المجلد الاول
مقدمة المحقّق
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا هو كتاب «الإحاطة، في أخبار غرناطة» نقدّمه للقرّاء والباحثين، بعد أن أدركنا أنّنا، بعون الله تعالى، سنقوى على تذليل الصّعاب التي نمرّ بها في أثناء التحقيق فالكتاب موسوعة تاريخية وأدبية وجغرافية، يحتاج إلى لجنة من المؤرّخين والأدباء والجغرافيين المهتمّين بالحقل الأندلسي لأن الجهد الفردي غير كاف لنشر مثل هذه الموسوعات العلمية التي تحتاج إلى مجهود جماعي لتحقيق أماكنها الجغرافية والتعريف بأعلامها التاريخية والأدبية، ودراسة الشعر الذي يشغل خمس الكتاب أو أكثر بقليل.
وهذا الكتاب أشهر وأضخم مؤلّفات لسان الدين ابن الخطيب، التي تنوف على السّتّين. وقد استهلّه بمقدّمة مسجّعة بدأها بالحمد والثّناء، ثم انتقل إلى ذكر السبب الذي دعاه إلى كتابته وهو أن بعض المصنّفين أفرد لوطنه تاريخا، كتاريخ مدينة بخارى لمحمد بن أحمد بن سليمان الفخار، وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر أحمد بن علي البغدادي، وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، وتاريخ مصر لعبد الرحمن بن أحمد بن نواس، وتاريخ مالقة لأبي عبد الله بن عسكر، فداخلته عصبية حبّ الوطن، فأقدم على كتابة تاريخ لوطنه غرناطة.
وعنوان الكتاب يدلّ على الغاية التي رمى إليها ابن الخطيب بتأليفه وهي تقديم صورة شاملة عن كل ما يتعلّق بمدينة غرناطة من أوصاف وأخبار، فذكر مروجها وجبالها وأنهارها، وتغنّى بها فقال (1): [الكامل]
بلد تحفّ به الرياض كأنّه ... وجه جميل والرياض عذاره
__________
(1) الإحاطة، في أخبار غرناطة (ج 1ص 25) ونفح الطيب (ج 1ص 68) و (ج 9ص 221) وأزهار الرياض (ج 1ص 3).(1/3)
وكان قبله قد تغنّى بها ابن جبير، صاحب الرحلة، فقال (1): [مجزوء الرمل]
يا دمشق الغرب هاتي ... ك، لقد زدت عليها
تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصبّ إليها
وترجم لثلاث وتسعين وأربعمائة شخصية أندلسية، ممّن حكموا غرناطة، أو وفدوا إليها من المغرب أو المشرق، من ملوك، وأمراء، وأعيان، وولاة، ووزراء، وقضاة، وعلماء، وزهّاد، وصوفيّة ولم ينس أن يكتب سيرته الذاتية في آخر الكتاب، ولكنها ترجمة موجزة تناولت نسبه ومولده ونشأته وتقلّده الوزارة لأبي الحجّاج يوسف النّصري ثم لولده الغني بالله، ونكبته مع الغني وهجرته إلى المغرب، ثم عوده مع الغني سنة 763هـ، ثم مشيخته، ومؤلّفاته، وإيراده بعض شعره.
والكتاب لم يكتب دفعة واحدة فقد بدأ بجمعه قبل نفيه مع سلطانه الغني بالله سنة 761هـ، واستأنف العمل فيه بعد عودته من المنفى سنة 763هـ، فراجعه وزاد فيه فجعله في ستة مجلدات. وظلّ يضيف إليه وينقّح فيه حتى عام 771هـ، تاريخ غزوة الغني بالله لأحواز مدينة إشبيلية التي كانت آنذاك في قبضة الإسبان (2). وقد يكون زاد فيه بعد هذا التاريخ، ونرجّح أن يكون انتهى من تأليفه سنة 772هـ، أي قبل فراره إلى المغرب بسنة.
وقد استعمل ابن الخطيب غير تسمية للكتاب، فذكره، إلى جانب العنوان الذي وضعناه له، باسم «الإحاطة، في تاريخ غرناطة» وقال: إنه في سبعة أسفار (3)، ثم ذكره باسم «الإحاطة بما تيسّر من تاريخ غرناطة» وقال: إنه كتاب كبير في تسعة أسفار (4). ثم عاد واختصره باسم «تاريخ غرناطة» وقال: إنه في اثني عشر سفرا (5).
وقد استعمل ابن الخطيب هذه التسمية الأخيرة المختصرة في مواطن كثيرة. وفي كتابه «اللمحة البدرية» ذكر اسم كتاب عنوانه: «الإماطة، عن وجه الإحاطة، فيما أمكن من تاريخ غرناطة» (6). ثم عاد وذكره في كتابه المذكور عند حديثه عن عوائد أهل غرناطة وأوصافهم، فقال العبارة التالية: «من كتاب الإماطة، عن وجه الإحاطة، فيما أمكن من تاريخ غرناطة» (7). ثم أورد هذه العبارة نفسها في كتاب الإحاطة (8). ونحن،
__________
(1) نفح الطيب (ج 3ص 148). والبيت لم يرد في «رحلة ابن جبير» المطبوع.
(2) الإحاطة (ج 2ص 50).
(3) ريحانة الكتاب (ج 2ص 323).
(4) الإحاطة (ج 4ص 390). وانظر أيضا: نفح الطيب (ج 9ص 321).
(5) ريحانة الكتاب (ج 1ص 31).
(6) اللمحة البدرية (ص 27).
(7) اللمحة البدرية (ص 38).
(8) الإحاطة (ج 4ص 36).(1/4)
بدورنا، نميل إلى أن كتاب «الإماطة» هو اسم آخر لكتاب «الإحاطة» أو هو مختصر كتاب «الإحاطة» لأنّ ابن الخطيب لم يذكر «الإماطة» في ثبت كتبه في آخر «الإحاطة».
والترتيب الذي اعتمده هو ذكر الحاضرة غرناطة، ووصف محاسنها والحديث عن الذين سكنوها وتولّوها، ملتزما الترتيب الأبجدي لأصحاب التراجم، لا الترتيب التاريخي. وقدّم للكتاب، وجعله قسمين، القسم الأول في حلي المعاهد والأماكن والمنازل والمساكن، والقسم الثاني في حلي الزائر والقاطن والمتحرّك والساكن (1).
وبعد أن انتهى من مقدمة الكتاب بدأ في القسم الأوّل بفصل يدور حول اسم مدينة غرناطة، فقدّم لنا وصفا جغرافيّا دقيقا لهذه المدينة (2)، ثم تناول تاريخها منذ أن نزلها العرب أيام الفتح حتى سلاطين بني نصر (3). وذكر قراها، وقال: إنها تنوف على ثلاثمائة قرية (4). ثم انتهى إلى فصل ثان ذكر فيه سير أهل غرناطة وأخلاقهم وأحوالهم وأنسابهم وجندهم وزيّهم (5). وأنهى القسم الأول بفصل ثالث حصره فيمن تداول هذه المدينة منذ أصبحت دار إمارة (6). ثم بدأ القسم الثاني، ويتناول الذين ترجم لهم، وعقد في آخره ترجمة مختصرة لنفسه.
والكتب التي اعتمدها ابن الخطيب في جمع مادته كثيرة، أهمها تاريخ أبي عبد الله محمد بن جزي الغرناطي، الذي شرع في أثناء مقامه بفاس بكتابة تاريخ عام لبلده غرناطة، ولكنه مات سنة 757هـ قبل أن يتمّه. وقد صرّح ابن الخطيب بأنه اطّلع على هذا الكتاب بمدينة فاس عندما قام بسفارة إلى المغرب سنة 755هـ، وسار على منهاجه عند تأليف «الإحاطة» (7). أضف إلى ذلك الوثائق والمعلومات التي اعتمدها والتي أخذها من معاصريه ذوي الشأن.
ويعدّ كتاب «الإحاطة» من أهم المصادر الأندلسية في التراجم والتاريخ فهو من جهة معجم في التراجم، ومن جهة ثانية كتاب في التاريخ، إلّا أنه كتاب تراجم أكثر منه كتاب تاريخ. وبرغم ذلك، فإنه يلقي علينا الضوء على أهم ظاهرة اجتماعية كانت منتشرة في أيامه في بلاد المغرب والأندلس معا، ألا وهي مصارعة الثيران فقد ذكر أنه حضر في المغرب في عهد أبي عنان فارس بن أبي الحسن بن أبي سعيد بن
__________
(1) الإحاطة (ج 1ص 10).
(2) المصدر نفسه (ج 1ص 1813).
(3) المصدر نفسه (ج 1ص 2118).
(4) المصدر نفسه (ج 1ص 3532).
(5) المصدر نفسه (ج 1ص 4036).
(6) المصدر نفسه (ج 1ص 4240).
(7) راجع: نفح الطيب (ج 9ص 329).(1/5)
أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، عندما أرسله سلطان غرناطة الغني بالله رسولا على إثر بيعته عام 755هـ، مصارعة بين ثور وأسد، انتهت بانتصار الثور وجرح الأسد، وخروج طائفة من الرجال المسلحين أخذوا يناوشون الأسد الجريح إلى أن قتلوه، بعد أن أردى بعضهم (1). وفي مكان آخر يصف ابن الخطيب المصارع الغرناطي بأنه فارس مغوار صارع الثور وهو ممتط فرسه المدرّب، ثم قتله برمحه.
وهذا النوع الثاني من المصارعة ما يزال موجودا في إسبانيا حتى اليوم.
وقد لاقى كتاب «الإحاطة» استحسانا من قبل قارئيه، فعدّه المقري من الكتب التي ذاع صيتها بالمشرق والمغرب، وذهب إلى أن المشارقة كانوا أشدّ إعجابا به من المغاربة، وأكثر لهجا بذكره، مع قلّته في تلك البلاد المشرقية، إذ اعتنى باختصاره الأديب المصري الشهير بدر الدين محمد بن إبراهيم البشتكي، المتوفّى سنة 830هـ، وسمّاه: «مركز الإحاطة، في أدباء غرناطة»، وفي في مجلدين بخطّه (2).
وبرغم ما في كتابه من إيجابيات، وهي كثيرة جدّا، فإن لنا بعض المؤاخذات عليه والنقد له، إذ الكمال لواهبه، ومنها أنه كثير التكرار في كتاباته، من ذلك رسالة ينقلها في «الإحاطة» ثم يوردها كما هي في كتابه «الريحانة»، وقد صدرت عنه عن سلطان غرناطة الغني بالله، وتتعلق بمجموع الفتوحات والغزوات التي قام بها السلطان المذكور، أرسلها إلى صاحب تونس أبي إسحاق المستنصر إبراهيم بن أبي بكر ابن يحيى الحفصي (3). ورسالة ثانية هي رسالة «السياسة»، وقد نقلها في «الإحاطة» ضمن ترجمته الشخصية، ثم أوردها كما هي في الريحانة (4). كذلك نقل في «الإحاطة» بعض مقاماته ورسائله وبعض كتبه الصغيرة، وأوردها كما هي في الريحانة.
وقد طبع هذا الكتاب مرتين طبعة ناقصة بجزءين في مجلد واحد، وطبعة كاملة بأربعة أجزاء، بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله عنان، مصر، 19771973، وقد رأينا أن نتولّى هذا العمل تحقيقا وإشرافا، فآلينا على أنفسنا ألّا نوفّر جهدا في سبيل القدرة على الاضطلاع بكل ما يحتاجه التحقيق، فبذلنا في إخراجه من العناية ما استطعنا عليه صحّحنا عددا غير قليل من أخطاء القراءة، التي لا تكاد صفحة تخلو منها تحريفا وتصحيفا ونقصا وتشويها، وبخاصة الشعر حيث قمنا بمراجعته وضبطه وفقا للمصادر التي ورد فيها، وقرنّا النصوص بهوامش وتعليقات تفسيرية، فعرّفنا
__________
(1) الإحاطة (ج 2ص 76).
(2) نفح الطيب (ج 9ص 324).
(3) الإحاطة (ج 4ص 511489) وريحانة الكتاب (ج 1ص 202179).
(4) الإحاطة (ج 4ص 548534) وريحانة الكتاب (ج 2ص 324316).(1/6)
بالأعلام والأماكن حيث كان ذلك ضروريّا، وشرحنا الألفاظ التي تتطلب الشرح وبخاصة بعض المصطلحات الأندلسية غير المعروفة عند المشارقة، بصورة تتّفق مع ما تتطلبه المناهج العلمية الحديثة من أساليب البحث والتحقيق المقارن. وقد تمّ ذلك بعد أن رأى الحاجّ محمد علي بيضون، صاحب دار الكتب العلمية، أن نعيد طبع هذا الكتاب إذ رغب إلينا في أن نقوم بتحقيقه، فقبلنا طلبه، وتولّينا الكتاب بالتحقيق العلمي، وشرعنا بالعمل منذ أكثر من ثلاث سنوات، احتجنا في خلالها إلى أناة قد لا يقوى عليها الكثير من الناس، فجاء الكتاب كما يراه القارئ، وبحسبنا أننا أدّينا الذي يجب علينا في هذا السبيل، فإن قصّرنا فما توفيقنا إلّا بالله تعالى، والكمال لله تعالى وحده. وارتأينا أن نتمّم عملنا بتقديم نبذة موجزة عن سيرة المؤلّف فنقول: هو (1)
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السّلماني، نسبة إلى سلمان، وسلمان حيّ من مراد من عرب اليمن القحطانيين. قرطبيّ الأصل، ثم طليطليّه، ثم لوشيّه، ثم غرناطيّه.
يكنى أبا عبد الله، ويلقّب بلسان الدين، وهو من الألقاب المشرقية، وقد أسبغ عليه الغني بالله لقب ذي الوزارتين لجمعه بين الوزارة والكتابة. ويقال له: «ذو العمرين» لاشتغاله بتدبير الحكم في نهاره، والتصنيف في ليله.
ولد بمدينة لوشة في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 713هـ، وتوفي قتيلا بمدينة فاس في ربيع الأول من عام 776هـ.
أصل سلفه بني سلمان، كما مرّ معنا قبل قليل، من عرب اليمن، استقرّوا عقب الفتح بقرطبة، ثم غادروها وانتقلوا مع كثير من المعارضين للحكم الرّبضي، ومع أعلام الجالية القرطبية، كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله، عند وقعة الرّبض الشهيرة سنة 202هـ إلى طليطلة واستقرّوا بها. وعندما شعروا بقرب سقوط طليطلة (2) غادروا إلى لوشة.
__________
(1) ترجمته وأخباره في الإحاطة (ج 4ص 390374) وكتاب العبر (م 7ص 638636، 672، 697689، 710707) والتعريف بابن خلدون (صفحات متفرّقة) ونثير فرائد الجمان (ص 242) والدرر الكامنة (ج 3ص 469) وجذوة الاقتباس (ص 187) ونفح الطيب (ج 7ص 1955) وأزهار الرياض (ج 1ص 238186) والأعلام (ج 6ص 135).
وانظر أيضا مقدمات كتبه المحقّقة، وهي كثيرة. كما كتب حوله عدة بحوث أهمها الدراسة الوافية التي كتبها الأستاذ محمد عبد الله عنان، وصدرت في مجلد واحد بعنوان: «لسان الدين ابن الخطيب: حياته وتراثه الفكري»، مكتبة الخانجي، طبعة القاهرة، 1968.
(2) سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس سنة 478هـ.(1/7)
عرف بيته في القديم بقرطبة وطليطلة ببني وزير، ثم حديثا بلوشة ببني الخطيب. وقد أطلق لقب «الخطيب» على جدّه الأعلى «سعيد» كونه كان خطيبا بلوشة، فعرف به أبناؤه من بعده. وسعيد هذا هو أول من استوطن لوشة، وكان من أهل العلم والصّلاح والدين والخير والفضل، توفي عند تغلّب العدو على بلده عنوة.
انتقل جدّه الأقرب سعيد والد أبيه من لوشة إلى غرناطة عندما نافسه جيرته بنو الطنجالي الهاشميون، وكان مستوليا على خلال حميدة من فقه وحساب وأدب وخط وتلاوة، تزوج من إحدى قريبات زوجة السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن يوسف النّصري (701671هـ)، ما أحكم الصّلة بينه وبين القصر. وكانت وفاته في ربيع الآخر من عام ثلاثة وثمانين وستمائة.
ولد أبوه (1) عبد الله بغرناطة عام 672هـ، وكان من أهل العلم والأدب، ومن أكابر علماء غرناطة. ترك غرناطة وانتقل إلى لوشة مخصوصا بلقب الوزارة. ولمّا تولّى السلطان أبو الوليد إسماعيل بن فرج النّصري (725713هـ) مقاليد الحكم، عاد عبد الله إلى غرناطة ليخدم في القصر السّلطاني. ثم لازم السلطان أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج النصري (733725هـ)، ثم السلطان أبا الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج النصري (755733هـ). خدم كمشرف على مخازن الطعام، ثم في ديوان الإنشاء مع الوزير أبي الحسن ابن الجيّاب، إلى أن توفي يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، مع ولده الأكبر في موقعة طريف.
نشأ لسان الدين بغرناطة، وتأدّب على شيوخها، وهم كثر، فأخذ عنهم القرآن، والفقه، والتفسير، واللغة، والرواية، والطب، وصناعة التعديل. وقد ذكرهم تحت عنوان «المشيخة» في آخر كتاب «الإحاطة» (2). وروى ابن خلدون أن لسان الدين تأدّب على مشيخة غرناطة وأخذ عن أشياخه دون أن يذكرهم، واكتفى بالقول بأنه اختصّ بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، فأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرّز في الطب، ونبغ في الشعر والترسّل (3). وأضاف أنه امتدح السلطان أبا الحجاج، وملأ الدولة بمدائحه، فرقّاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتّاب ببابه مرءوسا بأبي
__________
(1) ترجمة أبيه في كتابيه: ريحانة الكتاب (ج 2ص 393392) والإحاطة (الجزء الثالث).
(2) الإحاطة (ج 4ص 387وما بعدها). وانظر أيضا نفح الطيب (ج 7ص 358وما بعدها).
(3) كتاب العبر (م 7ص 689).(1/8)
الحسن ابن الجيّاب، شيخ النظم والنثر. ولمّا هلك ابن الجيّاب سنة 749هـ ولّاه أبو الحجّاج رئاسة الكتّاب ببابه، وثنّاها بالوزارة، ولقّبه بها يوم كان الحاجب أبو النعيم رضوان رئيس وزرائه (1)، ثم أرسله سفيرا عنه إلى سلطان المغرب أبي عنان المريني، ليستمدّ منه العون على عدوّه الإسباني، فجلّى في أغراض سفارته (2). ولمّا مات أبو الحجاج، أبقاه ابنه السلطان الجديد الغني بالله محمد بن أبي الحجاج يوسف النصري (793755هـ) في مركزه وزاد في تكريمه، وضاعف حظوته، وأعلى مجلسه، وأرسله سفيرا عنه إلى سلطان المغرب أبي عنان المريني لتجديد أواصر المحبة التي كانت قائمة بين أبيه أبي الحجاج يوسف وبين أبي عنان، وذلك في الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة 755هـ. وفي الخامس عشر من محرم من العام 756هـ، عاد ابن الخطيب إلى غرناطة. وفي الثامن والعشرين من رمضان من عام 760هـ، قام أخو الغني بالله، إسماعيل بن أبي الحجاج يوسف النصري، الذي كان معتقلا في أبراج قلعة الحمراء، بمؤازرة بعض الناقمين على الغني، بثورة على هذا الأخير، وأقصوه عن الحكم، وقتلوا الحاجب رضوان، ونادوا بإسماعيل سلطانا، ففرّ الغني إلى وادي آش. وسعى ابن الخطيب إلى مصانعة السلطان الجديد، فاستبقاه في الوزارة، ولكن لأسابيع قليلة فقط، حيث قبض عليه واعتقله. وسعى سلطان المغرب أبو سالم المريني لدى سلطان غرناطة الجديد إلى أن يجيز للغني الانتقال إلى المغرب برفقة ابن الخطيب، فأفرج عن ابن الخطيب، فلحق بسلطانه المخلوع في وادي آش، وانتقل الاثنان من هناك إلى المغرب، فوصلا مدينة فاس في السادس من محرم سنة 761هـ (3). وفي السادس لذي القعدة من العام التالي، توفيت زوجته أمّ ولده، فدفنها بالبستان المتصل بداره بمدينة سلا، ووصفها بواحدة نساء زمانها.
ولمّا ثاروا بغرناطة وقتلوا السلطان إسماعيل، ونادوا بمحمد بن إسماعيل بن فرج سلطانا، جاز الغني بالله إلى الأندلس مع قاضي حضرته أبي الحسن النباهي ووزيره ابن الخطيب، ففرّ السلطان الجديد، واستردّ الغني ملكه، وذلك في الحادي والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 763هـ (4). وفي الثامن من رمضان أصدر
__________
(1) أبو النعيم رضوان من أصل قشتالي، سبي صبيّا وربّي في القصر السلطاني، وعظمت منزلته.
وجعله السلطان أبو الحجاج يوسف النصري كاتب سرّه وحاجبه، وظل كذلك في عهد السلطان الغني بالله محمد بن يوسف النصري.
(2) كتاب العبر (م 7ص 690689).
(3) أزهار الرياض (ج 1ص 196194، 203202، 207) واللمحة البدرية (ص 113 114، 129).
(4) أزهار الرياض (ج 1ص 3837، 208، 224).(1/9)
الغني مرسوما بإعادة ابن الخطيب إلى منصبه في الوزارة. وفي أوائل سنة 764هـ وصل ابن خلدون إلى غرناطة، بعد أن فقد نفوذه في بلاط فاس، فاستقبله الغني أحسن استقبال، وفي سنة 765هـ أرسله الغني سفيرا إلى قشتالة، وفي سنة 766هـ عاد ابن خلدون إلى المغرب، بعد أن فترت العلاقات مع ابن الخطيب.
ثم شعر ابن الخطيب بأنّ أعداءه، وفي مقدمتهم الوزير أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن زمرك، والقاضي أبو الحسن علي بن عبد الله النباهي، والوزير سليمان بن داود، أخذوا يكيدون له عند الغني بالله، وتخيّل أن الغني بالله أخذ يميل إلى قبول وشاياتهم، فاتّصل سرّا بسلطان المغرب أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، فوعده بأن يؤمّن له الحماية اللازمة والرعاية الكافية، وأخذ منه عهدا بالإقامة في كنفه. عندئذ استأذن الغنيّ بالله في تفقّد الثغور، وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ، فمال إلى جبل طارق، فتلقّاه قائد الجبل، بناء على أمر سلطان المغرب المذكور أعلاه، فأجاز إلى سبتة في جمادى الآخرة من عام 773هـ، ثم توجّه إلى تلمسان فوصلها في التاسع عشر من رجب من العام المذكور، واستقبله السلطان أحسن استقبال، وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء.
وكان قد بعث، وهو يغادر وطنه إلى غير رجعة، برسالة وداع إلى الغني بالله، يبرّىء فيها نفسه ونزاهة مقصده، وبعث منها نسخة إلى ابن خلدون، أوردها هذا الأخير كاملة في كتابيه «كتاب العبر» و «التعريف بابن خلدون» (1)، وهي من أروع الرسائل إجادة وبلاغة، وقد بدأها بأربعة أبيات من الشعر، نذكر منها هذين البيتين:
[المنسرح] بانوا فمن كان باكيا يبكي ... هذي ركاب السّرى بلا شكّ
تصدّع الشّمل مثلما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السّلك
وفي الشهر نفسه من السنة نفسها أرسل سلطان المغرب سفيره إلى غرناطة، فأتى بأسرة ابن الخطيب مكرّمة.
عندئذ وجّه إليه القاضي النباهي تهمة الإلحاد والزندقة والطعن في الشريعة والوقوع في جناب الرسول الكريم، بعد أن نعى عليه تدخّله في شؤون القضاء أيام ولايته القضاء، فأصدر فتوى بإحراق كتبه، فأحرقت في ساحة غرناطة، وصودرت أملاكه، واستحثّ سلطان المغرب على تسليمه لإجراء العقوبة عليه، فرفض. ولمّا
__________
(1) كتاب العبر (م 7ص 956949) والتعريف بابن خلدون (ص 152147).(1/10)
توفي سلطان المغرب في ربيع الآخر من عام 774هـ فقد ابن الخطيب حاكما مخلصا يحميه من أعدائه، فلجأ إلى الوزير أبي بكر ابن غازي، الذي تولّى أمور الدولة ريثما يكبر ابن السلطان الطفل السعيد.
وانتقل ابن الخطيب والوزير ابن غازي من تلمسان إلى فاس، فقام الثوّار واقتحموا مدينة فاس ونادوا بولاية أحمد ابن السلطان أبي سالم، فأذعن ابن غازي لمطالبهم، فخلع الطفل السعيد، ودخل أحمد البلد وجلس على العرش، وذلك في أوائل محرم من العام 776هـ. عندئذ تحقّق لسلطان غرناطة ما يريده، فقبض سلطان المغرب الجديد على ابن الخطيب، وأودعه السجن، وأخبر الغنيّ بالأمر، فأرسل الغنيّ وزيره ابن زمرك إلى فاس، فأحضر ابن الخطيب في مجلس شورى، ووجّهت إليه التّهم المذكورة، وامتحن بالعذاب. وبرغم دفاعه عن نفسه وظهور براءته من تهمة الزندقة، فقد أعيد إلى السجن. ثم دسّ إليه خصمه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد من حاشيته، فطرقوا السجن ليلا وقتلوه خنقا. وفي اليوم الثاني أخرجت جثّته ودفن في مقبرة باب المحروق، أحد أبواب فاس القديمة. ثم أخرجوه في اليوم الثالث من القبر، وأشعلوا من حوله النار، فاحترق شعره واسودّت بشرته، ثم أعيد إلى القبر قبل أن يحترق، وذلك في ربيع الأول من العام 776هـ (1). وما يزال قبره قائما في باب المحروق بفاس في ضريح صغير عليه هذه العبارة: «هذا ضريح العلّامة لسان الدين ابن الخطيب».
ولم يتخذ ابن الخطيب النثر والشعر وسيلة للتكسّب، بل كتبهما ليظهر مواهبه، ويتمشّى مع مفهوم العصر، الذي كان يفرض على كل أديب أن ينثر وينظم. امتلك ناصية الأدب، شعرا ونثرا، فكان له نثر مستملح غلب عليه السّجع وجمع بين دقّة الصّنعة ورقّة الطّبع، وشعر برع فيه ونبغ، سواء في القصيدة العربية الكلاسيكية أو في فنّ التوشيح، حتى انتهت إليه رئاسة هذا الفن، وصار من ألمع شعراء وأدباء عصره، ما دفع ابن خلدون إلى القول: «ونبغ في الشعر والترسّل بحيث لا يجارى فيهما» (2).
وأضاف: «وكان الوزير ابن الخطيب آية من آيات الله في النظم والنثر، والمعارف والأدب، لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه» (3). كما عدّه ابن الأحمر «شاعر الدنيا، وعلم المفرد والثّنيا، وكاتب الأرض إلى يوم العرض» (4).
__________
(1) خبر مقتل ابن الخطيب في كتاب العبر (م 7ص 710707) ونفح الطيب (ج 7ص 105 107) وأزهار الرياض (ج 1ص 231229).
(2) كتاب العبر (م 7ص 689).
(3) المصدر نفسه (ص 959).
(4) نثير فرائد الجمان (ص 243).(1/11)
وكان ابن الخطيب معجبا بشعره، معتدّا به، اسمعه وهو يقول من قصيدة هنّأ بها الغني بالله يوم عقد بيعته سنة 755هـ (1): [الطويل]
ودونكها من بحر فكري جواهرا ... تقلّد في نحر وتنظم في عقد
ركضت لها خيل البديهة جاهدا ... وأسمعت آذان المعاني على بعد
تناول فيه موضوعات الشعر العربي وأغراضه المعروفة من مديح ورثاء وغزل وقد استفرغ معظم مدائحه في سلاطين بني نصر، وكان أبو الحجّاج يوسف أوفرهم نصيبا. كما مدح سلاطين بني مرين بالمغرب. وجرى في قصائد المديح ومقطوعاته على سنن قدماء المسارقة، فبدأها بالغزل ووصف الخمر والطّلل، وعدّد فيها صفات الممدوح المعروفة من شجاعة وكرم ومروءة وعدل كذلك له مدائح نبوية قالها في مناسبة ذكرى مولد الرسول الكريم، أشاد فيها بذكره، وأشار إلى بعض معجزاته، وهي تختلف عن قصائد المدح من حيث دفق العاطفة وحرارة الإيمان.
وفي الرثاء بدت عاطفته صادقة، عبّر فيه بوجدانية صادقة عن إحساسه العميق بحقيقة الموت، ولا سيما في رثاء زوجته التي أخذت منه كل مأخذ، فقد أظهر رثاؤه مدى لوعته وحرقته على فقدها، حيث أحسّ بقرب الرحيل، فطلب منها أن تمهّد لديها مضطجعا له (2): [المنسرح]
روّع بالي وهاج بلبالي ... وسامني الثّكل بعد إقبال
فانتظريني، فالشّوق يقلقني ... ويقتضي سرعتي وإعجالي
ومهّدي لي لديك مضطجعا ... فعن قريب يكون ترحالي
ولمّا توقّع، وهو في السجن، مصيبة الموت، نظم شعرا مؤثّرا، بكى فيه نفسه (3): [المتقارب]
بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا لوعد ونحن صموت
وكنّا عظاما فصرنا عظاما (4) ... وكنّا نقوت فها نحن قوت
وكنّا شموس سماء العلا ... غربن فناحت عليها السّموت
__________
(1) الصيّب والجهام (ص 429).
(2) نفاضة الجراب (ص 205).
(3) كتاب العبر (م 7ص 710709) ونفح الطيب (ج 7ص 107) وأزهار الرياض (ج 1ص 231).
(4) العظام الأولى: جمع عظيم. والعظام الثانية: جمع عظم.(1/12)
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات فمن ذا الذي لا يفوت؟
ومن كان يفرح منهم له ... فقل: يفرح اليوم من لا يموت
وجادت قريحته بشعر الغزل، فسار فيه على خطى ابن زيدون وأمثاله ممّن كانت المحبوبات يقمن بزيارتهم عند قدوم الظلام، كقوله فيمن عاتبته لأنه تناساها (1):
[البسيط]
زارت ونجم الدّجى يشكو من الأرق ... والزّهر سابحة من لجّة الأفق
والليل من روعة الإصباح في دهش ... قد شاب مفرقه من شدّة الغرق
قالت: تناسيت عهد الحبّ، قلت لها: ... لا والذي خلق الإنسان من علق
وقد أجمع النّقّاد على أنه من كبار وشّاحي الأندلس، برغم أنّ فن التوشيح طمس رسمه في زمانه، وأهمّ موشّحاته تلك التي مطلعها (2):
جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلّا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس
وقد عارض فيها موشحة ابن سهل الإسرائيلي الإشبيلي، التي مطلعها (3):
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس؟
فهو في حرّ وخفق مثلما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس
وتآليفه جيدة في ملح الشعر والخبر، وقد توزّع إنتاجه في التأليف ما بين نظم ونثر، يدور حول الأدب، والتاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والطب، وأصول الدين، والتصوّف والشريعة، والموسيقى، والتراجم، بعضه كتبه في غرناطة، والبعض الآخر في المغرب، ويربو على الستّين مؤلّفا، ما بين كتاب ورسالة. وقد أورد ابن الخطيب ثبتا بمؤلّفاته في ترجمته التي عقدها لنفسه في آخر كتابه «الإحاطة» (4)، غير أن هذا الثّبت لا يشمل كل كتبه. كما ذكر بعض كتبه ورسائله في كتابيه «نفاضة الجراب» (5)
__________
(1) الصيّب والجهام (ص 634).
(2) الموشحة كاملة في نفح الطيب (ج 9ص 240237). ووردت ناقصة في كتاب العبر لابن خلدون (م 1ص 1147) وأزهار الرياض (ج 2ص 215213).
(3) الموشحة كاملة في نفح الطيب (ج 9ص 288286).
(4) الإحاطة (ج 4ص 390388).
(5) نفاضة الجراب في علالة الاغتراب (ج 2ص 122121، 151، 189187، 343، 367).(1/13)
و «ريحانة الكتّاب» (1). وذكر المقري مؤلّفات ابن الخطيب وقال: إنها نحو الستين (2).
ومؤلّفاته التي وصلت إلينا تدور في معظمها حول الأدب والتاريخ، وما لم يصل إلينا فقد أحرق معظمه، ويتعلق بالطب والأخلاق والعقائد.
أولا مؤلّفاته التاريخية:
1 - الإحاطة، في أخبار غرناطة: تحدّثنا عنه في أول المقدمة.
2 - أعمال الأعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام، من ملوك الإسلام، وما يجرّ ذلك من شجون الكلام: هو آخر مؤلّف كتبه ابن الخطيب، وقد ألّفه للوزير أبي بكر بن غازي، القائم بالدولة، والوصيّ على الطفل محمد السعيد، الذي تولّى الحكم في المغرب بعد موت والده السلطان عبد العزيز المريني سنة 774هـ. وفيه استأنف حملته على القاضي أبي الحسن النباهي، ونعته ب «الجعسوس» أي القزم الدميم. ولم يتح له القدر إكماله، فتركه ناقصا، والذي كتبه يشتمل على ثلاثة أقسام: قسم يتناول تاريخ المشرق ومصر والشام. والثاني يتناول تاريخ الأندلس حتى أيام ابن الخطيب.
والثالث يتناول تاريخ المغرب وإفريقية. نشر منه فقط القسمان الثاني والثالث.
3 - رقم الحلل، في نظم الدول: عبارة عن أرجوزة من نظم ابن الخطيب نفسه، أهداها إلى سلطان المغرب في أثناء إقامته بمدينة سلا في المدة التي قضاها منفيّا بالمغرب ما بين 760و 763هـ. وتدور حول تاريخ الدول الإسلامية بالمشرق والأندلس، منذ أيام الرسول الكريم حتى أيام ابن الخطيب، بدءا بالخلفاء الراشدين، ومرورا بدولة بني أمية، وبني العباس، وبني الأغلب، والفاطميين، وبني أمية بالأندلس، وانتهاء بدولة بني نصر بغرناطة وبني حفص بإفريقية وبني مرين بالمغرب.
وهكذا سرد ابن الخطيب التاريخ الإسلامي شعرا، وقام في الوقت نفسه بشرح ما رواه نظما. والكتاب، على حدّ قول المقري، في غاية الحلاوة والعذوبة والجزالة، وقد ابتدأه بقوله (3): [الرجز]
الحمد لله الذي لا ينكره ... من سرحت في الكائنات فكره
وهذا الكتاب مطبوع في تونس. وهو أيضا من منشورات وزارة الثقافة بدمشق، 1990.
__________
(1) ريحانة الكتّاب (ج 1ص 2421، 26، 31، 3835، 5352) و (ج 2ص 223، 248، 279، 355، 361، 411).
(2) نفح الطيب (ج 9ص 324320) وأزهار الرياض (ج 1ص 190189).
(3) نفح الطيب (ج 9ص 323).(1/14)
4 - طرفة العصر، في دولة بني نصر: يقع في ثلاثة أسفار، ويؤرّخ لبني نصر.
وهو مفقود.
5 - قطع الفلاة، بأخبار الولاة: عبارة عن رسالة قصيرة في النثر، تمثّل فيها ابن الخطيب بشعر من نظم غيره. وتدور حول ولاة مغاربة أمثال ابن الربيب، أحد خدّام السلطان أبي سالم المريني، الذي كان مكلّفا بصرف جراية ابن الخطيب في أثناء إقامته بالمغرب، ووالي مكناسة عبد الله بن محمد. والرسالة لا تزيد عن عشر صفحات، وقد أوردها ابن الخطيب في كتابه «نفاضة الجراب» (1).
6 - اللّمحة البدريّة، في الدولة النّصرية: كتاب مختصر لتاريخ بني نصر بغرناطة، بدأ تدوينه عام 763هـ، وانتهى منه أول عام 765هـ، وقد توخّى فيه الصدق وبعد النظر في درك الحقائق. وهو مطبوع.
7 - نفاضة الجراب، في علالة الاغتراب: هو سجلّ لمذكّرات ابن الخطيب الشخصية عن المدة التي قضاها منفيّا في مدينة سلا المغربية مع سلطانه الغني بالله ما بين 760و 763هـ. وهو في أربعة أسفار، طبع منه فقط السّفر الثاني، وفيه يهنّئ سلطان المغرب أبا سالم المريني بمناسبة فتح تلمسان، ويذكر بعض القصائد والرسائل التي كتبها في سلا، ويتحدّث عن حال غرناطة في عهد السلطان أبي سعيد البرميخو المغتصب، ويرثي زوجته التي توفيت في عام 762هـ. ويأتي من حيث الأهمية بعد كتاب «الإحاطة». وجاء اسم الكتاب في كتابه «الريحانة» هكذا: «نفاخة الجراب» في ثلاثة أسفار (2). وجاء في مكان آخر من الكتاب نفسه: «نفاضة الجراب» (3).
ثانيا مؤلّفاته في الجغرافيا والرحلات:
1 - خطرة الطّيف، ورحلة الشتاء والصيف: رسالة مسجّعة وصف فيها ابن الخطيب رحلة قام بها برفقة سلطانه أبي الحجاج يوسف النّصري في السابع عشر من محرم لعام 748هـ، لتفقّد مقاطعات غرناطة الشرقية. وردت ضمن أربع رسائل جمعها الدكتور أحمد مختار العبادي في كتاب أسماه: «مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس» (4) تحت عنوان: «خطرة الطيف، في رحلة الشتاء والصيف».
__________
(1) نفاضة الجراب (ج 2ص 162151).
(2) ريحانة الكتاب (ج 2ص 223).
(3) المصدر نفسه (ج 2ص 368).
(4) مشاهدات لسان الدين (ص 7).(1/15)
2 - معيار الاختبار، في أحوال المعاهد والديار: رسالة في الأدب والترسّل المسجّع، وصف فيها ابن الخطيب أهم مدن المغرب والأندلس، وقد دوّنها في أثناء المدة التي قضاها في المنفى مع سلطانه الغني بالله بين عامي 760و 763هـ.
ووردت ضمن أربع رسائل جمعها الدكتور أحمد مختار العبادي في كتاب أسماه «مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس» (1) تحت عنوان:
«معيار الاختبار، في ذكر أحوال المعاهد والديار». والعنوان الذي اخترناه من «نفاضة الجراب» حيث جاء فيه أنه «كتاب غريب مصوّر لم يسبق متقدم إلى غرضه» (2). وجاء العنوان في «الإحاطة» و «أزهار الرياض» هكذا: «معيار الاختيار» (3)، وفي «النفح»:
«معيار الأخبار» (4).
3 - مفاضلة بين مالقة وسلا: عبارة عن رسالة مسجّعة قارن فيها ابن الخطيب بين مدينة مالقة الأندلسية ومدينة سلا المغربية، وقد تحيّز فيها إلى مالقة التي كانت آنذاك تابعة لمملكة غرناطة. وقد وردت ضمن أربع رسائل جمعها الدكتور أحمد مختار العبادي في كتاب أسماه: «مشاهدات لسان الدين» (5) تحت عنوان «مفاخرات مالقة وسلا». وهذا العنوان اخترناه من كتاب «الإحاطة» (6)، وهو في كتاب «الريحانة» (7) هكذا: «مفاخرة بين مالقة وسلا»، وهو عند المقري (8): «مفاضلة مالقة وسلا». ونستطيع أن نعدّ هذه الرسالة ضمن الرسائل الأدبية، وبمعنى آخر، فهي رسالة في أدب الجغرافيا.
ثالثا مؤلّفاته في التراجم:
1 - الإكليل الزاهر، فيما فضل عند نظم التاج من الجواهر: هو تتمة لكتابه «التاج المحلّى»، كتبه لسلطانه أبي الحجاج يوسف النصري، واعتمد فيه أسلوب السّجع في ترجمة بعض أعلام عصره. وقد ورد العنوان نفسه في كتابه «ريحانة الكتاب» (9) هكذا: «الإكليل الزاهر، فيمن فضل عند نظم التاج من الجواهر». وهو غير مطبوع، وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإسكوريال تحت رقم 554.
__________
(1) مشاهدات لسان الدين (ص 12).
(2) نفاضة الجراب (ص 122).
(3) الإحاطة (ج 4ص 388) وأزهار الرياض (ج 1ص 89).
(4) نفح الطيب (ج 9ص 323).
(5) مشاهدات لسان الدين (ص 11).
(6) الإحاطة (ج 4ص 388).
(7) ريحانة الكتاب (ج 2ص 355).
(8) نفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(9) ريحانة الكتاب (ج 2ص 411).(1/16)
2 - التاج المحلّى، في مساجلة القدح المعلّى: يقع في سفر، وهو مفقود، وقد كتبه لسلطانه أبي الحجاج يوسف النصري في زمان الحداثة، ويترجم لمائة وعشرة شعراء عاشوا في مملكة غرناطة في القرن الثامن الهجري. وقد ورد اسمه في كتابه «ريحانة الكتاب» (1) هكذا: «التاج المحلّى، ومساجلة القدح المعلّى». وكتاب «القدح المعلّى» الذي يساجله ابن الخطيب هو لابن سعيد الأندلسي.
3 - عائد الصلة: يقع في سفرين، وهو مفقود، وقد وصل به «صلة الصلة» للأستاذ أبي جعفر بن الزبير، المتوفّى سنة 708هـ. ويترجم لطائفة من الأعلام الذين لم يرد ذكرهم في كتاب ابن الزبير.
4 - الكتيبة الكامنة، في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة: كتبه في جمادى الآخرة من عام 774هـ، بعد وفاة السلطان أبي فارس عبد العزيز المريني بثلاثة أشهر. وفيه يحمل بشدّة على القاضي أبي الحسن النباهي وينعته بأقسى النعوت. ويترجم لمائة وثلاثة من أدباء وشعراء وفقهاء الأندلس المعاصرين له. ذكره في ثبت كتبه، الذي أورده في كتابه «الإحاطة» (2) تحت عنوان: «الكتيبة الكامنة، في أدباء المائة الثامنة». وكذا أورده المقري (3). وأورده في مكان آخر هكذا (4): «الكتيبة الكامنة، في شعراء المائة الثامنة». ونحن اعتمدنا العنوان الذي اعتمده محقّق الكتاب، الدكتور إحسان عباس، طبعة دار الثقافة، بيروت، 1963. والعنوان نفسه ذكره ابن الخطيب في مقدمة الكتاب المذكور (5). وينسب إليه كتاب عنوانه: «تحفة ذوي الأدب، في مشكل الأسماء والنسب، في ضبط ما وقع في الموطإ والصحيحين من الأسماء والنسب». والكتاب نشره تروغرتمان في ليدن، سنة 1905، ويقع في إحدى وسبعين ومائتي صفحة (6).
رابعا المؤلّفات الأدبية (شعرا ونثرا):
1 - أبيات الأبيات: مفقود، اختاره ابن الخطيب من مطالع ما له من الشعر، وذكره ضمن مؤلّفاته التي كتبها في بادئ الأمر (7). كما ذكره المقري في كتابيه «النفح» و «الأزهار» (8)، دون أن يزيد شيئا عمّا جاء به ابن الخطيب.
__________
(1) ريحانة الكتاب (ج 2ص 361).
(2) الإحاطة (ج 4ص 390).
(3) نفح الطيب (ج 9ص 320) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(4) نفح الطيب (ج 9ص 323).
(5) الكتيبة الكامنة (ص 29).
(6) راجع: ابن الخطيب من خلال كتبه للتطواني (ص 63).
(7) الإحاطة (ج 4ص 389).
(8) نفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1ص 190).(1/17)
2 - تافه من جمّ، ونقطة من يمّ: مفقود، وهو عبارة عن مجموعة رسائل اقتضبها ابن الخطيب من نثر شيخه أبي الحسن علي بن محمد الأنصاري، المعروف بابن الجيّاب، على حدّ قول ابن الخطيب نفسه في ترجمة شيخه المذكور في المجلد الرابع من كتابه «الإحاطة». وذهب المقري إلى أن ابن الخطيب جمع في هذا الكتاب نثر ابن الجيّاب (1). وأضاف أنه دوّن أيضا شعر شيخه ابن الجيّاب (2).
3 - تخليص الذهب، في اختيار عيون الكتب: مفقود، وأغلب الظن أنه يدور حول ثلاثة كتب أدبية، لم يذكر اسمها.
4 - جيش التوشيح: كتاب في سفرين السّفر الأول مطبوع بتونس، سنة 1967، وفيه مائة وخمس وستون موشحة لستة عشر وشّاحا عاشوا في القرن السادس الهجري، ومن ضمنها خمس عشرة موشحة خرجاتها عجمية (الإسبانية القديمة).
والسفر الثاني مفقود، ويدور حول وشّاحي القرن السابع الهجري والنصف الأول من القرن الثامن الهجري.
5 - خلع الرّسن، في أمر القاضي ابن الحسن: مفقود، وقد ألّفه للسلطان أبي فارس عبد العزيز المريني، بعد أن فرّ من الأندلس إلى المغرب، وفيه يهجو خصمه اللدود القاضي أبا الحسن علي بن عبد الله ابن الحسن النباهي، صاحب كتاب «المرقبة العليا». وورد اسمه في مكان آخر بهذا الاسم (3): «خلع الرّسن، في التعريف بأحوال ابن الحسن».
6 - الدرر الفاخرة، واللّجج الزاخرة، مفقود، جمع فيه ابن الخطيب ديوان شعر أبي جعفر أحمد بن إبراهيم ابن صفوان المالقي، المتوفّى سنة 763هـ، أيام مقامه بمالقة عند توجّهه بصحبة السلطان أبي الحجاج إلى نجدة الجزيرة الخضراء عام 744هـ، حسبما يذكر في ترجمة ابن صفوان المذكور، في الجزء الأول من كتاب الإحاطة.
7 - ريحانة الكتّاب، ونجعة المنتاب: يقع في ثمانية أسفار، وفيه طائفة كبيرة من الرسائل السلطانية والسياسية، يتعلق بعضها بوصف الغزوات والوقائع الحربية التي جرت في إشبيلية وجيان والجزيرة الخضراء وجبل طارق، وبعضها يطلب فيها الإنجاد والعون من سلاطين المغرب. كما يحتوي على مخاطبات ملوك النصارى الإسبان.
__________
(1) نفح الطيب (ج 9ص 323).
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(3) أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 80).(1/18)
وهو مطبوع في مجلدين، بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1981.
8 - السّحر والشّعر: عبارة عن مختارات شعرية لمشارقة وأندلسيين أمثال أبي العتاهية، وابن الرومي، وابن رشيق، والمعتمد بن عباد، وابن عمّار، وابن اللبانة، تعالج موضوعات شتى، من ضمنها الوصايا والنقد. توجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإسكوريال تحمل الرقم 456، ونسخة أخرى بخزانة الرباط العامّة ذات الرقم 1295.
9 - الصّيّب والجهام، والماضي والكهام: عنوان الديوان الذي جمع فيه ابن الخطيب معظم شعره، ويقع في سفرين، ويعالج معظم أغراض الشعر. السفر الأول حقّقه الدكتور محمد الشريف قاهر، الجزائر، 1973. والسفر الثاني مفقود.
10 - طلّ الغمام، المقتضب من الصّيّب والجهام: أغلب الظنّ أنه مختصر ديوان شعر ابن الخطيب، السابق الذّكر، إذ لم يذكره ابن الخطيب ضمن مؤلّفاته، كما لم يذكره ممّن ترجم له، وانفرد ابن القاضي بذكره (1).
11 - فتات الخوان، ولقط الصّوان: مفقود، ويقع في سفر واحد، ويتضمن فقط مقطوعات شعرية.
12 - كناسة الدّكّان، بعد انتقال السّكّان: كتاب أدب وترسّل، يدور حول العلاقات السياسية بين مملكتي غرناطة والمغرب في القرن الثامن الهجري. ويضمّ مجموعة من الرسائل السلطانية التي كتبها كلّ من أبي الحجّاج يوسف وولده الغني بالله إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس، وقد جمعها ابن الخطيب عند إقامته بمدينة سلا المغربية، بعد التجائه مع سلطانه الغني بالله إلى المغرب. وهو مطبوع بالقاهرة، 1966.
13 - المباخر الطيبية، في المفاخر الخطيبية: مفقود، ألّفه للسلطان أبي فارس عبد العزيز المريني، بعد هروبه إلى المغرب سنة 773هـ. يدور موضوعه حول الرّدّ على خصومه الذين انتقصوا من منزلة بني الخطيب يذكر فيه نباهة سلفه وما لهم من المجد، ويردّ على من جاهر له بالعداوة وقدح في فخر أسلافه.
14 - مثلى الطريقة، في ذمّ الوثيقة: عبارة عن رسالة صغيرة يعرّض فيها ابن الخطيب بالموثقين والعدول، وقد أوجبها محاورة صدرت في ذلك بينه وبين بعض
__________
(1) جذوة الاقتباس (ص 187).(1/19)
شيوخ تلك الطريقة، تضمّنت نظما ونثرا، وفقها وحكاية (1). وهذه الرسالة منشورة ضمن: دراسات ووثائق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983، بتحقيق الدكتور عبد المجيد التركي.
15 - مساجلة البيان: لم يرد ذكره في أيّ من المصادر التي ترجمت لابن الخطيب، كما أنه لم يرد اسمه ضمن مؤلّفات ابن الخطيب، التي ذكرها بنفسه.
وانفرد التطواني بذكره في كتابه: «ابن الخطيب من خلال كتبه» (2). وأغلب الظن أنه يدور حول علم البيان، وهو واحد من علوم البلاغة العربية علم البيان، وعلم البديع، وعلم المعاني.
16 - النّفاية، بعد الكفاية: مفقود، كذا ورد اسمه في كتاب «الإحاطة»، وجاء فيه أنه في نحو «قلائد العقيان» و «مطمح الأنفس» لابن خاقان (3). وهو عند المقري (4): «النّقاية» بالقاف. ولابن الخطيب كتاب في غرض الهجاء، مفقود، ويوجد منه قسم في الخزانة العامّة بالرباط تحت رقم 1233، أوله: الباب الثالث والأربعون (5).
خامسا مؤلّفاته في الشريعة والتّصوّف والحثّ على جهاد النفس:
1 - استنزال اللّطف الموجود، في سرّ الوجود: كذا ورد اسمه في الإحاطة، ونفح الطيب وأزهار الرّياض (6). وجاء في «ريحانة الكتاب» «أسرار» بدل «سرّ»، كما يقول ابن الخطيب نفسه: «وثبتّ في صدر كتابي المسمّى ب «استنزال اللّطف الموجود، في أسرار الوجود، وهو ما جمعته لهذا العهد» (7). وهذا المؤلّف عبارة عن رسالة صغيرة في التصوّف، توجد منه نسخة مخطوطة في المكتبة العامّة بتطوان تحمل الرقم 353.
2 - أنشدت على أهل الرّدّ: عبارة عن رسالة في الشعر، مفقودة، يدور موضوعها حول الرّدّ على أصحاب الآراء المضلّة وأهل الزندقة، وقد ذكرها ابن الخطيب في ترجمة الغني بالله محمد بن يوسف النصري، وهي أول ترجمة في الجزء الثاني من كتابه «الإحاطة».
__________
(1) نفاضة الجراب (ج 2ص 188).
(2) ابن الخطيب من خلال كتبه (ص 63).
(3) الإحاطة (ج 4ص 461).
(4) نفح الطيب (ج 9ص 320).
(5) راجع: ابن الخطيب من خلال كتبه (ص 45).
(6) الإحاطة (ج 4ص 488) ونفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرّياض (ج 1ص 190).
(7) ريحانة الكتاب (ج 1ص 52).(1/20)
3 - الحلل المرقومة، في اللّمع المنظومة: عبارة عن أرجوزة من ألف بيت في أصول الفقه (1). توجد منه نسخة مخطوطة في خزانة القرويين بفاس، تحمل الرقم 78 (2).
4 - حمل الجمهور، على السّنن المشهور: عبارة عن رسالة مفقودة، يدور موضوعها حول السّنن المشهور، كجهاد النّفس، وإخماد البدع، والاشتداد على أهل الزّيغ والزندقة، الذين أضاقوا الشريعة بأضاليلهم. وقد ذكرها ابن الخطيب في ترجمة الغني بالله، في أوّل الجزء الثاني من كتابه «الإحاطة» (3).
5 - رجز الأصول: هو أرجوزة مفقودة تبحث في أصول الفقه، وقد شرحها ابن خلدون، صاحب كتاب العبر، وصرّح ابن الخطيب نفسه بأنّ له خمس أراجيز من نظمه في أصول الفقه، نظمها بمدينة سلا (4).
6 - الرّدّ على أهل الإباحة: هو كتاب مفقود، يردّ فيه ابن الخطيب على من أباح ما لم يبح.
7 - الرّميمة: أغلب الظّنّ أنه مقالة مفقودة تدور حول أصول الدين والدّفاع عن الشريعة، وقد ورد ذكرها فقط في كتاب الإحاطة (5).
8 - روضة التعريف، بالحبّ الشريف: كتاب في التصوّف، موضوعه المحبة الروحية والإلهية، عارض به «ديوان الصبابة» لأبي العباس أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التّلمساني، وتكلّم فيه على طريقة أهل الوحدة المطلقة. وجعله خصومه وثيقة اتّهام وجّهوها إليه فنسبوه إلى مذهب الحلول وغيره، ما أدّى إلى نكبته التي ذهبت فيها نفسه. نشره الأستاذ عبد القادر أحمد عطا، بدار الفكر العربي بالقاهرة، سنة 1968.
9 - الزّبدة الممخوضة: نعتقد أنّه مقالة مفقودة تدور حول أصول الدين، ورد ذكرها فقط في كتاب الإحاطة (6).
__________
(1) الإحاطة (ج 4ص 388، 390) ونفاضة الجراب (ج 2ص 187) ونفح الطيب (ج 9ص 321) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(2) راجع: لسان الدين ابن الخطيب لمحمد عبد الله عنان (ص 271).
(3) راجع أيضا: الإحاطة (ج 4ص 388) ونفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرّياض (ج 9 ص 190).
(4) ريحانة الكتاب (ج 2ص 223، 368).
(5) الإحاطة (ج 4ص 388).
(6) الإحاطة (ج 4ص 388).(1/21)
10 - سدّ الذريعة، في تفضيل الشريعة: كتاب مفقود، يبحث في أصول الدين.
11 - كتاب المحبة: مفقود، ويقع في سفرين، وموضوعه المحبة الإلهية.
12 - الغيرة، على أهل الحيرة: رسالة مفقودة يدور موضوعها حول الغيرة على الدين، وتغيّر أحوال الملحدين، وهو ما وقع به العمل على إذهاب الآراء المضلّة، وقد ذكرها ابن الخطيب في ترجمة الغني بالله، في أوّل الجزء الثاني من كتابه «الإحاطة» (1).
سادسا مؤلّفاته في السياسة:
1 - الإشارة إلى أدب الوزارة: هو كتاب في السياسة، ذكره ابن الخطيب بهذا الاسم في كتابه «الريحانة»، وذكر منه ما يقارب خمس صفحات تتناول الوزير والوزارة (2). واكتفى في الإحاطة بذكره باسم: «الإشارة» (3)، وكذا ذكره المقري (4).
وذكره الدكتور أحمد مختار العبادي باسم: «الإشارة، إلى أدب السياسة في الوزارة» (5). نشره الأستاذ عبد القادر زمامة بدمشق، 1972.
2 - بستان الدول: كتاب مفقود، يدور حول السياسة والحرب والقضاء وأهل الحرف والمهن، لم يكن يسمع بمثله قبل أن يؤلّف. يشتمل على عشر شجرات:
أولها شجرة السلطان، ثمّ شجرة الوزارة، ثمّ شجرة الكتابة، ثمّ شجرة القضاء، ثمّ شجرة الشرطة والحسبة، ثمّ شجرة العمل، ثمّ شجرة الجهاد (أسطول وخيول)، ثمّ شجرة ما يضطر باب الملك إليه من الأطباء، والبيازرة والبياطرة، والشعراء، ثمّ شجرة الرعايا. كذا ذكر ابن الخطيب أنها عشر شجرات، ولكنه لم يورد منها إلّا تسعا (6). وهذا الكتاب لم يكمل، كتب منه ابن الخطيب فقط نحو ثلاثين جزءا تقارب الأسفار.
3 - تخصيص الرياسة، بتلخيص السياسة: الكتاب مفقود، كذا أورده ابن الخطيب في كتابه «نفاضة الجراب»، وقال: هذا المؤلّف أرجوزة نظمتها في فنّ
__________
(1) راجع أيضا: الإحاطة (ج 4ص 388) ونفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1 ص 190).
(2) ريحانة الكتاب (ج 2ص 335).
(3) الإحاطة (ج 4ص 390).
(4) نفح الطيب (ج 9ص 321).
(5) نفاضة الجراب (ج 2ص 188، حاشية رقم 3).
(6) الإحاطة (ج 4ص 489). وانظر أيضا: نفح الطيب (ج 9ص 321320).(1/22)
السياسة، في نحو ستمائة بيت (1). ثمّ أورده في الكتاب المذكور باسم: «السياسة» (2).
وقد يكون هو نفسه الذي ذكره الدكتور أحمد مختار العبادي باسم: «قصيدة في السياسة»، وقال: توجد من هذه القصيدة نسخة مخطوطة في خزانة الرباط تحت رقم (د 7740) (3). وذكره ابن الخطيب في كتاب الإحاطة (4) باسم: «رجز السياسة». ثمّ ذكره (5) باسم: «السياسة المدنية».
4 - رسالة السياسة: أوردها ابن الخطيب في آخر كتابه «الإحاطة» ضمن ترجمته الشخصية، فقال: «ولنختتم هذا الغرض ببعض ما صدر عني في السياسة، وكان إملاؤها في ليلة واحدة» (6). كذلك أوردها في كتابه «ريحانة الكتاب» (7). وهي رسالة قصيرة تقع في أقلّ من عشرين صفحة، بطلها الخليفة هارون الرشيد، وتدور حول الوزير، والجند، والعمّال، والولد، والخدم، والحرم.
5 - رسالة في السياسة: هي رسالة قصيرة، ذكرها الدكتور أحمد مختار العبادي فقال (8): لابن الخطيب رسالة في السياسة مكتوبة باللغة القشتالية (الإسبانية القديمة) وموجّهة إلى ملك قشتالة بدرو المعروف بالقاسي، نشرها المؤرّخ الإسباني لوبث دي أيالا في كتابه: «حوليات ملوك قشتالة»، .. 394384،، 1776.
6 - رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم، وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيوب بصائرهم: وجّهها ابن الخطيب إلى الخطيب أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن مرزوق، وتوجد منها نسخة مخطوطة في خزانة الرباط تحت رقم (د.
0972 - د. 1421) (9).
7 - كتاب الوزارة: يبحث في شؤون الوزارة. ذكره ابن الخطيب في كتابه الإحاطة (10) دون أن يتحدّث عنه بشيء. ومثله فعل المقري (11).
__________
(1) نفاضة الجراب (ج 2ص 188).
(2) المصدر نفسه (ج 2ص 368).
(3) المصدر نفسه (ج 2ص 188، حاشية رقم 3).
(4) الإحاطة (ج 4ص 388). وانظر أيضا: أزهار الرياض (ج 1ص 189).
(5) المصدر نفسه (ج 4ص 390). وانظر أيضا: نفح الطيب (ج 9ص 321).
(6) المصدر نفسه (ج 4ص 548534).
(7) ريحانة الكتاب (ج 2ص 334316).
(8) نفاضة الجراب (ج 2ص 188، حاشية رقم 3).
(9) المصدر نفسه، والحاشية نفسها.
(10) الإحاطة (ج 4ص 388).
(11) نفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1ص 190).(1/23)
8 - مقامة السياسة: كذا أدرجها ابن الخطيب في كتابه الإحاطة (1)، دون أن يتحدّث عنها. وبهذا الاسم أيضا أوردها المقري (2). وأوردها الدكتور أحمد مختار العبادي تحت اسم «رسالة في غرض السياسة» وقال (3): هي مقامة توجد منها نسخة مخطوطة في خزانة الرباط تحت رقم (د. 1092د. 1421).
سابعا مؤلّفاته في الطّبّ والأغذية:
1 - أرجوزة في فن العلاج من صنعة الطب: عدد أبياتها نحو ألف وستماية بيت، تتضمّن ذكر جميع الأمراض الكلية والجزئية، وذكر أسبابها وعلاماتها وتدبيرها وجلب العلاج بحسب أحوالها. توجد منها نسخة مخطوطة بخزانة القرويين، ضمن رسائل ابن الخطيب الطبيّة (4). وقد أورد ابن الخطيب اسمها في الإحاطة (5) هكذا:
«رجز الطب». وكذا أوردها المقري في أزهار الرياض (6).
2 - الأرجوزة المعلومة: مفقودة، وهي أرجوزة طبيّة موضوعها الرتبة وعلاج السموم. وقد صرّح ابن الخطيب بأنه كتبها ليعارض بها من جهة أرجوزة أبي علي بن سينا الطبية، الموسومة ب «الأرجوزة المجهولة» التي موضوعها العلاج من الرأس إلى القدم، ولتكتمل بها، من جهة ثانية، صناعة الطب كمالا لا يشينه نقص (7).
3 - البيطرة: مفقود، ويقع في سفر واحد يجمع لما يرجع إلى البيطرة من محاسن الخيل وغير ذلك من علاج الحيوانات.
4 - البيزرة: مفقود، ويقع في مجلد يبحث في أحوال الجوارح من الطيور.
5 - الرجز في عمل التّرياق الفاروقي: مفقود، ويدور حول الترياق الفاروقي، وهو دواء مركّب يدفع السموم، وهو أجلّ المركّبات لأنه يفرّق بين المرض والصّحّة.
__________
(1) الإحاطة (ج 4ص 388).
(2) نفح الطيب (ج 9ص 323).
(3) نفاضة الجراب (ج 2ص 188، حاشية رقم 3).
(4) نفاضة الجراب (ج 2ص 187، والحاشية رقم 3).
(5) الإحاطة (ج 4ص 338).
(6) أزهار الرياض (ج 1ص 189).
(7) الإحاطة (ج 4ص 390) ونفاضة الجراب (ج 2ص 188). وانظر أيضا: نفح الطيب (ج 9 ص 321).(1/24)
6 - رسالة تكوين الجنين: مفقودة، وتتناول، كما يبدو من عنوانها، مراحل الحمل. كذا ورد اسمها في الإحاطة (1). وجاء في النفح وأزهار الرياض (2): «تكون بدل «تكوين».
7 - رسالة الطاعون: كذا ورد اسمها في الإحاطة وأزهار الرياض (3). ثم ورد في الإحاطة ونفح الطيب (4) اسم آخر هو: «الكلام على الطاعون المعاصر». وأغلب الظن أنهما رسالة واحدة تتحدّث عن علاج مرض الطاعون الذي اجتاح الأندلس وغيرها من البلدان الإسلامية غير مرة. وقد تكون هي نفسها: «مقنعة السائل، عن المرض الهائل»، وهي الرسالة الصّحّيّة التي تتحدّث عن مرض الطاعون الذي دهم الأندلس في سنة 749هـ. وقد نشرت بألمانيا مع ترجمة لها بالألمانية في مجلة أكاديمية العلوم سنة 1863،.
