لسان العرب (مثل).
(9) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 8785).
(10) في النفح: «جئتما».(2/330)
بكفّي سبنتى أزرق العين مطرق (1) ... عدا فغدا في غيّه متوغّلا
لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكّيه المكارم والعلا
ألا إنّ يوم ابن الحكيم لمثكل ... فؤادي، فما ينفكّ ما عشت مثكلا
فقدناه في يوم أغرّ محجّل ... ففي الحشر نلقاه أغرّ محجّلا
سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النّعمى ولم تحفظ الولا
تعاورت الأسياف منه ممدّحا ... كريما سما فوق السّماكين منزلا (2)
وخانته رجل في الطّواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحمّلا
وجدّل لم يحضره في الحيّ ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أنّ مهلهلا (3)
يد الله في ذاك الأديم ممزّقا (4) ... تبارك ما هبّت جنوبا وشمألا
ومن حزني أن لست أعرف ملحدا ... له فأرى للتّرب منه مقبلا
رويدك يا من قد غدا شامتا به ... فبالأمس ما كان العماد المؤمّلا
وكنّا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظلّ في أوج العلا متوقّلا (5)
ذكرناه يوما فاستهلّت جفوننا ... بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا
ومازج منه الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا
وهاج لنا شجوا تذكّر مجلس ... له كان يهدي الحيّ والملأ الألى
به كانت الدنيا تؤخّر مدبرا ... من الناس حتما أو تقدّم مقبلا
لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا
على خادم الآثار تتلى صحائحا ... على حامل القرآن يتلى مفصّلا
على عضد الملك الذي قد تضوّعت ... مكارمه في الأرض مسكا ومندلا
__________
(1) السّبنتى: النمر. محيط المحيط (سبت). وصدر هذا البيت عجز بيت من قصيدة تنسب إلى جزء بن ضرار، أخي الشماخ، قاله في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والبيت هو:
[الطويل]
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّي سبنتى أزرق العين مطرق
طبقات ابن سلام (ص 111).
(2) في النفح: «مزحلا».
(3) إشارة إلى قول الشاعر في مهلهل بن ربيعة: [الكامل] من مبلغ الحيّين أنّ مهلهلا ... أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا
(4) هذا من قول جزء بن ضرار: [الطويل] عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزّق
الشعر والشعراء (ص 235).
(5) متوقّلا في أوج العلا: صاعدا فيه. لسان العرب (وقل).(2/331)
على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كلّ إصر على علا
وأنّى لنا من بعده متعلّل ... وما كان في حاجاتنا متعلّلا
ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يمينا لقد غادرت حزنا مؤثّلا
يسوء المصلّى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدها الملا
وذاك لأنّ الأمر فيه شهادة ... وسنّتها محفوطة لن تبدّلا
فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ... سعيدا حميدا فاضلا ومفضّلا
لتهنك (1) من ربّ السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهلّلا
رثيتك عن حبّ ثوى في جوانحي ... فما ودّع القلب العميد وما قلا (2)
ويا ربّ من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخرا عتيدا وموئلا
تناساك حتى ما تمرّ بباله ... ولم يدّكر (3) ذاك النّدى والتّفضّلا
يرابض في مثواك كلّ عشيّة ... صفيف شواء أو قديدا (4) معجّلا (5)
لحى الله من ينسى الأذمّة رافضا ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا
حنانيك يا بدر الهدى فلشدّ ما ... تركت بدور الأفق بعدك (6) أفّلا
وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلبا مقتّلا
فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا
فأنت الذي آويتني متغرّبا ... وأنت الذي أكرمتني متطفّلا
فإن لم أنل منك الذي كنت آملا ... فما كنت إلّا المحسن المتفضّلا (7)
فآليت لا ينفكّ قلبي مكمدا ... عليك ولا ينفكّ دمعي مسبلا
محمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي
من أهل وادي آش، وسكن غرناطة.
__________
(1) في الأصل: «لتنهل» والتصويب من النفح.
(2) هذا من قول الله تعالى: {مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} (3) [الضحى: 3].
(3) يدّكر: يتذكر. محيط المحيط (دكر).
(4) في النفح: «قديرا».
(5) أخذه من قول امرئ القيس في معلقته: [الطويل] وظلّ طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجّل
ديوان امرئ القيس (ص 22).
(6) في الأصل: «بعد» والتصويب من النفح.
(7) هذا البيت غير وارد في نفح الطيب.(2/332)
حاله: فقيه أديب متطبّب، متفنن في علوم جمة، شاعر مطبوع، يكنّى أبا بكر.
مدح الأمير علي بن يوسف اللمتوني بقوله: [مجزوء الكامل]
رحلوا الركائب موهنا ... فأذاع عرفهم السّنا
والحلي قد أغرى بهم ... لمّا ترنّم معلنا
كم حفّ حول حماهم ... من كلّ خطّار القنا
قال أبو جعفر بن الزبير، ينفك منها قصائد: [الكامل]
رحلوا الركاب موهّنا ليكتموا ... ظعن الحمول وهل توارى الأنجم؟
فأذاع سرّهم السّنا ورمى بهم ... فلّ الذميل شذاهم المتنسّم
كم حفّ حمل قبابهم وركابهم ... من ليث غاب في براثنه الدم
من كل خطّار القناة مموّه ... بين الرحيل نصبه يستسلم
وهي طويلة، خاطب بها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. وقال في وصف القصيدة: [الطويل]
أيا ملكا يسمو بسعد مساعد ... وقدر على علو الكواكب صاعد
نظمت قصيدا في علاك مضمّنا ... ثلاث قواف في ثلاث قصائد
إذا فصلت أغنى عن البعض بعضها ... وإن وصلت كانت ككعب وساعد
فأجازه بظهير كريم بتحرير ماله وتنويهه.
محمد بن عبد الرحمن المتأهل
من أهل وادي آش، يعرف بعمامتي.
حاله: من التاج: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات رفيعات، وإشارات ذوات شارات. وكان شاعرا مكثارا، وجوادا لا يخاف عثارا.
أدخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره بوادي آش، مروع البال، معلّلا بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش في طاعته، فأنشده من ساعته: [مجزوء الكامل]
خذها إليك طبرنشا ... شفّع بها وادي الأشا
والأمّ تتبع بنتها ... والله يفعل ما يشا
ومن نوادره العذبة يطلب خطة الحسبة: [الطويل]
أنلني يا خير البريّة خطّة ... ترفّعني قدرا وتكسبني عزّا
فأعتزّ في أهلي كما اعتزّ بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا
فوقع الأمر بظهر رقعته ما ثبت في حرف النون عند ذكره، والاحتجاج بفضله.(2/333)
أنلني يا خير البريّة خطّة ... ترفّعني قدرا وتكسبني عزّا
فأعتزّ في أهلي كما اعتزّ بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزا
فوقع الأمر بظهر رقعته ما ثبت في حرف النون عند ذكره، والاحتجاج بفضله.
وفاته: كان حيّا بعد سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفد على الحضرة مرات كثيرة.
محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي (1)
من أهل وادي آش، يكنى أبا بكر.
حاله: كان عالما، صدرا، حكيما، فيلسوفا، عارفا بالمقالات والآراء، كلفا بالحكمة المشرقية، محققا، متصوفا، طبيبا ماهرا، فقيها، بارع الأدب، ناظما، ناثرا، مشاركا في جملة من الفنون.
مشيخته: روى عن أبي محمد الرّشاطي، وعبد الحق بن عطية وغيرهما.
حظوته ودخوله غرناطة:
اختصّ بالريس أبي جعفر، وأبي الحسن بن ملحان. قال ابن الأبار في تحفته (2): وكتب لوالي غرناطة وقتا.
تواليفه: رسالة حيّ بن يقظان، والأرجوزة الطبيّة المجهولة، وغير ذلك.
شعره: قال: وهو القائل من قصيدة في فتح قفصة سنة ست وسبعين (3)، وأنفذت إلى البلاد (4): [الطويل]
ولمّا انقضى الفتح الذي كان يرتجى ... وأصبح حزب الله أغلب غالب
وأنجزنا وعد من الله صادق ... كفيل بإبطال الظنون الكواذب
وساعدنا التّوفيق حتى بيّنت ... مقاصدنا مشروحة بالعواقب
وأذعن من عليا هلال بن عامر ... أبيّ ولبّى الأمر كلّ مجانب
__________
(1) ترجمة ابن طفيل في المعجب (ص 311) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 125) وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 530) في ترجمة أبي الوليد بن رشد.
(2) المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 125).
(3) في الأصل: «وتسعين»، وقد صوّبناه عن ابن عذاري إذ روى أن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي فتح قفصة في شهر رمضان من عام 576هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 141).
(4) القصيدة في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 142141).(2/334)
وهبّوا إذا (1) هبّ النسيم كما (2) سرى ... ولم يتركوا بالشّرق علقة آئب
يغصّ بهم عرض الفلا وهو واسع (3) ... وقد زاحموا الآفاق من كل جانب
كأنّ بسيط الأرض حلقة خاتم ... بهم وخضمّ البحر بعض المذانب
ومدّ على حكم (4) الصغار لسلمنا ... يديه عظيم الروم في حال راغب
يصرّح بالرؤيا (5) وبين ضلوعه ... نفس مذعور ونفرة راهب
وعى من لسان الحال أفصح خطبة ... وما (6) وضحت (7) عنه فصاح القواضب
وأبصر متن الأرض كفّة حامل ... عليه وإصراه في كفّ حالب
أشرنا بأعناق الجياد إليكم ... وعجبا عليكم من صدور الرّكائب
إلى بقعة قد بيّن (8) الله فضلها ... بمن حلّ فيها من وليّ (9) وصاحب
على الصّفوة الأدنين منّا تحية ... توافيهم بين الصّبا والجنائب
وله أيضا (10): [الطويل]
ألمّت وقد نام الرقيب (11) وهوّما ... وأسرت إلى وادي (12) العقيق من الحمى
وراحت (13) إلى نجد فرحت منجّدا ... ومرّت بنعمان فأضحى منعّما
وجرّت على ترب المحصّب (14) ذيلها ... فما زال ذاك التّرب نهبا مقسّما
تناقله (15) أيدي التّجار (16) لطيمة ... ويحمله الداريّ (17) أيّان يمّما
ولمّا رأت أن لا ظلام يجنّها ... وأنّ سراها فيه لن يتكتما
سرت (18) عذبات الرّيط عن حرّ وجهها ... فأبدت شعاعا يرفع اليوم مظلما (19)
__________
(1) في البيان المغرب: «كما».
(2) في البيان المغرب: «إذا».
(3) في البيان المغرب: «عرض الفيافي وطولها».
(4) في البيان المغرب: «رغم».
(5) في البيان المغرب: «بالرغبى».
(6) في الأصل: «ما» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في البيان المغرب: «وما صمتت».
(8) في البيان المغرب: «يمن».
(9) في البيان المغرب: «إمام».
(10) القصيدة في المعجب (ص 313312) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 126125).
(11) في المعجب: «المشيح».
(12) في الأصل: «وأسرت الوادي» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين السابقين.
(13) في الأصل: «وراح»، والتصويب من المقتضب.
(14) في الأصل: «المخصب»، والتصويب من المصدرين. والمحصّب: مكان بين مكة ومنى.
(15) في المعجب: «تناوله».
(16) في المقتضب: «الرجال لطيّة».
(17) في الأصل: «الدارين» والتصويب من المصدرين. والداريّ: الملاح الذي يلي الشراع.
(18) في المعجب: «نضت».
(19) في المعجب: «فأبدت محيّا يدهش المتوسّما». وفي المقتضب: «شعاعا يرجع الصبح(2/335)
فكانّ تجلّيها حجاب جمالها ... كشمس الضّحى يعشى بها الطّرف كلّما
ولمّا رأت زهر الكواكب أنها ... هي النيّر الأسمى وإن كان باسما
بكت أسفا أن لم تفز بجوارها ... وأسعدها صوب الغمام فأسجما
فجلّت يمجّ القطر ريّان بردها ... فتنفضه كالدّر فذّا وتوأما
يضمّ علينا الماء فضل زكاتها ... كما (1) بلّ سقط الطّلّ نورا مكمّما
ويفتق نضح الغيث طيب عرفها ... نسيم الصّبا بين العرار منسّما
جلت عن ثناياها وأومض برقها (2) ... فلم أدر من شقّ الدّجنّة منهما
وساعدني جفن الغمام على البكا ... فلم أدر وجدا (3) أيّنا كان أسجما
ونظم سمطي ثغرها ووشاحها ... فأبصرت درّ الثغر أحلى وأنظما
تقول وقد ألممت أطراف كمّها ... يدي وقد أنعلت أخمصها الفما
نشدتك لا يذهب بك الشوق مذهبا ... يسهّل صعبا أو يرخّص مأثما
فأقصرت (4) لا مستغنيا عن نوالها ... ولكن رأيت الصّبر أوفى وأكرما
وقال (5): [الوافر]
أتذكر إذ مسحت بفيك عيني (6) ... وقد حلّ البكا فيها عقوده
ذكرت بأن ريقك ماء ورد ... فقابلت الحرارة بالبروده
وقال: [الوافر]
سألت من المليحة برء دائي ... برشف برودها العذب المزاج
فما زالت تقبّل في جفوني ... وتبهرني بأصناف الحجاج
وقالت إنّ طرفك كان (7) أصلا ... لدائك فليقدّم في العلاج
وفاته: توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وحضر السلطان (8) جنازته.
__________
معلما».
(1) في الأصل: «كملّ» وكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له.
(2) في المعجب: «بارق».
(3) في المعجب: «دمعا».
(4) في المعجب: «فأمسكت».
(5) البيتان في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 125).
(6) في المقتضب: «دمعي».
(7) كلمة «كان» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(8) السلطان هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 580هـ إلى سنة 595هـ. ترجمته في البيان المغرب قسم(2/336)
محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عيّاش التّجيبي البرشاني (1)
من أهل حصن برشانة المحسوب في هذه العمالة، يكنى أبا عبد الله، كاتب الخلافة.
حاله: قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك (2): كان كاتبا بارعا، فصيحا، مشرفا على علوم اللسان، حافظا للّغات والآداب، جزلا، سريّ الهمّة، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع (3)، نفّاعا بجاهه وماله، كثير الاعتناء (4) بطلبة العلم والسعي الجميل لهم، وإفاضة المعروف على قصّاده، مستعينا على ذلك بما نال من الثروة والحظوة والجاه عند الأمراء من بني عبد المؤمن، إذ كان صاحب القلم الأعلى (5) على عهد المنصور وابنه، رفيع المنزلة والمكانة لديهم، قاصدا (6) الإعراب في كلامه، لا يخاطب أحدا (7) في كلامه من الناس، على تفاريق أحوالهم، إلّا بكلام معرب، وربما استعمله (8) في مخاطبة خدمته (9) وأمته، من حوشيّ الألفاظ، ما لا يكاد يستعمله (10)، ولا يفهمه إلّا حفّاظ اللغة من أهل العلم، عادة ألفها واستمرّت حاله عليها.
مشيخته: روى (11) عن أبي عبد الله بن حميد، وابن أبي القاسم السّهيلي، وابن حبيش، وروى عنه بنوه أبو جعفر، وأبو القاسم (12) عبد الرحمن، وأبو جعفر بن عثمان، وأبو القاسم البلوي.
__________
الموحدين (ص 170) والمعجب (ص 336) والحلل الموشية (ص 121).
(1) ترجمه ابن عياش في التكملة (ج 2ص 116) والذيل والتكملة (ج 6ص 384). والبرشاني:
نسبة إلى برشانة وهي عمل ألمرية، وهي حصن على مجتمع نهرين، من أمنع الحصون. الروض المعطار (ص 88) والتكملة (ج 2ص 116).
(2) الذيل والتكملة (ج 6ص 385).
(3) في الذيل والتكملة: «الطبع».
(4) في المصدر نفسه: «الاعتبار».
(5) في المصدر نفسه: «الأعلى عند المنصور منهم فابنه الناصر، فابنه المستنصر، رفيع».
(6) في المصدر نفسه: «عامدا».
(7) في المصدر نفسه: «أحدا من أصناف الناس».
(8) في المصدر نفسه: «استعمل».
(9) في الأصل: «قدمته» والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) في الذيل والتكملة: «يستعمل».
(11) النص في الذيل والتكملة (ج 6ص 385384).
(12) في الأصل: «وأبو القاسم، وعبد الرحمن» والتصويب من الذيل والتكملة.(2/337)
تواليفه: له (1) اختصار حسن في إصلاح المنطق، ورسائل مشهورة، تناقلها الناس، وشعر يحسن في بعضه.
جاهه: حدّث الشيخ أبو القاسم البلوي، قال (2): كنت أخفّ إليه (3)، وأشفع عنده في كبار المسائل، فيسرع في قضائها. ولقد عرضت لبعض أصحابي من أهل بلاد الأندلس حاجة مهمّة كبيرة، وجب عليّ السعي فيها، والتماس قضائها وفاء لربّها، ولم يكن لها إلّا ما قدرته من حسن نظره فيها، ورجوته من جميل أثره في تيسير أمرها، وكان قد أصابه حينئذ التياث لزم من أجله داره، ودخلت (4) عليه عائدا، فأطال السؤال عن حالي، وتبسّط معي في الكلام، مبالغة في تأنيسي، فأجّلت ذكر الحاجة (5)، ورغبت منه في الشّفاعة عند السلطان في شأنها، وكان مضطجعا، فاستوى جالسا، وقال لي: جهل الناس قدري، وكرّرها ثلاثا، في (6) مثل هذا أشفع إلى أمير المؤمنين؟ هات الدّواة والقرطاس، فناولته إياهما، فكتب برغبتي، ورفعه إلى السلطان، فصرف في الحين معلّما، فاستدعاني، ودفعه إليّ، وقال: يا أبا القاسم، لا أرضى منك أن تحجم عني في التماس قضاء حاجة تعرّضت لك خاصة، وإن كانت لأحد من معارفك عامة، كبرت أو صغرت، فألتزم قضاءها، وعليّ الوفاء، فإن لكل مكسب (7) زكاة، وزكاة الجاه بذله.
وحدّثني شيخي أبو الحسن بن الجيّاب، عمن حدّثه من أشياخه، قال: عرض أبو عبد الله بن عيّاش والكاتب ابن القالمي على المنصور كتابين، وهو في بعض الغزوات، في كلب البرد، وبين يديه كانون جمر. وكان ابن عياش بارع الخطّ، وابن القالمي ركيكه، ويفضله في البلاغة، أو بالعكس الشكّ مني. وقال المنصور: أي كتب لو كان بهذا الخط؟ وأي خطّ لو كان بهذا الكتب؟ فرضي ابن القالمي، وسخط ابن عياش. فانتزع الكتاب من يد المنصور، وطرحه في النار وانصرف. قال: فتغيّر وجه المنصور، وابتدر أحد الأشياخ، فقال: يا أمير المؤمنين، طعنتم له في الوسيلة التي عرّفته ببابكم، فعظمت غيرته لمعرفته بقدر السبب الموصل إليكم. فسرّي عن المنصور، وقال لأحد خدّامه: اذهب إلى السّبي، فاختر أجمل نساء الأبكار وأت بابن عياش فقل له: هذه تطفىء من خلقك. قال ابن عياش يخاطب ولده، وقد حدّث الحديث: هي أمّك، يا محمد، أو فلان.
__________
(1) النص في الذيل والتكملة (ج 6ص 385).
(2) النص في الذيل والتكملة (ج 6ص 386).
(3) في الذيل والتكملة: «عليه».
(4) في الذيل والتكملة: «فدخلت».
(5) في الذيل والتكملة: «ذكر تلك الحاجة».
(6) في الذيل والتكملة: «أفي».
(7) في المصدر نفسه: «مكتسب».(2/338)
بعض أخباره مع المنصور ومحاورته الدّالة على جلالة قدره:
قال ابن خميس: حدّثني خالي أبو عبد الله بن عسكر أن الكاتب أبا عبد الله بن عيّاش، كتب يوما كتابا ليهودي، فكتب فيه، ويحمل على البرّ والكرامة. فقال له المنصور: من أين لك أن تقول في كافر، ويحمل على البرّ والكرامة؟ فقال: ففكّرت ساعة، وقد علمت أن الاعتراض يلزمني، فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه، وهذا عام في الكافر، وغيره. فقال: نعم هذه الكرامة، فالمبرة أين أخذتها؟ قال: فسكتّ ولم أجد جوابا. قال: فقرأ المنصور: «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم» (1) {لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2). قال: فشهدت بذلك، وشكرته.
شعره: من شعره (3): [الطويل]
بلنسية، بيني عن العليا (4) سلوة ... فإنك روض لا أحنّ لزهرك
وكيف يحبّ المرء دارا تقسّمت ... على صارمي (5) جوع (6) وفتنة مشرك؟
وذكره الأديب أبو بحر صفوان بن إدريس في «زاد المسافر» عند اسم ابن عيّاش، قال: اجتمعنا في ليلة بمرّاكش، فقال أبو عبد الله بن عيّاش: [البسيط]
وليلة من ليالي الصّفح قد جمعت ... إخوان صدق ووصل للدهر مختلس (7)
كانوا على سنّة الأيام قد بعدوا ... فألّفت بينهم لو ساعد الغلس
وقال من قصيدة: [الكامل]
أشفارها أم صارم الحجّاج؟ ... وجفونها أم فتنة الحلّاج؟
فإذا نظرت لأرضها وسمائها ... لم تلف غير أسنّة وزجاج
__________
(1) سورة النحل 16، الآية 98. وصواب الآية: {فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ}.
(2) سورة الممتحنة 60، الآية 8. وصواب الآية: {لََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ} إلى آخر الآية.
(3) البيتان في الروض المعطار (ص 101) ونفح الطيب (ج 1ص 172) ومعجم البلدان (ج 1ص 491) وفيه ينسبهما ياقوت إلى ابن حريق.
(4) في الأصل: «العلياء» وكذا ينكسر الوزن. وفي سائر المصادر: «عن القلب».
(5) في معجم البلدان: «على ضاربي».
(6) في الأصل: «جذع» والتصويب من المصادر الثلاثة.
(7) في الأصل: «للدهر غير مختلس» وكذا لا يستقيم لا الوزن ولا المعنى، لذا حذفنا كلمة «غير».(2/339)
وقال في المصحف الإمام، المنسوب إلى عثمان بن عفان، لما أمر المنصور بتحليته بنفيس الدّرّ من قصيدة (1):
ونفّلته (2) من كلّ ملك ذخيرة ... كأنهم كانوا برسم مكاسبه
فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا ... فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه
وألبسته الياقوت والدرّ (3) حلية ... وغيرك قد روّاه من دم صاحبه
كتابته: قال ابن سعيد في المرقصات والمطربات (4): أبو عبد الله بن عيّاش، كاتب الناصر وغيره، من بني عبد المؤمن، وواسطة عقد ترسيله، قوله في رسالة كتبها في نزول الناصر على المهدية بحرا وبرا، واسترجاعها من أيدي الملثّمين:
ولما حللنا عرى السّفر، بأن حللنا حمى المهديّة، تفاءلنا بأن تكون لمن حلّ بساحتها هديّة، فأحدقنا بها إحداق الهدب بالعين، وأطرنا لمختلس وصالها غربان البين، فبانت بليلة باسنيّة، وصابح يوما صافحته فيه يد المنية. ولما اجتلينا منها عروسا قد مدّ بين يديها بساط الماء، وتوجهت بالهلال وقرّطته بالثّريا ووشّجت بنجوم السّماء، والسّحب تسحب عليها أردانها فترتديها تارة متلثّمة، وطورا سافرة، وكأنما شرفاتها المشرفة أنامل مخضبة بالدّياجي، مختتمة بالكواكب الزّاهرة، تضحي عن شنب لا تزال تقبّله أفواه المجانيق، وتمسي باسمة عن لعس لا تبرح ترشفه شفاه سهام الحريق، خطبناها فأرادت التّنبيه على قدرها، والتوفير في إعلاء مهرها، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر فتمنّعت تمنّع المقصورات في الخيام، وأطالت إعمال العامل في خدمتها وتجريد الحسام، إلى أن تحقّقت عظم موقعها في النفوس، ورأت كثرة ما ألقي لها من نثار الرءوس، جنحت إلى الإحصان بعد النّشوز، ورأت اللّجاج في الامتناع من قبول الإحسان لا يجوز، فأمكنت زمامها من يد خاطبها، بعد مطاولة خطبها وخطابها، وأمتعته على رغم رقيها بعناقها ورشف رضابها، فبانت معرّسا حيث لا حجال إلّا من البنود، ولا خلوق إلّا من دماء أبطال الجنود، فأصبح وقد تلألأت بهذه البشائر وجوه الأفكار وطارت بمسارها سوائح البراري وسوانح البحار. فالحمد
__________
(1) الأبيات في التكملة (ج 2ص 116) والذيل والتكملة (ج 6ص 387).
(2) في الأصل: «ونقلت» وكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الذيل والتكملة. وفي التكملة:
«ونقلته».
(3) في الأصل: «الدرّ والياقوت». وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(4) لم يرد شيء من هذا في المرقصات والمطربات، وجاء فيه (ص 92) بيتان من الشعر لأبي جعفر بن عياش، شاعر المائة السابعة، وليس لأبي عبد الله بن عياش.(2/340)
لله الذي أقرّ الحقّ في نصابه، واسترجعه من أيدي غصّابه، حمدا يجمع شمل النّعم، ويلقحها كما تلقح الرياح الدّيم، فشنّفوا الأسماع بهذه البشائر، واملئوا الصّدور بما يرويه لكم من أحاديثها كل وارد وصادر، فهو الفتح الذي تفتّحت له أبواب السماء، وعمّ الخير واليمن به بسيطي الشّرق والماء فشكر الله عليه، فرض، في كل قطر من أقطار الأرض.
دخل غرناطة، مرتادا، ومتعلما، ومجتازا.
مولده: ببرشانة بلده، عام خمسين وخمسمائة.
وفاته: توفي بمراكش في شهر رجب (1) الفرد من عام ثمانية عشرة وستمائة، رحمه الله.
محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الهمداني
من أهل وادي آش، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن البرّاق (2).
حاله: قال ابن عبد الملك (3): كان محدّثا حافظا، راوية مكثرا، ثقة ضابطا (4)، شهر بحفظ كتب كثيرة من الحديث وغيره، ذا نظر صالح في الطّبّ (5)، أديبا بارعا، كاتبا بليغا، مكثرا لجيّده (6)، سريع البديهة في النظم والنثر، والأدب أغلب عليه. قال أبو القاسم ابن المواعيني: ما رأيت في عباد الله أسرع ارتجالا منه.
مشيخته: روى (7) عن أبي بحر يوسف بن أحمد بن أبي عيشون، وأبي بكر بن زرقون، وابن قيد (8)، وابن إبراهيم بن المل، وابن النّعمة وصحبه (9)، ولقيه بمرّاكش، ووليد بن موفق، وأبي عبد الله بن يوسف بن سعادة، ولازمه أزيد من ست سنين وأكثر عنه، وابن العمرسي، وأبي العباس بن إدريس، والخرّوبي، وتلا عليه بالسّبع،
__________
(1) في الذيل والتكملة (ج 6ص 387): «وتوفي بمراكش لخمس بقين من جمادى الآخرة».
وفي التكملة (ج 2ص 116): «توفي بمراكش في العشر الأواخر من جمادى الأخيرة».
(2) ترجمة ابن البراق في رايات المبرزين (ص 166) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 133) وزاد المسافر (ص 151) والمطرب (ص 241) والتكملة (ج 2ص 76) والذيل والتكملة (ج 6 ص 457) وبغية الملتمس (ص 114) والمغرب (ج 2ص 149) وكنيته فيه: أبو عمرو، ونفح الطيب (ج 5ص 53).
(3) الذيل والتكملة (ج 6ص 467).
(4) في الذيل والتكملة: «ضابطا ثقة».
(5) في الأصل: «في الطلب» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في المصدر نفسه: «مكثرا مجيدا».
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 458).
(8) في الذيل والتكملة: «وابن فيد».
(9) في الذيل والتكملة: «ونجبة».(2/341)
وأكثر عنه، وعرض عليه من حفظه كثيرا، وابن مضاء، وأبي علي بن عرب (1)، وأبي القاسم بن حبيش، وابن عبد الجبار، وأبي محمد بن سهل الضرير، وعاشر وقاسم بن دحمان، وأبي يوسف بن طلحة. وأجاز له أبو بكر بن العربي، وابن خير، وابن مندلة (2)، وابن تمارة (3)، وأبو الحسن شريح، وابن هذيل، ويونس بن مغيث، وأبو الجليل (4) مفرج بن سلمة، وأبو عبد الله حفيد مكي، وأبو عبد الرحمن بن مساعد، وأبو عامر محمد بن أحمد السالمي، وأبو القاسم ابن بشكوال، وأبو محمد بن عبيد الله، وأبو مروان البيّاضي، وابن قزمان، وأبو الوليد بن حجاج.
من روى عنه: روى (5) عنه ابنه أبو القاسم، وأبو الحسن بن محمد بن بقي الغسّاني، وأبو عبد الله محمد (6) بن يحيى السّكري، وأبو العباس النّباتي، وأبو عمرو بن عيّاد، وهو أسنّ منه، وأبو الكرم جودي.
تواليفه: صنّف (7) في الأدب (8) مصنّفات منها «بهجة الأفكار، وفرجة (9)
التّذكار، في مختار الأشعار»، و «مباشرة ليلة السّفح» (10)، ومقالة في الإخوان، خرّجها من شواهد الحكم، ومصنّف في أخبار معاوية، و «الدّر المنظم في الاختيار (11)
المعظّم»، و «مجموع في الألغاز» (12)، و «روضة الحدائق، في تأليف الكلام الرائق»، مجموع نظمه ونثره، وملقى (13) السبل في فضل رمضان، وقصيدته في ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخطرات الواجد في رثاء الواحد، ورجوع (14) الإنذار بهجوم العذار، إلى غير ذلك.
محنته: غرّبه الأمير ابن سعد (15) من وطنه، وألزمه سكنى مرسية، ثم بلنسية.
ولما مات ابن سعد آخر يوم من رجب سبع وستين وخمسمائة، عاد إلى وطنه واستقرّ به يفيده الدّية، إلى آخر عمره.
__________
(1) في الذيل والتكملة: «عريب».
(2) في الذيل والتكملة: «وابن فندلة».
(3) في الذيل والتكملة: «وابن نمارة».
(4) في الذيل والتكملة: «وأبو الخليل».
(5) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 467).
(6) كلمة «محمد» ساقطة في الذيل والتكملة.
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 468).
(8) في الذيل والتكملة: «في الآداب».
(9) في الأصل: «وفرصة» والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) في الذيل والتكملة: «ومباشرة ليلة السفح، من خبر أبي الأصبغ عبد العزيز ابن أبي الفتح».
(11) في الأصل: «الإحسار» والتصويب من الذيل والتكملة.
(12) في الذيل والتكملة: «في ألغاز».
(13) في الذيل والتكملة: «ملتقى السبيل».
(14) في الأصل: «ورجوم» والتصويب من الذيل والتكملة.
(15) هو الأمير محمد بن سعد بن مردنيش الجذامي، أمير بلنسية ومرسية، وقد تقدمت ترجمته في هذا الجزء.(2/342)
شعره: وشعره كثير. فمن ذلك القصيدة الشهيرة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر صحابته (1): [الكامل]
بالهضب هضب زرود أو تلعاتها ... شاقتك (2) هاتفة على نغماتها
مصدورة تفتنّ في ترجيعها (3) ... فيبين نفث السّحر في نفثاتها
إن راقها (4) رأد الضحى أو راعها ... جنح الدّجى سيّان في ذكراتها
هذا يمتّعها وذاك يشوقها ... والموت (5) في يقظاتها وسناتها
ولو (6) التّعلل بالكرى ينتابها ... نضحت فزور (7) الطّيف برح شكاتها
لكنّ بين جفونها ومنامها (8) ... حربا (9) تثير النهب في كرّاتها
ولئن نطقت لها به فتقوّل ... من للرّياح (10) بملتقى هبّاتها؟
مطلولة الفرعين تلحفها الرّبى ... كنفا (11) وتلثمها لمى زهراتها
ويسيغها (12) ماء النّخيلة جرعة ... لغياضها (13) من مجتنى نخلاتها
منها:
يا من تبلّج نوره عن صادع ... بالواضحات الغرّ من آياتها
يا شارعا في أمّة جعلت به ... وسطا نالت (14) مستدام حياتها
__________
(1) هي مخمسة، وهي طويلة، وقد وردت كاملة في الذيل والتكملة (ج 6ص 482469) ومطلعها:
يا مسبلا من عينه عبراتها ... أشجتك هاتفة على أثلاتها
أم شمت بارقة بعرض فلاتها ... بالهضب هضب زرود أو تلعاتها؟
شاقتك هاتفة على نغماتها
(2) في الأصل: «ساقتك» والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الأصل: «في جيعها» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «إن راغها راد»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل والتكملة: «فالموت».
(6) في الأصل: «ولولا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(7) في الذيل والتكملة: «بزور».
(8) في الأصل: «وهنامها» والتصويب من الذيل والتكملة.
(9) في الأصل: «خرزا» والتصويب من الذيل والتكملة.
(10) في الأصل: «من يلقى الرياح بملتقى» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(11) في الأصل: «كتفا ويلثمها المنى» والتصويب من الذيل والتكملة.
(12) في الأصل: «وتسغيها» والتصويب من الذيل والتكملة.
(13) في الذيل والتكملة: «تعتاضها».
(14) في الأصل: «فغالت» والتصويب من الذيل والتكملة.(2/343)
في دار خلد لا يشيب وليدها ... حيث الشّباب يرفّ في جنّاتها
وتسنّم (1) الرّضوان في أكنافها ... وتنسّم (2) الرّيحان من جنباتها
يا مصطفاها يا (3) مرفّع قدرها ... يا كهفها يا منتهى غاياتها (4)
يا منتقاها من أرومة هاشم ... يا هاشم الصّلبان في نزاوتها
يا خاضدا للشّرك شوكة حزبه ... يا يافعا (5) للعرب في جمراتها
قلت: نقل الشيخ (6) أزيد من ذلك أو ضعفه أو نحوه. إلى أن قال: وهي طويلة، قلت: وثقيلة الرّوح. ولقد صدق في قوله.
ومن شعره: [السريع]
يا بدر تمّ طالعا في الحشا ... برّح بي منك أوان المغيب
حظّك من قلبي تعذيبه ... وحظّه منك الأسى والوجيب
فمن يكن يزهى بلبس المنى ... فإن زهوي بلحاس النّحيب
في ساعة قصر أنيابها ... غيبته لي وحضور الرقيب
لعلّ من باعد ما بيننا ... يفرّج الكربة عمّا قريب
وقال: [الكامل]
رشّوا (7) القباب بأدمع مفضوضة ... ذوى للفراق وأكبد تتصرّم
فللنّفس في تلك الرّبوع حبيبة ... والقلب في إثر الوداع مقسّم
هل لي بهاتيك الظّبا إلماعة؟ ... أم هل لذاك السّرب شمل ينظم؟
حقّا فقدت الذّات عند فراقهم ... فالشّخص يوجد والحقيقة تعدم
وفاته: توفي ببلده لثلاث بقين من رمضان ست وتسعين وخمسمائة (8). قال أبو القاسم المواعيني: عثر في مشيه فسقط، فكان سبب منيّته، ودخل غرناطة في غير ما وجهة منها، راويا عن أبي القاسم بن الفرس، ومع ذلك فهو من أحوازها وبنيّاتها.
__________
(1) في الأصل: «وتنسّم» والتصويب من الذيل والتكملة.
(2) في الأصل: «وشيم» والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) كلمة «يا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذيل والتكملة.
(4) في الأصل: «بأكنفها علياتها»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل والتكملة: «يا نابغا».
(6) هو الشيخ أبو الحسن الرعيني.
(7) في الأصل: «رثوا» بالثاء.
(8) في بغية الملتمس: توفي في سنة 595هـ. وولادته في المصادر: سنة 529هـ.(2/344)
محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد ابن خاتمة الأنصاري (1)
من أهل ألمريّة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من كتاب الإكليل ما نصّه (2): ممن ثكلته اليراعة، وفقدته البراعة، تأدّب بأخيه (3)، وتهذّب، وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهّم والتعليم البرد (4)
المذهّب، فاقتفى واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى نبل وشدا، ولو أمهله الدهر لبلغ المدى. وأما خطّه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط (5)
يانع الشّبيبة، مخضرّ الكتيبة.
شعره: [البسيط]
كفّوا الملام فلا أصغي إلى العذل ... عقلي وسمعي عن العذّال في شغل
يقول في هذه القصيدة:
هزل المحبّة جدّ والهوان هوى ... والصّبّ يتلف بين الجدّ والهزل
من مسعدي وفؤادي لا يساعدني ... أو من شفيعي وذلّي ليس يشفع لي
أعلّل النّفس بالآمال أطمعها ... حتى وقعت من التّعليل في علل
لئن كنت تجهل ما في الحبّ من محن ... أنا الخبير فغيري اليوم لا تسل
أنا الذي قد حلبت الحبّ أشطره ... فلم يفدني لا حولي ولا حيل
لا أشرب الرّاح كي أحلو براحتها ... لكن لأدفع ما بالنّفس من كسل
ولا أجول بطرفي في الرياض سوى ... ذكري لأيامنا في ظلّها الأول
أنا العهد مضى ما كان أعذبه ... لم يبق لي غير آيات من الخبل
كم فديتك يا قلبي وأنت على ... تلك الغواية لم تبرح ولم تزل
فاختر لنفسك إما أن تصاحبني ... حلوا وإلّا فدعني منك وارتحل
فقد تبعتك حتى سرت من شغفي ... ولوعتي في الهوى أعجوبة المثل
__________
(1) ترجمة ابن خاتمة الأنصاري في الدرر الكامنة (ج 4ص 201) ونفح الطيب (ج 8ص 364).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 365364).
(3) هو أبو جعفر أحمد بن علي بن محمد، ويعرف أيضا بابن خاتمة، المتوفى سنة 770هـ، وترجمته تقدمت في الجزء الأول، وله ديوان شعر مطبوع، حققه الدكتور محمد رضوان الداية.
(4) في النفح: «الرداء».
(5) اعتبط: مات شابا. لسان العرب (عبط).(2/345)
ومن شعره (1): [الرمل]
ومض البرق فثار القلق ... ومضى النّوم وحلّ الأرق
وينعاني من غرامي قد شكا ... ودموعي من ولوعي تنطق (2)
ودليلي في غليلي زفرتي ... وعذابي بانتحابي أصدق
وحسودي من وقودي رقّ لي (3) ... ضمّنا فيها الحمى والأبرق (4)
وعشيّات تقضّت باللّوى ... في محيّا (5) الدهر منها رونق
إذ شبابي والتّصابي جمعا ... ورياض الأنس غضّ مونق (6)
شتّ (7) يوم البين شملي ليت ما ... خلق البين لقلب يعشق
آه من يوم قضى لي فرقة ... شاب منّي يوم حلّت مفرق
ومن ذلك: [الطويل]
أيا جيرة الحيّ الممنّع جاره ... سقى ريقكم دمعي إذا بخل الوبل
متى غبتم عنّي فأنتم بخاطري ... وإن تقصدوا ذلّي فقد لذّني الذّلّ
عذابكم قرب وبخلكم ندى ... وإذلالكم عزّ وهجرانكم وصل
وأنتم نعيمي لا نعمت بغيركم ... وروضي لا ماء (8) أريد ولا ظلّ
ومن ظريف نزعاته قوله (9): [البسيط]
الرّفع نعتكم لا خانكم (10) أمل ... والخفض شيمة شأني (11) والهوى دول
هل منكم لي عطف بعد بعدكم؟ ... إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل
__________
(1) ورد منها ستة أبيات في نفح الطيب (ج 8ص 365).
(2) هذا البيت والذي يليه لم يردا في نفح الطيب.
(3) رواية صدر البيت في النفح هي: مذ تذكّرت لأيام خلت.
(4) في الأصل: «والأيفق»، والتصويب من النفح. و «الأبرق»: غلظ فيه حجارة ورمل وطين مختلطة، والجمع أبارق. محيط المحيط (برق).
(5) في الأصل: «مخيّلى» وكذا ينكسر الوزن والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «مورق».
(7) شتّ: فرّق. لسان العرب (شتت).
(8) في الأصل: «ما» وكذا ينكسر الوزن.
(9) البيتان في الدرر الكامنة (ج 4ص 201) ونفح الطيب (ج 8ص 365).
(10) في الأصل: «خابكم» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «مثلي».(2/346)
وفاته: اعتبط في الطاعون في أوائل ربيع الأول عام خمسين وسبعمائة. ورد إلى الحضرة غير ما مرة.
محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزّهري (1)
من أهل قرطبة، يكنى أبا بكر.
حاله: نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعيّة وشهرة. قال ابن عبد الملك: كان أديبا بارعا، محسنا، شاعرا حلو الكلام، مليح التّندير، مبرّزا في نظم الطريقة الهزلية، بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزّجل. قلت (2): وهذه الطريقة بديعة يتحكّم فيها ألقاب البديع، وتنفسخ لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر. وبلغ فيها أبو بكر مبلغا حجره الله عن سواه فهو آيتها المعجزة، وحجّتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدى فيها والمتمّم، رحمه الله. وقال الفتح فيه (3): «مبرّز في البيان، ومحرز السّبق (4) عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل (5) على الله اشتمالا رقّاه (6) إلى مجالس، وكساه ملابس، واقتطع (7) أسمى الرّتب وتبوّأها، ونال أسنى الخطط (8) وما تمالأها».
شعره: قال الفتح (9): وقد أثبت له ما يعلم (10) به رفيع قدره، ويعرف كيف أساء الزمن (11) بغدره، قوله (12): [الكامل]
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا ... فوق العوالي السّمر زرق نطاف (13)
__________
(1) ترجمة ابن قزمان في المغرب (ج 1ص 100) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 95) ورايات المبرزين (ص 126) والوافي بالوفيات (ج 1ص 54) ونفح الطيب (ج 5ص 172) و (ج 6ص 70) و (ج 9ص 241).
(2) القول لابن الخطيب معلقا على قول ابن عبد الملك المراكشي.
(3) يخلط ابن الخطيب هنا بين المترجم له وبين عمّه أبي بكر محمد بن عبد الملك بن عيسى بن قزمان القرطبي، المتوفى سنة 508هـ. وقول الفتح بن خاقان في قلائد العقيان (ص 186).
(4) في القلائد: «الخصل».
(5) هو المتوكل بن الأفطس، صاحب بطليوس، في عصر ملوك الطوائف، وقد قتله المرابطون سنة 488هـ.
(6) في القلائد: «أرقاه».
(7) في المصدر نفسه: «فاقتطع».
(8) في المصدر نفسه: «الحظوظ».
(9) قلائد العقيان (ص 186).
(10) في القلائد: «ما تعلم به حقيقة قدره، وتعرف».
(11) في المصدر نفسه: «الزمان».
(12) في المصدر نفسه: «فمن ذلك قوله» والبيتان في المغرب (ج 1ص 100) منسوبين إلى أبي بكر محمد بن عبد الملك بن عيسى بن قزمان، عمّ المترجم له.
(13) في الأصل: «قطاف» والتصويب من القلائد والمغرب.(2/347)
وتجلّلوا الغدران من ماذيّهم ... مرتجّة إلّا على الأكتاف
وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال (1) يستدعيه إلى مجلس أنس: [البسيط]
إني أهزّك هزّ الصّارم الخذم ... وبيننا كلّ ما تدريه من ذمم
ذا شاك (2) من قطع أنس أنت واصله ... بما لديك من الآداب والحكم
وشتّ شمل كرام أنت ناظمه ... وردّ دعوة أهل المجد والكرم
ولو دعيت إلى أمثالها لسعت ... إليك سعي مشوق هائم قدم
وإن نشطت لتصريفي صرفت له ... وجهي وكنت من الأعوان والخدم
وما أريد سوى عفو تجود به ... وفي حديثك ما يشفى من الألم
أنت المقدّم في فخر وفي أدب ... فاطلع علينا طلوع السيّد العمم
فأجابه رحمه الله: [البسيط]
أتى من المجد أمر لا مردّ له ... نمشي على الرأس فيه لا على القدم
لبّيك لبّيك أضعافا مضاعفة ... إني أجبت ولكنّ داعي الكرم
لي همّة ولأهل العزّ مطمحها ... لا زلت في كلّ مجد مطمح الهمم
وإنّ حقّك معروف وملتزم ... وكيف يوجد عندي غير ملتزم؟
زفن (3) ورقص وما أحببت من ملح ... عندي وأكثر ما تدريه من شيم
حتى يكون كلام الحاضرين بها ... عند الصّباح وما بالعهد من قدم
يا ليلة السّفح هلّا عدت ثانية ... سقى زمانك هطّال من الدّيم
وقال في غرض النّسيب (4): [السريع]
يا ربّ يوم زارني (5) فيه من ... أطلع من غرّته (6) كوكبا
ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خدّيه ماء الصّبا
__________
(1) تقدمت ترجمة ابن أبي الخصال في هذا الجزء من الإحاطة.
(2) في الأصل: «ذاك شاك» وكذا ينكسر الوزن.
(3) الزّفن: الرقص. لسان العرب (زفن).
(4) الأبيات في المقتضب (ص 95) ونفح الطيب (ج 5ص 172).
(5) في الأصل: «زادني» والتصويب من المصدرين.
(6) في الأصل: «غربه» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.(2/348)
قلت له هب (1) لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما: مرحبا
فذقت شيئا لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي (2) يا شقوتي لو أبى
وقال: [المنسرح]
جئت لتوديعه وقد ذرفت ... عيناي من حسرة وعيناه
في موكب البين باكيين (3) ولا ... أصعب من موقف وقفناه
معانقا جيده على حذر ... فمن رآني مقبّلا فاه
نغّص توديعه لعاشقه ... ما كان من قبل قد تمنّاه
وقال يعتذر ارتجالا وأحسن ما أراد (4): [البسيط]
يا أهل ذا المجلس السّامي سراوته (5) ... ما ملت لكنني مالت بي الرّاح
وإن (6) أكن مطفئا (7) مصباح بيتكم ... فكلّ من فيكم (8) في البيت مصباح
وقال يهنّئ بعرس: [الكامل]
صرفت إليك وجوهها الأفراح ... وتكنّفتك سعادة ونجاح
فاقض المآرب في زمان صالح ... لا سدّ عنك من الزّمان صلاح
إن كان كالشمس المنيرة حسنها ... فالبدر أنت وما عليك جناح
لا فرق بينكما لرأي فاستوى ... زيّ النساء قلادة ووشاح
هل يوقد المصباح عندكما مهجا ... وكلاكما ببهائه مصباح؟
أحرزت يا عبد العزيز محاسنا ... كثرت فلم تستوفها الأمداح
يا من له كفّ تجود وأضلع ... مطوي على حفظ الوداد سجاح (9)
__________
(1) في الأصل: «وهب» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) الشّقوة: الشقاء. لسان العرب (شقا).
(3) في الأصل: «باكين» بياء واحدة، وكذا ينكسر الوزن.
(4) البيتان في المغرب (ج 1ص 100) وجاء فيه أنه قالهما وقد رقص في مجلس شرب، فأطفأ السراج بأكمامه.
(5) في المغرب: «سرارته».
(6) في المغرب: «فإن».
(7) في الأصل: «مظعنا» والتصويب من المغرب.
(8) في المغرب: «فكل من قد حواه البيت».
(9) في الأصل: «شجاح» بالشين المعجمة. والسّجاح: الذي يحسن العفو. لسان العرب (سجح).(2/349)
ما ألقت الحاجات دوني قفلها ... إلّا ويمن يمينك المفتاح
في كل ما تنحو إليه ملاحة ... وكذاك أفعال المليح ملاح
ومن حكمه قوله (1): [الوافر]
كثير المال تبذله فيبقى ... ولا (2) يبقى مع البخل القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظلّ الثناء له مقيل
وقال رحمه الله (3): [الوافر]
وعهدي بالشّباب وحسن قدّي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب (4)
فصرت اليوم منحنيا كأني ... أفتّش في التّراب على الشباب (5)
وقال رحمه الله (6): [الرمل]
يمسك الفارس رمحا بيد (7) ... وأنا أمسك فيها قصبه
وكلانا (8) بطل في حربه ... إن الاقلام رماح الكتبه
قال ابن عبد الملك: أنشدت على شيخنا أبي الحسن الرّعيني، قال: أخبرنا الراوية أبو القاسم بن الطّيلسان، قال: سألته، يعني أبا القاسم أحمد بن أبي بكر هذا، أن ينشد شيئا من شعر أبيه المغرب، فأخرج لي قطعة بخط أبيه وأنشده. وقال:
أنشدني أبي رحمه الله لنفسه: [المنسرح]
أحسن ما نيط في الدّعاء (9) لمن ... رتّب في خطّة من الخطط
خلّصك الله من عوائقها ... ودمت في عصمة من الغلط
مقرّبا منك ما تسرّ به ... وكل مكروهة على شحط
الكلّ بالعدل منك مغتبط ... وليس في الناس غير مغتبط
وليس يخليك من أنا لكها ... من عمل بالنّجاة مرتبط
__________
(1) البيتان في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 95) ونفح الطيب (ج 6ص 71).
(2) في المقتضب: «وقد يبقى من الذكر القليل».
(3) البيتان في المقتضب من كتاب تحفة النادم (ص 9695) ونفح الطيب (ج 5ص 172).
(4) هو أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة، المتوفى سنة 328هـ، يضرب به المثل بحسن خطّه. وفيات الأعيان (ج 4ص 354، 357).
(5) في المصدرين: «على شبابي».
(6) البيتان في المقتضب (ص 96).
(7) كلمة «بيد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المقتضب.
(8) في المقتضب: «فكلانا».
(9) في الأصل: «الدعا» وكذا ينكسر الوزن.(2/350)
فانفذ بعون لله (1) مجتهدا ... بقلب صافي الضمير (2) مرتبط
يا صاحب الأمر والذي يده ... نائلها للعفاة غير بطي (3)
رفعتم يا بني رفاعة ما ... كان من المعلوات في هبط
ومنبر الحق من سواه بكم ... فها هو الآن غير مختلط
وانضبط الأمر واستقام لكم ... ولم يكن (4) قبل ذا بمنضبط
أتيت في كل ما أتيت به ... فالغيث بعد الرجاء (5) والقنط
جللت عمّن سواك منزلة ... فلست ممّن سواك في نمط
أنت من المجد والعلا طرف ... وكلّهم في العلا من الوسط
كتابته: وقفت من ذلك على أفانين. منها في استهلال شهر رمضان قوله:
سلام على أنس المجتهدين، وراحة المتهجّدين، وقرّة أعين المهتدين، والذي زيّن الله به الدّنيا وأعزّ به الدين. شرّف الله به الإسلام، وجعل أيامه رقوما في عواتق الأيام، وشهوره غررا في جباه الأعلام، وحلّ به عن رقاب الأمة قلائد الآثام، ونزّه فيه الأسماع عن المكاره وصان الأفواه من رفث الكلام. أشهد أن الله أثنى عليك، وأدخل من شاء الجنّة على يديك، وخصّك من الفضائل بما يمشي فيه التّفسير حتى يكلّ، ويسأم ذلك اللسان ويملّ، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظّلّ، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله، ويهتزّ العرش لجلاله، وترتج الملائكة في حين إقباله، وتدخل الحور العين في زينتها تكريما، وتلتزم إجلاله وتعظيما، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطا مستقيما، وتغلّ الشياطين على ما خيّلت، وتذوق وبال ما كادت به وتخيّلت، ويشمّر التّقيّ لعبادة ربّه ذيلا، وتهبط الملائكة إلى سماء الدنيا ليلا، وينتظم المتّقون في ديوانه انتظام السّلك، ويكون خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتفتح الجنّة أبوابا، ويغفر لمن صامه إيمانا واحتسابا، جزاء من ربك عطاء حسابا، وبما فضّلك الله على سائر الشهور، وقضى لك بالشّرف والفضل المشهور. فرضك في كتابه، ومدحك في خطابه، حيث قال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، يعني تكبير الناس
__________
(1) في الأصل: «الله» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «صفيّ بالضمير» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «بط».
(4) في الأصل: «ولم يكن من قبل»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا كلمة «من».
(5) في الأصل: «الرجا» وكذا ينكسر الوزن.(2/351)
عليك، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك، حين لثمت بالسحاب، ونظرت من تحت ذلك النّقاب، وقد يمتاز الشّيب وإن استتر بالخضاب، حتى إذا وقف الأئمّة منك على الصّحيح، وصرّحوا برؤيتك كلّ التصريح، نظرت كل جماعة في اجتماعها، وتأهّبت القرّاء لإشفاعها، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها، وتضرعت الألباب، وطلبت المواقف أواخر الأعشار والأحزاب، وابتدئت ألم ذلك الكتاب، عند ما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح، والله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، فأمّلك المسلمون في سرّ وجهر، وحطّت أثقال السيئات عن كل ظهر، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر، فنشط الصالحون بك صوما، وهجر المتهجّدون في ليلك نوما، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما. فيا أيها الذي رحل، رحل بعد مقامه، وقام للسّفر من مقامه، ورأى من قضى حقّه ومن قصّر في صيامه، فمشى الناس إلى تشييعه، وبكوا لفراقه وتوديعه، وندم المضيّع على ما كان من تضييعه، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه، فعضّ على كفّه ندما، وبكت عينه ماء وكبده دما. رويدا حتى أمرح في ميدان فراقك، وأتضرّع إلى حنانك وإشفاقك، وأتشفى من تقبيلك وعناقك، وأسأل منك حاجة إن أراد الله قضاءها، وشاء نفوذها وإمضاءها، إذا أنت وقفت لربّ العالمين، فقبلك من قوم وردّك في وجوه آخرين. إن تثني جميلا، فعسى يصفح لعهده وإن أساء، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخرا، وأملت الأداء باطنا وظاهرا، وكنت على ذلك لو هدى الله قادرا، وإنما علم، من تقصير الإنسان ما علم، وللمرء ما قضي عليه به وحكم، وإن النفس لأمّارة بالسّوء إلّا من رحم، فإن غفر فبطوله وإحسانه، وإن عاقب فيما قدّمت يد العبد من عصيانه، فيا وحشة لهذه الفرقة، ويا أسفا على بعد الشّقة، ويا شدّ ما خلّفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه، وراقب إعظاما لكربه، وشرحت إلى أعمال البرّ قلبه. ومع هذا أتراك ترجع وترى، أم تضمّ علينا دونك أطباق الثّرى؟ فيا ويلتا إن حلّ الأجل، ولم أقض دينك، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك، فأغرب، لا جعله الله آخر التوديع، وأيّ قلب يستطيع.
وقال في استهلال شوال:
ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوّال قد طلع، وكرّ في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهرا ثم رجع. ما لي أراه رقيق الاستهلال، خفيّ الهلال، وروحا تردّد في مثل انملال؟ ما باله أمسى الله رسمه، وصحّح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه؟ على وجهه صفرة بيّنة، ونار إشراقه ليّنة، وأرى السحاب تعتمده وتقف،
وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلّا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام، أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغرّ والليالي البيض، وقلن: كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل: كيف نجدك لا فضّ فاك، هذا على الظّن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التّصديق. وليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرّياح، وصحب برد الصّباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرّواح، وطواها بتجربته طيّ الوشاح؟ ما ذاك إلّا أنّه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطا وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النّظر ما زرع، ووقع في شركها وحقّ له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنّقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكلة يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدّت لذيذ السّماح، فتعرّضت بالعشيّ وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنّا به من الانقطاع، ويمسّنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر، وقال: تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجدا شديدا، وأذاقه مع الساعات شوقا جديدا، وأصبح بها دنفا، وأمسى عميدا، حتى سلب ذلك بهاه، وأذهب سناه، وردّه النحول كما شاه، ولقي منها مثل ما لقي غيلان من ميّته، وجميل من بثينته، وحنّ إليها حنين عروة إلى عفراء، وموعدهما يوم وهب ناقته الصّفراء. على رسلك أني وهمت، وحسبت ذلك حقّا وتوهّمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفصّ فيما ظننت، إنه لقي رمضان في إقباله، وضمّه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثّر ذلك في وجهه الطّلق، وأضعفه كما فعل بسائر الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشي الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلّاهم من كل باب، فارتفعت همّة الإسلام، وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه كدور المرآة، ولون كصفا المهراة، وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السّنّة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنّة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنّة، ثم خطبوا حمدا لله وشكرا، وذكروه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشّاب في كفّيه، ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرّؤية ذو عينين، وتذكّر العاشق موقف البين، وشقّ المتنزّه بين الصّفين، فنقل عينيه من الوشي إلى الدّيباج، ووجوه كضوء السّراج، وعيون أقتل من سيف الحجّاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زيّنت العيون بالتكحيل، والشعور بالتّرجيل، وكرّر السّواك على مواضع التّقبيل، وطوّقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومدّ بالغالية
على مواضع السجود، وأقبلت صنعاء بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحنّاء، وأثني على الحسن وهو أحقّ بالثناء، وطلّقت التّوبة ثلاثا بعد البناء، وغصّ الذّراع بالسّوار، وتختّم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدّايات بالأطفال الصّغار، وامتلأت الدّنيا سرورا (1)، وانقلب الكلّ إلى أهله مسرورا. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ تلألأت الدنيا برقا، وامتدّ مع الأفقين غربا وشرقا، وردّ لمعانه عيون الناظرين زرقا، ولولا أنه جرّب حتى يدرى، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصيّ، وازدانت به آل غالب وآل لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بعده، أو الفضل فهو(2/352)
ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوّال قد طلع، وكرّ في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهرا ثم رجع. ما لي أراه رقيق الاستهلال، خفيّ الهلال، وروحا تردّد في مثل انملال؟ ما باله أمسى الله رسمه، وصحّح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه؟ على وجهه صفرة بيّنة، ونار إشراقه ليّنة، وأرى السحاب تعتمده وتقف،
وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلّا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام، أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغرّ والليالي البيض، وقلن: كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل: كيف نجدك لا فضّ فاك، هذا على الظّن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التّصديق. وليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرّياح، وصحب برد الصّباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرّواح، وطواها بتجربته طيّ الوشاح؟ ما ذاك إلّا أنّه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطا وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النّظر ما زرع، ووقع في شركها وحقّ له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنّقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكلة يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدّت لذيذ السّماح، فتعرّضت بالعشيّ وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنّا به من الانقطاع، ويمسّنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر، وقال: تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجدا شديدا، وأذاقه مع الساعات شوقا جديدا، وأصبح بها دنفا، وأمسى عميدا، حتى سلب ذلك بهاه، وأذهب سناه، وردّه النحول كما شاه، ولقي منها مثل ما لقي غيلان من ميّته، وجميل من بثينته، وحنّ إليها حنين عروة إلى عفراء، وموعدهما يوم وهب ناقته الصّفراء. على رسلك أني وهمت، وحسبت ذلك حقّا وتوهّمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفصّ فيما ظننت، إنه لقي رمضان في إقباله، وضمّه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثّر ذلك في وجهه الطّلق، وأضعفه كما فعل بسائر الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشي الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلّاهم من كل باب، فارتفعت همّة الإسلام، وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه كدور المرآة، ولون كصفا المهراة، وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السّنّة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنّة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنّة، ثم خطبوا حمدا لله وشكرا، وذكروه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشّاب في كفّيه، ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرّؤية ذو عينين، وتذكّر العاشق موقف البين، وشقّ المتنزّه بين الصّفين، فنقل عينيه من الوشي إلى الدّيباج، ووجوه كضوء السّراج، وعيون أقتل من سيف الحجّاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زيّنت العيون بالتكحيل، والشعور بالتّرجيل، وكرّر السّواك على مواضع التّقبيل، وطوّقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومدّ بالغالية
على مواضع السجود، وأقبلت صنعاء بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحنّاء، وأثني على الحسن وهو أحقّ بالثناء، وطلّقت التّوبة ثلاثا بعد البناء، وغصّ الذّراع بالسّوار، وتختّم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدّايات بالأطفال الصّغار، وامتلأت الدّنيا سرورا (1)، وانقلب الكلّ إلى أهله مسرورا. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ تلألأت الدنيا برقا، وامتدّ مع الأفقين غربا وشرقا، وردّ لمعانه عيون الناظرين زرقا، ولولا أنه جرّب حتى يدرى، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصيّ، وازدانت به آل غالب وآل لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بعده، أو الفضل فهو(2/353)
ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوّال قد طلع، وكرّ في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهرا ثم رجع. ما لي أراه رقيق الاستهلال، خفيّ الهلال، وروحا تردّد في مثل انملال؟ ما باله أمسى الله رسمه، وصحّح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه؟ على وجهه صفرة بيّنة، ونار إشراقه ليّنة، وأرى السحاب تعتمده وتقف،
وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلّا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام، أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغرّ والليالي البيض، وقلن: كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل: كيف نجدك لا فضّ فاك، هذا على الظّن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التّصديق. وليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرّياح، وصحب برد الصّباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرّواح، وطواها بتجربته طيّ الوشاح؟ ما ذاك إلّا أنّه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطا وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النّظر ما زرع، ووقع في شركها وحقّ له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنّقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكلة يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدّت لذيذ السّماح، فتعرّضت بالعشيّ وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنّا به من الانقطاع، ويمسّنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر، وقال: تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجدا شديدا، وأذاقه مع الساعات شوقا جديدا، وأصبح بها دنفا، وأمسى عميدا، حتى سلب ذلك بهاه، وأذهب سناه، وردّه النحول كما شاه، ولقي منها مثل ما لقي غيلان من ميّته، وجميل من بثينته، وحنّ إليها حنين عروة إلى عفراء، وموعدهما يوم وهب ناقته الصّفراء. على رسلك أني وهمت، وحسبت ذلك حقّا وتوهّمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفصّ فيما ظننت، إنه لقي رمضان في إقباله، وضمّه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثّر ذلك في وجهه الطّلق، وأضعفه كما فعل بسائر الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشي الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلّاهم من كل باب، فارتفعت همّة الإسلام، وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه كدور المرآة، ولون كصفا المهراة، وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السّنّة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنّة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنّة، ثم خطبوا حمدا لله وشكرا، وذكروه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكرا، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشّاب في كفّيه، ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرّؤية ذو عينين، وتذكّر العاشق موقف البين، وشقّ المتنزّه بين الصّفين، فنقل عينيه من الوشي إلى الدّيباج، ووجوه كضوء السّراج، وعيون أقتل من سيف الحجّاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زيّنت العيون بالتكحيل، والشعور بالتّرجيل، وكرّر السّواك على مواضع التّقبيل، وطوّقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومدّ بالغالية
على مواضع السجود، وأقبلت صنعاء بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحنّاء، وأثني على الحسن وهو أحقّ بالثناء، وطلّقت التّوبة ثلاثا بعد البناء، وغصّ الذّراع بالسّوار، وتختّم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدّايات بالأطفال الصّغار، وامتلأت الدّنيا سرورا (1)، وانقلب الكلّ إلى أهله مسرورا. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ تلألأت الدنيا برقا، وامتدّ مع الأفقين غربا وشرقا، وردّ لمعانه عيون الناظرين زرقا، ولولا أنه جرّب حتى يدرى، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصيّ، وازدانت به آل غالب وآل لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بعده، أو الفضل فهو
لابس برده، أو الفخر فهو واسطة عقده، أو الحسن فهو نسيج وحده، الذي رفع لواء العليا، وعارضت مكارمه صوب الحيا، وحكت محاسنه زهرة الحياة الدنيا. فأما وجهه فكما شرقت الشمس وأشرقت، وغربت كواكب سمائها وشرقت، وتفتّحت أطواق الليل عن غرر مجده وتشقّقت.
ولولا حيا يغلب عليه، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عمّ آفاق الدّجا وطبّق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، وقد عجم الأبنوس على العاج، وأدار جفنا كما عطف على أطفالها النّعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلمّ بالفؤاد إلمام الطّيف، ويتلقّاها السّحر تلقّي الكريم للضيف. لو جرّدها على الرّيم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقّت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفح عرف النّسيم في جنباتها، يتفنّن أفانين الزهر، ويتقلب تقلّب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرّف ما شهر بخطّه، ولا جرّ من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرىء على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلّف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر يتفنّن للبلاغة فنونا، ولا يتقبّلها بطونا ومتونا، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاما موزونا، ولا نمّق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قسّ بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغاظ زيد بن علي هشاما بما أغاظ، وأما مكارمه
__________
(1) في الأصل: «سررا».(2/354)
فكما انسكب الغيث عن ظلاله، وخرج الودق من غلاله، فتدارك النّعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها، ذلك الشريف الأجلّ، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزّهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها، وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفّت الثياب بالثياب، وضمّ الرّكاب بالرّكاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنّوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلّمت، وجرت كلاما وبه تكلّمت، فقلت: تقبّل الله سعيك، وزكّى عملك، وبلّغك فيما تودّه أملك، ولا تأمّلت وجها من السّرور إلّا تأمّلك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظّك على ما صمت وصلّيت، ووافقتك لعلّ وساعدتك ليت، وهنّاك عيد الفطر وهنّأته، وبدأك بالمسرات وبدأته، وتبرّأ لك الدهر مما تحسد وبرّأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام وعزّ في ازدياد، والسّنّة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضّحى، ودام الفطر والأضحى.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة، وتردّد إليها غير ما مرة، وأقام بها، وامتدح ابن أضحى (1) وابن هاني، وابن سعيد وغيرهم من أهلها. قال ابن سعيد في «طالعه»:
وقد وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة، واجتماعه بجنّته بقرية الزاوية من خارجها، بنزهون القليعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع، وكان لبس غفارة صفراء: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلّا أنّك لا تسرّ النّاظرين، فقال لها: إن لم أسرّ الناظرين، فأنا أسرّ السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين منك، يا فاعلة يا صانعة. وتمكّن السّكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج منها إلّا وثيابه تقطر، وقد شرب كثيرا من الماء، فقال:
اسمع يا وزير ثم أنشد (2): [السريع]
إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال
وذات فرج (3) واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيالي (4)
غرّقتني في الماء يا سيدي ... كفّره بالتغريق في المال
__________
(1) هو الوزير أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى، من بيت عظيم بغرناطة، ثار بها ودعا لنفسه بعد مقتل تاشفين بن يوسف بن تاشفين المرابطي سنة 539هـ. توفي سنة 540هـ. وقد تقدم التعريف به في الجزء الأول من الإحاطة في ترجمة أبي بكر المخزومي الأعمى. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.
(2) الأبيات في نفح الطيب (ج 6ص 71).
(3) في الأصل: «جرح» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «أذيال» والتصويب من النفح.(2/355)
فأمر بتجريده، وخلع عليه ما يليق به، ولم يمرّ لهم بعد عهدهم بمثله.
ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة، إلّا بعد ما أجزل له من الإحسان، ومدحه بما هو في ديوان أزجاله.
محنته: جرت عليه بابن حمدين (1) محنة كبيرة عظم لها نكاله، بسبب شكاسة أخلاق كان موصوفا بها، وحدّة شقي بسببها. وقد ألمّ الفتح في قلائده بذلك، واختلّت حاله بآخرة، واحتاج بعد انفصال أمر مخدومه الذي نوّه به.
وفاته: توفي بقرطبة لليلة بقيت من رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، والأمير ابن سعد يحاصر قرطبة رحمه الله.
محمد بن غالب الرّصافي (2)
يكنى أبا عبد الله، بلنسي الأصل، سكن غرناطة مدة، ثم مالقة.
حاله: قال الأستاذ (3): كان فحلا من فحول الشعراء، ورئيسا في الأدباء، عفيفا، ساكنا، وقورا، ذا سمت وعقل. وقال القاضي (4): كان شاعرا مجيدا، رقيق الغزل، سلس الطبع، بارع التّشبيهات، بديع الاستعارات، نبيل المقاصد والأغراض، كاتبا بليغا، ديّنا، وقورا، عفيفا، متفقها، عالي الهمة، حسن الخلق والخلق والسّمت، تام العقل، مقبلا على ما يعنيه من التّعيش بصناعة الرّفي التي كان يعالجها بيده، لم يبتذل نفسه في خدمة، ولا تعرض لانتجاع بقافية، خلا وقت سكناه بغرناطة، فإنه امتدح واليها حينئذ، ثم نزع عن ذلك، راضيا بالخمول حالا، والقناعة مالا، على شدّه الرغبة فيه، واغتنام ما يصدر عنه.
أخبار عقله وسكونه: قال الفقيه أبو الحسن شاكر بن الفخّار المالقي، وكان خبيرا بأحواله: ما رأيت عمري رجلا أحسن سمتا، وأطول صمتا، من أبي عبد الله الرصافي. وقال غيره من أصحابه: كان رفّاء، فما سمع له أحد من جيرانه كلمة في أحد. وقال أبو عمرو بن سالم: كان صاحبا لأبي، ولقيته غير ما مرة، وكان له
__________
(1) هو أبو جعفر بن حمدين، قاضي قرطبة، الذي ثار بها في رمضان من العام 539هـ. وتمّ له الأمر إلى أن ثار عليه ابن غانية في شعبان من عام 540هـ. راجع الجزء الرابع من الإحاطة في ترجمة يحيى بن علي بن غانية.
(2) ترجمة ابن غالب الرصافي في مقدمة ديوانه بقلم محققه الدكتور إحسان عباس، وفيها ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(3) المراد بالأستاذ أبا جعفر ابن الزبير صاحب كتاب: صلة الصلة.
(4) المراد بالقاضي: ابن عبد الملك المراكشي صاحب كتاب: الذيل والتكملة.(2/356)
موضع يخرج إليه في فصل العصير، فكنت أجتاز عليه مع أبي فألثم يده، فربما قبّل رأسي، ودعا لي، وكان أبي يسأله الدعاء فيخجل، ويقول: أنا والله أصغر من ذلك.
قال: وكان بإزائه أبو جعفر البلنسي، وكان متوقّد الخاطر، فربما تكلم مع أحد التجار، فكان منه هفوة، فيقول له جلساؤه: شتّان والله بينك وبين أبي عبيد الله في العقل والصمت، فربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها، فما يزيد على التبسم. فلما كان أحد الأيام، جاء البلنسي ليفتح دكانه، فتعمّد إلقاء الغلق من يده، فوقع على رأس أبي عبد الله، وهو مقبل على شغله، فسال دمه، فما زاد على أن قام ومسح الدم، ثم ربط رأسه، وعاد إلى شغله. فلمّا رأى ذلك منه أبو جعفر ترامى عليه، وجعل يقبّل يديه، ويقول: والله ما سمعت برجل أصبر منك، ولا أعقل.
شعره: وشعره لا نهاية فوقه رونقا ومائية، وحلاوة وطلاوة، ورقّة ديباجة، وتمكّن ألفاظ، وتأصّل معنى. وكان، رحمه الله، قد خرج صغيرا من وطنه، فكان أبدا يكثر الحنين إليه، ويقصر أكثر منظومه عليه. ومحاسنه كثيرة فيه، فمن ذلك قوله (1): [الطويل]
خليليّ، ما للبيد قد عبقت نشرا؟ ... وما لرؤوس الرّكب قد رنّحت (2) سكرا؟
هل المسك مفتوقا (3) بمدرجة الصّبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا؟
خليليّ، عوجا بي قليلا (4) فإنه ... حديث كبرد الماء في الكبد الحرّى
قفا غير مأمورين ولتتصدّيا (5) ... على ثقة للمزن (6) فاستسقيا القطرا
بجسر معان والرّصافة أنه ... على القطر أن يسقي الرّصافة والجسرا (7)
بلادي التي ريشت قويدمتي (8) بها ... فريخا وأورثتني قرارتها وكرا
مبادئ (9) أنيق (10) العيش في ريّق الصّبا ... أبى الله أن أنسى اغتراري بها غرّا (11)
__________
(1) القصيدة في ديوان الرصافي البلنسي (ص 7168).
(2) في الأصل: «رجحت» والتصويب من الديوان.
(3) في الأصل: «مفتوتا» والتصويب من الديوان.
(4) في الديوان: «عليها».
(5) في الديوان: «ولتصديا بها».
(6) في الديوان: «للغيث».
(7) الرصافة: من أبدع منازه بلنسية تقع بين بلنسية والبحر. الروض المعطار (ص 269)، والمغرب في حلى المغرب (ج 2ص 298). وجسر معان: أغلب الظن أنه جسر نهر معان، وهو نهر ببلنسية يذكر الحميري أن بلنسية تقع على نهر جار ينتفع به، وتدخله السفن.
(8) القويدمة: تصغير القادمة وهى إحدى القوادم أربع ريشات في مقدّم الجناح. لسان العرب (قدم).
(9) في الأصل: «فبادى» والتصويب من الديوان.
(10) في الديوان: «لين».
(11) في الديوان: «أنسى لها أبدا ذكرا».(2/357)
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولكن عرينا من حلاه، ولم تعرا (1)
أمنزلنا عصر الشبيبة ما الذي ... طوى دوننا تلك الشبيبة والعصرا؟
محلّ أغرّ العهد لم نبد ذكره ... على كبد إلا امترى أدمعا حمرا
أكلّ مكان كان (2) في الأرض مسقطا ... لرأس الفتى يهواه ما عاش مضطرّا (3)
ولا مثل مدحوّ من المسك تربة ... تملّي الصّبا فيه حقيبتها (4) عطرا
نبات كأنّ الخدّ يحمل نوره ... تخال لجينا في أعاليه أو تبرا
وماء (5) كترصيع المجرّة جلّلت ... نواحيه (6) الأزهار واشتبكت (7) زهرا
أنيق كريّان (8) الحياة التي خلت (9) ... طليق كريعان (10) الشّباب الذي مرّا
وقالوا: هل الفردوس ما قد وصفته؟ ... فقلت: وما الفردوس في الجنّة الأخرى (11)
بلنسية تلك الزّمرّدة (12) التي ... تسيل عليها كلّ لؤلؤة نهرا
كأنّ عروسا أبدع الله حسنها ... فصيّر من شرخ الشّباب لها عمرا
توبّد (13) فيها شعشعانيّة الضّحى (14) ... مضاحكة الشمس البحيرة والبحرا (15)
تزاحم (16) أنفاس الرياح بزهرها ... نجوما فلا شيطان يقربها (17) ذعرا
وإن كان قد مدّت يد البين بيننا ... من الأرض ما يهوى المجدّ به شهرا (18)
__________
(1) هذا البيت والبيتان التاليان لم ترد في الديوان.
(2) في الديوان: «راح».
(3) مضطرّا: أي أنه يهوى مسقط رأسه اضطرارا دون حاجة إلى إقناع.
(4) في الأصل: «حقيقتها» والتصويب من الديوان.
(5) في الأصل: «وما» والتصويب من الديوان.
(6) في الأصل: «نواحيه» والتصويب من الديوان.
(7) في الديوان: «فاشتبكت».
(8) في الديوان: «كريعان».
(9) في الديوان: «حلت» بالحاء المهملة.
(10) في الديوان: «كريّان».
(11) هذا البيت غير وارد في الديوان.
(12) في الديوان: «الزّبرجدة».
(13) في الأصل: «يؤيّد منها» والتصويب من الديوان. وتؤبّد فيها: تقيم فيها ولا تبرح.
(14) شعشانية الضحى: أي أن أنوارها مشعشعة كشمس الصباح.
(15) في الديوان: «إذا ضاحك الشمس». والبحيرة: هي بحيرة بلنسية التي تزيد في ضياء بلنسية صحو الشمس عليها. المغرب (ج 2ص 297).
(16) في الأصل: «تراجم» والتصويب من الديوان.
(17) في الأصل: «يغرّبها» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(18) هذا البيت لم يرد في الديوان.(2/358)
هي الدّرّة البيضاء من حيث جئتها (1) ... أضاءت ومن للدّرّ أن يشبه البدرا؟ (2)
خليليّ، أن أصدر لها فإنها (3) ... هي الوطن المحبوب أوكله (4) الصّدرا (5)
ولم أطو عنها الخطو هجرا لها إذا ... فلا لثمت نعلي مساكنها الخضرا
ولكنّ إجلالا لتربتها التي ... تضمّ فتاها النّدب أو كهلها الحرّى
أكارم، عاث الدهر ما شاء فيهم ... فبادت لياليهم فهل أشتكي الدهرا؟
هجوع ببطن وارض قد ضرب الرّدى ... عليهم قبيبات فويق الثّرى غبرا
تقضّوا فمن نجم سالك ساقط (6) ... أبى الله أن يرعى السّماك أو النّشرا
ومن سابق هذا إذا شاء (7) غاية ... وغير محمود جياد العلا خضرا (8)
أناس إذا لاقيت من شئت منهم ... تلقّوك لا غثّ الحديث ولا غمرا
وقد درجت أعمارهم فتطلّعوا ... هلال ثلاث لو شفا رقّ أو بدرا
ثلاثة أمجاد من النّفر الألى ... زكوا خبرا بين الورى وزكوا خبرا
أثكّلتهم (9) ثكلا دهى العين والحشا ... فعجّر ذا أمّا وسجّر ذا جمرا؟
كفى حزنا أني تباعدت عنهم ... فلم ألق من سرّي منها ولا سرّا
وإلّا (10) متى أسلو (11) بهم كلّ راكب ... ليظهر لي خيرا تأبّط لي شرّا
أباحثه عن صالحات عهدتها ... هناك فيسبيني (12) بما يقصم الظّهرا
محيّا خليل غاض ماء حياته ... وساكن قصر ضرّ (13) مسكنه القبرا
وأزهر كالإصباح قد كنت أجتلي ... سناء كما يستقبل الأرق الفجرا
فتى لم يكن خلو الصّفات من النّدى ... ولم يتناس الجود أصرم أم أثرا
يصرّف ما بين اليراعة والقنا ... أنامله لا بل هواطله الغرّا
طويل نجاد السيف لان كأنما ... تخطّى به في البرد خطّيّة سمرا
سقته على ما فيك من أريحية ... خلائق هنّ الخمر أو تشبه الخمرا
__________
(1) في الأصل: «جدّتها» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(2) في الأصل: «الدرّا» والتصويب من الديوان.
(3) صدر هذا البيت منكسر الوزن.
(4) في الأصل: «أوكلته» وكذا ينكسر الوزن.
(5) من هنا حتى آخر الأبيات غير وارد في الديوان.
(6) صدر البيت مختل الوزن والمعنى.
(7) في الأصل: «شا» وكذا ينكسر الوزن.
(8) عجز البيت مختل الوزن والمعنى.
(9) في الأصل: «ثكلتهم» وكذا ينكسر الوزن.
(10) في الأصل: «وإلى» وكذا ينكسر الوزن.
(11) في الأصل: «أسل» وكذا ينكسر الوزن.
(12) في الأصل: «فيسّبني» وكذا ينكسر الوزن.
(13) في الأصل: «أضرّ» وكذا ينكسر الوزن.(2/359)
ونشر محيّا للمكارم لو سرت ... حميّاه في وجه الأصيل لما اصفرّا
هل السّعد إلّا حيث حطّ صعيده ... لمن بلّ في شفري ضريح له شفرا؟
طوين الليالي طيّهنّ وإنما ... أطوين (1) عنّي التّجلّد والصّبرا
فلا حرمت سقياه أدمع مزنة ... ترى مبسم النّوار عنبر معترّا
وما دعوتي للمزن عذرا لدعوتي ... إذا ما جعلت البعد عن قربه عذرا
وقال يرثي أبا محمد بن أبي العباس بمالقة (2): [الكامل]
أبني البلاغة، فيم حفل النادي؟ ... هبها عكاظ، فأين قسّ إياد؟
أما البيان، فقد أجرّ لسانه ... فيكم بفتكته الحمام العادي
عرشت سماء (3) علاكم (4) ما أنتم ... من بعد ذلكم الشّهاب الهادي
حطّوا على عمد الطريق فقد خبا (5) ... لألاء (6) ذاك الكوكب الوقّاد
ما فلّ لهذمه (7) الصّقيل وإنما ... نثرت كعوب قناكم المنآد
إيه عميد الحيّ غير مدافع ... إيه فدى لك غابر الأمجاد
ما عذر سلك كنت عقد نظامه ... إن لم يصر بردا إلى الآباد؟
حسب (8) الزمان عليك ثكلا أن يرى ... من طول ليل في قميص حداد
يومي بأنجمه لما قلّدته ... من درّ ألفاظ وبيض أياد
كثف الحجاب فما ترى متفضلا ... في ساعة تصغي به وتنادي (9)
ألمم بربعك غير مأمور فقد ... غصّ الفناء (10) بأرجل القصّاد
خبرا يبلّغه إليك ودونه ... أمن العداة وراحة الحسّاد
قد طأطأ الجبل المنيف قذاله ... للجار بعدك واقشعرّ الوادي (11)
أعد التفاتك نحونا وأظنّه ... مثل الحديث لديك غير معاد
__________
(1) في الأصل: «طوين» وكذا ينكسر الوزن.
(2) هو الفقيه الأديب عبد الله بن أبي العباس الجذامي المالقي، وله شعر في مدح يوسف بن عبد المؤمن الموحدي. المغرب (ج 1ص 426). والبيت الأول في المغرب (ج 1ص 426) وبعض أبيات هذه القصيدة في ديوان الرصافي البلنسي (ص 6160).
(3) في الأصل: «سما» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «علايكم» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «خبت».
(6) في الأصل: «لآلىء» وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «لهزمه» بالزاي. واللهذم: اتحاد القاطع من الأسنّة. محيط المحيط (لهذم).
(8) في الأصل: «حيث» والتصويب من الديوان.
(9) في الأصل: «وتناد» بدون ياء.
(10) في الأصل: «الفنا» بدون همزة وكذا ينكسر الوزن.
(11) في الأصل: «الواد» بدون ياء.(2/360)
وامسح لنا عن مقلتيك من الكرى ... نوما تكابد من بكا وسهاد
هذا الصباح ولا تهبّ إلى متى ... طال الرّقاد ولات حين رقاد
وكأنما قال الرّدى نم وادعا ... سبقت إلى البشرى بحسن معاد
أموسّدا تلك الرخام بمرقد ... أخشن به من مرقد ووساد
خصبت بقدرك حفرة فكأنها ... من جوفها في مثل حرف الصّاد
وثّر لجنبك من أثاث مخيّم ... ترب النّدى (1) وصفائح أنضاد
يا ظاعنا ركب السّرى في ليلة ... طار الدليل بها وحاد الحادي
أعزز علينا إن حططت بمنزل ... تبلى (2) عن الزّوار والعوّاد
جار الأفراد هنالك جيرة (3) ... سقيا لتلك الجيرة الأفراد!
الساكنين إلى المعاد، قبابهم ... منشورة الأطناب والأغماد
من كل ملقية الجراب بمضرب ... ناب البلى فيه عن الأوتاد
بمعرّس السّفر الألى ركبوا السّرى ... مجهولة الغايات والآماد
سيّان فيهم ليلة ونهارها ... ما أشبه التّأويب بالإسناد
لحق البطون من اللّعب على الطّوى (4) ... وعلى الرّواحل عنفوان الزاد
لله هم فلشدّ ما نفضوا من ام ... تعة الحياة (5) حقائب الأجساد
يا ليت شعري والمنى لك جنّة ... والحال مؤذنة بطول بعاد
هل للعلا بك بعدها من نهضة ... أم لانقضاء نواك من ميعاد؟
بأبي وقد ساروا بنعشك صارم ... كثرت حمائله على الأكتاد (6)
ذلّت عواتق حامليك فإنّهم ... شاموك في غمد بغير نجاد
نعم الذّماء (7) البرّ ما قد غوّروا ... جثمانه بالأبرق المنقاد
علياء (8) خصّ بها الضريح وإنما ... نعم الغوير بأبؤس الأنجاد
__________
(1) في الأصل: «ندّ» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «تبلّ» وكذا لا يستقيم لا الوزن ولا المعنى.
(3) صدر البيت منكسر الوزن.
(4) صدر البيت غير مستقيم الوزن والمعنى. والطّوى: الجوع. محيط المحيط (طوى).
(5) في الأصل: «الحياة في حقائب» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا كلمة «في».
(6) الأكتاد: جمع كتد وهو مجتمع الكتفين. لسان العرب (كتد).
(7) أصل القول: «الذما» بدون همزة، وكذا ينكسر الوزن.
(8) أصل القول: «عليا» بدون همزة، وكذا ينكسر الوزن.(2/361)
أبني العباس، أيّ حلاحل ... سلبتكم الدّنيا وأيّ مصاد
هل كان إلّا العين وافق سهمها ... قدرا فأقصد أيّما إقصاد؟
أخلل بمجد لا يسدّ مكانه ... بالإخوة النّجباء والأولاد
ولكم يرى بك من هضاب لم يكن ... لولاك غير دكادك ووهاد
ما زلت تنعشها بسيبك قابضا ... منها على الأضباع والأعضاد
حتى أراك أبا محمد الرّدى ... كيف انهداد بواذخ الأطواد
يا حرّها من جمرة مشبوبة ... يلقى لها الأيدي على الأكتاد
كيف العزاء وإنها لرزيّة ... خرج الأسى فيها عن المعتاد
صدع النّعاة بها فقلت لمدمعي ... كيف انسكابك يا أبا الجوّاد؟
لك من دمي ما شئت غير منهنه ... صب كيف شئت معصفر الأبراد
بقصير مجتهد وحسبك غاية ... لو قد بلغت بها كبير مراد
أمّا الدموع فهنّ (1) أضعف ناصر ... لكنّهنّ كثيرة التّعداد (2)
ثم السّلام ولا أغبّ قراره ... وأرتك صوب روائح وغواد
تسقيك ما سفحت عليك يراعة ... في خدّ قرطاس دموع مداد
ومن غراميّاته وإخوانيّاته قوله من قصيدة (3): [البسيط]
عاد الحديث إلى ما جرّ أطيبه ... والشيء يبعث ذكر الشيء عن سبب
إيه عن الكدية البيضاء إنّ لها ... هوى بقلب (4) أخيك الواله الوصب
راوح بها (5) السّهل من أكنافها وأرح ... ركابنا ليلنا (6) هذا من التّعب
وانضح نواحيها (7) من مقلتيك وسل ... عن (8) الكثيب الكريم العهد في الكتب (9)
وقل لسرحته يا سرحة كرمت ... على أبي عامر: عزّي عن السّحب
يا عذبة الماء والظلّ أنعمي طفلا ... حيّيت ممسية ميّادة القضب (10)
ماذا على ظلّك الألمى وقد قلصت ... أفياؤه لو ضفا شيئا لمغترب
__________
(1) في الأصل: «فهي» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الديوان: «الأعداد».
(3) القصيدة في ديوان الرصافي البلنسي (ص 3431).
(4) في الأصل: «يغلب» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(5) في الديوان: «بنا».
(6) في الديوان: «ليلها».
(7) في الديوان: «جوانبها».
(8) في الأصل: «من» والتصويب من الديوان.
(9) في الديوان: «الكثب» بالثاء المثلثة.
(10) في الأصل: «الغضب» والتصويب من الديوان.(2/362)
أهكذا تنقضي نفسي لديك ظما ... الله في رمق من جارك الجنب (1)
لولاك يا سرح لم يبق (2) الفلا عطلا ... من السّرى، والدّجى خفاقة الطّنب
ولم نبت نتقاضى من مدامعنا ... دينا لتربك من رقراقها السّرب
إنّا (3) إذا ما تصدّى من هوى طلل ... عجنا عليه فحيّيناه عن كثب
مستعطفين سخيّات الشؤون له ... حتى تحاك (4) عليه نمرق (5) العشب
سلي خميلتك الرّيّا بأيّة (6) ما ... كانت ترفّ بها ريحانة الأدب
عن فتية نزلوا عليا (7) سرارتها ... عفت محاسنهم إلّا من الكتب
محافظين على العليا وربّتما ... هزّوا السجايا قليلا بابنة العنب
حتى إذا ما قضوا من كأسها وطرا ... وضاحكوها إلى حدّ (8) من الطّرب
راحوا رواحا وقد زيدت عمائمهم ... حلما ودارت على أبهى من الشّهب (9)
لا يظهر السّكر (10) حالا من (11) ذوائبهم ... إلّا التفاف (12) الصّبا في ألسن العذب
المنزلين القوافي من معاقلها ... والخاضدين لديها شوكة العرب
ومن مقطوعاته قوله (13): [الطويل]
دعاك خليل والأصيل كأنه ... عليل يقضّي مدة الزمن الباقي (14)
إلى شطّ منساب كأنّك ماؤه ... صفاء ضمير أو عذوبة أخلاق (15)
ومهوى جناح للصّبا يمسح الرّبى ... خفيّ الخوافي والقوادم خفّاق
وفتيان صدق كالنجوم تألّفوا ... على النّأي من شتّى بروج وآفاق
__________
(1) الجار الجنب: الذي يجاور واحدا ونسبه في قوم آخرين، فهو في الأصل غريب.
(2) في الديوان: «لم نبق».
(3) في الديوان: «أخا».
(4) في الأصل: «يحاك» والتصويب من الديوان.
(5) في الأصل: «مموّق»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(6) في الديوان: «لأيّة».
(7) في الأصل: «على» والتصويب من الديوان. والسرارة من الشيء: وسطه وأفضله.
(8) في الأصل: «لدى جدّ» والتصويب من الديوان.
(9) في الأصل: «أسفى من السّهب» والتصويب من الديوان.
(10) في الأصل: «الشكر» والتصويب من الديوان.
(11) في الأصل: «في» والتصويب من الديوان.
(12) في الأصل: «التفات» والتصويب من الديوان.
(13) ورد منها في الديوان (ص 117) فقط البيت الثاني.
(14) في الأصل: «الباق» بدون ياء.
(15) في الأصل: «صفا ضميرا وعذوبة أخلاق» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.(2/363)
على حين راح البرق في الجو مغمدا ... ظباه ودمع المزن في جفنه راق
وجالت بعيني في الرياض التفاتة ... حبست بها كأسي قليلا عن السّاقي (1)
على سطر خيريّ ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق
وقف وقفة المحبوب منه فإنها ... شمائل مشغوف بمرآك مشتاق
وصل زهرات منه صفر كأنها ... وقد خضلت قطرا محاجر عشّاق
وقال، وكلفها في حائك، وهو بديع (2): [البسيط]
قالوا وقد أكثروا في حبّه عذلي (3) ... لو لم تهم بمذال (4) القدر مبتذل
فقلت لو أنّ أمري في الصّبابة لي ... لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك لي
في كلّ قلب عزيزات مذلّلة ... للحسن والحسن ملك حيث جلّ ولي
علّقته حببيّ (5) الثّغر عاطره ... درّيّ لون المحيّا أحور المقل (6)
إذا تأمّلته أعطاك ملتفتا ... ما شئت من لحظات الشّادن الوجل (7)
هيهات أبغي به من غيره بدلا ... أخرى الليالي وهل في الغير من بدل؟
غزيّل لم تزل في الغزل جائلة ... بنانه جولان الفكر في الغزل
جذلان تلعب بالمحواك (8) أنمله ... على السّدى لعب الأيام بالأمل (9)
ما إن يني تعب الأطراف مشتغلا ... أفديه من تعب الأطراف مشتغل
ضربا (10) بكفّيه أو فحصا بأخمصه ... تخبّط الظّبي في أشراك محتبل
وقال (11): [الكامل]
ومهفهف كالغصن إلّا أنّه ... سلب التّثنّي النوم عن أثنائه
__________
(1) في الأصل: «الساق» بدون ياء.
(2) الأبيات في ديوان الرصافي البلنسي (ص 122121). وجاء في المغرب (ج 2ص 352):
«وقوله في غلام حائك».
(3) في الأصل: «عذل» والتصويب من الديوان.
(4) في الأصل: «بمزال» بالزاي، والتصويب من الديوان. والمذال: الممتهن، المبتذل.
(5) في الأصل: «حبيبيّ». وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) في الديوان: «ألمى المقبّل أحوى ساحر المقل».
(7) في الديوان: «الغزل».
(8) في الأصل: «بالمحراك»، والتصويب من الديوان.
(9) في الديوان: «بالدول».
(10) في الديوان: «جذبا».
(11) البيتان في ديوان الرصافي البلنسي (ص 28).(2/364)
أضحى ينام وقد تخدّد (1) خدّه ... عرقا فقلت الورد رشّ بمائه
وقال (2): [الوافر]
أدرها فالغمامة قد أجالت ... سيوف البرق في لمم البطاح
وراق الروض طاووسا بهيّا ... تهبّ عليه أنفاس الرياح
تقول وقد ثنى قزح عليه ... ثياب الغيم معلمة النواح
خذوا للصّحو أهبتكم فإني ... أعرت المزن قادمتي جناح
وقال (3): [الطويل]
أدرها على أمر فما ثم من باس ... وإن جدّدت آذانها ورق الآس
وما هي إلّا ضاحكات غمائم ... لواعب من ومض البروق بمقياس
ووفد رياح زعزع النّهر مدّه ... كما وطئت درعا سنابك أفراس
وقال في وصف مغنّ محسن (4): [الكامل]
ومطارح ممّا تجسّ (5) بنانه ... صوتا (6) أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره ... طربا ورزق بنيه في منقاره
وقال يصف جدول ماء عليه سرحة، ولها حكاية معروفة (7): [الكامل]
ومهدّل الشّطّين تحسب أنه ... متسيّل من درّة لصفائه
فاءت عليه مع العشيّة (8) سرحة ... صدئت لفيئتها صفيحة مائه
فتراه أزرق في غلالة سمرة ... كالدّراع استلقى بظلّ لوائه
نثره: قال من مقامة يصف القلم (9): [المتقارب]
قصير الأنابيب (10) لكنه ... يطول مضاء (11) طوال الرّماح
__________
(1) في الديوان: «تحبّب».
(2) الأبيات لم ترد في ديوان الرصافي البلنسي.
(3) هذه الأبيات لم ترد أيضا في ديوان الرصافي البلنسي.
(4) البيتان في ديوان الرصافي البلنسي (ص 101).
(5) في الأصل: «تحسّ» بالحاء المهملة، والتصويب من الديوان.
(6) في الديوان: «لحنا».
(7) الأبيات في ديوان الرصافي البلنسي (ص 2726).
(8) في الديوان: «الهجيرة».
(9) لم ترد هذه الأبيات في ديوان الرصافي البلنسي.
(10) في الأصل: «كالأنابيب» وكذا ينكسر الوزن.
(11) في الأصل: «مضا».(2/365)
إذا عبّ للنفس في دامس ... ودبّ من الطّرس فوق الصّفاح
تجلّت به مشكلات الأمور ... ولان له الصّعب بعد الجماح
فلولا هو (1) لغدت أغصان الاكتساب ذاوية، وبيوت الأموال خاوية، وأسرعت إليها البوسى، وأصبحت كفؤاد أمّ موسى، فهو لا محالة تجرها الأربح، وميزانها الأرجح. به تدرّ ألبانها، وتثمر أفنانها، وتستمرّ أفضالها وإحسانها، وهو رأس مالها، وقطب عمّالها وأعمالها. وصاحب القلم قد حوى المملكة بأسرها، وتحكّم في طيّها ونشرها، وهو قطب مدارها، وجهينة أخبارها، وسرّ اختيارها واختبارها، ومظهر مجدها وفخارها، يعقد الرّايات لكل وال، ويمنحهم من المبرّة كلّ صافية المقيل ضافية السّربال، يطفي جمرة الحرب العوان، ويكايد العدوّ بلا صارم ولا سنان، يقدّ المفاصل، ويتخلل الأباطح والمعاقل، ويقمع الحواسد والعوذال.
وفاته: توفي بمالقة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة اثنتين (2)
وسبعين وخمسمائة. وقبره مشهور بها.
محمد بن قاسم بن أبي بكر القرشي المالقي
من أهل مالقة، وسكن غرناطة وتردد إليها.
حاله: كان لبيبا لوذعيّا، جامعا لخصال من خطّ بارع، وكتابة، ونظم، وشطرنج، إلى نادر حار، وخاطر ذكي، وجرأة. توجّه إلى العدوة، وارتسم بها طبيبا وتولّى النظر على المارستان بفاس في ربيع الثاني من عام أربعة وخمسين وسبعمائة.
شعره: أنشدني بمدينة فاس عام ستة وخمسين، في وجهتي رسولا إلى المغرب، قوله في رجل يقطع في الكاغد: [المجتث]
أبا عليّ حسينا ... أين الوفا منك أينا؟
قد بيّن الدمع وجدي ... وأنت تزداد بينا
بلّت لحاظك قلبي ... تالله ما قلت مينا
قطّ المقصّ لهذا ... سبب الصّبّ مينا
بقيت تفتر حسنا ... ودمت تزداد زينا
__________
(1) أي: فلولاه.
(2) في الأصل: «اثنين» وهو خطأ نحوي.(2/366)
وقال أيضا: [البسيط]
فضل التجارات باد في الصناعات ... لولا الذي هو فيها هاجر عات
حاز الجمال فأعياني وأعجزني ... وإن دعيت بوصّاف ونعّات
وكان شديد المغالطة، ذاهبا أقصى مذاهب القحة، يحرّك من لا يتحرك، ويغضب من لا يغضب. عتب يوما جدّته على طعام طبخته له، ولم يستطبه، وكان بين يديه القط يصدعه بصياج طلبه، فقال له: ضجرا، خمسمائة سوط، فقالت له جدّته: لم تعط هذه السياط للقط، إنما عنيتني بها، وأعطيتها باسم القط، فقال لها:
حاش لله يا مولاتي، وبهذا البخل تدريني أو الزحام عليها، بل ذلك للقط حلالا طيبا، ولك أنت ألف من طيبة قلب، فأرسلها مثلا، وما زلنا نتفكّه بذلك، وكان في هذا الباب لا يشقّ غباره.
مولده: بمالقة عام ثلاثة وسبعمائة.
وفاته: بعث إليّ الفقيه أبو عبد الله الشّديد، يعرفني أنه توفي في أواسط عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
محمد بن سليمان بن القصيرة (1)
أبو بكر، كاتب الدولة اللّمتونية، وعلم وقته.
حاله: قال ابن الصيرفي: الوزير الكاتب، الناظم، الناثر، القائم بعمود الكتابة، والحامل لواء (2) البلاغة، والسابق الذي لا يشقّ غباره، ولا تخمد أبدا أنواره. اجتمع له براعة النثر، وجزالة النظم، رقيق النّسيج، حصيف المتن، رقعته ما شئت في العين واليد. قال ابن عبد الملك (3): وكان كاتبا مجيدا، بارع الخطّ، كتب عن يوسف بن تاشفين (4).
مشيخته: روى عن أبي الحجاج الأعلم، وأبي الحسن بن (5) شريح، وروى عنه أبو الوليد هشام بن يوسف بن الملجوم، لقيه بمرّاكش (6).
__________
(1) ترجمة ابن القصيرة في الذخيرة (ق 2ص 239) والمغرب (ج 1ص 350) والمطرب (ص 76) والمعجب (ص 227) والوافي بالوفيات (ج 3ص 128) والمحمدون من الشعراء (ص 358) والذيل والتكملة (ج 6ص 227) وقلائد العقيان (ص 103) والصلة (ص 830) والبيان المغرب (ج 4ص 60) ونفح الطيب (ج 6ص 130) و (ج 9ص 257).
(2) في الأصل: «للواء».
(3) الذيل والتكملة (ج 6ص 227).
(4) في الذيل والتكملة: «كتب عن أبي يعقوب يوسف بن تاشفين اللمتوني».
(5) في الذيل والتكملة: «وأبي الحسن شريح».
(6) في الذيل والتكملة: «لقيه بمراكش سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة».(2/367)
شعره: وهو عندي في نمط دون ما وصف به. فمن ذلك قوله من قصيدة أنحى فيها على ابن ذي النّون، ومدح ابن عباد، عند خلع ابن جهور، أبي الوليد، وتصيير قرطبة إليه: [الطويل]
فسل عنه أحشاء ابن ذي النون هل سرى ... إليها سكون منذ زلزلها الذّعر؟
وهل قدّرت مذ أوحشته طلائع ال ... ظهور عليه أنّى (1) تؤنسه الخمر؟
ألم يجن يحيى من تعاطيك ظلّه ... سجا لك هيهات السّهى منك يا بدر
لجاراك واستوفيت أبعد غاية ... وآخره عن شأوك الكفّ والعثر
فأحرزت فضل السّبق عفوا وكفّه ... على رغمه مما توهّمه صفر
ويا شدّ ما أغرته قرطبة وقد ... أبشرتها خيلنا فكان لك الدّرّ
ومنها:
أتتك وقد أزرى ببهجة حسنها ... ولا أنها (2) من جور مالكها طمر
فألبستها من سابغ العدل حلّة ... زهاها بها تيه وغازلها كبر
وجاءتك متفالا فضمّخ حيّها ... وإزدانها (3) من ذكرك المعتلي عطر
وأجريت ماء الجود في عرصاتها ... فروّض حتى كاد أن يورق الصّخر
وطاب هواء (4) أفقها فكأنها ... تهبّ نسيما فيه أخلاقك الزّهر
وما أدركتهم في هواك هوادة ... وما ائتمروا إلّا لما أمر البرّ
وما قلّدوك الأمر (5) إلّا لواجب ... وما (6) جئته فيه المجرّب والغمر
وبوّأهم في ذروة المجد معقلا ... حرام على الأيام إلمامه حجر
وأوردهم من فضل سيبك موردا ... على كثرة الوارد مشرعه غمر
فلولاك لم تفصل عرى الإصر عنهم ... ولا انفكّ من ربق الأذى لهم أسر
أعدت نهار ليلهم ولطالما ... أراهم نجوم الليل في أفقه الظهر
ولا زلت تؤويهم إلى ظلّ دوحة ... من العزّ في أرحابها النّعم الخضر
__________
(1) في الأصل: «أن» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ولا لأنها» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) همزة الوصل هنا جعلناها همزة قطع لكي لا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «هوا» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «لأمر» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) كلمة «وما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى.(2/368)
كتابته: وهي من قلّة التصنّع والإخشوشان، بحيث لا يخفى غرضها، ولكل زمان رجاله. وهي مع ذلك تزينها السذاجة، وتشفع لها الغضاضة. كتب عن الأمير يوسف بن تاشفين ولاية عهده لولده:
«هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، مهدت على الرّضا قواعده، وأكّدت بيد التقوى مواعده ومعاقده، وسدّدت إلى الحسنى مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده. أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره، وأعزّ نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب، ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين موضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبي الحسن عليّ ابنه، المتقبّل هممه وشيمه، المتأثّل حلمه وتحلّمه، الناشىء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرّف بين يدي تخريجه وتدريبه، أدام الله عزّه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمّم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدى المتّقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين، واعتام في النّصاب الرفيع واختار واستنصح أولي الرأي والدين، واستشار فلم يوقع بعد طول تأمل، وتراخي مدة، وتمثل اختياره، واختبار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحنكة واستشارة الأعلية، ولا صار بدونهم الارتياد والاجتهاد إلّا إليه، ولا التقى روّاد الرأي والتشاور إلّا لديه. فولّاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي، والقبض والبسط عنده بعده، وجعله خليفته السّاد في رعاياه مسّده، وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتّقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسّنّة في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماه الحيف والخوف بالاضطجاع، ولا يتليّن دون معلن شكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لذي بلوى، وأن ينظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين القريب والبعيد بون في إحصائه وتقديره. ثم دعا، أدام الله تأييده، لمبايعته، أدام الله عزّه ونصره، من حضر ودنا من المسلمين، فلبّوا مسرعين، وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرّعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدّخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحتجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة. ثم أمر بمخاطبة سائر أهل البلاد لمبايعته، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر صفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغائب
والشهيد، وتطمئنّ من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة إقذائها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدّعة ويتمهّد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جدّ صالح وإقبال. والله يبارك لهم بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وأمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو، نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنه فوق هذا من بيعته، ولقيه حملة عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطي صفقته طائعا متبرعا بها. وبالله التوفيق. وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة».(2/369)
«هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، مهدت على الرّضا قواعده، وأكّدت بيد التقوى مواعده ومعاقده، وسدّدت إلى الحسنى مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده. أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره، وأعزّ نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب، ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين موضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبي الحسن عليّ ابنه، المتقبّل هممه وشيمه، المتأثّل حلمه وتحلّمه، الناشىء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرّف بين يدي تخريجه وتدريبه، أدام الله عزّه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمّم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدى المتّقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين، واعتام في النّصاب الرفيع واختار واستنصح أولي الرأي والدين، واستشار فلم يوقع بعد طول تأمل، وتراخي مدة، وتمثل اختياره، واختبار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحنكة واستشارة الأعلية، ولا صار بدونهم الارتياد والاجتهاد إلّا إليه، ولا التقى روّاد الرأي والتشاور إلّا لديه. فولّاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي، والقبض والبسط عنده بعده، وجعله خليفته السّاد في رعاياه مسّده، وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتّقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسّنّة في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماه الحيف والخوف بالاضطجاع، ولا يتليّن دون معلن شكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لذي بلوى، وأن ينظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين القريب والبعيد بون في إحصائه وتقديره. ثم دعا، أدام الله تأييده، لمبايعته، أدام الله عزّه ونصره، من حضر ودنا من المسلمين، فلبّوا مسرعين، وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرّعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدّخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحتجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة. ثم أمر بمخاطبة سائر أهل البلاد لمبايعته، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر صفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغائب
والشهيد، وتطمئنّ من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة إقذائها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدّعة ويتمهّد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جدّ صالح وإقبال. والله يبارك لهم بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وأمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو، نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنه فوق هذا من بيعته، ولقيه حملة عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطي صفقته طائعا متبرعا بها. وبالله التوفيق. وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة».
دخل غرناطة غير ما مرّة، وحده، وفي ركاب أميره.
وفاته: توفي في جمادى الآخرة من عام ثمانية وخمسمائة.
محمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني
من أهل سرقسطة، ودخل غرناطة، وروى عن أبي الحسن بن الباذش بها، يكنى أبا الطاهر. وله المقامات اللّزوميات المعروفة.
حاله: كان كاتبا لغويا شاعرا، معتمدا في الأدب، فردا، متقدما في ذلك في وقته، وله المقامات المعروفة، وشعره كثير مدوّن.
مشيخته: روى عن أبي علي الصّدفي، وأبي محمد بن السيد، وأبي الحسن بن الأخضر، وأبي عبد الله بن سليمان، المعروف بابن أخت غانم، وأبي محمد بن عتّاب، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي محمد عبد الله بن محمد التّجيبي الدّكلي، وأبي القاسم بن صوابه، وأبي عمران بن أبي تليد، وغيرهم. أخذ عنه القاضي أبو العباس بن مضاء، أخذ عنه الكامل للمبرّد، قال: وعليه اعتمد في تقييده. وروى عنه المقرئ المسنّ الخطيب أبو جعفر بن يحيى الكتامي، وذكره هو وابن مضاء.
وفاته: توفي بقرطبة ظهر يوم الثلاثاء، الحادي والعشرين من جمادى الأولى، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، بزمانة (1) لازمته نحوا من ثلاثة أعوام، نفعه الله.
شعره: [الوافر]
أيا قمر، أتطلع من وشاح ... على غض فاخر من كل راح؟
__________
(1) الزمانة: العاهة. لسان العرب (زمن).(2/370)
أدار السّحر من عينيه خمرا ... معتّقة فأسكر كلّ صاح
وأهدى إذ تهادى كلّ طيب ... كخوط البان في أيدي الرياح
وأحيا حين حيّا نفس صبّ ... غدت في قبضة الحبّ المتاح
وسوّغ منه عتبي بعد عتب ... وعلّلني براح فوق راح
وأجناني الأماني في أمان ... وجنح الليل مسدول الجناح
وقال أيضا: [الكامل]
ومنعّم الأعطاف معسول اللّمى ... ما شئت من بدع المحاسن فيه
لمّا ظفرت بليلة من وصله ... والصّبّ غير الوصل لا يشفيه
أنضحت وردة خدّه بنفسي ... وظللت أشرب ماءها من فيه
وقال أيضا: [الكامل]
حكت السّلاف صفاته بحبابها ... من ثغره ومذاقها من رشفه
وتورّدت فحكت شقائق خدّه ... وتأرّجت فيسيمها من عرفه
وصفت فوق أديمها فكأنها ... من حسن رونق وجنتيه ولطفه
لعبت بألباب الرجال وغادرت ... أجسامهم صرعى كفعلة طرفه
«ومن الغرباء في هذا الحرف»
محمد بن حسن العمراني الشريف (1)
من أهل فاس.
حاله: كان جهويا ساذجا، خشن البزة، غير مرهف التّجند، ينظم الشعر، ويذكر كثيرا من مسائل الفروع، ومعاناة الفرائض، يجعجع بها في مجالس الدّروس، فشقي به المدرسون، على وتيرة من صحة السّجية، وحسن العهد، وقلّة التصنّع.
وجرى ذكره في الإكليل (2): كريم الانتماء، مستظل (3) بأغصان الشجرة الشّمّاء، من رجل سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النّمير، له في الشعر طبع يشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله.
__________
(1) ترجمة الشريف العمراني في الدرر الكامنة (ج 4ص 46) ونفح الطيب (ج 8ص 374).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 374).
(3) في النفح: «متظلّل».(2/371)
فمن ذلك قوله يخاطب السلطان أمير المسلمين، وقد أمر له بكسوة:
[الطويل]
منحت منحت النّصر والعزّ والرضا ... ولا زلت بالإحسان منها (1) مقرّضا
ولا زلت للعليا جنى ومكارما (2) ... وللأمر، للملك (3) العزيز، مقيّضا
ولا زالت الأملاك باسمك تتّقى ... وجيشك وفرا يملأ الأرض والفضا
ولا زلت ميمون النّقيبة ظافرا ... مهيبا ووهّابا وسيفك منتضى
تقرّ به الدّين الحنيف وأهله ... وتقمع جبّارا وتهلك مبغضا
وصلت شريف البيت من آل هاشم ... وخوّلته أسنى مراد ومقتضى
وجدت بإعطاء اللّجين وكسوة ... ستكسى بها (4) ثوبا من النور أبيضا
وما زالت الأنصار تفعل هكذا ... فعال (5) عليّ في الزمان الذي مضى
هم نصروا الهادي وآووا وجدّلوا ... بحدّ ذباب السيف من كان معرضا
فخذ ذا أبا الحجاج من خير مادح ... لخير مليك في البريّة مرتضى
فقد كان قبل اليوم غاض قريضه ... فلمّا رأى الإحسان منك تفيّضا
ونظم الفتى يسمو على قدر ما يرى ... من الجود مهما ينقضي نيله انقضى
ومن حكم القول اللهى متح اللهى ... ومن مدح الأملاك يرجو التّعرّضا
فلا زال يهديك الشريف قصائدا ... ينال بها منك المودة والرضى
وقال يخاطب من أخلفته بوارق الأمل فيه، وخابت لديه وسائل قوافيه:
[البسيط]
الشّعر أسنى كلام خصّ بالعرب ... والجود في كل صنف خير مكتسب
وأفضل الشعر أبيات يقدّمها ... في صدر حاجته من كان ذا أدب
فما يوفّي كريم حقّ مادحه ... لو كان أولاه ما يحويه من نشب
المال يفنى إذا طال الثواء به ... والمدح يبقى مدى الأزمان والحقب
وقد مدحت لأقوام ذوي (6) حسب ... فيما ظننت وليسوا من ذوي حسب
__________
(1) في الأصل: «له»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «مكارما»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «الملك»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) كلمة «بها» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(5) في الأصل: «نال» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) في الأصل: «ذي» وكذا ينكسر الوزن.(2/372)
مدحتهم بكلام لو مدحت به ... دهري أمنت من الإملاق والنّصب
فعاد مدحي لهم هجوا يصدّقه ... من لؤمهم عودتي عنهم بلا أرب
فكان ما قلت من مدحهم كذبا ... أستغفر الله من زور ومن كذب
وقال في غرض يظهر من الأبيات، يخاطب السلطان: [الكامل]
ما لي أرى تاج الملوك وحوله ... عبدان لا حلم ولا آداب
فكأنه البازي الصّيود وحوله ... نغر (1) يقلّب ريشه وغراب
يا أيها الملك الكرام جدوده ... أسنى المحافل غيرها أتراب
أبدلهما بالبيض (2) من صفّيهما ... إن العبيد محلّها الأبواب
وفاته: توفي في حدود ثمانية وأربعين وسبعمائة أو بعد ذلك (3).
محمد بن محمد بن إبراهيم بن المرادي ابن العشاب (4)
قرطبي الأصل، تونسي الولادة والمنشأ، ابن نعمة وغذي جاه وحرمة.
حاله: كان حييّا فاضلا كريما، سخيّا. ورد على الأندلس، مفلتا من نكبة أبيه، وقد عركته عرك الرّحى لثقالها، على سنن من الوقار والدّيانة والحما، يقوم على بعض الأعمال النبيهة.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه (5): جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه. كانت لوالده (6)، رحمه الله تعالى (7)، من الدول الحفصيّة منزلة لطيفة المحلّ، ومفاوضة في العقد والحلّ، ولم يزل تسمو (8) به قدم النّجابة، من العمل إلى الحجابة. ونشأ ابنه هذا مقضيّ الديون، مفدّى بالأنفس والعيون. والدهر ذو ألوان،
__________
(1) النغر: البلبل. محيط المحيط (نغر).
(2) في الأصل: «من البيض» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا كلمة «من».
(3) قال في النفح (ج 8ص 374): «وذكر في الإحاطة أن الشريف المذكور توفي في حدود ثمانية وثلاثين وسبعمائة».
(4) ترجمة ابن العشاب في نفح الطيب (ج 8ص 224) وجاء فيه: «أبو عبد الله العشاب». وله ترجمة أخرى في نفح الطيب (ج 8ص 374) وجاء فيه: «محمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم المرادي العشاب».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 375374).
(6) في النفح: «لأبيه».
(7) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(8) في الأصل: «يسمو» والتصويب من النفح.(2/373)
ومارق حرب عوان (1)، والأيام كرات تتلقّف، وأهوال (2) لا تتوقّف، فألوى بهم الدهر وأنحى (3)، وأغام جوّهم بعقب ما أصحى (4)، فشملهم الاعتقال، وتعاورتهم (5) النّوب الثقال، واستقرّت بالمشرق ركابه، وحطّت به أقتابه، فحجّ واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله تعالى (6) فجوّد الحروف، وأحكم (7) الخلف المعروف، وقيّد وأسند، وتكرّر إلى دور الحديث وتردّد، وقدم على هذا الوطن قدوم النّسيم البليل، على كبد العليل. ولمّا استقرّ به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته، فاجتليت للسّرو (8) شخصا، وطالعت ديوان الوفاء مستقصا.
شعره: وشعره ليس بحايد عن الإحسان، ولا غفل من النكت الحسان. فمن ذلك ما خاطبني به (9): [الطويل]
بيمن أبي عبد الإله (10) محمد ... تيمّن هذا القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطائه ... بحورا تديم (11) المدّ ليس لها جزر
وأنسنا لمّا عدمنا مغانيا ... إذا ذكرت في القلب من ذكرها عبر (12)
هنيئا بعيد الفطر يا خير ماجد ... كريم به تسمو السّيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظلّ نعمة ... تطيع لك الدنيا ويعنو (13) لك الدهر
وممّا خاطب به سلطانه في حال الاعتقال: [البسيط]
لعلّ عفوك بعد السّخط يغشاني ... يوما فينعش قلب الوالد العاني (14)
__________
(1) الحرب العوان: الشديدة التي قوتل فيها مرة بعد مرة. لسان العرب (عون).
(2) في النفح: «وأحوال».
(3) ألوى بهم الدهر، وأنحى عليهم الدهر: أهلكهم. لسان العرب (لوى) و (نحا).
(4) في الأصل: «ما أضحى» والتصويب من النفح.
(5) تعاورتهم: تداولت عليهم. لسان العرب (عور).
(6) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(7) في النفح: «وقرأ المعروف».
(8) في النفح: «للسّرّ». والسّرو: الفضل. محيط المحيط (سرو).
(9) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 224).
(10) في الأصل: «عبد الله محمد يمن هدأ القطر» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «بحور الدّيم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «القلب ليس لها ذعر».
(13) يعنو: يخضع. لسان العرب (عنا).
(14) في الأصل: «العان» بدون ياء.(2/374)
مولاي، رحماك، إني قد عهدتك ذا ... حلم وعفو وإشفاق وتحنان
فاصرف حنانك ثمّ اعطف (1) عليّ وجد ... برحمة منك تحيي جسمي الفاني (2)
فقد تناهى الأسى عندي وعذّبني ... وشرّد النوم عن عيني وأعياني (3)
وحقّ آلائك الحسنى وما لك من ... طول وفضل وإنعام وإحسان
إني ولو حلّت البلوى على كبدي ... وأسكبت فوق خدّ دمعي القاني (4)
لوائق بحنان منك يطرقني ... عمّا قريب وعفو عاجل دان
دامت سعودك في الدنيا مضاعفة ... تذلّ من دان (5) طوعا كلّ سلطان
محمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي (6)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد الملك، من أهل مرّاكش، وسكن غرناطة.
حاله: من عائد الصلة (7): كان، رحمه الله، غريب المنزع، شديد الانقباض، محجوب المحاسن، تنبو العين عنه جهامة، وغرابة شكل، ووحشة ظاهر (8)، في طيّ ذلك أدب غضّ، ونفس حرّة، وحديث ممتع، وأبوّة كريمة، أحد الصابرين على الجهد، المتمسكين (9) بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة. وأبوه قاضي القضاة، نسيج وحده، الإمام العالم، التاريخي، المتبحّر في الأدب (10)، تقلّبت به أيدي الدهر (11) بعد وفاته لتبعة سلّطت على نسبه (12)، فاستقرّ بمالقة، متحارفا مقدورا عليه، لا يهتدي لمكان فضله، إلّا من عثر عليه جزافا.
شعره: (13) [السريع]
من لم يصن في أمل وجهه ... عنك فصن وجهك عن ردّه
__________
(1) في الأصل: «واعطف» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الفان» بدون ياء.
(3) في الأصل: «وأعيان» بدون ياء.
(4) في الأصل: «القان» بدون ياء.
(5) قوله: «من دان» ساقط في الأصل، وقد أضفناه ليستقيم المعنى والوزن معا.
(6) ترجمة محمد بن محمد بن عبد الملك في نفح الطيب (ج 8ص 224).
(7) النص في نفح الطيب (ج 8ص 225) بتصرف.
(8) في النفح: «ظاهرة».
(9) في النفح: «المستمسكين».
(10) في النفح: «الآداب». وهنا يشير إلى والد محمد، القاضي ابن عبد الملك المراكشي، صاحب كتاب «الذيل والتكملة».
(11) في النفح: «الليالي».
(12) في النفح: «نشبه».
(13) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 225).(2/375)
واعرف له الفضل وعرّف به (1) ... حيث أحلّ النّفس من قصده
ومما خاطبني به قوله (2): [الوافر]
وليت ولاية أحسنت فيها ... ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم وال أساء فقيل فيه ... دنيّ القدر ليس لها بمدرك
وأنشدني في ذلك أيضا رحمة الله عليه (3): [الوافر]
وليت فقيل أحسن (4) خير وال ... ففاق (5) مدى مداركها بفضله
وكم وال أساء فقيل فيه (6) ... دنا فمحا محاسنها بفعله
وممّا خاطب به السلطان يستعديه على من مطله من العمال، وعذّر عليه واجبه من الطعام والمال: [مخلع البسيط]
مولاي نصرا (7)، فكم يضام ... من ما له غيرك اعتصام
أمرت لي بالخلاص فامرر (8) ... لي عنده المال والطعام
فقال ما اعتاده جوابا ... وحسبي الله والإمام
هذا مقام ولا فعال ... بغير مولاي والسلام
وفاته: فقد في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة بأحواز إستبّة (9) في ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.