8 - عمل من طبّ، لمن حبّ: كتاب ضخم يقع في سفر، ويبحث في مختلف الأمراض وكيفية علاجها، وقد ألّفه ابن الخطيب لسلطان المغرب أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني، في أثناء إقامته بسلا بعد أن خلع سلطانه الغني بالله في عام 761هـ. توجد منه نسخة مخطوطة بخزانة القرويين بفاس تحمل الرقم 40/ 607، كذلك في المكتبة الوطنية بمدريد برقم 211، والمكتبة الأهلية بباريس برقم 3011.
9 - المسائل الطبيّة: مفقود، وهو عبارة عن رسالة طبيّة وصحيّة تقع في سفر واحد.
10 - المعتمدة في الأغذية المفردة: كذا ورد اسم هذا المؤلّف في الإحاطة ونفح الطيب (5). وكان ابن الخطيب والمقري (6) قد ذكراه أيضا باسم «رجز الأغذية».
وهو عبارة عن أرجوزة من نظم ابن الخطيب، تتحدّث عن منافع الأغذية ومضارّها.
توجد منها نسخة مخطوطة بخزانة القرويين الكبرى (7).
__________
(1) الإحاطة (ج 4ص 388).
(2) نفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(3) الإحاطة (ج 4ص 388) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(4) الإحاطة (ج 4ص 390) ونفح الطيب (ج 9ص 321).
(5) الإحاطة (ج 4ص 390) ونفح الطيب (ج 9ص 321).
(6) الإحاطة (ج 4ص 388) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(7) لسان الدين ابن الخطيب، حياته وتراثه الفكري (ص 278).(1/25)
11 - الوصول، لحفظ الصّحّة في الفصول: يبحث في الحمية، وقد فرغ ابن الخطيب من تأليفه سنة 771هـ. توجد منه نسخة مخطوطة في الخزانة العامّة برباط الفتح تحت رقم 1299.
12 - اليوسفي في صناعة الطب: كذا ورد اسمه في الإحاطة والنفح (1). وكان ابن الخطيب والمقري (2) قد ذكراه أيضا باسم: «اليوسفي في الطب». والكتاب مفقود، وهو ممتع، يقع في سفرين كبيرين، ألّفه ابن الخطيب لسلطانه أبي الحجاج يوسف، ونسبه إليه اقتداء بالرازي الطبيب المشهور في كتابه «المنصوري».
كذلك ألّف في الموسيقى، وقد أشار نفسه إلى ذلك في كتابه «الإحاطة» (3) دون أي إضافة. ومثله فعل المقري (4).
وله مؤلّفات مفقودة لا نعلم عنها شيئا هي:
1 - تقرير الشّبه، وتحرير المشبّه: ذكره ابن الخطيب، ضمن ترجمته لنفسه في آخر كتابه «الإحاطة» (5)، دون أن يتحدّث عنه بشيء. كذلك ذكره المقري في كتابيه «النفح» و «الأزهار» (6)، وجاء فيهما أنه: «تقرير الشبه، وتحرير الشّبه».
2 - قطع السلوك: ذكره ابن الخطيب، ضمن ترجمته لنفسه، في آخر كتابه الإحاطة (7) دون ذكر أيّ شيء آخر.
وأخيرا نقدّم شكرنا الحارّ للحاج محمد علي بيضون، صاحب دار الكتب العلمية لتشجيعه إيّانا على القيام بهذا العمل الشّاقّ، فبذلنا الاستطاعة والجهد، وما يكلّف الإنسان إلّا ما تصل قدرته إليه. حرسنا الله تعالى من التردّي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنع وقاية، وستر عيوبنا بكرمه الضافي، ولا كدّر علينا ما منحنا من مشرع إغضائه النمير الصافي.
كفر كلا في الثالث والعشرين من تموز 2002 أ. د. يوسف علي طويل
__________
(1) الإحاطة (ج 4ص 390) ونفح الطيب (ج 9ص 321).
(2) الإحاطة (ج 4ص 388) وأزهار الرياض (ج 1ص 189).
(3) الإحاطة (ج 4ص 390).
(4) نفح الطيب (ج 9ص 321) وأزهار الرياض (ج 1ص 190).
(5) الإحاطة (ج 4ص 388).
(6) نفح الطيب (ج 9ص 323) وأزهار الرياض (ج 1ص 190).
(7) الإحاطة (ج 4ص 390).(1/26)
ثبت بأسماء مصادر ومراجع الدراسة والتحقيق
1 - قرآن كريم.
2 - أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها لمجهول. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981.
3 - أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السّفر للسلفي. تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 1963.
4 - اختصار القدح المعلّى، في التاريخ المحلّى لابن سعيد. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980.
5 - الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة للدكتور أحمد هيكل. دار المعارف بمصر، 1979.
6 - أزهار الرياض، في أخبار عياض للمقري (31). تحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة، 19421939.
7 - أزهار الرياض، في أخبار عياض للمقري (54). تحقيق الأساتذة سعيد أحمد أعراب ومحمد بن تاويت وعبد السلام الهراس. الرباط، 19801978.
8 - الاستقصاء، لأخبار المغرب الأقصى للناصري (91). تحقيق الأستاذين جعفر الناصري ومحمد الناصري. دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954.
9 - الإشارة، إلى أدب الوزارة لابن الخطيب. نشره الأستاذ عبد القادر زمامة.
دمشق، 1972.
10 - الأعلام للزّركلي (81). دار العلم للملايين. بيروت، 1980.
11 - أعمال الأعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام، من ملوك الإسلام لابن الخطيب.
القسم الثاني، تحقيق الأستاذ إ. ليثقي بروقنسال. دار المكشوف، بيروت، 1956.(1/27)
12 - أعمال الأعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام، من ملوك الإسلام لابن الخطيب.
القسم الثالث، تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي والأستاذ محمد إبراهيم الكتاني. دار الكتاب، الدار البيضاء، 1964.
13 - الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (251). شرحه الدكتور يوسف طويل، والأستاذان عبد علي مهنا وسمير جابر. دار الكتب العلمية، بيروت، 1986.
14 - إنباه الرواة، على أنباه النحاة للقفطي (31). تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الكتب المصرية، 1950.
15 - الأنيس المطرب، بروض القرطاس، في أخبار ملوك المغرب، وتاريخ مدينة فاس. عني بتصحيحه وطبعه الأستاذ كارول تورنبرغ. دار الطباعة المدرسية بمدينة أو بسالة، 1843.
16 - البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (141). مكتبة المعارف، بيروت، 19801979.
17 - برنامج شيوخ الرعيني، تحقيق الأستاذ إبراهيم شبّوح. وزارة الثقافة بدمشق، 1962.
18 - بغية الروّاد، في ذكر الملوك من بني عبد الواد ليحيى بن محمد ابن خلدون (1 2). الجزائر، 1903.
19 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبي. دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967.
20 - بغية الوعاة، في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي. دار المعرفة، بيروت.
21 - البيان المغرب، في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي (41).
تحقيق الأساتذة ج. س. كولان وإ. ليقي بروقنسال وإحسان عباس. دار الثقافة، بيروت.
22 - البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (قسم الموحدين). تحقيق الأساتذة محمد إبراهيم الكتاني ومحمد بن تاويت ومحمد زنيبر وعبد القادر زمامة. دار الثقافة ببيروت، دار الغرب الإسلامي ببيروت، الدار البيضاء، 1985.
23 - تاج المفرق، في تحلية علماء المشرق، المعروف ب (رحلة البلوي) للشيخ خالد البلوي. مخطوط رقم 1053جغرافية بدار الكتب.
24 - تاريخ ابن الوردي، المسمّى تتمة المختصر في أخبار البشر (21). تحقيق الأستاذ أحمد رفعت البدراوي. دار المعرفة، بيروت، 1970.
25 - تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني. بيروت، 1982.(1/28)
26 - تاريخ الأندلس لابن الكردبوس. تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي. معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، 1971.
27 - تاريخ الفكر الأندلسي لأنجل جنثالث بالنثيا. نقله إلى العربية الدكتور حسين مؤنس. القاهرة. 1955.
28 - تاريخ قضاة الأندلس أو المرقبة العليا فيمن يستحقّ القضاء والفتيا لابن الحسن النباهي. تحقيق الدكتورة مريم قاسم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.
29 - تاريخ المنّ بالإمامة لابن أبي صاحب الصلاة. تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي. دار الأندلس، بيروت، 1964.
30 - تتمة المختصر: انظر تاريخ ابن الوردي.
31 - تذكرة الحفاظ للذهبي (41). الهند، حيدر آباد الدكن، 1955.
32 - التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا لابن خلدون. تحقيق الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي. طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951.
33 - تقويم البلدان لأبي الفداء. تحقيق رينود وماك كوكين دي سلان. باريس، 1850. يطلب من مكتبة المثنى ببغداد ومؤسسة الخانجي بمصر.
34 - التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار (41). تحقيق الدكتور عبد السلام الهراش.
دار الفكر، بيروت، 1995.
35 - تكملة المعاجم العربية لرنيهارت دوزي. نقله إلى العربية الدكتور محمد سليم النعيمي. وزارة الثقافة والفنون بالعراق.
36 - جذوة الاقتباس لابن القاضي. طبعة الرباط، 1973.
37 - جذوة المقتبس، في ذكر ولاة الأندلس للحميدي. الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966.
38 - جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري.
تحقيق الدكتور عبد الرحمن الحجي. دار الإرشاد، بيروت، 1968.
39 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم. تحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. دار المعارف بمصر، 1962.
40 - جيش التوشيح لابن الخطيب. تحقيق الأستاذين هلال ناجي ومحمد ماضور.
مطبعة المنار بتونس، 1967.
41 - حسن المحاضرة، في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي (21). تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 19681967.(1/29)
42 - الحلّة السّيراء لابن الأبّار (21). تحقيق الدكتور حسين مؤنس. الشركة العربية للطباعة والنشر. القاهرة، 1963.
43 - الحلل الموشيّة، في ذكر الأخبار المراكشية للسان الدين بن الخطيب. مطبعة التقدم الإسلامية بتونس، 1329هـ. وهناك طبعة الرباط (1936) بتحقيق الأستاذ علوش مصدّرة بعبارة «مجهول المؤلف»، وهي عبارة صحيحة لأنه لا يصحّ أن ينسب هذا الكتاب إلى ابن الخطيب لأسباب عدّة، منها الصياغة والمضمون. ونحن اعتمدنا طبعة تونس، لعدم توفّر الثانية.
44 - خريدة القصر، وجريدة العصر للعماد الكاتب الأصفهاني (قسم شعراء المغرب والأندلس، الجزء الثاني). تحقيق الأستاذين عمر الدسوقي وعلي عبد العظيم.
دار نهضة مصر، القاهرة، 1969.
45 - ابن الخطيب من خلال كتبه لمحمد بن أبي بكر التطواني. دار الطباعة المغربية، تطوان، 1954.
46 - دائرة المعارف الإسلامية (151). نقلها إلى العربية الأساتذة أحمد الشنتاوي وإبراهيم خورشيد وعبد الحميد يونس. دار المعرفة ببيروت.
47 - دار الطراز في عمل الموشحات لابن سناء الملك. تحقيق الدكتور جودت الركابي. دار الفكر بدمشق، 1980.
48 - درّة الحجال، في أسماء الرجال لابن القاضي. تحقيق الأستاذ محمد الأحمدي أبو النور. القاهرة، 1970.
49 - الدرر الكامنة، في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (41). الهند، حيدر آباد الدكن، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1930.
50 - الديباج المذهّب، في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون. الطبعة الأولى، مصر، 1351هـ.
51 - ديوان ابن الحداد الأندلسي. تحقيق الدكتور يوسف علي طويل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.
52 - ديوان الحطيئة. دار صادر، بيروت، 1967.
53 - ديوان ابن خفاجة، دار بيروت للطباعة والنشر. بيروت، 1980.
54 - ديوان ابن دراج القسطلي. تحقيق الدكتور محمود علي مكّي. منشورات المكتب الإسلامي بدمشق، 1961.
55 - ديوان ابن عبد ربّه. تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979.(1/30)
56 - ديوان أبي الأسود الدؤلي. (ضمن نفائس المخطوطات، المجموعة الثانية، ص 516، من تحقيق الأستاذ محمد آل ياسين، بغداد، 1954).
57 - ديوان أبي تمام. تحقيق الدكتور شاهين عطية. دار صعب، بيروت.
58 - ديوان أبي نواس. تحقيق الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي. دار الكتاب العربي، بيروت، 1953.
59 - ديوان امرئ القيس. تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف بمصر، 1969.
60 - ديوان البحتري (21). شرحه الدكتور يوسف الشيخ محمد. دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.
61 - ديوان بشار بن برد. جمعه وحقّقه السيد بدر الدين العلوي. دار الثقافة، بيروت، 1983.
62 - ديوان جميل بثينة. دار بيروت، بيروت، 1984.
63 - ديوان أبي الحسن الششتري. تحقيق الدكتور علي سامي النشار. طبعة الإسكندرية، 1960.
64 - ديوان الفرزدق (شرح ديوان الفرزدق). تحقيق الأستاذين سيف الدين الكاتب وأحمد عصام الكاتب. دار مكتبة الحياة، بيروت، 1983.
65 - ديوان قيس بن الخطيم. تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد. الطبعة الأولى، القاهرة، 1962.
66 - ديوان لبيد بن ربيعة العامري. دار صادر، بيروت.
67 - ديوان المتنبي (العرف الطّيّب في شرح ديوان أبي الطّيّب). شرحه الشيخ ناصيف اليازجي. دار القلم، بيروت.
68 - ديوان مهيار الديلمي (41). دار الكتب المصرية، القاهرة.
69 - ديوان النابغة الذبياني. تحقيق الأستاذ فوزي عطوي. دار صعب، بيروت، 1980.
70 - الذخيرة، في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني (أربعة أقسام في ثمانية مجلدات). تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 1978 1979.
71 - الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (61). تحقيق الأستاذين محمد بن شريفة وإحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 19731965.(1/31)
72 - الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي. الجزء الثامن. تحقيق الدكتور محمد بن شريفة. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.
73 - رايات المبرزين، وغايات المميزين لابن سعيد الأندلسي. تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. دار طلاس، دمشق، 1987.
74 - رحلة ابن بطوطة، وتسمّى تحفة النّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1980.
75 - رحلة البلوي: انظر تاج المفرق.
76 - رسائل ابن حزم الأندلسي (41). تحقيق الدكتور إحسان عباس. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، 19831980.
77 - رسائل ابن سبعين لابن سبعين. تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي. الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1956.
78 - رقم الحلل، في نظم الدول لابن الخطيب. تعليق الدكتور عدنان درويش.
وزارة الثقافة بدمشق، 1990.
79 - روضة التعريف، بالحب الشريف لابن الخطيب. نشره الأستاذ عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي بالقاهرة، 1968.
80 - الروض المعطار، في خبر الأقطار للحميري. تحقيق الدكتور إحسان عباس.
مؤسسة ناصر للثقافة. بيروت، 1980.
81 - ريحانة الكتّاب، ونجعة المنتاب لابن الخطيب (21). تحقيق الأستاذ محمد عبد الله عنان. مكتبة الخانجي بالقاهرة، 19811980.
82 - زاد المسافر، وغرّة محيّا الأدب السافر لأبي بحر صفوان بن إدريس التجيبي المرسي. تحقيق الأستاذ عبد القادر محداد. دار الرائد العربي، بيروت، 1939.
83 - السفن الإسلامية على حروف المعجم للأستاذ درويش النخيلي. الإسكندرية، 1974.
84 - سير أعلام النبلاء للذهبي (231). تحقيق الأستاذين شعيب الأرنؤوط وإبراهيم الزيبق. مؤسسة الرسالة، بيروت، 19881981.
85 - شذرات الذهب، في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي (81). نشره القدسي، القاهرة، 13511350هـ.
86 - شروح سقط الزند لأبي العلاء المعري (51). دار الكتب المصرية، 1945 1948.(1/32)
87 - الشعر والشعراء لابن قتيبة (21). دار الثقافة، بيروت، 1969.
88 - صبح الأعشى، في صناعة الإنشاء للقلقشندي (141). شرحه وعلّق عليه الأستاذ محمد حسين شمس الدين والدكتور يوسف علي طويل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.
89 - الصلة لابن بشكوال (31). تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب المصري بالقاهرة، دار الكتاب اللبناني ببيروت، 1989.
90 - صلة الصلة لابن الزبير. تحقيق الأستاذ إ. ليقي بروفنسال. الرباط، 1937.
91 - الصّيّب والجهام، والماضي والكهام لابن الخطيب. تحقيق الدكتور محمد الشريف قاهر. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر. 1973.
92 - الضوء اللامع للسخاوي (121). طبعة مصر، 13551353هـ.
93 - طبقات الشعراء لابن سلام. نشر جوزف هل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
94 - العبر، في خبر من غبر للذهبي (41). تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد.
الكويت، 19631960.
95 - عنوان الدراية، فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية لأبي العباس الغبريني. نشر بعناية الأستاذ محمد بن أبي شنب، الجزائر، 1910.
96 - عيون الأنباء، في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. تحقيق الدكتور نزار رضا.
دار مكتبة الحياة. بيروت، 1965.
97 - غاية النهاية في طبقات القرّاء لابن الجزري (31). تحقيق برجشتراسر.
القاهرة، 19331932.
98 - الغصون اليانعة، في محاسن شعراء المائة السابعة لابن سعيد. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار المعارف بمصر، 1977.
99 - الفلاكة والمفلوكون لشهاب الدين أحمد بن علي الدلجي. مكتبة الأندلس ببغداد، 1385هـ.
100 - الفهرست لابن النديم. ضبطه وشرحه الدكتور يوسف علي طويل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.
101 - فهرسة ابن خير لابن خير (21). تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب المصري بالقاهرة، دار الكتاب اللبناني ببيروت، 1989.
102 - فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي (51). تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 19741973.(1/33)
103 - قضاة قرطبة للخشني. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
104 - قلائد الجمان، في التعريف بقبائل عرب الزمان للقلقشندي. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982.
105 - قلائد العقيان، في محاسن الأعيان لابن خاقان. القاهرة، 1284هـ.
106 - الكامل في التاريخ لابن الأثير (121). دار صادر، بيروت، 1982.
107 - كتاب العبر، وديوان المتبدإ والخبر لابن خلدون (ثمانية مجلدات في أربعة عشر جزءا). دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981.
108 - كتاب القوافي للأخفش. تحقيق الدكتور عزّة حسن. دمشق، 1970.
109 - الكتيبة الكامنة، في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة لابن الخطيب.
تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 1963.
110 - كشف الظنون، عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (21). إستانبول، 19431941.
111 - كناسة الدكّان، بعد انتقال السّكّان لابن الخطيب. تحقيق الدكتور محمد كمال شبانة والدكتور حسن محمود. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966.
112 - لسان الدين ابن الخطيب، حياته وتراثه الفكري لمحمد عبد الله عنان. مكتبة الخانجي، القاهرة، 1968.
113 - لسان العرب لابن منظور (151). دار صادر، بيروت.
114 - اللمحة البدرية، في الدولة النصرية لابن الخطيب. دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980.
115 - مثلى الطريقة، في ذمّ الوثيقة لابن الخطيب. تحقيق الأستاذ عبد المجيد التركي، دراسات ووثائق المؤسسة الوطنية للكتاب. الجزائر، 1983.
116 - مجمع الأمثال للميداني (21). تحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد. مطبعة السّنّة المحمدية، 1955.
117 - محيط المحيط للمعلّم بطرس البستاني. مكتبة لبنان، بيروت، 1977.
118 - مختار الصّحاح للرازي. مؤسسة الرسالة، دار البصائر، بيروت، 1985.
119 - المختصر، في أخبار البشر لأبي الفدا (41). المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى.
120 - مدخل إلى الأدب الأندلسي للدكتور يوسف طويل. دار الفكر اللبناني، بيروت، 1991.(1/34)
119 - المختصر، في أخبار البشر لأبي الفدا (41). المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى.
120 - مدخل إلى الأدب الأندلسي للدكتور يوسف طويل. دار الفكر اللبناني، بيروت، 1991.
121 - مذكرات الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيري بغرناطة، المسمّاة بكتاب التبيان.
نشر وتحقيق إ. ليقي بروفنسال. دار المعارف بمصر، 1955.
122 - مرآة الجنان لأبي محمد اليافعي (41). الهند، حيدر آباد الدكن، 1337 1339هـ.
123 - المرقبة العليا. انظر: تاريخ قضاة الأندلس.
124 - مروج الذهب للمسعودي (41) ضبطها الأستاذ يوسف أسعد داغر. دار الأندلس، بيروت، 1981.
125 - مسالك الأبصار، في ممالك الأمصار لشهاب الدين ابن فضل الله العمري (الجزء الحادي عشر). مخطوطة مصوّرة بالميكروفيلم في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت تحت رقم 80.
126 - مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس (مجموعة من رسائله) لابن الخطيب. نشر وتحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي. مؤسسة شباب جامعة الإسكندرية، 1983.
127 - المطرب، من أشعار أهل المغرب لابن دحية. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري والدكتور حامد عبد الحميد والدكتور أحمد أحمد بدوي. دار العلم للجميع، بيروت، 1955.
128 - مطمح الأنفس، ومسرح التأنّس، في ملح أهل الأندلس لابن خاقان. دراسة وتحقيق الأستاذ محمد علي شوابكة. دار عمار، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983.
129 - المعجب، في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي. تحقيق الأستاذ محمد سعيد العريان، القاهرة، 1963.
130 - معجم الأدباء لياقوت الحموي (51). دار الكتب العلمية، بيروت، 1991.
131 - معجم البلدان لياقوت الحموي (51). دار صادر، دار بيروت، بيروت، 1984.
132 - معجم السّفر للسلفي. تحقيق الأستاذ عبد الله البارودي. دار الفكر، بيروت، 1993.
133 - معجم الشعراء للمرزباني، ومعه المؤتلف والمختلف للآمدي. تصحيح الدكتور ف. كرنكو. دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.(1/35)
134 - المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي لابن الأبار. تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب المصري بالقاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1989.
135 - المغرب، في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي (21). تحقيق الدكتور شوقي ضيف. دار المعارف بمصر، 1964.
136 - المقتبس من أنباء أهل الأندلس لابن حيان القرطبي (تتمة السفر الثاني، ويؤرّخ من سنة 232حتى 267هـ). تحقيق الدكتور محمود علي مكي. دار الكتاب العربي، بيروت، 1973.
137 - المقتبس في أخبار بلد الأندلس لابن حيان القرطبي (ويؤرّخ من سنة 360 حتى 364هـ). تحقيق الأستاذ عبد الرحمن الحجي. دار الثقافة، بيروت، 1965.
138 - المقتبس لابن حيان القرطبي (الجزء الخامس، ويؤرّخ من سنة 300حتى 330هـ). نشره ب. شالميتا وف. كورنيطي والدكتور محمود صبح. المعهد الإسباني العربي للثقافة. كلية الآداب بالرباط، مدريد، 1979.
139 - المقتبس في تاريخ الأندلس لابن حيان الأندلسي. تحقيق الدكتور عبد الرحمن علي الحجي، بيروت، 1965.
140 - المقتضب من كتاب تحفة القادم لابن الأبار. اختيار الأستاذ إبراهيم بن محمد البلفيقي، وتحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1983.
141 - الملل والنّحل للشهرستاني (21). تحقيق الأستاذ محمد سيد كيلاني. دار المعرفة، بيروت.
142 - مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم. مكتبة الوحدة العربية بالدار البيضاء، دار الكتب العلمية ببيروت، 1994.
143 - المؤنس، في تاريخ إفريقيا وتونس لابن أبي دينار. تحقيق الأستاذ محمد شمام. المكتبة العتيقة بتونس، 1967.
144 - نثير فرائد الجمان، في نظم فحول الزمان لابن الأحمر. تحقيق الأستاذ محمد رضوان الداية. دار الثقافة، بيروت، 1967.
145 - النجوم الزاهرة، في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (161). نسخة مصوّرة عن طبعة دار الكتب. وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامّة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.(1/36)
146 - نخبة الدهر، في عجائب البر والبحر. طبع بمدينة بطرسبورغ في مطبعة الأكاديمية الإمبراطورية، سنة 1865.
147 - نزهة المشتاق، في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي (21). دار عالم الكتاب، بيروت، 1989.
148 - نصوص عن الأندلس من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك لأحمد بن عمر العذري، المعروف بابن الدلائي. تحقيق الدكتور عبد العزيز الأهواني. وطبعة معهد الدراسات الإسلامية.
149 - نفاضة الجراب، في علالة الاغتراب لابن الخطيب. تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي. دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة.
150 - نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب للمقري (101). تحقيق الدكتورة مريم قاسم والدكتور يوسف طويل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.
151 - نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين للأستاذ محمد عبد الله عنان. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1966.
152 - نيل الابتهاج، بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي. طبعة فاس.
153 - هديّة العارفين أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين من كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي (21). إستانبول، 19551951.
154 - الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي (221). إستانبول وفيسبادن، 1931 1983.
155 - الوفيات لابن قنفذ. تحقيق الأستاذ عادل نويهض. دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983.
156 - وفيات الأعيان لابن خلّكان (51). تحقيق الدكتورة مريم قاسم والدكتور يوسف طويل. دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.(1/37)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم قال الشيخ الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب السّلماني:
أمّا (1) بعد حمد الله الذي أحصى الخلائق عددا، وابتلاهم اليوم ليجزيهم غدا، وجعل جيادهم تتسابق في ميادين الآجال إلى مدى، وباين بينهم في الصور والأخلاق والأعمال والأرزاق فلا يجدون بما (2) قسم محيصا ولا فيما حكم ملتحدا (3)، وسعهم (4) علمه على تباين أفراقهم (5) وتكاثف أعدادهم والدا وولدا، ونسبا وبلدا، ووفاة ومولدا، فمنهم النّبيه والخامل، والحالي والعاطل، والعالم والجاهل، ولا يظلم ربّك أحدا. وجعل لهم الأرض ذلولا يمشون في مناكبها ويتّخذون من جبالها بيوتا ومن متاعها عددا. وخصّ بعض أقطارها بمزايا تدعو إلى الاغتباط والاعتمار (6)، وتحثّ على السكون والاستقرار، متبوّءا فسيحا، وهواء صحيحا، وماء نميرا، وامتناعا شهيرا، ورزقا رغدا. فسبحان من جعل التّفاضل في المساكن والسّاكن، وعرّف العباد عوارف اللطف في الظاهر والباطن، ولم يترك شيئا سدى.
والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد (7) الذي ملأ الكون نورا وهدى، وأوضح سبيل الحق وكانت طرائق قددا (8)، أعلى الأنام يدا، وأشرف الخلق ذاتا وأكرمهم محتدا، الذي أنجز الله به من نصر دينه الحقّ موعدا، حتى بلغت دعوته ما زوي (9) له من هذا المغرب الأقصى فرفعت بكل هضبة معلما وبنت بكل قلعة مسجدا. والرّضى على آله وأصحابه الذين كانوا لسماء سنّته عمدا، ليوث العدا،
__________
(1) النص في ريحانة الكتاب (ص 3531).
(2) في ريحانة الكتاب: «عمّا».
(3) الملتحد: الملجأ. لسان العرب (لحد).
(4) في الريحانة: «ووسعهم».
(5) في الريحانة: «أفرادهم». والأفراق: جمع فرق وهو الطائفة. لسان العرب (فرق).
(6) الاعتمار: العمرة، أي الحج الأصغر. لسان العرب (عمر).
(7) في الريحانة: «محمد رسوله الذي».
(8) قددا: متعددة، مختلفة. لسان العرب (قدد).
(9) زوي: بعد. لسان العرب (زوى).(1/38)
وغيوث النّدى، ما أقل ساعد يدا، وعمر فكر (1) خالدا، وما صباح بدا، وأورق شدا، فإن الله، عزّ وجهه، جعل الكتاب لشوارد العلم قيدا، وجوارح اليراع تثير في السهول الرّقاع صيدا. ولولا ذلك لم يشعر آت في الخلق بذاهب، ولا اتصل شاهد بغائب، فماتت الفضائل بموت أهلها، وأفلت نجومها عن أعين مجتليها، فلم يرجع إلى خبر ينقل، ولا دليل يعقل، ولا سياسة تكتسب، ولا أصالة إليها ينتسب، فهدى سبحانه وألهم، وعلّم الإنسان بالقلم، علم ما لم يكن (2) يعلم، حتى ألفينا المراسم بادية، والمراشد هادية، والأخبار منقولة، والأسانيد موصولة، والأصول محرّرة، والتواريخ مقرّرة، والسير مذكورة، والآثار مأثورة، والفضائل من بعد أهلها باقية خالدة، والمآثر ناطقة شاهدة، كأنّ النهار (3) القرطاس، والليل المداد، ينافسان الليل والنهار، في عالم الكون والفساد، فمهما طويا شيئا، ولعا هما (4) بنثره، أو دفنا ذكرا دعوا إلى نشره.
فلو (5) أنّ لسان الدهر نطق، وتأمّل هذه (6) المناقضة وتحقّق، لأتى بما شاء من عتب ولوم، وأنشده: [الوافر]
أعلّمه الرماية كل يوم (7)
ولمّا كان الفنّ (8) التاريخي مأرب البشر، ووسيلة إلى ضمّ النشر، يعرفون به أنسابهم في (9) ذلك شرعا وطبعا ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والتّرفيه (10)، ويستدلّون ببعض ما يبدي (11) به الدهر وما يخفيه، ويرى العاقل من (12)
تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره بالإيمان ويشفيه، ويمرّ على مصارع الجبابرة فيحسبه (13) بذلك واعظا ويكفيه، وكتاب الله يتخلّله من القصص ما يتمّم هذا (14)
الشاهد لهذا الفن ويوفّيه. وقال الله تعالى (15): {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الرُّسُلِ مََا نُثَبِّتُ}
__________
(1) في الريحانة: «بكر».
(2) كلمة «يكن» ساقطة في الريحانة.
(3) في الريحانة: «كأن نهار الطّرس وليل المداد».
(4) كلمة «هما» ساقطة في الريحانة.
(5) في الريحانة: «ولو».
(6) في الأصل: «لهذه» والتصويب من ريحانة الكتاب.
(7) وعجز البيت هو:
فلمّا اشتدّ ساعده رماني
(8) في الريحانة: «ولمّا كان هذا الفن التاريخي فيه مأرب»؟
(9) في الريحانة: «وفي».
(10) في الأصل: «والرفيه» والتصويب من الريحانة.
(11) في الريحانة: «ما يبديه الدهر على ما يخفيه».
(12) في الريحانة: «العاقل في قدرة الله».
(13) في الريحانة: «فيحسب ذلك».
(14) كلمة «هذا» ساقطة في الريحانة.
(15) في الريحانة: «سبحانه».(1/39)
{بِهِ فُؤََادَكَ} (1). وقال عزّ وجلّ (2): {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} (3) (3).
فوضح (4) سبيل مبين، وظهر أن القول بفضله يقتضيه (5) عقل ودين، وأن بعض المصنّفين ممّن ترك نومه لمن دونه، وأنزف ماء شبابه مودعا إياه بطن كتابه يقصده الناس ويردونه، اختلفت في مثل هذا الباب أغراضهم فمنهم من اعتنى بإثبات حوادث الزمان، ومنهم من اعتنى برجاله بعد اختيار الأعيان، عجزا عن الإحاطة بهذا الشأن، عموما في أكثر الأقطار (6) وخصوصا في بعض البلدان، فاستهدف إلى التعميم فرسان الميدان، وتوسّعوا بحسب مادة الاطّلاع وجهد الإمكان، وجنح إلى التخصيص من أثر (7) الأولوية بحسب ما يخصّه من المكان، ويلزمه من حقوق السكان، مغرما برعاية عهود وطنه وحسن العهد من الإيمان، بادئا بمن يعوله كما جاء في الطّرق الحسان. فتذكرت جملة من موضوعات من أفرد لوطنه (8) تاريخا هزّ إليها علم الله وفاء وكرم، ودار عليها بقول (9) الله من رحمته الواسعة حرم، كتاريخ (10) مدينة بخارى لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الفخار. وتاريخ أصبهان لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ صاحب الحلية. وتاريخ أصبهان أيضا لأبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن قندة الحافظ. وتاريخ نيسابور للحاكم أبي عبد الله بن اليسع، وذيله لعبد الغافر بن إسماعيل. وتاريخ همذان لأبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه محمد بن فنا خسرو الديلمي. وتاريخ طبقات أهل شيراز لأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن القصار. وتاريخ هراة، أظنه لأبي عبد الله الحسن بن محمد الكتبي.
وأخبار هراة أيضا ومن نزلها من التابعين وغيرهم من المحدّثين لأبي إسحاق أحمد بن ياسين الحداد. وتاريخ سمرقند لعبد الرحمن بن محمد الأردسي. وتاريخ نسف لجعفر بن المعبر المستغفري. وتاريخ جرجان لأبي القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم السهمي. وتاريخ الرّقّة لأبي علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن القشيري.
وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر بن ثابت، وذيله لأبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن
__________
(1) سورة هود 11، الآية: 120.
(2) في الأصل: «عزّ من قائل» والتصويب من الريحانة.
(3) سورة يوسف 12، الآية: 3.
(4) في الريحانة: «فوضح من حقّه سبيل».
(5) في الريحانة: «يقضى به».
(6) في الريحانة: «الأوقات».
(7) قوله: «من أثر» ساقط في الأصل، وقد أضفناه من ريحانة الكتاب.
(8) في الريحانة: «من أفرد تاريخا لبلده».
(9) في الريحانة: «بفضل».
(10) أغفل ابن الخطيب في الريحانة ذكر أسماء ما أورده هنا من مختلف كتب التاريخ الخاصة بمختلف البلدان ما يملأ صفحتين، واكتفى بقوله: «كتاريخ كذا، وتاريخ كذا».(1/40)
منصور السمعاني. وأخبار بغداد لأحمد بن أبي طاهر. وتاريخ واسط لأبي الحسين علي بن الطيب الخلافي. وتاريخ من نزل حمص من الصحابة ومن دخلها، ومن ارتحل عنها، ومن أعقب، ولم يعقّب، وحدّث ولم يحدّث، لأبي القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي. وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر.
وتاريخ مكة للأزرقي. وتاريخ المدينة لابن النجّار. وتاريخ مصر لعبد الرحمن بن أحمد بن نواس. وتاريخ الإسكندرية لوجيه الدين أبي المظفر منصور بن سليمان بن منصور بن سليم الشافعي. وتاريخ طبقات فقهاء تونس لأبي محمد عبد الله بن إبراهيم بن أبي العبّاس بن خلف التميمي. وعنوان الدّراية في ذكر من كان في الماية السابعة ببجاية، لأبي العباس بن الغبريني. وتاريخ تلمسان لابن الأصفر، وتاريخها أيضا لابن هديّة. وتاريخ فاس لابن عبد الكريم، وتاريخها أيضا لابن أبي زرع.
وتاريخ فاس أيضا للقونجي، وتاريخ سبتة، المسمّى بالفنون السّتّة، لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض، تركه في مسوّدته. وتاريخ بلنسية لابن علقمة. وتاريخ إلبيرة لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملّاحي. وتاريخ شقورة لابن إدريس. وتاريخ مالقة لأبي عبد الله بن عسكر، تركه غير متمّم، فتمّمه بعد وفاته ابن أخيه أبو بكر خمسين. والإعلام بمحاسن الأعلام من أهل مالقة، لأبي العباس أصبغ بن العباس. والاحتفال في أعلام الرجال، لأبي بكر الحسن بن محمد بن مفرّج القيسي. وتاريخ قرطبة، ومنتخب كتاب الاحتفال، وتاريخ الرؤساء والفقهاء والقضاة بطليطلة، لأبي جعفر بن مظاهر، ومنتخبه لأبي القاسم بن بشكوال. وتاريخ فقهاء قرطبة لابن حيّان. وتاريخ الجزيرة الخضراء لابن خمسين. وتاريخ قلعة يحصب، المسمّى بالطالع السّعيد، لأبي الحسن بن سعيد. وتاريخ بقيرة، لأبي عبد الله بن المؤذن. والدّرّة المكنونة في أخبار أشبونة، لأبي بكر بن محمد بن إدريس الفرابي العالوسي. ومزيّة ألمريّة لأبي جعفر أحمد بن خاتمة، من أصحابنا. وتاريخ ألمرية وباجة، لشيخنا نسيج وحده أبي البركات بن الحاج، متّع الله بإفادته، وهو في مبيّضته، لم يرمها بعد.
فداخلتني (1) عصبيّة لا تقدح في دين ولا منصب، وحميّة لا يذمّ في مثلها متعصّب، رغبة أن يقع (2) سؤالهم وذكرهم من فضل الله جناب مخصب، ورأيت أن هذه الحضرة (3) التي لا خفاء بما وفّر الله من أسباب إيثارها، وأراده من جلال
__________
(1) في ريحانة الكتاب: «فداخلتني لقومي عصبية».
(2) في ريحانة الكتاب: «أن يسع سواهم ذكرهم».
(3) الحضرة: العاصمة، والمراد بها هنا مدينة غرناطة حاضرة الأندلس آنذاك.(1/41)
مقدارها، جعلها (1) ثغر الإسلام ومتبوّأ العرب الأعلام، قبيل رسوله، عليه أفضل الصلاة وأزكى (2) السلام، وما خصّها به من اعتدال الأقطار، وجريان الأنهار، وانفساح الاعتمار (3)، والتفاف الأشجار. نزلها العرب الكرام عند دخولهم مختطّين ومقتطعين (4)، وهبّوا بدعوة فضلها مهطعين (5)، فعمروا وأولدوا، وأثبتوا المفاخر وخلّدوا، إلى أن صارت دار ملك، ولبّة (6) سلك، فنبه المقدار وإن كان نبيها، وازدادت الخطّة ترفيعا (7)، وجلب إلى (8) سوق الملإ بما نفق فيها. فكم ضمّت جدرانها من رئيس يتّقي الصباح هجومه، ويتخوّف اللّيل طروقه (9) ووجومه، ويفتقر الغيث لنوافله (10) الممنوحة وسجومه، وعالم يبرز للفنون فيطيعه عاصيها، ويدعو (11)
بالمشكلات فيأخذ بنواصيها، وعالم (12) بالله قد وسم السجود جبينه، وأشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّ يمينه، وبليغ قد (13) أذعنت لبراعة خطّه وشيجة الخط، يغوص على درر البدائع، فيلقيها من طرسه الرائع (14) على الشّط، لم يقم بحقها ممتعض حقّ الامتعاض، ولا فرّق بين جواهرها وبين (15) الأغراض. هذا وسمر (16)
الأقلام مشرعة، ومكان القول والحمد لله ذو سعة، فهي الحسناء (17) التي عدمت الذّام، وزيّنت (18) الليالي والأيام. والهوى (19) إن قيل كلفت بمغانيها، وقصرت الأيام على معانيها، فعاشق الجمال عذره مقبول (20)، ولله درّ أبي الطيب حيث
__________
(1) في الريحانة: «إذ جعلها».
(2) في الريحانة: «وأطيب».
(3) الاعتمار هنا بمعنى العمران. لسان العرب (عمر).
(4) في الأصل: «ومنقطعين» والتصويب من الريحانة.
(5) مهطعين: مسرعين. لسان العرب (هطع).
(6) اللّبّة: ما توسط الصدر. لسان العرب (لبب).
(7) في الريحانة: «ترفيها».
(8) في الريحانة: «وجلب لسوق الملك ما نفق».
(9) في المصدر نفسه: «إطراقه».
(10) في الأصل: «لنوائله» والتصويب من الريحانة.
(11) في الريحانة: «وتدعوه المشكلات».
(12) في الريحانة: «وعارف».
(13) كلمة «قد» ساقطة في الريحانة.
(14) في الأصل: «الراتع الشطّ» والتصويب من ريحانة الكتاب.
(15) في الريحانة: «ولا بين».
(16) في الأصل: «وشجر» والتصويب من الريحانة.
(17) في الأصل: «الحسنى» والتصويب من الريحانة.
(18) في الأصل: «وزينة» والتصويب من الريحانة.
(19) في الريحانة: «وإن قيل كلفت بمعانيها، وقصرت الهوى على مغانيها».
(20) في الريحانة: «مقبول، وسيف العدل دونه مغلول، ولله درّ أبي الطيب إذ يقول».(1/42)
يقول (1): [الوافر]
ضروب الناس عشّاق ضروبا ... فأعذرهم أشفّهم حبيبا
فلست ببدع ممّن فتن بحب وطن، ولا بأول ما شاقه منزل فألقى بالعطن، فحبّ الوطن معجون بطينة (2) ساكنه، وطرفه مغرى بإتمام (3) محاسنه، وقد نبّه علي بن العباس (4) على السّبب، وجاء في التماس التّعليل بالعجب، حيث يقول: [الطويل]
وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشّباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا
ورميت في هذا المعنى بسهم سديد، وألمحت بغرض إن لم يكنه فليس ببعيد:
[الطويل]
أحبّك يا مغنى الجلال بواجب ... وأقطع في أوصافك الغرّ أوقات
تقسّم منك التّرب قومي وجيرتي ... ففي الظّهر أحياء وفي البطن أموات
وقد كان أبو القاسم الغافقي (5) من أهل غرناطة، قام من هذا الغرض بفرض، وأتى من كله ببعض، فلم يشف من غلّة، ولا سدّ خلّة، ولا كثّر قلّة، فقمت بهذا الوظيف، وانتدبت فيه للتأليف، ورجوت على نزارة حظّ الصّحة، وازدحام الشواغل الملحّة، أن أضطلع من هذا القصد بالعبء الذي طالما طأطأت له الأكتاد، وأقف منه الموقف الذي تهيّبته الأبطال الأنجاد، فاتخذت الليل جملا لهذه الطّيّة (6)، وانتضيت
غارب العزم ونعمت المطيّة، بحيث لا مؤانس إلّا ذبال (7) يكافح جيش الدّجى، ودفاتر تلفح الحجا، وخواطر تبتغي إلى سماء الإجادة معرجا وإذا صحب العمل صدق النّيّة، أشرقت من التّوفيق كلّ ثنيّة، وطلعت من السّداد كلّ غرّة سنيّة، وقد علم الله أني لم أعتمد منها دنيا أستمنحها، ولا نسمة جاه يستنشق ريحها وإنما هو صبح
__________
(1) ديوان المتنبي (ص 199). هو مطلع قصيدة من 42بيتا، قالها في مدح علي بن محمد بن سيّار بن مكرم.
(2) في ريحانة الكتاب: «في طينة».
(3) في المصدر نفسه: «بالتماح».
(4) هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج، ابن الرومي، المتوفّى سنة 283هـ. وترجمته في وفيات الأعيان (ج 3ص 313) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(5) هو أبو القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي، صاحب كتاب «تاريخ علماء إلبيرة»، وقد تقدّم ذكره قبل قليل.
(6) الطّيّة: المقصد، والمنتأى. لسان العرب (طوى).
(7) الذّبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة التي تسرج. لسان العرب (ذبل).(1/43)
تبيّن، وحقّ رأيته عليّ قد تعيّن، بذلت فيه جهدي، وأقطعته جانب سهدي، لينظم هذا البلد بمثله، مما أثير كامنه، وسطّرت محاسنه، وأنشر بعد الممات جانبه (1):
[الوافر]
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
فلم أدع واحدة إلّا استنجدتها، ولا حاشية إلّا احتشدتها، ولا ضالّة إلّا نشدتها والمجتهد في هذا الغرض مقصّر، والمطيل مختصر، إذ ما ذكر لا نسبة بينه وبين ما أغفل، وما جهل أكثر مما نقل، وبحار المدارك مسجورة (2)، وغايات الإحسان على الإنسان محجورة ومن أراد أن يوازن هذا الكتاب بغيره من الأوضاع فليتأمّل قصده، ويثير كامنه، ويبدي خبائنه (3)، تتّضح له المكرمة، ولا تخفى عليه النّصفة، ويشاهد مجزي السّيّئة بالحسنة، والإغراب عن الوصمة والظّنّة، إذ الفاضل في عالم الإنسان، من عددت سقطاته، فما ظنّك بمفضوله. وللمعاصر مزية المباشرة، ومزيد الخبرة، وداعي التشفّي والمقارضة وسع الجميع السّتر، وشملهم البرّ، ونشرت جنائزهم لسقي الرحمة، ومثني الشفاعة، إلّا ما شذّ من فاسق أباح الشرع حماه، أو غادر وسمه الشؤم الذي جناه، فتختلّ عرضه عن تخليد مجد، وتدوين فخر، وإبقاء ذكر، لمن لم يهمّه قطّ تحقيق اسم أبيه، ولم يعمل لما بعد يومه، فكم خلف مما ذكر فيه يجده بين يديه، شفيعا في زلّة، أو آخذا بضبع إلى رتبة، أو قائما عند ضيم بحجّة أو عانس يقوم لها مقام متاع ونحلة، أو غريب يحلّ بغير قطره فيفيده نحلة، صاعد خدم قاعدا ونائما. وقد رضينا بالسلامة عن الشكر، والإصغاء عن المثوبة، والنّصفة عوض الحسرة، إذ الناس على حسب ما سطّر ورسم، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
والترتيب الذي انتهت إليه حيلتي، وصرفت في اختياره مخيلتي، هو أني ذكرت البلدة (4)، حاطها الله، منبّها منها على قديمها، وطيب هوائها وأديمها، وإشراق علاها، ومحاسن حلاها، ومن سكنها وتولّاها، وأحوال أناسها، ومن دال بها من
__________
(1) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي. راجع: المعلقات العشر، شرح ودراسة الدكتور مفيد قميحة، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1991 (ص 167).
(2) مسجورة: فيّاضة، مفعمة. لسان العرب (سجر).
(3) الخبائن: هذا الجمع لم يرد في معاجم اللغة العربية وجاء فيها لفظة: «خبنة»، والمراد هنا الخفايا، من قولهم: خبن الشيء يخبنه إذا أخفاه. لسان العرب (خبن).
(4) المراد بالبلدة: غرناطة.(1/44)
ضروب القبائل وأجناسها، وأعطيت صورتها، وأزحت في الفخر ضرورتها، وذكرت الأسماء على الحروف المبوّبة، وفصلت أجناسهم بالتراجم المترتّبة، فذكرت الملوك والأمراء، ثم الأعيان والكبراء، ثم الفضلاء، ثم القضاة، ثم المقرئين والعلماء، ثم المحدّثين والفقهاء، وسائر الطلبة النجباء، ثم الكتّاب والشعراء، ثم العمّال الأثراء، ثم الزّهّاد والصّلحاء، والصوفيّة والفقراء، ليكون الابتداء بالملك، والاختتام بالمسك، ولينظم الجميع انتظام السّلك، وكلّ طبقة تنقسم إلى من سكن المدينة بحكم الأصالة والاستقرار، أو طرأ عليها مما يجاورها من الأقطار، أو خاض إليها وهو الغريب أثباج (1) البحار، أو ألمّ بها ولو ساعة من نهار فإن كثرت الأسماء نوّعت وتوسّعت، وإن قلت اختصرت وجمعت. وآثرت ترتيب الحروف في الأسماء، ثم في الأجداد والآباء، لشرود الوفيات والمواليد، التي رتّبها الزمان عن الاستقصاء، وذهبت إلى أن أذكر الرجل ونسبه وأصالته وحسبه، ومولده وبلده، ومذهبه وأنحاله والفنّ الذي دعا إلى ذكره، وحليته ومشيخته، إن كان ممّن قيّد علما أو كتبه ومآثره إن كان ممّن وصل الفضل بسببه وشعره إن كان شاعرا وأدبه وتصانيفه، إن كان ممّن ألّف في فن أو هذّبه ومحنته إن كان ممّن بزّه (2) الدهر شيئا أو سلبه ثم وفاته ومنقلبه، إذ استرجع الله من منحه حياته ما وهبه.
وجعلت هذا الكتاب قسمين، ومشتملا على فنّين: القسم الأول «في حلى المعاهد والأماكن، والمنازل والمساكن». القسم الثاني «في حلى الزّائر والقاطن، والمتحرّك والسّاكن».
__________
(1) الأثباج: جمع ثبج، وثبج البحر: وسطه ومعظمه. لسان العرب (ثبج).
(2) بزّه: سلبه. لسان العرب (بزز).(1/45)
القسم الأوّل في حلى المعاهد والأماكن والمنازل والمساكن(1/46)
فصل في اسم هذه المدينة ووضعها على إجمال واختصار
بسم الله الرّحمن الرّحيم يقال (1) غرناطة، ويقال إغرناطة (2)، وكلاهما أعجمي، وهي مدينة كورة إلبيرة، فبينهما فرسخان وثلثا فرسخ (3). وإلبيرة من أعظم كور الأندلس، ومتوسّطة ما اشتمل عليه الفتح من البلاد، وتسمّى في تاريخ الأمم السالفة من الرّوم، سنام (4) الأندلس، وتدعى في القديم بقسطيليّة. وكان لها من الشّهرة والعمارة، ولأهلها من الثروة والعدّة، وبها من الفقهاء والعلماء، ما هو مشهور. قال أبو مروان بن حيّان: كان يجتمع بباب المسجد الجامع من إلبيرة خمسون حكمة (5)، كلها من فضّة لكثرة الأشراف بها. ويدلّ على ذلك آثارها الخالدة، وأعلامها الماثلة، كطلل مسجدها الجامع، الذي تحامى استطالة البلى، كسلت عن طمس معالمه أكفّ الرّدى، إلى بلوغ ما فسح له من المدى.
__________
(1) قارن باللمحة البدرية (ص 21).
(2) اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، وللاطّلاع على هذا الاختلاف بإسهاب راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري للدكتورة مريم قاسم طويل (ص 27).
(3) الفرسخ: مسافة تقدّر بثلاثة أميال. معجم البلدان (ج 1ص 36)، وتقويم البلدان (ص 15).
(4) كذا في اللمحة البدرية (ص 21). وقد تكون «شام الأندلس لأن غرناطة كانت تسمى شام الأندلس أو دمشق الأندلس، وهكذا وصفها ابن الخطيب في هذا الجزء بعد قليل، وفي اللمحة البدرية (ص 26). وكذا وصفها الرحّالة ابن جبير وهو يخاطبها: [مجزوء الكامل]
يا دمشق الغرب هاتي ... ك لقد زدت عليها
تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصبّ إليها
راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 29).
(5) الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذاران. محيط المحيط (حكم).(1/48)
بناه الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، أمير المؤمنين الخليفة (1) بقرطبة، رحمه الله، على تأسيس حنش بن عبد الله الصّنعاني الشافعي، رحمه الله، وعلى محرابه لهذا الوقت: «بسم الله العظيم، بنيت لله أمر ببنائها الأمير محمد بن عبد الرحمن، أكرمه الله، رجاء ثوابه العظيم وتوسيعا لرعيته فتمّ بعون الله على يدي عبد الله بن عبد الله، عامله على كورة إلبيرة في ذي قعدة سنة خمسين ومائتين».
ولم تزل الأيام تخيف ساكنها، والعفاء يتبوّأ مساكنها، والفتن الإسلامية تجوس أماكنها، حتى شملها الخراب، وتقسّم قاطنها الاغتراب، وكلّ الذي فوق التّراب تراب. وانتقل أهلها مدة أيام الفتنة البربريّة (2) سنة أربعمائة من الهجرة، فما بعدها، ولجأوا إلى مدينة غرناطة، فصارت حاضرة الصّقع، وأمّ المصر، وبيضة ذلك الحقّ، لحصانة وضعها، وطيب هوائها، ودرور مائها، ووفور مدتها، فأمن فيها الخائف، ونظم النّشر، ورسخت الأقدام، وتأثّل المصر، وهلمّ جرّا. فهي بالأندلس، قطب بلاد الأندلس، ودار الملك، وقرى الإمارة، أبقاها الله متبوّأ الكلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بقدرته.
من «كتاب إلبيرة» (3)، قال: بعد ذكر إلبيرة، وقد خلفها بعد ذلك كله مدينة غرناطة من أعظم مدنها وأقدمها، عندما انقلبت العمارة إليها من إلبيرة، ودارت أفلاك البلاد الأندلسية، فهي في وقتنا هذا قاعدة الدّنيا، وقرارة العليا، وحاضرة السلطان، وقبّة العدل والإحسان. لا يعدلها في داخلها ولا خارجها بلد من البلدان، ولا يضاهيها في اتّساع عمارتها، وطيب قرارتها، وطن من الأوطان. ولا يأتي على حصر أوصاف جمالها، وعدّ أصناف جلالها، قلم البيان. أدام الله فيها العزّ للمسلمين والإسلام، وحرسها ومن اشتملت عليه من خلفائه، وأنصار لوائه، بعينه التي لا تنام، وركنه الذي لا يرام.
وهذه المدينة من معمور الإقليم الخامس (4)، يبتدئ من الشرق، من بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمرّ على شمال خراسان، ويمرّ على سواحل الشام، ممّا يلي
__________
(1) لم يكن محمد بن عبد الرحمن الثاني خليفة، بل كان أميرا حكم الأندلس منذ سنة 238هـ إلى سنة 273هـ. والخلافة أقامها بالأندلس عبد الرحمن الناصر سنة 316هـ.
(2) بدأت الفتنة البربرية بقرطبة سنة 399هـ.
(3) هو كتاب «تاريخ علماء إلبيرة» لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي، وقد سبق ذكره في بداية هذا الجزء.
(4) كذا جاء في آثار البلاد (ص 491، 547)، وكتاب الجغرافيا (ص 166، 167)، واللمحة البدرية (ص 21).(1/49)
الشمال، ويمرّ على بلاد الأندلس، قرطبة وإشبيلية وما والاها إلى البحر المحيط الغربي. وقال صاعد بن أحمد في كتاب «الطّبقات»: إنّ معظم الأندلس في الإقليم الخامس، وطائفة منها في الإقليم الرابع، كمدينة إشبيلية، ومالقة، وغرناطة، وألمريّة ومرسية.
وذكر العلماء بصناعة الأحكام أنّ طالعها الذي اختطّت به السّرطان، ونحلوها، لأجل ذلك، مزايا، وحظوظا من السعادة، اقتضاها تسيير أحكام القرانات الانتقاليّة على عهد تأليف هذا الموضع.
وطولها سبع وعشرون درجة وثلاثون دقيقة (1)، وعرضها سبع وثلاثون درجة وعشر دقائق. وهي مساوية في الطول بأمر يسير لقرطبة، وميورقة، وألمريّة وتقرب في العرض من إشبيلية، وألمريّة، وشاطبة وطرطوشة، وسردانية، وأنطاكية، والرّقة. كل ذلك بأقلّ من درجة. فهي (2) شاميّة في أكثر أحوالها، قريبة من الاعتدال، وبينها وبين قرطبة، أعادها الله تعالى، تسعون ميلا. وهي منها بين شرق وقبلة. وبحر الشام (3) يحول ويحاجز بين الأندلس وبلاد العدوة (4)، وبين غرب وقبلة على أربعة برد (5). والجبال بين شرق وقبلة، والبراجلات (6) بين شرق وجوف (7)، والكنبانيّة (8) بين غرب وقبلة، وبين جوف وغرب، فهي لمكان جوار السّاحل، ممارة بالبواكر (9) السّاحلية، طيبة البحار، وركاب لجهاد البحر، ولمكان استقبال الجبال، المقصودة (10) بالفواكه المتأخّرة اللحاق، معلّلة بالمدّخرات،
__________
(1) الدرجة عند ياقوت خمسة وعشرون فرسخا، أي خمسة وسبعين ميلا، وتنقسم إلى ستين دقيقة.
معجم البلدان (ج 1ص 19، 36، 39). ويقول ابن سعيد: إن كل درجة ونصف مائة ميل، أي إن الدرجة تساوي نحو ستة وستين ميلا وثلثي ميل. كتاب الجغرافيا (ص 79). ويقول أبو الفداء: الدرجة عند القدماء ستة وستون ميلا وثلثا ميل، وعند المحدثين ستة وخمسون ميلا وثلثا ميل. تقويم البلدان (ص 14).
(2) قارن باللمحة البدرية (ص 22).
(3) بحر الشام: هو البحر المتوسط.
(4) المراد عدوة المغرب المقابلة للأندلس.
(5) البرد: جمع بريد وهو مقياس مسافة تقدّر باثني عشر ميلا.
(6) البراجلات: جمع برجيلة وهي بالإسبانية:، ومعناها القطعة من الأرض. اللمحة البدرية (ص 29).
(7) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة، أي الشمال.
(8) الكنبانية كلمة إسبانية: وتعني البسيط أو السهل من الأرض. وقد تكون ناحية بالأندلس قرب قرطبة.
(9) في اللمحة: «ممارة بالسمك والبواكر، طيّة للتجار، ركاب معه للجهاد في البحر».
(10) في اللمحة: «مقصودة».(1/50)
ولمكان (1) استدبار الكنبانيّة واضطبار (2) البراجلات بحر من بحور الحنطة، ومعدن للحبوب المفضلة، ولمكان شلير، جبل الثلج (3)، أحد مشاهير جبال الأرض، الذي ينزل به الثلج شتاء وصيفا، وهو على قبلة منها على فرسخين وينساب منه ستة وثلاثون نهرا من فوّهات الماء، وتنبجس من سفوحه العيون، صحّ منها الهواء، واضطردت في أرجائها وساحاتها المياه، وتعدّدت الجنّات بها والبساتين، والتفّت الأدواح، وشمّر الرّوّاد على منابت العشب في مظانّ العقار مستودعات الأدوية والتّرياقيّة. وبردها لذلك في المنقلب الشتوي شديد، وتجمد بسببه الأدهان والمائعات، ويتراكم بساحاتها الثلج في بعض السنين، فجسوم أهلها لصحّة الهواء صلبة، وسحانهم خشنة، وهضومهم قويّة، ونفوسهم لمكان الحرّ الغريزي جريّة (4).
وهي دار منعة وكرسي ملك، ومقام حصانة. وكان ابن غانية (5) يقول للمرابطين في مرض موته، وقد عوّل عليها للامتساك بدعوتهم: الأندلس درقة، وغرناطة قبضتها فإذا جشّمتم يا معشر المرابطين القبضة، لم تخرج الدرقة من أيديكم.
ومن أبدع ما قيل في الاعتذار عن شدّة بردها، ما هو غريب في معناه، قول شيخنا القاضي أبي بكر بن شبرين رحمه الله (6): [الطويل]
رعى الله من غرناطة متبوّءا ... يسرّ كئيبا (7) أو يجير طريدا
تبرّم منها صاحبي عندما (8) رأى ... مسارحها بالبرد (9) عدن جليدا
هي الثّغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا؟
__________
(1) كلمة «ولمكان» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة البدرية.
(2) في اللمحة: «واضطبان».
(3) هو جبل شلير، أحد مشاهير جبال الأرض، وقد أسموه بجبل الثلج لأن الثلج لا يفارقه شتاء ولا صيفا. ويسمى بالإسبانية، أي سلسلة الجبال الثلجية، راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 43).
(4) جريّة: أي جريئة.
(5) هو أبو زكريا يحيى بن إسحاق المسوفي، المعروف بابن غانية، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي. قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس فقتلوه سنة 543هـ.
(6) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص 191)، ونفح الطيب (ج 1ص 174)، ورحلة ابن بطوطة (ص 671670) وجاء فيه أن قائل الأبيات هو أبو بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي نزيل غرناطة. وانظر أيضا: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 46).
(7) في رحلة ابن بطوطة والنفح: «حزينا».
(8) في تاريخ قضاة الأندلس: «بعدما».
(9) في رحلة ابن بطوطة والنفح: «بالثلج».(1/51)
وقال الرّازي عند ذكر كورة إلبيرة: ويتصل بأحواز قبرة كورة إلبيرة، وهي بين الشّرق والقبلة، وأرضها سقي غزيرة الأنهار، كثيرة الثّمار، ملتفّة الأشجار، أكثرها أدواح الجوز، ويحسن فيها قصب السّكر ولها معادن جوهرية من ذهب، وفضة، ورصاص، وحديد. وكورة إلبيرة أشرف الكور، نزلها جند دمشق. وقال: لها من المدن الشريفة مدينة قسطيليّة، وهي حاضرة إلبيرة، وفحصها لا يشبّه بشيء من بقاع الأرض طيبا ولا شرفا إلّا بالغوطة غوطة دمشق.
وقال بعض المؤرّخين (1): ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة (2) بعد زريعة ورعيا بعد رعي، طول العام وفي عمالتها المعادن الجوهرية من الذهب، والفضة، والرّصاص، والحديد، والتوتيا. وبناحية دلاية (3) من عملها، عود اليلنجوج (4)، لا يفوقه العود الهندي ذكا (5) وعطر رائحة. وقد سيق منه لخيران (6) صاحب ألمرية أصل كان منبته بين أحجار هناك. وبجبل شلير منها سنبل فائق الطّيب، وبه الجنطيانا، يحمل منه إلى جميع الآفاق، وهو عقير رفيع، ومكانه من الأدوية الترياقية مكانه. وبه المرقشينة على اختلافها، واللّازورد. وبفحصها وما يتصل به القرمز. وبها من العقّار والأدوية النّباتية والمعدنية ما لا يحتمل ذكرها الإيجاز. وكفى بالحرير الذي فضلت به فخرا وقيتة، وغلّة شريفة، وفائدة عظيمة، تمتاره منها البلاد، وتجلبه الرفاق، وفضيلة لا يشاركها فيها إلّا البلاد العراقية. وفحصها (7) الأفيح، المشبّه بالغوطة
__________
(1) قارن باللمحة البدرية (ص 2322).
(2) في اللمحة: «زريعة ولا ريعا أيام العام».
(3) من هنا حتى قوله: «بين أحجار هناك»، ورد في نفح الطيب (ج 1ص 141) ببعض الاختلاف عمّا هنا. ودلاية: بالإسبانية، وهي بلد أندلسي ساحلي قريب من ألمرية، يتبع لإقليم البشرّة. والبشرّة بالإسبانية وهي منطقة جبال سييرا نفادا. جغرافية الأندلس (ص 124).
(4) الألنجوج واليلنجوج: عود جيد، طيّب الريح، يتبخّر به. لسان العرب (لنج).
(5) في نفح الطيب: «ذكاء».
(6) هو خيران الصّقلبي أو العامري، وهو أول من استقلّ بألمرية عن الخلافة بقرطبة، وحكمها من سنة 405هـ حتى سنة 419هـ. نصوص عن الأندلس (ص 82) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 210) والمغرب (ج 2ص 194).
(7) النص في اللمحة البدرية (ص 23). وفحص غرناطة هو مرجها الشهير، وهو عبارة عن سهل أفيح، وبسيط شاسع أخضر خصب، وغوطة فيحاء مترامية الأطراف. يطلق عليه بالإسبانية اسم. يقع غربيّ غرناطة ويمتدّ غربا حتى مدينة لوشة. كتاب العبر لابن خلدون (م 7ص 689) ونفح الطيب (ج 5ص 8). وقد عرّف ياقوت الفحص بقوله: الفحص بمفهوم أصل الأندلس هو كل موضع يسكن ويزرع، سواء كان سهلا أو جبلا، ومع الزمن صار الفحص علما لعدة مواضع. معجم البلدان (ج 5ص 236). وراجع أيضا مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم (ص 41) ففيه حديث مفصّل عن مرج غرناطة.(1/52)
الدمشقية (1)، حديث الرّكاب، وسمر الليالي، قد دحاه الله في بسيط سهل (2)
تخترقه (3) المذانب، وتتخلّله الأنهار جداول، وتتزاحم فيه القرى والجنّات، في ذرع أربعين ميلا أو نحوها، تنبو العين فيها عن وجهه ولا تتخطّى المحاسن منها إلّا مقدار رقعة الهضاب، والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي دارة (4)، قد عرت (5)
منه المدينة فيما يلي المركز لجهة القبلة، مستندة إلى أطواد سامية، وهضاب عالية، ومناظر مشرفة فهي قيد البصر، ومنتهى الحسن، ومعنى الكمال، أضفى الله عليها، وعلى من بها من عباده المؤمنين جناح ستره، ودفع عنهم عدوّ الدّين بقدرته.
فصل في فتح هذه المدينة ونزول العرب الشاميين من جند دمشق بها وما كانت عليه أحوالهم، وما تعلق بذلك من تاريخ
قال المؤلّف: اختلف المؤرّخون في فتحها قال ابن القوطيّة (6): إن يليان (7)
الرّومي الذي ندب العرب إلى غزو الأندلس طلبا لوتره (8) من ملكها لذريق بما هو معلوم، قال لطارق بن زياد مفتتحها عندما كسر جيش الرّوم على وادي لكّه: قد فضضت جيش القوم (9) ودوّخت حاميتهم، وصيّرت الرّعب في قلوبهم، فاصمد لبيضتهم وهؤلاء أدلّاء من أصحابي، ففرّق جيوشك في البلدان بينهم (10)، واعمد أنت إلى طليطلة بمعظمهم، وأشغل القوم عن النظر في أمرهم (11)، والاجتماع إلى وليّ رأيهم.
قال (12): ففرّق طارق جيوشه من إستجّة فبعث مغيثا (13) الرّومي، مولى الوليد بن عبد الملك بن مروان إلى قرطبة وبعث جيشا آخر إلى مالقة (14) وأرسل
__________
(1) كلمة «الدمشقية» غير واردة في اللمحة البدرية.
(2) كلمة «سهل» غير واردة في اللمحة البدرية.
(3) في اللمحة: «تخترقه الجداول والأنهار».
(4) في اللمحة: «دائرة».
(5) في اللمحة: «فعدّت المدينة منه».
(6) النص غير موجود في «تاريخ افتتاح الأندلس» لابن القوطية، وجاء فيه بعض من هذا (ص 33 34). وهو موجود في اللمحة البدرية (ص 25).
(7) في اللمحة: «بليان».
(8) في اللمحة: «بوتره».
(9) في اللمحة: «الروم».
(10) في اللمحة: «جيوشك بينهم في البلدان».
(11) في اللمحة: «أمورهم».
(12) النص في أخبار مجموعة لمجهول (ص 2019)، واللمحة البدرية (ص 2625).
(13) في اللمحة: «معينا».
(14) في أخبار مجموعة: «إلى مدينة ريّة».(1/53)
جيشا ثالثا إلى غرناطة مدينة إلبيرة وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيّان (1) يريد طليطلة. قال (2): فمضى الجيش الذي وجّه طارق إلى مالقة ففتحها، ولجأ علوجها إلى جبال هناك ممتنعة. ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة، فحاصروا مدينتها، وفتحوها عنوة وألفوا بها يهودا ضمّوهم إلى قصبة غرناطة وصار لهم ذلك سنّة متّبعة، متى وجدوا بمدينة فتحوها (3) يهودا، يضمّونهم إلى قصبتها، ويجعلون معهم طائفة من المسلمين يسدّونها. ثم مضى الجيش إلى تدمير.
وكان دخول طارق بن زياد الأندلس يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين (4). وقيل في شعبان، وقيل في رمضان، بموافقة شهر غشت من شهور العجمية.
وذكر معاوية بن هشام وغيره (5): أن فتح ما ذكر تأخّر إلى دخول موسى بن نصير في سنة ثلاث وتسعين. فتوجّه ابنه عبد الأعلى في جيش إلى تدمير فافتتحها، ومضى (6) إلى إلبيرة فافتتحها، ثم توجّه إلى مالقة.
قال المؤلّف رحمه الله: ولمّا استقرّ ملك الإسلام بجزيرة الأندلس، ورمى إلى قصبتها الفتح، واشرأبّ في عرصاتها الدّين، ونزلت قرطبة وسواها العرب، فتبوّؤوا الأوطان، وعمروا البلدان، فالدّاخلون على يد موسى بن نصير يسمّون بالبلديّين، والداخلون بعضهم مع بلج بن بشر القشيري، يسمّون بالشّاميين. وكان دخول بلج بن بشر القشيري بالطّالعة البلجيّة سنة خمس وعشرين ومائة.
ولمّا دخل الشاميّون مع أميرهم بلج، حسبما تقرّر في موضعه، وهم أسود الشّرى (7) عزّة وشهامة، غصّ بهم السابقون إلى الأندلس، وهم البلديّون، وطالبوهم بالخروج عن بلدهم الذي فتحوه، وزعموا أنه لا يحملهم وإياهم، واجتمعوا لغزوهم، فكانت الحروب تدور بينهم، إلى أن وصل الأندلس أبو الخطّار حسام بن ضرار الكلبي، عابرا إليها البحر من ساحل تونس، وأظلّ على قرطبة على حين غفلة، وقد
__________
(1) قوله: «إلى كورة جيان» غير واردة في أخبار مجموعة.
(2) هنا ينقطع النص في أخبار مجموعة، ويتابع في اللحمة البدرية.
(3) كلمة «فتحوها» ساقطة في اللمحة.
(4) في تاريخ افتتاح الأندلس (ص 33): «وكان دخول طارق الأندلس في رمضان سنة اثنتين وتسعين».
(5) النص في اللمحة البدرية (ص 26).
(6) في اللمحة: «ثم مضى».
(7) المراد شرى الفرات، وهو ناحيته، ويقال للشجعان: ما هم إلّا أسود الشّرى، وقيل: الشّرى:
مأسدة بعينها. معجم البلدان (ج 3ص 330).(1/54)
ستر خبر نفسه، والحرب بينهم، فانقاد إليه الجميع بحكم عهد مدينه حنظلة بن صفوان والي إفريقية (1)، وقبض على وجوه الشاميّين عازما عليهم في الانصراف حسبما هو مشهور ورأى تفريق القبائل في كور الأندلس، ليكون أبعد للفتنة، ففرّقهم، وأقطعهم ثلث أموال أهل الذّمّة، الباقين من الرّوم، فخرج القبائل الشاميون عن قرطبة.
قال أبو مروان: أشار على أبي الخطار، أرطباس قومس الأندلس، وزعيم عجم الذمّة (2)، ومستخرج خراجهم لأمراء المسلمين وكان هذا القومس شهير العلم والدهاء لأول الأمر، بتفريق القبائل الشاميين العلمين عن البلد، عن دار الإمارة قرطبة، إذ كانت لا تحملهم، وإنزالهم بالكور، على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم، ففعل ذلك على اختيار منهم فأنزل جند دمشق كورة إلبيرة، وجند الأردن كورة جيّان، وجند مصر كورة باجة، وبعضهم بكورة تدمير فهذه منازل العرب الشاميين وجعل لهم ثلث أموال أهل الذّمّة من العجم طعمة وبقي العرب والبلديّون والبرابر (3) شركاؤهم فلمّا رأوا بلدانا شبه بلدانهم بالشام، نزلوا وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتموّلوا، إلّا من كان قد نزل منهم لأول قدومه في الفتوح على عنائهم موضعا رضيّا، فإنه لم يرتحل عنه، وسكن به مع البلديّين.
فإذا كان العطاء أو حضر الغزو ولحق بجنده، فهم الذين كانوا سمّوا الشّادّة حينئذ.
قال أحمد بن موسى: وكان الخليفة يعقد لواءين، لواء غازيا، ولواء مقيما وكان رزق الغازي بلوائه مائتي دينار. ويبقى المقيم بلا رزق ثلاثة أشهر ثم يدال بنظيره من أهله أو غيرهم. وكان الغزاة من الشّاميين مثل إخوة المعهود له أو بنيه أو بني عمّه، يرزقون عند انقضاء غزاته عشرة دنانير وكان يعقد المعقود له مع القائد يتكشّف عمّن غزا، ويستحقّ العطاء، فيعطى على قوله تكرمة له وكانت خدمتهم في العسكر، واعتراضهم إليه وكان من الشّاميين غازيا من غير بيوتات العقد، ارتزق خمسة دنانير عند انقضاء الغزو. ولم يكن يعطى أحد من البلديين شيئا غير المعقود له وكان البلديّون أيضا يعقد لهم لواءان لواء غاز، ولواء مقيم وكان يرتزق الغازي
__________
(1) كانت الأندلس في عصر الولاة (13892هـ) تخضع إداريّا لإفريقية، ولوالي إفريقية صلاحية من قبل الخليفة الأموي بدمشق في تعيين وال على الأندلس.
(2) عجم الذمّة: هم النصارى المعاهدون،، وسيتحدث عنهم ابن الخطيب بعد قليل.
(3) البرابر: أي البربر.(1/55)
مائة دينار وازنة وكان يعقد لغيره إلى ستة أشهر، ثم يدال بنظيره من غيرهم ولم يكن الدّيوان والكتبة إلّا في الشّاميين خاصّة وكانوا أحرارا من العشر، معدّين للغزو، ولا يلزمهم إلّا المقاطعة على أموال الرّوم التي كانت بأيديهم وكان العرب من البلديين يؤدّون العشر، مع سائر أهل البلد، وكان أهل بيوتات منهم يغزون كما يغزو الشاميّون، بلا عطاء، فيصيّرهم إلى ما تقدّم ذكره. وإنما كان يكتب أهل البلد في الغزو وكان الخليفة يخرج عسكرين، إلى ناحيتين، فيستنزلهم وكانت طائفة ثالثة يسمّون النّظراء من الشاميين والبلديين، كانوا يغزون كما يغزو أهل البلد من الفريقين.
وقد بيّنّا نبذة من أحوال هؤلاء العرب. والاستقصاء يخرج كتابنا عن غرضه، والإحاطة لله سبحانه.
ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين بهذه الكورة من النصارى المعاهدين (1) على الإيجاز والاختصار
قال المؤلّف: ولمّا استقرّ بهذه الكورة الكريمة أهل الإسلام، وأنزل الأمير أبو الخطار قبائل العرب الشاميّين بهذه الكورة، وأقطعهم ثلث أموال المعاهدين، استمرّ سكناهم في غمار من الروم يعالجون فلاحة الأرض، وعمران القرى، يرأسهم أشياخ من أهل دينهم، أولو حنكة ودهاء ومداراة، ومعرفة بالجباية اللازمة لرؤوسهم.
وأحدهم رجل يعرف بابن القلّاس، له شهرة وصيت، وجاه عند الأمراء بها. وكانت لهم بخارج الحضرة، على غلوتين (2)، تجاه باب إلبيرة في اعتراض الطريق إلى قولجر، كنيسة شهيرة، اتخذها لهم أحد الزعماء من أهل دينهم، استركبه بعض أمرائها في جيش خشن من الروم، فأصبحت فريدة في العمارة والحلية أمر بهذمها الأمير يوسف بن تاشفين (3)، لتأكّد رغبة الفقهاء، وتوجّه فتواهم. قال ابن الصّيرفي: خرج أهل الحضرة لهدمها يوم الاثنين عقب جمادى الآخرة من عام اثنين وتسعين وأربعمائة، فصيّرت للوقت قاعا، وذهبت كلّ يد بما أخذت من أنقاضها وآلاتها.
__________
(1) النصارى المعاهدون هم المستعربون، الذين عاشوا في غرناطة وغيرها من مدن الأندلس في ظل العرب المسلمين، وقد أطلق عليهم العرب في بادئ الأمر اسم «عجم الأندلس». راجع: مملكة غرناطة في ظل بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم طويل (ص 250247).
(2) الغلوة: رمية سهم، ويقال هي قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة، والجمع غلوات وغلاء. محيط المحيط (غلا).
(3) يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين، بالمغرب والأندلس معا، وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.(1/56)
قلت: ومكانها اليوم مشهور، وجدارها ماثل ينبئ عن إحكام وأصالة، وعلى بعضها مقبرة شهيرة لابن سهل بن مالك، رحمه الله.
ولمّا تحرّكت لعدو الله الطّاغية ابن رذمير ريح الظّهور، على عهد الدولة المرابطيّة، قبل أن يخضد الله شوكته على إفراغة (1) بما هو مشهور، أملت المعاهدة (2) من النصارى لهذه الكورة إدراك الثّرّة، وأطمعت في المملكة، فخاطبوا (3) ابن رذمير من هذه الأقطار، وتوالت عليه كتبهم وتواترت رسلهم، ملحّة بالاستدعاء مطمعة في دخول غرناطة (4)، فلمّا أبطأ عنهم، وجّهوا إليه زماما يشتمل على اثني عشر ألفا من أنجاد مقاتليهم، لم يعدّوا فيها شيخا ولا غرّا، وأخبروه أنّ من سمّوه، ممّن شهرت (5) أعينهم لقرب مواضعهم، وبالبعد من يخفى أمره، ويظهر عند ورود شخصه، فاستأثروا طمعه وابتعثوا جشعه، واستفزّوه بأوصاف غرناطة، وما لها من الفضائل (6) على سائر البلاد وبفحصها الأفيح، وكثرة فوائدها من القمح والشّعير، والكتّان، وكثرة المرافق، من الحرير والكروم، والزيتون، وأنواع الفواكه، وكثرة العيون والأنهار، ومنعة قبّتها (7) وانطباع رعيّتها، وتأتي أهل حاضرتها، وجمال إشرافها وإطلالها، وأنّها المباركة التي يمتلك منها غيرها، المسمّاة سنام الأندلس عند الملوك في تواريخها، فرموا حتى أصابوا غربه، فانتخب وأحشد، وتحرّك أول شعبان من عام خمسة عشر وخمسمائة (8) وقد أخفى مذهبه، وكتم أربه، فوافى (9) بلنسية، ثم إلى مرسية، ثم إلى بيرة، ثم اجتاز بالمنصورة ثم انحدر إلى برشانة، ثم تلوّم إلى وادي ناطلة. ثم تحرّك إلى بسطة، ثم إلى وادي آش، فنزل بالقرية المعروفة بالقصر (10) وصافح المدينة بالحرب، ولم يحل بطائل، فأقام عليها شهرا.
__________
(1) إفراغة، بالإسبانية: وهي مدينة بغربي لاردة من الأندلس، لها حصن منيع وبساتين كثيرة. الروض المعطار (ص 48).
(2) المعاهدة: هم النصارى المعاهدون.
(3) قارن بما جاء في البيان المغرب (ج 4ص 7369) وفيه يقول ابن عذاري إن أهل نظر أغرناطة خاطبوا في سنة 519هـ ابن ردمير ملحّة عليه بدخول غرناطة. وفي النص بعض اختلاف عمّا هنا.
(4) في البيان المغرب: «أغرناطة».
(5) في البيان المغرب: «شهدت».
(6) في المصدر نفسه: «الفضل».
(7) في البيان المغرب: «قصبتها».
(8) في البيان المغرب: أول شعبان سنة 519هـ.
(9) في البيان المغرب: «إلى أن وصل بلنسية».
(10) القصر، بالإسبانية:، وهي واقعة إلى الجنوب الشرقي من غرناطة.(1/57)
قال صاحب كتاب «الأنوار الجليّة» (1): فبدأ (2) بحث المعاهدة بغرناطة في استدعائه، فافتضح تدبيرهم باجتلابه، وهمّ أميرها (3) بتثقيفهم (4)، فأعياهم ذلك، وجعلوا يتسلّلون إلى محلّته على كل طريق، وقد أحدقت جيوش المسلمين من أهل العدوة (5) والأندلس بغرناطة، حتى صارت كالدّائرة، وهي في وسطها كالنّقطة، لمّا أنذروا بغرضه وتحرّك من وادي آش فنزل بقرية دجمة (6) وصلّى الناس بغرناطة صلاة الخوف، يوم عيد النّحر من هذه السنة في الأسلحة والأبّهة وبعيد الظهر من غده، ظهرت أخبية الرّوم بالقيل شرق المدينة، وتوالى الحرب على فرسخين منها، وقد أجلى السّواد، وتزاحم الناس بالمدينة، وتوالى الجليد، وأظلّت الأمطار. وأقام العدو بمحلّته بضع عشرة ليلة لم تسرح له سارحة، إلّا أنّ المعاهدة تجلب (7) له الأقوات ثم أقلع وقد ارتفع طعمه عن المدينة، لأربع بقين من ذي الحجة عام عشرين (8)، بعد أن تفرّغ مستدعيه إليها، وكبيره يعرف بابن القلّاس، فاحتجّوا ببطئه وتلوّمه حتى تلاحقت الجيوش، وأنهم قد وقعوا مع المسلمين في الهلكة، فرحل عن قرية مرسانة إلى بيش، ومن الغد إلى السكة من أحواز قلعة يحصب (9) ثم اتصل إلى لدوبيانة، ونكب إلى قبرة واللسّانة (10)، والجيوش المسلمة في أذياله.
وأقام بقبرة (11) أياما، ثم تحرّك إلى بلاي والعساكر في أذياله، وشيجة في فحص الرّنيسول (12) مكافحة في أثنائها، مناوشة، وظهورا عليه.
__________
(1) هو كتاب «الأنوار الجليّة في أخبار الدولة المرابطية»، وصاحبه هو أبو بكر يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري الغرناطي، المتوفّى سنة 557هـ، وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.
(2) في البيان المغرب: «فبدا نجيث المعاهدة في استدعائه».
(3) في البيان المغرب: «وهمّ الأمير أبو الطاهر».
(4) بتثقيفهم: باعتقالهم.
(5) المراد العدوة المغربية.
(6) دجمة، بالإسبانية:، وهي بلدة تقع غربي وادي آش، بين وادي آش وغرناطة.
(7) في البيان المغرب: «والمعاهدة تجتلب إليه الأقوات».
(8) قارن بالكامل في التاريخ (ج 10ص 631) سنة 520هـ.
(9) قلعة يحصب: بالإسبانية، أي القلعة الملكية، تنسب إلى قبيلة يحصب، وتعرف أيضا بقلعة يعقوب، أو القلعة السعدية، أي قلعة بني سعيد، وهي إحدى مدن غرناطة.
راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 62).
(10) اليسّانة أو اللّسّانة، بالإسبانية: هي مدينة اليهود، ولها ربض يسكنه المسلمون. وهي من مدن غرناطة. المرجع السابق (ص 63).
(11) قبرة: بالإسبانية، وهي من مدن غرناطة. المرجع السابق (ص 62).
(12) فحص الرنيسول أو أرنسول: بالإسبانية، ويقع جنوب مدينة غرناطة. وقد ذكره ابن الأثير عند حديثه عن هزيمة المسلمين الأندلسيين على يد ابن ردمير سنة 520هـ، باسم:(1/58)
ولمّا جنّ الليل، أمر أميرهم (1) برفع خبائه من وهدة كان فيها إلى نجدة، فساءت الظنون، واختلّ الأمر، ففرّ الناس وأسلموا، وتهيّب العدو المحلّة، فلم يدخلها إلّا بعد هدأة من الليل واستولى عليها. وتحرّك بعد الغد منها إلى جهة الساحل فشقّ العمامة الآمنة من الإقليم والشّارّات (2)، فيقول بعض شيوخ تلك الجهة:
إنه اجتاز بوادي شلوبانية المطلّ الحافّات، والمتحصّن المجاز، وقال بلغته: أيّ قبر هذا لو ألفينا من يصبّ علينا التراب! ثم عرّج يمنة حتى انتهى إلى بلّش، وأنشأ بها جفنا (3) صغيرا يصيد له حوتا، أكل منه كأنه نذر كان عليه، وفّى به، أو حديث أراد أن يخلّد عنه، ثم عاد إلى غرناطة، فاضطرب بها محلته بقرية ذكر، على ثلاثة فراسخ منها قبلة، ثم انتقل بعد ذلك بيومين إلى قرية همدان (4)، وبرز بالكتب جاعرسطة (5)
من المدينة، وكان بينه وبين عساكر المسلمين مواقعة عظيمة ولأهل غرناطة بهذا الموضع حدثان ينظرونه من القضايا المستقبلة.
قال ابن الصّيرفي: وقد ذكر في بعض كتب الجفر: «هذا الفحص، بخراب يجبى عن يتامى وأيامى». وكان هذا اليوم معرّضا لذلك، فوقى الله وانتقل بعد يومين إلى المرج مضيّقا عليه والخيل تحرجه، فنزل بعين أطسة، والجيوش محدقة به، وهو في نهاية من كمال التّعبئة، وأخذ الحذر، بحيث لا تصاب فيه فرصة ثم تحرّك على البراجلات، إلى اللقوق، إلى وادي آش، وقد أصيب كثير من حاميته وطوى المراحل إلى الشرق فاجتاز إلى مرسية، إلى جوف شاطبة، والعساكر في كل ذلك تطأ أذياله، والتّناوش (6) يتخطّر به، والوباء يسرع إليه، حتى لحق بلاده، وهو ينظر إلى قفاه، مخترما، مفلولا من غير حرب، يكاد الموت يستأصل محلّته وجملته.
ولمّا بان للمسلمين من مكيدة جيرانهم المعاهدين، ما أجلت عنه هذه القضية، أخذهم الإرجاف، ووغرت لهم الصّدور. ووجّه إلى مكانهم الحزم، ووجّه القاضي
__________
أرنيسول وقال: إنه حصن منيع. الكامل في التاريخ (ج 10ص 631).
(1) في البيان المغرب: «فلما طفلت الشمس أمر الأمير تميم برفع خبائه».
(2) الشّارات أو البشرّات: بالإسبانية، وهي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير. راجع: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 46).
(3) الجفن: المركب أو السفينة الحربية. ملحق القواميس العربية لدوزي (ج 1ص 201).
(4) همدان: بالإسبانية، سمّيت بذلك نسبة إلى قبيلة همدان لأنها نزلت بها. تأريخ المن بالإمامة (ص 191)، ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 71).
(5) أغلب الظن أنه اسم أحد زعماء النصارى المعاهدين، وهو:.
(6) في البيان المغرب: «وتناوشه وتصيب منه».(1/59)
أبو الوليد بن رشد الأجر، وتجشّم المجاز (1)، ولحق بالأمير علي بن يوسف بن تاشفين بمرّاكش، فبيّن له أمر الأندلس، وما منيت (2) به من معاهدها، وما جنوه عليها من استدعاء الرّوم، وما في ذلك من نقض العهد، والخروج عن الذّمة، وأفتى بتغريبهم، وإجلائهم عن (3) أوطانهم وهو أخفّ ما يؤخذ به من عقابهم وأخذ بقوله، ونفّذ بذلك عهده، وأزعج منهم إلى برّ العدوة، في رمضان من العام المذكور، عدد جمّ، أنكرتهم الأهواء، وأكلتهم الطرق، وتفرّقوا شذر مذر، وأصاب كثير من الجلاء جمعتهم من اليهود وتقاعدت بها منهم طائفة، هبّت لها بممالأة بعض الدول ريح، فأمّروا وأكثروا إلى عام تسعة وخمسين وخمسمائة، ووقعت فيهم وقيعة احتشّتهم، إلّا صابة (4) لهذا العهد قليلة، قديمة المذلّة، وحالفت الصّغار. جعل الله العاقبة لأوليائه.
ذكر ما ينسب إلى هذه الكورة من الأقاليم التي نزلتها العرب بخارج غرناطة، وما يتصل بها من العمالة
فصل فيما اشتمل عليه خارج المدينة من القرى والجنّات والجهات
قال المؤلّف رحمه الله: ويحفّ (5) بسور هذه المدينة المعصومة بدفاع الله تعالى، البساتين العريضة المستخلصة، والأدواح الملتفّة، فيصير سورها من خلف ذلك كأنّه من دون سياج كثيفة، تلوح نجوم الشّرفات (6) أثناء خضرائه، ولذلك ما قلت فيه في بعض الأغراض (7): [الكامل]
بلد تحفّ (8) به الرّياض كأنّه ... وجه جميل والرّياض عذاره
وكأنّما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره
فليس تعرى عن جنباته من الكروم والجنّات جهة، إلّا ما لا عبرة به مقدار غلوة، أما ما حازه السّفل من جوفيه، فهي عظيمة الخطر، متناهية القيم، يضيق جدّه
__________
(1) في البيان المغرب: «وتجشم النهوض إلى حضرة مراكش».
(2) في البيان المغرب: «وما بليت به من معاهدتها وما جرّوه إليها وجنوه عليها من استدعاء ابن ردمير».
(3) في البيان المغرب: «من».
(4) صابة: محدودة، قليلة.
(5) قارن باللمحة البدرية (ص 24).
(6) في اللمحة: «الشرفات البيض أثناء».
(7) البيتان في نفح الطيب (ج 1ص 68) و (ج 9ص 221)، وأزهار الرياض (ج 1ص 43).
(8) في الأصل: «يحفّ»، والتصويب من نفح الطيب.(1/60)
من عدا أهل الملك، عن الوفاء بأثمانها، منها ما يغلّ في السنة الواحدة نحو الألف من الذّهب، قد غصّت الدكاكين بالخضر الناعمة، والفواكه الطيّبة، والثمر المدّخرة، يختصّ منها بمستخلص السلطان (1)، المرور طوقا على ترائب بلده ما بينهن منية منها الجنّة (2) المعروفة بفدّان الميسة، والجنة المعروفة بفدّان عصام، والجنة المعروفة بالمعروي، والجنة إلى المنسوبة إلى قدّاح بن سحنون، والجنة المنسوبة لابن المؤذّن، والجنة المنسوبة لابن كامل، وجنة النّخلة العليا، وجنة النخلة السفلى، وجنة ابن عمران، والجنة التي إلى نافع، والجرف الذي ينسب إلى مقبل، وجنّة العرض، وجنة الحفرة، وجنة الجرف، ومدرج نجد، ومدرج السّبيكة (3)، وجنّة العريف (4): كلها لا نظير لها في الحسن والدّمانة (5) والربيع، وطيب التربة، وغرقد (6) السّقيا، والتفاف الأشجار، واستجادة الأجناس، إلى ما يجاورها ويتخلّلها، ممّا يختصّ بالأحباس الموقفة، والجنّات المتملّكة، وما يتصل بها بوادي سنجيل ما يقيّد الطّرف، ويعجز الوصف، قد مثلث منها على الأنهار المتدافعة العباب، المنارة والقباب، واختصّت من أشجار العاريات ذات العصير الثاني بهذا الصّقع، ما قصرت عنه الأقطار. وهذا الوادي من محاسن هذه الحضرة، ماؤه رقراق من ذوب الثلج، ومجاجة الجليد، وممرّه على حصى جوهرية، بالنبات والظّلال محفوفة، يأتي من قبلة علام البلد إلى غربه، فيمرّ بين القصور النّجدية، ذوات المناصب الرفيعة، والأعلام الماثلة.
ولأهل الحضرة بهذه الجنّات كلف، ولذوي البطالة فوق نهره أريك من دمث الرمل، وحجال من ملتفّ الدّوح، وكان بها سطر من شجر الحور تنسب إلى مامل (7)، أحد خدّام الدولة الباديسية، أدركنا المكان، يعرف بها.
__________
(1) المراد بمستخلص السلطان أملاكه الخاصة.
(2) الجنة بلغة أهل غرناطة تعني الحديقة أو البستان.
(3) السبيكة: موضع خارج غرناطة، كان الشعراء يتغنّون بها، من أمثال أبي جعفر الإلبيري الرعيني وابن زمرك وغيرهما. راجع: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 37). وقد ذكرها ابن صاحب الصلاة بدون ياء، عند حديثه عن غدر إبراهيم بن همشك مدينة غرناطة فقال:
«واحتل ابن همشك يوم دخوله غرناطة بالقصبة الحمراء التي في جبل السّبكة الموازية لقصبة غرناطة». تأريخ المن بالإمامة (ص 184).
(4) جنة العريف أو جنان العريف: بستان في خارج غرناطة، يقع في أسفل الربوة التي ما يزال يقوم عليها قصر جنة العريف، إلى الشمال الشرقي من قصر الحمراء، وتسمى بالإسبانية.
(5) الدمانة: الخصوبة. لسان العرب (دمن).
(6) الغرقد: شجر عظيم أو العوسج إذا عظم، واحدته غرقدة. محيط المحيط (غرقد).
(7) مامل أو مؤمّل، أحد خدّام ملك غرناطة باديس بن حبوس الذي حكم غرناطة من سنة 429هـ إلى سنة 467هـ. سمّي به شجر الحور، فصار اسمه حور مؤمل أو حوز مؤمل، وكان من(1/61)
قال أبو الحجاج يوسف بن سعيد بن حسّان: [الطويل]
أحنّ إلى غرناطة كلما هفّت ... نسيم الصّبا تهدى الجوى وتشوق
سقى الله من غرناطة كل منهل ... بمنهل سحب ماؤهنّ هريق
ديار يدور الحسن بين خيامها ... وأرض لها قلب الشّجيّ مشوق
أغرناطة العليا بالله خبّري ... أللهائم الباكي إليك طريق؟
وما شاقني إلا نضارة منظر ... وبهجة واد للعيون تروق
تأمّل إذا أمّلت حوز مؤمّل ... ومدّ من الحمرا عليك شقيق
وأعلام نجد والسّبيكة قد علت ... وللشّفق الأعلى تلوح بروق
وقد سلّ شنّيل (1) فرندا مهنّدا ... نضى فوق درّ ذرّ فيه عقيق
إذا نمّ منه طيب نشر أراكه ... أراك فتيت المسك وهو فتيق
ومهما بكى جفن الغمام تبسّمت ... ثغور أقاح للرّياض أنيق
ولقد ولعت الشعراء بوصف هذا الوادي، وتغالت الغالات فيه، في تفضيله على النيل بزيادة الشّين (2)، وهو ألف من العدد، فكأنه نيل بألف ضعف، على عادة متناهي الخيال الشعري في مثل ذلك.
ولقد ألغزت فيه لشيخنا أبي الحسن بن الجيّاب (3)، رحمه الله، وقد نظم في المعنى المذكور ما عظم له استطرابه وهو: [البسيط]
ما اسم إذا زدته ألفا من العدد ... أفاد معناه لم ينقص ولم يزد
__________
أجمل متنزهات غرناطة وأظرفها. وسيذكره ابن الخطيب في هذا الجزء باسم «حوز مؤمل» وذلك في ترجمة حفصة بنت الحاج الركوني. راجع أيضا المغرب (ج 2ص 103)، ونفح الطيب (ج 1ص 475) و (ج 3ص 315)، ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 35).
(1) شنيل: بالإسبانية، وهو نهر غرناطة الكبير. المغرب (ج 2ص 103)، وتقويم البلدان (ص 177)، وكتاب العبر (م 7ص 689)، ونفح الطيب (ج 5ص 8). وقد ذكره ابن صاحب الصلاة مكتفيا بالقول: «وادي شنيل على قرب من غرناطة». تأريخ المن بالإمامة (ص 191). وفي كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري للدكتورة مريم قاسم دراسة مستفيضة عن هذا النهر، فليراجع (ص 4947).
(2) ورد شيء من هذا في نفح الطيب (ج 1ص 147).
(3) ترجمة أبي الحسن علي بن الجياب في الكتيبة الكامنة (ص 183)، ونثير فرائد الجمان (ص 239)، ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص 193)، والديباج المذهب (ص 207)، ودرة الحجال في أسماء الرجال (ج 2ص 435)، ونفح الطيب (ج 7ص 407) و (ج 8ص 397). وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.(1/62)
وإنما ائتلفا من بعد ما اختلفا ... معنى بشين ومن نزر ومن بلد
ثم يتصل بالحسن العادي البديع، وهو على قسمين، خمس من محكم الكدان في نهاية الإبداع والإحكام، يتّصل به بناء قديم محكم، ويستقبل الملعب، العيدي، ما بين ذنابي الجسر إلى جدار الرابطة، وملعب بديع الشكل، عن يمينه جناح بديع، عن ميدانه عدوات النهر، وعن يساره الجنّات، ويفضي بعد انتهائه إلى الرّابطة، إلى باب القصر المنسوب إلى السّيد (1)، وسيأتي ذكره ويرتفع من هذا النهر الزّلال جداول، تدور بها أعداد من الأرحيّ لا نظير لها استعدادا وإفادة.
فصل
وتركب ما ارتفع من هذه المدينة من جهاتها الثلاث، الكروم البديعة، طوقا مرقوما، يتصل بما وراءها من الجبال، فتعمّ الرّبى والوهاد، وتشمل الغور والنّجد، إلّا ما اختصّ منها بالسّهل الأفيح، متّصلا بشرقي باب إلبيرة، إلى الخندق العميق، وهو المسمّى «بالمشايخ»، بسيط جليل، وجوّ عريض، تغمى على العدّ أمراجه ومصانيعه، تلوح مبانيها، ناجمة بين الثّمار والزيتون، وسائر ذوات الفواكه، من اللّوز والإجاص والكمثرى، محدقة من الكروم المسحّة، والرياحين الملتفّة، ببحور طامية تأتي البقعة الماء ففيها كثير من البساتين والرّياض، والحصون، والأملاك المتّصلة السكنى، على الفصول وإلى هذه الجهة يشير الفقيه القاضي، أبو القاسم بن أبي العافية، رحمه الله، في قصيدة، يجيب بها عروس الشعراء، الأديب الرّحّال أبا إسحاق السّاحلي، وكان ممّن نيطت عليه بهذا العهد، التّمائم: [الكامل]
يا نازحا لعب المطيّ بكوره ... لعب الرّياح الهوج بالأملود
ورمت به للطّية القصوى التي ... ما وردها لسواه بالمورود
هلّا حننت إلى معاهدنا التي ... كنت الحليّ لنحرها والجيد؟
ورياض أنس بالمشايخ (2) طارحت ... فيه الحمائم صوت سجع العود
ومبيتنا فيها وصفو مدامنا ... صفو المودّة لابنة العنقود
والعيش أخضر والهوى يدني جنى ... زهرات ثغر أو ثمار نهود
__________
(1) هو أبو إسحاق بن يوسف الموحدي، ولّي غرناطة سنة 615هـ، وبنى قصرا خارج مدينة غرناطة عرف باسمه. وفي عصر بني نصر استعمل هذا القصر للضيافة. وما يزال حتى اليوم بعض منه وقد زرته غير مرة، وهو عبارة عن بهو مربع ذي قبّة عالية على جوانبها شعار بني نصر «ولا غالب إلا الله».
(2) المراد بالمشايخ سهل غرناطة، أو الخندق العميق، السابق الذكر.(1/63)
والقضب رافلة يعانق بعضها ... بعضا إذا اعتنقت غصون قدود
لهفي على ذاك الزمان وطيبه ... وعلى مناه وعيشه المحسود
تلك الليالي لا ليالي بعدها ... عطّلن إلّا من جوى وسهود
كانت قصارا ثم طلن ففيها (1) ... تأتي على المقصور والممدود
وأما ما استند إلى الجبل، فيتصل به البيازين في سفح الجبل، المتصل بالكدية ابن سعد، متّصلا بالكدية المبصلة، المنسوبة لعين الدّمع (2)، منعطفة على عين القبلة، متصلة بجبل الفخّار (3)، ناهلة في غمر الماء المجلوب على ذلك السّمت أوضاع بديعة، وبساتين رائقة، وجنّات لا نظير لها، في اعتدال الهواء، وعذوبة الماء، والإشراف على الأرجاء، ففيها القصور المحروسة، والمنارة المعمورة، والدّور العالية، والمباني القصبيّة (4)، والرياحين النّضيرة، قد فضّ فيها أهل البطالة، من أولي الحبرة، الأكياس، وأرخصوا على النفقة عليها، غالي النّشب (5)، تتنازع في ذلك غير الخادمين، من خدّام الدولة على مرّ الأيام، حتى أصبحت نادرة الأرض، والمثل في الحسن. ولهذه البقعة ذكر يجري في المنظومات على ألسنة البلغاء من ساكنيها وزوّارها فمن أحسن ما مرّ من ذلك قول شيخنا أبي البركات (6): [الطويل]
ألا قل لعين الدمع يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقفا على الدّم
وذكرته في قصيدة فقلت: [الكامل]
يا عهد عين الدمع، كم من لؤلؤ ... للدمع جاد به عساك تعود!
تسري نواسمك اللّدان بليلة ... فيهزّني شوق إليك شديد
__________
(1) في الأصل: «فيها» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) كان عين الدمع من عجيب مواضع غرناطة، وهو عبارة عن جبل فيه الرّياض والبساتين، ويتصل بجبل الفخار. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 38) ففيه دراسة مفصّلة عن هذا الموضع.
(3) جبل الفخار من شعب جبل سييرا نقادا المشرفة على مدينة غرناطة، ويسمى اليوم. راجع: مملكة غرناطة (ص 47).
(4) المراد بالمباني القصبية: المباني المحصنة التي تشبه القصبة.
(5) النشب: المال أو العقار. لسان العرب (نشب).
(6) هو أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم، المعروف بابن الحاج، البلفيقي الأصل، من شيوخ ابن الخطيب، وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.(1/64)
وقلت من أبيات تكتب في قبّة بقصري الذي اخترعته بها: [الطويل]
إذا كان عين الدمع عينا حقيقة ... فإنسانها ما نحن فيه ولادع
فدام لخيل الأنس واللهو ملعبا ... ولا زال مثواه المنعّم مرتع
تودّ الثّريّا أن تكون له ثرى ... وتمدحه الشّعرى وتحرسه ألمع
وقال صاحبنا الفقيه أبو القاسم بن قطبة (1) من قصيدة: [الطويل]
أجل إنّ عين الدمع قيد النّواظر ... فسرّح عيونا في اجتلاء النّواظر
وعرّج على الأوزان إن كنت ذا هوى ... فإنّ رباه مرتع للجآذر
وصافح بها كفّ البهار مسلّما ... وقبّل عذار الأنس بين الأزاهر
وخذها على تلك الأباطح والرّبى ... معتّقة تجلو الصّدا للخواطر
مدامة حان أنسى للدهر (2) عمرها ... فلم تخش أحداث الدّهور الدّوائر
تحدّث عن كسرى وساسان قبله ... وتخبر عن كرم يخلّد داثر
وهي طويلة. وقال أيضا من قصيدة طويلة: [الطويل]
وليلا بعين الدمع وصلا قطعته ... وأنجمه بين النّجوم سعود
ترى الحسن منشور اللواء بسرّه ... وظلّ الأماني في رباه مديد
فبتنا ومن روض الخدود أزاهر ... لدينا ومن ورد الرّياض خدود
وتفّاحنا وسط الرّياض مورّد ... ورمّاننا وسط الصّدور نهود
وقد عرفت نصّ الهوى وذميله ... تهائم من أكبادنا ونجود
وقال من قصيدة: [البسيط]
ومل بنا نحو عين الدمع نشربها ... حيث السّرور بكأس الأنس يسقيني
حيث المنى وفنون اللهو راتعة ... والطّير من طرب فيها تناجيني
وجدول الماء يحكي في أجنّته ... صوارما جرّدت في يوم صفّين
وأعين الزهر في الأغصان جاحظة ... كأنها بهوى الغزلان تغريني
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن قطبة الدّوسي الغرناطي، وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(2) في الأصل: «الدهر» وهكذا ينكسر الوزن.(1/65)
ومن ذلك: [الطويل]
سهرت بعين الدمع أرعى ربوعه ... وحسبي من الأحباب رعي المنازل
ينافحني عرف إذا هبّت الصّبا ... ويقنعني طيف الحبيب المراسل
والأقاويل في ذلك أكثر من أن يحاط بها كثرة، وما سوى هذه الجهة فغير لاحق بهذه الرّتبة، مما معوّله على محض الفائدة وصريح العائدة. وتذهب هذه الغروس المغروسة قبلة، ثم يفيض تيارها إلى غرب المدينة، وقد تركت بها الجبال الشّاهقة، والسّفوح العريضة، والبطون الممتدة، والأغوار الخائفة، مكلّلة بالأعناب، غاصّة بالأدواح، متزاحمة بالبيوت والأبراج، بلغ إلى هذا العهد عددها في ديوان الخرص (1)، إلى ما يناهز أربعة عشر ألفا، نقلت ذلك من خطّ من يشار إليه في هذه الوظيفة وقاها الله مضرّة السنين، ودفع عنها عباب القوم الظّالمين، وعدوان الكافرين.
فصل
ويحيط (2) بما خلف السّور من المنى، والجنّات، في سهل المدينة، العقار الثمين، العظيم الفائدة، المتعاقبة الغلّة، الذي لا يعرف الجمام، ولا يفارق الزّرع من الأرض البيضاء، ينتهي ثمن المرجع منها العلي، إلى خمسة وعشرين دينارا من الذهب العين، لهذا العهد فيه مستخلص السلطان، ما يضيق عنه نطاق القيمة، ذرعا وغبطة وانتظاما يرجع إلى دور ناجمة، وبروج سامية، وبيادر فسيحة، وقصاب (3)
للحمائم والدّواجن ماثلة، منها في طوق البلد، وحمى سورها، جملة كالدّار المنسوبة إلى هذيل، والدار المنسوبة إلى أم مرضى، والدار البيضاء، والدار المنسوبة إلى السّنينات، والدار المعروفة بنبلة ووتر وبالمرج ما يساير جرية النّهر كقرية وكروبها حصن خريز، وبستان وبشر عيون، والدار المنسوبة إلى خلف، وعين الأبراج، والحشّ (4) المنسوب إلى الصّحاب وقرية رومة وبها حصن وبستان، والدار المنسوبة إلى العطشى، وبها حصن والدار المنسوبة لابن جزي، والحشّ المنسوب لأبي علي وقرية ناجرة، ومنها فضل بن مسلمة الحسني، وبها حصن، وحوله
__________
(1) الخرص: اسم من خرص يقال: كم خرص أرضك: أي كم قدرها وما خمّن فيها. والمراد بديوان الخرص: ديوان الأملاك وغلّاتها. لسان العرب (خرص).
(2) قارن باللمحة البدرية (ص 2524).
(3) في الأصل: «ومصاب» والتصويب من اللمحة البدرية.
(4) الحشّ: البستان، محيط المحيط (حشش).(1/66)
ربض، فيه من الناس أمّة وقرية سنيانة وفيها حصن وقرية أشكر وقريتي بيبش وواط، وبهما حصنان وقرية واط عبد الملك بن حبيب. وفي هذه القرى الجمل الضخمة من الرجال والفحول من الحيوان الحارث لآثار الأرض وعلاج الفلاحة وفي كثير منها الأرحى والمساجد. وما سوى هذه من القرى، المستخلص من فضلة الإقطاع، وقصرت به الشّهرة عن هذا النّمط، فكثير.
ويتخلّل هذا المتاع الغبيط (1) الذي هو لباب الفلاحة، وغير هذه المدرة (2)
الطيّبة سائر القرى التي بأيدي الرّعيّة، مجاورة لهذه الحدود، وبنات لهذه الأمهات.
منها ما انبسط وتمدّد، فاشترك فيه الألوف من الخلق، وتعدّدت منه الأشكال ونحن نوقع الاسم منه على البقعة من غير ملاحظة للتّعدّد. ومنها ما انفرد بمالك واثنين فصاعدا، وهو قليل وتنيف أسماؤها على ثلاثمائة قرية ما عدا ما يجاور الحضرة من كثير من قرى الإقليم أو ما استضافته حدود الحصون المجاورة (3). فمن ذلك:
حوز الساعدين (4) وفيه القرى. وحوز وتر (5)، ومنها إبراهيم بن زيد المحاربي.
وقرية قلجار (6). وقرية ياجر الشاميّين. وقرية ياجر البلديين (7). وقرية قشتالة (8)، ومنها قاسم بن إمام من أصحاب سحنون، ونزل بها جدّه عطية بن خالد المحاربي. وقرية أججر (9). وقرية أرملة الكبرى. وقرية أرملة الصغرى (10). وقرية رقاق وهمدان (11)، منها الغريب بن يزيد الشّمر، جدّ بني أضحى. وقرية الغيضون. وقرية لسّانة (12).
__________
(1) الغبيط: الأرض المطمئنة أو الواسعة المستوية، وغبيط المدرة: موضع. لسان العرب (غبط).
(2) المدرة: القرية، جمعها مدر. لسان العرب (مدر).
(3) يورد ابن الخطيب أكثر من 140قرية من قرى العاصمة غرناطة، بعضها بقي محافظا على أسمائه العربية، وبعضها استحال إلى أسماء أوروبية، وقد استعنّا في تحديد هذه القرى على ما جاء به الأستاذ محمد عبد الله عنان في الطبعة المصرية.
(4) اسمه بالإسبانية، وهو مكان يقع إلى الجنوب من غرناطة.
(5) اسمها بالإسبانية، وهي قرية تقع جنوب شرقي غرناطة.
(6) اسمها بالإسبانية، وتقع جنوب غرناطة على ضفة نهر شنيل.
(7) بالإسبانية، وتقع بالقرب من الزاوية أحد متنزهات غرناطة المشهورة.
(8) بالإسبانية، وليس لها ذكر اليوم.
(9) أججر أو أجيجر، وهي بالإسبانية، وتقع جنوب شرقي غرناطة.
(10) بالإسبانية، وهما اليوم قرية واحدة تقع على ضفة نهر شنيل الجنوبية، وبها بقية قصر السيد، المعروف بقصر شنيل.
(11) بالإسبانية، وقد عدّها ابن الدلائي إقليما من أقاليم إلبيرة. وعدّها ابن سعيد قرية كبيرة في نطاق غرناطة. راجع مملكة غرناطة ص 71.
(12) لسّانة أو يسّانة: بالإسبانية، وهي مدينة اليهود، وكان أهلها أول من أطاعوا ليوسف بن(1/67)
وحارة الجامع. وحارة الفراق. وقرية غرليانة. وحشّ البكر (1). وغدير الصغرى وغدير الكبرى، من إقليم البلاط، منها يربوع بن عبد الجليل، ونزل بها جدّه يربوع بن عبد الملك بن حبيب. وقرية قولر (2). وقرية جرليانة (3). وقرية حارة عمروس (4).
وحشّ الطّلم (5). وقرية المطار. وقرية الصّرمورتة (6). وقرية بلسانة (7). وقرية الحبشان. وقرية الشوش (8). وقرية عرتقة. وقرية جيجانة (9). وقرية السّيجة. وقنب قيس (10). وقرية برذنار (11). وقرية دوير تارش. وقرية آقلة (12). وقرية أحجر (13).
وقرية تجرجر (14). وقرية والة. وقرية أنقر. وقرية الغروم (15). وقرية دار وهدان.
وقرية بيرة (16). وقرية القصيبة. وقرية أنطس. وقرية فنتيلان (17). وقرية سنبودة.
وحش زنجيل. وقرية أشتر. وقرية غسّان (18)، منها مطر بن عيسى بن الليث. وقرية شوذر (19). وقرية سنتشر (20). وقرية ابن ناطح. وقرية الملّاحة (21)، ومنها محمد بن عبد الواحد الغافقي أبو القاسم الملاحي. وقرية القمور، منها أصبغ بن مطرّف. وقرية نفجر وغرنطلة (22). وقرية بيرة، وبها مسجد قراءة ابن حبيب. وقرية قولجر (23)، منها
__________
تاشفين عندما أرسل لهم كتبا يدعوهم فيها لعدم المقاومة في أثناء حصاره لمملكة غرناطة في عهد عبد الله بن بلقين. مملكة غرناطة (ص 63).
(1) حشّ البكر: بالإسبانية، وقد ذكر الدكتور عبد الهادي التازي أن هذا المكان هو نفسه قرية بزقر التي هي من نظر غرناطة على ضفة نهر، وتقع جنوب غربي غرناطة. تاريخ المنّ بالإمامة (ص 309، حاشية رقم 3).
(2) بالإسبانية، وتقع جنوب غربي غرناطة.
(3) بالإسبانية، وتقع جنوب غربي غرناطة.
(4) بالإسبانية، وتقع بجوار جرليانة.
(5) بالإسبانية، وتقع في مرج غرناطة على ضفة شنيل.
(6) بالإسبانية، وتقع شمال غربي غرناطة.
(7) بالإسبانية وتقع غربي غرناطة.
(8) بالإسبانية، وتقع في مرج غرناطة.
(9) بالإسبانية، وتقع في مرج غرناطة.
(10) بالإسبانية.
(11) بالإسبانية وتقع جنوبي غرناطة على بعد نحو خمسين كيلومترا منها.
(12) بالإسبانية.
(13) بالإسبانية، وتقع غربي غرناطة.
(14) بالإسبانية، وتقع غربي غرناطة قرب أحجر.
(15) بالإسبانية، وتقع جنوب غربي غرناطة على بعد نحو أربعين كيلومترا منها.
(16) بالإسبانية.
(17) بالإسبانية أو.
(18) بالإسبانية، وتقع في نهاية مرج غرناطة.
(19) بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.
(20) بالإسبانية، وتقع جنوب غرناطة.
(21) بالإسبانية، وتقع جنوب غرناطة على مقربة من همدان.
(22) بالإسبانية.
(23) بالإسبانية، ويقع جنوبي غرناطة.(1/68)
سهل بن مالك. وقرية شون (1)، منها محمد بن هانىء الأزدي الشاعر المفلق، ومحمد بن سهل، جدّ هذا البيت، بني سهل بن مالك. وقرية بليانة (2). وقرية برقلش (3). وقرية ضوجر. وقرية البلّوط (4). وقرية أنتيانة (5). وقرية مرسانة (6).
وقرية الدّوير. وقرية الشّلان. وقرية طغنر (7)، منها الطّغنري صاحب الفلاحة.
وقرية حش الدجاج. وقرية حش نوح. وقرية حش خليفة. وحش الكوباني.
وحش المعيشة. وحش السلسلة. وقرية الطرف (8). وقرية إلبيرة (9). وقرية الشّكروجة (10)، ومنها عيسى بن محمد بن أبي زمنين. وعين الحورة. وحش البومل. وقرية بلومال (11). وقرية رقّ المخيض. وقرية الغيضون الحورة. وقرية أشقطمر. وقرية الدّيموس الكبرى. وقرية الديموس الصغرى (12). وقرية دار الغازي. وقرية سويدة. وحش قصيرة. وقرية الرّكن. وقرية ألفنت (13)، ومنها صخر بن أبان. وقرية الكدية (14). وقرية لاقش (15). وقرية قربسانة (16). وقرية برسانة برياط. وقرية الولجة. وقرية ماس. وحش علي. وحش بني الرّسيلية.
وحش رقيب. وحش البلّوطة. وحش الرّوّاس. وحش مرزوق. وقرية قبالة (17).
وقرية نبالة. وقرية العيران. وبرج هلال (18). وقرية قلتيش (19). وقرية
__________
(1) في الأصل: «شور» وشون، بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.
(2) بالإسبانية، وتقع بجوار قرية شور.
(3) بالإسبانية. وتقع بجوار قرية بليانة على مقربة من غرناطة.
(4) بالإسبانية، وتقع قبالة بليانة.
(5) بالإسبانية.
(6) بالإسبانية، وتقع شمال غربي غرناطة.
(7) بالإسبانية، وكانت تقع شمال غربي غرناطة على مقربة من إلبيرة.
(8) بالإسبانية، وتقع شمال غربي غرناطة.
(9) بالإسبانية، وتقع على مقربة من الطرف.
(10) بالإسبانية.
(11) بالإسبانية، وتقع جنوبي غرناطة بقرب شاطىء البحر المتوسط.
(12) بالإسبانية، وهما اليوم بلدة واحدة تقع على مقربة من مدينة غرناطة.
(13) بالإسبانية، وتقع شمالي غرناطة على نحو عشرين كيلومتر منها.
(14) بالإسبانية، وتقع جنوب شرقي وادي آش.
(15) بالإسبانية، وهي اليوم حيّ من ضواحي غرناطة، يبعد عنها نحو كيلومتر ونصف.
(16) بالإسبانية، وتقع غربي غرناطة على نهر شنيل.
(17) بالإسبانية.
(18) بالإسبانية، وتقع غربي غرناطة على بعد نحو ثلاثة كيلومترات منها.
(19) بالإسبانية، وتقع غربي مدينة وادي آش.(1/69)
القنار (1). وقرية أربل. وقرية بربل. وقرية قرباسة. وقرية أشكن. وقرية قلنبيرة (2).
وقرية سعدى. وقرية قلقاجج (3). وقرية فتن (4). وقرية مرنيط. وقرية ددشطر. وقرية شتمانس (5). وقرية أرنالش (6). وقرية وابشر (7). وقرية ققلولش (8). وقرية النّبيل (9).
وقرية الفخّار (10). وقرية القصر (11)، ومنها محمد بن أحمد بن مرعياز الهلالي. وقرية بشر. وقرية بنوط (12). وقرية كورة. وقرية لص. وقرية بيش (13). وقرية قنتر (14).
وقرية دور. وقرية قلنقر. وقرية غلجر (15)، ومنها هشام بن عبد العظيم بن يزيد الخولاني. وقرية ذرذر (16). وقرية ولجر. وقرية قنالش (17). وقرية إبتايلس. وقرية سج. وقرية منشتال (18). وقرية الوطا (19). وقرية واني. وقرية قريش. وقرية الزّاوية (20).
وقد ذكرنا أن أكثر هذه القرى أمصار، فيها ما يناهز خمسين خطبة، تنصب فيها لله المنائر، وترفع الأيدي، وتتوجّه الوجوه.
وجملة المراجع العلمية المرتفعة فيها، في الأزمنة، في العام بتقريب، ومعظمها السقي الغبيط السّمين، العالي، مائتا ألف وثنتان (21) وستون ألفا، وينضاف إلى ذلك مراجع الأملاك السلطانية، ومواضع أحباس المساجد، وسبل الخير، ما
__________
(1) بالإسبانية، وتقع جنوبي مدينة غرناطة.
(2) بالإسبانية، وتقع إلى الشمال من غرناطة على بعد نحو ثلاثين كيلو مترا منها.
(3) بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.
(4) بالإسبانية.
(5) بالإسبانية، وتعني الأيدي السبعة.
(6) بالإسبانية.
(7) بالإسبانية، وتقع شمال شرقي غرناطة.
(8) بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.
(9) بالإسبانية، وتقع شمال غربي غرناطة.
(10) بالإسبانية، وتقع شمال شرقي غرناطة. راجع: مملكة غرناطة (ص 295).
(11) بالإسبانية، وتقع في الجنوب الشرقي من غرناطة.
(12) بالإسبانية، وتقع غربي غرناطة.
(13) بالإسبانية، وتقع في شمال شرقي غرناطة.
(14) بالإسبانية.
(15) بالإسبانية. وهي من ضواحي غرناطة الجنوبية.
(16) بالإسبانية، وتقع شرقي غرناطة.
(17) بالإسبانية، وتقع جنوبي مدينة بسطة.
(18) بالإسبانية. وهي من ضواحي غرناطة وتقع في جنوبها الشرقي.
(19) بالإسبانية، وهي ضاحية غرناطة. وتقع في جنوبها الشرقي.
(20) بالإسبانية.
(21) في الأصل: «ثنتان» بدون واو.(1/70)
ينيف على ما ذكر، فيكون الجميع باحتياط، خمسمائة ألف وستّون ألفا، والمستفاد فيها من الطعام المختلف الحبوب للجانب السلطاني، ثلاثمائة ألف قدح ويزيد، ويشتمل سورها وما وراءه من الأرحاء الطّاحنة بالماء، على ما ينيف على مائة وثلاثين رحى (1)، ألحفها الله جناح الأمنة، ولا قطع عنها مادّة الرحمة، بفضله وكرمه.
فصل
وقد فرغنا من ذكر رسوم هذا القطر ومعاهده، وفرغنا من تصويره وتشكيله، وذكر قراه وجنّاته (2)، وقصوره ومتنزّهاته، فنحن الآن نذكر بعضا من سير أهله، وأخلاقهم، وغير ذلك من أحوالهم بإجمال واختصار، فنقول (3):
أحوال هذا القطر في الدّين وصلاح العقائد أحوال سنيّة، والنّحل فيهم معروفة (4) فمذاهبهم (5) على مذهب مالك بن أنس، إمام دار الهجرة جارية، وطاعتهم للأمراء محكمة، وأخلاقهم في احتمال المعاون الجبائيّة جميلة.
وصورهم حسنة، وأنوفهم (6) معتدلة غير حادّة، وشعورهم سود مرسلة، وقدودهم متوسطة معتدلة، إلى القصر، وألوانهم زهر مشربة بحمرة، وألسنتهم فصيحة عربية، يتخلّلها غرب (7) كثير، وتغلب عليهم (8) الإمالة، وأخلاقهم أبيّة في معاني المنازعات، وأنسابهم عربيّة، وفيهم من البربر والمهاجرة كثير. ولباسهم الغالب على طرقاتهم (9)، الفاشي بينهم، الملفّ المصبوغ (10) شتاء، وتتفاضل (11) أجناس البزّ (12) بتفاضل الجدّة، والمقدار، والكتّان والحرير، والقطن، والمرعزّى، والأردية الإفريقيّة، والمقاطع التونسية، والمآزر المشفوعة صيفا، فتبصرهم في المساجد، أيّام الجمع، كأنّهم الأزهار المفتّحة، في البطاح الكريمة، تحت الأهوية المعتدلة.
__________
(1) كذا في اللمحة البدرية (ص 25).
(2) في الأصل: «وأجنّاته».
(3) النص في اللمحة البدرية (ص 3938).
(4) في اللمحة: «معدومة».
(5) في اللمحة: «ومذاهبهم».
(6) في اللمحة: «معتدلة أنوفهم، بيض ألوانهم، مسودّة غالبهم شعورهم، متوسطة قدودهم».
(7) في اللمحة: «عرف».
(8) في اللمحة: «عليها».
(9) في اللمحة: «طبقاتهم».
(10) في اللمحة: «المصبغ».
(11) في اللمحة: «تتفاضل».
(12) في اللمحة: «البزز منه بتفاضل الجدات والمقادير».(1/71)
وأنسابهم حسبما يظهر من الإسترعات (1)، والبيعات السلطانية والإجازات، عربية: يكثر فيها القرشي، والفهري، والأموي، والأمّي، والأنصاري، والأوسي، والخزرجي، والقحطاني، والحميري، والمخزومي، والتّنوخي، والغسّاني، والأزدي، والقيسي، والمعافري، والكناني، والتّميمي، والهذلي، والبكري، والكلابي، والنّمري، واليعمري، والمازني، والثّقفي، والسّلمي، والفزاري، والباهلي، والعبسي، والعنسي، والعذري، والحججي، والضّبّي، والسّكوني، والتّيمي، والعبشمي، والمرّي، والعقيلي، والفهمي، والصّريحي، والجزلي، والقشيري، والكلبي، والقضاعي، والأصبحي، والهواري، والرّعيني، واليحصبي، والتّجيبي، والصّدفي، والحضرمي، والحيّ، والجذامي، والسّلولي، والحكمي، والهمداني، والمذحجي، والخشني، والبلوي، والجهني، والمزني، والطّائي، والغافقي، والأسدي، والأشجعي، والعاملي، والخولاني، والأيادي، واللّيثي، والخثعمي، والسّكسكي، والزّبيدي، والتّغلبي، والثّعلبي، والكلاعي، والدّوسي، والحواري، والسّلماني.
هذا، ويرد كثير في شهادتهم، ويقلّ من ذلك السّلماني نسبا، وكالدّوسي، والحواري، والزّبيدي ويكثر فيهم، كالأنصاري، والحميدي، والجذامي، والقيسي، والغسّاني، وكفى بهذا شاهدا على الأصالة، ودليلا على العروبيّة.
وجندهم (2) صنفان أندلسي وبربري والأندلسي (3) منها يقودهم رئيس من القرابة أو حصيّ (4) من شيوخ الممالك. وزيّهم في القديم شبه (5) زيّ أقتالهم وأضدادهم من جيرانهم الفرنج، إسباغ الدّروع، وتعليق التّرسة، وحفا (6) البيضات، واتخاذ عراض الأسنّة، وبشاعة قرابيس السروج، واستركاب حملة الرّايات خلفه (7)
كلّ منهم بصفة (8) تختصّ بسلاحه، وشهرة يعرف بها. ثم عدلوا الآن عن هذا الذي
__________
(1) علّق عليها الأستاذ محمد عبد الله عنان في الإحاطة، الطبعة المصرية (ج 1ص 135) فقال:
«لعلها «الإشراعات»، ومفردها إشراع، أو الاشتراعات بمعنى مرسوم أو ظهير. أو لعلها إن كانت صحيحة، تعبير أندلسي قديم عن الإشراعات».
(2) النص في اللمحة البدرية (ص 4039).
(3) في اللمحة: «الأندلسي منه يقوده».
(4) في اللمحة: «أو أحظياء الدولة» والحصيّ: الرجل الوافر العقل. محيط المحيط (حصي).
(5) في اللمحة: «شبيه بزيّ جيرانهم وأمثالهم من الروم في إسباغ». والمراد بالأقتال: الذين يقاتلونهم.
(6) في اللمحة: «وجفاء».
(7) في اللمحة: «خلفهم».
(8) في اللمحة: «بسمة تخصّ سلاحه».(1/72)
ذكرنا (1)، إلى الجواشن المختصرة، والبيضات المرهفات (2)، والسّروج العربية، والبيت (3) اللّمطية، والأسل العطفية (4).
والبربري منه، يرجع (5) إلى قبائله المرينيّة، والزّناتية، والتّجانية، والمغراوية (6)
والعجيسية، والعرب المغربية إلى أقطاب ورؤوس، يرجع أمرهم إلى رئيس، على رؤسائهم، وقطب لعرفائهم، من كبار القبائل المرينيّة، يمتّ إلى ملك المغرب بنسب.
والعمائم تقلّ في زيّ أهل هذه الحضرة، إلّا ما شاد (7) في شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم، والجند العربي (8) منهم. وسلاح جمهورهم العصيّ الطويلة، المثنّاة بعصيّ صغار ذوات (9) عرى في أواسطها (10)، تدفع بالأنامل عند قذفها تسمّى «بالأمداس» وقسيّ الإفرنجة (11) يحملون على التّدريب (12) بها على الأيام.
ومبانيهم متوسطة، وأعيادهم حسنة، مائلة إلى الاقتصاد والغنى (13) بمدينتهم فاش، حتى (14) في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيرا من الأحداث، كالخفّافين (15)
ومثلهم.
وقوتهم الغالب، البرّ الطيّب، عامّة العام (16)، وربما اقتات في فصل الشتاء الضّعفة والبوادي (17) والفعلة في الفلاحة، الذّرة العربية، أمثل أصناف القطاني (18) الطيبة.
وفواكههم اليابسة عامّة العام، متعددة يدّخرون العنب سليما من الفساد إلى شطر (19)
العام إلى غير ذلك (20) من التّين، والزّبيب، والتفاح، والرّمّان، والقسطل (21)،
__________
(1) في اللمحة: «عن هذا الزيّ».