محمد بن خميس بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد ابن خميس الحجري حجر ذي رعين التّلمساني
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن خميس (10).
__________
(1) في النفح: «له».
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 224).
(3) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 224).
(4) في الأصل: «أحسّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «فعاق»، والتصويب من النفح.
(6) كلمة «فيه» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(7) في الأصل: «نصيرا» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «فمر» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) إستبّة: كورة تابعة لقرطبة، كما جاء في المغرب في حلى المغرب (ج 1ص 35). وأغلب الظن أن المراد هنا: إشتبونة، الواقعة على البحر المتوسط على مقربة من مالقة.
(10) ترجمة ابن خميس في بغية الوعاة (ص 86) وأزهار الرياض (ج 2ص 301) ونفح الطيب (ج 7ص 334).(2/376)
حاله: من عائد الصلة (1): كان، رحمه الله، نسيج وحده زهدا وانقباضا، وأدبا وهمّة، حسن الشّيبة، جميل الهيئة، سليم الصّدر، قليل التّصنّع، بعيدا عن الرّياء والهوادة (2) عاملا على السياحة والعزلة، عالما (3) بالمعارف القديمة، مضطلعا بتفاريق النّحل، قائما على صناعة (4) العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في النظم (5) المطوّل، أقدر الناس على اجتلاب الغريب، ومزج (6) الجزالة بالسّلاسة، ووضع الألفاظ البيانيّة مواضعها، شديد الانتقاء والإرجاء، خامد نار الرّوية، منافسا في الطريقة منافسة كبيرة. كتب بتلمسان عن ملوكها من بني زيّان، ثم فرّ عنهم، وقد أوجس منهم خيفة، لبعض ما يجري بأبواب الملوك. وبعد ذلك بمدة، قدم غرناطة، فاهتزّ الوزير ابن الحكيم لتلقّيه، ومتّ إليه بالوسيلة العلمية، واجتذبه بخطبة التلميذ، واستفزّه بتأنيسه وبرّه، وأقعده للإقراء بجواره. وكان يروم الرّحلة، وينوي السفر، والقضاء يثبّطه. حدّثني شيخنا الرئيس أبو الحسن بن الجياب، قال: بلغ الوزير أبا عبد الله (7) الحكيم أنه يروم السفر، فشقّ ذلك عليه، وكلّفنا (8) تحريك الحديث بحضرته. وجرى ذلك، فقال الشيخ: أنا كالدّم بطبعي، أتحرّك في كل ربيع.
شعره: وشعره بديع، فمن ذلك قوله يمدح أبا سعيد بن عامر، ويذكر الوحشة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطّاب (9): [الوافر]
مشوق زار ربعك يا إماما ... محا آثار دمنتها التثاما (10)
تتبّع ريقة الطّلّ ارتشافا ... فما (11) نفعت ولا نقعت أواما
وقبّل خدّ وردتها جهارا ... وما راعى لضرّتها ذماما
وما لحريم بيتك أن يدانى ... ولا لعليّ (12) قدرك أن يساما
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 7ص 334) وأزهار الرياض (ج 2ص 302301).
(2) هذه الكلمة غير واردة في النفح. وفي أزهار الرياض: «والهوى».
(3) في النفح وأزهار الرياض: «عارفا».
(4) كلمة «صناعة» ساقطة من المصدرين السابقين.
(5) كلمة «النظم» غير واردة في المصدرين السابقين.
(6) من هنا حتى قوله: «أبو الحسن بن الجياب» غير وارد في المصدرين السابقين.
(7) في المصدرين السابقين: «أبا عبد الله بن الحكيم».
(8) في المصدرين السابقين: «وكلّفه».
(9) ورد فقط البيتان الأول والثاني في أزهار الرياض (ج 2ص 305).
(10) في أزهار الرياض: «الشآما».
(11) في المصدر السابق: «فلا».
(12) في الأصل: «لعلا» وهكذا ينكسر الوزن.(2/377)
ولكن عاش في رسم لمغنى (1) ... تجشّمه سلاما واستلاما
تنفّس روضة المطلول وهنا ... فحنّ وشمّ (2) ريّاه فهاما
تلقى طيب ب ته (3) حديثا ... روت مسندا عنه النّعاما
فيا نفس الصّبا إن جئت ساحا ... ولم تعرف لساكنها مقاما
وأخطأت الطريق إلى حماها ... فردّتك العرادة والخزاما
فلا تبصر بسرحتها قضيبا ... ولا تذعر بمسرحها سواما
وعانق قربانتها ارتباطا ... وصافح كفّ سوسنها التزاما
ونافح عرف زهرتها كبا ... تعاطك ماء ريقتها مداما
ويا برقا أضاء على أوال ... يمانيّا متى جئت الشّآما
أثغر إمامة أنت ابتساما ... أم الدّرّ الأوامى انتظاما؟
خفقت ببطن واديها لوا ... ولحت على ثنيّتها حساما
أمشبه قلبي المضني احتداما ... على م ذدت عن عيني المناما؟
ولم أسهرتني وطردت عني ... خيالا كان يأتيني لماما؟
وأبلغ منه تأريقا لجفني ... كلام أثخن الأحشا كلاما
تعرّض لي فأيقظت القوافي ... ولو ترك القطا يوما لناما
وقيل وما أرى يومي كأمسي ... جدعت رواطبا وقلبت هاما
وجرّعت العدوّ سمّا زعافا ... فكان لحسد موتا زواما
دعوت زعيمهم ذاك ابتياسا ... ورعت خميسهم ذاك اللّماما
نزعت شواه كبشهم نطاحا ... ولم أترك لقرمهم سناما
أضام وفي يدي قلبي لماذا ... أضام أبا سعيد أو علاما؟
به وبما أذلق من لساني ... أفل الصارم العضب انهزاما
وغرام الوزير أبي سعيد ... أصرفه إذا شئت انتقاما
به وبنجله البرّ انتصاري ... لما أكلوه من لحمي حراما
أعثمن بن عامر لا تكلني ... لدهر علّم الشحّ الغماما
وردت فلم أرد إلّا سرابا ... وشمت فلم أشم إلّا جهاما
__________
(1) في الأصل: «مغنى» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وشم» وهكذا ينكسر الوزن، ولا يستقيم المعنى.
(3) بياض في الأصل.(2/378)
قطعت الأرض طولا ثم عرضا ... أزور بني ممالكها الكراما
وجاجاني على كرم نداهم ... وأعجلت الخوافي والقداما
وذلّلت المطامع من إبائي ... وقبّلت البراجم والسّلاما
ومن أدبي نصبت لهم حبالا ... أصيد بها النّعام ولا النّعامى
فلم أر مثل ربعي دار أنس ... ولم أر مثل عثمن إماما
ولا كأبيه أو كنى أبيه ... أبيّ يحيي غيوثا أو رهاما
كفاني بابن عامر خفض عيش ... ورفع مكاتبي إلّا أضاما
وإني من ولائك في يفاع ... أقابل منهم بدرهم التّماما
ومن شعره، رحمه الله، قوله (1): [الطويل]
تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسألها (2) العتبى وها هي فارك (3)
تؤمّل بعد التّرك رجع ودادها ... وشرّ وداد ما تودّ التّرائك
حلا لك منها ما خلا (4) لك في الصّبا ... فأنت على حلوائه متهالك
تظاهر بالسّلوان عنها تجمّلا ... فقلبك محزون وثغرك ضاحك
تنزّهت عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك
ليالي تغري بي وإن هي أعرضت ... زنانب من ضوّاتها وعواتك
غصون قدود في حقاف روادف ... تمايل من ثقل بين الأرائك
تطاعنني منهن في كل ملعب ... ثديّ كأسنان الرماح فواتك
وكم كلّة فيها هتكت ودونها ... صدور العوالي والسّيوف البواتك
ولا خدن إلّا ما أعدت ردينه ... لطالبها أو ما تحيّر هالك
تضلّ فواد المرء عن قصد رشده ... فواتر ألحاظ للظّبا الفواتك
وفي كل سنّ لابن آدم وإن تطل ... سنوه طباع جمّة وعوائك
وإلّا فما لي بعد ما شاب مفرقي ... وأعجز رأيي عجزهنّ (5) الرّكارك
__________
(1) بعض أبيات هذه القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 338337) وأزهار الرياض (ج 2 ص 306305).
(2) في الأصل: «وتسلها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح وأزهار الرياض.
(3) الفارك: المرأة التي تكره زوجها. العتبى: الاسترخاء. لسان العرب (فرك) و (عتب).
(4) في النفح وأزهار الرياض: «ما حلا».
(5) في الأصل: «عجز من» وهكذا ينكسر الوزن، ويصبح في القافية عيب الإقواء.(2/379)
أجوب إليها كلّ بيداء مملق ... ترافقني فيها الرجال الحواتك (1)
وأسترشد الشّهب الشوابك جار ... إذا اشتبهت فيها عليّ المسالك
نهازز أمثال الجياد تؤودة ... اغوارب أمثال الهضاب توامك
ظماء وما غير السّماوة مورد ... وينحى وما دون الصآة مبارك
ذواهل عن عضّ الرجال ظهورها ... إذا ما اشتكت عضّ السروج الموارك
إذا ما نبا عن سنبك الأرض سنبك ... هلعن فلانت تحتهنّ السّنابك
تقدّ بنا في كل قاع وفدفد ... بوائكها والمنغيات الدّراهك
فأمامها ريّ كالسحاب موالع ... وأمامها ركّا كالرّياح بواشك
قلاص بأطواف الجديل بوالع ... وجرد لأوساط الشّكيم عوالك
ترامى بها نياقها كلّ مرتمى ... فهنّ نواح للرّدى أو هوالك
وكم منزل خلّيته لطلابها ... تعفّيه تعدي السّافيات السّواهك
يمرّ به زوّاره وعفاته ... وما إن به إلّا لصوق حبائك
وآثارتنا تقادم عهدهم ... وهنّ عليه جاثيات بوارك
لوارب أفراس ونؤى حذاة ... ثلاث أثاف كالحمام سوادك
تمرّ عليه نسمة الفجر مثلما ... تمرّ على طيب العروس المداوك
وأركب كالشّهد ينفح برده ... لمجهول حسيّ ما له للدّهر مبانك
ويطلبها منّي غريم مماحك ... ويمطلني منها عديم مماعك (2)
أحاول منها ما تعذّر في الصّبا ... ومن دونه وقع الحمام المواشك
يسلّي الفتى منها وإن راق حسنها ... حسائف لا تحصى هنا ومبارك
فمنها ملال دائم لا تملّه ... تزوّر إفك عن رضى الحق آفك
تهاون بالإفك الرجال جهالة ... وما أهلك الأحياء إلّا الأفايك
تزن طول تسهادي وقدري تململي ... طوال الليالي والنجوم النّوابك
تغير على الدهر منه جحافل ... كأن مدوّم الرّجم فيها نيازك
فليت الذي سوّدت فيها معوّض ... بما بيّضت مني دجاها الحوالك
ألا لا تذكّرني تلمسان والهوى ... وما دهكت منّا الخطوب الدّواهك
فإنّ ادّكار ما مضى من زمانها ... لجسمي وللصّبر الجميل لناهك
__________
(1) الحواتك: من حتك، أي أسرع في السير. لسان العرب (حتك).
(2) المماعك: «المماطل». لسان العرب (معك).(2/380)
ولا تصفن أمواهها لي فإنها ... لنيران أشواقي إليها محارك
ومن حال عن عهد أو اخفر ذمّة ... فإني على تلك العهود لرامك
سقى منزلي فيها وإن محّ رسمه ... عهاد الغوادي والدّموع السّوافك
وجادت ثرى قبر بمسجد صالح ... رواعدها والمدخمات الحواشك
ولا أقلعت عن دار يونس مزنة ... يروّي صداه قطرها المتدارك
إلى أن يروق النّاظرين رواؤها ... ويرضي الرّعاوى نبتها المتلاحك
ويصبح من حول الحيا في عراصها ... زراق تحاكي بسطها ودرانك (1)
ولا برحت منه ملائكة الرّضى ... تصلّي على ذاك الصّدى وتبارك
وطوبى لمن روى منازله الحيا ... وبشرى لمن صلّت عليه الملائك
ألا ليت شعري هل تقضّى لبانتي ... إذا ما انقضت عشر عليها دكادك
وهل مكّن الطّيف المغبّ زيارة ... فيرقب أو تلقى إليه الرّوامك
وهل تغفل الأيام عنها بقدر ما ... تؤدي إليها بالعتاب الحالك
ويا ليت شعري أي أرض تقلّني ... إذا كلّ عن رحلي الجلال اللكالك
وأي غرار من صفاها يحثني ... إذا فقدتني مسّها والدّكادك
إذا جهل الناس الزمان فإنني ... بدونهم دون الأنام لحاتك
تثبّت إذا ما قمت تعمل خطوة ... فإن بقاع الأرض طرّا شوائك
ولا تبذلن (2) وجها لصاحب نعمة ... فما مثل بذل الوجه للسّتر هاتك
تجشّم إن (3) استطعت واحذر أذاهم ... ولا تلقهم إلّا وهرّك شانك
فكلّ على ما أنعم الله حاسد ... وكلّ إذا لم يعصم الله حاسك
ولا تأس (4) ريبة الزمان فإنه ... بمن فات منّا لا محالة فاتك
تمنّى مصاب بربر وأعاره ... وترضى ذكامي فارس والهنادك
وبدّرت ليل الجون حوض لجاجها (5) ... وتعرف إقدامي عليها المهالك
فما أذعنت إلّا إليّ عشار ... ولا أصفقت إلّا عليّ الشكاشك
ولا قصدت إلا فنائي وقودها ... ولن أملت إلّا قتامي الضرارك
به شرفت أذواؤها وملوكها ... كما شرفت بالنّويهار البرامك
__________
(1) الدرانك: ضرب من البسط.
(2) في الأصل: «تبذل» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «ما» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «تأنس» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «وبدّرت الليالي الجون حوضي لجاجها» وهكذا ينكسر الوزن.(2/381)
فلا تدعون غيري لدفع ملمّة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك (1)
فما إن لذاك الصوت غيري سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك (2)
يغصّ ويشجى نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك (3)
تفارقني روحي (4) التي لست غيرها ... وطيب ثنائي (5) لاصق بي صائك (6)
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت منا (7) اللّحا والأفانك (8)
يعود لنا شرخ الشّباب الذي مضى ... إذا عاد للدّنيا عقيل ومالك
ومن شعره أيضا قوله: [الكامل]
سحّت بساحك يا محلّ الأدمع ... وتصرّمت سقّا عليك الأضلع
ولطالما جادت ثرى الآمال من ... جاوي مؤمّلك الغيوث الهمّع
لله أيام بها قضّيتها ... قد كنت أعلم أنها لا ترجع
فلقد رشفت بها رضاب مدامة ... بنسيم أنفاس البديع تشعشع
في روضة يرضيك منها أنها ... مرعى لأفكار النّدام ومشرع
تجري بها فقر سكنت رهانها ... أجدى بميدان الكلام وأسرع
فقر كريعان الشباب وعهدنا ... بجنابها وهو الجناب الأمنع
نفّاثة الأنواء في عقد الثّرى ... والنّفث في عقد الثّرى لا يمنع
حتى إذا حاك الربيع برودها ... وكسا رباها وشيه المتنوّع
بدأت كمائم زهرها تبدي بها ... بدعا تفرّق تارة وتجمّع
قد صمّ منها ما تجمّع مغلق ... إذ بتّ منها ما تفرّق مصقع
وكلاهما مهما أردت مسالم ... ومحارب ومؤمّن ومروّع
كلّ له شرع البيان محلّل ... ومنكر (9) في مثل هذا مدفع
حيث ازدهت أنوار كلّ حديقة ... أدبا ينظّم تارة ويسجّع
__________
(1) الداهك: الطاحن الكاسر. لسان العرب (دهك).
(2) السامك: الرافع للقواعد المحلي للبناء. لسان العرب (سمك).
(3) نهشل ومجاشع وحمير والسكاسك: قبائل عربية.
(4) في النفح وأزهار الرياض: «الروح».
(5) في الأصل: «ثناى» وهكذا ينكسر الوزن والتصويب من النفح وأزهار الرياض.
(6) الصائك: اللاحق. محيط المحيط (حوك).
(7) في النفح وأزهار الرياض: «مني».
(8) الأفانك: جمع إفنيك وهو مجمع اللحيين. لسان العرب (فنك).
(9) في الأصل: «المنكر» وكذا ينكسر الوزن.(2/382)
فمرجّل من رقمها ومهلّل ... ومسمّط من نظمها ومصرّع
أبدى البديع بها بدائع صنعه ... فمجنّس ومبدّل ومرصّع
وموشّح ومرشّح ومصدّر ... ومكرّر ومفرّع ومتبّع
كلّ يروق بها بحسن روائه ... وإذا تزين به كلامك تبرع
ولقد غدوت بها وفي وكناتها ... طير لها فوق الغصون ترجّع
بمطهّم الفكر الذي ما إن له ... إلّا بمستنّ الأدلّة مرتع
قيد المطالب لا نزال (1) نحبّه ... بين الجياد لعتقه أو يوضع
أرمى به الأمد البعيد وإنه ... حمل يضلّ به الدليل الأصمع
من بعد ما عفت السّواري سبله ... ومحت معالمه الرّياح الأربع
لكنني جدّدت داثر رسمه ... فطريقه من بعد ذلك مهيع
أوضحت فهم حدوده وضروبه ... والكلّ في كلّ المسالك ينفع
حتى وردت من السماع مواردا ... فيها لظمآن المباحث مكرع
مع كل مصقول الذكاء فحدسه ... لذكاء أسرار الطبائع مطلع
يرتاد من نجع العناصر نجعة ... فيها مصيف للعقول ومربع
لا شيء أبدع من تجاورها وما ... يبدى (2) بها ذاك التجاور أبدع
فإذا تشعشع مزجها أورى بها ... نار الحباحب مرجها المتشعشع
فمكين سرّ حياته بحبابها ... من بعد قدح زنادها مستودع
وهنا تفاض عليه صورته التي ... لبهائها شمّ الطبائع تخضع
من واهب الصّور التي قد خصّها ... ببديع حكمته الحكيم المبدع
ربّ له في كل شيء حكمة ... يقضي بها البدعيّ والمتشرّع
وحللت من أرض الرياضة أربعا ... نفسي الفداء لها وهذي الأربع
قامت زواياها فما أوتادها ... إلّا تقوّم ما تقيم الأضلع
وتناسب أقدارها نسبا لها ... لو كنت تبصرها فروع فرّع
فأجلّ ما قد سمته بحلولها ... من بارق لجناب رشدي يلمع
لا شك أنّ وراءه مطرا له ... في كل ضرب من قياسي موقع
بحر رويّ مترع ملّاحه ... من فيضه هذا الرّويّ المترع
__________
(1) في الأصل: «لا يزال».
(2) في الأصل: «يبتدى» وكذا ينكسر الوزن.(2/383)
لم لا أضيع بها عهاد مدامعي ... إني إذا لعهودها (1) لمضيّع
خلّيّ، لو لم تسعداني في البكا ... لقطعت من حبليكما ما يقطع
أرأيتما نفسا تفارق جسمها ... وبه تنعّمها ولا تتوجّع؟
عظمت رزيّتها وأيّ رزيّة ... ظلّت لها أكبادنا تتصدّع
هذي حمامك، يا عليّ، سواجع ... وأخالها أسفا عليها تسجع
إن طارحتني ورقها فبأضلعي ... شوق يطارحه ادّكار موجع
آه على جسمي الذي فارقته ... لا كنت ممّن جسمه لا يرجع
ومن العجاب رجوع ما أودى به ... دهر بتشتيت (2) الأحبّة مولع
الجور منه إذا استمرّ طبيعة ... والعدل منه إذا استقام تطبّع
هذي عقوبة زلّة سلفت بها ... من أكل طعمته التي لا تشبع
قد كنت أمنع رسخ نفسي قبلها ... واليوم أوجب أنّه لا يمنح
لم لا وقد أصبحت بعد محلّة ... فيها السحائب بالرغائب تهمع؟
دار يدرّ الرزق من أخلاقها ... ولكم دعا داع بها من يوضع
وكأنّ مجلسها البهيّ بصدرها ... ملك بأعلى دسته متربّع
وكأنّ مجمر عنبر بفنائها ... يذكي وما (3) قد سيف منه يسطع
وكأنها المتوكلية بهجة ... وعليّ بن الجهم فيها يبدع
في حجر ضبّ خافض بجواره ... من كان قبل له العوامل ترفع
يا نفثة المصدور كم لك قبلها ... من زفرة بين الجوانح تسفع
وعساك تنقع غلّة بك إنها ... بجحيم ما أسبلته لا تنقع
لله أنت مذاعة أودعتها ... من كل سرّ بالضمائر يودع
بدويّة في لفظها ونظامها ... حضرية فيما به يترجّع
لم لا تشفع في الذي أشكو بها ... ومثالها في مثله يتشفّع؟
كملت وما افترعت فأيّ خريدة ... لو كان يفرعها همام أروع
بارت عليّ فأصبحت لحيائها ... مني بضافي مرطها تتلفّع
__________
(1) في الأصل: «لعهوها» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن.
(2) في الأصل: «بتشتّت»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «ما» وكذا ينكسر الوزن.(2/384)
ومن شعره قوله يمدح ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم، وهي من مشاهير أمداحه (1): [الطويل]
سل الرّيح إن لم تسعد السّفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها (2) وإيماء
تمرّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء (3)
وإني لأصبو للصّبا كلّما سرت ... وللنّجم مهما كان للنّجم إصباء (4)
وأهدي إليها كلّ حين (5) تحيّة ... وفي ردّ إهداء التحية إهداء
وأستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلّاء (6)
لعلّ خيالا من لدنها يمرّ بي ... ففي مرّه بي من جوى الشوق إبراء
وكيف خلوص الطّيف منها وحولها (7) ... عيون لها في كلّ طالعة راء
وإني لمشتاق إليها ومنبئ ... ببعض اشتياقي لو تمكّن إنباء
وكم قائل تفنى غراما بحبّها ... وقد أخلقت منها ملاء وأملاء (8)
لعشرة أعوام عليها تجرّمت ... إذا مضى قيظ بها جاء إهراء (9)
يطنّب فيها عائثون وخرّب (10) ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء (11)
كأنّ رماح الذاهبين (12) لملكها ... قداح، وأموال المنازل أبداء (13)
فلا تبغين فيها مناخا لراكب ... فقد قلّصت منها ظلال وأفياء
ومن عجبي (14) أن طال سقمي ونزعها ... وقسّم إضناء علينا وإطناء (15)
وكم أرجفوا غيظا بها ثم أرجأوا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء
__________
(1) القصيدة في أزهار الرياض (ج 2ص 340336) ونفح الطيب (ج 7ص 353351).
(2) في أزهار الرياض: «إليك».
(3) الإكلاء: ترديد البصر. محيط المحيط (كلأ).
(4) في أزهار الرياض: «إسراء».
(5) في المصدرين: «كل يوم».
(6) القتاد والسّلّاء: شوك. لسان العرب (قتد) و (سلأ).
(7) في المصدرين: «ودونها».
(8) أخلقت: بليت. الملاء: جمع ملاءة. الأملاء: جمع ملا وهو الأرض الواسعة. لسان العرب (خلق) و (ملأ).
(9) الإهراء: شدة البرد التي تهرأ الأجسام. لسان العرب (هرأ).
(10) في الأصل: «عابثون وحزّب»، والتصويب من المصدرين.
(11) في أزهار الرياض: «وتنّاء».
(12) في المصدرين: «الناهبين».
(13) الأبداء: جمع بدء وهو النصيب من الجزور. محيط المحيط (بدأ).
(14) في المصدرين: «ومن عجب».
(15) الإطناء: الداء. لسان العرب (طنأ).(2/385)
يردّدها عيّابها (1) الدّهر مثلما ... يردّد حرف الفاء في النطق فأفاء
فيا منزلا نال الردى منه ما اشتهى ... ترى وهل لعمر الأنس بعدك إنساء (2)؟
وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بوسك إطفاء؟
وهل لي زمان أرتجي فيه عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضّاء؟
فواسيئي حالي (3) إن هلكت ولم أقل ... لصحبي بها الغرّ الكرام ألا هاؤا
ولم أطرق الدّير (4) الذي كنت طارقا ... كعادى (5) وبدر الأفق أسلع مشناء (6)
أطيف به حتى تهرّ كلابه ... وقد نام عسّاس وهوّم سبّاء
ولا صاحب إلّا حسام (7) ولهذم ... وطرف لخدّ الليل مذ كان وطّاء
وأسحم قاريّ كشعري حلكة ... تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء
فما لشرابي في سواك مرارة (8) ... ولا لطعامي دون بابك (9) إمراء
ويا داري الأولى بدرب حلاوة (10) ... وقد جدّ عيث في بلاها وإرداء
أما آن أن يحمى حماك كعهده ... وتجتاز أحماش (11) عليك وأحماء؟
أما آن أن يعشو لنارك طارق ... جنيب له رفع إليك ودأداء؟ (12)
يرجّي نوالا أو يؤمّل دعوة ... فما زال قار في ذراك وقرّاء
أحنّ لها ما أطّت النّيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء أظماء (13)
فما فاتها مني نزاع على النّوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء (14)
__________
(1) في الأصل: «عيا بها» والتصويب من المصدرين.
(2) الإنساء: التأخير. لسان العرب (نسأ).
(3) في أزهار الرياض: «فيا هيّ ما لي». ومن هنا حتى البيت (يرجى نوالا) غير وارد في نفح الطيب.
(4) في أزهار الرياض: «الدرب».
(5) في المصدر نفسه: «لعاد».
(6) في الأصل: «أسلغ مسناء». والتصويب من أزهار الرياض. والأسلع: الذي به البرص.
والمشناء: الذي يبغضه الناس.
(7) في الأصل: «الأحسام» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له، والتصويب من الأزهار.
(8) في أزهار الرياض: «مزازة».
(9) في أزهار الرياض: «مائك».
(10) في أزهار الرياض: «مخيلة».
(11) في أزهار الرياض: «ويجتال أحماس».
(12) الرفع: المبالغة في السير. والدأداء: أشدّ العدو.
(13) أطّت: صوّتت. النّيب: الإبل، واحدها ناب. الأظماء: جمع ظمء وهو المدة التي تنقطع فيها عن ورود الماء. لسان العرب (أطط) و (ناب) و (ظمأ).
(14) الإجشاء: مصدر أجشأ يقال: جشأت نفسه من حزن أو فزع: ثارت وجاشت. والإجشاء أيضا: تحرك النفس بالشوق. لسان العرب (جشأ).(2/386)
كذلك جدّي في صحابي وأسرتي ... ومن لي به من (1) أهل ودّي إن فاؤوا (2)
ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء (3)
حماني فلم تنتب محلّي نوائب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفاء (4) بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيدا لي وهم لي أكفاء
يؤمّون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفته عافوا وما شئته شاءوا (5)
دعاني إلى المجد لذي كنت آملا ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبوّأني من هضبة العزّ تلعة ... يناجي السّها منه (6) صعود وطأطاء (7)
يشيّعني منها (8) إذا سرت حافظ ... ويكلأني منها إذا نمت كلّاء (9)
ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذّئب إلمام وللصّلّ إلماء
بغيضة ليث أن بمرقب خالب ... تندّ (10) كسا فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نائب الملك كافل ... ففي حيثما هوّمت كنّ وإدفاء
وإخوان صدق من صنايع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء
سراع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كلّ ما يخشى من الشّرّ أبراء (11)
إليك أبا عبد الإله صنعتها ... لزوميّة فيها لوجدي إفشاء
مبرّاة مما يعيب لزومها ... إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء (12)
أذعت بها السّرّ الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإن لم يكن كلّ الذي كنت آملا ... وأعوز إكلاء فما عاز إكماء (13)
ومن يتكلّف مفحما شكر منّة ... فما لي إلى ذاك التكلّف إلجاء
إذا منشد لم يكن عنك ومنشئ ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء
__________
(1) في النفح: «في».
(2) في أزهار الرياض: «ودّي إرفاء».
(3) الإقماء: الإذلال. لسان العرب (قمأ).
(4) في المصدرين: «وأكفأ» يقال: أكفأ البيت إذا ستره. لسان العرب (أكفأ).
(5) في الأصل: «شاء». والتصويب من المصدرين.
(6) في المصدرين: «منها».
(7) الطأطأ: المنخفض من الأرض. لسان العرب (طأطأ).
(8) في الأصل: «يشاعني فيها» والتصويب من المصدرين.
(9) الكلّاء: الحافظ. لسان العرب (كلأ).
(10) في المصدرين: «تبزّ».
(11) الأبراء: جمع بريء وهو الذي لا ذنب له. لسان العرب (برأ).
(12) الإكفاء والإيطاء: عيبان من عيوب القافية. راجع: كتاب القوافي للأخفش (ص 43، 55).
(13) الإكماء: كثرة الكمأة. لسان العرب (كمأ).(2/387)
ومن شعره قوله: [المتقارب]
أطار فؤادي برق ألاحا ... وقد ضمّ بعد لوكر جناحا
كأنّ تألّقه في الدّجى ... حسام جبان يهاب الكفاحا
أضاء وللعين إغفاءة ... تلذّ إذا ما سنا الفجر لاحا
كمعنى خفيّ بدا بعضه ... وزيد بيانا فزاد اتّضاحا
كأن النجوم وقد غربت ... نواهل ماء صدرن قماحا
لواغب باتت تجدّ السّرى ... فأدركها الصبح روحي طلاحا
وقد لبس الليل أسماله ... فمحّت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض الرّبا زهره ... فحيّا نسيم صباه الصّباحا
كأنّ النهار وقد غالها ... مبيت مال حواه اجتياحا
أتى يستفيض دموعي امتياحا ... ويلهب نار ضلوعي اقتداحا
فلم يلق دجن انتحابي شحيحا ... ولم يلف زند اشتياقي شحاحا
ولولا توقّد نار الحشا ... لأنفدت ماء جفوني امتياحا
وممّا يشرّد عني الكرى ... هديل حمام إذا نمت صاحا
ينوح عليّ وأبكي له ... فأقطع ليلي بكا أو نياحا
أعين، أريحي أطلت الأسى ... عليك وما زدت إلّا انتزاحا
دعيني أرد ماء دمعي فلم ... أرد بعد مائك ماء قراحا
أحنّ إليك إذا سفت ريحا ... وأبكي عليك إذا ذقت راحا
وأفنى التياحا إليك وكم ... أشحت بوجهي عنك اتّشاحا
ولولا سخائم قوم أبوا ... إيابي ركبت إليك الرّياحا
أباحوا حماي وكم مرة ... حميت حمى عرضهم أن يباحا
ودافعت عنهم بشعري انتصارا ... فكان الجزاء جلائي المتاحا
أباعوا ودادي بخسا فسل ... أكان سماحهم بي رباحا؟
وأغروا بنفسي طلابها ... سرارا فجاءوا لقتلي صراحا
وآلوا يمينا على أنّ ما ... توهّمت لم يك إلّا مزاحا
فشاورت نفسي في ذا فما ... رأت لي بغير الفلاة فلاحا
فبتّ أناغي نجوم الدّجى ... نجاء فلم ألق إلّا نجاحا
أجوب الدياجير وحدي ولا ... مؤانس إلّا القطا والسّراحا (1)
وإلّا الثعالب تحتس في ... مبيتي فتملأ سمعي ضباحا (2)
أجوز الأفاحيص فيحا قفارا ... وأعرو الأداحيّ غبرا فساحا (3)
فأعيي شوارد هذي عداء ... وأعلو لواغي تلك صياحا
وجوّاب بدو إذا استنبحوا ... أجابوا عواء وأمّوا النّباحا
يرون قتالي في الحجر حلّا ... وإذهاب نفسي فيه مباحا
قصدت هناهم فلم أخطهم ... أعاجم شوس العيون قباحا
فسل كيف كان خلاصي من ... أسارهم أسرى أم سراحا؟
ولا مثل بيت تيمّمته ... فلم ألف إلّا الغنا والسّماحا
عيابا ملاء ونيبا سمانا ... وغيدا خدالا وعودا أقاحا (4)
وإلّا أعاريب شمّ الأنوف ... كرام الجدود فصاحا صباحا
وإلّا يعافير سود العيون ... يرين فساد المحبّ صلاحا
يردّدن فينا لحاظا مراضا ... يمرّضن منّا القلوب الصّحاحا
وتحت الوجاح طلا ربرب (5) ... لو أنّ (6) القيان رفعن الوجاحا
أراني محاسن منه فلم ... أطق عن حماه بقلبي براحا
محيّا وسيما وفرعا أثيثا ... وقدّا قويما وردفا رداحا
وأبدى لعيني بدائع لم ... يدع لي عقلا بها حين راحا
إذا لم يرد غير سفك دمي ... فحلّ وبلّ (7) له ما استباحا
وما زلت سمحا بنفسي كذا ... متى ما رأيت الوجوه الملاحا
وبابن رشيد تعوّذت من ... هواه فقد زدت فيه افتضاحا
وقد ضاق صدري عن كتمه ... وأودعته جفن عيني فباحا(2/388)
أطار فؤادي برق ألاحا ... وقد ضمّ بعد لوكر جناحا
كأنّ تألّقه في الدّجى ... حسام جبان يهاب الكفاحا
أضاء وللعين إغفاءة ... تلذّ إذا ما سنا الفجر لاحا
كمعنى خفيّ بدا بعضه ... وزيد بيانا فزاد اتّضاحا
كأن النجوم وقد غربت ... نواهل ماء صدرن قماحا
لواغب باتت تجدّ السّرى ... فأدركها الصبح روحي طلاحا
وقد لبس الليل أسماله ... فمحّت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض الرّبا زهره ... فحيّا نسيم صباه الصّباحا
كأنّ النهار وقد غالها ... مبيت مال حواه اجتياحا
أتى يستفيض دموعي امتياحا ... ويلهب نار ضلوعي اقتداحا
فلم يلق دجن انتحابي شحيحا ... ولم يلف زند اشتياقي شحاحا
ولولا توقّد نار الحشا ... لأنفدت ماء جفوني امتياحا
وممّا يشرّد عني الكرى ... هديل حمام إذا نمت صاحا
ينوح عليّ وأبكي له ... فأقطع ليلي بكا أو نياحا
أعين، أريحي أطلت الأسى ... عليك وما زدت إلّا انتزاحا
دعيني أرد ماء دمعي فلم ... أرد بعد مائك ماء قراحا
أحنّ إليك إذا سفت ريحا ... وأبكي عليك إذا ذقت راحا
وأفنى التياحا إليك وكم ... أشحت بوجهي عنك اتّشاحا
ولولا سخائم قوم أبوا ... إيابي ركبت إليك الرّياحا
أباحوا حماي وكم مرة ... حميت حمى عرضهم أن يباحا
ودافعت عنهم بشعري انتصارا ... فكان الجزاء جلائي المتاحا
أباعوا ودادي بخسا فسل ... أكان سماحهم بي رباحا؟
وأغروا بنفسي طلابها ... سرارا فجاءوا لقتلي صراحا
وآلوا يمينا على أنّ ما ... توهّمت لم يك إلّا مزاحا
فشاورت نفسي في ذا فما ... رأت لي بغير الفلاة فلاحا
فبتّ أناغي نجوم الدّجى ... نجاء فلم ألق إلّا نجاحا
أجوب الدياجير وحدي ولا ... مؤانس إلّا القطا والسّراحا (1)
وإلّا الثعالب تحتس في ... مبيتي فتملأ سمعي ضباحا (2)
أجوز الأفاحيص فيحا قفارا ... وأعرو الأداحيّ غبرا فساحا (3)
فأعيي شوارد هذي عداء ... وأعلو لواغي تلك صياحا
وجوّاب بدو إذا استنبحوا ... أجابوا عواء وأمّوا النّباحا
يرون قتالي في الحجر حلّا ... وإذهاب نفسي فيه مباحا
قصدت هناهم فلم أخطهم ... أعاجم شوس العيون قباحا
فسل كيف كان خلاصي من ... أسارهم أسرى أم سراحا؟
ولا مثل بيت تيمّمته ... فلم ألف إلّا الغنا والسّماحا
عيابا ملاء ونيبا سمانا ... وغيدا خدالا وعودا أقاحا (4)
وإلّا أعاريب شمّ الأنوف ... كرام الجدود فصاحا صباحا
وإلّا يعافير سود العيون ... يرين فساد المحبّ صلاحا
يردّدن فينا لحاظا مراضا ... يمرّضن منّا القلوب الصّحاحا
وتحت الوجاح طلا ربرب (5) ... لو أنّ (6) القيان رفعن الوجاحا
أراني محاسن منه فلم ... أطق عن حماه بقلبي براحا
محيّا وسيما وفرعا أثيثا ... وقدّا قويما وردفا رداحا
وأبدى لعيني بدائع لم ... يدع لي عقلا بها حين راحا
إذا لم يرد غير سفك دمي ... فحلّ وبلّ (7) له ما استباحا
وما زلت سمحا بنفسي كذا ... متى ما رأيت الوجوه الملاحا
وبابن رشيد تعوّذت من ... هواه فقد زدت فيه افتضاحا
وقد ضاق صدري عن كتمه ... وأودعته جفن عيني فباحا
__________
(1) السّراح: جمع سرحان وهو الذئب. محيط المحيط (سرح).
(2) الضّباح: صوت الثعلب. محيط المحيط (ضبح).
(3) الأفاحيص: جمع أفحوص وهو الموضع الذي تبيض فيه القطا. الأداحيّ: جمع أدحيّ وهو مبيض النعام. محيط المحيط (فحص) و (دحا).
(4) العياب: جمع عيبة وهي ما يجعل فيها الثياب. والنّيب: جمع نيباء وهي الناقة المسنّة. والغيد الخدال: الغليظة الممتلئة. محيط المحيط (عيب) و (نيب) و (خدل).
(5) الوجاح: السّتر. الربرب: القطيع من بقر الوحش. محيط المحيط (وجح) و (ربرب).
(6) في الأصل: «لو أنّ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا الهمزة الأصلية همزة وصل.
(7) حلّ وبلّ: حلال ومباح. محيط المحيط (حلل).(2/389)
وبابن رشيد تعوّذت من ... خطوب أجلن عليّ القداحا
ألحّ الزمان بأحداثه ... فألقيت طوعا إليه السّلاحا
أعاد شبابي مشيبا كما ... سمعت وصيّر نسكي طلاحا (1)
وفرّق بيني وبين الأهيل ... ولم ير ذا عليه جناحا
أخي وسمييّ، أصخ مسعدا ... لشجو حزين إليك استراحا
فقد جبّ ظهري على ضعفه ... كداما وأدهى شواتي نطاحا (2)
وطوّح بي عن تلمسان ما ... ظننت فراقي لها أن يتاحا
وأعجل سيري عنه ولم ... يدعني أودّع تلك البطاحا
نأى بصديقك عن ربعه ... فكان له النّأي موتا صراحا (3)
وكان عزيزا على قومه ... إذا هاج خاضوا إليه الرّماحا
فها هو إن قال لم يلتفت ... إليه امتهانا له واطّراحا
عجبت لدهري هذا وما ... ألاقي مساء به وصباحا
لقد هدّ منّي ركنا شديدا ... وذلّل منّي حياء لقاحا
وقيت الرّدى من أخ مخلص ... لو اسطعت (4) طرت إليه ارتياحا
وإني على فيح ما بيننا ... لأتبع ذاك الشّذا حيث فاحا
أحنّ إليه حنين الفحول ... ونوح الحمام إذا هو ناحا
وأسأل عنه هبوب النّسيم ... وخفق الوميض إذا ما ألاحا
وإن شئت عرفان حالي وما ... يعانيه جسمي ضنى أو صحاحا
فقلب يذوب إليك اشتياقا ... وصدر يفاح إليك انشراحا
وغرس وداد أصاب فضاء ... نديّا وصادف أرضا براحا
كراسخ مجد تأثّلته ... فلم تخش بعد عليه امتصاحا
وعلياء بوّئتها لو بغى ... سموّا إليها السّماك لطاحا
مكارم جمّعت أفذاذها ... فكانت لعطف علاك وشاحا
ودرس علوم تهيم بها ... عمرت الغدوّ به والرّواحا
__________
(1) الطّلاح: ضدّ الصلاح. محيط المحيط (طلح).
(2) جبّ: قطع. والكدام: أصل المرعى وهو نبات يتكسّر على الأرض. محيط المحيط (جبب) و (كدم).
(3) الصّراح: الخالص من كل شيء. محيط المحيط (صرح).
(4) في الأصل: «استطعت»، وكذا ينكسر الوزن.(2/390)
نشأت عن الخير واعتدته ... فلم تدر إلّا التّقى والصّلاحا
وقمت لها أيّما رحلة ... كسحت المعارف فيها اكتساحا
بهرت رجال الحديث اقتداء ... وفتّ رجال الكمال اقتراحا
فما إن جليس إذا قلت قال ... أو أنّ (1) الخطيب إذا لحت لاحا
ولو لم تحجّ بها مكة ... لحجّ الملائك عنك صراحا
وأما أنا بعد نهي النّهى ... فما زادني الطّبع إلّا جماحا
أدير كؤوس هواي اغتباقا ... وأشرب ماء دموعي اصطباحا
فبرّد جواي بردّ جواب ... توبّخ فيه مشي الوقاحا
وهنّ بنيّات فكري وقد ... أتيتك فاخفض لهنّ الجناحا
ومن شعره، رحمه الله، وله يمدح ذا الوزارتين المتقدم ذكره، ويذكر غفارة وجّهها له مع هدية: [الكامل]
كبت العدى، إنعامك البغت ... فلي الهناء (2) وللعدى الكبت
يا من إلى جدوى أنامله ... يزجى السّفين وتزجر البخت (3)
لولاك لم يوصل بناحية ... وخد ولم يقطع بها دشت (4)
لولاك لم يطلع بها نشر ... منه ولم يهبط بها خبت
خوّلتني ما لم تسعه يدي ... فأصابني من كثره غمت (5)
شتّى أياد كلما عظمت ... عندي تلكّأ خاطري الهتّ (6)
يعيا لساني عن إذاعتها ... ويضيق عن شكري لها الوقت
وطّأت لي الدنيا فلا عوج ... فيما أرى منها ولا أمت
أمكنتني منها فما ليدي ... ردء ولا لمقالتي عتّ
بالغت في برّي ولا نسب ... أدلي إليك به ولا حسب
__________
(1) في الأصل: «أو أنّ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا الهمزة الأصلية همزة قطع.
(2) في الأصل: «الهنا» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «للسفين» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والسفين: جمع سفينة وهي المركب.
والبخت، بضم الخاء: الإبل الخراسانية. محيط المحيط (سفن) و (بخت).
(4) الدّشت: الصحراء. محيط المحيط (دشت).
(5) الغمت هنا بمعنى: التخمة يقال: غمته الطعام: ثقل على قلبه فصيّره كالسكران. محيط المحيط (غمت).
(6) الهتّ: المكسور يقال: هتّ الشيء إذا كسره وفتّه. محيط المحيط (هتت).(2/391)
لكنّ حسبي إن متتّ به ... يوما إليك ودادي البحت
بوركت من رجل برؤيته ... يوسى الضّنى ويعالج الغتّ (1)
لو سار في بهماء مقفرة ... في حيث لا ماء ولا نبت
لتفجّر الماء النّمير بها ... ولأعشبت أرجاؤها المرت
لا تحسبنّ البخت نيل غنى ... نيل الرضا منه هو البخت
آلت جلالته وحقّ لها ... أن لا يحيط بكنهها نعت
أظهرت دين الله في زمن ... ما زال يغلب حقّه البهت
شيّدته وهددت ممتعضا ... لضياعه ما شيّد الجبت (2)
أمّنت أرض المسلمين فلا ... ذئب يخاف بها ولا لصت (3)
وحفظتها من كل نائبة ... تخشى فأنت حفيظها الثّبت
ونهجت سبل (4) المكرمات فما ... لمؤمّل عن غايه ألت (5)
لم تبق غفلا من متالعها ... إلّا وفيه لحائر برت (6)
هادن طغاة الكفر ما هدأت ... حتى يجيء نهارها المحت (7)
دعها تودّع في معاقلها ... ما لم تعدّ جفاتها العفت (8)
كم ذدتها عنّا وقد هبرت ... لهراشنا أشداقها الهرت (9)
بوقوف طرفك عند شدّته ... يبأى ويفخر ملكها الرّتّ (10)
والشّكر (11) ما أظهرت من كرم ... في ذاك تفصح عجمها المرت
لك من ممالكها وإن رغمت ... ما جال فيه جوادك الحتّ (12)
ولكلّ أصيد من بطارقها ... في كلّ أري له دعت (13)
__________
(1) الغتّ: الغمّ والحزن. لسان العرب (غتت).
(2) الجبت: الذي لا خير فيه. محيط المحيط (جبت).
(3) اللّصت: اللصّ. محيط المحيط (لصت).
(4) في الأصل: «سبيل» وكذا ينكسر الوزن.
(5) الألت: مصدر ألته، أي حبسه وصرفه عن وجهه. محيط المحيط (ألت).
(6) البرت: الدليل الماهر. محيط المحيط (برت).
(7) النهار المحت: الحارّ. محيط المحيط (محت).
(8) العفت: مصدر عفت يقال عفت الشيء إذا لواه وكسره. محيط المحيط (عفت).
(9) الأشداق الهرت: الواسعة. محيط المحيط (هرت).
(10) الرّتّ: الرئيس. محيط المحيط (رتت).
(11) في الأصل: «ويشكر»، وكذا ينكسر الوزن.
(12) الحتّ: الساقط. محيط المحيط (حتت).
(13) الدّعت: الدّفع الشديد. محيط المحيط (دعت).(2/392)
لولا لباك البيض ما أرقت ... للقائها أفراسنا الكمت
عندي (1) لمن ينتابه مقة ... ولمن ينيب لغيره مقت
ولو أنّ (2) بيضك لم تسل لمّا ... ذلّت أنوف طغاتها السّلت
يا ابن الحكيم أمنت صرف ردى ... أبدا له في أثلتي نحت (3)
وبيمنه أنّست من أملي ... ما لم يكن يوما له عرت (4)
مثنى الوزارة موئلي وله ... ما دمت أملك قدرتي أقت (5)
وببأسه أطفي شرارة من ... يعثو وأقدح أنف من يعتو (6)
عمّ الورى جودا وفضل غنى ... حتى تساوى العدّ والغلت (7)
وهمي على عال ومنخفض ... لم يبق فوق لا ولا تحت
ظلّ إذا نصطاف معتدل ... عطر الشّذا وحيا إذا نشتو (8)
يتضاءل الصبح المنير إذا ... لاقى سناه جبينك الصّلت
حتى كأن شمس الضحى قمر ... وكأنّ ضوء شعاعها فخت (9)
وغريبة في لطف صنعتها ... يمضي الزمان وما لها أخت
ينأى النّدى بها إذا لبست ... ويتيه إن طويت بها التّخت
زنجيّة لكن لمحتدها ... في الرّوم يعنو القسّ والشّنت (10)
مثل العروس على منصّتها ... من شأنها التّزيين والزّتّ (11)
لأكون أنحل ما أكون هدى ... فيها فيعبل جسمي الشّخت
وبمثل شيبي فوق حلكتها ... يبدو الوقار ويحفظ السّمت
تظهرنني (12) بلباسها وبه ... عندي لها الإيثار ما عشت
__________
(1) في الأصل: «عنده»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ولو أنّ» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا الهمزة الأصلية همزة وصل.
(3) الأثلة: الأصل وقوله: له في أثلتي نحت: أي يطعن في حسبي. محيط المحيط (أثل).
(4) العرت: الشدّة والاضطراب. محيط المحيط (عرت).
(5) الأقت: الوقت المعين. محيط المحيط (أقت).
(6) في الأصل: «يعت» بدون واو.
(7) الغلت: الغلط. محيط المحيط (غلت).
(8) في الأصل: «نشت» بدون واو.
(9) الفخت: ضوء القمر أول ما يبدو. محيط المحيط (فخت).
(10) الشّنت: كلمة إسبانية، وتعني القديس.
(11) زتّ العروس: تزيينها. محيط المحيط (زتت).
(12) في الأصل: «تظهريني» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(2/393)
لا زلت تؤثرني بها أبدا ... ولا تف من يشقى بذا السّلت
وبقيت تدرك ما تريد وما ... تهوى بقاء ما له فتّ
ومن شعره أيضا في المدح قوله، رحمه الله، من قصيدة ثبتت في ديوان مجموع من أمداحه منها قوله: [الكامل]
طرقتك وهنا أخت آل علاج ... والرّكب بين دكادك وحراج
في ليلة ليلاء لم ينبح بها ... كلب ولم يصرخ أذين دجاج
أنّى اهتدت لمضللين توهّنوا ... منها لهتك دياجر ودياج
متسربلي برد الظّلام كأنهم ... فيه قداح في رماية ساج
وثقوا بمحمود السّرى وتسلّموا ... لمخارم مجهولة وفجاج
ومنازل درس الرسوم بلاقع ... أخوين من هيج ومن هجهاج
محّت معالمهنّ غير مثلّم ... كسوار تاج أو كدملج عاج
ومواثل مثل الحمام جواثم ... ورق وأسمج دائم التّشحاج
ومشجّج ما زال منهل الحيا ... يبكي صداه بدمعه الثّجّاج
حتى أعاد لعوده أوراقه ... خضر الظّلال ذكيّة الآراج
وكسا عراة عراصه من وشيه ... حللا تبوّر صنعة الديباج
لا مثل ليلات مضين سريعة ... بردت حرارة قلبي المهتاج
أدركت منها في صباي مطالبي ... وقضيت منها في شبابي حاجي (1)
كم ليلة مرّت ولم يشعر بها ... غيري وغير منادمي وسراجي (2)
بتنا ندير إلى انبلاج صباحها ... كأس الهوى صرفا بغير مزاج
وتدير أعيننا حديث غرامنا ... بمرامز من فضّها وأحاج
بمآرج النّفحات من دارين أو ... بمدارج النّسمات من درّاج
وخلوص ودّ في نقاء سريرة ... كسلاف راح في صفاء زجاج
أمحضته حظّي من الزمن الذي ... أعيا مرامي أهله وعلاجي (3)
واخترت قرب جواره لخلوصه ... وتركت كلّ مماذق (4) مرّاج
ما في زمانك غيره فاخلص له ... غيبا وداهن من أردت وداج
لا تحفلنّ بغيره واستعفين ... بوقاره عن كل غمر ماج
__________
(1) في الأصل: «حاج» بدون ياء.
(2) في الأصل: «وسراج» بدون ياء.
(3) في الأصل: «وعلاج» بدون ياء.
(4) مماذق: غير مخلص. محيط المحيط (مذق).(2/394)
اترك بني الدنيا وأعرض عنهم ... فعساك تطعم لذّة الإثلاج
نزّهت نفسي عنهم بنواله ... وحفظتها من جاهه بسياج
أصبحت من آلائه وولائه ... في عزّة ضحيا وعزّ داج
ولو انني (1) عجت الركاب ميمّما ... أحدا سواه ما حمدت معاجي (2)
طلق إذا احتلك الزمان أنار في ... ظلمائه كالكوكب الوهّاج
طود الرّصانة والرّزانة والحجا ... بحر النّدى المتلاطم الأمواج
وغمامه الهامي على آماله ... من غير إرعاد ولا إرعاج
وهزبر آجام القنا الضّاري إذا ... سقطت عواتمها على الأزجاج
ضمن الإله له على أعدائه ... ما شاء من ظفر ومن إفلاج
أبقى أبو عبد الإله محمد ... ما شاد والده أبو الحجّاج (3)
وبنى أبو إسحاق قبل وصنوه ... ركنا الضعيف ومعدنا المحتاج
وجرى على آثار أسلاف لهم ... درجوا وكلّهم على منهاج
ما منهم إلّا أعزّ مبارك ... مصباح ليل أو صباح عجاج
بيت بنوه من سراوة حمير ... في الذّروة العلياء من صنهاج
كم كان في الماضين من أسلافهم ... من ربّ إكليل وصاحب تاج
أساس كل رئاسة ورؤوس كل ... ل سياسة وليوث كل هياج
أعيت نجوم الليل من سهر وما ... أعيا أبو موسى من الإدلاج
حتى أصارته لرحمة ربّه ... يوم العقاب وقيعة الأعلاج
وأقيم نجل أخيه بعد مقامه ... فيهم يطاعن مثله ويواج
فردا يلفّ كتائبا بكتائب ... ويكبّ أفواجا على أفواج
حتى تجلّى دجن كلّ عجاجة ... عنهم وأمسك رعد كل ضجاج
من مثل يوسف في قراع كتائب ... ولقاء أعداء وخوض لجاج؟
أو من يشقّ من الأنام غباره ... في ردّ آراء ونقض حجاج
__________
(1) في الأصل: «ولو أنني» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا الهمزة الأصلية همزة وصل.
(2) في الأصل: «معاج» بدون ياء.
(3) أبو عبد الإله محمد هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر، وقد تقدمت ترجمته في أول هذا الجزء من الإحاطة. ووالده أبو الحجاج هو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر، وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.(2/395)
إن خاض يوما في بيان حقيقة ... أنهى عن الثّوري والحلّاج (1)
وإذا تكلّم في الغريب وضبطه ... لم يعبأ بالعتبيّ والزّجّاج (2)
أنست قصائد جرول أشعاره ... وأراجز العجليّ والعجّاج (3)
جمع الفصاحة والصبّاحة والتقى ... والجود في وجد وفي إحراج
تخشاه أسد الغاب في أجماتها ... والرّوم في الأسوار والأبراج
إنّا بني قحطان لم نخلق لغي ... ر غياث ملهوف ومنعة لاج
نبري طلى الأعراب في الهيجا وفي الل ... أواء سوف نماري الأعراجي (4)
بسيوفنا البيض اليمانية التي ... طبعت لحزّ غلاصم ووداج
تأبى لنا الإحجام عن أعدائنا ... يوم اللّقاء طهارة الأمشاج
أنصار خير العالمين وحزبه ... وحماته في الجحفل الرّجراج
وفداته بنفوسهم ونفيسهم ... من غدر مغتال وسبّة هاج
هم صفوة الخلق التي اختيرت له ... وسواهم همج من الأهماج
إلّا الألى سبقوا بباهر فضلهم ... من سائر الأصحاب والأزواج
وكفى بحكمتنا إقامة حجّة ... وبركننا من كعبة الحجّاج
ولنا مفاخر في القديم شهيرة ... كالصّبح في وضح وفي إبلاج
منّا التّبابعة الذين ببابهم ... كانت تنيخ جباة كلّ خراج
ولأمرهم كانت تدين ممالك ال ... دّنيا بلا قهر ولا إحراج
من يقتدح زندا فإنّ زنادهم ... في الجود وارية بلا إخراج
__________
(1) الثوري: هو سفيان بن سعيد الثوري، إمام علم الحديث وغيره من العلوم. توفي سنة 161هـ.
وفيات الأعيان (ج 2ص 322). والحلاج: هو الحسين بن منصور، الزاهد المشهور، والمتوفى سنة 309هـ. الفهرست (ص 328).
(2) العتبي: هو محمد بن عبيد الله بن عمرو، الذي اشتهر بالفصاحة. توفي سنة 228هـ. معجم الشعراء (ص 420). والزجاج: هو إبراهيم بن محمد بن السري، النحوي، المتوفى سنة 310هـ. بغية الوعاة (ص 179).
(3) جرول: هو جرول بن أوس بن مالك، المعروف بالحطيئة. توفي نحو 30هـ. فوات الوفيات (ج 1ص 276). والعجلي: هو الأغلب بن عمرو بن عبيدة، شاعر راجز، توفي سنة 21هـ.
الأعلام (ج 1ص 335) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له. والعجّاج: هو عبد الله بن رؤبة، راجز مجيد، توفي نحو 590. الأعلام (ج 4ص 86) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(4) في الأصل: «الأعراج» بدون ياء. والطّلى: جمع طلية وهي العنق. واللأواء: الشدة والمحنة.
ونماري: نجادل. محيط المحيط (لأى) و (مرى).(2/396)
أبوابهم مفتوحة لضيوفهم ... أبدا بلا قفل ولا مزلاج
ومما اشتهر من شعره قوله (1): [السريع]
أرّق عيني بارق من أثال ... كأنّه في جنح ليلي ذبال
أثار شوقا في (2) ضمير الحشا ... وعبرتي في صحن خدّي أسال
حكى فؤادي قلقا واشتعال ... وجفن عيني أرقا وانهمال
جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهلّ مثل العزال (3)
قولوا وشاة الحبّ ما شئتم ... ما لذّة الحبّ سوى أن يقال
عذرا للوّامي (4) ولا عذر لي ... فزلّة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهمّ بمشمولة ... تقصّر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمّيّة ... تمنعها الذّمّة من أن تنال
كالمسك ريحا واللّمى مطعما ... والتّبر لونا والهوى في اعتدال
عتّقها في الدّنّ خمّارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح (5) لا واسقني ... على سنى البرق وضوء الهلال
فالعيش نوم والرّدى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنغيم مسطارها (6) ... بين خوابيها وبين الدّوال
في روضة باكر وسميّها ... أخمل دارين وأنسى أوال (7)
كأنّ فأر المسك مغبوقة (8) ... فيها إذا هبّت صبا أو شمال
من كلّ (9) ساجي الطّرف ألحاظه ... مفوّقات أبدا للنضال
من عاذري والكلّ لي عاذل (10) ... من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلّبيّ الوعد كذّابه ... ليّان لا يعرف غير المطال
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 339338) وأزهار الرياض (ج 2ص 308306).
(2) في أزهار الرياض: «من صميم».
(3) أراد العزالي وهي جمع عزلاء، والعزلاء هو مصب الماء من الراوية. محيط المحيط (عزل).
(4) في أزهار الرياض: «أعذر لوّامي».
(5) أثقب المصباح: جعل ضوءه ساطعا. لسان العرب (ثقب).
(6) المسطار، بضم الميم وكسرها وسكون السين: الخمرة الصارعة لشاربها. محيط المحيط (سطر).
(7) الوسميّ: مطر الربيع الأول. وأوال: الاسم القديم للبحرين.
(8) في المصدرين: «مفتوتة».
(9) في المصدرين: «من كفّ».
(10) في المصدرين: «عاذر».(2/397)
كأنه الدهر وأيّ امرئ ... يبقى على حال (1) إذا الدهر حال
أما تراني آخذا ناقضا ... عليه ما سوّغني من محال؟
ولم أكن قطّ له عائبا ... كمثل ما عابته قبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي، وهل ... يجتمع الضّدّان: علم ومال؟
وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرجال (2)
لولا بنو زيّان ما لذّ لي ال ... عيش ولا هانت عليّ اللّيال
هم خوّفوا الدهر وهم خفّفوا ... على بني الدهر (3) خطاه الثّقال
ورثت (4) من عامرهم سيّدا ... غمر رداء الحمد عمر (5) النّوال
وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل حال (6)
خذها أبا زيّان من شاعر ... مستملح النّزعة عذب المقال
يلتفظ الألفاظ لفظ النّوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل
مجاريا مهيار (7) في قوله ... (ما كنت لولا طمعي في الخيال)
ومما قال أيضا، واشتمل ذلك على شيء من نظمه ونثره، وهذا الرجل مغرب النزعة، في شفوف نظمه على نثره (8): [الكامل]
عجبا لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يطمع (9) أن يمرّ ببالها؟
وأنا الفقير إلى تعلّة ساعة ... منها، وتمنعني زكاة جمالها
كم ذاد عن (10) عيني الكرى متأنف (11) ... يبدو ويخفى في خفيّ مطالها
__________
(1) في المصدرين: «على الدهر».
(2) في المصدرين: «الرّحال».
(3) في المصدرين: «الدنيا».
(4) في النفح: «لقيت»، وفي أزهار الرياض: «ألفيت».
(5) في المصدرين: «جمّ».
(6) في المصدرين: «بال».
(7) هو مهيار الديلمي، وعجز هذا البيت هو مطلع قصيدة [السريع]:
ما كنت لولا طمعي في الخيال ... أنشد ليلي بين طول الليال
ديوان مهيار الديلمي (ج 3ص 166) ونفح الطيب (ج 7ص 339) وأزهار الرياض (ج 2ص 308).
(8) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 344343) وأزهار الرياض (ج 2ص 322319).
(9) في المصدرين: «يأمل».
(10) في الأصل: «كم ذا وعن»، والتصويب من المصدرين.
(11) في المصدرين: «متألّق».(2/398)
يسمو لها بدر الدّجى متضائلا ... كتضاؤل الحسناء في أسمالها (1)
وابن السّبيل يجيء يقبس نارها ... ليلا فتمنحه عقيلة مالها (2)
يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها
كم ليلة جادت به فكأنّما ... زفّت عليّ ذكاء (3) وقت زوالها
أسرى فعطّلها (4) وعطّل شهبها ... بأبي شذا المعطار من معطالها
وسواد طرّته كجنح ظلامها ... وبياض غرّته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمحة (5) ... من ثغرها وأشمّ مسكة خالها
ما راد طرفي في حديقة خدّها ... إلّا لفتنته بحسن دلالها
أنسيب شعري رقّ مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها
وانقل أحاديث الهوى واشرح غري ... ب لغاتها واذكر ثقات رجالها
وإذا مررت برامة فتوقّ من ... أطلائها (6) وتمشّ في أطلالها
وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شركا لصيد غزالها
وأسل جداولها بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها
أنا من بقيّة معشر عركتهم ... هذي النّوى عرك الرّحى بثفالها (7)
أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغيا فراق العين حسن جمالها (8)
حلّت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء بها لبعد منالها
وعدت على سقراط صورة (9) كأسها ... فهريق ما في الدّن من جريالها
__________
(1) أخذه من قول أبي تمام [الكامل]:
كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء في الأطمار
ديوان أبي تمام (ص 134).
(2) عقيلة المال: أكرمه. محيط المحيط (عقل).
(3) ذكاء: اسم الشمس. محيط المحيط (ذكو).
(4) في الأصل: «أسري فعطرها وعطل شهبها يأبى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(5) في المصدرين: «لمعة».
(6) الأطلاء: جمع طلا وهو ولد الظبية. لسان العرب (طلا).
(7) في الأصل: «بثقالها» والتصويب من المصدرين. وهنا يعتمد الشاعر على قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
فتعرككم عرك الرّحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
المعلقات العشر (ص 122).
(8) في المصدرين: «مآلها».
(9) في المصدرين: «سورة».(2/399)
وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قدسيّة جاءت بنخبة آلها (1)
ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوّغ القسيس من أرمالها
وتعلقت (2) في سهرورد (3) فأسهرت ... عينا يؤرّقها طروق خيالها
فخبا شهاب الدّين لمّا أشرقت ... وخبا (4) فلم يثبت لنور جلالها
ما جنّ مثل جنونه أحد ولا ... سمحت يد بيضا بمثل نوالها
وبدت على الشّوذيّ (5) منها نفحة (6) ... ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبّر عن حقيقة (7) حالها
هذي صبابتهم ترقّ صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها
اعلم أبا الفضل بن يحيى أنني ... من بعدها أجري على آسالها (8)
فإذا رأيت مولّها (9) مثلي فخذ ... في عذله إن كنت من عذّالها
لا تعجبنّ لما ترى من شأنها ... في حلّها إن كان أو ترحالها
فصلاحها بفسادها ونعيمها ... بعذابها ورشادها بضلالها
ومن العجائب أن أقيم ببلدة ... يوما وأسلم من أذى جهّالها
شغلوا بدنياهم أما شغلتهم ... عنّي فكم ضيّعت من أشغالها
حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم ... شمس الهدى عبثوا (10) بضوء ذبالها
وإن انتسبت فإنني من دوحة ... تتقيّل (11) الأقيال برد ظلالها
من حمير من ذي رعين من ذرى (12) ... حجر من العظماء من أقيالها
وإذا رجعت لطينتي معنى فما ... سلسالهم (13) بأرقّ من صلصالها
__________
(1) إشارة إلى الفارابي الفيلسوف وقدرته في الموسيقى.
(2) في المصدرين: «وتغلغلت».
(3) هنا إشارة إلى السّهروردي المتصوف.
(4) في المصدرين: «وخوى».
(5) الشوذي: هو الشيخ أبو عبد الله الحلوي، أحد فقهاء مرسيه، والشوذية طريقة صوفية تشبه طريقة ابن عربي، إلّا أنها أكثر إيجابية.
(6) في المصدرين: «نشوة».
(7) في الأصل: «حقيقته» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(8) من هنا حتى آخر القصيدة غير وارد في نفح الطيب. وفي أزهار الرياض: «أحرى على آمالها».
(9) في أزهار الرياض: «مدلّها».
(10) في الأصل: «عشوا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من أزهار الرياض.
(11) في أزهار الرياض: «يتفيّأ الإنسان برد».
(12) في الأزهار: «ذوي».
(13) في الأزهار: «سلساله».(2/400)
لله درّك أيّ نجل كريمة ... ولدته فاس منك بعد حبالها (1)
ولأنت لا عدمتك والد فخرها ... وسماك سؤددها وبدر كمالها
اغلظ على من عاث من أنذالها ... واخشع لمن تلقاه من أبدالها
والبس بما أوليتها من نعمة ... حلل الثّناء وجرّ من أذيالها
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة ... جاءتك لم ينسج على منوالها
ما جال في مضمارها شعر ولا ... سمحت قريحة شاعر بمثالها
وأثل أبا البركات من بركاتها ... وادفع محال شكوكه بمحالها (2)
هذه، أمتع الله ببقائك، وأسعد بلقائك، وأراها بما تؤمّله من شريف اعتنائك، وترجوه من جميل احتفائك، ما تعرف به من احتذائك، وتعترف له ببركة اعتفائك، كريمة الأحياء، وعقيلة الأموات والأحياء، بنت الأذواء والأقيال، ومقصورة الأسرّة والحجال، بل أسيرة الأساوير والأحجال، على أنها حليفة آلام وأوصأب، وأليفة أشجان وأطراب، صبابة أغراب من صيّابة أعراب، جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان، وذلقت لسان ابن أخته حسّان، فتضاءلت لرقة حدّه جسوم بني عبد المدان، وقرّبه وما شيم من غمده قيد ابن الإطنابة بين يدي النّعمان، قربت ببني جفنة مزار جلّق، وسعرت لبني تميم نار محلق، ومرّت على معتاد غالب فما أنست ناره، وطافت ببيت عبد الله بن دارم فلم ترض جواره، ولو حلّت بفنائه، واستحلّت ما أحلّ لها من مبذول حبائه، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره، ولحلّت لها حبوتا مجاشع وزراره، مزقت على مزيقيا حللا، وأذهبت يوم حليمة مثلا، وأركبت عنزا شرّ يومها يجدع جملا، وناطت بأذن مارية قرطها، وجرّت على أثر الكندي مرطها، وقفها بين الدّخول فحومل فوقفت، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه وما ألفت، عقر ناقته وانتهس عبيطها، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها. أغرت أبا قابوس بزياد، وأسرجت للزبيدي فرس أبي داود ونافرت بحاتم طيّ كعب إياد، وساورت للمساور، بمثل جوده السّائر. ولئن بلت الجعفري لبيدا، فلقد استعبدت الأسدي عبيدا، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيدا، أرته المنيّة على حربة هندها الملحوب، وما حال قريضه، دون جريضه، وأقفر من أهله ملحوب، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب فترشد، وتنشد ضالتها اليمانية، فتنشد:
[الكامل]
إن كنت من سيف بن ذي يزن ... فانزل بسيف البحر من عدن
__________
(1) في الأزهار: «حيالها».
(2) في الأزهار: «من آلها».(2/401)
وذر الشآم وما بناه به الر ... روميّ من قصر ومن فدن
تعلف سيل العرم وتردغسان، وتمهد لها أهضام تبالة فتقول: مرعى ولا كالسّعدان (1)، تساجل عن سميحة بابن خرام، وتناضل بسمير يوم خزام، وتنسى قاتل ستة آلاف، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب، وأرته ضراعة خدّها التّرب، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب، ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها، وساجلت بفناء جدّها ذي رعين لاستوفت سجلها. كم عاذت بسيفها اليزني، فأدركت ذحلها، ولاذت بركنها اليمني، فأجزل محلها، ولو استسقت بأوديتها لأذهبت محلها. كافحت عن دينها الحنيفيّ، فما كهم حسامها، ونافحت عن نبيّها الأمّيّ فأيّدت بروح القدس سهامها. سدّت باب الدرب دون بني الأصفر، وشدّت لموته ثوب موت أحمر، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر. ولقد حلّت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة، وتعلّقت من ذمام نبيّها العربي بأوثق عروة. تفرّد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعزّ، وتمرّد ربّ دومة الجندل لما كان من مارد في حرز، فما ظنك، أعزك الله، بمن حلّ من قدسي عقله، بمعقل قدس، يطار إليه فلا يطار، وراد من فردوس أدبه في جنّة لا يضام رائدها ولا يضار. زها بمجاورة الملك، فازدهى رؤساء الممالك، وشغف بمجاورة الملك، فاشتغل عن مطالعة المسالك، أيشقّ غباره، وعلى جبين المرزم مثاره، أو ينتهك ذماره، وقلب الأسد بيته ودار أخيه أسامة زاره. ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها، وعطّرت بنوافح أنفاسها الذّكية آثارها، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدّجوجية كواكبها النيّرة وأقمارها، عطفت على معقلتها الشاذلية فحلّت عقالها، وأمر لها فراق الوطن فلمّا استمرّ لها حلالها، استودعت بطنان تبالة آلها، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها، أطلّت على دارات العرب فحيّت أطلالها، ودعت لزيارة أختها اليونانية أذواء حمير وأقيالها. أطمعتها بلمعيّة ألمعيّتها الأعجمية، ومثلها يطمع، وجاء بها من قدماء الحكماء كلّ أوحدي الأحوذية، فباتت تخبّ إليه وتوضع، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية، آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية، مؤثرة لما تدلّ عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البرهانية، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم
__________
(1) «مرعى ولا كالسّعدان» مثل، والسّعدان: نبت ذو شوك كأنه فلكة، ينبت في سهول الأرض، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطبا. مجمع الأمثال (ج 2ص 275) ولسان العرب (سعد).(2/402)
السّيماوية، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية، ويطرأ على عاقليّتها الهيولانية، من علويات آثار مواهبها الربّانية، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة، موافقة لما وافق من شوارد آرائهم الموفّقة أحسن موافقة. وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضرّ بها الإسرار، وطالما نكر معارفها الإنكار، ونقلت من صدور أولئك الصّدور إلى بطون هذه الأوراق، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرّقاق. وفي تلك المغاني، أبكار معاني، سكن الجوانح والصدور، بدل الأرائك والخدور، ولحن في دياجي، ظلم هذه الأحاجي، كأقمار في أطمار بهرن وما ظهرن، وسطعن وما لمعن، فعشقن وما رمقن، واستملحن وما لمحن. أدرن خمور أجفانهن، على ماخوريات ألحانهن، فهيّجت البلابل، نغم هذه البلابل، واستفرغته الأكياس، مترعات تلك الأكواس. ما سحر بابل، كخمر بابل، ولا منتقى أغانيهن الأوائل، كحمائمكم الهوادل، إن وصلت هديلها بحفيف، وصلن ثقيلهن بخفيف. إيه أيها الشّمري المشمعل، دعنا من حديثك المضمحل، سر بنا أيها الفارس النّدس (1)، من حظيرة النّفس، إلى حضرة القدس، صرّح بإطلاق الجمال، وجل من عالميّتك الملكوتية في أفسح مجال، تمش بين مقاصر قصورها، ومعاصر خمورها، رخيّ البال، مرخيّ السربال، فما ينسج لك على منوال، نادم عليها من شغف دنّ سقراط، إن استحسنت لها حسان فما يصلح لك صالح بن علاط، بت صريع محيّاها فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط، لا تخش صاحب شرطتها فلا شرط له عليك ولا اشتراط، ما لك غير مبديك الأول، من قال امتثل الأمر وما عليك من أمر وال. على رسلك ما هذا العجل، لا خطأ تتوقعه ولا خطل، أمكره أنت في هذه الكريهة، أم بطل. لو علم أنك ضبارية هذا الخميس، وخبعثة ذلك الخميس، لما عانى اليمّ رسيس، شوقا إليك محمد بن خميس، على أن لا غالب اليوم لأني غالب، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب، فقه بلا تفهق، وحذق في تحذلق. أقسم أبا الفضل بما لك على أبي البركات من الفضل، ذلك العراقي الأرومة، لا هذا الفارسي الجرثومة، وإن يك ذلك، إسرائيلي الأصل، وهذا إسماعيلي الجنس، علوي الفضل. فلتلك الذات، شرف تلك الأدوات. قدّم لي غالبنا المذكور، من بأسه الغرّ لأرفع وأسمى من مقعد رقوطيّهم المشهور، من إغرناطة الحمراء، ومن متبوّإ أبي أميّتهم المرحوم من جنّات جزيرتهم الخضراء، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة، وألوك، أرأيت في عمرك مثل هذا الصعلوك؟ لا والله ما على ظهر هذه الغبرا، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي
__________
(1) الفارس النّدس: السريع في الطعن. لسان العرب (ندس).(2/403)
شيء هذا المنزع؟ إيش، لا حال لنا معك ولا عيش، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل، أخمار بك أم ثمل؟ ارجع إلى ما كنت بصدده وقيت الزّلل، خذ في الجدّ فما يليق بك الهزل، رقّ عن ذلك فحكّ لنا منه أرقّ غزل، ماذا أقول؟ وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول؟ أفحمتني، والله، عن مكالمتكم هذه المحن، ومنعتني من طلب مسالمتكم ما لكم عليّ في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس، أم على هذه الفيلة مواس؟ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي؟ أما يلين لضعفي، أما يرقّ قلب زمانكم القاسي؟ ما هذه الدّمن، يا بني خضراوات الدمن، أظهرتم المحن، فقلب لكم ظهر المجنّ (1). إن مرّ بكم الولي حمّقتموه، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسّقتموه، وإذا نجم فيكم الحكيم غصصتم به، فكفّرتموه وزندقتموه. كونوا فوضى، فما لكم اليوم مسرى سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة، حيث شئتم، فقد أهملكم الرعاة. ضيّعتم النص والشرائع، وأظهرتم في بدعكم العجائب والبدائع. نفّقتم النّفاق، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكبائر، وأبحتم الصّغائر، أين غنيّكم الشاكر، يتفقد فقيركم الصابر؟ أين عالمكم الماهر، يرشد متعلّمكم الحائر. مات العلم بموت العلماء، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرّد لنا شريعتك يا أفضل الشّارعين، أتمّ فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا، والله، ما يوقظكم من هذا الوسن، وعظ الحسن، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن، إلّا سيف معلّمه أبي الحسن، والسلام.
قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعمائة. وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم فرّ من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام، بعد أن نهبت ثيابه، حسبما جرى على غيره من الحاضرين، وهو يقول: هكذا تقوم الساعة بغتة.
ولقيه بعض قرابة السلطان، ممن كان الوزير قد وتره، فشرع الرّمح إليه، فتوسّل إليه برسول الله، فلم يقبل منه، وطعنه، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعمائة، وآخر العهد به، مطّرحا بالعراء، خارج باب الفخّارين، لا يعلم قبره لمكان الهرج في تلك الأيام، نسأل الله جميل ستره، وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره، وشرد نومه وأصابته علّة رديّة، فكان يثب المرة بعد الأخرى، يقول: ابن خميس يقتلني، حتى مات لأيام من مقتل المذكور.
__________
(1) أخذه من المثل: «قلب له ظهر المجنّ»، وهو يضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد. مجمع الأمثال (ج 2ص 101).(2/404)
محمد بن عمر بن علي بن إبراهيم المليكشي (1)
يكنى أبا عبد الله.
حاله: كان فاضلا، متخلقا، أديبا، شاعرا، صوفيا، جميل العشرة، حسن الخلق، كريم العهد، طيّب النفس. كتب عن الأمراء بإفريقية، ونال حظوة، ثم شرّق وحجّ، ولقي جلّة، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعمائة، فلقي بغرناطة حفاية، وانسحبت بها عليه جراية، ثم انصرف إلى وطنه، وناله به اعتقال، ثم تخلّص من النّكبة، وأقام به، يزجى وقته إلى آخر عمره.
وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» (2): كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب المزري (3) بالسّلافة، كان، يرحمه الله، بطل مجال، وربّ رويّة وارتجال، قدم على هذه البلاد وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوّم بها تلوّم النسيم بين الخمائل، وحلّ بها (4) محل الطّيف من الوشاح الجائل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، وميرة (5) يانعة. ثم آثر قطره، فولّى وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقلّده خطّة الكتابة، فاستقامت (6) حاله، وحطّت رحاله. وله شعر أنيق، وتصوّف وتحقيق، ورحلته (7) إلى الحجاز سببها (8) في الخبر وثيق، ونسبتها (9) في الصالحات عريق.
شعره: نقلت من خطّ الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين، مما قيّد عنه، وكان خبيرا بحاله (10): [الطويل]
رضى نلت ما ترضين (11) من كلّ ما يهوى ... فلا توقفيني (12) موقف الذلّ والشّكوى
وصفحا عن الجاني المسيء لنفسه ... كفاه الذي يلقاه من شدّة البلوى
__________
(1) ترجمة محمد بن عمر المليكشي في نيل الابتهاج (ص 237) والدرر الكامنة (ج 4ص 226) ورحلة البلوي (الورقة 22) ونفح الطيب (ج 8ص 375).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 375).
(3) في النفح: «الذي يزري».
(4) في المصدر نفسه: «منها».
(5) في الأصل: «ومبرة» والتصويب من نفح الطيب.
(6) في الأصل: «واستقامت» والتصويب من نفح الطيب.
(7) في النفح: «ورحلة».
(8) في النفح: «سعيها».
(9) في النفح: «ونسبها».
(10) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 375).
(11) قوله: «ما ترضين» ساقط في الأصل، وقد أضفناه من نفح الطيب.
(12) في الأصل: «فلا توقفني» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/405)
بما بيننا من خلوة معنوية ... أرقّ من النجوى وأحلى من السّلوى
قفي أتشكّى لوعة البين ساعة ... ولا يك هذا آخر العهد بالنّجوى
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري ... إلى عاشق لا يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقا إليكم ... فما حنّ مسراها إليّ (1) ولا ألوى
فيا ريح، حتى أنت ممّن يغار بي ... ويا نجد، حتى أنت تهوى الذي أهوى
خلقت ولي قلب جليد على النّوى ... ولكن على فقد الأحبّة لا يقوى
وحدّث (2) بعض من عني بأخباره، أيّام مقامه بمالقة واستقراره، أنه لقي ليلة (3)
بباب الملعب من (4) أبوابها ظبية من ظبيات الإنس، وفتنة من فتن (5) هذا الجنس، فخطب وصالها، واتّقى بفؤاده نصالها، حتى همّت بالانقياد، وانعطفت انعطاف الغصن الميّاد، فأبقى على نفسه وأمسك، وأنف من خلع العذار بعد ما تنسّك، وقال (6):
[الكامل]
لم أنس وقفتنا بباب الملعب ... بين الرّجا واليأس من متجنّب
وعدت فكنت مراقبا لحديثها ... يا ذلّ وقفة خائف مترقّب
وتدلّلت (7) فذللت بعد تعزّز ... يأتي الغرام بكلّ أمر معجب
بدويّة أبدى الجمال بوجهها ... ما شئت من خدّ شريق (8) مذهب
تدنو وتبعد نفرة وتجنّيا (9) ... فتكاد تحسبها مهاة الرّبرب (10)
ورنت بلحظ فاتر لك فاتن (11) ... أنضى وأمضى من حسام المضرب
وأرتك بابل سحرها بجفونها ... فسبت، وحقّ لمثلها أن تستبي (12)
وتضاحكت فحكت بنيّر ثغرها ... لمعان (13) نور ضياء برق خلّب (14)
بمنظّم في عقد سمطي جوهر ... عن شبه نور الأقحوان الأشنب
__________
(1) في النفح: «عليّ».
(2) النص والقصيدة البائية في نفح الطيب (ج 8ص 376375).
(3) كلمة «ليلة» ساقطة في النفح.
(4) في الأصل: «في» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «وقينة من قينات».
(6) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 376).
(7) في الأصل: «وتذلّلت» والتصويب من النفح.
(8) الشريق: المشرق. لسان العرب (شرق).
(9) في الأصل: «وتجنبا» والتصويب من النفح.
(10) المهاة: البقرة الوحشية. والربرب: القطيع من بقر الوحش. لسان العرب (مها) و (ربرب).
(11) في النفح: «بلحظ فاتن لك فاتر».
(12) في الأصل: «تستب» بدون ياء.
(13) في الأصل: «لمعات» والتصويب من النفح.
(14) البرق الخلّب: المطمع المخلف. محيط المحيط (خلب).(2/406)
وتمايلت كالغصن أخضله النّدى (1) ... ريّان من ماء الشبيبة مخصب
تثنيه أرياح (2) الصّبابة والصّبا ... فتراه بين مشرّق ومغرّب
أبت الرّوادف أن تميل بميله ... فرست وجال كأنه في لولب
متتوّجا بهلال وجه لاح في ... خلل السجوف (3) لحاجب ومحجّب
يا من رأى فيها محبّا مغرما ... لم ينقلب إلّا بقلب قلّب
ما زال مذ ولّى يحاول حيلة ... تدنيه من نيل المنى والمطلب
فأجال نار الفكر حتى أوقدت ... في القلب نار تشوّق وتلهّب
فتلاقت الأرواح قبل جسومها ... وكذا البسيط يكون قبل مركّب
ومن مقطوعاته البديعة، مما سمع منه بغرناطة، حرسها الله، أيام مقامه بها قوله (4): [الطويل]
أرى لك يا قلبي بقلبي محبّة ... بعثت بها سرّي إليك رسولا
فقابله بالبشرى (5) وأقبل عشيّة ... فقد هبّ مسك (6) للنسيم عليلا
ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى ... فأحسن ما يأتي النسيم بليلا
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرّعيني، مما أملاه عليّ بمنزله بغرناطة، قال: وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعمائة، يوم إحرام الكعبة العليّة، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك، وصفته أن يتزيّن سدنة البيت من شيبة بأحسن زي، ويعمدوا إلى كرسي يصل فيه صاعده إلى ثلث الكسوة، ويقطعها من هنالك، ويبقى الثلثان إلى الموسم، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم، يحتفل له، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون. فقلت في ذلك: [الطويل]
ألم ترها قد شمّرت تطلب الجدّا ... وتخبر أنّ الأمر قد بلغ الحدّا؟
فجدّ كما جدت إليها وشمّر ... عن السّاعد الأقوى تنل عندها سعدا
طوت بردها طيّ السّجلّ كناية ... لأمر خفيّ سرّه طوت البردا
وأندت محيّاها فحيّي (7) جماله ... وقبّل على صوت المقى (8) ذلك الخدّا
__________
(1) أخضله الندى: بلّله. لسان العرب (خضل).
(2) في النفح: «أرواح».
(3) في النفح: «السحاب».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 376).
(5) في الأصل: «بالبشر» والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «مسكي» والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «فحيّا».
(8) في الأصل: «المقلة» وكذا لا يستقيم الوزن، والمقى: جمع مقية وهي المأق. لسان العرب(2/407)
فكم سترت سود البرود جمالها ... وغطّته لكن عن سنها الرمدا (1)
وكم خال ذاك الخال عما مقصّر ... عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدّا
لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي ... لها الحجر (2) المسنيّ في حسنها المبدا
وقالت ألا أين مكلّلي، قصدوا إلى (3) ... جمالي فقد أبدى الحجاب الذي أبدا
فلبّت لها العشّاق من كل جانب ... يؤمّونها يستقربون لها البعدا
فمن ندف أشفى على تلف ومن ... محبّ على قرب يهيم بها وجدا
ومن ساهر على النجوم ولم يذق ... بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا
يسائل عن بدر وبدر تجاهه ... كذاك (4) اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا
ومن مستهام لا يقرّ قراره ... كأنّ به من حرّ أشواقه وقدا
يقلّب قلبا بين جنبيه موريا ... أوار الأسى فيه فتحسبه زندا
إذا ما حدا حادي الرّكاب ركابه ... كأنّ قلوب الراكبين له نجدا
أحاد بها إن أنت جئت بها منى ... ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا
ولا خوف هذا الخيف (5) والتربة التي ... سرت بهما (6) قد عيّن المصطفى عدّا
وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى ... مشاعر (7) فيها يرحم المالك العبدا
وإن كنت من أوفى العبيد جرائما ... فحسّن نبيل العقد من ربّك العقدا
لئن صدقت فيك الوعيد جرائم ... فعفوا جميل (8) الصفح يصدقك الوعدا
وعد مفضيا للبيت طف واستلم وقم ... بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا
ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد ... فمن عرف الإحسان زادته حمدا
وعج نحو فرض الحب واقض حقوقه ... وزر قبر من أولاك من هديه رشدا
قال: وكنت في زمن الحداثة، أفضّل الأصيل على السّحر، وأقول فيه رقّة المودّع ورقّة المعتذر. فلمّا كان أوان الأسفار، واتصلت ليالي السير إلى أوقات
__________
(مقى).
(1) عجز هذا البيت مختل الوزن والمعنى معا.
(2) كلمة «الحجر» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(3) صدر هذا البيت مختل المعنى والوزن معا.
(4) في الأصل: «كذلك» وكذا ينكسر الوزن.
(5) الخيف: غرّة بيضاء في الجبل الأسود الذي هو خلف جبل أبي قبيس، وبها سمي مسجد الخيف. محيط المحيط (خيف).
(6) كلمة «بهما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(7) المشاعر: مناسك الحج، مفردها مشعر. محيط المحيط (شعر).
(8) في الأصل: «لجميل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(2/408)
الأسحار، رأيت أفق الشرق، ووجدت القائل بفضل السّحر أصدق، فابتدأت راكبا، فلمّا جئت لذكر الجناب العليّ النبوي، أتممت ماشيا، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله، وقلت: [البسيط]
ما أحسن الأفق الشرقيّ إسفارا ... فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا
إذا بدا سارت الأظعان هادية ... له وصارت به الظلماء أنوارا
يجلو غياهب ليل طالما سدلت ... على المحبين في الظلماء أستارا
ونمّ منه نسيم ثم ذا بعد ... على أحاديث كانت ثمّ أسرارا
سرت سحيرا فبرّت سرّ ذي سحر ... أهدت له ريح من يهواه معطارا
سرت ببانات أكناف اللّوى فغدت ... كأنّ دارين قد أصبحت دارا
طابت بطيبة أرواح معطرة ... بها فأصبح أفق الشوق عطّارا
كأنما فلق الإصباح حين بدا ... خدّ وبهجة (1) حسن الشمس قد وارى
حقي بدت وتبدّت حسن صورتها ... فعمّت (2) الأرض أنجادا وأغوارا
كأنه دعوة المختار حين بدت ... دانت لها الخلق إعلانا وإصرارا
من نوره كل نور أنت تبصره ... ونوره زاد للأبصار (3) إبصارا
هدا به الله أقواما به سعدا (4) ... لولاه كانوا مع الكفر كفّارا
هو الشّفيع الذي قالت شفاعته ... للموبقين ألا لا تدخلوا النّارا
هو العفوّ (5) عن الجاني وإن عظمت ... من المسيء ذنوب كان غفّارا
هو الكريم الذي ما ردّ سائله ... يوما ولو كرّر التّسآل تكرارا
هو الحبيب الذي ألقى محبته ... في كل قلب فقلبي نحوه طارا
أحبّه كلّ مخلوق وهام به ... حتى الجمادات أحجارا وأشجارا
وانشقّ بدر الدّجى من نور غرّته ... وانهلّت السّحب من كفّيه أنهارا
ومن مقطوعاته، قال: ومما نظمته في ليل السّرى، وتخيل طيف الكرى، مبدأ قصيد قصدته، أي معنى أردته، أشغل عنه ما بي منه: [الخفيف]
منع الهجر من سليمى هجوعا ... فانثنى طبعها يريد الرّجوعا
__________
(1) في الأصل: «خدر بهجة» وكذا لا يستقيم الكلام ولا الوزن.
(2) في الأصل: «فعمّته» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «الأبصار» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «سعداء» وكذا ينكسر الوزن.
(5) العفوّ، بفتح العين وضمّ الفاء: العافي الكثير العفو. محيط المحيط (عفا).(2/409)
بعثته ليلا يعلّل قلبا ... مستهاما بها محبّا ولوعا
لم يجد غير طرف جفن قريح ... شاخصا نحوها يذرّ الدّموعا
وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية، وهو معتقل بقصبتها، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس: [الخفيف]
شرح حالي لمن يريد سؤالي ... إنني في اعتقال مولى الموالي (1)
مطلق الحمد والثناء عليه ... وهو للعطف والجميل موال
لا أرى للولاة فيّ احتكاما ... ووليّ مال على كل وال
أرتجي بالمصاب تكفير ذنبي ... حسبما جاء في الصّحاح العوالي (2)
لا تدوم الدّنا ولا الخير فيها ... وكذا الشّرّ ذا وذا للزوال
فاغتنم ساعة الوصال وكم من ... محنة وهي منحة من نوال
فإذا غبت عنك فاحضر تجدها ... للجواب المفيد عن السؤال (3)
فهي نور النهار (4) والنور منها ... وهي الأنس في الليالي الطوال
فاستدمها تدم ولا تضج منها ... وأدرها على اليمين ووال
فإنّ الكأس مجراها على اليمين، ومسراها لفي الصبح المبين، تغني عن الإصباح والمصباح، وتدني لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصّباح، وتجري في الأشباح، فتسري في الأرواح. وهذه الرسالة طويلة، فيها كل بديع من نظم ونثر.
فأجابه رحمه الله: [الخفيف]
أرغمن هذه القيود الثّقال ... ربّ ودّ مصيره للتّغالي (5)
طال صبري على الجديدين حتى ... كدت مما لقيت أن يشفقا لي (6)
إنّ بعض الرضا لديه فسيح ... أيّ مدّ (7) به وأيّ ابتقال
حاش لله أن أكون لشيء ... شاده الصانع القديم بغال
إن عندي من الثناء عليه ... لأماني لم يملهنّ القالي (8)
يا إمامي الذي بودّي لو أم ... كن نصلي (9) إليه أوّار قال
__________
(1) في الأصل: «الموال» بدون ياء.
(2) في الأصل: «العوال» بدون ياء.
(3) عجز البيت منكسر الوزن.
(4) في الأصل: «للنهار» وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «للتغال» بدون ياء.
(6) في الأصل: «ل» بدون ياء.
(7) في الأصل: «مدد» وكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «القال» بدون ياء.
(9) في الأصل: «نصي»، ولا معنى له.(2/410)
ارج دنياك وارج مولاك واعلم ... أنّ راجي سواه غير مقال
وابتغاء الثواب من ربّك اعمل ... فهو يجزي الأعمال بالمثقال
واغتنم غيبة الرّقيب ففيها ... لقلوب الرجال أيّ صقال
وأحل في الوجود فكر غنيّ ... عن ضروب الإنعام والأحقال
وإذا الوقت ضاق وسّعه بالصّب ... ر ولا تنس من شهير المقال
ربما تكره النفوس من الأم ... ر له فرحة كحلّ العقال
لا غرو أن وقع توان، أو تلوّم دهر ذو ألوان، فالأمر بين الكاف والنون، ومن صبر لم يبوء بصفقة المغبون، وللسعداء تخصيص، ومع التقريب تمحيص، وما عن القضاء محيص، والمتصرف في ماله غير معتوب، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب. وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره، وسدّد إلى المرامي العليّة نظره، ناطقا بلسان التفويض، سارحا من الرّضا في الفضاء العريض، لائذا بالانقياد والتسليم، قائما على أسكفّة (1) باب الأدب لمثابة حكم الحكيم.
ومنها: والوقائع عافاكم الله وعّاظ، ونحن هجود وفي الحيّ أيقاظ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ. وهذا الفنا الذي نشأ عن الوقت، هو إن شاء الله عين البقيا.
وإذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا، وما هي إلّا فنون، وجنون فنون، وحديث كله مجون. وقد يجمع الله الشتيتين، ولن يغلب عسر يسرين ولا باس، ويا خطب لا مساس، وأبعد الله الياس، وإنما يوفي الأجر الصابرون، ولا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون. وهي طويلة بديعة.
أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها وارتسم في جملة الكتاب بها، وحدّث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي، بسماعه من أبي الوقت طرّاد. وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السّلفي، وعن جماعة غيرهم، وكان وروده على الأندلس في أوائل عام خمسة عشر وسبعمائة، وحضر بها غزوات، ولقي من كان بها من الأعلام. ثم انصرف عنها في أوائل عام ثمانية عشر، وأحلّ بسبتة، فأكرم رئيسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه، وأنزله بدار جليلة كان بها علو مطلّ على البحر، لم يتمكن من مفتاحه، لأمر اقتضى
__________
(1) أسكفّة الباب: خشبته التي يوّطأ عليها. محيط المحيط (سكف).(2/411)
ذلك، فكتب إليه: [الكامل]
يا صاحب البلد المليح المشرق ... ما مثله في مغرب أو مشرق
منها:
وخفضت عيشي فيه فارفع منزلي ... حتى أرى الدنيا بطرف مطرق
وتجول في البلاد، ولقي من بها، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة، ومدحه بقصيدة حفظ له منها: [الطويل]
فيا يوسفيّ الحسن والصّفح والرّضا ... تصدّق على الدنيا بسلطانك العدل
ثم اتصل بوطنه.
وفاته: نقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور: وفي عام أربعين وسبعمائة، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوّف، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكشي الشهير بابن عمر. صدر في الطلبة والكتاب، شهير ذو تواضع وإيثار، وقبول حسن، رحمه الله.
محمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني (1)
من أهل تونس، يكنى أبا عبد الله.
حاله: هذا (2) الرجل الفاضل، صاحب رواء وأبّهة، نظيف البزّة، فاره المركب، صدوف عن الملّة، مقيم للرسم، مطفّف في مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى آماد التوغّل، سخيّ اللسان بالثناء ثرثاره، فكه مطبوع، حسن الخلق، عذب الفكاهة، مخصوص حيث حلّ من الملوك والأمراء بالأثرة، وممّن دونهم بالمداخلة والصّحبة، ينظم الشّعر، ويحاضر بالأبيات، ويتقدّم في باب التّحسين والتّقبيح، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة والأخذ عن أولي الرواية. قدم على الأندلس في إحدى جمادين، عام خمسين وسبعمائة، مفلتا من الوقيعة (3) بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية، بأيدي بني زيّان وأحلافهم،
__________
(1) ترجمة ابن راجح في نفح الطيب (ج 8ص 219).
(2) راجع نفح الطيب (ج 8ص 220219).
(3) هي الوقيعة التي دارت بين أبي الحسن المريني، صاحب المغرب، وبين بني زيان، أصحاب تلمسان، وقد هزم فيها أبو الحسن المذكور.(2/412)
فمهّد له سلطانها، رحمه الله، كنف برّه، وأواه إلى سعة رعيه، وتأكّدت بيني وبينه صحبة.
شعره: كتبت إليه لأول قدومه بما نصّه: أحذو حذو أبيات، ذكر أنّ شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها (1): [الطويل]
أمن جانب الغربيّ نفحة بارح ... سرت منه أرواح الجوى في الجوانح (2)
قدحت بها زند الغرام وإنما ... تجافيت في دين السّلوّ لقادح
وما هي إلا نسمة حاجريّة ... رمى الشوق منها كلّ قلب بقادح
رجحنا لها من غير شكّ كأنها ... شمائل أخلاق الشّريف ابن راجح
فتى هاشم سبقا إلى كلّ عليّة (3) ... وصبرا مغار الفتل (4) في كلّ فادح (5)
أصيل العلا، جمّ السيادة، ذكره ... طراز نضار في برود المدائح
وفرقان مجد يصدع الشّكّ نوره ... حبا الله منه كلّ صدر بشارح
وفارس ميدان البيان إذا انتضى ... صحائفه أنست مضاء الصّفائح
رقيق كما راقتك نغمة ساجع ... وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما احتبى مستحفزا (6) في بلاغة ... وخيض (7) خضمّ القول منه بسابح
وقد شرعت في مجمع الحفل نحوه ... أسنّة حرب للعيون اللّوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادح (8) ... ولا ذهبت منه بحكمة ناصح
تذكّرت قسّا قائما في عكاظه ... وقد غصّ بالشّمّ الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا ... خواتمها (9) موصولة بالفواتح
رعى الله ركبا أطلع الصبح مسفرا ... لمرآك من فوق الرّبى والأباطح (10)
ومنها:
أقول لقومي عندما حطّ كورها ... وساعدها السّعدان وسط المسارح (11)
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 221220).
(2) في النفح: «الجوارح».
(3) في النفح: «غاية».
(4) في الأصل: «معار الحبل» والتصويب من النفح.
(5) الفادح: الخطب الذي يثقل حمله. يقول امرؤ القيس من معلقته: [الطويل]
فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل
ديوان امرئ القيس (ص 19).
(6) في النفح: «مستحضرا».
(7) في النفح: «وخوض».
(8) في النفح: «صادع».
(9) في النفح: «خواتمه».
(10) في الأصل: «والبطائح».
(11) في النفح: «الأباطح».(2/413)
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ... بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيها (1) فمن لنا ... بطوع القوافي وانبعاث القرائح
بقيت منى نفس وتحفة رائد (2) ... ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى الرحب (3) والبرّ حيثما ... أرحت السّرى من كلّ غاد ورائح
فأجابني بما نصه (4): [الطويل]
أمن مطلع الأنوار لمحة لامح ... تعار لمفقود (5) عن الحيّ نازح؟
وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي ... غليل عليل للتواصل جانح؟
فيا فيض عين الدمع ما لك والحمى ... ورند الحمى والشّيح شيح المشايح (6)
مرابع آرامي ومورد ناقتي ... فسقيا لها سقيا لناقة صالح
سقى الله ذاك الحيّ ودقا (7) فإنه ... حمى لمحات العين عن لمح سامح (8)
وأبدى لنا حور الخيام تزفّ في ... حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح
ترى حيّ تلك الحور للحور مهيع (9) ... يدلّ، وهل حسم لداء التّبارح؟
ويا دوحة الريحان (10) هل لي عودة ... لعقر عقار (11) الأنس بين الأباطح؟
وهل أنت إلّا طلّة (12) حاتميّة ... تغصّ نواديها بغاد ورائح
أقام بها الفخر الخطيب (13) منابرا ... لترتيل آيات النّدى والمنائح
وشفّع بالإنجيل حمد مديحه ... وأوتر بالتّوراة شفع المدائح
وفرّق بالفرقان كلّ فريقة ... نأت عن رشاد فيه معنى (14) النصائح
وهل هو إلّا للبريّة مرشد ... لكلّ هدى هاد لأرجح راجح
فبشرى (15) لسان الدين ساد بك الورى ... وأورى الهدى للرّشد أوضح واضح
__________
(1) في النفح: «فيه».
(2) في النفح: «قادم».
(3) في النفح: «البرّ والرحب».
(4) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 223221).
(5) في النفح: «تعاد لمفؤود».
(6) في النفح: «الأشايح».
(7) الودق: المطر. لسان العرب (ودق).
(8) في النفح: «لامح».
(9) المهيع: الطريق الواضح. محيط المحيط (هيع).
(10) في الأصل: «الرّويحان» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «لعفر عفار».
(12) في النفح: «حلة».
(13) في الأصل: «ابن الخطيب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(14) في النفح: «محض».
(15) في الأصل: «فبشراك شمس الدين» والتصويب من النفح.(2/414)
متى قلت لم تترك مقالا لقائل ... فإن (1) لم تقل لم يغن حمد (2) لمادح
فمن حام بالحيّ الذي أنت أهله (3) ... وعام ببحر من عطائك (4) طافح
يحقّ له أن يشفع الحمد بالثّنا ... ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدوره ... وبشرى له قد راح أربح رابح
بآرائك التي تدلّ على الهدى ... وتبدي لمن خصصت سيل (5) المناجح
ملكت خصال السّبق في كل غاية ... وملّكت من (6) ملكت يا ابن الجحاجح (7)
مطامح آمال لأشرف همّة ... أقلّ مراميها أجلّ المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة ... أحببت بها عن مدح أشرف مادح
تهنّيك (8) بالعام الذي عمّ حمده (9) ... مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سميّ الفخر يا خير مسبل ... على الخلق إغضاء (10) ستور التسامح
ودم خاطب العليا لها خير خاطب ... وأتوق توّاق وأطمح طامح
وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرّسالة إلى المغرب، في محرم عام ستة وخمسين وسبعمائة، ونظم لي هذه الأبيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله: [الطويل]
قدومك ذا أبدى لذي الراية الحمرا ... ثغور الرّضى تعبر عن شنب البشرا
وأينع فجر الرّشد من فلق الهدى ... وكوّنه نهرا وفجّره فجرا
سرينا له كي يحمد السّير والسّرى ... ونرقب شمس الدين من فرعك الفجرا
ونصبح في أحياء للمنّ (11) نستلم ... مواطنكم شفعا وآثاركم وترا
ونخطب ما، يا ابن الخطيب، تشاء (12) من ... كرائم ذاك الحيّ إذ نهز الشّعرى
فقابلت بالإقبال والبرّ والرّضى ... وأقريت من يقرا وأقررت من قرّا
فأبناء قدس الحمد حضرة قدسنا ... وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا
__________
(1) في النفح: «وإن».
(2) في النفح: «مدح».
(3) في النفح: «ربّه».
(4) في النفح: «عطاياك».
(5) في النفح: «سبل».
(6) في النفح: «ما».
(7) الجحاجح: جمع جحجاح وهو السيد السمح الكريم. لسان العرب (جحجح).
(8) في الأصل: «يهنيك»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «مدحه».
(10) في الأصل: «أغضا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «في أحيان المنّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(12) في الأصل: «تشا» وكذا ينكسر الوزن.(2/415)
هنيّا لنا نلنا ونلنا ولم نزل ... ننال ولكن هذه المنّة الكبرا
رأينا وزير الملد والملك واللّوى ... وحزب اللّوى كلّ يشدّ به أزرا
سجدنا وكبّرنا وقلنا: رسولنا ... أتى بالذي يرضي بشرى لنا بشرى
ويهني الورى هذا الإياب فإنّ في ... نتائجه للدّهر ما يسهر الدّهرا
أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر ... وجلّى لنا من وجهك الشمس والبدرا
أما والذي أوليت من نعمة غدت ... تعلّمنا للمنعم الحمد والشكرا
لأنت لسان الدّين للدّين حجّة ... تؤيّده سرّا وتعضده جهرا
بقيت لنا كتفا منيعا مشرفا ... ودمت له عضدا ودمت له نصرا
ودمنا بكم في كلّ أمن ومنّة ... ندير المنى خمرا ونصلي (1) العدا جمرا
ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره:
[الطويل]
أما والعيون النّجل ترمق عن سحر ... وورد رياض الخدّ والكأس والخمر
وريحانه والرّاح والطّلّ والطّلى ... ونرجسه والزّهر والنّور والنّهر
ونور جبين الشمس في رونق الضّحى ... وهالة بدر التّمّ منتصف الشّهر
لقد قلّدت آراء يوسف ملكه ... قلائد نصر لن تبيد مع الدّهر
وقد أيّد (2) الإسلام منه بناصر ... نصير وخير النصر نصر بني نصر
هم القوم أنصار النبيّ محمد ... به (3) عصبة الأعلام في اليسر والعسر
وحسبك من قوم حموا سيّد الورى ... وقاموا بنصر الحقّ في السّرّ والجهر
سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم ... رحيق الأماني طيّب العرف والنّشر
فأصبح روض الرّشد يعبق طيبه ... ودوح الهدى بالزّهر أزهاره تزري
فيا سائلي عنه وعن سطواته ... إذا لاح محفوفا براياته الحمر
وجزّ (4) مع الإقدام جيشا عرمرما ... وشرّد بالتأييد شرذمة (5) الكفر
__________
(1) في الأصل: «أو نصلي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «أيده» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.
(3) في الأصل: «وحزبه وعصبة» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «وجز» وكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له.
(5) الشّرذمة: الجماعة القليلة من الناس. محيط المحيط (شرذم).(2/416)
لخلّيلة تنبيك عما وراءها ... ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز
فيا فوز من أدناه بالغنم والغنى ... ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر
يمينا بما اختارت يداك وأحرزت ... من الملك والتأييد والنّهي والأمر
لقد أصعدت مجدي مدائحك التي ... ومجدك والعليا مدحت بها شعري (1)
وحقّ لمثلي يشفع الحمد بالثّنا ... ويتلو معانيه مع الشّفع والوتر
فأجني ثمار الأنس من روضة المنى ... وأقطف زهر (2) الحمد من شجر الشكر
وأشرب ماء الفوز عذبا ختامه ... رحيق براح السّمح في أكؤس البشر
ولا برحت أمداحكم تعجز النهى ... وإلّا فكم تنجني من العسر لليسر
ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم ... وراياتكم ما دام نجم للسّرا يسري
وكتب إليّ في غرض يظهر منه نصّ المراجعة، وحسبنا الله (3): [الطويل]
أما والذي لي في حلاك من الحمد ... وما لك ملّاكي عليّ (4) من الرّفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض ... عن المسرف اللائي لفطرك يستجدي (5)
فإن زلّة منّي (6) بدت لك جهرة ... فصفحا فما والله إذ كنت عن عمد (7)
فراجعته بقولي (8): [الطويل]
أجلّك عن عتب يغضّ من الودّ ... وأكرم وجه العذر منك عن الرّدّ
ولكنني أهدي إليك نصيحتي ... وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حدّه ... تحوّلت الأغراض منه إلى الضّدّ
فأصبح منه الجدّ هزلا مذمّما ... وأصبح منه الهزل في معرض الجدّ
فما اسطعت (9) فيضا (10) للعنان فإنه ... أحقّ السجايا بالعلاء (11) والمجد
__________
(1) في الأصل: «شعر» بدون ياء.
(2) في الأصل: «زهير» وكذا ينكسر الوزن.
(3) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 219).
(4) في النفح: «لديّ».
(5) في الأصل: «يستجد» بدون ياء. وفي النفح: «الآتي لفضلك يستجدي».
(6) كلمة «مني» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.
(7) في النفح: «والله أذنبت عن قصد».
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 219).
(9) في الأصل: «استطعت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «قبضا».
(11) في الأصل: «بالعلا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/417)
توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعمائة، وقد ناهز السبعين سنة، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشّعر من نابي (1) مقصّه.
وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية.
محمد بن علي بن عمر العبدري (2)
من أهل تونس، شاطبي الأصل، يكنى أبا عبد الله، صاحبنا.
حاله: كان فاضلا من أبناء النّعم، وأخلاف العافية، ولّي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة، ثم عدا عليه الدهر، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق، فاتصل به سكناه وحجّ، وآب إلى هذه البلاد ظريف النّزعة، حلو الضّريبة، كثير الانطباع، يكتب ويشعر، ويكلف بالأدب، ثم انصرف إلى وطنه. وخاطبني إلى هذا العهد، يعرّفني بتقلّده خطة العلّامة، والحمد لله.
وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصّه (3): غذيّ نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق بإفريقية (4) إلّا من يخافه ويرجوه، وبلغ هو مدة ذلك الشرف، الغاية من التّرف. ثم قلب الدهر له ظهر المجنّ، واشتدّ به الخمار (5) عند فراغ الدّنّ، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة (6) وشدّة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطّانه، ونال من اللّذّات ما لم ينله في أوطانه واكتسب الشمائل العذاب، وكان كابن الجهم (7) بعث إلى الرّصافة ليرقّ فذاب، ثم حوّم على وطنه تحويم الطّائر، وألمّ بهذه المدينة (8) إلمام الخيال الزائر، فاغتنمت صفقة ودّه لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درّة تقتنى، وحديقة طيّبة الجنى.
شعره: أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببرّه (9): [الطويل]
لكلّ أناس مذهب وسجيّة ... ومذهب أولاد النظام المكارم
__________
(1) في نفح الطيب (ج 8ص 223): «ثاني».
(2) ترجمة محمد بن علي العبدري في الدرر الكامنة (ج 4ص 198) ونفح الطيب (ج 8ص 377).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 377).
(4) في النفح: «من إفريقية».
(5) الخمار، بضم الخاء: الألم في الرأس يصيب شارب الخمر. لسان العرب (خمر).
(6) مبيرة: مهلكة. لسان العرب (بير).
(7) هو علي بن الجهم، من شعراء المتوكل العباسي.
(8) في النفح: «البلاد».
(9) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 377).(2/418)
إذا كنت فيهم ثاويا كنت سيّدا ... وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم
أولئك صحبي، لا عدمت حياتهم ... ولا عدموا السّعد الذي هو دائم!
أغنّي بذكراهم وطيب حديثهم ... كما غرّدت فوق الغصون الحمائم
ومن شعره يتشوّق إلى تلك الديار، ويتعلل بالتذكار، قوله (1): [الوافر]
أحبّتنا بمصر لو رأيتم ... بكائي عند أطراف النهار
لكنتم تشفقون لفرط وجدي ... وما ألقاه من بعد المزار (2)
ومن شعره: [الطويل]
تغنّى حمام الأيك يوما بذكرهم ... فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنى
فقلت: حمام الأيك لا تبك جيرة ... نأوا (3) وانقضت أيام (4) وصلهم عنّا
فقال ولم يردد جوابا لسائل ... ألا ليتنا كنا جميعا بذا حقنا (5)
ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعمائة: [الطويل]
تقرّ ملوك الأرض أنّك مولاها ... وأنّ الدّنا وقف عليك قضاياها
ومنها:
طلعت بأفق الأرض شمسا منيرة ... أنار على كل البلاد محيّاها
حكيت لنا الفاروق (6) حتى كأننا ... مضينا (7) بعين لا نكذّب رؤياها
وسرت على آثاره خير سيرة ... قطعنا بأنّ الله ربّك يرضاها
إذا ذكرت سير الملوك بمحفل ... ونادى بها النّادي وحسّن دنياها
فجودك روّاها وملكك زانها ... وعدلك زانها (8) وذكرك حلّاها
وأنت لها كهف حصين ومعقل ... تلوذ بها أولى الأمور وأخراها
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 377).
(2) في النفح: «الديار».
(3) في الأصل: «ناءوا» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.
(4) كلمة «أيام» ساقطة في الأصل.
(5) في الأصل: «ألحقنا» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «للفاروق»، وكذا ينكسر الوزن. والفاروق هنا: هو لقب عمر بن الخطاب، سمّي بذلك لأنه فرّق بين الحق والباطل. محيط المحيط (فرق).
(7) كلمة «مضينا» ساقطة في الأصل.
(8) في الأصل: «زاها» وكذا لا معنى له، وفي الوقت نفسه يختلّ الوزن.(2/419)
ومنها بعد كثير:
ومنكم ذوو التّيجان والهمم التي ... أناف على أعلى السّماكين أدناها
إذا غاب منهم مالك قام مالك ... فجدّد (1) للبيت المقدّس علياها
بناها على التقوى وأسّس بيتها ... أبو يوسف الزّاكي وسيّر مبناها
وأورثها عثمن خير خليفة ... وأحلم من ساس الأنام وأنداها
وقام عليّ بعده خير مالك ... وخير إمام في الورى راقب الله
علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا ... مذيق الأعادي حيثما سار بلواها
أدام الله وأعطى الخلافة وقتها ... ونوّر أحلاك الخطوب وجلّاها
ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعمائة، جدّد عهدي من شعره بما نصّه: [الطويل]
رحلنا فشرّقنا وراحوا فغرّبوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون
فيا أدمعي منهلّة إثر بينهم ... كأنّ جفوني بالدموع عيون
فيا معهدا قد بنت عنه مكلّفا ... بديلي منه أنّة وحنين
سقتك غوادي المزن كرّ عشيّة ... ودادك محلول النطاق هتون
فإن تكن الأيام لم تقض بيننا ... بوصل فما يقضى فسوف يكون
يعزّ علينا أن نفارق ربعكم ... وأنّا على أيدي الخطوب نهون
ولو بلّغتني العير عنكم رسالة ... وساعد دهر باللّقاء ضنين
لكنّا على ما تعلمون من الهوى ... ولكن لأحداث الزمان فنون
__________
(1) في الأصل: «مجدّد» وكذا ينكسر الوزن.(2/420)
فهرس المحتويات
محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج بن يوسف بن نصر الخزرجي 3
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره 5
الأحداث في أيامه 9
الحادثة التي جرت عليه 11
ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكور 14
ظرف السلطان وحسن توقيعه 18
ومن ملوك النصارى 21
بعض مناقب الدولة لهذا العهد 24
الجهاد في شعبان من عام سبعة وستين وسبعمائة 43
الغزاة إلى حصن أشر 45
الغزاة المعملة إلى أطريرة 45
الغزاة إلى فتح جيّان 46
الغزاة إلى مدينة أبدة 46
مولده السعيد النّشيئة، الميمون الطلوع والجيئة 50
محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري 51
الملوك على عهده 54
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، المنصور بن أبي عامر 57
غزواته وظهوره على أعدائه 58
محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم، لخمي النسب 61
توقيعه ونثره في البديهة 66
محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش الجذامي 70(2/421)
ما نقم عليه ووصم به 71
بعض الأحداث في أيامه، ونبذ من أخباره 73
محمد بن يوسف بن هود الجذامي 74
بعض الأحداث في أيامه 75
محمد بن أحمد بن زيد بن أحمد بن زيد بن الحسن بن أيوب بن حامد بن زيد بن منخل الغافقي 77
حاله ونباهته ومحنته ووفاته 77
خبر في وفاته ومعرجه 78
محمد بن أحمد بن محمد الأشعري 79
محمد بن فتح بن علي الأنصاري 80
محمد بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن الزيات الكلاعي 80
محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحاج 81
محمد بن رضوان بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أرقم النّميري 82
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن سوار بن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير بن عيّاش 83
محمد بن عبد الله بن منظور القيسي 101
محمد بن علي بن الخضر بن هارون الغساني 103
محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن سعد الأشعري المالقي 106
محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد ابن ناصر بن حيّون بن القاسم بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 110
محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي 114
محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقري 116
من فصل الإقبال 125
محمد بن عياض بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي 144
محمد بن عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض اليحصبي 145
محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد بن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير الكناني 146
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين 152
محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي 159(2/422)
محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي 161
محمد بن محمد بن محمد بن قطبة الدّوسي 162
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي 162
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي 163
محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزيّ الكلبي 163
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن الحكيم اللخمي 172
محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي بن محمد اللّوشي
اليحصبي 174
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن الحكيم اللخمي 176
محمد بن محمد بن علي بن العابد الأنصاري 181
محمد بن مالك المرّي الطّغنري 182
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عبد الملك الأوسي 183
محمد بن علي بن عبد الله بن علي القيسي العرادي 184
محمد بن علي بن العابد الأنصاري 185
محمد بن هاني بن محمد بن سعدون الأزدي الإلبيري الغرناطي 186
محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن علي بن إبراهيم بن علي الغسّاني البرجي الغرناطي 190
محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف بن محمد الصّريحي 196
ومن السفر السابع المفتتح بقوله ومن الطّارئين منهم في هذا الباب 207
محمد بن أحمد بن محمد بن أبي خيثمة الجبّائي 207
محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الإستجّي الحميري 207
محمد بن أحمد بن علي الهوّاري 216
محمد بن أحمد بن الحدّاد الوادي آشي 220
محمد بن إبراهيم بن خيرة 223
محمد بن إبراهيم بن علي بن باق الأموي 224
محمد بن إبراهيم بن سالم بن فضيلة المعافري 226
محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم 228
شعره ودخوله غرناطة 229
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري 233
محمد بن محمد بن أحمد بن شلبطور الهاشمي 243
محمد بن محمد بن جعفر بن مشتمل الأسلمي 246
محمد بن محمد بن حزب الله 249
محمد بن إبراهيم بن عيسى بن داود الحميري 252(2/423)
محمد بن محمد بن عبد الله بن مقاتل 261
محمد بن أحمد بن أحمد بن صفوان القيسي 262
محمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد البلوي 262
محمد بن محمد بن الشّديد 267
محمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن مجاهد بن أبي الخصال الغافقي 269
محمد بن مفضل بن مهيب اللخمي 288
محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي 295
محمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي 299
محمد بن عبد الله بن الحاج البضيعة 308
محمد بن عبد الله بن فطيس 309
محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن محمد بن فتوح بن محمد بن أيوب بن محمد بن الحكيم اللخمي ذو الوزارتين 310
محمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي 332
محمد بن عبد الرحمن المتأهل 333
محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي 334
حظوته ودخوله غرناطة 334
محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عيّاش التّجيبي البرشاني 337
بعض أخباره مع المنصور ومحاورته الدّالة على جلالة قدره 339
محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الهمداني 341
محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري 345
محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزّهري 347
محمد بن غالب الرّصافي 356
محمد بن قاسم بن أبي بكر القرشي المالقي 366
محمد بن سليمان بن القصيرة 367
محمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني 370
«ومن الغرباء في هذا الحرف» محمد بن حسن العمراني الشريف 371
محمد بن محمد بن إبراهيم بن المرادي ابن العشاب 373
محمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي 375
محمد بن خميس بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن خميس الحجري حجر ذي رعين التّلمساني 376
محمد بن عمر بن علي بن إبراهيم المليكشي 405
محمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني 412
محمد بن علي بن عمر العبدري 418(2/424)
المجلد الثالث
تتمة قسم الثانى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي (1)
من أهل سبتة، أبو القاسم بن أبي زكريا بن أبي طالب.
حاله: من أهل الظّرف والبراعة، والطبع المعين، والذكاء، رئيس سبتة، وابن رؤسائها، وانتقل إلى غرناطة عند خلعه وانصرافه عن بلده. أقام بها تحت رعي حسن الرّواء، مألفا للظرفاء، واشتهر بها أدبه، ونظر في الطّبّ ودوّن فيه، وبرع في التّوشيح. ثم انتقل إلى العدوة، انتقال غبطة وأثرة، فاستعمل بها في خطط نبيهة، وكتب عن ملوكها، وهو الآن بالحالة الموصوفة.