(2) في اللمحة: «المذهبة».
(3) في اللمحة: «واليلب».
(4) في اللمحة: «اللطيفة».
(5) في اللمحة: «ترجع قبائله المرينية».
(6) كلمة «والمغراوية» ساقطة في اللمحة.
(7) في اللمحة: «شذّ».
(8) في اللمحة: «الغربيّ».
(9) في اللمحة: «ذات».
(10) في اللمحة: «أوساطها».
(11) في اللمحة: «الفرنجة».
(12) في اللمحة: «التدرّب».
(13) في اللمحة: «والغناء».
(14) في اللمحة: «حتى بالدكاكين التي تجمع كثيرا من الأحداث».
(15) الخفافون: جمع خفّاف وهو بائع الأخفاف. والأخفاف جمع خفّ وهو ما يلبس في الرّجل.
محيط المحيط (خفف).
(16) كلمة «العام» ساقطة في اللمحة.
(17) في اللمحة: «الضعفة والفعلة الذرة العذبة».
(18) القطاني: جمع قطنية وهي ما يدّخر في البيت من الحبوب.
(19) في اللمحة: «إلى ثلثي العام».
(20) في اللمحة: «إلى غيره».
(21) القسطل: هو ما يقال له بالأندلس: الكستنا. الحلل السندسية (ج 1ص 290).(1/73)
والبلّوط، والجوز، واللّوز، إلى غير ذلك ممّا لا ينفد (1)، ولا ينقطع مدده إلّا في الفصل الذي يزهد في استعماله.
وصرفهم فضّة خالصة، وذهب إبريز طيّب محفوظ (2)، ودرهم مربّع الشّكل، من وزن المهدي القائم بدولة الموحّدين، في الأوقية منه سبعون درهما، يختلف الكتب فيه. فعلى عهدنا، في شقّ: «لا إله إلّا الله، محمد رسول الله» وفي شقّ آخر: «لا غالب إلّا الله، غرناطة». ونصفه وهو القيراط، في شقّ: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (2) (3). وفي شقّ: {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (4). ونصفه وهو الرّبع، في شقّ: {هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ} (5). وفي شقّ: {وَالْعََاقِبَةُ لِلتَّقْوى ََ} (6).
ودينارهم في الأوقية منه، ستة دنانير وثلثا دينار وفي الدينار الواحد ثمن أوقية وخمس ثمن أوقية. وفي شقّ منه: {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ} {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (7).
ويستدير به قوله تعالى: {وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ} (163) (8).
وفي شقّ: «الأمير عبد الله محمد بن (9) يوسف بن أمير المسلمين أبي الحجّاج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن نصر، أيّد الله أمره». ويستدير به شعار هؤلاء الأمراء: «لا غالب إلّا الله». ولتاريخ تمام هذا الكتاب، في وجّه: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) (10).
ويستدير به: «لا غالب إلا الله». وفي وجه: «الأمير عبد الله الغني بالله، محمد بن يوسف بن إسماعيل بن نصر، أيّده الله وأعانه». ويستدير بربع: «بمدينة غرناطة حرسها الله».
وعادة (11) أهل هذه المدينة الانتقال إلى حلل (12) العصير أوان إدراكه، بما تشتمل عليه دورهم، والبروز إلى الفحوص (13)
__________
(1) في اللمحة: «مما لا ينقطع مدده إلّا بفصل يزهد».
(2) هنا ينتهي النص في اللمحة البدرية.
(3) سورة الفاتحة 1، الآية 2.
(4) سورة آل عمران، 3الآية 122.
(5) سورة البقرة 2، الآية 120.
(6) سورة طه 20، الآية 132.
(7) سورة آل عمران 3، الآية: 26.
(8) سورة البقرة 2، الآية 163.
(9) قوله: «محمد بن» ساقط في الأصل، وقد أضفناه ليستقيم المعنى كما سيرد بعد أسطر.
(10) سورة آل عمران 3، الآية 200.
(11) النص في اللمحة البدرية (ص 4140).
(12) في اللمحة: «حلال». والحلل: جمع حلّة وهي المحلّة.
(13) الفحوص: جمع فحص، وقد عرّفه ياقوت بقوله: الفحص بمفهوم أهل الأندلس هو كل موضع يسكن ويزرع، سواء كان سهلا أو جبلا، ومع الزمن صار الفحص علما لعدة مواضع. معجم(1/74)
بأولادهم (1)، معوّلين في ذلك على شهامتهم وأسلحتهم، وعلى كثب دورهم (2)، واتّصال أمصارهم بحدود أرضه. وحليهم في القلائد، والدّمالج، والشّنوف (3)، والخلاخل الذّهب الخالص، إلى هذا العهد، في أولي (4) الجدّة واللجين في كثير من آلات الرّجلين، فيمن عداهم. والأحجار النفيسة من الياقوت، والزّبرجد والزّمرّد ونفيس الجوهر، كثير ممّن (5) ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظلّ دولة، أو أصالة (6)
معروفة موفّرة.
وحريمهم، حريم جميل، موصوف بالسحر (7)، وتنعّم الجسوم، واسترسال الشّعور، ونقاء الثّغور، وطيب النّشر (8)، وخفّة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المحاورة، إلّا أن الطّول يندر فيهنّ. وقد بلغن من التّفنّن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات، والتّنفيس (9) بالذّهبيّات والدّيباجيّات، والتّماجن في أشكال الحلي، إلى غاية نسأل الله أن يغضّ عنهنّ فيها، عين الدهر، ويكفكف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفيّ لطفه بعزّته وقدرته.
فصل فيمن تداول هذه المدينة من لدن أصبحت دار إمارة باختصار واقتصار
قال المؤلّف (10): أول من سكن هذه المدينة سكنى استبداد، وصيّرها دار ملكه ومقرّ أمره، الحاجب المنصور أبو مثنّى زاوي بن زيري (11) بن مناد، لمّا تغلّب جيش البربر مع أميرهم سليمان بن الحكم على قرطبة، واستولى على كثير من كور الأندلس عام ثلاثة وأربعمائة فما بعدها، وظهر على طوائف الأندلس، واشتهر أمره، وبعد صيته. ثم اجتاز البحر إلى بلد قومه بإفريقية، بعد أن ملك غرناطة سبع سنين، واستخلف ابن أخيه حبّوس بن ماكسن، وكان حازما داهية، فتوسّع النظر إلى أن مات
__________
البلدان (ج 5ص 236). وانظر أيضا دراسة مستفيضة عنه في كتاب: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 41).
(1) في اللمحة: «بأولادهم وعيالهم».
(2) في اللمحة: «على كثب عدوّهم».
(3) في اللمحة: «والخلاخيل والشنوف».
(4) في اللمحة: «ألي».
(5) في اللمحة: «فيمن ترفّع من طبقاتهم».
(6) في اللمحة: «أو أعرق أصالة موفورة».
(7) في اللمحة: «باعتدال السّمن».
(8) في اللمحة: «الشذا».
(9) في اللمحة: «والتنافس في الذهبيّات».
(10) قارن باللمحة البدرية (ص 31).
(11) ستأتي ترجمة زاوي بن زيري في هذا الجزء.(1/75)
سنة تسع وعشرين وأربعمائة (1). وولي بعده حفيده عبد الله بن بلكّين بن باديس، إلى أن خلع عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، وتصيّر أمرها إلى أبي يعقوب يوسف بن تاشفين ملك لمتونة عند تملّكه الأندلس، ثم إلى ولده عليّ بن يوسف. وتنوّب إمارتها جملة من أبناء الأمراء اللمتونيين وقرابتهم كالأمير أبي الحسن علي بن الحاجّ وأخيه موسى، والأمير أبي زكريا يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم، والأمير أبي الطّاهر تميم، والأمير أبي محمد مزدلي، والأمير أبي بكر بن أبي محمد، وأبي طلحة الزّبير بن عمر، وعثمان بن بدر اللّمتوني، إلى أن انقرض أمرهم عام أربعين وخمسمائة.
وتصيّر الأمر للموحّدين، وإلى ملكهم أبي محمد عبد المؤمن بن علي (2)، فتناوبها جملة من بنيه وقرابته، كالسيّد أبي عثمان ابن الخليفة والسّيّد أبي إسحاق ابن الخليفة والسّيّد أبي إبراهيم ابن الخليفة والسيد أبي محمد ابن الخليفة والسيد أبي عبد الله، إلى أن انقرض منها أمر الموحّدين.
وتملّكها المتوكّل على الله أمير المؤمنين أبو عبد الله محمد يوسف بن هود (3)
في عام ستة وعشرين وستمائة، ثم لم ينشب أن تملّكها أمير المسلمين الغالب بالله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي، جدّ هؤلاء الأمراء الكرام موالينا، رحم الله من درج منهم، وأعان من خلفه، إلى أن توفي عام أحد وسبعين وستمائة. ثم ولي الأمر بعده ولده وسميّه محمد بن محمد، فقام بها أحمد قيام، وتوفي عام أحد وسبعمائة.
ثم ولي بعده سميّه محمد إلى أن خلع يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، وتوفي عام أحد عشر وسبعمائة في ثالث شوّال منه. ثم ولي بعده أخوه نصر بن مولانا أمير المسلمين أبي عبد الله، فأرتب أمره، وطلب الملك اللّاحق به مولانا أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل بن فرج، فغلب على الإمارة، ثاني عشر ذي القعدة من عام ثلاثة عشر وسبعمائة وانتقل نصر إلى وادي آش مخلوعا، موادعا بها إلى أن مات عام اثنين وعشرين وسبعمائة. وتمادى ملك السلطان أمير المسلمين أبي الوليد إلى السادس والعشرين من رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، ووثب عليه بعض قرابته فقتله،
__________
(1) كذا في اللمحة البدرية (ص 31) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 229). وفي ترجمة حبوس بن ماكسن في هذا الجزء: «توفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة».
(2) حكم عبد المؤمن بن علي الموحدي المغرب سنة 524هـ. وفي سنة 541هـ ضمّ الأندلس إلى المغرب. وتوفي سنة 558هـ. ترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 79) والمعجب (ص 262، 265، 292)، والحلل الموشية (ص 107).
(3) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، مات قتلا سنة 635هـ. وسوف يترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.(1/76)
وعوجل بالقتل مع من حضر منهم. وتولّى الملك بعده ولده محمد، واستمرّ سلطانه إلى ذي الحجة من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، وقتل بظاهر جبل الفتح (1). وولي بعده أخوه مولانا السلطان أبو الحجاج لباب هذا البيت، وواسطة هذا العقد، وطراز هذه الحلية، ثم اغتاله ممرور من أخابيث السّوقة، قيّضه الله إلى شهادته، وجعله سببا لسعادته، فأكبّ عليه في الرّكعة الآخرة من ركعتي عيد الفطر، بين يدي المحراب، خاشعا، ضارعا، في الحال الذي أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد، وضربه بخنجر مهيّئ للفتك به، في مثل ذلك الوقت، كان، زعموا، يحاول شحذه منذ زمان، ضربة واحدة، على الجانب الأيسر من ظهره، في ناحية قلبه، فقضى عليه، وبودر به فقتل.
وولي الأمر بعده محمد (2)، ولده أكبر بنيه، وأفضل ذويه، خلقا وخلقا وحياء وجودا، ووقارا وسلامة وخيريّة، ودافع دولته من لا يعبأ الله به (3) ثم تدارك الأمر سبحانه، وقد أشفى، ودافع وكفى، بما يأتي في محلّه إن شاء الله. وهو أمير المسلمين لهذا العهد، متّع الله به، وأدام مدته، وكتب سعادته، وأطلق بالخير يده، وجعله بمراسيم الشريعة من العاملين، ولسلطان يوم الدين من الخائفين، المراقبين، بفضله.
وقد أتينا بما أمكن من التعريف بأحوال هذه الحضرة على اختصار. ويأتي في أثناء التّعريف برجالها كثير من تفصيل ما أجمل، وتتميم ما بدأ، وإيضاح ما خفي بحول الله تعالى.
__________
(1) جبل الفتح: هو جبل طارق، والذي سمّاه جبل الفتح هو الخليفة عبد المؤمن بن علي، حين نزل به عام 555هـ.
(2) هو السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، حكم غرناطة سنة 755هـ، ثم عزل سنة 760هـ، ثم عاد ثانية إلى الملك سنة 763هـ. اللمحة البدرية (ص 113، 129).
(3) إشارة إلى ثورة إسماعيل أخي السلطان محمد الغني بالله عليه، وانتزاعه الملك منه في رمضان سنة 760هـ.(1/77)
القسم الثاني في حلى الزّائر والقاطن والمتحرّك والسّاكن(1/78)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أحمد بن خلف بن عبد الملك الغساني القليعي (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، من جلّة أعيانها، تنسب إليه الساقية الكبرى المجاورة لطوق الحضرة إلى إلبيرة، وما والاها.
حاله: قال ابن الصّيرفي: كان الفقيه أبو جعفر القليعي، من أهل غرناطة، فريد عصره، وقريع دهره، في الخير والعلم والتّلاوة وله حزب من اللّيل، وكان سريع الدّمعة، كثير الرّواية وهو المشار إليه في كل نازلة، وله العقد والحلّ والتقدّم والسّابقة، مع منّة في جلائل الأمور، والنّهضة بالأعباء وسموّ الهمّة.
غريبة في شأنه: قال: كان باديس بن حبّوس أمير بلده يتفرّس فيه أن ملك دولته ينقرض على يديه، فكان ينصب لشأنه أكلبا، ويتملّظ بسيفه إلى قتله، فحماه الله منه بالعلم، وغلّ يده، وأغمد سيفه، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
مشيخته: روى (2) عن أبي عمر بن القطّان، وأبي عبد الله بن عتّاب، وأبي زكريا القليعي، وأبي مروان بن سراج وكان ثقة صدوقا، أخذ عنه الناس.
محنته: ولمّا أجاز أمير لمتونة يوسف بن تاشفين البحر مستدعى إلى نصر المسلمين، ثاني حركاته إلى الأندلس، ونازل حصن أليط (3)، وسارع ملوك الطوائف
__________
(1) ترجمة القليعي في مذكرات الأمير عبد الله (ص 117) والصلة (ص 124)، وجاء في الصلة أنه: «أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني».
(2) قارن بالصلة (ص 125).
(3) اختلف المؤرّخون الذين تحدّثوا عن حصار هذا الحصن في كتابة اسمه فرسموه: «ألييط» و «أليط» و «ليط» و «الليط» و «لبّيط» و «يلبط» و «يلبيط» و «ليّيط». راجع في ذلك كتاب: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 204).(1/80)
إلى المسير في جملته، كان ممّن وصل إليه الأمير عبد الله بن بلكّين بن باديس، صاحب غرناطة، ووصل صحبته الوزير أبو جعفر بن القليعي، لرغبته في الأجر مع شهرة مكانه، وعلوّ منصبه، ولنهوض نظرائه من زعماء الأقطار إلى هذا الغرض.
وكان مضرب خيام القليعي قريبا من مضرب حفيد باديس، ولمنزلته عند الأمير يوسف بن تاشفين، وله عليها الحفوف وله به استبداد وانفراد كثير وتردّد كثير، حتى نفى بذلك حفيد باديس، وأنهم عينه. قال المؤرّخ: وكيفما دارت الحال، فلم يخل من نصح لله ولأمير المسلمين.
قلت: حفيد باديس كان أدرى بدائه، قصّر الله خطانا من مدارك الشّرور. فلمّا صدر حفيد باديس إلى غرناطة، استحضره ونجهه، وقام من مجلسه مغضبا، وتعلقت به الخدمة، وحفّت به الوزعة (1) والحاشية، وهمّوا بضربه إلّا أن أمّ عبد الله تطارحت على ابنها في استحيائه، فأمر بتخليصه، وسجنه في بعض بيوت القصر فأقبل فيه على العبادة والدعاء والتّلاوة وكان جهير الصوت، حسن التّلاوة، فأرتج القصر، وسكنت لاستماعه الأصوات، وهدأت له الحركات، واقشعرّت الجلود.
وخافت أم عبد الله على ولدها، عقابا من الله بسببه، فلاطفته حتى حلّ عقاله، وأطلقه من سجنه. ولمّا تخلّص أعدّها غنيمة. وكان جزلا، قويّ القلب، شديد الجزم فقال الصّيد بغراب أكيس فاتخذ الليل جملا فطلع له الصباح بقلعة يحصب، وهي لنظر ابن عبّاد (2)، وحثّ منها السّير إلى قرطبة فخاطب منها يوسف بن تاشفين بملء فيه، بما حرّكه وأطمعه فكان من حركته إلى الأندلس، وخلع عبد الله بن بلكّين من غرناطة، واستيلائه عليها، ما يرد في اسم عبد الله وفي اسم يوسف بن تاشفين، إن شاء الله. وبدا لحفيد باديس في أمر أبي جعفر القليعي، ورأى أنه أضاع الحزم في إطلاقه، فبحث عنه من الغد، وتقصّت عنه البلدة، فلم يقع له خبر، إلى أن اتّصل به خبر نجاته، ولحاقه بمأمنه. فرجع باللائمة على أمّه، ولات حين مندم. ولم يزل أبو جعفر مدّته في دول الملوك، من لمتونة، معروف الحقّ، بعيد الصّيت والذّكر، صدر الحضرة، والمخصوص بعلوّ المرتبة إلى حين وفاته (3).
__________
(1) الوزعة: جمع الوازع وهو من يدبّر أمور الجيش، أو هو قامع الشّرّ والبغي. لسان العرب (وزع).
(2) هو المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية.
(3) في الصلة: «وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة».(1/81)
أحمد بن محمد بن أحمد بن يزيد الهمداني اللخمي
من أهل غرناطة.
حاله: كان فقيها وزيرا جليلا حسيبا حافلا.
وفاته: توفي بإلبيرة قبل الثلاثين وأربعمائة.
ذكره أبو القاسم الغافقي في تاريخه وابن اليسر في مختصره وأثنى عليه.
أحمد بن محمد بن أضحى بن عبد اللطيف بن غريب ابن يزيد بن الشّمر بن عبد شمس بن غريب الهمداني الإلبيري (1)
من نزلاء قرية همدان ذكره ابن حيّان، والغافقي، وابن مسعدة، وغيرهم فقال جميعهم: كان من أهل البلاغة، والبيان، والأدب، والشعر البارع.
مناقبه: قدم على الخليفة أبي مطرّف عبد الرحمن (2)، فقام خطيبا بين يديه، فقال (3): الحمد لله المحتجب بنور عظمته، عن أبصار بريّته، والدّال بحدوث خلقه على أوّليّته، والمنفرد بما أتقن من عجائب دهره ومنن (4) صمديّته، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده، لا شريك له، إقرارا بوحدانيته (5)، وخضوعا لعزّه (6) وعظمته. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (7)، انتخبه من أطيب (8) البيوتات، واصطفاه من أطيب البيوتات، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما لديه. وقد قبل سعيه، وأدّى أمانته، فصلّى الله عليه وسلّم تسليما. ثم إنّ الله لمّا أن بعثه (9) من أكرم خلقه، وأكرمه (10)
برسالته وأنزل عليه محكم تنزيله، واختار له من أصحابه وأشياعه مخلفا (11)، جعل
__________
(1) ترجمة أحمد بن محمد بن أضحى في الذيل والتكملة (ج 1ص 400)، وفي الحلّة السيراء (ج 1ص 228) وجاء فيه: «خالد» مكان «غريب» ثم فسّر ابن الأبار لنا ذلك عندما قال: «وخالد:
يقال له: الغريب».
(2) هو الخليفة عبد الرحمن بن محمد، المعروف بالناصر، وقد ولّي الأندلس مدة خمسين سنة (350300هـ).
(3) الخطبة في الذيل والتكملة (ج 1ص 401)، وأشار ابن الأبار إلى هذه الخطبة دون أن يذكرها.
(4) في الذيل والتكملة: «وسنن».
(5) في المصدر نفسه: «بربوبيته».
(6) في المصدر نفسه: «لعزّته».
(7) في المصدر نفسه: «عبده الأمي، ورسوله المكي».
(8) في المصدر نفسه: «من أكرم الأرومات».
(9) في المصدر نفسه: «ابتعثه».
(10) في المصدر نفسه: «وكرمه».
(11) في المصدر نفسه: «وأشياعه فمن بعدهم خلفاء».(1/82)
منهم أئمّة يهدون بالحق، وبه يعدلون فجعل الله الأمير، أعزّه الله، وارث ما خلّفوه من معاليهم (1)، وباني ما أسّسوه من مشاهدهم، حتى أمّن المسالك، وسكن الخائف، رحمة من الله، ألبسه كرامتها، وطوّقه فضيلتها (2)، {وَاللََّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (3): [الرجز]
الله (4) أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها
ثم أردف قوله بهذه الأبيات (5): [الطويل]
أيا ملكا ترمى (6) به قضب الهند ... إذا لمعت بين المغافر والزّرد (7)
ومن بأسه في منهل الموت وارد ... إذا أنفس الأبطال كلّت (8) عن الورد
ومن ألبس الله الخلافة نعمة ... به فاقت النّعمى وجلّت عن الحدّ (9)
فلو نظمت مروان في سلك فخرها ... لأصبح من مروان واسطة العقد
تجلّى على (10) الدّنيا فأجلى (11) ظلامها ... كما انجلت الظّلماء عن قمر السّعد
إمام هدى (12) أضحت به العرب غضّة (13) ... ملبّسة نورا كواشية (14) البرد
كفاني لديه أن جعلت وسائلي (15) ... ذماما (16) شآميّ الهوى مخلص الودّ
يؤكّد ما يدلي به من متانة (17) ... خلوص (18) أبيه عبدك الفارس النّجد (19)
__________
(1) في الذيل والتكملة: «معالمهم».
(2) في المصدر نفسه: «مجد فضيلتها».
(3) سورة البقرة 2، الآية 105.
(4) في المصدر نفسه: «فالله».
(5) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 1ص 403402) وورد منها فقط ستة أبيات في الحلة السيراء (ج 1ص 229).
(6) في الذيل والتكملة: «تزهى».
(7) في الأصل: «والصرد» والتصويب من المصدرين.
(8) في المصدرين: «كفّت».
(9) في المصدرين: «فاتت النّعمى فجلّت عن العدّ».
(10) في الذيل والتكملة: «عن».
(11) في المصدرين: «فجلّى».
(12) في الذيل والتكملة: «الهدى».
(13) في الحلة السيراء: «زيدت به الأرض بهجة».
(14) في المصدرين: «كموشية».
(15) في المصدرين: «وسيلتي».
(16) في الذيل والتكملة: «ذمام هشامي الهوى خالص الودّ».
(17) في الأصل: «مثابة» والتصويب من الذيل والتكملة.
(18) في الذيل والتكلمة: «لباس».
(19) في الأصل: «عبد الفارس الجند» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى، والتصويب من الذيل(1/83)
تأمّل رواه (1) والرّماح شواجر ... وخيل إلى خيل بأبطالها تردي
رأى أسدا وردا يخفّ (2) إلى الوغى ... وربّتما (3) أربى على الأسد الورد
فأنعم عليه اليوم (4) يا خير منعم ... بإظهار تشريف (5) وعقد يد عندي
ولا تشمت الأعداء أن جئت قاصدا ... إلى ملك الدّنيا فأحرم من (6) قصدي
فعند الإمام المرتضى كلّ نعمة ... وشكرا لما يلحيه (7) من نعمة عندي
فلا زال في الدّنيا سعيدا مظفّرا ... وبوّىء في دار العلى جنّة الخلد
وكان (8) من بيت سماحة (9) وفصاحة وخطابة، فعلا (10) شرفه بهذه الخصال فسجّل له على أرحية وحصن نبيل ببني هود (11) وغير ذلك، فانقلب مرعيّ الوسائل، ومقضيّ الرّسائل (12).
قال (13) المؤلّف: أرى ابن فركون قبل الست عشرة والثلاثمائة.
أحمد بن محمد بن أحمد بن هشام القرشي (14)
من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن فركون.
أوليته: وكفى بالنسب القرشي أوّليّة.
حاله من عائد الصلة: كان (15) من صدور القضاة (16) بهذا الصّقع الأندلسي، اضطلاعا (17) بالمسائل ومعرفة بالأحكام من مظانّها، كثير المطالعة والدّروب،
__________
والتكملة.
(1) في الذيل والتكملة: «فتى من رآه».
(2) في الذيل والتكملة: «يخبّ».
(3) في الأصل: «ورأيته» وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الذيل والتكملة: «في».
(5) في الذيل والتكملة: «تشريفي».
(6) في الذيل والتكملة: «في».
(7) في الذيل والتكملة: «يوليه».
(8) قارن بالذيل والتكملة (ج 1ص 403).
(9) في الذيل والتكملة: «بسالة وحماسة».
(10) في المصدر نفسه: «فإلى الخصال أشار».
(11) قوله: «ببني هود» ساقط في الذيل والتكملة.
(12) في المصدر نفسه: «مقضي المسائل».
(13) في المصدر نفسه: «وأرى ذلك كان قبل».
(14) ترجمة أحمد بن محمد، المعروف بابن فركون في تاريخ قضاة الأندلس (ص 174)، والكتيبة الكامنة (ص 101)، واللمحة البدرية (ص 64، 71)، ونيل الابتهاج (ص 39) طبعة فاس.
(15) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 175174.
(16) في تاريخ قضاة الأندلس: «صدور الفقهاء بهذا القطر الأندلسي».
(17) في المصدر نفسه: «اطّلاعا».(1/84)
وحيّ (1) الإجهاز في فصل القضايا، نافذ المقطع، كثير الاجتهاد والنّظر، مشاركا في فنون، من عربيّة، وفقه، وقراءة، وفرائض، طيّب النّغمة بالقرآن، حسن التّلاوة، عظيم الوقار، بين طبع ومكسوب، فائق الأبّهة، مزريا بمن دونه من الفقهاء، وعاقدي الشروط، مسقطا للكنى والتّجلّات، يعامل الكهول معاملة الأحداث، ويتهاون بتعاملات ذلك فيجعلها دبر أذنيه، ويسترسل في إطلاق عنان النّادرة الحارة، في مجالس حكمه، فضلا عن غيرها وجد ذلك من يحمل عليها سببا للغرض منه.
نباهته: ترشّح بذاته، وباهر أدواته، إلى قضاء المدن النّبيهة، والأقطار الشهيرة، كرندة، ومالقة، وغيرهما. ثم ولّي قضاء الجماعة، في ظلّ جاه، وضمن حرمة.
غريبة في أمره: حدث أنه كان يقرأ في شبيبته على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن مستقور (2) بكرم له خارج الحضرة، على أميال منها في فصل العصير. قال: وجّهني يوما بغلّة من الرّبّ (3) لأبيعه بالبلد، فأصابني مطر شديد، وعدت إليه بحال سيّئة، بعد ما قضيت له وطره وكان له أخ أسنّ منه، فعاتبه في شأني، وقال له: تأخذ صبيّا ضعيفا يأتيك لفائدة يستفيدها، وتعرّضه لمثل هذه المشقّة، في حقّ مصلحتك، ليس هذا من شيم العلماء، ولا من شيم الصّالحين. فقال له: دعه، لا بدّ أن يكون قاضي الجماعة بغرناطة فكان كذلك، وصدقت فراسته، رحمه الله تعالى.
مشيخته: قرأ بالقرية على الأستاذ أبي القاسم بن الأصفر وبغرناطة على العالم القاضي أبي الحسن محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري، وعلى الشيخ المفتي أبي بكر محمد بن أبي إبراهيم بن مفرّج الأوسي بن الدبّاغ الإشبيلي، وعلى الخطيب الزاهد أبي الحسن العدّال، وعلى الأستاذ النّحوي أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف بن الصّايغ بالصاد المهملة، والغين المعجمة، وعلى الأستاذ أبي الحسن الأبّدي (4) وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي، عرف بابن مستقور.
ولمّا دالت الدولة، كان له في مشايعة مخلوعها أمور اقتضتها منه أريحيّة وحسن وفاء، أوجبت عليه الخمول بعد استقرار دائلها السلطان أبي الوليد، رحمه الله
__________
(1) الوحيّ: العجل المسرع. محيط المحيط (وحى).
(2) هو المقرئ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي، المعروف بمستقور، حسبما جاء في تاريخ قضاة الأندلس (ص 175).
(3) الرّبّ: بقايا كلّ ثمرة بعد اعتصارها. لسان العرب (ربب).
(4) نسبة إلى أبّدة أو أبّذة، وهي مدينة صغيرة بالأندلس على مقربة من النهر الكبير، بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي بالإسبانية. الروح المعطار (ص 6).(1/85)
وأصابته أيام الهيج محن، ونسبت إليه نقائص زوّرتها حسدته، فصرف عن القضاء وبقي مدّة مهجور الفناء، مضاع المكان، عاطل الدّولة، منتبذا في مليك له خارج الحضرة، ينحني على خرثيّ (1) ساقط القيمة، ودفاتر ساقطة الثمن، يتعلّل بعلالتها، ويرجى الوقت بيسيرها.
حدّثني الوزير أبو بكر بن الحكيم، قال: زرته في منزله بعد عزله، ونسبة الأمور التي لا تليق بمثله، فأنشدني بما ينبئ عن ضجره وضيق صدره:
[المجتث]
أنا من الحكم تائب ... وعن دعاويه هارب (2)
بعد التّفقّه عمري (3) ... ونيل أسنى المراتب
وبعد ما كنت أرقى ... على المنابر خاطب (4)
أصبحت أرمى بعار ... للحال غير مناسب
أشكو إلى الله أمري ... فهو المثيب المعاقب
وثبت اسمه في التاريخ المسمّى «بالتاج» تأريخي بما نصّه:
شيخ الجماعة وقاضيها، ومنفّذ الأحكام وممضيها، وشايم (5) سيوفها الماضية ومنتضيها، رأس بفضيلة نفسه، وأحيا دارس رسم القضاء بدرسه، وأودع في أرض الاجتهاد، بذر السّهاد، فجنى ثمرة غرسه إلى وقار يودّ رضوى رجاحته، وصدر تحسد الأرض الغبيطة ساحته، ونادرة يدعوها فلا تتوقّف، ويلقى عصاها فتتلقّف ولم يزل يطمح بأمانيه، ويضطلع بما يعانيه، حتى رفع إلى الرّتبة العالية، وحصل على الحال الحالية وكان له في الأدب مشاركة، وفي قريض النظم حصّة مباركة. انتهى إليّ قوله يهنّئ السلطان أبا عبد الله بن نصر (6)، بالإبلال من مرض في اقتران بعيد وفتح، وذلك (7): [الطويل]
شفاؤك للملك اعتزاز وتأييد ... وبرؤك مولانا به عندنا (8) عيد
__________
(1) الخرثيّ: أردأ المتاع أو أثاث البيت. محيط المحيط (خرث).
(2) في الكتيبة الكامنة: «راغب».
(3) في المصدر نفسه: «دهري».
(4) هذا البيت ساقط في الكتيبة.
(5) شام السيف: انتضاه.
(6) هو سلطان الأندلس أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، ثالث سلاطين بني نصر. اللمحة البدرية (ص 60).
(7) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 102).
(8) في الأصل: «عيدنا» والتصويب من الكتيبة الكامنة.(1/86)
مرضت فلم تأو النّفوس لراحة ... ولا كان للدّنيا قرار وتمهيد
ولم تستطع عيني تراك مؤلّما (1) ... ولازمها طول اعتلالك تسهيد
وشعره مختلف عن نمط الإجادة التي تناسب محلّه في العلم، وطبقته في الإدراك فاختصرته.
مولده: عام تسعة وأربعين وستمائة.
وفاته: في السادس عشر لذي القعدة عام تسعة وعشرين وسبعمائة. ذكرته في كتاب «عائد الصّلة» قاضيا، وفي كتاب «التّاج المحلى» قاضيا أديبا. وذكره أبو بكر بن الحكيم (2) في كتاب «الفوائد المستغربة، والموارد المستعذبة» من تأليفه.
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جزيّ الكلبي (3)
من أهل غرناطة، ويعرف بابن جزيّ. أوليّته معروفة، وأصالته شهيرة، تنظر فيما مرّ من ذلك عند ذكر سلفه، وفيما يأتي في ذلك، بحول الله وقوته.
حاله: من أهل الفضل والنّزاهة، والهمّة، وحسن السّمة، واستقامة الطّريقة، غرب في الوقار، ومال إلى الانقباض، وترشّح إلى رتب سلفه. له مشاركة حسنة في فنون، من فقه وعربيّة، وأدب، وحفظ، وشعر، تسمو ببعضه الإجادة، إلى غاية بعيدة.
مشيخته: قرأ على والده الخطيب أبي القاسم، ولازمه، واستظهر ببعض موضوعاته، وتأدّب به وقرأ على بعض معاصري أبيه، وروى، واستجلب له أبوه كثيرا من أهل صقعة وغيرهم.
نباهته: ثم أرسم في الكتابة السلطانية لأوّل دولة السابع من الملوك النّصريين، منفق سوق الحلية من أبناء جنسه، أبي الحجاج بن نصر، فورى زنده، ودرّت أحلاب قريحته، وصدر له في مدائحه شعر كثير. ثم تصرّف في الخطط الشّرعية، فولّي القضاء ببرجة، ثم بأندرش، وهو الآن قاضي مدينة وادي آش، مشكور السّيرة،
__________
(1) في الأصل: «ولم تصبر عيني تود مولما» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(2) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن الحكيم اللخمي. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(3) ترجمة ابن جزي في الكتيبة الكامنة (ص 138)، ونفح الطيب (ج 8ص 61)، وأزهار الرّياض (ج 3ص 187).(1/87)
معروف النّزاهة، أعانه ذلك وسوّده، وبلغ به رتبة سلفه. وجرى ذكره في كتاب التّاج بما نصّه:
«فاضل تحلّى بالسكينة والوقار، فمدّت إليه رقاب سلفه يد الافتقار، ما شئت من هدوء وسكون، وجنوح إلى الخير وركون، عني بالمحافظة على سمته من لدن عقل، ولزم خدمة العلم فما عاد ولا انتقل، ووجد من أبيه رحمه الله مرعى خصيبا فابتقل، وعمل على شاكلة سلفه في سلامة الجانب، وفضل المذاهب، وتحلّى بتلك المآثر وتوشّح، وتأهّل إلى الرّتب في سنّن الشّبيبة وترشّح وله مع ذلك في لجّة الفقه سبح، وعلى بعض موضوعات أبيه شرح وأدبه ساطع، وكلامه حسن المقاطع. فمن ذلك ما كتب به إليّ، وقد خاطبت ما أمكن من نظمه (1): [المتقارب]
فديتك يا سيّدي مثلما ... فداك الزمان الذي زنته
وقوله في المقطوعات من ذلك في معنى التورية (2): [الخفيف]
كم بكائي لبعدكم وأنيني (3) ... من ظهيري على الأسى من معيني
جرّح (4) الخدّ دمع عيني ولكن ... عجب (5) أن يجرّح ابن معين
وقال في الغنى (6): [الطويل]
أرى الناس يولون الغنيّ كرامة ... وإن لم يكن أهلا لرفعة مقدار
ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإن كان أهلا أن يلاقى بإكبار
بنو الدّهر جاءتهم أحاديث جمّة ... فما صحّحوا إلّا حديث ابن دينار (7)
ومن بديع ما صدر عنه، قوله ينسج على منوال امرئ القيس في قصيدته الشهيرة (8): [الطويل]
أقول لحزمي (9) أو لصالح أعمالي ... (ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي)
__________
(1) البيت، ضمن أربعة أبيات، في الكتيبة الكامنة (ص 142).
(2) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 143).
(3) في الكتيبة الكامنة: «كم أنيني».
(4) في الأصل: «جراح» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(5) في الكتيبة: «لا عجيب إن».
(6) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 143)، ونفح الطيب (ج 8ص 6261)، وأزهار الرياض (ج 3ص 188).
(7) المراد حبّ الناس للمال.
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 142139)، ونفح الطيب (ج 8ص 6462) وورد منها فقط بيتان في أزهار الرياض (ج 3ص 182).
(9) في النفح وأزهار الرياض: «لعزمي».(1/88)
أما واعظي شيب سما فوق لمّتي ... (سموّ حباب الماء حالا على حال)
أنار به ليل الشّباب كأنه ... (مصابيح رهبان تشبّ لقفّال)
نهاني عن غيّ وقال منبّها ... (ألست ترى السّمّار والناس أحوالي)؟
يقولون غيّره لتنعم برهة ... (وهل يعمن (1) من كان في العصر الخالي)؟
أغالط (2) دهري وهو يعلم أنني ... (كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي)
ومؤنس نار الشّيب يقبح لهوه ... (بآنسة كأنّها خطّ تمثال) (3)
أشيخا وتأتي فعل من كان عمره ... (ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال)
وتشغفك الدّنيا وما إن شغفتها ... (كما شغف المهنوءة الرجل الطّالي)
ألا إنّها الدنيا إذا ما اعتبرتها ... (ديار لسلمى عافيات بذي خال)
فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... (لناموا فما إن من حديث ولا صال)
ذهلت بها غيّا (4) فكيف الخلاص من ... (لعوب تنسّيني إذا قمت سربالي)
وقد علمت مني مواعيد توبتي ... (بأنّ الفتى يهذي وليس بفعّال)
ومذ وثقت نفسي بحبّ محمد ... (هصرت بغصن ذي شماريخ (5) ميّال)
وأصبح شيطان الغواية خاسئا ... (عليه قتام (6) سيّء الظّنّ والبال)
ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... (لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال)
فأنزل دارا للنّبيّ (7) نزيلها ... (قليل هموم ما يبيت بأوجال)
فطوبى لنفس جاورت خير مرسل ... (بيثرب أدنى دارها نظر عالي)
ومن (8) ذكره عند القبول تعطّرت ... (صبا وشمأل في منازل قفّال)
جوار رسول الله مجد مؤثّل ... (وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي)
ومن (9) ذا الذي يثني عنان السّرى وقد ... (كفاني، ولم أطلب، قليلا من المال) ألم تر أنّ الظّبية استشفعت به ... (تميل عليه هونة غير مجفال)
__________
(1) في الأصل: «يعمن به» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين. وعمن بالمكان: أقام به. لسان العرب (عمن).
(2) في الكتيبة: «أخالط».
(3) أراد كأنها تمثال من العاج.
(4) في الكتيبة: «عنّا».
(5) الشماريخ: جمع شمروخ وهو العنقود. لسان العرب (شمرخ).
(6) في ديوان امرئ القيس (ص 32)، والكتيبة الكامنة: «القتام». والقتام: الغبار.
(7) في النفح وأزهار الرياض: «للرسول».
(8) في الكتيبة: «فمن».
(9) في الكتيبة: «وماذا الذي».(1/89)
وقال لها عودي فقالت له نعم ... (ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي)
فعادت إليه والهوى قائل لها ... (وكان عداء الوحش مني على بالي)
رثى (1) لبعير قال أزمع مالكي ... (ليقتلني والمرء ليس بفعّال)
وثور ذبيح بالرسالة شاهد ... (طويل القرا (2) والرّوق أخنس ذيّال)
وحنّ إليه الجذع حنّة عاطش ... (لغيث من الوسميّ رائده خالي)
وأصلين من نخل قد التأما له ... (فما (3) احتبسا من لين مسّ وتسهال)
وقبضة (4) ترب منه ذلّت لها الظّبا ... (ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
وأضحى ابن جحش بالعسيب مقاتلا ... (وليس بذي رمح وليس بنبّال)
وحسبك من سيف (5) الطّفيل إضاءة ... (كمصباح زيت في قناديل ذبّال)
وبذّت (6) به العجفاء كلّ مطهّم ... (له حجبات مشرفات على الفال)
ويا خسف أرض تحت باغيه إذ علا ... (على هيكل نهد الجزارة جوّال)
وقد أخمدت نار لفارس طالما ... (أصابت غضى جزلا وكفّت بأجزال) (7)
أبان سبيل الرّشد إذ سبل الهدى ... (يقلن لأهل الحلم ضلّا بتضلال)
لأحمد خير العالمين انتقيتها ... (ورضت (8) فذلّت صعبة أيّ إذلال)
وإنّ رجائي أن ألاقيه غدا ... (ولست بمقليّ الخلال ولا قالي)
فأدرك آمالي وما كلّ آمل ... (بمدرك أطراف الخطوب ولا والي) (9)
ولا خفاء ببراعة هذا النّظم، وإحكام هذا النّسج، وشدّة هذه العارضة. وله تقييد في الفقه على كتاب والده، المسمّى بالقوانين الفقهية، ورجز في الفرائض يتضمّن العمل. وإحسانه كثير. وتقدم قاضيا بحضرة غرناطة، وخطيبا بمسجد السلطان، ثامن شوّال من عام ستين وسبعمائة. ثم انصرف عنها، وأعيد إليها في عام ثلاثة (10) وستين، موصوفا بالنّزاهة والمضاء.
مولده: في الخامس عشر من جمادى الأولى عام خمسة عشر وسبعمائة، وهو الآن بقيد الحياة.
__________
(1) في الكتيبة: «وما».
(2) كذا في ديوان امرئ القيس، وفي الكتيبة: «القوى».
(3) في الديوان والكتيبة: «بما».
(4) في النفح: «وقبة».
(5) في الكتيبة والنفح: «سوط».
(6) في الكتيبة: «وبزّت».
(7) في الديوان والنفح: «بأجذال».
(8) في النفح: «وريضت».
(9) في الديوان والنفح: «ولا آل».
(10) في الأصل: «ثلاث» وهو خطأ نحوي.(1/90)
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن سعدة بن سعيد بن مسعدة بن ربيعة بن صخر ابن شراحيل بن عامر بن الفضل بن بكر بن بكّار بن البدر ابن سعيد بن عبد الله العامري
يكنى أبا جعفر، من أهل غرناطة.
أوّليته: عامر الذي ينتسبون إليه، عامر بن صعصعة بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
ومن مناقبهم: ميمونة أم المؤمنين، زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن عامر من أصحابه، وعاصم بن عبد الله الجعلي، ويزيد بن الحميري، وغيرهم، منزل جدّهم الداخل إلى الأندلس، وهو بكر بن بكّار بن البدر بن سعيد بن عبد الله، قرية طغنر من إقليم براجلة ابن خريز من إلبيرة.
قال ابن الصيرفي في تاريخه الصغير: منزل بني مسعدة، موضع كرم ومحمدة، ينتسبون في عامر، وهم أعيان علية، فرسان أكابر، وحجّاب وكتّاب ووزراء، ولهم سابقات ومفاخر، وأوائل وأواخر. ومنهم على القدم جليل ونبيه، ومنهم كان وضيع بن جرّاح الفقيه، لم يدخل أحد منهم في الفتنة يدا، ولا تأذّى مسلما، ولا معاهدا (1)، على قدرتهم على ذلك، وكفى به فخرا لا ينقطع أبدا. ودخل جدّهم الأندلس بعقد بني مروان له، سنة أربع وتسعين من الهجرة. ويأتي من ذكر أعلامهم ما يدلّ على شرف بيتهم، وأصالته، وعلوّه وجلالته.
حاله: كان صدرا جليلا، فقيها مضطلعا، من أهل النّظر السّديد والبحث، قائما على المسائل، مشاركا في كثير من الفنون، جزلا مهمّا، جاريا على سنن سلفه، ريّان من العربية. وختم سيبويه تفقّها، وقرأ الفقه، واستظهر كتاب التّلقين، ودرس الأحكام الجيدة، وعرضها في مجلس واحد، وقرأ أصول الفقه، وشرح المستصفى شرحا حسنا، وقرأ الإرشاد والهداية، وكان صدرا في الفرائض والحساب، وألّف تاريخ قومه وقرابته.
__________
(1) المعاهد: هو المستعرب،، الذي كان يعيش في ظل الحكومة الإسلامية بالأندلس.(1/91)
ولايته: ولّي القضاء بمواضع من الأندلس كثيرة من البشارات (1)، أقام بها أعواما خمسة ثم لوشة، وأقام بها ثلاثة أعوام ثم بسطة وبرشانة. ثم انتقل إلى مالقة وأقام بها أعواما خمسة. نبّهت على مقدار الإقامة لما في ضمن طول سني الولاية من استقامة أمر الوالي. وكان له من أمير المسلمين بالأندلس حظوة لطيفة لم تكن لغيره، استنزلها بسحر التلطّف، وخطبها بلسان التّملّق حتى استحكمت له أسبابها.
حدّثني بعض أشياخي ممّن كان يباشر مال السلطان يومئذ، قال: وجّه ابن مسعدة ابنه من مالقة، بكتاب في بعض الأغراض الضرورية، ثم رغب فيه أن ينعم على ولده بالمشافهة لإلقاء أمر ينوب عنه فيه، فلما حضر تناول رجل السلطان فقبّلها، وقال: أمرني أبي أن أنوب في تعفير الوجه، في هذه الرّجل الكريمة الجهاديّة عنه خاصّة لبعد عهده بها، إلى أمثال هذا مما اقتضت الانتفاع بعاجل من الدّنيا زهيد، لا يدري ما الله صانع فيه، والإبقاء بما تجاوز الإفراط في تقدّمه بمالقة، بعده دار الأعلام، وديوان العقد، وهو حدث خليّ من العلم، قريب العهد بالبلوغ، فكانت على أنها غاية الصّدور ملعبا، إلى أن ضرب الدهر ضرباته، وانتقلت الحال.
مشيخته: أولهم قاضي الجماعة أبو الحسن بن أبي عامر بن ربيع، وثانيهم القاضي أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع، وثالثهم أبو يحيى بن عبد المنعم الخزرجي، ورابعهم العدل الرّاوية أبو الوليد العطّار، وخامسهم أبو إسحاق بن إبراهيم بن أحمد الخشني، وسادسهم الأستاذ أبو الحسن الكناني الإشبيلي، وسابعهم محمد بن إبراهيم بن مفرّج الأوسي الدبّاغ، وثامنهم أبو جعفر أحمد بن علي الرّعيني، وتاسعهم أبو علي بن أبي الأحوص.
وصمته: فروى الناس أنه وجد بخزانته بعد وفاته زمام يشتمل على مثالب أهل غرناطة، مما يحدث على الأيام في أفرادهم من فلتات يجريها عدم الاتّصاف بالعصمة. استقرّ عند ولده الفضل، زعموا، ثم خفي أثره، ستر الله عيوبنا برحمته.
وفاته: توفي بمالقة قرب صلاة المغرب، يوم الأحد الموفّي عشرين لذي الحجة عام تسعة وتسعين وستمائة، ودفن بخارج باب قبالة في مالقة المذكورة بمقربة من رابعة بني عمّار، وبالروضة المنسوبة لبني يحيى، نقلت من خط ولده الفضل.
__________
(1) البشارات: بالإسبانية، وهي المنطقة الجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل شلير. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 46).(1/92)
أحمد بن محمد بن أحمد بن قعنب الأزدي
يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن قعنب.
أوّليّته: ذكر الأستاذ ابن الزّبير في «صلته» وغيره، أن قوما بغرناطة يعرفون بهذه المعرفة، فإن كان منهم، فله أوّليّة لا بأس بها.
حاله: كان من شيوخ كتّاب الشّروط معرفة بالمسائل، واضطلاعا بالأحكام، وانفرد بصحّة الوثيقة، باقعة (1) من بواقع زمانه، وعيّابة (2) في مشايخ قطره، يألف النّادرة الحارّة في ملاء من النّوك والغفلة، فلا يهتزّ لموقع نادرة، ولا يضحك عقب عقد صرعة، لقلقه غير ما مرة، غير مجلس من مجالس القضاء من بني مسعود المزراة أحكامهم، المرميّة بتهكّمه وإزرائه، فتقتّع (3) في طريق حكمهم خطى منفسحة، غير مكترث بهوانه، ولا غاصّ بلسانه. وربما قال لبعض الوزعة (4) من قادته بمحبسه، وقد توقّفوا به في بعض الطريق، توقّعا لسكون غضب قاضيهم، ابعثوا بعضهم إلى هذا المحروم، لنرى ما عزم عليه، بكلام كثير الفتور والاستكانة، له في هذا الباب شهرة.
ذكر بعض نزعاته: حدّثني ملازمه، وقف عليه، أبو القاسم بن الشيخ الرئيس أبي الحسن بن الجيّاب، وقد أعمل والده، رحلة إلى مالقة لزيارة شيخه الذي تلمذ له، وشهر بالتشيّع فيه، أبي عبد الله السّاحلي، صاحب الأتباع والطريقة، وكان مفرط الغلوّ فيه، واستصحب ولده الصغير، فسأله عن سفر أبيه وسعيه، فقال: نعم، واحتمل أخي، فقال: أظنه منذر ولد كان غير مغتطس، فحمله الشيخ، فغطّسه، واستغرب كلّ من حضر ضحكا، فلم يبتسم هو كأنه لا شعور عنده بما ذهب إليه، فكانت إحدى الطّوام عند الشيخ.
وحدّثني، قال: جاءت امرأة تخاصم ميّارا (5)، أوصلها من بعض المدن، في أمر نشأ بينهما، وبيده عقد، فقال بعض جيرانه، من نصّه حاكيا: «وأنه جامعها من موضع كذا إلى كذا» ولم يرسم المدّ على ألف «جا»، فقال الشيخ للمرأة: أتعرفين أن هذا الميّار جامعك في الطريق أي فعل بك، فقالت: معاذ الله، ونفرت من ذلك،
__________
(1) الباقعة: الشديد الدهاء والذكي العارف لا يفوته شيء. لسان العرب (بقع).
(2) العيّابة: الكثير العيب للناس. لسان العرب (عيب).
(3) تقتّع: ذلّ. لسان العرب (قتع).
(4) الوزعة: جمع وازع وهو الذي يدبّر أمور الجيش. لسان العرب (وزع).
(5) الميار: الذي يجمع الميرة. لسان العرب (مير).(1/93)
فقال: كذا شهد عليك الفقيه، وأشار إلى جاره. ومثل ذلك كثير. ولّي القضاء بأماكن عديدة كلوشة، وبسطة، والمسند، وبرجة، وأرجبة، وغير ذلك.
مشيخته: يحمل عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والخطيب الصالح أبي عبد الله بن فضيلة، وأبي محمد بن سماك، وأبي الحسن بن مستقور.
مولده: عام سبعين وستمائة. توفي قاضيا ببرجة بعد علّة سدكت (1) به في السادس عشر من شعبان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، وانتقل منها في وعاء خشب.
ودفن بمقبرة إلبيرة، تجاوز الله عنه ورحمه.
أحمد بن محمد بن سعيد بن زيد الغافقي
من أهل غرناطة، وجلّة بيوتها، ويأتي من ذكر ذلك ما فيه كفاية.
حاله: هذا الرجل ممّن صرفت إلى الله رجعاه، وخلصت له معاملته، وخلص إليه انقطاعه. نازع في ذلك نفسا جامحة في الحزم، عريقة في الغفلة، فكتب الله له النصر عليها دفعة، فشمّر وفوّت الأصول للحضرة في باب الصّدقة، ونبذ الشواغل، وحفظ كتاب الله على الكبرة، واستقبل المحراب، ملغيا سواه، درأ به، فاتّفق على فضله، وغبط في حسن فيئته. وله ديوان نبيل يتضمّن كثيرا من فقه النفس والبدن، دلّ على نبله، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد. نفعه الله تعالى.
مولده: بغرناطة عام تسعين وستمائة.
أحمد بن أبي سهل بن سعيد بن أبي سهل الخزرجي
من أهل الحمّة (2)، يكنى أبا جعفر.
حاله: من أهل الخير والعفاف والطهارة والانقباض، والصحة والسّلامة، أصيل البيت، معروف القدم ببلده، حرّ النادرة، قرأ بالحضرة، واجتهد، وحصّل ولازم الأستاذ أبا عبد الله الفخّار وغيره من أهل عصره. وولّي القضاء ببلدة الحمّة، ثم بغربي مالقة. وهو الآن قاض بها، مشكور السّيرة.
__________
(1) سدكت به: لازمته. لسان العرب (سدك).
(2) الحمة أو الحامة: بالإسبانية، وهي من مدن غرناطة، وتقع غربيّ غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة، استولى عليها الإسبان سنة 887هـ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 60).(1/94)
أحمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله ابن ورد التميمي
من أهل ألمريّة. يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن ورد.
حاله: قال الملّاحي: كان من جلّة الفقهاء المحدّثين. قال ابن الزّبير كذلك، وزاد: موفور الحظّ من الأدب والنحو والتاريخ، متقدّما في علم الأصول والتّفسير، حافظا متقنا، ويقال إن علم المالكيّة انتهت إليه الرياسة فيه، وإلى القاضي أبي بكر بن العربي، في وقتهما، لم يتقدّمهما في الأندلس أحد بعد وفاة أبي الوليد بن رشد.
قال: أخبرني الثّقة أبو عبد الله بن جوبر عن أبي عمر بن عات، قال: حديث ابن العربي، اجتمع بابن ورد، وتبايتا ليلة، وأخذا في التّناظر والتذاكر، فكانا عجبا. يتكلّم أبو بكر فيظن السامع أنه ما ترك شيئا إلّا أتى به، ثم يجيبه أبو القاسم بأبدع جواب ينسي السامعين ما سمعوا قبله. وكانا أعجوبتي دهرهما. وكان له مجلس يتكلّم فيه على الصّحيحين، ويخصّ الأخمسة بالتفسير.
حلوله غرناطة: قال المؤرّخون: ولّي قضاء غرناطة سنة عشرين، فعدل وأحسن السّيرة، وبه تفقّه طلبتها إذ ذاك.
مشيخته: روي عن أبي علي الغسّاني، وأبي الحسن بن سراج، وأكثر عنه، وأبي بكر بن سابق الصقيلي، وأبي محمد بن عبد الله بن فرج، المعروف بالعسّال الزّاهد، ولازمه، وهو آخر من روى عنه. ورحل إلى سجلماسة، وناظر عند ابن العوّاد. وروي أيضا عن أبي الحسن المبارك، المعروف بالخشّاب، وكان الخشّاب يحمل عن أبي بكر بن ثابت الخطيب وغيره.
من روى عنه: وروى عنه جماعة كأبي جعفر بن الباذش، وأبي عبيد الله، وابن رفاعة، وابن عبد الرحيم، وابن حكيم وغيرهم. وآخر من روى عنه، أبو القاسم بن عمران الخزرجي بفاس.
وفاته: توفي بألمريّة في الثاني عشر لرمضان سنة أربعين وخمسمائة.
أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن علي الأموي (1)
يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن برطال، أصله من قرية تعرف بحارة البحر من وادي طرّش نصر، حصن منتماس من شرقي مالقة، من بيت خير وأصالة،
__________
(1) ترجمة أحمد بن محمد الأموي، المعروف بابن برطال، في تاريخ قضاة الأندلس (ص 185)، والكتيبة الكامنة (ص 125)، واللمحة البدرية (ص 148).(1/95)
وانتقل سلفه إلى مالقة، فتوشّجت لهم بها عروق، وصاهروا إلى بيوتات نبيهة.
حاله: كان من أهل الخير، وكان على طريقة مثلى من الصّمت، والسّمت، والانقباض، والذكاء، والعدالة والتخصّص، محوّلا في الخير، ظاهر المروءة، معروف الأصالة، خالص الطّعمة، كثير العفّة، مشهور الوقار والعفاف، تحرّف بصناعة التوثيق على انقباض.
دخوله غرناطة: تقدّم قاضيا بغرناطة، بعد ولاية القضاء ببلده، وانتقل إليها، وقام بالرّسم المضاف إلى ذلك، وهو الإمامة بالمسجد الأعظم منها، والخطابة بجامع قلعتها الحمراء واستقلّ بذلك إلى تاسع جمادى الثانية من عام أحد وأربعين وسبعمائة، على قصور في المعارف، وضعف في الأداة، وكلال في الجدّ، ولذلك يقول شيخنا أبو البركات بن الحاج (1): [الرمل]
إنّ تقديم ابن برطال دعا ... طالب (2) العلم إلى ترك الطّلب
حسبوا الأشياء عن (3) أسبابها ... فإذا الأشياء عن غير سبب
إلّا أنه أعانته (4) الدربة والحنكة على تنفيذ الأحكام، فلم تؤثر عنه فيها أحدوثة، واستظهر بجزالة أمضت حكمه، وانقباض عافاه عن الهوادة، فرضيت سيرته، واستقامت طريقته.
مشيخته: لقي والده، شيخ القضاة، وبقيّة المحدّثين، وله الرواية العالية، والدرجة الرفيعة، حسبما يأتي في اسمه، ولم يؤخذ عنه شيء فيما أعلم.
شعره: أنشدني الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، قال: أنشدني القاضي أبو جعفر بن برطال لنفسه، مودّعا في بعض الأسفار (5):
[الكامل]
أستودع اللهمّ (6) من لوداعهم ... قلبي وروحي إذ دنى لوداعي (7)
__________
(1) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص 185)، والكتيبة الكامنة (ص 126).
(2) في المصدرين السابقين: «طالبي».
(3) في الكتيبة الكامنة: «من».
(4) في الأصل: «أعانه». وفي تاريخ قضاة الأندلس: «فأعنته».
(5) البيتان الأول والثاني في الكتيبة الكامنة (ص 126).
(6) في الأصل: «الله» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة: «الرحمن».
(7) في الأصل: «دنى الوداع» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة: «قلبي وصبري آذنا بوداع.(1/96)
بانوا وطرفي (1) والفؤاد ومقولي ... باك ومسلوب العزاء وداع
فتولّ يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرّقنا فراق وداع
وفاته: توفي، رحمه الله وعفا عنه، أيام الطاعون الغريب (2) بمالقة، في منتصف ليلة الجمعة خامس صفر عام خمسين وسبعمائة (3)، وخرجت جنازته في اليوم التالي، ليلة وفاته في ركب من الأموات، يناهز الألف، وينيف بمائتين، واستمرّ ذلك مدة، وكان مولده عام تسعة وثمانين وستمائة، رحمه الله تعالى.
أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي (4)
بلنسي شقوري الأصل، يكنى أبا مطرّف.
أوّليّته: لم يكن من بيت نباهة ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل، كان حقه التجافي عنه، لو وفّق.
حاله: قال ابن عبد الملك (5): كان أوّل طلبه العلم شديد العناية بشأن الرواية، فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله، وتفنّن (6) في العلوم، ونظر في العقليّات (7) وأصول الفقه، ومال إلى الأدب (8) فبرع فيه (9) براعة عدّ بها من كبار مجيدي النّظم. وأما (10) الكتابة، فهو (11) علمها المشهور، وواحدها الذي (12) عجزت عن ثانيه (13) الدّهور، ولا سيما في مخاطبة الإخوان، هنالك استولى على أمد الإحسان، وله المطوّلات المنتخبة، والقصار المقتضبة، وكان يملح كلامه نظما ونثرا بالإشارة إلى التاريخ (14)، ويودعه إلماعات بالمسائل (15) العلمية
__________
(1) في الكتيبة: «فطرفي».
(2) أسماه النباهي في تاريخ قضاة الأندلس (ص 185): «الطاعون الكبير».
(3) جاء في اللمحة البدرية (ص 104) أنه سدّد الخطة وأجرى الأحكام إلى الرابع من شهر ربيع الآخر عام 743هـ.
(4) ترجمة ابن عميرة في الذيل والتكملة (ج 1ص 150) وجاء فيه: «أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن عميرة المخزومي»، وبغية الوعاة (ص 137)، وأزهار الرياض (ج 5ص 65).
(5) الذيل والتكملة (ج 1ص 152).
(6) في الذيل والتكملة: «ثم تفنن».
(7) في الذيل والتكملة: «المعقولات».
(8) في الذيل والتكملة: «الآداب».
(9) في الذيل والتكملة: «فيها».
(10) في الذيل والتكملة: «فأما».
(11) في الذيل والتكملة: «فإنه».
(12) في الذيل والتكملة: «التي».
(13) في الذيل والتكملة: «عن الإتيان بثانيه الدهور».
(14) في الذيل والتكملة: «التواريخ».
(15) في الذيل والتكملة: «بمسائل علمية».(1/97)
منوّعة المقصد (1). قلت: وعلى الجملة، فذات أبي المطرّف فيما ينزع إليه، ليست من ذوات الأمثال، فقد كان نسيج وحده، إدراكا وتفنّنا، بصيرا بالعلوم، محدّثا، مكثرا، راوية ثبتا، سجرا في التاريخ والأخبار، ريّان، مضطلعا بالأصلين، قائما على العربية واللغة، كلامه كثير الحلاوة والطّلاوة، جمّ العيون، غزير المعاني والمحاسن، وافد أرواح المعاني، شفّاف اللفظ، حرّ المعنى، ثاني بديع الزمان، في شكوى الحرفة، وسوء الحظ، ورونق الكلام، ولطف المأخذ، وتبريز النثر على النظم، والقصور في السّلطانيات.
مشيخته: روى عن أبي الخطاب بن واجب، وأبي الربيع بن سالم، وأبي عبد الله بن فرج وأبي علي الشّلوبين، وأبي عمر بن عات، وأبي محمد بن حوط الله، لقيهم، وقرأ عليهم، وسمع منهم، وأجازوا له وأجاز له من أهل المشرق أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج وغيره.
من روى عنه: روى عنه ابنه القاسم، وأبو بكر بن خطّاب، وأبو إسحاق البلقيني الحفيد، والحسن بن طاهر بن الشّقوري، وأبو عبد الله البرّي. وحدّث عنه أبو جعفر بن الزّبير، وابن شقيف، وابن ربيع، وغيرهم مما يطول ذكره.
نباهته: صحب أبا عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن خطّاب قبل توليته ما تولّى من رياسة بلده، وانتفع به كثيرا وكتب عن الرئيس أبي جميل زيّان بن سعد وغيره من أمراء شرق الأندلس. ثم انتقل إلى العدوة (2)، واستكتبه الرشيد أبو محمد عبد الواحد بمراكش، مدة يسيرة ثم صرفه عن الكتابة وولّاه قضاء مليانة من نظر مرّاكش الشرقي، فتولّاه قليلا، ثم نقله إلى أقصى رباط الفتح. وتوفي الرشيد، فأقرّه على ذلك الوالي بعده، أبو الحسن المعتضد أخوه ثم نقله إلى قضاء مكناسة الزّيتون ثم لمّا قتل المعتضد لحق بسبتة، وجرى عليه بطريقها ما يذكر في محنته. ثم ركب البحر منها متوجّها إلى إفريقية، فقدم بجاية على الأمير أبي زكريا يحيى بن الأمير أبي زكريا. ثم توجّه إلى تونس فنجحت بها وسائله، وولّي قضاء مدينة الأرش. ثم انتقل إلى قابس، وبها طالت مدة ولايته واستدعاه المستنصر بالله محمد بن أبي زكريا، ولطف محلّه منه، حتى كان يحضر مجالس أنسه، وداخله بما قرفته الألسن بسببه حسبما يذكر في وصمته.
__________
(1) في الذيل والتكملة: «المقاصد».
(2) المراد عدوة المغرب.(1/98)
مناقبه: وهي الكتابة والشعر كان يذكر أنه رأى في منامه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، فناوله أقلاما، فكان يروى له أن تأويل تلك الرّؤيا، ما أدرك من التّبريز في الكتابة، وشياع الذكر، والله أعلم.
ومن بديع ما صدر عنه، فيما كتب في غرض التّورية، قطعة من رسالة، أجاب بها العبّاس بن أمية، وقد أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية، فقال:
«بالله أيّ نحو ننحو، أو مسطور نثبت أو نمحو وقد حذف الأصل والزّائد، وذهبت الصّلة والعائد وباب التعجّب طال، وحال اليأس لا تخشى الانتقال وذهبت علامة الرّفع، وفقدت نون الجمع والمعتلّ أعدى الصّحيح والمثلّث أردى الفصيح وامتنعت الجموع من الصّرف، وأمنت زيادتها من الحذف ومالت قواعد الملّة، وصرنا جمع القلّة وظهرت علامة الخفض، وجاء بدل الكلّ من البعض».
ومن شعره في المقطوعات التي ورّى فيها بالعلوم قوله (1): [الخفيف]
قد عكفنا على الكتابة حينا ... وأتت (2) خطّة القضاء تليها
وبكلّ لم يبق للجهد إلّا ... منزلا نابيا وعيشا كريها
نسبة بدّلت ولم تتغيّر ... مثل ما يزعم المهندس فيها
وكقوله مما افتتح به رسالة (3): [البسيط]
يا غائبا سلبتني الأنس غيبته ... فكيف صبري وقد كابدت بينهما؟
دعواي أنّك في قلبي فعارضها (4) ... شوقي إليك فكيف الجمع بينهما؟
وفي مثل ذلك استفتاح رسالته أيضا (5): [الكامل]
إن (6) الكتاب أتى وساحة طرسه ... روح (7) موشّى بالبديع مرتّع (8)
وله حقوق ضاق وقت وجوبها ... ومن الوجوب مضيّق (9) وموسّع
__________
(1) الأبيات أيضا في الجزء الثاني من الإحاطة، في ترجمة أبي البركات محمد بن محمد البلفيقي، وفيها بعض اختلاف عمّا هنا.
(2) في الأصل: «وجاءت» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 152).
(4) في الذيل والتكملة: «يعارضها».
(5) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 153).
(6) في الذيل والتكملة: «أفدي الكتاب».
(7) في المصدر نفسه: «روض».
(8) في المصدر نفسه: «موشّع».
(9) في الأصل: «ضيّق» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.(1/99)
وفي مثل ذلك في استفتاح رسالة أيضا (1): [الكامل]
كبّرت بالبشرى (2) أتت وسماعها ... عيدي الذي لشهوده تكبيري
وكذلك الأعياد سنّة يومها ... مختصّة بزيادة التّكبير
وفي أغراض أخر (3): [الخفيف]
بايعونا مودّة هي عندي ... كالمرآة (4) بيعها بالخداع
فسأقضي بردّها ثم أقضي ... بعدها (5) من مدامعي ألف صاع
وله في معنى آخر (6): [الطويل]
شرّطت عليهم عند تسليم مهجتي ... وعند انعقاد البيع قربا يواصل
فلمّا أردت الأخذ بالشّرط أعرضوا ... وقالوا يصحّ البيع والشّرط باطل
تصانيفه: له تأليف في كائنة ميرقة (7) وتغلّب الرّوم عليها، نحى فيه منحى العماد الأصفهاني، في الفتح القدسي (8) وكتابه في تعقيبه على فخر الدين بن الخطيب الرّازي في كتاب المعالم في أصول الفقه منه وردّه على كمال الدين أبي محمد بن عبد الكريم السّماكي في كتابه المسمّى بالتّبيان في علم البيان واقتضابه النبيل في ثورة المريدين (9)، إلى غير ذلك من التعاليق والمقالات، ودوّن الأستاذ أبو عبد الله بن هانىء السّبتي كتابته وما يتخلّلها من الشّعر في سفرين بديعين أتقن ترتيبهما، وسمّى ذلك «بغية المستطرف، وغنية المتطرّف، من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرّف».
دخوله غرناطة: قال شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب: عمير أخبر بذلك من شيوخه، والرجل ممّن يركن إليه في أخباره فيما أحقّوا على سبيل الرواية والإخبار، من شرّق الأندلس إلى غرناطة، إلى غربها إلى غير ذلك، عند رحلته، وهو الأقرب، وقال: قال المخبر: عهدي به طويلا، نحيف الجسم، مصفرّا، أقنى الأنف أصيب
__________
(1) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 153).
(3) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 153).
(6) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 153).
(2) في الذيل والتكملة: «للبشرى».
(4) في الذيل والتكملة: «كالمصراة».
(5) في المصدر نفسه: «معها».
(7) المقصود بها حصار الطاغية البرشلوني لمدينة ميورقة في شوّال سنة 626هـ، فأراها من القتل والسبي، ثم أخذ واليها ابن يحيى فعذّبه أشدّ العذاب حتى مات، واستولى النصارى عليها في عام 627هـ. الروض المعطار (ص 568).
(8) المراد كتاب «القدح القسي، في الفتح القدسي» لعماد الدين أبي عبد الله محمد بن هبة الله الكاتب الأصفهاني، المتوفّى سنة 597هـ. هدية العارفين (ج 6ص 105).
(9) المراد كتاب «ثورة المريدين» لأحمد بن قسي، المتوفّى سنة 545هـ.(1/100)
بمالقة ما أحوج ما كان إليه، وقد استقبل الكبرة (1)، ونازعه سوء الحظّ. قال الشيخ أبو الحسن الرّعيني: إنه كتب إليه يعلمه بهذه الحادثة عليه، وأن المنهوب من ماله يعدل أربعة آلاف دينار عشرية، وكان ورقا وعينا وحليّا وذلك أنه لمّا قتل المعتضد، اغتنم الفطرة، وفصل عن مكناسة، قاصدا سبته، فلقي الرفقة التي كان فيها جمع من بني مرين، سلبوه وكلّ من كان معه.
مولده: بجزيرة شقر (2)، وقيل ببلنسية، في رمضان اثنتين وثمانين وخمسمائة.
وفاته: توفي بتونس ليلة الجمعة الموفية عشرين ذي الحجة عام ستة وخمسين وستمائة (3). قال ابن عبد الملك (4): ووهم ابن الزبير في وفاته، إذ جعلها في حدود الخمسين وستمائة أو بعدها.
أحمد بن عبد الحق بن محمد بن يحيى ابن عبد الحق الجدلي (5)
من أهل مالقة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن عبد الحق.
حاله: من (6) صدور أهل العلم والتفنّن في هذا الصّقع الأندلسي، نسيج وحده في الوقار والحصافة، والتزام مثلى الطريقة، جمّ التّحصيل، سديد النظر، كثير التخصّص، محافظ على الرسم، مقبوض العنان في التّطفيف في إيجاب الحقوق لأهلها، قريب من الاعتدال في معاملة أبناء جنسه، مقتصد مع ثروته، مؤثر للترتيب في كافّة أمره، متوقّد الفكرة مع سكون، ليّن العريكة مع مضاء مجموع خصال حميدة مما يفيد التجريب والحنكة مضطلع بصناعة العربية، حائز قصب السّبق فيها، عارف بالفروع والأحكام، مشارك في فنون من أصول، وطبّ، وأدب، قائم على
__________
(1) الكبرة: كبر السّنّ. لسان العرب (كبر).
(2) شقر: بالإسبانية، وهي جزيرة بالأندلس قريبة من شاطبة، كثيرة الأشجار والأنهار.
الروض المعطار (ص 349) ونزهة المشتاق (ص 556)، ورسمها ابن صاحب الصلاة في تأريخ المنّ بالإمامة (ص 430) هكذا: «شوقر».
(3) في الذيل والتكملة (ج 1ص 180): «الحجة ثمان وخمسين وستمائة»، وفي بغية الوعاة (ص 138): «رابع ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وستمائة».
(4) الذيل والتكملة (ج 1ص 180).
(5) في الأصل: «الجذلي» بالذال المعجمة، والتصويب من الكتيبة الكامنة (ص 123) وبغية الوعاة (ص 138) حيث ترجمته.
(6) قارن ببغية الوعاة (ص 139138).(1/101)
القراءة (1)، إمام في الوثيقة، حسن الخطّ، مليح السّمة والشيبة، عذب الفكاهة، حسن العهد، تامّ الرجولية.
نباهته: تصدّر (2) للإقراء ببلده على وفور أهل العلم، فكان سابق الحلبة، ومناخ الطيّة، إمتاعا، وتفنّنا، وحسن إلقاء. وتصرّف في القضاء ببلّش وغيرها من غربي بلده، فحسنت سيرته، واشتهرت طريقته، وحمدت نزاهته. ثم ولّي خطّة القضاء بمالقة، والنظر في الأحباس (3) بها، على سبيل من الحظوة والنّباهة، مرجوعا إليه في كثير من مهمّات بلده، سائمة وجوه السعادة، ناطقة ألسن الخاصّة والعامّة بفضله، جمّاعة نزاهته، آويا إلى فضل بيته. واتّصلت ولايته إيّاها إلى هذا العهد، وهي أحد محامد الوالي، طول مدة الولاية، لا سيما القاضي، ممّا يدلّ على الصبر، وقلّة القدح، وسدّ أبواب التّهم، والله يعينه، ويمتّع به بمنّه.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن بكر، وهو نجيب حلبته، والسّهم المصيب من كنانته، لازمه، وبه تفقّه وانتفع، وتلا القرآن عليه وعلى محمد (4) بن أيوب، وعلى أبي القاسم بن درهم علمي وقتهما في ذلك، وعلى غيرهما، وتعلّم الوثيقة على العاقد القاضي أبي القاسم بن العريف. وروى عن الخطيبين المحدّثين أبي عثمان بن عيسى وأبي عبد الله الطّنجالي، وغيرهما.
دخوله غرناطة: تردّد إليها غير ما مرّة، منها في أمور عرضت في شؤونه الخاصّة به، ومنها مع الوفود الجلّة، من أهل بلده، تابعا قبل الولاية، متبوعا بعدها.
ومن شعره قوله في جدول (5): [الكامل]
ومقارب الشّطّين أحكم صقله (6) ... كالمشرفيّ إذا اكتسى بفرنده
فحمائل (7) الدّيباج منه خمائل ... ومعانق (8) فيها البهار بورده
وقد اختفى طرف (9) له في دوحة ... كالسّيف ردّ ذبابه في غمده
__________
(1) في بغية الوعاة: «القراءات».
(2) قارن ببغية الوعاة (ص 139).
(3) الأحباس: الأوقاف.
(4) في البغية: «على أبي محمد».
(5) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 123).
(6) رواية صدر البيت في الكتيبة الكامنة هي:
ومنمنم الشّطّين منه حمائل
(7) في الكتيبة: «فخمائل».
(8) في المصدر نفسه: «متعانق».
(9) في المصدر نفسه: «طوق».(1/102)
وقوله في شجر نارنج مزهر (1): [الكامل]
وثمار نارنج نرى أزهارها ... مع ناتئ (2) النّارنج في تنضيد
فإذا نظرت إلى تألّفها (3) أتت ... كمباسم أومت للثم خدود
وفاته: في زوال يوم الجمعة السابع (4) والعشرين لرجب عام خمسة وستين وسبعمائة.
مولده: ثامن شوّال عام ثمانية وتسعين وستمائة.
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن الصقر الأنصاري الخزرجي (5)
يكنى أبا العباس، من أهل الثّغر الأعلى.
أوّليته: من سرقسطة (6)، حيث منازل الأنصار هنالك انتقل جدّ أبيه عبد الرحمن بابنه الصغير (7) منها لحدوث بعض الفتن بها إلى بلنسية، فولد له ابنه عبد الرحمن أبو العباس (8) هذا ثم انتقل أبوه إلى ألمريّة، فولد أبو العباس بها، ونقله أبوه إلى سبتة فأقام بها مدّة (9).
حاله: كان (10) محدّثا مكثرا ثقة، ضابطا، مقرئا، مجوّدا، حافظا للفقه، ذاكرا للمسائل (11)، عارفا بأصولها (12)، متقدّما في علم الكلام، عاقدا للشروط، بصيرا بعللها حاذقا بالأحكام، كاتبا بليغا، شاعرا محسنا، أتقن (13) أهل عصره خطّا، وأجلّهم منزعا، ما اكتسب قطّ شيئا من متاع الدّنيا، ولا تلبّس بها، مقتنعا
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 124123).
(2) في الكتيبة: «ترى أزهاره مع قانىء».
(3) في المصدر نفسه: «تآلفها».
(4) في بغية الوعاة (ص 139): «الجمعة ثامن عشرين رجب سنة».
(5) ترجمة ابن الصقر في التكملة (ج 1ص 69)، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 102)، والوافي بالوفيات (ج 7ص 47)، والذيل والتكملة (ج 1ص 223)، والديباج المذهب (ج 1 ص 211)، ونفح الطيب (ج 6ص 91).
(6) قارن بالذيل والتكملة (ج 1ص 223).
(7) ابنه الصغير هو محمد، كما ورد أعلاه في الذيل والتكملة.
(8) في الذيل والتكملة: «أبو أبي العباس هذا».
(9) في الذيل والتكملة: «سبتة ابن نحو سبعة أعوام، وأقام فيها به مديدة».
(10) قارن بالذيل والتكملة (ج 1ص 225).
(11) في الذيل والتكملة: «لمسائله».
(12) في المصدر نفسه: «بأصوله».
(13) في المصدر نفسه: «آنق».(1/103)
باليسير، راضيا بالدّون، مع الهمّة العليّة، والنفس الأبيّة، على هذا قطع عمره، وكتب من دواوين العلم ودفاتره، ما لا يحصى كثرة، بجودة (1) وضبط وحسن خطّ وعني به أبوه في صغره، فأسمعه كثيرا من الشروح، وشاركه في بعضهم.
نفعه الله.
نباهته: استدعاه أبو عبد الله بن حسّون، قاضي مرّاكش، إلى كتابته، إلى أن صرف، واستقرّ هو متولّي حكمها وأحكامها، والصلاة في مسجدها، ثم ترك الأحكام، واستقرّ في الإمامة. ولمّا تصيّر الأمر إلى الموحّدين، ألحقه عبد المؤمن (2)
منهم، بجملة طلبة العلم، وتحفّى به، وقدّمه إلى الأحكام بحضرة مرّاكش، فقام بها مدّة، ثم ولّاه قضاء غرناطة، ثم نقله إلى إشبيلية قاضيا بها مع وليّ عهده. ولمّا صار الأمر إلى يعقوب (3)، ألزمه خدمة الخزانة العلمية وكانت عندهم من الخطط التي لا يعيّن لها إلّا كبار أهل العلم وعليّهم، وكانت مواهب عبد المؤمن له جزلة، وأعطياتهم مترافهة كثيرة.
مشيخته: قرأ القرآن على أبيه، وأكثر عنه، وأجاز له، وعلى أبي الحسن التطيلي، قال: وهو أول من قرأت عليه.
من روى عنه: روى عنه أبو عبد الله، وأبو خالد يزيد بن يزيد بن رفاعة، وأبو محمد بن محمد بن علي بن وهب القضاعي.
دخوله غرناطة: صحبة (4) القاضي أبي القاسم بن جمرة، ونوّه به واستخلفه إذ وليها، وقبض عليه بكلتي يديه، ثم استقضي بها أبو الفضل عياض بن موسى، فاستمسك به، واشتمل عليه لصحبة كانت بينهما وقرابة، إلى أن صرف عنها أبو الفضل عياض، فانتقل إلى وادي آش، فتولّى أحكامها والصلاة بها، ثم عاد إلى غرناطة سنة ست وثلاثين، إلى أن استقضي بغرناطة في دولة أبي محمد بن
__________
(1) في المصدر نفسه: «وجودة وضبطا».
(2) هو عبد المؤمن بن علي، أول خلفاء الموحدين بالمغرب والأندلس حكم المغرب سنة 524هـ.
وفي سنة 541هـ ضمّ الأندلس إلى المغرب. توفي سنة 558هـ. ترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 79). والمعجب (ص 262، 265، 292)، والحلل الموشية (ص 107).
(3) هو يوسف بن عبد المؤمن بن علي، حكم المغرب والأندلس من سنة 580558هـ. ترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 83)، والمعجب (ص 308)، والحلل الموشية (ص 119).
(4) قارن بالذيل والتكملة (ج 1ص 226).(1/104)
عبد المؤمن بن علي فحمدت سيرته، وشكر عدله، وظهرت نزاهته، ودام بها حتى ظنّ من أهلها.
شعره: وشعره في طريقة الزهد، وهي لا ينفذ فيها إلّا من قويت عارضته، وتوفّرت مادّته (1): [الطويل]
إلهي لك الملك العظيم حقيقة ... وما للورى مهما منعت نقير
تجافى بنو الدنيا مكاني فسرّني ... وما قدر مخلوق جداه حقير
وقالوا فقير وهو (2) عندي جلالة ... نعم صدقوا إني إليك فقير
وشعره في هذا المعنى كثير، وكله سلس المقادة، دالّا على جودة الطبع. ومن شعره قوله (3): [الكامل]
أرض العدو بظاهر متصنّع ... إن كنت مضطرّا إلى استرضائه (4)
كم من فتى ألقى بوجه (5) باسم ... وجوانحي تنقدّ (6) من بغضائه
تصانيفه: له (7) تصانيف مفيدة تدلّ على إدراكه وإشرافه، كشرحه «الشّهاب»، فإنه أبدع فيه، وكتابه «أنوار الأفكار، فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزّهّاد والأبرار»، ابتدأ تأليفه، وتوفي دون إتمام غرضه فيه، فكمّله عبد الله ابنه.
محنته: كان ممّن وقعت عليه المحنة العظمى بمرّاكش يوم دخول الموحّدين إياها، يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوّال عام أحد (8) وأربعين وخمسمائة، على الوجه المشهور في استباحة دماء كل من اشتملت عليه من الذّكور البالغين إلّا من تسترّ بالاختفاء في سرب أو غرفة أو مخبأ. وتمادى القتل فيها ثلاثة أيام، ثم نودي بالعفو عمّن أشارته الفتكة الكبرى، فظهر من جميع الخلق بها، ما يناهز السبعين رجلا، وبيعوا بيع أسارى المشركين، هم وذراريهم، وعفي عنهم، فكان أبو العباس ممّن تخطّته المنيّة، واستنقذه من الرّقّ العفو، وحسبك بها محنة، نفعه الله، وضاعت له في ذلك وفي غيره كتب كثيرة بخطّه وبغير خطّه، مما تجلّ عن القيمة.
__________
(1) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 1ص 230).
(2) في الأصل: «وهم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) البيتان في التكملة (ج 1ص 70)، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 102)، والذيل والتكملة (ج 1ص 230)، ونفح الطيب (ج 6ص 91).
(4) في الذيل والتكملة: «إلى إرضائه».
(5) في الذيل والتكملة: «بثغر».
(6) في الأصل: «تتّقد»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(7) قارن بالذيل والتكملة (ج 1ص 230).
(8) في الأصل: «إحدى» وهو خطأ نحوي.(1/105)
مولده: بألمريّة في أواخر شهر ربيع سنة اثنتين (1) وخمسمائة.
وفاته: توفي بمرّاكش بين صلاة الظهر والعصر، في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة (2). ودفن يوم الاثنين بعده عقب صلاة الظهر، وصلّى عليه القاضي أبو يوسف حجاج وكانت جنازته عظيمة المحفل، كثيرة الجمع برز إليها الرجال والنساء ورفعوا نعشه على الأيدي، رحمه الله.
ومما رثاه به جاره وصديقه أبو بكر بن الطفيل (3)، وهو بإشبيلية، بعث بها إلى ابنه مع كتاب في غرض العزاء (4): [الوافر]
لأمر ما تغيّرت الدّهور ... وأظلمت الكواكب والبدور
وطال على العيون الليل حتى (5) ... كأنّ النّجم فيه لا يغور
أحمد بن أبي القاسم بن عبد الرحمن
يعرف بابن القبّاب، من أهل فاس، ويكنى أبا العباس.
حاله: هذا الرجل، صدر عدول (6) الحضرة الفاسيّة، وناهض عشّهم، طالب، فقيه، نبيه، مدرك، جيّد النظر، سديد الفهم حضر الدرس بين يدي السلطان، وولّي القضاء بجبل الفتح (7)، متّصفا فيه بجزالة وانتهاض. تعرّفت به بمدينة فاس، فأعجبتني سيمته ووصل مدينة سلا في غرض اختبار واستطلاع الأحوال السلطانية واستدعيته فاعتذر ببعض ما يقبل، فخاطبته بقولي (8): [الوافر]
أبيتم دعوتي إمّا لشأو (9) ... وتأبى لومه مثلى الطريقه
__________
(1) في الأصل: «اثنين» وهو خطأ نحوي. وفي التكملة (ج 1ص 70)، والذيل والتكملة (ج 1 ص 231): ولد سنة 492هـ.
(2) في المقتضب (ص 102)، والتكملة (ج 1ص 70)، والذيل والتكملة (ج 1ص 231): توفي سنة 569هـ.
(3) هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي، أحد فلاسفة المسلمين. توفي بمراكش سنة 581هـ. ترجمته في المعجب (ص 311)، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 125)، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 530) في ترجمة أبي الوليد بن رشد.
وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(4) البيتان في الذيل والتكملة (ج 1ص 231).
(5) في الذيل والتكملة: «على نجيّ الهمّ ليل».
(6) العدول: جمع عدل وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، لسان العرب (عدل).
(7) جبل الفتح: هو جبل طارق.
(8) الأبيات في نفح الطيب (ج 8ص 413).
(9) في النفح: «لبأو».(1/106)
وبالمختار للناس اقتداء ... وقد حضر الوليمة والعقيقه
وغير غريبة أن رقّ حرّ ... على من حاله مثلي رقيقه
وإمّا زاجر الورع اقتضاها ... ويأبى ذاك دكان الوثيقه
وغشيان المنازل لاختبار ... يطالب بالجليلة والدّقيقه
شكرت مخيلة كانت مجازا ... لكم وحصلت بعد على الحقيقه
وتفرّع الكلام على قولي: «ويأبى ذاك دكان الوثيقه»، بما دعي إلى بيانه بتصنيفي فيه الكتاب المسمّى «بمثلى الطريقة في ذمّ الوثيقه».
دخوله غرناطة: في عام اثنين وستين وسبعمائة، موجّها من قبل سلطان المغرب أبي سالم بن أبي الحسن لمباشرة صدقة عهد بها لبعض الرّبط (1) وهو إلى الآن، عدل بمدينة فاس، بحال تجلّة وشهرة. ثم تعرّفت أنه نسك ورفض العيش من الشهادة ككثير من الفضلاء.
أحمد بن إبراهيم بن الزّبير بن محمد بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسين بن الزبير بن عاصم بن مسلم بن كعب الثّقفي (2)
يكنى أبا جعفر.
أوّليته: كعب الذي ذكر، هو كعب بن مالك بن علقمة بن حباب بن مسلم بن عدي بن مرّة بن عوف بن ثقيف أصله من مدينة جيّان، منزل قنّسرين، من العرب الداخلين إلى الأندلس ونسبه بها كبير، وحسبه أصيل، وثروته معروفة. خرج به أبوه عند تغلّب العدوّ عليها عام ثلاثة وأربعين وستمائة، ولأبيه إذ ذاك إثراء وجدة أعانته على طلب العلم، وإرفاد (3) من أحوجته الأزمة في ذلك الزمان من جالية العلماء عن قرطبة وإشبيلية كأبي الحسن الصائغ وغيره، فنصحوا له، وحطبوا في حبله.
حاله: كان خاتمة المحدّثين، وصدور العلماء والمقرئين، نسيج وحده، في حسن التعليم، والصبر على التّسميع، والملازمة للتدريس، لم تختلّ له، مع تخطّي
__________
(1) الرّبط: جمع رباط، وهو الثغر التي يرابط فيه الجيش لدفع العدو. لسان العرب (ربط).
(2) ترجمة أحمد بن إبراهيم الثقفي في الذيل والتكملة (ج 1ص 39)، وشذرات الذهب (ج 6ص 16)، وبغية الوعاة (ص 126)، والوافي بالوفيات (ج 5ص 123).
(3) الإرفاد: الإعانة والعطاء من قوله: رفده وأرفده: أي أعطاه. لسان العرب (رفد).(1/107)
الثمانين، ولا لحقته سآمة، كثير الخشوع والخشية، مسترسل العبرة، صليبا في الحق، شديدا على أهل البدع، ملازما للسّنّة، جزلا، مهيبا، معظّما عند الخاصّة والعامّة، عذب الفكاهة، طيّب المجالسة، حلو النّادرة، يؤثر عنه في ذلك حكايات، لا تخلّ بوقار، وتحلّ بجلال منصب.
فنونه: إليه انتهت الرّياسة بالأندلس في صناعة العربية، وتجويد القرآن، ورواية الحديث، إلى المشاركة في الفقه، والقيام على التّفسير، والخوض في الأصلين.
مشيخته: أخذ عن الجلّة المقرئين، كالمقرئ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مستقور (1) الغرناطي الطائي.
نباهته وخططه: ولّي قضاء المناكح، والخطبة بالحضرة، وبلغ من الشّهرة والإشادة بذكره، ما لم يبلغه سواه.
تصانيفه: من تأليفه كتاب «صلة الصّلة» لابن بشكوال، التي وصلتها بعده، وسمّيت كتابي ب «عائد الصلة»، وافتتحت أول الأسماء فيه باسمه وكتاب «ملاك التأويل، في المتشابه اللفظ في التّنزيل» غريب في معناه والبرهان في ترتيب سور القرآن وشرح الإشارة للباجي في الأصول وسبيل الرّشاد في فضل الجهاد وردع الجاهل عن اغتياب المجاهل، في الرد على الشّودية (2)، وهو كتاب جليل ينبئ عن التفنّن والاضطلاع وكتاب الزمان والمكان، وهو وصمة، تجاوز الله عنه.
شعره: وشعره مختلف عن نمط الإجادة، مما حقّه أن يثبت أو ثبت في كتاب شيخنا أبي البركات المسمّى «شعر من لا شعر له» مما رواه، ممّن ليس الشعر له بضاعة، من الأشياخ الذي عدّ صدر عنهم هو. فمن شعره (3): [السريع]
ما لي وللتسئال لا أمّ لي ... سألت (4) من يعزل أو من يلي
حسبي ذنوب (5) أثقلت كاهلي ... ما إن أرى إظلامها (6) ينجلي
__________
(1) كان ابن مستقور خطيبا بليغا، كاتبا ناظما ناثرا، بصيرا بعقود الشروط، سابقا في علم الفرائض.
استمر قضاؤه مع الخطابة بحضرة غرناطة إلى أول الدولة الإسماعيلية. تاريخ قضاة الأندلس (ص 175).
(2) الشودية: فرقة من فرق الصوفية في المغرب.
(3) البيتان الأول والثاني في بغية الوعاة (ص 127).
(4) في الأصل: «إن سألت» وكذا ينكسر الوزن، لذلك اقتضى حذف «إن». وفي بغية الوعاة: «إن سلت».
(5) في بغية الوعاة: «ذنوبي».
(6) في المصدر نفسه: «غماءها».(1/108)
يا ربّ، عفوا إنها جمّة ... إن لم يكن عفوك لا أمّ لي
محنته: نشأت بينه وبين المتغلب بمالقة من الرؤساء التّجيبيين من بني إشقيلولة (1)، وحشة أكّدتها سعاية بعض من استهواهم رجل ممخرق من بني الشّعوذة، ومنتحلي الكرامة، يمتطيها، زعموا إلى النبوّة، يعرف بالفزاري، واسمه إبراهيم، غريب المنزع، فذّ المآخذ، أعجوبة من أعاجيب الفتن، يخبر بالقضايا المستقبلة، ويتسوّر سور حمى العادة في التطوّر من التقشّف والخلابة، تبعه ثاغية وراغية، من العوام الصّمّ البكم، مستفزّين فيه حياته وبعد زمن من مقتله، على يد الأستاذ بغرناطة، قرعه بحقّه، وبادره بتعجيل نكيره، فاستغاث بمفتونه الرئيس، ظهير محاله فاستعصى له وبلغ الأستاذ النياحة، ففرّ لوجهه، وكبس منزله لحينه، فاستولت الأيدي على ذخائر كتبه، وفوائد تقييده عن شيوخه، على ما طالت له الحسرة، وجلّت فيه الرزيّة. ولحق بغرناطة آويا إلى كنف سلطانها الأمير أبي عبد الله بن الأمير الغالب بالله بن نصر فأكرم مثواه، وعرف حقّه، وانثال عليه الجمّ الغفير لالتماس الأخذ عنه، إلى أن نالته لديه سعاية، بسبب جار له، من صلحاء القرابة النّصرية، كان ينتابه لنسبة الخيريّة، نميت عنه في باب تفضيله، واستهالت للأمر كلمة، أوجبت امتحانه، وتخلّل تلك الألقيّة (2) من الشكّ، ما قصر المحنة على إخراجه من منزله المجاور لذلك المتّهم به، ومنعه من التصرّف، والتزامه قعر منزل انتقل إليه بحال اعتزال من الناس، محجورا عليه مداخلتهم فمكث على ذلك زمانا طويلا، إلى أن سرّيت عنه النكبة، وأقشعت الموجدة، فتخلّص من سرارها بدره وأقلّ من شكاتها جاهه، وأحسنت أثرها حاله، وكثر ملتمسه، وعظمت في العالم غاشيته فدوّن واستمع، وروى ودرّب، وخرّج وأدّب وعلّم، وحلّق وجهر. وكانت له الطّايلة على عدوّه، والعاقبة للحسنى، بعد ثبات أمره، والظّفر بكثير من منتهب كتبه. وآلت الدولة للأمير أبي عبد الله نصر بمالقة، فطالب الفزاريّ المذكور، واستظهر بالشّهادات عليه، وبالغ في دحض دعوته، إلى أن قتل على يده بغرناطة.
حدّثنا شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، قال: لما أمر بالتأهّب للقتل وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه، جهر بتلاوة «ياسين»، فقال له أحد الذّعرة، ممّن
__________
(1) بنو إشقيلولة مولدون، كانت تربطهم ببني نصر حكام غرناطة مصاهرة، وقد قاموا ببعض الثورات ضدّ بني نصر، واستقلوا ببعض المدن والثغور.
(2) الألقيّة: هي ما ألقي من التحاجيّ، جمعها ألاقيّ. لسان العرب (لقي).(1/109)
جمع السجن بينهم «اقرأ قرآنك على أيّ شيء تتطفّل على قرآننا اليوم» أو ما هو في معناه. فتركها مثلا للوذعيّته.
مولده: ببلده جيّان في أواخر عام سبعة وعشرين وستمائة.
وفاته: وتوفي بغرناطة في الثامن لشهر ربيع الأول عام ثمانية وسبعمائة.
وكانت جنازته جنازة بالغة أقصى مبالغ الاحتفال، نفر لها الناس من كل أوب، واحتمل طلبة العلم نعشه على رؤوسهم، إلى جدثه، وتبعه ثناء جميل، وجزع كبير، رحمه الله.
ورثاه طائفة من طلبته وممّن أخذ عنه منهم، القاضي أبو جعفر بن أبي حبل في قصيدة أولها: [الطويل]
عزيز على الإسلام والعلم ماجد ... فكيف لعيني أن يلمّ بها الكرى؟
وما لمآقي لا تفيض شؤونها ... نجيعا على قدر المصيبة أحمرا؟
فو الله ما تقضي المدامع بعض ما ... يحقّ ولو كانت سيولا وأبحرا
حقيق لعمري أن تفيض نفوسنا ... وفرض على الأكباد أن تتفطّرا
أحمد بن عبد الولي بن أحمد الرعيني
يكنى أبا جعفر ويعرف بالعوّاد، صنعة لأبيه الكاتب الصالح.
حاله: هو من بيت تصاون، وعفاف، ودين، والتزام السّنّة كانوا في غرناطة في الأشعار، وتجويد القرآن، والامتياز بحمله، وعكوفهم عليه، نظراء بني عظيمة بإشبيلية، وبني الباذش بغرناطة وكان أبو جعفر هذا، المترجم له ممّن تطوى عليه الخناصر، معرفة بكتاب الله، وتحقيقا لحقه، وإتقانا لتجويده، ومثابرة على تعليمه، ونصحا في إفادته على سنن الصالحين، انقباضا عن الناس، وإعراضا عن ذوي الوجاهة، سنيّا في قوله وفعله، خاصّيّا في جميع أحواله، مخشوشنا في ملبسه، طويل الصّمت إلّا في دست تعليمه، مقتصرا في مكسبه، متّقيا لدينه، محافظا على أواده. سأل منه رجل يوما كتب رقعة، ففهم من أمره، فقال: يا هذا، والله ما كتبت قطّ يميني إلّا كتاب الله، فأحبّ أن ألقاه على سجيّتي بتوفيقه، إن شاء الله، وتسديده.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، والأستاذ أبي جعفر الحزموني الكفيف، وأبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.
وفاته: توفي في شهر ذي الحجة من عام خمسين وسبعمائة، ودفن بجبّانة باب الفخّارين (1) في أسفل السفح تجاه القصور الحكمية، وأتبعه الناس أحسن الثناء.(1/110)
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، والأستاذ أبي جعفر الحزموني الكفيف، وأبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.
وفاته: توفي في شهر ذي الحجة من عام خمسين وسبعمائة، ودفن بجبّانة باب الفخّارين (1) في أسفل السفح تجاه القصور الحكمية، وأتبعه الناس أحسن الثناء.
أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري (2)
من أهل غرناطة يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن الباذش.
أوّليّته: أصله من جيّان، من بيت خيريّة وتصوّن.
حاله: قال القاضي أبو محمد بن عطية: إمام في المقرئين، ومقدّم في جهابذة الأستاذين، راوية، مكثر، متفنّن في علوم القراءة، مستبحر، عارف بالأدب والإعراب، بصير بالأسانيد، نقّاد لها، مميّز لشاذّها من معروفها. قال ابن الزّبير: وما علمت فيما انتهى إليه نظري وعلمي، أحسن انقيادا لطرق القراءة، ولا أجلّ اختيارا منه، لا يكاد أحد من أهل زمانه، ولا ممّن أتى بعده أن يبلغ درجته في ذلك.
مشيخته: تفقّه بأبيه الإمام أبي الحسن، وأكثر الرواية عنه، واستوفى ما كان عنده، وشاركه في كثير من شيوخه. أخذ القراءات عرضا عن الإمام المقرئ أبي القاسم بن خلف بن النحّاس، رحل إلى قرطبة ولازمه وعلى المقرئ أبي جعفر هابيل بن محمد الحلاسي، وأبي بكر بن عيّاش بن خلف المقرئ، وأبي الحسن بن زكريا، وأبي الحسن شريح بن محمد، وأبي محمد عبد الله بن أحمد الهمداني الجيّاني، رحل إليه إلى جيان، وتلا على جميع من ذكر. وروى بالقراءة والسّماع والإجازة على عالم كثير، كأبي داود وأبي الحسن بن أخي الرّش المقرئين، أجازا له وأبي علي الغسّاني في الإمامة والإتقان، وقد أسمع عليه وأبي القاسم خلف بن صواب المقرئ، وأبي عامر محمد بن حبيب الجيّاني، وأبي عبد الله محمد بن أحمد التّجيبي الشهير، وأبي محمد بن السيد، وأبي الحسن بن الأخضر، وأبي محمد عبد الله بن أبي جعفر الحافظ، وعالم كثير غير هؤلاء يطول ذكرهم.
من روى عنه: روى عنه أبو محمد عبد الله، وأبو خالد بن رفاعة، وأبو علي القلعي المعدّي، وأبو جعفر بن حكم، وأبو الحسن بن الضّحّاك، وابنه أبو محمد عبد المنعم، وهو آخر من حدّث عنه.
__________
(1) كان باب الفخارين ضمن أبواب غرناطة الثمانية، وكان يقع تجاه قرية الفخار الواقعة على أطراف غرناطة الشمالية. مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 295).
(2) ترجمة أحمد بن علي الأنصاري في الصلة (ج 1ص 138)، وذكره ابن الأبار في التكملة (ج 4ص 259) في ترجمة أخته مسعدة بنت علي بن أحمد بن الباذش.(1/111)
تصانيفه: ألّف كتاب «الإقناع» في القراءات، لم يؤلّف في بابه مثله وألّف كتاب «الطرق المتداولة» في القراءات، وأتقنه كل الإتقان، وحرّر أسانيده وأتقنها، وانتقى لها، ولم يتّسع عمره لفرش حروفهم وخلافهم من تلك الطرق. وألّف غير ما ذكر.
مولده: في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.
وفاته: توفي ثاني جمادى الآخرة سنة أربعين وخمسمائة (1)، وكان عمره تسعا وأربعين سنة.
أحمد بن عبد النور بن أحمد بن راشد رحمه الله
يكنى أبا جعفر، من أهل مالقة، ويعرف بيته بها ببني راشد. قال شيخنا أبو البركات: نقلت اسم هذا من خطّه، ولا نعلم له نسبا إذ لم يكتبه، وشهر بابن عبد النّور.
حاله: كان قيّما على العربية إذ كانت جلّ بضاعته يشارك مع ذلك في المنطق، على رأي الأقدمين، وعروض الشعر، وفرائض العبادات من الفقه، وقرض الشعر. وكان له اعتناء بفكّ المعمّى، والتّنقير عن اللّغوز. وكان ذكيّ الصوت عند قراءة القرآن، خاشعا به. رحل من بلده مالقة إلى سبتة، ثم انتقل إلى الأندلس وأقرأ بوادي آش مدة، وتردّد بين ألمريّة وبرجة، يقرئ بها القرآن، وغير ذلك مما كان يشارك فيه. وناب عن بعض القضاة وقتا، ودخل غرناطة أثناء هذا السّفر.
مشيخته: قال: أخذ القرآن قراءة على طريقة أبي عمرو والدّاني، على الخطيب أبي الحسن الحجاج بن أبي ريحانة المربلّي (2)، ولا يعلم له في بلده شيخ سواه، إذ لم يكن له اعتناء بلقاء الشيوخ، والحمل عنهم. ومن علمي أنه لقي أبا الحسن بن الأخضر المقرئ العروضي بسبتة، وذاكره في العروض، ولا أعلم هل أخذ عنه أم لا. ورأيت في تقاييدي أن القاضي أبا عبد الله بن برطال حدّثني أن ابن النّور قرأ معه الجزوليّة (3) على ابن مفرّج المالقي تفقها، وقيّد عليه تقييدا عرضه بعد ذلك، على ابن
__________
(1) في الصلة: توفي سنة 542هـ.
(2) نسبة إلى مربلّة، وهي مدينة صغيرة مسوّرة، تبعد ستين كيلو مترا إلى الغرب من مالقة: الروض المعطار (ص 534).
(3) الجزولية: نسبة إلى الجزولي، وهو أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي، النحوي المغربي المتوفّى سنة 610هـ، وقيل: 606و 607هـ. والجزولية هي المقدمة التي كتبها أبو موسى المذكور وسماها القانون، وكلها رموز وإشارات، اعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها.(1/112)
مفرج هذا وهو محمد بن يحيى بن علي بن مفرج المالقي. وروى عن أبي الحجّاج المتقدّم الذّكر تيسير أبي عمرو الداني، وجمل الزّجّاجي، وأشعار الستّة، وفصيح أحمد بن يحيى بن ثعلب وقفت في ذلك على رقّ أجاز فيه بعض الآخذين عنه، ولم ينصّ فيه على كيفية أخذه لهذا الكتيّب عن أبي الحجّاج. قال: ورأيت في ذلك الرّقّ أوهاما تدلّ على عدم شعوره بهذا الباب جملة، وقبول التّلقين فيه، فلا ينبغي أن يركن إلى مثله فيه. ورأيت بخط بعض أصحابه، أنه تفقّه على أبي ريحانة، ولعلّ ذلك في صغره قبل أن يتحكّم طلبه ويتفنّن، إذ الفنون التي كان يأخذ منها لم يكن أبو ريحانة مليّا بها، ولا منسوبا إليها.
تصانيفه: منها كتاب «الحلية في ذكر البسملة والتصلية». وكتاب «رصف المباني في حروف المعاني»، وهو أجلّ ما صنّف وممّا يدلّ على تقدّمه في العربية. وجزء في العروض. وجزء في شواذّه. وكتاب في شرح الكوامل لأبي موسى الجزولي، يكون نحو الموطّأ في الجرم، وكتاب شرح مغرب أبي عبد الله بن هشام الفهري، المعروف بابن الشّواش، ولم يتمّ، انتهى فيه إلى همزة الوصل، يكون نحو الإيضاح لأبي علي.
وله تقييد على الجمل غير تام.
شعره: قال: وشعره وسط، بعيد عن طرفي الغثّ، والثمين أبعد وكان لا يعتني فيه ولا يتكلّفه، ولا يقصد قصده وإنّ ذلك لعذر في عدم الإجادة. قال الشيخ: ولديّ جزء منه تصفّحته على أن أستجيد منه شيئا أثبته له في هذا التّعريف، فرأيت (1) بعضه أشبه ببعض من الغرابة، فكتبت من ذلك، لا مؤثرا له على سواه من شعره بل لمرجّح كونه أوّل خاطر بالبال، ومتلمّح خطّه بالبصر، فمن ذلك قوله من قصيدة، ومن خطه نقلت: [الطويل]
محاسن من أهوى يضيق لها الشرح ... له الهمّة العلياء والخلق السّمح
له بهجة يغشى البصائر نورها ... وتعشى بها الأبصار إن غلس الصّبح
إذا ما رنا فاللّحظ سهم مفوّق ... وفي كل عضو من إصابته جرح
إذا (2) ما انثنى زهوا وولّى تبخترا ... يغار لذاك القدّ من لينه الرّمح
وإن نفحت أزهاره عند روضة ... فيخجل ريّا زهرها ذلك النّفح
هو الزّمن المأمول عند ابتهاجه ... فلمّته ليل، وغرّته صبح
__________
وفيات الأعيان (ج 3ص 429428)، ونفح الطيب (ج 2ص 267266).
(1) في الأصل: «فرأيته».
(2) في الأصل: «إذ» وهكذا ينكسر الوزن.(1/113)
لقد خامرت نفسي مدامة حبّه ... فقلبي من سكر المدامة لا يصحو (1)
وقد هام قلبي في هواه فبرّحت ... بأسراره عين لمدمعها سبح
غفلته ونوكه: كان هذا الرجل من البله في أسباب الدنيا له في ذلك حكايات دائرة على ألسنة الشقاة من الملازمين له وغيرهم، لولا تواترها لم يصدّق أحد بها، تشبه ما يحكى عن أبي علي الشلوبين. منها أنه اشترى فضلة ملف فبلّها، فانتقصت كما يجري في ذلك، فذرعها بعد البلّ فوجدها تنقصت، فطلب بذلك بائع الملف، فأخذ يبيّن له سبب ذلك فلم يفهم. ومنها أنه سار إلى بعض بساتين ألمرية مع جماعة من الطلبة واستصحبوا أرزّا ولبنا، فطلبوا قدرا لطبخه، فلم يجدوا، فقال: اطبخوا في هذا القدر، وأشار إلى قدر بها بقيّة زفت مما يطلى به السّواني (2) عندهم، فقالوا له:
وكيف يسوغ الطبخ بها، ولو طبخ بها شيء مما تأكله البهائم لعافته، فكيف الأرز باللبن؟ فقال لهم: اغسلوا معائدكم، وحينئذ تدخلون فيها الطعام. فلم يدروا ممّا يعجبون، هل من طيب نفسه بأكله مما يطبخ في تلك القدر، أم من قياسه المعدة عليها. ومنها أنهم حاولوا طبخ لحم مرّة أخرى في بعض النّزه فذاق الطعام من الملح بالمغرفة، فوجده محتاجا للملح، فجعل فيه ملحا وذاقه على الفور، قبل أن ينحلّ الملح ويسري في المرقة الأولى، فزاد ملحا إلى أن جعل فيه قدر ما يرجح اللحم، فلم يقدروا على أكله. ومنها أنه أدخل يده في مفجر صهريج فصادفت يده ضفدعا كبيرا، فقال لأصحابه: تعالوا إن هنا حجرا رطبا. ومنها أنه استعار يوما من القائد أبي الحسن بن كماشة، جوادا ملوكيّا، قرطاسي اللّون، من مراكب الأمراء فقال:
وجّه لي تلك الدّابّة، فتخيّل أنه يريد الرّكوب إلى بعض المواضع، ثم تفطّن لغفلته، وقال: أي شيء تصنع به، قال: أجعله يسني شيئا يسيرا في السّانية، فقال: تقضى الحاجة، إن شاء الله بغيره ووجّه له حمارا برسم السانية، وهو لا يشعر بشيء من ذلك كله.
قلت: وفي موجودات الله تعالى عبر، وأغربها عالم الإنسان، لما جبلوا عليه من الأهواء المختلفة، والطّباع المشتّتة، والقصور عن فهم أقرب الأشياء، مع الإحاطة بالغوامض.
حدّثنا غير واحد، منهم عمّي أبو القاسم، وابن الزّبير إذنا في الجملة، قالا:
حدّثنا أبو الحسن بن سراج عن أبي القاسم بن بشكوال، أن الفقيه صاحب الوثائق أبا
__________
(1) في الأصل: «لا يصحّ».
(2) السواني: جمع السانية وهي كالساقية، ما يسقى عليه الزرع والحيوان. لسان العرب (سنا).(1/114)
عمر بن الهندي، خاصم يوما عند صاحب الشّرطة والصلاة، إبراهيم بن محمد، فنكل وعجز عن حجّته، فقال له الشرطي: ما أعجب أمرك، أبا عمر، أنت ذكي لغيرك، بكيّ (1) في أمرك فقال أبو عمر: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ آيََاتِهِ لِلنََّاسِ} (2). ثم أنشد متمثّلا: [المنسرح]
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
قال: وحدّثني الشيخ أبو العباس بن الكاتب ببجاية، وهو آخر من كتبنا معه الحديث من أصحاب ابن الغمّاز، قال: كنت آويا إلى أبي الحسن حازم القرطجاني بتونس وكنت أحسن الخياطة، فقال لي: إن المستنصر خلع على جبّة جربيّة من لباسه، وتفصيلها ليس من تفصيل أثوابنا بشرق الأندلس، وأريد أن تحلّ أكمامها وتصيّرها مثل ملابسنا. فقلت له: وكيف يكون العمل؟ فقال: تحلّ رأس الكمّ، ويوضع الضيّق بالأعلى، والواسع بالطرف. فقلت: وبم يحيّر الأعلى؟ فإنه إذا وضع في موضع واسع، سطت علينا فرج ما عندنا ما يصنع فيها إلا أن رقّعنا بغيرها، فلم يفهم. فلما يئست منه تركته وانصرفت. فأين هذا الذهن الذي صنع المقصورة وغيرها من عجائب كلامه.
مولده: في رمضان من عام ثلاثين وستمائة.
وفاته: توفي بألمرية يوم الثلاثاء السابع والعشرين لربيع الآخر من عام اثنين وسبعمائة، ودفن بخارج باب بجاية بمقبرة من تربة الشيخ الزاهد أبي العباس بن مكنون.
أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن محمد ابن مصادف بن عبد الله
يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن مصادف من أهل بسطة، واستوطن غرناطة، وقرأ وأقرأ بها.
حاله: من أهل الطلب والسّلاطة والاجتهاد، وممّن يقصر محصّله عن مدى اجتهاده، خلوب (3) اللسان، غريب الشّكل، وحشيّه، شتيت الشّعر معفيه، شديد
__________
(1) البكيّ: الكثير البكاء، وهنا جاءت بمعنى: العاجز والعييّ. لسان العرب (بكى).
(2) سورة البقرة، الآية 187.
(3) الخلوب: الخلّاب يقال: خلبه إذا أمال قلبه بألطف القول. لسان العرب (خلب).(1/115)
الاقتحام والتّسوّر، قادر على اللّصوق بالأشراف. رمى بنفسه على مشيخة الوقت يطرقهم طروق الأمراض الوافدة، حتى استوعب الأخذ عن أكثرهم، يفكّ عن فائدته فكّ المتبرّم، وينتزعها بواسطة الحيا، ويسلّط على قنصها جوارح التبذّل والإطراء، إلى أن ارتسم في المقرئين بغرناطة، محوّلا عليه بالنّحب والملق، وسدّ الترتيب المدني ولوثة تعتاده في باب الرّكوب والثّقافة (1)، وهو لا يستطيع أن يستقرّ بين دفّتي السّرج، ولا يفرق بين مبسوط الكف، أخذ نفسه في فنون، من قرآن، وعربيّة، وتفسير، وامتحن مرّات لجرّ حركة القلقلة الذي لا يملك عنانه، ثم تخلّص من ذلك، وهو على حاله إلى الآن.
مشيخته: قرأ على الخطيب ببسطة، وأبي الأصبغ بن عامر، والخطيبين بها أبي عبد الله وأبي إسحاق ابن عمّه، وأبي عبد الله بن جابر، وعلى أبي عثمان بن ليون بألمريّة، والخطيب أبي عبد الله بن الغربي بحمّة (2). وتلا القرآن بقراءاته السبع على شيخنا أبي عبد الله بن الوالي العوّاد. وروى عن شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب، وعلى الحاج أبي الحجاج الساحلي، فكتب الإقراء، وأخذ الفقه عن الأستاذ أبي عبد الله البيّاني (3). وقرأ على قاضي الجماعة أبي القاسم البيّاني، وقرأ على قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني. ولازم أستاذ الجماعة أبا عبد الله الفخّار، وقرأ عليه العربية، وصاهره على بنته الأستاذ المذكور، وانتفع به، إلى أن ساء ما بينهما عند وفاة الشيخ فرماه بترمية بيضاء تخلّقها، مثيرة عجب، مرّة. وحاله متصلة على ذلك، وقد ناهز الاكتهال.
أحمد بن حسن بن باصة الأسلمي المؤقّت بالمسجد الأعظم بغرناطة
أصله من شرق الأندلس، وانتقل إليها والده، يكنى أبا جعفر.
حاله: كان نسيج وحده، وقريع دهره، معرفة بالهيئة، وإحكاما للآلة الفلكية، ينحت منها بيده ذخائر، يقف عندها النظر والخبر، جمال خطّ، واستواء صنعة، وصحة وضع، بلغ في ذلك درجة عالية، ونال غاية بعيدة، حتى فضل بما ينسب إليه
__________
(1) الثّقافة: الطعن بالرماح. لسان العرب (ثقف).
(2) الحمة أو الحامة: بالإسبانية، وهي من مدن غرناطة، وتقع غربي غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة. استولى عليها الإسبان سنة 887هـ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع مملكة غرناطة (ص 60).
(3) البيّاني: نسبة إلى بيّانة، وهي مدينة من أعمال قرطبة. الروض المعطار (ص 119).(1/116)
من ذلك كثيرا من الأعلام المتقدمين، وأزرت آلاته بالحمايريات والصّفاريّات وغيرها من آلات المحكمين، وتغالى الناس في أثمانها، أخذ ذلك عن والده الشيخ المتفنن شيخ الجماعة في هذا الفن.
وفاته: في عام تسعة (1) وسبعمائة.
أحمد بن محمد بن يوسف الأنصاري
من أهل غرناطة يكنى أبا جعفر، ويعرف بالحبالي.
حاله: عكف صدرا من زمانه منتظما في العدول (2)، آويا إلى تخصيص وسكون ودماثة، وحسن معاملة، له بصر بالمساحة والحساب، وله بصر بصناعة التعديل وجداول الأبراج، وتدرّب في أحكام النجوم، مقصود في العلاج بالرّقا والعزائم، من أولي المسّ والخبال، تعلّق بسبب هذه المنتحلات بأذيال الدول، وانبتّ من شيمته الأولى، فنال استعمالا في الشهادات المخزنية، وخبر منه أيام قربه من مبادئ الأمور والنّواهي، ومداخلة السلطان صمت وعقل، واقتصار على معاناة ما امتحن به، وهو الآن بقيد الحياة.
مشيخته: أخذ تلك الصناعة عن الشيخ أبي عبد الله الفخّار، المعروف بأبي خزيمة، أحد البواقع الموسومين بصحة الحكم فيها، وعلى أبي زيد بن مثنى وقرأ الطب على شيخنا أبي زكريا بن هذيل، رحمه الله ونسب إليه عند الحادثة على الدولة وانتقالها إلى يد المتغلّب، اختيار وقت الثورة وضمان تمام الأمر، وشهد بذلك بخطّ، وغيب من إيثارها. فلما عاد الأمر إلى السلطان المزعج بسببها إلى العدوة، أوقع به نكيرا كثيرا، وضربه بالسّياط التي لم يخلّصه منها إلا أجله، وأجلاه إلى تونس في جملة المغرّبين في أواخر عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
وأخبرني السلطان المذكور أن المترجم به كتب إليه بمدينة فاس، قبل شروعه في الوجهة، يخبره بعودة الملك إليه، وبإيقاعه المكروه الكبير به، بما شهد بمهارته في الصنعة، إن صحّ ذلك كله من قوانينها، نسأل الله أن يضفي علينا لبوس ستره، ويقينا شرّ عثرات الألسن بمنّه.
__________
(1) في الأصل: «تسع» وهو خطأ نحوي.
(2) العدول: جمع عدل وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. لسان العرب (عدل).(1/117)
أحمد بن محمد الكرني
من أهل غرناطة.
حاله: شيخ الأطباء بغرناطة على عهده، وطبيب الدار السلطانية. كان نسيج وحده، في الوقار والنّزاهة، وحسن السّمت، والتزام مثلى الطريقة، واعتزاز الصّنعة قائما على صناعة الطبّ، مقرئا لها، ذاكرا لنصوصها، موفّقا في العلاج، مقصودا فيه، كثير الأمل والمثاب، مكبوح العنان عمّا تثبت به أصول صناعته من علم الطبيعة، سنيّا، مقتصرا على المداواة أخذ عن الأستاذ أبي عبد الله الرّقوطي، ونازعه بالباب السلطاني، لمّا شدّ، واحتيج إلى ما لديه في حكم بعض الأموال المعروضة على الأطبّاء، منازعة أوجبت من شيخه يمينا أن لا يحضر معه بمكان، فلم يجتمعا بباب السلطان بعد، مع التمسّك بما لديهما، وأخذ عن ابن عروس وغيره، وأخذ عنه جملة من شيوخنا كالطبيب أبي عبد الله بن سالم، والطبيب أبي عبد الله بن سراج وغيرهما.
حدّثني والدي بكثير من أخباره في الوقار وحسن الترتيب، قال: كنت آنس به، ويعجبني استقصاؤه أقوال أهل هذا الفن من صنعته، على مشهوره، فلقد عرض عليه، لعليل لنا، بعض ما يخرج، وفيه حيّة، فقال على فتور، وسكونة، ووقار كثير: هذا العليل يتخلص، فقد قال الرئيس ابن سينا في أرجوزته: [الرجز]
إن خرج الخلط مع الحيّات ... في يوم بحران فعن حياة
وهذا اليوم من أيام البحرانية، فكان كما قال.
وفاته: كان حيّا سنة تسعين وستمائة.
أحمد بن محمد بن أبي الخليل، مفرّج الأموي (1)
مولاهم، من أهل إشبيلية، يكنى أبا العباس، وكناه ابن فرتون أبا جعفر وتفرّد بذلك، يعرف بالعشّاب، وابن الرّوميّة، وهي أشهرهما وألصقهما به.
أوّليّته: قال القاضي أبو عبد الله (2): كان ولاء (3) جدّه أحد أطباء قرطبة، وكان قد تبنّاه، وعن مولاه أخذ علم النبات.
__________
(1) ترجمة أحمد بن محمد ابن الرومية في اختصار القدح المعلى (ص 181)، والذيل والتكملة (السفر الأول ص 487)، والتكملة (ج 1ص 107)، ونفح الطيب (ج 3ص 341).
(2) هو ابن عبد الملك المراكشي، وهذا النص في كتابه: الذيل والتكملة (السفر الأول ص 488).
(3) في الأصل «والد» والتصويب من الذيل والتكملة، وجدّه هو: مفرج.(1/118)
حاله: كان نسيج وحده، وفريد دهره، وغرّة جنسه، إماما في الحديث، حافظا، ناقدا، ذاكرا تواريخ المحدّثين وأنسابهم وموالدهم ووفاتهم، وتعديلهم، وتجريحهم عجيبة نوع الإنسان في عصره، وما قبله، وما بعده، في معرفة علم النبات، وتمييز العشب، وتحليتها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها، بمشرق أو مغرب حسّا، ومشاهدة، وتحقيقا، لا مدافع له في ذلك، ولا منازع، حجة لا تردّ ولا تدفع، إليه يسلّم في ذلك ويرجع. قام على الصّنعتين لوجود القدر المشترك بينهما، وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرّحلة والتّقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان، وغير ذلك. وكان زاهدا في الدنيا، مؤثرا بما في يديه منها، موسّعا عليه في معيشته، كثير الكتب، جمّاعا لها، في كل فنّ من فنون العلم، سمحا لطلبه العلم، ربما وهب منها لملتمسه الأصل النفيس، الذي يعزّ وجوده، احتسابا وإعانة على التعليم له في ذلك أخبار منبئة عن فضله، وكرم صنعه، وكان كثير الشّغف بالعلم، والدّؤوب على تقييده ومداومته، سهر الليل من أجله، مع استغراق أوقاته، وحاجات الناس إليه، إذ كان حسن العلاج في طبّه المورود، الموضوع، لثقته ودينه.
قال ابن عبد الملك (1): إمام المغرب قاطبة فيما كان سبيله، جال الأندلس، ومغرب العدوة، ورحل إلى المشرق، فاستوعب المشهور من إفريقيّة، ومصره، وشامه، وعراقه، وحجازه، وعاين الكثير ممّا ليس بالمغرب وعاوض كثيرا فيه، كلّ ما أمكنه، بمن يشهد له بالفضل في معرفته، ولم يزل باحثا على حقائقه، كاشفا عن غوامضه، حتى وقف منه على ما لم يقف عليه غيره، ممّن تقدّم في الملّة الإسلامية، فصار واحد عصره فردا، لا يجاريه فيه أحد بإجماع من أهل ذلك الشأن.
مذاهبه: كان (2) سنّيّا ظاهريّ المذهب، منحيا على أهل الرأي، شديد التعصّب لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، على دين متين، وصلاح تامّ، وورع شديد انتشرت عنه تصانيف أبي محمد بن حزم، واستنسخها (3)، وأظهرها، واعتنى بها، وأنفق عليها أموالا جمّة، حتى استوعبها جملة، حتى لم يشذّ له منها إلّا ما لا خطر، متقدما ومقتدرا على ذلك بجدّته ويساره، بعد أن تفقّه طويلا على أبي الحسن (4) محمد بن أحمد بن زرقون في مذهب مالك.
__________
(1) الذيل والتكملة (السفر الأول ص 513512) والنقل عن ابن عبد الملك ليس حرفيّا.
(2) النص في الذيل والتكملة (السفر الأول ص 512).
(3) في الذيل والتكملة: «واستحسنها».
(4) في الذيل والتكملة: «أبي الحسين».(1/119)
مشيخته: البحر الذي لا نهاية له روى (1) بالأندلس عن أبي إسحاق الدّمشقي (2)، وأبي عبد الله اليابري (3)، وأبي البركات بن داود (4)، وأبي بكر بن طلحة، وأبي عبد الله بن الحر، وابن العربي، وأبي علي الحافظ، وأبي زكريا بن مرزوق، وابن يوسف، وابن ميمون الشريشي، وأبي الحسن بن زرقون، وأبي ذرّ مصعب، وأبي العباس ابن سيّد الناس، وأبي القاسم البرّاق، وابن جمهور، وأبي محمد بن محمد بن الجنّان، وعبد المنعم بن فرس، وأبي الوليد بن عفير قرأ عليهم وسمع. وكتب إليه مجيزا من أهل الأندلس والمغرب، أبو البقاء بن قديم، وأبو جعفر حكم الجفّار، وأبو الحسن الشّقوري، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا الدمشقي، وأبو عبد الله الأندرشي، وأبو القاسم بن سمجون، وأبو محمد الحجري.
ومن أهل المشرق جملة، منهم أبو عبد الله الحمداني بن إسماعيل بن أبي صيف، وأبو الحسن الحويكر نزيل مكة. وتأدّى إليه أذن طائفة من البغداديين والعراقيين له في الرواية، منهم ظفر بن محمد، وعبد الرحمن بن المبارك، وعلي بن محمد اليزيدي، وفناخسرو فيروز بن سعيد، وابن سنيّة، ومحمد بن نصر الصّيدلاني، وابن تيميّة، وابن عبد الرحمن الفارسي، وابن الفضل المؤذّن، وابن عمر بن الفخّار، ومسعود بن محمد بن حسّان المنيغي، ومنصور بن عبد المنعم الصاعدي، وابن هوازن القشيري، وأبو الحسن النّيسابوري.
وحجّ (5) سنة اثنتي عشرة (6) وستمائة، فأدّى الفريضة سنة ثلاث عشرة (7)، ولقّب بالمشرق بحب الدّين. وأقام في رحلته نحو ثلاثة أعوام، لقي فيها من الأعلام العلماء، أكابر جملة فمنهم ببجاية أبو الحسن بن نصر (8)، وأبو محمد بن مكّي (9)
وبتونس أبو محمد المرجاني (10) وبالإسكندرية أبو الأصبغ بن عبد العزيز (11)، وأبو
__________
(1) راجع الذيل والتكملة (السفر الأول ص 488).
(2) في الذيل والتكملة: هو أبو إسحاق بن خلف الدمشقي السنهوري.
(3) في الذيل: «ابن عبد الله اليافري».
(4) هو أبو البركات عبد الرحمن بن داود الزيزاري، كما في الذيل والتكملة.
(5) النص في الذيل والتكملة (السفر الأول ص 491489).
(6) في الأصل: «اثني عشر» وهو خطأ نحوي.
(7) في الأصل: «الفريضة ثلاث عشر».
(8) في الذيل والتكملة: «أبو الحسن علي بن أبي نصر بن عبد الله».
(9) في الذيل والتكملة: «يبكي».
(10) في الذيل والتكملة: «أبو محمد عبد الله بن المرجاني».
(11) في الذيل والتكملة: «أبو الأصبغ عيسى بن عبد العزيز بن سليمان».(1/120)
الحسن بن جبير الأندلسي (1)، وأبو الفضل بن جعفر بن أبي الحسن بن أبي البركات، وأبو محمد عبد الكريم الربعي، وأبو محمد العثماني أجاز له ولم يلقه، وبمصر أبو محمد بن سحنون الغماري ولم يلقه، وأبو الميمون بن هبة الله القرشي وبمكة أبو علي الحسن بن محمد بن الحسين، وأبو الفتوح نصر بن أبي الفرج الحصري وببغداد (2) أحمد بن أبي السعادات، وأحمد بن أبي بكر وابن أبي (3) خط طلحة، وأبو نصر القرشي (4)، وإبراهيم بن أبي ياسر القطيعي، ورسلان (5) المسدي، والأسعد بن بقاقا (6)، وإسماعيل بن باركش الجوهري، وإسماعيل بن أبي البركات.
وبرنامج مرويّاته وأشياخه، مشتمل على مئين (7) عديدة، مرتبة أسماؤهم على البلاد العراقية وغيرها، لو تتبّعتها لاستبعدت الأوراق، وخرجت عمّا قصدت.
قال القاضي أبو عبد الله المراكشي بعد الإتيان على ذلك (8): منتهى الثّقات أبو العباس النباتي، من التّقييد الذي قيّد، وعلى ما ذكره في فهارس له منوّعة، بين بسط، وتوسّط، واقتضاب، وقفت منها بخطّه، وبخطّ بعض أصحابه، والآخذين عنه.