وجرى ذكره في «الإكليل» بما نصّه (2): فرع تأوّد من الرئاسة في دوحة، وتردّد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرئاسة العزفيّة تعلّه وتنهله، والدّهر يسيّر أمله الأقصى ويسهّله، حتى اتّسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده، فألقت إليه رحالها وحطّت، ومتّعته بقربها بعدما شطّت. ثمّ كلح له الدهر بعد ما تبسّم، وعاد زعزعا (3) نسيمه الذي كان يتنسّم، وعاق هلاله عن تمّه، ما كان من تغلّب ابن عمّه، واستقرّ بهذه البلاد نائي (4) الدار بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكانة والمقدار، وجرت عليه جراية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالرّوض باكرته
__________
(1) ترجمة العزفي في الدرر الكامنة (ج 4ص 52) ونفح الطيب (ج 8ص 378) وأزهار الرياض (ج 2ص 378) وجاء في أزهار الأرض أنه ولد بسبتة عام 699هـ، وبويع بها بعد أبيه عام 719هـ، وخلع في سنة 720هـ، فكانت دولته ستة أشهر، وتوفي بفاس سنة 768هـ. وقد ذكرنا ذلك لأن ابن الخطيب لم يذكره هنا كعادته مع سائر التراجم.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 378).
(3) الزعزع: الريح الشديدة. لسان العرب (زعزع).
(4) في نفح الطيب: «نازح».(3/3)
الغمائم، والزّهر تفتّحت عنه الكمائم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقا نافقة.
وعلى تدفّق أنهاره، وكثرة نظمه واشتهاره، فلم أظفر منه إلّا باليسير التافه بعد انصرافه.
شعره: قال: [مجزوء الرجز]
أفديك يا ريح الصّبا ... عوجي على تلك الرّبى
واحد النّعامى سحرا ... ترسل غماما صبّا
على ربى غرناطة ... لكي تقضّي ما ربا
ثم ابلغي (1) يا ريح ... عن صبّ سلاما طيّبا
ومن منظومه أيضا في بعض القضاة الفاسيّين، وهو من البديع، وورّى فيه ببابين من أبواب المدينة: [المتقارب]
وليت بفاس أمور القضاء ... فأحدثت فيها أمورا شنيعه
فتحت لنفسك باب الفتوح ... وغلقت للناس باب الشّريعة
فبادر مولى الورى فارس ... بعزلك عنها قبيل الذّريعه
وقال: [الكامل]
دع عنك قول عواذل ووشاة ... وأدر كؤوسك يا أخا اللّذّات
واخلع عذارك لاهيا في شربها ... واقطع زمانك بين هاك وهات
خذها إليك بكفّ ساق أغيد ... لين المعاطف فاتر الحركات
قد قام من ألحاظه إنسانها ... مثبّتا في فترة اللحظات
يسقيكها حمراء يسطع نورها ... في الكأس كالمصباح في المشكات
رقّت وراقت في الزّجاجة منظرا ... لمّا عدت تجلي على الرّاحات
لا تمزجنها في الأبارق إنها ... تبدو محاسنها لدى الكاسات
عجبا لها كالشمس تغرب في فم ... لكن مطالعها من الوجنات
نلنا بها ما نشتهيه من المنى ... في جنّة تزهى على الجنّات
رفّت عليها كلّ طلّ سجسج ... من كلّ غضّ يانع الثمرات
ما بين خضر حدائق وخمائل ... وجداول تفضي إلى دوحات
سرى النسيم بها يصافح زهره ... فيهبّ وهو مورّج النفحات
__________
(1) في الأصل: «أبلغي» وكذا ينكسر الوزن.(3/4)
وشدا لنا فيها مغنّ شادن ... حاز المدى سبقا إلى الغايات
طربت له القضب اللّدان وبادرت ... رجعا له تختال في الحبرات
مرّت عليه ركّعا لكنها ... جعلت تحيّتها لدى الرّكعات
قصرت صلاة الخوف منه فقرّبت ... قربانها وحفته بالزّهرات
والعود مثناه يطابق زيّها ... فيها (1) ردانات على رنّات
إن جسّ مثلثه بان بغنّة (2) ... في اليمّ منه ثقيلة النّغمات
فكان ما غنّت عليه الورق من ... ألحانها ألقاه للقينات
عكفت على ألحانها تشدو لنا ... خلف السّتائر باختلاف لغات
فكأنها عجم تورات بالحجاب ... وردّدت سورا من التّورات
نطقت بأفصح نغمة في شدوها ... تتلو علينا هذه الآيات
ومما أنشده ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المتقارب]
إذا لم أطق نحو نجد وصولا ... بعثت الفؤاد إليها رسولا
وكم حلّ قلبي رهينا بها ... غداة نوى الرّكب فيها النزولا
محل بها في الحلال التي ... ضحى أصبح القوم فيها حلولا
وكم بتّ فيها غداة النّوى ... أسحّ من العين دمعا همولا
على شمس حسن سما ناظري ... إليها وعنّي توارت أفولا
وقفت بوادي الغضا ساعة ... لعلّي أندب فيها الطّلولا
وفي البان من أيكه ساجع ... يرجّع بالقضب منها الهديلا
بحقّ الهوى يا حمام الحمى ... ترفّق بقلبي المعنّى قليلا
فقد هجت تالله أشواقه ... بذكرك إلفا ثنى (3) أو خليلا
ألم تدر أن ادّكاري الهوى ... يذيب ويعنى الفؤاد العليلا؟
رعى الله تلك المطايا الّتي ... إلى الحجّ وخدا سرت أو ذميلا
ويا عجبا كيف خفّت بهم ... وحمّلت القلب حملا ثقيلا
وودّعني الصبر إذ ودّعوا ... فما أن وجدت إليه سبيلا
وآثرت، يا ويح نفسي، المقام ... وآثر أهل الوداد الرّحيلا
__________
(1) في الأصل: «في» وكذا ينكسر الوزن.
(2) الغنّة: صوت يخرج من الخيشوم. محيط المحيط (غنن).
(3) في الأصل: «ثانيا»، وكذا ينكسر الوزن.(3/5)
وجادوا رجاء (1) الرّضى بالنفوس ... وكنت بنفسي ضنينا بخيلا
ندمت على السّير إذ فاتني ... ولازمت حزني دهرا طويلا
وفاز المخفّون إذ يمّموا ... منازل آثارها لن تزولا
وحجّوا وزاروا نبيّ الهدى ... محمدا الهاشميّ الرسولا
وفازوا بإدراك ما أملوا ... ونالوا لديه الرّضى والقبولا
ولو كنت في عزمهم مثلهم ... إذا لانصرفت إليه عجولا
ولكنني أثقلتني الذنوب ... وما كنت للثّقل منها حمولا
ركبت مطيّة جهل الصّبا ... وكانت أوان التّصابي ذلولا
ومالت بي النّفس نحو الهوى ... وقد وجدتني غرّا جهولا
فطوبى لمن حلّ في طيبة ... وعرّس بالسّفح منها الحمولا
ونال المنى في منّى عندما ... نوى بالمنازل منها نزولا
وأصفى الضمائر نحو الصّفا ... يؤمّل للوصل فيه الوصولا
وجاء إلى البيت مستبشرا ... ليطهر بالأمن فيه دخولا
وطاف ولبّى بذاك الحمى ... ونال من الحجر قصدا وسولا
بلاد بها حلّ خير الورى ... فطوبى لمن نال فيها الحلولا
نبيّ كريم سما رفعة ... وقدرا جليلا ومجدا أصيلا
وكان لأمّته رحمة ... بفضل الشفاعة فيهم كفيلا
وكان رؤوفا رحيما لهم ... عطوفا شفيعا عليهم وصولا
له يفزعون إذا ما رأوا ... لدى الحشر خسفا وأمرا مهولا
وإن جاء في ذنبهم شافعا ... بدا الرّحب من ربّه والقبولا
له معجزات إذا عدّدت ... تفوت النّهى وتكلّ العقولا
ولن يبلغ القول معشارها ... وإن كان الوصف فيها مطيلا
وقسّ البيان وسحبانه (2) ... يرى ذهنه في مداها كليلا
تخيّره الله في خلقه ... فكان الخطير لديه المثيلا
__________
(1) في الأصل: «رجا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) قسّ: هو قسّ بن ساعدة بن عمرو الإيادي، أسقف نجران، وخطيب العرب وشاعرها، يضرب به المثل في البلاغة. وسحبان: رجل من بني باهلة يضرب به المثل في الخطابة والفصاحة، فيقال: أخطب من سحبان وائل.(3/6)
ولم ير في النّاس ندّا له ... ولا في الخلائق منه بديلا
وأبقى له الحكم في أرضه ... فكان الأمين عليها الوكيلا
وكلّ ظلام وظلم بها ... على الفور لمّا أتى قد أزيلا
وكانت كنار لظى فتنة ... فعادت من الأمن ظلّا ظليلا
وقد زان حسن الدّجى جيله ... إذا ذكر الدهر جيلا فجيلا
وأيّامه غرر قد بدت ... بوجه الدّنا والليالي حجولا
رسول كريم إذا جئته ... ويمّمت مغناه تلقى القبولا
بمولده في زمان الربيع ... ربيع أتانا يجرّ الذّيولا
فأهلا به الآن من زائر ... أتانا بفضل يفوق الفضولا
وقام الإمام به المرتضى ... فنال ثوابا وأجرا جزيلا
هو المستعين أبو سالم ... مليك ترفّع قدرا جليلا
وحاز من الصّيت ذكرا أثيرا ... ومن كرم الخيم مجدا أثيلا
سليل عليّ غمام النّدى ... ألا أيّد الله ذاك السّليلا
فتى أوسع النّاس من جوده ... عطاء (1) جزيلا وبرّا حفيلا
حلاه الوقار ولاقيه ... إذا ارتاح للجود يلفى عجولا
وقد شاع عنه جميل الثّناء (2) ... وعمّ البسيطة عرضا وطولا
وما منّ بالوعد إلّا وفى ... فلم يك بالوعد يوما مطولا
ولا في علاه مغال لمن ... يكثّر في الملك قالا وقيلا
تفرّد بالفضل في عصره ... وكان بعرف الأيادي كفيلا
أطاعت له حين وافى البلاد ... رضّى عندما حلّ فيها حلولا
وجاء (3) لطاعته أهلها ... سراعا يرومون فيها الدّخولا
فنبّه قدر الموالي بها ... وأكسف فيها المعادي خمولا
ومهّد بالأمن أفكارها ... وأمّن بالعدل فيها السبيلا
وكفّ أكفّ التعدّي بها ... فلا يظلم الناس فيها فتيلا
وعصر الكروب الذي قد مضى ... زمان المسرّات منه أديلا
__________
(1) في الأصل: «عطا».
(2) في الأصل: «الثنا».
(3) في الأصل: «وجا».(3/7)
أتانا إلى الغرب في شوكة ... بها عاد جمع الأعادي قليلا
وفوق رؤوس الطغاة انتضى ... حساما ليسمع فيها صليلا
وجرّد من عزمه مرهفا ... لحسم أمور المناوي صقيلا
وكل كفور معاد له ... سيأخذه الله أخذا وبيلا
أعزّ الخلائق لمّا ولي ... ونوّه من كان منهم ذليلا
وراعى لمن جاءه داخلا ... حماه من القاصدين الدّخيلا
فكان بأفعاله قصده ... إلى منهج الفضل قصدا جميلا
وصحّ انتعاش المعالي به ... وقد كان شخص المعالي عليلا
وشيّد مبنى العلا بالنّدى ... ووثّقه خشية أن يميلا
ينيل ويعطي جزيل العطاء (1) ... فما زال أخرى الليالي منيلا
ودام مدى الدّهر في رفعة ... تثير من الحاسدين الغليلا
ولا برح السعد في بابه ... يؤمّ به مربعا أو مقيلا
محمد المكودي (2)
من أهل فاس، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من «الإكليل» (3): شاعر لا يتعاطى (4) ميدانه، ومرعى بيان ورف عضاهه (5) وأينع سعدانه (6)، يدعو الكلام فيهطع (7) لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه، غير أنه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السّمكة من أوج السّماك (8). وقدم (9) على هذه البلاد مفلتا من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين واليسار من اليسار، ملئ هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بلاده.
__________
(1) في الأصل: «العطا».
(2) هو محمد بن محمد المكودي، ترجمته في نفح الطيب (ج 8ص 225، 378) وأزهار الرياض (ج 5ص 49) وجاء فيه أنه: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن المكودي.
(3) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 8ص 379378).
(4) في النفح: «لا يتقاصى».
(5) في الأصل: «عضله» والتصويب من النفح.
(6) السّعدان: نبت له شوك. لسان العرب (سعد).
(7) يهطع: يسرع. لسان العرب. (هطع).
(8) السمكة: برج في السماء. والسّماك: واحد السّماكين وهما كوكبان نيّران، يقال لأحدهما السّماك الرامح وللآخر السماك الأعزل، ومراده أنه هوى من الأوج إلى الحضيض. لسان العرب (سمك).
(9) في النفح: «قدم».(3/8)
ولمّا جدّ به البين، وحلّ هذه البلاد (1) بحال تقبحها العين، والسيف بهزّته، لا بحسن بزّته، دعوته (2) إلى مجلس أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلالته، وروض تفتّح كمامه، وهمى عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقّى نجومها البدور. فلمّا ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكّر هواه ويوم نواه حتّى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستقينا (3) منها غمامه، فأمتع وأحسب، ونظر ونسب، وتكلّم في المسائل، وحضر (4) بطرف الأبيات وعيون الرسائل، حتى نشر الصباح رايته، وأطلع النهار آيته.
ومما أنشدنا ونسب لنفسه (5): [الوافر]
غرامي فيك جلّ عن القياس ... وقد أسقيتنيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طرّا وناسي
ولا أدري لنفسي من كمال ... سوى أنّي لعهدك غير ناس
وقال في غرض معروف (6): [الطويل]
بعثت بخمر فيه ماء وإنّما ... بعثت بماء (7) فيه رائحة الخمر
فقلّ عليه الشكر إذ قلّ سكرنا ... فنحن بلا سكر وأنت بلا شكر
ومما خاطبني به (8): [البسيط]
رحماك بي فلقد خلّدت في خلدي ... هوى أكابد منه حرّة (9) الكبد
حللت عقد سلوّي في (10) فؤادي إذ ... حللت منه محلّ الروح في (11) جسدي
مرآك بدري وذكراك التذاذ فمي ... ودين حبّك إضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حلّ في خلدي
لا تحسبنّ فؤادي عنك مصطبرا (12) ... فقبل حبّك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أودى النّحول به ... فلو طلبت وجودا منه لم تجد
__________
(1) في النفح: «البلدة».
(2) في النفح: «دعوناه».
(3) في النفح: «واستسقينا».
(4) في النفح: «وحاضر».
(5) في النفح: «فممّا نسبه إلى نفسه وأنشدناه قوله».
(6) اكتفى في النفح بالقول: «وقال».
(7) في الأصل: «بما» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 226225).
(9) في النفح: «حرقة».
(10) في النفح: «عن».
(11) في النفح: «من».
(12) في الأصل: «مصطبر». والتصويب من النفح.(3/9)
بما بطرفك من غنج ومن حور ... وما بثغرك من درّ ومن برد
كن بين طرفي وقلبي منصفا فلقد ... حابيت (1) بعضهما فاعدل ولا تحد
فقال لي قد جعلت القلب لي وطنا ... وقد قضيت على الأجفان بالسّهد
وكيف تطلب عدلا والهوى حكم ... وحكمه قطّ لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثي إلى شجن ... وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كنت من قبل إذعاني لصولته (2) ... إخال أنّ الرّشا يسطو على الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ... فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علّتي منه فقال: ألا (3) ... سر للطبيب فما برء الضّنى بيدي
فقلت: إن شئت برئي أو شفا ألمي ... فبارتشاف لماك الكوثريّ جد
وإن بخلت فلي مولى يجود على ... ضعفي ويبرئ ما أضنيت من جسدي (4)
وخرج إلى المدح فأطال.
المقرئون والعلماء الأصليون منهم
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزيّ الكلبي
(5)
يكنى (6) أبا القاسم، من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا رحمة الله عليه.
أوليته: أصل (7) سلفه من ولبة (8) من حصون البراجلة، نزل بها أولهم عند
__________
(1) حابيت بعضهما: نصرته وملت إليه يقال: حابى القاضي في الحكم إذا مال منحرفا عن الحق.
لسان العرب (حبا).
(2) في النفح: «لسطوته».
(3) في الأصل: «فقال الأمر للطبيب فما» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «جسد» والتصويب من النفح.
(5) ترجمة ابن جزي في الكتيبة الكامنة (ص 46) وأزهار الرياض (ج 3ص 184) والديباج المذهب (ص 295) ونيل الابتهاج (ص 235) ونفح الطيب (ج 8ص 58).
(6) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 58) وأزهار الرياض (ج 3ص 185184).
(7) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 58) وأزهار الرياض (ج 3ص 185184).
(8) في الأصل: «ولمة» والتصويب من النفح وأزهار الرياض.(3/10)
الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دعوة (1)
المرابطين، وكانت لجدهم بجيّان رئاسة وانفراد بالتدبير.
حاله: كان (2)، رحمه الله، على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاقتصاد (3) على الاقتيات من حرّ النّشب (4)، والاشتغال بالنّظر والتّقييد والتّدوين، فقيها، حافظا، قائما على التدريس، مشاركا في فنون من العربية (5)، والفقه، والأصول، والقراءات، والحديث، والأدب، حفظة (6) للتفسير، مستوعبا للأقوال، جمّاعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن. تقدّم خطيبا بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنّه، فاتّفق على فضله، وجرى على سنن أصالته.
مشيخته: قرأ (7) على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير (8)، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. وروى عن أبي الحسن بن مستقور. وقرأ القرآن على الأستاذ المقرئ الرّاوية المكثر أبي عبد الله بن الكمّاد، ولازم الخطيب أبا عبد الله بن رشيد، وسمع على الشّيخ الوزير أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن المؤذن، وعلى الراوية المسن أبي الوليد الحضرمي. يروي عن سهل بن مالك وطبقته. وروى عن الشيخ الرّاوية أبي زكريا البرشاني، وعن الرّاوية الخطيب أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن علي الأنصاري، والقاضي أبي المجد بن أبي علي بن أبي الأحوص، والقاضي أبي عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير ابن أبي عامر بن ربيع (9)، والخطيب الولي أبي عبد الله الطّنجالي، والأستاذ النظّار المتفنّن أبي القاسم قاسم بن عبد الله بن الشّاط.
وألّف الكثير في فنون شتى.
تواليفه: منها (10) كتاب «وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم» وكتاب «الأنوار السّنية في الكلمات السّنّية» وكتاب «الدّعوات والأذكار، المخرجة من صحيح
__________
(1) في النفح: «دولة».
(2) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 58) وأزهار الرياض (ج 3ص 185).
(3) في النفح: «والاقتصار»، وفي أزهار الرياض: «على العلم والأقتيات من حرّ».
(4) النّشب: المال، وحرّ النشب: خالص المال. لسان العرب (نشب).
(5) في النفح: «من عربية، وفقه، وأصول، وقراءات».
(6) في أزهار الرياض: «حافظا».
(7) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 58) وأزهار الرياض (ج 3ص 185).
(8) في النفح: «أبي جعفر بن جعفر بن الزبير».
(9) ورد اسمه في النفح والأزهار: أبو عامر بن ربيع الأشعري.
(10) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 59) وأزهار الرياض (ج 3ص 185).(3/11)
الأخبار» وكتاب «القوانين الفقهية، في تلخيص مذهب المالكية» و «التنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبليّة» وكتاب «تقريب الوصول إلى علم الأصول» وكتاب «النّور المبين، في قواعد عقائد الدين» وكتاب «المختصر البارع، في قراءة نافع» وكتاب «أصول القرّاء الستة غير نافع»، وكتاب «الفوائد العامة، في لحن العامّة»، إلى غير ذلك مما قيّده في التفسير والقراءات وغير ذلك. وله فهرسة كبيرة اشتملت (1) على جملة من أهل المشرق والمغرب.
شعره: قال (2) في الأبيات الغينيّة ذاهبا مذهب الجماعة كأبي العلاء المعرّي، والرئيس أبي المظفر (3)، وأبي الطاهر السّلفي، وأبي الحجاج ابن الشيخ، وأبي الربيع بن سالم، وأبي علي بن أبي الأحوص، وغيرهم، كلهم نظم في ذلك (4):
[الطويل]
لكلّ بني الدنيا مراد ومقصد ... وإنّ مرادي صحّة وفراغ
لأبلغ في علم الشّريعة مبلغا ... يكون به لي للجنان بلاغ (5)
وفي (6) مثل هذا فلينافس أولو (7) النّهى ... وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ (8)
فما الفوز إلّا في نعيم مؤبّد ... به العيش رغد والشّراب يساغ
وقال في الجناب النّبوي (9): [الطويل]
أروم امتداح المصطفى ويردّني (10) ... قصوري عن إدراك تلك المناقب
ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر؟ ... ومن لي بإحصاء (11) الحصى والكواكب
ولو أنّ أعضائي غدت ألسنا إذا ... لما بلغت في المدح بعض مآربي (12)
__________
(1) في النفح: «اشتهرت».
(2) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 59) وأزهار الرياض (ج 3ص 186185).
(3) في النفح: «وابن المظفر». وفي الأزهار: «والرئيس ابن المظفر».
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 59) وأزهار الرياض (ج 3ص 186).
(5) الجنان، بالفتح: القلب. والبلاغ: الكفاية. لسان العرب (جنن) و (بلغ).
(6) في المصدرين: «ففي».
(7) في الأزهار: «ذوو».
(8) في المصدرين: «وحسبي من دار الغرور». والبلاغ: الإيصال والتبليغ. لسان العرب (بلغ).
(9) الأبيات في الديباج المذهب (ص 296) ونفح الطيب (ج 8ص 6059) وأزهار الرياض (ج 3ص 186) والكتيبة الكامنة (ص 48) وجاء فيه: «الجانب النبوي».
(10) في النفح: «فيردّني». وفي الكتيبة: «فيصدّني».
(11) في الأصل: «بإحصا»، والتصويب من المصادر.
(12) في أزهار الرياض: «غدت وهي ألسن لما بلغت في القول».(3/12)
ولو أنّ كلّ العالمين تألّفوا (1) ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتأدّبا ... وخوفا وإعظاما لأرفع جانب (2)
وربّ سكوت كان فيه بلاغة ... وربّ كلام فيه عتب لعاتب
وقال، رحمه الله، مشفقا من ذنبه (3): [البسيط]
يا ربّ إنّ ذنوبي اليوم قد كثرت (4) ... فما أطيق لها حصرا ولا عددا
وليس لي بعذاب النّار من قبل ... ولا أطيق لها صبرا ولا جلدا
فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنّني (5) حرّ الجحيم غدا
وقال في مذهب الفخر (6): [الوافر]
وكم من صفحة كالشمس تبدو ... فيسلي (7) حسنها قلب الحزين
غضضت الطّرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني (8)
وفاته: فقد (9) وهو يشحذ الناس ويحرّضهم، ويثبّت بصائرهم، يوم الكائنة بطريف (10)، ضحوة يوم الاثنين السابع (11) لجمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، تقبّل الله شهادته. وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة.
محمد بن أحمد بن فتّوح بن شقرال اللخمي
شرقي الأصل، من سكان غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطّرسوني.
__________
(1) في النفح: «تسابقوا إلى مدحه».
(2) في الكتيبة: «فأسكتّ عنه هيبة». وفي الأزهار: «فأقصرت عنه لأعظم جانب».
وفي النفح: «وعجزا» بدل «وخوفا».
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 4847) والديباج المذهب (ص 296) وأزهار الرياض (ج 3 ص 187) ونفح الطيب (ج 8ص 60).
(4) في الكتيبة: «قد عظمت».
(5) في الأصل: «ولا عذيقني»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(6) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 47) وأزهار الرياض (ج 3ص 186).
(7) في الكتيبة: «يسلّي».
(8) في الكتيبة: «عن نظر إليها على علمي وديني».
(9) قارن بأزهار الرياض (ج 3ص 187) ونفح الطيب (ج 8ص 61).
(10) يشير هنا إلى الموقعة الشهيرة التي كانت بين الإسبان وبني مرين في سنة 741هـ، والمسماة بموقعة طريف، وكان مع بني مرين قوات السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، صاحب غرناطة. وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص 105).
(11) في النفح: «تاسع جمادى الأولى».(3/13)
حاله: نقلت من خطّ شيخنا أبي البركات بن الحاج: أمتع الله به، كنّى نفسه أبا عبد الرحمن، ودعي بها وقتا، وكوتب بها. وكان له ابن سمّاه عبد الرحيم، فقلنا له: سمّه عبد الرحمن، ليعضّد لك الكنية التي اخترت، فأبى. كان هذا الرجل قيّما على النحو والقراءات واللغة، مجيدا في ذلك، محكما لما يأخذ فيه منه، وكانت لديه مشاركة في الأصلين والمنطق، طمح إليها بفضل نباهته وذكائه، وشعوره بمراتب العلوم، دون شيخ أرشده إلى ذلك. يجمع إلى ما ذكر خطّا بارعا، وظرفا وفكاهة، وسخا نفس، وجميل مشاركة لأصحابه بأقصى ما يستطيع. وكان صنّاع اليدين يرسم بالذّهب، ويسفّر، ويحكم عمل التّراكيب الطّبّية. وعلى الجملة، فالرجل من أجلّ نبلاء عصره، الذين قلّ أمثالهم.
مشيخته: أخذ القراءات عن الشيخ الأستاذ أبي الحسن ابن أبي العيش، وبه تفقّه ببلده ألمريّة. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والخطيب أبي جعفر بن الزيات، والراوية أبي الحسن بن مستقور، والولي أبي عبد الله الطّنجالي، وصهره الخطيب أبي تمام غالب بن حسن بن سيدبونه، والخطيب أبي الحسن القيجاطي، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد، وغيرهم.
شعره: من شعره قوله: [الطويل]
إذا قذفت بي حيثما شاءت النّوى ... ففي كل شعب لي إليك طريق
وإن أنا لم أبصر محيّاك باسما ... فإنسان عيني في الدموع غريق
فإن لم تصل كفّي بكفّك وافيا ... فأسمال أحبابي لدّي فتوق
محنته: أحظاه وزير الدّولة أبو عبد الله بن المحروق (1)، واختصّه، ورتّب له بالحمراء جراية، وقلّد نظره خزانة الكتب السلطانية. ثم فسد ما بينهما، فاتّهمه ببراءات كانت تطرح بمذامّه بمسجد البيّازين (2)، وترصد ما فيها، فزعم أنه هو الذي طرحها بمحراب المسجد، فقبض عليه واعتقل، ثمّ جلّاه إلى إفريقية.
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن محمد بن المحروق تولّى الوزارة لسلطان غرناطة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، عام 725هـ، ثم قتل بأمر السلطان المذكور عام 729هـ. اللمحة البدرية (ص 94).
(2) هو أحد مسجدي حيّ البيازين، أشهر أحياء مدينة غرناطة، حوّله الإسبان إلى كنيسة بعد سقوط غرناطة سنة 897هـ، وما يزال حتى اليوم بعض أسوار هذا المجسد قائمة مع جزء من صحنه.(3/14)
وفاته: ولمّا بلغته بإفريقية وفاة مخيفه، كرّ راجعا إلى الأندلس، فتوفي في طريقه ببونة (1)، من بلاد العنّاب أو بأحوازها في أواخر عام ثلاثين، أو أقرب من الأواخر وسبعمائة.
محمد بن جابر بن يحيى بن محمد بن ذي النّون التّغلبي
ويعرف بابن الرمّالية، من أهل غرناطة، ويعرف خلفه الآن، ببني مرزبّة، ولهم أصالة وقدم وجدة.
حاله: فقيه، نبيه، نبيل، ذكي، عنده معرفة بالفقه والأدب والعربية، حسن المشاركة والمحاضرة، حاضر الذهن، ذاكر لما قرأه.
مشيخته: روى عن الإمام أبي بكر بن العربي. قال أبو القاسم الملّاحي:
وحدّثني سنة أربع وستمائة، قال: حدّثني الإمام أبو بكر بن العربي، رضي الله عنه، قال: حدّثني محمد بن عبد الملك السّبتي، قال: خرجت مع أبي الفضل الجزيري مشيّعين لقافلة الحاجّ من بغداد، ومودّعين لها من الغد، وحين أصبحنا أثيرت الجمال، وفرض الناس الرّحال، ونحن بموضع يعرف بجبّ عميرة، إذا بفتى شاحب اللّون، حسن الوجه، يشيّع الرّواحل، راحلة بعد أخرى، حتى فنيت، ومشى الحاجّ، وهو يقول في أثناء تردّده ونظره إليها: [الطويل]
أحجّاج بيت الله، في أيّ هودج ... وفي أيّ بيت من بيوتكم حبّي؟
أأبقى رهين القلب في أرض غربة ... وحاديكم يحدو فؤادي مع الرّكب؟
فوا أسفا لم أقض منكم لبانتي ... ولم أتمتّع بالسلام وبالقرب
وفرّق بيني بالرّحيل وبينكم ... فها أنذا أقضي على إثركم نحبي
يقولون هذا آخر العهد منكم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي (2)
قال: فلمّا كمل الحاجّ المشي، وانقطع رجاؤه، وجعل يخطو هائما، وهو ينشد، ثمّ رمى بنفسه إلى الأرض وقال: [المديد]
خلّ دمع العين ينهمل ... بان من تهواه وارتحل
أيّ دمع صانه كلف ... فهو يوم البين ينهمل
__________
(1) بونة: مدينة قديمة من بلاد إفريقية، على ساحل البحر، مرساها من المراسي المشهورة، وتسمى بلد العنّاب لكثرة العناب فيها. الروض المعطار (ص 115).
(2) في الأصل: «قلب» بدون ياء.(3/15)
قال: ثم مال على الأرض، فبادرنا إليه فوجدناه ميّتا، فحفرنا له لحدا، وغسّلناه وكفّنّاه في رداء وصلّينا عليه، ودفنّاه.
وفاته: وفاة المترجم به سنة خمسين وستمائة.
محمد بن محمد بن محمد بن بيبش العبدري (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بيبش (2).
حاله: كان (3) خيّرا، منقبضا، عفّا، متصاونا، مشتغلا بما يعنيه، مضطلعا (4)
بالعربية، عاكفا عمره على تحقيق اللّغة، مشاركا في الطّب، متعيّشا من التّجارة في الكتب، أثرى منها، وحسنت حاله. وانتقل إلى سكنى سبتة، إلى أن حططت بها رسولا في عام اثنتين وخمسين وسبعمائة، فاستدعيته ونقلته إلى بلده، فقعد للإقراء به إلى أن توفي.
وجرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بما نصّه (5): معلّم مدرّب، مسهّل مقرّب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب لا يفارقها تسديد، خاصيّ المنازع مختصرها، مرتّب الأحوال مقرّرها، تميّز لأول وقته بالتّجارة في الكتب فسلّطت عليها (6) منه أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها شاكلة (7)، أترب بسببها وأثرى، وأغنى جهة وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى غرناطة (8) مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها (9)، ووقع عليه قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليه التمام. وله شعر لم يقصر فيه عن المدى، وأدب توشّح بالإجادة وارتدى.
مشيخته: قرأ على شيخ الجماعة ببلده أبي جعفر بن الزبير، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والوزير أبي محمد بن المؤذن المرادي، والأستاذ عبد الله بن الكمّاد، وسمع على الوزير المسنّ أبي محمد عبد المنعم بن سماك. وقرأ بسبتة على الأستاذ أبي إسحاق الغافقي.
__________
(1) ترجمة العبدري في الكتيبة الكامنة (ص 90) وبغية الوعاة (ص 100) والدرر الكامنة (ج 4ص 358) ونفح الطيب (ج 7ص 358) و (ج 8ص 379).
(2) في بغية الوعاة: «بليش». وفي الكتيبة: «بيش».
(3) النص في بغية الوعاة (ص 100) بتصرف.
(4) في البغية: «متضلعا».
(5) النص في نفح الطيب (ج 8ص 380379).
(6) في النفح: «منه عليها».
(7) في النفح: «الشاكلة».
(8) كلمة «غرناطة» غير واردة في النفح.
(9) الأحباس: الأوقاف. لسان العرب (حبس).(3/16)
شعره: أنشدني بدار الصّناعة السلطانية من سبتة تاسع جمادى الأولى من عام اثنين وخمسين المذكور، عند توجّهي في غرض الرسالة إلى السلطان ملك المغرب، قوله يجيب عن الأبيات المشهورة، التي أكثر فيها الناس وهي (1): [مخلع البسيط]
يا ساكنا قلبي المعنّى ... وليس فيه سواك ثان
لأيّ معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان؟
فقال (2): [مخلع البسيط]
نحلتني طائعا فؤادا ... فصار إذ حزته مكاني (3)
لا غرو إذ كان لي مضافا ... أنّي على الكسر فيه باني
وقال يخاطب أبا العباس عميد سبتة، أعزّه الله، وهي ممّا أنشدنيه فيه التاريخ المذكور، وقد أهدى إليه أقلاما (4): [الطويل]
أنا ملك الغرّ التي سيب جودها ... يفيض كفيض المزن بالصّيّب القطر
أتتني منها تحفة مثل حدّها (5) ... إذا انتضيت كانت كمرهفة السّمر
هي الصّفر لكن تعلم البيض أنها ... محكّمة فيها على النّفع والضّرّ
مهذّبة الأوصال ممشوقة كما ... تصاغ (6) سهام الرّمي من (7) خالص التّبر
فقبّلتها عشرا ومثّلت أنني ... ظفرت بلثم في أناملك العشر
وأنشدني في التاريخ المذكور في ترتيب حروف الصحاح قوله (8): [الطويل]
أساجعة بالواديين تبوّئي ... ثمارا جنتها حاليات خواضب
دعي ذكر روض زاره (9) سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء (10) عصائب
غرام فؤادي قاذف كلّ ليلة ... متى ما نأى وهنا هواه يراقب
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 359) ونفح الطيب (ج 8ص 380). وورد فقط صدر البيت الأول في الكتيبة الكامنة (ص 91).
(2) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 91) ونفح الطيب (ج 7ص 359) و (ج 8ص 380).
(3) في الأصل: «مكان»، والتصويب من المصدرين.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 91) ونفح الطيب (ج 8ص 380).
(5) في الأصل: «عدّها»، والتصويب من المصدرين.
(6) في النفح: «تصوغ».
(7) في الكتيبة: «أو».
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 92) ونفح الطيب (ج 7ص 358) و (ج 8ص 380).
(9) في المصدرين: «زانه».
(10) في الأصل: «طما» والتصويب من المصدرين.(3/17)
ومن مطولاته ما رفعه على يدي السلطان وهو قوله (1): [الوافر]
ديار خطّها مجد قديم ... وشاد بناءها شرف صميم
وحلّ جنابها الأعلى علاء (2) ... يقصّر عنه رضوى أو شميم
سقى نجدا بها وهضاب نجد ... عهاد ثرّة (3) وحيا عميم (4)
ولا عدمت رباه رباب مزن ... يغادي روضهنّ ويستديم
فيصبح زهرها يحكي شذاه ... فتيت المسك يذكيه النّسيم
وتنثره (5) الصّبا فتريك درّا ... نثيرا خانه عقد نظيم
وظلّت في ظلال الأيك تشدو ... مطوّقة لها صوت رخيم
ترجّع في الغصون فنون سجع ... بألحان لها يصبو الحليم
أهيم بملتقى الوادي بنجد ... وليس سواه في واد أهيم
وكنت صرفت عنه النفس كرها ... وما برحت على نجد تحوم
وما ينفكّ لي ولها نزاع ... إلى مغنى به ملك كريم
له بيت سما فوق الثّريّا ... وعزّ لا يخيم ولا يريم
تبوّأ من بني نصر علاها ... وأنصار النبيّ (6) له أروم
أفاض على الورى نيلا وعدلا (7) ... سواء فيه مثر أو عديم
ملاذ للملوك إذا ألمّت ... صروف الدهر أو خطب جسيم
تؤمّله فتأمن في ذراه ... وتدنو من علاه فيستقيم (8)
ويبدو في نديّ (9) الملك بدرا ... تحفّ به الملوك وهم نجوم
بوجه يوسفيّ الحسن طلق ... يضيء بنوره اللّيل البهيم
وتلقاه العفاة (10) له ابتسام ... ومنه للعدى أخذ أليم (11)
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 9392).
(2) في الأصل: «علا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(3) في الأصل: «عماد ثرّة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(4) في الأصل: «تميم» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «وتنشره».
(6) في الأصل: «للنبيّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(7) في الكتيبة: «عدلا ونيلا».
(8) في المصدر نفسه: «فتستنيم».
(9) في الأصل: «ندى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(10) في الأصل: «للعفاة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(11) في الأصل: «للييم» والتصويب من الكتيبة.(3/18)
فيا شرف الملوك لك انقطاعي ... وإنّي في محلّكم خديم
وآمالي أملت إليك (1) حتّى ... وردن على نداك وهنّ هيم
فلا ظمأ (2) ووردك خير ورد ... نمير ماؤه عذب جميم
ولا أضحى وفي مغناك ظلّ ... ظليل حين تحتدم السّموم
ركبت البحر نحوك والمطايا ... تسير لها ذميل أو رسيم
وإنّ علاك إن عطفت بلحظ ... عليّ فذلك العزّ المقيم (3)
فوا أسفي على عمر تقضّى ... بدار ليس لي فيها حميم
سوى ثمر للفؤاد ذهبت عنه ... وبين جوانحي منه كلوم
ودون لقائها عرض الفيافي ... ونجد (4) موجه طود عظيم
لعلّ الله ينعم باجتماع ... وينظم شملنا البرّ الرحيم
بقيت بغبطة وقرار عين ... بملك سعده أبدا يدوم
كما دامت حلى الأنصار تتلى ... يشيد بذكرها الذّكر الحكيم
عليك تحية عطر شذاها ... كعرف (5) الرّوض جادته الغيوم
مولده: بغرناطة في رجب (6) ثمانين وستمائة. وتوفي عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، ودفن بباب إلبيرة، وتبعه من الناس ثناء حسن، رحمه الله.
محمد بن محمد النّمري الضّرير
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرفه بنسبه.
حاله: من عائد الصلة: كان حافظا للقرآن، طيب النّغمة به، طرفا في ذلك، من أهل المشاركة في العلم، واعظا بليغا، أستاذا يقوم على العربية قيام تحقيق، ويستحضر الشّواهد من كتاب الله وخطب العرب وأشعارها، بعيد القرين في ذلك، آخذا في الأدب، حفظة للأناشيد والمطوّلات، بقيّة حسنة ممتعة.
__________
(1) في الأصل: «لمليك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(2) في الأصل: «فللظما ورودك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(3) في الكتيبة: «القديم».
(4) في الكتيبة: «وبحر».
(5) في الأصل: «تعرّف» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(6) في نفح الطيب (ج 8ص 381): «مولده في حدود ثمانين وستمائة».(3/19)
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخّار الأركشي (1)، وبه تأدّب، ولازمه كثيرا، فانتفع به.
شعره: ممّا صدّر به رسالة لزوجه وهو نازح عنها ببعض البلاد. فقال:
[الطويل]
سلام كرشف الطّل في مبسم الورد ... وسيل نسيم الريح بالقضب الملد
سلام كما ارتاح المشوق مبشّرا ... برؤية (2) من يهواه من دون ما وعد
سلام كما يرضي المحبّ حبيبه ... من الجدّ في الإخلاص والصّدق في الوعد
سلام وتكريم وبرّ ورحمة ... بقدر مزيد الشوق أو منتهى الودّ
على ظبية في الأنس مرتعها الحشا ... فتأوي إليه لا لشيح ولا رند
ومن أطلع البدر التّمام جبينها ... يرى تحت ليل من دجى الشّعر مسودّ
وثغر أقاح زانه سمط لؤلؤ ... يجبّ به المرجان في أحكم النّضد
يجول به سلسال راح معتّق ... حمته ظبا الألحاظ صونا عن الورد
فلله عينا من رأى بدر أسعد ... وروضة أزهار علت غصن القدّ
وبشرى لصبّ فاز منها بلمحة ... من القرب بشراه بمستكمل السّعد
وأضحى هواها كامنا بين أضلعي ... كمزن خفيّ النار في باطن الزّند
وراحت فراح الروح إثر رحيلها (3) ... وودّعت صبري حين ودّعها كبدي (4)
وصارت لي الأيّام تبدو لياليا ... وقد كان ليل الوصل صبحا بها يبدي (5)
فساعاتها كالدهر طولا وطالما ... حكى الدهر ساعات بها قصرا عندي
ومنها:
ترى قلبها هل هام مني بمثل ما ... بقلبي من الحبّ الملازم والوجد؟
وهل هي (6) ترعى ذمّتي ومودّتي ... كما أنا أرعاها على القرب والبعد؟
__________
(1) نسبة إلى أركش، وهي حصن بالأندلس على وادي لكة. الروض المعطار (ص 27).
(2) في الأصل: «برويا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «رحلها»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «كبد» بدون ياء.
(5) في الأصل: «يبد» بدون ياء.
(6) كلمة «هي» ساقطة في الأصل.(3/20)
إليك خطابي والحديث لغائب ... كنيت بلفظي عن مغيبك بالعمد
عليك سلامي إنني متشوّق ... للقياك لي أو من جوابك بالرّدّ
وفاته: توفي بغرناطة تحت جراية من أمرائها لاختصاصه بقراءة القرآن على قبورهم، في التاسع عشر من شعبان عام ستة وثلاثين وسبعمائة.
محمد بن عبد الولي الرّعيني
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالعوّاد.
حاله: من «عائد الصلة»: الشيخ المكتّب، الأستاذ الصالح، سابق الميدان، وعلم أعلام القرآن، في إتقان تجويده، والمعرفة بطرق روايته، والاضطلاع بفنونه، لا يشقّ غباره، ولا يتعاطى طلقه، ولا تأتي الأيّام بمثله، تستقصر بين يديه مدارك الأعلام، وتظهر سقطات الأئمة، مهتديا إلى مكان الحجج على المسائل، مصروف عنان الأشغال إليه، مستندا إلى نغمة رخيمة، وإتقان غير متكلّف، وحفظ غزير.
وطلب إلى التّصدّر للإقراء، فأبى لشدّة انقباضه، فنبّهت (1) بالباب السلطاني على وجوب نصبه للناس، فكان ذلك في شهر شعبان من عام وفاته، فانتفع به، وكان أدأب الناس على سنّة، وألزمهم لميقات ورد، يجعل جيرانه حركته إلى ذلك ليلا، ميقاتا لا يختلف ولا يكذب، في ترحيل الليل، شديد الطرب، مليح الترتيب، لا تمرّ به ساعة ضياعا إلّا وقد عمرها بشأن ديني أو دنياوي ضروري مما يسوّغه الورع.
يلازم المكتب ناصح التعليم، مسوّيا بين أبناء النّعم، وحلفاء الحاجة، شامخ الأنف على أهل الدّنيا، تغصّ السّكك عند ترنّمه بالقرآن، مساوقا لتلاوة التجويد، ومباشرا أيام الأخمسة والأثانين العمل في موئل كان له، على طريقة القدماء من الإخشيشان عند المهن ونقل آلة الخدمة، غير مفارق للظّرف والخصوصية. ويقرأ أيام الجمعات كتب الوعظ والرّقائق على أهله، فيصغي إليه الجيران عادة لا تختلف. وكان له لكل عمل ثوب، ولكل مهنة زيّ، ما رأيت أحسن ترتيبا منه. وهو أستاذي وجاري الألصق، لم أتعلّم الكتاب العزيز إلّا في مكتبه، رحمة الله عليه.
مشيخته: قرأ على بقيّة المقرئين الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولازمه وانتفع به، وعلى الأستاذ أبي جعفر الجزيري الضرير، وأخذ عن الخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد.
__________
(1) تاء الضمير هنا تعود إلى ابن الخطيب، مؤلف هذا الكتاب.(3/21)
مولده: في حدود عام ثمانين وستمائة.
وفاته: توفي رحمة الله عليه في (1) الموفي ثلاثين لذي قعدة من عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن علي بن أحمد الخولاني (2)
يكنى أبا عبد الله، أصله من مجلقر، ويعرف بابن الفخّار وبالبيري، شيخنا رحمه الله.
حاله: من «عائد الصلة»: أستاذ الجماعة، وعلم الصناعة، وسيبويه العصر، وآخر الطبقة من أهل هذا الفن. كان، رحمه الله، فاضلا، تقيّا، منقبضا، عاكفا على العلم، ملازما للتدريس، إمام الأئمّة من غير مدافع، مبرّزا أمام أعلام البصريّين من النّحاة، منتشر الذكر، بعيد الصّيت، عظيم الشهرة، مستبحر الحفظ، يتفجّر بالعربية تفجّر البحر، ويسترسل استرسال القطر، قد خالطت دمه ولحمه، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذّ عنه حجّة. جدّد بالأندلس ما كان قد درس من لسان العرب، من لدن وفاة أبي علي الشلوبين، مقيم السوق على عهده. وكانت له مشاركة في غير صناعة العربية من قراءات وفقه، وعروض، وتفسير. وتقدم خطيبا بالجامع الأعظم، وقعد للتدريس بالمدرسة النّصرية (3)، وقلّ في الأندلس من لم يأخذ عنه من الطّلبة. واستعمل في السّفارة إلى العدوة، مع مثله من الفقهاء، فكانت له حيث حلّ الشّهرة وعليه الازدحام والغاشية، وخرّج، ودرّب، وأقرأ، وأجاز، لا يأخذ على ذلك أجرا وخصوصا فيما دون البداية، إلّا الجراية المعروفة، مقتصدا في أحواله، وقورا، مفرط الطّول، نحيفا، سريع الخطو، قليل الالتفات والتعريج، متوسط الزّي، متبذلا في معالجة ما يتملّكه بخارج البلد، قليل الدّهاء والتّصنّع، غريب النّزعة، جامعا بين الحرص والقناعة.
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) ترجمة محمد بن علي الخولاني، المعروف بابن الفخار، في الكتيبة الكامنة (ص 70) ونفح الطيب (ج 7ص 330).
(3) هذه المدرسة أنشأها السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، ومكانها ما يزال معروفا إلى اليوم بغرناطة، ويقع قبالة الكنيسة العظمى التي أنشئت على موقع المسجد الجامع. اللمحة البدرية (ص 109).(3/22)
مشيخته: قرأ (1) بسبتة على الشيخ الإمام أبي إسحاق الغافقي، ولازمه كثيرا، وأخذ عنه، وأكثر عليه. وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمقرئ الشريف الفاضل أبي العبّاس الحسني، والشيخ الأستاذ النظّار أبي القاسم بن الشّاط، وأخذ عن الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي عبد الله بن القرطبي وغيرهم. وهو أستاذي، قرأت عليه القرآن، وكتابي الجمل والإيضاح، وحضرت عليه دولا من الكتاب، ولازمته مدة، وعاشرته، وتوجّه صحبتي في الرسالة إلى المغرب.
وفاته: توفي بغرناطة ليلة الاثنين الثاني عشر من رجب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، وكانت جنازته حافلة. وخمدت قرائح الآخذين عنه، ممن يدلي دلو أدب، فيأتي بماء أو حمأة، على كثرتهم، تقصيرا عن الحق، وقدحا في نسب الوفاء، إلّا ما كان من بعض من تأخّر أخذه عنه، وهو محمد بن عبد الله اللّوشي، فإنه قال: وعين هذه الأبيات قرارها (2): [الطويل]
ويوم نعى النّاعي شهاب المحامد ... تغيّرت الدنيا لمصرع (3) واحد
فلا عذر للعينين إن لم تسامحا (4) ... بدمع يحاكي الوبل يشفي لواجد
مضى من بني الفخّار أفضل ماجد ... جميل المساعي للعلا جدّ شاهد (5)
طواه الرّدى ما كلّ حيّ يهابه ... وما ورده عارا يشين لوارد
لقد غيّبت منه المكارم في الثّرى ... غداة ثوى (6) وانسدّ باب الفوائد
فيا حاملي أعواده، ما علمتم ... بسؤدده الجمّ الكريم المحاتد؟
ويا حفرة خطّت له اليوم مضجعا، ... سقتك الغوادي الصادقات (7) الرّواعد
ألا يا حمام الأيك ساعدن (8) بالبكا (9) ... على علم (10) الدّنيا وزين المشاهد
__________
(1) راجع نفح الطيب (ج 7ص 331330).
(2) ترجمة محمد بن عبد الله اللوشي في الكتيبة الكامنة (ص 211). والقصيدة الدالية في الكتيبة الكامنة (ص 213212).
(3) في الكتيبة الكامنة: «لمهلك».
(4) في الأصل: «تسايحا» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «شائد».
(6) في الأصل: «نوى» والتصويب من الكتيبة.
(7) في الكتيبة: «الغاديات».
(8) في الأصل: «ساعدني»، وكذا ينكسر الوزن والتصويب من الكتيبة.
(9) في الكتيبة: «في البكا».
(10) في الكتيبة: «عالم».(3/23)
على أن لو اسطعت الفداء فديته (1) ... بأنفس مال (2) من طريف وتالد
محمد، ما النّعمى (3) لموتك غضّة (4) ... تروق (5) ولا ماء الحياة ببارد
وكيف وباب العلم بعدك مغلق ... ومورده (6) المتروك بين الموارد
أأستاذنا كنت الرّجاء (7) لآمل ... فأصبحت مهجور الفناء (8) لقاصد
فلا تبعدن شيخ المعارف والحجا (9) ... أليس (10) الذي تحت التّراب بباعد؟
لتبك العلوم (11) بعدك اليوم (12) شجوها ... ويقفر (13) لها ربع العلا والمعاهد
ليبك عليك الجود والدين (14) والتّقى ... وحسب البكا أن صرت ملحود لاحد
أمولاي، من للمشكلات يبينها ... فيجلي (15) عمى كلّ القلوب الشّواهد
ومن ذا يحلّ المقفلات صعابها؟ ... ومن ذا الذي يهدي السبيل لحائد
فيا راحلا عنّا فزعنا لفقده ... لقد أونست منك القبور بوافد
ويا كوكبا غال النهار (16) ضياءه ... وشيكا، وهل هذا الزمان بخالد؟
سأبكيك ما لاحت بروق لشائم ... وأرعاك ما كان الغمام بعائد (17)
عليك سلام الله ما دامت (18) الصّبا ... تهبّ (19) بغصن في الأراكة مائد
قلت (20): العجب من الشيخ ابن الخطيب، كيف قال: وخمدت قرائح الآخدين عنه، وهو من أجلّ من أخذ عنه، حسبما قرره آنفا، بل أخصّ من ذلك المعاشرة
__________
(1) في الأصل: «على أني لو استطعت الفدا فديته» وكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة: «الفدا لفديته».
(2) في الأصل: «آل» والتصويب من الكتيبة.
(3) في الأصل: «للنعمى»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والتصويب من الكتيبة.
(4) في الكتيبة: «غبطة».
(5) في الأصل: «توقف» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(6) في الكتيبة: «وموردك».
(7) في الأصل: «الرجا»، وكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الكتيبة.
(8) في الأصل: «القنا»، وكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الكتيبة.
(9) في الكتيبة: «والحمى».
(10) في الأصل: «ليس» والتصويب من الكتيبة.
(11) في الكتيبة: «العيون».
(12) كلمة «اليوم» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة.
(13) في الكتيبة: «ويعف والمحامد».
(14) في الكتيبة: «والحلم».
(15) في الكتيبة: «فتجلو».
(16) في الكتيبة: «الزمان».
(17) في الأصل: «بعابد»، والتصويب من الكتيبة.
(18) في الكتيبة: «هبّت».
(19) كلمة «تهبّ» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة.
(20) الكلام من هنا حتى آخر الترجمة ليس لابن الخطيب، بل هو للناسخ.(3/24)
والسفارة للعدوة. وهو مع ذلك أقدرهم على هذا الشأن، وأسخاهم قريحة في هذا الميدان، وإن أتى غيره بماء أو حمأة، أتى هو بالبحر الذي لا ساحل له. ولعمري لو قام هو بما يجب من ذلك، لزال القدح في نسب وفاء الغير، فعين ما نسبه من التقصير عن الحق في ذلك، متوجّه عليه، ولا حقّ له، ولا يبعد عنده أن يكون وقع بينهما ما أوجب إعراضه مما يقع في الأزمان، ولا سيما من أهل هذ الشان، فيكون ذلك سببا في إعراض الغير مشيا في غرضه، ومساعدة له. والله أعلم بحقيقة ذلك كله.
محمد بن علي بن محمد البلنسي
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: طالب هشّ، حسن اللّقاء، عفيف النشأة، مكبّ على العلم، حريص على استفادته، مع زمانة أصابت يمنى يديه، نفعه الله. قيّد بأختها وانتسخ، قائم على العربية والبيان، ذاكر الكثير من المسائل، حافظ متقن، على نزعة عربية من التّجاذع في المشي وقلّة الالتفات إلّا بجملته، وجهوريّة الصوت، متحلّ بسذاجة، حسن الإلقاء والتقرير، متّ للمتغلّب على الدولة بضنّ أفاده جاها واستعمالا في خطّة السوق، ثمّ اصطناعا في الرسالة إلى ملك المغرب، جرّ عليه آخرا النّكبة، وقاد المحنة، فأرصد له السلطان أبو عبد الله في أخرياتها رجالا بعثهم في رندة، فأسروه في طريقه، وقدموا به سليبا قدوم الشّهرة والمثلة، موقنا بالقتل. ثم عطف عليه حنينا إلى حسن تلاوته في محبسه ليلا، فانتاشه لذلك من هفوة بعيدة ونكبة مبيرة. ولما عاد لملكه، أعاده للإقراء.
مشيخته: جلّ انتفاعه بشيخ الجماعة أبي عبد الله بن الفخّار، لازمه وانتفع به، وأعاد دول تدريسه، وقرأ على غيره. وألّف كتابا في تفسير القرآن، متعدّد الأسفار، واستدرك على السّهيلي في أعلام القرآن كتابا نبيلا، رفعه على يدي للسّلطان. وهو من فضلاء جنسه، أعانه الله وسدّده.
محمد بن سعد بن محمد بن لب بن حسن بن حسن ابن عبد الرحمن بن بقيّ (1)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جدّه.
__________
(1) ترجمة ابن بقي في الكتيبة الكامنة (ص 94) ونيل الابتهاج (ص 279) طبعة فاس.(3/25)
أوليته: كان القاضي العدل أبو عبد الله بن هشام، قاضي الجماعة بالأندلس، يجلّ سلفه، وبنسبه إلى بقيّ بن مخلد، قاضي الخلافة بقرطبة، وابن هشام ممّن يحتجّ به.
حاله: هذا الرّجل فاضل، حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، مبذول المشاركة، معروف الذكاء والعفّة، مبسوط الكنف مع الانقباض، فكه مع الحشمة، تسع الطوائف أكناف خلقه، ويعمّ المتضادّين رحب ذرعه، طالب محصل، حصيف العقل، حسن المشاركة في فنون من فقه، وقراءات، ونحو، وغير ذلك. تكلّم للناس بجامع الرّبض ثمّ بمسجد البكري المجاور للزاوية والتربة اللتين أقمتهما بأخشارش من داخل الحضرة، وحلّق به لتعليم العلم، فانثال عليه المتعلم والمستفيد والسامع، لإجادة بيانه، وحسن تفهيمه.
مشيخته: قرأ القرآن بجرف نافع، على أبيه، وعلى الشيخ الخطيب المكتّب أبي عبد الله بن طرفة، والخطيب أبي عبد الله بن عامور. وقرأ العربية على إمام الجماعة الأستاذ أبي عبد الله بن الفخّار، وجوّد عليه القرآن بالقراءات السبع، وقرأ على الأستاذ أبي سعيد بن لب.
شعره: أنشدني من ذلك قوله بعد الانصراف من مواراة جنازة (1): [الرمل]
كم أرى مدمن لهو ودعه ... لست أخلي ساعة من تبعه
كان لي عذر لدى عهد الصّبا ... وأنا آمل في العمر سعه
أو ما يوقظنا من كلّنا ... آنفا (2) لقبره قد شيّعه
سيّما إذ قد (3) بدا في مفرقي ... ما إخال الموت قد جاء معه
فدعوني ساعة أبكي على ... عمر أمسيت ممّن ضيّعه
ومن شعره في النوم، وهو كثيرا ما يطرقه: [الوافر]
أباد البين أجناد التّلاقي ... وحالت بيننا خيل الفراق
فجودوا وارحموا وارثوا ورقّوا ... على من جفنه سكب المآقي
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 95) ونيل الابتهاج (ص 279)، طبعة فاس.
(2) في الأصل: «أنفا» والتصويب من الكتيبة.
(3) في الأصل: «وقد بدا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.(3/26)
ومن ذلك ما أنشد في النّوم على لسان رجل من أصحابه: [مخلع البسيط]
يا صاحبيّ، قفا المطايا ... وأشفقا فالعبيد عبده
إذا انتهى وانقضى زمان ... هل يرسل الله من يردّه؟
مولده: في الثاني عشر لصفر من عام اثنين وعشرين وسبعمائة.
محمد بن سعيد بن علي بن يوسف الأنصاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطّرّاز.
حاله: من صلة ابن الزّبير: كان، رحمه الله، مقرئا جليلا، ومحدّثا حافلا، به ختم بالمغرب هذا الباب البتّة. وكان ضابطا متقنا، ومقيّدا حافلا، بارع الخطّ، حسن الوراقة، عارفا بالأسانيد والطّرق والرّجال وطبقاتهم، مقرئا، عارفا بالأسانيد والقراءات، ماهرا في صناعة التّجويد، مشاركا في علم العربية والفقه الأصول وغير ذلك، كاتبا نبيلا، مجموعا فاضلا متخلّقا، ثقة فيما روّى، عدلا ممن يرجع إليه فيما قيّد وضبط، لإتقانه وحذقه. كتب بخطه كثيرا، وترك أمّهات حديثيّة، اعتمدها الناس بعده، وعوّلوا عليها. وتجرّد آخر عمره، إلى كتاب «مشارق الأنوار» تأليف القاضي أبي الفضل عياض، وكان قد تركه في مبيّضة، في أنهى درجات النسخ والإدماج والإشكال وإهمال الحروف حتى اخترمت منفعتها، حتى استوفى ما نقل منه المؤلف، وجمع عليها أصولا حافلة وأمّهات جامعة من الأغربة وكتب اللّغة، فتخلّص الكتاب على أتمّ وجه وأحسنه، وكمل من غير أن يسقط منه حرف ولا كلمة. والكتاب في ذاته لم يؤلف مثله.
مشيخته: روى عن القاضي أبي القاسم بن سمحون، والقاضي ابن الطبّاع، وعن أبي جعفر بن شراحيل، وأبي عبد الله بن صاحب الأحكام والمتكلم، وأبي محمد بن عبد الصمد بن أبي رجا، وأبي القاسم الملّاحي، وأبي محمد الكوّاب وغيرهم، أخذ عن هؤلاء كلهم ببلده، وبقرطبة عن جماعة، وبمالقة كذلك، وبسبتة. وبإشبيلية عن أبي الحسن بن زرقون، وابن عبد النور. وبفاس وبمرسية عن جماعة.
قلت: هذه الترجمة في الأصل المختصر منه هذا طويله، واختصرتها لطولها.
وفاته: توفي بغرناطة ثالث شوال عام خمسة وأربعين وستمائة، وكانت جنازته من أحفل جنازة، إذ كان الله قد وضع له ودّا في قلوب المؤمنين.(3/27)
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان النّفزي
(1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا حيان، ويلقب من الألقاب المشرقية بأثير الدين.
حاله: كان (2) نسيج وحده في ثقوب الذهن، وصحّة الإدراك والحفظ (3)، والاضطلاع بعلم العربية، والتفسير وطريق الرواية، إمام النّحاة في زمانه غير مدافع، نشأ ببلده (4) غرناطة، مشارا إليه في التبريز بميدان الإدراك، وتغيير السوابق في مضمار التّحصيل. ونالته نبوة (5) لحق بسببها بالمشرق، واستقرّ بمصر، فنال ما شاء من عزّ وشهرة، وتأثّل وبرّ (6) وحظوة، وأضحى لمن حلّ بساحته من المغاربة ملجأ وعدّة.
وكان شديد البسط، مهيبا، جهوريا، مع الدّعابة والغزل، وطرح السّمت (7)، شاعرا مكثرا، مليح الحديث، لا يملّ وإن أطال، وأسنّ جدّا، وانتفع (8) به. قال بعض أصحابنا: دخلت عليه، وهو يتوضّأ، وقد استقرّ على إحدى رجليه لغسل الأخرى، كما تفعل البرك والإوزّ، فقال (9): لو كنت اليوم جار شلير (10)، ما تركني لهذا العمل في هذا السّن (11).
مشيخته: قرأ ببلده على الأستاذ حائز الرياسة أبي جعفر بن الزّبير ولازمه، وانتسب إليه، وانتفع به، وشاد له بالمشرق ذكرا كبيرا. ويقال إنه نادى في الناس عندما بلغه نعيه، وصلّى عليه بالقاهرة، وله إليه مخاطبات أدبية اختصرتها، وعلى الأستاذ الخطيب أبي جعفر علي بن محمد الرّعيني الطبّاع، والخطيب الصالح وليّ الله أبي الحسن فضل بن محمد بن علي بن إبراهيم بن فضيلة المعافري. وروى عن القاضي المحدّث أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص الفهري،
__________
(1) ترجمة أبي حيان محمد بن يوسف النفزي الغرناطي في الوافي بالوفيات (ج 5ص 267) والكتيبة الكامنة (ص 81) وبغية الوعاة (ص 121) والبدر السافر (ص 178) ونكت الهميان (ص 280) والدرر الكامنة (ج 5ص 70) وغاية النهاية (ج 2ص 285) وشذرات الذهب (ج 6ص 145) والنجوم الزاهرة (ج 10ص 111) ونفح الطيب (ج 3ص 280). والنفزي:
نسبة إلى نفزة قبيلة من البربر. بغية الوعاة (ص 121).
(2) النص في نفح الطيب (ج 3ص 325324).
(3) كلمة «والحفظ» غير واردة في النفح.
(4) في النفح: «في بلده».
(5) النّبوة: الجفوة. لسان العرب (نبا).
(6) في النفح: «وتأثّل، وافر وحظوة».
(7) في النفح: «التسمّت».
(8) في النفح: «فانتفع».
(9) في النفح: «فقال لي».
(10) هو جبل شلير المطلّ على غرناطة والذي تغطيه الثلوج على مدار السنة. وهناك دراسة مفصلة عنه في كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 4643) فلتنظر.
(11) لهنا ينتهي النص في نفح الطيب.(3/28)
والمكتّب أبي سهل اليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، والأستاذ أبي الحسن بن الصايغ، والأديب الكاتب أبي محمد عبد الله بن هارون الطائي بتونس، وعلى المسند صفي الدين أبي محمد عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر بن الفرات الحسني بالإسكندرية، والمسند الأصولي وجيه الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عمران الأنصاري بالثغر، والمحدّث نجيب الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيّد الهمداني بالقاهرة، وغيرهم ممن يشقّ إحصارهم، كالإمام بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر بن النّحاس الشافعي. قرأ عليه جميع كتاب سيبويه في سنة ثمان وثمانين وستمائة، وقال له عند ختمه: لم يقرأه على أحد غيره.
تواليفه: وتواليفه كثيرة، منها شرحه كتاب «تسهيل الفوائد لابن مالك». وهو بديع، وقد وقفت على بعضه بغرناطة في عام سبعة وخمسين وسبعمائة. وكتابه في تفسير الكتاب العزيز، وهو المسمّى ب «البحر المحيط» تسمية، زعموا، موافقة للغرض.
وألف كتابا في نحو اللّسان التّركي، حدّثنا (1) عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا، كالحاجّ أبي يزيد خالد بن عيسى، والمقري الخطيب أبي جعفر الشّقوري، والشّريف أبي عبد الله بن راجح، وشيخنا الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق. وقال (2): حدّثنا شيخنا أثير الدّين (3) في الجملة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزلة منها (4). قال (5): حدّثنا الأستاذ العلّامة المتفنن (6) أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزّبير، سماعا من لفظه، وكتبا (7) من خطّه بغرناطة، عن الكاتب أبي إسحاق بن عامر الهمداني الطّوسي بفتح الطاء، حدّثنا أبو عبد الله بن محمد العنسي القرطبي، وهو آخر من حدّث عنه، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجيّاني، أنبأنا (8) حكم بن محمد، أنبأنا (9) أبو بكر بن المهندس، أنبأنا (10)
عبد الله بن محمد، أنبأنا (11) طالوت بن عياد (12) بن بصّال بن جعفر، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: اكفلوا لي بستّ أكفل (13) لكم في
__________
(1) راجع نفح الطيب (ج 3ص 325).
(2) في النفح: «قال».
(3) في النفح: «شيخنا أبو حيان».
(4) كلمة «منها» ساقطة في النفح.
(5) كلمة «قال» ساقطة في النفح.
(6) قوله: «العلامة المتفنن» ساقط في النفح.
(7) في النفح: «وكتبه».
(8) في الأصل: «نا» والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «نا» والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «نا» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «نا» والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «عباد بن نصال».
(13) في الأصل: «لي بيت أهل لكم في الجنة» وهذا لا معنى له، وقد صوّبناه من النفح.(3/29)
الجنة (1)، إذا حدّث أحدكم بلا كذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف.
غضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم (2).
وقال: أنشدنا الخطيب أبو جعفر الطبّاع، قال: أنشدنا ابن خلفون، قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن سعيد، قال: أنشدنا أبو عمران موسى بن أبي تليد لنفسه:
[المنسرح]
حالي مع الدهر في تقلّبه ... كطائر ضمّ رجله الشّرك
فهمّه في خلاص مهجته ... يروم تخليصها فيشتبك
ومن ملحه: قال: قدم علينا الشيخ المحدث أبو العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الفرضي بالقاهرة في طلب الحديث، وكان رجلا حسنا طيّب الأخلاق، لطيف المزاج، فكنّا نسايره في طلب الحديث، فإذا رأى صورة حسنة قال: هذا حديث على شرط البخاري، فنظمت هذه الأبيات (3): [الطويل]
بدا كهلال العيد (4) وقت طلوعه ... وماس (5) كغصن الخيزران المنعّم
غزال رخيم الدّلّ وافى مواصلا ... موافقة منه على رغم لوّم
مليح غريب الحسن أصبح معلما ... بحمرة (6) خدّ بالمحاسن معلم
وقالوا: على شرط البخاريّ قد أتى ... فقلنا (7): على شرط البخاريّ ومسلم
فقال البخاري: فمن هو مسلم (8)؟ ... فقلت له: أنت البخاري ومسلم (9)
محنته: حملته (10) حدّة الشيبة على التّعريض (11) للأستاذ أبي جعفر الطّبّاع، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزّبير الوحشة فنال منه، وتصدّى للتأليف في الرّد عليه، وتكذيب روايته، فرفع أمره إلى (12) السلطان، فامتعض له، ونفّذ الأمر بتنكيله، فاختفى، ثم أجاز البحر مختفيا، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.
__________
(1) في النفح: «بالجنة».
(2) لهنا ينتهي النص في النفح.
(3) الأبيات، عدا البيت الأخير، في الكتيبة الكامنة (ص 82).
(4) في الكتيبة: «الأفق».
(5) في الكتيبة: «ومال».
(6) في الأصل: «بخمرة» بالخاء، والتصويب من الكتيبة.
(7) في الكتيبة: «فقلت».
(8) رواية صدر البيت في الأصل هكذا: فقال مولاي أنا البخاري فمن مسلم، وكذا ينكسر الوزن.
(9) في الأصل: «وأنا مسلم» وكذا ينكسر الوزن.
(10) النص في نفح الطيب (ج 3ص 325).
(11) في النفح: «التعرّض».
(12) في النفح: «للسلطان».(3/30)
شعره: وشعره كثير بحيث يتّصف بالإجادة وضدّها. فمن مطوّلاته، رحمه الله، قوله (1): [البسيط]
لا تعذلاه فما ذو الحبّ معذول ... العقل مختبل والقلب متبول
هزّت له أسمرا من خوط قامتها ... فما انثنى الصّبّ (2) إلّا وهو مقتول
جميلة فصّل الحسن البديع لها ... فكم لها جمل منه وتفصيل
فالنّحر مرمرة والنّشر عنبرة ... والثّغر جوهرة والرّيق معسول (3)
والطّرف ذو غنج والعرف ذو أرج ... والخصر مختطف، والعنق (4) مجدول
هيفاء ينبس (5) في الخصر الوشاح لها ... درماء (6) تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهنّ النّعيم فما ... يشقين، آباؤها الصّيد البهاليل (7)
نزر الكلام غميّات الجواب إذا ... يسلن بعد الصحا حصر مكاسيل
من حليها وسناها مونس وهدى ... فليس يلحقها ذعر وتضليل
حلّت بمنعقد الزّوراء زارة ... شوسا غيارى فعقد الصّبر محلول
فصدّ عن ذكر ليلى إنّ ذكراها (8) ... على التّنائي لتعذيب وتعليل
أتاك منك نذير فأنذرن به ... وبادر التّوب إنّ التّوب مقبول
وآمل العفو واسلك مهمها قدفا ... إلى رضى الله إنّ العفو مأمول
إن الجهاد وحجّ البيت مختتما ... بزورة المصطفى للعفو تأميل
فشقّ حيزوم هذا الليل ممتطيا ... أخا خرام به قد يبلغ السّول
أقبّ أعوج يعزى للوجيه له ... وجه أغرّ وفي الرجلين تحجيل
جفر حوافره، معر قوائمه ... ضمر أياطله، وللذيل عثكول (9)
__________
(1) الأبيات السبعة الأوائل في نفح الطيب (ج 3ص 326325).
(2) في الأصل: «للصّبّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «مرمره عنبره جوهره» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «والمتن».
(5) في النفح: «ينطق».
(6) في الأصل: «ردما» وكذا ينكسر الوزن، ولا معنى لها. والتصويب من النفح. والمرأة الدّرماء:
هي التي لا تستبين كعوبها ومرافقها من الشحم واللحم. محيط المحيط (درم).
(7) الصّيد، بكسر الصاد وسكون الياء: جمع أصيد وهو الرجل الذي يرفع رأسه كبرا. البهاليل:
جمع بهلول وهو السيّد الجامع لكل خير. محيط المحيط (صيد) و (بهلل).
(8) في الأصل: «ذكرها» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) العثكول: العذق أو الشّمراخ، وهو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم. محيط المحيط (عثكل).(3/31)
إذا توجّه أصغى وهو ملتفت ... مساعر (1) أعتقا فيهنّ تأليل
وإن تعارض به هوجاء (2) هاج له ... جري (3) يرى البرق عنه وهو مخذول
يحمي به (4) حوزة الإسلام ملتقيا ... كتائبا غصّ منها العرض والطّول
كتائبا قد عموا عن كل واضحة ... من الكتاب وغرّتهم أباطيل
في ماقط (5) ضرب الموت الزؤام (6) به ... سرادقا فعليهم منه تخييل
هيجاء (7) يشرف فيها المشرفيّ (8) على ... هام العدوّ ويصحى (9) النّقع تضليل
تدير كأس شعوب (10) في شعوبهم ... فكلّهم منهل بالموت معلول
وإذ (11) قضيت غزاة فالتفت عملا ... للحجّ فالحجّ للإسلام تكميل
واصل بسرّ معدّ (12) يا ابن أندلس ... والطّرف أدهم بالأشطان مغلول
يلاطم الريح منه أبيض نفق ... له من السحب المزبد إكليل
يعلو حضارين (13) منه شامخ جلل ... سام طفا وهو بالنّكباء محمول
كأنّما هو في طخياء (14) لجّته ... أيم (15) يعرو أديم السّيل شمليل
ما زالت الموج تعليه وتخفضه ... حتّى بدا من منار الثّغر قنديل
وكبّر الناس أعلاه الرنيم (16) ... وكلّهم طرفه بالشهد مكحول
وصافحوا البيد بعد اليمّ وابتدروا ... سبلا بها لجناب الله توصيل
__________
(1) مساعر البعير: أباطله. محيط المحيط (سعر).
(2) في الأصل: «هو جا» وكذا ينكسر الوزن. والهوجاء: الريح التي لا تستوي في هبوبها وتقلع البيوت، والجمع هوج.
(3) في الأصل: «جريء» بهمزة، وهو ما لا يتفق مع الوزن والمعنى.
(4) كلمة «به» ساقطة في الأصل.
(5) في الأصل: «رماقط»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والماقط: أضيق المواضع في الحرب. محيط المحيط (مقط).
(6) الموت الزؤام: الموت الكريه أو السريع. محيط المحيط (زأم).
(7) في الأصل: «هيجا» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) أي السيف المشرفي، نسبة إلى مشارف اليمن، لسان العرب (شرف).
(9) في الأصل: «ويصحب»، وكذا ينكسر الوزن.
(10) شعوب: اسم للمنيّة غير منصرف للعلمية والتأنيث. محيط المحيط (شعب).
(11) في الأصل: «وإذا» وكذا ينكسر الوزن.
(12) كلمة «معد» ساقطة في الأصل.
(13) في الأصل: «حضارة» وكذا ينكسر الوزن ولا معنى له.
(14) في الأصل: «طحيّا» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(15) الأيم: الحيّة وذكر الأفعى. محيط المحيط (أيم).
(16) صدر البيت مختل الوزن والمعنى.(3/32)
على نجائب تتلوه أجنابها (1) ... خيل بها الخير معقود ومعقول
في موكب تزحف الأرض الفضاء به ... أضحت وموحشها بالناس مأمول
يطارد الوحش منه فيلق لجب ... حتى لقد ذعرت في بيدها الغول
سيوفهم طرب نحو الحجاز فهم ... ذوو ارتياح على أكوارها ميل
شعث رؤوسهم، يبس شفاههم ... خوص عيونهم، غرب مهازيل
حتى إذا لاح من بيت الإله لهم ... نور إذا هم على الغبرا أراحيل
يعفّرون وجوها طالما سمّت ... باكين حتى أديم الأرض مبلول
حفّوا بكعبة مولاهم فكعبهم ... عال بها لهم طوف وتقبيل
وبالصّفا وقتهم صاف بسعيهم ... وفي منى لمناهم كان تنويل
تعرّفوا عرفات واقفين بها ... لهم إلى الله تكبير وتهليل
لمّا قضينا من الغرّاء منكسنا ... ثرنا وكلّ بنار الشوق مشمول
شدنا إلى الشّدقميات التي سكنت ... أبدانهنّ وأفناهنّ تنقيل
إلى الرسول تزجّى كلّ تعلمة ... أجلّ من نجوة تزجي المراسيل
من أنزلت فيه آيات مطهّرة ... وأورثت فيه توراة (2) وإنجيل
وعطّرت من شذاه كلّ ناحية ... كأنّما المسك في الأرجاء محلول
سرّ من العالم العلويّ ضمّنه ... جسم من الجوهر الأرضي محمول
نور تمثّل في أبصارنا بشرا ... على الملائك من سيماه تمثيل
لقد تسامى وجبريل مصاميه ... إلى مقام رخيّ (3) فيه جبريل
أوحى إليه الذي أوحاه من كثب ... فالقلب واع بسرّ الله مشغول
يتلو كتابا من الرحمن جاء به ... مطهّرا طاهر منه وتأويل
جار على منهج الأعراب أعجزهم ... باق مع الدّهر لا يأتيه تبديل
بلاغة عندها كعّ البليغ فلم ... ينطق وفي هديه صاحت أضاليل
ومنها:
وطولبوا أن يجيبوا حين رابهم ... بسورة مثله فاستعجز القيل
__________
(1) صدر البيت مختل الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «تورته» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «راخى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والرّخيّ: الواسع.(3/33)
لا ذوا بذوبان خطّيّ (1) وبتر ظبى ... يوم الوغى واعتراهم منه تنكيل
فمونف في جبال الوهد منحدر ... وموثق في حبال الغد مكبول
ما زال بالعضب هتّاكا سوابغهم ... حتى انثنى العصب منهم وهو مفلول
وقد تحطّم في نحر العدا قصد ... صمّ الوشيج (2) وخانتها العواميل
من لا يعدّله القران كان له ... من الصّفاد وبيض البتر تعديل
وكم له معجزا غير القران (3) أتى ... فيه من الحقّ منقول ومعقول
فللرسول انشقاق البدر نشهده ... كما لموسى انفلاق البحر منقول
ونبع ماء فرات من أنامله ... كالعين ثرّت فجا الهتّان ما (4) النيل
روّوا الخميس وهم زهاء سبع مي ... مع الرّكاب فمشروب ومحمول
وميّ عين بكفّ جاء يحملها ... قتادة وله شكوى وتعويل
فكان (5) أحسن عينيه ولا عجب ... مسّت أناميل فيها اليمن مجعول
والجذع حنّ إليه حين فارقه ... حنين ولهى لها للرّوم مثكول
وأشبع الكثر من قلّ الطعام ولم ... يكن ليعوزه بالكثر تقليل
وفي جراب ولا (6) هنّ عجائب كم ... يمتار منه فمبذول ومأكول
وفي ارتواء إلى ذرء (7) بزمزم ما ... يكفي تبدّن منه وهو مهزول
والعنكبوت بباب الغار قد نسجت ... حتى كأنّ رداء منه مسدول
وفرّخت في حماه الورق ساجعة ... تبكي وما دمعها في الخدّ مطلول
هذا وكم معجزات للرسول أتت ... لها من الله أمداد وتأصيل
غدت من الكثر أعداد النجوم فما ... يحصي لها عددا كتب ولا قيل
قد انقضت معجزات الرّسل منذ قضوا ... نحبا وأعجم منها ذلك الجيل
ومعجزات رسول الله باقية ... محفوظة ما لها في الدّهر تحويل
__________
(1) الخطّيّ: الرمح نسبة إلى الخطّ، والخطّ: مرفأ السفن بالبحرين. لسان العرب (خطط).
(2) في الأصل: «أصمّ الوشج» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والوشيج: شجر الرماح. لسان العرب (وشج).
(3) في الأصل: «القرآن» وكذا ينكسر الوزن، لذا خففنا همزة المد.
(4) في الأصل: «ماء» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «فكانت» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «لي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(7) في الأصل: «لي ذرّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/34)
تكفّل الله هذا الذّكر يحفظه ... وهل يضيع الذي بالله مكفول؟
هذي المفاخر لا يحظى الملوك بها ... للملك (1) منقطع والوحي موصول
ومن مطولاته في غرض يظهر منها: [الطويل]
هو العلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
وما فضّل الإنسان إلّا بعلمه ... وما امتاز إلّا ثاقب الذّهن واقده
وقد قصرت أعمارنا وعلومنا ... يطول علينا حصرها ونكابده
وفي كلّها خير ولكنّ أصلها ... هو النّحو فاحذر من جهول يعانده
به يعرف القرآن والسّنّة التي ... هما أصل دين الله ذو أنت عابده
وناهيك من علم عليّ مشيد ... مبانيه أعزز بالذي هو شائده
لقد حاز في الدنيا فخارا وسؤددا ... أبو الأسود الديلي (2) فللجرّ سانده
هو استنبط العلم الذي جلّ قدره ... وطار به للعرب ذكر نعاوده
وساد عطا نجله وابن هرمز ... ويحيى ونصر ثم ميمون ماهده
وعنبسة قد كان أبرع صحبه ... فقد قلّدت جيد المعالي قلائده
وما زال هذا العلم تنميه سادة ... جهابذة تبلى به وتعاضده
إلى أن أتى الدّهر العقيم بواحد ... من الأزد تنميه إليه فرائده
إمام الورى ذاك الخليل بن أحمد ... أقرّ له بالسبق في العلم حاسده
وبالبصرة الغرّاء (3) قد لاح فجره ... فنارت أدانيه وضاءت أباعده
ذكيّ (4) الورى ذهنا وأصدق لهجة ... إذا ظنّ أمرا قلت ما هو شاهده
وما أن يروّي بل جميع علومه ... بدائه (5) أعيت كلّ حبر تجالده
هو الواضع الثاني الذي فاق أولا ... ولا ثالث في الناس تصمى قواصده
فقد كان ربّانيّ أهل زمانه ... صويم قويم (6) راكع الليل ساجده
يقيّم منه دهره في مثوبة ... وثوقا بأنّ الله حقّا مواعده
__________
(1) في الأصل: «الملك»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) هو أبو الأسود الدؤلي، واضع علم النحو.
(3) في الأصل: «الغرا»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «يا ذكيّ»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا حرف النداء «يا».
(5) في الأصل: «بداية»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(6) في الأصل: «صوّم قوّم»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/35)
فعام إلى حجّ وعام لغزوة ... فيعرفه البيت العتيق ووافده
ولم يثنه يوما عن العلم والتّقى ... كواعب حسن تنثني ونواهده
وأكثر سكناه بقفر بحيث لا ... تناغيه إلّا عفره وأوابده
وما قوته إلّا شعير يسيغه ... بماء قراح ليس تغشى موارده
عزوبا عن الدنيا وعن زهراتها ... وشوقا إلى المولى وما هو واعده
ولمّا رأى من سيبويه نجابة ... وأيقن أنّ الحين أدناه باعده
تخيّره إذ كان وارث علمه ... ولاطفه حتّى كأن هو والده
وعلّمه شيئا فشيئا علومه ... إلى أن بدت سيماه واشتدّ ساعده
فإذ ذاك وافاه من الله وعده ... وراح وحيد العصر إذ جاء واحده
أتى سيبويه ناشرا لعلومه ... فلولاه أضحى النحو (1) عطلا شواهده
وأبدى كتابا كان فخرا وجوده ... لقحطان إذ كعب بن عمرو محاتده
وجمّع فيه ما تفرّق في الورى ... فطارفه يعزى إليه وتالده
بعمرو بن عثمان بن قنبر الرّضا ... أطاعت عواصيه وتابت شوارده
عليك قران (2) النحو نحو ابن قنبر ... فآياته مشهودة وشواهده
كتاب أبي بشر (3) فلا تك قارئا ... سواه فكلّ ذاهب الحسن فاقده
هم خلج بالعلم مدّت فعندما ... تناءت غدت تزهى وليست تشاهده
ولا تعد عمّا حازه إنه الفرا ... وفي جوفه كلّ الذي أنت صائده (4)
إذا كنت يوما محكما في كتابه ... فإنّك فينا نابه القدر ماجده
ولست تبالي إن فككت رموزه ... أعضّك دهر أم عرتك ثرائده
هو العضب إن تلق الهياج شهرته ... وإن لا تصب حربا فإنّك غامده
تلقّاه كلّ بالقبول وبالرّضى ... فذو الفهم من تبدو إليه مقاصده
ولم يعترض فيه سوى ابن طراوة ... وكان طريّا لم تقادم معاهده
وجسّره طعن المبرّد قبله ... وإنّ الثّمالي بارد الذّهن خامده
__________
(1) في الأصل: «للنحو عطلا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «قرآن»، وكذا ينكسر الوزن، لذا خففنا همزة المد.
(3) أبو بشر: هو نفسه سيبويه.
(4) يشير هنا إلى المثل: «كل الصيد في جوف الفرا» يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا:
أصلها: الفراء وهو الحمار الوحشي. مجمع الأمثال (ج 2ص 136).(3/36)
هما ما هما صارا مدى الدهر ضحكة ... يزيّف ما قالا وتبدو مفاسده
تكون صحيح العقل حتى إذا ترى ... تباري أبا بشر، إذا أنت فاسده
يقول امرؤ قد خامر الكبر رأسه ... وقد ظنّ أنّ النحو سهل مقاصده
ولم يشتغل إلّا بنزر مسائل ... من الفقه في (1) أوراقه هو راصده
وقد نال بين الناس جاها ورتبة ... وألهاك عن نيل المعالي ولابده
وما ذاق للآداب طعما ولم يبت ... يعنّى بمنظوم ونثر يجاوده
فينكح أبكار المعاني ويبتغي ... لها الكفو من لفظ بها هو عاقده
رأى سيبويه فيه بعض نكادة ... وعجمة لفظ لا تحلّ معاقده
فقلت: أما أتى (2) ما أنت أهل لفهمه ... وما أنت إلّا غائض الفكر راكده
لعمرك ما ذو لحية وتسمّت ... وإطراق رأس والجهات تساعده
فيمشي على الأرض الهوينا كأنما ... إلى الملإ الأعلى تناهت مراصده
وإيهامك الجهّال أنّك عالم ... وأنّك فرد في الوجود وزاهده
بأجلب للنّحو الذي أنت هاجر ... من الدّرس بالليل الذي أنت هاجده
أصاح، تجنّب من غويّ مخذّل ... وخذ في طريق النّحو أنّك راشده
لك الخير فادأب ساهرا في علومه ... فلم تشم إلّا ساهر الطّرف ساهده
ولا ترج في الدنيا ثوابا فإنما ... لدى الله حقا أنت لا شكّ واجده
ذوو النحو في الدنيا قليل حظوظهم ... وذو الجهل فيها وافر الحظّ زائده
لهم أسوة فيها على لاغد (3) مضى ... ولم يلق في الدنيا صديقا يساعده
مضى بعده عنها الخليل فلم ينل ... كفافا ولم يعدم حسودا يناكده
ولاقى أبا بشر خليل (4) سفيهها ... غداة تمالت في ضلال يمادده
أتى نحو هارون (5) يناظر شيخه ... فنفحته (6) حتّى تبدّت مناكده
فأطرق شيئا ثم أبدى جوابه ... بحقّ ولكن أنكر الحقّ جاحده
وكاد علي عمرا إذا صار حاكما ... وقدما عليّ كان عمرو يكايده
سقاه بكأس لم يفق من خمارها ... وأورده الأمر الذي هو وارده
__________
(1) في الأصل: «وفي» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «أتيت» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «لغد» وكذا لا يستقيم الوزن.
(4) كلمة «خليل» ساقطة في الأصل. وأبو بشر: هو سيبويه. وخليل: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي.
(5) هو اليهودي النحوي هارون بن موسى.
(6) في الأصل: «فنفحة»، وكذا ينكسر الوزن.(3/37)
ولابن زياد شركة في مراده ... ولابن رشيد شرك (1) القلب رائده
هما جرّعا إلى عليّ وقنبر ... أفاويق سمّ لم تنجّد أساوده
أبكي على عمرو ولا عمر مثله ... إذا مشكل أعيا وأعور ناقده
قضى نحبه شرخ الشّبيبة لم يرع ... بشيب ولم تعلق بذامّ معاقده
لقد كان للناس اعتناء بعلمه ... بشرق وغرب تستنار فوائده
والآن فلا شخص على الأرض قارىء ... كتاب أبي بشر ولا هو رائده
سوى معشر بالغرب فيهم تلفّت ... إليه وشوق ليس يخبو مواقده
وما زال منّا أهل أندلس له ... جهابذ تبدي فضله وتناجده
وإنّي في مصر على ضعف ناصري ... لناصره ما دمت حيّا وعاضده
أثار أثير الغرب للنّحو كامنا ... وعالجه حتّى تبدّت قواعده
وأحيا أبو حيّان ميت علومه ... فأصبح علم النحو ينفق كاسده
إذا مغربي حطّ بالثّغر رحله ... تيقّن أنّ النحو أخفاه لاحده
منينا بقوم صدّروا في مجالس ... لإقراء علم ضلّ عنهم مراشده
لقد أخّر التصدير عن مستحقّه ... وقدّم غمر خامد الذهن جامده
وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم ... جزاء (2) وعقبى أكنّت عقائده
علا عقله فيهم هواه فما درى ... بأنّ هوى الإنسان للنار قائده
أقمنا بمصر نحو (3) عشرين حجة ... يشاهدنا ذو أمرهم ونشاهده
فلمّا ننل منهم مدى الدهر طائلا ... ولمّا نجد فيهم صديقا نوادده
لنا سلوة فيمن سردنا حديثهم ... وقد يتسلّى بالذي قال سارده
أخي إن تصل يوما وبلّغت سالما ... لغرناطة فانفذ لما أنا عاهده
وقبل ثرى أرض بها حلّ ملكنا ... وسلطاننا الشّهم الجميل عوائده
مبيد العدا قتلا وقد عمّ (4) شرّهم ... ومحيي النّدى فضلا وقد رمّ هامده
أفاض على الإسلام جودا ونجدة ... فعزّ مواليه وذلّ معانده
__________
(1) في الأصل: «بشرك للقلب»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) كلمة «جزاء» ساقطة في الأصل، فأضفناها مع حرف العطف في كلمة «عقبى»، ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(3) كلمة «نحو» ساقطة في الأصل.
(4) في الأصل: «عمر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/38)
وعمّ بها إخواننا بتحيّة ... وخصّ بها الأستاذ لا عاش كائده
جزى الله عنّا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا (1) الحبر الذي عمّ فائده
لقد أطلعت جيّان أوحد عصره ... فللغرب فخر أعجز الشرق خالده
مؤرخة نحوية وإمامة ... محدّثة جلّت وصحّت مسانده
جاه عظيم من ثقيف وإنما ... به استوثقت منه العرى ومساعده
وما أنس لا أنسى سهادي ببابه ... بسبق وغيري نائم الليل راقده
فيجلو بنور العلم ظلمة جهلنا ... ويفتح علما مغلقات رصائده
وإنّي وإن شطّت بنا غربة النّوى ... لشاكر له في كل وقت وحامده
بغرناطة روحي وفي مصر جثّتي ... ترى هل يثنّي الفرد من هو فارده؟
أبا جعفر، خذها قوافي من فتى ... تتيه على غرّ القوافي قصائده
يسير بلا إذن إلى الأذن حسنها ... فيرتاح سمّاع لها ومناشده
غريبة شكل كم حوت من غرائب ... مجيدة أصل أنتجتها أماجده
فلولاك يا مولاي ما فاه مقولي ... بمصر ولا حبّرت ما أنا قاصده
لهذّبتني حتّى أحوك مفوّقا ... من النظم لا يبلى مدى الدهر آبده
وأذكيت فكري بعد ما كان خامدا ... وقيّد شعري بعد ما ندّ شارده
جعلت ختاما فيه ذكرك إنه ... هو المسك بل أعلى وإن عزّ ناشده
ومما دون من (2) المطولات قوله رحمه الله (3): [الطويل]
تفرّدت لمّا أن جمعت بذاتي (4) ... وأسكنت لما أن بدت حركاتي (5)
فلم أر في الأكوان غيرا (6) لأنني ... أزحت عن الأغيار روح حياتي (7)
وقدّستها عن رتبة لو تعيّنت ... لها دائما دامت لها حسراتي (8)
فها أنا قد أصعدتها عن حضيضها ... إلى رتبة تقضي لها بثبات
__________
(1) يشير هنا إلى أستاذه أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، المتوفّى سنة 708هـ، وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(2) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(3) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 8382).
(4) في الأصل: «بذات» والتصويب من الكتيبة.
(5) في الأصل: «حركات» والتصويب من الكتيبة.
(6) في الكتيبة: «غيري».
(7) في الأصل: «حيات» والتصويب من الكتيبة.
(8) في الأصل: «حسرات» والتصويب من الكتيبة.(3/39)
تشاهد معنى روضة أذهب العنا ... وأيقظني للحقّ بعد سنات (1)
أقامت زمانا في حجاب فعندما ... تزحزح عنها رامت الخلوات
لنقضي بها ما فات من طيب أنسنا ... بها وننال الجمع بعد شتات
ومن النسيب قوله (2): [الكامل]
كتم اللسان ومدمعي قد باحا ... وثوى الأسى عندي وأنسي (3) راحا
إني لصبّ (4) طيّ ما نشر الهوى ... نشرا وما زال الهوى إفصاحا (5)
ومهجتي من لا أصرّح باسمه ... ومن الإشارة ما يكون صراحا
ريم أروم حنوّه وجنوحه ... ويروم عني جفوة وجماحا
أبدى لنا من شعره وجبينه ... ضدّين ذا ليلا وذاك صباحا (6)
عجبا له يأسو الجسوم بطبّه ... ولكم بأرواح أثار جراحا
فبلفظه (7) برء الأخيذ ولحظه ... أخذ البريّ فما يطيق براحا
ناديته (8) في ليلة لا ثالث ... إلّا أخوه البدر غار فلاحا (9)
يا حسنها من ليلة لو أنها ... دامت ومدّت للوصال (10) جناحا
وقال (11): [الكامل]
نور بخدّك أم توقّد نار؟ ... وضنى بجفنك أم فتور (12) عقار؟
وشذا بريقك أم تأرّج مسكة؟ ... وسنى بثغرك أم شعاع دراري (13)؟
جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت (14) ... قيد القلوب وفتنة الأبصار
__________
(1) في الكتيبة: «سناتي».
(2) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 83).
(3) في الأصل: «وأسى» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(4) في الأصل: «أحب» وهكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «فضاحا».
(6) في الكتيبة: «خدين وذا إصباحا».
(7) في الأصل: «فبلقطه» بالقاف، والتصويب من الكتيبة.
(8) في الكتيبة: «نادمته».
(9) في الأصل: «عارف لاحا»، والتصويب من الكتيبة.
(10) في الأصل: «لتوصال» والتصويب من الكتيبة.
(11) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 8483) ونفح الطيب (ج 3ص 326).
(12) في الكتيبة الكامنة: «كؤوس».
(13) في الأصل: «درار»، وقد صوبناه لأن أصل القول هو: «درارىء» وهي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماؤها.
(14) في الكتيبة: «فيك فأصبحت».(3/40)
متصاون خفر (1) إذا ناطقته ... أغضى حياء (2) في سكون وقار
في وجهه زهرات لفظ (3) تجتلى ... من نرجس مع وردة وبهار
خاف اقتطاف الورد من جنباتها (4) ... فأدار من أسر (5) سياج عذار
وتسلّلت نمل العذار بخدّه ... ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخدّه ورد (6) حمتها وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار
كم ذا أواري (7) في هواه محبّتي ... ولقد وشى بي فيه فرط أواري (8)
ومن نظمه من المقطوعات في شتى الأغراض قوله رحمه الله (9): [البسيط]
أزحت نفسي من الإيناس بالناس ... لمّا غنيت عن الأكياس بالياس (10)
وصرت في البيت وحدى لا أرى أحدا ... بنات فكري وكتبي هنّ جلّاسي
وقال (11): [الطويل]
وزهّدني في جمعي المال أنه ... إذا ما انتهى عند الفتى فارق العمرا
فلا روحه يوما أراح من العنا ... ولم يكتسب حمدا ولم يدّخر أجرا
وقال: [الطويل]
سعت حيّة من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خدّه إنّ ذا عجب
وأعجب من ذا أنّ سلسال ريقه ... برود ولكن شبّ في قلبي اللهب
وقال (12): [السريع]
راض (13) حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض
وظنّ (14) قوم أنّ قلبي سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض
__________
(1) في النفح: «خفرا».
(2) في الأصل: «حيّا» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(3) في المصدرين: «روض».
(4) في المصدرين: «وجناته».
(5) في المصدرين: «آس».
(6) في النفح: «وبخده نار حمته».
(7) في النفح: «أداري».
(8) في الأصل: «أوار» بدوء ياء، والتصويب من المصدرين.
(9) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 84).
(10) في الكتيبة الكامنة: «أرحت نفسي كما غنيت».
(11) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 84).
(12) البيتان في فوات الوفيات (ج 4ص 73) وبغية الوعاة (ص 122).
(13) في البغية: «رائض حبي».
(14) في البغية: «فظنّ».(3/41)
وقال (1): [الخفيف]
سال في الخدّ للحبيب عذار ... وهو لا شكّ سائل مرحوم
وسألت التثامه فتجنّى ... فأنا اليوم سائل محروم
وقال: [الطويل]
جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإنّ ... فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال في فتى يسمى مظلوم (2): [الطويل]
وما كنت أدري أنّ مالك مهجتي ... يسمّى (3) بمظلوم وظلم جفاؤه
إلى أن دعاني للصّبا (4) فأجبته ... ومن يك مظلوما أجيب دعاؤه
وقال (5): [الخفيف]
جنّ غيري بعارض فترجّى ... أهله أن يفيق عمّا قريب
وفؤادي بعارضين مصاب ... فهو داء أعيا دواء (6) الطبيب
وقال (7): [الطويل]
شكا الخصر منه ما يلاقي بردفه ... وأضعف (8) غصن البان جرّ كثيب
إذا كان منه البعض يظلم بعضه ... فما حال مشتطّ (9) المزار (10) غريب
وقال (11): [الطويل]
وذي شفة لمياء زينت بشامة (12) ... من المسك في رشافها (13) يذهب النّسك
ظمئت إليها ريقة كوثريّة ... بمثل لآلي (14) ثغرها ينظم السّلك
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 85).
(2) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 85).
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 85).
(7) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 85).
(3) في الأصل: «يتسمى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(4) في الكتيبة: «للهوى».
(6) في الكتيبة: «فؤاد».
(8) في الكتيبة: «ويضعف».
(9) في الأصل: «شطّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(10) في الكتيبة: «الديار».
(11) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 8685).
(12) في الأصل: «وذو شفة لميا زيّنت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(13) في الكتيبة: «ترشافها».
(14) في الأصل: «لقالي» ولا معنى لذلك، والتصويب من الكتيبة الكامنة.(3/42)
تعلّ بمعسول كأنّ رضابه ... مدام من الفردوس (1) خاتمه مسك
وقال: [الطويل]
أجلّ شفيع ليس يمكن ردّه ... دراهم بيض للجروح مراهم
تصيّر صعب الأمر أسهل ما ترى ... ويقضي لبانات الفتى (2) وهو نائم
وقال (3): [مخلع البسيط]
نعيد ودّ قريب ضلّ (4) ... كبير عتب، قليل عتبى (5)
كالشمس ظرفا، كالمسك عرفا ... كالخشف طرفا، كالصّخر قلبا
وقال (6): [الطويل]
عداتي (7) لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها (8) ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
مولده: ولد بغرناطة عام اثنين وخمسين وستمائة (9).
وفاته: أخبرني الحاج الخطيب الفاضل أبو جعفر الشّقوري، رحمه الله، قال:
توفي عام خمسة وأربعين وسبعمائة بمصر، ودفن بالقرافة. وكانت جنازته حافلة.
ومن الطارئين عليها في هذا الحرف
محمد بن أحمد بن داود بن موسى بن مالك اللّخمي اليكّي
من أهل بلّش (10)، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الكمّاد.
__________
(1) في الأصل: «الفرد وسرّ» وهذا لا معنى له، وينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(2) في الأصل: «لبانات للفتى» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 86).
(4) في الكتيبة الكامنة:
بعيد ودّ، قريب صدّ ... كثير عتب
وهكذا ينكسر الوزن.
(5) العتبى: الرّضا.
(6) البيتان في بغية الوعاة (ص 122) والكتيبة الكامنة (ص 85) وفوات الوفيات (ج 4ص 74).
(7) في البغية: «عداي».
(8) في الكتيبة الكامنة: «فسترتها».
(9) في بغية الوعاة (ص 121): «ولد بمطخشارش مدينة من حضرة غرناطة في آخر شوال سنة أربع وخمسين وستمائة». وفي فوات الوفيات (ج 4ص 72): «مولده بغرناطة في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة».
(10) هي بلّش مالقة،، كما سيأتي بعد قليل. وقد ذكرها ياقوت مكتفيا بالقول:(3/43)
حاله: من «عائد الصلة»: كان من جلّة صدور الفقهاء الفضلاء، زهدا وقناعة وانقباضا، إلى دماثة الخلق، ولين الجانب، وحسن اللقاء، والسّذاجة المموّهة بالغفلة، والعمل على التقشّف والعزلة، قديم السّماع والرّحلة، إماما مشهورا في القراءات، يرحل إليه، ويعوّل عليه، إتقانا ومعرفة منها بالأصول، كثير المحافظة والضّبط، محدّثا ثبتا، بليغ التّحرّز، شديد الثقة، فقيها متصرّفا في المسائل، أعرف الناس بعقد الشروط، ذا حظّ من العربية واللغة والأدب. رحل إلى العدوة، وتجوّل في بلاد الأندلس، فأخذ عن كثير من الأعلام، وروى وقيّد وصنّف وأفاد، وتصدّر للإقراء بغرناطة وبلّش وغيرهما، وتخرّج بين يديه جملة وافرة من العلماء والطلبة، وانتفعوا به.
مشيخته: قرأ ببلده مرسية على الأستاذ أبي الحسن علي بن محمد بن لب بن أحمد بن أبي بكر الرّقوطي، والمقرئ أبي الحسن بن خلف الرّشاطي، والمحدّث الجليل أبي عمرو محمد بن علي بن عيشون اللخمي، وعلى الشيخ الفقيه الكاتب أبي محمد بن عبد الله بن داود بن خطّاب الغافقي المرسي. وممن أجازه الفقيه أبو عثمان سعيد بن عمرو البطرني، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، لقيه ببلّش مالقة وبسطة، فروى عنه الكثير، والأستاذ أبو القاسم بن الأصهر الحارثي، لقيه بألمريّة.
ولقي بغرناطة الأستاذ أبا جعفر الطّبّاع، والوزير الرّاوية أبا القاسم محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن جزيّ الكلبي، روى عنه وأجازه. وكتب له بالإجازة جماعة كبيرة من أهل المشرق والمغرب، حسبما تضمنه برنامجه.
تواليفه: اختصر كتاب «المقنع» في القراءات اختصارا بديعا، وسماه كتاب «الممتع في تهذيب المقنع» وغير ذلك.
شعره: من ذلك وقد وقف على أبيات أبي القاسم بن الصّقر في فضل الحديث: [الطويل]
لقد حاز أصحاب الحديث وأهله ... شأوا وثيرا (1) ومجدا مخلّدا
وصحّت لهم بين الأنام مزيّة ... أبانت لهم عزّا ومجدا وسؤددا
بدعوة خير الخلق أفضل مرسل ... محمد المبعوث بالنّور والهدى
فهم دوّنوا علم الحديث وأتقنوا ... ونصّوا بتبيين صحيحا ومسندا
__________
«بلش»: بالفتح وتشديد اللام والسين معجمة: بلد بالأندلس، ينسب إليه يوسف بن جبارة البلّشي». معجم البلدان (ج 1ص 484).
(1) في الأصل: «وتوتيرا»، وكذا لا يستقيم المعنى.(3/44)
وجاءوا بأخبار الرّسول وصحبه ... على وجهها لفظا ورسما مقيدا
وهم نقلوا الآثار والسّنن التي ... من أصبح (1) ذا أخذ بها فقد اهتدى
وما قصّروا فيها بفقه ولا ونوا ... بل التزموا حدّا وحزما مؤكّدا
وهم أوضحوا من بعدهم باجتهادهم ... وتبيينهم سبل الهدى لمن اقتدى
جزاهم إله العرش عنّا بنصحهم ... بأحسن ما جازى نصيحا ومرشدا
ونسأله (2) سبحانه نهج هديهم ... وسعيا إلى التّقوى سبيلا ومقصدا
ومن شعره، رحمه الله، قوله: [السريع]
عليك بالصّبر وكن راضيا ... بما قضاه الله تلقى النجاح
واسلك طريق المجد والهج به ... فهو الذي يرضاه أهل الصلاح
وقد ألّف شيخنا أبو البركات بن الحاج، جزءا سماه «شعر من لا شعر له»، فيه من شعر هذا الرجل الفاضل ومثله كثير.
مولده: قبل الأربعين وستمائة. وتوفي ثاني شهر الله المحرم عام اثني عشر وسبعمائة.
انتهى ما اختصر من السّفر السابع من كتاب «الإحاطة في تاريخ غرناطة» يتلوه في السفر الثامن بعده إن شاء الله ومن السفر الثامن من ترجمة المقرئين والعلماء رحمهم الله * * *
ومن السفر الثامن من ترجمة المقرئين والعلماء
محمد بن أحمد بن محمد بن علي الغسّاني
من أهل مالقة، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن حفيد الأمين.
حاله: كان من أهل العلم والفضل والدين المتين، والدّؤوب على تدريس كتب الفقه. استظهر كتاب «الجواهر» لابن شاس، واضطلع بها، فكان مجلسه من مجالس الحفّاظ، حفّاظ المذهب، وانتفع به الناس، وكان معظّما فيهم، متبرّكا به، على سنن الصالحين من الزّهد والانقباض وعدم المبالاة بالملبس والمطعم. وقال صاحبنا الفقيه
__________
(1) في الأصل: «أصح»، وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة القطع همزة وصل.
(2) في الأصل: «ونسله»، وكذا ينكسر الوزن.(3/45)
أبو الحسن النّباهي في تذييله لتاريخ مالقة: كان رجلا ساذجا، مخشوشنا، سنّيّ المنازع، شديد الإنكار على أهل البدع. جلس للتّحليق العام بالمسجد الجامع، وأقرأ به الفقه والعربية والفرائض.
مشيخته: قال: منهم أبو علي بن أبي الأحوص، وأبو جعفر بن الزبير، وأبو محمد بن أبي السّداد، والقاضي أبو القاسم ابن السّكوت. قال: وأنشد للزاهد أبي إسحاق بن قشوم، قوله: [الطويل]
يروقك يوم العيد حسن ملابس ... ونعمة أجسام ولين قدود
أجل لحظات الفكر منك فلا ترى ... سوى خرق تبلى وطعمة دود
وأنشد لأبي عمرو الزاهد: [السريع]
تختبر الدّنير في ميذق ... والدّرهم الزايف إذ يبهم
والمرء إن رمت اختبارا له ... ميذقه الدّنير والدّرهم
من عفّ عن هذا وهذا معا ... فهو التّقيّ الورع المسلم
تواليفه: له تقييد حسن في الفرائض، وجزء في تفضيل التّين على التّمر، وكلام على نوازل الفقه.
وفاته: وتوفي في الكائنة العظمى بطريف (1).
محمد بن أحمد بن علي بن قاسم المذحجي
من أهل ملتماس (2)، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، من سراة بلده وأعيانهم، أستاذا متفنّنا مقرئا لكتاب الله، كاتبا بليغا، شديد العناية بالكتب، كثير المغالاة في قيمها وأثمانها، حتى صار له من أعلاقها وذخائرها ما عجز عن تحصيله كثير من أهل بلده. كتب بخطّه، وقيّد كثيرا من كتب العلم. وكان مقرئا مجوّدا، عارفا بالقراءات، بصيرا بالعربية، ثقة ضابطا، مبرّزا في العدالة، حريصا على العلم استفادة ثم إفادة، لا يأنف من حمله عن أقرانه، وانتفع به أهل بلده، والغرباء أكثر.
__________
(1) موقعة طريف: هي الموقعة الشهيرة التى كانت بين الإسبان وبني مرين، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، سنة 741هـ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص 106105).
(2) نرجح أنها منتماس، من قرى بلّش، كما سيأتي بعد قليل.(3/46)
مشيخته: أخذ عن طائفة من أهل العلم، منهم الشّيخان الرّحلتان أبو عبد الله بن الكمّاد، وأبو جعفر بن الزيات، عظيما بلده، والخطيب ولي الله أبو عبد الله الطّنجالي، والقاضي أبو عبد الله بن بكر. وروى عن الشيخ الوزير أبي عبد الله بن ربيع، وابنه الرّاوية أبي عامر، والخطيب الصالح أبي إسحاق بن أبي العاصي. وروى عن الشيخ الرّاوية الرّحّال أبي عبد الله بن عامر الوادي آشي وغيرهم، ودخل غرناطة.
مولده: ولد ببلّش عام ثمانية وثمانين وستمائة.
وفاته: توفي ببلّش عاشر شهر شعبان من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن علي الغسّاني
من أهل مالقة، يكنى أبا الحكم، ويعرف بابن حفيد الأمين.
حاله: من «العائد»: كان هذا الشيخ من أهل العلم والدّين المتين، والجري على سنن الفقهاء المتقدّمين، عقد الشروط بمالقة مدة طويلة في العدول المبرّزين، وجلس للتّحليق في المسجد الأعظم من مالقة، بعد فقد أخيه أبي القاسم، وخطب بمسجد مالقة الأعظم. ثم أخّر عن الخطبة لمشاحنة وقعت بينه وبين بعض الولاة، أثمرت في إحنته. ولم يزل على ما كان عليه من الاجتهاد في العبادة، والتقييد للعلم، والاشتغال به، والعناية بأهله، إلى أن توفي على خير عمل.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الخطيب أبي محمد الباهلي، وروى عن جلّة من الشيوخ مثل صهره الخطيب الولي أبي عبد الله الطّنجالي (1)، وشاركه في أكثر شيوخه، والأديب الحاج الصالح أبي القاسم القبتوري (2) وغيرهم.
مولده: ولد بمالقة عام ثلاثة وسبعين وستمائة.
وفاته: توفي بمالقة يوم الأربعاء الثامن عشر لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة. ودخل غرناطة غير ما مرّة مع الوفود من أهل بلده وفي أغراضه الخاصة.
__________
(1) هو القاضي محمد بن أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي، وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص 193) ونفح الطيب (ج 7ص 364).
(2) نسبة إلى قبتور، وهي قرية من قرى إشبيلية. الروض المعطار (ص 454).(3/47)
محمد بن أحمد الرّقوطي (1) المرسي
يكنى أبا بكر.
حاله: كان طرفا في المعرفة بالفنون القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقا والطّب، فيلسوفا، طبيبا ماهرا، آية الله في المعرفة بالألسن، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون في تعلمها، شديد البأو، مترفّعا، متعاطيا. عرف طاغية الروم حقّه، لما تغلّب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، ولم يزل معظما عنده. ومما يحكى من ملحه معه، أنه قال له يوما، وقد أدنى منزلته، وأشاد بفضله: لو تنصّرت وحصّلت الكمال، كان عندي لك كذا وكذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه. ولما خرج من عنده، قال لأصحابه: أنا الآن أعبد واحدا، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني.
وطلبه سلطان المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر (2)، واستقدمه، وتلمذ له، وأسكنه في أعدل البقع من حضرته. وكان الطلبة يغشون منزله المعروف له، وهو بيدي الآن، فتعلّم عليه الطب والتعاليم وغيرها، إذ كان لا يجارى في ذلك. وكان قويّ العارضة، مضطلعا بالجدل، وكان السلطان يجمع بينه وبين منتابي حضرته، ممن يقدم منتحلا صناعة أو علما، فيظهر عليهم، لتمكنه ودالّته، حسبما يأتي في اسم أبي الحسن الأبّدي، وأبي القاسم بن خلصون، إن شاء الله. وكان يركب إلى باب السلطان، عظيم التّؤدة، معار البغلة، رائق البزّة، رفيق المشي، إلى أن توفي بها، سمح الله له.
محمد بن إبراهيم بن المفرّج الأوسي
المعروف بابن الدبّاغ الإشبيلي.
حاله: كان واحد عصره في حفظ مذهب مالك، وفي عقد الوثائق، ومعرفة عللها، عارفا بالنحو واللغة والأدب والكتابة والشعر والتاريخ. وكان كثير البشاشة، عظيم الانقباض، طيّب النفس، جميل المعاشرة، كثير المشاركة، شديد التّواضع، صبورا على المطالعة، سهل الألفاظ في تعليمه وإقرائه. أقرأ بجامع غرناطة لأكابر علمائها الفقه وأصوله، وأقرأ به الفروع والعقائد للعامة مدة. وأقرأ بجامع باب الفخّارين، وبمسجد ابن عزرة وغيره.
__________
(1) نسبة إلى رقوطة، وهي من قرى مرسية.
(2) هو السلطان أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 701671هـ. اللمحة البدرية (ص 50).(3/48)
مشيخته: قرأ على والده الأستاذ أبي إسحاق إبراهيم، وعلى الأستاذ أبي الحسن الدباج، وعلى القاضي أبي الوليد محمد بن الحاج التّجيبي القرطبي، وعلى القاضي أبي عبد الله بن عياض.
وفاته: توفي برندة يوم الجمعة أول يوم من شوال عند انصراف الناس من صلاة الجمعة من عام ثمانية وستين وستمائة.
محمد بن إبراهيم بن محمد الأوسي
من أهل مرسية، نزيل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الرّقّام، الشيخ الأستاذ المتفنن.
حاله: كان نسيج وحده، وفريد دهره، علما بالحساب والهندسة والطب والهيئة، وغير ذلك، مديد الباع، أصيل المعرفة، مضطلعا، متبحرا لا يشقّ غبارة، أقرأ التعاليم والطب والأصول بغرناطة لما استقدمه السلطان ثاني الملوك من بني نصر من مدينة بجاية، فانتفع الناس به، وأوضح المشكلات، وسئل من الأقطار النازحة في الأوهام العارضة، ودوّن في هذه الفنون كلها، ولخّص، ولم يفتر من تقييد وشرح وتلخيص وتدوين.
تواليفه: وتواليفه كثيرة، منها كتابه الكبير على طريقة كتاب «الشّفا»، والزّيج القويم الغريب المرصد، المبنيّة رسائله على جداول ابن إسحاق، وعدّل مناخ الأهلّة، وعليه كان العمل، وقيّد أبكار الأفكار في الأصول، ولخّص المباحث، وكتاب الحيوان والخواص. ومقالاته كثيرة جدا، ودواوينه عديدة.
وفاته: توفي عن سنّ عالية بغرناطة في الحادي والعشرين لصفر من عام خمسة عشر وسبعمائة.
محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد ابن مأمون الأنصاري (1)
ونسبه (2) أبو محمد القرطبي أمويّا من صريحهم، بلنسي الأصل، يكنى أبا عبد الله.
__________
(1) ترجمة ابن مأمون في بغية الملتمس (ص 65) والتكملة (ج 2ص 62) والذيل والتكملة (ج 6 ص 149) وبغية الوعاة (ص 28).
(2) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 149).(3/49)
حاله: كان صدرا في متقني القرآن العظيم، وأئمّة تجويده، مبرّزا في النحو، إماما معتمدا عليه، بارع الأدب، وافر الحظّ من البلاغة، والتّصرّف البديع في الكتابة، طيّب الإمتاع بما يورده من الفنون، كريم الأخلاق، حسن السّمت، كثير البشر، وقورا، ديّنا، عارفا، ورعا، وافر الحظّ من رواية الحديث.
مشيخته: روى (1) عن أبي إسحاق بن صالح، وأبي بكر بن أبي ركب، وأبي جعفر بن ثعبان، وأبي الحجاج القفّال، وأبي الحسن شريح، وأبي محمد عبد الحق بن عطية، وأبي الحسن بن ثابت، وأبي الحسن بن هذيل، وتلا عليه بالسّبع، وأبو (2) عبد الله بن عبد الرحمن المذحجي الغرناطي، وابن فرح (3) القيسي، وأبي القاسم خلف بن فرتون، ولم يذكر أنهم أجازوا له. وكتب له أبو بكر عبد العزيز بن سدير (4)، وابن العزفي (5)، وابن قندلة (6)، فأبو الحسن طارق بن موسى، وابن موهب، ويونس بن مغيث، وأبو جعفر (7) بن أيوب، وأبو الحكم عبد الرحمن بن غشيان (8)، وأبو عبد الله الجيّاني، المعروف بالبغدادي. وذكر أبو عبد الله بن يربوع أن له راوية عن أبي الحسن (9) بن الطراوة.
من روى عنه: روى (10) عنه أبو بحر صفوان بن إدريس، وأبو بكر بن عتيق الأزدي (11)، وابن قترال (12)، وأبو جعفر الجيّار، والذّهبي، وابن عميرة الشهيد، وأبو الحسن بن عزمون (13)، وابن عبد الرزاق (14)، وأبو الحسن (15) عبيد الله بن عاصم الدّاري (16)، وأبو الربيع بن سالم، وأبو زكريا الجعفري (17)، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو عبد الله الأندرشي، وابن الحسين بن محبر (18)، وابن إبراهيم الريسي (19)، وابن صلتان، وابن عبد الحق التلمسيني، وابن يربوع، وأبو العباس العزفي، وأبو عثمان سعد الحفّار، وأبو علي عمر بن جميع (20)، وأبو عمران بن إسحاق (21)، وأبو
__________
(1) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 149).
(2) في الذيل والتكملة: «وأبوي».
(3) في الذيل والتكملة: «وابن فرج».
(4) في الذيل والتكملة: «مدير».
(5) في الذيل والتكملة: «وابن العربي».
(6) في الذيل والتكملة: «فندلة».
(7) في الذيل والتكملة: «وأبو حفص بن أيوب».
(8) في الذيل والتكملة: «غشليان».
(9) في الذيل والتكملة: «الحسين».
(10) قارن بالذيل والتكملة: (ج 6ص 49).
(11) في الذيل والتكملة: «اللاردي».
(12) في الذيل والتكملة: «وابن قنترال».
(13) في المصدر نفسه: «حزمون».
(14) في المصدر نفسه: «وابن عبيد الله الذوق».
(15) في المصدر نفسه: «وأبو الحسين».
(16) في المصدر نفسه: «الدائري».
(17) في المصدر نفسه: «الجعيدي».
(18) في المصدر نفسه: «مجبر التجيبي».
(19) في المصدر نفسه: «الوشقي».
(20) في المصدر نفسه: «صمع».
(21) في المصدر نفسه: «السخان».(3/50)
القاسم الطيب بن هرقال (1)، وعبد الرحيم بن إبراهيم بن قريش الملّاحي (2)، وأبو محمد بن دلف (3) بن اليسر، وأبو الوليد بن الحجاج (4).
تواليفه: له شرح على «إيضاح الفارسي»، وآخر على «جمل الزّجّاجي».
مولده: ببلنسية سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
وفاته: توفي بمرسية إثر صدوره عن غرناطة عشي يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى (5) سنة ست وثمانين وخمسمائة.
محمد بن حكم بن محمد بن أحمد بن باق الجذامي (6)
من أهل سرقسطة. سكن غرناطة ثم فاس، يكنى أبا جعفر.
حاله: كان (7) مقرئا مجوّدا، محققا بعلم الكلام وأصول الفقه، محصّلا لهما، متقدّما في النحو، حافظا للغة، حاضر الذّكر لأقوال تلك العلوم، جيّد النظر، متوقّد الذهن، ذكيّ القلب، فصيح اللسان (8). ولّي أحكام فاس، وأفتى فيها، ودرّس بها العربية: كتاب سيبويه وغير ذلك.
مشيخته: روى (9) عن أبي الأصبغ بن سهل، وأبوي (10) الحسن الحضرمي، وابن سابق، وأبي جعفر بن جرّاح، وأبي طالب السّرقسطي، الأديبين، وأبوي عبد الله بن نصر، وابن يحيى بن هشام المحدّث، وأبي العباس الدلائي، وأبي عبيد الله البكري، وأبي عمر أحمد بن مروان (11) القيرواني، وأبي محمد بن قورش (12)، وأبي مروان بن سراج. وأجاز له أبو الوليد الباجي، رحمه الله.
__________
(1) في الذيل والتكملة: «هرقل».
(2) في المصدر نفسه: «ابن الفرس والملاحي».
(3) في المصدر نفسه: «وأبو محمد بن محمد بن خلف».
(4) في المصدر نفسه: «ابن الحاج».
(5) في بغية الوعاة (ص 28): «جمادى الآخرة في السنة السابعة بعد الثمانين والخمسمائة».
(6) ترجمة ابن باق في التكملة (ج 1ص 360) والذيل والتكملة (ج 6ص 177) وبغية الوعاة (ص 38).
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 178).
(8) في الذيل والتكملة: «الكلام».
(9) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 177).
(10) في الذيل والتكملة: «وأبوي بكر: ابن الحسين الحضرمي».
(11) في المصدر نفسه: «مروان التجيبي البلوطي الزاهد».
(12) في المصدر نفسه: «فورتش».(3/51)
من روى عنه: روى (1) عنه أبو إسحاق بن قرقول، وأبو الحسن صالح بن خلف، وأبو عبد الله بن حسن السّبتي، وأبو (2) الحسن الأبّذي، وتوفي قبله، وابن خلف بن الأيسر (3)، والنّميري، وأبو العباس بن عبد الرحمن بن الصّقر، وأبو علي حسن بن الجزّار (4)، وأبو الفضل بن هارون الأزدي، وأبوا (5) محمد: عبد الحق بن بونه، وقاسم بن دحمان، وأبو مروان بن الصّقيل الوقّشي (6).