من أخذ عنه: حدّث ببغداد برواية واسعة، فأخذ عنه بها أبو عبد الله بن سعيد اللّوشي وبمصر الحافظ أبو بكر القط، وبغيرها من البلاد أمّة وقفل برواية واسعة، وجلب كتبا غريبة.
تصانيفه: له (9) فيما ينتحله من هذين الفنّين تصانيف مفيدة، وتنبيهات نافعة، واستدراكات نبيلة بديعة (10)، منها في الحديث ورجاله (11) «المعلم بزوائد البخاري على مسلم»، و «اختصار غريب (12) حديث مالك» للدّارقطني، و «نظم الدّراري فيما
__________
(1) في الذيل والتكملة: «أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير».
(2) في الذيل والتكملة: «وببغداد الأحامد: ابن أبي السعادات أحمد بن أبي بكر أحمد بن كرم بن غالب».
(3) في الذيل والتكملة: «وابن أبي في خط طلحة».
(4) في الذيل والتكملة: «النّرسي».
(5) في الذيل والتكملة: «وأرسلان السّيّدي».
(6) في الذيل والتكملة: «بقا».
(7) راجعها في الذيل والتكملة (في السفر الأول ص 510490).
(8) الذيل والتكملة (السفر الأول ص 510).
(9) النص في الذيل والتكملة (السفر الأول ص 513).
(10) في الذيل والتكملة: «بارعة، وتعقبات لازمة».
(11) في الأصل: «منها في الحديث: رجّالة المعلّم»، والتصويب من الذيل.
(12) في الأصل: «غرائب».(1/121)
تفرّد به مسلم عن البخاري»، و «توهين طرق حديث الأربعين»، و «حكم الدّعاء في أدبار الصّلوات»، و «كيفية الأذان يوم الجمعة»، و «اختصار الكامل في الضّعفاء والمتروكين» لأبي محمد بن عدي، و «الحافل في تذييل الكامل» و «أخبار محمد بن إسحاق».
ومنها في النبات (1)، «شرح حشائش دياسقوريدوس وأدوية جالينوس»، والتنبيه على أوهام ترجمتها (2) و «التنبيه على أغلاط الغافقي (3)»، والرّحلة النّباتية والمستدركة، وهو الغريب الذي اختصّ به، إلّا أنه عدم عينه بعده، وكان معجزة في فنّه إلى غير ذلك من المصنّفات الجامعة، والمقالات المفيدة المفردة، والتعاليق المنوّعة.
مناقبه: قال ابن عبد الملك وابن الزّبير، وغيرهما (4): عني تلميذه، الآخذ به، الناقد، المحدّث، أبو محمد بن قاسم الحرّار، وتهمم بجمع أخباره، ونشر مآثره، وضمّن ذلك مجموعا حفيلا نبيلا.
شعره: ذكره أبو الحسن بن سعيد في «القدح المعلّى»، وقال (5): جوّال بالبلاد المشرقية (6) والمغربية، جالسته بإشبيلية بعد عوده (7) من رحلته، فرأيته متعلقا بالأدب، مرتاحا إليه ارتياح البحتري لحلب، وكان غير متظاهر بقول الشّعر، إلّا أن أصحابه يسمعون منه، ويروون عنه، وحملت عنه (8) في بعض الأوقات، فقيّدت عنه هذه الأبيات: [البسيط]
خيّم بجلّق (9) بين الكأس والوتر ... في جنّة هي ملء السّمع والبصر
ومتّع الطّرف في مرأى محاسنها ... تروض (10) فكرك بين الروض والزّهر
وانظر إلى ذهبيّات الأصيل بها ... واسمع إلى نغمات الطّير في الشّجر (11)
وقل لمن لام في لذّاته بشرا ... دعني فإنّك عندي من سوى البشر
__________
(1) في الذيل والتكملة: «ومنها في النبات شرحه حشائش».
(2) في الذيل والتكملة: «مترجميها».
(3) في الذيل والتكملة: «الغافقي في أدويته».
(4) الذيل والتكملة (السفر الأول ص 513).
(5) النص مع الأبيات في القدح المعلى (ص 181).
(6) في القدح المعلى: «بالبلاد المغربية والمشرقية».
(7) في القدح المعلى: «عودته».
(8) في القدح المعلى: «وحملته عليه».
(9) في الأصل: «خيم تخلّق»، والتصويب من القدح المعلى، وجلق: هي دمشق.
(10) في الأصل: «بروض» والتصويب من القدح المعلى.
(11) في الأصل: «السحر» والتصويب من القدح المعلى.(1/122)
قال: وكثيرا (1) ما يطنب على دمشق، ويصف محاسنها، فما انفصل (2) عني إلّا وقد امتلأ خاطري من شكلها، فأتمنّى أن أحلّ مواطنها، إلى أن أبلغ (3) الأمل قبل المنون: [الوافر]
ولو أني (4) نظرت بألف عين ... لما استوفت محاسنها العيون
دخوله غرناطة: دخلها غير ما مرّة لسماع الحديث، وتحقيق النبات ونقر عن عيون النبات بجبالها، أحد خزائن الأدوية، ومظان الفوائد الغريبة، يجري ذلك في تواليفه بما لا يفتقر إلى شاهد.
مولده: في محرم سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وفاته: توفي بإشبيلية عند مغيب الشفق من ليلة الاثنين مستهل ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة (5). وكان ممّا رثي، قال ابن الزّبير: ورثاه جماعة من تلامذته كأبي محمد الحرّار، وأبي أمية إسماعيل بن عفير، وأبي الأصبغ عبد العزيز الكبتوري (6) وأبي بكر محمد بن محمد بن جابر السقطي، وأبي العباس بن سليمان ذكر جميعهم الحرار المذكور في كتاب ألّفه في فضائل الشيخ أبي العباس، رحمه الله.
أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم (7)
أوّليّته: بيت بني سعيد العنسي، بيت مشهور في الأندلس بقلعة يحصب، نزلها جدّهم الأعلى، عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر وكان له حظوة
__________
(1) في القدح المعلى: «وكان كثيرا ما يطنب في الثناء على دمشق».
(2) في القدح المعلى: «فلا انفصل عنه إلّا».
(3) في القدح المعلى: «بلّغ الله الأمل والأماني قبل المنون».
(4) في القدح: «وإني لو نظرت».
(5) في القدح المعلى: «وكانت وفاته ببلده في سنة إحدى وثلاثين وستمائة». وفي الذيل والتكملة (السفر الأول ص 514): «توفي بين الظهر والعصر من يوم الأحد الموفّي ثلاثين من ربيع الأول، واتفقوا أن ذلك كان سنة سبع وثلاثين وستمائة».
(6) نسبة إلى كبتور. وضبطها الحميري بالقاف، وقال: «قبتور: قرية من قرى إشبيلية». الروض المعطار (ص 454).
(7) يكنى أحمد بن عبد الملك بن سعيد بأبي جعفر، وترجمته في المغرب (ج 2ص 164)، ورايات المبرزين (ص 170)، ونفح الطيب (ج 5ص 317)، والحلل الموشية (ص 118).(1/123)
لمكانه من اليمانيّة بقرطبة وداره بقرب قنطرتها، كانت معروفة وهو بيت القيادة والوزارة، والقضاء، والكتابة، والعمل، وفيما يأتي، وما مرّ كفاية من التنبيه عليه.
حاله: قال الملّاحي: كان من جلّة الطلبة، ونبهائهم وله حظّ بارع من الأدب، وكتابة مفيدة، وشعر مدوّن. قال أبو الحسن بن سعيد في كتابه المسمّى ب «الطالع» (1): نشأ محبّا في الأدب، حافظا للشعر، وذاكرا لنظم الشريف الرّضي، ومهيار، وابن خفاجة، وابن الزّقاق، فرقّت طباعه، وكثر اختراعه وإبداعه ونشأت معه حفصة بنت الحاجّ الرّكوني أديبة زمانها، وشاعرة أوانها، فاشتدّ بها غرامه، وطال حبّه وهيامه وكانت بينهما منادمات ومغازلات أربت على ما كان بين علوة وأبي عبادة يمرّ من ذلك إلمام في شعر حفصة، إن شاء الله.
نباهته وحظوته: ولمّا وفدت الأندلس، على صاحب أمر الموحّدين في ذلك الأوان، وهو محتلّ بجبل الفتح (2)، واحتفل شعراؤها في القصائد، وخطباؤها في الخطب بين يديه، كان في وفد غرناطة، أبو جعفر هذا المترجم به، وهو حدث السنّ في جملة أبيه وإخوته وقومه، فدخل معهم على الخليفة، وأنشده قصيدة قال أبو الحسن بن سعيد، كتبت منها من خط والده قوله (3): [الطويل]
تكلّم فقد أصغى إلى قولك الدّهر ... وما لسواك اليوم (4) نهي ولا أمر
ورم كلّ ما قد شئته فهو كائن ... وحاول فلا برّ يفوت ولا بحر
وحسبك هذا البحر فألا (5) فإنه ... يقبّل تربا داسه جيشك الغمر (6)
وما صوته (7) إلّا سلام مردّد ... عليك وعن بشر بقربك يفتر (8)
بجيش لكي يلقى أمامك من غدا ... يعاند أمرا لا يقوم له أمر
__________
(1) هو كتاب «الطالع السعيد، في تاريخ بني سعيد».
(2) جبل الفتح: هو جبل طارق، وهنا يشير ابن الخطيب إلى الحصن الذي بناه عبد المؤمن بن علي في هذا الجبل سنة 555هـ، وقد تولّى بناءه ابنه السيد أبو سعيد عثمان صاحب غرناطة، وشاور فيه الحاج يعيش المهندس. الحلل الموشية (ص 118).
(3) الأبيات في الحلل الموشية (ص 119118) وفيه أن قائلها هو أبو حفص بن سعيد العنسي.
وورد منها في المغرب (ج 2ص 165) بيتان فقط هما الأول والرابع.
(4) في المغرب: «الآن».
(5) في الحلل الموشية: «بالا».
(6) في الحلل الموشية: «النجر».
(7) في المغرب: «صوتها».
(8) في الحلل الموشية: «مفتر». ورواية صدر البيت في المغرب هي:
وفي كل قلب من تصعّدها ذعر(1/124)
أطلّ (1) على أرض الجزيرة سعدها ... وجدّد فيها ذلك الخبر الخبر (2)
فما طارق إلّا لذلك مطرق ... ولا ابن نصير لم يكن ذلك النّصر
هما مهّداها كي تحلّ بأفقها ... كما حلّ عند التّمّ بالهالة البدر
قال: فلمّا أتمّها أثنى عليه الخليفة، وقال لعبد الملك أبيه: أيّهما خير عندك في ابنيك فقال يا سيّدنا: محمد دخل إليكم مع أبطال الأندلس وقوّادها، وهذ مع الشعر، فانظروا ما يجب أن يكون خيرا عندي، فقال الخليفة: كلّ ميسّر لما خلق له، وإذا كان الإنسان متقدّما في صناعة فلا يؤسف عليه، إنما يؤسف على متأخّر القدر، محروم الحظ. ثم أنشد فحول الشعراء والأكابر. ثم لمّا ولّي غرناطة ولده السيد أبو سعيد، استوزر أبا جعفر المذكور، واتصلت حظوته إلى أن كان ما يذكر من نكبته.
محنته: قال قريبه وغيره: فسد ما ببنه وبين السيد أبي سعيد لأجل حفصة الشاعرة، إذ كانت محلّ هواه، ثم اتصلت بالسيّد، وكان له بها علاقة، فكان كلّ منهما على مثل الرّضف (3) للآخر، ووجد حسّاده السبيل، إلى إغراء السيّد به، فكان مما نمي به عنه، أن قال لحفصة يوما: وما هذا الغرام الشديد به، يعني السيد، وكان شديد الأدمة (4)، وأنا أقدر أن أشتري لك من المعرض أسودا خيرا منه بعشرين دينارا فجعل السيد يتوسّد له المهالك، وأبو جعفر يتحفّظ كل التحفّظ. وفي حالته تلك يقول: [الكامل]
من يشتري مني الحياة وطيبها ... ووزارتي وتأدّبي وتهذّبي
بمحلّ راع في ذرى ملمومة ... زويت عن الدنيا بأقصى مرتب
لا حكم يأخذه بها إلّا لمن ... يعفو ويرؤف دائما بالمذنب
فلقد سئمت من الحياة مع امرئ ... متغضّب متغلّب مترتّب
الموت يلحظني إذا لا حظته ... ويقوم في فكري أوان تجنّبي
لا أهتدي مع طول ما حاولته ... لرضاه في الدنيا ولا للمهرب
__________
(1) في الحلل الموشية: «أطيل».
(2) رواية عجز البيت في الحلل هي:
ويمددها ذلك المخبر الخبر
(3) الرّضف: الحجارة الممحاة يوغر بها اللّبن. والمراد أن كلّا منهما شديد الحقد على الآخر.
محيط المحيط (رضف).
(4) الأدمة: اللون المشرب سوادا. محيط المحيط (أدم).(1/125)
وأخذ في أمره مع أبيه وإخوته، وفتنة ابن مردنيش (1) مضطربة فقال له أخوه محمد وأبوه: إن حركنا حركة كنا سببا لهلاك هذا البيت، ما بقيت دولة هؤلاء القوم، والصبر عاقبته حميدة، وقد كنّا ننهاك عن الممارجة (2)، فلم تركب إلّا هواك وأخذ مع أخيه عبد الرحمن، واتفقا على أن يثورا في القلعة باسم ابن مردنيش، وساعدهما قريبهما على ذلك حاتم بن حاتم بن سعيد، وخاطبوا ابن مردنيش، وصدر لهم جوابه بالمبادرة، ووصلت منه خيل ضاربة، وتهيّأ لدخول القلعة وتهيّأ الحصول في القلعة، وخافوا من ظهور الأمر فبادر حاتم وعبد الرحمن إلى القلعة، وتمّ لهما المراد وأخّر الجبن أبا جعفر ففاتاه، وتوقّع الطلب في الطريق إلى القلعة، فصار متخفّيا إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى جهة ابن مردنيش ووضع السيّد عليه العيون في كل جهة، فقبض عليه بمالقة، وطولع بأمره فأمر بقتله صبرا، رحمه الله.
جزالته وصبره: قال أبو الحسن بن سعيد: حدّثني الحسين بن دويرة، قال:
كنت بمالقة لمّا قبض على أبي جعفر، وتوصّلت إلى الاجتماع به، ريثما استؤذن السيد في أمره حين حبس، فدمعت عيني لما رأيته مكبولا قال: أعليّ تبكي بعد ما بلغت من الدنيا أطايب لذّاتها؟ فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزّجاج، وركبت كل هملاج (3)، ونمت في الديباج، وتمتعت بالسّراري والأزواج، واستعملت من الشمع السّراج الوهّاج، وهأنا في يد الحجّاج، منتظرا محنة الحلّاج قادم على غافر، لا يحوج إلى اعتذار ولا احتجاج. فقلت: ألا أبكي على من ينطق بمثل هذا؟ ثم تفقّد، فقمت عنه، فما رأيته إلّا مصلوبا، رحمه الله.
شعره (4): [الطويل]
أتاني كتاب منك يحسده الدّهر ... أما حبره ليل، أما طرسه فجر؟
به جمع الله الأمانيّ لناظري ... وسمعي وفكري فهو سحر ولا سحر
ولا غرو أن أبدى العجائب ربّه ... وفي ثوبه برّ، وفي كفّه بحر
ولا عجب إن أينع الزّهر طيّه ... فما زال صوب القطر يبدو به الزّهر
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش، أمير شرق الأندلس (مرسية وبلنسية). توفي بمرسية سنة 567هـ. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 259)، والمنّ بالإمامة (ص 109، 210)، والحلّة السيراء (ج 2ص 233231).
(2) الممارجة: الفساد والفتنة يقال: مرج السلطان رعيّته: خلّاها والفساد. محيط المحيط (مرج).
(3) الهملاج هو الدابة الأصيلة الحسنة السير. لسان العرب (هملج).
(4) البيت الأول فقط في المغرب (ج 2ص 165).(1/126)
ومن شعره ما يجري مجرى المرقص، وقد حضر مع الرّصافي والكتندي ومعهم مغنّ بروطة (1): [مجزوء الكامل]
لله يوم مسرّة ... أضوى وأقصر من ذباله
لما نصبنا للمنى ... فيه من أوتار حباله
ظل (2) النهار بها كمر ... تاع، وأجفلت الغزاله
وشعره مدوّن كما قلنا، وهذا القدر عنوان على نبله.
غريبة في أمره مع حفصة
قال حاتم بن سعيد: وكان قد أجرى الله على لسانه، إذا حرّكت الكأس بها غرامه، أن يقول: والله لا يقتلني أحد سواك وكان يعني بالحبّ، والقدر موكل بالمنطق، قد فرغ من قتله بغيره من أجلها. قال: ولمّا بلغ حفصة قتله لبست الحداد، وجهرت بالحزن، فتوعّدت بالقتل، فقالت في ذلك: [الخفيف]
هدّدوني من أجل لبس الحداد ... لحبيب أردوه لي بالحداد
رحم الله من يجود بدمع ... أو ينوح على قتيل الأعادي
وسقته بمثل جود يديه ... حيث أضحى من البلاد الغوادي
ولم ينتفع بعد بها، ثم لحقت به بعد قليل.
وفاته: توفي على حسب ما ذكر، في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
أحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد بن أحمد القرشي، المعروف بابن فركون (3)
يكنى أبا جعفر.
أوّليّته: قد مرّ ذلك في اسم جدّه قاضي الجماعة (4)، وسيأتي في اسم والده.
__________
(1) الأبيات في المغرب (ج 2ص 167).
(2) في المغرب: «طار».
(3) ترجم له ابن الخطيب هنا فأثنى عليه، وترجم له في الكتيبة الكامنة (ص 305) فذمّه. وترجمته أيضا في نفح الطيب (ج 10ص 141).
(4) جدّه قاضي الجماعة هو أحمد بن محمد بن أحمد بن هشام القرشي، وقد تقدّمت ترجمته.(1/127)
حاله: شعلة من شعل الذكاء والإدراك، ومجموع خلال حميدة على الحداثة، طالب نبيل، مدرك، نجيب، بذّ أقرانه كفاية، وسما إلى المراتب، فقرأ، وأعرب، وتمر (1)، وتدرّب، واستجاز له والده شيوخ بلده فمن دونهم، ونظم الشعر، وقيّد كثيرا، وسبق أهل زمانه في حسن الخط سبقا أفرده بالغاية القصوى فيراعه اليوم المشار إليه بالظّرف والإتقان، والحوا، والإسراح اقتضى ذلك كله ارتقاؤه إلى الكتابة السلطانية. ومزية الشّفوف بها، بالخلع والاستعمال واختصّ بي، وتأدب بما انفرد به من أشياخ تواليفي، فآثرته بفوائد جمّة، وبطن حوضه من تحلّمه، وترشّح إلى الاستيلاء على الغاية.
شعره: أنشد له بين يدي السلطان في الميلاد الكريم: [الكامل]
حيّ المعاهد بالكثيب وجادها ... غيث يروي حيّها وجمادها
مولده: في ربيع الآخر من عام سبعة وأربعين وسبعمائة.
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان
من أهل مالقة يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن صفوان (2).
حاله: بقيّة الأعلام، أديب من أدباء هذا القطر، وصدر من صدور كتّابه، ومشيخة طلبته، ناظم، ناثر، عارف، ثاقب الذهن، قويّ الإدراك، أصيل النظر، إمام الفرائض والحساب والأدب والتّوثيق، ذاكر للتاريخ واللغة، مشارك في الفلسفة والتصوّف، كلف بالعلوم الإلهية، آية الله في فكّ المعمّى، لا يجاريه في ذلك أحد ممّن تقدّمه، شأنه عجب، يفكّ من المعمّيات والمستنبطات، مفصولا وغير مفصول شديد التعصّب لذي ودّ، وبالعكس، تامّ الرّجولة، قليل التّهيّب، مقتحم حمى أهل الجاه والحمد والمضايقة، إذا دعاه لذلك داع حبل نقده على غاربه، راض بالخمول، متبلّغ بما تيسّر، كثير الدؤوب والنظر، والتقييد والتصنيف، على كلال الجوارح، وعائق الكبرة (3)، متقارب نمطي الشعر والكتابة، مجيد فيهما، ولنظمه شفوف على نثره.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي، أستاذ الجملة من أهل بلده، ومولى النّعمة عليهم، لازمه وانتفع به ورحل إلى العدوة، فلقي جملة، كالقاضي
__________
(1) تمر: أطعم التّمر، والمراد أنه أثمر.
(2) ترجمة ابن صفوان في الكتيبة الكامنة (ص 216)، ونفح الطيب (ج 8ص 176).
(3) الكبرة: الكبر في السّنّ. محيط المحيط (كبر).(1/128)
المؤرّخ أبي عبد الله بن عبد الملك، والأستاذ التعالمي أبي العباس بن البنّاء (1)، وقرأ عليهم بمرّاكش.
نباهته: استدعاه السلطان، ثاني الملوك من بني نصر (2)، إلى الكتابة عنه مع الجلّة، ببابه، وقد نما عشّه، وعلا كعبه، واشتهر ذكاؤه وإدراكه. ثم جنح إلى العودة لبلده. ولمّا ولّي الملك السلطان أبو الوليد، ودعاه إلى نفسه، ببلده مالقة، استكتبه رئيسا مستحقّا، إذ لم يكن ببلده. فأقام به واقتصر على كتب الشروط، معروف القدر، بمكان من القضاة ورعيهم، صدرا في مجالس الشّورى وإلى الآن يجعل إلى زيارة غرناطة، حظّا من فصول بعض السنين، فينصب بها العدالة، ثم يعود إلى بلده في الفصل الذي لا يصلح لذلك. وهو الآن بقيد الحياة، قد علقته أشراك الهرم، وفيه بعد مستمتع، بديع، كبير.
تصانيفه: من تواليفه، «مطلع الأنوار الإلهية» و «بغية المستفيد» و «شرح كتاب القرشي في الفرائض»، لا نظير له. وأما تقاييده على أقوال يعترضها، وموضوعات ينتقدها، فكثيرة.
شعره: قال في غرض التّصوّف: وبلغني أنه نظمها بإشارة من الخطيب، وليّ الله، أبي عبد الله الطّنجالي، كلف بها القوّالون والمسمّعون بين يديه (3): [الكامل]
بان الحميم فما الحمى والبان ... بشفاء من عنه الأحبّة بانوا
لم ينقضوا عهدا بينهم ولا ... أنساهم ميثاقك الحدثان
لكن جنحت لغيرهم فأزالهم ... عن أنسهم بك موحش غيران
لو صحّ حبّك ما فقدتهم ولا ... سارت بهم عن حبّك الأظعان
تشتاقهم، وحشاك هالة بدرهم ... والسّرّ منك لخلّهم (4) ميدان
ما هكذا أحوال أرباب الهوى ... نسخ الغرام بقلبك السّلوان
لا يشتكي ألم البعاد متيّم ... أحبابه في قلبه سكّان
ما عندهم إلّا الكمال وإنما ... غطّى على مرآتك (5) النّقصان
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، المشهور بابن البناء، المتوفىّ سنة 721هـ.
أزهار الرياض (ج 3ص 23). (ج 5ص 68).
(2) هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ، اللمحة البدرية (ص 50).
(3) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 222220).
(4) في الكتيبة: «لخيلهم».
(5) في الكتيبة: «مرآتها».(1/129)
شغلتك بالأغيار عنهم مقلة ... إنسانها عن لمحهم وسنان
غمّض جفونك عن سواهم معرضا ... إنّ الصّوارم حجبها الأجفان
واصرف إليهم لحظ فكرك شاخصا ... ترهم (1) بقلبك حيث (2) كنت وكانوا
ما بان (3) عن مغناك من ألطافه ... يهمي عليها سحابها الهتّان
وجياد أنعمه ببابك ترتمي ... تسري إليك بركبها الأكوان
جعلوا دليلا فيك (4) منك عليهم ... فبدا على تقصيرك البرهان
يا لا محا سرّ الوجود بعينه ... السّرّ فيك بأسره والشّان
ارجع لذاتك إن أردت تنزّها ... فيها لعيني ذي الحجا بستان
هي روضة مطلولة بل جنّة ... فيها المنى والرّوح والرّيحان
كم حكمة صارت تلوح لناظر ... حارت لباهر صنعها الأذهان
حجبت بشمسك (5) عن عيانك شمسها ... شمس محاسن ذكرها التّبيان (6)
لولاك ما خفيت عليك آياتها (7) ... والجوّ من أنوارها ملآن
أنت الحجاب لما تؤمّل منهم ... ففناؤك الأقصى لهم وجدان
فاخرج إليهم عنك مفتقرا لهم ... إنّ الملوك بالافتقار تدان
واخضع لعزّهم ولذ بهم (8) يلح ... منهم عليك تعطّف (9) وحنان
هم رشّحوك إلى الوصول إليهم ... وهم على طلب الوصال عوان (10)
عطفوا جمالهم على أجمالهم ... فحلى (11) المشوق الحسن والإحسان
يا ملبسين عبيدهم حلل الضّنى ... جسمي بما تكسونه يزدان
لا سخط عندي للذي ترضونه ... قلبي بذاك مفرح (12) جذلان
فبقربكم عين الغنا وببعدكم ... محض الفنا ومحبّكم ولهان (13)
__________
(1) في الكتيبة: «ترسم».
(2) في الكتيبة: «كيف».
(3) في الكتيبة: «ما غاب».
(4) في الكتيبة: «منك فيك».
(5) في الكتيبة: «بشخصك».
(6) في الكتيبة: «فمحا محاسن ذكرها النسيان».
(7) في الأصل: «آياتها» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «ولذلّهم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(9) في الكتيبة: «تلطّف».
(10) في الكتيبة: «أعانوا».
(11) في الكتيبة: «فسبا».
(12) في الكتيبة: «فارح».
(13) رواية البيت في الكتيبة هي:
تقريبكم عين البقاء وبعدكم ... محض الفناء وحبكم ولهان(1/130)
إني كتمت عن الأنام هواكم ... حتى دهيت وخانني الكتمان
ووشت بحالي عند ذاك (1) مدامع ... أدنى مواقع قطرها طوفان
وبدت عليّ شمائل عذريّة ... تقضي بأني فيكم هيمان
فإذا نطقت فذكركم لي منطق ... ما عن (2) سواكم للّسان بيان
وإذا صمتّ فأنتم سرّي الذي ... بين الجوانح في الفؤاد يصان
فبباطني وبظاهري لكم هوى ... من جنده الإسرار والإعلان
وجوانحي (3) وجميع أنفاسي وما ... أحوي، عليّ لحبّكم أعوان
وإليكم مني المفرّ فقصدكم ... حرم به للخائفين أمان
وقال يذمّ الدنيا ويمدح عقبى من يقلّل منها: [الطويل]
حديث الأمان في الحياة شجون ... إن ارضاك شأن أحفظتك شؤون
يميل إليها جاهل بغرورها ... فمنه اشتياق نحوها وأنين
وذو الحزم ينبو عن حجاه فحالها ... يقيه إذا شكّ عراه يقين
إليك صريع الأمن سنحة ناصح ... على نصحه سيما الشّفيق تبين
تجاف عن الدّنيا ودن باطّراحها ... فمركبها بالمطمعين حرون
وترفيعها خفض وتنعيمها أذى ... ومنهلها للواردين أجون
إذا عاهدت خانت وإن هي أقسمت ... فلا ترج برّا باليمين يمين
يروقك منها مطمع من وفائها ... وسرعان ما إثر الوفاء تخون
وتمنحك الإقبال كفّة حابل ... ومن مكرها في طيّ ذاك كمين
سقاه، لعمر الله، إمحاضك الهوى ... لمن أنت بالبغضاء فيه قمين (4)
ومن تصطفيه وهو يقطعك القلا ... وتهدى له الإعزاز وهو يهين
ألا إنّها الدنيا فلا تغترر بها ... ولود الدّواهي بالخداع تدين
يعمّ رداها الغرّ والخبّ ذا الدّها ... ويلحق فيها بالكناس عرين
وتشمل بلواها نبيلا وخاملا ... ويلقى مذال غدرها ومصون
أبنها، لحاها الله، كم فتنة لها ... تعلّم صمّ الصّخر كيف يلين
__________
(1) في الكتيبة: «في الغرام» بدل: «عند ذاك».
(2) في الكتيبة: «لي».
(3) في الكتيبة: «وجوارحي».
(4) القمين: الخليق، الجدير: محيط المحيط (قمن).(1/131)
فلا ملك سام أقالت عثاره ... ولو أنه للفرقدين خدين
ولا معهد إلّا وقد نبهت به ... بعيد الكرى للثّاكلات جفون
أبيت لنفسي أن يدنّسها الكرى ... سكون إليها موبق وركون
فليس قرير العين فيها سوى امرئ ... قلاه لها رأي يراه ودين
أبيت طلاق الحرص فالزّهد دائبا ... خليل له مستصحب وقرين
إذا أقبلت لم يولها بشر شيّق ... ولا خفّ للإقبال منه رزين
وإن أدبرت لم يلتفت نحوها بها ... وأدّ (1) على ما لم توات حزين
خفيف المطا من حمل أثقال همّها ... إذا ما شكت ثقل الهموم متون
على حفظه للفقر أبهى ملاءة ... سنا حليها وسط الزريّ يدين
برجف تخال الخائفين منازل ... لهنّ مكان حيث حلّ مكين
منازل نجد عندها وتهامة ... سوى واستوى هند لديه وصين
يرود رياضا أين سار وورده ... زلال اعتاض الورود معين
فهذا أثيل الملك لا ملك ثائر ... لأعدائه حرب عليه زبون
وهذا عريض العزّ لا عزّ مترف ... له من مشيدات القصور سجون
حوت شخصه أوصافها فكأنّه ... وإن لم يمت فوق التّراب دفين
فيا خابطا عشواء والصّبح قد بدا ... إلام تغطّي ناظريك دجون؟
أفق من كرى هذا التّعامي ولا تضع ... بجهلك علق العمر فهو ثمين
إذا كان عقبى ذي جدّة إلى بلى ... وقصارى ذي الحياة منون
ففيم التفاني والتنافس ضلّة؟ ... وفيم التّلاحي والخصام يكون؟
إلى الله أشكوها نفوسا عميّة ... عن الرّشد والحقّ اليقين تبين
وأسأله الرّجعى إلى أمره الذي ... بتوفيقه حبل الرّجاء متين
فلا خير إلّا من لدنه وجوده ... لتيسير أسباب النّجاة ضمين
وجمعت (2) ديوان شعره أيّام مقامي بمالقة عند توجّهي صحبة الرّكاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة وقدّمت صدره خطبة، وسمّيت الجزء ب «الدّرر الفاخرة، واللّجج الزاخرة»، وطلبت منه أن يجيزني، وولدي عبد الله، رواية ذلك عنه، فكتب بخطّه الرائق بظهر المجموع ما نصّه:
__________
(1) في الأصل: «واد» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 177).(1/132)
«الحمد لله مستحقّ الحمد أجبت سؤال الفقيه، الأجلّ، الأفضل، السّري، الماجد، الأوحد، الأحفل، الأديب البارع، الطّالع في أفق المعرفة والنّباهة، والرّفعة المكينة والوجاهة، بأبهى المطالع، المصنّف، الحافظ، العلّامة، الحائز في فنّي النظم والنثر، وأسلوبي الكتابة والشّعر، رتبة الرياسة (1) الحامل لراية التقدّم والإمامة محلّي جيد العصر بتواليفه (2) الباهرة الرّواء ومجلّي محاسن بنيه، الرائقة على منصّة الإشهاد (3) والأنباء أبي عبد الله بن الخطيب، وصل الله سعادته ومجادته (4) وسنى من الخير الأوفر، والصّنع الجميل (5) الأبهر، مقصده وإرادته وبلّغه في نجله الأسعد، وابنه الراقي بمحتده الفاضل، ومنشئه الأطهر، محلّ الفرقد، أفضل ما يؤمّل نحلته إياه في (6) المكرمات وإفادته وأجزت له ولابنه عبد الله المذكور، أبقاهما الله تعالى، في عزّة سنيّة الخلال، وعافية ممتدّة الأفياء، وارفة الظّلال رواية جميع ما تقيّد في الأوراق، المكتتب على ظهر أوّل ورقة منها، من نظمي ونثري وما تولّيت إنشاءه، واعتمدت بالارتحال (7) والرواية، اختياره وانتقاءه، أيام عمري وجميع ما لي من تصنيف وتقييد، ومقطوعة وقصيد (8)، وجميع ما أحمله عن أشياخي رضي الله عنهم، من العلوم، وفنون المنثور والمنظوم بأيّ وجه تأدّى (9) إليّ، وصحّ حملي له، وثبت إسناده لديّ (10) إجازة تامّة، في ذلك كله عامّة، على سنن الإجازات الشّرعية (11)، وشرطها المأثور عند أهل الحديث المرعيّ، والله ينفعني وإيّاهما بالعلم وحمله، وينظمنا جميعا في سلك حزبه المفلحين (12) وأهله، ويفيض علينا من أنوار بركته وفضله. قال ذلك وكتبه بخطّ يده الفانية، العبد الفقير إلى الغني (13) به، أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان، ختم الله له بخير حامدا لله تعالى، ومصلّيا ومسلما على محمد نبيّه المصطفى الكريم، وعلى آله الطاهرين ذوي المنصب العظيم، وصحبه (14) البررة، أولي (15) المنصب والأثرة والتقديم في سادس ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
__________
(1) في النفح: «الرياسة والإمامة».
(2) في النفح: «بتآليفه».
(3) في النفح: «الإشارة».
(4) في النفح: «سعادته، وحرس مجادته».
(5) كلمة «الجميل» غير واردة في النفح.
(6) في النفح: «من».
(7) في النفح: «بالارتجال».
(8) في الأصل: «وقصيدة» والتصويب من النفح.
(9) في الأصل: «تأتّى ذلك».
(10) في الأصل: «لي».
(11) في النفح: «الشرعي».
(12) في النفح: «المفلح».
(13) في النفح: «إلى الله الغني».
(14) في النفح: «وصحابته».
(15) في النفح: «أولي الأثرة».(1/133)
واشتمل هذا الجزء الذي أذن بحمله عنه من شعره على جملة من المطوّلات، منها قصيدة يعارض بها الرئيس أبا عليّ بن سينا في قصيدته الشهيرة في النّفس التي مطلعها: «هبطت إليك من المحلّ الأرفع»، أولها: «أهلا بمسراك المحب الموضع».
وأول قصيدة: [الطويل]
لمعناك في الأفهام سرّ مكتّم ... عليه نفوس العارفين تحوم
وأول أخرى: [الكامل]
أزهى حجابك رؤية الأغيار ... فامح الدّجى بأشعّة الأنوار
وأول أخرى: [الطويل]
ثناء وجودي في هواكم هو الخلد ... ومحو رسومي حسن ذاتي به يبدو
ومطلع أخرى: [الطويل]
ألا في الهوى بالذّلّ ترعى الوسائل ... ودمعي (1) أنادي مجيب وسائل
ومطلع أخرى: [الطويل]
هم القصد جادوا بالرّضى أو تمنّعوا ... صلوا اللوم فيما أودعوا القلب أودعوا
ومن أخرى: [البسيط]
سقى زمان (2) الرّضا هام من السّحب ... إلهي (3) العود من أثوابه القشب
ومن أخرى: [الكامل]
يا فوز نفسي في هواك هواؤها ... رقّت معانيها وراق مناؤها
ومن أخرى: [الكامل]
أمّا الغرام فبالفؤاد غريم ... هيهات منّي ما العذول يروم
ومن شعره في المقطوعات قوله (4): [الكامل]
رشق (5) العذار لجينه بنباله ... فغدا يدور (6) على المحبّ الواله
__________
(1) في الأصل: «ودمعي أن أنادي» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «زمن» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «والله» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 223).
(5) في الكتيبة: «وشى».
(6) في الكتيبة: «يرق».(1/134)
خطّ العذار بصفحتيه لامه ... خطّا توعّده بمحو جماله
فحسبت أنّ جماله شمس الضّحى ... حسنا وذاك الخطّ خطّ زواله
فدنا (1) إليّ تعجّبا وأجابني ... والرّوع يبدو من خلال مقاله
إنّ الجمال اللام آخره (2) فعج ... عن رسمه واندب على أطلاله
ومن أبياته في التّورية بالفنون قوله (3): [الوافر]
كففت عن الوصال طويل شوقي ... إليك وأنت للرّوح الخليل
وكفّك للطويل (4) فدتك نفسي ... قبيح ليس يرضاه الخليل
وقال في التّورية بالعروض (5): [الكامل]
يا كاملا شوقي إليه وافر ... وبسيط خدّي في هواه عزيز
عاملت أسبابي لديك (6) بقطعها (7) ... والقطع في الأسباب ليس يجوز
وقال في التّورية بالعربية (8): [الوافر]
أيا قمرا مطالعه جناني ... وغرّته توارى (9) عن عياني (10)
أأصرف في هواك عن اقتراحي (11) ... وسهدي وانتحابي علّتان؟
وقال أيضا: [الرجز]
لا تصحبن يا صاحبي غير الوفي ... كلّ امرئ عنوانه من يصطفي
كم من خليل بشره زهر الرّبى ... وطيّ ذاك البشر حدّ المرهف
ظاهره يريك سرّ من رأى ... وأنت من إعراضه في أسف
ووقعت بينه وبين قاضي بلده أبي عمرو بن المنظور مقاطعة، انبرى بها إلى مطالبته بما دعاه إلى التحوّل مضطرّا إلى غرناطة، وأخذ بكظمه، وطوّقه الموت
__________
(1) في الكتيبة: «فرنا».
(2) في الأصل: «آخره اللام»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(3) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 222).
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 222).
(8) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 222).
(4) في الكتيبة: «للوصال».
(6) في الكتيبة: «إليك».
(7) في الأصل: «فقطعتها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(9) في الكتيبة: «توارت».
(10) في الأصل: «عيان» والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(11) في الكتيبة: «افتراقي».(1/135)
في أثناء القطيعة، فقال في ذلك متشفّيا، وهو من نبيه كلامه، وكلّه نبيه:
[الطويل]
تردّى ابن منظور وحمّ حماه ... وأسلمه حام له ونصير
تبرّأ منه أولياء غروره ... ولم يقه بأس المنون ظهير
وأودع بعد الأنس موحش بلقع ... فحيّاه فيه منكر ونكير
ولا رشوة يدلي القبول رشادها ... فينسخ بالسّير المريح عسير
ولا شاهد يغضي له عن شهادة ... تخلّلها إفك يصاغ وزور
ولا خدعة تجدي ولا مكر نافع ... ولا غشّ مطويّ عليه ضمير
ولكنه حقّ يصول وباطل ... يحول ومثوى جنّة وسعير
وقالوا قضاء الموت حتم على الورى ... يدير صغير كأسه وكبير
فلا تنتسم ريح ارتياح لفقده ... فإنّك عن قصد السّبيل تحور
فقلت بلى حكم المنيّة شامل ... وكلّ إلى ربّ العباد يصير
ولكن تقدّم الأعادي إلى الرّدى ... نشاط يعود القلب منه سرور
وأمن ينام المرء في برد ظلّه ... ولا حيّة للحقد ثمّ تثور
وحسبي بيت قاله شاعر مضى ... غدا مثلا في العالمين يسير
وإنّ بقاء المرء بعد عدوّه ... ولو ساعة من عمره لكثير
مولده: قال بعض شيوخنا: سألته عن مولده فقال لي: في آخر خمسة وتسعين وستمائة، أظنّ في ذي قعدة منه الشكّ.
وفاته: بمالقة في آخر جمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
أحمد بن أيوب اللّمائي (1)
من أهل مالقة، يكنى أبا جعفر.
__________
(1) في الأصل: «اللماي» والتصويب من المصادر. واللمائي: نسبة إلى لماية من أقاليم كورة رية بالأندلس. الروض المعطار (ص 511). وجعلها ياقوت مدينة أعمال ألمرية. معجم البلدان (ج 5ص 22). وقال ابن سعيد: إن مدينة لماية حصن من حصون مالقة. المغرب (ج 1ص 446). وهي كذلك في تقويم البلدان لأبي الفدا (ص 175). وترجمة أحمد بن أيوب في جذوة المقتبس (ص 394)، والذخيرة (ق 1ص 617)، وجذوة المقتبس (ص 394)، وبغية الملتمس (ص 520)، والمغرب (ج 1ص 446)، والذيل والتكملة (القسم الأول ص 73)،(1/136)
حاله: قال صاحب الذّيل (1): كان أديبا ماهرا، وشاعرا (2) جليلا، وكاتبا نبيلا (3). كتب عن أوّل الخلفاء الهاشميين بالأندلس، علي (4) بن حمّود، ثم عن غيره من أهل بيته وتولّى تدبير أمرهم (5)، فحاز لذلك صيتا شهيرا، وجلالة عظيمة.
وذكره ابن بسّام في كتاب «الذّخيرة»، فقال (6): كان أبو جعفر هذا في (7) وقته أحد أئمة الكتّاب، وشهب الآداب (8)، ممّن سخّرت له فنون البيان، تسخير الجنّ لسليمان، وتصرّف في محاسن الكلام، تصرّف الرياح بالغمام، طلع من ثناياه، واقتعد مطاياه وله إنشاءات سريّة، في الدولة الحمّودية، إذ كان علم أدبائها، والمضطلع بأعبائها، إلّا أني لم أجد عند تحريري هذه النّسخة، من كلامه، إلّا بعض فصول له (9) من منثور، وهي ثماد من بحور.
فصل: من (10) رقعة خاطب بها أبا جعفر بن العباس: «غصن ذكرك عندي ناضر، وروض شكرك لديّ عاطر، وريح إخلاصي لك صبا، وزمان (11) آمالي فيك صبا، فأنا شارب ماء إخائك، متفيّئ ظلّ (12) وفائك جان منك ثمرة فرع طاب أكله، وأجناني البرّ قديما أصله، وسقاني إكراما برقه، وروّاني إفضالا ودقه وأنت الطّالع في فجاجه، السّالك لمنهاجه سهم في كنانة الفضل صائب، وكوكب في سماء المجد ثاقب، إن أتبعت الأعداء نوره أحرق، وإن رميتهم به أصاب الحدق وعلى الحقيقة فلساني يقصر عن جميل أسرّه (13)، ووصف ودّ أضمره».
__________
ورايات المبرزين (ص 231)، ومطمح الأنفس (ص 209)، ونفح الطيب (ج 4ص 172)، و (ج 5ص 91، 92، 135، 293). ولم يذكر أحد ممّن ترجم له من هؤلاء المذكورين أنه كان يتردّد على غرناطة إلّا ابن الخطيب.
(1) الذيل والتكملة (ج 1ص 73).
(2) قوله: «وشاعرا جليلا» ساقط في الذيل والتكملة.
(3) في الذيل والتكملة: «كاتبا جليلا».
(4) في الذيل والتكملة: «الناصر لدين الله أبي الحسن علي بن حمود».
(5) في الذيل والتكملة: «أمره، وأحرز لذلك».
(6) الذخيرة (ق 1ص 617).
(7) كلمة «في» ساقطة في الذخيرة.
(8) في الأصل: «الأدب» والتصويب من الذخيرة.
(9) كلمة «له» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذخيرة.
(10) هذه الرقعة في الذخيرة (ق 1ص 618).
(11) في الذخيرة: «وزمن».
(12) في الذخيرة: «ظلال».
(13) في الأصل: «أنشره» والتصويب من الذخيرة.(1/137)
شعره: قال، ومما وجد بخطه لنفسه (1): [الكامل]
طلعت طلائع (2) للربيع فأطلعت ... في الرّوض وردا قبل حين أوانه
حيّا أمير المسلمين (3) مبشّرا ... ومؤمّلا للنّيل من إحسانه
ضنّت سحائبه عليه بمائها (4) ... فأتاه يستسقيه ماء بنانه
دامت لنا أيّامه موصولة ... بالعزّ والتّمكين في سلطانه
قال: وأنشدني الأديب أبو بكر بن معن، قال: أنشدني أبو الربيع بن العريف لجدّه الكاتب أبي جعفر اللمائي، وامتحن بداء النّسمة من أمراض الصّدر، وأزمن به، نفعه الله، وأعياه علاجه، بعد أن لم يدع فيه غاية، وفي ذلك يقول (5): [الكامل]
لم يبق من شيء أعالجها به (6) ... طمع الحياة، وأين من لا يطمع؟
«وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع» (7)
ودخل عليه بعض أصحابه فيها، وجعل يروّح عليه فقال له بديهة (8):
[المنسرح]
روّحني عائدي فقلت له: مه (9) ... ، لا تزدني على الذي أجد
أما ترى النار وهي خامدة ... عند هبوب الرياح تتّقد؟
ودخل غرناطة غير ما مرة، منها متردّدا بين أملاكه، وبين من بها من ملوك صنهاجة قالوا: ولم تفارقه تلك الشّكاية حتى كانت سبب وفاته.
وفاته: بمالقة عام خمسة وستين وأربعمائة. ونقل منها إلى حصن الورد، وهو عند حصن منت ميور إذ كان قد حصّنه، واتّخذه لنفسه ملجأ عند شدّته، فدفن به،
__________
(1) الأبيات في الذخيرة (ق 1ص 622)، ونفح الطيب (ج 5ص 293).
(2) في الذخيرة: «طوالع».
(3) في المصدرين: «المؤمنين».
(4) في النفح: «بمائه».
(5) البيتان في الذخيرة (ق 1ص 622)، والذيل والتكملة (ج 1ص 74).
(6) في المصدرين: «لم يبق شيء لم أعالجها».
(7) البيت، كما جاء في الذيل والتكملة، لأبي ذؤيب خويلد بن خالد بن هذيل، وهو في ديوان الهذليين، دار الكتب المصرية (ج 1ص 3).
(8) البيتان في الذخيرة (ق 1ص 621)، والذيل والتكملة (ج 1ص 7473)، ونفح الطيب (ج 5ص 135).
(9) كلمة «مه» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذخيرة والذيل. وفي النفح: «لا» مكان «مه».(1/138)
بعهد منه بذلك، وأمر أن يكتب على قبره بهذه الأبيات (1): [الطويل]
بنيت ولم (2) أسكن وحصّنت جاهدا ... فلمّا أتى المقدور صيّره (3) قبري
ولم يك (4) حظّي غير ما أنت مبصر ... بعينك ما بين الذّراع إلى الشّبر
فيا زائرا قبري أوصّيك جاهدا ... عليك بتقوى الله في السّرّ والجهر
فلا (5) تحسنن بالدّهر ظنّا فإنما ... من الحزم ألّا يستنام (6) إلى الدهر
أحمد بن محمد بن طلحة (7)
من أهل جزيرة شقر، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن جدّه طلحة.
حاله: قال صاحب «القدح المعلّى» (8): من بيت مشهور بجزيرة شقر من عمل بلنسية، كتب عن ولاة الأمر (9) من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه ابن هود (10)، حين تغلّب على الأندلس، وربما استوزره (11)، وهو ممّن كان والدي يكثر مجالسته، وبينهما مزاورة، ولم أستفد منه إلّا ما كنت أحفظه من (12) مجالسته.
شعره: قال (13): سمعته يوما (14) يقول، تقيمون القيامة بحبيب (15)، والبحتري، والمتنبي، وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتد إليه المتقدّمون ولا المتأخّرون،
__________
(1) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 1ص 7574).
(2) في الذيل: «فلم».
(3) في الذيل: «صيّرته».
(4) في الأصل: «يكن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل.
(5) في الذيل: «ولا».
(6) في الذيل: «يستسام».
(7) ترجمة ابن طلحة في القدح المعلى (ص 114)، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 209)، والمغرب (ج 2ص 364)، والذيل والتكملة (ج 1ص 377)، والوافي بالوفيات (ج 8ص 21)، ونفح الطيب (ج 4ص 274).
(8) اختصار القدح المعلى (ص 114). والنص ورد أيضا في نفح الطيب (ج 4ص 274).
(9) كلمة «الأمر» ساقطة في القدح المعلى ونفح الطيب.
(10) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود، مات مقتولا سنة 635هـ. وقد تقدّم الحديث عنه في هذا الجزء في فصل «فيمن تداول هذه المدينة». وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(11) في القدح المعلى والنفح: «استوزره في بعض الأحيان».
(12) في نفح الطيب: «في».
(13) ما يزال النقل مستمرّا عن القدح المعلى (ص 115114). وهو أيضا في نفح الطيب (ج 4 ص 276274).
(14) في القدح: «مرة يقول وهو في محفل». وفي النفح: «مرة وهو في محفل يقول».
(15) في النفح: «الحبيب».(1/139)
فانبرى إليه (1) شخص له همّة (2) وإقدام، فقال (3): يا أبا جعفر، أين (4) برهان ذلك، فما أظنك تعني إلّا نفسك (5)، فقال (6): ما أعني إلّا نفسي، ولم لا، وأنا الذي أقول (7): [السريع]
يا هل ترى أظرف (8) من يومنا ... قلّد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مطربة (9) كلّ قضيب وريق
والشّمس لا تشرب خمر النّدى ... في الرّوض إلّا بكؤوس (10) الشّقيق
فلم ينصفوه في الاستحسان، وردّوه في الغيظ (11) كما كان، فقلت له: يا سيدي، هذا والله (12) السّحر الحلال، وما سمعت من شعراء عصرنا مثله، فبالله إلّا ما لازمتني وزدتني من هذا النمط، فقال لي: لله درّك، ودرّ أبيك من منصف ابن منصف. اسمع، وافتح أذنيك. ثم أنشد (13): [الوافر]
أدرها فالسماء بدت عروسا ... مضمّخة الملابس بالغوالي
وخدّ الأرض (14) خفّره (15) أصيل ... وجفن (16) النّهر كحّل بالظّلال
وجيد الغصن يشرف (17) في لآل ... تضيء بهنّ أكناف اللّيالي
فقلت: بالله أعد وزد، فأعاد والارتياح قد ملأ (18) عطفه، والتّيه قد رفع أنفه،
__________
(1) في القدح: «ما لم يهتدوا إليه، فانبرى له». وفي النفح: «ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له».
(2) في المصدرين: «قحة».
(3) في القدح: «وقال».
(4) في المصدرين: «فأرنا».
(5) في القدح: «وما أظنك إلّا تعني نفسك».
(6) في القدح: «قال».
(7) في القدح: «أقول ما لم يهتد إليه متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر». ومثله في النفح مع فارق كلمة «يتنبّه» مكان «يهتد». والأبيات أيضا في المغرب (ج 2ص 365).
(8) في الأصل: «الظرف» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الثلاثة.
(9) في القدح: «من فضّة». وفي المغرب والنفح: «مرقصة».
(10) في الأصل: «بكأس» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الثلاثة.
(11) في القدح: «الغيظ إلى أشدّ مما كان». وفي النفح: «الغيظ إلى أضيق مكان».
(12) في النفح: «هو».
(13) الأبيات أيضا في المغرب (ج 2ص 365).
(14) في المصادر الثلاثة: «الروض» وهو أدقّ للسياق.
(15) في النفح: «حمّره».
(16) في القدح: «وحقو». والحقو: الكشح، ويريد: الشاطئ.
(17) في الأصل: «يشرق» والتصويب من المصادر الثلاثة.
(18) في النفح: «ملك».(1/140)
ثم قال (1): [السريع]
لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحرا حلال
إذ (2) أصبح الطّلّ به ليلة ... وجال (3) فيه (4) الغصن مثل (5) الخيال
فقلت: ما على هذا مزيد في الاستحسان (6)، فعسى أن يكون المزيد في الإنشاد، فزاد ارتياحه وأنشد (7): [الوافر]
ولمّا ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جدّدت ذكرا
أراد لقاءكم (8) إنسان عيني ... فمدّ له المنام عليه جسرا
فقلت (9): إيه زادك الله إحسانا، فزاد (10): [الوافر]
ولمّا أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخدّ منه غريق ماء
أقام له العذار عليه جسرا ... كما مدّ الظلام على الضّياء
فقلت: فما تكرّر (11) ويطول، فإنه مملول، إلّا ما أوردته آنفا، فإنه كنسيم الحياة، وما إن يملّ، فبالله إلّا ما زدتني (12)، وتفضّلت عليّ بالإعادة، فأعاد وأنشد:
[الكامل]
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فردا بغير شبيه
فالصّبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت حمائمه تخاصم فيه (13)
دخوله غرناطة: دخلها مع مخدومه المتوكل على الله ابن هود وفي جملته، إذ كان يصحبه في حركاته، ويباشر معه الحرب، وجرت عليه الهزائم، وله في ذلك كلّه شعر.
__________
(1) البيتان أيضا في المغرب (ج 2ص 365).
(2) في الأصل: «إذا» والتصويب من المصادر الثلاثة.
(3) في المغرب: «وحال».
(4) في القدح: «منها».
(5) في المصادر الثلاثة: «شبه».
(6) في القدح: «الإحسان».
(7) البيتان أيضا في المغرب (ج 2ص 365).
(8) في الأصل: «لقاكم» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الثلاثة.
(9) في القدح: «فقلت له».
(10) البيتان أيضا في المغرب (ج 2ص 365).
(11) في القدح: «يكرّر».
(12) في القدح المعلى: «إلّا تفضلت بالإعادة والزيادة. فأعاد ثم قال: وهذا حسبك لئلا تكثر المعاني عليك فلا تقوم بحقّ فهمها وإنصافها. ثم أنشد إذ ذاك».
(13) في القدح والنفح: «فغدت تخاصمه الحمائم فيه».(1/141)
محنته: قالوا (1): لم يقنع بما أجرى عليه أبو العباس الينشتي (2) من الإحسان، فكان يوغر صدره من الكلام فيه، فذكروا أن الينشتي قال يوما في مجلسه: رميت يوما بسهم من كذا، فبلغ إلى كذا فقال ابن طلحة لشخص كان إلى جانبه: والله لو كان قوس قزح فشعر أبو العباس إلى قوله ما يشبه ذلك، واستدعى الشخص، وعزم عليه، فأخبره بقوله، فأسرّها في نفسه، إلى أن قوّى الحقد عليه، من ما بلغه عنه من قوله يهجوه: [الوافر]
سمعنا بالموفّق فارتحلنا ... وشافعنا له حسب وعلم
ورمت يدا أقبّلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبدا وأسمو
فأنشدنا لسان الحال عنه (3) ... يد شلّا وأمر لا يتمّ
فزادت موجدته (4) عليه، وراعى أمره إلى أن بلغته أبيات قالها في شهر رمضان، وهو على حال الاستهتار: [الوافر]
يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان يغلبنا المجون (5)
أتنتهكون (6) شهر الصّوم هلّا ... حماه منكم عقل ودين؟
فقلت اصحب سوانا، نحن (7) قوم ... زنادقة مذاهبنا فنون
ندين بكلّ دين غير دين الر ... رعاع فما به أبدا ندين
فحيّ على الصّبوح (8) الدّهر ندعو ... وإبليس يقول لنا أمين (9)
أيا (10) شهر الصيام إليك عنّا ... إليك (11) ففيك أكفر ما نكون
__________
(1) ما يزال النقل عن اختصار القدح المعلى (ص 117116)، وهو أيضا في نفح الطيب (ج 4 ص 277276)، ولكن النص فيه بعض التغيير عمّا هنا.
(2) كان أبو العباس الينشتي، كما في اختصار القدح، واليا على سبتة. وفي الذيل والتكملة (ج 1 ص 381): هو أمير سبتة الموفق بالله أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أبي الفضل مبارك المعروف باليناشتي. والينشتي: نسبة إلى حصن ينشتة، أحد حصون الأندلس.
(3) في نفح الطيب: «فيه».
(4) في القدح: «فزاد ذلك في حنقه». وفي النفح: فزاد في حنقه».
(5) في الأصل: «بلّغنا الحجون» والتصويب من المصدرين.
(6) في الأصل: «أنشكو» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(7) في الأصل: «فنحن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(8) في الأصل: «فنحن على صفوح الدهر» وهو لا معنى له، والتصويب من المصدرين، ولكن جاء في النفح: «بحيّ» مكان «فحيّ». والصبوح: خمرة الصباح.
(9) في الأصل: «آمين» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(10) في المصدرين: «فيا».
(11) كلمة «إليك» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.(1/142)
قال: فأرسل إليه من هجم عليه، وهو على هذا (1) الحال، وأظهر إرضاء العامّة بقتله، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة (2). ولا خفاء أنه من صدور الأندلس، وأشدّهم عثورا على المعاني الغريبة المخترعة، رحمه الله.
أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد ابن خاتمة الأنصاري
من أهل ألمريّة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن خاتمة (3).
حاله: هذا (4) الرجل صدر يشار إليه، طالب متفنّن، مشارك، قويّ الإدراك، سديد النّظر، قوي الذهن، موفور الأدوات، كثير الاجتهاد، معين الطبع، جيّد القريحة، بارع الخط، ممتع المجالسة، حسن الخلق، جميل العشرة، حسنة من حسنات الأندلس، وطبقة في النظم والنثر، بعيد المرقى في درجة الاجتهاد، وأخذه بطرق الإحسان عقد الشروط، وكتب عن الولاة ببلده، وقعد للإقراء ببلده، مشكور السّيرة، حميد الطريقة، في ذلك كله.
وجرى ذكره في كتاب «التّاج» بما نصّه (5): «ناظم درر الألفاظ، ومقلّد جواهر الكلام نحور الرّواة ولبّات الحفّاظ، والآداب (6) التي أصبحت شواردها حلم النائم وسمر الأيقاظ، وكم (7) في بياض طرسها وسواد نقسها (8) سحر الألحاظ (9). رفع (10)
في قطره راية هذا الشأن على وفور حلبته، وقرع فنّه البيان على سموّ هضبته، وفوّق سهمه إلى بحر الإحسان، فأثبته في لبّته فإن أطال شأن الأبطال، وكاثر المنسجم
__________
(1) في المصدرين: «هذه».
(2) كذا في النفح. وفي اختصار القدح: «إحدى وثمانين وستمائة» وهو خطأ. وفي المقتضب من كتاب تحفة القادم: قتل بسبتة سنة 632هـ. وفي الذيل والتكملة (ج 1ص 381): قتل في أواخر 632هـ أو أوائل 633هـ.
(3) ترجمة ابن خاتمة في الكتيبة الكامنة (ص 239)، ونثير فرائد الجمان (ص 331)، ونيل الابتهاج، طبعة فاس (ص 51)، ونفح الطيب (ج 8ص 171)، ومواضع أخرى متفرقة. وانظر أيضا مقدمة ديوان ابن خاتمة، بقلم محقّقه الدكتور محمد رضوان الداية، حيث ثبت بأسماء مصادر ومراجع الترجمة.
(4) النص أورده المقري في نفح الطيب (ج 8ص 171) بتصرّف.
(5) النص في الكتيبة الكامنة (ص 239).
(6) في الكتيبة: «ذو الآداب».
(7) في الكتيبة: «وكمن».
(8) في الأصل: «مقسها» والتصويب من الكتيبة الكامنة. والنّقس: المداد. محيط المحيط (نقس).
(9) في الكتيبة: «اللحاظ».
(10) من هنا حتى قوله: «السباق جيادها» غير وارد في الكتيبة الكامنة.(1/143)
الهطّال وإن أوجز، فضح وأعجز فمن نسيب تهيج به الأشواق، وتضيق عن زفراتها الأطواق ودعابة تقلّص ذيل الوقار، وتزري بأكواس العقار إلى انتماء للمعارف، وجنوح إلى ظلّها الوارف ولم تزل معارفه ينفسح آمادها، وتحوز خصل السباق جيادها».
مشيخته: حسبما نقل بخطّه في ثبت استدعاه منه من أخذ عنه الشيخ الخطيب، الأستاذ مولى النعمة، على أهل طبقته بألمريّة، أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العيش المرّي قرأ عليه ولازمه، وبه جلّ انتفاعه والشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن العاص التّنوخي. وروى عن الراوية المحدّث المكثر الرحّال، محمد بن جابر بن محمد بن حسّان الوادي آشي وعن شيخنا أبي البركات ابن الحاجّ، سمع عليه الكثير، وأجازه إجازة عامّة والشيخ الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن شعيب القيسي من أهل بلده والقاضي أبو جعفر القرشي بن فركون. وأخذ عن الوزير الحاجّ الزاهد، أبي القاسم محمد بن محمد بن سهل بن مالك. وقرأ على المقرئ أبي جعفر الأغرّ، وغيرهم.
كتابته: ممّا (1) خاطبني به بعد إلمام الرّكب (2) السلطاني ببلده، وأنا صحبته (3)، ولقائه إياي، بما يلقى به مثله من تأنيس وبرّ، وتودّد، وتردّد: [الكامل]
يا من حصلت على الكمال بما رأت ... عيناي منه من الجمال الرائع
مرأى (4) يروق وفي عطافي برده ... ما شئت من كرم ومجد بارع
أشكو إليك من الزمان تحاملا ... في فضّ شمل لي بقربك جامع
هجم البعاد عليه ضنّا باللّقا ... حتى تقلّص مثل برق لامع
فلو انّني ذو مذهب لشفاعة ... ناديته: يا مالكي كن شافعي (5)
شكواي إلى سيدي ومعظّمي أقرّ الله تعالى بسنائه أعين المجد، وأدرّ بثنائه ألسن الحمد! شكوى الظمآن (6) صدّ عن القراح العذب لأول وروده، والهيمان ردّ عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمان هجم عليّ بإبعاده (7)، على حين
__________
(1) النص نثرا وشعرا في ديوان ابن خاتمة (ص 198) ونفح الطيب (ج 8ص 173171).
(2) في ديوان ابن خاتمة والنفح: «الركاب».
(3) في ديوان ابن خاتمة: «في صحبته».
(4) في الديوان والنفح: «قمر».
(5) في الديوان والنفح:: «يا شافعي». وفي هذا البيت تورية ظاهرة.
(6) في الديوان والنفح: «ظمآن».
(7) في الأصل: «بعاده» والتصويب من النفح.(1/144)
إسعاده (1)، ودهمني بفراقه غبّ إنارة أفقي به وإشراقه ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله الزاهر، حتى حرم عن تشييع كما له الباهر، فقطع عن توفية حقّه، ومنع من تأدية مستحقّه، لا جرم أنه أنف لشعاع (2) ذكائه، من هذه المطالع النائية (3) عن شريف الإنارة، وبخل بالإمتاع بذكائه، عن هذه المسامع النائية عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع معاره وإلّا فعهدي بغروب الشمس إلى الطّلوع (4)، وأنّ البدر ينصرف (5) بين الاستقامة والرجوع. فما بال هذا النيّر الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل: عادت هيف إلى أديانها أستغفر الله أن لا يعدّ ذلك من المغتفر في جانب ما أوليت (6) من الأثر (7)، التي أزرى العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر (8) فقد سرّت متشوّفات الخواطر، وأقرّت متشرّفات (9) النواظر، بما جلت (10) من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيّد خطى الأبصار، عن التشوّف والاستبصار وأخذ بأزمّة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب وأنّى للعين بالتحوّل عن كمال الزّين؟ أو للطّرف (11)، بالتحوّل (12) عن خلال الظّرف؟ أو للسّمع من مراد، بعد ذلك (13) الإصرار والإيراد، أو للقلب من مراد، غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم في حلل وأبراد وهل هو إلّا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع التّمام، وأنوار الفضائل (14) ضمّها جنس اتفاق والتآم فما ترعى العين منه في غير مرعى خصيب، ولا تستهدف الآذان (15) لغير سهم في حدق البلاغة مصيب ولا تطلع (16) النفس سوى مطلع له في الحسن والإحسان أوفر نصيب. لقد أزرى بناظم حلاه فيما تعاطاه (17) التقصير، وانفسح من أعلاه بكل باع قصير، وسفه حلم القائل: إنّ الإنسان عالم صغير، شكرا للدهر على يد أسداها بقلب مزاره، وتحفة ثناء (18) أهداها بمطلع أنواره، على تغاليه في
__________
(1) في الأصل: «النفادة» والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «شارع» والتصويب من النفح. والذكاء، بضم الذال: الشمس.