تواليفه: شرح (7) «إيضاح الفارسي»، وكان قيّما على كتابه، وصنّف في الجدل مصنّفين، كبيرا وصغيرا. وله عقيدة جيدة.
وفاته: توفي بفاس، وقيل بتلمسان (8)، سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
محمد بن حسن بن محمد بن عبد الله بن خلف ابن يوسف بن خلف الأنصاري (9)
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج، وبابن صاحب الصلاة.
حاله: كان مقرئا صدرا في أئمّة التّجويد، محدّثا متقنا ضابطا، نبيل الخطّ والتقييد، ديّنا، فاضلا. وصنّف في الحديث، وخطب بجامع بلده. وأمّ في الفريضة زمانا، واستمرّت حاله كذلك، من نشر العلم وبثّه إلى أن كرّمه الله بالشهادة في وقيعة العقاب (10).
دخوله غرناطة، راويا عن ابن الفرس، وابن عروس، وغيرهما.
مشيخته: روى بالأندلس عن الحجاج ابن الشيخ، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد يزيد بن رفاعة، وأكثر عنه، وأبوي عبد الله بن عروس، وابن الفخّار، وأبي
__________
(1) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 178).
(2) في الذيل والتكملة: «وابن الحسن».
(3) في المصدر نفسه: «بن الإلبيري».
(4) في المصدر نفسه: «الخزاز».
(5) في الأصل: «وأبو» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الذيل والتكملة: «الوشقي».
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 178).
(8) في الذيل والتكملة: «وقيل تلمسين، وهو أصح، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة». وكذا جاء في بغية الوعاة (ص 29).
(9) ترجمة محمد بن حسن الأنصاري في تاريخ قضاة الأندلس (ص 148).
(10) كانت وقعة العقاب في منتصف شهر صفر سنة 609هـ، بين الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين، فكانت السبب في هلاك الأندلس. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 263) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 149).(3/52)
محمد بن حوط الله، وعبد الحق بن بونه، وعبد الصّمد بن يعيش، وعبد المنعم بن الفرس، وأجازوا له. وتلا القرآن على أبي عبد الله الإستجّي. وروى الحديث عن أبي جعفر الحصّار. وحجّ في نحو سنة ثمانين وخمسمائة، وأخذ عن جماعة من أهل المشرق، كأبي الطّاهر الخشوعي وغيره.
وفاته: توفي شهيدا محرضا صابرا يوم الاثنين منتصف صفر عام تسعة وستمائة.
محمد بن محمد بن أحمد بن علي الأنصاري
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قرال، من أهل مالقة.
حاله: طالب عفيف مجتهد خيّر. قرأ بغرناطة، وقام على فنّ العربية قياما بالغا، وشارك في غيره، وانتسخ الكثير من الدّواوين بخطّ بالغ أقصى مبالغ الإجادة والحسن، وانتقل إلى مالقة فأقرأ بها العربية، واقتدى بصهره الصّالح أبي عبد الله القطّان، فكان من أهل الصلاح والفضل. وتوفي في محرم عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن محمد بن إدريس بن مالك بن عبد الواحد ابن عبد الملك بن محمد بن سعيد بن عبد الواحد ابن أحمد بن عبد الله القضاعي
من أهل إسطبونة (1)، يكنى أبا بكر، ويعرف بالقللوسي.
حاله: كان، رحمه الله، إماما في العربية والعروض والقوافي، موصوفا بذلك، منسوبا إليه، يحفظ الكثير من كتاب سيبويه، ولا يفارقه بياض يومه، شديد التعصّب له، مع خفّة وطيش يحمله على التوغّل في ذلك. حدّثني شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، رحمه الله، قال: وقف أبو بكر القللوسي يوما على القاضي أبي عمرو بن الرّندون، وكان شديد الوقار، مهيبا، وتكلم في مسألة من العربية، نقلها عن سيبويه، فقال القاضي أبو عمرو: أخطأ سيبويه، فأصاب أبا بكر القللوسي قلق كاد يلبط به الأرض، ولم يقدر على جوابه بما يشفي به صدره لمكان رتبته. قال: فكان يدور بالمسجد، والدموع تنحدر على وجهه، وهو يقول: أخطأ من خطّأه، يكرّرها، والقاضي أبو عمرو يتغافل عنه، ويزري عليه. وكان، مع ذلك، مشاركا في فنون، من
__________
(1) إسطبونة: بالإسبانية:، وهو بلد يقع على البحر المتوسط إلى الشمال من جبل طارق.(3/53)
فقه وقراءات وفرائض، من أعلام الحفّاظ للغة، حجّة في العروض والقوافي، يخطط بالقافية عند ذكره في الكتب. وله في ذلك تواليف بديعة. وولّي الخطابة ببلده مدة، وقعد للتدريس به، وانثال عليه الناس وأخذوا عنه. ونسخ بيده الكثير وقيّد، وكان بقطره علما من أعلام الفضل والإيثار والمشاركة.
تواليفه: نظم رجزا شهيرا في الفرائض علما وعملا، ونظم في العروض والقوافي، وألّف كتاب «الدّرة المكنونة في محاسن إسطبونة»، وألّف تأليفا حسنا في ترحيل الشمس، وسوسطات الفجر، ومعرفة الأوقات، ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دريد، وأرجوزة في شرح كتاب «الفصيح». ورفع للوزير ابن الحكيم كتابا في الخواص وصنعة الأمدّة والتطبّع الشاب، غريبا في معناه.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع، ولازمه، وأخذ عنه، وعن أبي القاسم بن الحصّار الضرير السّبتي، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير بغرناطة، وغيرهم.
شعره: من شعره قوله من قصيدة يمدح ابن الحكيم: [الطويل]
علاه رياض أورقت بمحامد ... تنوّر بالجدوى وتثمر بالأمل
تسحّ عليها من نداه غمامة ... تروي ثرى المعروف بالعلّ والنّيل
وهل هو إلّا الشمس نفسا ورفعة ... فيغرب بالجدوى ويبعد بالأمل؟
تعمّ أياديه البريّة كلّها ... فدان وقاص جود كفّيه قد شمل
وهي طويلة. ونقلت من خطّ صاحبنا أبي الحسن النّباهي، قال يمدح أبا عبد الله الرّنداحي: [الكامل]
أطلع بأفق الرّاح كأس الرّاح ... وصل الزّمان مساءه بصباح
خذها على رغم العذول مدامة ... تنفي الهموم وتأت بالأفراح
والأرض قد لبست برود أزاهر ... وتمنطقت من نهرها بوشاح
والجوّ إذ يبكي بدمع غمامة ... ضحك الربيع له بثغر أقاح
والرّوض مرقوم بوشي أزاهر ... والطّير يفصح أيّما إفصاح
والغصن من طرب يميل كأنما ... سقيت بكفّ الرّيح كأس الراح
والورد منتظم على أغصانه ... يبدو فتحسبه خدود ملاح
وكأنّ عرف الريح من زهر الرّبى ... عرف امتداح القائد الرّنداح
وفاته: ببلده عصر يوم الجمعة الثامن عشر لرجب الفرد سنة سبع وسبعمائة.(3/54)
محمد بن محمد بن محارب الصّريحي
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن أبي الجيش.
حاله وأوليّته: أصل سلفه من حصن يسر من عمل مرسية، من بيت حسب وأصالة، ولخؤولته بالجهة التاكرونيّة ثورة.
وقلت فيه في «عائد الصلة»: كان من صدور المقرئين، وأعلام المتصدّرين تفنّنا واضطلاعا وإدراكا ونظرا، إماما في الفرائض والحساب، قائما على العربية، مشاركا في الفقه والأصول وكثير من العلوم العقلية.
قعد للإقراء بمالقة، وخطب بجامع الرّبض.
مشيخته: قرأ على الأستاذ القاضي المتفنّن أبي عبد الله بن بكر، ولازمه. ثم ساء ما بينهما في مسألة وقعت بمالقة، وهي تجويز الخلف في وعد الله، شنّع فيها على شيخنا المذكور. ونسبه إلى أن قال: وعد الله ليس بلازم الصّدق، بل يجوز فيه الخلف، إذ الأشياء في حقه متساوية. وكتب في ذلك أسئلة للعلماء بالمغرب، فقاطعه وهجره. ولمّا ولّي القاضي أبو عبد الله بن بكر القضاء، خافه، فوجّه عنه إثر ولايته، فلم يشكّ في الشّرّ، فلما دخل عليه، رحّب به، وأظهر له القبول عليه، والعفو عنه، واستأنف مودّته، فكانت تعدّ في مآثر القاضي، رحمه الله.
ورحل المذكور إلى سبتة، فقرأ بها على الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، ومن عاصره، ثم عاد إلى مالقة، فالتزم التدريس بها إلى حين وفاته.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مرات، متعلّما، وطالب حاج. ودعي إلى الإقراء بمدرستها النّصرية (1)، عام تسعة وأربعين وسبعمائة، فقدم على الباب السّلطاني، واعتذر بما قبل فيه عذره. وكان قد شرع في تقييد مفيد على كتاب «التسهيل» لابن مالك، في غاية النبل والاستيفاء والحصر والتّوجيه، عاقته المنية عن إتمامه.
وفاته: توفي بمالقة في كائنة الطاعون الأعظم في أخريات ربيع الآخر من عام خمسين وسبعمائة، بعد أن تصدّق بمال كثير، وعهد بريع مجد لطلبة العلم، وحبس عليهم كتبه.
__________
(1) هذه المدرسة أنشأها السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، ومكانها ما يزال معروفا إلى اليوم بغرناطة، ويقع قبالة الكنيسة العظمى التي أنشئت على موقع المسجد الجامع. اللمحة البدرية (ص 109).(3/55)
محمد بن محمد بن لب الكناني
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن لب.
حاله: كان ذاكرا للعلوم القديمة، معتنيا بها، عاكفا عليها، متقدّما في علمها على أهل وقته، لم يكن يشاركه أحد في معرفتها، من الرياضيّات والطبيعيّات والإلهيّات، ذاكرا لمذاهب القدماء، ومآخذهم في ذلك، حافظا جدا، ذاكرا لمذاهب المتكلّمين من الأشعريّة وغيرهم، إلّا أنه يؤثر ما غلب عليه من مآخذ خصومهم، وكان نفوذه في فهمه دون نفوذه في حفظه، فكان معتمده على حفظه في إيراده ومناظرته، وكان ذاكرا مع ذلك لأصول الفقه وفروعه، عجبا في ذلك إذا وردت مسألة، أورد ما للناس فيها من المذاهب. وعزم عليه آخر عمره، فقعد بجامع مالقة، يتكلّم على الموطّأ، وما كان من قبل تهيّأ لذلك، إلّا أنه ستر عليه حفظه، وتعظيم أهل بلده له. قال ابن الزّبير: وكانت فيه لوثة، واخشيشان، وكان له أربّ في التّطواف، وخصوصا بأرض النصارى، يتكلم مع الأساقفة في الدّين، فيظهر عليهم، وكانت أموره غريبة، من امتزاج اليقظة بالغفلة، وخلط السّذاجة بالدّعابة. يحكى عنه أنه كانت له شجرة تين بداره بمالقة، فباع ما عليها من أحد أهل السّوق، فلمّا همّ بجمعها، ذهب ليمهّد للتّين بالورق في الوعاء، فمنعه من ذلك، وقال له: إنما اشتريت التين، ولم تدخل الورق في البيع، فتعب ذلك المشتري ما شاء الله، وجلب ورقا من غيرها، حتى انقضى الأمر، وعزم على معاملته في السنة الثانية، فأول ما اشترط الورق، فلمّا فرغ من الغلّة، دعاه فقال له: احمل ورقك، فإنه يؤذيني، فأصابه من المشقة في جمعه من أطراف الغصون ما لم يكن يحستب، ولم تأت السنة الثالثة، إلّا والرجل فقيه، اشترط مقدار الكفاية من الورق، فسامحه ورفق به.
دخل غرناطة وغيرها، وأخباره عجيبة. قال أبو جعفر بن الزّبير: عرض لي بمالقة مسائل، يرجع بعضها إلى الطريقة البيانيّة، والمآخذ الأدبية وضحت ضرورة إلى الأخذ معه فيها، وفي آيات من الكتاب العزيز، فاستدعيته إلى منزلي، وكان فيه تخلّق، وحسن ملاقاة، مع خفّته الطبيعية وتشتّت منازعه، فأجاب، وأخذت معه في ذلك، فألفيته صائما عن ذلك جملة.
وصمته: قال: وكان القاضي الجليل أبو القاسم بن ربيع وأخوه أبو الحسن ينافرانه على الإطلاق، ويحذران منه، وهو كان الظاهر من حاله. قال: واستدعاني في مرض اشتدّ به، قبل خروجي من مالقة على انفراد، فتنصّل لي مما كان يذنّ (1) به، وأكثر البكاء، حتى رثيت له.
__________
(1) يذنّ به: يتّهم به يقال: ذنّ في مشيته: مشى مشية ضعيفة، وذنّ الشيء: سال، وجاء هنا(3/56)
وفاته: توفي بمالقة، ووصّى قبل موته بوصايا من ماله، في صدقات وأشباهها، وحبس داره وطائفة من كتبه على الجامع الكبير بمالقة.
محمد بن محمد البدوي (1)
الخطيب بالرّبض من بلّش (2)، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من «العائد» (3): كان، رحمه الله، حسن التّلاوة لكتاب الله، ذا قدم في الفقه، له معرفة بالأصلين، شاعرا مجيدا، بصيرا، بليغا في خطبته، حسن الوعظ، سريع الدّمعة. حجّ ولقي جلّة. وأقرأ ببلّش زمانا، وانتفع به، ولقي شدايد أصلها الحسد.
مشيخته: قرأ العلم على الشّيخين المقرئين، الحجّتين، أبي جعفر بن الزّيّات، وأبي عبد الله بن الكمّاد، وقرأ العربية والأصلين على الأستاذ أبي عمرو بن منظور، ولازمه وانتفع به، وقرأ الفقه على الشيخ القاضي أبي عبد الله بن عبد السّلام بمدينة تونس.
شعره: من شعره قوله في غرض النسيب (4): [السريع]
خال على خدّك (5) أم عنبر؟ ... ولؤلؤ ثغرك أم جوهر؟
أوريت نار الوجد طيّ الحشا ... فصارت النّار به (6) تسعر
لو جدت لي منك برشف اللّما ... لقلت: خمر عسل (7) سكّر
دعني في الحبّ أذب حسرة ... سفك دم العاشق لا ينكر
__________
بمعنى: يتّهم به. لسان العرب (ذنن).
(1) ترجمة محمد البدوي في الكتيبة الكامنة (ص 55).
(2) هي بلّش مالقة، وقد ذكرها ياقوت مكتفيا بالقول: «بلّش بالفتح وتشديد اللام والشين معجمة، بلد بالأندلس، ينسب إليه يوسف بن جبارة البلّشي». معجم البلدان (ج 1 ص 484).
(3) هو كتاب «عائد الصلة» لابن الخطيب. وقد كتبه ابن الخطيب ليكون ذيلا لكتاب «صلة الصلة» لابن الزبير، المتوفّى سنة 708هـ.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 5655).
(5) في الكتيبة: «خدّيك».
(6) في الكتيبة: «بها».
(7) حرّكها المحقق بالكسر «عسل» ظنّا منه أنها مضاف إلى كلمة «خمر».(3/57)
وقال (1): [البسيط]
عيناي تفهم من عينيك أسرارا ... وورد خدّك يذكي في الحشا نارا
ملكت قلب محبّ فيك مكتئب ... قد أثّر الدّمع في خدّيه آثارا
رضاب ثغرك يروي حرّ غلّته ... يا ليت نفسي تقضي منه أوطارا (2)
أنعم بطيف خيال منك ألمحه ... ماذا عليك بطيف (3) منك لو زارا
نفسي فداؤك من ظبي به كلفّ (4) ... يصبو له القلب مضطرّا ومختارا
وقال (5): [مجزوء الرمل]
أيها الظّبي ترفّق ... بكئيب قد هلك
الذنب تتجنّى ... أم لشيء (6) يوصلك؟
إنّ روحي لك ملك (7) ... وكذا قلبي لك
إنّما أنت هلال ... فلك القلب فلك
ومن مجموع نظمه ونثره ما خاطبني به، وقد طلبت من أدبه لبعض ما صدر عني من المجموعات: «يا سيدي، أبقاك الله بهجة للأعيان الفضلاء، وحجّة لأعلام العلاء، ولا زلت تسير فوق النّسر، وتجري في الفضائل على كرم النّجر. ذكر لي فلان أنكم أردتم أن يرد على كمالكم، بعض الهذيان الصادر عن معظّم جلالكم، فأكبرت ذلك، ورأيتني لست هنالك، وعجبت أن ينظم مع الدّرّ السّبج، أو يضارع العمش الدّعج. بيد أنّ لنظم الدّرّ صنّاع (8)، والحديث قد يذاع، ولا يضاع، وحين اعتذرت له فلم يعذرني، وانتظرته فلم ينظرني، بعد أن استعفيته فأبى، واستنهضت جواد الإجابة فكبى، وسلك غير طريقي، ولم يبلّغني ريقي، وفّيت الغرض، وقضيت من إجابته الحقّ المفترض، ورددت عن تعذاله النّصيح، وأثبتّ هنا ما معناه صحيح، ولفظه غير فصيح: [السريع]
بريت من حولي ومن قوّتي ... بحول من لا حول إلّا له
وثقت بالخالق فهو الذي ... يدبّر العبد وأفعاله
__________
(1) الأبيات في الكتيبة (ص 56).
(2) الأوطار: جمع وطر وهو الحاجة.
(3) في الكتيبة: «لطيف».
(4) في الكتيبة: «وطف».
(5) الأبيات في الكتيبة (ص 56).
(6) في الكتيبة: «ألشيء».
(7) رواية صدر البيت في الكتيبة هي: «إنما روحي ملك».
(8) الأوجب أن يقول: «صنّاعا» لأنها اسم أنّ منصوب.(3/58)
وقلت بالحرم عند الملتزم من المنظوم في مثل ذلك: [المتقارب]
أمولاي بالباب ذو فاقة ... وهذا يحطّ خطايا الأمم
فجد لي بعفوك عن زلّتي ... يجود الكريم بقدر الكرم
ومما أعددته للوفادة على خير من عقدت عليه ألوية السّيادة: [الكامل]
حمدت إليك مع الصباح سراها ... وأتتك تطلب من نداك قراها
وسرت إليك مع النّسيم يمينها ... شوقا يسابق في السّرى يسراها
ولولا العجر لوصلت، والعذر لأطلت، لكن ثنيت عناني لثنائك، لحسن اعتنائك، وقلت معتذرا من الصّورة لمجدكم، وتاليا سورة حمدكم: [البسيط]
المجد يخبر عن صدق مآثره ... وناظم المجد في العلياء ناثره
والجود إنّ جدّ جدّ المرء ينجده ... وقلّما ثمّ في الأيّام ذاكره
من نال ما نلت من مجد ومن شرف؟ ... فليس في الناس من (1) شخص يناظره
يا سيدا طاب في العلياء محتده ... دم (2) ماجدا رسخت فيه أواصره
سريت في الفضل مستنّا على سنن ال ... فضل (3) مآربه حقا وسامره
ورثته عن كبير أوحد علم ... كذاك يحمله أيضا أكابره
مبارك الوجه وضّاح الجبين له ... نور ينير أغرّ النّور باهره
موفّق بكفيل من عنايته ... مرفّع العذر سامي الذّكر طاهره
رعيت في الفضل حقّ الفضل مجتهدا ... مفهوم مجدك هذا الحكم ظاهره
علوت كالشمس إشراقا ومنزلة ... فأنت كالغيث يحيي الأرض ماطره
ينمّ بالفضل منك الفضل مشتهرا ... كما ينمّ بزهر الرّوض عاطره
دم وابق للمجد كهفا والعلا وزرا (4) ... فإنما المجد شخص أنت ناظره
مؤمّلا منك خيرا أنت صانعه ... وصانع الخير عند الله شاكره
وما وليت وما أوليت من حسن ... للنّاس (5) والعالم العلوي ذاكره
بقيت تكسب من والاك مكرمة ... وناصرا أبدا من قلّ ناصره
__________
(1) كلمة «من» ساقطة في الأصل.
(2) كلمة «دم» ساقطة في الأصل.
(3) في الأصل: «في الفضل»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) الوزر بالفتح: الجبل المنيع أو الملجأ والمعتصم. لسان العرب (وزر).
(5) في الأصل: «فللناس»، وكذا ينكسر الوزن.(3/59)
عذرا لك الفضل عمّا جئت من خطإ ... أن يخط مثلي يوما أنت عاذره
ثم السلام على علياك من رجل ... تهدي الذي أبدا (1) تخفى ضمائره
دخوله غرناظة: دخلها غير ما مرّة، ولقيته بها لتقضّي بعض أغراض بباب السلطان، مما يليق بمثله.
مولده: (2).
وفاته: توفي ببلّش في أخريات عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد ابن عبد الله العبدري
قرطبي، استوطن مدينة مرّاكش، يكنى أبا بكر.
حاله: كان عالما بالقراءات، ذاكرا للتفسير، حافظا للفقه واللغات والأدب، شاعرا محسنا، كاتبا بليغا، مبرّزا في النحو، جميل العشرة، حسن الخلق، متواضعا، فكه المحاضرة، مليح المداعبة. وصنّف في غير ما فنّ من العلم، وكلامه كثير مدوّن، نظما ونثرا.
مشيخته: روى عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وعبد الرحمن بن بقي، وابن الباذش، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله بن الحاج، وأبي محمد بن عتّاب، وأبي الوليد بن رشد، ولازمه عشرين سنة. قرأ عليهم وسمع، وأجازوا له، وسمع أبا بحر الأسدي، وأبوي بكر عيّاش بن عبد الملك، وابن أبي ركب، وأبا جعفر بن شانجة (3)، وأبا الحسن عبد الجليل، وأبا عبد الله بن خلف الأيسري، وابن المناصف، وابن أخت غانم، ولم يذكر أنهم أجازوا له، وروى أيضا عن أبوي عبد الله مكّي، وابن المعمر، وأبي الوليد بن طريف.
من روى عنه: روى عنه أبو البقاء يعيش بن القديم، وأبو الحسن بن مؤمن، وأبو زكريا المرجيعي، وأبو يحيى أبو بكر الضرير واختصّ به.
__________
(1) كلمة «أبدا» ساقطة في الأصل.
(2) بياض في الأصل، كذلك لم يشر ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة إلى سنة ولادته.
(3) في الأصل: «سانجة» بالسين غير المعجمة، ويبدو أن جعفر بن شانجة هذا من المولدين، وهم أولاد الإسبان النصارى الذين أسلموا.(3/60)
تواليفه: من مصنّفاته «مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار» وشرحاه الكبير والصغير على «جمل الزجّاجي»، وشرح أبيات الإيضاح العضدي، و «مقامات الحريري»، وشرح معشّراته الغزليّة، ومكفّراته الزهدية، إلى غير ذلك، وهما مما أبان عن وفور علمه، وغزارة مادّته، واتّساع معارفه، وحسن تصرفه.
دخل غرناطة راويا عن الحسن بن الباذش ومثله.
محنته: كان يحضر مجلس عبد المؤمن (1) مع أكابر من يحضره من العلماء، فيشفّ على أكثرهم بما كان لديه من التحقيق بالمعارف، إلى أن أنشد أبا محمد عبد المؤمن أبياتا كان نظمها في أبي القاسم عبد المنعم بن محمد بن تست، وهي:
[المتقارب]
أبا قاسم والهوى جنّة (2) ... وها أنا من مسّها لم أفق
تقحّمت جامح نار الضلوع ... كما خضت بحر دموع الحدق
أكنت الخليل، أكنت الكليم؟ ... أمنت الحريق، أمنت الغرق
فهجره عبد المؤمن، ومنعه من الحضور بمجلسه، وصرف بنيه عن القراءة عليه، وسرى ذلك في أكثر من كان يقرأ عليه، ويتردّد إليه، على أنه كان في الطبقة العليا من الطّهارة والعفاف.
شعره: قال في أبي القاسم المذكور: وكان أزرق، وقد دخل عليه ومعه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشاطبي، وأبو عثمان سعيد بن قوسرة، فقال ابن قوسرة:
[الكامل]
عابوه بالزّرق الذي يجفونه ... والماء أزرق والعيون (3) كذلكا
فقال أبو عبد الله الشّاطبي: [الكامل]
الماء يهدي للنفوس حياتها ... والرّمح يشرع للمنون مسالكا
__________
(1) هو عبد المؤمن بن علي الموحدي، حكم المغرب والأندلس سنة 524هـ، وفي سنة 541هـ ضمّ الأندلس إلى المغرب. وتوفي سنة 558هـ. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 79) والمعجب (ص 262، 265، 292) والحلل الموشية (ص 107).
(2) الجنّة، بكسر الجيم: الجنون. لسان العرب (جنن).
(3) في الأصل: «والعينان»، وكذا ينكسر الوزن.(3/61)
فقال أبو بكر بن ميمون المترجم به: [الكامل]
وكذاك (1) في أجفانه سبب الرّدى ... لكن (2) أرى طيب الحياة هنالكا
ومما استفاض من شعره قوله في زمن الصّبا، عفا الله عنه: [الكامل]
لا تكترث بفراق أوطان الصبا ... فعسى تنال بغيرهنّ سعودا
والدّرّ ينظم عند فقد بحاره ... بجميل أجياد الحسان عقودا
ومن مشهور شعره: [الطويل]
توسّلت يا ربي بأني مؤمن ... وما قلت أني سامع ومطيع
أيصلى بحرّ النار عاص موحّد ... وأنت كريم والرسول شفيع؟
وقال في مرضه: [مخلع البسيط]
أيرتجي العيش من عليه ... دلائل للرّدى جليّة؟
أوّلها مخبر بثان ... ذاك أمان وذا منيّه؟
وفاته: توفي بمراكش يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة تاغزوت داخل مراكش، وقد قارب السبعين سنة.
محمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النّميري (3)
من أهل وادي آش، يكنى أبا عامر.
حاله: كان (4) أحد شيوخ بلده وطلبته (5)، مشاركا في فنون، من فقه وأدب وعربية، وهي أغلب الفنون عليه، مطّرح (6) السّمت، مخشوشن الزّي، قليل المبالاة بنفسه، مختصرا في كافة شؤونه، مليح الدّعابة، شديد الحمل، كثير التواضع، وبيته معمور بالعلماء أولي الأصالة والتعيّن. تصدّر ببلده للفتيا والتدريس والإسماع.
__________
(1) في الأصل: «وكذلك»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «ولكن»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا حرف الواو.
(3) ترجمة ابن عبد العظيم في الكتيبة الكامنة (ص 99) وبغية الوعاة (ص 58).
(4) قارن ببغية الوعاة (ص 58).
(5) كلمة «وطلبته» ساقطة في بغية الوعاة.
(6) في بغية الوعاة: «مطرحا مخشوشنا مليح الدعابة».(3/62)
مشيخته: قرأ (1) على الأستاذ القاضي أبي (2) خالد بن أرقم، والأستاذ أبي العبّاس بن عبد النّور. وروى عن أبيه مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الوزير العالم أبي عبد الله بن ربيع، والقاضي أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وولي الله الحسن بن فضيلة.
ورحل إلى العدوة، فأخذ بسبته عن الأستاذ أبي بكر بن عبيدة (3)، والإمام الزاهد أبي عبد الله بن حريث، وأبي عبد الله بن الخضار، وأبي القاسم بن الشّاط، وغيرهم.
شعره: وهو من الجزء المسمى ب «شعر من لا شعر له» والحمد لله. فمن ذلك قوله يمدح أبا زكريا العزفي بسبتة، ويذكر ظفره بالأسطول من قصيدة أولها (4):
[الكامل]
أمّا الوصال فإنّه كالعيد ... عذر المتيّم واضح في الغيد
وفاته: توفي ببلده عام أربعين وسبعمائة. ودخل غرناطة راويا ومتعلما، وغير ذلك.
محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج ابن الجدّ الفهري
الحافظ الجليل، يكنى أبا بكر، جليل إشبيلية، وزعيم وقته في الحفظ. لبلي (5)
الأصل، إشبيلي، استدعاه السّيد أبو سعيد والي غرناطة، فأقام بها عنده في جملة من الفضلاء مثله سنين. ذكر ذلك صاحب كتاب «ثورة المريدين» (6).
حاله: كان في حفظ الفقه بحرا يغرف من محيط. يقال: إنه ما طالع شيئا من الكتب فنسيه، إلى الجلالة والأصالة، وبعد الصّيت، واشتهار المحلّ. وكان مع هذا يتكلّم عند الملوك، ويخطب بين يديها، ويأتي بعجاب، وفي كتاب «الإعلام» شيء من خبره، قال ابن الزبير.
__________
(1) قارن ببغية الوعاة (ص 58).
(2) في البغية: «ابن خالد أرقم».
(3) في البغية: «بن عبيد».
(4) البيت في الكتيبة الكامنة (ص 99).
(5) نسبة إلى لبلة،، وهي مدينة قديمة في غرب الأندلس، كان بها ثلاث عيون. الروض المعطار (ص 507).
(6) صاحب هذا الكتاب الذي لم يصلنا حتى اليوم هو ابن صاحب الصلاة، صاحب كتاب «المن بالإمامة».(3/63)
مشيخته: روى عن أبي الحسن بن الأخضر، أخذ عنه كتاب سيبويه وغير ذلك، وعن أبي محمد بن عتّاب، وسمع عليه بعض الموطّإ، وعن أبي بحر الأسدي، وأبي الوليد بن طريف، وأبي القاسم بن منظور القاضي، وسمع عليه صحيح البخاري كله، وشريح بن محمد، وأبي الوليد بن رشد، وناوله كتاب «البيان والتحصيل». وكتاب «المقدّمات». لقي هؤلاء كلهم، وأجازوا له عامة. وأخذ أيضا عن مالك بن وهيب.
من حدّث عنه: أبو الحسن بن زرقون، وأبو محمد القرطبي الحافظ، وابنا حوط الله، وغيرهم. وعليه من ختمت به المائة السادسة كأبي محمد بن جمهور، وأبي العبّاس بن خليل، وإخوته الثلاثة أبي محمد عبد الله، وأبي زيد عبد الرحمن، وأبي محمد عبد الحق. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: حدّثني عنه ابن خليل وأبو القاسم الجيّاني، وأبو الحسن بن السّرّاج.
مولده: بلبلة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وفاته: وتوفي بإشبيلية في شوال سنة ست وثمانين وخمسمائة. ذكره ابن الملجوم، وأبو الربيع بن سالم، وابن فرتون.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد ابن أحمد بن الفخّار الجذامي
يكنى أبا بكر، أركشي (1) المولد والمنشإ، مالقي (2) الاستيطان، شريشي (3)
التدرّب والقراءة.
حاله: من «عائد الصّلة»: كان، رحمه الله، خيّرا صالحا، شديد الانقباض، مغرقا في باب الورع، سليم الباطن، كثير العكوف على العلم والملازمة، قليل الرياء والتصنّع. خرج من بلده أركش عند استيلاء العدو على قصبتها، وكان يصفها، وينشد فيها من شعر أستاذه الأديب أبي الحسن الكرماني: [المجتث]
أكرم بأركش دارا ... تاهت على البدر قدرا
__________
(1) نسبة إلى أركش، وهي حصن على وادي لكة. الروض المعطار (ص 28).
(2) نسبة إلى مدينة مالقة، وقد سبق التعريف بها.
(3) نسبة إلى شريش وهي من كور شذونة بالأندلس، كثيرة الكروم والزيتون والتين. الروض المعطار (ص 340).(3/64)
يخاطب المجد عنها ... للقلب (1) تدني شكرا
واستوطن مدينة شريش، وقرأ بها، وروى بها عن علمائها، وأقرأ بها، ولمّا استولى العدوّ عليها لحق بالجزيرة الخضراء، فدرّس بها، ثم عبر البحر إلى سبتة، فقرأ بها وروّى. ثم كرّ إلى الأندلس، فقصد غرناطة، وأخذ عن أهلها. ثم استوطن مالقة، وتصدّر للإقراء بها مفيد التعليم، متفنّنه، من فقه وعربية وقراءات وأدب وحديث، عظيم الصبر، مستغرق الوقت. يدرس من لدن صلاة الصبح إلى الزّوال. ثم يسند ظهره إلى طاق المسجد بعد ذلك، فيقرىء، وتأتيه النساء من خلفه للفتيا، فيفتيهنّ على حال سؤالاتهنّ إلى نصف ما بين العصر والعشاء الأولى. ثم يأتي المسجد الأعظم بعد الغروب، فيقعد للفتيا إلى العشاء الآخرة، من غير أن يقبل من أحد شيئا. ومن أخذ منه بعد تحكيم الورع، أثابه بمثله، ما رئي في وقته أورع منه. وكان يتّخذ روميّة مملوكة، لا يشتمل منزله على سواها، فإذا أنس منها الضّجر للحصر وتمادى الحجاب، أعتقها، وأصحبها إلى أرضها.
ونشأت بينه وبين فقهاء بلده خصومة في أمور عدّوها عليه، مما ارتكبها اجتهاده في مناط الفتوى، وعقد لهم أمير المسلمين بالأندلس مجلسا أجلى عن ظهوره فيه، وبقاء رسمه، فكانت محنة، وخلّصه الله منها. وبلغ من تعظيم الناس إيّاه، وانحياشهم إليه، مبلغا لم ينله مثله، وانتفع بتعليمه، واستفيد منه الأدب على نسكه وسذاجته.
مشيخته: قرأ ببلده شريش على المكتّب الحاج أبي محمد عبد الله بن أبي بكر بن داود القيسي، وعلى الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد بن الرّياح، وعلى الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن حكيم السّكوني الكرماني أخذ عنه العربية والأدب، وعلى الحافظ أبي الحسن علي بن عيسى، المعروف بابن متيوان، وعلى الأصولي الكاتب أبي الحسن هلال بن أبي سنان الأزدي المرّاكشي، وعلى الخطيب أبي العرب إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري، وعلى الفقيه أبي عبد الله الجنيدي، المعروف بالغرّاق، وعلى الفقيه العددي أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف، المعروف بابن الكاتب المكناسي. وقرأ بالجزيرة الخضراء على الخطيب الصالح أبي محمد الرّكبي، وروى عنه، وقرأ بها على الخطيب أبي عبيد الله بن خميس، وعلى الأصولي أبي أميّة. وقرأ بسبتة على الأستاذ الفرضي إمام النحاة أبي الحسن بن أبي الربيع، وعلى أبي يعقوب المحبساني، وعلى المحدّث أبي عمرو عثمان بن عبد الله
__________
(1) في الأصل: «لقلب» وكذا ينكسر الوزن.(3/65)
العبدري، وعلى الفقيه المالكي الحافظ أبي الحسن المتيوي، والأصولي أبي الحسن البصري، والفقيه المعمّر الراوية أبي عبد الله محمد الأزدي، والمحدّث الحافظ أبي محمد بن الكمّاد، وعلى الأستاذ العروضي الكفيف أبي الحسن بن الخضّار التلمساني. ولقي بغرناطة قاضي الجماعة أبا القاسم بن أبي عامر بن ربيع، والأستاذ أبا جعفر الطبّاع، وأبا الوليد إسماعيل بن عيسى بن أبي الوليد الأزدي، والأستاذ أبا الحسن بن الصّائغ. ولقي بمالقة الخطيب الصالح أبا محمد عبد العظيم ابن الشيخ، والرّاوية أبا عبد الله محمد بن علي بن الحسن الجذامي السّهيلي. وسمع على الرّاوية أبي عمرو بن حوط الله، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن عباس القرطبي.
تواليفه: كان، رحمه الله، مغرّى بالتأليف، فألّف نحو الثلاثين تأليفا في فنون مختلفة، منها كتاب «تحبير نظم الجمان، في تفسير أم القرآن»، و «انتفاع الطّلبة النّبهاء، في اجتماع السّبعة القرّاء». و «الأحاديث الأربعون، بما ينتفع به القارئون والسّامعون»، وكتاب «منظوم الدّرر، في شرح كتاب المختصر»، و «كتاب نصح المقالة، في شرح الرسالة»، وكتاب «الجواب المختصر المروم، في تحريم سكنى المسلمين ببلاد الرّوم»، وكتاب «استواء النّهج، في تحريم اللعب بالشطرنج»، وكتاب «الفيصل المنتضى المهزوز، في الرّد على من أنكر صيام يوم النّيروز»، وكتاب «جواب البيان، على مصارمة أهل الزمان»، وكتاب «تفضيل صلاة الصبح للجماعة في آخر الوقت المختار، على صلاة الصبح للمنفرد في أول وقتها بالابتدار»، وكتاب «إرشاد السّالك، في بيان إسناد زياد عن مالك»، وكتاب «الجوابات المجتمعة، عن السّؤالات المنوّعة»، وكتاب «إملاء فوائد الدول، في ابتداء مقاصد الجمل»، وكتاب «أجوبة الإقناع والإحساب، في مشكلات مسائل الكتاب»، وكتاب «منهج الضّوابط المقسّمة، في شرح قوانين المقدّمة»، وكتاب «التوجيه الأوضح الأسمى، في حذف التنوين من حديث أسما»، وكتاب «التكملة والتّبرئة، في إعراب البسملة والتّصلية»، وكتاب «سحّ مزنة الانتخاب، في شرح خطبة الكتاب». ومنها اللّائح المعتمد عليه، في الردّ على من رفع الخبر بلا إلى سيبويه، وغير ذلك من مجيد ومقصر.
شعره: وشعره كثير، غريب النّزعة، دالّ على السّذاجة، وعدم الاسترابة والشعور، والغفلة المعربة عن السّلامة، من ارتكاب الحوشي، واقتحام الضّرار، واستعمال الألفاظ المشتركة التي تتشبّت بها أطراف الملاحين والمعاريض، ولع كثير من أهل زمانه بالرّدّ عليه، والتّملّح بما يصدر عنه، منهم القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك.(3/66)
ومن منتخب شعره قوله: [الكامل]
انظر إلى ورد الرّياض كأنّه ... ديباج خدّ في بنان زبرجد
قد فتّحته نضارة فبدا له ... في القلب رونق صفرة كالعسجد
حكت الجوانب خدّ حبّ ناعم ... والقلب يحكي خدّ صبّ مكمد
حدّث الفقيه العدل أبو جعفر أحمد بن مفضل المالقي، قال: قال لي يوما الشيخ الأستاذ أبو بكر بن الفخّار: خرجت ذات يوم وأنا شاب من حلقة الأستاذ بشريش، أعادها الله للإسلام، في جملة من الطلبة، وكان يقابل باب المسجد حانوت سرّاج، وإذا فتى وسيم في الحانوت يرقم جلدا كان في يده، فقالوا لي: لا تجاوز هذا الباب، حتى تصنع لنا شعرا في هذا الفتى. فقلت: [الوافر]
وربّ معذّر للحبّ داع ... يروق بهاء منظره البهيج
وشى في وجنتيه الحسن وشيا ... كوشي يديه في أدم السروج
مولده: بحصن أركش بلده، وكان لا يخبر به، في ما بين الثلاثين والأربعين وستمائة.
وفاته: توفي بمالقة في عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة، وكانت جنازته بمالقة مشهورة.
محمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغستاني
من أهل الحمّة (1) من عمل المريّة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن العربي، وينتمي في بني أسود من أعيانها.
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، من أهل العلم والدين والفضل، طلق الوجه، حسن السّير، كثير الحياء، كأنّك إذا كلّمته تخاطب البكر العذراء، لا تلقاه إلّا مبتسما، في حسن سمت، وفضل هوى، وجميل وقار، كثير الخشوع، وخصوصا عند الدخول في الصّلاة، تلوح عليه بذلك، عند تلاوته سيما الحضور، وحلاوة الإقبال. وكان له تحقّق بضبط القراءات، والقيام عليها، وعناية بعلم العربية، مع مشاركة في غير ذلك من الفنون السّنية، والعلوم الدينية. انتصب للإقراء والتدريس
__________
(1) الحمّة أو الحامة: بالإسبانية، من مدن غرناطة، وتقع غربيّ غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة. استولى عليها الإسبان سنة 887هـ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيزي البرير (ص 60).(3/67)
بالحمّة المذكورة، فقرّب النّجعة على أهل الحصون والقرى الشّرقية، فصار مجتمعا لأرباب الطّلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم. وكان رجلا صالحا، مبارك النيّة، حسن التّعليم، نفع الله به من هنالك، وتخرّج على يديه جمع وافر من الطّلبة، عمرت بهم سائر الحصون. وكان له منزل رحب للقاصدين، ومنتدى عذب للواردين. تجول في آخرة بالأندلس والعدوة (1)، وأخذ عمن لقي بها من العلماء، وأقام مدّة بسبتة مكبّا على قراءة القرآن والعربية. وبعد عوده من تجواله لزم التصدّر للإقراء بحيث ذكر، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله، غير أنه آثر الوطن، واختار الاقتصاد.
مشيخته: أخذ بألمريّة عن شيخها أبي الحسن بن أبي العيش، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، والعدل أبي الحسن بن مستقور. وببلّش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكمّاد، والخطيب أبي جعفر بن الزيات. وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخّار، والشّيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري.
وبالجزيرة عن خطيبها أبي العبّاس بن خميس. وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والزّاهد أبي عبد الله بن معلّى، والشيخ الخطيب أبي عبد الله الغماري. وبمكناسة من القاضي وارياش. وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجّائي، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصّنهاجي، والحاج أبي القاسم بن رجا بن محمد بن علي وغيرهم، وكل من ذكر أجاز له عامة، إلّا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش.
مولده: في أول عام اثنين وثمانين وستمائة.
وفاته: توفي بالحمّة ليلة الاثنين الثامن عشر لشهر محرّم عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
محمد بن علي بن محمد العبدري (2)
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باليتيم.
__________
(1) المقصود المغرب.
(2) ترجمة أبي عبد الله العبدري اليتيم في الكتيبة الكامنة (ص 59) ونفح الطيب (ج 8ص 226).(3/68)
حاله: كان، رحمه الله، أحد الظرفاء من أهل بلده، مليح الشكل، حسن الشّيبة، لوذعيا في وقار، رشيق النظم والنثر، غزلا مع الصّون، كثير الدّعابة من غير إفحاش، غزير الأدب، حسن الصّوت، رائق الخطّ، بديع الوراقة، معسول الألفاظ، ممتع المجالسة، طيّب العشرة، أدّب الصّبيان مدة، وعقد الشروط أخرى، وكان يقرأ كتب الحديث والتفسير والرّقائق للعامة بالمسجد الأعظم، بأعذب نغمة، وأمثل طريقة، مذ أزيد من ثلاثين سنة، لم يخل منها وقتا إلّا ليلتين، إحداهما بسبب امتساكنا به في نزهة برياض بعض الطلبة، لم يخلف مثله بعده. وخطب بقصبة مالقة، ومال أخيرا إلى نظر الطّب، فكان الناس يميلون إليه، وينتفعون به لسياغ مشاركته، وعموم انقياده، وبرّه، وعمله على التّودّد والتّجمّل.
وجرى ذكره في «التّاج المحلّى» بما نصّه (1): مجموع أدوات حسان، من خطّ ونغمة ولسان، أوراقه (2) روض تتضوّع نسماته، وبشره صبح تتألّق قسماته، ولا تخفى (3) سماته. يقرطس أغراض الدّعابة ويصميها، ويفوّق سهام الفكاهة إلى مراميها، فكلّما صدرت في عصره قصيدة هازلة، أو أبيات منحطّة عن الإجادة نازلة، خمّس أبياتها وذيّلها، وصرف معانيها وسهّلها (4)، وتركها سمر النّدمان، وأضحوكة الزمان (5). وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة (6)، متحلّ بوقار وسكينة، حالّ من أهلها بمكانة مكينة، لسهولة جانبه، واتّضاح مقاصده في الخير ومذاهبه. واشتغل لأوّل أمره بالتّعليم (7) والتّكتيب، وبلغ الغاية في الوقار (8)
والتّرتيب، والشّباب (9) لم ينصل خضابه، ولا سلّت للمشيب عضابه، ونفسه بالمحاسن كلفة صبّة (10)، وشأنه كله هوى ومحبّة، ولذلك ما خاطبه به بعض أودّائه (11)، وكلاهما رمى أهله بدائه، حسبما يأتي خلال هذا القول (12) وفي أثنائه، بحول الله.
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 230) وبعضه في الكتيبة الكامنة (ص 6059).
(2) في المصدرين: «أخلاقه».
(3) في الأصل: «يخفى» والتصويب من المصدرين.
(4) في النفح: «وسيّلها».
(5) في النفح: «الأزمان».
(6) في المصدر نفسه: «بمالقة».
(7) في النفح: «أمره بالتكتيب».
(8) في النفح: «في التعليم والترتيب».
(9) في الأصل: «وللشباب» والتصويب من النفح.
(10) كلمة «صبّة» ساقطة في الأصل.
(11) الأودّاء: جمع ودود وهو المحب. لسان العرب (ودد).
(12) في الأصل: «المقول» والتصويب من النفح.(3/69)
شعره: كتبت إليه أسأل منه ما أثبت في كتاب «التّاج» من شعره، فكتب إليّ (1): [البسيط]
أمّا الغرام فلم أخلل بمذهبه ... فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه؟
يا معرضا عن فؤاد لم يزل كلفا ... بحبّه ذا حذار من تجنّبه
قطعت عنه الذي عوّدته فغدا ... وحظّه من رضاه برق خلّبه (2)
أيام وصلك مبذول، وبرّك بي ... مجدّد، قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودّك عن إفك العواذل في ... شغل وبدر الدّجى ناس لمغربه
لا أنت (3) تمنعني نيل الرّضا كرما ... ولا فؤادي بوان في تطلّبه
لله عرفك ما أذكى تنسّمه ... لو كنت تمنحني استنشاق طيّبه
أنت الحبيب الذي لم أتّخذ بدلا ... منه وحاش لقلبي من تقلّبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كلّ سنا ... أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلق وفي خلق ... أكملت (4) باسمك معنى الحسن فازه به
نأيت (5) أو غبت ما لي عن هواك غنى ... لا ينقص البدر حسنا في تغيّبه
سيّان حال التّداني والبعاد، وهل ... لمبصر البدر نيل في ترقّبه؟
يا من أحسن (6) ظنّي في رضاه وما ... ينفكّ يبدي قبيحا من تغضّبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب منّي لا ... يصغي لسمع ملام من مؤنّبه
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناها (7):
«يا سيدي الذي إذا رفعت راية ثنائه تلقّيتها باليدين (8)، وإذا قسّمت سهام وداده
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 227226).
(2) البرق الخلّب: الذي يطمع في المطر وليس وراءه مطر، ويضرب مثلا في الشيء الذي لا منفعة وراءه. لسان العرب (خلب).
(3) في الأصل: «ألأنت» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «كملت»، والتصويب من نفح الطيب.
(5) في النفح: «حضرت».
(6) في الأصل: «أحسن» وكذا ينكسر الوزن والتصويب من نفح الطيب.
(7) الرسالة في نفح الطيب (ج 8ص 228227).
(8) أخذ هذا من قول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي: [الوافر]
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين
الشعر والشعراء (ص 235).(3/70)
على ذوي اعتقاده كنت صاحب الفريضة (1) والدّين، دام بقاؤك لطرفة (2) تبديها، وغريبة تردفها بأخرى تليها، وعقيلة بيان تجلّيها، ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدّهر بشتّ نظمها، تؤنسها وتسلّيها، لم أزل أعزّك الله، أشدّ على بدائعها (3) يد الضّنين (4)، وأقتني درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدّرّ الثمين، والأيام بلقياك تعد، ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت عليّ سماوك بعد قحط، وتوالت (5) عليّ آلاوك على شحط (6)، وزارتني من عقائل بيانك كلّ فاتنة الطّرف، عاطرة العرف، رافلة في حلل البيان والظّرف، لو ضربت بيوتها بالحجاز، لأقرّت لنا العرب العاربة بالإعجاز، ما شئت من رصف المبنى، ومطاوعة اللّفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتّشبّث بالقلوب، غير أن سيّدي أفرط في التّنزّل، وخلط المخاطبة بالتّغزّل، وراجع الالتفات، ورام استدراك ما فات. يرحم (7) الله شاعر المعرّة، فلقد أجاد في قوله، وأنكر مناجاة الشّوق (8) بعد انصرام حوله، فقال (9): [البسيط]
أبعد حول تناجي الشّوق (10) ناجية ... هلّا ونحن على عشر من العشر (11)
وقد (12) تجاوزت في الأمد (13)، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصّمد، فأقسم بألفات القدود، وهمزات الجفون السّود، وحاملي (14) الأرواح مع الألواح، بالغدوّ والرّواح، لولا بعد مزارك، ما أمنت غائلة ما تحت إزارك. ثمّ إنّي حقّقت الغرض، وبحثت عن المشكل الذي عرض، فقلت: للخواطر انتقال، ولكلّ مقام مقال، وتختلف الحوائج باختلاف الأوقات، ثم رفع اللّبس خبر الثّقات.
__________
(1) الفريضة: الإرث أو الحصّة منه. لسان العرب (فرض).
(2) الطرفة: الغريب المستحسن. لسان العرب (طرف).
(3) في النفح: «بدائعك».
(4) الضنين: البخيل. لسان العرب (ضنن).
(5) في النفح: «وتواترت لديّ».
(6) الشّحط: البعد.
(7) في النفح: «ويرحم الله تعالى».
(8) في الأصل: «للشوق»، والتصويب من النفح.
(9) كلمة «فقال» غير واردة في النفح. والبيت للمعري وهو في شروح سقط الزند (ص 114).
(10) في الأصل: «للشوق»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(11) الناجية: الناقة السريعة. العشر: شجر وأراد هنا المكان الذي ينبت فيه. لسان العرب (نجا) و (عشر).
(12) في النفح: «ولقد».
(13) في الأصل: «الأمل»: والتصويب من النفح.
(14) في نفح الطيب: «وحامل».(3/71)
ومنها (1): وتعرّفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التّكتيب والتّعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لا حظ الملاحظ (2)، ما قال الجاحظ (3)، فاعتراض لا يردّ، وقياس لا يضطرد (4)، حبّذا والله عيش أهل (5)
التّأديب، فلا بالضّنك ولا بالجديب (6)، معاهدة الإحسان، ومشاهدة الصّور الحسان، يمينا إنّ المعلّمين، لسادة المسلمين، وإنّي لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب، أمراء (7) فوق المراتب، من كل مسيطر الدّرّة، متقطّب الأسرّة، متنمّر للوارد تنمّر الهرّة، يغدو إلى مكتبه، كالأمير (8) في موكبه، حتى إذا استقلّ في فرشه، واستولى على عرشه، وترنّم بتلاوة قالونه (9) وورشه، أظهر للخلق احتقارا، وأزرى (10) بالجبال وقارا، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظّالم والمظلوم، فتقول: كسرى في إيوانه، والرّشيد في زمانه (11)، والحجّاج بين أعوانه. وإذا (12) استولى على البدر السّرار، وتبيّن للشهر الغرار (13)، تحرّك (14) إلى الخرج (15)، تحرّك العود (16) إلى الفرج، أستغفر الله مما يشقّ على سيدي سماعه، وتشمئزّ من ذكره (17) طباعه، شيم اللّسان، خلط الإساءة بالإحسان، والغفلة من صفات الإنسان. فأيّ عيش هذا (18)
العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش؟ طاعة معروفة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، تتحقق الغصّات (19)، فكأنّما طمس الأفواه (20)، ولأم بين الشّفاه، وإن أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضّجيج والعجيج، وحفّ به كما حفّ بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدسّ، وغمزة لا تحسّ، ووعد يستنجز، وحاجة تستعجل وتحفز. هنّأ الله سيدي ما خوّله، وأنساه بطيب آخره أوّله. وقد بعثت
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 229228).
(2) في النفح: «اللاحظ».
(3) يشير إلى ذمّ الجاحظ معلمي الصبيان، ويداعب أبا عبد الله اليتيم في رجوعه إلى هذه الحرفة.
(4) في النفح: «لا يطرد».
(5) كلمة «أهل» ساقطة في النفح.
(6) الضّنك: الضّيّق. الجديب: المكان المقفر الذي لا نبات فيه. لسان العرب (ضنك) و (جدب).
(7) في الأصل: «أمرا» وكذا لا معنى له، والتصويب من النفح.
(8) في الأصل: «والأمير»، والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «قانونه» والتصويب من النفح. وقالون وورش: مقرئان، لكل منهما قراءته الخاصة.
(10) في الأصل: «وأندى» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «أوانه».
(12) في النفح: «فإذا».
(13) في الأصل: «القرار» والتصويب من النفح.
(14) في الأصل: «وتحرك» والتصويب من النفح.
(15) في الأصل: «الخوج» ولا معنى له، والتصويب من النفح.
(16) في الأصل: «القرد» والتصويب من النفح.
(17) في الأصل: «ذكراه» والتصويب من النفح.
(18) في النفح: «كهذا».
(19) في النفح: «لتحقّق القصّات».
(20) في النفح: «على الأفواه».(3/72)
بدعابتي هذه مع إجلال قدره، والثّقة بسعة صدره، فليتلقّها بيمينه، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه (1)، ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته عملا (2) بمقتضى دينه، وفضل يقينه، والسّلام.
ومن شعره ما كتب به إليّ (3): [الكامل]
آيات حسنك حجّة للقال (4) ... في الحبّ قائمة على العذّال
يا من سبى طوعا عقول ذوي النّهى ... ببلاغة قد أيّدت بجمال
يستعبد الأبصار والأسماع ما ... يجلو ويتلو من سنيّ مقال
وعليك أهواء النفوس بأسرها ... وقفت فغيرك (5) لا يمرّ ببال
رفعت لديك (6) في البلاغة راية ... لمّا احتللت بها وحيد كمال
وغدت تباهي منك بالبدر الذي ... تعنو البدور لنوره المتلالي
ماذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب (7) ... ودّا ينافس فيك كلّ مغال (8)؟
جذبته نحو هواك غرّ محاسن ... مشفوعة أفرادها بمعال
وشمائل رقّت لرقّة طبعها ... فزلالها يزري بكل زلال
وحليّ آداب بمثل نفيسها ... تزهو الحلى ويجلّ قدر الحالي
تستخدم (9) الياقوت عند نظامها ... فمقصّر من قاسها بلآل
سبق الأخير الأوّلين بفضلها ... فغدا المقدّم تابعا للتّالي
شغفي ببكر (10) من عقائلها إذا ... تبدو تصان من الحجى بحجال
فابعث بها بنت (11) المنى ممهورة ... طيب الثّناء لنقدها والكالي
لا زلت شمسا في الفضائل يهتدى ... بسناك في الأفعال والأقوال (12)
ثم السّلام عليك يترى ما تلت ... بكر الزّمان روادف الآصال
__________
(1) الخدين: الخدن، الصديق. لسان العرب (خدن).
(2) كلمة «عملا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(3) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 60).
(4) في الكتيبة: «للتالي».
(5) في الأصل: «فطيرك» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) في الأصل: «لريّه»، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(7) في الكتيبة: «يخاطب».
(8) في الأصل: «مقال» والتصويب من الكتيبة.
(9) في الأصل: «يستخدم» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(10) في الأصل: «بذكر» والتصويب من الكتيبة.
(11) في الأصل: «نلت» والتصويب من الكتيبة.
(12) في الكتيبة: «في الأقوال والأفعال».(3/73)
ومن الدّعابة، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السّلام (1): [الوافر]
أبا عبد الله نداء خلّ ... وفيّ جاء يمنحك النّصيحه
إلى كم تألف الشّبان غيّا ... وخذلانا، أما تخشى الفضيحة؟
فأجابه رحمه الله: [الوافر]
فديتك، صاحب السّمة المليحه ... ومن طابت أرومته الصّريحه
ومن قلبي وضعت له محلّا ... فما عنه يحلّ بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب ... وأكباد (2) لفرقتكم قريحه
وطرفي لا يتاح له رقاد ... وهل نوم لأجفان جريحه؟
وزاد تشوّقي أبيات شعر ... أتت منكم بألفاظ فصيحه
ولم تقصد بها جدّا، ولكن ... قصدت بها مداعبة قبيحه (3)
فقلت: أتألف الشبّان غيّا ... وخذلانا، أما تخشى الفضيحه؟
وفيهم (4) حرفتي وقوام عيشي ... وأحوالي بخلطتهم نجيحه
وأمري فيهم أمر مطاع ... وأوجههم مصابيح صبيحه
وتعلم أنّني رجل حصور (5) ... وتعرف ذاك معرفة صحيحه
قال في «التّاج»: ولمّا (6) اشتهر المشيب بعارضه ولمّته، وخفر الدهر لعمود (7)
صباه وأذمّته، أقلع واسترجع، وتألّم لما فرط وتوجّع، وهو الآن من جلّة الخطباء طاهر العرض والثّوب، خالص من الشّوب، باد عليه قبول قابل التوب.
وفاته رحمه الله: في آخر صفر من عام خمسين وسبعمائة في وقيعة الطاعون العام، ودخل غرناطة.
__________
(1) البيتان وجوابهما في نفح الطيب (ج 8ص 229).
(2) في النفح: «وأكبادي».
(3) في نفح الطيب: «وقيحة».
(4) في المصدر نفسه: «ففيهم».
(5) الحصور: من انقطع عن النساء وتفرّغ للعبادة. وفي القرآن الكريم: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً}. سورة آل عمران 3، الآية 39، ولسان العرب (حصر).
(6) النص في نفح الطيب (ج 8ص 230).
(7) في النفح: «لصباه».(3/74)
ومن الغرباء في هذا الباب
محمد بن أحمد بن محمد ابن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي (1)
من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين.
حاله: هذا (2) الرجل من طرف دهره ظرفا وخصوصيّة ولطافة، مليح التوسّل، حسن اللقاء، مبذول البشر، كثير التّودّد، نطيف البزّة، لطيف التّأنّي (3)، خيّر البيت، طلق الوجه، خلوب اللسان، طيّب الحديث، مقدر الألفاظ، عارف بالأبواب، درب على صحبة الملوك والأشراف، متقاض لإيثار السلاطين والأمراء، يسحرهم بخلابة لفظه، ويفتلهم (4) في الذّروة والغارب بتنزّله، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه، ويصنع (5) غاشيتهم بتلطّفه، ممزوج الدّعابة بالوقار، والفكاهة بالنّسك، والحشمة بالبسط، عظيم المشاركة لأهل ودّه، والتّعصّب لإخوانه، إلف مألوف، كثير الأتباع والعلق (6)، مسخّر الرّقاع في سبيل الوساطة، مجدي الجاه، غاصّ المنزل بالطّلبة، منقاد الدّعوة، بارع الخطّ أنيقه، عذب التّلاوة، متّسع الرّواية، مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيّد ويؤلّف، فلا يعدو السّداد في ذلك، فارس منبر، غير جزوع ولا هيابة (7). رحل إلى المشرق في كنف حشمة من جناب والده، رحمه الله، فحجّ وجاور، ولقي الجلّة، ثم فارقه، وقد عرف بالمشرق حقّه، وصرف وجهه إلى المغرب، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالا خلطه بنفسه، وجعله مفضى سرّه، وإمام جمعته، وخطيب منبره، وأمين رسالته، فقدم في غرضها على الأندلس في (8) أواخر عام ثمانية وأربعين وسبعمائة، فاجتذبه (9) سلطانها، رحمه الله، وأجراه على تلك الوتيرة، فقلّده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته. وفي أخريات عام أربعة
__________
(1) ترجمة ابن مرزوق في التعريف بابن خلدون (ص 49) ونيل الابتهاج (ص 272) والديباج المذهب (ص 305) والدرر الكامنة (ج 3ص 450) ونفح الطيب (ج 7ص 365).
(2) النص في نفح الطيب (ج 7ص 366).
(3) في الأصل: «التأتي» والتصويب من النفح.
(4) يفتلهم: يداورهم. لسان العرب (فتل).
(5) في النفح: «ويصطنع».
(6) العلق: الذين يتعلقون به ويتبعونه. لسان العرب (علق).
(7) في النفح: «هيّاب».
(8) كلمة «في» غير واردة في النفح.
(9) في الأصل: «واجذبه» والتصويب من النفح.(3/75)
وخمسين (1) بعده أطرف عنه جفن برّه، في أسلوب طماح، ودالّة، وسبيل هوى وقحة، فاغتنم العبرة (2)، وانتهز الفرصة، وأنفذ في الرّحيل العزمة، وانصرف عزيز الرّحلة، مغبوط المنقلب، في أوائل شعبان عام أربعة وخمسين وسبعمائة (3)، فاستقرّ بباب ملك المغرب، أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محلّ تجلّة، وبساط قرب، مشترك الجاه، مجدي التوسّط، ناجع الشّفاعة، والله يتولّاه ويزيده من فضله.
مشيخته: من كتابه المسمى «عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز، من أئمة المغرب والشّام والحجاز»: فممن (4) لقيه بالمدينة المشرّفة على ساكنها الصلاة والسلام، الإمام العلّامة عزّ الدين محمد أبو الحسن بن علي بن إسماعيل الواسطي، صاحب خطّتي الإمامة والخطابة بالمسجد النبوي (5)
الكريم، وأفرد جزءا في مناقبه. ومنهم الشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السّعدي العبادي، تحمّل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم، ونائب الإمامة والخطابة به، ومنشد الأمداح النبوية هنالك وبمكة، شرّفها الله، الشيخ المعمّر الثّقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجي (6) المكيّ. والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي.
والشيخ مقرئ الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود بن إبراهيم الآبلي (7) المصري.
والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجّة، انتهت إليه الرّياسة العلمية والخطط الشّرعية بالحرم. والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني، قاضي القضاة بمصر (8).
وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي. والتّقي السعدي، وقاضي القضاة القزويني، والشرف أقضى القضاة الإخميمي، وكثيرون غيرهم. وسمع من عدد عديد آخر من أعلام القضاة والحفّاظ والعلماء بتونس، وبجاية، والزّاب، وتلمسان.
محنته: اقتضى (9) الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن، رحمه الله، وتوقّع (10) عودة الأمر إليه، وقد ألقاه اليمّ بالسّاحل بمدينة الجزائر، أن قبض
__________
(1) في النفح: «وخمسين صرف عنه جفن».
(2) في النفح: «الفترة».
(3) قوله: «في أوائل وسبعمائة» غير وارد في النفح.
(4) النص في نفح الطيب (ج 7ص 369367). بتصرف المقري.
(5) في النفح: «بالمسجد الكريم النبوي».
(6) في النفح: «الحجبي».
(7) في النفح: «الآيلي».
(8) في النفح: «القضاة بالديار المصرية».
(9) النص في نفح الطيب (ج 7ص 371).
(10) كلمة «وتوقع» غير واردة في نفح الطيب.(3/76)
عليه بتلمسان أمراؤها المتوثّبون عليها في هذه الفترة من بني زيّان، إرضاء لقبيلهم المتّهم بمداخلته، وقد رحل عنهم دسيسا من أميرهم عثمان بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن، فصرف مأخوذا عليه طريقه، منتهبا رحله، منتهكة حرمته، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر، مقفل المسلك، حريز القفل، ثاني اثنين. ولأيام قتل ثانيه ذبحا بمقربة من شفى تلك الرّكيّة، وانقطع لشدّة الثّقاف (1) أثره، وأيقن الناس بفوات الأمر فيه. ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة، فنجا ولا تسل كيف، وخلّصه الله خلاصا جميلا، وقدم على الأندلس، والله ينفعه بمحنته (2).
شعره، وما وقع من المكاتبة بيني وبينه: ركب (3) مع السلطان خارج (4)
الحمراء، أيام ضربت اللّوز قبابها البيض، وزيّنت الفحص العريض، والرّوض الأريض (5)، فارتجل في ذلك: [الكامل]
انظر إلى النّوار في أغصانه ... يحكي النجوم إذا تبدّت في الحلك
حيّا أمير المسلمين وقال: قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثّلك (6)
يا يوسفا حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك (7)
أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه: ذا مليك أو ملك (8)
ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة، خاطبني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه (9): [الكامل]
يا قادما وافى بكلّ نجاح ... أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ... تنل المنى وتفز بكلّ سماح
مغنى الإمام أبي عنان يمّمن ... تظفر ببحر في العلى طفّاح
__________
(1) قوله: «لشدّة الثقاف» غير وارد في النفح.
(2) في النفح: «بنيّته».
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 372).
(4) في النفح: «بخارج».
(5) الأريض: الكثير العشب. لسان العرب (أرض).
(6) مثّلك: زعم أن لك مثيلا. لسان العرب (مثل).
(7) هيت لك: اسم فعل أمر بمعنى هلمّ وتعال يقول سبحانه وتعالى: {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} سورة يوسف 12، الآية 23.
(8) أخذه من قول الله تعالى: {فَلَمََّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} سورة يوسف 12، الآية 31.
(9) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 199198).(3/77)
من قاس جود أبي عنان ذي (1) الندى ... بسواه قاس البحر بالضّحضاح (2)
ملك يفيض على العفاة نواله ... قبل السّؤال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدى (3) في الندى ... ذكر محاه من نداه ماح
ما أن رأيت ولا سمعت بمثله (4) ... من أريحيّ للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ... قد ألحفوا منه بظلّ جناح
وهمى على العافين سيب نواله ... حتى حكى سحّ الغمام الساحي
فنواله وجلاله وفعاله ... فاقت وأعيت ألسن المدّاح
وبه الدّنا أضحت تروق وأصبحت ... كلّ المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه ... متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما ... تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة ... من راحة المولى بكلّ صباح
والحمد (5) لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى، حمدا يؤمّ به جميعنا المقصد الأسنى، فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظّم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتغال بلبال (6). ولقدومكم على هذا المقام (7) العلي في ارتقاب، ولمواعدكم (8) بذلك في تحقّق وقوعه من غير شكّ ولا ارتياب، فها أنت تجتلي، من هذا المقام العلي، لتشيّعك (9) وجوه المسرّات صباحا، وتتلقّى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحا، بحول الله. ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهو من بعض ما لدى المحب (10) من إحسان مولاي (11)
وإنعامه. ولعمري لقد كان وافدا على سيدي في مستقرّه مع غيره. فالحمد لله الذي يسّر في إيصاله، على أفضل أحواله.
فراجعته بقولي (12): [الكامل]
راحت تذكّرني كؤوس الرّاح ... والقرب يخفض للجنوح جناحي
__________
(1) في النفح: «في الندى».
(2) الضحضاح: الماء القليل. محيط المحيط (ضحضح).
(3) ابن سعدى: هو أوس بن حارثة الطائي.
(4) في النفح: «ما إن سمعت ولا رأيت بمثله».
(5) ما يزال النص النثري والشعري في نفح الطيب (ج 8ص 200199).
(6) البلبال: الوسواس. لسان العرب (بلبل).
(7) في النفح: «هذا المحل المولوي».
(8) في النفح: «ولمواعيدكم».
(9) في النفح: «بتشيّعك».
(10) في النفح: «المعظم».
(11) في النفح: «مولاه».
(12) في النفح: «بما نصّه».(3/78)
وسرت تدلّ على القبول كأنما ... دلّ النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنيت بحسن صفاتها ... عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحضّ على اللّياذ بمن جرت ... بسعوده الأقلام في الأفراح (1)
بخليفة الله المؤيّد فارس ... شمس المعالي الأزهر الوضّاح
ما شئت من همم (2) ومن شيم غدت ... كالزّهر أو كالزّهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه ... أنّى يقاس الغمر بالضّحضاح؟
أسنى بني عبّاسهم بلوائه ال ... منصور أو بحسامه السّفّاح
وغدت مغاني الملك لمّا حلّها ... تزهى ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم ... في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه ... روحي وريحاني الأريج وراحي
ولقد تمازج حبّه بجوارحي ... كتمازج الأجسام بالأرواح
ولو أنني أبصرت يوما في يدي ... أمري لطرت إليه دون جناح
فالآن ساعدني الزّمان وأيقنت ... من قربه نفسي بفوز قداحي
إيه أبا عبد الإله وإنه ... لنداء ودّ في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما ... ركدت لما خبت الخطوب رياحي
فإليكها مهزولة وأنا امرؤ ... قرّرت عجزي واطّرحت سلاحي
سيدي (3)، أبقاك الله لعهد تحفظه، ووليّ بعين الولاء تلحظه، وصلتني رقعتك التي ابتدعت (4)، وبالحق من مدح (5) المولى الخليفة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوحال (6)، حتى كادت تتلف الرّحال، والحاجة إلى الغذاء قد شمّرت كشح البطين، وثانية العجماوين (7) قد توقع فوات وقتها وإن كانت صلاتها صلاة الطّين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فغزتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنّة، وقول «لا أدري» للعالم فكيف لغيره
__________
(1) في النفح: «في الألواح».
(2) في النفح: «من شيم ومن همم».
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 201200).
(4) في النفح: «أبدعت».
(5) في النفح: «من مولى».
(6) في النفح: «الأوجال».
(7) ثانية العجماوين: صلاة العصر، وأولاهما صلاة الظهر لأنهما لا يجهر فيهما بالقراءة. لسان العرب (عجم).(3/79)
جنّة، لكنها بشّرتني بما يقلّ لمهديه (1) بذل النفوس وإن جلّت، وأطلعتني من السرّاء على وجه تحسده الشمس إذا تجلّت، بما أعلمت (2) به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيّده الله، في عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده. وهذا هو الجود المحض، والفضل الذي شكره هو الفرض. وتلك الخلافة المولويّة تتّصف بصفة (3)
من يبدأ بالنّوال، من قبل الضّراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب ولا مجازاة للأعمال. نسأل الله أن يبقي منها على الإسلام أوفى الظّلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال. ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهديّة، والتحفة الوديّة، وقبلتها امتثالا، واستجليت منها عتقا وجمالا. وسيدي في الوقت أنسب إلى اتخاذ (4) ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث البهم والإنس. وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع لذلك إلّا في النّدرة، فلو رأى سيدي، ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضيّة إلى باب العارية من باب الهبة، مع وجوب (5) الحقوق المترتّبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤنة على شاكلة حالي معه، وقد استصحبت مركوبا يشقّ عليّ هجره، ويناسب مقامي شكله ونجره (6)، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعوّل، واعتماد إغضائه هو المعقول الأول. والسلام على سيدي من معظّم قدره، وملتزم برّه، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع والعشرين لذي قعدة سنة (7) خمس (8) وخمسين وسبعمائة، والسّماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظنّ أنه طوفان، واللّحاف في غد (9) بالباب المولوي، مؤمل بحول الله.
ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه، ما أنشد عنه، وبين يديه، في ليلة الميلاد المعظم، من عام ثلاثة وستين وسبعمائة بمدينة فاس المحروسة (10): [مجزوء الرجز]
أيا نسيم (11) السّحر ... بالله (12) بلّغ خبري
إن أنت يوما بالحمى ... جررت فضل المئزر
__________
(1) في النفح: «لمؤديه».
(2) في النفح: «أعلمتني».
(3) في النفح: «بصفات».
(4) في النفح: «لاتخاذ».
(5) في النفح: «وجود».
(6) النّجر، بفتح النون وسكون الجيم: الأصل واللون. لسان العرب (نجر).
(7) كلمة «سنة» غير واردة في النفح.
(8) في الأصل: «خمسة» وهو خطأ نحوي.
(9) في النفح: «غدها».
(10) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 378372).
(11) في نفح الطيب: «قل لنسيم».
(12) في نفح الطيب: «لله».(3/80)
ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر
مستقريا في عشبه ... خفيّ (1) وطء المطر
تروي عن الضّحاك في الر ... وض حديث الزّهر
مخلّق الأذيال بال ... عبير أو بالعنبر
وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري
وحقّهم ما غيّرت ... ودّي صروف الغير
لله عهد فيه قضّ ... يت حميد الأثر
أيّامه هي التي ... أحسبها من عمري
وبالليل فيه ما ... عيب بغير القصر
العمر فينان ووج ... هـ الدهر طلق الغرر
والشّمل بالأحباب من ... ظوم كنظم الدّرر
صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر
ما بين أهل تقطف ال ... أنس جنيّ الثمر
وبين آمال تبي ... ح القرب صافي الغدر (2)
يا شجرات الحيّ حيّ ... اك الحيا من شجر
إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري
خرّجت من خدّي حدي ... ث الدمع فوق الطّرر
وقلت يا خدّ أرو من ... دمعي صحاح الجوهري
عهدي بحادي (3) الرّكب كال ... ورقاء عند السّحر
والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبري (4)
تخبط بالأخفاف مظ ... لوم البرى وهو بري (5)
قد عطفت عن ميد ... والتفتت (6) عن حور
__________
(1) في نفح الطيب: «مخفيّ وطء».
(2) الغدر: جمع غدير. لسان العرب (غدر).
(3) حادي الركب: الذي يحدو للإبل لتنشط في سيرها. لسان العرب (حدا).
(4) اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة على العمل. تنبري: تعترض، أي إنها تباري الإبل في سرعة سيرها. محيط المحيط (عمل) و (برى).
(5) البرى، بالفتح: التراب. بري: أي بريء، فسهّل الهمزة. لسان العرب (برى) و (برأ).
(6) في الأصل: «والتفّت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(3/81)
قسيّ سير (1) ما سوى ال ... عزم لها من وتر
حتى إذا الأعلام حل ... لت لحفيّ البشر
واستبشر النازح بال ... قرب ونيل الوطر
وعيّن الميقات للسّ ... فر (2) نجاح السّفر
والناس (3) بين محرم ... بالحجّ أو معتمر
لبّيك لبيك إل ... هـ الخلق باري الصّور
ولاحت الكعبة بي ... ت الله ذات الأثر
مقام إبراهيم وال ... مأمن عند الذّعر
واغتنم القوم طوا ... ف القادم المبتدر (4)
وأعقبوا ركعتي السّ ... عي استلام الحجر
وعرّفوا في عرفا ... ت كلّ عرف أذفر (5)
ثم أفاض الناس سع ... يا في غد للمشعر (6)
فوقفوا وكبّروا ... قبل الصباح المسفر
وفي منّى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظّفر
وبعد رمي الجمرا ... ت كان خلق الشّعر
أكرم بذاك الصّحب (7) وال ... له وذاك النّفر (8)
يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر
حتى إذا كان الودا ... ع وطواف الصّدر (9)
فأيّ صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر (10)
وأيّ وجد لم يصل ... وسلوة لم تهجر
__________
(1) يشبه الإبل الهزيلة السريعة بالقسيّ.
(2) السّفر: المسافرون. لسان العرب (سفر).
(3) في النفح: «فالناس».
(4) المبتدر: المسرع إلى عمل شيء، وأراد: طواف القدوم. لسان العرب (بدر).
(5) الأذفر: الطيب الرائحة. لسان العرب (ذفر).
(6) المشعر: موضع مناسك الحج. محيط المحيط (شعر).
(7) في النفح: «السّفر».
(8) في النفح: «السّفر».
(9) الصّدر: الرجوع، وطواف الصدر هو الطواف الذي يكون آخر أعمال الحجّ، سمي بذلك لأنهم يعودون بعده إلى بلادهم.
(10) يقول: إنهم جزعوا لمفارقة مكة.(3/82)
ما أفجع البين لقل ... ب الواله المستغفر (1)
ثم ثنوا نحو رسو ... ل الله سير الضّمّر
فعاينوا في طيبة ... لألاء نور نيّر
زاروا رسول الله واس ... تشفعوا بلثم الجدر
نالوا به ما أمّلوا ... وعرّجوا في الأثر
على الضّجيعين أبي ... بكر الرّضا وعمر
زيارة الهادي الشّفي ... ع جنّة (2) في المحشر
فأحسن الله عزا ... ء قاصد لم يزر
ربع ترى مستنزل ال ... آي به والسّور
وملتقى جبريل بال ... هادي الزّكيّ العنصر (3)
وروضة الجنّة ب ... ين روضة ومنبر
منتخب الله ومخ ... تار الورى من مضر
والمنتقى والكون من ... ملابس الخلق عري
إذ لم يكن في أفق ... من زحل أو مشتري (4)
ذو المعجزات الغرّ أم ... ثال النجوم الزّهر
يشهد بالصّدق له ... منها انشقاق القمر (5)
والضّبّ والظّبي إلى ... نطق الحصى والشّجر
من أطعم الألف بصا ... ع في صحيح الخبر
والجيش روّاه بما ... ء الرّاحة المنهمر
يا نكتة الكون التي ... فاتت منال الفكر (6)
يا حجّة الله على ال ... رائح والمبتكر
يا أكرم الرّسل على ال ... له وخير البشر
__________
(1) في النفح: «المستعبر».
(2) الجنّة: بضم الجيم: الوقاية. لسان العرب (جنن).
(3) أراد بالزكي العنصر: النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(4) في نفح الطيب: «ومشتري».
(5) انشقاق القمر من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. سورة القمر 54، الآية 1.
(6) الفكر: جمع فكرة، وأراد العقول، وقوله: فاتت منال الفكر: أي عجز المفكرون عن إدراك حقيقته.(3/83)
يا من له التّقدم ال ... حقّ على التّأخر
يا من لدى مولده ... المقدّس المطهّر
إيوان كسرى ارتجّ إذ ... ضاقت (1) قصور قيصر
وموقد النار طفا ... كأنها لم تسعر (2)
يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري
يا من له اللّواء وال ... حوض وورد الكوثر
يا منقذ الغرقى وهم ... رهن العذاب الأكبر
إن لم تحقّق أملي ... بؤت بسعي المخسر
صلّى عليك الله يا ... نور الدّجا المعتكر
يا ويح نفسي كم أرى ... من غفلتي في غمر (3)
وا حسرتا (4) من قلّة ال ... زّاد وبعد السّفر
يحجّني والله بال ... برهان وعظ المنبر
يا حسنها من خطب ... لو حرّكت من نظري (5)
يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر
أومّل الأوبة وال ... أمر بكفّ القدر
أسوف العزم بها (6) ... من شهر لشهر
من صفر لرجب ... من رجب لصفر
ضيّعت في الكبرة ما ... أعددته في صغري
وليس ما مرّ من ال ... أيام بالمنتظر
وقلّ ما أن حمدت ... سلامة في غرر
ولي غريم لا يني ... عن (7) طلب المنكسر
يا نفس جدّي قد بدا ال ... صبح ألا فاعتبري
واتّعظي بمن مضى ... وارتدعي وازدجري
__________
(1) في النفح: «ضاءت».
(2) في النفح: «طفي كأنه لم يسعر».
(3) في النفح: «في غفلة من عمري».
(4) في الأصل: «واحسروا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «من نظر» والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «به».
(7) في النفح: «في».(3/84)
ما بعد شيب الفود من ... مرتقب فشمّري
أنت وإن طال المدى ... في قلعة (1) أو سفر (2)
وليس من عذر يقي ... م حجّة المعتذر
يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر
هل أرتجي من عودة ... أو رجعة أو صدر
فأبرّد الغلّة من ... ذاك الزّلال الخصر (3)؟
مقتديا بمن مضى ... من سلف ومعشر
نالوا جوار الله وهـ ... والفخر للمفتخر
أرجو بإبراهيم مو ... لانا بلوغ الوطر
فوعده لا يمتري ... في الصّدق منه الممتري (4)
فهو (5) الإمام المرتضى ... والخيّر ابن الخيّر
أكرم من نال المنى (6) ... بالمرهفات البتر
ممهّد الملك وسي ... ف الحقّ والليث الجري
خليفة الله الذي ... فاق بحسن السّير
وكان منه الخبر في ال ... علياء وفق الخبر
فصدّق التّصديق من ... مرآه للتّصور
ومستعين الله في ... ورد له وصدر
فاق الملوك الصّيدا (7) بال ... مجد الرّفيع الخطر
فأصبحت ألقابهم ... منسيّة لم تذكر
وحاز منهم (8) أوحد ... وصف العديد الأكثر
برأيه المأمون أو ... عسكره المظفّر
بسيفه السّفاح أو ... بعزمه المقتدر (9)
__________
(1) القلعة: الانتقال. لسان العرب (قلع).
(2) في النفح: «وسفر».
(3) الخصر: العذب البارد. لسان العرب (خصر).
(4) في نفح الطيب: «ممتري». وامترى في الشيء: شكّ فيه. محيط المحيط (مرى).
(5) في نفح الطيب: «وهو».
(6) في نفح الطيب: «العلا».
(7) في الأصل: «الصيد»، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «منه».
(9) في هذا البيت والذي يليه تورية بأسماء بعض الخلفاء.(3/85)
بالعلم المنصور أو ... بالذّابل المستنصر (1)
بابن (2) الإمام الط ... اهر البرّ الزّكي السّير
مدحك قد علّم نظ ... م الشّعر من لم يشعر
جهد المقلّ اليوم من ... مثلي كوسع المكثر
فإن يقصّر ظاهري ... فلم يقصّر مضمري
ووردت (3) على (4) باب السلطان الكبير العالم (5) أبي عنان، فبلوت من مشاركته، وحميد سعيه ما يليق بمثله. ولمّا نكبه لم أقصّر عن ممكن حيلة في أمره.
ولما (6) هلك السلطان أبو عنان، رحمه الله، وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد الولد المسمّى بالسّعيد، كان ممن دمث (7) له الطّاعة، وأناخ راحلة الملك، وحلب ضرع الدّعوة (8)، وخطب عروس الموهبة، فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب، مشدود من لدن القربة (9)، فاستحكم عن قرب، واستغلظ عن كثب، فاستولى على أمره، وخلطه بنفسه، ولم يستأثر عنه ببثّه، ولا انفرد بما سوى بضع أهله، بحيث لا يقطع في شيء إلّا عن رأيه، ولا يمحو ويثبت إلّا واقفا عند حدّه، فغشيت بابه الوفود، وصرفت إليه الوجوه، ووقفت عليه الآمال، وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدّته بضائع العقول والأموال، وهادته الملوك، فلا تحدو (10)
الحداة إلّا إليه، ولا تحطّ الرّحال إلّا لديه. إن حضر أجري الرسم، وأنفذ الأمر والنّهي، لحظا أو سرارا أو مكاتبة، وإن غاب، تردّدت الرّقاع، واختلفت الرّسل. ثم انفرد أخيرا ببيت الخلوة، ومنتبذ المناجاة، من دونه مصطفّ الوزراء، وغايات الحجّاب، فإذا انصرف تبعته الدّنيا، وسارت بين يديه الوزراء، ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكلّ لحظه، وشملهم بحسب الرّتب والأموال رعيه، ووسم أفذاذهم تسويده، وعقدت ببنان عليتهم بنانه. لكن رضى الناس غاية (11) لا تدرك، والحقد (12)
بين بني آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله، فطويت الجوانح منه (13) على سل،
__________
(1) في النفح: «المنتصر».
(2) في النفح: «يا ابن».
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 380379).
(4) كلمة «على» غير واردة في النفح.
(5) كلمة «العالم» غير واردة في النفح.
(6) في النفح: «فلما».
(7) في النفح: «دانت».
(8) في النفح: «الدولة».
(9) في النفح: «التقرب».
(10) لا تحدو الحداة إلّا إليه: لا تشد الرحال إلّا إليه.
(11) في النفح: «الغاية».
(12) في النفح: «والحسد».
(13) كلمة «منه» غير واردة في النفح.(3/86)
وحنيت الضّلوع على بثّ، وأغمضت الجفون على قذى، إلى أن كان من نكبته (1) ما هو معروف، جعلها الله له طهورا.
ولمّا جرت الحادثة على السلطان (2) بالأندلس، وكان لحاق جميعنا بالمغرب، جنيت ثمرة ما أسلفته في ودّه، فوفّى كيل (3) الوفا، وأشرك في الجاه، وأدرّ الرّزق، ورفع المجلس بعد التّسبيب (4) في الخلاص والسّعي في الجبر، جبره الله تعالى، وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك، {يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ (88) إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (5).
ولما انقضى أمر سلطانه، رحمه الله، وقذف به بحر التّمحيص إلى شطّه، وأضحى جوّ النّكبة بعد انطباقه، آثر التّشريق بأهله وجملته، واستقرّ بتونس خطيب الخلافة، مقيما على رسمه من التّجلّة، ذائع الفضل هنالك والمشاركة، وهو بحاله الموصوفة إلى الآن، كان الله له.
وكنت (6) أحسست منه في بعض الكتب (7) الواردة صاغية إلى الدّنيا، وحنينا لما فارق (8) من غرورها، فحملني الطّور الذي ارتكبته في هذا الأيام، بتوفيق الله، على أن خاطبته (9) بهذه الرسالة، وحقّها أن يجعلها خدمة الملوك ممّن ينسب إلى نبل، أو يلمّ (10) بمعرفة، مصحفا يدرسه، وشعارا يلتزمه، وهي (11):
سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة (12)، ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت في حمدها (13) الصّفات، ولا تزال تعترف بها العظام الرّفات، أطلقك الله من أسر الكون (14) كما أطلقك من أسر بعضه، ورشّدك (15) في سمائه العالية وأرضه، وحقّر الحظّ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه. اتّصل بي الخبر السّار من تركك لشانك، وإجناء الله إيّاك ثمرة إحسانك، وانجياب ظلام
__________
(1) في النفح: «نكبته الثالثة».
(2) في النفح: «الدولة».
(3) في النفح: «فوفّى الكيل».
(4) في النفح: «التسبّب».
(5) سورة الشعراء 26، الآيتان: 88، 89.
(6) النص في نفح الطيب (ج 7ص 138137).
(7) في النفح: «كتبه الواردة إليّ صاغية».
(8) في النفح: «بلاه».
(9) في النفح: «أخاطبه».
(10) في النفح: «ويلمّ».
(11) الرسالة مع الشعر في نفح الطيب (ج 7ص 139138).
(12) في النفح: «المكافات».
(13) قوله: «في حمدها» غير وارد في النفح.
(14) في النفح: «كل الكون».
(15) في النفح: «وزهّدك في سمأته الفانية وفي أرضه».(3/87)
الشّدة الحالك، عن أفق حالك، فكبّرت (1) لانتشاق عفو الله العطر (2)، واستعبرت لتضاؤل الشّدة بين يدي الفرج لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر، ويدعوه القضاء فيبتدر (3)، إنما هو فيء (4)، وظلّ ليس له من الأمر شيء، ونسأله (5) جلّ وتعالى أن يجعلها آخر عهدك بالدّنيا وبنيها، وأوّل معارج نفسك التي تقرّبها من الحقّ وتدنيها، وكأنّني (6) والله أحسّ بثقل هذه الدعوة على سمعك، ومضادّتها ولا حول ولا قوة إلّا بالله لطبعك، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله في عالم الإنسان، والآلة لبثّ العدل والإحسان، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللّسان، فأقول: ليت شعري ما الذي غبط سيدي بالدّنيا، وإن بلغ من زبرجها (7) الرّتبة العليا، وأفرض (8) المثال لحالة (9) إقبالها، ووصل حبالها، وضراعة سبالها، وخشوع جبالها.
التوقّع المكروه صباح مسا (10)، وارتقاب الحوالة التي تديل من النّعيم البأساء (11)، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤسا (12)؟ ألترتّب العتب، حتى (13) على التّقصير في الكتب، وضعينة جار الجنب، وولوع الصّديق بإحصاء الذّنب؟ ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عري؟ ألاستهدافك للمضّار التي تنتجها غيرة الفروج، والأحقاد التي تضطبنها (14) ركبة السّروج وسرحة المروج، ونجوم السّما ذات البروج؟ ألتقليدك التّقصير فيما ضاقت عنه طاقتك، وصحّت إليه فاقتك، من حاجة لا يقتضي قضاءها (15) الوجود، ولا يكيّفها (16) الرّكوع للملك والسّجود؟ ألقطع الزّمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيوب تكبّد، وعجاجة (17)
شرّ تلبّد، وأقبوحة تخلّد وتوبّد؟ ألوزير يصانع ويدارى، وذي حجّة صحيحة يجادل في مرضاة السّلطان ويمارى، وعورة لا توارى؟ ألمباكرة كلّ عائب (18) حاسد، وعدوّ مستأسد، وسوق للإنصاف والشّفقة كاسد، وحال فاسد؟ أللوفود (19) تتزاحم بسدّتك،
__________
(1) قوله: «فكبرت، وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت، لا يسوى»، غير وارد في النفح.
(2) في الأصل: «العاطر»، وقد صوبناه لتستقيم السجعة.
(3) يبتدر: يسرع.
(4) الفيء: الظلّ.
(5) في النفح: «ونسأل الله جلّ وعلا».
(6) في النفح: «وكأني».
(7) الزّبرج: الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك. محيط المحيط (زبرج).
(8) في النفح: «ونفرض».
(9) في النفح: «بحال».
(10) في النفح: «صباحا ومساء».
(11) في النفح: «البأساء».
(12) في النفح: «والرؤساء».
(13) كلمة «حتى» غير واردة في النفح.
(14) في النفح: «تضبطها».
(15) في الأصل: «قضاها» والتصويب من النفح.
(16) في النفح: «ولا يكفيها».
(17) العجاجة: العجاج وهو الغبار. محيط المحيط (عجج).
(18) في النفح: «قرن».
(19) فى النفح: «ألوفود».(3/88)
مكلّفة لك غير ما في طوقك، فإن لم تنل أغراضها (1) قلبت عليك السّماء من فوقك؟ ألجلساء ببابك، لا يقطعون زمن (2) رجوعك وإيابك، إلّا بقبيح اغتيابك؟
فالتّصرّفات تمقت، والقواطع النّجوميّات (3) توقّت، والألاقيّ (4) تبثّ، والسعايات تحثّ، والمساجد يشتكى فيها (5) البثّ، يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور، واليتيم المحجور، والأسير المأمور، ليس له شهوة ولا غضب، ولا أمل في الملك ولا أرب، ولا موجدة (6) لأحد كامنة، وللشّر ضامنة، وليس في نفسه عن رأي نفرة، ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة وطفرة، إنما هو جارحة لصيدك، وعان في قيدك، وآلة لتصرّف كيدك، وأنّك علّة حيفه، ومسلّط سيفه: الشّرار يسملون عيون الناس باسمك، ثم يمزّقون بالغيبة مزق جسمك، قد تنخّلهم الوجود أخبث ما فيه، واختارهم السّفيه فالسّفيه، إذ الخير يسرّه (7) الله عن الدّول ويخفيه، ويقنعه بالقليل فيكفيه، فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة، ويقتحمون (8) عليك أبواب القول ويسدّون طرق السّلامة، وليس لك في أثناء هذه إلّا ما يعوزك مع ارتفاعه، ولا يفوتك مع انقشاعه، وذهاب صداعه، من غذاء يشبع، وثوب يقنع، وفراش ينيم، وخديم يقعد ويقيم. وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا، ومال من ورائه سوء القضا، وجاه يحلّق عليه سيف منتضى؟ وإذا بلغت النّفس إلى الالتذاذ بما لا تملك، واللّجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك (9)، فكيف تنسب (10) إلى نبل، أو تسير (11)
مع (12) السعادة في سبل؟ وإن وجدت في القعود (13) بمجلس التّحية، بعض الأريحيّة، فليت شعري أيّ شيء زادها، أو معنى أفادها، إلّا مباكرة وجه الحاسد، وذي القلب الفاسد، ومواجهة العدوّ المستأسد؟ أو شعرت ببعض الإيناس، في الركوب بين الناس. هل (14) التذّت إلّا بحلم كاذب، أو جذبها غير الغرور مجاذب (15)؟ إنما الحلية (16) وافتك من يحدّق إلى البزّة، ويستطيل مدّة العزّة، ويرتاب إذا حدّث (17)
__________
(1) في النفح: «فإن لم يقع الإسعاف قلبت».
(2) في النفح: «زمان».
(3) كلمة «النجوميات» ساقطة في النفح.
(4) الألاقيّ: جمع ألقيّة وهي ما ألقي من التحاجي والألغاز. لسان العرب (لقي).
(5) في النفح: «في حلقها».
(6) الموجدة: الغضب. لسان العرب (وجد).
(7) في النفح: «يستره».
(8) في المصدر نفسه: «ويفتحون».
(9) في الأصل: «تملك» والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «ينسب» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «أو يسر» والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «من».
(13) في النفح: «الجلوس».
(14) في النفح: «ما».
(15) في النفح: «جاذب».
(16) في النفح: «إنما راكبك من يحدّق إلى الحلية والبزّة».
(17) في النفح: «حدثت».(3/89)
بخبرك، ويتبع بالنّقد والتّجسّس مواقع نظرك، ويمنعك من مسايرة أنيسك (1)، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشّرّ لك ولرئيسك (2). وأيّ راحة لمن لا يباشر قصده، ويسير (3) متى شاء وحده؟ ولو صحّ في هذه الحال لله حظّ، وهبه زهيدا، أو عيّن (4) للرّشد عملا حميدا، لساغ الصّاب (5)، وخفّت الأوصاب (6)، وسهل المصاب. لكن الوقت أشغل، والفكر أوغل، والزّمن قد غمرته الحصص الوهميّة، واستنفدت منه الكميّة، أما ليله ففكر أو نوم، وعتب يجرّ (7) الضّراس ولوم، وأمّا يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير (8)، وبلاء مبير، ولغط لا يدخل فيه حكيم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير. وو الله يا سيّدي، ومن فلق الحبّ وأخرج الأبّ (9)، وذرأ من مشى ومن (10) دبّ، وسمّى نفسه الربّ، لو تعلّق المال الذي يجده هذا الكدح (11)، ويوري سقيطه هذا القدح، بأذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لما (12) ورثه عقب، ولا خلص به محتقب (13)، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشّاهد الدّول والمشائيم (14) الأول: فأين الرّباع المقتناة؟ وأين الدّيار المبتناة (15)؟ وأين الحدائق (16) المغترسات، وأين الذّخائر المختلسات؟ وأين الودائع المؤمّلة، وأين الأمانات المحمّلة؟ تأذّن الله بتتبيرها، وإدناء نار التّبار (17) من دنانيرها، فقلّما تلقى أعقابهم إلّا أعراء الظّهور (18)، مترمّقين بجرايات (19) الشّهور، متعلّلين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عندها (20) آباؤهم، وعرف
__________
(1) في الأصل: «من شارة أنسك»، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «ولرسيك» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «ويمشي إذا شاء».
(4) في النفح: «وعيّن».
(5) الصاب: عصارة شجر مرّ. لسان العرب (صوب).
(6) الأوصاب: جمع وصب وهو المرض. لسان العرب (وصب).
(7) في النفح: «بجراء الضرائر ولوم».
(8) ثبير: أعلى جبال مكة وأعظمها. الروض المعطار (ص 149).
(9) الأبّ: الكلأ والمرعى. لسان العرب (أبب).
(10) في الأصل: «ما» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «الذي يجرّه هذا القدح».
(12) في الأصل: «لا» والتصويب من النفح.
(13) محتقب: محتمل يقال: احتقب الشيء إذا وضعه في حقيبته. لسان العرب (حقب).
(14) في الأصل: «والمشايم».
(15) في الأصل: «المبتداة» والتصويب من النفح.
(16) في النفح: «الحوائط».
(17) في الأصل: «وإدناء وتار التيّار»، والتصويب من النفح. والتتبير: الإهلاك. والتّبار: الهلاك.
محيط المحيط (تبر).
(18) في الأصل: «إلّا أعربا للطمور» والتصويب من النفح.
(19) في النفح: «لجرايات».
(20) في النفح: «عنها».(3/90)
منها إباؤهم، وشمّ من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم (1) تسامحهم الأيام إلّا في إرث محرّر، أو حلال مقرّر، وربما محقه الحرام، وتعذّر منه المرام. هذه، أعزّك الله، حال قبولها (2) ومالها مع التّرفيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العزّ مستوفيه. وأما ضدّه من عدوّ يتحكّم وينتقم، وحوت بغي يبتلع ويلتقم، وطبق (3)
يحجب الهواء، ويطيل في التّراب الثّواء، وثعبان قيد (4) يعضّ السّاق، وشؤبوب عذاب يمزّق الأبشار الرّقاق، وغيلة يهديها الواقب (5) الغاسق، ويجرعها العدوّ الفاسق، [فصرف السوق، وسلعته المعتادة الطروق (6)،] مع الأفول والشروق. فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرّة، أو ما يساوي جرعة حال مرّة؟ وا حسرتاه للأحلام ضلّت، وللأقدام زلّت، ويا لها مصيبة جلّت! ولسيدي أن يقول: حكمت عليّ (7) باستثقال الموعظة واستجفائها، ومراودة الدّنيا بين خلّانها وأكفائها، وتناسي عدم وفائها، فأقول: الطّبيب بالعلل أدرى، والشّفيق بسوء الظّنّ مغرى، وكيف لا وأنا أقف على السّحاءات بخطّ يد (8) سيدي من مطارح الاعتقال، ومثاقف النّوب الثّقال، وخلوات (9) الاستعداد للقاء الخطوب الشّداد، ونوش (10) الأسنّة الحداد، وحيث يجمل بمثله إلّا يصرف في غير الخضوع لله بنانا، ولا يثني لمخلوق عنانا.
وأتعرف أنها قد ملأت الجوّ والدوّ (11)، وقصدت الجماد والبوّ (12)، تقتحم أكفّ أولي الشّمات، وحفظة المذمّات، وأعوان النّوب الملمّات، زيادة في الشّقاء، وقصدا بريّا من الاختيار والانتقاء، مشتملة من التّجاوز على أغرب من العنقاء، ومن النّقاق على أشهر من البلقاء. فهذا يوصف بالإمامة، [وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة (13)]، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلّف الدّعاء وليس من أهله، وهذا يطلب منه لقاء الصّالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظني والله من البحث عن
__________
(1) في النفح: «ولم».
(2) في النفح: «قبولها مع الترفيه، ومالها المرغوب فيه، وعلى فرض».
(3) في النفح: «ومطبق».
(4) في الأصل: «قميد» والتصويب من النفح.
(5) يقال: وقب الرجل: أي دخل في الوقب، أي عند غياب الشمس. محيط المحيط (وقب).
(6) ما بين قوسين ساقط في الأصل، وقد أضفناه من النفح.
(7) كلمة «عليّ» ساقطة في النفح.
(8) كلمة «يد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(9) في النفح: «وخطوات».
(10) في النفح: «ونوشى».
(11) الدّوّ: المفازة. محيط المحيط (دوو).
(12) البوّ: جلد الحوار يحشى تبنا فيقرّب من أمّ الفصيل إذا فقدت ولدها فتعطف عليه فتدرّ. محيط المحيط (بوو).
(13) ما بين قوسين ساقط في النفح.(3/91)
السّموم، وكتب النجوم، والمذموم من المعلوم، هلّا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتا، وأعتقد أنّ الله قد جعل لزمن الخير والشّرّ ميقاتا، وأنّا لا نملك موتا ولا نشورا ولا حياتا، وأنّ اللّوح قد حصر الأشياء محوا وإثباتا، فكيف نرجو لما منع منالا أو نستطيع مما قدر إفلاتا؟ أفيدونا ما يرجّح العقيدة المقررة (1) نتحوّل إليه، وبيّنوا لنا الحقّ نعوّل عليه. الله الله يا سيدي في النّفس المرشّحة، والذّات المحلّاة (2) بالفضائل الموشّحة، والسّلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرّحلة بعد حثّ السّير، ودع الدنيا لأهلها (3) فما أوكس حظوظهم، وأخسّ لحوظهم، وأقلّ متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناءهم، وأقصر آناءهم:
[مجزوء الكامل]
ما ثمّ (4) إلّا ما رأي ... ت، وربما تعيي السّلامة
والناس إمّا جائر ... أو حائر يشكو ظلامه (5)
والله ما احتقب الحري ... ص سوى الذّنوب أو الملامه
هل ثمّ شكّ في المعا ... د الحقّ أو يوم القيامه
قولوا لنا ما عندكم ... أهل الخطابة والإمامه
وإن رميت بأحجاري، وأوجرت (6) المرّ من أشجاري، فو الله ما تلبّست منها اليوم (7) بشيء قديم ولا حديث، ولا استاثرت بطيّب فضلا عن خبيث. وما أنا إلّا عابر سبيل، وهاجر مرعى وبيل، ومرتقب وعد (8) قدر فيه الإنجاز، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز، قد فررت من الدنيا كما يفرّ من الأسد، وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد، وغسل الله قلبي، ولله (9) الحمد، من الطّمع والحسد، فلم أبق عادة إلّا قطعتها، ولا جنّة للصّبر إلّا ادّرعتها، أمّا اللّباس فالصّوف، وأما الزّهد فيما في أيدي (10) الناس فمعروف، وأما المال الغبيط فعلى الصّدقة مصروف. وو الله
__________
(1) في النفح: «المتقررة فنتحوّل».
(2) في الأصل: «واللّذّات المحلات»، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «لبنيها».
(4) في الأصل: «تمّ». والتصويب من النفح.
(5) جاء بعد هذا البيت في نفح الطيب البيت التالي:
وإذا أردت العزّ لا ... ترزأ بني الدّنيا قلامه
(6) أوجرت المرّ: صببته في الفم. لسان العرب (وجر).
(7) في الأصل: «لليوم». وفي النفح: «اليوم منها».
(8) في النفح: «وعدا».
(9) في الأصل: «وله» والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «بأيدي الخلق فمعروف».(3/92)
لو علمت أنّ حالي هذه تتّصل، وعراها (1) لا تنفصل، وأن ترتيبي هذا يدوم، ولا يحيّرني (2) الوعد المحتوم، والوقت المعلوم، لمتّ أسفا، وحسبي الله وكفى. ومع هذا يا سيدي، فالموعظة تتلقّى من لسان الوجود، والحكمة ضالّة المؤمن يطلبها ببذل المجهود، ويأخذها من غير اعتبار بمحلّها المذموم أو (3) المحمود. ولقد أعملت نظري فيما يكافىء عني بعض يدك، أو ينتهي (4) في الفضل إلى أمدك، فلم أر لك الدّنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا، وألفيت بذل النّفس قليلا لك من غير شرط ولا ثنيا (5)، فلمّا ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النّصيحة المفرغة في قالب الجفا، لمن لا يثبت عين الصّفا، ولا يشيم بارقة (6) الوفا، ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنّسين بها المنهمكين، وينظر عوّارها القادح (7) بعين اليقين، ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور، وعاشقها مغرور، وسرورها شرور، تبيّن لي أني (8) قد كافيت (9)
صنيعتك المتقدّمة، وخرجت عن عهدتك الملتزمة، وأمحضت (10) لك النّصح الذي يعزّ (11) بعزّ الله ذاتك، ويطيب حياتك، ويحيي مواتك، ويريح جوارحك من الوصب (12)، وقلبك من النّصب (13)، ويحقّر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت، ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت. كلّ من تقع عليه (14) عينك حقير قليل، وفقير ذليل، لا يفضلك بشيّ إلّا باقتفاء رشد أو ترك غيّ، أثوابه النّبيهة يجرّدها الغاسل، وعروة عزّه (15) يفصّلها الفاصل (16)، وماله الحاضر الحاصل، يعيث فيه الحسام الفاصل، والله ما تعيّن للخلف إلّا ما تعيّن للسّلف، ولا مصير المجموع إلّا إلى التّلف، ولا صحّ من الهياط والمياط (17)، والصّياح والعياط (18)، وجمع القيراط إلى القيراط، والاستظهار بالوزعة والأشراط، والخبط والخبّاط، والاستكثار والاغتباط،
__________
(1) في النفح: «وأن عراها».
(2) في الأصل: «يجيزني» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «ولا».
(4) في الأصل: «ينتمي» والتصويب من النفح.
(5) الثنيا: الاستثناء. لسان العرب (ثنا).
(6) يشيم: ينظر. البارقة: السحابة ذات البرق. لسان العرب (شام) و (برق).
(7) في الأصل: «عواره الفادح» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «أنني».
(9) في النفح: «كافأت».
(10) في الأصل: «ومحضت لله» والتصويب من النفح. وأمحض: أخلص. لسان العرب (محض).
(11) في الأصل: «يقرّ» والتصويب من النفح.
(12) الوصب: المرض. لسان العرب (وصب).
(13) النّصب: التعب. لسان العرب (نصب).
(14) في النفح: «عينك عليه فهو حقير».
(15) في الأصل: «غيره» والتصويب من النفح.
(16) في النفح: «يقصلها القاصل».
(17) الهياط: مصدر هاط يهيط، أي ضجّ وأجلب. المياط: الدفع والزجر، والمراد من «الهياط والمياط»: الدنوّ والتباعد. محيط المحيط (هاط) و (ماط).
(18) العياط: الصياح. محيط المحيط (عاط).(3/93)
والغلوّ والاشتطاط، وبنا الصّرح وعمل السّاباط، ورفع العماد (1) وإدارة الفسطاط، إلّا ألم (2) يذهب القوة، وينسي الآمال المرجوّة، ثمّ نفس يصعد، وسكرات تتردّد، وحسرات لفراق الدّنيا تتجدّد، ولسان يثقل، وعين تبصر الفراق الحقّ (3) وتمقل {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} (4). ثم القبر وما بعده، والله منجز وعيده ووعده، فالإضراب الإضراب، والتّراب التّراب. وإن اعتذر سيدي بقلّة الجلد، لكثرة الولد، فهو ابن مرزوق لا ابن رزّاق، وبيده من التّسبّب ما يتكفّل بإمساك أرماق، أين النّسخ الذي يتبلّغ الإنسان بأجرته (5)، في كن حجرته؟ لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرّته؟ السؤال والله أقوم طريقا، وأكرم فريقا، من يد تمتدّ إلى حرام، لا يقوم بمرام، ولا يومّن من ضرام، أحرقت فيه الحلل، وقلبت الأديان والملل، وضربت الأبشار، ونحرت العشار، ولم يصل منه على يدي واسطة السّوء المعشار.
ثم طلب عند الشّدّة ففضح، وبان سومه (6) ووضح، اللهمّ طهّر منها (7) أيدينا وقلوبنا، وبلّغنا من الانصراف إليك مطلوبنا، وعرّفنا بمن لا يعرف غيرك، ولا يسترفد إلّا خيرك، يا الله. وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة، أو أعمل في احتلابها إضبارة (8)، أو لبس منها شارة، أو تشوّف إلى خدمة إمارة، ألا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس، ولا يغترّوا بسمة (9) ولا خلق ولا لباس، فما عدا، عمّا بدا (10)؟ تقضّى العمر في سجن وقيد، وعمرو وزيد، وضرّ وكيد، وطراد صيد، وسعد وسعيد، وعبد وعبيد، فمتى تظهر الأفكار، ويقرّ القرار، وتلازم الأذكار (11)، وتشام الأنوار، وتتجلّى (12) الأسرار؟ ثم يقع الشّهود الذي تذهب معه الأفكار (13)، ثم يحقّ الوصول الذي إليه من كلّ ما سواه الفرار، وعليه المدار. وحقّ الحقّ الذي ما سواه فباطل، والفيض الرّحماني الذي ربابه (14) الأبد (15) هاطل، ما شابت (16)
__________
(1) في النفح: «العمد».
(2) في النفح: «أمل».
(3) كلمة «الحق» ساقطة في النفح.
(4) سورة ص، الآيتان: 67، 68.
(5) المراد نسخ الكتب وكتابتها.
(6) في النفح: «شؤمه».
(7) في الأصل: «منّا» والتصويب من النفح.
(8) الإضبارة: الحزمة من الصحف. محيط المحيط (ضبر).
(9) في الأصل: «بسمت» والتصويب من النفح.
(10) أخذه من المثل: «ما عدا مما بدا». أي ما منعك ما ظهر لك أولا. مجمع الأمثال (ج 2ص 296).
(11) في الأصل: «الادّكار» والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «وتستجلى».
(13) في النفح: «الذي يذهب معه الإخبار».
(14) الرباب: السحاب. لسان العرب (ريب).
(15) في الأصل: «لا بدّ» والتصويب من النفح.
(16) في الأصل: «ما شاب» والتصويب من النفح.(3/94)
مخاطبتي لك شائبة تريب (1)، ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب إلى الحبيب (2)، فيحمل جفاء (3) في الذي حملت عليه الغيره، ولا تظنّ بي غيره. وإن (4) أقدر قدري في مكاشفة سيادتك بهذا البثّ، في الأسلوب الرّث، فالحقّ أقدم، وبناؤه لا يهدم، وشأني معروف في مواجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة، ونفسي في النّفوس المتهافتة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشّهوات مزاحم، فكيف بي اليوم مع الشّيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب؟ إنما أنا اليوم على كلّ من عرفني كلّ ثقيل، وسيف العذل (5) في كفّي صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النّفوس في القبول سوا، ولا لكلّ مرض (6) دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني، حملك الله، على الجادّة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوّة الصّالحة، والسّلام.
ولمّا (7) شرح كتاب «الشّفا» للقاضي (8) أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض، رحمه الله، واستبحر فيه، طلب أهل العدوتين بنظم (9) مقطوعات تتضمّن الثّناء على الكتاب المذكور، وإطراء مؤلّفه، فانثال عليه من ذلك الطّم والرّم، بما تعدّدت منه الأوراق، واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق، إيثارا لغرضه، ومبادرة من أهل (10)
الجهات لإسعاف أربه، وطلب مني أن ألمّ في ذلك بشيء، فكتبت في (11) ذلك:
[الطويل]
شفاء (12) عياض للصّدور (13) شفاء ... وليس (14) بفضل قد حواه خفاء
هديّة برّ لم يكن لجزيلها (15) ... سوى الأجر والذّكر الجميل كفاء
وفى لنبيّ الله حقّ وفائه ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء
__________
(1) في الأصل: «بريب» والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «للحبيب».
(3) في النفح: «فتحمّل جفائي الذي».
(4) في النفح: «وإن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النّثّ، في الأسلوب الرّثّ».
(5) في النفح: «العدل» بالدال غير المعجمة.
(6) في الأصل: «لا لكل من ضرّ؟» والتصويب من النفح.
(7) النص مع الشعر في نفح الطيب (ج 7ص 384).
(8) في النفح: «للقاضي عياض رحمه الله تعالى».
(9) في النفح: «نظم».
(10) في النفح: «كل».
(11) في النفح: «له في ذلك». والأبيات أيضا في نفاضة الجراب ص 128.
(12) في الأصل: «شفا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(13) في نفاضة الجراب: «للقلوب».
(14) في المصدر نفسه: «فليس».
(15) في النفح: «لمديلها».(3/95)
وجاء به بحرا يقول بفضله ... على البحر طعم طيّب وصفاء
وحقّ رسول الله بعد وفاته ... رعاه، وإغفال الحقوق جفاء
هو الذّخر يغني في الحياة عتاده ... ويترك منه لليقين (1) رفاء
هو الأثر المحمود ليس يناله ... دثور ولا يخشى (2) عليه عفاء (3)
حرصت على الإطناب في نشر فضله ... وتمجيده لو ساعدتني فاء
واستزاد (4) من هذا الغرض الذي لم يقنع منه (5) بالقليل، فبعثت إليه من محلّ انتقالي بمدينة (6) سلا حرسها الله (7): [مجزوء الرمل]
أأزاهير رياض ... أم شفاء لعياض
جدّل الباطل للحقّ ... بأسياف مواض
وجلا الأنوار برها ... نا بحقّ (8) وافتراض
وشفى (9) من يشتكي الغلّ ... ة في زرق الحياض
أيّ بنيان معار (10) ... آمن فوق (11) انقضاض
أيّ عهد ليس يرمى ... بانتكاث (12) وانتقاض
ومعان في سطور ... كأسود في غياض
وشفاء لصدور (13) ... من ضنى الجهل مراض
حرّر القصد فما شي ... ن بنقد واعتراض
يا أبا الفضل أدر أنّ (14) ... الله عن سعيك راض
فاز عبد أقرض اللّ ... هـ برجحان القراض (15)
__________
(1) في الأصل: «اليقين» وهكذا ينكسر الوزن. وفي المصدرين: «للبنين».
(2) في نفاضة الجراب: «ولا يخفى».
(3) العفاء: الزوال. لسان العرب (عفا).
(4) ما يزال النص شعرا ونثرا في نفح الطيب (ج 7ص 385).
(5) في النفح: «فيه».
(6) في النفح: «من مدينة».
(7) الأبيات أيضا في نفاضة الجراب (ص 193192).
(8) في نفاضة الجراب: «بخلف».
(9) في نفاضة الجراب: «وسقى».
(10) في النفح: «مقال». وفي نفاضة الجراب: «معال».
(11) في المصدرين: «خوف».
(12) الانتكاث: الانتقاض. لسان العرب (نكث).
(13) في نفاضة الجراب: «لنفوس».
(14) في الأصل: «بأن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(15) إشارة إلى قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ} سورة البقرة 2، الآية 245.(3/96)
وجبت عزّ (1) المزايا ... من طوال وعراض (2)
لك يا أصدق راو (3) ... لك يا أعدل قاض
لرسول الله وفّي ... ت بجدّ (4) وانتهاض
خير خلق الله في حا ... ل وفي آت وماض
سدّد الله ابن مرزو ... ق إلى تلك المراضي
زبدة العرفان معنى ... كلّ نسك وارتياض
فتولّى بسط ما أج ... ملت من غير انقباض
ساهر (5) لم يدر في استخ ... لاصه طعم اغتماض
إن يكن دينا على الأي ... ام قد حان التّقاضي
دام في علوّ ومن عا ... داه يهوي في انخفاض
ما وشى الصّبح الدّياجي ... في سواد بيياض (6)
ثم (7) نظمت له أيضا في الغرض المذكور، والإكثار من هذا النمط، في هذا الموضع، ليس على سبيل التّبجّح بغرابته وإجادته (8)، ولكن على سبيل الإشادة بالشّرح المشار إليه، فهو بالغ غاية الاستبحار (9): [السريع]
حيّيت يا مختطّ سبت بن نوح ... بكلّ مزن يغتدي أو يروح
وحمل الرّيحان ريح الصّبا ... أمانة فيك (10) إلى كلّ روح
دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت بريّاه رياضا تفوح
يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلا في العلم جري الجموح
طرفك في الفخر (11) بعيد المدى ... طرفك للمجد شديد الطّموح
كفاك إعجازا كتاب الشّفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح
لله ما أجزلت فينا به من ... منحة تقصر عنها المنوح
روض من العلم همى فوقه ... من صيّب الفكر الغمام السّفوح
__________
(1) في المصدرين: «غرّ».
(2) في المصدرين: «أو عراض».
(3) في نفاضة الجراب: «داو».
(4) في المصدر نفسه: «بجهد».
(5) في المصدرين: «ساهرا».
(6) في النفح: «بسواد في بياض».
(7) النص في الطيب (ج 7ص 386).
(8) في النفح: «بإجادته وغرابته».
(9) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 387386) ونفاضة الجراب (ص 192190).
(10) في الأصل: «في كل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(11) في النفح: «في الفضل».(3/97)
فمن بيان الحقّ زهر ند (1) ... ومن لسان الصّدق طير صدوح
تأرّج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر (2) أو لا يفوح
وحلّة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح
ومعلم للدين (3) شيّدته ... فهذه الأعلام منه (4) تلوح
فقل لهامان كذا أو فلا ... يا من أضلّ الرّشد تبني الصّروح
في أحسن التّقويم أنشأته ... خلقا جديدا بين جسم وروح
فعمره المكتوب لا ينقضي ... إذا تقضّى عمر سام ونوح
كأنّه في الحفل ريح الصّبا ... وكلّ عطف فهو غضّ (5) مروح
ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذّكر أن لا يبوح
عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النّزوح
إن ذكر المحبوب سالت دما ... ما هنّ أكباد ولكن جروح
يا سيّد الأوضاع يا من له ... بسيّد الإرسال فضل الرّجوح
يا من له الفخر على غيره ... والشّهب (6) تخفى عند إشراق يوح
يا خير مشروح وفي واكتفى ... منه ابن (7) مرزوق بخير الشّروح
فتح من الله حباه به ... ومن جناب الله تأتي الفتوح
مولده: بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن سعد التّميمي التّسلي (8) الكرسوطي (9)
من أهل فاس، نزيل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: الشيخ (10) الفقيه المتكلّم أبو عبد الله، غزير الحفظ، متبحّر الذّكر، عديم القرين، عظيم الاطّلاع، عارف بأسماء الأوضاع، ينثال منه على المسائل كثيب مهيل، ينقل الفقه منسوبا إلى أمانة، ومنوطا برجاله، والحديث بأسانيده ومتونه،
__________
(1) في الأصل: «زهر ندّ» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في نفاضة الجراب: «لا يطعم».
(3) في المصدر نفسه: «في الدين».
(4) في المصدرين: «منها».
(5) في المصدرين: «غصن».
(6) في النفح: «والشمس».
(7) في نفاضة الجراب: «ومن ابن».
(8) التسلي: نسبة إلى قبيلة تسولة البربرية.
(9) ترجمة محمد بن عبد الرحمن الكرسوطي في نفح الطيب (ج 8ص 230).
(10) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 231).(3/98)
خوّار (1) العنان، وسّاع الخطو، بعيد الشأو، يفيض من حديث إلى فقه، ومن أدب إلى حكاية، ويتعدّى ذلك إلى غرائب المنظومات، ممّا يختصّ بنظمه أولو الشّطارة والحرفة من المغاربة، ويستظهر مطوّلات القصاص، وطوابير الوعّاظ، ومساطير أهل الكدية، في أسلوب وقاح يفضحه الإعراب، حسن الخلق، جمّ الاحتمال، مطرّح الوقار، رافض التّصنّع، متبذّل (2) اللّبسة، رحيب أكناف المرارة لأهل الولايات، يلقي بمعاطنهم البرك، وينوط بهم الوسائل، كثير المشاركة لوصلائه، مخصب على أهل بيته، حدب على بنيه. قدم على الأندلس عام اثنين وعشرين وسبعمائة، فأقام بالجزيرة مقرئا بمسجد الصّواع منها، ومسجد الرّايات، ثم قدم على مالقة وأقرأ بها، ثم قدم على غرناطة عام خمسة وعشرين وسبعمائة، فتعرف على أرباب الأمر، بما نجحت حيلته، وخفّ به موقعه، فلم يعدم صلة، ولا فقد مرفقة، حتى ارتاش وتأثّل بمحل سكناه من مالقة، مدرة مغلّة، وعقارا مفيدا. وطال قعوده لسرد الفقه بمسجدها الجامع، نمير في الركب، مهجور الحلقة، حملا من الخاصّة والعامّة، لتلبّسه بالعرض الأدني. وهو الآن خطيب مسجد القصبة بها، ومحلّه من الشهرة، بالحفظ والاستظهار لفروع الفقه، كبير.
مشيخته: قرأ القرآن على الجماعة بالمغرب والأندلس، منهم أبوه، والأستاذ أبو الحسن القيجاطي البلوي، وأبو إسحاق الحريري، وأبو الحسن بن سليمان، وأبو عبد الله بن أجروم. وقرأ الفقه على أبي زيد الجزولي، وعبد الرحمن بن عفّان، وأبي الحسن الصغير، وعبد المؤمن الجاناتي، وقرأ الكتاب بين يديه مدة، ثم عزله، ولذلك حكاية. حدّثني الشيخ أبو عبد الله الكرسوطي، المترجم به، قال: قرأت بين يديه، في قول أبي سعيد في التهذيب، والدّجاج والأوز المخلات، فقال: انظر، هل يقال الدّجاج أو الجدّاد، لغة القرآن أفصح، قال الله تعالى: وجدد بيض، وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود. فأزرى به، ونقل إليه إزاره، فعزله. وقعد بعد ذلك للإقراء بفاس، كذا حدث. وأخذ عن أبي إسحاق الزناتي، وعن خلف الله المجاصي، وأبي عبد الله بن عبد الرحمن الجزولي، وأبي الحسين المزدغي، وأبي الفضل ابنه، وأبي العبّاس بن راشد العمراني، وأبي عبد الله بن رشيد. وروى الحديث بسبتة عن أبي عبد الله الغماري، وأبي عبد الله بن هاني، وذاكر أبا الحسن بن وشّاش. وبمالقة عن الخطيب الصالح الطّنجالي، وأبي عمرو بن منظور.
__________
(1) خوار العنان: سهل المعطف ليّنه.
(2) متبذل اللبسة: غير معتن بملبسه وهندامه، بخلاف مبتذل اللبسة أي رثّ الملابس.(3/99)
وبغرناطة عن أبي الحسن القيجاطي، وأبي إسحاق بن أبي العاص. وببلّش عن أبي جعفر الزيات.
تواليفه: منها (1) «الغرر في تكميل الطّرر»، طرر أبي إبراهيم الأعرج. ثم (2)
«الدّرر في اختصار الطّرر» المذكور. وتقييدان على الرسالة، كبير وصغير.
ولخّص «التهذيب» لابن بشير، وحذف أسانيد المصنّفات الثلاثة، البخاري، والترمذي، ومسلم (3)، والتزم إسقاط التكرار، واستدراك (4) الصّحاح الواقعة في التهذيب (5) على مسلم والبخاري. وقيّد على مختصر الطّليطلي، وشرع في تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عياض بن موسى (6) بن عياض، برسم ولدي، أسعده الله.
شعره: أنشدني، وأنا أحاول بمالقة لوث (7) العمامة، وأستعين بالغير على إصلاح العمل، وإحكام اللّياثة (8): [الكامل]
أمعمّما قمرا تكامل حسنه ... أربى على الشمس المنيرة في البها
لا تلتمس ممّن لديك زيادة ... فالبدر لا يمتار من نور السّها
ويصدر منه الشعر مصدّرا، لا تكنفه العناية.
محنته: أسر ببحر الزّقاق (9)، قادما على الأندلس في جملة من الفضلاء، منهم والده. واستقرّ بطريف (10) عام ستة وعشرين وسبعمائة، ولقي بها شدّة ونكالا، ثم سرّح والده، لمحاولة فكاك نفسه، وفكّ ابنه، ويسّر الله عليه، فتخلّصا من تلك المحنة في سبيل كدية، وأفلت من بين أنياب مشقّة.
__________
(1) قارن بنفح الطيب (ج 8ص 231).
(2) في النفح: «ثم كتاب الدرر».
(3) قوله: «البخاري والترمذي ومسلم» ساقط في النفح.
(4) في النفح: «واستدرك».
(5) في النفح: «في الترمذي على البخاري ومسلم».
(6) في النفح: «موسى برسم ولدي».
(7) لوث العمامة: عصبها ولفّها. لسان العرب (لوث).
(8) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 230).
(9) بحر الزقاق: هو الداخل من المحيط الأطلسي الذي عليه سبتة ما بين طنجة المغربية وبين الأندلس، ويتسع كلما امتدّ إلى ما لا نهاية. الروض المعطار (ص 294).
(10) جزيرة طريف على البحر المتوسط في أول المجاز المسمى بالزقاق، وهي مدينة صغيرة.
الروض المعطار (ص 392).(3/100)
بعض أخباره: قال: لقيت الشيخ وليّ الله أبا يعقوب بساحل بادس (1)، قاصدا الأخذ عنه، والتّبرّك به، ولم يكن رآني قط، وألفيت بين يديه عند دخولي عليه، رجلا يقرأ عليه القرآن، فلمّا فرغ أراد أن يقرأ عليه أسطرا من الرّسالة، فقال له:
اقرأها على هذا الفقيه، وأشار إليّ، ورأيت في عرصة له أصول خصّ، فتمنيت الأكل منها، وكان ربّاعها غير حاضر، فقام عن سرعة، واقتلع منها أصولا ثلاثة، ودفعها إليّ، وقال: كل. فقلت في نفسي، تصرف في الخضرة قبل حضور ربّاعها، فقال لي: إذا أردت الأكل من هذه الخضرة، فكل من هذا القسم، فإنّه لي. قلت: وخبرت من اضطلاع هذا المترجم به بعبارة الرّؤيا ما قضيت منه العجب في غير ما شيء جرّبته. وهو الآن بحاله الموصوفة. وأصابه لهذا العهد جلاء عن وطنه لتوفر الحمل عليه من الخاصّ والعامّ، بما طال به نكده. ثم آلت حاله إلى بعض صلاح، والله يتولّاه.
مولده: بمدينة فاس عام تسعين وستمائة.
محمد بن عبد المنعم الصّنهاجي الحميري (2)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد المنعم، من أهل سبتة، الأستاذ الحافظ.
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، رجل صدق، طيّب اللهجة، سليم الصدر، تام الرّجولة، صالحا، عابدا، كثير القرب والأوراد في آخر حاله، صادق اللسان. قرأ كثيرا، وسنّه تنيف على سبع وعشرين، ففات أهل الدّؤب والسّابقة، وكان من صدور الحفّاظ، لم يستظهر أحد في زمانه من اللّغة ما استظهره، فكاد يستظهر كتاب التّاج للجوهري وغيره، آية تتلى، ومثلا يضرب، قائما على كتاب سيبويه، يسرده بلفظه. اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة. طبقة في الشطرنج، يلعبها محجوبا، مشاركا في الأصول، آخذا في العلوم العقلية، مع الملازمة للسّنّة، يعرب أبدا كلامه ويزينه.
مشيخته: أخذ ببلده عن الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، ولازم أبا القاسم بن الشّاط وانتفع به وبغيره من العلماء.
__________
(1) بادس: مدينة بها نخل كثير وفواكه وعيون كثيرة. الروض المعطار (ص 75).
(2) هو صاحب كتاب «الروض المعطار، في خبر الأقطار» وكانت وفاته في سنة 727هـ. راجع مقدمة كتاب «الروض المعطار»، ففيها ثبت بأسماء المصادر والمراجع التي ترجمت له.(3/101)
دخوله غرناطة: قدم غرناطة مع الوفد من أهل بلده عندما صارت إلى إيالة الملوك من بني نصر، لما وصلوا بالبيعة.
وفاته: كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان عند منصرفهم عن باب السلطان ملك المغرب، بأحواز تيزى (1)، حسبما وقع التّنبيه على بعضهم.
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس ابن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر ابن رشيد الفهري (2)
من أهل سبتة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن رشيد.
حاله: من «عائد الصلة»: الخطيب المحدّث، المتبحّر في علوم الرّواية والإسناد. كان، رحمه الله، فريد دهره عدالة وجلالة، وحفظا وأدبا، وسمتا وهديا، واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النّقل، أصيل الضّبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيّما عليها، بصيرا بها، محققا فيها، ذاكرا فيها الرجال، جمّاعة للكتب، محافظا على الطّريقة، مضطلعا بغيرها من العربية واللغة والعروض، فقيها أصيل النّظر، ذاكرا للتفسير، ريّان من الأدب، حافظا للأخبار والتواريخ، مشاركا في الأصلين، عارفا بالقراءات، عظيم الوقار والسّكينة، بارع الخطّ، حسن الخلق، كثير التّواضع، رقيق الوجه، متجمّلا، كلف الخاصة والعامّة، مبذول الجاه والشّفاعة، كهفا لأصناف الطّلبة. قدم على غرناطة في وزارة صديقه، ورفيق طريقه، في حجّه وتشريقه، أبي عبد الله بن الحكيم، فلقي برّا، وتقدّم للخطابة بالمسجد الأعظم، ونفع الله لديه بشفاعته المبذولة طائفة من خلقه، وانصرف إثر مقتله إلى العدوة، فاستقرّ بمدينة فاس، معظّما عند الملوك والخاصّة، معروف القدر عندهم.
مشيخته: قرأ ببلده سبتة على الأستاذ إمام النّحاة أبي الحسن بن أبي الربيع كتاب سيبويه. وقيّد على ذلك تقييدا مفيدا، وأخذ عنه القراءات. وأخذ أيضا عن الأستاذ أبي الحسن بن الخطّار. ورحل من بلده سبتة لأداء الفريضة. حجّ ولقي
__________
(1) جاء في الروض المعطار (ص 128): «تازا: من بلاد المغرب، أول بلاد تازا حدّ ما بين المغرب الأوسط وبلاد المغرب وقد بني فيها في هذا العهد القريب مدينة الرباط، أعني في جبال تازا».
(2) ترجمة ابن رشيد في نفح الطيب (ج 5ص 69) و (ج 7ص 214، 257، 363).(3/102)
المشايخ عام ثمانية وثمانين وستمائة، فوافى في طريقه الحاجّ المحدّث الرّاوية، ذا الوزارتين بعد، أبا عبد الله الحكيم، وأخذ عن الجلّة الذين يشقّ إحصاؤهم، فممّن لقي بإفريقية الرّاوية العدل أبا محمد عبد الله بن هارون، يروي عن ابن بقيّ، والأديب المتبحّر أبا الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي. وروى بالمشرق عن العدد الكثير كالإمام جار الله أبي اليمن بن عساكر، لقيه بباب الصّفا تجاه الكعبة المعظّمة، وهو موضع جلوسه للسّماع، غرّة شوال عام أربعة وثمانين وستمائة، وعن غيره، كأبي العزّ عبد الرحمن بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منظور بن هبة الله، وغيرهم ممن ثبت في اسم مرافقة في السّماع والرّحلة أبي عبد الله بن الحكيم، رحمه الله، فلينظر هنالك.
تواليفه: ألّف فوائد رحلته في كتاب سمّاه «ملء العيبة، فيما جمع بطول الغيبة، في الوجهتين (1) الكريمتين إلى مكّة وطيبة». قال شيخنا أبو بكر بن شبرين: وقفت على مسوّدته، ورأيت فيه فنونا وضروبا من الفوائد العلمية والتاريخ، وطرفا من الأخبار الحسان، والمسندات العوالي والأناشيد. وهو ديوان كبير، ولم يسبق إلى مثله. قلت: ورأيت شيئا من مختصره بسبتة.
دخوله غرناطة: ورد على الأندلس في عام اثنين وتسعين وستمائة، فعقد مجالس للخاصّ والعام، يقرئ بها فنونا من العلم. وتقدّم خطيبا وإماما بالمسجد الأعظم منها. حدّثني بعض شيوخنا، قال: قعد يوما على المنبر، وظنّ أن المؤذّن الثالث قد فرغ، فقام يخطب والمؤذّن قد رفع صوته بآذانه، فاستعظم ذلك بعض الحاضرين، وهمّ آخر بإشعاره وتنبيهه، وكلّمه آخر، فلم يثنه ذلك عمّا شرع فيه، وقال بديهة: أيها الناس، رحمكم الله، إنّ الواجب لا يبطله المندوب، وأن الأذان الذي بعد الأوّل غير مشروع الوجوب، فتأهّبوا لطلب العلم، وانتبهوا، وتذكّروا قوله، عزّ وجلّ: وما أتاكم الرّسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، وقد روّينا عنه صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: من قال لأخيه والإمام يخطب، اصمت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له. جعلنا الله وإيّاكم ممّن علم فعمل، وعمل فقبل، وأخلص فتخلّص. وكان ذلك مما استدلّ به على قوّة جنانه، وانقياد لسانه لبيانه.
شعره: وله شعر يتكلفه، إذ كان لا يزن أعاريضه إلّا بميزان العروض، فمن ذلك ما حدّث به، قال: لما حللت بدمشق، ودخلت دار الحديث الأشرفيّة، برسم رؤية النّعل الكريمة، نعل المصطفى، صلوات الله عليه، ولثمتها، حضرتني هذه
__________
(1) في نفح الطيب (ج 5ص 70): «في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة».(3/103)
الأبيات: [الطويل]
هنيئا لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد، جدّي قد ظفرت بأسعد
وقبّلتها أشفي الغليل فزادني ... فيا عجبا زاد الظّما عند مورد
فلله ذاك اللّثم فهو ألذّ من ... لمى شفة لميا وخدّ مورّد
ولله ذاك اليوم عيدا ومعلما ... بتاريخه أرّخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيّب كما ... يحبّ ويرضى ربّنا لمحمّد
وقال: وقلت في موسم عام ستة وثمانين وستمائة، بثغر سبتة حرسها الله تعالى: [الطويل]
أقول إذا هبّ النّسيم المعطّر ... لعلّ بشيرا باللقاء يبشّر
وعالي الصّبا مرّت على ربع جيرتي ... فعن طيبهم عرف النّسيم يعبّر
وأذكر أوقاتي بسلمى وبالحمى ... فتذكو لظى في أضلعي حين أذكر
ربوع يودّ المسك طيب ترابها ... ويهوى حصى فيها عقيق وجوهر
بها جيرة لا يخفرون بذمّة ... هم لمواليهم جمال ومفخر
إذا ما اجتلت زهر النجوم جمالهم ... تغار لباهي نورهم فتغوّر
ومن جود جدواهم يرى اللّيث يعمر ... ومن خوف عدواهم يرى الليث (1) يذعر
ومن سيب يمناهم يرى الرّوض يزهر ... ومن فيض نعماهم يرى البحر يزخر
رعى الله عهدا بالمصلّى عهدته ... وروض المنى غضّ يرقّ وينضر
زمانا نعمنا فيه والظلّ وارف ... بجنّات عدن تحتها العذب يخضر
ولله أيام المصلّى وطيبها ... وأنفسنا بالقرب والأنس تجبر
بحيث يرى بدر الكمال وشمسه ... وروضته فردوس حوض (2) ومنبر
أروم دنوّا من بهاء جمالها ... ولثما فتأبى هيبة وتوقّر
خضعت وذلّي للحبيب تعزّز ... فطرفي مغضوض وخدّي معفّر
ووجه سروري سافر متهلّل ... وحالي بهم حلّ (3) وعيشي أخضر
فطوبى لمن أضحى بطيبة ثاويا ... يجرّ بأذيال (4) الفخار وينشر
__________
(1) قوله: «يرى الليث» ساقط في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «فردوس وحوض»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «حلل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «أذيال»، وكذا ينكسر الوزن.(3/104)
وإذ فات عيني أن تراهم فردّدوا ... على مسمعي ذكر المصلّى وكرّروا
وردت فيا طيب الورود بطيبة ... صدرت فواحزني فلا كان مصدر
رماني زماني بالفراق فغرّني ... على مثل من فارقت عزّ التّصبّر
وأضمرت أشجاني ودمعي مظهّر ... وأسررت هجراني وحالي تخبّر
فمن أدمعي ماء يفيض ويهمر ... ومن أضلعي نار تفور وتسعر
فجسمي مصفرّ وفودي أبيض ... وعيشي مغبرّ ودمعي أحمر
وحين دنا التّوديع ممّن أحبّه ... وحان الذي ما زلت منه أحذّر
ونادى صحابي بالرّحيل وأزمعوا ... وسارت مطاياهم وظلت أقهقر
وألوى إليه الجيد حتى وجعته ... وظلّ فؤادي لوعة يتفطّر
وقفت لأقضي زفرة وصبابة ... ولا أنثني فالموت أجدى وأجدر
ولو أنّني بعت الحياة بنظرة ... لأبّت وحظّي فيه أوفى وأوفر
وما باختياري إنما قدر جرى ... رضيت بما يقضي الإله ويقدر
حنيني إلى مغنى الجمال مواصل ... وشوقي إلى معنى الجمال موفّر
وغير جميل أن يرى عن جمالها ... فؤادي صبورا والمسير ميسّر
أيصبر ظمآن يغال بغلّة ... وفي روضة الرّضوان شهد وكوثر؟
فيا عينها الزّرقاء إنّ عيونها ... من الحزن فيض بالنّجيع تفجّر
سأقطع ليلي بالسّرى أو أزورها ... وأحمي الكرى عينا لبعدك يظهر
وأنضي المطايا أو أوافي ربعها ... فتنجدني طورا وطورا تغوّر
حظرت على نفسي الحذار من الرّدى ... أتحذر نفس الحبيب تسيّر؟
أينكر تغرير المشوق بنفسه ... وقد علموا أنّ المحبّ مغرّر؟
وقفت على فتوى المحبّين كلّهم ... فلم أجد التّغرير في الوصل ينكر
وإني إذا ما خطرة خطرت قضت ... بهمّي وعزمي همّة لا تؤطّر
أقيم فألفي بين عينيّ همّتي ... وسيري في سبل العلا ليس ينكر
إذا ما بدت للعين أعلام طيبة ... ولاحت قباب كالكواكب تزهر
وللقبّة الزّهراء سمك سما علا ... وراق سنى كالشمس بل هو أزهر
لها منظر قيد النّواظر والنّهى ... لها ساكن من نوره البدر يبدر
فأعرجوا (1) على أهل (2) الكمال وسلّموا ... سلمتم وبلّغتم مناكم فأبشروا
بنفسي لا بالمال أرضى بشارة ... إذا لاح نور في سناها مبشّر
وما قدر نفسي أن تكون كفاء (3) ... ولكنها جهد المقلّ فأعذر
أقول إذا أوفيت أكرم مرسل ... قراي عليكم أنّ ذنبي يغفر
وأحظى بتقريب الجوار مكرّما ... وأصفح عن جور البعاد وأعذر
وأرتع في ظلّ الجنان منعّما ... وأمني بقرب من حماك وأجبر
هناك هناك القرب فانعم بنيله ... بحيث ثوى جسم كريم مطهّر
ودع عنك تطواف البلاد وخيّم (4) ... بطيبة طابت فهي مسك وعنبر
فخرت بمدحي للنّبيّ محمد ... ومن مدحه المدّاح يزهى ويفخر
أطلت وإنّي في المديح مقصّر ... فكلّ طويل في معاليك يقصر
ما بلغت كفّ امرئ متناول ... بها المجد إلّا والذي نلت أكبر
وما بلغ المهدون في القول مدحة ... وإن أطنبوا إلّا الذي فيك أفخر
عليك صلاة الله ما مرّ سبق ... إليك وما هبّ النّسيم المعطّر
وقال يرثي ابنا نجيبا ثكله بغرناطة: [الطويل](3/105)
وإذ فات عيني أن تراهم فردّدوا ... على مسمعي ذكر المصلّى وكرّروا
وردت فيا طيب الورود بطيبة ... صدرت فواحزني فلا كان مصدر
رماني زماني بالفراق فغرّني ... على مثل من فارقت عزّ التّصبّر
وأضمرت أشجاني ودمعي مظهّر ... وأسررت هجراني وحالي تخبّر
فمن أدمعي ماء يفيض ويهمر ... ومن أضلعي نار تفور وتسعر
فجسمي مصفرّ وفودي أبيض ... وعيشي مغبرّ ودمعي أحمر
وحين دنا التّوديع ممّن أحبّه ... وحان الذي ما زلت منه أحذّر
ونادى صحابي بالرّحيل وأزمعوا ... وسارت مطاياهم وظلت أقهقر
وألوى إليه الجيد حتى وجعته ... وظلّ فؤادي لوعة يتفطّر
وقفت لأقضي زفرة وصبابة ... ولا أنثني فالموت أجدى وأجدر
ولو أنّني بعت الحياة بنظرة ... لأبّت وحظّي فيه أوفى وأوفر
وما باختياري إنما قدر جرى ... رضيت بما يقضي الإله ويقدر
حنيني إلى مغنى الجمال مواصل ... وشوقي إلى معنى الجمال موفّر
وغير جميل أن يرى عن جمالها ... فؤادي صبورا والمسير ميسّر
أيصبر ظمآن يغال بغلّة ... وفي روضة الرّضوان شهد وكوثر؟
فيا عينها الزّرقاء إنّ عيونها ... من الحزن فيض بالنّجيع تفجّر
سأقطع ليلي بالسّرى أو أزورها ... وأحمي الكرى عينا لبعدك يظهر
وأنضي المطايا أو أوافي ربعها ... فتنجدني طورا وطورا تغوّر
حظرت على نفسي الحذار من الرّدى ... أتحذر نفس الحبيب تسيّر؟
أينكر تغرير المشوق بنفسه ... وقد علموا أنّ المحبّ مغرّر؟
وقفت على فتوى المحبّين كلّهم ... فلم أجد التّغرير في الوصل ينكر
وإني إذا ما خطرة خطرت قضت ... بهمّي وعزمي همّة لا تؤطّر
أقيم فألفي بين عينيّ همّتي ... وسيري في سبل العلا ليس ينكر
إذا ما بدت للعين أعلام طيبة ... ولاحت قباب كالكواكب تزهر
وللقبّة الزّهراء سمك سما علا ... وراق سنى كالشمس بل هو أزهر
لها منظر قيد النّواظر والنّهى ... لها ساكن من نوره البدر يبدر
فأعرجوا (1) على أهل (2) الكمال وسلّموا ... سلمتم وبلّغتم مناكم فأبشروا
بنفسي لا بالمال أرضى بشارة ... إذا لاح نور في سناها مبشّر
وما قدر نفسي أن تكون كفاء (3) ... ولكنها جهد المقلّ فأعذر
أقول إذا أوفيت أكرم مرسل ... قراي عليكم أنّ ذنبي يغفر
وأحظى بتقريب الجوار مكرّما ... وأصفح عن جور البعاد وأعذر
وأرتع في ظلّ الجنان منعّما ... وأمني بقرب من حماك وأجبر
هناك هناك القرب فانعم بنيله ... بحيث ثوى جسم كريم مطهّر
ودع عنك تطواف البلاد وخيّم (4) ... بطيبة طابت فهي مسك وعنبر
فخرت بمدحي للنّبيّ محمد ... ومن مدحه المدّاح يزهى ويفخر
أطلت وإنّي في المديح مقصّر ... فكلّ طويل في معاليك يقصر
ما بلغت كفّ امرئ متناول ... بها المجد إلّا والذي نلت أكبر
وما بلغ المهدون في القول مدحة ... وإن أطنبوا إلّا الذي فيك أفخر
عليك صلاة الله ما مرّ سبق ... إليك وما هبّ النّسيم المعطّر
وقال يرثي ابنا نجيبا ثكله بغرناطة: [الطويل]
شباب ثوى شابت عليه المفارق ... وغصن ذوى تاقت إليه الحدائق
على حين راق النّاظرين بسوقه ... رمته سهام للعيون رواشق
فما أخطأت منه الفؤاد بعمدها ... فلا أبصرت تلك العيون الرّوانق
وحين تدانى للكمال هلاله ... ألمّ به نقص وجدّت مواحق
إلى الله أشكو فهو يشكى نوازعا ... عظاما سطاها للعظام عوارق
ولا مثل فقدان البنيّ فجيعة ... وإن طال ما لجّت وجلّت بوائق
محمد إنّ الصّبر صبر وعلقم ... على أنه حلو المثوبة سابق
فإن جزعا فالله للعبد عاذر ... وإن جلدا فالوعد لله صادق
وتالله ما لي بعد عيشك لذّة ... ولا راقني مرأى لعيني رائق
__________
(1) في الأصل: «فعرّجوا» وكذا ينكسر الوزن. وأعرجوا: ادخلوا في وقت غيبوبة الشمس. محيط المحيط (عرج).
(2) في الأصل: «كمل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «كفّا»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «وخيمن».(3/106)
فأني به والمذكرات عديدة ... فنبل وهمّ للعوائد خارق
فإن ألتفت (1) فالشخص للعين ماثل ... وإن أستمع فالصّوت للأذن طارق
وإن أدع شخصا باسمه لضرورة ... فإنّ أسمك المحبوب للنّطق سابق
وإن تقرع الأبواب راحة قارع ... يطر (2) عندها قلب لذكرك خافق
وكلّ كتاب قد حويت فمذكر ... وآثاره كلّ إليك توائق
سبقت كهولا (3) في الطّفولة لا تني ... وأرهقت أشياخا وأنت مراهق
فلو لم يغلك الموت دمت مجلّيا ... وأقبل سكّيتا وجيئا (4) ولا حق
على مهل أحرزت ما شئت ثانيا ... عنانك لا تجهد وأنت مسابق
رأتك المنايا سابقا فأغرتها ... فجدّ طلابا إنّهن لواحق
لئن سلبت منّي نفيس ذخائر ... فإنّي بمذخور الأجور لواثق
وقد كان ظنّي أنّني لك سابق ... فقد صار علمي أنّني بك لاحق
غريبين كنّا فرّق البين بيننا ... فأبرح ما يلقى الغريب المفارق
فبين وبعد بالغريب توكّلا ... قد رعى بما حملت والله ضائق (5)
عسى وطن يدنو فتدنو له (6) منى ... وأيّ الأماني والخطوب عوائق؟
فلولا الأسى ذاب الفؤاد من الأسى ... ولولا البكا لم يحمل الحزن طائق
فخطّ الأسى خطّا تروق سطوره ... وتمحو البكا فالدّمع ماح وساحق
فيا واحدا قد كان للعين نورها ... عليك ضياء (7) بعد بعدك غاسق
عليك سلام الله ما جنّ ساجع ... وما طلعت شمس وما ذرّ شارق
وما همعت سحب غواد روائح ... وما لمعت تحدو الرّعود بوارق
وجاد على مثواك غيث مروّض ... عباد (8) لرضوان الإله موافق
__________
(1) في الأصل: «فأين التفتّ» وكذا لا يستقيم المعنى والوزن.
(2) في الأصل: «يطير» وكذا ينكسر الوزن، والوجوب جزمه لأنه جواب الشرط.
(3) في الأصل: «كهولة» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(4) في الأصل: «وجيية» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(5) عجز هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(6) كلمة «له» ساقطة في الأصل.
(7) في الأصل: «تل ضيا» وكذا ينكسر الوزن ولا معنى له.
(8) في الأصل: «عبّاد» بتشديد الباء، وكذا ينكسر الوزن.(3/107)
محنته: تعرّض إليه قوم يوم قتل صديقه أبي عبد الله الحكيم بإذاءة قبيحة، وأسمع كل شارق من القول على ألسنة زعانفة فجّر وترهم القتيل، فتخلّص ولا تسل كيف، وأزمع الرّحيل فلم يلبث بعد ذلك.
وفاته: كانت وفاته بمدينة فاس، في اليوم الثامن من شهر المحرم مفتتح عام أحد وعشرين وسبعمائة. ودفن في الجبانة التي بخارج باب الفتوح بالرّوضة المعروفة بمطرح الجنّة، التي اشتملت على العلماء والصلحاء والفضلاء، من الغرباء الواردين مدينة فاس، وكان مولده بسبتة عام سبعة وخمسين وستمائة.
محمد بن علي بن هاني اللّخمي السّبتي (1)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جدّه، أصلهم من إشبيلية.
حاله: كان، رحمه الله، فريد دهره في سموّ الهمّة، وإيثار الاقتصاد والتّحلّي بالقناعة، وشموخ الأنف على أهل الرّئاسة، مقتصرا على فائدة ربع له ببلده، يتبلّغ مع الاستقامة، مع الصّبر والعمل على حفظ المروءة، وصون ماء الوجه، إماما في علم العربيّة، مبرّزا متقدّما فيه، حافظا للأقوال، مستوعبا لطريق الخلاف، مستحضرا لحجج التّوجيه، لا يشقّ في ذلك غباره، ريّان من الأدب، بارع الخطّ، سهل مقادة الكلام، مشاركا في الأصلين، قائما على القراءات، حسن المجلس، رائق البزّة، بارع المحاضرة، فائق التّرسّل، متوسط النّظم، كثير الاجتهاد والعكوف، مليح الخلق، ظاهر الخشوع، قريب الدّمعة، بيته شهير الحسب والجلالة.
وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» بما نصّه (2): علم تشير إليه الأكفّ (3)، ويعمل إلى لقائه الحافر والخفّ (4)، رفع للعربيّة ببلده راية لا تتأخّر، ومرج منها لجّة تزخر، فانفسح مجال درسه، وأثمرت أدواح غرسه، فركض بما (5) شاء وبرّح، ودوّن وشرح، إلى شمائل تملّك (6) الظّرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها.
ولمّا أخذ المسلمون في منازلة الجبل (7) وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة
__________
(1) ترجمة ابن هاني اللخمي في نفح الطيب (ج 8ص 381).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 382381).
(3) قوله: تشير إليه الأكفّ: كناية عن الشهرة.
(4) يعمل إلى لقائه الحافر والخفّ: كناية عن أنه مقصود من كل الناس.
(5) في النفح: «ما».
(6) في المصدر نفسه: «يملك».
(7) يقصد جبل طارق أو جبل الفتح.(3/108)
أبصاره، ورموا بالثّكل فيه نازح أمصاره، كان ممّن انتدب وتطوّع، وسمع النّداء فأهطع (1)، فلازمه إلى أن نفد لأهله القوت، وبلغ من فسحة (2) الأجل الموقوت، فأقام الصّلاة بمحرابه، وقد (3) غيّر محيّاه طول اغترابه، وبادره الطّاغية قبل أن يستقرّ نصل الإسلام في قرابه (4)، أو يعلق أصل الدّين في ترابه. وانتدب إلى الحصار به وتبرّع، ودعاه أجله فلبّى وأسرع. ولمّا هدر عليه الفنيق (5)، وركعت إلى قبلته المجانيق (6)، أصيب بحجر دوّم عليه كالجارح المحلّق، وانقضّ إليه انقضاض البارق المتألّق، فاقتنصه واختطفه، وعمد إلى زهره فقطفه (7)، فمضى إلى الله طوع نيّته، وصحبته غرابة المنازع حتى في منيّته (8).
مشيخته: قرأ على الأستاذ العلّامة أبي إسحاق الغافقي، وعلى الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة، واعتمد عليه، وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث.
تواليفه: ألّف (9) كتبا، منها (10) كتاب «شرح التّسهيل لابن مالك»، وهو أجلّ كتبه، أبدع فيه، وتنافس الناس فيه. ومنها (11) «الغرّة الطّالعة في شعراء المائة السابعة»، ومنها (12) «إنشاد الضّوّال، وإرشاد السّوّال في لحن العامة»، وهو كتاب (13)
مفيد، و (14) «قوت المقيم». ودوّن ترسّل (15) رئيس الكتّاب أبي المطرّف بن عميرة وضمّه في سفرين. وله رجز (16) في الفرائض مفيد.
شعره: حدّثنا (17) شيخنا القاضي الشّريف، نسيج وحده، أبو القاسم الحسني، قال: خاطبت الأستاذ أبا عبد الله بن هانىء، رحمه الله، بقصيدة من نظمي أولها (18):
__________
(1) أهطع: أسرع. لسان العرب (هطع).
(2) في الأصل: «فتحة» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «وحيّاه وقد».
(4) القراب: جفن السيف وغمده. لسان العرب (قرب).
(5) في الأصل: «الفتيق» والتصويب من النفح. والفنيق: الفحل من الإبل. لسان العرب (فنق).
(6) في النفح: «وركع إلى قبلة المنجنيق».
(7) في النفح: «فاقتطفه».
(8) في النفح: «أمنيته».
(9) النص في نفح الطيب (ج 8ص 382).
(10) في النفح: «منها شرح «تسهيل الفوائد» لابن مالك، مبدع تنافس الناس فيه».
(11) في النفح: «وكتاب».
(12) في النفح: «وكتاب».
(13) في النفح: «وكتاب».
(14) كلمة «كتاب» ساقطة في النفح.
(15) في النفح: «ترسيل أبي المطرّف».
(16) في النفح: «جزء».
(17) النص في نفح الطيب (ج 8ص 282) وجاء فيه: «وحدّثني شيخنا الشريف القاضي أبو القاسم قال: خاطبت ابن هانىء بقصيدة».
(18) الشعر في نفح الطيب (ج 8ص 383382).(3/109)
[البسيط]
هات (1) الحديث عن الرّكب (2) الذي شخصا
فأجابني عن ذلك بقصيدة في رويّها (3):
لولا مشيب بفودي للفؤاد عصى ... نضيت (4) في مهمه التّشبيب لي قلصا (5)
واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعا للحبيب قصا
مسائلا عن لياليه التي انتهزت ... أيدي الأماني بها ما شئته فرصا
وكنت جاريت فيها من جرى طلقا ... من الإجادة لم يحجم (6) ولا نكصا
أصاب شاكلة المرميّ حين رمى ... من الشّوارد ما لولاه ما اقتنصا
ومن أعدّ مكان النّبل نبل حجا ... لم يرض إلّا بأبكار النّهى قنصا
ثم انثنى ثانيا عطف النّسيب إلى ... مدح به قد غلا ما كان قد رخصا
فظلت أرفل فيها لبسة شرفت ... ذاتا ومنتسبا أعزز به قمصا
يقول فيها وقد خولت منحتها ... وجرّع الكاشح المغرى بها غصصا (7)
هذي عقائل وافت منك ذا شرف ... لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا
فقلت: هلّا عكست القول منك له ... ولم يكن قابلا من (8) مدحه الرّخصا؟
وقلت: ذي بكر فكر من أخي شرف ... يردي ويرضي بها الحسّاد والخلّصا
لها حلى حسنيّات على حلل ... حسنيّة تستبي من حلّ أو شخصا
خوّلتها وقد اعتزّت ملابسها ... بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا (9)
خذها أبا قاسم منّي نتيجة ذي ... ودّ إذا شئت ودّا للورى خلصا
جاءت تجاوب عمّا قد بعثت به ... إن كنت تأخذ من درّ النحور حصا
__________
(1) في الأصل: «هلّت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «الكرب» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «فأجابني بقصيدة على رويّها أولها».
(4) في النفح: «أنضيت».
(5) القلص: جمع قلوص وهي الناقة. لسان العرب (قلص).
(6) في النفح: «لم يجمح».
(7) جرّع: سقي. والكاشح: المبغض. والغصص: جمع غصّة وهي عدم انسياغ الطعام في الحلق.
لسان العرب (جرع) و (كشح) و (غصص).
(8) في النفح: «في».
(9) عوص: صعب. لسان العرب (عوص).(3/110)
وهي طويلة. وممّا ينسب إليه، وهو مليح في معناه (1): [الكامل]
ما للنّوى مدّت لغير ضرورة ... ولقبل ما عهدي بها مقصوره
إنّ الخليل وإن دعته ضرورة ... لم يرض ذاك فكيف دون ضروره
وقال مضمّنا: [الرمل]
لا يلمني عاذلي حتى يرى (2) ... وجه من أهوى فلومي مستحيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
وقال في الفخر: [الكامل]
قل للموالي: عش بغبطة حامد ... وللمعادي: بت بضغنة حاسد
المزن كفّي والثريّا همّتي ... وذكاء (3) ذكري والسّعود مقاصدي (4)
وقال في غير ذلك: [البسيط]
غنيت بي دون غيري الدّهر عن مثل ... بعضي لبعضي أضحى يضرب المثلا
ظهري انحنى لمشيب لاح وا عجبا ... غضّ إذا أينعت أزهاره ذبلا
أذاك (5) أم زهر لاحت تخبّر أن ... يوم الصّبا والتّصابي آنس الطّفلا
ومما جمع فيه بين نظمه ونثره، ما راجع به شيخنا القاضي الشريف أبا القاسم الحسني، عن القصيدة الهمزية التي ثبتت في اسمه (6): [الكامل]
يا أوحد الأدباء أو يا أوحد ال ... فضلاء أو يا أوحد الشّرفاء
من ذا تراه أحقّ منك إذا التوت ... طرق الحجاج بأن يجيب ندائي (7)
أدب أرقّ من الهواء وإن تشا ... فمن الهوا والماء والصّهباء
وألذّ من ظلم (8) الحبيب وظلمه ... بالظّاء مفتوحا وضمّ الظّاء
ما السّحر إلّا ما تصوغ بنانه ... ولسانه من حلية الإنشاء
[والفضل ما حلّيته وحبيته ... وحبوتني منه بخير حباء
__________
(1) هذان البيتان والبيتان التاليان في نفح الطيب (ج 8ص 383).
(2) في النفح: «لا تلمني عاذلي حين ترى».
(3) في الأصل: «وذكا» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «مقاصد» بدون ياء.
(5) في الأصل: «أذلك» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) بعض أبيات هذه القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 384383).
(7) في الأصل: «نداء»، والتصويب من النفح.
(8) الظّلم، بفتح الطاء وسكون اللام: الريق. لسان العرب (ظلم).(3/111)
أبكار فكرك قد زفّت (1) بمدحتي ... تمشي روائعها على استحياء
لا من قصور بل لتقصيها ... من حيث لم يظفرن بالإرفاء
لكن جبرن وقد جبلن على الرضا ... فالجبر للأبكار للآباء
هذا إلى الشّرف الذي قد فزت ... علياءه (2) بالعزّة القعساء
شرف السّليل من الرسول وسيلة ... قامت بابن (3) سنا وابن (4) سناء
حسن أبو (5) حسن وفاطمة ابنة ال ... هادي البريّة خاتم النّبلاء
شرف على شرف إلى شرفين ... من حائز (6) ما حزت من علياء
هذي ثلاث أنت واحد فخرها ... فاشمخ لها شرفا بأنف علاء
من رام رتبتك السّنيّة فليقف ... دون المرام مواقف الإقصاء
هذي مآثر قد شأوت بصيتها ... من كان من آب لها أو شاء
واللّيث يرهب زأره في موطن ... ما كان من نقد به أو شاء
يكفيك من نكد المعاند أن يرى ... متقلّد الأعضاء بالبغضاء
السّنّ يفنى بالأنامل قرعه ... أو عضّه متوقّد الأحشاء
أتحفتني بقصيدة همزيّة ... مقصورة ممدودة الآراء
كم بين تلك وهذه لكنّها ... غطّى على هذي ذهاب فتائي (7)
ذو الشيب يعذره الشّباب فما لهم ... بذكاء (8) نبل أو بنبل ذكاء
من قارب الخمسين خطوا سنّه ... فمحاله مستوجب الإبطاء
أبنيّ، إنك أنت أسدى من به ... يتعاظم الآباء بالأبناء] (9)
لله نفثة سحر ما قد شدت لي ... من نفث سحرك في مشاد ثناء
عارضت صفوانا بها فأريت ما ... يستعظم الرّاوي له والرّائي (10)
لو راء لؤلؤك المنظّم لم يفز ... في (11) نظم لؤلؤه بغير عناء
__________
(1) في الأصل: «زفّفت» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «من عليائه» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «بابن» وهكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع للضرورة الشعرية.
(4) في الأصل: «بابن» وهكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع للضرورة الشعرية.
(5) في الأصل: «وأبو» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «من ذا حاز» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «فتاء» بدون ياء.
(8) في الأصل: «بذكا» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) ما بين قوسين ساقط في نفح الطيب.
(10) في الأصل: «والراء» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «من».(3/112)
بوّأتني منها أجلّ مبوّإ ... فلأخمصي مستوطن (1) الجوزاء
وسما بها اسمي سائرا (2) فأنا بما ... أسديت ذو الأسماء في الأسماء
وأشدت ذكري في البلاد فلي بها ... طول الثّناء وإن أطلت ثوائي (3)
ولقومي الفخر المشيد بنيته ... يا حسن (4) تشييد وحسن بناء
فليهن هانيهم يد بيضاء ما ... إن مثلها لك من يد بيضاء
حلّيت أبياتا لهم (5) لخميّة ... تجلى على (6) مضريّة غرّاء
فليشمخوا أنفا بما أوليتهم ... يا محرز الآلاء بالإيلاء
هذا (7)، بنيّ، وصل الله سبحانه (8) لك ولي بك علوّ المقدار، وأجرى وفق أو فوق إرادتك أو (9) إرادتي لك جاريات الأقدار! ما سمح (10) به الذهن الكليل، واللسان الفليل، في مراجعة قصيدتك الغرّاء، الجالية السّراء (11)، الآخذة بمجامع القلوب، الآتية (12) بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع (13) والأسلوب، المتحلّية بالحلى السّنيّة (14)، العريقة المنتسب في العلى الحسنيّة، الجالية صدأ (15) قلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان السّؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولو أقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدي بها والزمان زمان، وأحكامه (16) الماضية أمانيّ مقضيّة وأمان، تتوارد ألّافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كلّ سهل ممتع، مفترق مجمع (17)، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلا، واضح العلا، وضّاح الغرّة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيّد من الفصاحة بأياد، فلم يحفل بصاحبي طيّ وإياد، وكسي
__________
(1) في النفح: «مستوطئ».
(2) في الأصل: «سائر» والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «ثواء» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «بأحسن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «له».
(6) في الأصل: «بحلا علا» والتصويب من النفح.
(7) النص في نفح الطيب (ج 8ص 387384).
(8) كلمة «سبحانه» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(9) في النفح: «وإرادتي».
(10) في النفح: «ما سنح».
(11) في الأصل: «الجالية للسّرّاء»، والتصويب من النفح.
(12) في النفح: «الموفية».
(13) المهيع: الطريقة. لسان العرب (هيع).
(14) في الأصل: «الحسنية» والتصويب من النفح.
(15) في النفح: «لصدإ القلوب».
(16) في النفح: «وأحكامها».
(17) في النفح: «مجتمع».(3/113)
بضاعة (1) البلاغة، فلم يعبأ بهمّام وابن المراغة (2). شفاء المحزون، وعلم السّرّ (3)
المخزون، ما بين منثوره والموزون. والآن لا ملهج ولا مبهج، ولا مرشد ولا منهج، عكست القضايا فلم تنتج، فتبلّد القلب الذّكي، ولم يرشح القليب البكي (4)، وعمّ الإفحام، وغمّ الإحجام، وتمكّن الإكداء والإجبال، وكوّرت الشّمس وسيّرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدب قيامة. حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرّع غصنه المورق، تغنّى (5) به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشّرق، وأمن من الغصب والسّرق، وأقبل الأمن وذهب بإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور، وحصّل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت للبلاغة كور، وهمت لليراعة درر، ونظمت للبراعة درر، وعندها يتبيّن (6) أنك واحد حلبة البيان، والسّابق في ذلك الميدان، يوم الرّهان، فكان لك القدم، وأقرّ لك مع التأخر السّابق الأقدم، فوحقّ نصاعة ألفاظ أجدتها، حين أوردتها، وأسلتها حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين روّأتها (7) وأرويتها، وأصلتها حين فصّلتها ووصلتها (8)، ونظام جعلته لجسد (9) البيان قلبا، ولمعصمه قلبا (10)، وهصرت حدائقه غلبا، وارتكبت رويّه (11) صعبا، ونثار (12) أتبعته له خديما، وصيّرته لمدير كأسه نديما، ولحفظ (13) ذمامه المداميّ أو مدامه الذّماميّ مديما، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين نصبتني (14)، فذهبت خفّتها بوقاري، ولم يرعها بعد شيب عذاري، بل دعت للتّصابي فقلت مرحبا، وحللت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت ما ردّ نصابي نصيب (15)، وإن كنّا فرسي رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أنّ الجلدة
__________
(1) في النفح: «نصاعة».
(2) همّام: هو الفرزدق. وابن المراغة: هو جرير بن عطية.
(3) في النفح: «سرّ».
(4) في النفح: «ولم يرشح القلم الذكي».
(5) في النفح: «وتغنّى».
(6) في النفح: «تبين».
(7) في النفح: «رويتها أو روّيتها».
(8) في النفح: «أو وصلتها».
(9) في النفح: «بجسد».
(10) في الأصل: «والمعصمة قلما» والتصويب من النفح. والقلب: السوار. لسان العرب (قلب).
(11) في الأصل: «روية» والتصويب من النفح. وهنا يشير إلى صعوبة القافية وإن كانت همزية، وهي غير صعبة.
(12) في الأصل: «ونثارا» والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «ولحفظه».
(14) في النفح: «اطّبتني».
(15) يشير هنا إلى قول نصيب [الوافر]
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشء الصغار(3/114)
بيضاء، والمرجوّ الإغضاء، بل الإرضاء. بنيّ، كيف رأيت للبيان هذا الطّوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع؟ أين صفوان بن إدريس، ومحلّ دعواه بين رحلة وتعريس (1)؟ كم بين ثغاء بقر (2) هذا الفلا، وبين زئير ليث العريس؟ كما أني أقطع (3) علما، وأعلم قطعا، وأحكم مضاء وأمضى حكما، أنه لو نظر إلى قصيدتك الرّائقة، وفريدتك الحالية الفائقة، المعارضة بها قصيدته، المنتسخة بها فريدته، لذهب عرضا وطولا، ثم اعتقد لك اليد الطّولى، وأقرّ بارتفاع (4) النّزاع، وذهبت له تلك العلالات (5) والأطماع، ونسي كلمته اللّؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبيّة، واستغفر الله ربّه من تلك الإلهية (6). بنيّ، وهذا من ذلك، من الجري في تلك المسالك، والتّبسّط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيري هذا المنزع؟ أم المرء بشعره (7) وابنه مولع؟ حيّا الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيّامه وسنيه! ما أعلى منازعه، وأكبا منازعه، وأجلّ مآخذه، وأجهل تاركه وأعلم آخذه، وأرقّ طباعه، وأحقّ أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمح ألفاظه، وأفصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامه ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره، فعائبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود، غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منهما (8) حصل، ومن نكب عن الطريق، لم يعدّ من ذلك الفريق، فليهنك أيها الابن الذّكيّ، البرّ الزّكيّ، الحبيب الحفيّ (9)، الصّفيّ الوفيّ، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أوّلوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين. ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشّعراء والكتّاب، لفاضت ينابيع هذا الفصل (10) فيضا، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضا، قرّت عيون أودّائك (11)، وملئت غيظا صدور أعدائك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربّك الكبير المتعالي. والسلام
__________
وترجمة نصيب في الأغاني (ج 1ص 312) والشعر والشعراء (ص 322).
(1) التعريس: النزول ليلا للراحة. لسان العرب (عرس).
(2) في النفح: «بقر الفلاة وبين ليث الفريس».
(3) في النفح: «أعلم قطعا، وأقطع علما».
(4) في النفح: «فارتفع».
(5) في النفح: «العلاقات».
(6) في النفح: «الأليّة».
(7) في النفح: «بنفسه».
(8) في النفح: «منه».
(9) الحفيّ: الذي يبالغ في السؤال عن الشيء. لسان العرب (حفي).
(10) في النفح: «الفضل».
(11) الأودّاء: جمع ودود وهو المحبّ. لسان العرب (ودد).(3/115)
الأتم (1) الأكمل الأعمّ، يخصّك به من طال في مدحه إرقالك وإغذاذك (2)، وراد روض حمده (3) طلّك ورذاذك، وغدت مصالح سعيه في سعي مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته وفضله ومنّته معاذك، ووسمت نفسك بتلميذه فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هانىء، ورحمة الله وبركاته.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مع الوفد من أهل بلده عند تصيّرها إلى الإيالة النّصرية، حسبما ثبت في موضعه.
وفاته: توفي بجبل الفتح، والعدوّ يحاصره، أصابه حجر المنجنيق في رأسه، فذهب به، تقبّل الله شهادته ونفعه، في أواخر ذي قعدة، من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة (4).
وممّن رثاه قاضي الجماعة شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني، وهي القصيدة التي أولها (5): [الطويل]
سقى الله بالخضراء أشلاء سؤدد ... تضمّنهنّ التّرب صوب الغمائم
وقد ثبت في «جهد المقل» في اسم المذكور، فلينظر هنالك.
وممّن رثاه شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين، رحمه الله بقوله (6): [مجزوء الكامل]
قد كان ما قال اليزيد (7) ... فاصبر فحزنك لا يفيد
أودى ابن هانىء الوضا ... فاعتادني للثّكل عيد
بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد
قد كان زينا للوجو ... د ففيه قد فجع الوجود
العلم والتّحقيق والت ... وفيق والحسب التّليد
تندى خلائقه فقل ... فيها: هي الرّوض المجود
__________
(1) في النفح: «الأتمّ الأتمّ الأكمل».
(2) الإرقال والإغذاذ: ضربان من السير السريع. لسان العرب (رقد) و (غذذ).
(3) في النفح: «حمدك وابلك وطلّك ورذاذك».
(4) في نفح الطيب (ج 8ص 388): «وكانت وفاته شهادة في أواخر ذي القعدة عام ثلاثة وسبعمائة».
(5) البيت في نفح الطيب (ج 8ص 388).
(6) قصيدة ابن شبرين في نفح الطيب (ج 8ص 389388).
(7) في النفح: «البريد».(3/116)
مغض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنود (1)
أودى شهيدا باذلا ... مجهوده نعم الشّهيد
لم أنسه حين المعا ... رف باسمه فينا تشيد
وله صبوب في طلا ... ب العلم يتلوه صعود
لله وقت كان ين ... ظمنا كما نظم الفريد
أيام نغدو أو نرو ... ح وسعينا السّعي الحميد
وإذا المشيخة جثّم ... هضبات حلم لا تبيد (2)
ومرادنا جمّ النّبا ... ت وعيشنا خضر برود (3)
لهفي على الإخوان وال ... أتراب كلّهم فقيد
لو جئت أوطاني لأن ... كرني التّهائم والنّجود
ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد
ولطفت ما بين اللّحو ... د وقد تكاثرت اللّحود
سرعان ما عاث الحما ... م ونحن أيقاظ هجود
كم رمت إعمال المسي ... ر فقيّدت عزمي قيود
والآن أخلفت الوعو ... د وأخلقت تلك البرود
ما للفتى ما يبتغي ... والله (4) يفعل ما يريد
أعلى القديم الملك يا ... ويلاه يعترض العبيد
يا بين، قد طال المدى ... أرعد وأبرق يا يزيد (5)
ولكل شيء غاية ... ولربما لان الحديد
إيه أبا عبد الإل ... هـ ودوننا مرمى بعيد
أين الرسائل منك تأ ... تينا كما نظم (6) العقود؟
أين الرّسوم الصالحا ... ت؟ تصرّمت، أين العهود؟
__________
(1) الكنود: كافر النعمة، البخيل. لسان العرب (كند).
(2) في النفح: «لا تميد».
(3) في الأصل: «خضر البرود» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «فالله».
(5) في النفح: «أبرق وأرعد». وقد أخذ المعنى من قول الكميت [مجزوء الكامل]:
أرعد وأبرق يا يزي ... د فما وعيدك بضائر.
(6) في النفح: «نسق».(3/117)
أنعم مساء لا تخطّت ... ك (1) البشائر والسّعود
وأقدم على دار الرّضا ... حيث الإقامة والخلود
والق الأحبّة حيث دا ... ر الملك والقصر المشيد
حتى الشّهادة لم تفت ... ك فنجمك النّجم السّعيد
لا تبعدن وعدا (2) لو أن ... ن الميت (3) في الدنيا يعود
ولئن (4) بليت فإنّ ذكر ... ك في الدّنا غضّ جديد
تالله لا تنساك أن ... دية العلى ما اخضرّ عود
وإذا تسومح في الحقو ... ق فحقّك الحقّ الأكيد
جادت صداك غمامة ... يروى (5) بها ذاك الصّعيد
وتعهّدتك من المهي ... من رحمة أبدا وجود
محمد بن يحيى العبدري
من أهل فاس، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالصّدفي.
حاله: قال الأستاذ في «صلته» (6): إمام في العربية، ذاكر للّغات والآداب، متكلم، أصولي مفيد، متفنّن، حافظ، ماهر، عالم، زاهد، ورع، فاضل. أخذ علم العربية والآداب عن النّحوي أبي الحسن بن خروف، وعن النّحوي الأديب الضّابط أبي ذرّ الخشني، وأكثر عنهما، وأكمل الكتاب على ابن خروف، تفقّها وتقييدا وضبطا. وكان حسن الإقراء، جيّد العبارة، متين المعارف والدّين، شديد الورع، متواضعا جليلا، عالما عاملا، من أجلّ من لقيته، وأجمعهم لفنون المعارف، وضروب الأعمال، وكان الحفظ أغلب عليه، وكان سريع القلم إذا كتب أو قيّد، وسمعته يقول: ما سمعت شيئا من أحد من أشياخي، من نكت العلم، وتفسير مشكل، وما يرجع إلى ذلك، إلّا وقيّدته، ولا قيّدت بخطّي شيئا إلّا حفظته، ولا حفظت شيئا فنسيته. هذا ما سمعت منه.
__________
(1) في النفح: «لا تخطّيك».
(2) في الأصل: «وعد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «البدء».
(4) في النفح: «فلئن».
(5) في النفح: «يرمي».
(6) الأستاذ هو أبو جعفر بن الزبير، وكتابه هو: «صلة الصلة».(3/118)
مشيخته: أخذ العربيّة عن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وعن النّحوي الأديب الضّابط أبي ذرّ الخشني، وأكثر عنه، وأخذ معهما عن أبي محمد بن زيدان، ولازم ثلاثتهم، وسمع وقرأ على الفقيه الصالح أبي محمد صالح، وأخذ عن غير من ذكر.
دخوله غرناطة: قال: دخل الأندلس مرارا بيسير بضاعة كانت لديه، يتّجر فيها، ودخل إشبيلية، وتردّد آخر عمره إلى غرناطة ومالقة إلى حين وفاته.
وفاته: توفي، رحمه الله، شهيدا بمرسى جبل الفتح. دخل عليهم العدوّ فيه، فقاتل حين قتل، وذلك سنة إحدى (1) وخمسين وستمائة. وسمعته يتوسل إلى الله، ويسأله الشهادة.
المحدّثون والفقهاء والطلبة النجباء وأولا الأصليون
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزّبير (2)
من أهل غرناطة، ولد الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، يكنى أبا عمرو.
حاله: هذا (3) الشيخ سكّيت حلبة، ولد أبيه في علوّ النّباهة، إلّا أنه لوذعي فكه، حسن الحديث، رافض للتّصنّع، ركض طرف الشّبيبة في ميدان الراحة، منكبا عن سنن أبيه وقومه، مع شغوف (4) إدراك، وجودة حفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعدم قادحا. ورحل إلى العدوة، وشرّق ونال حظوة، وجرت عليه خطوب. ثم عاد إلى الأندلس على معروف رسمه يتكوّر بها، وهو الآن قد نال منه الكبر، يزجي الوقت (5) بمالقة، متعلّلا بوقف (6) من بعض الخدم المخزنيّة (7)، لطف الله به.
مشيخته: استجاز له والده الطّم والرّم، من أهل المغرب والمشرق، ووقف عليه منهم في الصّغر وقفا لم يغتبط به عمره، وادّكره الآن بعد أمّة، عندما نقر عنه لديه، فأثرت به يده من علوّ رواية، وتوفّر سبب مبرّة، وداعية إلى إقالة عثرة، وستر
__________
(1) في الأصل: «أحد» وهو خطأ نحوي.
(2) ترجمة ابن الزبير في نفح الطيب (ج 8ص 231).
(3) النص في نفح الطيب (ج 8ص 233232).
(4) في النفح: «شفوف».
(5) في النفح: «لوقته».
(6) في النفح: «برمق».
(7) نسبة إلى المخزن. وجاء في النفح: «المخزونية».(3/119)
هيبة شيبة. فمن ذلك الشيخ الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي، إجازة ثم لقاء وسماعا، والشيخ الخطيب الرّاوية أبو عبد الله بن غريون. وأجازه الأستاذ أبو إسحاق الغافقي، وأبو القاسم بن الشّاط، والشّريف أبو العباس أحمد الحسني، والأستاذ الإمام أبو الحسين عبد الله بن أبي الربيع القرشي، نزيل سبتة.
ومحمد بن صالح بن أحمد بن محمد الكتّاني الشّاطبي ببجاية، والإمام أبو اليمن بن عساكر بالمسجد الحرام، وابن دقيق العيد وغيرهم. ومن أهل الأندلس أبو محمد بن أبي السّداد، وأبو جعفر بن الزيات، وأبو عبد الله بن الكمّاد، وأبو عبد الله بن ربيع الأشعري، وأبو عبد الله بن برطال، وأبو محمد عبد المنعم بن سماك، والعدل أبو الحسن بن مستقور. وأجازه من أهل المشرق والمغرب عالم كبير.
شعره: وبضاعته فيه مزجاة، فمن ذلك ما خاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة عن السلطان (1): [الوافر]
نوالي الشّكر للرحمن فرضا ... علم نعم كست طولا وعرضا
وكم لله من لطف خفيّ ... لنا منه الذي قد شا (2) وأمضى (3)
بمقدمك السّعيد أتت سعود ... ننال (4) بها نعيم الدّهر محضا
فيا بشرى لأندلس بما قد ... به والاك بارينا وأرضى
ويا لله من سفر سعيد ... قد أقرضت (5) المهيمن فيه قرضا
نهضت (6) بنيّة أخلصت فيها ... فأبت (7) بكل ما يبغي ويرضى
وثبت لنصرة الإسلام لمّا ... علمت بأنّ الأمر إليك أفضى
لقد أحييت بالتّقوى رسوما ... كما أرضيت بالتّمهيد أرضا
وقمت بسنّة المختار فينا ... تمهّد سنّة وتقيم فرضا
ورضت (8) من العلوم الصّعب حتى ... جنيت ثمارها رطبا وغضّا
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 232231).
(2) أصل القول: «شاء»، فحذف الهمزة للضرورة الشعرية.
(3) في الأصل: «الذي يشاء وأمضا»، أي في الأصل بياض مكان كلمة «قد»، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «تنال» والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «قد أقرضك».
(6) في النفح: «ورحت».
(7) في الأصل: «فأتت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) رضت: ذلّلت ومهّدت. لسان العرب (روض).(3/120)
فرأيك ناجح (1) فيما تراه ... وعزمك من مواضي الهند أمضى
تدبّر أمر مولانا فيلقى ال ... مسيء لديك إشفاقا وإغضا (2)
فأعقبنا شفاء (3) وانبساطا ... وقد كانت قلوب الناس مرضى
ومن أضحى على ظمإ وأمسى ... يرد إن شاء من نعماك حوضا (4)
أبا عبد الإله إليك أشكو ... زماني حين زاد الفقر عضّا (5)
ومن نعماك أستجدي لباسا ... يفيض (6) به عليّ الجاه فيضا
بقيت مؤمّلا ترجى وتخشى ... ومثلك من إذا ما جاد أرضى
وفاته: توفي في التاسع لمحرم من عام خمسة وستين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك ابن غالب الغسّاني
من أهل غرناطة، يكنى أبا أبكر، ويعرف بالقليعي (7)،
أوليته: قد جرى من ذكره وذكر بيته في الطبقات ما فيه كفاية (8).
حاله: كان (9) نبيه البيت، رفيع القدر، عالي الصيت، من أهل العلم والفضل والحسب والدّين، وأجمع على استقضائه أهل بلده بعد أبي محمد بن سمحون سنة ثمان وخمسمائة.
وفاته: توفي بغرناطة أوائل صفر عشرة وخمسمائة، ودفن في روضة أبيه. ذكره ابن الصّيرفي وأطنب.
__________
(1) في النفح: «راجح».
(2) إغضا: أصلها: إغضاء، فحذفت الهمزة للضرورة الشعرية.
(3) في الأصل: «شفا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «خوضا» بالخاء والتصويب من النفح.
(5) رواية عجز البيت في الأصل هكذا:
حين ناب الفقر عضّا
وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «تفيض».
(7) ترجمة القليعي في التكملة (ج 1ص 335) والذيل والتكملة (ج 5ص 625).
(8) تقدمت ترجمة أبيه أحمد بن خلف في الجزء الأول من الإحاطة.
(9) قارن بالذيل والتكملة (ج 5ص 625) والتكملة (ج 1ص 335).(3/121)
محمد بن أحمد بن محمد الدّوسي (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطبة.
حاله: من «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، شيخ الفقهاء والموثّقين، صدر أرباب الشورى، نسيج وحده في الفضل والتّخلّق والعدالة، طرفا في الخير، محبّبا إلى الكافة، مجبولا على المشاركة، مطبوعا على الفضيلة، كهفا للغرباء والقادمين، مألفا للمتعلمين، ثمالا للأسرى والعانين، تخلّص منهم على يديه أمم لقصد الناس إيّاه بالصّدقة، مقصودا في الشّفاعات، معتمدا بالأمانات، لا يسدل دونه ستر، ولا تحجب عنه حرمة، فقيها حافظا، أخباريا محدّثا ممتعا، متقدما في صناعة التوثيق، حسن المشاركة في غيرها، كثير الحضّ على الصدقة في المحول والأزمات، يقوم في ذلك مقامات حميدة، ينفع الله بها الضعفاء، وينقاد الناس لموعظته، ويؤثّر في القلوب بصدقة. فقد بفقدانه رسم من رسوم البرّ والصّدقة.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزّبير، والخطيب وليّ الله أبي الحسن بن فضيلة، وروى عن الشيخ الوزير المسنّ المحدّث أبي محمد عبد المنعم بن سماك، وأبي القاسم بن السّكوت المالقي، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي يحيى بن مسعود، والعدل أبي علي البجلي، وأبي محمد عبد المؤمن الخولاني. وأجازه جماعة من أهل المشرق والمغرب، وناب عن بعض القضاة بغرناطة. ولد عام تسعة وستين وستمائة، وتوفي في الثالث لربيع الأول من عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة. وكانت جنازته مشهودة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن يوسف بن روبيل الأنصاري
من أهل غرناطة، ويكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن السّراج. طليطلي الأصل، طبيب الدار السلطانية.
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، من أهل التّفنّن والمعرفة، متناهي الأبّهة والحظوة، جميل الصورة، مليح المجالسة، كثير الدّعابة والمؤانسة، ذاكرا للأخبار والطّرف، صاحب حظّ من العربية والأدب والتفسير، قارضا للشّعر، حسن الخط،
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 177): «أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن قطبة الدوسي».(3/122)
ظريف الوراقة، طرفا في المعرفة بالعشب، وتمييز أعيان النّبات، سنيّا، محافظا، محبّا في الصالحين، ملازما لهم، معتنيا بأخبارهم، متلمذا لهم. انحاش إلى الولي أبي عبد الله التّونسي، وانقطع إليه مدة حياته، ودوّن أحواله وكراماته. وعيّن ريع ما يستفيده في الطّبّ صدقة على يديه، أجرى ذلك بعد موته لبنيه. ونال حظا عريضا من جاه السلطان، فاطّرح حظّ نفسه مع المساكين والمحتاجين، فكان على بأوه على أهل الدنيا، يؤثر ذوي الحاجة، ويخفّ إلى زيارتهم، ويرفدهم، ويعينهم على معالجة عللهم.
مشيخته: قرأ الطّبّ على الشيخ الطبيب، نسج وحده أبي جعفر الكزني، رئيس الصناعة في وقته، ولقي فيه الأستاذ إمام التّعاليم والمعارف أبا عبد الله الرّقوطي المرسي وغيره. وقرأ القرآن على المقرئ الشهير أبي جعفر الطبّاع بالروايات السّبع، والعربية على الأستاذ أبي الحسن بن الصائغ الإشبيلي، وأكثر القراءة على شيخ الجماعة العلّامة أبي جعفر بن الزّبير.
تواليفه: ألّف كتبا كثيرة، منها في النّبات والرؤيا، ومنها كتاب سمّاه، «السّرّ المذاع، في تفضيل غرناطة على كثير من البقاع».
شعره: من ذلك قوله ملغّزا في المطر: [الطويل]
وما زائر مهما أتى ابتهجت به ... نفوس وعمّ الخلق جودا وإحسانا
يقيم فيشكو الخلق منه مقامه ... ويكربهم طرّا إذا عنهم بانا
يسرّ إذا وافى ويكرب إن نأى ... ويكره منه الوصل إن زار أحيانا
وأعجب شيء هجر حبّ مواصل ... به لم (1) يطل هواه إن لم يطل خانا
محنته: ذكر أنه لما توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر (2) فجأة، وهو يصلّي المغرب، وباكر الطبيب بابه غداة ليلة موته، سأل عن الطعام القريب عهد موته بتناوله، فأخبر أنّه تناول كعكا وصله من وليّ عهده، فقال كلاما أوجب نكبته، فامتحن بالسّجن الطويل، والتمست الأسباب الموصلة إلى هلاكه، ثم أجلي إلى العدوة. ثم دالت الأيام، فعاد إلى وطنه مستأنفا ما عهده من البرّ وفقده من التّجلّة.
ميلاده: بغرناطة عام أربعة وخمسين وستمائة.
__________
(1) في الأصل: «حين»، وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(2) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر «ولي سلطنة غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة.(3/123)
وفاته: ليلة الخميس التاسع من شهر ربيع الأول من عام ثلاثين وسبعمائة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي زمنين المرّي (1)
يكنى أبا عبد الله (2)، وبيته معلوم.
حاله: كان من أهل المعرفة والنّبل والذكاء.
مشيخته: قرأ القرآن على أبي بكر بن النّفيس، وأبي عبد الله بن شهيد المرّي المقرئ بطخشارش من غرناطة. ودرس الفقه عند المشاور أبي عبد الله بن مالك (3) المقرئ، وأبي الحسن علي بن عمر بن أضحى، وعلى غيرهما من شيوخ غرناطة.
وفاته: توفي سنة أربعين وخمسمائة.
قلت: وإنما ذكرت هذا المترجم به مع كوني اشترطت صدر خطبته ألّا أذكر هذا النمط لمكان مصاهرتي في هذا البيت. ولعلّ حافد هذا المترجم به من ولدي يطّلع على تعدادهم وذكرهم في هذا التأليف وتردادهم، فيكون ذلك محرّضا له على النّجابة، محرّضا للإجابة، جعلنا الله ممّن انتمى للعلم وأهله، واقتفى من سننه واضح سبله.
محمد بن جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم ابن حسّان القيسي (4)
الوادآشي الأصل والمعرفة، التّونسي الاستيطان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر.
حاله: من «عائد الصلة»: نشأ بتونس، وجال في البلاد المشرقية والمغربية، واستكثر من الرّواية ونقّب عن المشايخ، وقيّد الكثير، حتى أصبح جمّاعة المغرب، وراوية الوقت. ثم قدم الأندلس ظريف النّزعة، عظيم الوقار، قويم السّمت، يأوي في
__________
(1) ترجمة ابن أبي زمنين في الذيل والتكملة (ج 6ص 101) وهو فيه: «محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله».
(2) كنيته في الذيل والتكملة: أبو بكر.
(3) في الأصل: «ملك» والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) ترجمة محمد بن جابر القيسي في التعريف بابن خلدون (ص 18) والديباج المذهب (ص 311) ونفح الطيب (ج 6ص 92) و (ج 7ص 192).(3/124)
فضل التّعيش إلى فضل ما كان بيده، يصرفه في مصارف التجارة. وقعد للإسماع والرّواية، وانتقل إلى بلّش، فقرأ بها القرآن العظيم والروايات السّبع، على الخطيب أبي جعفر بن الزيات. ثم رحل إلى المغرب، ثم أعاد الرّحلة الحجازية، وأعرق، فلقي أمّة من العلماء والمحدّثين، وأصبح بهم شيخ وحده، انفساح رواية، وعلوّ إسناد.
مشيخته: من شيوخه قاضي الجماعة بتونس أبو العباس بن الغمّاز الخزرجي البلنسي، وقاضي الجماعة بها أبو إسحاق بن عبد الرفيع، وقاضي قضاة الدّيار المصرية بدر الدين بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن صخر الكناني. وقاضي الجماعة ببجاية أبو العباس الغبريني، وسراج الدين أبو جعفر عمر بن الخضر بن طاهر بن طرّاد بن إبراهيم بن محمد بن منصور الأصبحي، وأبو محمد عبد الغفار بن محمد السّعدي المصري، ورضيّ الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الخليلي الجعفري، وشرف الدين أبو عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي، وأبو الفضل أبو القاسم بن حمّاد بن أبي بكر بن عبد الواحد الحضرمي اللبيد، وعبد الله بن يوسف بن موسى الخلاسي، وعبد الله بن محمد بن هارون، وإبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحاج التّجيبي، وأحمد بن يوسف بن يعقوب بن علي الفهري اللّبلي (1)، وولده جابر بن محمد بن قاسم معين الدين، وعزّ الدين أبو القاسم بن محمد بن الخطيب، وجمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن الصّفّار، وأبو بكر بن عبد الكريم بن صدقة العزفي، ومحمد بن إبراهيم بن أحمد التجيبي، وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن عقاب الجذامي الشاطبي، وعبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني، وأبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري (2)، وعلي بن محمد بن أبي القاسم بن رزين التّجيبي، وأحمد بن موسى بن عيسى البطرني (3)، وغرّ القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير، وتقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري، وصدر النحاة أبو حيّان، وظهير الدين أبو محمد بن عبد الخالق المخزومي المقدسي الدّلاصي، ورضيّ
__________
(1) نسبة إلى لبلة وهي مدينة في غرب الأندلس. الروض المعطار (ص 507).
(2) نسبة إلى قبتور وهي قرية من قرى إشبيلية. الروض المعطار (ص 454).
(3) نسبته إلى بطرنة وهي قرية بساحل إلبيرة. نزهة المشتاق (ص 564) وجغرافية الأندلس وأوروبا (ص 129) ومملكة غرناطة (ص 288).(3/125)
الدين بن إبراهيم بن أبي بكر الطّبري، والمعمّر بهاء الدين أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود بن هبة الله بن عساكر الدمشقي. وأما من كتب إليه فنحو مائة وثمانين من أهل المشرق والمغرب.
قدم غرناطة في أول عام ستة وعشرين وسبعمائة، فهو باعتبار أصله أصلي، وباعتبار قدومه طارىء وغريب.
تواليفه: له تواليف حديثيّة جملة، منها أربعون حديثا، أغرب فيها بما دلّ على سعة خطوه وانفساح رحله.
وفاته: كان حيّا سنة أربعين وسبعمائة، وبلغني أنه توفي عام سبعة بعدها.
محمد بن خلف بن موسى الأنصاري الأوسي (1)
من أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: كان (2) متكلّما، واقفا على مذاهب المتكلّمين، متحققا برأي الأشعرية، ذاكرا لكتب الأصول والاعتقادات، مشاركا في الأدب، مقدّما في الطّبّ.
مشيخته: روى عن أبي جعفر بن محمد بن حكم بن باق، وأبي جعفر بن خلف بن الهيثم، وأبوي الحسن بن خلف العنسي، وابن محمد بن عبد العزيز بن أحمد بن حمدين، وأبوي عبد الله بن عبد العزيز الموري، وابن فرج مولى الطلّاع، وأبي العباس بن محمد الجذامي، وأبي علي الغساني، وأبي عمرو زياد بن الصّفار، وأبي القاسم أحمد بن عمر. وأخذ علم الكلام عن أبي بكر بن الحسن المرادي، وأبي جعفر بن محمد بن باق، وأبي الحجاج بن موسى الكلبي.
وتأدّب في بعض مسائل النحو بأبي القاسم بن خلف بن يوسف بن فرتون بن الأبرش.
من روى عنه: روى عنه أبو إسحاق بن قرقول، وأبو خالد المرواني، وأبو زيد بن نزار، وأبو عبد الله بن الصّيقل المرسي، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن سمعان، وأبو الوليد بن خيرة.
__________
(1) ترجمة محمد بن خلف في التكملة (ج 1ص 358) والذيل والتكملة (ج 6ص 193) ونفح الطيب (ج 4ص 315).
(2) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 194) وبنفح الطيب (ج 4ص 315).(3/126)
تواليفه: من تواليفه: «النّكت والأمالي، في الرّد (1) على الغزالي»، و «الإيضاح (2) والبيان، في الكلام على القرآن»، و «الأصول (3)، إلى معرفة الله ونبوة الرسول» ورسالة «الاقتصار (4)، على مذاهب الأئمّة الأخيار»، ورسالة «البيان، في (5)
حقيقة الإيمان»، والرّد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء الواقعة له في الجزء الأول من مقدّماته، و «شرح مشكل ما وقع في الموطّإ وصحيح (6) البخاري»، وقد كان شرع في تصنيفه عام ثمانية عشر وخمسمائة (7) في شوال منه، وبلغ في الكلام فيه إلى النّكتة الرابعة والخمسين، وقطعت به قواطع المرض، وشرع في معالجة العين لرؤيا رآها، يقال له: ألّفت في نور البصيرة، فألّف في نور البصر تنفع وتنتفع، فأقبل على تأليفه في مداواة العين، وهو كتاب جمّ الإفادة، ثم أكمل النّكت.
شعره: وكان له حظّ من قرض الشعر، فمن ذلك ما مدح به إمام الحرمين أبا المعالي الجويني (8): [الخفيف]
حبّ حبر (9) يكنى أبا للمعالي (10) ... هو ديني ففيه لا تعذلوني
أنا والله مغرم في هواه (11) ... علّلوني بذكره علّلوني
مولده: ولد يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وخمسمائة (12).
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الخولاني
غرناطي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشّريشي (13).
__________
(1) في التكملة (ج 1ص 358): «في النقض».
(2) كلمة «والإيضاح» ساقطة في الذيل والتكملة (ج 6ص 194).
(3) في الأصل: «والوصول» والتصويب من التكملة والذيل والتكملة.
(4) في التكملة والذيل: «الانتصار».
(5) في التكملة والذيل: «عن».
(6) في التكملة «وكتاب».
(7) في الأصل: «وستمائة» وهو خطأ، وصوبناه من الذيل والتكملة.
(8) هو يوسف بن عبد الله بن عبد الملك الجويني، والبيتان في الذيل والتكملة (ج 6ص 195) ونفح الطيب (ج 4ص 315).
(9) الحبر: العالم، جمعه أحبار. لسان العرب (حبر).
(10) في الأصل: «أبا المعالي»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(11) في المصدرين: «بهواه».
(12) جاء في الذيل والتكملة (ج 6ص 195): «وتوفي في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة».
(13) ترجمة أبي عبد الله الشريشي في الكتيبة الكامنة (ص 215) ونفح الطيب (ج 9ص 230)(3/127)
حاله: من أهل التّصاون والحشمة والوقار، معرق في بيت الخيريّة والعفّة، وكان والده صاحبنا، رحمه الله، آية في الدّؤوب والصّبر على انتساخ الدّواوين العلمية والأجزاء، بحيث لا مظنّة معرفة أو حجرة طلب تخلو عن شيء من خطّه إلّا ما يقلّ، على سكون وعدالة وانقباض وصبر وقناعة. وأكتب للصّبيان في بعض أطواره، ونشأ ابنه المذكور ظاهر النّبل والخصوصيّة، مشاركا في فنون من عربية وأدب وحساب وفريضة. وتصرّف في الشهادة المخزنيّة برهة، ثم نزع عنها انقيادا لداعي النّزاهة، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعره: وشعره من نمط الإجادة، فمن ذلك قوله (1): [السريع]
بي شادن أهيف مهما انثنى ... يحكي تثنّيه القضيب الرّطيب
ذو غرّة كالبدر قد أطلعت ... فوق قضيب نابت في كثيب
خضت حشا الظّلماء من حبّه ... أختلس الوصل حذار الرّقيب
فبتّ والوصل (2) لنا ثالث ... يضمّنا ثوب عفاف قشيب
حتى إذا ما الليل ولّى وقد ... مالت نجوم الأفق نحو الغروب
ودّعته والقلب ذو لوعة ... أسبل (3) من ماء جفوني غروب
فلست أدري حين ودّعته (4) ... قلب بأضلاعي غدا أم قليب؟
ومن ذلك في النسيب (5): [السريع]
يا أجمل الناس ويا من غدت ... غرّته تمحو سنا الشمس
أنعم على عبدك يا مالكي ... دون اشتراء ومنى نفسي
بأن ترى وسطى لعقدي وأن ... تعيد ربعي كامل الأنس
فإن تفضّلت بما أرتجي ... أبقيتني في عالم الإنس
وإن تكن ترجعني خائبا ... فإنني أدرج في رمسي (6)
__________
و (ج 10ص 24، 136).
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 215214).
(2) في الأصل: «وللوصل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(3) في الأصل: «أسيل» والتصويب من الكتيبة.
(4) في الأصل: «أودعته» والتصويب من الكتيبة.
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 215).
(6) في الأصل: «رمس» بدون ياء، والتصويب من الكتيبة.(3/128)
وقال في فضل العلم (1): [السريع]
يا طالب العلم اجتهد إنه ... خير من التّالد والطّارف
فالعلم يذكو (2) قدر إنفاقه ... والمال إن (3) أنفقته تالف
وترقّى إلى هذا العهد بإشارتي إلى التي لا فوقها من تعليم ولد السلطان، والرّئاسة القرآنية بباب الإمارة، والإمامة بالمسجد الجامع من القلعة (4)، حميد الطريقة في ذلك كله، معروف الحق، تولّاه الله.
مولده: عام ثمانية عشر وسبعمائة.
محمد بن محمد بن علي بن سودة المرّي
يكنى أبا القاسم.
أوليته: من نبهاء بيوتات الأندلس وأعيانها، سكن سلفه البشارّة (5)، بشارّة بني حسّان، وولي جدّه الأشغال، حميد السيرة، معروف الإدانة.
حاله: هذا الفتى من أهل الخصوصيّة والسكون والحياء، المانع عن كثير من الأغراض. مال إلى العلوم العقلية، فاستظهر على المماسّة في بعض أغراضها بالدؤوب والعكوف، المورّين تأثير حبل الرّكيّة في جحرها، فتصدّر للعلاج، وعانى الشّعر، وأرسم في الكتابة، وعدّ من الفضلاء، وظهرت على عباراته اصطلاحات الحكماء، وتشوّف إلى العهد للرّحلة الحجازية، والله ييسّر قصده.
مشيخته: قرأ الطبّ والتّعديل على الحبر طبيب الدّار السّلطانية، فارس ذينك الفنّين، إبراهيم بن زرزار اليهودي، ورحل إلى العدوة، فقرأ على الشّريف العالم الشهير، رحلة الوقت في المغرب، أبي عبد الله العلوي، وبلقائه نجح.
شعره: أنشد السلطان قوله: [الكامل]
جاد الحمى صوب الغمام هتونه ... تزجي البروق سحابه فتعينه
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 215).
(2) في الكتيبة: «يزكو».
(3) في الأصل: «إذا» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(4) المراد القلعة الحمراء الملاصقة لقصر الحمراء.
(5) البشارّة أو بشرّة أو البشرّات: هي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير، على مقربة من البحر المتوسط. نفح الطيب (ج 1ص 150) و (ج 4ص 525524) ومملكة غرناطة (ص 46).
الإحاطة في أخبار غرناطة / ج 3/ م 9.(3/129)
وسقى ديار العامرية بعد ما ... وافى بجرعاء (1) الكثيب معينه
يندى بأفنان الأراك كأنه ... عقد تناثر بالعقيق ثمينه
ومحى الكثيب سكوبه فكأنه ... خطّ تطلّس ميمه أو نونه
حتى إذا الأرواح هبّت بالضّحى ... مسحت عليه بالجناح تبينه
وكأنّه والرعد يحدو خلفه ... صبّ يطول إلى اللقاء حنينه
أو سحّ دمعي فوق أكناف اللّوى ... جادت بلؤلؤة النفيس عيونه
والبرق في حلل السّحاب كأنه ... مكنون سرّ لم يذع (2) مضمونه
أو ثوب ضافية الملابس كاعب ... عمدت بحاشية النّضار تزينه
هنّ الديار برامة لا دهرها ... سلس القياد ولا العتاب يلينه
ولقد وقفت برسمها فكأنّني ... من ناحل الأطلال فيه أكونه
قلبي بذاك اللّوى خلّفته ... ألوى بمزدلف الرّفاق ظعينه
لا تسأل (3) العذّال عني فالهوى ... هذا (4) يخامر بالضّلوع دفينه
إن يخف عن شرحي حديث زميرتي ... فعلى الفنون فريضة تبينه
عجبا لدمعي لا يكفّ كأنما ... جدوى أبي عبد الإله هتونه
محيي المكارم بعد ما أودى بها ... زمن تقلّب بالكرام خؤونه
مولى الملوك عميد كلّ فضيلة ... علق الزمان ثمينه ومكينه
يضفي إلى داعي النّدى فيهزّه ... وبملتقى الجمعين طال سكونه
من ذا يسابق فضله لوجوده ... ويلجّ فيض البحر فاض يمينه
إن تلقه تلق الجمال وقاره ... والحلم طبع والسّماحة دينه
غمر الأنام نواله ومحا الضلا ... ل رشاده وجلا الظّلام جبينه
أحيا رسوم الدين وهي دوارس ... ولطالما صدع الشكوك يقينه
شمس الهدى حتف العدا محيي النّدا ... بحر الجدا طول المدى تمكينه
ليث الشّرى غوث الورى قمر السّرى ... سنّ القرى عمّ القرى تأمينه
فلبأسه يوم الوغى ولعزمه ... جاش الهزبر إذا الهزبر يخونه
__________
(1) في الأصل: «الجرعا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «قد أذيع» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «تسل» وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «ذا» وكذا ينكسر الوزن.(3/130)
لا تسأل (1) الهيجاء عنه إنه ... يصل المراد كما تحبّ ظنونه
لو كان يشغله المنام عن العلا ... هجر المنام وباعدته جفونه
وإذا تطاولت الملوك بماجد ... بمحمد دون الأنام يكونه
يا ابن الألى نصروا الرسول ومن بهم ... نطق الكتاب فصيحه ومبينه
خصّوا ببيعته وحاموا دونه ... نهج الرّضا حتى تقاوم دينه
أمعاضد الإسلام أنت عميده ... وخليفة الرحمن أنت أمينه
لم يبق إلّا من بسيفك طائع ... ألفنش (2) في أقصى البلاد رهينه
وبجيشك المنصور لو لاقيته ... أدرى بمشتجر الرّماح طعينه
ولو اصطنعت إلى العدوّ إدالة ... طاعت إليك بلاده وحصونه
خذها إليك قصيدة من شاعر ... حلو الكلام مهذّب تبيينه
جعل القوافي للمعالي سلّما ... فجنى القريض كما اقتضته فنونه
غطّى هواه عقله واقتاده ... يحصي النجوم جهالة تزيينه
ولو أخذته أيدي التحرير والنّقد، لرجي أن يكون شاعرا، وبالجملة فالرجل معدود من السّراة بيتا وتخصّصا.
محمد بن عبد العزيز بن سالم بن خلف القيسي
منكّبي (3)، الأصل، يكنى أبا عبد الله، طبيب الدّار السلطانية.
حاله: من «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، فذّا في الانطباع واللّوذعية، حسن المشاركة في الطّب، مليح المحاضرة، حفظة، طلعة، مستحضرا للأدب، ذاكرا لصناعة الطب، أخذها عن إمام وقته أبي جعفر الكزني، وانتصب للعلاج، ثم انتقل إلى الخدمة بصناعته بالباب السلطاني، وولّي الحسبة، ومن شعره يخاطب السلطان على ألسنة أصحابنا الأطباء الذين جمعتهم الخدمة ببابه يومئذ، وهم أبو الأصبغ بن سعادة، وأبو تمام غالب الشّقوري: [الخفيف]
قد جمعنا ببابكم سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإرادة
__________
(1) في الأصل: «تسل» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وألفنش»، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا حرف الواو. وألفنش: هو صاحب قشتالة.
(3) نسبة إلى المنكّب، وهي مدينة صغيرة في مقاطعة غرناطة على البحر المتوسط.
الروض المعطار (ص 548).(3/131)
ومن أسمائنا (1) لكم حسن فال ... غالب ثم سالم وسعاده
وفاته: توفي في شهر رجب من عام سبعة عشر وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن أبي زمنين (2)
من أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من الملاحي (3)، قال: ولّي الأحكام، وكان فقيها نبيها.
وفاته: توفي بغرناطة في عشر الستين وأربعمائة.
قلت: قد تقدم اعتذاري عن إثبات مثله في هذا المختصر، فلينظر هناك إن شاء الله.
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرّي
حاله: كان من كبار المحدّثين والعلماء الراسخين، وأجلّ وقته قدرا في العلم والرّواية والحفظ للرّأي والتمييز للحديث، والمعرفة باختلاف العلماء، متفنّنا في العلم، مضطلعا بالأدب، قارضا للشّعر، متصرفا في حفظ المعاني والأخبار، مع النّسك والزّهد، والأخذ بسنن الصالحين، والتخلّق بأخلاقهم. لم يزل أمّة في الخير، قانتا لله، منيبا له، عالما زاهدا صالحا خيّرا متقشّفا، كثير التّبتّل والتّزلّف بالخيرات، مسارعا إلى الصالحات، دائم الصلاة والبكاء، واعظا، مذكرا بالله، داعيا إليه، ورعا، ملبّي الصدقة، معينا على النّائبة، مواسيا بجاهه وماله، ذا لسان وبيان، تصغي إليه الأفئدة فصيحا، بهيّا، عربيّا، شريفا، أبيّ النفس، عالي الهمّة، طيّب المجالسة، أنيس المشاهدة، ذكيّا، راسخا في كل جمّ من العلوم، صيرفيا جهبذا، ما رؤي، قبله ولا بعده، مثله.
مشيخته: سكن قرطبة، وسمع بها من أحمد بن مطرّف، ووهب بن مسرّة الحجاري، وعن أبان بن عيسى بن محمد بن دنيّر، وعن والده عبيد الله بن عيسى.
__________
(1) في الأصل: «ومن أسمائنا» وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة القطع همزة وصل.
(2) ترجمة ابن أبي زمنين في مطمح الأنفس (ص 266) ونفح الطيب (ج 4ص 98).
(3) هو أبو القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي، المعروف بالملاحي، صاحب كتاب «تاريخ علماء إلبيرة»، وقد توفي سنة 619هـ. وسيترجم له ابن الخطيب بعد قليل.(3/132)
من روى عنه: روى عنه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود الإلبيري وغيره.
تواليفه: ألف كتاب المغرب في اختصار «المدوّنة» ثلاثين جزءا، ليس في المختصرات مثله بإجماع، والمهذّب في تفسير «الموطّإ»، والمشتمل في أصول الوثائق، وحياة القلوب، وأنس الفريد، ومنتخب الأحكام، والنصائح المنظومة، وتفسير القرآن.
مولده: في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وفاته: توفي في شهر ربيع الثاني عام ثمانية وتسعين وثلاثمائة بحاضرة إلبيرة، رحمه الله ونفع به.
محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قاسم بن مشرّف ابن قاسم بن محمد بن هاني اللخمي القائصي (1)
يكنى أبا الحسن.
حاله: كان (2) وزيرا جليلا، فقيها رفيعا، جوادا، أديبا، جيّد الشعر، عارفا بصناعة النّحو والعروض، واللغة والأدب والطب، من أهل الرّواية والدّراية.
مشيخته: روى عن الحافظ أبي بكر بن عطيّة، وأبي محمد بن عتّاب، وأبي الوليد بن رشد القاضي الإمام، والقاضي أبي محمد عبد الله بن علي بن سمجون.
شعره: من شعره قوله (3): [السريع]
يا حرقة البين كويت الحشا ... حتى أذبت القلب في أضلعه
أذكيت فيه النّار حتى غدا ... ينساب ذاك الذّوب من مدمعه
يا سؤل هذا القلب حتى متى ... يؤسى برشف الرّيق من منبعه؟
فإنّ في الشّهد شفاء الورى (4) ... لا سيما إن مصّ (5) من مكرعه
والله يدني منكم عاجلا ... ويبلغ القلب إلى مطمعه
__________
(1) ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن هاني اللخمي في التكملة (ج 2ص 54) والذيل والتكملة (ج 6ص 343).
(2) قارن بالذيل والتكملة (ج 6ص 343).
(3) الأبيات في نفح الطيب (ج 5ص 143).
(4) في الأصل: «شفا للورى» والتصويب من النفح.
(5) في الأصل: «يصر» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى، والتصويب من النفح.(3/133)
مولده: ولد في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لثلاث بقين لذي حجة سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
وفاته: توفي في آخر (1) جمادى الأخرى سنة ست وتسعين وخمسمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن عبد السلام بن أحمد ابن يوسف بن أحمد الغساني (2)
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: كان محدّثا نبيلا حاذقا ذكيّا، وله شرح جليل على كتاب «الشّهاب» (3)، واختصار حسن في «اقتباس الأنوار» للرّشاطي. وكان كاتبا وافر الحظّ من الأدب، يقرض شعرا لا بأس به.
من شعره في ذكر أنساب طبقات العرب (4): [الكامل]
الشّعب ثمّ قبيلة وعمارة ... بطن وفخذ والفصيلة تابعه
فالشّعب يجمع (5) للقبائل كلّها ... ثم القبيلة للعمارة جامعه
والبطن تجمعه العمائر (6) فاعلمن ... والفخذ تجمعه (7) البطون الواسعه
والفخذ يجمع (8) للفصائل كلها (9) ... جاءت على نسق لها متتابعه
فخزيمة شعب وإنّ كنانة ... لقبيلة عنها الفصائل شائعه (10)
وقريشها تسمي العمارة (11) يا فتى ... وقصيّ بطن للأعادي (12) قامعه
__________
(1) في الذيل والتكملة (ج 6ص 343): «توفي بغرناطة لسبع بقين من جمادى الآخرة».
(2) ترجمة محمد بن عبد الرحمن الغساني في التكملة (ج 2ص 118) والذيل والتكملة (ج 6ص 348) ونفح الطيب (ج 6ص 82).
(3) ورد في التكملة أن هذا الكتاب سمّاه الغساني بمستفاد الرحلة والاغتراب.
(4) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 6ص 348) ونفح الطيب (ج 6ص 82).
(5) في النفح: «مجتمع القبيلة».
(6) في الأصل: «يجمعه العمار» والتصويب من المصدرين.
(7) في الأصل: «بجمعه» والتصويب من المصدرين.
(8) في الذيل: «تجمع».
(9) في المصدرين: «هاكها».
(10) في الأصل: «شاسعة» والتصويب من المصدرين.
(11) في الأصل: «تسمو العبارة»، والتصويب من المصدرين.
(12) في الأصل: «بطن الأعادي» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.(3/134)
ذا هاشم (1) فخذ وذا (2) عبّاسها ... إلّا (3) الفصيلة لا تناط بسابعه
مولده: ولد بغرناطة سنة ثمان وستين وخمسمائة.
وفاته: بمرسية في رمضان تسع عشرة وستمائة (4).
محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرّج بن أحمد ابن عبد الواحد بن حريث بن جعفر بن سعيد بن محمد ابن حقل الغافقي (5)
من ولد مروان بن حقل النازل بقرية الملّاحة (6) من قنب قيس من عمل إلبيرة، يكنى أبا القاسم ويعرف بالملّاحي. وقد نقلنا عنه الكثير، وهو من المفاخر الغرناطية.
حاله: كان محدّثا راوية معتنيا، أديبا، مؤرخا، فاضلا جليلا. قال الأستاذ (7)
في «الصلة»: كان من أفضل الناس، وأحسنهم عشرة، وألينهم كلمة، وأكثرهم مروءة، وأحسنهم خلقا وخلقا، ما رأيت مثله، قدّس الله تربته. وذكره صاحب «الذيل» (8)
الأستاذ أبو عبد الله بن عبد الملك، وأطنب فيه، وذكره المحدّث أبو عبد الله الطنجالي، وذكره ابن عساكر في تاريخه.
مشيخته: روى عن أبيه أبي محمد، وأبي القاسم بن بشكوال، وأبي العبّاس بن اليتيم، وعالم كثير من غير بلده، ومن أهل بلده سوى أبيه، وعن أبي سليمان داود بن يزيد بن عبد الله السّعدي القلعي (9)، لازمه مدة. وعن أبي خالد بن رفاعة اللخمي، وأبي محمد عبد الحق بن يزيد العبدري، وأبي جعفر عبد الرحمن بن
__________
(1) في الأصل: «ذا ما ثمّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الذيل: «وما».
(3) في النفح: «أثر».
(4) في التكملة: «وتوفي بمرسية في العشرة الأواخر من رمضان سنة تسع عشرة وستمائة».
(5) ترجمة محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي في التكملة (ج 2ص 118) والذيل والتكملة (ج 6ص 413) والوافي بالوفيات (ج 4ص 68) والمغرب (ج 2ص 126).
(6) الملّاحة: قرية على بريد من غرناظة. التكملة (ج 2ص 119) والمغرب (ج 2ص 126).
(7) هو ابن الزبير صاحب «صلة الصلة».
(8) هو ابن عبد الملك المراكشي، صاحب كتاب «الذيل والتكملة» وقد ذكره، كما قلنا، في الذيل والتكملة (ج 6ص 413).
(9) ترجمة داود بن يزيد السعدي القلعي في التكملة (ج 1ص 255) والوافي بالوفيات (ج 13ص 499) وبغية الوعاة (ص 246).(3/135)
الحسن بن القصير، وأبي بكر بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم، وأبي جعفر بن حكم الحصّار، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي بكر الكتندي، وأبي إسحاق بن الجلّا، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي القاسم بن سمجون، وأبي محمد عبد الصمد بن محمد بن يعيش الغساني. وكان من المكثرين في باب الرّواية، أهل الضبط والتقييد والإتقان، بارع الخطّ، حسن الوراقة، أديبا بارعا ذاكرا للتاريخ والرجال، عارفا بالأنساب، نقّادا حافظا للأسانيد، ثقة عدلا، مشاركا في فنون، سياسيا. وروى عنه الأستاذ، واعتنى بالرواية عنه. وقال الأستاذ: حدّثني عنه من شيوخي جماعة، منهم القاضي العدل أبو بكر بن المرابط.
تواليفه: ألّف كتابه في «تاريخ علماء إلبيرة»، واحتفل فيه. وألّف كتاب «الشجرة في الأنساب»، و «كتاب الأربعين حديثا»، و «كتاب فضائل القرآن،» و «برنامج روايته» وغير ذلك.
مولده: سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وفاته: توفي في شعبان سنة تسع عشرة وستمائة ببلده (1).
محمد بن علي بن عبد الله اللخمي
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشّقوري، منسوبا إلى مدينة شقورة (2) ومنها أهله، صاحبنا طبيب دار الإمارة، حفظه الله.
حاله: هذا الرجل طرف في الخير والأمانة، فذّ في حسن المشاركة، نقيّ في حب الصّالحين، كثير الهوى إلى أهل التقوى، حذر من التفريط، حريص على التّعلّق بجناب الله، نشأ سابغ رداء العفّة، كثيف جلباب الصّيانة، متصدّرا للعلاج في زمن المراهقة، معمّا، مخوّلا في الصّناعة، بادي الوقار في سنّ الحشمة. ثم نظر واجتهد، فأحرز الشهرة بدينه، ويمن نقيبته، وكثرة حيطته، ولطيف علاجه، ونجح تجربته. ثم كلف بصحبة الصالحين، وخاض في السلوك، وأخذ نفسه بالارتياض والمجاهدة، حتى ظهرت عليه آثار ذلك. واستدعاه السلطان لعلاج نفسه، فاغتبط به، وشدّ اليد
__________
(1) في التكملة (ج 2ص 120119): «وتوفي لخمس خلون من شعبان سنة تسع عشرة وستمائة، وقال غيره: سنة عشرين». ومثله جاء في الذيل والتكملة (ج 6ص 418).
(2) شقوره: بالإسبانية، وهي مدينة من أعمال جيان بالأندلس. الروض المعطار (ص 349).(3/136)
عليه، وظهر له فضله، وهو لهذا العهد ببابه، حميد السيرة، قويم الطريقة، صحيح العقد، حسن التدبير، عظيم المشاركة للناس، أشدّ الخلق حرصا على سعادة من صحبه، وأكثرهم ثناء عليه، وأصرحهم نصيحة له، نبيل الأغراض، فطن المقاصد، قائم على الصنعة، مبين العبارة، معتدل في البحث والمذاكرة، متكلّم في طريقة الصّوفية، عديم النظير في الفضل، وكرم النّفس.
شيوخه: قرأ على جدّه للأب، وعلى الحكيم الوزير خالد بن خالد من شيوخ غرناطة، وعلى شيخنا الحكيم الفاضل أبي زكريا بن هذيل، ولازمه، وانتفع به، وسلك بالشيخ الصّوفي أبي مهذّب عيسى الزيات ثم بأخيه الصالح الفاضل أبي جعفر الزيات، والتزم طريقته، وظهرت عليه بركته.
تواليفه: ألّف كتبا نبيلة، منها «تحفة المتوصل في صنعة الطب» وكتابا أسماه «الجهاد الأكبر»، وآخر سمّاه «قمع اليهودي عن تعدّي الحدود» أحسن فيه ما شاء.
شعره: أنشدني بعد ممانعة واعتذار، إذ هذا الغرض ليس من شأنه: [الطويل]
سألت ركاب العز أين ركابي ... فأبدى عنادا ثم ردّ جوابي
ركابك مع سيري يسير بسيره ... بغير حلول مذ حللت جنابي
فلا تلتفت سيرا لذاتك إنما ... تسير بها سيرا لغير ذهاب
وهي متعددة.
مولده: ولد في عام سبعة وعشرين وسبعمائة.
محمد بن علي بن فرج القربلياني (1)
يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشفرة.
حاله: كان رجلا ساذجا، مشتغلا بصناعة الطب، عاكفا عليها عمره، محققا لكثير من أعيان النّبات، كلفا به، متعيّشا من عشبه أول أمره، وارتاد المنابت، وسرح بالجبال، ثم تصدّر للعلاج، ورأس به، وحفظ الكثير من أقوال أهله، ونسخ جملة من كنانيشه على ركاكة خطّه، وعالج السلطان نصر المستقرّ بوادي آش، وقد طرق من بها مرض وافد حمل علاجه المشاقحة لأجله، وعظم الهلاك فيمن اختصّ بتدبيره، فطوّف
__________
(1) نسبة إلى قربليان، وهي قرية صغيرة بمقاطعة لقنت، كثيرة الزيتون. الروض المعطار (ص 455).(3/137)
القلب المبارك بمبراه. ثم رحل إلى العدوة، وأقام بمرّاكش سنين عدّة، ثم كرّ إلى غرناطة في عام أحد وستين، وبها هلك على أثر وصوله.
مشيخته: زعم أنه قرأ على أبيه ببلده من قربليان بلد الدّجن (1)، وأخذ الجراحة عن فوج من محسني صناعة عمل اليد من الرّوح. وقرأ على الطبيب عبد الله بن سراج وغيره.
تواليفه: ألّف كتابا في النّبات.
وفاته: في السابع عشر لربيع الأول عام أحد وستين وسبعمائة.
محمد بن علي بن يوسف بن محمد السّكوني (2)
يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن اللؤلؤة، أصله من جهة قمارش (3).
حاله: رحل في فتائه، بعد أن شدا شيئا من الطلب، وكلف بالرواية والتقييد فلقي مشيخة، وأخذ عن جلّة، وقدم على بلده حسن الحالة، مستقيم الطريقة، ظاهر الانقباض والعفّة، وأدخل الأندلس فوائد وقصائد، وكان ممن ينتفع به لو أمهلته المنية.
شعره: مما نسبه إلى نفسه من الشعر قوله (4): [المجتث]
يا من عليه اعتمادي ... في قلّ أمري وكثره
سهّل عليّ ارتحالي ... إلى النّبيّ وقبره
فذاك أقصى مرادي ... من الوجود بأسره
وليس ذا بعزيز ... عليك فامنن بيسره
ومن ذلك (5): [الطويل]
أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ... أميل لزور بالغرور مصاغ (6)
وأرتاح للّذّات والشّيب منذر ... بما ليس عنه للأنام مراغ
__________
(1) أي أن قربليان هذه كانت في أيام ابن الخطيب، أي في عهد بني نصر، سلاطين غرناطة، في أيدي النصاري، والدجن أو المدجنون هم المسلمون الذين كانوا يرزخون تحت حكم الإسبان.
(2) ترجمة محمد بن علي السكوني في الكتيبة الكامنة (ص 61).
(3) قمارش: بالإسبانية، وهي بلدة بالأندلس، تقع شمال شرقي مالقة في سفح جبل الثلج (سييرا نفادا).
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 61).
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 61).
(6) في الكتيبة: «يصاغ».(3/138)
ومن لم (1) يمت قبل المشيب فإنه ... يراع بهول بعده ويراغ
فيا ربّ وفّقني إلى ما يكون لي ... به للذي أرجوه منك بلاغ
وفاته: توفي معتبطا في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعمائة، خطيبا بحصن قمارش.
محمد بن سودة بن إبراهيم بن سودة المرّي
أصله من بشرّة عرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من بعض التواريخ المتأخّرة: كان شيخا جليلا، كاتبا مجيدا، بارع الأدب، رائق الشعر، سيّال القريحة، سريع البديهة، عارفا بالنّحو واللغة والتاريخ، ذاكرا لأيام السّلف، طيّب المحاضرة، مليح الشّيبة، حسن الهيئة، مع الدّين والفضل، والطّهارة والوقار والصّمت.
مشيخته: قرأ بغرناطة على الحافظ أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وغيره من شيوخ غرناطة. وبمالقة على الأستاذ أبي القاسم السّهيلي، وبجيّان على ابن يربوع، وبإشبيلية على الحسن بن زرقون وغيره من نظرائه.
أدبه: قال الغافقي: كانت بينه وبين الشيخ الفقيه واحد عصره أبي الحسن سهل بن مالك، مكاتبات ومراجعات، ظهرت فيها براعته، وشهدت له بالتقدم يراعته.
محنته: أصابته في آخر عمره نكبة ثقيلة، أسر هو وأولاده، فكانت وفاته أسفا لما جرى عليهم، نفعه الله. توفي في حدود سبعة وثلاثين وستمائة.
محمد بن يزيد بن رفاعة الأموي البيري
أصله من قرية طرّش (2).
حاله: طلب العلم وعنى بسمعه، ونسخ أكثر كتبه بخطّه، وكان لغويّا شاعرا، من الفقهاء المشاورين الموثّقين، وولّي الصلاة بالحاضرة، وعزل، وسرد الصّوم عن نذر لزمه عمره.
__________
(1) كلمة «لم» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الكتيبة الكامنة.
(2) طرّش: بالإسبانية، وهي قرية على ضفة البحر بين المنكب وبلش مالقة. راجع مملكة غرناطة (ص 70) ففيه دراسة عن هذه القرية مع ثبت بأسماء المصادر التي تحدثت عن تلك القرية.(3/139)
مشيخته: سمع من شيوخ إلبيرة محمد بن فطيس، وابن عمريل، وهاشم بن خالد، وعثمان بن جهير، وحفص بن نجيح، وبقرطبة من عبيد الله بن يحيى بن يحيى وغيره.
من حكاياته: قال المؤرخ: من غريب ما جرى لأبي علي البغدادي، في مقدمه إلى قرطبة، أن الخليفة الحكم (1) أمر ابن الرّماحس عامله على كورتي إلبيرة وبجّانة، أن يجيء مع أبي علي في وفد من وجوه رعيّته، وكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، إلى أن تجاروا يوما، وهم سائرون، أدب عبد الملك بن مروان، ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل، وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب (2): [البسيط]
ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة ... أعرافهنّ (3) لأيدينا مناديل
وكان الذّاكر للحكاية أبو علي، فأنشد الكلمة في البيت: أعرافها (4)، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفا، وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين، وتتجشّم الرّحلة العظيمة، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور في النّاس، لا يغلط فيه الصّبيان، والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن الرّماحس، ورامه بأن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فكتب إلى الخليفة يعرّفه بابن رفاعة، ويصف ما جرى معه، فأجابه الحكم على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطّئ وفد أهل العراق، وابن رفاعة بالرّضا أولى منه بالسّخط، فدعه لشأنه، وأقدم بالرّجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار أو يحطّه.
وفاته: توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن أبي بكر بن خميس الأنصاري
من أهل الجزيرة الخضراء.
__________
(1) هو الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر، المعروف بالحكم المستنصر، حكم الأندلس من سنة 350هـ إلى سنة 366هـ.
(2) عبدة بن الطبيب شاعر مخضرم أدرك الإسلام فأسلم، وترجمته في الأغاني (ج 21ص 30) والشعر والشعراء (ص 613) وبيته هذا قاله في الصعلكة، وهو في الأغاني (ج 21ص 32) والشعر والشعراء (ص 614).
(3) في الأصل: «أعراقهنّ» بالقاف، والتصويب من المصدرين. والأعراف: جمع عرف وهو شعر عنق الفرس. محيط المحيط (عرف).
(4) في الأصل: «أعراقها» بالقاف.(3/140)
حاله: كان فاضلا وقورا، مشاركا، خطيبا، فقيها، مجوّدا للقرآن، قديم الطّلب، شهير البيت، معروف التّعيّن، نبيه السّلف في القضاء، والخطابة والإقراء، مضى عمره خطيبا بمسجد بلده الجزيرة الخضراء، إلى أن تغلّب العدوّ عليها، وباشر الحصار بها عشرين شهرا، نفعه الله. ثم انتقل إلى مدينة سبتة، فاستقرّ خطيبا بها إلى حين وفاته.
مشيخته: قرأ على والده، رحمه الله، وعلى شيخه، وشيخ أبيه أبي عمر، وعباس بن الطّفيل، الشهير بابن عظيمة، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد بغرناطة عند قدومه عليها، والقاضي أبي المجد بن أبي الأحوص، قاضي بلده، وكتب له بالإجازة الوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، وأجازه الخطباء الثلاثة أبو عبد الله الطّنجالي، وأبو محمد الباهلي، وأبو عثمان بن سعيد. وأخذ عن القاضي بسبتة أبي عبد الله الحضرمي، والإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمحدّث أبي القاسم التّجيبي، والأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم، والأخوين أبي عبد الله وأبي إبراهيم، ابني يربوع. قال: وكلّهم لقيته وسمعت منه. وأجاز لي إجازة عامة ما عدا الإمام ابن حريث فإنه أجاز لي، ولقيته ولم أسمع عليه شيئا، وأجاز لي غيرهم كناصر الدين المشدالي، والخطيب ابن عزمون وغيرهما، ممن تضمنه برنامجه.
تواليفه: قال: وكان أحد بلغاء عصره، وله مصنّفات منها: «النّفحة الأرجيّة، في الغزوة المرجيّة»، ودخل غرناطة مع مثله من مشيخة بلده في البيعات، أظن ذلك.
وفاته: توفي في الطّاعون بسبتة آخر جمادى الآخرة من عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الله العطار
من أهل ألمريّة.
حاله: من بعض التّقييدات، كان فتى وسيما، وقورا، صيّبا، متعفّفا، نجيبا، ذكيّا. كتب عن شيخنا أبي البركات بن الحاج، وناب عنه في القضاء، وانتقل بانتقاله إلى غرناطة، فكتب بها. وكان ينظم نظما مترفّعا عن الوسط. وجرى ذكره في «الإكليل» بما نصّه: ممّن نبغ ونجب، وخلق له البرّ بذاته ووجب، تحلّى بوقار، وشعشع للأدب كأس عقار، إلّا أنه اخترم في اقتبال، وأصيب الأجل بنبال.(3/141)
ومن شعره قوله من قصيدة: [الطويل]
دعاني على طول البعاد هواها ... وقد سدّ أبواب اللّقاء (1) نواها
وقد شمت برقا للّقاء (2) مبشّرا ... وقد نفحت ريح الصّبا بشذاها
وجنّ دجى ليل بخيل بصبحه ... كما بخلت ليلى بطيف سراها
وقاد زماني قائد الحبّ قاصدا ... ربوعا ثوت ليلى بطول قناها
وناديت والأشواق بالوجد برّحت ... ودمعي أجرى سابغا للقاها
أيا كعبة الحسن التي النفس (3) ترتجي ... رضاها وحاشى أن يخيب رجاها
أحبك يا ليلى على البعد والنوى ... وبي منك أشواق تشبّ لظاها
لئن حجبت ليلى عن العين إنني ... بعين فؤادي لا أزال أراها
إلى أن بدا الصبح المشتّت شملنا ... وما بلغت نفس المشوق مناها
فمدّت يمينا للوداع ودمعها ... يكفكفه خوف الرقيب سراها
وقالت: وداعا لا وداع تفرّق ... لعلّ الليالي أن تديل نواها
تذكّرنا ليلى معاهد باللّوى ... رعى الله ليلات اللّوى ورعاها
وفاته: توفي في الطاعون الأعظم عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن المراكشي
من أهل ألمريّة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالمرّاكشي.
حاله: كان فتى جميل الرؤيا، سكوتا، مطبوعا على المغافصة (4) والغمز، مهتديا إلى خفيّ الحيلة، قادرا على المباحثة، ذكيّا، متسوّرا على الكلام في الصّنائع والألقاب، من غير تدرّب ولا حنكة، دمث الأخلاق، ليّن العريكة، انتحل الطب، وتصدّر للعلاج والمداواة، واضطبن أغلوطة صارت له بها شهرة، وهي رقّ يشتمل على أعداد وخطوط وزايرجة، وجداول غريبة الأشكال، تحتها علامات فيها اصطلاحات الصّنائع والعلوم، ويتصل بها قصيدة رويّها لام الألف أولها، وهي منسوبة لأبي العباس السبتي: [الطويل]
يقول لسبتيّ (5) ويحمد ربّه ... مصلّ على هاد إلى الناس أرسلا
__________
(1) في الأصل: «اللقا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «للقا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «للنفس»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) المغافصة: المفاجأة. لسان العرب (غفص).
(5) في الأصل: «سبتيّ»، وكذا ينكسر الوزن.(3/142)
وأنها مدخل للزّيرجة، ذكر أنه عثر عليها في مظنّة غريبة، وظفر برسالة العمل بها، وتحرى بالإعلام بالكنايات، والإخبار بالخفيّ وتقدمة المعرفة، والإنذار بالوقائع، حتى استهوى بذلك جماعة من المشيخة، ممن كان يركن إلى رجحان نظره، وسلامة فطرته، واستغلّت الشهادة له بالإصابة سجيّة النفوس في حرصها على إثبات دعاوى المتحرّفين. أخبرني بعضهم أنه خبّأ له عظما صغيرا، يكون في أطراف أجنحة الطّير، أخذه من جناح ديك، وزعم أرباب الخواصّ أنه يزيل الإعياء إذا علّق، فتصرّف على عاداته من الدخول في تلك الجداول، وأخذ الأعداد الكثيرة، يضربها آونة، ويقسمها أخرى، ويستخرج من تلك الجداول جيوبا وسهاما، ويأخذ جذورا، وينتج له العمل آخرا حروفا مقطعة، يبقيها الطرح، يؤلف منها كلاما تقتنص منه الفائدة، فكان في ذلك بيت شعر: [الطويل]
وفي يدكم عظم صغير مدوّر ... يزيل به الإعياء (1) من كان في السّفر
وأخبرني آخرون أنه سئل في نازلة فقهية لم يلق فيها نص، فأخبر أن النص فيها موجود بمالقة، فكان كذلك. وعارض ذلك كله جلّة من أشياخنا، فذكّرني الشيخ نسيج وحده أبو الحسن بن الجياب أن سامره يخرج خبيئته سواد ليلة، فتأمّل ما يصنعه، فلم يأت بشيء، ولا ذهب إلى عمل يتعقّل، وظاهر الأمر أن تلك الحال كانت مبنيّة على تخيّل وتخمين، تختلف فيه الإصابة وضدها، بحسب الحالة والقائل، لتصرّف الحيلة فيه، فاقتضى ذلك تأميل طائفة من أهل الدول إياه، وانتسخوا نظائر من تلك الزيرجة المموّهة، ممطولين منه بطريق التصرّف فيها إلى اليوم، واتصل بالسلطان، فأرسم ببابه، وتعدّى الإنس إلى طبّ الجن، فافتضح أمره، وهمّ به، فنجا مفلتا. ولم تزل حاله مضطربة، إلى أن دعي من العدوة وسلطانها، منازل مدينة تلمسان، ووصلت الكتب عنه، فتوجّه في جفن هيّئ له، ولم ينشب أن توفي بالمحلّة في أوائل عام سبعة وثلاثين وسبعمائة.
محمد بن بكرون بن حزب الله
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: من أهل الخصوصيّة والفضل، ظاهر الاقتصاد، كثير التخلّق، حسن اللقاء، دائم الطريقة، مختصر الملبس والمأكل، على سنن الفضلاء وأخلاق الجلّة.
__________
(1) في الأصل: «الإعيا» وكذا ينكسر الوزن.(3/143)
انتظم لهذا العهد في نمط من يستجاز ويجيز. وكان غفلا فأقام رسما محمودا، ولم يقصّر عن غاية الاستعداد.
مشيخته: منهم الأستاذ، مولى النعمة على أهل بلده، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السّداد الباهلي، قرأ عليه القرآن العظيم أربع عشرة (1) ختمة قراءة تجويد وإتقان بالأحرف السّبعة، وسمع عليه كتبا كثيرة، وقال عند ذكره في بعض الاستدعاءات: ولازمته، رضي الله عنه وأرضاه، إلى حين وفاته، ونلت من عظيم بركاته وخالص دعواته ما هو عندي من أجلّ الوسائل، وأعظم الذخيرة، وأفضل ما أعددته لهذه الدّار والدار الآخرة. وكان في صدر هذا الشيخ الفاضل كثير من علم اليقين. وهو علم يجعله الله في قلب العبد إذا أحبّه لأنه يؤول بأهله إلى احتمال المكروه، والتزام الصّبر، ومجاهدة الهوى، ومحاسبة النّفس، ومراعاة خواطر القلب، والمراقبة لله، والحياء من الله، وصحّة المعاملة له، ودوام الإقبال عليه، وصحّة النّيّة، واستشعار الخشية. قال الله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (2) فكفى بخشية الله علما، وبالإقبال عليه عزّا. قلت: وإنما نقلت هذا لأنّ مثله لا يصدر إلّا عن ذي حركة، ومضطبن بركة، ومنهم الشيخ الخطيب الفاضل ولي الله أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الطّنجالي.
دخل غرناطة راويا، وفي غير ذلك في شؤونه، وهو الآن ببلده مالقة يخطب ببعض المساجد الجامعة بها على الحال الموصوفة.
محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي
الميورقي (3) الأصل، سكن غرناطة.
حاله: كان محدّثا، عالي الرّواية، عارفا بالحديث وعلله، وأسماء رجاله، مشهورا بالإتقان والضبط، ثقة فيما نقل وروى، ديّنا، زكيا، متحاملا، فاضلا، خيّرا، متقلّلا من الدّنيا، ظاهريّ المذهب داوديّة (4)، يغلب عليه الزهد والفضل.
مشيخته: روى بالأندلس عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد الحجاري، وأبي علي الصدفي الغساني، وأبي مروان الباجي، ورحل إلى المشرق وحجّ، وأخذ
__________
(1) في الأصل: «أربعة عشر» وهو خطأ نحوي.
(2) سورة فاطر 35، الآية 28.
(3) نسبة إلى ميورقة، وهي إحدى الجزر الثلاث: منورقة ويابسة وميورقة. الروض المعطار (ص 549).
(4) نسبة إلى خلف بن داود الأصفهاني، مؤسس المذهب الظاهري.(3/144)
بمكة، كرّمها الله، عن أبي ثابت وأبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم العمراني. قلت: وغيرهم اختصرتهم لطولهم، وقفل إلى الأندلس فحدّث بغير بلده منها لتجواله فيها.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن رزق، وأبو جعفر بن الغاسل، وغيرهما (1).
محنته: امتحن من قبل علي بن يوسف بن تاشفين، فحمل إليه صحبة أبي الحكم بن يوجان، وأبي العباس بن العريف، وضرب بالسّوط عن أمره، وسجنه وقتا، ثم سرّحه وعاد إلى الأندلس، وأقام بها يسيرا، ثم انصرف إلى المشرق، فتوقف بالجزائر، وتوفي بها في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري الساحلي
يكنى أبا عبد الله، ويعرف ببلده مالقة بالمعمّم.
حاله: كان طبقة من طبقات الكفاة، ظرفا ورواء وعارضة وترتيبا، تجلّل بفضل شهرة أبيه، وجعل بعض المترفين من وزراء الدّول بالمغرب أيام وجّهته إليه صحبة الشيخ الصالح أبيه في غرض السفارة، مالا عريضا لينفقه في سبيل البرّ، فبنى المدرسة غربي المسجد الأعظم، ووقف عليها الرّباع، وابتنى غيرها من المساجد، فحصلت الشهرة، ونبه الذّكر وتطوّر، ورام العروج في مدارج السّلوك، وانقطع إلى الخلوة، فنصلت الصّبغة، وغلبت الطّبيعة، وتأثّل له مال جمّ اختلف في سبب اقتنائه، وأظهر التجر المرهف الجوانب بالجاه العريض، والحرص الشّديد، والمسامحة في باب الورع، فتبنّك به نعيما من ملبس ومطعم وطيب وترفّه، طارد به اللّذة ما شاء في باب النّكاح استمتاعا وذواقا يتبع رائد الطّرف، ويقلّد شاهد السّمع، حتى نعي عليه، وولّي الخطابة بالمسجد الأعظم بعد أبيه، فأقام الرسم، وأوسع المنبر ما شاء من جهوريّة وعارضة، وتسوّر على أعراض، وألفاظ في أسلوب ناب عن الخشوع، عريق في نسب القحة. ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية، وكرّ إلى بلده، مليح الشّيبة، بادي الوقار، نبيه الرّتبة، فتولّى الخطابة إلى حين وفاته.
__________
(1) في الأصل: «وغيرهم».(3/145)
مشيخته: حسبما قيّدته من خطّ ولده أبي الحسن، وارثه في كثير من خلاله، وأغلبها الكفاية. فمنهم والده، رحمه الله، قرأ عليه وتأدّب به، ودوّن في طريقه، حسبما يتقرر ذلك، ومنهم الأستاذ أبو محمد بن أبي السداد الباهلي، ومنهم الشيخ الرّاوية أبو عبد الله بن عيّاش، والخطيب الصالح أبو عبد الله الطّنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والأستاذ ابن الفخار الأركشي، والقاضي أبو عمرو بن منظور، والأستاذ ابن الزبير وغيرهم، كابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن مسعدة، وابن ربيع، وبالمشرق جماعة اختصرتهم لطولهم.
تواليفه: وتسوّر على التأليف، بفرط كفايته، فمما ينسب إليه كتاب: «التجر الرّبيح، في شرح الجامع الصحيح». قال: منه ما جرّده من المبيّضة، ومنه ما لم يسمح الدهر بإتمامه، وكتاب «بهجة الأنوار»، وكتاب «الأسرار»، وكتاب «إرشاد السّائل، لنهج الوسائل»، وكتاب «بغية السّالك، في أشرف المسالك» في التّصوف، وكتاب «أشعة الأنوار، في الكشف عن ثمرات الأذكار». وكتاب «النّفحة القدسيّة»، وكتاب «غنية الخطيب، بالاختصار والتّقريب» في خطب الجمع والأعياد، وكتاب «غرائب النّجب، في رغايب الشّعب»، شعب الإيمان، وكتاب «في مناسك الحج»، وكتاب «نظم سلك الجواهر، في جيّد معارف الصّدور والأكابر»، فهرسة تحتوي على فوائد من العلم وما يتعلق بالرواية، وتسمية الشيوخ وتحرير الأسانيد.
دخوله غرناطة: دخلها مرات تشذّ عن الإحصاء. ولد عام ثمانية وسبعين وستمائة، وتوفي بمالقة في صبيحة ليلة النصف من شعبان عام أربعة وخمسين وسبعمائة.
محمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي
يكنى أبا بكر، ويعرف بالطّنجالي، ولد الشيخ الولي أبي عبد الله.