(3) في الأصل: «النافية» والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «طلوع»، والتصويب من النفح.
(5) في النفح: «يتصرّف».
(6) في النفح: «أولت».
(7) الأثر: جمع أثرة وهي المكرمة المتوارثة. لسان العرب (أثر).
(8) أربى الخبر على الخبر: أي زادت الخبرة على الخبر.
(9) في النفح: «مستشرفات».
(10) في النفح: «حوت».
(11) في النفح: «أو الطرف».
(12) في النفح: «بالتنقل».
(13) في النفح: «ذلكم الإصدار الأدبي والإيراد».
(14) في النفح: «الفضل».
(15) في النفح: «الأذن بغير سهم».
(16) في النفح: «ولا تستطلع».
(17) في النفح: «يتعاطاه».
(18) كلمة «ثناء» غير واردة في النفح.(1/145)
ادّخار (1) نفائسه، وبخله بنفائس ادّخاره ولا (2) غرو أن يضيق عنّا نطاق الذّكر، ولمّا يتّسع لنا سوار الشكر فقد عمّت هذه الأقطار بما شاءت من تحف، بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمرة الرحلة في ظلّ الإقامة، وجرى الأمر في ذلك مجرى الكرامة. ألا وإنّ مفاتحتي لسيدي ومعظّمي، حرس الله تعالى مجده، وضاعف سعده! مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه فشرع له إلى أمله (3) بابا، ورفع له من خجله جلبابا، فهو يكلف بالاقتحام، ويأنف من الإحجام، غير أنّ الحصر عن درج قصده يقيّده، فهو (4) يقدم والبصر يبهرج نقده فيقعده فهو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، ويجدّد عزما ثم لا يتحرّى فإن أبطأ خطابي فلواضح الاعتذار (5)، ومثلكم لا يقبل حياة الأعذار والله عزّ وجلّ يصل إليكم عوائد الإسعاد والإسعاف، ويحفظ لكم (6) ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى.
كتب (7) في العاشر من ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة غير ما مرّة، منها في استدعاء شمال الخواصّ من أهل الأقطار الأندلسية، عند إعذار الأمراء في الدولة اليوسفيّة (8)، في شهر شعبان من عام أحد وخمسين وسبعمائة.
شعره: كان مجلّيا، وأنشد في حلبة الشعراء قصيدة أولها (9): [الكامل]
أجنان خلد زخرفت أم مصنع؟ ... والعيد عاود أم صنيع يصنع؟
ومن شعره (10): [الكامل]
من لم يشاهد موقفا لفراق ... لم يدر كيف تولّه العشّاق
إن كنت لم تره فسائل من رأى ... يخبرك عن ولهي وهول سياقي (11)
من حرّ أنفاس وخفق جوانح ... وصدوع أكباد وفيض مآقي
__________
(1) في النفح: «ادخاره».
(2) في النفح: «لا غرو».
(3) في النفح: «أهله».
(4) في النفح: «يقيّده، والبصر يبهرج نقده فيقعده، فهو يقدّم رجلا».
(5) في النفح: «الأعذار، ومثلكم من قبل جليات الأقدار، والله سبحانه يصل لكم عوائلا».
(6) في النفح: «بكم».
(7) في النفح: «وكتب في عاشر ربيع».
(8) أي دولة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل (755733هـ).
وترجمته في اللمحة البدرية (ص 102).
(9) البيت في ديوان ابن خاتمة الأنصاري الأندلسي (ص 199).
(10) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص 203200) والكتيبة الكامنة (ص 241240).
(11) في الأصل: «سياق» والتصويب من المصدرين.(1/146)
دهي الفؤاد فلا لسان ناطق ... عند الوداع ولا يد (1) متراق
ولقد أشير لمن تكلّف رحلة ... أن عج عليّ ولو بقدر فواق (2)
عليّ أراجع من ذماي حشاشة ... أشكو بها بعض الذي أنا لاق
فمضى ولم تعطفه نحوي ذمّة ... هيهات! لا بقيا (3) على مشتاق
يا صاحبيّ وقد مضى حكم النّوى (4) ... روحا عليّ بشيمة (5) العشّاق (6)
واستقبلا بي (7) نسمة من (8) أرضكم ... فلعلّ نفحتها تحلّ وثاقي
إني ليشفيني النّسيم إذا سرى ... متضوّعا من تلكم الآفاق
من مبلغ بالجزع أهل مودّتي ... أني على حكم الصّبابة باق؟
ولئن تحوّل عهد قربهم (9) نوى ... ما حلت عن عهدي ولا (10) ميثاقي
أنفت خلائقي الكرام لخلّتي ... نسبا إلى الإخلاق والإخراق (11)
قسما به ما استغرقتني فكرة ... إلّا وفكري فيه واستغراقي
لي آهة (12) عند العشيّ لعلّه ... يصغي لها، وكذا مع الإشراق
أبكي إذا هبّ النسيم فإن تجد ... بللا به فبدمعي المهراق
أومي بتسليم (13) إليه مع الصّبا ... فالذّكر كتبي والرفاق رفاقي
من لي وقد شحط (14) المزار بنازح ... أدنى لقلبي من جوى أشواقي
إن غاب عن عيني فمثواه الحشا ... فسراه (15) بين القلب والأحداق
جارت عليّ يد النّوى بفراقه ... آها لما جنت النّوى بفراق
أحباب قلبي هل لماضي عيشنا (16) ... ردّ فينسخ بعدكم بتلاق؟
__________
(1) في الأصل: «طايع» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يد الحالب وقبضها على الضرع. محيط المحيط (فوق).
(3) في الديوان والكتيبة: «لا يثني».
(4) في المصدرين: «الهوى».
(5) في الأصل: «بمشيمة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) في المصدرين: «الإشفاق».
(7) في المصدرين: «واستقبلاها».
(8) في الأصل: «عن» والتصويب من المصدرين.
(9) في الديوان: «حبّهم».
(10) في الديوان: «وعن».
(11) في المصدرين: «إلى الإخلال والإخلاق».
(12) في المصدرين: «لي أنّه».
(13) في الأصل: «أو ما ما تكتب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(14) في المصدرين: «من لي على شحط».
(15) في المصدرين: «وسراه».
(16) في الديوان: «عيشكم».(1/147)
أم هل لأثواب التجلّد راقع ... إذ ليس من داء المحبّة راق
ما غاب كوكب حسنكم عن ناظري ... إلّا وأمطرت الدّما آماقي
إيه أخيّ أدر عليّ حديثهم ... كأسا ذكت عرفا وطيب مذاق
وإذا جنحت لماء او طرب فمن ... دمعي الهموع (1) وقلبي الخفّاق
ذكراه راحي، والصّبابة حضرتي (2) ... والدمع ساقيتي (3)، وأنت الساقي
فليله (4) عنّي من لحاني إنني ... راض بما لاقيته وألاقي
وقال (5): [البسيط]
وقفت والرّكب (6) قد زمّت ركائبه ... وللنفوس مع النّوى (7) تقطيع
وقد تمايل نحوي للوداع وهل ... لراحل (8) القلب صدر الرّكب توديع؟
أضمّ منه كما أهوى (9) لغير نوى ... ريحانة في شذاها الطّيب مجموع
تهفو (10) فأذعر خوفا من تقلّصها (11) ... إنّ الشّفيق بسوء الظنّ مولوع
هل عند من قد دعا بالبين مقلته (12) ... أنّ الرّدى منه مرئيّ ومسموع؟
أشيّع القلب من (13) رغم عليّ وما ... بقاء جسم له للقلب تشييع
أري وشاتي أنّي لست مفتقرا (14) ... لما جرى وصميم القلب مصروع
الوجد طبع (15) وسلواني مصانعة ... هيهات يشكل مصنوع ومطبوع (16)
«إنّ الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن النّاس أنّ الثّوب مرقوع»
__________
(1) الهموع: المنصبّة يقال: همعت العين إذا سال دمعها. لسان العرب (همع).
(2) في الأصل: «خضرتي» والتصويب من المصدرين.
(3) في الأصل: «ساقيني» والتصويب من المصدرين.
(4) في المصدرين: «فليسل».
(5) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص 200199) والكتيبة الكامنة (ص 242241).
(6) في المصدرين: «والبين».
(7) في المصدرين: «مع الأنفاس».
(8) في الأصل: «للراحل»، والتصويب من المصدرين.
(9) في الأصل: «أهدى» والتصويب من المصدرين.
(10) في الأصل: «يهفو» والتصويب من المصدرين.
(11) في المصدرين: «تقصّفها».
(12) في المصدرين: «مغلبة».
(13) في الأصل: «عن» والتصويب من المصدرين.
(14) في المصدرين: «مكترثا».
(15) في المصدرين: «طبعي».
(16) في المصدرين: «مطبوع ومصنوع».(1/148)
وقال أيضا (1): [الكامل]
لولا حيائي من عيون النّرجس ... للثمت خدّ الورد بين السّندس
ورشفت من ثغر الأقاحة ريقها ... وضممت أعطاف الغصون الميّس
وهتكت أستار الوقار ولم أبل (2) ... للباقلا (3) تلحظ بطرف أشوس
ما لي وصهباء الدّنان مطارحا ... سجع القيان مكاشفا وجه المسي
شتّان بين مظاهر ومخاتل ... ثوب الحجا ومطهّر ومدنّس
ومجمجم بالعذل باكرني به ... والطير أفصح مسعد بتأنّس
نزّهت سمعي عن سفاهة نطقه ... وأعرته صوتا رخيم الملمس
سفّهت في العشّاق يوما إن أكن ... ذاك الذي يدعى الفصيح الأخرس (4)
أعذول وجدي ليس عشّك فادرجي (5) ... ونصيح رشدي بان نصحك فاجلس
هل تبصر الأشجار والأطيار وال ... أزهار تلك الخافضات الأرؤس؟
تالله وهو أليّتي وكفى به ... قسما يفدّى برّه بالأنفس
ما ذاك من شكو ولا لخلالة (6) ... لكن سجود مسبّح ومقدّس
شكرا لمن برأ الوجود بجوده ... فثنى إليه الكلّ وجه المفلس
وسما بساط الأرض فيه (7) فمدّه ... ودحا بسيط (8) الأرض أوثر مجلس
ووشى بأنواع المحاسن هذه ... وأنار هذي بالجواري (9) الكنّس
__________
(1) القصيدة في ديوان ابن خاتمة (ص 196193).
(2) أي لم أبال.
(3) في الأصل: «للباقلاء» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(4) في الديوان: «الذي يدع الفصيح لأخرس».
(5) أخذه من المثل: «ليس هذا بعشّك فادرجي». أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حقّ فدعيه يقال درج: أي مشى ومضى. يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. مجمع الأمثال (ج 2ص 181).
(6) في الديوان: «من سكر ولا لخلاعة».
(7) كلمة «فيه» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى. ورواية صدر البيت في الديوان هي:
رفع السّما سقفا يروق رواؤه
(8) دحا الأرض: بسطها، وفي عجز البيت إشارة إلى قول الله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (30) سورة النازعات 79، الآية 30.
(9) في الأصل: «بالجوار» والتصويب من الديوان.(1/149)
وأدرّ أخلاف (1) العطاء تطوّلا ... وأنال فضلا من يطيع ومن يسي
حتى إذا انتظم الوجود بنسبة ... وكساه ثوبي نوره والحندس (2)
واستكملت كلّ النّفوس كمالها ... شفع العطايا بالعطاء الأنفس
بأجلّ هاد للخلائق مرشد ... وأتمّ نور للخلائق مقبس
بالمصطفى المهدي إلينا رحمة ... مرمى الرّجاء (3) ومسكة المتيئّس
نعم يضيق الوصف عن إحصائها ... فلّ الخطيب بها لسان الأوجس (4)
إيه فحدّثني حديث هواهم ... ما أبعد السّلوان عن قلب الأسي (5)
إن كنت قد أحسنت نعت جمالهم ... فلقد سها عني العذول بهم وسي (6)
ما إن دعوك ببلبل إلّا لما ... قد هجت من بلبال هذي الأنفس
سبحان من صدع الجميع بحمده ... وبشكره من ناطق أو أخرس
وامتدّت الأطلال ساجدة له ... بجبالها من قائم أو أقعس
فإذا تراجعت الطيور وزايلت ... أغصانها بان (7) المطيع من المسي
فيقول ذا: سكرت لنغمة منشد ... ويقول ذا: سجدت لذكر مقدّس
كلّ يفوه بقوله (8) والحقّ لا ... يخفى على نظر اللّبيب (9) الأكيس
وقال (10): [الكامل]
زارت على حذر من الرّقباء ... والليل ملتحف (11) بفضل رداء
تصل الدّجى بسواد فرع فاحم ... لتزيد ظلماء إلى ظلماء
فوشى (12) بها من وجهها وحليّها ... بدر الدّجى وكواكب الجوزاء
أهلا بزائرة على خطر السّرى ... ما كنت أرجوها ليوم لقاء
__________
(1) الأخلاف: جمع خلف وهو حلمة ضرع الناقة، أو هو للناقة كالضرع للشاة. محيط المحيط (خلف).
(2) الحندس: الظلمة. لسان العرب (حندس).
(3) في الأصل: «الرجا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(4) الأوجس: الدهر.
(5) الأسي: الحزين.
(6) في الديوان: «العذول وقد نسي».
(7) في الأصل: «بأن» والتصويب من الديوان.
(8) في الديوان: «بذوقه».
(9) في الأصل: «اللبيت» والتصويب من الديوان.
(10) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص 183) والكتيبة الكامنة (ص 244243).
(11) في المصدرين: «ملتفّ».
(12) في الأصل: «وشى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.(1/150)
أقسمت لولا عفّة عذريّة ... وتقى عليّ له رقيب رائي
لنقعت غلّة لوعتي برضابها ... ونضحت ورد خدودها ببكائي
ومن ذلك ما قاله أيضا (1): [الخفيف]
أرسلت ليل شعرها من عقص ... عن محيّا رمى البدور بنقص
فأرتنا الصباح في جنح ليل ... يتهادى ما بين غصن ودعص (2)
وتصدّت برامحات نهود ... أشرعت للأنام من تحت قمص
فتولّت جيوش صبري انهزاما ... وبودّي ذاك اللقاء وحرصي
ليس كلّ الذي يفرّ بناج ... ربّ ظعن (3) فيه حياة لشخص
كيف لي بالسّلو عنها وقلبي ... قد هوى حلمه بمهوى لخرص (4)
ما تعاطيت ظاهر الصّبر إلّا ... ردّني جيدها بأوضح نصّ
ومن ذلك قوله أيضا (5): [الخفيف]
أنا بين الحياة والموت وقف ... نفس خافت ودمع ووكف
حلّ بي من هواك ما ليس ينبي ... عنه نعت ولا يعبّر وصف
عجبا لانعطاف صدغيك والمع ... طف والجيد ثم ما منك عطف
ضاق صدري بضيق حجلك (6) واستو ... قف طرفي حيران ذاك (7) الوقف
كيف يرجى فكاك قلب معنّى ... في غرام قيداه قرط وشنف (8)
ومن ذلك قوله أيضا (9): [البسيط]
رقّ (10) السّنا ذهبا في اللّازورديّ ... فالأفق ما بين مرقوم وموشيّ
كأنما الشّهب والإصباح ينهبها ... لآلىء (11) سقطت من كفّ زنجيّ
__________
(1) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص 197).
(2) الدّعص: قطعة من الرمل مستديرة، أو الكثيب، وبه يشبه الرّدف.
(3) في الديوان: «طعن».
(4) الخرص: القناة والسنان.
(5) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص 200).
(6) الحجل: الخلخال.
(7) في الأصل: «ذلك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان.
(8) الشّنف: ما علق في أعلى الأذن، أو ما علّق في أسفل الأذن فقرط.
(9) البيتان في ديوان ابن خاتمة (ص 196) والكتيبة الكامنة (ص 244).
(10) في المصدرين: «خطّ».
(11) في المصدرين: «دراهم».(1/151)
ومن شعره في الحكم قوله (1): [الطويل]
هو الدّهر لا يبقي على عائذ به ... فمن شاء عيشا يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه ... لفوت (2) أمانيه وفقد حبائبه
ومن ذلك قوله (3): [الوافر]
ملاك الأمر تقوى الله، فاجعل ... تقاه عدّة لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزم ... فما تدري متى يمضي (4) بعمرك
ومن ذلك أيضا (5): [الوافر]
دماء فوق خدّك أم خلوق (6)؟ ... وريق ما بثغرك أم رحيق؟
وما ابتسمت ثنايا أم أقاح ... ويكنفها شفاه أم شقيق (7)
وتلك سناة نوم ما تعاطت ... جفونك أم هي الخمر العتيق
لقد أعدت معاطفك انثناء ... وقلبي سكره ما إن يفيق
جمالك حضرتي وهواك راحي ... وكأسك مقلتي فمتى أفيق؟
ومن شعره في الأوصاف (8): [الخفيف]
أرسل الجوّ ماء ورد رذاذا ... سمّع (9) الحزن والدّمائث رشّا
فانثنى حول أسوق الدّوح حجلا ... وجرى فوق بردة الرّوض رقشا
وسما في الغصون حلي بنان ... أصبحت من سلافة الطّل رعشا
فترى الزّهر ترقم الأرض رقما ... وترى الريح تنقش الماء نقشا
فكأنّ المياه سيف صقيل ... وكأنّ البطاح غمد موشّى
__________
(1) ديوان ابن خاتمة (ص 187) ونفح الطيب (ج 8ص 174).
(2) في النفح: «بفوت».
(3) ديوان ابن خاتمة (ص 127) ونفح الطيب (ج 8ص 174). وقد تقدّم البيتان في الجزء السادس من النفح (ص 115).
(4) في النفح الجزء الثامن: «يقضى».
(5) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص 203).
(6) الخلوق: ضرب من الطيب.
(7) الشقيق: شقائق النعمان.
(8) هذه الأبيات لم ترد في ديوان ابن خاتمة.
(9) في الأصل: «وسمّع» وهكذا ينكسر الوزن.(1/152)
وكتب عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصّه (1): «ممّا قلته بديهة عند (2) الإشراف على جنابكم السعيد، وقدومي (3) مع النّفر الذين أتحفتهم السيادة (4) سيادتكم (5) بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة لديه، وإن كان يوما قد غابت شمسه، ولم يتّفق أن كمل أنسه وأنشده حينئذ بعض من حضر، ولعلّه لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم (6) ففضلكم يحملني في (7) إعادة الحديث (8): [الطويل]
أقول وعين الدّمع (9) نصب عيوننا ... ولاح لبستان الوزارة جانب
أهذي سماء أم بناء سما به ... كواكب غضّت عن سناها الكواكب
تناظرت الأشكال منه تقابلا ... على السّعد وسطى عقده والجنائب (10)
وقد جرت الأمواه فيه مجرّة ... مذانبها شهب لهنّ ذوائب
وأشرف من علياه (11) بهو تحفّه ... شماسي زجاج وشيها متناسب
يطلّ على ماء به الآس دائرا ... كما افترّ ثغر أو كما اخضرّ شارب
هنا لك ما شاء العلى من جلالة ... بها يزدهي بستانها والمراتب
ولما أحضر الطعام هنا لك، دعي شيخنا القاضي أبو البركات (12) إلى الأكل، فاعتذر بأنه صائم، قد بيّته من الليل، فحضرني أن قلت (13): [المتقارب]
دعونا الخطيب أبا البركات ... لأكل طعام الوزير الأجلّ
__________
(1) النص نثرا وشعرا في الكتيبة الكامنة (ص 245244). ونفح الطيب (ج 8ص 174 175).
(2) في الكتيبة: «حين».
(3) في المصدرين: «ودخوله».
(4) كلمة «السيادة» غير واردة في المصدرين.
(5) في الكتيبة: «سيادتك».
(6) في الكتيبة: «بلغ».
(7) في الكتيبة: «على».
(8) الأبيات أيضا في ديوان ابن خاتمة (ص 185).
(9) عين الدمع: كان من عجيب مواضع غرناطة، وهو عبارة عن جبل فيه الرياض والبساتين، ويتصل بجبل الفخار. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 38) ففيه دراسة مفصّلة عن هذا الموضع.
(10) في الديوان والنفح: «والحبائب».
(11) في الأصل: «علياء» والتصويب من الديوان والنفح. وفي الكتيبة «أعلاه فهو تحفّه شماس زجاج».
(12) هو محمد بن محمد بن إبراهيم، المشهور بابن الحاج البلفيقي، المتوفّى سنة 773هـ، أو 771هـ.
وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة، وأشرنا هناك إلى مصادر ترجمته.
(13) الأبيات في ديوان ابن خاتمة (ص 186) والكتيبة الكامنة (ص 245) ونفح الطيب (ج 8ص 175).(1/153)
وقد ضمّنا في نداه جنان ... به احتفل الحسن حتى كمل (1)
فأعرض عنّا لعذر (2) الصّيام ... وما كلّ عذر له مستقلّ
فإنّ الجنان محلّ الجزاء ... وليس الجنان محلّ العمل
وعندما فرغنا من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا البركات، فقال (3): لو أنشدتنيها، وأنتم بعد لم تفرغوا منه (4) لأكلت معكم، برّا بهذه الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى.
ولما (5) قضى الله، عزّ وجلّ، بالإدالة، ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة، واشتهر عني ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة، والتّيه على السلطان والدولة (6)، والتّكبّر على أعلى رتب الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تفويت (7) الذمّة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني بعد صدر بلغ من حسن الإشارة، وبراعة الاستهلال الغاية، بقوله:
«وإلى هذا يا سيدي، ومحلّ تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم! وضاعف في العزّ درجات ارتقائكم! فإنّه من الأمر الذي لم يغب عن رأي المقول (8)، ولا اختلف فيه أرباب المحسوس (9) والمعقول أنّكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز ملكها، وقلادة نحرها، وفريدة دهرها (10)، وعقد جيدها المنصوص، وكمال (11) زينتها (12) على المعلوم والمخصوص (13) ثم أنتم مدار أفلاكها، وسرّ سياسة أملاكها، وترجمان بيانها، ولسان إحسانها، وطبيب مارستانها، والذي عليه عقد إدارتها، وبه قوام إمارتها فلديه (14)
يحلّ المشكل، وإليه يلجأ في الأمر المعضل فلا غرو أن تتقيّد بكم الأسماع والأبصار، وتحدّق نحوكم الأذهان والأفكار ويزجر عنكم السانح والبارح (15)،
__________
(1) في الكتيبة: «الحسن فيما احتفل».
(2) في الكتيبة: «بعذر».
(3) في النفح: «فقال لي».
(4) في الكتيبة: «من الطعام».
(5) نص رسالة ابن خاتمة هذه في نفح الطيب (ج 8ص 170164) وأزهار الرياض (ج 1ص 270265).
(6) في أزهار الرياض: «والدالّة».
(7) في المصدرين: «تبرئة».
(8) في المصدرين: «العقول».
(9) في المصدرين: «أرباب المعقول».
(10) في أزهار الرياض: «درّها».
(11) في النفح: «وتمام».
(12) في الأزهار: «زينها».
(13) في المصدرين: «على العموم والخصوص».
(14) في النفح: «ولديه».
(15) السانح: الطائر الذي يمرّ من اليسار إلى اليمين. البارح: الطائر الذي يمرّ من اليمين إلى اليسار،(1/154)
ويستنبأ ما تطرف عنه العين وتختلج الجوارح، استقراء (1) لمرامكم، واستطلاعا لطالع اعتزامكم، واستكشافا لمرامي (2) سهامكم، لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق، وظهوركم في ملتمع بروق، واضطراب الظّنون فيكم مع الغروب والشروق حتى تستقرّ بكم الدّار (3)، ويلقي عصاه التّسيار وله العذر في ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل (4)، وسرورها بلقائكم لم يكتمل فلم يبر (5) بعد جناحها المهيض (6)، ولا جمّ ماؤها المغيض، ولا تميّزت من داجيها لياليها البيض ولا استوى نهارها، ولا تألقت أنوارها (7)، ولا اشتملت نعماؤها، ولا نسيت غمّاؤها بل هي كالنّاقه (8)، والحديث العهد بالمكاره، تستشعر (9) نفس العافية، وتتمسّح (10) منكم باليد الشافية فبحنانكم (11) عليها، وعظيم (12) حرمتكم على من لديها، لا تشربوا لها عذب المجاج بالأجاج، وتقنطوها (13) مما عوّدت من طيب المزاج، فما لدائها، وحياة قربكم غير طبّكم من علاج. وإني ليخطر بخاطري محبة فيكم، وعناية بما يعنيكم، ما نال جانبكم صانه الله بهذا الوطن من الجفاء، ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء، وأنّ الوطن إحدى المواطن الأظآر التي يحقّ لهنّ جميل الاحتفاء، وما يتعلّق بكم من حرمة أولياء القرابة وأولي (14) الصّفاء، فيغلب على ظني أنكم لحسن العهد أجنح، وبحقّ نفسكم على أوليائكم أسمح، والتي (15) هي أعظم قيمة في (16)
فضائلكم أوهب وأمنح (17) وهب أنّ الدّرّ لا يحتاج في الإثباب إلى شهادة النّحور واللبّات، والياقوت غني المكان، عن مظاهرة القلائد والتّيجان أليس أنّه أعلى للعيان، وأبعد عن مكابرة البرهان، تألقها في تاج الملك أنوشروان؟ والشمس (18) وإن
__________
وكان بعض العرب يتفاءل بالسانح ويتشاءم بالبارح، وكان بعضهم على العكس. لسان العرب (سنح) و (برح).
(1) استقراء لمرامكم: تتبعا لمواضع رغبتكم.
(2) في المصدرين: «عن مرامي».
(3) في المصدرين: «الديار».
(4) يندمل الصّدع: يصلح يقال: اندمل الجرح إذا شفي، والصّدع: الشّقّ.
(5) كذا في أزهار الرياض. وفي النفح: «يبرأ».
(6) المهيض: المكسور. لسان العرب (هيض).
(7) في النفح: «ولا تألّفت أنهارها».
(8) الناقه: من شفي من مرضه ولم ترجع قوته بعد. لسان العرب (فقه).
(9) في النفح: «يستشعر».
(10) في النفح: «ويتمسّح».
(11) في الأصل: «فبحياتكم»، والتصويب من المصدرين.
(12) في النفح: «وعظم».
(13) في المصدرين: «وتفطموها عمّا».
(14) في المصدرين: «وأودّاء».
(15) في المصدرين: «وللتي».
(16) في المصدرين: «من».
(17) في المصدرين: «وأسجح».
(18) في المصدرين: «فالشمس».(1/155)
كانت أمّ الأنوار وجلا الأبصار، مهما أغمى مكانها من الأفق قيل: أليل (1) هو أم نهار؟ وكما في علمكم ما فارق ذوو الأحلام (2)، وأولو الأرحام، مواطن استقرارهم، وأماكن قرارهم، إلّا برغمهم واضطرارهم، واستبدال دار هي (3) خير من دارهم، ومتى توازن الأندلس بالمغرب، أو يعوّض عنها إلّا بمكة أو يثرب؟ ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعبّاد، وما فوقه مرابط جهاد، ومعاقد ألوية في سبيل الله، ومضارب أوتاد ثم يبوّئ (4) ولده مبوّأ أجداده، ويجمع له بين طرافه (5) وتلاده أعيذ أنظاركم المسدّدة من رأي فائل (6)، وسعي طويل لم يحل منه بطائل، فحسبكم من هذا الإياب السعيد، والعود الحميد، وهي طويلة.
فأجبته عنها بقولي (7): [السريع]
لم في الهوى العذريّ أو لا تلم ... فالعذل لا يدخل أسماعي
شأنك تعنيفي وشأني الهوى ... كلّ امرئ في شأنه ساعي
«أهلا بتحفة القادم، وريحانة المنادم، وذكرى (8) الهوى المتقادم، لا يصغّر (9) الله مسراك! فما أسراك، لقد جلبت (10) إليّ من همومي ليلا، وجبت (11) خيلا ورجلا، ووفّيت من صاع الوفاء كيلا، وظننت بي الأسف على ما فات، فأعملت الالتفات، لكيلا (12)، فأقسم لو أنّ الأمر (13) اليوم بيدي، أو كانت اللّمّة السوداء من عددي، ما أفلتّ أشراكي المنصوبة لأمثالك (14)، حول المياه
__________
(1) في الأصل: «الليل» والتصويب من المصدرين.
(2) في المصدرين: «ذوو الأرحام وأولو الأحلام».
(3) كلمة «هي» غير واردة في المصدرين.
(4) كذا في أزهار الرياض. وفي النفح: «يبوّأ».
(5) في المصدرين: «طارفه».
(6) الرأي الفائل: الضعيف. لسان العرب (فيل).
(7) هذان البيتان والرسالة في ريحانة الكتاب (ج 2ص 205202)، ونفح الطيب (ج 8ص 170167)، والكتيبة الكامنة (ص 245244)، وأزهار الرياض (ج 1ص 270267).
(8) في النفح: «وذكر».
(9) في الكتيبة: «لا يصفر».
(10) في النفح والأزهار: «جبت». وفي الريحانة: «جئت».
(11) في النفح والأزهار: «وجست رجلا وخيلا». وفي الريحانة: «وجبته».
(12) هذا من الاكتفاء، وهو يشير إلى قول الله تعالى: {لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ} سورة الحديد 57، الآية 23.
(13) في الريحانة: «أمري».
(14) أخذه من بيت الشريف الرضي: [البسيط]
لو كانت اللّمّة السوداء من عددي ... يوم الغميم لما أفلتّ أشراكي(1/156)
وبين المسالك، ولا علمت (1) ما هنا لك، لكنك طرقت حمى كسحته (2) الغارة الشّعواء، وغيّرت ربعه الأنواء، فخمد (3) بعد ارتجاجه، وسكت (4) أذين دجاجه، وتلاعبت الرياح الهوج (5) فوق فجاجه (6)، وطال عهده بالزّمان (7) الأول، وهل عند رسم دارس من معوّل (8) وحيّا الله ندبا إلى زيارتي ندبك، وبآدابه الحكيمة (9)
أدّبك: [الوافر]
فكان وقد أفاد بك الأماني ... كمن أهدى الشّفاء إلى العليل
وهي شيمة بوركت من شيمة، وهبة الله قبله من لدن المشيمة، ومن مثله في صلة رعي، وفضل سعي، وقول (10) ووعي: [مجزوء الخفيف]
قسما بالكواكب الز ... زهر والزّهر عاتمه
إنما الفضل ملّة ... ختمت بابن خاتمه
كساني حلّة وصفه (11)، وقد ذهب زمان التجمّل، وحمّلني ناهض (12) شكره، وكتدي (13) واه عن التحمّل، ونظرني بالعين الكليلة عن العيوب (14) فهلّا أجاد التأمّل، واستطلع طلع نثّي (15)، ووالى في مركب (16) المعجزة حثّي، {إِنَّمََا أَشْكُوا بَثِّي} (17):
[الوافر]
ولو ترك القطا ليلا لناما
__________
(1) في الريحانة: «ولعلمت».
(2) في النفح والأزهار: «كسعته».
(3) في الريحانة: «فجمد».
(4) في الريحانة: «وسكن».
(5) في الأصل: «والهوج» والتصويب من المصادر.
(6) في الريحانة: «مجاجه».
(7) في الريحانة والنفح: «بالزمن».
(8) هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس وهو: [الطويل]
وإنّ شفائي عبرة إن سفحتها ... وهل عند رسم دارس من معوّل؟
ديوان امرئ القيس (ص 9).
(9) في النفح والأزهار: «الحكمية».
(10) في النفح: «وقول وعي».
(11) في النفح والأزهار والريحانة: «فضله».
(12) كلمة «ناهض» ساقطة في النفح والأزهار.
(13) الكتد: مجتمع الكتفين. لسان العرب (كتد).
(14) في النفح والأزهار والريحانة: «العيب». وهنا يشير إلى قول الشاعر: [الطويل] وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا
(15) في الريحانة: «بثّي». والنّث: ما يذيعه المرء من سرّ. لسان العرب (نثث).
(16) في النفح والأزهار: «مبرك». وفي الريحانة: «في أحرك المجرّة».
(17) سورة يوسف 12، الآية 86.(1/157)
وما حال شمل وتده (1) مفروق، وقاعدته فروق، وصواع (2) بني أبيه مسروق، وقلب (3) قرحه من عضّة الدهر دام، وجمرة حسرته ذات احتدام، هذا وقد صارت الصّغرى، التي كانت الكبرى، لمشيب لم يرع (4) أن هجم، لمّا نجم، ثم تهلّل عارضه وانسجم: [الكامل]
لا تجمعي هجرا عليّ وغربة ... فالهجر في تلف الغريب سريع
نظرت فإذا الجنب ناب (5)، والنّفس فريسة ظفر وناب، والمال أكيلة انتهاب، والعمر رهن ذهاب، واليد صفر من كل اكتساب، وسوق المعاد مترامية، والله سريع الحساب: [الوافر]
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان
وهب أنّ العمر جديد، وظلّ الأمن مديد، ورأي الاغتباط بالوطن سديد، فما الحجّة لنفسي إذا مرّت بمطارح جفوتها، وملاعب هفوتها، ومثاقف (6) قناتها، ومظاهر عزّاها (7) ومناتها، والزمان (8) ولود، وزناد الكون غير صلود (9): [الكامل]
وإذا امرؤ لدغته أفعى مرّة ... تركته حين يجرّ حبل يفرق (10)
ثم أن المرغّب قد ذهب، والدهر قد استرجع ما وهب، والعارض قد اشتهب، وآراء (11) الاكتساب مرجوحة مرفوضة، وأسماؤه على الجوار مخفوضة، والنّيّة مع الله على الزّهد فيما بأيدي الناس معقودة، والتوبة بفضل الله عزّ وجلّ شروطها (12) غير معارضة (13) ولا منقودة، والمعاملة سامريّة، ودروع الصبر
__________
(1) في الريحانة: «قيده».
(2) الصّواع، بضم الصاد: إناء كان الملك يشرب به ويكيل. وفي القرآن الكريم: {نَفْقِدُ صُوََاعَ الْمَلِكِ} سورة يوسف 12، الآية 72.
(3) في الريحانة: «وقلبه».
(4) في الكتيبة: «لم يدع».
(5) في النفح: «باب».
(6) في الأصل: «ومناقب» والتصويب من النفح والأزهار. وفي الريحانة: «ومثاقب».
(7) في الأصل: «عزاتها» والتصويب من النفح والأزهار. وفي الريحانة: «عراها وهناتها».
(8) في الريحانة: «والزمن».
(9) في الريحانة: «الكون صلود». والبيت لصالح بن عبد القدوس، وورد في تاريخ بغداد (ج 9 ص 304)، وصدره هناك هكذا:
وإن امرؤ لسعته أفعى مرّة
(10) في الريحانة: «مفرق».
(11) في الريحانة: «وأدات».
(12) في النفح والأزهار: «وجلّ منقودة».
(13) في الريحانة: «معترضة».(1/158)
سابريّة، والاقتصاد قد قرّت العين بصحبته، والله قد عوّض حبّ الدنيا بمحبّته، فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق، وقد رقى لدغتها ألف راق، وجمعتني بها الحجرة، ما الذي تكون الأجرة؟ جلّ شاني، وقد (1) رضي الوامق وسخط (2)
الشاني، إني إلى الله تعالى مهاجر، وللغرض (3) الأدنى هاجر، ولأظعان السّرى زاجر، لأحد (4) إن شاء الله وحاجر، ولكن دعاني إلى (5) الهوى، لهذا (6) المولى المنعم هوى، خلعت نعلي الوجود وما خلعته، وشوق (7) أمرني فأطعته، وغالب والله صبري فما استطعته، والحال والله أغلب، وعسى أن لا يخيب المطلب فإن يسّره (8) رضاه فأمل (9) كمل، وراحل احتمل، وحاد أشجى النّاقة والجمل وإن كان خلاف ذلك، فالزمان (10) جمّ العوائق (11)، والتسليم بمقامي لائق:
[البسيط]
ما بين غمضة (12) عين وانتباهتها ... يصرّف (13) الأمر من حال إلى حال
وأما تفضيله هذا الوطن على غيره (14)، ليمن طيره، وعموم خيره، وبركة جهاده، وعمران رباه ووهاده، بأشلاء عبّاده وزهّاده (15)، حتى لا يفضله إلّا أحد الحرمين، فحقّ بريء من المين، لكنّي (16) للحرمين جنحت، وفي جوّ الشوق إليهما سرحت (17)، فقد (18) أفضت إلى طريق قصدي محجّته، ونصرتني والمنّة لله حجّته، وقصد سيدي أسنى قصد، توخّاه الشكر (19) والحمد، ومعروف عرف به النّكر، وأمل (20) انتحاه الفكر، والآمال والحمد لله بعد تمتار، والله يخلق ما يشاء ويختار، ودعاؤه يظهر الغيب مدد، وعدّة وعدد، وبرّه حالي الظّعن (21)
__________
(1) في النفح والأزهار والريحانة: «وإن».
(2) في الريحانة: «أو سخط».
(3) في الريحانة والنفح والأزهار: «وللعرض».
(4) في النفح والأزهار: «لنجد».
(5) في النفح والأزهار: «للهوى». وفي الريحانة: «لكني دعاني إلى الهدى».
(6) في النفح والأزهار: «إلى هذا». وفي الريحانة: «إلى المولى».
(7) في النفح والأزهار: «وشوقي».
(8) في النفح والأزهار: «يسّر».
(9) في النفح: «فأمر».
(10) في الريحانة: «فالزمن».
(11) في النفح: «العلائق».
(12) في الريحانة: «طرفة».
(13) في الريحانة: «يقلّب».
(14) قوله: «على غيره» غير وارد في النفح.
(15) في الريحانة: «بأشلاء زهّاده».
(16) في النفح والأزهار: «لكنني».
(17) في النفح والأزهار: «سنحت».
(18) في الريحانة: «وقد».
(19) في النفح والأزهار: «الحمد والشكر».
(20) في الريحانة والنفح والأزهار: «والآمال من فضل الله بعد تمتار».
(21) في الريحانة: «حالي الإقامة والظّعن».(1/159)
والإقامة معتمل معتمد (1)، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أحد (2)، والسلام (3)».
وهو الآن بقيد الحياة، وذلك ثاني عشر شعبان عام سبعين وسبعمائة.
أحمد بن عباس بن أبي زكريا (4)
ويقال ابن زكريا. ثبت بخط ابن التّيّاني، أنصاريّ النسب، يكنى أبا جعفر.
حاله: كان (5) كاتبا حسن الكتابة، بارع الخطّ فصيحا، غزير الأدب، قوي المعرفة، شارعا في الفقه، مشاركا في العلوم، حاضر الجواب، ذكيّ الخاطر، جامعا للأدوات السلطانية (6)، جميل الوجه، حسن الخلقة، كلفا بالأدب، مؤثرا له على سائر لذّاته، جامعا للدواوين (7) العلمية، معنيا بها، مقتنيا للجيّد منها، مغاليا فيها، نفّاعا من خصّه بها (8)، ولا يستخرج منها شيئا، لفرط بخله بها، إلّا لسبيلها، حتى لقد أثرى كثير من الورّاقين والتجّار معه فيها، وجمع منها ما لم يكن عند ملك.
يساره: يقال إنه لم يجتمع عند أحد من نظرائه ما اجتمع عنده من عين وورق ودفاتر وخرق، وآنية، ومتاع وأثاث وكراع.
مشيخته: روى عن أبي تمام غالب التّياني، وأبي عبد الله بن صاحب الأحباس.
نباهته وحظوته: وزر لزهير العامريّ (9) الآتي ذكره، وارثا الوزارة عن أبيه، وهي ما هي في قطر متحرّ بينابيع السّخيلة، وثرّ بهذه الأمنة مستندا إلى قعساء العزّة، فتبنّك نعيما كثيرا، تجاوز الله عنه.
دخوله غرناطة: الذي اتصل علمي أنه دخل غرناطة منكوبا حسبما يتقرّر.
__________
(1) في الريحانة والنفح والأزهار: «ومعتمد».
(2) في الريحانة والنفح: «أمد».
(3) في الريحانة: «والسلام الكريم من محبّه المثني على كماله، فلان».
(4) ترجمة أحمد بن عباس في الذيل والتكلمة (ج 1ص 277)، وفي الذخيرة (ق 1ص 656)، والبيان المغرب (ج 3ص 293)، والمغرب (ج 2ص 205)، ونفح الطيب (ج 5ص 81).
(5) قارن بالذخيرة (ق 1ص 665664).
(6) في الذخيرة: «الملوكيّة».
(7) في الذخيرة: «جمّاعا للدفاتر، مقتنيا للجيّد منها».
(8) في الذخيرة: «بشيء منها».
(9) ملك زهير العامري ألمرية من سنة 418هـ إلى سنة 429هـ. وستأتي ترجمته في هذا الجزء، وهناك ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.(1/160)
نكبته: زعموا أنه كان أقوى الأسباب فيما وقع بين أميره زهير، وبين باديس أمير غرناطة، من المفاسدة، وفصل صحبه إلى وقم باديس وقبيله، وحطّه في حيّز هواه وطاعته، وكان ما شاء الله من استيلاء باديس على جملتهم، ووضع سيوف قومه فيهم، وقتل زهير، واستئصال محلّته وقبض يومئذ على أحمد بن عباس، وجيء به إلى باديس، وصدره يغلي حقدا عليه، فأمر بحبسه، وشفاؤه الولوغ في دمه، وعجل عليه بعد دون أصحابه من حملة الأقلام. قال ابن حيان (1): حديث ابن عباس أنه كان قد ولع (2) ببيت شعر صيّره هجواه أوقات لعبه بالشطرنج، أو معنى يسنح له مستطيلا بجدّه: [المتقارب]
عيون الحوادث عنّي نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام
وشاع (3) بيته هذا عند (4) الناس، وغاظهم، حتى قلب له مصراعه بعض الشعراء (5) فقال:
«سيوقظها (6) قدر لا ينام»
فما كان إلّا «كلا» و «لا» حتى (7) تنبّهت الحوادث لهضمه، انتباهة انتزعت منه نخوته وعزّته، وغادرته أسيرا ذليلا يرسف في وزن أربعين رطلا (8) من قيده، منزعجا من عضّه لساقه البضّة، التي (9) تألمت من ضغطة جوربه، يوم (10) أصبح فيه أميرا مطاعا، أعتى (11) الخلق على بابه، وآمنهم بمكره، فأخذه أخذ مليك مقتدر، والله غالب على أمره.
وفاته: قال أبو مروان (12): كان باديس قد أرجأ قتله مع جماعة من الأسرى، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار من الذّهب العين، مالت إليها نفس باديس إلّا أنه عرض ذلك على أخيه بلكّين، فأنف منه، وأشار عليه بقتله، لتوقعه إثارة فتنة أخرى على يديه، تأكل من ماله أضعاف فديته. قال: فانصرف يوما من بعض ركباته مع أخيه (13)، فلمّا توسّط الدار التي فيها
__________
(1) النص في الذخيرة (ق 1ص 669668).
(2) في الذخيرة: «أولع».
(3) في الذخيرة: «وذاع».
(4) في الذخيرة: «في».
(5) في الذخيرة: «الأدباء».
(6) في الذخيرة: «سيوقظنا».
(7) في الذخيرة: «إلّا كلّا حتى».
(8) كلمة «رطلا» ساقطة في الذخيرة.
(9) في الذخيرة: «التي طالما تألمت».
(10) في الذخيرة: «غبّ».
(11) في الذخيرة: «أعتى خلق الله على بابه، وآمنهم لمكر ربّه».
(12) النص في الذخيرة (ق 1ص 664663) وبعض منه في البيان المغرب (ج 3ص 172).
(13) في الذخيرة والبيان المغرب: «أخيه بلقين».(1/161)
أحمد (1) بقصبة غرناطة، لصق القصر، وقف هو وأخوه بلكّين، وحاجبه علي بن القروي، وأمر بإخراج أحمد إليه، فأقبل يرسف في قيده حتى وقف (2) بين يديه، فأقبل على سبّه وتبكيته بذنوبه، وأحمد يتلطّف (3) إليه، ويسأله إراحته مما هو فيه، فقال له: «اليوم تستريح من هذا الألم، وتنتقل إلى ما هو أشدّ» وجعل يراطن أخاه بالبربرية (4)، فبان لأحمد وجه الموت، فجعل (5) يكثر الضّراعة، ويضاعف (6) عدد المال، فأثار غضبه، وهزّ مزراقه (7)، وأخرجه من صدره فاستغاث الله، زعموا، عند ذلك، وذكر أولاده وحرمه للحين أمر باديس بحزّ رأسه ورمي (8) خارج القصر.
حدّث خادم باديس، قال (9): رأيت جسد ابن عباس ثاني يوم قتله (10)، ثم قال لي باديس: خذ رأسه وواره مع جسده قال (11): فنبشت قبره (12)، وأضفته إلى جسده، بجنب أبي (13) الفتوح قتيل باديس أيضا. وقال لي باديس (14): ضع عدوّا إلى جنب عدو، إلى يوم القصاص فكان قتل أبي جعفر عشيّة الحادي والعشرين من ذي حجة سنة سبع وعشرين وأربعمائة (15)، بعد اثنين وخمسين يوما من أسره. وكان يوم مات ابن ثلاثين، نفعه الله ورحمه.
أحمد بن أبي جعفر بن محمد بن عطيّة القضاعي (16)
من أهل مرّاكش، وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من دانية، يكنى أبا جعفر.
__________
(1) في الذخيرة: «أحمد بن عباس». وفي البيان المغرب: «فلما مرّ على الدار التي فيها ابن عباس».
(2) في المصدرين: «أقيم».
(3) في المصدرين: «يلطّفه ويسأله».
(4) في المصدرين: «أخاه بلقين بكلامه».
(5) في المصدرين: «وجعل».
(6) في المصدرين: «ويضعف له».
(7) في المصدرين: «مزرقته فأخرجها من صدره».
(8) في المصدرين: «وووري».
(9) النص في الذخيرة (ق 1ص 668).
(10) في الذخيرة: «قتل».
(11) كلمة «قال» ساقطة من الذخيرة.
(12) في الذخيرة: «صداه».
(13) في الذخيرة: «بجنب قبر أبي».
(14) كلمة «باديس» ساقطة في الذخيرة.
(15) في الذيل والتكملة (ج 1ص 279): «مات وهو ابن ثلاثين سنة وأشهر عشية يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة».
(16) ترجمة أبي جعفر بن عطية في المعجب (ص 267)، والبيان المغرب، قسم الموحدين (ص 57)، وإعتاب الكتاب (ص 225)، ونفح الطيب (ج 7ص 174)، والترجمة هنا معظمها ورد في نفح الطيب (ج 7ص 181174)، والحلة السيراء (ج 2ص 194، 225، 238)، وتاريخ المنّ بالإمامة (ص 220).(1/162)
حاله: كان كاتبا بليغا، سهل المأخذ، منقاد القريحة، سيّال الطبع.
مشيخته: أخذ عن أبيه، وعن طائفة كبيرة من أهل مراكش.
نباهته: كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين، وعن ابنه (1) تاشفين، وعن أبي إسحاق، وكان أحظى كتّابهم. ثم لمّا انقطعت دولة لمتونة، دخل في لفيف الناس، وأخفى نفسه. ولمّا أثار الماسي (2) الهداية بالسوس، ورمى الموحّدين بحجرهم الذي رموا به البلاد، وأعيا أمره، وهزم جيوشهم التي جهّزوها إليه وانتدب منهم إلى ملاقاته، أبو حفص عمر بن يحيى الهنتائي، في جيش خشن من فرسان ورجّالة، كان أبو جعفر بن عطية، من الرّجالة، مرتسما بالرماية، والتقى الجمعان، فهزم جيش الماسي، وظهر عليه الموحّدون. وقتل الدّعي المذكور، وعظم موقع الفتح عند الأمير الغالب يومئذ أبو حفص عمر، فأراد إعلام الخليفة عبد المؤمن، بما سناه الله، فلم يلق في جميع من استصحبه من يجلي عنه، ويوفي ما أراده، فذكر له أن فتى من الرّماة يخاطر بشيء من الأدب والأشعار والرسائل فاستحضره، وعرض عليه غرضه، فتجاهل وظاهر بالعجز، فلم يقبل عذره، واشتدّ عليه، فكتب رسالة فائقة مشهورة، فلمّا فرغ منها وقرأها عليه اشتدّ إعجابه بها وأحسن إليه، واعتنى به، واعتقد أنه ذخر يتحف به عبد المؤمن، وأنفذ الرسالة، فلمّا قرئت بمحضر أكابر الدولة، عظم مقدارها، ونبه فضل منشئها، وصدر الجواب ومن فصوله الاعتناء بكاتبها، والإحسان إليه، واستصحابه مكرّما. ولما أدخل على عبد المؤمن سأله عن نفسه، وأحظاه لديه وقلّده خطّة الكتابة، وأسند إليه وزارته، وفوّض إليه النظر في أموره كلها فنهض بأعباء ما فوّض إليه، وظهر فيه استقلاله وغناؤه، واشتهر بأجمل السّعي للناس واستمالتهم بالإحسان وعمّت صنائعه (3)، وفشا معروفه، فكان محمود السّيرة، منحب (4) المحاولات، ناجح المساعي، سعيد المأخذ، ميسّر المآرب، وكانت وزارته زينا للوقت، كمالا للدولة.
محنته: قالوا: واستمرّت حالته إلى أن بلغ الخليفة عبد المؤمن أن النصارى غزوا قصبة ألمرية، وتحصّنوا بها واقترن بذلك تقديم ابنه يعقوب على إشبيلية،
__________
(1) في النفح: «وعن ابنيه تاشفين وإسحاق».
(2) هو الثائر محمد بن عبد الله بن هود، الملقّب بالهادي، وقد ظهر في رباط ماسة بمنطقة السوس، وكثر أتباعه، ثم قضى عليه أبو حفص عمر عام 541هـ.
(3) الصنائع: جمع صنيعة وهي المعروف. لسان العرب (صنع).
(4) في النفح: «مبخّت».(1/163)
فأصحبه أبا جعفر بن عطية، وأمره أن يتوجّه بعد استقرار ولده بها إلى ألمرية وقد تقدّم إليها السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن، وحصر من بها النصارى، وضيّق عليهم، ليحاول أمر إنزالهم، ثم يعود إلى إشبيلية، ويتوجّه منها مع واليها، إلى منازلة الثائر بها على الوهيبي فعمل على ما حاوله من ذلك واستنزل النصارى من ألمريّة على العهد بحسن محاولته، ورجع السيد أبو سعيد إلى غرناطة، مزعجين إليها، حتى يسبقا جيش الطاغية ثم انصرف إلى إشبيلية ليقضي الغرض من أمر الوهيبي. فعندما خلا منه الجوّ، ومن الخليفة مكانه، وجدت حسّاده السبيل إلى التدبير عليه، والسعي به، حتى أو غروا صدر الخليفة فاستوزر عبد المؤمن ابن عبد (1) السلام بن محمد الكومي. وانبرى لمطالبة ابن عطية، وجدّ في التماس عوراته، وتشنيع سقطاته، وأغرى به صنائعه، وشحن عليه حاشيته، فبرّوا وراشوا وانقلبوا، وكان مما نقم على أبي جعفر، نكاة القرح بالقرح، في كونه لم يقف في اصطناع العدد الكثير من اللمتونيين، وانتياشهم من خمولهم، حتى تزوج بنت يحيى الحمار من أمرائهم وكانت أمها زينب بنت علي بن يوسف، فوجدوا السّبيل بذلك إلى استئصال شأفته والحكام، حتى نظم منهم مروان بن عبد العزيز، طليقه ومسترقّ اصطناعه، أبياتا طرحت بمجلس عبد المؤمن (2): [البسيط]
قل للإمام أطال (3) الله مدّته ... قولا تبين لذي لبّ حقائقه
إنّ الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه (4)
وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه
فبادر الحزم في إطفاء (5) نارهم (6) ... فربما عاق عن أمر عوائقه
هم العدوّ ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوّك واحذر من يصادقه
الله يعلم أني ناصح لكم ... والحقّ أبلج لا تخفى طرائقه (7)
__________
(1) في النفح: «فاستوزر عبد السلام».
(2) الأبيات في الحلّة السيراء (ج 2ص 226)، والبيان المغرب قسم الموحدين (ص 59)، ونفح الطيب (ج 7ص 175).
(3) في البيان المغرب: «أدام».
(4) الزراجين: كلمة أطلقها المهدي بن تومرت على المرابطين، وواحدها زرجان وهو طائر أسود البطن، أبيض الريش، شبّه المهدي المرابطين به لأنهم بيض الثياب، سود القلوب. نظم الجمان (ص 85). وانظر الإحاطة (ج 1ص 266حاشية رقم 2من تعليق المحقق عنان.
والبوائق: جمع بائقة وهي الداهية. محيط المحيط (بوق).
(5) في الحلة السيراء: «إخماد».
(6) في البيان المغرب: «نورهم».
(7) هذا البيت ساقط في البيان المغرب.(1/164)
قالوا: ولمّا وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره الفاضل (1) أبي جعفر، وأسرّ له في نفسه تغيّرا، فكان ذلك من أسباب نكبته. وقيل: أفضى إليه بسرّ فأفشاه، وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس، فقلق وعجّل بالانصراف (2) إلى مرّاكش، فحجب عند قدومه، ثم قيد إلى المسجد في اليوم الثاني (3) بعده، حاسر العمامة، واستحضر الناس على طبقاتهم، وقرّروا (4) ما يعلمون من أمره، وما صار إليهم منه (5)، فأجاب كلّ بما اقتضاه هواه، فأمر (6) بسجنه، ولفّ معه أخوه أبو عقيل عطية، وتوجّه عبد المؤمن في إثر ذلك زائرا إلى تربة المهدي (7)، فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف.
وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة، من لطائف الأدب، نظما ونثرا في سبيل التوسّل بتربة إمامهم (8)، عجائب لم تجد (9)، مع نفوذ قدر الله فيه. ولما انصرف من وجهته أعادهما معه، قافلا إلى مراكش، فلما حاذى تاقمرت، أنفذ الأمر بقتلهما، بالشّعراء المتّصلة بالحصن على مقربة من الملّاحة هنالك، فمضيا لسبيلهما، رحمهما الله (10).
شعره وكتابته: كان ممّا خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفا كما قلناه من رسالة:
«تالله لو أحاطت بي (11) خطيئة، ولم تنفكّ نفسي عن الخيرات بطيئة، حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت: إن الله لم يوح إلى (12)
الفلك إلى نوح، وبريت لقرار (13) ثمود نبلا، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضة من الطّير (14) من أثر الرسول فنبذتها وافتريت على العذراء البتول (15) فقذفتها وكتبت صحيفة (16) القطيعة بدار الندوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة،
__________
(1) كلمة «الفاضل» ساقطة في نفح الطيب.
(2) في النفح: «الانصراف».
(3) كلمة «الثاني» غير واردة في النفح.
(4) في النفح: «على ما».
(5) في النفح: «إليه منهم».
(6) في النفح: «وأمر».
(7) في النفح: «المهدي محمد بن تومرت».
(8) في النفح: «إمامهم المهدي».
(9) في النفح: «لم تجد شيئا».
(10) في النفح: «الله تعالى».
(11) في النفح: «بي كل خطيئة».
(12) في النفح: «في الفلك لنوح».
(13) في النفح: «لقدار». وقدار ثمود: هو عاقر ناقة صالح.
(14) قوله: «من الطير» ساقط في النفح.
(15) العذراء البتول: هي مريم أمّ عيسى عليهما السلام.
(16) هي صحيفة القطيعة التي كتبتها قريش وعلّقتها في الكعبة لمقاطعة بني هاشم رهط النبي صلى الله عليه وسلم.(1/165)
وذممت كل قرشي، وأكرمت لأجل وحشي (1) كلّ حبشي، وقلت إن بيعة السّقيفة لا توجب لإمام (2) خليفة، وشحذت شفرة غلام (3) المغيرة بن شعبة، واعتقلت (4) من حصار الدار وقتل أشمطها (5) بشعبة، وغادرت الوجه من الهامة خضيبا، وناولت من قرع سنّ الخمسين (6) قضيبا، ثم أتيت حضرة المعصوم (7) لائذا، وبقبر الإمام المهديّ عائذا. لقد آن لمقالتي أن تسمع، وأن (8) تغفر لي هذه الخطيئات أجمع:
[الطويل]
فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا ... بحمل (9) قلوب هدّها الخفقان
[وكتب مع ابن له صغير آخرة] (10): [البسيط]
عطفا علينا أمير المؤمنين، فقد ... بان العزاء لفرط البثّ والحزن
قد أغرقتنا ذنوب كلّها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السّفن
وصادفتنا سهام كلّها غرض ... لها ورحمتكم (11) أوقى من الجنن
هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن
من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشا من الزمن
فالثوب يطهر بعد (12) الغسل من درن ... والطّرف ينهض بعد الرّكض من وسن
أنتم بذلتم حياة الخلق كلّهم ... من دون منّ عليهم لا ولا ثمن
ونحن من بعض من أحيت مكارمكم ... تلك الحياتين من نفس ومن بدن
وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النّوح في فرع ولا فنن
قد أوجدتهم أياد منك سابغة (13) ... والكلّ لولاك لم يوجد ولم يكن
__________
(1) وحشي: هو قاتل حمزة عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد. وقد أسلم فيما بعد، وقتل مسيلمة الكذّاب.
(2) في النفح: «إمامة الخليفة».
(3) غلام المغيرة: هو أبو لؤلؤة، قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) في النفح: «واعتلقت».
(5) أراد بأشمط الدار عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(6) في النفح: «الحسين».
(7) في النفح: «المعلوم».
(8) في النفح: «وتغفر».
(9) في النفح: «بردّ».
(10) ما بين قوسين غير وارد في الإحاطة، وقد أضفناه من النفح، لأن الأبيات على قافية النون المكسورة، وهي على البسيط.
(11) في النفح: «ورحمة منكم أوقى».
(12) في النفح: «عند».
(13) في النفح: «سابقة».(1/166)
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص، وهي التي أورثته الكتابة العليّة والوزارة كما تقدم قوله (1):
«كتبنا (2) هذا من وادي ماسة بعد ما تزحزح (3) أمر الله الكريم، ونصر الله المعلوم (4) {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (5) فتح بمسرى (6) الأنوار إشراقا، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا، ونبّه للأماني النّائمة جفونا وأحداقا، واستغرق غاية الشكر استغراقا، فلا تطيق الألسن كنه (7) وصفه إدراكا ولا لحاقا جمع أشتات الطبّ (8) والأدب، وتقلّب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب (9): [البسيط]
فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب
وتقدّمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة. كان أولئك الضالّون المرتدّون قد بطروا عدوانا وظلما، واقتطعوا الكفر معنى واسما، وأملى لهم الله ليزدادوا إثما وكان مقدّمهم الشّقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، واستهوى القلوب بمهولاته، ونصب له الشيطان من حبالاته، فأتته المخاطبة (10) من بعد وكثب، ونسلت إليه الرسل من كل حدب، واعتقدته الخواطر أعجب عجب وكان الذي قادهم لذلك (11)، وأوردهم تلك المهالك، وصول من بتلك (12) السواحل، ممّن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس، فيما سلف من الأعوام، واشتغل على رغمه (13)
بالصيام والقيام، آناء الليل (14) والأيام، لبسوا الناموس أثوابا، وتدرّعوا الرياء جلبابا، فلم يفتح الله لهم إلى التوفيق (15) بابا».
ومنها في ذكر صاحبهم (16):
__________
(1) الرسالة في نفح الطيب (ج 7ص 178).
(2) في النفح: «كتابنا».
(3) في النفح: «ما تجدّد».
(4) في النفح: «المعهود المعلوم».
(5) سورة آل عمران 3، الآية 126.
(6) في النفح: «فتح بهر الأنوار».
(7) في النفح: «لكنه».
(8) في النفح: «الطلب».
(9) البيت لأبي تمام وهو في ديوانه (ص 14).
(10) في النفح: «المخاطبات».
(11) في النفح: «إلى ذلك».
(12) في النفح: «من كان بتلك».
(13) في النفح: «على زعمه بالقيام والصيام».
(14) في النفح: «الليالي».
(15) في النفح: «بالتوفيق».
(16) هو محمد بن عبد الله الماسي المدّعي للهداية، كما جاء في النفح، وكما تقدّم عنه قبل قليل.(1/167)
«فصرع والحمد (1) لله لحينه، وبادرت إليه بوادر منونه، وأتته وافدات الخطيئات عن يساره، ويمينه، وكان (2) يدّعي أن المنيّة في هذه الأعوام لا تصيبه، ويزعم أنه يبشّر بذلك والنوائب لا تنوبه ويقول في سواه قولا كثيرا، ويختلق على الله إفكا وزورا فلما عاينوا (3) هيئة اضطجاعه، ورأوا ما خطّته (4) الأسنة في أعضائه (5)، ونفذ فيه من أمر الله ما لم يقدروا على استرجاعه هزم لهم من كان لهم من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم كتساقط (6) الذّباب، وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحة (7) الرّقاب، ولم تقطر كلومهم إلّا على الأعقاب (8) فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وأذنت (9) الآجال بانقراض آمالهم (10)، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم فلم يعاين منهم إلّا من خرّ صريعا، وسقى الأرض نجيعا (11)، ولقي من وقع (12) الهنديّات أمرا فظيعا ودعت الضرورة باقيهم إلى التّرامي في الوادي، فمن كان يؤمل الفرار منهم ويرتجيه، ويسبح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنّة اختطافا، وأذاقته موتا ذعافا (13) ومن لجّ في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثجّه (14)، قضى عليه شرقه، وألوى فرقته (15) غرقه. ودخل الموحّدون إلى الباقية (16) الكائنة فيه، يتناولون قتالهم طعنا وحربا (17)، ويلقونهم بأمر الله هونا (18)
عظيما وكربا، حتى سطت (19) مراقات الدماء على صفحات الماء، وحكت حمرتها على زرقه حمرة الشّفق على زرق (20) السماء وظهرت (21) العبرة للمعتبر، في جري الدماء (22) جري الأبحر».
__________
(1) في النفح: «بحمد الله».
(2) في النفح: «وقد كان يدّعي أنه بشّر بأن المنيّة».
(3) في النفح: «رأوا».
(4) في النفح: «وما خطته».
(5) في النفح: «أعضائه وأضلاعه».