حاله: من ذيل تاريخ مالقة للقاضي أبي الحسن بن الحسن، قال: كان هذا العالم الفاضل ممن جمع بين الدّراية والرّواية والتراث والاكتساب، وعلو الانتساب، وهو من القوم الذين وصلوا الأصالة بالصّول، وطول الألسنة بالطّول، وهدوا إلى الطّيّب من القول، أثر الشّموخ يبرق من أنفه، ونسيم الرّسوخ يعبق من عرفه، وزاجر الصّلاح يومي بطرفه، فتخاله من خوف الله ذا لمم، وفي خلقه دماثة وفي عرنينه شمم. ووصفه بكثير من هذا النّمط.
ومن «العائد»: كان من أهل العلم والتّفنّن في المعارف والتّهمّم بطلبها، جمع بين الرّواية والدّراية والصلاح. وكانت فيه خفّة، لفرط صحّة وسذاجة وفضل رجولة
به، بارع الخطّ، حسن التّقييد، مهيبا جزلا، مع ما كان عليه من التّواضع، يحبّه الناس ويعظمونه، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة، وأقرأ به العلم.(3/146)
ومن «العائد»: كان من أهل العلم والتّفنّن في المعارف والتّهمّم بطلبها، جمع بين الرّواية والدّراية والصلاح. وكانت فيه خفّة، لفرط صحّة وسذاجة وفضل رجولة
به، بارع الخطّ، حسن التّقييد، مهيبا جزلا، مع ما كان عليه من التّواضع، يحبّه الناس ويعظمونه، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة، وأقرأ به العلم.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي، وأبيه الولي الخطيب، رحمه الله. وروى عن جدّه أبي جعفر، وعن الرّاوية الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، والرّاوية أبي عبد الله بن عيّاش، والقاضي أبي القاسم بن السّكوت، وغيرهم ممن يطول ذكره، من أهل المشرق والمغرب.
وفاته: توفي بمالقة في أول صفر من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وكان عمره نحوا من تسع وخمسين سنة.
محمد بن محمد بن ميمون الخزرجي
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بلا أسلم لكثرة صدور هذه اللفظة عنه، مرسي الأصل، وسكن غرناطة ووادي آش وألمريّة.
حاله: من كتاب «المؤتمن» (1): كان دمث الأخلاق قبل أن يحرجه شيء من مضيّقات الصّدور، يشارك في العربية، والشعر النازل عن الدرجة الوسطى لا يخلو بعضه عن لحن. وكان يتعيش من صناعة الطّب. وجرت له شهرة بالمعرفة نرفع به بتلك الصّناعة على حدّ شهرة ترك النّصيحة فيها، فكانت شهرته بالمعرفة ترفع به. وشهرته بترك النصيحة تنزله، فيمرّ بين الحالتين بشظف العيش، ومقت الكافّة إيّاه.
قلت: كان لا أسلم، طرفا في المعرفة بطرق العلاج، فسيح التّجربة، يشارك في فنون، على حال غريبة من قلّة الظّرف، وجفاء الآلات، وخشن الظاهر، والإزراء بنفسه وبالناس، متقدّم في المعرفة بالخصوم، يقصد في ذلك. وله في الحرب والحيل حكايات، قال صاحبنا أبو الحسن بن الحسن: كانت للحكيم لا أسلم خمر مخبّأة، في كرم كان له بألمريّة، عثر عليها بعض الدّعرة، فسرقها له. قال: فعمد إلى جرّة وملأها بخمر أخرى، ودفنها بالجهة، وجعل فيها شيئا من العقاقير المسهّلات، وأشاع أن الخمر العتيقة التي كانت له لم تسرق، وإنما باقية بموضع كذا، فعمد إليها أولئك الدّعرة، وأخذوا في استعمالها، فعادت عليهم بالاستطلاق القبيح المهلك، فقصدوا الحكيم المذكور، وعرضوا عليه ما أصابهم، فقال لهم: إيه، أدّوا إليّ ثمن الشّريبة،
__________
(1) هو كتاب «المؤتمن، على أنباء أبناء الزمن» لأبي البركات ابن الحاج البلفيقي، أحد شيوخ لسان الدين ابن الخطيب.(3/147)
وحينئذ أشرع لكم في الدواء، ويقع الشّفاء بحول الله، فجمعوا له أضعاف ما كان يساويه خمره، وعالجهم حتى شفوا بعد مشقّة. وأخباره كثيرة.
وفاته: توفي عقب إقلاع الطّاغية ملك برجلونة عن ألمريّة عام تسعة وسبعمائة (1). وخلفه ابن كان له يسمى إبراهيم، ويعرف بالحكيم، وجرى له من الشّهرة ما جرى لأبيه، مرّت عليه ببخت وقبول، وتوفي بعد عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري (2)
جيّاني الأصل مالقيه، يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشّديد على بنية التصغير، وهو كثير التردّد والمقام بحضرة غرناطة.
حاله: من (3) أهل الطّلب والذكاء والظّرف والخصوصيّة، مجموع (4) خلال من خطّ حسن واضطلاع بحمل كتاب الله. بلبل دوح السّبع المثاني، وماشطة عروس أبي الفرج الجوزي، وآية صقعه في (5) الصّوت، وطيب النّغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك، وتوصّل إلى صحبة الأشراف، وجرّ أذيال الشهرة. قرأ القرآن والعشر بين يدي السلطان، أمير المسلمين بالعدوة، ودنا منه محلّه، لولا إيثار مسقط رأسه. وتقرّب بمثل ذلك إلى ملوك وطنه، وصلّى التّراويح بمسجد قصر الحمراء، غريب المنزع، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادر (6) على الحكايات، متسوّر (7) حمى الوقار، ملبّ (8) داعي الانبساط، على استرجاع واستقامة، مبرور الوفادة، منوّه الإنزال، قلّد شهادة الدّيوان بمالقة، معوّلا عليه في ذلك، فكان مغار حبل (9) الأمانة، صليب العود، شامخا (10)، صادق (11) النّزاهة، لوحا للألقاب، محرزا للعمل.
__________
(1) في غرّة ربيع أول من هذا العام نازل صاحب برجلونه (برشلونة) مدينة ألمرية وأخذ بمخنقها، ووقعت على جيش أمير المسلمين نصر بن محمد بن نصر، صاحب غرناطة، وقعة كبيرة، ثم رفع الحصار. اللمحة البدرية (ص 75).
(2) ترجمة محمد بن قاسم الأنصاري في نفح الطيب (ج 8ص 302).
(3) النصّ في نفح الطيب (ج 8ص 304302) بتصرف.
(4) في النفح: «جملة جمال».
(5) في النفح: «صقعه، ونسيج وحده، في حسن الصوت».
(6) في النفح: «قادرا».
(7) في الأصل: «مستور». وفي النفح: «متسوّرا».
(8) في النفح: «ملبّيا».
(9) في الأصل: «جبل» والتصويب من النفخ.
(10) في النفح: «شامخ».
(11) في النفح: «مارن».(3/148)
وولّي الحسبة بمالقة، حرسها الله تعالى، فخاطبته في ذلك أداعبه، وأشير إلى قوم من أجداده، وأولي الحمل عليه بما نصّه: [السريع]
يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجدّ والهزل
تهنيك (1) والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس لها عزل
كتبت أيها المحتسب، المنتمي إلى النزاهة المنتسب، أهنّيك ببلوغ تمنّيك، وأحذّرك من طمع نفس بالغرور تمنّيك، فكأني (2) وقد طافت بركابك الباعة (3)، ولزم لأمرك (4) السّمع والطّاعة، وارتفعت في مصانعتك الطّماعة، وأخذت أهل الرّيب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسكوتك (5) الريح العقيم، وبين يديك القسطاس (6) المستقيم، ولا بدّ من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تعصب (7)، وحالة (8) كيت بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت عن الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك (9)، رحّلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفّك، حفّك العزّ فيمن حفّك. فكن لقالي المجبّنة قاليا (10)، ولحوت السّلّة ساليا. وأبد لدقيق الحوّارى زهد حواريّ (11)، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري، وسر في اجتناب الحلواء (12)، على السبيل السّواء، وارفض في الشّواء، دواعي الأهواء، وكن على الهرّاس (13)، وصاحب ثريد (14) الرّاس، شديد المراس، وثب على بائع (15) طبيخ الأعراس، ليثا مرهوب الافتراس، وأدّب أطفال الفسوق (16)، في السوق، سيّما من
__________
(1) في النفح: «يهنيك».
(2) في النفح: «فكأنني بك وقد».
(3) في الأصل: «الساعة» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «أمرك».
(5) في النفح: «وسطوتك».
(6) القسطاس: الميزان المستقيم. محيط المحيط (قسطس).
(7) في الأصل: «تتعصّب» والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «ودالّة يمتّ بها».
(9) ملأت ظرفك: كناية عن قبول الهدية والرشا.
(10) قاليا: مبغضا. لسان العرب (قلا).
(11) الحوّارى: لباب الدقيق وخالصه. والحواريّ: من يكون من أنصار الأنبياء. لسان العرب (حور).
(12) في الأصل: «الحلو» والتصويب من النفح.
(13) الهرّاس: صانع الهريسة. لسان العرب (هرس).
(14) في الأصل: «فريد» والتصويب من النفح. والثريد: كسرة الخبز المتلطخة بماء اللحم. محيط المحيط (ثرد).
(15) كلمة «بائع» غير واردة في النفح.
(16) في الأصل: «السوق» والتصويب من النفح.(3/149)
كان قبل البلوغ والسّبوق (1)، وصمّم في (2) استخراج الحقوق، والناس أصناف، فمنهم خسيس يطمع منك في أكلة، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة. وحاسد في مطيّة تركب، وعطيّة تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدّد إلى حربه رماحك، وأشبع الخسيس منهم مرقة دسمة (3) فإنه حنق، ودسّ له فيها عظما لعلّه يختنق، واحفر لشرّيرهم حفرة عميقة، فإنه العدوّ حقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أنّ وقت الانتصار قد وصل (4)، فأوقع وأوجع، ولا ترجع، وأولياء من (5) حزب الشيطان فأفجع، والحقّ أقوى، وإن تعفو أقرب للتقوى. سدّدك الله تعالى (6) إلى غرض التّوفيق، وأعلقك (7) من الحقّ بالسّبب الوثيق، وجعل قدومك مقرونا برخص اللّحم والزّيت والدّقيق، بمنّه وفضله (8).
مشيخته: قرأ القرآن على والده المكتّب النّصوح، رحمه الله، وحفظ كتبا كرسالة أبي محمد بن أبي زيد، وشهاب القضاعي، وفصيح ثعلب، وعرض الرّسالة على ولي الله أبي عبد الله الطّنجالي، وأجازه. ثم على ولده الخطيب أبي بكر، وقرأ عليه من القرآن، وجوّد بحرف نافع على شيخنا أبي البركات. وتلا على شيخنا أبي القاسم بن جزي. ثم رحل إلى المغرب، فلقي الشيخ الأستاذ الأوحد في التّلاوة، أبا جعفر الدرّاج، وأخذ عن الشّريف المقرئ أبي العباس الحسنى بسبتة، وأدرك أبا القاسم التّجيبي، وتلا على الأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم (9) ولازمه، واختصّ بالأستاذ ابن هاني السّبتي، ولقي بفاس جماعة كالفقيه أبي زيد الجزولي، وخلف الله المجاصي، والشيخ أبا العباس المكناسي، والشيخ البقية أبا عبد الله بن عبد الرازق، وقرأ على المقرئ الفذّ الشهير في التّرنّم بألحان القرآن أبي العباس الزّواوي سبع ختمات، وجمع عليه السّبع، والمقرئ أبي العباس بن حزب الله، واختصّ بالشيخ الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي.
شعره: من شعره ما كتب به إلى وزير الدولة المغربيّة في غرض الاستلطاف:
[الكامل]
يا من به أبدا عرفت ومن أنا ... لولاه لي دامت علاه وداما
__________
(1) في النفح: «والبسوق».
(2) في النفح: «على».
(3) كلمة «دسمة» غير واردة في النفح.
(4) في النفح: «قد اتّصل».
(5) في النفح: «من الشياطين فأفجع».
(6) كلمة «تعالى» غير واردة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(7) في الأصل: «وأعلقنا» والتصويب من النفح.
(8) قوله: «بمنّه وفضله» غير وارد في النفح.
(9) هو الكاتب محمد بن محمد بن عبد المنعم، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص 277).(3/150)
لا تأخذنّك في الشّديد لومة ... فشخيص نشأته بفضلك قاما
ربّيته علّمته أدّبته ... قدّمته للفرض منك إماما
فجزاك ربّ الخلق خير جزاية ... عنّي وبوّأك الجنان مقاما
وهو الآن بالحالة الموصوفة، مستوطنا حضرة غرناطة، وتاليا الأعشار القرآنية، بين يدي السلطان، أعزّه الله، مرفّع الجانب، معزّز الجراية بولايته أحباس المدرسة، أطروفة عصره، لولا طرش نقص الأنس به، نفعه الله.
مولده: ولد بمالقة في عاشر ربيع الأول من عام عشرة وسبعمائة.
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التّلمساني الأنصاري
السّبتي الدّار، الغرناطي الاستيطان، يكنى أبا الحسين، ويعرف بالتّلمساني.
حاله: طرف في الخير والسلامة، معرق في بيت الصّون والفضيلة، معمّ (1)
تخوّل في العدالة، قديم الطّلب والاستعمال، معروف الحقّ، مليح البسط، حلو الفكاهة، خفيف إلى هيعة الدّعابة، على سمت ووقار، غزل، لوذعي، مع استرجاع وامتساك، مترف، عريق في الحضارة، مؤثر للراحة، قليل التّجلّد، نافر عن الكدّ، متّصل الاستعمال، عريض السعادة في باب الولاية، محمول على كتد المبرّة، جار على سنن شيوخ الطّلبة والمقتاتين من الأرزاق المقدّرة، أولى الخصوصيّة والضّبط من التّظاهر بالجاه على الكفاية. قدم على الأندلس ثمانية عشر وسبعمائة، فمهد كنف القبول والاستعمال، فولّي الحسبة بغرناظة، ثم قلّد تنفيذ الأرزاق وهي الخطّة الشرعية والولاية المجدية، فاتّصلت بها ولايته. وناب عنّي في العرض والجواب بمجلس السلطان، حميد المنأى في ذلك كله، يقوم على كتاب الله حفظا وتجويدا، طيّب النّغمة، راويا محدّثا، أخباريا، مرتاحا للأدب، ضاربا فيه بسهم يقوم على كتب السّيرة النّبوية، فذّا في ذلك. قرأه بالمسجد الجامع للجمهور، عند لحاقه بغرناطة، معربا به عن نفسه، منبّها على مكانه، فزعموا أن رجلا فاضت نفسه وجدا لشجو نغمته، وحسن إلقائه. وقرأ التّراويح بمسجد قصر السلطان إماما به، واتّسم بمجلسه بالسّلامة والخير، فلم تؤثر عنه في أحد وقيعة، ولا بدرت له في الحمل على أحد بنت شفه.
__________
(1) المعمّ: الذي يعمّ القوم بالعطية، أي يشملهم. لسان العرب (عم).(3/151)
مشيخته: منهم الشّريف أبو علي الحسن بن الشريف أبي التّقى طاهر بن أبي الشّرف ربيع بن علي بن أحمد بن علي بن أبي الطاهر بن حسن بن موهوب بن أحمد بن محمد بن طاهر بن أبي الشرف الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ومنهم والده المترجم به، ومنهم أبوه وجدّه، ومنهم الأمير الصالح أبو حاتم أحمد بن الأمير أبي القاسم محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي، والمقرئ أبو القاسم بن الطيب، وإمام الفريضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والأستاذ ملحق الأبناء بالآباء أبو إسحاق الغافقي، والكاتب النّاسك أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري، والأستاذ المعمر أبو عبد الله بن الخضّار، والخطيب المحدّث أبو عبد الله بن رشيد، والخطيب الأديب أبو عبد الله الغماري، والأستاذ أبو البركات الفضل بن أحمد القنطري، والوزير العابد أبو القاسم محمد بن محمد بن سهل بن مالك، والولي الصالح أبو عبد الله الطّنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والقاضي الأعدل أبو عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير المعمر أبو عبد الله بن ربيع، والصّوفي الفاضل أبو عبد الله بن قطرال، والأستاذ الحسابي أبو إسحاق البرغواطي، هؤلاء لقيهم وقرأ وسمع عليهم. وممن كتب له بالإجازة، وهم خلق كثير، كخال أبيه، الشيخ الأديب أبي الحكم مالك بن المرحّل، والخطيب أبي الحسن فضل ابن فضيلة، والأستاذ الخاتمة أبي جعفر بن الزبير، والعدل أبي الحسن بن مستقور، والوزير المعمر أبي محمد بن سماك، والخطيب أبي محمد مولى الرئيس أبي عثمان بن حكم، والشيخ الصالح أبي محمد الحلاسي، والقاضي أبي العباس بن الغمّاز، والشيخ أبي القاسم الحضرمي اللّبيدي، والعدل المعمر الراوية أبي عبد الله بن هارون، والمحدث الراوية أبي الحسن القرافي، وأبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور، والإمام شرف الدين أبي محمد الدّمياطي، وبهاء الدين بن النّحاس، وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، وضياء الدين أبي مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد، وكتب في الإجازة له: [الطويل]
ولدت لعام من ثلاث وعشرة ... وستّ مئين هجرة لمحمد
تطوّفت قدما بالحجاز وإنني ... بمصر هو المربى (1) وسبتة مولدي (2)
__________
(1) في الأصل: «المريليّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «مولد» بدون ياء.(3/152)
إلى عالم كثير من أهل المشرق، يشقّ إحصاؤهم، قد ثبت معظمهم في اسم صاحبه أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، رحمه الله.
محنته: نالته محنة بجري الأمور الاشتغالية وتبعاتها، قال الله فيها لعثرته لغا، فاستقلّ من النّكبة، وعاد إلى الرّتبة. ثم عفّت عليه بآخرة، فهلك تحت بركها بعد مناهزة التسعين سنة، نفعه الله.
مولده: ولد عام ستة وسبعين وستمائة، وتوفي في شهر محرم من أربعة وستين وسبعمائة.
محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف ابن قطرال الأنصاري
من أهل مرّاكش، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطرال.
حاله: من «العائد»: كان، رحمه الله، فاضلا صوفيا، عارفا، متحدّثا، فقيها، زاهدا، تجرّد عن ثروة معروفة، واقتصر على الزّهد والتّخلّي، وملازمة العبادة، والغروب عن الدنيا. وله نظم رائق، وخطّ بارع، ونثر بليغ، وكلام على طريقة القوم، رفيع الدّرجة، عالي القدر. شرح قصيدة الإسرائيلي بما يشهد برسوخ قدمه، وتجوّل في لقاء الأكابر على حال جميلة من إيثار الصّمت والانقباض والحشمة. ثم رحل إلى المشرق حاجا صدر سنة ثلاث وسبعمائة.
مشيخته: من شيوخه القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن علي، والحافظ أبو بكر بن محمد المرادي، والفقيه أبو فارس الجروي، والعلّامة أبو الحسين بن أبي الربيع، والعدل أبو محمد بن عبيد الله، والحاج أبو عبد الله بن الخضّار، وأبو إسحاق التّلمساني، وأبو عبد الله بن خميس، وأبو القاسم بن السّكوت، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو جعفر بن الزبير، وأبو القاسم بن خير. هؤلاء كلهم لقيهم، وأخذ عنهم. وكتب له بالإجازة جملة، كالقاضي أبي علي بن الأحوص، وأبي القاسم العزفي، وأبي جعفر الطّنجالي، وصالح بن شريف، وأبي عمرو الدّاري، وأبي محمد بن الحجّام، وأبي بكر بن حبيش، وأبي يعقوب بن عقاب، وعز الدين الجداي، وفخر الدين بن البخاري، وابن طرخان، وابن البوّاب، وأمين الدين بن عساكر، وقطب الدين بن القسطلانيّ، وغيرهم.(3/153)
شعره: وأما شعره فكثير بديع. قال شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين: كتبت إليه: [المنسرح]
يا معمل السّير أيّ إعمال ... سلّم على الفاضل ابن قطرال
من أبيات راجعني عنها بأبيات منها: [المنسرح]
زارت فأزرت بمسك دارين ... تفتنّ للحسن في أفانين
ومثلها في شتّى محاسنها ... ليست ببدع من ابن شبرين
وفاته: توفي بحرم الله عاكفا على الخير وصالح الأعمال، معرضا عن زهرة الحياة الدنيا، إلى أن اتصل خبر وفاته، وفيه حكاية، عام تسعة وسبعمائة.
ودخل غرناطة برسم لقاء الخطيب الصالح أبي الحسن بن فضيلة. وغير ذلك.
العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون
محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحل (1)
يكنى أبا يحيى.
حاله: شيخ (2) حسن الشّيبة، شامل البياض، بعيد مدى الذّقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد الهوى إلى الصّوفية، والكلف بإطراء الخيريّة (3)، سيما عند فقدان شكر الولاية، وجماح الحظوة، من بيت صون وحشمة، مبين عن نفسه في الأغراض، متقدّم في معرفة الأمور العملية، خائض مع الخائضين في غمار طريق (4)
التصوّف، وانتحال كيمياء السّعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التّوحيد، تكذّبها أحواله الرّاهنة جملة، ولا تسلم له منها نبذة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشّره، وغلب (5) سلطان الشّهوة، فلم يجن من جعجاعه المبرم فيها إلّا استغراق الوقت في القواطع عن الحق، والأسف على ما رزته الأيام من متاع الزّور، وقنية الغرور، والمشاحة أيام الولاية، والشّباب (6) الشاهد بالشّره، والحلف المتصل بياض اليوم، في ثمن الخردلة باليمين التي تجرّ فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب
__________
(1) ترجمة ابن الأكحل في نفح الطيب (ج 8ص 233).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 233) بتصرف.
(3) في النفح: «بإطراء أهل الخير».
(4) كلمة «طريق» غير واردة في النفح.
(5) في النفح: «وغلبة».
(6) في النفح: «والسباب».(3/154)
العين، والبذا الذي يصاحب الشّين، مغلوب عليه في ذلك، ناله بسببه ضيق واعتقال، وتقويت جدة، وإطباق روع، وقيد للعذاب، فألقيت عليه ردائي، ونفّس الله عنه بسببي، محوا للسّيئة بالحسنة، وتوسّلا إلى الله بترك الحظوظ، والمنّة لله جلّ جلاله على ذلك.
شعره: خاطبني بين يدي نكبته أو خلفها بما نصّه، ولم أكن أظنّ الشّعر مما تلوكه جحفلته (1)، ولكن الرجل من أهل الكفاية (2): [الطويل]
رجوتك (3) بعد الله يا خير منجد ... وأكرم مأمول وأعظم مرفد (4)
وأفضل من أملت للحادث الذي ... فقدت به صبري وما ملكت يدي (5)
وحاشا وكلّا أن يخيب مؤمّلي (6) ... وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلّا عبد أنعمه (7) التي ... عهدت بها يمني وإنجاح مقصدي (8)
وأشرف من حضّ الملوك على التّقى ... وأبدى لهم نصحا وصيّة (9) مرشد
وساس الرّعايا الآن خير سياسة ... مباركة في كل غيب ومشهد (10)
وأعرض عن دنياه زهدا وإنها ... لمظهرة طوعا له عن تودّد
وما هو إلّا اللّيث والغيث إن أتى ... له خائف أو جاء مغناه مجتدي (11)
وبحر علوم درّه كلماته ... إذا ردّدت في الحفل أيّ تردّد
صقيل مرائي (12) الفكر ربّ لطائف ... محاسنها تجلى بحسن تعبّد
بديع عروج النفس للملإ الذي ... تجلّت به الأسرار في كلّ مصعد
شفيق رقيق دائم الحلم راحم ... وأيّ جميل للجميل معوّد
صفوح عن الجاني على حين قدرة ... يواصل (13) تقوى الله في اليوم والغد
__________
(1) الجحفلة للدابة بمنزلة الشفة للإنسان. لسان العرب (جحفل).
(2) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 235233).
(3) في الأصل: «راجوتك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) المرفد: المعطي. لسان العرب (رفد).
(5) في الأصل: «يد» والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «ماملي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في النفح: «نعمته».
(8) في الأصل: «مقصد» والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «نصيحة».
(10) المشهد: الحضور. لسان العرب (شهد).
(11) في الأصل: «مجتد» والتصويب من النفح. والمجتدي: طالب النوال والعطاء. لسان العرب (جدا).
(12) في الأصل: «مرأى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «مواصل».(3/155)
أيا سيدي يا عمدتي عند شدّتي ... ويا مشربي (1) متى ظمئت وموردي
حنانيك وألطف بي وكن لي راحما ... ورفقا على شيخ ضعيف منكّد
رجاك رجاء (2) للذي أنت أهله ... ووافاك يهدي للثّناء (3) المجدّد
وأمّك مضطرّا لرحماك شاكيا ... بحال كحرّ الجمر (4) حين توقّد
وعندي افتقار لا يزال (5) مواصلا ... لأكرم مولى حاز أجرا وسيّد
ترفّق بأولاد صغار بكاؤهم ... يزيد لوقع الحادث المتزيّد
وليس لهم إلّا إليك تطلّع ... إذا مسّهم ضرّ أليم التّعهّد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق ... وجد بالرّضا وانظر لشمل مبدّد
وقابل أخا الكره (6) الشّديد برحمة ... وأسعف بغفران الذّنوب وأبعد (7)
ولا تنظرن إلّا لفضلك، لا إلى ... جريمة شيخ عن محلّك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تائب ... فعاود (8) لي الفعل الجميل وجدّد
بقيت بخير لا يزال (9) وعزّة ... وعيش هنيء كيف شئت وأسعد
وسخّرك الرحمن للعبد، إنّه ... لمثن (10) وداع للمحل المجدّد
وقد ولّي خططا نبيهة، منها خطة الاشتغال على عهد الغادر المكايد للدّولة، إذ كان من أولياء شيطانه وممدّيه في غيّه، وسماسير شعوذته، فلم يزل من مسيطري (11)
ديوان الأعمال، على تهوّر واقتحام كبرة، وخطّ لا غاية وراءه في الرّكاكة، كما قال المعرّي (12): [الوافر]
تمشّت (13) فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا
__________
(1) في الأصل: «شربي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «رجا الذي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «الثنا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «كجرّ الشمس حال توقّد».
(5) في الأصل: «افتقار لأنوال» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «الكرب».
(7) في النفح: «وأسعد».
(8) في النفح: «فعوّد».
(9) في الأصل: «لأنوال»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «لمتن» والتصويب من النفح.
(11) في النفح: «ج 8ص 235): «مسطري».
(12) شروح سقط الزند (ص 104).
(13) في شروح السقط: «ودبّت». وهذا البيت في وصف السيف ويقول فيه: إنّ إفرنده كأنما دبّت فوقه النمل.(3/156)
استحضرته يوما بين يدي السلطان، وهو غفل لفكّ ما أشكل من معمّياته في الأعمال عند المطالعة، فوصل بحال سيئة، ولما أعتب بسببه ونعيت عليه هجنته، أحسن الصّدر عن ذلك الورد، ونذر في نفسه وقال: حيّا الله رداءة الخطّ إذا كانت ذريعة إلى دخول هذا المجلس الكريم، فاستحسن ذلك، لطف الله بنا أجمعين.
وفاته: توفي عام سبعة وستين وسبعمائة.
محمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي
يكنى أبا الوليد.
أوليته: أصله من طليطلة، انتقل منها جدّ أبيه، وسكنوا غرناطة، وعدّوا في أهلها.
حاله: كان أبو الوليد طالبا نبيلا، نبيها، سريّا، ذكيّا، ذا خطّ بارع، ومعرفة بالأدب والحساب، ونزع إلى العمل فكان محمود السّيرة، مشكور الفعل. وولّي الإشراف في غير ما موضع. قلت: وآثاره في الأملاك المنسوبة إليه، التي من جملة المستخلص السلطاني بغرناطة وغيرها، مما يدل على قدم وتعمّة أصيلة.
وفاته: توفي بمدينة إشبيلية سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وسنّه دون الخمسين.
محمد بن محمد بن حسّان الغافقي (1)
إشبيلي الأصل، غرناطي المنشأ، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن حسان.
حاله: من «العائد»: كان من أهل السّرو والظّرف والمروءة، وحسن الخلق، تولّى الإشراف بغرناطة، وخطّة الأشغال، فحسن الثناء عليه. وله أدب ومشاركة.
حدّثني بعض أشياخنا، قال: كنت على مائدة الوزير ابن الحكيم، وقد تحدّث بصرف ابن حسّان عن عمل كان بيده، وإذا رقعة قد انتهت إليه أحفظ منها: [مخلع البسيط]
لكم أياد لكم أياد ... كرّرتها إنها كثيرة
__________
(1) ترجم ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 245) لرجل يحمل الاسم نفسه تحت عنوان: «الشيخ الكاتب أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسان الغافقي، رحمه الله تعالى» والذي ترجم له في الكتيبة الكامنة كان قد بعث إليه شعرا في بعض المناسبات، يعني أنه كان صديقه، بينما المترجم له هنا في الإحاطة توفي سنة 713هـ، وابن الخطيب توفي سنة 776هـ. فاعلم.(3/157)
فإن عزمتم على انتقالي ... ريّة أبغي أو الجزيره
وإن أبيتم إلى (1) مقامي ... فنعمة منكم كبيرة
وقال لي بعضهم: جرى بين ابن حسّان هذا، وبين أحد بني علّاق، وهم أعيان، كلام وملاحة، فقال ابن حسان: إنما كان جدّكم مولى بني أضحى، وجدّ بني مشرف، فاستعدى عليه، ورفعه إلى الوزير ابن الحكيم فيما أظن، فلما استفهمه عن قوله، قال: أعزّك الله، كنت بالكتبيين، وعرض عليّ كتاب قديم في ظهره أبيات حفظتها وهي: [البسيط]
أضحى الزمان بأضحى وهو مبتسم ... لنوره في سماء المجد إشراق
فلم يزل ينتمي للمجد كل فتى ... تطيب منه مواليد وأعراق
فإن ترد شرفا يمّم مشرّفه ... وإن ترد علق مجد فهو علّاق
فعلم الوزير أن ذلك من نظمه، ونتيجة بديهته، فعجب من كفايته، وترضّى خصمه، وصرفهما بخير. وتوفي في شهر رجب ثلاثة عشر وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد ابن أسد بن قاسم النّميري، المدعو بابن الحاج
يكنى أبا عمرو، وقد مرّ ذكر أخيه.
حاله: تولّى خطّة الإشراف بلوشة وأندرش ومالقة. وولّي النظر في مختص ألمريّة، والأعشار الرومية بغرناطة. وكان له خط حسن، وجودة كاملة، وحسن خلق، ووطأة أكناف تشهد له بجلالة قدره، ورفيع خطره. وضاهر في أعيان كالوزير أبي عبد الله بن أبي الحسن، فاضل، سريّ، متخلّق، حسن الضريبة، متميّز بخصال متعددة، من خطّ بديع، ونظم، ومشاركة في فنون، من طبّ وتعديل، وارتياض سماع، وذكر التاريخ. حجّ وجال في البلاد، ولقي جلّة. وتولّي بالمغرب خططا نبيهة علية. ثم كرّ إلى الأندلس عام ستين وسبعمائة، فأجرى من الاستعمال على رسمه.
ثم اقتضت له العناية السلطانية بإشارتي، أن يوجه في غرض الرسالة إلى تونس وصاحب مصر، لما تقدّم من مرانه على تلك البلاد، وجولاته في أقطارها، وتعرّفه بملوكها والجلّة من أهلها، فآب بعد أعوام، مشكور التصرّفات، جاريا على سنن
__________
(1) في الأصل: «إلّا» وكذا ينكسر الوزن.(3/158)
الفضلاء، مضطلعا بالأحوال التي أسندت إليه من ذلك. فلم يزل معتنى به، مرشّحا إلى الخطط التي تطمح إليها نفس مثله، مسندا النّظر في زمام العسكر الغربي إلى ولده الذي يخلفه عند رحلته نائبا عنه، معزّزا ذلك بالمرتبات والإحسان، تولّاه الله وأعانه.
شعره: مدح السلطان، وأنشد له في المواليد النبوية. ورفع إلى السلطان بحضرتي هذه الأبيات: [البسيط]
مولاي، يا خير أعلام السلاطين ... ومن له الفضل في الدنيا وفي الدّين
ومن له سير ناهيك من سير ... وافت بأكرم تحسين وتحصين
شرّفت عبدك تشريفا له رتب ... فوق النجوم التي للأفق (1) تعليني
وكان لي موعد مولاي أنجزه ... وزاد في العزّ بعد الرّتبة الدّون
والله ما الشّكر مني قاضيا وطري ... ولو أتيت به حينا على حين
ولا الثّناء موفّ حقّ أنعمه ... ولو ملأت به كل الدّواوين
لكن دعائي وحبّي قد رضيتهما ... كفاء (2) أفعاله الغرّ الميامين
وعند عبدك إخلاص يواصله ... في خدمة لم يزل للخير تدنيني
وسوف أنصح كل النصح مغتنما ... رضى إمام له فضل يرجّيني
جوزيت عني أمير المسلمين بما ... ترضاه للملك من نصر وتمكين
وأنت أكرم من ساس الأنام ومن ... عمّ البلاد بتسكين وتهدين
ومن كمثل أبي عبد الإله إذا ... أضحى الفخار لنا رحب الميادين
محمد بن أبي الحجّاج خيرة من ... أهدي له (3) مدحا بالسّعد يحظيني
وجه جميل وأفعال تناسبه ... ودولة دولة المأمون تنسيني
لا زال في السّعد والإسعاد ما سجعت ... ورق الحمام على قضب البساتين
محمد بن عبد الرحمن الكاتب
يكنى أبا عبد الله، من أهل غرناطة، أصله من وادي آش.
حاله: كان طالبا نبيها كاتبا جليلا، جيّد الكتابة. كتب عن بعض أبناء الخليفة أبي يعقوب، واختصّ بالسيد أبي زيد بغرناطة، وبشرق الأندلس، وكان أثيرا عنده
__________
(1) في الأصل: «التي فوق الأفق» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «كفا» وكذا ينسكر الوزن.
(3) في الأصل: «إليه» وكذا ينكسر الوزن.(3/159)
مكرّما. وكان، رحمه الله، شاعرا، مطبوعا، ذا معرفة جيدة بالعدد والمساحة، ثم نزع عن الكتابة، واشتغل بالعمل، فراش فيه، وولّي إشراف بنيات غرناطة. ثم ولّي إشراف غرناطة، فكفّ يده، وظهرت نصيحته. ثم نقل إلى حضرة مرّاكش، فولي إشرافها مدة، ثم صرف عنها إلى غرناطة، وقدّم على النظر في المستخلص إلى أن توفي.
مناقبه: أشهد لما قربت وفاته، أنه كان قد أخرج في صحّته وجوازه، أربعة آلاف دنير من صميم ماله لتتميم القنطرة التي بنيت على وادي شنجيل (1) بخارج غرناطة. وكان قبل ذلك قد بنى مسجد دار القضاء من ماله، وتأنّق في بنائه، وأصلح مساجد عدة، وفعل خيرا، نفعه الله.
شعره: ومن شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي يحيى بن أبي عمران، وزير الخلافة، وهو بحال شكاية أصابته: [الطويل]
شكوت فأضنى المجد برح شكاته ... وفارق وجه الشمس حسن آياته (2)
وعادت ببعديك (3) الزّمان زمانة ... تعدّت إلى عوّاده (4) وأساته
وغيّض ما للبشر لمّا تبسّطت ... يد السّقم (5) في ساحات كافي كفاته
فكيف بمقصوص وصلت جناحه ... وأدهم قد سربلته بشاته؟
وممتحن لولاك أذعن خبرة ... وهان على الأيام غمز قناته
أمعلق أمالي ومطمح همّتي ... وواهب نفسي في عداد مباته
سأستقبل النّعمى ببرّك غضّة ... ويصغر ذنب الدهر في حسناته
وتسطو عين الحقّ منك بمرهف ... تراع الخطوب الجور من فتكاته
وتطلع في أفق الخلافة نيّرا ... تطالعنا الأقمار من قسماته
حرام على الشكوى اعتياد مطهّر ... حياة الدّنا والدين طيّ حياته
فما عرضت في قصده بمساءة ... ولكن ترجّت أن ترى في عفاته
__________
(1) سمي أيضا نهر شنيل، وشنجل، وسنجل، واسمه بالإسبانية اليوم، وهو نهر غرناطة الكبير، وينبع من جبل شلير، ثم يخترق مرج غرناطة ويصل إلى إشبيلية فيصب في نهرها الشهير بالوادي الكبير. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 4847).
(2) في الأصل: «آياته» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «بعديك» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «عوّاد»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «يدّ للسّقم» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/160)
مشيخته: قال الغافقي: قرأ بمالقة على الأستاذ أبي زيد السّهيلي، رحمه الله.
وفاته: وتوفي بغرناطة سنة سبع وستمائة، ودفن بداره بجهة قنطرة القاضي منها على ضفة الوادي.
محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد ابن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد ابن عمار بن ياسر (1)
أوليّته: قد وقع التّنبيه عليها ويقع بحول الله.
حاله: كان (2) وزيرا جليلا بعيد الصّيت، عالي الذكر، رفيع الهمّة، كثير الأمل (3).
نباهته: ذكره (4) ابن صاحب الصلاة في تاريخه في الموحدين، فنبّه على مكانة محمد بن عبد الملك منهم في الرأي والحظوة، والأخذ عنه في أمور الأندلس (5)، وأثنى عليه. وذكره أبو زيد السّهيلي في «شرح السّيرة الكريمة» (6)، حتى انتهى إلى حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموجه إلى هرقل، وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش، مكرّما، مفتخرا به. والقضية (7) مشهورة. وأما محلّه من أمداح الشعراء، فهو الذي مدحه الأديب أبو عبد الله الرّصافي بقوله (8): [الكامل]
أيدا (9) تفيض وخاطرا متوقّدا؟ ... دعها تبت قبسا على علم الندى
وفيه يقول أبو عبد الله بن شرف من قصيدة: [البسيط]
يا رحمة الله للرّاجي ونقمته ... لكل باغ طغى عن خيرة الرّسل
__________
(1) ترجمة محمد بن عبد الملك في المغرب (ج 2ص 162) وفيه يكنى: أبا عبد الله، ونفح الطيب (ج 3ص 96). وذكره ابن صاحب الصلاة في تاريخ المن بالإمامة (ص 252251)، مع أخيه عبد الرحمن، وقال: كان لهما مشاركة في بناء المسجد الجامع بإشبيلية وصومعته الشهيرة.
(2) النص في نفح الطيب (ج 3ص 96).
(3) في النفح: «كثير الأموال».
(4) قارن أيضا بنفح الطيب (ج 3ص 96).
(5) في النفح: «أمور الناس».
(6) في النفح: «الشريفة». و «شرح السيرة الكريمة» هو كتاب «الروض الأنف».
(7) في النفح: «والقصة».
(8) البيت مطلع قصيدة من 32بيتا، وهو في ديوان الرصافي البلنسي (ص 62).
(9) في الأصل: «أبدا». وفي النفح: «ذهنا يفيض وخاطرا متوقدا ماذا عسى يثنى على علم الندى».(3/161)
لم تبق منهم كفورا دون مرقبة ... مطالعا منك حتفا غير منفصل
كما بزاتك لم تترك بأرضهم ... وحشا يفرّ ولا طيرا بلا وجل
وكان كثير الصّيد، ومتردّد الغارات.
مناقبه في الدين: قالوا: لما أنشده أبو عبد الله الرّصافي في القصيدة التي مطلعها (1): [الكامل]
لمحلّك التّرفيع والتّعظيم ... ولوجهك التّقديس والتّكريم
حلف ألّا يسمعها، وقال: عليّ جائزتك، لكنّ طباعي لا تحتمل مثل هذا، فقال الرّصافي: ومن مثلك؟ ومن يستحق ذلك في الوقت غيرك؟ فقال له: دعني من خداعك أنا وما أعلمه عن نفسي.
شعره: أنشده صاحب «الطالع» (2)، ولا يذكر له غيره (3): [الطويل]
فلا تظهرن ما كان في الصّدر كامنا ... ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر
ولا تبحثن في عذر من جاء تائبا ... فليس كريما من يباحث في عذر (4)
وولي من الأعمال للموحدين كثيرا، كمختص حضرة مراكش، ودار السلاح، وسلا، وإشبيلية، وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها.
محنته: وعمل فيه عقد بأن بداره من أصناف الحلى، ما لا يكون إلا عند الملوك، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح، من دار الرّخام التي يجري الماء فيها، في اثني عشر مكانا، شوّش الناس في الصلاة، دويّ الجلاجل بالبزاة، ومناداة الصيادين، ونباح الكلاب، فأمر المنصور بالقبض عليه، وعلى ابن عمّه، صاحب أعمال إفريقية، أبي الحسين، في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. ثم رضي عنهما، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كلّ ما أخذ له، فصرفه عليه، ولم ينقصه منه شيء، وغرم ما فات له.
__________
(1) البيت مطلع قصيدة من 32بيتا في مدح أبي جعفر الوقشي، وزير ابن همشك، وهو في ديوان الرصافي البلنسي (ص 131) والمغرب (ج 2ص 343) ونفح الطيب (ج 3ص 97).
(2) هو كتاب «الطالع السعيد، في تاريخ بني سعيد»، لأبي الحسن علي بن سعيد الأندلسي، صاحب كتاب المغرب في حلى المغرب.
(3) البيتان في المغرب (ج 2ص 162) ونفح الطيب (ج 3ص 97).
(4) في المصدرين: «في العذر».(3/162)
ولد سنة أربع عشرة (1) وخمسمائة، وتوفي بغرناطة سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله ابن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن عمار ابن ياسر العنسي (2)
يكنى أبا بكر، وقد تقدّم التّعريف بأوليته.
حاله: قال في «الطالع»: ساد في دولة الملثّمين (3)، وولّوه بغرناطة الأعمال، وكانت له دار الرّخام المشهورة بإزاء الجامع الأعظم بغرناطة. قال الغافقي فيه: شيخ جليل، فقيه نبيه من أهل قلعة يحصب (4). كان في عداد الفقهاء، ثم نزع إلى العمل، وولّي إشراف غرناطة في إمارة أبي سعيد الميمون بن بدر اللمتوني. وقال صاحب «المسهب» (5): وحسب القلعة كون هذا الفاضل الكامل (6) منها، وقد رقم برد مجده بالأدب، ونال منه بالاجتهاد والسجيّة القابلة أعلى سبب، وله من المكارم ما يغيّر في وجه كعب وحاتم، لذلك ما قصدته الأدباء، وتهافتت في مدحه الشعراء، وفيه أقول:
[الطويل]
وكان أبو بكر من الكفر عصمة ... وردّ به الله الغواة إلى الحقّ
وقام بأمر الله حافظ أهله ... بلين وسبط في المبرّة والخلق
وهذا أبو بكر سليل ابن ياسر ... بغرناطة ناغاه في الرّأي والصّدق
فهذا لنا بالغرب يجني معالما ... تباهي الذي أحيا الدّيانة بالشّرق
وقد جرى من ذكره عند ذكر أبي بكر بن قزمان، ويجري عند ذكر نزهون بنت القلاعي ما فيه كفاية، إذ كان مفتونا بها، وبحمدة وزينب، بنتي زياد المؤدّب من أهل وادي آش، وفيهما يقول: [المجتث]
ما بين زينب عمري ... أحثّ كأسي وحمده
__________
(1) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.
(2) ترجمة أبي بكر محمد بن سعيد في المغرب (ج 2ص 163) ورايات المبرزين (ص 160) ونفح الطيب (ج 4ص 52) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 160).
(3) الملثمون هم المرابطون، وقد حكموا الأندلس من سنة 483إلى سنة 542هـ.
(4) قلعة يحصب: بالإسبانية، أي القلعة الملكية، وتنسب إلى قبيلة يحصب، وتعرف أيضا بقلعة أيوب، وقلعة بني سعيد، وتبعد عن غرناطة ثلاثين ميلا. مملكة غرناطة (ص 62).
(5) النص في المغرب (ج 2ص 163).
(6) كلمة «الكامل» غير واردة في المغرب.(3/163)
وكل نظم ونثر ... وحكمة مستجدّة
وليس إلّا عفاف ... يبلّغ المرء قصده
ولذلك ما سعى به المخزومي الأعمى، وقد سها عن رسم تفقّده، فكتب إلى عليّ بن يوسف (1) في شأنه بما كان سبب عزله ونكبته: [الطويل]
إليك، أمير المؤمنين، نصيحة ... يجوز بها البحر المجعجع شاعر
بغرناطة ولّيت في الناس عاملا ... ولكن بما تحويه منه المآزر
وأنت أما (2) تخفى عليك خفيّة؟ ... فسل أهلها فالأمر للناس ظاهر
وما لإلاه العرش تفنيه حمدة ... وزينب والكأس الذي هو دائر
شعره: من ذلك قوله (3): [المجتث]
يا هذه، لا ترومي ... خداع من ضاق ذرعه
تبكي وقد قتلتني ... كالسّيف يقطر دمعه
وقال عفى الله عنه (4): [الطويل]
لقد صدعت قلبي حمامة أيكة (5) ... أثارت غراما ما أجلّ وأكرما
ورقّ نسيم الرّيح من نحو أرضكم ... ولطّف حتى كاد أن يتكلّما
وقال في مذهب الفخر (6): [الخفيف]
فخرنا بالحديث بعد القديم ... من معال توارثت (7) كالنجوم
نحن في الحرب أجبل راسيات ... ولنا في النّدي لطف النّسيم
ولادته: ولد في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
ومن الطارئين في هذا الاسم من العمال
محمد بن أحمد بن المتأهّل العبدري (8)
من أهل وادي آش، يكنى أبا عبد الله.
__________
(1) هو علي بن يوسف بن تاشفين المرابطين، وقد حكم المغرب والأندلس من سنة 500هـ إلى سنة 537هـ.
(2) في الأصل: «ما» وكذا ينكسر الوزن.
(3) البيتان في المغرب (ج 2ص 163).
(4) البيتان في المغرب (ج 2ص 163).
(6) البيتان في المغرب (ج 2ص 163).
(5) في المغرب: «بانة».
(7) في المغرب: «تواترت».
(8) ترجمة العبدري في نفح الطيب (ج 8ص 399) وجاء فيه «العذري» بدل «العبدري».(3/164)
حاله: كان رجلا شديد الأدمة، أعين، كثّ اللحية، طرفا في الأمانة، شديد الاسترابة بجليسه، مخينا لرفيقه، سيىء الظنّ بصديقه، قليل المداخلة، كثير الانقباض، مختصر الملبس والمطعم، عظيم المحافظة على النّفير والقطمير، مستوعب للحصر والتّقييد، أسير محيي وعابد زمام، وجنيب أمانة، وحلس سقيفة، ورقيب مشرف، لا يقبل هوادة، ولا يلابس رشوة، كثير الالتفات، متفقّدا للآلة، متمما للعمل.
جرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بسبب شعر خامل نسب إليه بما نصه (1): رجل غليظ (2) الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، ولي (3) الأشغال السلطانية، فذعرت الجباة لولايته، وأيقنوا (4) بقيام قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كلّ القنوط، وقالوا: جاءت الدّابّة تكلّمنا وهي إحدى الشروط، من رجل صائم الحسوة (5)، بعيد عن (6) المصانعة والرّشوة، يتجنّب الناس، ويقول عند المخالطة (7) لهم: لا مساس، عهدي به في الأعمال يخبط ويتبر (8)، وهو (9) يهلّل ويكبّر، ويحسّن (10) ويقبّح، وهو يسبّح، انتهى.
قلت: وولّي الأشغال السلطانية، فضمّ النّشر، وأوصد باب الحيلة، وبثّ أسباب الضّياع، وترصّد ليلا وأصيب بجراحة أخطأته، ثم عاجلته الوفاة، فنفّس عن أقتاله المخنّق.
شعره: قال يخاطب بعض أثراء الدّولة قبل نباهته (11): [الطويل]
عمادي، ملاذي، موئلي، ومؤمّلي ... ألا أنعم بما ترضاه للمتأهّل
وحقّق بنيل القصد منك رجاءه ... على نحو ما يرضيك يا ذا التّفضّل
فأنت الذي في العلم يعرف قدره ... بخير زمان فيه لا زلت تعتلي (12)
فهنّيت يا مغنى (13) الكمال برتبة ... تقرّ لكم بالسّبق في كلّ محفل
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 8ص 354).
(2) في النفح: «كثيف».
(3) في النفح: «تولّى».
(4) في النفح: «وقامت قيامتهم لطلوع».
(5) في النفح: «الحشوة».
(6) في النفح: «من».
(7) في النفح: «عند المخاطبة: لا».
(8) في النفح: «في الأعمال يقدّر فيها ويدبّر، ويرجّح ويعبّر، ويحبط ويتبّر».
(9) في النفح: «وهو مع ذلك يكبّر».
(10) في النفح: «ويحسّن من الأزمنة ويقبّح».
(11) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 400).
(12) في الأصل: «منه لا زلت فيه تعتل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(13) في النفح: «معنى».(3/165)
وفاته: توفي عام ثلاثة وأربعين (1) بغرناطة أو قبل ذلك بيسير، وله خط حسن، وممارسة في الطب، وقد توسّط المعترك.
محمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد البلوي (2)
من أهل ألمريّة، يكنى أبا بكر.
أوليته: من كتاب «المؤتمن» (3) قال: يشهر بنسبه وأصل سلفه من جهة بيرة، إما من بجّانة (4)، وإما من البريج (5)، واستوعب سبب انتقالهم.
حاله: من «عائد الصلة»: كان أحد الشيوخ من طبقته، وصدر الوزراء من نمطه ببلده، سراوة وسماحة، ومبرّة وأدبا ولوذعيّة ودعابة، رافع راية الانطباع، وحائز قصب السبق في ميدان التّخلّق، مبذول البرّ، شائع المشاركة.
وقال في «المؤتمن»: كان رجلا عاقلا، عارفا بأقوال الناس، حافظا لمراتبهم، منزلا لهم منازلهم، ساعيا في حوائجهم، لا يصدرون عنه إلّا عن رضى بجميل مداراته. التفت إلى نفسه، فلم ينس نصيبه من الذّلّ، ولا أغفل من كان يألفه في المنزل الخشن، واصلا لرحمه، حاملا لوطأة من يجفوه منهم، في ماله حظّ للمساكين، وفي جاهه رفد للمضطرّين، شيخا ذكيّ المجالسة، تستطيب معاملته، على يقين أنه يخفي خلاف ما يظهر، من الرجال الذين يصلحون الدّنيا، ولا يعلق بهم أهل الآخرة، لعروه عن النّخوة والبطر، رحمه الله. تكرّرت له الولاية بالديوان غير ما مرّة، وورد على غرناطة، وافدا ومادحا ومعزّيا.
مشيخته وما صدر عنه: قرأ على ابن عبد النّور، وتأدّب به، وتلا على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص أيام قضائه ببسطة، ونظم رجزا في الفرائض.
__________
(1) في النفح: (ج 8ص 400): «توفي عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة».
(2) نسبة إلى دار بليّ بقرطبة، وهو بليّ بن عمرو بن قضاعة، وقبيلة بلي عربية كانت تسكن بشمالي قرطبة، ولم تكن في أيام ابن حزم تحسن التحدث باللطينية. جمهرة أنساب العرب (ص 443).
(3) هو «المؤتمن على أنباء أبناء الزمن» لأبي البركات محمد بن محمد بن عياش البلفيقي. وقد تقدم اسم الكتاب كاملا في الجزء الثاني من الإحاطة في ترجمة ابن البركات.
(4) بجّانة: بالإسبانية، وهي مدينة بالأندلس مشهورة بحمّتها العجيبة، وتبعد عن ألمرية خمسة أميال. الروض المعطار (ص 79).
(5) البريج: بلدة قريبة من بجاية، تابعة للمرية.(3/166)
شعره: قال الشيخ (1) في «المؤتمن»: كانت له مشاركة في نظم الشعر الوسط، وكان شعر تلك الحلبة الآخذة عن ابن عبد النور، كأنه مصوغ من شعر شيخهم المذكور، ومحذوّ عليه، في ضعف المعاني، ومهنة الألفاظ. تنظر إلى شعره، وشعر عبد الله بن الصّائغ، وشعر ابن شعبة، وابن رشيد، وابن عبيد، فتقول: ذرّية بعضها من بعض.
فمن ذلك ما نظمه في ليلة سماع واجتماع بسبب قدوم أخيه أبي الحسن من الحجاز: [الطويل]
إلهي، أجرني إنني لك تائب ... وإنّي من ذنبي إليك لهارب
عصيتك جهلا ثم جئتك نادما ... مقرّا وقد سدّت عليّ المذاهب
مضى زمن بي في البطالة لاهيا ... شبابي قد ولّى وعمري ذاهب
فخذ بيدي واقبل بفضلك توبتي ... وحقّق رجائي في الذي أنا راغب
أخاف على نفسي ذنوبا جنيتها ... وحاشاك أن أشقى وأنت المحاسب
وإني لأخشى في القيامة موقفا ... ويوما عظيما أنت فيه المطالب
وقد وضع الميزان بالقسط حاكما ... وجاء شهيد عند ذاك وكاتب
وطاشت عقول الخلق واشتدّ خوفهم ... وفرّ عن الإنسان خلّ وصاحب
فما ثمّ من يرجى سواك تفضّلا ... وإن الذي يرجو سواك لخائب
ومن ذا الذي يعطي إذا أنت لم تجد؟ ... ومن هو ذو منع إذا أنت واهب؟
عبيدك، يا مولاي، يدعوك رغبة ... وما زلت غفّارا لمن هو تائب
دعوتك مضطرا وعفوك واسع ... فأنت المجازي لي وأنت المعاقب
فهب لي من رحماك ما قد رجوته ... وبالجود يا مولاي ترجى المواهب
توسّلت بالمختار من آل هاشم ... ومن نحوه قصدا تحثّ الرّكائب
شفيع الورى يوم القيامة جاهه ... ومنقذ من في النار والحقّ واجب
ومما بلغ فيه أقصى مبالغ الإجادة، قوله من قصيدة هنّأ فيها سلطاننا أبا الحجاج بن نصر (2)، لما وفد هو وجملة أعيان البلاد أولها: [الكامل]
يهني الخلافة فتّحت لك بابها ... فادخل على اسم الله يمنا غابها
__________
(1) هو أبو البركات محمد بن محمد بن عياش البلفيقي.
(2) هو أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، سابع سلاطين بني نصر، وقد حكم من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ. اللمحة البدرية (ص 102).(3/167)
منها، وهو بديع، استظرف يومئذ:
يا يوسفيّا باسمه وبوجهه ... اصعد لمنبرها وصن محرابها
في الأرض مكّنك الإله كيوسف ... ولتملكنّ بربها أربابها
بلغت بكم آرابها من بعد ما ... قالت لذلك نسوة ما رابها
كانت تراود كفوها حتى إذا ... ظفرت بيوسف غلّقت أبوابها
قلت (1): ما ذكره المؤلف ابن الخطيب، رحمه الله، في هذا المترجم به، من أنه ينظم الشعر الوسط، ظهر خلافه، لذا أثبت له هذه المقطوعة الأخيرة. ولقد أبدع فيها وأتى بأقصى مبالغ الإجادة كما قال، وحاز بها نمطا أعلى مما وصفه به. وأما القصيدة الأولى، فلا خفاء أنها سهل المأخذ، قريبة المنزع، بعيدة من الجزالة، ولعلّ ذلك كان مقصودا من ناظمها رحمه الله.
وفاته: توفي ببلده عن سنّ عالية في شهر ربيع الآخر عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة.
ورثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين، رحمه الله، بقوله: [البسيط]
يا عين، سحّي بدمع واكف سرب ... لحامل الفضل والأخلاق والأدب
بكيت، إذ ذكر الموتى، على رجل ... إلى بليّ (2) من الأحياء منتسب
على الفقيه أبي بكر تضمّنه ... رمس وأعمل سيرا ثم لم يؤب
قد كان بي منه ودّ طاب مشرعه ... ما كان عن رغب كلّا ولا رهب
لكن ولاء (3) على الرحمن محتسبا ... في طاعة الله لم يمذق ولم يشب
فاليوم أصبح في الأجداث مرتهنا ... ما ضرّت الريح أملودا من الغضب
إنّا إلى الله من فقد الأحبّة ما ... أشدّ لذعا لقلب الثّاكل الوصب
من للفضائل يسديها ويلحمها؟ ... من للعلى بين موروث ومكتسب؟
قل فيه ما (4) تصف ركنا لمنتبذ ... روض، لمنتجع أنس، لمغترب؟
باق على العهد لا تثنيه ثانية ... عن المكارم في ورد ولا قرب
سهل الخليقة بادي البشر منبسط ... يلقى الغريب بوجه الوالد الحدب
__________
(1) القول هنا للناسخ كما يتضح من السياق.
(2) هو بليّ بن عمرو بن قضاعة، وقد تقدم الحديث عنه قبل قليل.
(3) في الأصل: «ولا» وكذا لا يستقيم الوزن.
(4) في الأصل: «أما» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/168)
كم غيّر الدهر من حال فقلّبها ... وحال إخلاصه ممتدّة الطّنب
سامي المكانة معروف تقدّمه ... وقدره في ذوي الأقدار والرّتب
أكرم به من سجايا كان يحملها ... وكلّها حسن تنبيك عن حسب
ما كان إلّا من الناس الألى درجوا ... عقلا وحلما وجودا هامي السّحب
أمسى ضجيع الثّرى في جنب بلقعة ... لكن محامده تبقى على الحقب
ليست صبابة نفسي بعده عجبا ... وإنما صبرها من أعجب العجب
أجاب دمعي إذ نادى النعيّ به ... لو غير منعاه نادى الدمع لم يجب
ما أغفل المرء عمّا قد أريد به ... في كل يوم تناديه الرّدى اقترب
يا ويح نفسي أنفاس (1) مضت هدرا ... بين البطالة والتّسويف واللّعب
ظننت أنّي بالأيام ذو هزء ... غلطت بل كانت الأيام تهزأ بي
أشكو إلى الله فقري من معاملة ... لله أنجو بها في موقف العطب
ما المال إلّا من الله فأفلح من (2) ... جاء القيامة ذا مال وذا نشب
اسمع (3) أبا بكر الأرضى نداء أخ ... باك عليك مدى الأيام مكتئب
أهلا بقدمتك الميمون ظاهرها ... على محل الرّضى والسّهل والرّحب
نم في الكرامة فالأسباب وافرة ... وربما نيلت الحسنى بلا سبب
لله لله والآجال قاطعة ... ما بيننا من خطابات ومن خطب
ومن فرائد آداب يحبّرها ... فيودع الشّهب أفلاكا من الكتب
أما الحياة فقد ملّيت مدّتها ... فعوّض الله منها خير منقلب
لولا قواطع لي أشراكها نصبت ... لزرت قبرك لا أشكو من النّصب
وقلّ ما شفيت نفس بزورة من ... حلّ البقيع ولكن جهد ذي أرب
يا نخبة ضمّها ترب ولا عجب ... إن التراب قديما مدفن النّخب
كيف السبيل إلى اللّقيا وقد ضربوا ... بيني وبينك ما بقي من الحجب؟
عليك مني سلام الله يتبعه ... حسن الثّناء (4) وما حيّيت من كثب
__________
(1) في الأصل: «الأنفاس» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «ما المال إلّا من الله قوى فأفلح من»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) كلمة «اسمع» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «الثنا» وكذا ينكسر الوزن.(3/169)
محمد بن محمد بن شعبة الغسّاني (1)
من أهل ألمريّة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: قال شيخنا أبو البركات في الكتاب «المؤتمن»: من أهل ألمريّة ووجوهها، لا حظّ له في الأدب، وبضاعته في الطلب مزجاة. قطع عمره في الأشغال المخزنيّة، وهو على ذلك حتى الآن. قلت: هذا الرجل أحد فرسان الطريقة العمليّة، ماض على لين، متحرك في سكون، كاسد سوق المروءة، ضان بما يملك من جدة، منحطّ في هوّة اللّذة، غير معرج على ربع الهمّة، لطيف التّأنّي، متنزّل في المعاملة، دمث الأخلاق، مليح العمل، صحيح الحساب، منجب الولد.
مشيخته: قرأ على ابن عبد النّور، والقدر الذي يحسّ به عنه أخذه.
شعره: من شعره يخاطب أبا الحسن بن كماشة: [البسيط]
وافى البشير فوافى الأنس والجذل ... وأقبل السّعد والتوفيق والأمل
وراقت الأرض حسنا زاهرا وسنى ... واخضرّ (2) منها الرّبى والسّهل والجبل
ولاح وجه عليّ بعد ذا فغدا ... له شعاع كضوء الشّمس متّصل
مذ غاب أظلمت الدنيا لنا وغدت ... أحشاؤنا بلهيب الشّوق تشتعل
وحين أشرقت الدّنيا بغرّته ... عاد الظّلام ضياء وانتفى الخبل
إيه أبا حسن أنت الرجاء لنا ... مهما اعترت شدّة أو ضاقت الحيل
وأنت كهف منيع من نحاك فقد ... نال المنى وبدا عيش له خضل
يا سيدا قد غدا في المجد ذا رتب ... مشيدة قد بنتها السّادة الأول
بنو كماشة أهل الفضل قد شهروا ... باهت بهم في قديم الأعصر الدّول
السّالكون هدى السابقون مدى ... والباذلون ندى والناس قد بخلوا
أنت الأخير زمانا والقديم علا ... والسّيّد المرتجى والفارس البطل
إن كنت جئت أخيرا فارسا (3) فلقد ... أضحى بجود يديك يضرب المثل
حزت المآثر لا تحصى لكثرتها ... من رام إحصاءها سدّت له السّبل
جزت البدور سنى والفرقدين علا ... وأنت تجر النّدى والوابل الهطل
__________
(1) ترجمة محمد بن محمد بن شعبة في الكتيبة الكامنة (ص 116).
(2) في الأصل: «واخضرّت» وكذا لا يستقيم الوزن.
(3) كلمة «فارسا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.(3/170)
من جاء يطلب منك السّلم قابله ... وجه طليق ولفظ كلّه عسل
ومن يرد غير ذا تبّا له وردى ... لقد ترفّع في برج له زحل
هنّاك ربّك ما أولاك من نعم ... وعشت في عزّة تترى وتتّصل
ولا عدمت مدى الأيام منزلة ... من دونها رفعة في الأبرج الحمل
وخذه بعد سلاما عاطرا أرجا ... يدوم ما دامت الأسحار والأصل
من خادم لعلاكم مخلص لكم ... من حبّكم لا يرى ما عاش ينتقل
تقبيل كفّك أعلى ما يؤمّله ... فجد به فشفا الهائم القبل
وفاته: في أول عام أربعة وستين وسبعمائة.
محمد بن محمد بن العراقي (1)
وادي آشي، يكنى أبا عبد الله.
حاله: فاضل (2) الأبوة، معروف الصّون والعفّة، بادي الاستقامة، دمث (3)
الأخلاق، حسن الأدوات، ينظم وينثر، ويجيد الخطّ، تولّى أعمالا نبيهة، ثم علقت به الحرفة، فلقي ضغطا وفقد نشبا، واضطرّ إلى التحول عن وطنه إلى برّ العدوة عام ستة وخمسين وسبعمائة، وتعرّف لهذا العهد أنه تولّى الأشغال بقسنطينيّة (4) الهواء من عمل إفريقية.
شعره: كتب إليّ وقد أبي عملا عرض عليه (5): [الطويل]
أأصمت ألفا ثم أنطق بالخلف ... وأفقد إلفا ثم آنس بالجلف؟
وأمسك دهري ثم أنطق (6) علقما ... ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف؟
وعزّكم لا كنت بالذّلّ عاملا ... ولو أنّ ضعفي ينتمي بي (7) إلى حتف (8)
__________
(1) ترجمة محمد بن محمد بن العراقي في نفح الطيب (ج 8ص 235) وجاء فيه: «محمد بن محمد العراقي».
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 235) بتصرف.
(3) في النفح: «حسن».
(4) في الأصل: «قسنطينة»، والتصويب من معجم البلدان (ج 4ص 349) إذ جاء فيه: قسنطينية، بضم القاف وفتح السين: مدينة وقلعة يقال لها قسنطينية الهواء.
(5) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 236).
(6) في النفح: «أفطر».
(7) كلمة «بي» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(8) في النفح: «الحتف».(3/171)
فإن تعملوني في تصرّف عزّة ... وعدل وإلّا فاحسموا علّة الصّرف
بقيت وسحب العطف (1) منكم تظلّني ... وعطف (2) ثنائي (3) دائما ثاني العطف
محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن فرتون الأنصاري
من أهل مالقة، يكنى أبا القاسم، ويعرف بالهنا.
أوليته: ينسب إلى القاضي ببطليوس، قاضي القضاة، رحمه الله. وبمالقة دور تنسب إلى سلفه تدلّ على نباهة، وقد قيل غير ذلك. والنّص الجلي أولى من القياس.
حاله: من «عائد الصلة»: الشيخ الحاج المحدّث صاحب الأشغال بالدار السلطانية. صدر نمطه، وفريد فنّه رجولة وجزالة واضطلاعا وإدراكا وتجلّدا وصبرا.
نشأ بمالقة معدودا في أهل الطّلب والخصوصيّة، ورحل إلى الحجاز الشّريف في فتائه، فاستكثر من الرّواية، وأخذ عن أكابر من أهل المشرق والمغرب، حسبما يشهد بذلك برنامجه.
وكان على سنن من السّرو والحشمة، فذّا في الكفاية، جريّا، مقداما، مهيبا، ظريف الشّارة، فاره المركب، مليح الشّيبة، حسن الحديث، وقّاد الذهن، صابرا على الوظائف، يخلط الخوض في الأمور الدّنيوية بعبادة باهظة، وأوراد ثقيلة، ويجمع ضحك الفاتك وبكاء النّاسك في حالة واحدة، هشّا، مفرط الحدّة، يشرد عليه مجل لسانه في المجالس السلطانية بما تعروه المندمة بسببه، قائما على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته، ذا خصال حميدة، صنّاع اليد، مقتدرا على العمليات من نسخ ومقابلة وحساب، معدودا من صدور الوقت وأعلام القطر ورجال الكمال.
مشيخته: أخذ عن الجلّة من أهل بلده كالأستاذ أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي لازمه وانتفع به، والخطيب أبي عثمان بن عيسى أخذ عنه، والولي أبي عبد الله الطّنجالي، وغيرهم مما يطول ذكرهم من العدوة والأندلس والمشارقة.
__________
(1) في النفح: «العفو».
(2) في النفح: «وحظّ».
(3) في الأصل: «ثناتي» والتصويب من النفح.(3/172)
محنته: لقي نصبا في الخدمة السلطانية، وغضّا من الدهر لبأوه، بتعنّته وعدم مبالاته مرّات، ضيّق لها سجنه، وعرض عليه النّكال، ونيل منه بالإهانة كلّ منال، وأغرم مالا أجحف بمحتجنه، وعرّض للأيدي نفائس كتبه، وعلى ذلك فلم يذعر سربه، ولا أضعفت النكبة جأشه.
ولادته: ولد عام ثلاثة وسبعين وستمائة. ومات ميتة حسنة. صلّى الجمعة ظهرا، وقد لزم الفراش. ونفث دم الطاعون، ومات مستقبل القبلة، على أتمّ وجوه التأهب، سابع شوال من عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن محمد بن مقاتل
من أهل مالقة، يكنى أبا القاسم، أزدي النسب، إشبيلي الأصل، من بيت نزاهة ونباهة.
حاله: كان فاضلا وقورا سمحا، مليح الدّعابة، عذب الفكاهة، حلو النادرة، يكتب ويشعر، طرفا في الانطباع واللّوذعيّة، آية في خلط الجدّ بالهزل. ولّي الإشراف بمدينة مالقة، وتقلّب في الشهادة المخزنية عمره.
شعره: من شعره يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم، رحمه الله:
[الطويل]
فؤادي من خطب الزمان سقيم ... وفيه لسهم الحادثات كلوم
ولم أشك دائي في البريّة لامرىء ... أأشكو به وابن الحكيم حكيم؟
وفاته: توفي بمالقة يوم الخميس عاشر شهر رمضان من عام تسعة وثلاثين وسبعمائة.
محمد بن علي بن عبد ربه التجيبي
من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو.
حاله: كان راوية ثقة، بارع الأدب، بليغ الكتابة، طيّب النفس، كامل المروءة، حسن الخلق، جميل العشرة، تلبّس بالأعمال السلطانية دهرا، وولّي إشراف غرناطة وغيرها، إلى أن قعد لشكاية منعته من القيام والتّصرّف فعكف على النّظر، فانتفع به.
مشيخته: كانت له رحلة سمع فيها بالإسكندرية على أبي عبد الله بن منصور وغيره، وروى عنه الأخوان سالم وعبد الرحمن، ابنا صالح بن سالم.(3/173)
تواليفه: له اختصار حسن في «أغاني الأصبهاني»، وردّ جيّد على ابن غرسيّة في رسالته الشّعوبية (1)، لم يقصر فيها عن إجادة.
وفاته: وتوفي لسبع خلون من محرم من عام اثنين وستمائة.
الزّهاد والصّلحاء والصّوفية والفقراء وأولا الأصليون
محمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد الأنصاري (2)
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالصّنّاع.
حاله: من «عائد الصلة»: الشيخ الصّوفي، الكثير الأتباع، الفذّ الطريقة، المحبّب إلى أهل الثغور من البادية. كان، رحمه الله، شيخا حسن السّمت، كثير الذّكر والمداومة، يقود من المخشوشنين عدد ربيعة ومضر، يعمل الرّحلة إلى حصونهم، فيتألّفون عليه تألّف النّحل على أمرائها ويعاسيبها، معلنين بالذّكر، مهرولين، يغشون مثواه بأقواتهم على حالها، ويتناغون في التماس القرب منه، ويباشرون العمل في فلاحة كانت له بما يعود عليه بوفر وإعانة. وكان من الصالحين، وعلى سنن الخيار الفضلاء من المسلمين، وله حظّ من الطّلب ومشاركة، يقوم على ما يحتاج إليه من وظائف دينه، ويتكلم في طريق المتصوّفة على مذهب أبي عبد الله السّاحلي شيخه، كلاما جهوريا، قريب الغمر. وكان له طمع في صناعة الكيمياء تهافت على دفاتيرها وأهل منتحليها ليستعين بها بزعم على آماله الخيريّة، فلم يحل بطائل.
مشيخته: قرأ على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، وكانت له في حاله فراسة. حدّثني بذلك شيخنا أبو عبد الله بن عبد الولي، رحمه الله. وسلك على الشيخ الصالح أبي عبد الله السّاحلي.
وفاته: وتوفي ليلة الاثنين السابع من شهر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وكانت جنازته آخذة في الاحتفال، قدم لها العهد، ونفر لها الناس من كل أوب، وجيء بسريره، تلوح عليه العناية، وتحفّه الأتباع المقتاتون من حلّ أموالهم وأيديهم من شيوخ البادية، فتولّوا مواراته، تعلو الأصوات حوله، ببعض أذكاره.
__________
(1) هو أبو عامر أحمد بن غرسية، من أبناء نصارى البشكنس، سبي صغيرا وأدّبه مولاه مجاهد العامري. المغرب (ج 2ص 406). وقد ذكره ابن بسام وأورد له رسالته الشعوبية، وهي رسالة ذميمة ذمّ فيها العرب، وفخر بقومه العجم. الذخيرة (ق 3ص 714705).
(2) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 160): «محمد بن إبراهيم بن محمد بن غالب الأنصاري».(3/174)
محمد بن أحمد الأنصاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالموّاق.
حاله: كان معلما لكتاب الله تعالى، خطيبا بمسجد ربض الفخّارين، طرفا في الخير ولين العريكة والسذاجة المشفوعة بالاختصار وإيثار الخمول، مستقيما في طريقته، خافتا في خطبته، عاكفا على وظيفته، مقصودا بالتماس الدعاء، مظنّة الصلاح والبركة.
وفاته: توفي بغرناطة قبل سنة خمسين وسبعمائة بيسير، وكلف الناس بقبره بعد موته، فأولوا حجارته من التعظيم وجلب أواني المياه للمداواة، ما لم يولوه معشاره أيام حياته.
محمد بن حسنون الحميري
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حاله: كان فاضلا صالحا، مشهور الولاية والكرامة، يقصده الناس في الشّدائد، فيسألون بركة دعائه. ومن إملاء الشيخ أبي بكر بن عتيق بن مقدّم، قال: أصله من بيّاسة (1)، وكان عمّه من المقرئين المحدّثين بها، وسكن هو مرسية، ونشأ بها، وقرأ على أشياخها، وحفظ «كتاب التحبير» في علم أسماء الله الحسنى للإمام أبي القاسم القشيري، ثم انتقل إلى غرناطة، فسكن فيها بالقصبة القديمة، وأمّ الناس في المسجد المنسوب إليه الآن. وكان يعمل بيده في الحلفا، ويتقوت من ذلك.
وفاته: توفي عام خمسة وسبعمائة بغرناطة، وهو من عدد الزّهّاد.
ومن مناقبه: ذكروا أنه سمع يوما بعض الصّبيان يقول لصبي آخر: مرّ للحبس، فقال: أنا المخاطب بهذا، فانصرف إلى السّجن، فدخله، وقعد مع أهله، وبلغ ذلك السلطان، فوجّه وزيره، فأخرجه، وأخرج معه أهل السجن كلّهم، وكانت من كراماته.
محمد بن محمد البكري
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج.
__________
(1) بياسة: بالإسبانية، وهي مدينة تبعد عن جيان عشرين ميلا. الروض المعطار (ص 121).(3/175)
كان، رحمه الله، شيخا صالحا، جهوريّا، بعيدا عن المصانعة، متساوي الظاهر والباطن، مغلظا لأهل الدّنيا، شديدا عليهم، غير مبال في الله بغيره، يلبس خرقة الصّوفية من غير التزام لاصطلاح، ولا منقاد لرقو، ولا مؤثر لسماع، مشاركا للناس، ناصحا لهم، ساعيا في حوائجهم. خدم الصالح الكبير أبا العباس بن مكنون، وسلك به، وكان من بيت القيادة والتّجنّد، فرفض زيّه، ولبس المسوح والأسمال. وكان ذا حظّ من المعرفة، يتكلم للناس. قال شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب: سمعته ينشد في بعض مجالسه: [الرجز]
يا غاديا في غفلة ورائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا؟
وكم إلى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق الله به الجوارحا؟
يا عجبا منك وأنت مبصر ... كيف تجنّب (1) الطريق الواضحا؟
كيف تكون حين تقرا (2) في غد ... صحيفة قد ملئت فضائحا؟
أم كيف ترضى أن تكون خاسرا ... يوم يفوز من يكون رابحا؟
ولمّا حاصر الطّاغية مدينة ألمريّة (3) وأشرفت على التلف، تبرّع بالخروج منها ولحاقه بباب السلطان لبثّ حالها، واستنفار المسلمين إلى نصرها، فيسّر له من ستر غرضه، وتسهيل قصده، ما يشهد بولايته.
وفاته: توفي بألمريّة محلّ سكناه، في حدود عام خمسة عشر وسبعمائة.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري
غرناطي، قيجاطي (4) الأصل، يعرف بالسّواس.
قال في «المؤتمن» (5) في حاله: رجل متطبّب، سهل الخلق، حسن اللقاء، رحل من بلده، وحجّ، وفاوض بالمشرق الأطباء في طريقته، وعاد فتصدّر للطب، ثم عاد إلى بلاد المشرق. قلت: وعظم صيته، وشهر فضله، وقدّم أمينا على أحباس
__________
(1) في الأصل: «تجتنب» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «تقرأ» وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا الهمزة.
(3) المراد بالطاغية صاحب برجلونة، إذ حاصر في غرة ربيع الأول من عام 709هـ مدينة ألمرية وأخذ بمخنقها، ووقعت على جيش أمير المسلمين نصر بن محمد بن نصر، صاحب غرناطة، وقعة كبيرة، ثم رفع الحصار. اللمحة البدرية (ص 75).
(4) نسبة إلى قيجاطة، وهي مدينة بالأندلس من عمل جيان، تقع على ثلاثين كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من أبدة. الروض المعطار (ص 488).
(5) هو كتاب «المؤتمن على أنباء أبناء الزمن» لأبي البركات محمد بن محمد بن عياش البلفيقي.(3/176)
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمدينة الطّاهرة وصدقاته، وذكر عنه أنه اضطرّه أمر إلى أن خصى نفسه، وسقطت لذلك لحيته.
قال شيخنا أبو البركات: أنشدنا بدكّانه برحبة المسجد الأعظم، من حضرة غرناطة، قال: أنشدنا أبو عبد الله المرّاكشي بالإسكندرية، قال: أنشدنا مالك بن المرحّل لنفسه:
أرى الكلاب بشتم الناس قد ظلمت ... والكلب أحفظ مخلوق لإحسان
فإن غضبت على شخص لتشتمه ... فقل له: أنت إنسان ابن إنسان
وفاته: كان حيّا عام خمسين وسبعمائة فيما أظن.
ومن الطّارئين عليها في هذا الاسم
محمد بن أحمد بن جعفر بن عبد الحق بن محمد بن جعفر ابن محمد بن أحمد بن مروان بن الحسن بن نصر بن نزار ابن عمرو بن زيد بن عامر بن نصر بن حقاف السلمي
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جعفر، ويشهر في الأخير بالقونجي، منسوبا إلى قرية (1) بالإقليم، وكان من أهل غرناطة.
حاله: من خطّ شيخنا أبي البركات بن الحاج: كان هذا الرجل رجلا صالحا فاضلا متخلّقا، سمحا، جميل اللقاء على قدم الإيثار على رقة حاله، ممّن وضع الله له القبول في قلوب عباده، فكانت الخاصّة تبرّه ولا تنتقده، والعامة تودّه وتعتقده، وتترادف على زيارته، فئة بعد فئة، فلا تنقلب عنه إلّا راضية، وكان جاريا على طريقة الشيخ أبي الحسن الشّاذلي، إذ كان قد لقي بالمشرق الشيخ الإمام تاج الدين بن عطاء الله، ولازمه وانتفع به، كما لقي ولازم تاج الدين أبا العباس المرسي، كما لازم أبو العباس أبا الحسن الشاذلي. قال: ولقيه بعد هذا الشيخ أبي عبد الله جماعات في أقطار شتّى، ينتسبون إليه، ويجرون من ملازمته الأذكار في أوقات معينة على طريقته، وله رسائل منه إليهم طوال وقصار، يوصيهم فيها بمكارم الأخلاق، وملازمة الوظائف، وخرج عنه إليهم على طريقة التّدوين كتاب سمّاه ب «الأنوار في المخاطبات والأسرار» مضمنه جملة من كلام شيخهم تاج الدين،
__________
(1) هي قرية قنجة، كما سيتبيّن بعد قليل.(3/177)
وكلام أبي الحسن الشاذلي، ومخاطبات خوطب بها في سرّه، وكلام صاحبه أبي بكر الرّندي، وحقائق الطريق، وبعض كرامات غير من ذكر من الأولياء، وذكر الموت، وبعض فضائل القرآن.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي الحسن البلّوطي وأجازه، وعلى أبي الحسن بن فضيلة وأجازه كذلك، وعلى أبي جعفر بن الزبير وأجازه، ثم رحل فحجّ ودخل الشام، وعاش مدّة من حراسة البساتين، واعتنى بلقاء المعروفين بالزّهد والعبادة، وكان مليّا بأخبار من لقي منهم، فمنهم الشيخ أبو الفضل تاج الدين بن عطاء الله، وصاحبه أبو بكر بن محمد الرندي.
مناقبه: قال: دخلت معه إلى من خفّ على قلبي الوصول إلى منزله لمّا قدم ألمريّة، وهو رجل يعرف بالحاج رحيب، كان من أهل العافية، ورقّت حاله، ولم يكن ذلك يظهر عليه لمحافظته على ستر ذلك لعلوّ همّته، ولم يكن أيضا أثر ذلك يظهر على منزله، بل أثاث العافية باق فيه من فرش وماعون. فساعة وصول هذا الشيخ، قال: الله يجبر حالك، فحسبتها فراسة من هذا الشيخ. قال: وخاطبته عند لقائي إياه بهذه الأبيات: [البسيط]
أشكو إليك بقلب لست أملكه ... ما لم يرد من سبيل فهو يسلكه
له تعاقب أهواء فيقلقه ... هذا ويأخذه هذا ويتركه
طورا يؤمّنه طورا يخوّفه ... طورا ييقّنه طورا يشكّكه
حينا يوحّشه حينا يؤنّسه ... حينا يسكّنه حينا يحرّكه
عسى الذي يمسك السّبع الطّباق على ... يديك يا مطلع الأنوار يمسكه
فيه سقام من الدنيا وزخرفها ... مهما أبيّضه بالذكر تشركه
عسى الذي شأنه السّتر الجميل كما ... غطّى عليه زمانا ليس يهتكه
فلما قرأ منها: «فيه سقام من الدنيا وزخرفها»، قال: هذه علّتي.
مولده: سألته عنه، فقال لي: عام ثمانية وستين بقرية الجيط من قرى الإقليم.
وفاته: بقرية قنجة خطيبا بها، يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان المكرم عام خمسين وسبعمائة، في الوباء العام، ودفن بقرية قنجة، رحمة الله عليه ورضوانه.(3/178)
محمد بن أحمد بن حسين بن يحيى بن الحسين ابن محمد بن أحمد بن صفوان القيسي (1)
وبيته شهير بمالقة، يكنى أبا الطاهر، ويعرف بابن صفوان.
حاله: كان مفتوحا عليه في طريق القوم، ملهما لرموزهم، مصنوعا له في ذلك، مع المحافظة على السّنة والعمل بها آخر الرّعيل، وكوكب السّحر، وفذلكة الحساب ببلده، اقتداء وتخلّقا وخشوعا وصلاحا وعبادة ونصحا. رحل فحجّ، وقفل إلى بلده، مؤثرا الاقتصار على ما لديه، فإذا تكلّم في شيء من تلك النّحلة، يأتي بالعجائب، ويفكّ كل غامض من الإشارات. وعني بالجزء المنسوب إلى شيخ الإسلام أبي إسماعيل الروبي المسمّى ب «منازل السّاري إلى الله» فقام على تدريسه، واضطلع بأعبائه، وقيّد عليه ما لا يدركه إلّا أولو العناية، ولازمه الجملة من أولي الفضل والصلاح، فانتفعوا به، وكانوا في الناس قدوة. وولي الخطابة بالمسجد الجامع من الرّبض الشّرقي، وبه كان يقعد، فيقصده الناس، ويتبركون به، وكان له مشاركة في الفقه، وقيام على كتاب الله.
تواليفه: ألّف بإشارة السلطان على عهده، أمير المسلمين أبي الحجاج (2)، رحمه الله، كتابا في التّصوّف والكلام على اصطلاح القوم، كتب عليه شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب بظهره، لما وقع عليه، هذه الأبيات: [الكامل]
أيام مولاي الخليفة يوسف ... جاءت بهذا العالم المتصوّف
فكفى بما أسدى من الحكم التي ... أبدين من سرّ الطريقة ما خفي (3)
وحقائق رفع الحجاب بهنّ عن ... نور الجمال فلاح غير مكيّف
كالشمس لكن هذه أبدى سنا ... للحسن والمعنى لعين المنصف
فيه حياة قلوبنا ودواؤها ... فمن استغاث بجرعة منها شفي (4)
إن ابن صفوان إمام هداية ... صافي فصوفي فهو صوفيّ صفي (5)
وإن اختبرت فإنه صفو ابن صف ... وظاهر في طيّه صفو خفي (6)
__________
(1) ترجمة ابن صفوان القيسي في الكتيبة الكامنة (ص 54).
(2) هو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، سابع سلاطين بني نصر بغرناطة، وقد حكم من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ. اللمحة البدرية (ص 102).
(3) في الأصل: «ما خف» بدون ياء.
(4) في الأصل: «شف» بدون ياء.
(5) في الأصل: «صف» بدون ياء.
(6) في الأصل: «خف» بدون ياء.(3/179)
علم توارثه وحال قد خلت ... ذوقا فنعم المقتدى والمقتفي (1)
فليهنك المولى سعود إيالة ... فيها سراج نوره لا ينطفي (2)
جلّى وجوه شريعة وحقيقة ... صبحا سناه باهر لا يختفي (3)
لا زلت تسلك كل نهج واضح ... منها وتحيي كل سعي مزلف
ومن تواليفه: «جرّ الحرّ» في التوحيد، وعلّق على الجزء المنسوب لأبي إسماعيل الهروي.
من أخذ عنه: أخذ عنه ببلده وتبرّك به جلّة، وكان يحضر مجلسه عالم، منهم شيخ الشيوخ الأعلام أبو القاسم الكسكلان، وأبو الحسين الكوّاب، والأستاذ الصالح أبو عبد الله القطان، وصهره الأستاذ أبو عبد الله بن قرال، والعاقد الناسك أبو الحسين الأحمر وغيرهم.
شعره: رأيت من الشعر المنسوب إليه، وقد رواه عنه جماعة من أصحابنا، يذيّل قول أبي زيد (4)، رضي الله عنه (5): [الطويل]
رأيتك يدنيني (6) إليك تباعدي (7) ... فأبعدت نفسي لابتغاء التقرّب (8)
فقال: [الطويل]
هربت (9) به مني إليه فلم يكن ... بي البعد في بعدي فصحّ به قربي (10)
فكان به سمعي كما بصري به ... وكان به لا بي (11) لساني مع القلب
فقربي به قرب بغير تباعد ... وقربي في بعدي فلا شيء من قربي (12)
__________
(1) في الأصل: «والمقتف» بدون ياء.
(2) في الأصل: «لا ينطف» بدون ياء.
(3) في الأصل: «لا يختف» بدون ياء.
(4) في الكتيبة الكامنة (ص 54): «أبي يزيد».
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 5554).
(6) في الأصل: «تدنيني» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(7) في الأصل: «تباعدني» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(8) في الكتيبة: «وابتغائي من القرب».
(9) في الأصل: «هويت بدمني» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(10) في الأصل: «قرب» بدون ياء، والتصويب من الكتيبة.
(11) في الأصل: «وكان به لأي» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(12) في الأصل: «قرب» بدون ياء.(3/180)
وفاته: سافر من بلده إلى غرناطة في بعض وجهاته إليها، وذهب سحرا يرتاد ماء لوضوئه، فتردى في حفرة تردّيا أوهن قواه، وذلك بخارج بلّش (1)، فردّ إلى مالقة، فكانت بها وفاته قبل الفجر من ليلة يوم الجمعة الرابع عشر لشعبان عام تسعة وأربعين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري (2)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالسّاحلي.
حاله: من «عائد الصلة»: المثل السائر في عمران أوقاته كلها بالعبادة، وصبره على المجاهدة. قطع عمره في التّبتّل والتّهجّد، لا يفتر لسانه عن ذكر الله والصلاة على نبيّه، صلى الله عليه وسلم. خرج عن متروك والده، واقتصر على التّعيّش من حرفة الخياطة. ثم تعدّاها إلى النّسخ والتّعليم، وسلك على الشيخ أبي القاسم المريد، نفع الله به، حتى ظهرت عليه سيما الصالحين، وأقام عمره مستوعبا ضروب الخير، وأنواع القرب من صوم وأذان وذكر ونسخ وقراءة وملازمة خلوة، ذا حظّ من الفصاحة، وجرأة على الوعظ في صوت جهير وعارضة صليبة. اقتدى به طوائف من أصناف الناس على تباعد الدّيار، وألزمهم الأذكار، وحوّلهم للسلوك، فأصبح كثير الأتباع، بعيد الصّيت.
وولّي الخطابة بالمسجد الجامع من بلده، ونقل إلى الخطابة بجامع غرناطة في نبوة عرضت له بسبب ذنابى ذرّية طرقوا الكدر إلى سربه، ثم عاد إلى بلده متين ظهر الحظوة، وثيق أساس المبرّة.
مشيخته: قرأ ببلده مالقة على الخطيب أبي محمد بن عبد العظيم بن الشيخ، وأبي عبد الله بن لب، وأبي جعفر الحرّار، وأبي عبد الله بن الحلو، والخطيب أبي عبد الله بن الأعور.
محنته: ابتلي بعد السبعين من عمره بفقد بصره، فظهر منه من الصبر والشكر والرّضا بقضاء الله ما يظهر من مثله. وأخبرني بعض أصحابه أنه كان يقول: سألت الله أن يكفّ بصري خوفا من الفتنة. وفي هذا الخبر نظر لمكان المعارضة في أمره، صلى الله عليه وسلم، بسؤال العافية والإمتاع بالإسماع والإبصار.
__________
(1) هي بلّش مالقة، وقد ذكرها ياقوت مكتفيا بالقول: «بلّش، بالفتح وتشديد اللام والشين معجمة: بلد بالأندلس ينسب إليه يوسف بن جبارة البلشي». معجم البلدان (ج 1 484).
(2) ترجمة محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي في نيل الابتهاج (ص 230) والكتيبة الكامنة (ص 45).(3/181)
شهرته: وجعل الله له في قلوب كثير من الخلق، الملوك فمن دونهم، من تعظيمه ما لا شيء فوقه، حتى أن الشيخ المعمر الحجّة الرّحلة أبا علي ناصر الدين المشدالي كتب إليه من بجاية بما نصه: يا أيها العزيز، مسّنا وأهلنا الضّر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل، وتصدّق علينا، إن الله يجزي المتصدّقين. وبعده:
من العبد الأصغر والمحبّ الأكبر فلان، إلى سيّد العارفين، وإمام المحققين، في ألفاظ تناسب هذا المعنى.
حدّثني شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، وكان من أعلام تلاميذه، وصدور السالكين على يديه، قال: قصدت منه خلوة، فقلت: يا سيدي، أصحابنا يزعمون أنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرني واشف صدري، هل هذه الرؤيا عينيّة أو قلبية؟
قال: فأفكر ساعة، ثم قال: عندي شك في رؤية ابن الجيّاب الساعة ومحادثته، فقلت: لا، فقال: كذلك الحال، قلت: وهذا أمر غريب، ولا يصح إلّا رؤية القلب، ولكن غلبت عليه حتى تخيّل في الحسّ الصورة الكريمة، إذ وجود جوهر واحد في محلّين اثنين محال.
شعره: نظم الكثير من شعر منحطّ لا يصلح للكتب ولا للرّواية، ابتلي به، رحمه الله، فمن لبابه قوله، وهو من الوسط (1): [الكامل]
إن كنت تأمل (2) أن تنال وصالهم ... فامح الهوى في القيل والأفعال
واصبر على مرّ الدواء فإنه ... يأتيك بعد بخالص السّلسال
تواليفه: ألّف كتابا سمّاه «إعلان الحجّة، في بيان رسوم المحجّة».
وفاته: توفي يوم الجمعة الرابع والعشرين لشوال عام خمسة وثلاثين وسبعمائة، وكانت جنازته مشهودة، تزاحم الناس على نعشه، وتناولوه تمزيقا على عادتهم من ارتكاب القحة الباردة في مسلاخ حسن الظّن.
محمد بن أحمد بن قاسم الأمي
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالقطّان، الفقيه الأوّاب المتكلم المجتهد.
حاله: من «العائد»: كان هذا الرجل غريب المنزع، عجيب التّصوّف. قرأ وعقد الشروط، وتصدّر للعدالة، ثم تجرّد، وصدق في معاملته لله، وعوّل عليه،
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 45).
(2) في الكتيبة: «تطلب».(3/182)
واضطلع بشروط التّوبة، فتحلّل من أهل بلده، واستفاد واسترحم، واستغفر، ونفض يديه من الدّنيا، والتزم عبادة كبيرة، فأصبح يشار إليه في الزّهد والورع، لا تراه إلّا متبسّما، ملازما لذكر الله، متواضعا لأصاغر عباده، محبّا في الضّعفاء والمساكين، جميل التّخلّق، مغضيا عن الهنات، صابرا على الإفادة. وجلس للجمهور بمجلس مالقة، يتكلم في فنون من العلم، يعظ الناس، ويرشدهم، ويزهّدهم، ويحملهم على الإيثار، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال والدلالة والفصاحة والحفظ، كثير التأثير في القلوب، يخبر بإلهام وإعانة، فمال الخلق إليه، وتزاحموا على مجلسه، وأعلنوا بالتّوبة، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات، والاستقالة من الزّلّات، ودهم الوباء، فبذلوا من الأموال في أبواب البرّ والصّدقة، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء، ولولا أن الأجل طرقه، لعظم صيته، وانتشر نفعه.
وفاته: توفي شهيد الطّاعون عصر يوم الأربعاء الرابع لصفر من عام خمسين وسبعمائة، ودفن بجبانة جبل فاره (1)، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته، وصلّى عليه خارج باب قنتنالة، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح أبو عبد الله الطّنجالي، رحم الله جميعهم.
وممّن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الورّاد فقال: [الطويل]
أبعد وليّ الله دمعي يسجم ... وغمار قلبي من كلوم تترجم؟
فؤادي مكلوم بحزني لفقده ... لذاك جفوني دمعها كلّه دم
وماذا عسى يغني التفجّع والبكا ... وماذا عسى يجدي الأسى والتّبرّم؟
سأصبر للبلوى وإن جلّ خطبها ... فصبر الفتى عند الشّدائد يعلم
كذا العلم بالسيف الصّقيل لدى الوغى ... فويق الذي من حسنه لا يوسّم (2)
على قدر صبر المرء تصغر عنده ... خطوب من الدنيا على الناس تعظم
ألا إنها الدّنيا تعلّة باطل ... ومحمض (3) أحلام لمن بات يحلم
تجنّبها أهل العقول فأقصروا ... وأغرق فيها الجاهلون وأشأموا (4)
__________
(1) جبل فاره: بالإسبانية، يعلو مدينة مالقة. نزهة المشتاق (ص 570).
(2) كلمة «لا» ساقطة في الأصل.
(3) في الأصل: «ومخمضة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «وأشأم».(3/183)
أعد نظرا فيها تجبك براحة ... وإنس (1) بما تقضي عليك وتحكم
أعدّ لها درياق صبرك إنها ... من البؤس والتّلوين والله أرقم
تلفّت إلى تعذيبها لمحبّها ... وماذا بها يلقى كئيب ومغرم
يظنّ بها ريحانة وهي سدرة ... ولا منتهى إلّا الرّدى والتّندم
عجبت لها تخفى علينا عيوبها ... وذاك لأنّا في الحقيقة نوّم
أليس عجيبا أن يعوّل عاقل ... على عاجل من وصلها يتصرّم؟
وما وصلها معشار عشر صدورها ... ولكنه صرف وللدّهر (2) أدوم
إذا ابتسمت يوما ترقّب عبوسها ... فما إن لنا منها يدوم التّبسّم
ضحى كان وجه الدّهر سبر بشرّه ... فلم يمس حتى بان منه التّجهّم
ذرينا بعقد من وليّ مكانه ... مكين لدى العلياء سام معظّم
هوى مثل ما هوى من الأفق كوكب ... فجلّلنا ليل من الخطب مظلم
تساوى لديه صيدها وعبيدها ... وعالمها النّحرير والمتعلّم
هو الموت لا ينفكّ للخلق طالبا ... يروح ويغدو كلّ حين عليهم
وما هو إلّا الدّاء عزّ دواؤه ... فليس لشيء في البسيطة يحسم
دها كل مخلوق فما منه سيّد ... له الجاه عند الله ينجو ويسلم (3)
ولو كان ذا كان النّبيّ محمد ... تجنّبه، صلّوا عليه وسلّموا (4)
تعنّى به موسى ويوسف قبله ... ونوح وإدريس وشيث وآدم
به باد بهرام وتبّر بهرم ... وكسّر من كسرى سوار ومعصم
وكم من عظيم الشّأن حلّ بربعه ... فإن تختبره فهو ربّ وأعظم
ولكنّنا ننسى ونأبى حديثه ... وننجد في الإعراض عنه ونتهم
فحتّى إذا حلّ ساحة ماجد ... نطلّ بها من حسرة نتكلّم
نسينا حديث الموت جهلا بغدره ... فألهمنا إذ هزّنا منه ملهم
وفاة ورميّ في التّراب موسّد ... وآثاره فوق السّماك تخيّم
خبا ضوء ناديّ فأقفر (5) ربعه ... من العلم والتّعليم ربع ومعلم
__________
(1) في الأصل: «وأنس»، وكذا ينكسر الوزن، لذا جعلنا همزة الوصل همزة قطع.
(2) في الأصل: «للدهر» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «فسلّم».
(4) في الأصل: «وسلّم».
(5) في الأصل: «أقفر» وكذا ينكسر الوزن.(3/184)
تردّى فأردى فقده أهل ريّة (1) ... فما منهم إلّا كئيب ومغرم
غدا أهلها من فجعة بمصابه ... وعيشهم صاب قطيع وعلقم
وهل كان إلّا والد مات عنهم؟ ... فيا من لقوم يتّموا حين أيّموا (2)
قضى نحبه الأستاذ واحد عصره ... فكاد الأسى يقضي إلى الكلّ منهم
قضى نحبه القطّان فالحزن قاطن ... مقيم بأحناء الضّلوع محكّم
وهل كان إلّا روضة رفّ ظلّها ... أتيح له قيظ من الجون صيلم؟
وهل كان إلّا رحمة عاد فقدها ... علامة فقد العلم والله أعلم؟
سل التّائبين العاكفين على الهدى ... لكم منّة أسدى وأهدى إليهم
أفادهم من كلّ علم لبابه ... وفهّمهم أسراره فتفهّموا (3)
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... دليلا بهم نحو الهدى حيث يمّموا (4)
أبان لهم طرق الرّشاد فأقدموا ... وحذّرهم عن كل غيّ فأحجموا (5)
وجاء من التّعليم للخير كله ... بأبين من يأتي به من يعلّم
فصاحة ألفاظ وحسن عبارة ... مضيّ كما يمضي الحسام المصمّم
يصيب فلا يخطي إذا مقصدا ... ومن (6) يجيب فلا يبطي ولا يتلعثم
يحدّث في الآفاق شرقا ومغربا ... فأخباره أضحت تخطّ وترسم
سرى في الورى ذكر له ومدائح ... يكاد بها طير العلى يترنّم
لعمرك ما يأتي الزمان بمثله ... وما ضرّني لو كنت بالله أقسم
فقيه نزيه زاهد متواضع ... رؤوف عطوف مشفق مترحّم
يودّ لو أنّ الناس أثرى جميعهم ... فلم يبق مسكين ولم يبق معدم
يودّ لو أنّ الله تاب على الورى ... فتابوا فما يبقى من الكلّ مجرم
عليه من الرّحمن أوسع رحمة ... فقد كان فينا الدّهر يحنو ويرحم
__________
(1) ريّه: كورة من كور الأندلس في قبلي قرطبة. الروض المعطار (ص 279).
(2) في الأصل: «حين أو يتّم» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن. وأيّم الرجل أو المرأة: قتل زوجه أو جعله أيّما. محيط المحيط (أيم).
(3) في الأصل: «فتفهّم».
(4) في الأصل: «يمّم».
(5) في الأصل: «فأحجم».
(6) في الأصل: «ولمن» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/185)
محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي ابن خالد بن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطّنجالي (1)
لوشي (2) الأصل، مالقي النشأة والاستيطان.
أوليته: بيتهم نبيه إلى هاشميّة النّبه، وهم ببلدنا لوشة أشراف، وكانت لهم فيها ثروة وثورة اجتثّها الدهر ببعض طوارقه في أبواب المغالبات. ويمتّ سلفنا إليهم بصحبة ومصاهرة في حديث يستدعي طولا، وانتقل خلفهم إلى مالقة.
حاله: من «عائد الصلة»: كان هذا الولي الفاضل، المجمع على ولايته وفضله، سهل اللقاء، رفيقا بالخلق، عطوفا على الضعفاء، سالكا سنن الصّالح من السّلف سمتا وهديا، بصره مغضوض، ولسانه صامت إلّا من ذكر الله، وعلمه نافع، وثوبه خشن، وطعمته قد نفدها الورع الشّديد حتى اصطفاها مختارة، إذا أبصرت بها العين، سبقتها العبرة. بلغ من الخلق الملوك فمن دونهم الغاية، فكان يلجأ إليه المضطرّ، وتمدّ إلى عنايته الأيدي، وتحطّ بفنائه الوسائل، فلا يرتفع عن كلف الناس ولا حوائجهم، ولا ينقبض عن الشّفاعة لهم، وإصلاح ذات بينهم له في ذلك كلّه أخبار طريفة. واستعمل في السّفارة بين ملكي العدوة والأندلس في أحوال المسلمين، فما فارق هيئته، وركوب حماره واستصحاب زاده، وليس الخشن من ثوبه. وكان له حظّ رغيب من فقه وحديث، وتفسير، وفريضة. ولّي الخطابة ببلده مالقة، واستسقى في المحول، فسقي الناس.
حدّثني بعض أشياخنا، قال: حضرت مقامه مستسقيا، وقد امتنع الغيث، وقحط الناس، فما زاد عند قيامنا أن قال: أستغفر الله، فضجّ الخلق بالبكاء والعجيج، ولم يبرحوا حتى سقوا. وكراماته كثيرة، ذائعة من غير خلاف ولا نزاع.
حدّث بعض أشياخنا عن الخطيب الصّالح أبي جعفر الزيات، قال: رأيت في النّوم قائلا يقول: فقد اللّيلة من يعمر بيت الإخلاص بالأندلس، فما انتصف النهار من تلك الليلة حتى ورد الخبر بموته.
__________
(1) له حفيد يحمل اسمه، ترجم له أبو الحسن النباهي والمقري هو القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي، ولي قضاء بلده مالقة صدر عام 750هـ. تاريخ قضاة الأندلس (ص 193) ونفح الطيب (ج 7ص 364).
(2) نسبة إلى لوشه، وهي مدينة من إقليم إلبيرة، بينها بين إلبيرة ثلاثون ميلا. الروض المعطار (ص 513).(3/186)
مشيخته: من شيوخه الذين قرأ عليهم وأسند إليهم الرواية والده، رحمه الله، وأبو عمرو بن حوط الله، والخطيب ابن أبي ريحانة المربلّي، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، والراوية أبو الوليد بن العطار، والراوية المحدّث أبو بكر بن مشليون، والمقرئ أبو عبد الله بن مستقور الطائي، والأستاذ أبو جعفر الطبّاع، وأبو الحسين بن أبي الربيع، والمحدّث أبو عبد الله بن عيّاش، والأستاذ أبو الحسن السّفّاج الرّندي، والخطيب بألمريّة أبو الحسن الغزّال. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير.
وأجازه من أهل المشرق جماعة منهم أبو عبد الله بن رزيق الشافعي، والعباس أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري، وأبو اليمن عبد الصمد بن أبي الحسن عبد الوهاب بن أبي البركات، المعروف بالنجام، والحسن بن هبة الله بن عساكر، وإبراهيم بن محمد الطّبري، إمام الخليل، ومحمد بن محمد بن أحمد بن عبد ربه الطّبري، ومحمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، وأبو الفتح تقيّ الدين بن أبي الحسن فخر الدين، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكيّ الشّافعي وغيرهم.
ميلاده: بمالقة في رجب سنة أربعين وستمائة.
وفاته: بمالقة في يوم الخميس الثامن لجمادى الأولى من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وقد ناهز الثمانين سنة، لم ينتقص شيء من أعماله المقرّبة إلى الله، من الصوم والصلاة، وحضور الجماعات، وملازمة الإقراء والرّواية، والصبر على الإفادة.
حدّث من يوثق به أنّ ولده الفقيه أبا بكر دخل عليه، وهو في حال النّزع، والمنيّة تحشرج في صدره، فقال: يا والدي، أوصني، فقال: وعيناه تدمعان: يا ولدي، اتّق الله حيث كنت واتبع السّيئة بالحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي (1)
ابن الحاج
والد شيخنا أبي البركات. وقد مرّ في ذكر النّسب المتّصل بعباس بن مرداس، والأوّليّة النّبيهة ما يغني عن الإعادة.
__________
(1) نسبة إلى بلفيق، وهي بلدة تابعة لمدينة ألمرية. الإحاطة (ج 3ص 348) بتحقيق عنان.(3/187)
حاله: من خطّ ولده شيخنا على الاختصار، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إليّ: ذكر أبي، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءا من نحو سبعين ورقة في المقسوم، لخّصت لك من مبيّضته ما يذكر:
نشأ، رحمه الله، بسبتة على طهارة تامة، وعفّة بالغة وصون ظاهر، كان بذلك علما لشبّان مكتبه. قرأ القرآن بالقراءات السّبع، وحفظ ما يذكر من المبادىء، واتّسم بالطلب. ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى التي اعتلق بها سلفه، فنبذ الدّنيا، وأقبل على الآخرة، وجرى على سنن المتّقين، آخذا بالأشدّ من ذلك والأقوى، طامحا بهمّته إلى أقصى ما يؤمّله السّالكون، فرفض زي الطّلبة، ولبس الخشنية، وترك ملابسة الخلق بالجملة، وبالغ في الانقباض عنهم، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها، وخصوصا بمينائها، وعكف على ذلك سنين، ثم سافر إلى المغرب، سائحا في الأرض، على زي الفقهاء للقاء العبّاد وأهل العلم، فأحرز من ذلك ما شاء. ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس، وورد ألمريّة، مستقرّ سلفه، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها، على ما كان عليه من التّبتّل والإخبات. وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدّانه، صوّاما، قوّاما، خاشعا، ذاكرا، تاليا، قوّالا للحق، وإن كان مرّا كبيرا في إسقاط التّصنّع والمباهاة، لا يضاهى في ذلك، ولا يشقّ غباره. وقدم على غرناطة، ودخل على أمير المسلمين، وقال له الوزير: يقول لك السلطان ما حاجتك؟ فقال: بهذا الرسم رحلت، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله، فعار على من انتسب إليه أن يقصد غيره. ثم أجاز البحر وقد اشتدّت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوّهم، وقدم على ملكه، ووعظه موعظة أعنف عليه فيها، فانفعل لموعظته، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس، وغزا بها، وأقام بها ما شاء الله، وتأدب الروم لو تمّ المراد، قال: وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب، قال: كل رجل صالح دخل عليّ كانت يده ترعد في يدي، إلّا هذا الرجل، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته.
كراماته: وجلب له كرامات عدّة، فقال في بعضها: ومن ذلك ما حدّثني الشيخ المعلم الثّقة أبو محمد قاسم الحصّار، وكان من الملازمين له، المنقطعين إلى خدمته، والسّفر معه إلى البادية، فقال: إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة، منها ما أذكره، ومنها ما لا أستطيع ذكره. ثم قال: حدّثني أهل وادي الزّرجون، وهو حشّ (1)
من أعمال سبتة، قالوا: انصرف السيد أبو عبد الله من هنا، هذا لفظه، فلما استقرّ في
__________
(1) الحش: البستان. محيط المحيط (حشش).(3/188)
رأس العقبة المشرفة على الوادي، صاح عليه أهل القرى، إذ كانوا قد رأوا أسدا كبيرا جدا قد تعرّض في الطريق، ما نجا قط من صادفه مثله، فلما سمع الصياح قال: ما هذا؟ فقيل له: أهل القرى يصيحون عليه خيفة من السّبع، قال: فأعرض عنهم بيده، ورفع حاجبه كالمتكبّر على ذلك، وأسكتهم، وأخذ في الطّريق حتى وصل إلى الأسد، فأشار عليه بالقضيب، وقال له: من ههنا، من ههنا، اخرج عن الطريق، فخرج بإذن الله عن الطريق، ولم يوجد هنالك بعد. وأمثال ذلك كثيرة.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع القرشي، وأجازه والده أبو إسحاق إجازة عامة. ومن شيوخه القاضي المسنّ أبو عبد الله الأزدي، والمحدّث أبو بكر بن مشليون، وأبو عبد الله بن جوهر، وأبو الحسين بن السراج، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزرجي، وأبو عبد الله بن الأبار، وأبو الوليد بن العطار، وأبو العباس بن عبد الملك، وأبو إسحاق بن عياش، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عطيّة، وأبو بكر القرطبي حميد، وأبو إبراهيم الطّرسي، والقاضي أبو عبد الله بن عياض، والكاتب أبو الحسن الرّعيني، وأبو الحسن الشّاري، وأبو يحيى بن الفرس، وأبو إسحاق بن عبيد الله، وأبو الحسن الغزّال، وجماعة من الأندلس غير هؤلاء.
ومن أهل العدوة كأبي يعقوب المحاسبي، وابن فرتون، وغيرهما (1).
محنته: نمي عنه إلى السلطان بالأندلس، أنه أغرى به ملك المغرب، وتخلّص بعد لأي في خبر طويل، وانتهب السلطان ماله، وألحق أملاكه بالمختص (2)، واستمرّ، وذلك إلى دولة والده، وامتحن السّاعون به، فعجّل الله عقوبتهم.
مولده: قال شيخنا: نقلت من خطّ أبيه ما نصّه: ولد ابني أبو بكر محمد، أسعده الله ووفّقه، في النصف الأول من ليلة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي قعدة من سنة ست وأربعين وستمائة.
وفاته: قال: ألفيت بخط القاضي الأديب الكاتب أبي بكر بن شبرين، وكان ممن حضر جنازته بسبتة، وكانت وفاة الفقيه النّاسك السّالك الصالح أبي بكر محمد بن الشيخ الفقيه المحدّث أبي إسحاق السلمي البلفيقي في العشر الأواخر من رمضان أربعة وتسعين وستمائة، بمحروسة سبتة، ودفن إثر صلاة العصر بجبّانة الخرّوبة من منارتها بمقربة من قبر ريحان الأسود العبد الصالح، نفع الله به. وصلّى عليه الإمام أبو عبد الله بن حريث.
__________
(1) في الأصل: «وغيرهم».
(2) المختص: المستخلص، وهو الأملاك السلطانية.(3/189)
محمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك ابن إبراهيم بن يحيى بن عبّاد النّفزي (1)
من أهل رندة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن عبّاد، الحاجّ الصّوفي.
حاله: نشأ ببلده رندة، وهو من ذوي البيوتات الأصيلة بها، ثم رحل إلى المشرق، ولقي العلماء والصّوفية، وحضر عند المشيخة، ثم كرّ إلى الأندلس، فتصوف، وجال في النّواحي، واطّرح السّموت، وفوّت ما كان بيده من متاع الدّنيا، وكان له مال له خطر، وألقى التّصنّع لأهله رأسا. وكان فيه تولّه وحدّة، وله ذهن ثاقب، يتكلم في المعقولات والمنقولات، على طريقة الحكماء والصّوفية، ويأتي بكل عبارة غريبة، وآثاره هائلة من غير تمكّن علم، ولا وثاقة إدراك، غير أنك لا تسمع منه إلّا حسنا، وهو مع ذلك طوّاف على البلاد، زوّار للرّبط، صبّار على المجاهدة طوعا وضرورة، ولا يسأل ثيابا البتّة إلّا بذلة من ثوب أو غيره، صدقة واحد في وقته.
محنته وفضله وشعره: نمي عنه كلام بين يدي صاحب المغرب، أسف به مدبّر الدولة يومئذ، فأشخص عند إيابه إلى رندة وسجن بسجن أرباب الجرائم، فكتب إلى وليّ الأمر: [الطويل]
تركت لكم عزّ الغنى فأبيتم ... وأن تتركوني للمذلّة والفقر
ونازعتموني في الخمول وإنه ... لذي مهجتي أحلى من البنى والأمر
ثم قال: يا من رماني بسهمه الغرب، قد ردّ عليك مخضوبا بالدّم. قال: فو الله ما مرّت ثلاثة، حتى نفذ حكم الله فيمن عدا عليه.
وشعره حسن يدلّ على طبع معين، فمن ذلك: [الكامل]
سرى يسرّ إليّ أنك تاركي ... نفسي الفداء للطفك المتدارك
يا مالكي ولي الفخار بأنني ... لك في الهوى ملك وأنّك مالكي (2)
التّرك هلك فاعفني منه وعد ... بالوصل تحيي ذا (3) محبّ هالك
__________
(1) ولد ابن عباد النفزي برنده عام 733هـ وتوفي عام 792هـ، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص 40) ونيل الابتهاج (ص 287) ونفح الطيب (ج 7ص 318).
(2) في الأصل: «مالك» بدون ياء.
(3) في الأصل: «ذما» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.(3/190)
وأعد جميلا في الهوى عوّدتني ... إن لم تعده إليّ من للهالك؟
يا منية القلب الذي بجماله ... فتن الورى من فاتك أو ناسك
آتيه (1) دونك أو أحار وفي سنى ... ذاك الجمال جلا الظلام الحالك؟
ولكم سلكت إليك لكن حين لم ... تكن الدّليل اختلّ قصد السّالك
ولقد عرفت بستر سرّي في الهوى ... فهجرتني فكسيت ثوب الهاتك
ما السّتر إلّا ما يحوك رضاك لا ... ما حاكه للبتر كفّ الحائك
ما الفضل إلّا ما حكمت به فصن ... واهتك وصل إن شئت أو كن تاركي (2)
ما لي سوى حبّيك يا حبّي فدع ... تركي فهلك الملك ترك المالك
وقال أيضا (3): [الكامل]
هذا العقيق فسل معاطف بانه ... هل نسمة عادته من نعمانه؟
واسأله إن زارته ماذا أخبرت ... عن أجرع العلمين أو سكّانه
وأصخ لحسن حديثها وأعده لل ... مضني ففيه البرء من أشجانه
يا حبّذا ذاك الحديث وحبّذا ... من قد رواه (4) وحبّذا ببيانه
وسقى الإله زمانه ومكانه ... ويعزّ قدر زمانه ومكانه
يا سعد، ساعد مستهاما فيه لا ... ذقت الهوى ونجوت من عدوانه
وأصخ لما يتلو (5) الوجود عليك من ... أنبائهم بلسان حال كيانه (6)
وأبنه لي واقبل ذمامي بشارة ... ويقلّ بذل ذماي في تبيانه
وسل النّسيم يهبّ من واديهم ... بشذا (7) خزاماه وطيب ليانه (8)
ارحم بروح منه روحي تحيه ... وبسقمه (9) سقمي فديتك عانه
وبنشره انشر نفس مشتاق قضت ... شوقا لنفحة نسمة (10) من بانه
يا سعد، حدّثني فكلّ مخبّر ... عن خسر من أهواه أو إحسانه (11)
__________
(1) في الأصل: «أأيته» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «تارك» بدون ياء.
(3) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 4241).
(4) في الأصل: «رفاه» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(5) في الكتيبة: «يجلو».
(6) في الكتيبة: «بيانه».
(7) في الأصل: «شذا» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(8) في الأصل: «لبانه» بالباء الموحدة، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(9) في الأصل: «ويسقمه» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(10) في الكتيبة الكامنة (هبّة).
(11) هذا البيت غير وارد في الكتيبة الكامنة.(3/191)
يا سعد، حدّثني حديثا (1) عنهم ... ويجلّ قدر الحبّ عن نسيانه
يا سعد، طارحنيه واملأ مسمعي ... من سرّه إن شئت أو إعلانه
أنا في الغرام أخوك حقا والفتى ... لا يكتم الأسرار عن (2) إخوانه
قل كيف وادي ودّ (3) سكّان الحمى ... ومنى أمانيه وروض لسانه؟ (4)
هل قلّصت أيدي النّوى من ظلّه؟ ... أو ما جرى هل عاث في جريانه؟
وهل الربوع أواهل بحمى لهم (5) ... فسقى (6) الربوع الودق (7) من هتّانه؟
وهل التقى بان على عهد النّوى (8) ... وهل اللّوى يلوي بعود زمانه؟
فبروض أنسهم عهدت (9) نضارة ... نزّهت منها الطّرف (10) في بستانه
وأرى هجير الهجر أذبل يانعا ... منه وأذوى الغضّ من ريحانه
وأحال حال الأنس فيه وحشة ... وطوى بساط الأنس في هجرانه
آها ووالهفي وويحي أن مضى ... عهد عرفت الأنس في أزمانه
وبأجرع العلمين من شرقيّه ... حبّ غذاني حبّه بلبانه
حاز المحاسن كلّها فجمعن لي ... كلّ الهوى فحملت (11) كلّ هوانه
وزها عليّ بعزّة (12) فبواجب ... أزهو (13) بذلّي في يدي سلطانه
وقضى بأن أقضي وليت بما قضى ... يرضى فطيب العيش في رضوانه
واختار لي أن لا أميل لسلوة ... عن حبّه فسلوت عن سلوانه
يا عاذلي أو ناصحي أو لائمي ... تبغي السّلوّ ولات حين أوانه
غلب الغرام وعزّ سلطان الهوى ... فالكلّ فيه عليّ من أعوانه
__________
(1) في الأصل: «حدّثني فكلّ حديث عنهم» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(2) في الأصل: «من» والتصويب من الكتيبة.
(3) في الكتيبة الكامنة: «واد».
(4) في المصدر نفسه: «أمانه».
(5) في الأصل: «بجمالهم» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(6) في الأصل: «فسقى للربوع» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(7) الودق: المطر.
(8) في الكتيبة «الهوى».
(9) في الأصل: «غمدت» والتصويب من الكتيبة.
(10) في الكتيبة «القلب».
(11) في الكتيبة الكامنة: «وحملت».
(12) في الكتيبة الكامنة: «بعزّه».
(13) في الكتيبة الكامنة: «أزهى».(3/192)
فعلام تعتب مستهاما، كلّ ما (1) ... في الكون عاذره على هيمانه (2)
دع عنك لومي إنني لك ناصح ... أبدى الجمال العذر عن هيمانه
وإذا الفتى قام الجمال بعذره ... في الحبّ فاتركه وثني عنانه
من سام قلبي في هواه سلوة ... قد سامه ما ليس في إمكانه
وقال في الغرض المذكور (3): [البسيط]
يا للرّجال، ألا حبّ يساعدني ... في ذا الغرام فأبكيه ويبكيني؟ (4)
غلبت فيه وما أجدت مغالبتي ... وهنت والصّبّ أولى الناس بالهون
ركبت لجّته وحدي فأدهشني ... ومتّ (5) في يده فردا فدلّوني (6)
واضيعة العمر والبلوى مضاعفة ... ما بين يأس وآمال ترجّيني (7)
والهف نفسي إن أودت وما ظفرت ... في ذا الهوى بتمنّ أو بتأمين
فليت (8) شعري وعمري ينقضي طمعا ... في ذا الهوى (9) بين مغلوب ومغبون
هل الألى (10) ملكوا رقيّ وقد علموا ... بذلّتي (11) وافتقاري أن يواسوني؟
فكم أكفكف دمعي بعدهم وأرى ... مجدّدا نار يأسي وهي تبليني
وكم أمرّ على الأطلال أندبها ... وبالمنازل من خيف ودارين
وفي الفؤاد لهم ما ليس يعلمه ... هم، علمهم بالحال يكفيني
أهمي المدامع كي أروى فتعطشني ... وألزم الذّكر للسّلوى فيشجيني
وكلّ من لمحت عيني أسائله ... عنهم فيغري بهم قلبي ويغريني
يا أهل نجد وفخري (12) أن أحبّكم ... لا أطلب الوصل عزّ الحبّ يغنيني
هل للهوى (13) من سبيل للمنى فلقد ... عزّت أمانيه في الدّنيا وفي الدّين
__________
(1) في الأصل: «كلّما» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(2) في الأصل: «شيمانه» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(3) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 43).
(4) في الأصل: «ويبكين» بدون ياء، والتصويب من الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «وتهت».
(6) في الأصل: «فدلّون» بدون ياء.
(7) في الأصل: «ترجين» بدون ياء.
(8) في الكتيبة الكامنة: «وليت».
(9) في الكتيبة: «في الحبّ ما بين».
(10) في الأصل: «الأولى» والتصويب من الكتيبة.
(11) في الأصل: «بذلّي» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(12) في الكتيبة الكامنة: «ومجدي».
(13) في الكتيبة الكامنة: «في الهوى».(3/193)
محمد بن يوسف بن خلصون
يكنى أبا القاسم، روطيّ (1) الأصل، لوشيّه (2)، سكن لوشة وغرناطة ومالقة.
حاله: كان من جلّة المشيخة وأعلام الحكمة، فاضلا، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية، متبحرا في الإلهيات، إماما في طريقة الصّوفية، من أهل المقامات والأحوال، كاتبا بليغا، شاعرا مجيدا، كثير الحلاوة والطّلاوة، قائما على القرآن، فقيها أصوليا، عظيم التخلّق، جميل العشرة. انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة، كثير الدؤوب على النّظر والخلوة، مقصودا من منتحلي ما لديه ضرورة. لم يتزوج، وتمالأت عليه طائفة ممن شانها الغضّ من مثله، فانزعج من لوشة إلى مالقة، فتحرّف بها بصناعة الطّب، إلى حين وفاته.
حدّثني والدي، وكان خبيرا بأحواله، وهو من أصحاب أبيه، قال: أصابت الناس شدّة قحط، وكانت طائفة من أضداده تقول كلاما مسجّعا، معناه: إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم، مطرتم. قال: فانزعج عنها، ولما كان على أميال نزل الغيث الرغد، قال: فسجد بموضعه ذلك، وهو معروف، وقال: سيدي، وأساوي عندك هذا المقدار، وأوجب شكرانا. وقدم غرناطة، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرّقوطي، وله استيلاء على الحظوة السلطانية، وشأنه اختبار من يرد على الحضرة ممن يحمل فنّا، وللسلطان على ابن خلصون موجدة، لمدحه في حداثته أحد الثوار عليه بقمارش (3)، بقصيدة شهيرة. فلمّا حضر، سأله الأستاذ: ما صناعتك، فقال:
التصوّف، فالتفت إلى السلطان وقال: هذا رجل ضعيف لا شيء لديه، بحيث لا يفرّق بين الصّناعة وغيرها، فصرفه رحمه الله.
تواليفه: وتواليفه كثيرة، تدل على جلالته وأصالة معرفته، تنطق علما وحكمة، وتروق أدبا وظرفا. فمن ذلك كتابه في «المحبة»، وقفت عليه بخط جدّي الأقرب سعيد، وهو نهاية. وكتاب «وصف السلوك، إلى ملك الملوك»، عارض به معراج
__________
(1) نسبة إلى روطة:، وهي حصن يقع شمال مدينة شريش. وهي غير روطة أحد حصون سرقسطة.
(2) نسبة إلى لوشة، وهي مدينة بالأندلس، بينها وبين إلبيرة ثلاثون ميلا. الروض المعطار (ص 513).
(3) قمارش: بالإسبانية، وهي بلدة بالأندلس تقع شمال شرقي مالقة في سفح جبل الثلج (سييرا نفادا).(3/194)
الحاتمي، فبان له الفضل، ووجبت المزيّة، ورسالة «الفتق والرّتق، في أسرار حكمة الشرق».
شعره: من ذلك قوله: [الكامل]
هل تعلمون مصارع العشّاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق؟
والبين يكتب من نجيع دمائهم ... إن الشّهيد لمن يمت بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النّوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كئيب لا يملّ بكاؤه ... قد أغرقته مدامع الآماق
ومحرّق الأحشاء أشعل ناره ... طول الوجيب بقلبه الخفّاق
ومولّة لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاقي (1)
خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم المرور وما له من راق؟
ما للمحبّ من المنون وقاية ... إن لم يغثه حبيبه بتلاق
مولاي، عبدك ذاهب بغرامه ... فادرك (2) بوصلك من دماه الباقي (3)
إني إليك بذلّتي متوسّل ... فاعطف بلطف منك أو إشفاق
ومن شعره أيضا: [الكامل]
أعد الحديث إذا وصفت جماله ... فبه تهيّج للمحبّ خياله
يا واصف المحبوب كرّر ذكره ... وأدر على عشّاقه جرياله
فبذكر من أهوى وشرح صفاته ... لذّ الحديث لمسمعي وخلاله
طاب السّماع بوصفه لمسامعي ... وقررت عينا مذ لمحت هلاله
قلبي يلذّ ملامة في حبّه ... ويرى رشادا في هواه ضلاله
يا عاذلي أو ما ترقّ لسامر ... سمع الظّلام أنينه فرثا له؟
ومن شعره أيضا: [الكامل]
إن كنت تزعم حبّنا وهوانا ... فلتحملنّ مذلّة وهوانا
فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا ... واغضب عليها إن طلبت رضانا
__________
(1) في الأصل: «ويلاق» بدون ياء.
(2) أصل القول: «فأدرك» لأن الفعل رباعي، وكذا ينكسر الوزن، لذا حذفنا همزة القطع وجعلناها همزة وصل.
(3) في الأصل: «الباق» بدون ياء.(3/195)
واخلع فؤادك في طلاب ودادنا ... واسمح بموتك إن هويت لقانا
فإذا فنيت عن الوجود حقيقة ... وعن الفناء فعند ذاك ترانا
أو ما علمت الحبّ فيه عبرة ... فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا
وابذل لبابك إن وقفت ببابنا ... واترك حماك إذا فقدت حمانا
ما لعلع ما حاجر ما رامة ... ما ريم أنس يسحر الأذهانا
إنّ الجمال مخيّم بقبابنا ... وظباؤه محجوبة بظبانا
نحن الأحبّة من يلذ بفنائنا ... نجمع له مع حسننا إحسانا
نحن الموالي فاخضعنّ لعزّنا (1) ... إنّا لندفع في الهوى من هانا
إنّ التّذلّل للتّدلّل سحر ... فاخلد إلينا عاشقا ومهانا
واصبر على ذلّ المحبّة والهوى ... واسمع مقالة هائم قد لانا
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومن لطيف كلامه ورقيق شعره: [الرمل]
لو خيال من حبيبي طرقا ... لم يدع دمعي بخدّي طرفا
ونسيم الريح منه لو سرى ... بشذاه لأزال الحرقا
ومتى هبّت عليلات الصّبا ... صحّ جسمي فهي (2) لي نفث رقا
عجبا يشكو فؤادي في الهوى ... لهب النار وجفني الفرقا
يا أهيل (3) الحيّ، لي فيكم رشا ... لم يدع لي رمقا مذ رمقا
بدر تمّ طالع أثمره ... غصن بان تحته دعص نقا
راق حسنا وجمالا مثلما ... رقّ قلبي في هواه ورقا
أنّس (4) الشمس ضياه ذهبا ... وكسا البدر سناه ورقا
حلل الحسن عليه خلعت ... فارتداها ولها قد خلقا
ومن شعره: [البسيط]
دعوت من شفتي رفقا على كبدي ... فقال لي: خلق الإنسان في كبد
قلت الخيال ولو في النّوم يقنعني ... فقال: قد كحلت عيناك بالسّهد
__________
(1) في الأصل: «لعزّ نالنا» وكذا لا يستقيم الوزن.
(2) في الأصل: «فهنّ»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «يا أهل»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «أنسى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/196)
فقلت: حسبي بقلبي في تذكّره ... فقال: لي القلب والأفكار ملك يدي
قلت الوصال حياتي منك يا أملي ... قال الوصال فراق الروح للجسد
فقلت: أهلا بما يرضى الحبيب به ... فإنّ قلبي لا يلوى على أحد
ومن أقواله الصّوفية، وكلها تشير إلى ذلك المعنى: [الطويل]
ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السّرى ... وللنّجم قنديل يضيء لمن سرى
وعين الدّجى قد نام لم يدر ما بنا ... وأجفاننا بالسّهد لم تطعم الكرى
إلى أن رأينا اللّيل شاب قذاله ... ولاح عمود الفجر غصنا منوّرا
لمحنا برأس البعد نارا منيرة ... فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا
وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة ... لحانة دير بالنواقس دورا
فلمّا حللنا حبوة السير عنده ... وأبصرنا القسّيس قام مكبّرا
وحرّك ناقوسا له أعجم الصّدا ... فأفصح بالسّر الذي شاء مخبرا
وقال لنا: حطّوا حمدتم مسيركم ... وعند الصّباح يحمد القوم السرى (1)
نعمتم صباحا ما الذي قد أتى بكم ... فقلنا له: إنا أتيناك زوّرا
وراحتنا في الرّاح إن كنت بائعا ... فإنّ لدينا فيه أربح مشترى
فقال لكم: عندي مدام عتيقة ... مخلّدة من قبل آدم أعصرا
مشعشعة كالشمس لكن تروحنت ... وجلّت عن التجسيم قدما فلا ترى
وحلّ لنا في الحين ختم فدامها ... فأسدى لنا مسكا فتيقا وعنبرا
وقلنا: من السّاقي فلاح بوجهه ... فأدهش ألباب الأنام وحيّرا
وأشغلنا عن خمره بجماله ... وغيّبنا سكرا فلم ندر ما جرى
ومن شعره في المعنى: [البسيط]
يا نائما يطلب الأسرار إسرارا ... فيك العيان ونبغي بعد آثارا
أرجع إليك ففيك الملك مجتمع ... والفلك والفلك العلوي قد دارا
أنت المثال وكرسي الصّفات فته ... على العوالم إعلانا وإسرارا
والطّور والدّرّ منثورا وقد كتبت ... أقلام قدرته في اللّوح آثارا
__________
(1) عجز البيت مثل يضرب لمن يحتمل المشقّة رجاء الراحة، ويضرب أيضا في الحثّ على مزاولة الأمر والصبر. مجمع الأمثال (ج 2ص 3).(3/197)
والبيت يعمره سرّ الملائك في ... مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا
ورفع الله سقفا أنت تسكنه ... سماؤه أطلعت شهبا وأقمارا
وبحر فكرك مسجور بجوهره ... فغص به مخرجا للدّرّ أسرارا
فإن رأيت بوادي القدس نار هدى ... فاثبت فنورك فيها مازج النّارا
واخلع لسمع النّدا نعليك مفتقرا ... إلى المنادي تنل عزّا وإكبارا
وغب عن الكون بالأسماء متّصفا ... واطلب من الكلّ ربّ الدار لا الدّارا
ومن ذلك في هذا المعنى: [الطويل]
أطالب ما في الرّوح من غامض السّرّ ... وقارع باب العلم من عالم الأمر
عرضت لعلم أبهم الشّرع بابه ... لكلّ جهول للحقائق لا يدري
ولكنّ خبيرا قد سألت محقّقا ... فدونك فانظم ما نثرت من الدّرّ
وبين يدي نجواك قدّم وسيلة ... تقى الله واكتم ما فهمت من السّرّ
ولا تلتفت جسما ولا ما يخصّه ... من الحسّ والتخييل والوهم والفكر
وخذ صورة كلّية جوهريّة ... تجلّ عن التمييز بالعكس والسّبر
ولكن بمرآة اليقين تولّدت ... وليست بذاتي إن سألت ولا غير
كذلك لم تحدث وليست قديمة ... وما وصفت يوما بشفع ولا وتر
ولكن بذات الذّات كان ظهورها ... إذا ما تبدّت في الدّجى غرّة الفجر
ومن هذا الغرض قوله: [الطويل]
مشاهدتي مغناك، يا غايتي، وقت ... فما أشتكي بعدا وحبّك لي نعت
مقامي بقائي عاكفا بجمالكم ... فكلّ مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحوال دون لقائكم ... فإنّي على حكم المحبّة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده ... فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاء غير نيل وصالكم ... ولا خوف إلّا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق ... يحرّكني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكّرت العتاب يهزّني ... لهيبتكم قبض يغيب به النّعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا ... ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصّحو والمحو دائر ... أقول: فلا حرف هناك ولا صوت
قصودي إليكم والورود عليكم ... ومنكم سهودي والوجود إذا عدت (1)
وفي غيبتي عنّي حضوري لديكم ... وعند امتحان الرّسم والمحو أثبتّ
وفي فرقتي الباني بحقّ جمعتني ... وفي جمع جمعي في الحقيقة فرّقت
تجلّيت (2) لي حتى دهشت مهابة ... ولما رددت اللّحظ بالسّرّ لي عشت
موارد حقّ بل مواهب غاية ... إذا ما بدت تلك البداءة لي تهت
لوائح أنوار تلوح وتختفي ... ولكن وميض البرق ليس له ثبت
ومهما بدت تلك الطّوالع أدهشت ... وإن غيّبت تلك اللّوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردّني ... وعند التجلّي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع وصفصف (3) ... وليس يرى فيهنّ زيغ ولا أمت
ولي أدمع أجّجن نار جوانحي ... ولي نفس لولاه من حبّكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة ... فنائي وجودي (4) والحياة إذا متّ
مراتب في التّلوين نلت جميعها ... وفي عالم التّمكين عن كلّها بنت
وعند قيامي عن فنائي وجدتكم ... فلا رتبة علويّة فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا ريّ بعده ... لئن كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت كئاس (5) الوجود مدامة ... فلست أجلّي عن ورود متى شئت
وكيف وأقداح العوالم كلّها ... ولكنني (6) من صاحب الدّير أسكرت
تعلّق قوم بالأواني وإنّني ... جمال المعاني لا المغاني علّمت
وأرضعت كأسا لم تدنّس بمزجها ... وقد نلتها صرفا لعمري (7) ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم ... وأرضعتها صرفا لأنّي قرّبت
بها آدم نال الخلافة عندما ... تبدّت له شمسا لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فرّ لفلكه ... ومن بان عن أسرارها لي (8) عمد الموت(3/198)
مشاهدتي مغناك، يا غايتي، وقت ... فما أشتكي بعدا وحبّك لي نعت
مقامي بقائي عاكفا بجمالكم ... فكلّ مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحوال دون لقائكم ... فإنّي على حكم المحبّة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده ... فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاء غير نيل وصالكم ... ولا خوف إلّا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق ... يحرّكني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكّرت العتاب يهزّني ... لهيبتكم قبض يغيب به النّعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا ... ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصّحو والمحو دائر ... أقول: فلا حرف هناك ولا صوت
قصودي إليكم والورود عليكم ... ومنكم سهودي والوجود إذا عدت (1)
وفي غيبتي عنّي حضوري لديكم ... وعند امتحان الرّسم والمحو أثبتّ
وفي فرقتي الباني بحقّ جمعتني ... وفي جمع جمعي في الحقيقة فرّقت
تجلّيت (2) لي حتى دهشت مهابة ... ولما رددت اللّحظ بالسّرّ لي عشت
موارد حقّ بل مواهب غاية ... إذا ما بدت تلك البداءة لي تهت
لوائح أنوار تلوح وتختفي ... ولكن وميض البرق ليس له ثبت
ومهما بدت تلك الطّوالع أدهشت ... وإن غيّبت تلك اللّوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردّني ... وعند التجلّي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع وصفصف (3) ... وليس يرى فيهنّ زيغ ولا أمت
ولي أدمع أجّجن نار جوانحي ... ولي نفس لولاه من حبّكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة ... فنائي وجودي (4) والحياة إذا متّ
مراتب في التّلوين نلت جميعها ... وفي عالم التّمكين عن كلّها بنت
وعند قيامي عن فنائي وجدتكم ... فلا رتبة علويّة فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا ريّ بعده ... لئن كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت كئاس (5) الوجود مدامة ... فلست أجلّي عن ورود متى شئت
وكيف وأقداح العوالم كلّها ... ولكنني (6) من صاحب الدّير أسكرت
تعلّق قوم بالأواني وإنّني ... جمال المعاني لا المغاني علّمت
وأرضعت كأسا لم تدنّس بمزجها ... وقد نلتها صرفا لعمري (7) ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم ... وأرضعتها صرفا لأنّي قرّبت
بها آدم نال الخلافة عندما ... تبدّت له شمسا لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فرّ لفلكه ... ومن بان عن أسرارها لي (8) عمد الموت
__________
(1) في الأصل: «عدمت» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «تجليته» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(3) في الأصل: «صفصف» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(4) في الأصل: «ووجودي» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(5) في الأصل: «أكواس»، وكذا ينكسر الوزن، ثم إن كأس تجمع على أكؤس وكؤوس وكئاس.
لسان العرب (كأس).
(6) في الأصل: «ولكنّي» وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «صرفا فيا لعمري» وكذا لا يستقيم الوزن.
(8) كلمة «لي» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.(3/199)
وقد أخمدت نار الخليل بنورها ... وكان لموسى عن أشعّتها بهت
وهبّت لروح الله روح نسيمها ... فأبصره الأعمى وكلّمه الميت
وسار بها المختار سيري لربّه ... إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت
هنيئا لمن قد أسكرته بعرفها ... لقد نال ما يبغي وساعده البخت
ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به، قوله من رسالة:
وصلني أيها الابن النّجيب، المخلص الحبيب، كتابك الناطق بخلوص ودّك، ورسوخ عهدك، وتلك سجيّة لائقة بمجدك، وشنشنة تعرف من والدك وجدّك، وصل الله أسباب سعدك، وأنهض عزم جدّك، بتوفيق جدّك، وبلّغك من مأمولك أقصى قصدك. فلتعلم أيها الحبيب أن جناني، ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني، فإني مغرى بشكركم وإن أعجمت، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت، لا جرم أنّ الوقت حكم بما حكم، واستولى الهرج فاستحكم، حتى انقطعت المسالك، وعدم الوارد والسّالك، وذلك تمحيص من الله جار على قضيّة قسطه، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه، حين مدّ على الخليقة ظلّ التّلوين، ولو شاء لجعله ساكنا، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التّمكين، عليه دليلا باطنا، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضا يسيرا، حتى أطلع عليهم من الأنس بدرا منيرا. وإلى ذلك يا بنيّ، فإني أحمد الله تعالى إليك على تشويقه إيّاك إلى مطالعة كتب المعارف، وتعطّشك للورود على بحر اللّطائف. وإنّ الإمام أبا حامد (1)، رحمه الله، لممن أحرز خصلها، وأحكم فرعها وأصلها، لا ينكر ذلك إلّا حاسد، ولا يأباه إلّا متعسّف جاحد. هذا وصفه، رحمه الله، فيما يخصّه في ذاته. وأما تعليمه في تواليفه، وطريقه التي سلكها في كافّة تصانيفه فمن علمائنا، رضي الله عنهم، من قال: إنه خلط النّهاية بالبداية، فصارت كتبه أقرب إلى التّضليل منها إلى الهداية، وإن كان لم يقصد فيها إلّا النّفع فيما أمّه من الغرض، فوجد في كتبه الضّرر بالعرض، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطّفيل (2)، قال: وأما أبو حامد، فإنه مضطرب التأليف، يربط في موضع، ويحلّ في آخر، ويتمذهب بأشياء، ويكفر بها، مثل أنه كفّر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد
__________
(1) هو حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، الفيلسوف الصوفي، ولد بطوس بخراسان سنة 450هـ وتوفي بها سنة 505هـ. وفيات الأعيان (ج 4ص 58) والوافي بالوفيات (ج 1ص 274).
(2) هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي، المتوفّى سنة 581هـ، وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.(3/200)
روحاني، وإنكار هم حشر الأجساد. وقد لوّح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب «الجواهر والأربعين»، وخرّج بأنه معتقد كبار الصّوفية، في كتاب آخر، وقال: إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال: وإنما كلامه في كتبه على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب «ميزان العمل»، على أغلب ظنّي، فإن لي من مطالعة الكتب مدّة. قال: ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلّا ما يشكّك في اعتقادك الموروث، يعني التّقليد، فإنه من لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثّل بقول الشاعر: [البسيط]
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وذلك أنه قسّم آراءه إلى ثلاثة: رأي يجاب به كلّ مسترشد سائل بحسب سؤاله وعلى مقدار فهمه. ورأي يجاب به الخاصّة ولا يصرّح به للعامّة. ورأي بين الإنسان وبين نفسه، لا يطّلع عليه إلّا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد، رحمه الله، فإنّه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلّة المتكلّمين، فإنه لما تكلّم على طرق الأشعريّة والمعتزلة والفلاسفة والصّوفية والحشويّة وما أحدثه المتكلّمون من الضّرر في الشّريعة بتواليفهم، انعطف فقال: وأما أبو حامد، فإنه طمّ الوادي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعريّا، ومع المعتزلة معتزليّا، ومع الفلاسفة فيلسوفا، ومع الصّوفية صوفيّا، حتى كأني به: [البسيط]
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدّيا فعدنان
ثم قال: والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضّرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض. قال: وإنما ذلك لأنه صرّح في كتبه بنتائج الحكمة دون مقدّماتها، وأفصح بالتّأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء الرّاسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤوّل للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول: إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين وأصول الفقه، في غاية النّبل والنّباهة، وبسط اللفظ، وحسن التّرتيب والتّقسيم، وقرب المسائل.
وكذلك كتبه الفقهية والخلافية والمذهبيّة، التي ألّفها على مذهب الشّافعي، فإنه كان شافعيّ المذهب في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوّف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضّرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدّى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوّفة. وقد نبّه على
ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطّرطوشي (1) في كتابه الذي سماه ب «مراقي العارفين».(3/201)
وكذلك كتبه الفقهية والخلافية والمذهبيّة، التي ألّفها على مذهب الشّافعي، فإنه كان شافعيّ المذهب في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوّف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضّرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدّى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوّفة. وقد نبّه على
ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطّرطوشي (1) في كتابه الذي سماه ب «مراقي العارفين».
قال: وقد دخل على السّالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطّوسي (2)، فإنه تشبّه بالصّوفية ولم يلحق بمذاهبهم، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم، حتى غلط الناس فيها. على أنّني أقول: إنّ باعه في الفلسفة كان قصيرا، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في المقاصد، ومنطقه الذي نقله في معيار العلم، لكن قصر عنه. وتلك الاعتقادات، منها حقّ ومنها باطل، وتلخيصه لا يتأتّى إلّا لصنفين من الناس، أعني أهل البرهان وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، أو رياضة أهل المكاشفة. ولذلك صنّف هو معيار العلم ليكون الناظر في كتبه يتقدّم، فيتعلّم منه أصناف البراهين، فيلحق بأهل البرهان. وقدّم أيضا تصنيف «ميزان العمل» ليكون المرتاض فيه، وبه يلحق بأهل المكاشفة، وحينئذ ينظر في سائر كتبه. وهذه الرسالة طويلة، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي، رحمه الله، بما يدل على تفنّنه، وعلى اضطلاعه، رحمه الله.
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل ابن يوسف العراقي
ثم الخلاطي، ثم الأقشري الفارسي، وينعت من النّعوت المشرقية بجلال الدين، من بلاد فارس.
حاله: كان من الصّوفية المتجرّدين من المال والعيال، ذا وقار وتؤدة، وسكون ومحافظة على ظاهره. أكثر في بلاد المشرق من الأخذ عن الشّيوخ المحدّثين والمتصوّفين، ثم قدم المغرب، فاستوطن بعض بلاده، ثم أجاز البحر إلى الأندلس عام أربعة وسبعمائة، وأخذ عمّن بها من الشيوخ، ودخل غرناطة. وكان شافعيّ المذهب، يشارك في قرض الشّعر.
__________
(1) هو الزاهد محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الطرطوشي الأندلسي، المتوفّي سنة 520هـ، من أشهر مؤلفاته «سراج الملوك» و «برّ الوالدين». وفيات الأعيان (ج 4ص 92) والمغرب (ج 2ص 424) والصلة (ص 838) وبغية الملتمس (ص 135) وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 211).
(2) المراد بالرجل الطوسي أبا حامد الغزالي الطوسي المتقدم ذكره قبل قليل.(3/202)
مشيخته: أخذ عن أبي مروان عبد الملك الشّريشي بفاس، وعن أبي بكر محمد بن محمد بن قسي المومياني، ولبس الخرقة الصّوفية من جماعة بالمشرق وبالمغرب، منهم الإمام أبو إبراهيم الماجري، عن أبي محمد صالح، عن أبي مدين.
تواليفه: أخذ عنه تأليفه في نحو اللغة الفارسية وشرح ألفاظها. قال شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم: كتب إلى والدي ببابه، وقد أحسّ بغضّ من الشيخ الإمام أبي عبد الله بن خميس، عميد مجلس الوزارة الحكيمية: [المتقارب]
عبيد بباب العلى واقف ... أيقبله المجد أم ينصرف؟
فإن قبل المجد نلت المنى ... وإلّا فقدري ما أعرف
ثم كتب على لفظه: ما من، وصحّحه، قال: فأذن له، واستظرف منزعه.
محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المرّاكشي (1)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن شاطر.
حاله: فقير متجرّد، يلبس أحسن أطوار الخرقة، ويؤثر الاصطلاح، مليح الشّيبة، جميل الصورة، مستظرف الشّكل، ملازم للمسجد، مساكن بالمدارس، محبّب إلى الخواص، كثير الذّكر، متردّد التأوّه، شارد اللّسان، كثير الفلتات، مطّرح في أكثر الأحايين للسّمت، ينزع إلى هدف تائه، تشم عليه القحة والمجانة، مقتحم حمى الحشمة في باب إيهام التّلبيس، يزلق سوء الاعتقاد عن صفاته، وإن قارب الانهماك، وغير مبال بناقد، ولا حافل بذام، ولا حامد. كلما اتّبع انفرد، ومهمى استقام شرد، تطيب النّفس به على غرّة، ويحسن الظّن بباطنه على سوء ظاهره، مليح الحديث، كثير الاعتبار، دائم الاسترجاع والاستغفار، فعّال الموعظة، عجيب الانتزاع من الحديث والقرآن، مع عدم الحفظ، مستشهد بالأبيات الغريبة على الأحوال. قال شيخنا القاضي أبو عبد الله بن المقري: لقيت فيمن لقيت بتلمسان رجلين، أحدهما عالم الدّنيا، والآخر نادرتها. أما العالم، فشيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، وأما النّادرة، فأبو عبد الله بن شاطر. ثم قال: صحب أبا زيد الهزميري كثيرا، وأبا عبد الله بن تجلّات، وأبا العباس بن البنّاء (2) وإخوانهم من
__________
(1) ترجمة محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي في نيل الابتهاج (ص 248) ونفح الطيب (ج 7ص 234).
(2) في نفح الطيب (ج 7ص 234): «البناء وأضرابه من».(3/203)
المرّاكشيين ومن جاورهم، واختصّ بأبي زيد الهزميري، وآثره وتبنّاه، وكان يقول له:
وألقيت عليك محبّة منّي، فيظهر أثر ذلك عليه، من ستر الهنات، ووضع القبول، فلا تجد من يستثقله من راض عنه أو ساخط. دخل الأندلس، وقدم على غرناطة، وتلوّم بها أياما.
نبذ من أقواله: فمن ذلك أنه إذا سئل عن نفسه يقول: أنا وليّ مفسود، وفي هذا من النّصفة، وخفّة الرّوح ما لا خفاء به. قال بعض شيوخنا (1): قلت له يوما:
كيف أنت؟ فقال (2): كيف أنا محبوس في الدّم. ومن حكمه: الليل والنهار حرسيّان (3)، أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذ (4) بمجامع الخلق إلى (5) يوم القيامة، وإنّ مردّنا (6) إلى الله. ومرّ يوما بأبي العباس (7) بن شعيب الكاتب وهو جالس في جامع الجزيرة، وقد ذهبت به الفكرة، فصاح به، فلمّا رفع رأسه، قال، وله نعش (8) خاطر: انظر إلى مركب عزرائيل، قد رفع شراعه، والنّدا (9) عليه، اركبوا يا عزا. قال شيخنا أبو عبد الله المقري: وجدته يوما في المسجد ذاكرا، فقلت له: كيف أنت؟ فقال: مهيم في روضة يجبرون، فهممت بالانصراف، فقال:
أين تذهب من روضة من رياض الجنة، يقام فيها على رأسك بهذا التّاج؟ وأشار إلى المنار، مملوءا بالله أكبر. قال: وأنشدني أبو العباس بن البنّاء، وكتبهما عنه (10):
[الوافر]
قصدت إلى الوجازة (11) في كلامي ... لعلمي بالصّواب في الاختصار
ولم أحذر فهم (12) ما دون فهمي ... ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحولة العلماء شأني ... وشأن البسط تعليم الصّغار
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 7ص 235).
(2) في النفح: «فقال: محبوس في الروح، وقال: الليل».
(3) الحرسي: الحارس. لسان العرب (حرس).
(4) في النفح: «أخذا».
(5) في النفح: «يجرّانهم إلى القيامة».
(6) في الأصل: «مررنا» والتصويب من النفح.
(7) في نفح الطيب (ج 7ص 235): «أبي العباس أحمد بن شعيب». وهو أحمد بن شعيب الجزنائي، تازي الدار، نزيل فاس. توفي بتونس عام 750هـ. ترجمته في نثير فرائد الجمان (ص 335) ونيل الابتهاج (ص 68) والتعريف بابن خلدون (ص 48) وجذوة الاقتباس (ص 47) ودرة الحجال (ج 1ص 21).
(8) قوله: «وله نعش خاطر» غير وارد في النفح.
(9) في النفح: «ونودي عليه الطلوع يا غزي».
(10) ورد في نفح الطيب (ج 7ص 236) صدر البيت الأول فقط.
(11) الوجازة: الإيجار. لسان العرب (وجز).
(12) في الأصل: «فهو» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/204)
قال: وأخبار ابن شاطر تحتمل كرّاسة، قلت: رأيته بفاس في أخريات عام خمسة وخمسين، وهو الآن بحاله الموصوفة، قد أربى على السّبعين.
محمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي ابن الحلفاوي
من أهل تونس، يكنى أبا عبد الله، نزيل غرناطة، ويعرف بالتّونسي وبابن المؤذن ببلده.
حاله: من «العائد»: قال: وليّ الله المجاب الدعوة، الظاهر الكرامة، المشهود له بالولاية. ورد الأندلس في جملة من تجّار بلده، وبيده مال كبير بذله في معاملة ربّه، إلى أن استأصله بالصّدقة، وأنفقه في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وتجرّد عن الدنيا، وأخذ نفسه بالصّلاة والصّوم والتّلاوة وكثرة السّجود والتّطارح على ذلك، محفوظا في ذلك كله حفظة الأولياء، مذكّرا بمن سلفه من الزّهاد، عازبا عن الدنيا، أخذ نفسه بسلوك الإيتاب عنها، رحمة للخلق، وتمالأ للمساكين، يقصده الناس بصدقاتهم، فيبثّها في ذوي الحاجات، فيتألّف في باب مسجده آلاف من رجالهم ونسائهم وصبيانهم، حتى يعمّهم الرّفد، وتسعهم الصّدقة. وكان غريب الأحوال إذا وصل وقت الصلاة يظهر عليه البشر والسّرور، ويدخل مسجده الذي ابتناه واحتفل فيه، فيخلو بنفسه آخذا في تعبّدات كثيرة غريبة شاملة لجميع أركان المسجد، ويزدحم الناس حول المسجد، وأكثرهم أهل الفاقة، فإذا تمكّن الوقت أذّن أذانا مؤثّرا في القلوب، جدى وصدقا ووقارا، كان صدره ينصدع عند قول: لا إله إلّا الله. ثم يعبد التّعبّد والسّجود في الصّومعة وأدراجها، حتى يفتح باب المسجد، وينتقل إلى صدر المحراب، فيصلي ركعات خفيفة، فإذا أقام الصلاة، ووقف عند المحراب، ظهر عليه من الخوف والكآبة والحزن والانكسار والتّضرّع والتّملّق والرّغبة، ما لا تفي العبارة بوصفه، كأن موقفه موقف أهل الجرائم بين أيدي الملوك الجبابرة. فإذا أتمّ الصلاة على أتمّ هيئاتها، ترى كأن الغبار على وجهه، أو كأنه حشر من قبر، فإذا شرع في الدّعاء بأثر الصلاة، يتلوه بترداد الصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، في كل دعوة، ويتوسّل به، وتظهر عليه أحوال من الحضور والمراقبة، وينجلي عن وجهه ما كان به. وكان يختم القرآن في شهر رمضان مائة ختمة، فما من ليلة إلّا ويحيي اللّيل كلّه فيها بمسجده. هذا ترتيبه، ولو تتبّعنا ما شوهد من كراماته وأحواله، لخرجنا عن الغرض.
ولادته: ولد بتونس في حدود الأربعين وستمائة.(3/205)
وفاته: توفي شهر ربيع الثاني عام خمسة عشر وسبعمائة. وكان الحفل في جنازته عظيما، استوعب الناس كافّة، وحضر السلطان فمن دونه، وكانت تنمّ، زعموا، على نعشه وقبره رائحة المسك. وتبرّك الناس بجنازته، وقصد قبره المرضى وأهل الحاجات، وبقي القرّاء يقرءون القرآن عليه مدة طويلة، وتصدّق على قبره بجملة من مال، ففدي به طائفة من الأسرى. وقبره بباب إلبيرة عن يمين الخارج إلى مقبرة العسّال، معروف هنالك.
محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن يوسف اللّواتي (1)
من أهل طنجة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بطّوطة (2).
حاله: من خطّ شيخنا أبي البركات، قال: هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطّلب، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، فدخل بلاد مصر والشام والعراق، وعراق العجم، وبلاد الهند والسّند، والصين، وصين الصّين، وبلاد اليمن. وحج عام ستة وعشرين وسبعمائة. ولقي من الملوك والمشايخ عالما، وجاور بمكّة. واستقرّ عند ملك الهند، فحظي لديه، وولّاه القضاء، وأفاده مالا جسيما. وكانت رحلته على رسم الصّوفية زيّا وسجيّة، ثم قفل إلى بلاد المغرب، ودخل جزيرة الأندلس، فحكى بها أحوال المشرق، وما استفاد من أهله، فكذّب. وقال: لقيته بغرناطة، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة، وحدّثنا في تلك الليلة، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقيّة وغيرها، فأخبر أنّه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطينية العظمى، وهي على قدر مدينة مسقّفة كلها، وفيها اثنا (3)
عشر ألف أسقف. قلت: وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا. وانتقل إلى العدوة، فدخل بلاد السّودان. ثم تعرّف أن ملك المغرب استدعاه، فلحق ببابه، وأمر بتدوين رحلته.
__________
(1) نسبة إلى لواته إحدى قبائل البربر.
(2) يلقب ابن بطوطة بشمس الدين ولد بطنجة سنة 703هـ، وتوفي بمراكش سنة 779هـ.
ترجمته في الدرر الكامنة (ج 3ص 480) وهدية العارفين (ج 2ص 169) ودائرة المعارف الإسلامية (ج 1ص 99) والأعلام (ج 6ص 235). وراجع أيضا مقدمة كتابه المسمى ب «رحلة ابن بطوطة» بقلم كرم البستاني.
(3) في الأصل: «اثني» وهو خطأ نحوي.(3/206)
سائر الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء وما منهم إلّا طارىء علينا أو غريب
مزدلي بن تيولتكان بن حمنى بن محمد بن ترقوت بن وربابطن ابن منصور بن نصاله بن أمية بن واباتن الصّنهاجي اللّتموني
حاله: كان الأمير مزدلي عضد القائم بالدولة اللّمتونية يوسف بن تاشفين، وقريبه لالتقائهما في ترقوت، راش به وبرى، وجزّ وفرى، فهو شيخ الدولة اللّمتونية، وكبير العصابة الصّنهاجية، بطلا ثبتا، بهمة من البهم، بعيد الصّيت، عظيم الجلد، شهير الذّكر، أصيل الرّأي، مستحكم الحنكة. طال عمره، وحمدت مواقعه، وبعدت غاراته، وعظمت في العدوّ وقائعه، وشكرت عن سلطانه نيابته.
من مناقبه: استرجاع مدينة بلنسية من أيدي الرّوم بسعيه، وردّه إلى ملكة الإسلام بحميد غنائه في منتصف رجب عام خمس وخمسمائة.
دخوله غرناطة: ولّي قرطبة وغرناطة وما إليهما من قبل يوسف بن تاشفين سنة خمس وخمسمائة.
قال ابن الصّيرفي: توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال عام ثمانية وخمسمائة، غازيا على مقربة من حصن قسطانية، طرق به إلى قرطبة، فوصل يوم الأربعاء ثاني يوم وفاته، وصلّى عليه إثر صلاة العصر الفقيه القاضي بقرطبة أبو القاسم بن حمدين، ودفنه قرب أبيه، وبنيت عليه روضة حسنة. وكان، نضّر الله وجهه، البقيّة الصالحة على نهج أمير المسلمين يوسف.
موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاني
السيد أبو عمران.
حاله: بيته معروف. وكان أديبا شاعرا، جوادا، واختصّ بالعادل، فجلّ قدره في دولته، وأمله الناس بإشبيلية في حوائجهم لمحلّه منهم. ولمّا انصرف عنها العادل إلى طلب الخلافة، قدّمه عليها، فبلغ الغاية.
وفي شوال من عام اثنين وعشرين وستمائة، كانت على جيشه الوقيعة، أوقعها به السيد أبو محمد البيّاسي، وأخباره شهيرة.
وفاته: وتوفي تغريقا في البحر بعد أن ولّي بجاية، رحمه الله وعفا عنه.(3/207)
شعره: قال: وكان أبو المطرّف بن عميرة، ينشد له، يخاطب الفقيه الأديب أبا الحسن بن حريق يستحثّه على نظم الشعر في عروض الخبب: [المتدارك]
خذ في الأشعار على الخبب ... فقصورك عنه من العجب
هذا وبنو الآداب قضوا ... بعلوّ مجدّك في الرّتب
فنظم له أبو الحسن القصيدة المشهورة، منها: [المتدارك أو الخبب]
أبعيد الشّيب هوى وصبا؟ ... كلّا لا لهوا ولا لعبا
ذرّت الستّون برادتها ... في مسك عذارك فاشتهبا
ومنها:
يا نفس أحيى أحيى تصلي أملا ... عيشي روحيا تروي عجبا
وخذي في شكر الكبرة ما ... لاح الإصباح وما ذهبا
فيها أحرزت معارف ما ... أبليت بجدّته الحقبا
والخمر إذا أعتقت وصفت ... أعلى ثمنا منها عنبا
وبقيّة عمر المرء له ... إن كان بها طبّا دربا
هبني فيها بإنابته ... ما هدّمه أيام صبا
دخل غرناطة، فوجب ذكره مع مثله.
منديل بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيّان
حاله: كان فاضلا عاقلا جوادا، عيّنه أبوه أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحقّ، للضّرب على أحواز مالقة عند الفتنة، فاضطرب المحلة تجاه سهيل (1)، وضيّق على تلك الأحواز، وبرز إليه الجيش لنظر موسى بن رحّو من قرابته النّازعين عن إيالة المغرب من بني رحّو. وكان اللقاء، فوقعت به الدّبرة، وانهزم جيشه، وقبض عليه، وسيق إلى السلطان، فتلقّاه بالبرّ، ورعى ما لبيته الكبير من الحقّ، وأسكنه مجاورا لقصره بحمرائه (2)، مرفّها عليه، محجوزا عن التصرّف، إلى أن كان
__________
(1) سهيل: بالإسبانية، وهي بلدة تقع على شاطىء البحر المتوسط، على بعد نحو ثلاثين كيلومترا إلى الغرب من مالقة.
(2) أي قصر الحمراء، مقرّ سلاطين بني نصر بغرناطة.(3/208)
ما تلاحق بهذه الحال من وفاة أبيه السلطان أبي يوسف بالجزيرة الخضراء، وتصيّر الأمر إلى ولده السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف. وتجدّدت الألفة وتأكّدت المودّة، وارتفعت الإحنة، فكان ما هو معروف من التقائهما على تعبئة إجازة ملك المغرب أبي يعقوب البحر على ظاهر مربلّة (1)، وصرف الأمير أبو زيان محبوّا بما يليق به.
حدّثني شيخنا أبو زكريا بن هذيل، رحمه الله، قال: نصب للسلطان أبي يعقوب خباء احتفل في اتخاذه له أمير سبتة، فبلغ الغاية التي تستطيعها الملوك، سموّ عماد، وامتداد ظلّ، وانفساح ساحة، إلى إحكام الصّنعة، والإعياء في الزّخرف. وقعد فيه السلطان ملك المغرب، وأجلس السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله بن الغالب بالله، عن يمينه، وأخاه الأمير أبا زيّان عن يساره، وقرأ عشاره المعروف بالوقّاد، آية الله في حسن الصّوت، وبعد مدى السّمع، وطيب النّغمة، قوله عزّ وجلّ: {يََا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنََا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنََا بِبِضََاعَةٍ مُزْجََاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنََا إِنَّ اللََّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)} {قََالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مََا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جََاهِلُونَ (89)} {قََالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قََالَ أَنَا يُوسُفُ وَهََذََا أَخِي قَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} {قََالُوا تَاللََّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللََّهُ عَلَيْنََا وَإِنْ كُنََّا لَخََاطِئِينَ (91)} {قََالَ لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ (92)} (2). فكان مقاما مبهتا. كان السلطان، رحمه الله، يقول: لشدّ ما جنى عليّ عدوّ الله بقحته، والله لقد كان يشير بيده إلى السلطان وأخيه عند قوله: أنا يوسف وهذا أخي. ثم أجاز للعدوة، فطاح بها لعهد غير بعيد.
وكان الإيقاع بجيش الأمير أبي زيّان في أخريات ذي الحجة عام أربعة وثمانين وستمائة، فاتصل بذلك موت والد أمير المسلمين أبي يوسف بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين بعده، وكان لقاء السّلطانين بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين هذه، وكان اللّقاء، كما ذكر، في شهر ربيع الآخر من العام المذكور.
__________
(1) مربلّة: بالإسبانية، وهي مدينة صغيرة مسورة، تبعد ستين كيلومترا إلى الغرب من مالقة. الروض المعطار (ص 534).
(2) سورة يوسف 12، الآيات 88، 89، 90، 91، 92.(3/209)
ومن الطارئين
المطرّف بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية (1)
حاله: كان المطرّف، ولد الخليفة (2) عبد الله أمير المسلمين بالأندلس، شجاعا مقداما، جريّا، صرفه والده الخليفة في الغزوات وقود العساكر، وهو الذي بنى حصن لوشة، ووقم كثيرا من الخوارج على والده.
دخوله غرناطة: قال ابن حيّان (3): غزا المطرّف ببشتر (4) بسبب ابن حفصون، إذ كان صالح الأمير عبد الله، ودفع رهينة ابنه، فلما امتحن الطّفل وجد غير ابنه، فنهض إليه المطرّف، وكان القائد على العسكر قبله عبد الملك بن أمية، فنهض صحبته، ونازل المطرّف ابن حفصون، فهتك حوزته، وتقدّم إلى بنية كان ابتناها بموضع يعرف باللّويّات (5)، فشرع في خرابها، وخرج ابن حفصون ومن معه من النّصرانية يدافع عنها، وعن كنيسة كانت بقربها، فغلب ابن حفصون، وهدمت الكنيسة، وقتل في هذه الحرب حفص بن المرّة، قائده ووجوه رجاله، وعند الفراغ من ذلك انصرف المطرّف، فدخل كورة إلبيرة، وبنا لوشة، وتقدّم منها إلى إلبيرة ودخلها، ثم طاف بتلك الجهات والحصون، ثم انصرف.
ذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب الإحنة بينه وبين أبيه.
قال (6): وفي هذه الحركة أوقع بعبد الملك بن أمية لما كان في نفسه لصرف والده عن عقد البيعة له وتمزيق العهد في خبر يطول. وكان والده قد أخذ عليه
__________
(1) ترجمة المطرف وأخباره في المقتبس بتحقيق الدكتور إسماعيل العربي (ص 105102، 137131) والمغرب (ج 1ص 182) وأعمال الأعلام (القسم الثاني بتحقيق ليفي بروفنسال (ص 2928) والبيان المغرب (ج 2ص 150).
(2) لم يكن عبد الله بن محمد خليفة، بل كان أميرا، وقد حكم الأندلس من سنة 275هـ إلى سنة 300هـ.
(3) قول ابن حيان في المقتبس بتحقيق الدكتور إسماعيل العربي (ص 131130) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف.
(4) ببشتر: بالإسبانية، وهي حصن منيع بالأندلس، بينه وبين قرطبة ثمانون ميلا. الروض المعطار (ص 79).
(5) في المقتبس: «المعروف بالعرمات».
(6) قول ابن حيان في المقتبس بتحقيق العربي (ص 137133) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف. ومقتل عبد الملك بن أمية كان في سنة 282هـ.(3/210)
الميثاق عند خروجه إلى شذونة (1) ألّا يعرض إليه بمكروه، وأقسم له بالأيمان، لئن نال منه شيئا ليعاقبنّه بمثله، فلمّا قتله، عقد الوثائق عليه، وأخذ الشّهادات فيها بالظّلم والشّؤم خوفا من أبيه، وكتب إليه يعتذر له، ويحكّمه في نفسه.
مقتل المطرّف: قال (2): وظهرت عليه فعال قبيحة، من أذى جيرانه بما أكّد غائلة أبيه عليه، وأعان عليه معاوية بن هشام، لما ذكروا أنّ المطرّف كان قد خلا به، فذكروا أنه نزل يوما عنده بمنزله، وأخذوا في حديث الأبناء، وكان المطرّف عقيما، فدعا معاوية بصبيّ يكلف به، فجات وبرأسه ذؤابتان، فلمّا نظر إليه المطرّف حسده، وقال: يا معاوية، أتتشبّه بأبناء الخلفاء في بنيهم؟ وتناول السّيف فحزّ به الذّؤابة، وكان معاوية حيّة قريش دهاء ومكرا، فأظهر الاستحسان لصنعه وانبسط معه في الأنس، وهو مضطغن، فلمّا خرج كتب إلى الخليفة يسأله اتّصاله إليه، فلما أوصله كاشفه في أمر المطرّف بما أزعجه، وأقام على ذلك ليلا أحكم أمره عند الخليفة بلطف حيلته، فأصاب مقتله سهم سعايته. قال ابن الفيّاض: بعث الأمير عبد الله إلى دار ولده المطرّف عسكرا للقبض عليه، مع ابن مضر، فقوتل في داره حتى أخذ، وجيء به إليه، فتشاور الوزراء في قتله، فأشار عليه بعضهم أن لا يقتله، وقال بعضهم: إن لم تقتله قتلك، فأمر ابن مضر بصرفه إلى داره، وقتله فيها، وأن يدفنه تحت الرّيحانة التي كان يشرب الخمر تحتها، وهو ابن سبع وعشرين وسنة، وذلك في يوم الأحد ضحى لعشر خلون من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
منذر بن يحيى التّجيبي (3)
أمير الثّغر، المنتزي بعد الجماعة بقاعدة سرقسطة، يكنى أبا الحكم، ويلقّب بالحاجب المنصور، وذي الرّياستين.
حاله: قال أبو مروان (4): وكان أبو الحكم رجلا من عرض الجند، وترقّى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر، وتناهى أمره في الفتنة إلى
__________
(1) شذونة: بالإسبانية وهي كورة متصلة بكورة مورور، نزلها جند فلسطين من العرب بعيد الفتح. الروض المعطار (ص 339).
(2) القول لابن حيان، والنص في المقتبس بتحقيق إسماعيل العربي (ص 137133) ولكن ابن الخطيب يورده هنا بتصرف.
(3) ترجمة منذر بن يحيى التجيبي في المغرب (ج 2ص 435) وأعمال الأعلام (القسم الثاني بتحقيق ليفي بروفنسال) (ص 196) والذخيرة (ق 1ص 180) والبيان المغرب (ج 3ص 175).
(4) النص في الذخيرة (ق 1ص 181180) والبيان المغرب (ج 3ص 176175) وأعمال(3/211)
الإمارة (1). وكان أبوه من الفرسان غير النّبهاء. فأمّا ابنه منذر، فكان فارسا نقيّ الفروسة (2)، خارجا عن مدى الجهل، يتمسك بطرف من الكتابة السّاذجة. وكان على غدره، كريما، وهب قصّاده مالا عظيما، فوفدوا عليه، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة، فحسنت أيامه، وهتف المدّاح بذكره.
وفيه يقول أبو عمرو بن درّاج القسطلّي قصيدته المشهورة، حين صرف إليه وجهه، وقدم عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة (3): [الكامل]
بشراك من طول التّرحّل والسّرى ... صبح بروح السّفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدّجى ... فجرا بأنهار الذّرى (4) متفجّرا
نادى (5) بحيّ على الندى ثم اعتلى ... سبل (6) العفاة مهلّلا ومكبّرا
لبّيك أسمعنا نداك ودوننا ... نوء الكواكب مخويا أو ممطرا
من كلّ طارق ليل همّ (7) ينتحي ... وجهي بوجه من لقائك أزهرا
سار ليعدل عن سمائك أنجمي ... وقد ازدهاها عن سناك محيّرا
فكأنما أعدته (8) أسباب النّوى ... قدرا لبعدي عن يديك مقدّرا (9)
أو غار من هممي فأنحى شأوها ... فلك البروج مغرّبا ومغوّرا
حتى علقت النّيّرين فأعلقا ... مثنى يدي ملك الملوك النّيّرا
فسريت في حرم الأهلّة مظلما ... ورفلت في خلع السّموم مهجّرا
وشعبت أفلاذ الفؤاد ولم أكد ... فحذوت من حذو الثّريّا منظرا
ستّ تسرّاها (10) الجلاء مغرّبا ... وحدا بها حادي النّجاء (11) مشمّرا
لا يستفيق الصّبح منها ما بدا ... فلقا ولا جدي الفراقد ما سرى
__________
الأعلام (ص 196).
(1) في الذخيرة: «إلى نيل الإمارة».
(2) في الذخيرة وأعمال الأعلام: «لبق الفروسيّة».
(3) القصيدة في ديوان ابن دراج القسطلي (ص 131124) وفي أعمال الأعلام (ص 198 200) 51بيتا. وقد أورد منها ابن بسام في الذخيرة (ص 181180) 24بيتا لم ترد هنا.
(4) في الديوان وأعمال الأعلام: «النّدى».
(5) في أعمال الأعلام: «ناديت حيّ».
(6) في أعمال الأعلام: «سيل».
(7) في الديوان: «همّي».
(8) في الديوان: «أغرته».
(9) رواية عجز البيت في الأصل هي:
نور الهدى عن يديك منوّرا
وكذا لا يستقيم الوزن، والتصويب من الديوان.
(10) في أعمال الأعلام: «تسدّاها».
(11) في المصدر نفسه: «النواء».(3/212)
ظعن ألفن القفر في غول الدّجى ... وتركن مألوف المعاهد مقفرا
يطلبن لجّ البحر حيث تقاذفت ... أمواجه والبرّ حيث تنكّرا
هيم وما يبغين دونك موردا ... أبدا ولا عن بحر جودك مصدرا
من كلّ نضو الآل محبوك المنى ... يزجيه نحوك كلّ محبوك القرا (1)
بدن فدت منّا دماء نحورها ... ببغائها (2) في كلّ أفق منحرا
نحرت بنا صدر الدّبور فأنبطت ... فلق المضاجع تحت جوّ أكدرا
وصبت إلى نحو (3) الصّبا فاستخلصت ... سكن الليالي والنّهار المبصرا
خوص نفخن بنا البرى حتى انثنت ... أشلاؤهن كمثل أنصاف البرا
ندرت لنا أن لا تلاقي راحة ... مما تلاقي أو تلاقي منذرا (4)
وتقاسمت أن لا تسيغ حياتها ... دون ابن يحيى (5) أو تموت فتعذرا
لله أيّ أهلّة بلغت بنا ... يمناك يا بدر السماء المقمرا
بل أيّ غصن في ذراك هصرته ... فجرى (6) فأورق في يديك وأثمرا
فلئن صفا ماء الحياة لديك لي ... فبما شرقت إليك بالماء الصّرى (7)
ولئن خلعت عليّ بردا أخضرا ... فلقد لبست إليك عيشا أغبرا
ولئن مددت عليّ ظلّا باردا ... فلكم صليت إليك جوّا (8) مسعرا
وكفى لمن (9) جعل الحياة بضاعة ... ورأى رضاك بها رخيصا فاشترى
فمن المبلّغ عن غريب نازح ... قلبا يكاد عليّ أن يتفطّرا
لهفان لا يرتدّ طرف جفونه (10) ... إلّا تذكّر عبرتي فاستعبرا
أبنيّ، لا تذهب بنفسك حسرة ... عن غول رحلي منجدا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوقي داجيا ... فلقد لقيت الصّبح بعدك أزهرا
ولقد وردت مياه مأرب حفّلا ... وأسمت خيلي وسط جنّة عبقرا
ونظمت للغيد الحسان قلائدا ... من تاج كسرى ذي البهاء وقيصرا
__________
(1) القرا: الظهر.
(2) في أعمال الأعلام: «ببقائها». والبغاء: الطلب.
(3) في المصدر نفسه: «نحر».
(4) هو منذر بن يحيى، ممدوح ابن دراج.
(5) ابن يحيى: هو منذر بن يحيى، المقدّم ذكره.
(6) في الديوان: (نخر).
(7) الماء الصّرى: الذي طال استنقاعه.
(8) في أعمال الأعلام: «حرّا».
(9) في الديوان: «وكفاك من».
(10) في أعمال الأعلام: «لا يرتد في أجفانه».(3/213)
وحللت أرضا بدّلت حصباؤها ... ذهبا يرفّ (1) لناظريّ وجوهرا
وليعلم (2) الأملاك أنّي بعدهم ... ألفيت كلّ الصّيد في جوف الفرا (3)
ورمى عليّ رداءه من دونهم ... ملك تخيّر للعلا فتخيّرا
ضربوا قداحهم عليّ ففاز بي ... من كان بالقدح المعلّى أجدرا
من فكّ طرفي من تكاليف الفلا ... وأجار طرفي من تباريح السّرى
وكفى عتابي من ألام معذّرا ... وتذمّمي ممّن تجمّل (4) معذرا
ومسائل عنّي الرفاق وودّه ... لو تنبذ الساحات (5) رحلي بالعرا
وبقيت في لجج الأسى متضلّلا ... وعدلت عن سبل الهدى متحيّرا
كلّا وقد آنست من هود هدى ... ولقيت يعرب في القيول وحميرا
وأصبت في سبإ مورّث ملكه ... يسبي الملوك ولا يدبّ لها الضّرا
فكأنما تابعت تبّع رافعا ... أعلامه ملكا يدين له الورى
والحارث الجفنيّ ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد مبذول القرى
وحططت رحلي بين ناري حاتم ... أيام يقري موسرا أو معسرا
ولقيت زيد الخيل تحت عجاجة ... تكسو (6) غلائلها الجياد الضّمّرا
وعقدت في يمن مواثق ذمّة ... مشدودة الأسباب موثقة العرى
وأتيت بحدل (7) وهو يرفع منبرا ... للدّين والدّنيا ويخفض منبرا
وحططت (8) بين جفانها وجفونها ... حرما أبت حرماته أن تخفرا
تلك البحور (9) تتابعت وخلفتها ... سعيا فكنت الجوهر المتخيّرا
ولقد نموك ولادة وسيادة ... وكسوك عزّا وابتنوا لك مفخرا
__________
(1) في أعمال الأعلام: «يروق».
(2) في أعمال الأعلام: «ولتعلم».
(3) أخذه من المثل: «كلّ الصّيد في جوف الفرا». يضرب لمن يفضّل على أقرانه. والفرا: الحمار الوحشي وجمعه فراء. مجمع الأمثال (ج 2ص 136).
(4) في الأصل: «تحمّل» بالحاء المهملة، والتصويب من المصدرين.
(5) في الأصل: «السانحات» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى، والتصويب من أعمال الأعلام. وفي الديوان: «السادات».
(6) في الأصل: «يكسو»، وكذا في الديوان، والتصويب من أعمال الأعلام.
(7) هو بحدل بن أنيف الكلبي، الذي تزوج معاوية بن أبي سفيان من بنته ميسون والدة ابنه يزيد، وقد كان لقبيلة كلب اليمنية التي ينتسب إليها بحدل أعظم البلاء في نصرة الدعوة الأموية.
(8) في أعمال الأعلام: «وخططت» بالخاء المعجمة.
(9) في المصدر نفسه: «البدور».(3/214)
فممرت بالآمال (1) أكرم أكرم ... ملكا ورثت علاه أكبر أكبرا
وشمائل عبقت بها سبل الهدى ... وذرت على الآفاق مسكا أذفرا
أهدى إلى شغف القلوب من الهوى ... وألذّ في الأجفان من طعم الكرى
ومشاهد لك لم تكن أيّامها ... ظنّا يريب ولا حديثا يفترى
لاقيت فيها الموت أسود أدهما ... فذعرته بالسّيف أبيض أحمرا
ولو اجتلى في زيّ قرنك معلما ... لتركته تحت العجاج معفّرا
يا من تكبّر بالتّكرّم (2) قدره ... حتى تكرّم أن يرى متكبّرا
والمنذر الأعداء بالبشرى لنا ... صدقت صفاتك منذرا ومبشّرا
ما صوّر الإيمان في قلب امرئ ... حتى يراك الله فيه مصوّرا
فارفع لها علم الهدى فلمثلها ... رفعتك أعلام السيادة في الذّرى
وانصر نصرت من السماء فإنما ... ناسبت أنصار النبيّ لتنصرا
واسلم ولا وجدوا لجوّك منفسا ... في النائبات ولا لبحرك معبرا
سيرته: قال (3): وساس لأول ولايته عظيم الفرنحة (4)، فحفظت أطرافه، وبلغ من استمالته طوائف النّصرانية، أن جرى على يديه بحضرته عقد مصاهرة بعضهم (5)، فقرفته الألسنة لسعيه في نظام سلك النصارى. وعمر به الثّغر إلى أن ألوت به المنيّة.
وقد اعترف له الناس بالرّأي والسّياسة.
كتّابه: واستكتب عدّة كتّاب كابن مدوّر، وابن أزرق، وابن واجب، وغيرهم.
وصوله إلى غرناطة: وصل غرناطة صحبة الأمير المرتضى الآتي ذكره، وكان ممن انهزم بانهزامه. وذكروا أنه مرّ بسليمان بن هود، وهو مثبت للإفرنج الذين كانوا في المحلّة لا يريم موقفه (6)، فصاح به النّجاة: يا ابن الفاعلة، فلست أقف عليك، فقال له سليمان: جئت والله بها صلعا، وفضحت أهل الأندلس، ثم انقلع وراءه.
__________
(1) في الديوان: «فعمرت بالإقبال».
(2) في أعمال الأعلام: «يا من تكرّم بالتكبّر».
(3) النص في الذخيرة (ق 1ص 181) وأعمال الأعلام (ص 197) والبيان المغرب (ج 3ص 177176).
(4) في الذخيرة والبيان المغرب: «عظماء الإفرنج»، وفي أعمال الأعلام: «عظماء الفرنجة».
(5) أجرى منذر مصاهرة بين ريموند الجليقي وشانجه القشتالي، حيث تزوج شانجه بابنة ريموند، حسبما جاء في الذخيرة.
(6) لا يريم موقفه: لا يبرحه.(3/215)
وفاته: وكانت (1) على يدي رجل من أبناء عمّه يدعى عبد الله بن حكم، كان مقدّما في قوّاده، أضمر غدره، فدخل عليه، وهو غافل في غلالة، ليس عنده إلّا نفر من خواصّ خدمه الصّقلب، قد أكبّ على كتاب يقرؤه، فعلاه بسكّين أجهز به عليه.
وأجفل الخدم إلّا شهم منهم أكبّ عليه فمات معه. وملك سرقسطة، وتمسّك بها أياما، ثم فرّ عنها، وملكها ابن هود. وكان الإيقاع به غرة ذي حجة سنة ثلاثين وأربعمائة، رحمة الله عليه.
موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى ابن يغمراسن بن زيّان (2)
الأمير بتلمسان، يكنى أبا حمّو.
أوليته: أوّليته معروفة تنظر فيما سلف من الأسماء.
حاله: هذا السلطان مجمع على حزمه، وضمّه لأطراف ملكه، واضطلاعه بأعباء ملك وطنه، وصبره لدولة قومه، وطلوعه بسعادة قبيله. عاقل، حازم، حصيف، ثابت الجأش، وقور مهيب، جمّاعة للمال، مباشر للأمور، هاجر للّذات، يقظ، متشمّر. قام بالأمر غرّة ربيع الأول في عام ستين (3)، مرتاش الجناح بالأحلاف من عرب القبلة، معوّلا عليهم عند قصد عدوّه، وحلب ضرع الجباية، فأثرى بيت ماله، ونبهت دولته، واتّقته جيرته، فهو اليوم ممن يشار إليه بالسّداد.
أدبه وشعره: ووجّه لهذا العهد في جملة هدايا ودّية، ومقاصد سنيّة، نسخة من كتابه المسمى ب «واسطة السّلوك، في سياسة الملوك» (4)، افتتحه بقوله:
«الحمد لله الذي جعل نعمته على الخلق، بما ألّفهم عليه من الحقّ، شاملة شائعة، ويسّر طوائف من عباده لليسرى فأتت إليها مساعدة مسارعة، وحضّهم على الأخذ بالحسنى ولا أحسن من نفوس أرشدت فأقبلت لإرثها طالبة ولربّها طائعة، ولا أسمى من همم نظرت بحسن السّياسة في تدبير الرّياسة التي هي لأشتات الملك
__________
(1) قارن بالذخيرة (ق 1ص 186185) والبيان المغرب (ج 3ص 178).
(2) ترجمة أبي حمّو موسى بن يوسف الزياني في التعريف بابن خلدون (ص 96) وأزهار الرياض (ج 1ص 238، 244) ونفح الطيب (ج 9ص 214، 342) وهدية العارفين (ج 2ص 480) ودائرة المعارف الإسلامية (ج 1ص 328) والأعلام (ج 7ص 331).
(3) أي سنة سبعمائة وستين.
(4) هذا الكتاب مطبوع، وجاء في هدية العارفين (ج 2ص 480) أن له كتابا اسمه. «قلائد الدرر في سياسة الملك».(3/216)
جامعة، ولأسباب الملك مانعة، وأظهرت من معادنها درر الحكم وغرر الكلم لائحة لامعة، فاجتلت أقمارها طالعة، واجتنت أزهارها يانعة. وصلى الله على سيدنا محمد الكريم المبعوث بالآيات البيّنات ساطية ساطعة، والمعجزات المعجمات قاصمة لظهور الجاحدين قاطعة، الذي زويت له الأرض فتدانت أفكارها وهي نابية شاسعة، واشتاقت له المياه فبرزت بين أصابعه يانعة، وامتثل السّحاب أمره فسحّ باستسقائه دررا هامية هامعة، وحنّ الجذع له وكان حنينه لهذه الآيات الثّلاث آية رابعة، إلى ما لا يحصى مما أتت به متواترات الأخبار وصيحات الآثار ناصرة لنبوّته ساطعة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وعترته التي أجابت داعي الله خاشية خاشعة، وأذعنت لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من الاستبداد خالية وللأنداد خالعة، صلاة ديمتها دائمة متتابعة، وسلّم كثيرا».
جمع فيه الكثير من أخبار الملوك وسيرهم، وخصّ به ولده ووليّ عهده، فجاء مجموعا يستظرف من مثله، ويدلّ على مكانه من الأدب ومحلّه.
وثبت فيه الكثير من شعره، فمن ذلك قصيدة أجاب فيها أحد رؤوس القبائل، وقد طلب منه الرجوع إلى طاعته، والانتظام في سلك جماعته، وهي:
[الطويل]
تذكّرت أطلال الرّبوع الطّواسم ... وما قد مضى من عهدها المتقادم
وقفت بها من بعد بعد أنيسها (1) ... بصبر مناف أو بشوق ملازم
تهيم بمغناهم وتندب ربعهم ... وأيّ فؤاد بعدهم غير هائم؟
تحنّ إلى سلمى ومن سكن الحمى ... وما حبّ سلمى للفتى بمسالم
فلا تندب الأطلال واسل عن الهوى ... ولا تقل في تذكار تلك المعالم
فإن الهوى لا يستفزّ ذوي النّهى ... ولا يستبي إلّا الضّعيف العزائم
صبور على البلوى طهور من الهوى ... قريب من التّقوى بعيد المآثم
ومن يبغ درك المعلوات ونيلها ... يساق بخلق الشّهد مرّ العلاقم
ولائمة لمّا ركبنا إلى العلا ... بحار الردى في لجّها المتلاحم
تقول بإشفاق: أتنسى هوى الدّما ... وتنثر درّا (2) من دموع سواجم؟
إليك فإنّا لا يردّ اعتزامنا ... مقالة باك أو ملامة لائم
ألم تدر أنّ اللوم لوم وأننا ... لنجتنب اللّوم اجتناب المحارم؟
__________
(1) في الأصل: «أنسها» وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «دررا»، وكذا ينكسر الوزن.(3/217)
فما بسوى العلياء (1) همنا جلالة ... إذا هام قوم بالحسان النّواعم
بروق السّيوف المشرفيّات والقنا ... أحبّ إلينا من بروق المباسم
وأمّا صميل السّابحات لذي الوغى ... فأشجى لدينا من غناء (2) الحمائم
وأحسن من قدّ الفتاة وخدّها ... قدود العوالي أو خدود الصوارم
إذا نحن جرّدنا الصوارم لم تعد ... إلى غمدها إلّا بجرّ الغلاصم (3)
نواصل بين الهندواني الطّلاء (4) ... بتفريق ما بين الطّلى والجماجم
فيرغب منّا السّلم كلّ محارب ... ويرهب منّا الحرب كلّ مسالم
نقود إلى الهيجاء كلّ مضمّر ... ونقدم إقدام الأسود الضّراغم
وما كلّ من قاد الجيوش إلى العدا ... يعود إلى أوطانه بالغنائم
وننصر مظلوما ونمنع ظالما ... إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم
ويأوي إلينا المستجير ويلتجي ... ويحميه منّا كلّ ليت ضبارم (5)
ألم تر إذ جاء السّبيعيّ قاصدا ... إلى بابنا يبغي التماس المكارم؟
وذلك لمّا أن جفاه صحابه ... وكلّ خليل ودّه غير دائم
وأزمع إرسالا إلينا رسالة ... بإخلاص ودّ واجب غير واجم
وكان رأى أنّ المهامه بيننا ... فخلّى لذات الخفّ ذات المناسم
وقال ألا سل من عليم مجرّب ... أبثّ له ما تحت طيّ الحيازم
فيبلغ عنه الآن خير رسالة ... تؤدّي إلى خير الملوك الأعاظم
على ناقة وجناء كالحرف ضامر ... تخيّرها بين القلاص الرّواسم
من اللائي يظلمن الظليم إذا عدى ... ويشبهه في جيده والقوائم
إذا أتلعت فوق السّحاب جوابها ... تخيّلتها بعض (6) السحاب الرّواكم
وإن هملجت بالسّير في وسط مهمه ... نزلت كمثل البرق لاح لشائم
ولم يأمن الخلّان بعد اختلالهم ... فأمسى وفي أكبادها أيّ جاحم
__________
(1) في الأصل: «العليا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «غنا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) رواية عجز البيت في الأصل هي:
إلّا غمادها الأبحر الغلاصم
وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. والغمد: جفن السيف. والغلاصم: جمع غلصمة وهو اللحم ما بين الرأس والعنق، والمراد قطع الرقاب.
(4) في الأصل: «الطّلا»، وكذا ينكسر الوزن.
(5) في الأصل: «صيارم»، وكذا لا معنى له. والأسد الضّبارم: المجتمع الخلق موثّقه.
(6) في الأصل: «تعضّ»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/218)
فقالوا فحمّلها الحمائم قال لا ... لبعد المدى أو خوف صيد الحمائم
وما القصد إلّا في الوصول بسرعة ... فقالوا: فحمّلها أكفّ النواسم
فقال: لنعم المرسلات وإنّما ... لها ألسن مشهورة بالنّمائم
فلم يلف فيها للأمانة موضعا ... وكلّ امرئ للسّرّ ليس بكاتم
فحينئذ وافى إلينا بنفسه ... فكان لدينا خير واف وقادم
يجوب إلى (1) البيداء قصدا وبشرنا ... يضيء له الظّلماء في كلّ عاتم
طلاب العلا تسري مع الوحش في الفلا ... ويصحب منها كلّ باغ وباغم
على سلهب (2) ذي صورتين مطعّم (3) ... من المغربات الصّافنات الصّلادم (4)
إذا شاء أيّ الوحش أدركه به ... فتحسبه في البيد بعض النّعائم
ويقدمه طوعا إلينا رجاؤه ... حمايتنا إيّاه من كلّ ظالم
ألا أيها الآتي لظلّ حناننا ... نزلت برحب في عراص المكارم
وقوبلت منّا بالذي أنت أهله ... وفاض عليك الجود فيض الغمائم
كذا دأبنا للقادمين محلّنا ... حمى وندى ينسى به جود حاتم
وهذا جواب عن نظامك إنّنا ... بعثنا به كاللؤلؤ المتناظم
ونحن ذوو التيجان من آل حمير ... لعمرك من التّيجان غير العمائم
بهمّتنا العليا سمونا إلى العلا ... وكم دون إدراك العلا من ملاحم
شددنا لها أزرا وشدنا بناءها ... وكم مكثت دهرا بغير دعائم
نظمنا شتيت المجد بعد افتراقه ... وكم بات نهبا شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد جماحها ... فذلّت وقد كانت صعاب الشّكائم
مناقب زيّانيّة (5) موسويّة ... يذلّ لها عزّ الملوك القماقم
يقصّر عن إدراكها كلّ مبتغ ... ويعجز عن إحصائها كلّ ناظم
فلله منّا الحمد والشّكر دائما ... وصلّى (6) على المختار من آل هاشم
ونختصّكم منّا السّلام الأثير ما ... تضاحك روض عن بكاء الغمائم
__________
(1) في الأصل: «إلينا»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) الفرس السّلهب: الطويل.
(3) في الأصل: «ذي صوتين مطعم» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) الصافنات: الخيل القائم على ثلاث. والصلادم: جمع صلدم وهو الصّلب الشديد.
(5) نسبة إلى زيّان الذي ينتمي إليه الأمير أبو حمّو موسى بن يوسف بن زيّان.
(6) في الأصل: «وصلّى الله على»، وكذا ينكسر الوزن.(3/219)
قلت: ولمّا تعرّفت كلفه بالأدب والإلمام بمجاورته، عزمت على لقائه، وتشوّقت عند العزم على الرّحلة الحجازية، إلى زيارته، ولذلك كنت أخاطبه بكلمة منها: [الطويل]
على قدر قد جئت قومك يا موسى ... فجلّت بك النّعمى وزالت بك البوسى
فحالت دون ذلك الأحوال، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد، وفّقه الله، وسائر من تولّى أمرا من أمور المسلمين.
وجرى ذكره في رجز الدول (1) من نظمي: [الرجز]
بادرها المفدي الهمام موسى ... فأذهب الرحمن عنها البوسى
جدّد فيها الملك لمّا أخلقا ... وبعث السّعد وقد كان لقا
ورتّب الرّتب والرّسوما ... وأطلع الشّموس والنّجوما
واحتجن المال بها والعدّه ... وهو بها باق لهذي المدّة
ولادته: ولد بمدينة غرناطة حسبما وقعت عليه بخط الثّقة من ناسه، في أول عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة (2).
مبارك ومظفّر الأميران موليا المنصور بن أبي عامر (3)
حالهما: قال أبو مروان (4): ترقّيا إلى تملّك بلنسية من وكالة السّاقية، وظهر من سياستهما وتعاوضهما (5) صحّة الألفة طول حياتهما، ما فاتا به في معناهما (6) أشقّاء الأخوّة وعشّاق الأحبّة، إذ نزلا معا بقصر الإمارة مختلطين، تجمعهما مائدة واحدة من غير تميّز في شيء، إلّا الحرم خاصّة. وكان التّقدّم لمبارك في المخاطبة، وحفظ رسوم الإمارة، أفضل صرامة وذكرا، قصر عنهما مظفّر، لدماثة خلقه، وانحطاطه
__________
(1) رجز الدول: هو نفسه كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» لابن الخطيب.
(2) قتل أبو حمو في معركة دبّرها ابنه عبد الرحمن بالاتفاق مع بني مرين، وذلك بموضع يقال له «الغيران» يبعد نصف يوم عن تلمسان، في 4ذي الحجة سنة 791هـ.
(3) أخبار مبارك ومظفر في أعمال الأعمال القسم الثاني ص 222) والذخيرة (ق 3ص 14) والمغرب (ج 2ص 299) والبيان المغرب (ج 3ص 158).
(4) قارن بالذخيرة (ق 3ص 1514، 18) والبيان المغرب (ج 3ص 159158) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 222).
(5) في أعمال الأعلام: «وتقارضهما».
(6) في الأصل: «معناها» والتصويب من المصادر.(3/220)
لصاحبه في سائر أمره، على نحلته (1) بكتابة ساذجة وفروسة (2)، فبلغا الغاية من اقتناء الأسلحة والآلات الملوكية، والخيل المغربات، ونفيس الحلي والحلل، وإشادة البناء للقصور. واشتمل هذا الرأي على جميع أصحابهما، ومن تعلّق بهما من وزرائهما وكتّابهما، ولم يعرض لهما عارض إنفاق (3) بتلك الآفاق، فانغمسا في النّعيم إلى قمم رؤوسهما حتى انقضى أمرهما.
قال (4): وكان موت مبارك أنه ركب يوما من قصر بلنسية، وقد تعرّض أهلها مستغيثين من مال افترضه عليهم، فقال لهم: إن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعمّ المسلمين نفعه فلا تؤخّر عقوبتي يومي هذا. وركب إثر ذلك، فلما أتى القنطرة، وكانت من خشب، خرجت رجل فرسه من حدّها فرمى به أسفلها، واعترضته خشبة ناتئة (5) شرخت وجهه، وسقط الفرس عليه، ففاضت نفسه، وكفاهم الله أمره يومئذ.
وفي مبارك ومظفّر يقول أبو عمرو بن درّاج القسطلّي، رحمه الله (6): [الطويل]
أنورك أم أوقدت بالليل نارك
لباغ قراك أو لباغ جوارك؟
وريّاك أم عرف المجامر أشعلت
بعود الكباء والألوّة (7) نارك؟
ومبسمك الوضّاح أم ضوء بارق
حداه دعائي أن يجود ديارك؟
وخلخالك استنضيت أم قمر بدا؟
وشمس تبدّت أم ألحت سوارك؟
__________
(1) في أعمال الأعلام: «على تحلّيه».
(2) في المصادر: «وفروسيّة».
(3) في أعمال الأعلام: «اتفاق».
(4) قارن بالذخيرة (ق 3ص 20) والبيان المغرب (ج 3ص 163) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 225).
(5) في الذخيرة: «نابية شدخت». وفي أعمال الأعلام: «ثانية شدخت».
(6) ديوان ابن دراج القسطلي (ص 108101). وورد منها في الذخيرة (ق 3ص 1211) فقط خمسة أبيات. وفي المغرب (ج 2ص 299) بيت واحد. وورد معظمها في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 225223) ولكن بروي مختلف، فجاء بكاف مفتوحة تتبعها ألف، أي باستعمال ضمير المخاطب المذكر، هكذا: (جواركا).
(7) الكباء: ضرب من العود يتبخّر به. وكذلك الألوّة.(3/221)
وطرّة صبح أم جبينك سافرا
أعرت الصباح نوره أم أعارك؟
وأنت هجرت (1) الليل إذ هزم الضّحى
كتائبه والصّبح لمّا استجارك
فللصّبح فيما بين قرطيك مطلع
وقد سكن الليل البهيم خمارك
فيا لنهار لا يغيض (2) ظلامه
ويا لظلام لا يغيض (3) نهارك
ونجم الثّريّا أم لآل تقسّمت
يمينك إذ ضمّختها أم يسارك؟
لسلطان (4) حسن في بديع محاسن
يصيد القلوب النّافرات نفارك
وجند غرام في دروع (5) صبابة
تقلّدن أقدار الهوى واقتدارك
هو الملك لا بلقيس أدرك شأوها
مداك ولا الزّبّاء شقّت غبارك
وقادحة (6) الجوزاء راعيت موهنا
بحرّ هواك أم ترسّمت (7) دارك؟
وطيفك أسرى فاستثار تشوّقي
إلى العهد أم شوقي إليك استثارك؟
وموقد (8) أنفاسي إليك استطارني
أم الرّوح لمّا ردّ فيّ استطارك؟
فكم جزت من بحر إليّ ومهمه
يكاد ينسّي المستهام ادّكارك
__________
(1) في الديوان وأعمال الأعلام: «أجرت».
(2) في أعمال الأعلام: «لا يغيظ».
(3) في أعمال الأعلام: «لا يغيظ».
(4) في أعمال الأعلام: «بسلطان».
(5) في أعمال الأعلام: «ضلوع».
(6) في الديوان وأعمال الأعلام: (وقادمة).
(7) في أعمال الأعلام: «توسّمت».
(8) في الديوان وأعمال الأعلام: «ومرتدّ».(3/222)
أذو (1) الحظّ من علم الكتاب حداك (2) لي؟
أم الفلك الدّوّار نحوي أدارك (3)؟
وكيف كتمت الليل وجهك مظلما
أشعرك أعشيت (4) السّنا أم شعارك؟
وكيف اعتسفت (5) البيد لا في ظعائن
ولا شجر الخطّيّ حفّ شجارك (6)؟
ولا أذّن الحيّ الجميع برحلة
أراح لها راعي المخاض عشارك (7)
ولا أرزمت (8) خوص المهاري مجيبة
صهيل جياد يكتنفن قطارك (9)
ولا أذكت الرّكبان عنك عيونها (10)
حذار عيون لا ينمن حذارك
وكيف رضيت الليل ملبس طارق
وما ذرّ قرن الشمس إلّا استنارك؟
وكم دون رحلي من بروج (11) مشيدة
تحرّم من قرب المزار مزارك
وقد زأرت حولي أسود تهامست
لها الأسد أن كفّي عن السّمع زارك
وأرضي سيول من خيول مظفّر
وليلي (12) نجوم من سماء (13) مبارك
__________
(1) في أعمال الأعلام: «إذا».
(2) في الذخيرة: «هداك».
(3) في أعمال الأعلام: «يحمي ادّكارك».
(4) في الديوان وأعمال الأعلام «أغشيت» بالغين المعجمة.
(5) في أعمال الأعلام: «عسفت».
(6) الشّجار، بفتح الشين وكسرها: هو خشب هوادج النساء.
(7) العشار من الإبل: الحوامل التي مضت عليها عشرة أشهر.
(8) في أعمال الأعلام: «أزحت».
(9) القطار: هو أن تشدّ الإبل على نسق واحدا خلف واحد.
(10) إذكاء العيون: هو إرسال الطلائع.
(11) في الديوان: «قصور».
(12) في أعمال الأعلام: «وليل».
(13) في الذخيرة: «رماح». وفي أعمال الأعلام: «سيوف».(3/223)
بحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى
هلمّي إلى عينين (1) جادا سرارك (2)
هلمّي إلى بحرين قد مرج النّدى
عبابيهما لا يسأمان انتظارك
هلمّي إلى سيفين والحدّ واحد
يجيران من صرف الحوادث جارك
هلمّي إلى طرفي رهان تقدّما
إلى الأمد الجالي عليك اختيارك
هلمّي إلى قطبي نجوم كتائب
تنادي نجوم التّعس غوري مغارك (3)
وحيّي على دوحين جاد (4) نداهما
ظلالك واستدنى إليك (5) ثمارك
وبشراك قد فازت قداحك بالعلا (6)
وأعطيت من هذا الأنام خيارك
شريكان في صدق المنى وكلاهما
إذا قارن (7) الأقران غير مشارك
هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى
وقد أوثق الدهر الخؤون إسارك
وسلّا سيوفا لم تزل تلتظي أسّى (8)
بثأرك حتى أدركا لك ثارك
ويهنيك يا دار الخلافة منهما
هلالان لاحا يرفعان منارك
كلا القمرين بين عينيه غرّة
أنارت (9) كسوفيك وجلّت سرارك
__________
(1) في أعمال الأعلام: «غيثين».
(2) سرار الأرض: أوسطها وأكرمها.
(3) هذا البيت ساقط في الديوان.
(4) في أعمال الأعلام: «مدّ».
(5) في الديوان «إليّ».
(6) في الديوان وأعمال الأعلام: «بالمنى».
(7) في الديوان «بارز». وفي أعمال الأعلام: «بارزا».
(8) في أعمال الأعلام: «أذى فثارك حتى أدركاك فثارك».
(9) في الأصل: «أثارت» والتصويب من الديوان.(3/224)
فقاد إليك الخيل شعثا شوازيا
يلبّين بالنّصر العزيز انتصارك
سوابق هيجاء كأنّ صهيلها
يجاوب تحت الخافقات شعارك
بكلّ سريّ العتق سرّى عن الهدى
وكل حميّ الأنف أحمى ذمارك
تحلّوا من المنصور نصرا وعزّة
فأبلوك في يوم البلاء اختيارك
إذا انتسبوا يوم الطّعان لعامر
فعمرك يا هام العدى لا عمارك!
يقودهم منهم سراجا كتائب
يقولان للدّنيا: أجدّي افتخارك
إذا افترّت الرايات عن غرّتيهما
فيا للعدى أضللت منهم فرارك
وإن أشرق النّادي بنور سناهما
فبشرى الأماني: عينك (1) لا ضمارك (2)
وكم كشفا (3) من كربة بعد كربة
تقول لها النيران: كفّي أوارك
وكم لبّيا من دعوة وتداركا
شفى رمق ما كان بالمتدارك
ويا نفس غاو، كم أقرّا نفارك
ويا رجل هاو، كم أقالا عثارك
ولست ببدع حين قلت لهمّتي
أقلّي لإعتاب الزّمان انتظارك
__________
(1) كذا في الأصل وفي الديوان، ولكي يستقيم الوزن ينبغي أن ننطق هذه الكلمة بإشباع كسرة الكاف هكذا: «عينيكي».
(2) الضمار: خلاف العيان.
(3) في الأصل: «كشفنا» ونعتقد أنه خطأ في الطبع.(3/225)
فلله صدق العزم أيّة (1) غرّة
إذا لم تطيعي في «لعلّ» اغترارك
فإن غالت البيد اصطبارك والسّرى
فما غال ضيم الكاشحين اصطبارك
ويا خلّة التّسويف، قومي فأغدفي (2)
قناعك من دوني وشدّي إزارك
وحسبك بي يا خلّة النّاي خاطري
بنفسي إلى الحظّ النّفيس حطارك
فقد آن إعطاء النّوى صفقة الهوى
وقولك للأيّام: جوري مجارك (3)
ويا ستر البيض النّواعم، أعلني (4)
إلى اليغملات والرّحال بدارك (5)
نواجي واستودعتهنّ نواجيا
حفاظك يا هذي بذي وازدهارك (6)
ودونك أفلاذ الفؤاد فشمّري
ودونك يا عين اللّبيب اعتبارك
صرفت الكرى عنها بمغتبق السّرى
وقلت: أديري والنجوم عقارك
فإن وجبت للمغربين جنوبها (7)
فداوي برقراق السّراب خمارك
فأوري (8) بزندي سدفة ودجنّة
إذا كانتا لي مرخك وعفارك (9)
__________
(1) في أعمال الأعلام: «آية».
(2) في الأصل: «فأغدقي» والتصويب من المصدرين. وأغدف القناع: أرسله.
(3) في الديوان: «حوري محارك» بالحاء المهملة.
(4) في أعمال الأعلام: «اعملي».
(5) في الديوان: «سرارك».
(6) الازدهار بالشيء: الاحتفاظ به.
(7) في أعمال الأعلام: «وجوبها».
(8) في الديوان: «وأوري».
(9) المرخ والعفار: ضربان من الشجر، ذكرهما الشاعر لأن النار تقدح من أغصانهما، ولهذا فالعرب تضرب بهما المثل في الشرف العالي. ونلاحظ هنا أن «مرخك» ينبغي أن تنطق بإشباع كسرة الكاف حتى يستقيم الوزن.(3/226)
وإن خلع الليل الأصائل فاخلعي
إلى الملكين الأكرمين عذارك
بلنسية مثوى الأمانيّ فاطلبي
كنوزك في أقطارها (1) وادّخارك
سينبيك زجري عن بلاء نسيته
إذا أصبحت تلك القصور قصارك
وأظفر سعي بالرّضا من مظفّر
وبورك لي في حسن رأي مبارك (2)
قصيّ (3) المنى قد شام بارقة الحيا
وأنشقت يا ظئر الرّجاء حوارك (4)
وحمدا يميني قد تملّأت بالمنى
وشكرا يساري قد حويت يسارك
وقل لسماء المزن: إن شئت أقلعي
ويا أرضها (5) إن شئت غيضي بحارك
ولا توحشي يا دولة العزّ والمنى (6)
مساءك من نوريهما وابتكارك
وصولهما إلى غرناطة: وصلا مع أمثالهما من أمراء الشّرق صحبة المرتضى، وكان من انهزام الجميع بظاهرها، وإيقاع الصناهجة (7) بهم ما هو معلوم حسبما مرّ ويأتي بحول الله.
__________
(1) في أعمال الأعلام: «أعطانها».
(2) هذا هو البيت الوحيد الذي ورد في المغرب (ج 2ص 299) وجاءت فيه رواية صدر البيت هكذا:
وأظفرت آمالي بقصد مظفّر
(3) في الديوان: «فظمء».
(4) الظئر: المرضعة، والحوار: ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم. وأنشق الدابة ولدها: قرّبه إليها حتى تشمّه.
(5) في الديوان: «ويا أرضا».
(6) في الديوان وأعمال الأعلام: الندى.
(7) أي الإيقاع بجند صنهاجة.(3/227)
ومن ترجمة الأعيان والوزراء بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها
منصور بن عمر بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو
يكنى أبا علي.
أوليّته: معروفة، قد مرّت عند ذكر إخوته وقومه.
حاله: كان، رحمه الله، فتى القوم، لسنا، مفوّها، مدركا، متعاطيا للأدب والتاريخ، مخالطا للنّبلاء، متسوّرا خلق العلماء، غزلا، كلفا بالدّعابة، طرفة من طرف أهل بيته، قويّ الشّكيمة، جوادا بما في وسعه، متناهيا في البدانة. دخل غرناطة في الجملة من إخوانه وبني عمّه، مغرّبين عن مقرّ الملوك بالمغرب، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وستين وسبعمائة. وركب البحر في الخامس والعشرين منه، عندما لحق أخوه عبد الحكيم بالمغرب. وبايعه الناس، ولاحت له بارقة لم تكد تقد حتى خبت، فبادر إلى مظاهرته في جفن غزوي (1) من أسطول الأندلس، وصحبه قوم ممن يخطب الخطط، ويبتدر رمق الدول، وهال عليهم البحر، فطرح الجفن بأحواز غسّاسة، وقد عادتها ملكة عدوّهم، فتقبّض عليه، وأدخل مدينة فاس في الثاني لربيع الآخر من العام، مشهور المركب على الظّهر، يضرب بين يديه طبل للشّهرة، وناقور المثلة، وأجلس بين يدي السلطان، فأبلى بما راق الحاضرين من بيانه من العذر للخروج بالاستمالة حتى لرجي خلاصه، واستقرّ مثقّفا تتعلّق به الأراجيف، ويحوم حول مطرحة الاختبار إلى حين وفاته.
شعره: أنشدني الفقيه الأديب أبو بكر بن أبي القاسم بن قطبة من شعره، وكان صاحبه في الرّحلة، ومزامله في أسطول المنحسة، وذلك قوله: [مخلع البسيط]
سوف ننال المنى ونرقى ... مراقي العزّ والمعالي
إذا حططنا بأرض فاس ... وحكّمت في العدى العوالي
فأنت عندي بها حقيق ... يا حائز الفضل والكمال
__________
(1) الجفن والجفنة: واحدة الأجفان، وهو سفينة حربية دائرية شبيهة بالقصعة، من سفن الغزو والحرب، اهتمّ بها المغرب الإسلامي وكثر استعماله لها. وإذا أضيفت لفظة «جفن» هنا إلى صفة «غزوي» فإنها تضاف أيضا إلى «بحري» و «حربي»، فيقال: جفن بحري، وجفن حربي.
كذلك استعمل الجفن إلى جانب الحروب، في نقل المتاجر. راجع السفن الإسلامية على حروف المعجم (ص 2723) وتكملة المعاجم العربية (ج 2ص 231).(3/228)
وفاته: في وسط جمادى الأولى من العام (1)، دخل عليه في بيت معتقله فقتل، ودفن ببعض مدافنهم، رحمة الله عليه.
مقاتل بن عطية البرزالي
يكنى أبا حرب، وقال فيه أبو القاسم الغافقي: من أهل غرناطة، ويلقّب بذي الوزارتين، ويعرف بالرّيّه (2) لحمرة كانت في وجهه.
حاله: كان من الفرسان الشجعان، لا يصطلى بناره، وكان معه من قومه نحو من ثلاث مائة فارس من بني برزال. وولّاه الأمير عبد الله بن بلقّين بن باديس مدينة أليسّانة (3)، والتقى به ابن عباد وأخذ بمخنّقها، وكان عبد الله يحذره. وعندما تحقّق حركة اللّمتونيين (4) إليه، صرفه عن جهته، فقلّ لذلك ناصره، وأسرع ذهاب أمره.
شجاعته: قال: وحضر مقاتل مع عبد الله بن بلقين، أمير غرناطة، وقيعة النّيبل في صدر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فأبلى فيها بلاء عظيما، وجرح وجهه، ومزّق درعه بالطّعن والضّرب. وذكر من حضرها ونجا منها، قال: كنت قد سقط الرمح من يدي ولم أشعر، وحملت التّرس ولم أعلم به، وحملني الله إلى طريق منجاة فركبتها، مرّة أقع ومرّة أقوم، فأدركت فارسا على فرس أدهم ورمحه على عاتقه، ودرقته على فخذه، ودرعه مهتّكة بالطّعن، وبه جرح في وجهه يثعب دما تحت مغفره، وهو مع ذلك ينهض على رسله، فرجعت إلى نفسي فوجدت ثقلا، فتذكرت التّرس، فأخرجت حمالته عن عاتقي، وألقيته عني، فوجدت خفّة، وعدت إلى العدوّ، فصاح ذلك الفارس: خذ التّرس، قلت: لا حاجة لي به، فقال: خذه، فتركته وولّيت مسرعا، فهمز فرسه ووضع سنان رمحه بين كتفيّ، وقال: خذ الترس، وإلّا أخرجته بين كتفيك في صدرك، فرأيت الموت الذي فررت منه، ورجعت إلى التّرس فأخذته، وأنا أدعو عليه، وأسرعت عدوا، فقال لي: «على ما كنت فليكن عدوّك»، فاستعذت
__________
(1) أي عام 763هـ.
(2) هذه الكلمة إسبانية، ومعناها الأحمر.
(3) أليسّانة أو اللّسّانة: بالإسبانية، وهي إحدى مدن غرناطة، وتسمى مدينة اليهود لأن اليهود كانوا يسكنون بجوفها ولا يداخلهم فيها مسلم البتة، وكان لها ربض يسكنه المسلمون وبعض اليهود. راجع مملكة غرناطة (ص 63).
(4) اللمتونيّون: هم المرابطون، إذ تحرّكوا إلى غرناطة سنة 483هـ لمقاتلة أميرها عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس الزيري. راجع مملكة غرناطة (ص 221220).(3/229)
وقلت: ما بعثه الله إلّا لهلاكي، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل، فلمّا ضاق الطّلق ما بينه وبين أقربهم منه، عطف عليه كالعقاب، وطعنه ففطره، وتخلّص الرمح منه، ثم حمل على آخر فطعنه، ومال على الثالث فانهزم منه، فرجع إليّ، وقد بهتّ من فعله، ورشاش دم الجرح يتطاير من قناع المغفر لشدّة نفسه، وقال لي: يا فاعل، يا صانع، أتلقي الرّمح ومعك مقاتل الرّيّه؟
انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين يتلوه في اختصار التاسع بعده ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة * * * ومن السّفر التاسع من ترجمة القضاة
مومّل بن رجاء بن عكرمة بن رجاء العقيلي
من إلبيرة.
حاله: كان شيخا مضعوفا يغلب عليه البله، من أهل التّعيّن والحسب والأصالة، عريقا في القضاء، قاض ابن قاض ابن قاض. ولّي قضاء إلبيرة للأمير محمد.
من حكاياته: رفعت إليه امرأة كتاب صداقها، فقال: الصّداق مفسوخ، وأنتما على حرام، فافترقا، فرّق الله بينكما. ثم رمى بالصّداق إلى من حوله، وقال: عجبا لمن يدّعي فقها ولا يعلمه، أو يزعم أنه يوثّق ولا يتقنه، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصّداق، وهو مفسوخ، ما أحقّه أن يغرّم ما فيه. فدار الصّداق على يدي كل من حضر، وكل يقول: ما أرى موضع فسخ، فقال: أنتم أجهل من كاتبه، لكني أعذركم لأن كل واحد منكم يستر على صاحبه خطأه، انظروا وأمنحكم اليوم، فنظروا فلم يجدوا شيئا يوجب فسخا. فدنا منه محمد بن فطيس الفقيه، فقال: أصلح الله القاضي، إن الله منحك من العلم والفهم ما نحن مقرّون بالعجز عنه، فأفدنا هذه الفائدة، فقال: ادن، فدنا منه، فقال: أو ليس في الصداق:
«ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف»؟ ولولا معرفتي بمحبّتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ، وأخذ بطرف لحيته يجرّه إليه حتى قبّلها، وكان عظيم اللحية طويلها، شيمة أهل هذه الطّبقة. قال ابن فطيس: أنا المخصوص بالفائدة، ولا أعرّف بها إلّا من تأذن بتعريفه إياها، فتبسّم القاضي معجبا بما رأى،
وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصّداق، وقيل للزوجين: لا تطلبا به عنده شيئا. وولّي قضاء جيّان.(3/230)
«ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف»؟ ولولا معرفتي بمحبّتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ، وأخذ بطرف لحيته يجرّه إليه حتى قبّلها، وكان عظيم اللحية طويلها، شيمة أهل هذه الطّبقة. قال ابن فطيس: أنا المخصوص بالفائدة، ولا أعرّف بها إلّا من تأذن بتعريفه إياها، فتبسّم القاضي معجبا بما رأى،
وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصّداق، وقيل للزوجين: لا تطلبا به عنده شيئا. وولّي قضاء جيّان.
ومن الطارئين والغرباء
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي
من أهل ألمريّة، يكنى أبا القاسم.
حاله: كان من أدهى الناس وأفصحهم، ومن أهل التّعيّن والعناية التامة، واستقضي بألمريّة.
مشيخته: سمع من أبي محمد الأصبهاني، ورحل وروى عن أبي ذرّ الهروي.
تواليفه: ألّف كتابا في «شرح البخاري»، أخذه الناس عنه.
وفاته: توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وقيل سنة (1).
ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليّون
مالك بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج ابن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج (2)
المنزل بوادي الحجارة بمدينة الفرج المنسوبة إليه الآن.
قال ابن عبد الملك: كذا كتب لي بخطّه بسبتة، وهو مصمودي ثم شصّادي مولى بني مخزوم، مالقي، سكن سبتة طويلا ثم مدينة فاس، ثم عاد إلى سبتة مرة أخرى، وبآخرة فاس، يكنى أبا الحكم وأبا المجد، والأولى أشهر، ويعرف بابن المرحّل، وصف جرى على جدّه علي بن عبد الرحمن لمّا رحل من شنتمريّة (3)، حين إسلامها للروم عام خمسة وستين وخمسمائة.
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) ترجمة مالك بن عبد الرحمن بن الفرج، المعروف بابن المرحل، في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص 527) وبغية الوعاة (ص 384) وجذوة الاقتباس (ص 223) وهدية العارفين (ج 1 ص 1).
(3) شنتمرية: بالإسبانية، وتسمى أيضا: شنتمرية الشرق، وهي من مدن أكشونبة، ومن حصون بنبلونة، على ضفة نهر أرغون. الروض المعطار (ص 347).(3/231)
حاله: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: شاعر رقيق مطبوع، متقدّم، سريع البديهة، رشيق الأغراض، ذاكر للأدب واللغة. تحرّف مدّة بصناعة التّوثيق ببلده، وولّي القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها. وكان حسن الكتابة إذا كتب، والشّعر أغلب عليه. وذكره ابن خلاد، وابن عبد الملك، فأما ابن عبد الملك، فلم يستوف له ما استوفى لغيره، وأما ابن خلّاد، فقصر به، إذ قال: كانت نشأته بمالقة بلده، وقرارة مولده في ناسها ووسط أجناسها، لم يتميّز بحسب، ولم يتقدّم في ميدان نسب، وإنما أنهضه أدبه وشعره، وعوّضه بالظّهور من الخمول نظمه ونثره، فطلع في جبين زمانه غرّة منيرة، ونصع في سلك فصحاء أوانه درّة خطيرة، وحاز من جيله رتبة التقديم، وامتاز في رعيله بإدراك كلّ معنى وسيم. والإنصاف فيه ما ثبت لي في بعض التقييدات، وهو الشيخ المسنّ المعمّر الفقيه، شاعر المغرب، وأديب صقعه، وحامل الرّاية، المعلّم بالشّهرة، المثل في الإكثار، الجامع بين سهولة اللفظ، وسلاسة المعنى، وإفادة التّوليد، وإحكام الاختراع، وانقياد القريحة، واسترسال الطّبع، والنّفاذ في الأغراض. استعان على ذلك بالعلم، بالمقاصد اللّسانية لغة وبيانا وعربيّة وعروضا، وحفظا واضطلاعا، إلى نفوذ الذّهن، وشدّة الإدراك، وقوّة العارضة، والتّبريز في ميدان اللّوذعية، والقحة والمجانة، المؤيّد ذلك بخفّة الرّوح، وذكاء الطّبع، وحرارة النّادرة، وحلاوة الدّعابة، يقوم على الأغربة والأخبار، ويشارك في الفقه، ويتقدّم في حفظ اللغة، ويقوم على الفرائض. وتولّى القضاء.
وكتب عن الأمراء، وخدم واسترفد، وكان مقصودا من رواة العلم والشّعر، وطلّاب الملح، وملتمسي الفوائد، لسعة الذّرع وانفساح المعرفة، وعلوّ السّن، وطيب المجالسة، مهيبا مخطوب السّلامة، مرهوبا على الأعراض، في شدقه شفرته وناره، فلا يتعرّض إليه أحد بنقد، أو أشار إلى قناته بغمز، إلّا وناط به آبدة، تركته في المثلات، ولذلك بخس وزنه، واقتحم حماه، وساءت بمحاسنه القالة، رحمه الله وتجاوز عنه.
مشيخته: تلا بالسّبع على أبي جعفر بن علي الفخّار (1)، وأخذ عنه بمالقة وعن غيره. وصحب وجالس من أهلها أبا بكر عبد الرحمن بن علي بن دحمان، وأبا عبد الله الإستجي، وابن عسكر، وأبا عمرو بن سالم، وأبا النعيم رضوان بن خالد (2)، وانتفع بهم في الطريقة، وبفاس أبا زيد اليرناسني الفقيه. ولقي بإشبيلية أبا
__________
(1) في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص 527): المقرئ أبو جعفر الفحام.
(2) رضوان بن خالد المخزومي من مالقة، كان أديبا شاعرا مجيدا، توفي سنة 642هـ. ترجمته في التكملة (ج 1ص 259) واختصار القدح المعلى (ص 185).(3/232)
الحسن بن الدّباغ، وأبا علي الشّلوبين، وأبا القاسم بن بقي، وأجازوا له. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وجماعة.
دخوله غرناطة: قال ابن الزبير (1): تكرّر قدومه علينا بغرناطة، وآخر انفصالاته عنها آخر سنة أربع وسبعين وستمائة. وقال لي حفيده أبو الحسين التّلمساني من شيوخنا: أنشد السلطان الغالب بالله، بمجلسه للنّاس من المقصورة بإزاء الحمراء، قبل بناء الحمراء. وقال غيره: أقام بغرناطة، وعقد بها الشروط مدة. وقال لي شيخنا أبو الحسن الجيّاب: ولي القضاء بجهات من البشارات (2)، وشكى للسّلطان بضعف الولاية، فأضاف إليه حصن أشكر (3)، يا متشو (4)، وأمر أن يهمل هذا الاسم ولا يشكّل، فقال أبو الحكم، رحمه الله، عند وقوفه عليه: قال لي السلطان في تصحيف هذا الاسم، «أشكر يا تيس» وهي من المقاصد النبيلة.
تواليفه: وهي كثيرة متعدّدة، منها شعره، والذي دوّن منه أنواع، فمنه مختاره، وسمّاه بالجولات، ومنه الصدور والمطالع. وله العشريات والنّبويّات على حروف المعجم، والتزام افتتاح بيوتها بحرف الرّوي، وسمّاها، «الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدّنيا والأخرى». وعشرياته الزّهديّة، وأرجوزته المسماة «سلك المنخّل، لمالك بن المرحّل» نظم فيها منخل أبي القاسم بن المغربي، والقصيدة الطويلة المسماة بالواضحة، والأرجوزة المسماة «اللّؤلؤ والمرجان» والموطّأة لمالك.
والأرجوزة في العروض. وكتابه في كان ماذا، المسمّى «بالرّمي بالحصا»، إلى ما يشقّ إحصاره، من الأغراض النّبيلة، والمقاصد الأدبية.
شعره: قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك: كان مكثرا من النّظم، مجيدا، سريع البديهة، مستغرق الفكرة في قرضه، لا يفتر عنه حينا من ليل أو نهار. شاهدت ذلك، وأخبرني أنّه دأبه، وأنه لا يقدر على صرفه من خاطره، وإخلاء باله من الخوض فيه، حتى كان من كلامه في ذلك، أنه مرض من الأمراض المزمنة. واشتهر نظمه، وذاع شعره، فكلفت به ألسنة الخاصّة والعامّة، وصار رأس مال المستمعين
__________
(1) قارن بالذيل والتكملة (السفر الثامن ص 527).
(2) في الذيل والتكملة: «ولّي القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها». والبشارات أو البشارة أو البشرات،: هي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير، على مقربة من البحر المتوسط. نفح الطيب (ج 1ص 150) و (ج 4ص 525524) ومملكة غرناطة (ص 46).
(3) أشكر، بالإسبانية وهو حصن يقع شمال شرقي غرناطة.
(4) في الأصل: «نتشر» وهو تحريف. ومتشو: كلمة إسبانية: وتعني: التّيس.(3/233)
والمغنّين، وهجير الصّادرين والواردين، ووسيلة المكدّين، وطراز أوراد المؤذّنين وبطائقة البطالين، ونحن نجتزئ منه بنبذ من بعض الأغراض تدل على ما وراءها، إن شاء الله. فمن ذلك في غرض النّسيب: [الكامل]
دنف تستّر بالغرام طويلا ... حتى تغيّر رقّة ونحولا
بسط الوصال فما تمكّن جالسا ... حتى أقيم على البساط دليلا
يا سادتي، ماذا الجزاء (1) فديتكم ... الفضل لو غير الفتى ما قيلا
قالوا تعاطى الصّبر عن أحبابه ... لو كان يصبر للصّدود قليلا
ما ذاق إلّا شربة من هجرنا ... وكأنّه شرب الفرات شمولا
أيقول: عشت وقد تملّكه الهوى؟ ... لو قال متّ لكان أقوم قيلا
حلف الغرام بحبّنا وجمالنا ... إن لم يدعه ميّتا فعليلا
إنّ الجفون هي السّيوف وإنما ... قطعت فلم تسمع لهنّ صليلا
قل للحبيب ولا أصرّح باسمه ... ماذا الملال وما عهدت ملولا
بيني وبينك ذمّة مرعيّة ... أتراك تقطع حبلها الموصولا؟
ولكم شربت صفاء (2) ودّك خالصا ... ولبست ظلّا من رضاك ظليلا
يا (3) غصن بان بان عنّي ظلّه ... عند الهجير فما وجدت مقيلا
اعطف على المضنى الذي أحرقته ... في نار هجرك لوعة وغليلا
فارقته فتقطّعت أفلاذه ... شوقا وما ألفى إليك سبيلا
لو لم يكن منك التّغيّر لم يسل ... بالناس لو حشروا إليه قبيلا
يا راحلا عني بقلب مغضب ... أيطيق قلبي غضبة ورحيلا؟
قل للصّبا: هيّجت أشجان الصّبا ... فوجدت يا ريح القبول قبولا
هل لي رسول في الرياح؟ فإذا (4) من ... فارقته بعث النسيم رسولا؟
يا ليت شعري، أين قرّ قراره؟ ... يا قلب، ويك أما وجدت دليلا؟
إن لم يعد ذاك الوصال كعهدنا ... نكّلت عيني بالبكا تنكيلا
وقال نسيبا ومدحا: [الكامل]
أعدى عليّ هواه خصم جفونه ... ما لي به قبل ولا بفنونه
__________
(1) في الأصل: «الجزا»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «صفا»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «فيا»، وكذا ينكسر الوزن.
(4) في الأصل: «فاز» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.(3/234)
إن لم تجرني منه رحمة قلبه ... من ذا يجير عليه ملك يمينه؟
صاب من الأتراك أصبى مهجتي ... فعبدت نور الحسن فوق جبينه
متمكّن في الحسن نون صدغه ... فتبيّن التّمكين في تنوينه
تنساب عقرب صدغه في جنّة ... لم يجن منها الصّبّ غير منونه
ولوى ضفيرته فولّى مدبرا ... فعل الكليم ارتاع من تبيينه
قد أطمعتني فيه رقّة خدّه ... لو أمكنتني فيه رقّة دينه
ورجوت لين قوامه لو لم يكن ... كالرّمح شدّة طعنه في لينه
شاكي السّلاح وما الذي في جفنه ... أعدى عليّ من الذي بجفونه
ناديته لمّا ندت لي سينه ... وشعرت من لفظ السلام بسينه
رحماك في دنف غدا وحياته ... مماته وحراكه كسكونه
إن لم تمنّ عليّ منّة راحم ... فمناه أن يلقاه ريب منونه
ولذا أبيت سوى سمات عدوّه ... فأمانه من ذاك ظهر أمونه
سننيخها في باب أروع ماجد ... فيرى محلّ الفصل حقّ يقينه
حيث المعارف والعوارف والعلا ... في حدّ مجد جامع لفنونه
بدر وفي الحسن بن أحمد التقت ... نجب مررن على العطا بركوبه
تبغي مناها في مناها عنده ... وتطوف بالحاجات عند حجونه
فرع من الأصل اليماني طيّب ... ورث البيان وزاد في تبيينه
يبدي البشاشة في أسرّة وجهه ... طورا ويحمي العزّ في عرنينه
بسطت شمائله الزمان (1) كمثل ما ... بسط الغناء (2) نفوسنا بلحونه
يثني عليه كلّ فعل سائر ... كالمسك إذ يثني على دارينه
ومن النّسيب قوله: [البسيط]
هو الحبيب قضى بالجور أم عدلا ... لبّى الخيار وأمّا في هواه فلا
تالله ما قصّر العذّال في عذلي ... لكن أبت أذني أن تسمع العذلا
أمّا السّلوّ فشيء لست أعرفه ... كفى بخلّك غدرا أن يقال سلا
جفون غيري أصحت بعدما قطرت ... وقلب غيري صحا من بعد ما ثملا
وغصن بان تثنّى من معاطفه ... سقيته الدّمع حتى أثمر العذلا
__________
(1) في الأصل: «للزمان»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الغنا».(3/235)
آثرته (1) ونسيم الشّعر آونة ... فكلّما مال من أعطافه اعتدلا
أملت والهمّة العلياء طامحة ... وليس في الناس إلّا آمل أملا
وقال: إيها طفيليّ ومقترح ... ألست عبدي ومملوكي؟ فقلت: بلى
يا من تحدّث عن حسني وعن كلفي ... بحسنه وبحبّي فاضرب المثلا
نيّطت خدّي خوف القبض من ملكه ... إذا أشار بأدنى لحظه قتلا
تقبّل الأرض أعضائي وتخدمه ... إذا تجلّى بظهر الغيب واتّصلا
يا من له دولة في الحسن باهرة ... مثلي ومثل فؤادي يخدم الدّولا
ومن نظمه في عروض يخرج من دوبيتي مجزوّا، مقصرا قوله وملحه في اختراع الأعاريض كثيرة:
الصّبّ إلى الجمال مائل ... والحبّ لصدقه دلائل
والدّمع لسائلي جواب ... إن روجع سائل بسائل
والحسن على القلوب وال ... والقلب إلى الحبيب وابل
لو ساعد من أحبّ سعد ... ما حال من الحبيب حائل
يا عاذلي، إليك عنّي لا ... تقرّب ساحتي العواذل
ما نازلني كمثل ظبي ... يشفي بلحظة المنازل
ما بين دفونه حسام ... مخارقه له حمائل
والسيف يبتّ ثم ينبو ... واللحظ يطبق المفاصل
والسهم يصيب ثم يخطي ... واللحظ يمرّ في المقاتل
مهلا فدمي له حلال ... ما أقبل فيه قول قائل
إن صدّني فذاك قصدي ... أو جدّلني فلا أجادل
يا حسن طلوعه علينا ... والسّكر بمعطفيه مائل
ظمآن مخفّف الأعالي ... ريّان مثقّل الأسافل
قد نمّ به شذا الغوالي ... إذ هبّ ونمّت الغلائل
والطّيب منبّه عليه ... من كان عن العيان غافل
والغنج محرّك إليه ... من كان مسكّن البلابل
والسّحر رسول مقلتيه ... ما أقرب عهده ببابل!
__________
(1) في الأصل: «آثره نسيم»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/236)
والروض يعير وجنتيه ... وردا كهواي غير حائل
واللين يهزّ معطفيه ... كالغصن تهزّه الشّمائل
والكأس تلوح في يديه ... كالنّجم بأسعد المنازل
يسقيك بريقه مداما ... ما أملح ساقيا مواصل
يسبيك برقّة الحواشي ... عشقا ولكافّة الشمائل
ما أحسن ما وجدت خدّا ... إذ نجم صباي غير آفل
ومن مستحسن نزعاته: [البسيط]
يا راحلين وبي من قربهم أمل ... لو أغنت الحليتان القول (1) والعمل
سرتم وسار اشتياقي بعدكم مثلا ... من دونه السّامران الشّعر والمثل
وظلّ يعذلني في حبّكم نفر ... لا كانت المحنتان الحبّ والعذل
عطفا علينا ولا تبغوا بنا بدلا ... فما استوى التّابعان العطف والعمل
قد ذقت فضلكم دهرا فلا وأبي ... ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى من هجركم وجوى ... وشبّ مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي ... لبّتكم (2) الخصلتان الغدر والملل
قالوا: كبرت ولم تبرح كذا غزلا ... أزرى بك الفاضحان الشّيب والغزل
لم أنس يوم تنادوا (3) للرحيل ضحى ... وقرب المركبان الطّرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزّينتان الحلي والحلل
وودّعوني بأجفان ممرّضة ... تغضّها الرّقبتان الخوف والخجل
كم عفّروا بين أيدي العيس من بطل ... أصابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحبّ مترعة ... وما أبى (4) المسكران الخمر والمقل
وآخرين اشتفوا منهم بضمّهم ... يا حبّذا الشافيان الضّم والقبل
كأنما الرّوض منهم روضة أنف ... يزهى بها المثبتان السّهل والجبل
من مسترق (5) الرّوابي والوهاد بهم ... ما راقه المعجبان الخصر والكفل
__________
(1) في الأصل: «لي القول» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «لبيست» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(3) في الأصل: «ما نادوا»، وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «وأبا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) في الأصل: «لمسترق» وكذا ينكسر الوزن.(3/237)
يا حادي العيس خذني مأخذا حسنا ... لا يستوي الضاديان (1) الرّيث (2) والعجل
لم يبق لي غير ذكر أو بكا طلل ... لو ينفع الباقيان الذّكر والطّلل
يا ليت شعري ولا أنس ولا جذل ... هل يرفع الطّيّبان الأنس والجذل؟
ومن قوله على لسان ألثغ ينطق بالسّين ثاء ويقرأ بالرّويّين: [مخلع البسيط]
عمرت ربع الهوى بقلب ... لقوّة الحبّ غير ناكس ث
لبثت فيه أجر ذيل النّ ... حول أحبب به للابس ث
إن متّ شوقا فلي غرام ... نباته بالسّقام وادس ث
أمّا حديث الهوى فحقّ ... يصرف بلواه كلّ حادس ث
تعبت بالشّوق في حبيب ... أنا به ما حييت يائس ث
يختال كالغصن ماس فيه ... طرف فأزرى بكلّ (3) مائس ث
دنيا تبدّت لكلّ وأي ... فهو لدنياه أيّ حارس ث
يلعب بالعاشقين طرّا ... والكلّ راضون وهو عابس ث
ومن شعره في الزهد يصف الدنيا بالغرور والكذب (4) والزّور: [الكامل]
يا خاطب الدنيا، طلبت غرورا ... وقبلت من تلك المحاسن زورا
دنياك إمّا فتنة أو محنة ... وأراك في كلتيهما مقهورا
وأرى السنين تمرّ عنك سريعة ... حتى لأحسبهنّ صرن شهورا
بينا تريك أهلّة في أفقها ... أبصرتها في إثر ذاك بدورا
كانت قسيّا ثم صرن دوائرا ... لا بدّ أن ترمي الورى وتدورا
يأتي الظلام فما يسوّد رقعة ... حتى ترى مسطورها منشورا
فإذا الصباح أتى ومدّ رداءه ... نفض المساء رداءه المنشورا
يتعاقبان عليك، هذا ناشر ... مسكا وهذا ناشر كافورا
ما المسك والكافور إلّا أن ترى ... من فعلك الإمساك والتّكبيرا
أمسى على فوديك من لونيهما ... سمة تسوم كآبة وبسورا
__________
(1) في الأصل: «الضّدّان» وكذا لا يستقيم الوزن، والضادي: اسم فاعل ضادى يقال ضاداه أي ضادّه.
(2) الرّيث: الإبطاء، وهو ضد العجل.
(3) في الأصل: «كل» وكذا لا يستقيم الوزن.
(4) في الأصل: «والحذايح» وهو ما لا معنى له.(3/238)
حتى متى لا ترعوي وإلى متى؟ ... أو ما لقيت من المشيب نذيرا؟
أخشى عليك من الذّنوب فربما ... تلفى الصّغير من الذنوب كبيرا
فانظر لنفسك إنني لك ناصح ... واستغفر المولى تجده غفورا
من قبل ضجعتك التي تلقى لها ... خدّ الصّغار على التّراب حقيرا
والهول ثم الهول في اليوم الذي ... تجد الذي قدّمته مسطورا
وقال في المعنى (1) المذكور: [الوافر]
وأشفي (2) الوجد ما أبكى العيونا ... وأشفي الدّمع ما نكأ الجفونا
فيا ابن الأربعين اركب سفينا ... من التّقوى فقد عمّرت حينا
ونح إن كنت من أصحاب نوح ... لكي تنجو نجاة الأربعينا
بدا للشّيب (3) في فوديك رقم ... فيا أهل الرّقيم، أتسمعونا؟
لأنتم أهل كهف قد ضربنا ... على آذانهم فيه سنينا
رأيت الشّيب يجري في سواد ... بياضا لا كعقل الكاتبينا
وقد يجري السّواد على بياض ... فكان (4) الحسن فيه مستبينا
فهذا العكس يؤذن بانعكاس ... وقد أشعرتم لو تشعرونا
نبات هاج ثم يرى حطاما ... وهذا اللّحظ قد شمل العيونا
نذير جاءكم عريان يعدو ... وأنتم تضحكون وتلعبونا
أخي، فإلى (5) متى هذا التّصابي؟ ... جننت بهذه الدنيا جنونا
هي الدنيا وإن وصلت وبرّت ... فكم قطعت وكم تركت بنينا!
فلا تخدعك (6) أيام تليها ... ليال واخشها بيضا وجونا
فذاك إذا نظرت سلاح دنيا ... تعيد حراك ساكنها سكونا
وبين يديك يوم أيّ يوم ... يدينك فيه ربّ الناس دينا
فإمّا دار عزّ ليس يفنى ... وإمّا دار هون لن يهونا
فطوبى في غد للمتّقينا ... وويل في غد للمجرمينا
__________
(1) في الأصل: «المنى» وكذا لا معنى له.
(2) في الأصل: «إشف» وكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «الشيب»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) في الأصل: «فكأنّ»، وكذا لا يستقيم الوزن.
(5) في الأصل: «إلى»، وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «تخدعنك»، وكذا ينكسر الوزن.(3/239)
وآه ثم آه ثم آه ... على نفسي أكرّرها مئينا
أخيّ، سمعت هذا الوعظ أم لا؟ ... ألا يا (1) ليتني في السامعينا
إذا ما الوعظ لم يورد بصدق ... فلا خسر كخسر الواعظينا
وقال يتشوّق إلى بيت الله الحرام، ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البسيط]
شوق كما رفعت نار على علم ... تشبّ بين فروع الضّال والسّلم
ألفّه بضلوعي وهو يحرقها ... حتى يراني بريا ليس بالقلم
من يشتريني بالبشرى ويملكني ... عبدا إذا نظرت عيني إلى الحرم؟
دع للحبيب ذمامي واحتمل رمقي ... فليس ذا قدم من ليس ذا قدم
يا أهل طيبة، طاب العيش عندكم ... جاورتم خير مبعوث إلى الأمم
عاينتم جنّة الفردوس من كثب ... في مهبط الوحي والآيات والحكم
لنتركنّ بها الأوطان خالية ... ونسلكنّ لها البيداء في الظّلم
ركابنا تحمل الأوزار مثقلة ... إلى محطّ خطايا العرب والعجم
ذنوبنا، يا رسول الله، قد كثرت ... وقد أتيناك فاستغفر لمجترم
ذنب يليه على تكراره ندم ... فقد مضى العمر في ذنب وفي ندم
نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحكنا ... ولو صدقنا البكا شبنا دما بدم
يا ركب مصر، رويدا يلتحق بكم ... قوم مغاربة لحم على وضم
فيهم عبيد تسوق العيس زفرته ... لم يلق مولاه قد ناداه في النّسم
يبغي إليه شفيعا لا نظير له ... في الفضل والمجد والعلياء والكرم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته ... محمد خير خلق الله كلّهم
صلّى عليه إله الخلق ما طلعت ... شمس وما رفعت نار على علم
ومن مقطوعاته العجيبة في شتى الأغراض، وهي نقطة من قطر، وبلالة من بحر، قوله مما يكتب على حمالة سيف، وقد كلف بذلك غيره من الشعراء بسبتة، فلمّا رآها أخفى كل منظومه، وزعم أنه لم يأت بشيء، وهو المخترع المرقص:
[البسيط]
جماله كرياض جاورت نهرا ... فأنبتت شجرا راقت أزاهرها
كحيّة الماء عامت فيه وانصرفت ... فغاب أوّلها فيه وآخرها
__________
(1) كلمة: «يا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.(3/240)
وقوله، وقد تناول الرئيس ابن خلاص (1) بيده مقصّا فأدمى يده فأنشده:
[الوافر]
عداوة لا لكفّك من قد نمّ (2) ... فلا تعجب لقرّاض لئيم
لئن أدماك فهو لها شبيه ... وقد يسطو اللّئيم على الكريم
وقوله في الخضاب: [الطويل]
سترت مشيبي بالخضاب تعلّلا ... فلم يحظ شيبي (3) وراب خضابي
كأنّي وقد زوّرت لونا على الصّبا ... أعنون طرسا ليس فيه كتابي
غراب خضاب لم يقف من حذاره ... وأغرب شيء في الحذار غرابي
وقوله وهو من البديع المخترع: [الكامل]
لا بدّ من ميل إلى جهة فلا ... تنكر على الرجل الكريم مميلا
إنّ الفؤاد وإن توسّط في الحشا ... ليميل في جهة الشّمال قليلا
وقوله وهو معنى قد قيل فيه: [الكامل]
لا تعجبوا للمرء يجهل قدره ... أبدا ويعرف غيره فيصبر
فالعين تبصر غيرها مع بعده ... لكنّ بؤبو نفسها لا تبصر (4)
وقوله: [الوافر]
أرى المتعلّمين عليك أعدا (5) ... إذا أعلمتهم من كلّ عاد
فما عند الصّغير سوى عقوق ... ولا عند الكبير سوى عناد
وقوله في وصفه ذي الجاه: [الخفيف]
يضع الناس صاحب الجاه فيهم ... كل يوم في كفّة الميزان
__________
(1) هو أبو علي الحسن بن أبي جعفر بن خلاص، تولّى سبتة سنة 637هـ، ثم ثار فيها في عهد السعيد أبي الحسن المعتضد بالله الموحدي سنة 641هـ، وبايع للأمير أبي زكريا الحفصي، صاحب تونس. توفي سنة 646هـ. البيان المغرب، قسم الموحدين (ص 347، 353، 360، 378).
(2) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(3) في الأصل: «فشيب» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(4) رواية عجز البيت في الأصل هي: «ولكن نفسها لا تبصر»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(5) أصل القول: «أعداء»، وكذا ينكسر الوزن.(3/241)
إن رأوه يوما ترجّح وزنا ... ضاعفوا البرّ فهو ذو رجحان
أو رأوا منه نقص حبّة وزن ... ما كسوه في حبّة الجلجلان
وأنشدنا عنه غير واحد من شيوخنا وقد بلغ الثمانين: [السريع]
يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشرا بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصّبا ... فحدّك الدّهر ثمانينا
وقال: هيهات! ما أظنّه يكملها، وقال في الكبرة: [الكامل]
يا من لشيخ قد أسنّ وقد عفا ... مذ جاوز السّبعين أضحى مدنفا
خانته بعد وفائها أعضاؤه ... فغدا قعيدا لا يطيق تصرّفا
هرما غريبا ما لديه مؤانس ... إلّا حديث محمد والمصطفى
وكتب إلى القاضي أبي الحجاج الطّرسوني في مراجعة: [السريع]
يا سيدي، شاكركم مالك ... قد صيّرت ميم اسمه هاء
ومن يعش خمسا وتسعين ... قد أنهت (1) التعمير إنهاء
ومن نظمه في عرس صنعها بسبتة على طريقه في المجانة: [الكامل]
الله أكبر في منار الجامع ... من سبتة تأذين عبد خاشع
الله أكبر للصّلاة أقيمها ... بين الصّفوف من البلاط الواسع
الله أكبر محرما وموجّها ... دبري (2) إلى ربّي بقلب خاضع
الحمد لله السلام عليكم ... آمين لا تفتح لكلّ مخادع
إن النّساء خدعنني ومكرن بي ... وملأن من ذكر النساء مسامعي
حتى وقعت وما وقعت بجانب ... لكن على رأس لأمر واقع
والله ما كانت إليه ضرورة ... لكنّ أمر الله دون مدافع
فخطبن لي في بيت حسن قلن لي ... وكذبن لي في بنت قبح شانع
بكرا زعمن صغيرة في سنّها ... حسناء تسفر عن جمال بارع
خودا لها شعر أثيث حالك ... كالليل تجلى عن صباح ساطع
__________
(1) في الأصل: «قد أنهى في التعمير» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «ودبرة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/242)
حوراء يرتاع الغزال إذا رنت ... بجفون خشف (1) في الخمائل رافع
تتلو الكتاب بغنّة وفصاحة ... فيميل نحو الذّكر قلب السامع
بسّامة عن لؤلؤ متناسق ... في ثغرها في نظمه متتابع
أنفاسها كالرّاح فضّ ختامها ... من بعد ما ختمت بمسك رائع
شمّاء دون تفاوت عربيّة ... ببسالة وشجاعة ومنازع
غيداء كالغصن الرّطيب إذا مشت ... ناءت بردف للتعجّل مانع
تخطو على رجلي حمامة أيكة ... مخضوبة تسبي فؤاد السامع
ووصفن لي من حسنها وجمالها ... ما البعض منه يقيم عذر الخالع
فدنوت واستأمنت بعد توحّشي ... وأطاع قلب لم يكن بمطاوع
فحملنني نحو الوليّ وجئنني ... بالشّاهدين وجلد كبش واسع
وبعرفه من نافع لتعادل ... والله عزّ وجلّ ليس بنافع
فشرطن أشراطا عليّ كثيرة ... ما كنت في حملي لها بمطاوع
ثم انفصلت وقد علمت (2) بأنني ... أوثقت في عنقي لها بجوامع
وتركنني يوما وعدن وقلن لي ... خذ في البناء ولكن بمرافع
واصنع لها عرسا ولا تحوج إلى ... قاض عليك ولا وكيل رافع
وقرعت سنّي عند ذاك ندامة ... ما كنت لولا أن (3) خدعت بقارع
ولزمتني حتى انفصلت بموعد ... بعد اليمين إلى النهار الرابع
فلو أنني طلّقت كنت موفّقا ... ونفضت من ذاك النكاح أصابعي
لكن طمعت بأن أرى الحسن الذي ... زوّرن لي فذممت سوء مطامعي
فنظرت في أمر البناء معجّلا ... وصنعت عرسا يا لها من صانع!
وطمعت أن (4) تجلى ويبصر وجهها ... ويقرّ عيني بالهلال الطّالع
وظننت ذاك كما ذكرن ولم يكن ... وحصلت أيضا في مقام الفازع
وحملنني ليلا إلى دار لها ... في موضع عن كل خير سامع
دار خراب في مكان توحّش ... ما بين آثار هناك بلاقع
فقعدت في بيت صغير مظلم ... ولا شيء فيه سوى حصير الجامع
__________
(1) الخشف: ولد الظّبي.
(2) في الأصل: «وعلمت»، وكذا ينكسر الوزن.
(3) كلمة «أن» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(4) في الأصل: «بأن»، وكذا ينكسر الوزن.(3/243)
فسمعت حسّا عن شمالي منكرا ... وتنحنحا يحكي نقيق ضفادع
فأردت أن أنجو بنفسي هاربا ... ووثبت عند الباب وثبة جازع
فلقيتهنّ وقد أتين بجذوة ... فرددنني وحبسنني بمجامع
ودخلن بي في البيت واستجلسنني ... فجلست كالمضرور يوم زعازع
وأشرن لي نحو السّماء (1) وقلن لي ... هذي زويبعة وبنت زوابع
هذي خليلتك التي زوّجتها ... فاجلس هنا معها ليوم سابع
بتنا من (2) النّعمى التي خوّلتها ... فلقد حصلت على رياض يانع
فنظرت نحو خليلتي متأمّلا ... فوجدتها محجوبة ببراقع
وأتيتها وأردت نزع خمارها ... فغدت تدافعني بجدّ وازع
فوجلتها في صدرها وحذوته ... وكشفت هامتها بغيظ صارع
فوجدتها قرعاء تحسب أنّها ... مقروعة في رأسها بمقارع
حولاء تنظر فوقها في ساقها ... فتخالها مبهوتة في الشارع
فطساء تحسب أنّ روثة أنفها ... قطعت فلا شلّت يمين القاطع
صمّاء تدعى بالبريح وتارة ... بالطّبل أو يؤتى لها بمقامع
بكماء إن رامت كلاما صوّتت ... تصويت معزى نحو جدي راضع
فقماء إن ما (3) تلتقي أسنانها ... تفسو إذا نطقت فساء الشابع
عرجاء إن قامت تعالج مشيها ... أبصرت مشية ضالع أو خامع
فلقيتها وجعلت أبصق نحوها ... وأفرّ نحو دجى وغيث هامع
حيران أغدو في الزّقاق كأنني ... لصّ أحسّ بطالب أو تابع
حتى إذا لاح الصباح وفتّحوا ... باب المدينة كنت أوّل كاسع
والله ما لي بعد ذاك بأمرها ... علم ولا بأمور بيتي الضّائع
نثره: وفضّل الناس نظمه على نثره، ونحن نسلّم ذلك من باب الكثرة، لا من باب الإجادة. وهذه الرسالة معلمة بالشهادة بحول الله.
كتب إلى الشيخين الفقيهين الأديبين البليغين أبي بكر بن يوسف بن الفخّار، وأبي القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري:
__________
(1) في الأصل: «السما».
(2) في الأصل: «وبتنا النعمى» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.(3/244)
«لله درّكما حليفي صفاء، وأليفي وفاء، يتنازعان كأس المودّة تنازع الأكفاء، ويتهاديان ريحان التحية تهادي الظّرفاء. قسيمي نسب، وقريعي حسب، يتجاوزان بمطبوع من الأدب ومكتسب، ويتواردان على علم من الظّرف ونسب، رضيعي لبان، ذريعي لبان، يحرزان ميراث قسّ وسحبان، ويبرزان من الذّكاء ما بان على أبان، قسيمي مجال، فصيحي رويّة وارتجال، يترعان في أشطان البلاغة سجالا بعد سجال، ويصرعان في ميدان الفصاحة رجالا على رجال. ما بالكما؟ لا حرمت حبالكما ولا قصمت نبالكما، لم تسمحا لي من عقودكما بدرّة، ولم ترشّحاني من نقودكما بدرة، ولم تفسحا لي بحلوة ولا مرّة. لقد ابتليت من أدبكما بنهر أقربه ولا أشربه، وما أرده ولا أتبرّده. ولو كنت من أصحاب طالوت لا فسحت لي غرفة، وأتيحت لي ترفة. بل لو كنت من الإبل ذوات الأظماء، ما جليت بعد الظّمإ على الماء، ولا دخلت بالإشفاق مدخل العجماء. كيف وأنا ولا فخر في صورة إنسان، ناطق بلسان، أفرّق بين الإساءة والإحسان. وإن قلت إنّ باعي في النّظم قصير، وما لي على النّثر وليّ ولا نصير، وصنعة النحو عني بمعزل، ومنزل الفقيه ليس لي بمنزل، ولم أقدم على العلم القديم، ولا استأثرت من أهله بنديم. فأنا والحمد لله غنيّ بصنعة الجفر، وأقتني اليراع كأنها شبابيك التّبر، وأبري البريّة التي (1) تنيف على الشّبر، وأزين خدود الأسطار المستوية، بعقارب اللّامات الملتوية، ولا أقول كأنها، فلا ينكر السيدان أعزّ هما الله أنها نعم بعود أزاعم، وبمثل شكسي تحضر الملاحم. فما هذا الازدراء والاجتراء في هذا الأمر مرّ المواقير. تالله لقد ظلمتماني على علم، واستندتما إلى غير حلم، أما رهبتما شبابي، أما رغبتما في حسابي، أما رفعتما بين نفح صبابي، ولفح صبابي. لعمري لقد ركبتما خطرا، وهجتما الأسد بطرا، وأبحتما حمى محتضرا، ولم تمعنا في هذا الأمر نظرا: [الطويل]
أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما ... أضاءت لك النّار الحمار المقيّدا
ونفسي عين الحمار، في هذا المضمار، لا أعرف قبيلا من دبير، ولا أفرّق بحسّي بين صغير وكبير، ولا أعهد أنّ حصاة الرّمي أخفّ من ثبير، أليس في ذوي كبد رطبة أجر، وفي معاملة أهل التّقوى والمغفرة تجر؟ وإذا خوّلتماني نعمة أو نفلتماني نفلا، فاليد العليا خير من اليد السّفلى، وما نقص مال من صدقة، ولا جمال من لمح حدقة، والعلم يزيد بالإنفاق، وكتمه حرام باتفاق، فإن قلتما لي إنّ فهمك سقيم، وعوجك على الرّياضة لا يستقيم، فلعلّ الذي نصب قامتي، يمنّ
__________
(1) في الأصل: «المغا».(3/245)
باستقامتي، وعسى الذي يشقّ سمعي وبصري، أن يزيل عييّ وحصري، فأعي ما تقصّان، وأجتلي ما تنصّان، وأجني ثمار تلك الأغصان، فقد شاهدتما كثيرا من الحيوان، يناغى فيتعلّم، ويلقّن فيتكلّم. هذا والجنس غير الجنس، فكيف المشارك في نوعيّة الإنس؟ فإن قلنا إن ذلك يشقّ، فأين الحقّ الذي يحقّ، والمشقّة أخت المروّة، وينعكس مساق هذه الأخوّة، فيقال المروّة أخت المشقّة، والحجيج يصبر على بعد الشّقّة، ولولا المشقّة كثر السّادة، وقلّت الحسادة، فما ضرّكما أيها السيّدان أن تحسبا تحويجي، وتكتسبا الأجر في تدريجي؟ فإنكما إن فعلتما ذلك نسبت إلى ولائكما، كما حسبت على علائكما، وأضفت إلى نديّكما، كما عرّفت بمنتداكما.
ألم تعلما أنّ المرء يعرف بخليله، ويقاس به في كثيرة وقليله؟ ولعلّي أمتحن في مرام، ويعجم عودي رام، فيقول هذا العود من تلك الأعواد، وما في الحلبة من جواد، فأكسوكما عارا، وأكون عليكما شعارا. على أني إذا دعيت باسمكما استريت من الادّعاء، فلا أستجيب لهذا الدّعاء، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان حين عرف الإدارة، وأنكر الإمارة، نعم أخوّتي أصحّ، وأنّها بها أشحّ، إلا أنّ غيري نظم في السّلك، وأسهم في الملك، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلّاب، يشاركهم في البكا لا في التّراب (1)، إن حضرت فكنتم في الإقحام، أو لمقعد في زحام، وإن غبت فيقضى الأمر، وقد سطر زيد وعمرو. ناشدتكما الله في الإنصاف أن تريعا بواد من أودية الشّحر، في ناد من أندية الشّعر بل السّحر، حيث تندرج الأنهار، وتتأرّج الأزهار، ويتبرّج الليل والنهار، ويقرأ الطير صحفا منتثرة، ويجلو النور ثغورا مؤشّرة، ويغازل عيون النّرجس الوجل، خدود الورد الخجل، وتتمايل أعطاف البان، على أرداف الكثبان، فيرقد النسيم العليل، في حجر الرّوض وهو بليل، وتبرز هوادج الرّاح، على الرّاح، وقد هديت بأقمار، وحديت بأزهار ومزمار، وركبتها الصّبا والكميت في ذلك المضمار، ولم تزالا في طيب، وعيش رطيب، من قباب وخدور، وشموس وبدور، تصلان الليالي والأيام أعجازا بصدور، وأنا الطّريد منبوذ بالعراء، موقوذ في جهة الوراء، لا يدني محلّي، ولا يعتنى بعقدي ولا حلّي، ولا أدرج من الحرور إلى الظّل، ولا أخرج من الحرام إلى الحلّ، ولا يبعث إليّ مع النّسيم هبّة، ولا يتاح لي من الآتي عبّة. قد هلكت لغوا، ولم تقيما لي صفوا، ومتّ كمدا، ولم تبعثا لبعثي أمدا. أتراه خلفتماني جرضا، وألقيتماني حرضا؟ كم أستسقي فلا أسقى، وأسترقي فلا أرقى، لا ماء أشربه، ولا عمل في وصلكما
__________
(1) في الأصل: «التراث».(3/246)
أدرّبه. لم يبق لي حيلة إلّا الدّعاء المجاب، فعسى الكرب أن ينجاب. اللهمّ كما أمددت هذين السّيّدين بالعلم الذي هو جمال، وسدّدتهما إلى العمل الذي هو كمال، وجمعت فيهما الفضائل والمكارم، وختمت بهما الأفاضل والمكارم، وجعلت الأدب الصّريح أقلّ خصالهما، والنّظر الصحيح أقلّ نصالهما، فاجعل اللهمّ لي في قلوبهما رحمة وحنانا، وابسط لي منهما وجها واشرح لي جنانا، واجعلني اللهمّ ممّن اقتدى بهما، وتعلّق بأهدابهما، وكان دأبه في الصّالحات كدأبهما، حتى أكون بهما ثالث القمرين في الآيات، وثالث العمرين في عمل البرّ وطول الحياة، اللهمّ آمين، وصلّى الله على محمد خاتم النبيّين. وكأنّي أنظر إلى سيديّ عزّهما الله إذا وقفا على هذا الخطاب، ونظرا إلى هذا الاحتطاب، كيف يديران رمزا، ويسيران غمزا؟ ويقال: استتبّ الفصال، وتعاطى البيذق ما تفعل النّصال، وحنّ جذع ليس منها (1)، وخذ عجفاءك وسمّنها، فأقول وطرفي غضيض، ومحلّي الحضيض، مثلي كمثل الفروج أو ثاني البروج، وما تقاس الأكفّ بالسّروج، فأضربا عني أيها الفاضلان، ما أنا ممّن تناضلان، والسلام».
مولده: قال شيخنا الفقيه أبو عبد الله ابن القاضي المتبحّر العالم أبي عبد الله بن عبد الملك: سألته عن مولده فأنشدني: [الرجز]
يا سائلي عن مولدي كي أذكره ... ولدت يوم سبعة وعشره
من المحرّم افتتاح أربع ... من بعد ستمائة مفسّرة
وفاته: في التاسع (2) عشر لرجب عام تسعة وتسعين وستمائة، ودفن بمقبرة فاس، وأمر أن يكتب على قبره: [مجزوء الخفيف]
زر غريبا بمقره ... نازحا ما له ولي (3)
تركوه موسّدا ... بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التّدلّل
يرحم الله عبده ... مالك بن المرحّل
__________
(1) في الأصل: «منهما».
(2) في الذيل والتكملة (السفر الثامن ص 527): «كانت وفاته بمدينة فاس في الثامن عشر لرجب الفرد من سنة تسع وتسعين وستمائة». وفي هدية العارفين: توفي سنة 672هـ.
(3) في الأصل: «ول» بدون ياء.(3/247)
ومن طارئي المقرئين والعلماء
منصور بن علي بن عبد الله الزواوي
صاحبنا، يكنى أبا علي.
حاله: هذا الرجل طرف في الخير والسلامة، وحسن العهد، والصّون والطهارة والعفّة، قليل التصنّع، مؤثر للاقتصاد، منقبض عن الناس، مكفوف اللسان واليد، مشتغل بشأنه، عاكف على ما يعنيه، مستقيم الظاهر، ساذج الباطن، منصف في المذاكرة، موجب لحقّ الخصم، حريص على الإفادة والاستفادة، مثابر على تعلّم العلم وتعليمه، غير أنف عن حمله عمّن دونه، جملة من جمل السّذاجة والرّجولة وحسن المعاملة، صدر من صدور الطّلبة، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنّقلية، واطّلاع وتقييد، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات. يكتب الشّعر فلا يعدو الإجادة والسّداد.
قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة، فلقي رحبا، وعرف قدره، فتقدم مقرئا بالمدرسة (1) تحت جراية نبيهة، وحلّق للناس متكلّما على الفروع الفقهية والتفسير، وتصدّر للفتيا، وحضر بالدار السلطانية مع مثله. جرّبته وصحبته، فبلوت منه دينا ونصفة، وحسن عشرة.
محنته: امتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعيّة، لمتوقّف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنّظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنّبوّة، وشكّ في القول بتكفيره، فقال القوم بإشراكه في التكفير ولطخه بالعاب الكبير، إذ كان كثير المشاحّة لجماعتهم، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعمائة.
مشيخته: طلبت منه تقييد مشيخته، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه:
«يتفضّل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه، وأعشو إلى غرره وأوضاحه، جامع أشتات العلوم، وفاتق رتق الفهوم، حامل راية البديع، وصاحب آيات التّورية فيه
__________
(1) هي المدرسة العجيبة التي بنيت في عهد سلطان غرناطة أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، الذي حكم من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ، وقد عدّها ابن الخطيب بكر المدارس في حضرته غرناطة. اللمحة البدرية (ص 109).(3/248)
والتّرصيع، نخبة البلغاء، وفخر الجهابذة العلماء، قائد جياد البلاغة من نواصيها، وسائق شوارد الحكم من أقاصيها، أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله للقريض يقطف زهره، ويجتني غرره، وللبديع يطلع قمره، وينظم درره، وللأدب يحوك حلله، ويجمع تفاصيله وجمله، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها، وللأسجاع يقرّط الأسماع بفرائدها، ويحلّي النحور بقلائدها، وللنّظم يورد جياده أحلى الموارد، ويجيلها في مضمار البلاغة من غير معاند، وللنّثر يفترع أبكاره، ويودعها أسراره، ولسائر العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجا، ويضعها في أسطر الطّروس سراجا، ولا زال ذا القلم الأعلى، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية كعبة لملوك الإسلام، ومقصدا للعلماء الأعلام، ورضى عنهم خلفا وسلفا، وبورك لنا فيهم وسطا وطرفا، ولا زالت آمالنا بعلائهم منوطة، وفي جاههم العريض مبسوطة، بقبول ما نبّه عليه، من كتب شيوخي المشاهير إليه، فها أنا أذكر ما تيسّر لي من ذلك بالاختصار، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلّدات الكبار.
فمنهم مولاي الوالد علي بن عبد الله لقاه الله الرّوح والريحان، وأوسعه الرّضا والغفران. قرأت عليه القرآن وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط. ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام علم العلماء، وقطب الفقهاء، قدوة النّظار، وإمام الأمصار، منصور بن أحمد المشدالي، رحمه الله وقدّس روحه، فوجدته قد بلغ السّنّ به غاية أوجبت جلوسه في داره، إلّا أنه يفيد بفوائده بعض زوّاره، فقرأت من أوائل ابن الحاجب (1) عليه لإشارة والدي بذلك إليه، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعمائة. واشتدّ الحصار ببجاية لسماعنا أنّ السلطان العبد الوادي (2) ينزل علينا بنفسه، فأمرني بالخروج، رحمه الله، فعاقني عائق عن الرجوع إليه لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه. ثم مات، رحمه الله، عام أحد وثلاثين وسبعمائة، فخصّ مصابه البلاد وعمّ، ولفّ سائر الطلبة وضمّ، إلّا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية فصار من طلبته شيخنا المعظم، ومفيدنا المقدّم، أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسّر، رحمه الله، بالطريقة الحاجبية، والكتابة الشرعية والأدبية، مع فضل السّنّ وتقرير حسن، إلى معارف تحلّاها،
__________
(1) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس المصري، المتوفّى سنة 646هـ. له مختصر في الفقه المالكي يسمّى المختصر الفقهي، والفرعي، والجامع بين الأمهات. حسن المحاضرة (ج 1ص 215) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 199) ونفح الطيب (ج 7ص 326).
(2) نسبة إلى بني عبد الواد، أصحاب تلمسان بالمغرب الأوسط.(3/249)
ومحاسن اشتمل حلاها. واستمرّ في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السّجع، وتقرير الحلي، فأجاد، وتجاوز المعتاد، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور، وأنه أخذ عنه جملة من العلوم، فأفرده بقراءة الإرشاد والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي، وقرأ عليه جملة من الحاصل، وجملة من المعالم الدينية والفقهية، والكتب المنطقية، كالخونجي، والآيات البيّنات والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف، قاضي الجماعة ببجاية وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي. قال:
ثم ثنيت العنان بتوجّهي إلى تلمسان، راغبا في علوم العربية، والفهوم الهندسية والحسابية، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته، وذكر رئيس الكتّاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والمحدّث البقيّة أبا العباس بن يربوع، والقاضي أبا إسحاق بن أبي يحيى، وقرأ شيئا من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرّندي. ولقي بالأندلس جلّة فممّن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخّار الشهير بالبيري، ولازمه إلى حين وفاته، وكتب له بالإجازة والإذن له في التّحليق بموضع قعوده من المدرسة بعده. وقاضي الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني، نسيج وحده، ولازمه، وأخذ عنه تواليفه، وقرأ عليه تسهيل الفوائد لابن مالك، وقيّد عليه، وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات ابن الحاج، وعن الخطيب المحدّث أبي جعفر الطّنجالي، وهو الآن بالحال الموصوفة.
أعانه الله وأمتع به.
شعره: زرنا معا والشيخ القاضي المتفنّن أبو عبد الله المقرئ، عند قدومه إلى الأندلس، رباط العقاب (1). واستنشدت القاضي، وكتب لي يومئذ بخطّه: استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب، أطال الله بقاه كما أطال ثناه، وحفظ مهجته، كما أحسن بهجته، فأنشدته لنفسي: [البسيط]
لمّا رأيناك بعد الشّيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقينا بما كنّا نصدّقه ... عند المشيب يشبّ الحرص والأمل
وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة. وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول: منصور بن علي الزّواوي، في رابطة العقاب في كذا، أجزت صاحبنا
__________
(1) رباط العقاب أو رابطة العقاب كانت تخصّص للعبادة، وكانت على مقربة من مدينة غرناطة.
الإحاطة (ج 3ص 329) حاشية رقم 1، من تعليق المحقق محمد عبد الله عنان.(3/250)
الفقيه المعظم، أبا عبد الله بن الخطيب وأولاده الثلاثة عبد الله، ومحمدا، وعليّا، أسعدهم الله، جميع ما يجوز لي وعنّي روايته، وأنشدته قولي أخاطب بعض أصحابنا:
[الطويل]
يحيّيك عن بعض المنازل صاحب ... صديق غدت تهدى إليك رسائله
مقدّمة حفظ الوداد وسيلة ... ولا ودّ أن تصحّ وسائله
يسائل عنك الدارسين (1) ولم يكن ... تغيب لبعد الدار عنك مسائله
وكتبت له قبل هذا مما أنشدته عند قدومي على غرناطة: [المجتث]
يا من وجدناه لفظا ... حقيقة في المعالي
مقدّمات علاكم ... أنتجن كلّ كمال
وكل نظم قياس ... خلوت منه فخال
وهو من لدن أزعج عن الأندلس، كما تقدّم ذكره، مقيم بتلمسان، على ما كان عليه من الإقراء والتدريس.
مسلم بن سعيد التّنملّي (2)
حاله: كان غير نبيه الأبوّة. ظهر في دولة السلطان أمير المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر (3)، بمزيد كفاية، فقلّده خطّة الحفازة، وهي تعميم النظر في المجابي، وضمّ الأموال، وإيقاع النّكير في محلّ التّقصير، ومظانّ الريب، فنمت حاله، وعظم جاهه، ورهبت سطوته، وخيف إيقاعه، وقربت من السلطان وسيلته، فتقدّم الخدّام، واستوعب أطراف الحظوة، واكتسب العقار، وصاهر في نبيه البيوتات، وأورث عنه أخبارا تشهد له بالجود وعلوّ الهمة، وشرف النفس، إلى أن قضى على هذه الوتيرة.
ذكروا أن شخصا جلب سلعة نفيسة مما يطمع في إخفائها، حيدة عن وظيفة المغرم الباهظة في مثل جنسه، فبينما هو يروم المحاولة، إذ بصر بنبيه المركب والبزة،
__________
(1) في الأصل: «الدارين»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) نسبة إلى تين ملّل، سرير ملك بني عبد المؤمن الموحدي، بها كان أول خروج المهدي محمد بن تومرت، الذي أقام بالدولة، ومات فصارت لعبد المؤمن ثم لولده. معجم البلدان (ج 2ص 69).
(3) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الذي حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. اللمحة البدرية (ص 50).(3/251)
ينفضّ في زوايا الفحص عن مثل مضطبنه، فظنّه رئيسا من رؤساء الجند، فقصده ورغب منه إجازة خبيئته بباب المدينة، وقرّر لتخوّفه من ظلم الحافز الكذا مسلم، فأخذها منه وخبّأها تحت ثيابه، ووكّل به. ولم يذهب المسكين إلّا يسيرا، حتى سأل عن الرجل، فأخبر أنّه الذي فرّ عنه، فسقط في يده. ثم تحامل، فألفاه ينظره في داخل السور، فدفع إليه أمانته، وقال: سر في حفظ الله، فقد عصمها الله من ذلك الرجل الظالم. فخجل الرجل، وانصرف متعجّبا. وأخباره في السّراوة ونجح الوسيلة كثيرة.
وفاته: توفي في عام ثمانية وتسعين وستمائة، وشهد أميره دفنه، وكان قد أسفّ ولي العهد بأمور صانعه فيها من باب خدمة والده، فكان يتلمّظ لنكبته، ونصب لثاته لأكله، فعاجله الحمام قبل إيقاع نقمته به. ولمّا تصيّر إليه الأمر، نبش قبره، وأخرج شلوه، فأحرق بالنار، إغراقا في شهوة التّشفي، رحمه الله عليه.
ومن العمال الأثراء
مؤمّل، مولى باديس بن حبّوس
حاله ومحنته: قال ابن الصّيرفي: وقد ذكر عبد الله بن بلقّين، حفيد باديس، واستشارته عن أمره، لمّا بلغه حركة يوسف بن تاشفين إلى خلعه. وكان في الجملة من أحبابه، رجل من عبيد جدّه اسمه مؤمّل، وله سنّ، وعنده دهاء وفطنة، ورأي ونظر. وقال في موضع آخر: ولم يكن في وزراء مملكته وأحبار دولته، أصيل الرأي، جزل الكلمة، إلّا ابن أبي خيثمة (1) من كتبته، ومؤمّل من عبيد جدّه، وجعفر من فتيانه. رجع، قال: فألطف له مؤمّل في القول، وأعلمه برفق، وحسن أدب، أن ذلك غير صواب، وأشار إليه بالخروج إلى أمير المسلمين إذا قرب، والتّطارح عليه، فإنه لا تمكنه مدافعته، ولا تطاق حربه، والاستجداء له أحمد عاقبة وأيمن مغبّة. وتابعه على ذلك نظراؤه من أهل السّن والحنكة، ودافع في صدّ رأيه الغلمة والأغمار، فاستشاظ غيظا على مؤمّل ومن نحا نحوه، وهمّ بهم، فخرجوا،
__________
(1) أغلب الظن أنه أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب، المعروف بابن أبي خيثمة، الذي ذكره ابن خير مصنّفا لكتاب تاريخ هام. فهرسة ابن خير (ص 252251). راجع أيضا مذكرات الأمير عبد الله (ص 158) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 222).(3/252)
وقد سلّ بهم فرقا منه. فلمّا جنّهم الليل فرّوا إلى لوشة، وبها من أبناء عبيد باديس قائدها، فملكوها وثاروا فيها، بدعوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. وبادر مؤمّل بالخطاب إلى أمير المسلمين المذكور وقد كان سفر إليه عن سلطانه، فأعجبه عقلا ونبلا، فاهتزّ إليه، وكان أقوى الأسباب على حركته. وبادر حفيد باديس الأمر، فأشخص الجيش لنظر صهره، فتغلّب عليهم، وسيق مؤمّل ومن كان معه شرّ سوق في الحديد، وأركبوا على دواب هجن، وكشفت رؤوسهم، وأردف وراء كلّ رجل من يصفعه. وتقدّم الأمر في نصب الجذوع وإحضار الرّماة. وتلطّف جعفر في أمرهم، وقال للأمير عبد الله: إن قتلتهم الآن، أطفأت غضبك، وأذهبت ملكك، فاستخرج المال، وأنت من وراء الانتقام، فثقّفهم، وأطمعوا في أنفسهم ريثما شغله الأمر، وأنفذ إليه يوسف بن تاشفين في حلّ اعتقالهم، فلم تسعه مخالفته وأطلقهم.
ولمّا ملك غرناطة على تفيئة تلك الحال، قدّم مؤمّلا على مستخلصه (1) وجعل بيده مفاتيح قصره، فنال ما شاء من مال وحظوة، واقتنى ما أراد من صامت وذخيرة.
ونسبت إليه بغرناطة آثار، منها السّقاية بباب الفخّارين، والحوز المعروف بحوز مؤمّل (2)، أدركتها وهي بحالها.
وفاته: قال ابن الصّيرفي: وفي ربيع الأول من هذا العام، وهو عام اثنين وتسعين وأربعمائة، توفي بغرناطة مؤمّل مولى باديس بن حبّوس، عبد أمير المسلمين، وجابي مستخلصه، وكان له دهاء وصبر، ولم يكن بقارئ ولا كاتب. رزقه الله عند أمير المسلمين، أيام حياته، منزلة لطيفة ودرجة رفيعة. ولمّا أشرف على المنيّة، أحضر ما كان عنده من مال المستخلص، وأشهد الحاضرين على دفعه إلى من استوثقه على حمله، ثم أبرأ جميع عماله وكتّابه. وأنفذ رجلا من صنائعه إلى أمير المسلمين بجملة من مال نفسه، يريه أن ذلك جميع ما اكتسبه في دولته، أيام خدمته، وأن بيت المال أولى به، ورغب في ستر أهله وولده، فلمّا وصل إليه، أظهر الأسف عليه، وأمضى تقديم صنيعته. ثم ذكر ما كشف البحث عنه من محتجنه، وشقاء من خلفه بسببه، وعدّد مالا وذخيرة.
__________
(1) المستخلص: أملاك السلطان وأمواله.
(2) حور مؤمل أو حوز مؤمل: كان من أجمل متنزهات غرناطة وأظرفها، سمي بذلك نسبة إلى مؤمل أحد خدام ملك غرناطة باديس بن حبوس، ولاحتوائه على سطر من شجر الحوز. مملكة غرناطة (ص 35).(3/253)
حرف النون الملوك والأمراء
نصر بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد ابن محمد بن خميس بن عقيل الخزرجي الأنصاري (1)
أمير المسلمين بالأندلس، بعد أبيه وجدّه وأخيه، يكنى أبا الجيوش، وقد تقدم من أوليّة هؤلاء الملوك ما يغني عن الإعادة.
حاله: من كتاب «طرفة العصر في أخبار الملوك من بني نصر» من تصنيفنا، قال: كان فتى يملأ (2) العيون حسنا وتمام صورة، دمث الأخلاق، ليّن العريكة، عفيفا، مجبولا على طلب الهدنة وحبّ الخير، مغمد السّيف، قليل الشّر، نافرا للبطر وإراقة الدماء، محبّا في العلم وأهله، آخذا من صناعة التّعديل (3) بحظّ رغيب، يخطّ التقاويم (4) الصّحيحة، ويصنع الآلات الطّريقة (5) بيده، اختصّ في ذلك الشيخ الإمام أبا عبد الله بن الرّقّام، وحيد عصره، فجاء واحد دهره ظرفا وإحكاما. وكان حسن العهد، كثير الوفاء. حمله الوفاء على اللّجاج في أمر (6) وزيره المطلوب بعزله، على الاستهداف للخلع.
تقدّم يوم خلع أخيه، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، وسنّه ثلاث وعشرون سنة، فكان من تمام الخلق، وجمال الصّورة، والتّأنق في (7)
ملوكي اللّباس، آية من آيات الله خالقه. واقتدى (8) برسوم أبيه وأخيه، وأجرى الألقاب والعوائد لأول دولته. وكانت أيامه، كما شاء الله، أيام نحس مستمرّ، شملت المسلمين فيها الأزمة، وأحاط بهم الذّعر، وكلب العدوّ. وسيمرّ من ذلك ما فيه كفاية (9). وكان فتى أيّ فتى، لو ساعده الجدّ، والأمر لله من قبل ومن بعد.
__________
(1) هذه الترجمة الكاملة لأبي الجيوش نصر وردت في اللمحة البدرية (ص 7770) كما هنا.
(2) في اللمحة البدرية (ص 70): «ملأ».
(3) صناعة التعديل: علم الفلك.
(4) في اللمحة: «التقاويم الحسنة والجداول الصحيحة الظريفة، ويصنع».
(5) في اللمحة: «العجيبة».
(6) كلمة «أمر» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة البدرية، (ص 70).
(7) في اللمحة: «في رفيع اللباس وملوكي البزة آية».
(8) في اللمحة: «واحتذى مرسوم».
(9) في اللمحة: «الكفاية».(3/254)
وزراء دولته: وزر له مقيم أمره ومحكم التّدبير على أخيه، أبو (1) بكر عتيق بن محمد بن المول. وبيت بني مول بقرطبة بيت (2) له ذكر وأصالة. ولما تغلّب عليها (3)
ابن هود اختفى بها أبوه أياما عدة (4). ولما تملّكها السلطان الغالب بالله تلك البرهة، خرج إليه وصحبه إلى غرناطة، فاتّصلت قرباه بعقده على بنت للرئيس أبي جعفر المعروف (5) بالعجلب ابن عمّ السلطان. واشتدّ عضده، ثم تأكّدت القربى بعقد مول أخي هذا الوزير على بنت الرئيس أبي الوليد أخت الرئيس أبي سعيد، منجب هؤلاء الملوك الكرام، فقام (6) بأمره، واضطلع بأعباء سلطانه، إلى أن كان من تغلّب أهل الدولة عليه، وإخافة سلطانه منه، ما أوجب صرفه إلى المغرب في غرض الرسالة، وأشير عليه في طريقه بإقامته بالمغرب، فكان صرفا حسنا. وتولّى الوزارة محمد بن علي بن عبد الله بن الحاج، المسيّر (7) لخلعه، واجتثاث أصله وفرعه، وكان خبّا داهية، أعلم الناس بأخبار الرّوم وسيرهم وآثارهم. فحدثت بين السلطان وبين أهل (8)
حضرته الوحشة بسببه.
قضاته: أقرّ على خطة القضاء بحضرته قاضي أخيه الشيخ الفقيه أبا جعفر القرشي المنبز بابن فركون، وقد تقدم التعريف به مستوفى بحول الله (9).
كتّابه: شيخنا (10) الصدر الوجيه، نسيج وحده أبو الحسن علي بن محمد بن سليمان بن الجيّاب إلى آخر مدته.
من كان على عهده من الملوك: بالمغرب (11)، السلطان أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تصيّر الأمر إليه بعد وفاة أخيه السلطان أبي ثابت عامر بأحواز طنجة، في صفر عام ثمانية وسبعمائة.
وكان (12) مشكورا، مبخت الولاية. وفي دولته عادت سبتة إلى الإيالة المرينيّة. ثم توفي بتازى (13) في مستهل رجب (14) من عام عشرة وسبعمائة. وتولّى الملك بعده عمّ
__________
(1) في اللمحة: «الوزير القائد أبو».
(2) في اللمحة (ص 71): «بيت أصالة».
(3) كلمة «عليها» ساقطة في اللمحة.
(4) كلمة «عدة» ساقطة في اللمحة.
(5) في اللمحة: «المنبز بالفجلّب».
(6) في اللمحة: «قام».
(7) في اللمحة: «الميسّر».
(8) في اللمحة: «وأهل».
(9) في اللمحة: «وقد تقدّم ذكره».
(10) في اللمحة البدرية: «شيخنا أبو الحسن بن الجياب نسيج وحده إلى آخر مدته».
(11) في اللمحة البدرية: (ص 72): «بالمغرب من ذلك: كان على عهده بالمغرب السلطان».
(12) في اللمحة: «وكان مشكور الولاية».
(13) في اللمحة: «بتازا».
(14) في اللمحة: «شهر رجب».(3/255)
أبيه السلطان الجليل الكبير، خدن العافية، ووليّ السلامة، وممهّد الدولة أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. واستمرّت ولايته إلى تمام أيام هذا الأمير، وكثيرا (1) من أيام من بعده. وقد تقدّم من ذكر السلطان أبي يوسف في اسم من تقدم من الملوك ما فيه كفاية.
وبتلمسان، الأمير أبو حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن، [سلطان بني عبد الواد، مذلّل الصّقع] (2)، والمثل (3) السّائر في الحزم والتيقّظ، وصلابة الوجه، زعموا، وإحكام القحة، والإغراب في خبث (4) السّيرة. واستمرّت ولايته إلى عام ثمانية عشر وسبعمائة، إلى أن سطا به ولده عبد الرحمن أبو تاشفين.
وبتونس، الأمير الخليفة أبو عبد الله محمد بن الواثق (5) يحيى بن المستنصر محمد (6) بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص (7). ثم توفي في ربيع (8) الآخر عام تسعة (9) وسبعمائة. فولي الأمر قريبه الأمير أبو بكر (10) عبد الرحمن بن الأمير أبي يحيى (11) زكريا ابن الأمير [أبي إسحاق بن الأمير] (12) أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص. ونهض إليه من بجاية قريبة السلطان أبو البقاء خالد ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا يحيى (13) بن عبد الواحد بن أبي حفص، فالتقيا (14) بأرض تونس، فهزم أبو بكر (15)، ونجا بنفسه، فدخل بستانا لبعض أهل الخدمة، مختفيا فيه، فسعي به إلى أبي البقاء، فجيء به إليه، فأمر بعض القرابة بقتله صبرا، نفعه الله (16). وتمّ الأمر لأبي البقاء في رابع جمادى الأولى منه، إلى أن وفد (17) الشيخ المعظم (18) أبو يحيى زكريا الشهير (19)
__________
(1) في اللمحة: «وكثير».
(2) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(12) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(3) في اللمحة: «المثل».
(4) كلمة «خبث» ساقطة في اللمحة.
(5) كلمة «الواثق» ساقطة في اللمحة.
(6) في اللمحة: «أبي عبد الله محمد».
(7) في اللمحة: «حفص بن عبد الواحد».
(8) في اللمحة: «شهر ربيع الآخر من عام».
(9) في الأصل: «تسع» وهو خطأ نحوي.
(10) في الأصل: «أبو بكر بن عبد الرحمن» والتصويب من اللمحة.
(11) كلمة «يحيى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة البدرية.
(13) في اللمحة: «والتقيا».
(14) في اللمحة: «أبو بكر بن عبد الرحمن».
(15) جملة «نفعه الله» ساقطة في اللمحة (ص 73).
(16) في اللمحة: «وصل».
(17) كلمة «المعظم» ساقطة في اللمحة.
(18) في اللمحة: «المعروف باللحياني من المشرق».
(19) في اللمحة: «المعروف باللحياني من المشرق».(3/256)
باللّحياني، قافلا من بلاد المشرق، وهو كبير آل أبي حفص نسبا (1) وقدرا، فأقام بإطرابلس، وأنفذ إلى تونس خاصّته الشيخ الفقيه أبا عبد الله المردوري (2) محاربا لأبي البقاء، وطالبا للأمر. فتمّ الأمر (3)، وخلع أبو البقاء تاسع جمادى الأولى عام أحد عشر وسبعمائة. وتمّ الأمير للشيخ أبي يحيى. واعتقل أبو البقاء، فلم يزل معتقلا إلى أن توفي في شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، ودفن بالجبّانة المعروفة لهم (4) بالزلّاج، فضريحه (5) فيما تعرّفنا بإزاء ضريح قتيله (6) المظلوم أبي بكر، لا فاصل بينهما. وعند الله تجتمع الخصوم.
واتّصلت أيام الأمير أبي يحيى، إلى أن انقرضت مدة الأمير أبي الجيوش. وقد تضمّن الإلماع بذلك (7) الرّجز المسمّى ب «قطع السّلوك» (8) من نظمي. فمن (9) ذلك فيما يختصّ بملوك (10) المغرب قولي في ذكر السلطان أبي يعقوب: [الرجز]
ثم تقضّى معظم الزمان ... مواصلا حصر بني زيّان
حتى أتى أهل تلمسان الفرج ... ونشقوا من جانب اللّطف الأرج
لما ترقّى درج السّعد درج ... فانفضّ ضيق الحصر عنها وانفرج
وابن ابنه وهو المسمّى عامرا ... أصبح بعد ناهيا وآمرا
وكان ليثا دامي المخالب ... تغلّب (11) الأمر بجدّ غالب
أباح بالسّيف نفوسا عدّه ... فلم تطل في الملك منه المدّة
ومات حتف أنفه واخترما ... ثم سليمان عليها قدّما
أبو الربيع دهره ربيع ... يثني على سيرته الجميع
حتى إذا الملك سليمان قضى ... تصيّر الملك (12) لعثمان الرّضا
فلاح نور السّعد فيها وأضا ... ونسي (13) العهد الذي كان مضى
__________
(1) في اللمحة: «حفص إذ ذاك سنّا وقدرا».
(2) في اللمحة: «المزدوري».
(3) في اللمحة: «له الأمر».
(4) في اللمحة: «عندهم».
(5) في اللمحة: «بضريحه».
(6) كلمة «قتيله» ساقطة في اللمحة.
(7) في اللمحة: «ببعض ذلك الرجز من نظمنا».
(8) هو كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» لابن الخطيب.
(9) في اللمحة: «فمنه».
(10) في اللمحة: «بذكر ملوك في ذكر السلطان».
(11) في اللمحة: «يقلّب».
(12) في اللمحة: «الأمر».
(13) في الأصل: «وسنى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية (ص 74).(3/257)
وفيما يختصّ ببني زيّان، بعد ذكر أبي زيّان: [الرجز]
حتى إذا استوفى زمان سعده ... قام أبو حمّو بها من بعده
وهو الذي سطا عليه ولده ... حتى انتهى على يديه أمده (1)
وفيما يختصّ بآل أبي حفص بعد ذكر جملة (2) منهم: [الرجز]
ثم الشهيد (3) والأمير (4) خالد ... هيهات ما في الدهر حيّ خالد
وزكريّاء (5) بها بعد ثوى ... ثم نوى الرّحلة عنها والنوى
وحلّ (6) بالشرق وبالشرق ثوى ... وربما فاز امرؤ بما نوى
ومن ملوك النصارى بقشتاله: هرانده بن شانجه بن ألهنشه (7) بن هرانده بن شانجه. ونازل على عهده الجزيرة الخضراء، ثم أقلع عنها عن ضريبة (8) وشروط، ثم نازل في أخريات أمره (9) حصن القبذاق، وأدركه ألم الموت بظاهره، فاحتمل من المحلّة (10) إلى جيّان، وبقيت المحلّة منيخة على الحصن، إلى أن تملّك بعد موت الطّاغية بأيام (11) ثلاثة، كتموا فيها موته. ولسبب (12) هلاكه حكاية ظريفة، تضمنتها «طرفة العصر، في تاريخ دولة بني نصر». وقام بعده بأمر النصرانية ولده ألهنشه، واستمرّت أيامه إلى (13) عام خمسين وسبعمائة.
بعض الأحداث في أيامه: نازل على أول أمره طاغية قشتالة الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من (14) عام تسعة وسبعمائة، وأقام عليها إلى أخريات شعبان من العام المذكور، وأقلع (15) عنها بعد ظهوره على الجبل (16) وفوز قداحه به. ونازل
__________
(1) بعد هذا البيت جاء في اللمحة البدرية البيت الآتي:
وأخذ الله له بالثار ... وكلّ نظم فإلى انتثار
(2) في اللمحة: «جملة في نسق».
(3) في اللمحة: «ثم الأمير والشهيد».
(4) في الأصل: «الأمير» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة.
(5) في الأصل: «وزكريّا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة.
(6) في الأصل: «رحل» والتصويب من اللمحة.
(7) في اللمحة: «ألفونشة».
(8) في اللمحة: «عن شروط وضريبة».
(9) في اللمحة: «أيامه».
(10) المحلّة هنا بمعنى: المعسكر.
(11) في اللمحة: «بعد أيام ثلاثة إذ كتم موته».
(12) في اللمحة: «ولموته حكاية غريبة تضمنها كتاب طرفة العصر من تأليفنا».
(13) في اللمحة: «إلى عاشوراء من عام».
(14) في اللمحة البدرية (ص 75): «لصفر من».
(15) في اللمحة: «ثم أقلع».
(16) في اللمحة: «على جبل الفتح»، وهو جبل طارق.(3/258)
صاحب برجلونة مدينة ألمريّة غرّة ربيع الأول من هذا العام، وأخذ بمخنّقها، وتفرّقت الظبا على الخراش (1)، ووقعت على جيش المسلمين الناهد إليه وقيعة (2) كبيرة، واستمرّت المطاولة إلى أخريات شعبان، ونفّس الله الحصر، وفرّج الكرب. وما كاد أهل الأندلس يستنشقون (3) ريح العافية، حتى نشأ نجم الفتنة (4)، ونشأت ريح الخلاف، واستفسد وزير الدولة ضمائر أهلها، واستهدف إلى رعيتها بإيثار النصارى والصاغية إلى العدوّ، وأظهر الرّئيس (5) ابن عم الأب صاحب مالقة أبو سعيد فرج (6) بن إسماعيل، صنو الغالب بالله (7) ابن نصر، الامتساك بما كان بيده، والدعاء لنفسه، وقدّم ولده الدّائل إلى طلب الملك. وثار أهل غرناطة، يوم الخامس والعشرين لرمضان (8) من العام، وأعلن منهم من أعلن بالخلاف ثم خانهم التدبير، وخبطوا العشواء (9)، ونزل الحشم، فلاذ الناس منهم بديارهم، وبرز السلطان إلى باب القلعة، متقدّما بالعفّة عن الناس، وفرّ الحاسرون عن القناع، فلحقوا بالسلطان أبي الوليد بمالقة، فاستنهضوه (10) إلى الحركة، وقصد الحضرة، فأجابهم وتحرّك، فأطاعته الحصون بطريقه، واحتلّ خارج (11) غرناطة صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين لشوال منه (12)، فابتدره الناس من صائح ومشير بثوبه، ومتطارح بنفسه، فدخل البلد من ناحية ربض البيّازين، واستقرّ بالقصبة (13)، كما تقدم في اسمه. وفي ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر، نزل (14) الحمراء دار الملك، وانفصل السلطان المترجم به، موفّى له شرط عقده من انتقاله إلى وادي آش، مستبدّا بها، وتعيين مال مخصوص، وغير ذلك. ورحل ليلة الثلاثاء الثالث لذي قعدة من العام. واستمرّت الحال، بين حرب ومهادنة (15)، وجرت بسبب ذلك أمور صعبة إلى حين وفاته.
رحمه الله.
__________
(1) في اللمحة: «خداش».
(2) في اللمحة: «وقعة».
(3) في اللمحة: «ينتشقون».
(4) في اللمحة: «نجم شهاب الفتنة».
(5) في الأصل: «الرّيّس» والتصويب من اللمحة.
(6) كلمة «فرج» ساقطة في اللمحة.
(7) في اللمحة: «بالله تعالى الامتساك بما في يده».
(8) في اللمحة: «من رمضان هذا العام».
(9) في اللمحة: «عشواء».
(10) في اللمحة: «واستنهضوه».
(11) في اللمحة: «خارجها».
(12) في اللمحة: «من العام».
(13) في اللمحة (ص 76): «بالقصبة القدما تجاه الحمراء. وفي ظهر».
(14) في اللمحة: «كان دخوله دار».
(15) في اللمحة: «ومهادنة إلى حين وفاته».(3/259)
مولده: ولد (1) في رمضان عام ستة وثمانين وستمائة. وكانت سنّه ستا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ودولته الجامعة خمس سنين وشهرا واحدا، ومقامه بوادي آش تسعة أعوام وثلاثة أيام.
وفاته: توفي، رحمه الله، ليلة الأربعاء سادس ذي قعدة من عام اثنين وعشرين وسبعمائة بوادي آش، ودفن بجامع القصبة منها، ثم نقل في أوائل (2) ذي الحجة منه إلى الحضرة، فكان وصوله يوم الخميس السادس منه، وبرز إليه السلطان، والجمع الكثير من الناس، ووضع (3) سريره بالمصلّى العيدي، وصلّى عليه إثر صلاة العصر، ودفن بمقبرة سلفه بالسّبيكة، وكان يوما من الأيام المشهودة، وعلى قبره مكتوب في الرّخام:
«هذا قبر السلطان المرفّع (4) المقدار، الكريم البيت العظيم النّجار، سلالة الملوك الأعلام الأخيار، الصّريح النّسب في صميم الأنصار (5)، الملك الأوحد الذي له السّلف العالي المنار، في الملك المنيع الذّمار، رابع ملوك بني نصر أنصار دين المصطفى (6) المختار، المجاهدين في سبيل الملك الغفار، الباذلين في رضاه كرائم الأموال ونفائس الأعمار، المعظّم المقدّس المرحوم أبي الجيوش نصر ابن السلطان الأعلى، الهمام الأسمى، المجاهد الأحمى، الملك العادل، الطّاهر الشّمائل، ناصر دين الإسلام، ومبيد عبدة الأصنام، المؤيد المنصور، المقدّس، المرحوم أمير المسلمين أبي عبد الله ابن السلطان الجليل (7)، الملك الشهير، مؤسّس قواعد الملك على التّقوى والرّضوان، وحافظ كلمة الإسلام وناصر دين الإيمان، الغالب بالله، المنصور بفضل الله، المقدّس المرحوم، أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر، تغمّده الله برحمته وغفرانه، وبوّأه منازل إحسانه، وكتبه في أهل رضوانه، وكان (8) مولده في يوم الاثنين الرابع والعشرين لشهر رمضان المعظم عام ستة وثمانين وستمائة. وبويع يوم الجمعة غرّة شوال عام ثمانية وسبعمائة، وتوفي، رحمه الله (9)، ليلة يوم الأربعاء
__________
(1) هذا النص عن مولده ساقط في اللمحة البدرية.
(2) في اللمحة: «في أول ذي حجة».
(3) في اللمحة: «وصلّى على سريره بالمصلّى العيدي إثر صلاة العصر من يوم الخميس السادس من الشهر، ووري بتربة جدّه من مقبرة السبيكة، وكان يومه من الأيام المشهودة وعلى قبره».
(4) في اللمحة: «الرفيع».
(5) في اللمحة: «الأمصار».
(6) في اللمحة: «المدنيّ».
(7) في اللمحة البدرية (ص 77): «السلطان الملك الجليل الشهير».
(8) في اللمحة: «كان».
(9) جملة «رحمه الله» ساقطة في اللمحة البدرية.(3/260)
السادس لشهر ذي قعدة عام اثنين وعشرين وسبعمائة، فسبحان الملك الحقّ المبين، وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وفي جهة (1): [الكامل]
يا قبر، جاد ثراك (2) صوب غمام ... يهمي عليك برحمة وسلام
بوركت لحدا فيه أيّ وديعة ... ملك كريم من نجار كرام
ما شئت من حلم ومن خلق رضى ... وزكاء أعراق ومجد سام
فاسعد بنصر رابع الأملاك من ... أبناء نصر ناصري الإسلام
من خزرج الفخر الذين مقامهم ... في نصر خير الخلق خير مقام
يا أيها المولى المؤسّس بيته ... في معدن الأحساب والأحلام
ما للمنيّة والشباب مساعد ... قد أقصدتك بصائبات سهام
عجلت على ذاك الجمال فغادرت ... ربع المحاسن طامس الأعلام
فمحى الرّدى من حسن وجهك آية ... نحو (3) النهار لسدفة الإظلام
ما كنت إلّا بدر تمّ باهرا ... أخنى الخسوف عليك عند تمام
فعلى ضريح أبي الجيوش تحيّة ... كالمسك عرفا عند فضّ ختام
وتغمّدته رحمة الله التي ... ترضيه من عدن بدار مقام
ومن الأعيان والوزراء
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري
يكنى أبا الفتح، أصلهم من حصن أريول من عمل مرسية، ولهم في الدولة النّصرية مزية خصّوا لها بأعظم رتب القيادة، واستعمل بعضهم في ولاية السلطان.
حاله: نقلت من خط شيخنا أبي بكر بن شبرين، قال: وفي السادس عشر لذي قعدة منه، يعني عام عشرة وسبعمائة، توفي بغرناطة القائد المبارك أبو الفتح، أحد الولاة والأعيان الذاكرين لله تعالى، أولي النزاهة والوفاء.
نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح بن نصر بن إبراهيم ابن نصر الفهري
يكنى أبا الفتح، حفيد المذكور معه في هذا الباب.
__________
(1) قوله: «وفي جهة» ساقط في اللمحة البدرية.
(2) في اللمحة: «ثراك جاد» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في اللمحة: «محو».(3/261)
حاله: من كتاب «طرفة العصر»: نسيج وحده في الخير والعفاف، ولين العريكة، ودماثة الأخلاق، إلى بعد الهمّة، وجمال الأبّهة، وضخامة التّجنّد، واستجادة المركب والعدّة، وارتباط العبادة. استعان على ذلك بالنّعمة العريضة بين منادية إليه بميراث، ومكتسب من جرّاء المتغلّب على الدولة صهره ابن المحروق معياشة لبنته. ونمت حال هذا الشهم النّجد، وشمخت رتبته حتى خطب للوزارة في أخريات أيامه، وعاق عن تمام المراد به إلحاح السّقم على بدنه وملازمة الضّنا لجثمانه، فمضى لسبيله، عزيز الفقد عند الخاصّة، ذائع الثّناء، نقي العرض، صدرا في الولاة، وعلما في القوّاد الحماة.
وفاته: توفي بغرناطة ليلة الجمعة الثامن والعشرين لجمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وسبعمائة. وكانت جنازته آخذة نهاية الاحتفال، ركب إليها السلطان، ووقف بإزاء لحده، إلى أن ووري، تنويها بقدره، وإشادة ببقاء الحرمة على خلفه. وحمل سريره الجملة من فرسانه وأبناء نعمته.
ومن الكتّاب والشعراء
نزهون بنت القليعي (1)
قال ابن الأبّار (2): وهو فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغسّاني، غرناطية (3).
حالها: كانت (4) أديبة شاعرة، سريعة الجواب، صاحبة فكاهة ودعابة. وقد جرى شيء من ذلك في اسم أبي بكر بن قزمان (5)، والمخزومي الأعمى (6)، وأبي بكر بن سعيد (7).
__________
(1) ترجمة نزهون في المغرب (ج 2ص 121) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 216) والذيل والتكملة (ج 8ص 493) والتكملة (ج 4ص 258) وبغية الملتمس (ص 546) ورايات المبرزين (ص 159) ونفح الطيب (ج 6ص 69).
(2) التكملة (ج 4ص 258). وانظر أيضا: الذيل والتكملة (ج 8ص 493).
(3) في التكملة: «من أهل غرناطة».
(4) النص في التكملة (ج 4ص 258) والذيل والتكملة (ج 8ص 493).
(5) هو أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان، وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(6) هو أبو بكر المخزومي الموروري، وقد ترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة.
(7) أغلب الظن أنه أبو بكر محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد، وقد ترجم له ابن الخطيب في هذا الجزء.(3/262)
شعرها: دخل (1) الأديب أبو بكر الكتندي (2) الشاعر، وهي تقرأ على المخزومي الأعمى، فلمّا نظر إليها، قال: أجز يا أستاذ: [الكامل]
لو كنت تبصر من تكلّمه (3) ...
فأفحم المخزومي زامعا، فقالت: [الكامل]
... لغدوت أخرس من خلاخله
ثم زادت:
البدر يطلع من أزرّته ... والغصن يمرح في غلائله
ولا خفاء ببراعة هذه الإجازة ورفاعة هذا الأدب.
وكتب إليها أبو بكر بن سعيد، وقد بلغه أنها تخالط غيره من الأدباء الأعيان (4):
[المجتث]
يا من له ألف خلّ (5) ... من عاشق وعشيق (6)
أراك خلّيت للنّا ... س سدّ ذاك الطريق (7)
فأجابته بقولها: [الطويل]
حللت أبا بكر محلّا منعته ... سواك، وهل غير الرفيع (8) له صدري؟
وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدّم أهل الحقّ فضل (9) أبي بكر
وهذه غاية في الحسن بعيدة. ومحاسنها شهيرة، وكانت من غرر المفاخر الغرناطية.
__________
(1) الحكاية والشعر في التكملة (ج 4ص 259258) ورايات المبرزين (ص 160159) والمغرب (ج 2ص 121) ونفح الطيب (ج 6ص 7271) والذيل والتكملة (ج 8ص 493).
(2) هو أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الكتندي، وله ترجمة في رايات المبرزين (ص 157).
(3) في التكملة: «من نجالسه». وفي الذيل والتكملة والنفح: «من تجالسه».
(4) شعر أبي بكر بن سعيد وجواب نزهون في المقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 216) ورايات المبرزين (ص 160) ونفح الطيب (ج 6ص 69).
(5) في المقتضب ورايات المبرزين: «شخص».
(6) في النفح: «وصديق».
(7) في المصدر نفسه: «للناس منزلا في الطريق».
(8) في المصادر الثلاثة: «الحبيب».
(9) في النفح: «حبّ».(3/263)
حرف الصاد
من الأعيان والوزراء
الصّميل بن حاتم بن عمر بن جذع بن شمر بن ذي الجوشن الضّبابي الكلبي (1)
وهو من أشراف عرب الكوفة.
أوليته: قال صاحب الكتاب «الخزائني»: جدّه (2) أحد قتلة الحسين بن علي والذي قدم برأسه على يزيد بن معاوية، فلمّا قام المختار (3) ثائرا بالحسين فرّ عنه شمر ولحق بالشام فأقام بها في عزّ ومنعة. ولمّا خرج كلثوم بن عياض غازيا إلى المغرب، كان الصّميل ممن ضرب عليه البعث في أشراف أهل الشام. ودخل الأندلس في طالعة بلج بن بشر القشيري، فشرف ببدنه إلى شرف تقدّم له، وردّ ابن حيّان هذا. وقال في كتاب «بهجة الأنفس، وروضة الأنس»: كان الصّميل بن حاتم هذا جدّه شمر قاتل الحسين، رضي الله عنه، من أهل الكوفة، فلمّا قتله، تمكّن منه المختار فقتله، وهدم داره، فارتحل ولده من الكوفة، فرأس بالأندلس، وفاق أقرانه بالنجدة والسّخاء.
حاله: قال (4): كان شجاعا، نجدا، جوادا، كريما، إلّا أنه كان رجلا أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان (5) له في قلب الدول وتدبير الحروب، أخبار مشهورة.
من أخباره: حكى ابن القوطيّة، قال (6): مرّ الصّميل بمعلّم يتلو: {وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ} (7)، فوقف يسمع، ونادى بالمعلّم: يا هناه، كذا نزلت
__________
(1) توفي الصميل بن حاتم سنة 142هـ، وترجمته في الحلة السيراء (ج 1ص 67) وتاريخ افتتاح الأندلس (ص 4644، 51، 6159).
(2) النص في الحلة السيراء (ج 1ص 67) بتصرف، وجاء فيه أن جدّه هو: شمر بن ذي الجوشن.
(3) هو أبو إسحاق المختار بن أبي عبيد الثقفي، المتوفى سنة 67هـ من زعماء الثائرين على بني أمية، كان همه أن يقتل من قاتلوا الحسين بن علي، عليهما السلام. الأعلام (ج 7ص 192) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(4) قارن بالحلة السيراء (ج 1ص 68).
(5) في الحلة السيراء: «وكانت».
(6) النص في تاريخ افتتاح الأندلس (ص 60) والحلة السيراء (ج 1ص 68) بتصرف.
(7) سورة آل عمران 3، الآية 140.(3/264)
هذه الآية؟ فقال: نعم، فقال: أرى والله أن سيشركنا في هذا الأمر العبيد والأراذل والسّفلة.
خبره في الجود: قال: كان أبو الأجرب الشاعر (1) وقفا على أمداح الصّميل، وهو القائل: [الوافر]
بنى لك حاتم بيتا رفيعا ... رأيناه على عمد طوال
وقد كان ابتنى شمر وعمرو ... بيوتا غير ضاحية الظّلال
فأنت ابن الأكارم من معدّ ... تعلج للأباطح (2) والرّمال
وقارضه بإجزاله لعطائه وانتمائه في ثوابه، بأن أغلظ القسم على نفسه بأن لا يراه إلّا أعطاه ما حضره، فكان أبو الأجرب قد اعتمد اجتنابه في اللقاء حياء منه وإبقاء على ماله، فكان لا يزوره إلّا في العيدين قاضيا لحقّه. وقد لقيه يوما مواجهة ببعض الطريق، والصّميل راكب، ومعه ابناه، فلم يحضره ما يعطيه، فأرجل أحد ابنيه، وأعطاه دابّته، فضرب في صنعه، وفيه يقول من قصيدة:
[الكامل]
دون الصّميل شريعة مورودة ... لا يستطيع لها العدوّ ورودا
فتّ الورى وجمعت أشتات العلا ... وحويت مجدا لا ينال وجودا
فإذا هلكت فلا تحمّل فارس ... سيفا ولا حمل النساء وليدا
وكان صاحب أمره ولّاه الأندلس قبل الأمويين لهم الأسماء وله معنى الإمرة، وكان مظفّر الحروب، سديد الرأي، شهير الموقف، عظيم الصبر. وأوقع باليمانيّة وقائع كثيرة، منها وقيعة شقندة، ولم يكن بالأندلس مثلها، أثخن فيها القتل باليمانية.
أنفته: قال: وكان أبيّا للضّيم، محاميا عن العشيرة، كلّم أبا الخطّار الأمير في رجل من قومه انتصر به، فأفجمه، وردّ عليه، فأمر به، فتعتع ومالت عمامته، فلمّا خرج قال له بعض من على باب الأمير: يا أبا الجوشن، ما باب عمامتك مائلة؟
فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها، وخرج من ليلته، فأفسد ملكه.
__________
(1) أبو الأجرب هو جعونة بن الصّمّة الكلابي، من قدماء شعراء الأندلس، وترجمته في جذوة المقتبس (ص 189) وبغية الملتمس (ص 261) والمغرب (ج 1ص 131).
(2) في الأصل: «تعتلج الأباطح»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى. ويعلج الرجل: يشتدّ.(3/265)
وفاؤه: وخبر وفائه مشهور، فيما كان من جوابه لرسولي عبد الرحمن بن معاوية إليه، بما قطع به رجاء الهوادة في أمر أميره يوسف بن عبد الرحمن الفهري، والتّستّر مع ذلك عليهما، فلينظر في كتاب «المقتبس».
دخوله غرناطة: ولما صار الأمر إلى عبد الرحمن بن معاوية، صقر بني أمية، وقهر الأمير يوسف الفهري ووزيره الصّميل، إذ عزله الناس، ورجع معه يوسف الفهري والصميل إلى قرطبة، ولم يلبثا أن نكثا، ولحقا فحص غرناطة، ونازلهما الأمير عبد الرحمن بن معاوية في خبر طويل، واستنزلهما عن عهد، وعاد الجميع إلى قرطبة، وكان يوسف والصميل يركبان إلى القصر كل جمعة إلى أن مضيا لسبيلهما. وكان عبد الرحمن بن معاوية يسترجع ويقول: ما رأيت مثله رجلا. لقد صحبني من إلبيرة إلى قرطبة، فما مسّت ركبتي ركبته، ولا خرجت دابّته عن دابّتي.
ومن الكتّاب والشعراء
صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى ابن إدريس التّجيبي (1)
من أهل مرسية، يكنى أبا بجر (2).
حاله: كان (3) أديبا، حسيبا جليلا، أصيلا، ممتعا من الظّرف، ريّان من الأدب، حافظا، حسن الخطّ، سريع البديهة، ترف النّشأة، على تصاون وعفاف، جميلا سريّا، سمحا ذكيا، مليح العشرة، طيّب النفس، ممّن تساوى حظّه في النظم والنثر، على تباين الناس في ذلك.
مشيخته: روى عن أبيه وخاله، ابن عمّ أبيه القاضي أبي القاسم بن إدريس، وأبي بكر بن مغاور، وأبي الحسن بن القاسم، وأبي رجال بن غلبون، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي العباس بن مضاء، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد الحجري، وابن حوط الله، وأبي الوليد بن رشد، وأجاز له أبو القاسم بن بشكوال.
__________
(1) ترجمة صفوان بن إدريس في التكملة (ج 2ص 224) والمغرب (ج 2ص 260) ورايات المبرزين (ص 201) وفوات الوفيات (ج 2ص 117) والوافي بالوفيات (ج 16ص 321) ومعجم الأدباء (ج 3ص 421) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 155، 206) والذيل والتكملة (السفر الرابع ص 140) ونفح الطيب (ج 7ص 57).
(2) في النفح: «أبو بحر».
(3) النص في الذيل والتكملة (السفر الرابع ص 140) والنفح (ج 7ص 5857).(3/266)
من روى عنه: أبو إسحاق اليابري، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن أبي البقاء، وأبو عمرو بن سالم، ومحمد بن محمد بن عيشون.
تواليفه: له تواليف أدبيّة منها، «زاد المسافر»، وكتاب «الرحلة»، وكتاب «العجالة» سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدبا لا كفاء له. وانفرد من تأبين الحسين، رضي الله عنه، وبكاء أهل البيت، بما ظهرت عليه بركته في (1) حكايات كثيرة.
شعره: ثبتّ من ذلك في العجالة قوله (2): [الكامل]
جاد الزمان بأنّة الجرعاء ... توقان من دمعي وغيث سماء (3)
فالدّمع يقضي عندها حقّ الهوى ... والغيم حقّ البانة الغيناء (4)
خلت الصّدور من القلوب كما خلت ... تلك المقاصر من مها وظباء
ولقد أقول لصاحبيّ وإنما ... ذخر الصّديق لأمجد (5) الأشياء
يا صاحبيّ، ولا أقلّ إذا أنا ... ناديت من أن تصغيا لندائي (6)
عوجا بحار (7) الغيم في سقي الحما ... حتى ترى (8) كيف انسكاب الماء
ونسنّ في سقي المنازل سنّة ... نمضي بها حكما على الظّرفاء
يا منزلا نشطت إليه عبرتي ... حتى تبسّم زهره لبكائي (9)
ما كنت قبل مزار ربعك عالما ... أنّ المدامع أصدق الأنواء
يا ليت شعري والزّمان تنقّل ... والدّهر ناسخ شدّة برخاء
هل نلتقي في روضة موشيّة ... خفّاقة الأغصان والأفياء؟
وننال فيها من تألّفنا ولو ... ما فيه سخمة (10) أعين الرّقباء؟
في حيث أتلعت الغصون سوالفا ... قد قلّدت بلآلئ الأنداء
وجرت (11) ثغور الياسمين فقبّلت ... عنيّ (12) عذار الآسة الميساء
__________
(1) في النفح: «من».
(2) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 391390).
(3) رواية البيت في النفح هي:
جاد الرّبا من بانة الجرعاء ... نوءان من دمعي وغيم سماء
(4) في النفح: «الغنّاء».
(5) في النفح: «لآكد».
(6) في الأصل: «لنداء» والتصويب من النفح.
(7) في النفح: «نجاري».
(8) في النفح: «يرى».
(9) في الأصل: «لبكاء» والتصويب من النفح.
(10) في النفح: «سخنة».
(11) في النفح: «وبدت».
(12) في الأصل: «عيني» والتصويب من النفح.(3/267)
والورد في شطّ الخليج كأنّه ... رمد ألمّ بمقلة زرقاء
وكأنّ غصن (1) الزّهر في خضر الرّبى ... زهر النجوم تلوح بالخضراء
وكأنما جاء النّسيم مبشّرا ... للرّوض يخبره بطول بقاء
فكساه خلعة طيبه ورمى له ... بدراهم الأزهار رمي سخاء
وكأنّما احتقر الصّنيع فبادرت ... بالعذر (2) عنه نغمة الورقاء
والغصن يرقص في حلى أوراقه ... كالخود في موشيّة خضراء
وافترّ ثغر الأقحوان بما رأى ... طربا وقهقه منه جري الماء
أفديه من أنس تصرّم فانقضى ... فكأنّه قد كان في الإغفاء
لم يبق منه غير ذكر أو منى ... وكلاهما سبب لطول عناء
أو رقعة من صاحب هي تحفة ... إنّ الرّقاع لتحفة النّبهاء
كبطاقة الوسميّ (3) إذ حيّا بها ... إنّ الكتاب تحيّة الظّرفاء (4)
وهي طويلة (5). وقال مراجعا عن كتاب أيضا: [الوافر]
ألا سمح الزمان به كتابا ... ذرى بوروده أنسي قبابا
فلا أدري أكانا تحت وعد ... دعا بهما لبرئي فاستجابا؟
وقد ظفرت يدي بالغنم منه ... فليت الدهر سنّى لي إيابا
فلو لم أستفد شيئا سواه ... قنعت بمثله علقا لبابا
إذا أحرزت هذا في اغترابي ... فدعني أقطع العمر اغترابا
رجمت بأنسه شيطان همّي ... فهل وجّهت طرسا أم شهابا؟
رشفت به رضاب الودّ عذبا ... يذكّرني شمائلك العذابا
وكدت أجرّ أذيالي نشاطا ... ولكن خلت قولهم تصابا
فضضت ختامه عنّي كأني ... فتحت بفضّه للروض بابا
فكدت أبثّه في جفن عيني ... لكي أستودع الزّهر السّحابا
وكنت أصونه في القلب لكن ... خشيت عليه أن يفنى التهابا
ولو أنّ الليالي سامحتني ... لكنت على كتابكم الجوابا
__________
(1) في النفح: «غضّ».
(2) في النفح: «للعذر».
(3) في النفح: «الوشقيّ».
(4) في النفح: «الخلطاء».
(5) أورد منها المقري ستة وأربعين بيتا.(3/268)
فأبلي عندكم بالشّكر عذرا ... وأجزل من ثنائكم الثّوابا
ولكنّ الليالي قيّدتني ... وقيّد عدّتي (1) إلّا الخطابا
فما تلقاني الأحباب إلّا ... سلاما أو مناما أو كتابا
لأمر ما يقصّ الدهر ريشي ... لأنّ السّهم مهما ريش صابا
وعاذلة تقول ولست أصغي ... ولو أصغيت لم أرفع جوابا
تخوّفني الدّواهي وهي عندي ... أقل من أن أضيق بها جنابا
إذا طرقت أعدّ لها قراها ... وقارا واحتسابا واصطبارا
وما مثلي يخوّف بالدواهي ... عرين اللّيث لا يخشى الذّبابا
تعاتبني فلا يرتدّ طرفي ... وهل تسترقص الرّيح الهضابا؟
ولو أنّ العتاب يفيد شيئا ... ملأت مسامع الدّنيا عتابا
وقد وصّيتها بالصّمت عنّي ... فما صمتت ولا قالت صوابا
تعنّفني على تركي بلادا ... عهدت بها القرارة والشّبابا
تقول: وهل يضرّ السّيف إلّا ... إذا ما فارق السيف القرابا
فقلت: وهل يضرّ السيف فلّ ... إذا قطّ الجماجم والرّقابا؟
بخوض الهول تكتسب المعالي ... يحلّ السّهل من ركب الصّعابا
فليث الغاب يفترس الأناسي ... وليث البيت يفترس الذّبابا
ولو كان انقضاض الطّير سهلا ... لكانت كلّ طائرة عقابا
دعيني والنهار أسير فيه ... أسير عزائم تفري الصّلابا
أغازل من غزالته فتاة ... تبيّض فودها هرما وشابا
إذا شاءت مواصلتي تجلّت ... وإن ملّت توارت لي احتجابا
وأسري اللّيل لا ألوي عنانا ... ولو نيل الأماني ما (2) أصابا
أطارح من كواكبه كماما ... وأزجر من دجنّته غرابا
وأركب أشهبا (3) غبرا كباعي ... وخضرا مثل خاطري انسيابا
وآخذ من بنات الدّهر حقّي ... جهاز البيت استلب استلابا
ولست أذيل بالمدح القوافي ... ولا أرضى بخطّتها اكتسابا
__________
(1) في الأصل: «وقيدت عرضي»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «لما»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) في الأصل: «شهبا»، وكذا لا يستقيم الوزن.(3/269)
أأمدح من به أهجو مديحي ... إذا طيّبت بالمسك الكلاما
سأخزنها عن الأسماع حتى ... أردّ الصّمت بينهما حجابا
فلست بمادح ما عشت إلّا ... سيوفا أو جيادا أو صحابا
أبا موسى، وإنّي ذو (1) وداد ... أناجي لو سمعت إذا أجابا
ولكن دون ذلك مهمه لو ... طوته الريح لم ترج الإيابا
أخي، برّ المودّة كلّ برّ ... إذا برّ الأشقّا (2) الانتسابا
بعثت إليك من نظمي بدرّ ... شققت عليه من فكري عبابا
عداني الدهر أن يلقاك شخصي ... فأغنى الشّعر عن شخصي ونابا
وقال في الغرض الذي نظم فيه الرّصافي (3) من وصف بلده، وذكر إخوانه ومعاهده، مساجلا في العروض والرّوي، عقب رسالة سماها «رسالة طراد الجياد في الميدان، وتنازع اللّدان والإخوان، في تنفيق مرسية على غيرها من البلدان» (4):
[الطويل]
لعلّ (5) رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينثر (6) عنّي ماء عبرته نثرا!
معاملة أربو (7) بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين من نقطة بحرا
ليسقي (8) من تدمير قطرا محبّبا ... يقرّ بعين القطر أن تشرب القطرا
ويقرضه ذوب اللّجين وإنما ... توفّيه عيني من مدامعها تبرا
وما ذاك تقصيرا بها غير أنه ... سجيّة ماء البحر أن يذوي الزّهرا
خليليّ، قوما فاحبسا طرق الصّبا ... مخافة أن تحمي (9) بزفرتي الحرّى
فإنّ الصّبا ريح عليّ كريمة ... بآية ما تسري من الجنّة الصّغرى
__________
(1) في الأصل: «أخيّ»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «الأشقّة»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(3) تقدمت قصيدة الرصافي الرائية في الجزء الثاني من الإحاطة في ترجمة محمد بن غالب الرصافي ومطلعها: [الطويل]
خليليّ، ما للبيد قد عبقت نشرا ... وما لرؤوس الرّكب قد رجحت سكرا
(4) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 6158).
(5) في الأصل: «هل رسول» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «فينشر»، والتصويب من النفح.
(7) في النفح: «أربي».
(8) في الأصل: «ليسقني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «يحمي».(3/270)
خليليّ، أعني أرض مرسية المنى ... ولولا توخّي الصّدق سمّيتها الكبرى
محلّي بل جوّي الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطّرة نشرا
ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا
وما روضة الخضراء قد مثلت بها ... مجرّتها نهرا وأنجمها زهرا
بأبهج منها والخليج مجرّة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزّهرا
وقد أسكرت أزهار (1) أغصانها الصّبا ... وما كنت أعتدّ الصّبا قبلها خمرا
هنالك بين الغصن والقطر والصّبا ... وزهر الرّبى ولّدت آدابي الغرّا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلّم نظام النّثر من ههنا شعرا
وإن نثرت ريح الصّبا زهر الرّبى ... تعلّمت حلّ الشّعر أسبكه نثرا
فوائد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضا غيره يقرئ السّحرا
كأنّ هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهر ها درّا (2)
أيا زنقات (3) الحسن، هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السّكّة الغرّا؟
فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغيّر إذ غازلتها أختها الأخرى
هي الكاعب الحسناء تمّم حسنها ... وقدّت لها أوراقها حللا خضرا
إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا
وقامت بعرس الأنس قينة أيكة (4) ... أغاريدها تسترقص الغصن النّضرا
فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها قصرا (5)
إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا
وإن لاح فيها البدر شبّهت متنه ... بسطر (6) لجين ضمّ من ذهب عشرا
وفي جرفي روض هناك تجافيا ... لنهر (7) يودّ الأفق لو زاره فجرا
كأنهما خلّا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقّة ذلك النّهرا
وكم لي بالباب الجديد (8) عشيّة ... من الأنس ما فيه سوى أنّه مرّا
__________
(1) في النفح: «أعطاف».
(2) رواية عجز البيت في النفح هي:
فملّأ فاها من أزاهره درّا
(3) في الأصل: «رنقات» بالراء غير المعجمة، والتصويب من النفح. وزنقات الحسن: من متنزهات مرسية.
(4) في النفح: «أيكها».
(5) في المصدر نفسه: «نصرا».
(6) في المصدر نفسه: «بشطّ».
(7) في النفح: «بنهر».
(8) في النفح: «وكم لي بأبيات الحديد».(3/271)
عشايا (1) كأنّ الدّهر غصّ (2) بحسنها ... فأجلت سياط (3) البرق أفراسها الشّقرا (4)
عليهنّ أجري خيل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا
أعهدي بالغرس المنعّم دوحه ... سقتك دموعي إنها مزنة شكرى (5)
فكم فيك من يوم أغرّ محجّل ... تقضّت أمانيه فخلّدتها ذكرا
على مذنّب كالنحر (6) من فرط حسنه ... تودّ الثّريّا أن تكون (7) له نحرا
سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرّملة البيضاء فالنّهر فالجسرا
وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزّهرا
ولو كنت أقضي حقّ نفسي ولم أكن ... لما بتّ أستحلي فراقهم المرّا
وما اخترت هذا البعد إلّا ضروة ... وهل تستجير العين أن تفقد الشّفرا (8)؟
قضى الله أن ينأى (9) بي الدهر عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا
وو الله لو نلت المنى ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا
أيأنس باللّذات قلبي ودونهم ... مرام يجدّ الرّكب (10) في طيّها شهرا؟
ويصحب هادي الليل راء وحرفة ... وصادا ونونا قد تقوّس (11) واصفرّا
فديتهم بانوا وضنّوا بكتبهم ... فلا خبرا منهم لقيت ولا خبرا
ولولا علا همّاتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل لا تحمل الزّجرا
ضربت غبار البيد في مهرق السّرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا
وحقّقت ذاك الضّرب جمعا وعدّة ... وطرحا وتجميلا فأخرج لي صفرا
كأنّ زماني حاسب متعسّف ... يطارحني كسرا، أما يحسن الجبرا؟
فكم عارف بي وهو يحسب (12) رتبتي ... فيمدحني سرّا ويشتمني جهرا
__________
(1) في الأصل: «عشيات» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «غضّ».
(3) في النفح: «بساط».
(4) في النفح: «شقرا».
(5) يقال: عين شكرى: أي ملأى من الدمع، ويقال: درّة شكرى: أي ملأى من اللبن والمزنة الشّكرى: الكثيرة المطر. محيط المحيط (شكر).
(6) في النفح: «كالبحر».
(7) في النفح: «يكون».
(8) الشّفر: بضم الشين وسكون الفاء: أصل منبت الشعر في طرف العين. لسان العرب (شفر).
(9) في النفح: «أن تنأى بي الدار».
(10) في النفح: «الكرب».
(11) في النفح: «تقدس».
(12) في النفح: «يحسن».(3/272)
لذلك ما أعطيت نفسي حقّها ... وقلت لسرب الشّعر: لا ترم (1) الفكرا (2)
فما برحت فكري عذارى قصائدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا
ولست وإن طاشت سهامي بآيس ... فإنّ مع العذر (3) الذي يتّقى يسرا
ومن مقطوعاته (4): [السريع]
يا قمرا مطلعه أضلعي ... له سواد القلب منها (5) غسق
وربّما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق
ملّكتني في (6) دولة من صبا ... وصدتني في (7) شرك من حدق
عندي من حبّك (8) ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق
ومن مقطوعاته أيضا (9): [الكامل]
قد كان لي قلب فلمّا فارقوا ... سوّى جناحا للغرام وطارا
وجرت سحاب بالدموع (10) فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجائب أنّ فيض مدامعي ... ماء ويثمر (11) في ضلوعي نارا
وشعره الرّمل والقطر كثرة، فلنختم له المقطوعات بقوله (12): [المنسرح]
قالوا وقد طال بي مدى خطئي ... ولم أزل في تجرّمي ساهي (13)
أعددت شيئا ترجو النجاة به؟ ... فقلت: أعددت رحمة الله
نثره: كتب يهنّئ (14) قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقيّ من رسالة (15): لأن (16)
قدره (17) دام عمره، وامتثل نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة وأكرم محلّا، من أن
__________
(1) في الأصل: «لا تهمّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في النفح: «الذكرا».
(3) في النفح: «العسر».
(4) الأبيات في معجم الأدباء (ج 3ص 422) ونفح الطيب (ج 7ص 62).
(5) في المصدرين: «فيها».
(6) في معجم الأدباء: «بدولة».
(7) في معجم الأدباء: «يشرك».
(8) في الأصل: «حبيبك»، وكذا لا يستقيم الوزن، والتصويب من المصدرين.
(9) الأبيات في معجم الأدباء (ج 3ص 421) ونفح الطيب (ج 7ص 62).
(10) في المصدرين: «للدموع».
(11) في المعجم: «ماء يمرّ وفي».
(12) البيتان في نفح الطيب (ج 7ص 6362).
(13) في الأصل: «ساه» والتصويب من النفح.
(14) النص في الذيل والتكملة (السفر الرابع ص 142140) ونفح الطيب (ج 7ص 6463).
(15) في النفح: «برسالة منها».
(16) في الأصل: «لان» والتصويب من النفح والذيل والتكملة.
(17) في النفح: «محلّه».(3/273)
يتحلّى بخطّة هي به تتحلّى. كيف يهنأ بالقعود لسماع دعوة (1) الباطل، ولمعاناة (2)
الإنصاف الممطول من الماطل، والتّعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة. أما لو علم المتشوّقون (3) إلى خطّة الأحكام، المستشرفون إلى ما لها من التّبسّط والاحتكام، ما يجب لها من اللّوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدوّ وذي الذّنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السّبيل، على ذي الرّحم والقبيل، وإيثار الغريب، على القريب، والتوسّع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك ممّا علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل لخلقه (4) الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم مأمولهم، وأضربوا عن ظهورهم (5)، فنبذوه وراء ظهورهم (6)، اللهمّ إلّا من أوتي بسطة في العلم، ورسا طودا في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحرب والسّلم، وكان كقاضي الجماعة (7)، في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلّد الأحكام للأجر، لا للتّعسف (8) والزّجر، ويتولّاها للثواب، لا للغلظة في ردّ الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبح (9) الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذّخر، لا للإزراء والسّخر. فإذا كان كذلك، وسلك المتوليّ هذا السّالك (10)، وكان كقاضي (11) الجماعة ولا مثل له، ونفع الحقّ به علله، ونقع غلله، فيومئذ تهنأ (12) به خطّة القضاء، ويعرف ما لله عليه (13) من اليد البيضاء.
ومحاسنه في النثر أيضا جمّة.
ومن أخباره (14) أنه رحل إلى مرّاكش متسبّبا (15) في جهاز بنت بلغت التّزويج، وقصد دار الإمارة مادحا، فما تيسّر له شيء من أمله، ففكّر في خيبة قصده، وقال:
لو كنت تأمّلت (16) جهة الله، ومدحت المصطفى (17) صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين، لبلغت أملي بمحمود عملي. ثم استغفر الله (18) في توجّهه الأول، وعلم أن ليس على غير
__________
(1) في المصدرين: «دعاوى».
(2) في المصدرين: «والمعاناة لإنصاف».
(3) في المصدرين: «المتشوفون».
(4) في المصدرين: «خلقه».
(5) الظهور: مصدر ظهر أي بدا.
(6) الظهور: جمع ظهر.
(7) في النفح: «وكان كمولانا».
(8) في المصدرين: «لا للتعنيف».
(9) في النفح: «لقبيح».
(10) في المصدرين: «هذه المسالك».
(11) في الذيل: «مثل قاضي». وفي النفح: «وكان قاضي».
(12) في المصدرين: «تهنّى».
(13) في الذيل: «وتعرف بما لله عليه». وفي النفح: «وتعرف ما لله تعالى عليه».
(14) النص في نفح الطيب (ج 7ص 64).
(15) كلمة «متسببا» ساقطة في النفح.
(16) في النفح: «أمّلت الله سبحانه».
(17) في النفح: «نبيّه».
(18) في النفح: «الله من اعتماده في».(3/274)
الثاني من (1) معوّل، فلم يكن إلّا أن صوّب نحو هذا القصد سهمه، وأمضى فيه عزمه، وإذا به قد وجّه عنه، وأدخل (2) على الخليفة، فسأله عن مقصده، فأخبره مفصحا به، فأنفذه وزاده عليه، وأخبره أنّ ذلك لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في النّوم يأمره (3) بقضاء حاجته. فانفصل موفّى الأغراض، واستمرّ في مدح أهل البيت حتى اشتهر في ذلك (4).
وفاته: سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وسنّه دون الأربعين سنة، وصلّى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الدّين (5) والفضل، رحمة الله عليه، وتلقيت من جهات أنه دخل غرناطة، لما امتدح القائد أبا عبد الله بن صناديد بمدينة جيّان، حسبما يظهر من عجالته، من غير تحقيق لذلك.
صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم ابن علي بن شريف النّفزي (6)
من أهل رندة، يكنى أبا الطّيّب.
حاله: قال ابن الزّبير: شاعر مجيد في المدح والغزل، وغير ذلك. وعنده مشاركة في الحساب والفرائض. نظم في ذلك. وله تواليف أدبية، وقصائد زهدية، وجزء على حديث جبريل عليه السلام، وغير ذلك مما روى عنه. وكان في الجملة معدودا في أهل الخير، وذوي الفضل والدّين. تكرّر لقائي إياه، وقد أقام بمالقة أشهرا، أيام إقرائي. وكان لا يفارق مجالس إقرائي، وأنشدني كثيرا من شعره.
وقال ابن عبد الملك (7): كان خاتمة الأدباء بالأندلس، بارع التّصرّف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيها حافظا، فرضيّا، متفنّنا في معارف شتى (8)، نبيل المقاصد (9)، متواضعا، مقتصدا في أحواله. وله مقامات بديعة في أغراض شتّى، وكلامه، نظما ونثرا، مدوّن.
__________
(1) كلمة «من» ساقطة من النفح.
(2) في النفح: «فأدخل».
(3) في النفح: «يأمر».
(4) في النفح: «بذلك».
(5) في النفح: «من الفضل والدين».
(6) ترجمة صالح بن يزيد النفزي في الذيل والتكملة (ج 4ص 136) ونفح الطيب (ج 6ص 243).
(7) الذيل والتكملة (ج 4ص 137).
(8) في الذيل والتكملة: «جليلة».
(9) في المصدر نفسه: «المنازع».(3/275)
مشيخته: روى (1) عن آباء الحسن: أبيه، والدبّاج، وابن الفخّار الشّريشي، وابن قطرال، وأبي الحسن بن زرقون، وأبي القاسم ابن الجدّ (2).
تواليفه: ألّف جزءا على حديث جبريل، وتصنيفا في الفرائض وأعمالها، وآخر في العروض، وآخر في صنعة الشعر سماه «الوافي (3)، في علم القوافي».
وله كتاب كبير سماه «روضة الأنس، ونزهة النّفس».
دخوله غرناطة: وكان كثير الوفادة على غرناطة، والتردّد إليها، يسترفد ملوكها، وينشد أمراءها، والقصيدة التي أوّلها: «أواصلتي يوما وهاجرتي ألفا» (4)، أخبرني شيخنا أبو عبد الله اللّوشي أنه نظمها باقتراح السلطان، رحمه الله، وقد أوعز إليه ألّا يخرج عن بعض بساتين الملك حتى يكملها في معارضة محمد بن هاني الإلبيري.
شعره: وهو كثير، سهل المأخذ، عذب اللفظ، رائق المعنى، غير مؤثر للجزالة. فمن ذلك قوله، رحمه الله، في غرض المدح من السّلطانيات (5): [الوافر]
سرى والحبّ أمر لا يرام ... وقد أغرى به الشّوق الغرام (6)
وأغفى أهلها إلّا وشاة ... إذا نام الحوادث لا تنام
وما أخفاه (7) بين القوم إلّا ... ضنى ولربما (8) نفع السّقام
فنال بها على قدر مناه ... وبين القبض والبسط القوام
وأشهى الوصل ما كان اختلاسا ... وخير الحبّ ما فيه اختتام
وما أحلى الوصال لو أنّ شيئا ... من الدّنيا للذّته دوام
بكيت من الفراق بغير أرضي ... وقد يبكي الغريب المستهام
أعاذلتي، وقد فارقت إلفي ... أمثلي في صبابته يلام؟
أأفقده فلا أبكي عليه؟ ... يكون أرقّ من قلبي الحمام
أأنساه فأحسبه كصبري ... وهل ينسى لمحبوب ذمام؟
__________
(1) الذيل والتكملة (ج 4ص 137).
(2) في الذيل والتكملة: «ابن الجد التونسي».
(3) في الذيل والتكملة (ج 4ص 137): «الكافي».
(4) سيرد من هذه القصيدة بعد قليل ستة أبيات.
(5) بعض أبيات هذه القصيدة في الذيل والتكملة (ج 4ص 139).
(6) في الأصل: «والغرام»، وكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «أخفا» وكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «وربما»، وكذا ينكسر الوزن.(3/276)
رويدا، إنّ بعض اللّوم لوم ... ومثلي لا ينهنهه الملام
ويوم نوى وضعت الكفّ فيه ... على قلب يطير به الهيام
ولولا أن سفحت به جفونا ... تفيض دما لأحرقها الضّرام (1)
وليل بتّه (2) كالدّهر طولا ... تنكّر لي وعرّفه التّمام
كأنّ سماءه (3) زهر (4) تجلّى ... بزهر الزّهر والشّرق (5) الكمام
كأنّ البدر تحت الغيم وجه ... عليه من ملاحته لثام
كأنّ الكوكب الدّرّي كأس ... وقد رقّ الزّجاجة والمدام
كأنّ سطور أفلاك الدّراري ... قسيّ والرّجوم لها سهام
كأنّ مدار قطب بنات نعش ... نديّ والنجوم به ندام
كأنّ بناته الكبرى جوار ... جوار والسّهى فيها غلام
كأنّ بناته الصّغرى جمان ... على لبّاتها منها (6) نظام
كواكب بتّ أرعاهنّ حتى ... كأنّي عاشق وهي الذّمام
إلى أن مزّقت كفّ الثّريّا ... جيوب الأفق وانجاب الظلام
فما خلت انصداع الفجر إلّا ... قرابا ينتضى منه حسام
وما شبّهت وجه الشمس إلّا ... لوجهك (7) أيها الملك الهمام
وإن شبّهته بالبدر يوما ... فللبدر الملاحة والتّمام
تهلّل منه حسن الدهر حتى ... كأنّك في محيّاه ابتسام
وعرف ما تنكّر من معال ... كأنّك لاسمها ألف ولام
وملء العين منك جلال مولى ... صنائعه كغرّته وسام
إذا ما قيل في يده غمام ... فقد بخست وقد خدع الغمام
وحشو الدّرع أروع غالبيّ ... يراع بذكره الجيش اللهام
إذا ما سلّ سيف العزم يوما ... على أمر فسلّم يا سلام
__________
(1) الأبيات التي تلي هذا البيت وعددها ثلاثة عشر، في الذيل والتكملة (ج 4ص 139).
(2) في الذيل والتكملة: «صبابة».
(3) في الأصل: «سماه»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدر السابق.
(4) في الذيل والتكملة: «روض».
(5) في الأصل: «والشوق» والتصويب من الذيل والتكملة.
(6) في الذيل والتكملة: «منه».
(7) في الأصل: «بوجهك» والتصويب من الذيل والتكملة.(3/277)
تناهى مجده كرما وبأسا ... فما يدري أمحيا أم حمام
نمّته للمكارم والمعالي ... سراة من بني نصر كرام
هم الأنصار هم نصروا وآووا ... ولولا المسك ما طاب الختام
وهم قادوا الجيوش لكلّ فتح ... ولولا الجدّ ما قطع الحسام
وهم منحوا الجزيرة من حماهم ... جوارا لا يذمّ ولا يضام
فمن حرب تشيب له النّواصي ... وسلم تحيّته سلام
بسعدك، يا محمد، عزّ دين ... له بعد (1) الإله بك اعتصام
وباسمك تمّ للإسلام سلم ... وغبّ السّلم نصر مستدام
وكان مرامه صعبا ولكن ... بحمد الله قد سهل المرام
أدام الله أمرك من أمير ... ففيه لكل مكرمة دوام
وأنت العروة الوثقى تماما ... وما للعروة الوثقى انفصام
وروح أنت والجسم المعالي ... ومعنى أنت واللّفظ (2) الأنام
إذا ما ضاقت الدنيا بحرّ ... كفاه لثم كفّك والسلام
ومن شعره أيضا: [الطويل]
أواصلتي يوما وهاجرتي ألفا ... وصالك ما أحلى وهجرك ما أجفا!
ومن عجب للطّيف أن جاء واهتدى ... فعاد عليلا عاد كالطّيف أم أخفى
فيا سائرا، لولا التخيّل ما سرى ... ويا شاهدا، لولا التعلّل ما أغفى
ألمّ فأحياني وولّى فراعني ... ولم أر أجفى منك طبعا ولا أشفى
بعيني شكواي للغرام وتيهه ... إلى أن تثنّى عطفه فانثنى عطفا
فعانقته شوقا وقبّلته هوى ... ولا قبلة تكفي ولا لوعة تطفا
ومن نزعاته العجيبة قوله، وقد سبق إلى غرضه غيره: [البسيط]
يا طلعة الشمس إلّا أنه قمر ... أمّا هواك فلا يبقي ولا يذر
كيف التخلّص من عينيك لي ومتى ... وفيهما القاتلان الغنج والحور
وكيف يسلي فؤادى عن صبابته ... ولو نهى النّاهيان الشّيب والكبر
أنت المنى والمنايا فيك قد جمعت ... وعندك الحالتان النّفع والضّرر
__________
(1) في الأصل: «بعده»، وكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له.
(2) في الأصل: «وللّفظ»، وكذا لا يستقيم الوزن، ولا معنى له.(3/278)
ولي من الشّوق ما لا دواء له ... ومنك لي الشّافيان القرب والنّظر
وفي وصالك ما أبقي به رمقي ... لو ساعد المسعدان الذّكر والقدر
وكان طيف خيال منك يقنعني ... لو يذهب المانعان الدّمع والسّهر
يا نابيا، لم يكن إلّا ليملكني ... من بعده المهلكان الغمّ والغير
ما غبت إلّا وغاب الجنس أجمعه ... واستوحش المؤنسان السّمع والبصر
بما تكنّ ضلوعي في هواك بمن ... يعنو له السّاجدان النّجم والشجر
أدرك بقيّة نفس لست مدركها ... إذا مضى الهاديان العين والأثر
ودلّ حيرة مهجور بلا سبب ... يبكي له القاسيان الدّهر والحجر
وإن أبيت فلي من ليس يسلمني ... إذا نبا المذهبان الورد والصّدر
مؤيّدا لملك بالآراء يحكمها ... في ضمنها المبهجان اليمن والظّفر
من كالأمير أبي عبد الإله إذا ما ... خانت القدمان البيض والسّمر
الواهب الخيل آلافا وفارسها ... إذا استوى المهطعان الصّرّ والصّبر
والمشبه اللّيث في بأس وفي خطر ... ونعمت الحليتان البأس والخفر
تأمّن الناس في أيامه ومشوا ... كما مشى الصّاحبان الشاة والنّمر
وزال ما كان من خوف ومن حذر ... فما يرى الدّايلان الخوف والحذر
رأيت منه الذي كنت أسمعه ... وحبّذا الطّيّبان الخبر والخبر
ما شئت من شيم عليا ومن شيم ... كأنها الرّائقان الظّلّ والزّهر
وما أردت من إحسان ومن كرم ... ينسى به الأجودان البحر والمطر
وغرّة يتلألأ من سماحتها ... كأنها النّهران الشمس والقمر
إيه، فلولا دواع من محبّته ... لم يسهل الأصعبان البين والخطر
نأيت عنه اضطرارا ثم عدت له ... كما اقتضى المبرمان الحلّ والسّفر
فإن قضى الله أن يقضي به أملي ... فحسبي المحسبان الظّلّ والثّمر
ولست أبعد إذ والحال متّسع ... أن يبلغ الغائبان السّؤل والوطر
ومن شعره في أغراض متعددة، قال في الليل والسّهر: [مجزوء السريع]
أطال ليلي الكمد ... فالدهر عندي سرمد
وما أظنّ أنه ... ليلة الهجر غد
يا نائما عن لوعتي ... عوفيت ممّا أجد
ارقد هنيّا إنّني ... لا أستطيع أرقد
لواعج ما تنطفي ... وأدمع تضطرد
وكبدي كبد الهوى ... وأين منّي الكبد؟
ولا تسل عن جلدي ... والله ما لي جلد
ومن شعره أيضا في المقطوعات: [السريع](3/279)
أطال ليلي الكمد ... فالدهر عندي سرمد
وما أظنّ أنه ... ليلة الهجر غد
يا نائما عن لوعتي ... عوفيت ممّا أجد
ارقد هنيّا إنّني ... لا أستطيع أرقد
لواعج ما تنطفي ... وأدمع تضطرد
وكبدي كبد الهوى ... وأين منّي الكبد؟
ولا تسل عن جلدي ... والله ما لي جلد
ومن شعره أيضا في المقطوعات: [السريع]
وليلة قصّر من طولها ... بزورة من رشا نافر
استوفر الدهر بها غالطا ... فأدغم الأوّل والآخر
وقال من قصيدة مغربة في الإحسان (1): [السريع]
وليلة نبّهت أجفانها ... والفجر قد فجّر نهر النهار
والليل كالمهزوم يوم (2) الوغا ... والشّهب مثل الشّهب (3) عند الفرار
كأنما استخفى السّها خيفة ... وطولب النّجم بثأر فثار
لذاك ما شابت نواصي الدّجى ... وطارح النّسر أخاه فطار
وفي الثّريّا قمر سافر ... عن غرّة غيّر منها الشّفار (4)
كأنّ عنقودا بها ماثل (5) ... إذ صار كالعرجون عند السّرار
كأنها تسبك ديناره ... وكفّها تفتل منه سوار (6)
كأنما الظّلماء مظلومة ... تحكّم الفجر عليها فجار
كأنما الصّبح لمشتاقه ... إقبال دنيا (7) بعد ذلّ افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت ... وجه أبي عبد الإله استنار
وفي وصف البحر والأنهار وما في معنى ذلك: [البسيط]
البحر أعظم مما أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوما ما رأى عجبا
طام له حبب طاف على زورق ... مثل السماء إذا ما ملئت شهبا
وقال في وصف نهر: [الطويل]
وأزرق محفوف بزهر كأنّه ... نجوم بأكناف المجرّة تزهر
يسيل على مثل الجمان مسلسلا ... كما سلّ عن غمد حسام مجوهر
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 6ص 246).
(2) في الأصل: «في يوم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) الشهب: جمع أشهب وهو الجواد الذي يخالط بياضه سواد. لسان العرب (شهب).
(4) في النفح: «السفار».
(5) في النفح: «عنقودا تثنّى به».
(6) في النفح: «السوار».
(7) في النفح: «عزّ غنى من بعد».(3/280)
وقد صافح الأدواح من صفحاته ... وحتى (1) حباب بالنّسيم مكسّر
فما كان في عطف الخليج قلامة ... وما كان في وجه الغدير فمغفر
وفي العقل والتّغرّب: [السريع]
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصوم الحرّ أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
ومن وصفه الجيش والسلاح: [الكامل]
وكتيبة بالدّارعين كثيفة ... جرّت ديول الجحفل الجرّار
روض المنايا بينها القضب التي ... زفّت بها الرّايات كالأزهار
فيها الكماة بنو الكماة كأنهم ... أسد الشّرى بين القنا الخطّار
متهلّلين لدى اللّقاء كأنهم ... خلقت وجوههم من الأقمار
من كلّ ليث فوق برق خاطف ... بيمينه قدر من الأقدار
من كلّ ماض قد تقلّد مثله ... فيصبّ آجالا على الأعمار
لبسوا القلوب على الدروع وأسرعوا ... لأكفّهم نارا لأهل النار
وتقدّموا ولهم على أعدائهم ... حنق العدا وحميّة الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لسانه ... وبكى الصّليب لذلّة الكفّار
ثم انثنوا عنه وعن عبّاده و ... قد أصبحوا خبرا من الأخبار
وفي السّيف: [البسيط]
وأبيض صيغ من ماء ومن لهب ... على اعتدال فلم يخمد ولم يسل
ماضي الغرار يهاب العمر صولته ... كأنما هو مطبوع من الأجل
أبهى من الوصل بعد الهجر منظره ... حسنا وأقطع من دين على ملل (2)
وأسمر ظنّ أن (3) ما كل سابغة ... فخاض كالأيم يستشفي من النّهل
هام الكماة به حبّا ولا عجب ... من لوعة بمليح القدّ معتدل
إذا الطّعين تلقّاه وأرعفه ... حسبته عاشقا يبكي على طلل
__________
(1) في الأصل: «حتى»، وكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «مال».
(3) كلمة «أن» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى.(3/281)
ومن ذلك قوله في وصف قوس: [الوافر]
تنكّبها كحاجبه وسوّى ... بأهداب الجفون لها نبالا
فلم أر قبله بدرا منيرا ... تحمّل فوق عاتقه هلالا
ومن ذلك في وصف قلم: [المتقارب]
وأصفر كالصّبّ في رونق ... تظنّ به الحبّ ممن نحل
بديع الصّفات حديد السّبات ... يطول الرّماح وإن لم يطل
يعبّر عمّا وراء الضمير ... ويفعل فعل (1) الظّبا والذّبل
ومن ذلك قوله فيما يظهر منها: [البسيط]
تفاخر السّيف فيما قيل والقلم ... والفصل بينهما لا شكّ منفهم
كلاهما شرف لله (2) درّهما ... وحبّذ الخطّتان الحكم والحكم
ومن ذلك قوله في سكّين الدواة: [الخفيف]
أنا صمصامة الكتابة ما لي ... من شبيه في المرهفات الرّقاق
فكأنّي في الحسن يوم وصال ... وكأنّي في القطع يوم فراق
ومن ذلك قوله في المقصّ: [الوافر]
ومعتنقين ما اشتهرا بعشق ... وإن وصفا بضمّ واعتناق
لعمر أبيك ما اعتنقا لمعنى ... سوى معنى القطيعة والفراق
ومن ذلك قوله في الورد: [مخلع البسيط]
الورد سلطان كلّ زهر ... لو أنّه دائم الورود
بعد خدود الملاح شيء ... ما أشبه الورد بالخدود
ومن ذلك قوله في الخيريّ: [السريع]
وأزرق كمثل السماء ... فيه لمن ينظر سرّ عجيب
شحّ مع الصّبح بأنفاسه ... كأنما الصّبح عليه رقيب
وباح بالليل بأسراره ... لمّا رأى اللّيل نهار الأريب
__________
(1) في الأصل: «ما فعل»، وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(2) في الأصل: «شرّف الله» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/282)
ومن ذلك قوله في الرّيحان: [الوافر]
وأخضر فستقيّ اللون غضّ ... يروق بحسن منظره العيونا
أغار على التّرنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفا ونونا
وقال من جملة قصائده المطوّلات التي تفنّن فيها، رحمه الله: [الطويل]
وغانية يغني عن العود صوتها ... وجارية تسقي وساقية تجري
بحيث يجرّ النهر ذيل مجرّة ... يرفّ على حافاتها الزّهر كالزّهر
وقد هزّت الأرواح خصر كتائب ... بألوية بيض على أسل سمر
رمى قزح نبلا إليها فجرّدت ... سيوف سواقيها على دارع النّهر
وهبّت صبا نجد فجرّت غلائلا ... تجفّف دمع الطّلّ عن وجنة الزّهر
كأنّ بصفح الرّوض وشي صحيفة ... وكالألفات القضب والطّرس كالتّبر
كأنّ به الأقحوان خواتما ... مفضّضة فيها فصوص من التّبر
كأنّ به النّرجس الغضّ أعيا ... ترقرق في أجفانها أدمع القطر
كأنّ شذا الخيريّ زورة عاشق ... يرى أنّ جنح اللّيل أكتم للسّرّ
وقال في وصف الرّمان: [البسيط]
لله رمّانة قد راق منظرها ... فمثلها ببديع الحسن منعوت
القشر حقّ لها قد ضمّ داخله ... والشّحم قطن لها (1) والحبّ ياقوت
ومن ذلك قوله في الجزر: [البسيط]
انظر إلى جزر (2) في اللون مختلف ... البعض من سبج والبعض من ذهب
إن قلت: قصب فقل: قصب بلا زهر ... أو قلت: شمع فقل: شمع بلا لهب
وفي الاغتراب وما يتعلّق به مما يقرب من المطولات: [الوافر]
غريب كلّما يلقى غريب ... فلا وطن لديه ولا حبيب
تذكّر أصله فبكى اشتياقا ... وليس غريبا أن يبكي غريب
ومما هاج أشواقي حديث ... جرى فجرى له الدّمع السّكوب
__________
(1) كلمة «لها» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) في الأصل: «جذر» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/283)
ذكرت به الشّباب فشقّ قلبي ... ألم تر كيف تنشقّ القلوب؟
على زمن الصّبا فليبك مثلي ... فما زمن الصّبا إلّا عجيب
جهلت شبيبتي حتى تولّت ... وقدر الشيء يعرف إذ يغيب
ألا ذكر الإله بكل خير ... بلادا لا يضيع بها أديب
بلاد ماؤها عذب زلال ... وريح هوائها مسك رطيب
بها قلبي الذي قلبي المعنّى ... يكاد من الحنين له يذوب
رزقت الصّبر بلين أبي وأمي ... كلانا بعد صاحبه كثيب
ألا فتوخّ بعدي من أؤاخي ... ودع ما لا يريب لما يريب
ولا تحكم بأول ما تراه ... فإنّ الفجر أوله كذوب
ألا إنا خلقنا في زمان ... يشيب بهوله من لا يشيب
وقد لذّ الحمام وطاب عندي ... وعيشي لا يلذّ ولا يطيب
لحى الله الضّرورة فهي بلوى ... تهين الحرّ والبلوى ضروب
رأيت المال يستر كلّ عيب ... ولا تخفى مع الفقر العيوب
وفقد المال في التّحقيق عندي ... كفقد الرّوح ذا من ذا قريب
وقد أجهدت نفسي في اجتهاد ... وما أن كلّ مجتهد مصيب
وقد تجري الأمور على قياس ... ولو تجري لعاش بها اللّبيب
كأنّ العقل للدّنيا عدوّ ... فما يقضي بها أربا أريب
إذا لم يرزق الإنسان بختا ... فما حسناته إلّا ذنوب
ومن نسيبه قوله في بادرة من حمّام: [الكامل]
برزت من الحمّام تمسح وجهها ... عن مثل ماء الورد بالعنّاب
والماء يقطر من ذوائب شعرها ... كالطّل يسقط من جناح غراب
فكأنها الشمس المنيرة في الضّحى ... طلعت علينا من خلال سحاب
ومن مقطوعاته أيضا قوله: [الكامل]
ومتيّم لو كان صوّر نفسه ... ما زادها شيئا سوى الإشفاق
ما كان يرضى بالصّدود وإنّما ... كثرت عليه مسائل العشّاق
وقال: [مخلع البسيط]
وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشّاقه اعتذار
ثلاثة ما لها مثال: ... الوجه والخدّ والعذار
فمن رآه رأى رياضا: ... الورد والآس والبهار
ومن ذلك قوله في ذمّ إخوة السوء: [الكامل](3/284)
وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشّاقه اعتذار
ثلاثة ما لها مثال: ... الوجه والخدّ والعذار
فمن رآه رأى رياضا: ... الورد والآس والبهار
ومن ذلك قوله في ذمّ إخوة السوء: [الكامل]
ليس الأخوّة (1) باللّسان أخوّة ... فإذا تراد أخوّتي لا تنفع
لا أنت في الدّنيا تفرّج كربه ... عنّي ولا يوم القيامة تشفع
وقال كذلك: [الكامل]
ولقد عرفت الدّهر حين خبرته ... وبلوت بالحاجات أهل زمان
فإذا الأخوّة باللسان كثيرة ... وإذا الدّراهم ميلق الإخوان
ومن ذلك قوله في ثقيل: [المتقارب]
تزلزلت الأرض زلزالها ... فقلت لسكانها: ما لها؟
فقالوا: أتانا أبو عامر ... فأخرجت الأرض أثقالها
ومن ذلك قوله في الصّبر: [السريع]
الدهر لا يبقي على حالة ... لكنه يقبل أو يدبر
فإن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإنّ الدّهر لا يصبر
ومن ذلك قوله في الموت: [السريع]
الموت سرّ الله في خلقه ... وحكمة دلّت على قهره
ما أصعب الموت وما بعده ... لو فكّر الإنسان في أمره
أيام طاعات الفتى وحدها ... هي التي تحسب من عمره
لا تلهك الدنيا ولذّاتها ... عن نهي مولاك ولا أمره
وانظر إلى من ملك الأرض هل ... صحّ له منها سوى قبره؟
نثره: قال في كتاب «روضة الأنس» ما نصّه:
«ويتعلّق بهذا الباب ما خاطبني به الفقيه الكاتب الجليل أبو بكر البرذعي، من أهل بلدنا، أعزّه الله: أخبرك بعجاب، إذ لا سرّ دونك ولا حجاب، بعد أن أتقدّم إليك أن لا تعجل باللوم إليّ، قبل علم ما لديّ، فإنّ الدهر أخدع من كفّة الحابل،
__________
(1) في الأصل: «لإخوة» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.(3/285)
وقلب الإنسان للآفات قابل. مشيت يوما إلى سوق الرّقيق، لأخذ حقّ فؤاد عتيق، فرأيت بها جارية عسجدية اللون، حديثة عهد بالصّون، متمايلة القدّ، قائمة النّهد، بلحظ قد أوتي من السّحر أوفر حظّ، وفم كشرطة رشحت بدم، داخله سمطان لولا هما ما عرف النّظم، ولا حكم على الدّر للعظم، في صدغها لامان ما خطّ شكلهما قلم، ولا قصّ مثلهما حلم. لها جيد تتمنّاه الغيد، وخصر هو قبضة الكفّ في الحصر، وردف يظلمه من يشبه به بالحقف، ويدان خلقا للوشي، وقدمان أهلّتا للّثم لا للمشي، فتطاولت إليه الأعناق، وبذلت فيها الأعلاق، والمياسير عليها مغرم في القوم، وتسوّم أهل السّوم، وكل فيها يزيد، ليبلغ ما يريد، إلى أن جاء فتى صادق في حبّه، لا يبالي بفساد ماله في صلاح قلبه، فعدّ المال عدّا، ولم يجد غيره من التسليم بدّا. فلمّا فاتتني، تركت الأشواق وأتتني، وانتقضت عزائم صبري فما أتتني، فالله الله، تدارك أخاك سريعا، قبل أن تلفيه من الوجد صريعا، واستنزله خادما، قبل أن تصبح عليه نادما، ولن أحتاج أن أصفها إليك، مع ما قصصته عليك، وقد أهديتها دررا، فخذها على جهة الفكاهة والدّعابة: [الوافر]
ولا تطلع أخا جهل عليها ... فمن لم يدر قدر الشيء عابه
فأجبته: نعم نعم، أنعم الله بالك، وسنى آمالك، أنا بحول الله أرتاد لك من نحو هاتيك، ما يسليك ويؤاتيك، وإلّا فبيضا كاللّجين، هل القلب والعين، زهرة غصن في روضة حسن، ذات ذوائب، كأنها الليل على نهار، أو بنفسج في بهار.
لها وجه أبهى من الغنا، وأشهى من نيل المنى، فيه حاجبان كأنهما قوس صنعت من السّبح، ورصّعت بعاج من البلح، على عينين ساحرتين، بالعقل ساخرتين، بهما تصاب الكبود، وتشقّ القلوب قبل الجلود، إلى فم كأنّه ختام مسك، على نظام سلك، سقاه الحسن رحيقه، فأنبتت درره وعقيقه، وجيد في الحسن وحيد على صدر كأنه من مرمر، فيه حقّتا عاج طوّقتا بعنبر، قد خلقتا للعضّ، في جسم غضّ، له خصر مدمج، وردفه يتموّج، وأطراف كالعنم، رقمت رقم القلم، من اللائي شهدن ابن المؤمّل، وقال في مثلها الأول، إن هي تاهت فمثلها تاها، أو هي باهت فمثلها باها، من أين للغصن مثل قامتها أو أين للبدر مثل مرآها، ما فعلت في العقول صابية ما فعلت في العقول عيناها، تملكني بالهوى وأملكها، فهأنا عبدها ومولاها، فأيّهما لست بذلت فيه الجهد، وأرقيت للمجد والودّ إن شاء الله تعالى.
وأنا فيما عرض لسيدي، حفظه الله، على ما يحبّ، أعذره ولا أعذله، وأنصره ولا أخذله، لكني أقول كما قال بعض الحكماء: لا ينبغي لمن قلبه رقيق، أن يدخل سوق الرّقيق، إلّا أن يكون قد جمع بين المال، والجمال يتنافس في العالي،
ويسترخص بالثمن الغالي، ولا يبالي بما قال الأئمة، إذا وجد من يلائمه، كما قال الشاعر: [الخفيف](3/286)
وأنا فيما عرض لسيدي، حفظه الله، على ما يحبّ، أعذره ولا أعذله، وأنصره ولا أخذله، لكني أقول كما قال بعض الحكماء: لا ينبغي لمن قلبه رقيق، أن يدخل سوق الرّقيق، إلّا أن يكون قد جمع بين المال، والجمال يتنافس في العالي،
ويسترخص بالثمن الغالي، ولا يبالي بما قال الأئمة، إذا وجد من يلائمه، كما قال الشاعر: [الخفيف]
ما انتفاع المحبّ بالمال إذ (1) لم ... يتوصّل به لوصل الحبيب
إنما ينبغي بحكم الهوى أن ... ينفق المال في صلاح القلوب
والسلام على سيدي، ما كانت الفكاهة من شأن الوفاء، والمداعبة من شيم الظّرفاء، ورحمة الله وبركاته.
مولده: ولد في محرم سنة إحدى وستمائة.
وفاته: توفي في عام أربعة وثمانين وستمائة.
نقلت من خط صاحبنا الفقيه المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، قال: أنشدني الشيخ الرّاوية الأديب القاضي الفاضل أبو الحجاج يوسف بن موسى بن سليمان المنتشافري، قال: أنشدني القاضي الفاضل أبو القاسم ابن الوزير أبي الحجاج ابن الحقالة، قال: أنشدني الأديب أبو الطيب صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف الرّندي لنفسه، ليكتب على قبره: [الطويل]
خليليّ، بالودّ الذي بيننا اجعلا ... إذا متّ قبري عرضة للتّرحّم
عسى مسلم يدنو فيدعو برحمة ... فإني محتاج لدعوة مسلم
حرف العين من ترجمة الملوك والأمراء
عبد الله بن إبراهيم بن علي بن محمد التجيبي الرئيس أبو محمد بن إشقيلولة
أوليته: قد مرّ شيء من ذلك في اسم الرئيس أبي إسحاق أبيه.
حاله: كان أميرا شهما، مضطلعا بالقضية، شهير المواقف، أبيّ النفس، عالي العمة. انتزى على خاله أمير المسلمين الغالب بالله (2)، وكان أملك لما بيده من مدينة وادي آش وما إليها، معزّزا بأخيه الرئيس أبي الحسن مظاهره في الأمر، ومشاركه في
__________
(1) في الأصل: «إذا» وكذا ينكسر الوزن.
(2) الغالب بالله: هو أبو عبد الله محمد بن يوسف، أول سلاطين بني نصر بغرناطة حكم غرناطة من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).(3/287)