(6) في النفح: «تساقط».
(7) في النفح: «صفحات».
(8) كناية عن جبنهم وفرارهم، وقد أخذ هذا من قول الشاعر: [الطويل] فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعناقنا يقطر الدّما
لسان العرب (دمي).
(9) في النفح: «وآذنت».
(10) في النفح: «آمادهم».
(11) النجيع: الدم. لسان العرب (نجع).
(12) في النفح: «من أمر الهنديات فظيعا».
(13) يقال: السّمّ الذعاف، أي القاتل لحينه. لسان العرب (ذعف).
(14) في النفح: «ثبجه».
(15) في النفح: «بذقنه».
(16) في النفح: «البقية».
(17) في النفح: «وضربا».
(18) في النفح: «هولا».
(19) في النفح: «حتى انبسطت مراقات الداء».
(20) في النفح: «زرقة».
(21) في النفح: «وجرت».
(22) في النفح: «في جري ذلك الدم».(1/168)
دخوله غرناطة: احتلّ بغرناطة عام أحد وخمسين وخمسمائة، لما استدعى أهل جهات ألمريّة، السيّد أبا سعيد إلى منازلة من بها النصارى وحشد، ونزل عليها، ونصب المجانيق على قصبتها، واستصرخ من بها الطاغية (1)، فأقبل إلى نصرهم واستمدّ السيد أبو سعيد الخليفة، فوجّه إليه الكبير أبا جعفر بن عطية صحبة السيد أبي يعقوب ابنه، فلحق به، واتّصل الحصار شهورا سبعة، وبذل الأمن لمن كان بها، وعادت إلى ملكة الإسلام، وانصرف الوزير أبو جعفر صحبة السيد أبي يعقوب إلى إشبيلية، وجرت أثناء هذه أمور يطول شرحها ففي أثناء هذه الحركة دخل أبو جعفر غرناطة، وعدّ فيمن ورد عليها.
مولده: بمرّاكش عام سبعة وعشرين وخمسمائة (2).
وفاته: على حسب ما تقدّم ذكره، لليلة بقيت من صفر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة (3).
أحمد بن محمد بن شعيب الكرياني
من أهل فاس، يكنى أبا العباس، ويعرف بابن شعيب من كريانة، قبيلة من قبائل الرّيف الغربي.
حاله: من «عائد الصّلة»: من أهل المعرفة بصناعة الطب، وتدقيق النظر فيها، مشاركا في الفنون، وخصوصا في علم الأدب، حافظا للشعر ذكر أنه حفظ منه عشرين ألف بيت للمحدثين، والغالب عليه العلوم الفلسفية، وقد مقت لذلك، وتهتّك في علم الكيمياء، وخلع فيه العذار، فلم يحل بطائل، إلّا أنه كان تفوّه بالوصول شنشنة المفتونين بها على مدى الدهر. وله شعر رائق، وكتابة حسنة، وخط ظريف.
كتب في ديوان سلطان المغرب مرئسا، وتسرّى جارية روميّة اسمها صبح، من أجمل الجواري حسنا، فأدّبها حتى لقّنت حظّا من العربية، ونظمت الشعر، وكان شديد الغرام بها، فهلكت أشدّ ما كان حبّا لها، وامتداد أمل فيها، فكان بعد وفاتها لا يرى إلّا في تأوّه دائم، وأسف متماد، وله فيها أشعار بديعة في غرض الرّثاء.
مشيخته: قرأ في بلده فاس على كثير من شيوخها، كالأستاذ أبي عبد الله بن أجروم نزيل فاس، والأستاذ أبي عبد الله بن رشيد، ووصل إلى تونس، فأخذ منها الطبّ والهيئة على الشيخ رحلة وقته في تلك الفنون، يعقوب بن الدرّاس.
__________
(1) المراد ألفنش ريموندس، صاحب قشتالة.
(2) في الحلّة السيراء (ج 2ص 238): «مولده سنة سبع عشرة وخمسمائة».
(3) كذا جاء في الحلّة السيراء.(1/169)
وكان مما خاطب به الشيخ أبا جعفر بن صفوان، وقد نشأت بينهما صداقة أوجبها القدر المشترك من الولوع بالصّنعة المرموزة، يتشوّق إلى جهة كانوا يخلون بها للشيخ فيها ضيعة بخارج مالقة كلأها الله: [المتقارب]
رعى الله وادي شنيانة ... وتلك الغدايا وتلك اللّيالي (1)
ومسرحنا بين خضر الغصون ... وودق المياه وسحر الظّلال
ومرتعنا تحت أدواحه ... ومكرعنا في النّمير الزّلال
نشاهد منها كعرض الحسام ... إذا ما انتشت فوقه كالعوالي (2)
ولله من درّ حصبائه ... لآل وأحسن بها من لآل
وليل به في ستور الغصون ... كخود ترنّم فوق الحجال
وأسحاره كيف راقت وص ... حّ النسيم بها في اعتدال
ولله منك أبا جعفر ... عميد الحلال حميد الخلال
تطارحني برموز الكنوز ... وتسفر لي عن معاني المعالي
وتبدلني في شجون الحديث ... ويا طيبة كلّ سحر حلال
فألقط من فيك سحر البيان ... مجيبا به عن عريض النّوال
أفدت الذي دونها معشر ... كثير المقال قليل النّوال
فأصبحت لا أبتغي بعدها ... سواك وبعدكما لا أبالي (3)
وخاطب الفقيه العالم أبا جعفر بن صفوان يسأله عن شيء من علم الصناعة بما نصّه: [الكامل]
دار الهوى نجد وساكنها ... أقصى أماني النفس من نجد
وممّا صدّر به رسالة: [الطويل]
أيجمع هذا الشّمل بعد شتاته؟ ... ويوصل هذا الحبل بعد انبتاته؟
أما للبلى آية عيسويّة ... فينشر ميّت الأنس بعد مماته؟
ويورد عيني بعد ملح مدامعي ... برؤيته في عذبه وفراته؟
__________
(1) في الأصل: «الليال».
(2) في الأصل: «كالعوال».
(3) في الأصل: «لا أبال».(1/170)
وأنشد له صاحبنا الجليل صاحب العلّامة (1) بالمغرب، أبو القاسم بن صفوان قوله: [المنسرح]
يا ربّ ظبي شعاره نسك ... ألحاظه في الورى لها فتك
يترك من هام به مكتئبا ... لا تعجبوا أن قومه التّرك
أشكو له ما لقيت من حرق ... فيمشين (2) لاهيا إذا أشكو
صبرت حتى أطلّ عارضه ... فكان صبري ختامه مسك
ومن المعاتبة والفكاهة قوله: [السريع]
وبائع للكتب يبتاعها ... بأرخض السّوم وأغلاه
في نصف الاستذكار أعطيته ومحّض العين وأرضاه وله أيضا: [الكامل]
يا من توعّدني بحادث هجره ... إنّ السّلوّ لدون ما يتوعّد
هذا عذارك وهو موضع سلوتي ... فأكفف فقد سبق الوعيد الموعد
وأظنّ سلوتنا غدا أو بعده ... فبذاك خبّرنا الغراب الأسود
وله أيضا: [الكامل]
قال العذول تنقّصا لجماله ... هذا حبيبك قد أطلّ عذاره
لا بل بدا فصل الربيع بخدّه ... فلذا تساوى ليله ونهاره
وله يرثي: [مجزوء الكامل]
يا قبر صبح، حلّ في ... ك بمهجتي أسنى الأماني (3)
وغدوت بعد عيانها ... أشهى البقاع إلى العيان
أخشى المنيّة إنها ... تقصي مكانك عن مكاني (4)
كم بين مقبور بفا ... س وقابر بالقيروان
وله أيضا يرثيها: [الكامل]
يا صاحب القبر الذي أعلامه ... درست وثابت حبّه لم يدرس
__________
(1) كان صاحب العلّامة بالمغرب يتولّى التوقيع باسم السلطان على المراسيم الملكية، وكانت وظيفته من أهم الوظائف الإدارية بالمغرب.
(2) في الأصل: «فيمش» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «الأمان».
(4) في الأصل: «مكان».(1/171)
ما اليأس منك على التصبّر حاملي ... أيأستني فكأنني لم أيأس
لمّا ذهبت بكلّ حسن أصبحت ... نفسي تعاني شجو كلّ الأنفس
أصباح أيّامي ليال كلّها ... لا تنجلي عن صبحك المتنفّس
وقال في ذلك: [مجزوء الكامل]
أعلمت ما صنع الفرا ... ق غداة جدّ به الرّفاق؟
ووقفت منهم حيث للن ... نظرات والدمع استباق
سبقت مطاياهم فما ... أبطا (1) بنفسك في السباق
أأطقت حمل صدودهم ... للبين خطب لا يطاق
عن ذات عرق أصعدوا ... أتقول دارهم العراق
نزلوا ببرقة ثمهد ... فلذاك ما شئت البراق
وتيامنوا عسفان أن ... يقفوا بمجتمع الرّفاق
ما ضرّهم وهم المنى ... لو وافقوا بعض الوفاق
قالوا تفرّقنا غدا ... فشغلت عن وعد التّلاق
عمدا رأوا قتل العمي ... د فكان عيشك في اتّفاق
أولى لجسمك أن يرقّ ... ودمع عينك أن يراق
أمّا الفؤاد فعندهم ... دعه ودعوى الاشتياق
أعتاد حبّ محلهم ... فمحلّ صدرك عنه ضاق
واها لسالفة الشبا ... ب مضت بأيامي الرقاق
أبقت حرارة لوعة ... بين الترائب والتّراق
لا تنطفي وورودها ... من أدمعي كأس دهاق
وقال أيضا: [الكامل]
يا موحشي والبعد دون لقائه ... أدعوك عن شحط وإن لم تسمع
يدنيك مني الشوق حتى إنني ... لأراك رأي العين لولا أدمعي
وأحنّ شوقا للنّسيم إذا سرى ... لحديثكم وأصيح كالمستطلع
كان اللّقاء (2) فكان حظّي ناظري ... وسط الفراق فصار حظّي مسمعي (3)
__________
(1) في الأصل: «أبطى»، وجاءت هنا مخفّفة عن الأصل وهو: «أبطأ».
(2) في الأصل: «اللقا» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «مسمع».(1/172)
فابعث خيالك تهده نار الحشا ... إن كان يجهل من مقامي موضعي (1)
واصحبه من نومي بتحفة قادم ... فصدى فليل ركابكم لم تجمع
دخوله غرناطة: دخل غرناطة على عهد السابع من ملوكها الأمير محمد (2)
لقرب من ولايته في بعض شؤونه وحقّق بها تغيير أمر الأدوية المنفردة التي يتشوّف الطّيب إليها والشحرور، وهي بقرية شون (3) من خارجها.
وفاته: رحمه الله، توفي بتونس في يوم عيد الأضحى من سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
أحمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن محمد بن حسين بن علي بن سليمان بن عرفة اللخمي
الفقيه، الرئيس، المتفنّن، حامل راية مذهب الشعر في وقته، المشار إليه بالبنان في ذلك ببلده، يكنى أبا العباس.
حاله: كان فذّا في الأدب، طرفا في الإدراك، مهذب الشمائل، ذلق اللسان، ممتع المجالسة والمحاضرة، حلو الفكاهة، يرمي كل غرض بسهم، إلى شرف النشأة وعزّ المرتبة، وكرم المحتد، وأصالة الرياسة.
حدّثني الشيخ أبو زكريا بن هذيل، قال: حضرت بمجلس ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، وأبو العباس بدر هالته، وقطب جلالته، فلم يحر بشيء إلّا ركض فيه، وتكلّم بملء فيه. ثم قمنا إلى زبّارين يصلحون شجرة عنب، فقال لعريفهم: حقّ هذا أن يقصر، ويطال هذا، ويعمل كذا. فقال الوزير: يا أبا العباس، ما تركت لهؤلاء أيضا حظّا من صناعتهم، يستحقّون به الأجرة، فعجبنا من استحضاره، ووساعة ذرعه، وامتداد حظّ كفايته.
قدومه على غرناطة: قدم عليها مع الجملة من قومه عند تغلب الدولة النصرية على بلدهم، ونزول البلاء والغلاء والمحنة بهم، والجلاء بهم في آخر عام خمسة
__________
(1) في الأصل: «موضع».
(2) سابع سلاطين بني نصر هو أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، وقد حكم من سنة 733هـ إلى سنة 755هـ. وسادس سلاطينهم هو محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري، وقد حكم من سنة 725هـ إلى سنة 733هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 90، 102).
(3) شون: بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.(1/173)
وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم بعد إن شاء الله. وكان أوفر الدواعي في الاستعطاف لهم بما تقدّم بين يدي أدعيائهم، ودخولهم على السلطان، أن الذي تنخل بمثله السّخائم، وتذهب الإحن. وخطب لنفسه، فاستمرت حاله لطيف المنزلة، معروف المكانة، ملازما مجلس مدبّر الدولة، مرسوما بصداقته، مشتملا عليه ببرّه، إلى أن كان من تقلّب الحال، وإدالة الدولة، ما كان.
شعره: وشعره نمط عال، ومحلّ البراعة حال، لطيف الهبوب، غزير المائية، أنيق الديباجة، جمّ المحاسن فمنه في مذهب المدح، يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم (1): [الكامل]
ملّكت (2) رقيّ بالجمال فأجمل ... وحكمت في (3) قلبي بجورك فاعدل
أنت الأمير على الملاح ومن يجر ... في حكمه إلّا جفونك يعزل
إن قيل أنت البدر فالفضل الذي ... لك بالكمال ونقصه لم يجهل
لولا الحظوظ لكنت أنت مكانه ... ولكان دونك في الحضيض الأسفل
عيناك نازلتا القلوب فكلّها ... إما جريح أو مصاب المقتل
هزّت ظباها بعد كسر جفونها ... فأصيب قلبي في الرّعيل الأول
ما زلت أعذل في هواك ولم يزل ... سمعي عن العذّال فيك بمعزل
أصبحت في شغل بحبك شاغل ... عن أن أصيخ إلى كلام العذّل
لم أهمل الكتمان لكن أدمعي ... هملت ولو لم تعصني لم تهمل
جمع الصحيحين الوفاء مع الهوى ... قلبي وأملى الدّمع كشف المشكل
ما في الجنوب ولا الشمال جواب ما ... أهدى إليك مع الصّبا والشّمال (4)
خلسا له من طيب عرفك نفحة ... تجيء بها دماء عليلها المتعلل
إن كنت بعدي حلت عمّا لم أحل ... عنه وأهملت الذي لم أهمل
أو حالت الأحوال فاستبدلت بي ... فإنّ حبي فيك لم يستبدل
__________
(1) هو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد اللخمي، المعروف بابن الحكيم. من أهل رندة، كاتب أديب بليغ، شهير الذّكر بالأندلس. توفي بفاس سنة 721هـ.
ترجمته في أزهار الرياض (ج 2ص 340) وقصيدة ابن عرفة اللامية في أزهار الرياض (ج 2 ص 357).
(2) في الأصل: «تملّكت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من أزهار الرياض.
(3) كلمة «في» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من أزهار الرياض.
(4) هذا البيت والأبيات التي تليه لم ترد في أزهار الرياض.(1/174)
لا قيت بعدك ما لو أنّ أقلّه ... لاقى الثرى لأذاب صمّ الجندل
وحملت في حبّك ما لو حمّلت ... شمّ الجبال أخفّه لم تحمل
من حيف دهر بالحوادث مقدم ... حتى على حبس الهزبر المشبل
قد كنت منه قبل كرّ صروفه ... فوق السّنام فصرت تحت الكلكل
ونصول شيب قد ألمّ بلمّتي ... وخضاب أبي شيبة لم تنصل
ينوي الإقامة ما بقيت وأقسمت ... لا تنزل اللذات ما لم يرحل
ومسير ظعن ودان حميمه ... لاقى الحمام وإنّه لم يفعل
يطوي على جسدي الضلوع فقلبه ... بأواره يغلي كغلي المرجل
في صدره ما ليس في صدري له ... من مثله مثقال حبّة خردل
أعرضت عنه ولو أشفّ لذمّه ... شعري لجرّعه نقيع الحنظل
جلّيت في حلبات سبق لم يكن ... فيها مرتاح ولا بمؤمّل
ما ضرّه سبقيه في زمن مضى ... أنّ المجلّى فيه دون الفسكل
ساءته منّي عجرفيّة قلّب ... باق على مرّ الحوادث حوّل
متحرّق في البذل مدّة سيره ... متجلّد في عسره متجمّل
حتى يثوب له الغنى من ماجد ... بقضاء حاجات الكرام موكّل
مثل الوزير ابن الحكيم وما له ... مثل يقوم مقامه متمثّل
ساد الورى بحديثه وقديمه ... في الحال والماضي وفي المستقبل
من بيت مجد قد سمعت بقبابه ... أقيال لخم في الزمان الأوّل
سامي الدعائم طال بيت وزارة ... ومشاجع وأبي الفوارس نهشل
يلقى الوفود ببسط وجه مشرق ... تجلو طلاقته هموم المجتلي
فلآملي جدواه حول فنائه ... لقط القطا الأسراب حول المنهل
وإذا نحى بالعدل فصل قضية ... لم تحظ فصلا من إطالة مفصل
يقضي على سخب الخصوم وشغبهم ... ويقيم مغريهم مقام المؤمل
ويلقّن الحج العييّ تحرّجا ... من رامح عند اللّجاج وأعزل
فإذا قضى صور المحقّ بحقّه ... عنه وحلّق عقابه بالمبطل
عجل على من يستحقّ مثوبة ... فإذا استحقّ عقوبة لم يعجل
يا كافي الإسلام كلّ عظيمة ... ومعيده غضّا كأن لم يذبل
وقال أيضا يمدحه بقصيدة من مطوّلاته: وإنما اجتلبت من مدحه للوزير ابن الحكيم لكونه يمدح أديبا ناقدا، وبليغا بالكلام بصيرا، والإجادة تلزم فيه منظومه، إذ لا يوسع القريحة فيه عذرا، ولا يقبل من الطّمع قدرا، وهي:(1/175)
لا قيت بعدك ما لو أنّ أقلّه ... لاقى الثرى لأذاب صمّ الجندل
وحملت في حبّك ما لو حمّلت ... شمّ الجبال أخفّه لم تحمل
من حيف دهر بالحوادث مقدم ... حتى على حبس الهزبر المشبل
قد كنت منه قبل كرّ صروفه ... فوق السّنام فصرت تحت الكلكل
ونصول شيب قد ألمّ بلمّتي ... وخضاب أبي شيبة لم تنصل
ينوي الإقامة ما بقيت وأقسمت ... لا تنزل اللذات ما لم يرحل
ومسير ظعن ودان حميمه ... لاقى الحمام وإنّه لم يفعل
يطوي على جسدي الضلوع فقلبه ... بأواره يغلي كغلي المرجل
في صدره ما ليس في صدري له ... من مثله مثقال حبّة خردل
أعرضت عنه ولو أشفّ لذمّه ... شعري لجرّعه نقيع الحنظل
جلّيت في حلبات سبق لم يكن ... فيها مرتاح ولا بمؤمّل
ما ضرّه سبقيه في زمن مضى ... أنّ المجلّى فيه دون الفسكل
ساءته منّي عجرفيّة قلّب ... باق على مرّ الحوادث حوّل
متحرّق في البذل مدّة سيره ... متجلّد في عسره متجمّل
حتى يثوب له الغنى من ماجد ... بقضاء حاجات الكرام موكّل
مثل الوزير ابن الحكيم وما له ... مثل يقوم مقامه متمثّل
ساد الورى بحديثه وقديمه ... في الحال والماضي وفي المستقبل
من بيت مجد قد سمعت بقبابه ... أقيال لخم في الزمان الأوّل
سامي الدعائم طال بيت وزارة ... ومشاجع وأبي الفوارس نهشل
يلقى الوفود ببسط وجه مشرق ... تجلو طلاقته هموم المجتلي
فلآملي جدواه حول فنائه ... لقط القطا الأسراب حول المنهل
وإذا نحى بالعدل فصل قضية ... لم تحظ فصلا من إطالة مفصل
يقضي على سخب الخصوم وشغبهم ... ويقيم مغريهم مقام المؤمل
ويلقّن الحج العييّ تحرّجا ... من رامح عند اللّجاج وأعزل
فإذا قضى صور المحقّ بحقّه ... عنه وحلّق عقابه بالمبطل
عجل على من يستحقّ مثوبة ... فإذا استحقّ عقوبة لم يعجل
يا كافي الإسلام كلّ عظيمة ... ومعيده غضّا كأن لم يذبل
وقال أيضا يمدحه بقصيدة من مطوّلاته: وإنما اجتلبت من مدحه للوزير ابن الحكيم لكونه يمدح أديبا ناقدا، وبليغا بالكلام بصيرا، والإجادة تلزم فيه منظومه، إذ لا يوسع القريحة فيه عذرا، ولا يقبل من الطّمع قدرا، وهي:
[الكامل]
أما الرّسوم فلم ترقّ لما بي ... واستعجمت عن أن تردّ جوابي
واستبدلت بوحوشها من أنس ... بيض الوجوه كواعب أتراب
ولقد وقفت بها أرقرق عبرة ... حتى اشتكى طول الوقوف صحابي (1)
يبكي لطول بكاي في عرصاتها ... صحبي ورجّعت الحنين ركابي (2)
ومن شعره في المقطوعات غير المطوّلات: [مجزوء البسيط]
لم يبق ذو عين (3) لم يسبه ... وجهك من زين بلا مين
فلاح بينهما طالعا ... كأنه قمر (4) بلا مين
ومن ذلك قوله: [البسيط]
كأنما الخال مصباح بوجنته ... هبّت عواصف أنفاسي فعطف (5)
أو نقطة قطرت في الخدّ إذ رسمت ... خطّ الجمال بخطّ اللّام والألف
ومن ذلك قوله: [المنسرح]
وعدتني أن تزور يا أملي ... فلم أزل للطريق مرتقبا
حتى إذا الشمس للغروب دنت ... وصيّرت من لجينها ذهبا
آنسني البدر منك حين بدا ... لأنّه لو ظهرت لاحتجبا
ومن ذلك قوله: [الرمل]
هجركم ما لي عليه جلد ... فأعيدوا لي (6) الرضى أو فعدوا (7)
ما قسا قلبي من هجرانكم ... ولقد طال عليه الأمد
__________
(1) في الأصل: «صحاب».
(2) في الأصل: «ركاب».
(3) ذو عين: الذي عظم سواد عينه في سعة، والأنثى عيناء، والجمع عين. لسان العرب (عين).
(4) في الأصل: «القمر» وهكذا ينكسر الوزن.
(5) عجز هذا البيت منكسر الوزن، ولا يتناسق ومعنى صدر البيت.
(6) في الأصل: «إليّ» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في الأصل: «فعدّوا» بتشديد الدال، وهكذا ينكسر الوزن.(1/176)
ومن ذلك قوله: [البسيط]
أبدى عذارك عذري في الغرام به ... وزادني شغفا فيه إلى شغف
كأنّه ظنّ أنّي قد نسيت له ... عهدا فعرّض لي (1) باللام والألف
ومما هو أطول من المزدوجات قوله: [الطويل]
ويوم كساه الدّجن (2) دكن ثيابه ... وهبّ (3) نسيم الروض وهو عليل
ولاحت بأفلاك الأفق كواكب ... لها في البدور الطّالعات أفول
وجالت جياد الرّاح بالرّاح جولة ... فلم تحل إلّا والوقار قتيل
ومن ذلك: [الخفيف]
عذلوني فيمن أحبّ وقالوا ... دبّ نمل العذار في وجنتيه
وكذا النّمل كلّما حلّ شيئا ... منع النّفس أن تميل إليه
قلت قبل العذار أعذر فيه ... ثم من بعده ألام عليه
إنما دبّ نحو شهد بفيه ... فلذاك انتهى إلى شفتيه
وإحسانه كثير، ومثله لا يقنع منه بيسير.
وفاته: قال في «عائد الصلة»: «ولمّا كان من تغلّب الحال، وإدالة الدولة، وخلع الأمير، وقتل وزيره، يوم عيد الفطر من سنة سبع وسبعمائة، وانتهبت دار الوزير، ونالت الأيدي يومئذ، من شمله دهليز بابه، من أعيان الطبقات، وأولي الخطط والرّتب، ومنهم أبو العباس هذا، رحمه الله فأفلت تحت سلاح مشهور، وحيّز مرقوف، وثوب مسلوف فأصابته بسبب ذلك علّة أياما، إلى أن أودت به، فقضت عليه بغرناطة، في الثامن والعشرين لذي حجة من سنة سبع وسبعمائة (4) ودفن بمقبرة الغرباء من الرّبيط عبر الوادي تجاه قصور نجد، رحمة الله عليه».
__________
(1) كلمة «لي» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(2) في الأصل: «الدجى» وهكذا ينكسر الوزن، ولا يستقيم مع المعنى. والدّجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء. لسان العرب (دجن).
(3) في الأصل: «وهبّت».
(4) في أزهار الرياض (ج 2ص 357): توفي بغرناطة في ذي الحجة من عام ثمانية وسبعمائة.(1/177)
أحمد بن علي الملياني (1)
من أهل مرّاكش، يكنى أبا عبد الله وأبا العباس.
صاحب العلامة (2) بالمغرب، الكاتب الشهير البعيد الشأن (3) في اقتضاء التّرة (4)، المثل المضروب في العفّة (5)، وقوة الصّريمة، ونفاذ العزيمة.
حاله: كان (6) نبيه البيت، شهير الأصالة، رفيع المكانة، على سجيّة غريبة كانت (7) فيه، من الوقار والانقباض والصّمت. أخذ (8) بحظ من الطّب، حسن الخطّ، مليح الكتابة، قارضا للشعر، يذهب (9) نفسه فيه كلّ مذهب.
وصمته: فتك (10) فتكة شنيعة (11) أساءت الظنّ بحملة الأقلام على مرّ (12)
الدهر وانتقل إلى الأندلس بعد مشقّة. وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصّه (13):
«الصّارم، الفاتك، والكاتب الباتك (14)، أيّ (15) اضطراب في وقار، وتجهّم تحته أنس عقار! اتخذه صاحب (16) المغرب صاحب علامته، وتوّجه تاج كرامته وكان يطالب جملة من أشياخ مراكش بثأر عمّه، ويطوقهم دمه بزعمه، ويقصر على الاستبصار (17) منهم بنات همّه، إذ سعوا فيه حتى اعتقل، ثم جدّوا في أمره حتى قتل فترصّد كتابا إلى مراكش يتضمّن أمرا جزما، ويشلّ (18) من أمور الملك عزما،
__________
(1) ترجمة الملياني في نفح الطيب (ج 8ص 404). والملياني: نسبة إلى مليانة وهي مدينة كبيرة بالمغرب من أعمال بجاية، كثيرة الخيرات، مشهورة بالحسن وكثرة الأشجار، وتدفّق المياه.
آثار البلاد وأخبار العباد (ص 273)، والروض المعطار (ص 547)، ومعجم البلدان (ج 5ص 196).
(2) النص في نفح الطيب (ج 8ص 405). وصاحب العلّامة بالمغرب هو الذي كان يتولى التوقيع باسم السلطان على المراسيم الملكية، وكانت وظيفته من أهم الوظائف الإدارية بالمغرب.
(3) في النفح: «الشأو».
(4) في الأصل: «الثّرّة»، والتصويب من النفح. والتّرة: الذّحل (الثأر). لسان العرب (وتر).
(5) في النفح: «الهمّة».
(6) النص في نفح الطيب (ج 8ص 405).
(7) قوله: «كانت فيه» غير وارد في النفح.
(8) في النفح: «آخذا».
(9) في النفح: «تذهب».
(10) النص في نفح الطيب (ج 8ص 405).
(11) في النفح: «شهيرة».
(12) في النفح: «ممرّ».
(13) النص في نفح الطيب (ج 8ص 405404).
(14) الباتك: القاطع. محيط المحيط (بتك).
(15) في الأصل: «أبي» والتصويب من النفح.
(16) في النفح: «ملك».
(17) في النفح: «الاستنصار».
(18) في النفح: «ويشمل».(1/178)
جعل الأمر (1) فيه يضرب رقابهم، وسبي أسبابهم ولمّا أكّد على حامله في العجل، وضايقه في تقدير الأجل، تأنّى حتى علم أنه قد وصل، وأنّ غرضه قد حصل. فرّ إلى تلمسان، وهي بحال حصارها، فاتّصل بأنصارها، حالّا بين أنوفها وأبصارها وتعجّب من فراره، وسوء اغتراره، ورجحت (2) الظنون في آثاره. ثم اتّصلت (3)
الأخبار بتمام الحيلة، واستيلاء القتل على أعلام تلك القبيلة، وتركها (4) شنعة على الأيام، وعارا في الأقاليم على حملة الأقلام وأقام بتلمسان إلى أن حلّ مخنّق حصارها (5)، وأزيل هميان (6) الضيقة عن خصرها فلحق بالأندلس، فلم (7) يعدم برّا، ورعيا مستمرّا، حتى أتاه حمامه، وانصرمت أيامه».
شعره: من (8) الذي يدلّ على برّه (9)، وانفساخ (10) خطاه في النّفاسة، وبعد شأوه، قوله: [الكامل]
العزّ ما ضربت عليه قبابي ... والفضل ما اشتملت عليه ثيابي
والزّهر ما أهداه غصن براعتي ... والمسك ما أبداه نقش (11) كتابي
والمجد (12) يمنع أن يزاحم موردي ... والعزم يأبي أن يسام (13) جنابي
فإذا بلوت صنيعة جازيتها ... بجميل شكري أو جزيل ثوابي
وإذا عقدت مودّة أجريتها ... مجرى طعامي من دمي وشرابي
وإذا طلبت من الفراقد والسّهى ... ثأرا فأوشك أن أنال طلابي
وفاته: توفي رحمه الله يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة، ودفن بجبّانة باب إلبيرة، تجاوز الله تعالى (14) عنه.
أحمد بن محمد بن عيسى الأموي
يكنى أبا جعفر، ويعرف بالزّيّات.
__________
(1) في النفح: «جعل فيه الأمر».
(2) في النفح: «ورجّمت».
(3) في النفح: «وصلت».
(4) في النفح: «فتركها شنيعة على».
(5) في النفح: «حصرها».
(6) في الأصل: «اللّقيان» والتصويب من النفح. والهميان: تكّة السروال.
(7) في النفح: «ولم».
(8) النص والشعر في نفح الطيب (ج 8ص 406).
(9) في النفح: «بأوه».
(10) في النفح: «وانفساح».
(11) في النفح: «نقس».
(12) في النفح: «فالمجد».
(13) في النفح: «يضام».
(14) كلمة «تعالى» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.(1/179)
حاله: من أهل الخير والصّلاح والأتباع، مفتوح عليه في طريق الله، نيّر الباطن والظاهر، مطّرح التصنّع، مستدلّ، مجانب للدنيا وأهلها، صادق الخواطر، مرسل اللسان بذكر الله، مبذول النصيحة، مثابر على اتّباع السّنّة، عارف بطريق الصوفيّة، ثبت القدم عند زلّاتها ناطق بالحكمة على الأميّة جميل اللقاء، متوغّل في الكلف بالجهاد، مرتبط للخيل، مبادر للهيعة، حريص على الشهادة، بركة من بركات الله في الأندلس، يعزّ وجود مثله.
وفاته: توفي، رحمه الله، ببلده غرناطة، يوم الخميس الثاني والعشرين لجمادى الثانية من عام خمسة وستين وسبعمائة وشارف الاكتهال.
أحمد بن الحسن بن علي بن الزيّات الكلاعي (1)
من أهل بلّش مالقة (2)، يكنى أبا جعفر، ويعرف بالزيّات، الخطيب، المتصوّف الشهير.
حاله: من «عائد الصلة»: كان جليل القدر، كثير العبادة، عظيم الوقار، حسن الخلق، مخفوض الجناح، متألّق البشر، مبذول المؤانسة، يذكّر بالسّلف الصالح في حسن شيمته وإعراب لفظه، مزدحم المجلس، كثير الإفادة، صبورا على الغاشية، واضح البيان، فارس المنابر غير مدافع، مستحقّ التصدّر في ذلك بشروط قلّما كملت عند غيره منها حسن الصورة، وكمال الأبّهة، وجهوريّة الصوت، وطيب النّغمة، وعدم التّهيّب، والقدرة على الإنشاء، وغلبة الخشوع، إلى التفنّن في كثير من المآخذ العلمية، والرياسة في تجويد القرآن، والمشاركة في العربية، والفقه، واللغة، والأدب، والعروض، والمحاسّة (3) في الأصلين، والحفظ للتفسير.
قال لي شيخنا أبو البركات بن الحاجّ، وقد جرى ذكر الخطابة: ما رأيت في استيفائها مثله. كان يفتح مجالس تدريسه أكثر الأحيان، بخطب غريبة، يطبّق بها مفاصل الأغراض، التي يشرع في التكلّم فيها، وينظم الشعر دائما في مراجعاته ومخاطباته، وإجازاته، من غير تأنّ ولا رويّة، حتى اعتاده ملكة بطبعه واستعمل في السّفارة بين الملوك، لدحض السّخائم، وإصلاح الأمور، فكانوا يوجيون حقّه، ويلتمسون بركته، ويلتمسون دعاءه.
__________
(1) ترجمة أحمد بن الحسن الزيات الكلاعي في الكتيبة الكامنة (ص 34)، وبغية الوعاة (ص 131).
(2) بلّش مالقة: بالإسبانية، وهي مدينة تقع شرقي مالقة.
(3) من محسّ، والمقصود بها هنا الإتقان والبراعة.(1/180)
مشيخته: تحمّل العلم عن جملة منهم خاله الفقيه الحكيم أبو جعفر أحمد بن علي المذحجي من أهل الحمّة (1)، من ذوي المعرفة بالقرآن والفرائض. ومنهم القاضي أبو علي الحسين بن أبي الأحوص الفهري، أخذ عنه قراءة وإجازة. ومنهم العارف الرّباني أبو الحسن فضل بن فضيلة، أخذ عنه طريقة الصوفية وعليه سلك، وبه تأدّب، وبينهما في ذلك مخاطبات. ومنهم أبو الزهر ربيع بن محمد بن ربيع الأشعري، وأبو عبد الله محمد بن يحيى أخوه. ومنهم أبو الفضل عياض بن محمد بن عياض بن موسى، قرأ عليه ببلّش وأجاز له. ومنهم الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، والأستاذ أبو الحسن التّجلي، وأبو محمد بن سماك، وأبو جعفر بن الطّباع، وأبو جعفر بن يوسف الهاشمي الطّنجلي (2)، والأستاذ النحوي أبو الحسن بن الصّائغ، والكاتب الأديب أبو علي بن رشيق التّغلبي، والرّاوية أبو الحسن بن مستقور الطائي، والإمام أبو الحسن بن أبي الربيع، والأستاذ أبو إسحاق الغافقي الميربي، والإمام العارف أبو محمد عبد العظيم بن الشيخ البلوي، بما كان من إجازته العامّة لكل من أدرك عام أحد وأربعين وستمائة، وغير هؤلاء ممّن يشقّ إحصاؤهم.
تصانيفه: كثيرة، منها المسمّاة ب «المقام المخزون في الكلام الموزون» والقصيدة المسمّاة ب «المشرف الأصفى في المأرب الأوفى» وكلاهما ينيف على الألف بيت و «نظم السّلوك في شيم الملوك»، و «المجتنى النّضير والمقتنى الخطير»، و «العبارة الوجيزة عن الإشارة»، و «اللطائف الرّوحانية والعوارف الربّانية».
ومن تواليفه: «أسّ مبنى العلم، وأسّ معنى الحلم» في مقدمة علم الكلام، و «لذّات السمع من القراءات السّبع» نظما، و «رصف نفائس اللآلي، ووصف عرائس المعالي» في النحو، و «قاعدة البيان وضابطة اللسان» في العربية، و «لهجة اللّافظ وبهجة الحافظ»، والأرجوزة المسمّاة ب «قرّة عين السائل وبغية نفس الآمل» في اختصار السيرة النبوية، و «الوصايا النظامية في القوافي الثلاثية»، وكتاب «عدّة الداعي، وعمدة الواعي»، وكتاب «عوارف الكرم، وصلات الإحسان، فيما حواه العين من لطائف الحكم وخلق الإنسان»، وكتاب «جوامع الأشراف والعنايات، في الصّوادع والآيات»، و «النّفحة الوسيمة، والمنحة الجسمية (3)»، تشتمل على أربع قواعد اعتقاديّة
__________
(1) الحمّة أو الحامة: بالإسبانية:، وهي من مدن غرناطة، وتقع غربيّ غرناطة إلى الجنوب من مدينة لوشة، استولى عليها الإسبان سنة 887هـ، أي قبل سقوط غرناطة بعشر سنين. راجع: مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 60).
(2) الطنجلي والطنجالي والطنجي: نسبة إلى طنجة.
(3) في الأصل: «الجسمية».(1/181)
وأصوليّة وفروعيّة وتحقيقيّة، وكتاب «شروف المفارق في اختصار كتاب المشارق»، و «تلخيص الدّلالة في تخليص الرسالة»، و «شذور الذّهب في صروم الخطب»، و «فائدة الملتقط وعائدة المغتبط»، وكتاب «عدّة المحقّ وتحفة المستحقّ».
نثره: من ذلك خطبة ألغيت الألف من حروفها، على كثرة تردّدها في الكلام وتصرّفها، وهي:
«حمدت ربي جلّ من كريم محمود، وشكرته عزّ من عظيم موجود، ونزّهته عن جهل كل ملحد كفور، وقدّسته عن قول كل مفسد غرور، كبير لو تقدم، في فهم نجد، قدير لو تصوّر في رسم لحد، لو عدته فكرة التصوّر لتصوّر، ولو حدته فكرة لتعذّر، ولو فهمت له كيفية لبطل قدمه، ولو علمت له كيفية لحصل عدمه، ولو حصره طرف لقطع بتجسّمه، ولو قهره وصف لصدع بتقسّمه، ولو فرض له شبح لرهقه كيف، ولو عرض له للحق عجل وريث. عظيم من غير تركّب قطر، عليم من غير ترتّب فكر، موجود من غير شيء يمسكه، معبود من غير وهم يدركه، كريم من غير عوض يلحقه، حكيم من غير عرض يلحقه، قوي من غير سبب يجمعه، عليّ من غير سبب يرفعه، لو وجد له جنس لعورض في قيموميته، ولو ثبت له حسّ لنوزع في ديموميّته».
ومنها: «تقدّس عن لمّ فعله، وتنزّه عن سمّ فضله، وجلّ عن ثمّ قدرته، وعزّ عن عمّ عزّته، وعظمت عن من صفته، وكثرت عن كم منّته فتق ورتق، صوّر وحلق، وقطع ووصل، ونصر وخذل، حمدته حمد من عرف ربّه، ورهب ذنبه، وصفت حقيقة يقينه قلبه، وذكرت بصيرة دينه لبّه، قنهض لوعي بشروط نفضته وحدّ، وربط سلك سلوكه وشدّ، وهدم صرح عتوّه وهدّ، وحرس معقل عقله وحدّ، طرد غرور غرّته ورذله علم علم تحقيق فنحا نحوه، وتفرّد له عزّ وجلّ بثبوت ربوبيّته وقدمه، ونعتقد صدور كلّ جوهر وعرض عن جوده وكرمه، ونشهد بتبليغ محمد صلّى ربّه عليه وسلّم، رسوله وخير خلقه، ونعلن بنهوضه في تبيين فرضه، وتبليغ شرعه، ضرب قبّة شرعه، فنسخت كلّ شرع، وجدّد عزيمته فقمع عدوّه خير قمع، قوّم كل مقوّم بقويم سمته، وكريم هديه، وبيّن لقومه كيف يركنون فوره بقصده، وسديد سعيه، بشّر مطيعه، فظفر برحمته وحذّر عاصيه فشقي بنقمته.
«وبعد، فقد نصحتم لو كنتم تعقلون، وهديتم لو كنتم تعلمون، وبصّرتم لو كنتم تبصرون، وذكّرتم لو كنتم تذكرون. وظهرت لكم حقيقة نشركم وبرزت
لكم خبيئة حشركم، فلم تركضون في طلق غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مسلول، وحكم عزم غير معلول، فكيف بكم يوم يؤخذ كلّ بذنبه ويخبر بجميع كسبه ويفرّق بينه وبين صحبه، ويعدم نصرة حزبه، ويشغل بهمّه وكربه، عن صديقه وتربه، وتنشر له رقعته وتعيّن له بقعته، فربح عبد نظر وهو في مهل لنفسه، وترسّل في رضى عمله جنّة لحلول رمسه، وكسر صنم شهوته ليقرّ في بحبوحة قدسه، وحصر بنظر ينزله سرير سروره بين عقله وجسمه».(1/182)
«وبعد، فقد نصحتم لو كنتم تعقلون، وهديتم لو كنتم تعلمون، وبصّرتم لو كنتم تبصرون، وذكّرتم لو كنتم تذكرون. وظهرت لكم حقيقة نشركم وبرزت
لكم خبيئة حشركم، فلم تركضون في طلق غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مسلول، وحكم عزم غير معلول، فكيف بكم يوم يؤخذ كلّ بذنبه ويخبر بجميع كسبه ويفرّق بينه وبين صحبه، ويعدم نصرة حزبه، ويشغل بهمّه وكربه، عن صديقه وتربه، وتنشر له رقعته وتعيّن له بقعته، فربح عبد نظر وهو في مهل لنفسه، وترسّل في رضى عمله جنّة لحلول رمسه، وكسر صنم شهوته ليقرّ في بحبوحة قدسه، وحصر بنظر ينزله سرير سروره بين عقله وجسمه».
ومنها: «فتنبّه ويحك من سنتك ونومك، وتفكّر فيمن هلك من صحبك وقومك، هتف بهم من تعلم، وشبّ عليهم منه حرق مظلم، فخرّبت بصيحته ربوعهم، وتفرّقت لهو له جموعهم، وذلّ عزيزهم، وخسىء رفيعهم، وصمّ سميعهم، فخرج كلّ منهم عن قصره، ورمي غير موسّد في قبره فهم بين سعيد في روضته مقرّب، وبين شقيّ في حفرته معذّب، فنستوهب منه عزّ وجل عصمته من كل خطيئة، وخصوصيّة تقي من كل نفس جريئة».
كتب إلى شيخنا الوزير ابن ذي الوزارتين ابن الحكيم، جوابا عن مخاطبة كتبها إليه يلتمس منه وصايته ونصحه هذا الشعر: [السريع]
جلّ اسم مولانا اللّطيف الخبير ... وعزّ في سلطانه عن نظير
هو الذي أوجد ما فوقها ... وتحتها وهو العليم الخبير
ثم صلاة الله تترى على ... ياقوتة الكون البشير النذير
وصحبه الأولى نالوا مرأى ... يرجع منه الطّرف وهو الحسير
وبعد فأنفسهم جوهر ... للأرواح منه ما للأثير
فإنك استدعيت من ناصر ... نصحا طويلا وهو منه قصير
ولست أهلا أن أرى ناصحا ... لقلّة الصدق وخبث الضمير
وإنما يحسن نصح الورى ... من ليس للشّرع عليه نكير
ومستحيل أن يقود امرءا ... يد امرئ واهي المباني ضرير
وا عجبا يلتمس الخير من ... معتقل العقل مهيض كسير
لكن إذا لم يكن بدّ فعن ... جهد أوفّيك بتبر يسير
فالقنه إن كنت به قانعا ... درّا نظيما يزدري بالنثير
لازم أبا بكر على منهج ... ذاك تفز منه بخير كثير
واقنع بما يكفي ودع غيره ... فإنما الدنيا هباء نثير(1/183)
بنيّ لا تخدعنّك هذي الدّنا ... فإنها والله شيء حقير
أين المشيدات أما زلزلت؟ ... أين أخو الإيوان أين السدير؟
أين أنو شروان أضحى كأن ... لم يك أين المعتدي أزدشير
هذا مقال من وعاه اهتدى ... وحيط من كل مخوف مبير
وصّى أبو بكر به أحمدا ... وأحمد في الوقت شيخ كبير
انقرضت أيامه وانتهى ... وهنا ومن قبل أتاه النّذير
وها هو اليوم على عدّة ... مبرمه للشّرّ وما من عذير
ومن شعره في طريقه الذي كان ينتحله (1):
شهود ذاتك شيء (2) عنك محجوب ... لو كنت تدركه لم يبق مطلوب
علو وسفل ومن هذا وذاك معا ... دور على نقطة الإشراق (3) منصوب
ومنزل النّفس منه ميم مركزه (4) ... إن صحّ للغرض الظّنّي (5) مرغوب
وإن تناءت مساويها فمنزلها (6) ... أوج الكمال وتحت الروح تقليب
والروح إن لم تخنه النّفس قام له (7) ... في حضرة الملك تخصيص وتقريب
ومن شعره (8): [الكامل]
دعني على حكم الهوى أتضرّع ... فعسى يلين لنا الحبيب ويخشع
إني وجدت أخا التضرّع فايزا ... بمراده ومن الدّعا ما يسمع
أهلا (9) وما شيء بأنفع للفتى ... من أن يذلّ عسى التذلّل ينفع
وامح (10) اسم نفسك طالبا إثباته ... واقنع بتفريق لعلّك تجمع
واخضع فمن دأب (11) المحبّ خضوعه ... ولربما نال المنى من يخضع
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 35).
(2) في الكتيبة: «سرّ».
(3) في الكتيبة: «الأشراف».
(4) في الأصل: «ميم مذكرة». وهكذا ينكسر الوزن. وقد صوّبناه عن الكتيبة.
(5) في الكتيبة: «الطينيّ».
(6) في الأصل: «مساويها فحيّزها الأوج تقليب».
(7) في الأصل: «قام به في حضرة القدس».
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 36).
(9) في الكتيبة: «واها».
(10) في الكتيبة: «فامح».
(11) في الكتيبة: «أدب».(1/184)
ومن شعره (1): [الكامل]
ما لي بباب غير بابك موقف ... كلّا (2) ولا لي (3) عن فنائك مصرف
هذا مقامي ما حييت فإن أمت ... فالذلّ مأوى للضراعة (4) مألف
غرضي وأنت به عليم لمحة ... تذر (5) الشّتيت الشّمل وهو مؤلّف
وعليك ليس على سواك معوّلي ... جاروا عليّ لأجل ذا أو أنصفوا
ومن المقطوعات في التجنيس (6): [الوافر]
يقال خصال أهل العلم ألف ... ومن جمع الخصال الألف سادا
ويجمعها الصّلاح فمن تعدّى ... مذاهبه فقد جمع الفسادا
ومنه في المعنى (7): [البسيط]
إن شئت فوزا بمطلوب الكرام غدا ... فاسلك من العمل المرضيّ منهاجا
واغلب هوى النّفس لا تغررك خادعة (8) ... فكلّ شيء يحطّ القدر منها جا (9)
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مرارا عدة تشذّ عن الحصر، أوجبتها الدّواعي بطول عمره، من طلب العلم وروايته، وحاجة عامّة، واستدعاء سلطان، وقدوم من سفارة. كان الناس ينسالون عليه ويغشون منزله، فيما أدركت، كلما تبوّأ ضيافة السلطان، تبرّكا به، وأخذا عنه.
مولده: ولد ببلّش بلده في حدود تسع وأربعين وستمائة (10).
وفاته: توفي ببلّش سحر يوم الأربعاء السابع عشر من شوّال عام ثمانية وعشرين وسبعمائة. وممّن رثاه شيخنا، نسيج وحده، العالم الصالح الفاضل، أبو الحسن بن الجيّاب بقصيدة أولها: [الطويل]
على مثله خضابة الدهر فاجع ... تفيض نفوس لا تفيض المدامع
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 36).
(2) في الأصل: «لا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب عن الكتيبة الكامنة.
(3) في الكتيبة: «وما لي».
(4) في الكتيبة: «والضراعة».
(5) في الكتيبة: «تدع».
(6) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 37)، وبغية الوعاة (ص 131) دون تغيير عمّا هنا.
(7) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 37) وترتيبهما فيه عكس ما هنا.
(8) في الكتيبة: «لا يغررك عاجله».
(9) وكلمة «جا» في آخر البيت أصلها: جاء. وقد حذف الهمزة للضرورة الشعرية.
(10) في بغية الوعاة: ولد ببلش سنة خمسين وستمائة.(1/185)
ورثاه شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين (1)، رحمه الله، بقصيدة أولها:
[المتدارك]
أيساعد رائده الأمل ... أم يسمع سائله الطّلل؟
يا صاح، فديتك، ما فعل (2) ... ذا من الأحباب وما فعلوا؟
فأجاب الدمع مناديه ... أمّا الأحباب فقد رحلوا
ورثاه من هذه البلدة طائفة، منهم الشيخ الأديب أبو محمد بن المرابع الآتي اسمه في العيادة له، بحول الله، بقصيدة أولها: [الكامل]
أدعوك ذا جزع لو أنّك سامع ... ماذا أقول ودمع عيني هامع
وأنشد خامس يوم دفنه قصيدة أولها: [الخفيف]
عبرات (3) تفيض حزنا وثكلا ... وشجون تعمّ بعضا وكلّا
ليس إلّا صبابة أضرمتها ... حسرة تبعث الأسى ليس إلّا
وهي حسنة طويلة.
إبراهيم بن محمد بن مفرّج بن همشك (4)
المتأمّر، رومي (5) الأصل.
أوّليّته: مفرج أو همشك، من أجداده، نصراني، أسلم على يدي أحد ملوك بني هود بسرقسطة نزح إليهم، وكان مقطوع إحدى الأذنين، فكان النصارى إذا رأوه
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن علي بن شبرين، وترجمته في الكتيبة الكامنة (ص 166)، وتاريخ قضاة الأندلس (ص 190)، واللمحة البدرية (ص 64، 90، 98)، ونفح الطيب (ج 8ص 85).
وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثاني من الإحاطة.
(2) في الأصل: «فعلت» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في الأصل: «عبرة» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) ترجمة ابن همشك في الحلة السيراء (ج 2ص 258) وجاء فيه أنه إبراهيم بن أحمد بن همشك، وفي أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261، 263) وجاء فيه أنه إبراهيم بن أحمد بن مفرج بن همشك، وأنه يكنى أبا الحسن، وفي البيان المغرب قسم الموحدين (ص 74 وصفحات غير متفرقة)، وفي المنّ بالإمامة (ص 137، 181) وجاء فيهما أنه: إبراهيم بن همشك، والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 130، ضمن ترجمة اليعمري)، والأعلام (ج 1 ص 29).
(5) المقصود بالرومي: النصراني الإسباني.(1/186)
في القتال عرفوه، وقالوا: هامشك، معناه ترى المقطوع الأذن، إذ «ها» عندهم قريب مما هي في اللغة العربية، و «المشك» المقطوع الأذنين في لغتهم (1).
نباهته وظهوره: ولمّا خرج بنو هود عن سرقسطة، نشأ تحت خمول، إلّا أنه شهم متحرّك، خدم بعض الموحّدين في الصّيد، وتوسّل بدلالة الأرض ثم نزع إلى ملك قشتالة واستقرّ مع النصارى ثم انصرف إلى بقيّة اللّمتونيين (2) بالأندلس بعد شفاعة وإظهار توبة. ولمّا ولّي يحيى بن غانية قرطبة، ارتسم لديه برسمه. ثم كانت الفتنة عام تسعة وثلاثين وثار ابن حمدين بقرطبة، وتسمّى بأمير المؤمنين، فبعثه رسولا ثقة بكفايته ودربته وعجمة لسانه لمحاولة الصلح بينه وبين ابن حمدين، فأغنى ونبه قدره ثم غلي مرجل الفتنة وكثر الثوّار بالأندلس، فاتصل بالأمير ابن عياض بالشرق وغيره، إلى أن تمكّن له الامتزاز (3) بحصن شقوبش، ثم تغلّب على مدينة شقورة (4) وتملّكها وهي ما هي من النّعمة، فغلظ أمره، وساوى محمد بن مردنيش (5) أمير الشرق وداخله، حتى عقد معه صهرا على ابنته، فاتصلت له الرياسة والإمارة. وكان يعدّ سيفا لصهره المذكور، مسلّطا على من عصاه، فقاد الجيوش، وافتتح البلاد إلى أن فسد ما بينهما، فتفاتنا وتقاطعا، وانحاز بما لديه من البلاد والمعاقل، وعدّ من ثوّار الأندلس أولي الشوكة الحادّة، والبأس الشديد، والشّبا المرهوب. وآثاره بعد انقباض دولته تشهد بما تأثّل من ملك وسلف من الدولة والدّار الآخرة خير لمن اتّقى. قال ابن صفوان: [الخفيف]
وديار شكوى الزمان فتشك ... حدّثتنا عن عزّة ابن همشك
حاله: قال محمد بن أيوب بن غالب، المدعو بابن حمامة: أبو إسحاق الرئيس، شجاع بهمة (6) من البهم. كان رئيسا شجاعا مقداما شديد الحزم، سديد
__________
(1) المشك بلغة الإسبان:، وتعني المقطوع الرأس.
(2) اللمتونيون: هم المرابطون، وينسبون إلى قبيلة لمتونة.
(3) الامتزاز هنا بمعنى الامتناع.
(4) شقورة، بالإسبانية: مدينة من أعمال جيان بالأندلس. الروض المعطار (ص 349).
(5) هو أبو عبد الله محمد بن سعد الجذامي ابن مردنيش، أمير شرق الأندلس (مرسية وبلنسية).
توفي بمرسية سنة 567هـ. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 259)، والمن بالإمامة (ص 109، 210)، والحلّة السيراء (ج 2ص 233231).
(6) البهمة: الشجاع الذي لا يدرى من أين يأتي لشدة بأسه، أو كيف يؤتى لاستبهام حاله. محيط المحيط (بهم).(1/187)
الرأي، عارفا بتدبير الحرب، حميّ الأنف، عظيم السّطوة، مشهور الإقدام، مرتكبا للعظيمة. قال بعض من عرّف به من المؤرّخين: وهو وإن كان قائد فرسان، هو حليف فتنة وعدوان، ولم يصحب قطّ متشرّعا، ولا نشأ في أصحابه من كان متورّعا، سلّطه الله على الخلق وأملى له فأضرّ بمن جاوره من أهل البلاد، وحبّب إليه العيث في العباد.
سيرته: كان جبّارا قاسيا، فظّا غليظا، شديد النّكال، عظيم الجرأة والعبث بالخلق بلغ من عيثه فيهم إحراقهم بالنّار، وقذفهم من الشواهق والأبراج، وإخراج الأعصاب والرّباطات على ظهورهم، عن أوتار القسيّ بزعمه، وضمّ أغصان الشجر العادي بعضها إلى بعض، وربط الإنسان بينها، ثم تسريحها، حتى يذهب كل غصن بحظّه من الأعضاء ورآه بعض الصالحين في النوم بعد موته، وسأله ما فعل الله بك فأنشده: [البسيط]
من سرّه العيث في الدنيا بخلقة من ... يصوّر الخلق في الأرحام كيف يشا
فليصبر اليوم صبري تحت بطشته ... مغلّلا يمتطي جمر الغضا فرشا
شجاعته: زعموا أنه خرج من المواضع التي كانت لنصره متصيّدا، وفي صحبته محاولو اللهو وقارعو أوتار الغناء، في مائة من الفرسان، ونقاوة أصحابه فما راعهم إلّا خيل العدو هاجمة على غرّة، في مائتي فارس ضعف عددهم فقالوا: العدو في مائتي فارس، فقال: وإذا كنتم أنتم لمائة، وأنا لمائة، فنحن قدرهم فعدّ نفسه بمائة.
ثم استدعى قدحا من شرابه، وصرف وجهه إلى المغنّي وقال: أعد لي تلك الأبيات، كان يغنّيه بها فتعجبه: [الخفيف]
يتلقى النّدا بوجه حييّ ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح
فغنّاه بها، واستقبل العدوّ، وحمل عليه بنفسه وأصحابه، حملة رجل واحد، فاستولت على العدو الهزيمة، وأتى على معظمهم القتل، ورجع غانما إلى بلده.
ثم ضربت الأيام، وعاود التصيّد في موضعه ذلك، وأطلق بازه على حجلة، فأخذها، وذهب ليذكيها، فلم يحضره خنجر ذلك الغرض في الوقت، فبينما هو يلتمسه، إذ رأى نصلا من نصال المعترك من بقايا يوم الهزيمة، فأخذه من التراب، وذبح به الطائر، ونزل واستدعى الشراب وأمر المغني فغنّاه بيتي أبي الطيب (1):
__________
(1) هما مطلعا قصيدة مديح من 47بيتا، وهما في ديوان المتنبي (ص 411).(1/188)
[الطويل]
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ... بفضلات (1) ما قد كسّروا في المفارق
وقد رأيت من يروي هذه الحكاية عن أحد أمراء بني مردنيش، وعلى كل حال فهي من مستظرف الأخبار.
دخوله غرناطة: قالوا، وفي سنة ست وخمسين وخمسمائة (2)، في جمادى الأولى منها، قصد إبراهيم بن همشك بجمعه مدينة غرناطة، وداخل طائفة من ناسها، وقد تشاغل الموحّدون بما دهمهم من اختلاف الكلمة عليهم بالمغرب، وتوجّه الوالي بغرناطة السيد أبي سعيد إلى العدوة، فاقتحمها ليلا واعتصم الموحّدون بقصبتها فأجاز بهم بأنواع الحرب، ونصب عليهم المجانيق، ورمى فيها من ظفر به منهم وقتلهم بأنواع من القتل. وعندما اتصل الخبر بالسيد أبي سعيد، بادر إليها فأجاز البحر، والتفّ به السيد أبو محمد بن أبي حفص بجميع جيوش الموحّدين والأندلس ووصل الجميع إلى ظاهر غرناطة، وأصحر إليهم ابن همشك، وبرز منها، فالتقى الفريقان بمرج الرّقاد (3) من خارجها، ودارت الحرب بينهم، فانهزم جيش الموحّدين، واعترضت الفلّ تخوم الفدادين (4) وجداول المياه التي تتخلّل المرج (5)، فاستولى عليهم القتل، وقتل في الوقيعة السيد أبو محمد ولحق السيد أبو سعيد بمالقة وعاد ابن همشك إلى غرناطة فدخلها بجملة من أسرى القوم، أفحش فيهم المثلة، بمرأى من إخوانهم المحصورين واتصل الخبر بالخليفة بمراكش، وهو بمقربة سلا، قد فرغ من أمر عدوّه، فجهّز جيشا، أصحبه السيد أبا يعقوب ولده، والشيخ أبا يوسف بن سليمان زعيم وقته، وداهية زمانه فأجازوا البحر، والتقوا بالسيد أبي سعيد بمالقة،
__________
(1) في الديوان: «بفظة».
(2) في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261) تحدّث ابن الخطيب عن هذه المعركة وقال إن ابن مردنيش وجّه صهره القائد أبا الحسن ابن همشك إلى محاصرة غرناطة في جمادى الأولى من عام 557هـ.
(3) مرج الرقاد: موضع بظاهر غرناطة، على نحو أربعة أميال من غرناطة، ويقابلها بالإسبانية:
. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261)، وتاريخ المن بالإمامة (ص 187)، والحلّة السيراء (ج 2ص 258).
(4) الفدادون: الرعيان والبقّارون والفلاحون والمكثرون من الإبل، والمراد هنا: الحدائق والبقاع.
محيط المحيط (فدد).
(5) هو مرج غرناطة الشهير، وهو عبارة عن سهل أفيح وغوطة فيحاء. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 41).(1/189)
وتتابع الجمع، والتفّ بهم من أهل الجهاد من المطوعة، واتصل منهم السير إلى قرية دلر (1) من قرى غرناطة وكان من استمرار الهزيمة على ابن همشك الذي أمدّه بنفسه وجيشه، من نصارى وغيرهم، ما يأتي ذكره عند اسم ابن مردنيش في الموحدين، في حرف الميم، بحول الله تعالى.
انخلاعه للموحدين عمّا بيده وجوازه للعدوة، ووفاته بها:
قالوا (2): ولمّا فسد ما بينه وبين ابن مردنيش بسبب بنته التي كانت تحت الأمير أبي محمد بن سعد بن مردنيش إلى أن طلّقها، وانصرفت إلى أبيها، وأسلمت إليه ابنها منه، مختارة كنف أبيها إبراهيم، نازعة في انصرامه إلى عروقها فلقد حكي أنها سئلت عن ولدها، وإمكان صبرها عنه، فقالت: جرو كلب، جرو سوء، من كلب سوء، لا حاجة لي به فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا فاشتدّت بينهما الوحشة والفتنة، وعظمت المحنة، وهلك بينهما من الرعايا الممرورين، المضطّرين، بقنّينة (3) الثوّار ممّن شاء الله بهلاكه، إلى أن كان أقوى الأسباب في تدمير ملكه.
ولمّا صرف ابن سعد عزمه إلى بلاده، وتغلّب على كثير منها، خدم ابن همشك الموحّدين ولاذ بهم واستجارهم فأجاز البحر، فقدم على الخليفة عام خمسة وستين وخمسمائة، وأقرّه بمواضعه إلى أوائل عام أحد وسبعين، فطولب بالانصراف إلى العدوة بأهله وولده، وأسكن مكناسة وأقطع بها سآما (4) لها خطر، واتّصلت تحت عنايته إلى أن هلك.
وفاته: قالوا: واستمرّ مقام ابن همشك بمكناسة غير كبير، وابتلاه الله بفالج غريب الأعراض، شديد سوء المزاج، إلى أن هلك فكان يدخل الحمّام الحارّ، فيشكو حرّه بأعلى صراخه، فيخرج، فيشكو البرد كذلك، إلى أن مضى سبيله (5).
إبراهيم بن أمير المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب ابن عبد الحقّ
يكنى أبا سالم.
__________
(1) دلر: بالإسبانية وهي قرية ما تزال حتى اليوم، وتقع جنوب غرناطة، ووادي دلر قريب من قرية الهمدان. تأريخ المن بالإمامة (ص 191).
(2) قارن بتأريخ المن بالإمامة (ص 413).
(3) قنينة الثوار: حظيرتهم.
(4) السآم والسوام: الإبل الراعية.
(5) توفي ابن همشك في عام 572هـ.(1/190)
أوّليّته: الشمس تخبر عن حلي وعن حلل. فهو البيت الشهير، والجلال الخطير، والملك الكبير، والفلك الأثير، ملاك المسلمين، وحماة الدين، وأمراء المغرب الأقصى من بني مرين، غيوث المواهب وليوث العرين، ومعتمد الصّريخ، وسهام الكافرين. أبوه السلطان أبو الحسن، الملك الكبير، البعيد شأو الصّيت والهمّة والعزيمة، والتحلّي بحليّ السّنّة، والإقامة لرسوم الملك، والاضطلاع بالهمّة، والصبر عند الشدّة. وأخوه أمير المسلمين فذلكة الحسب، وثير النّصبة، وبدرة المعدن، وبيت القصيد، أبو عنان، فارس، الملك الكبير، العالم المتبحّر، العامل النظّار، الجواد، الشجاع، القسور، الفصيح، مدد السعادة، الذي خرق الله به سياج العادة، فما عسى أن يطلب اللسان، وأين تقع العبارة، وماذا يحصر الوصف. عين هذا المجد فوّاره، وحسب هذا الحسب اشتهاره، قولا بالحق، وبعدا عن الإطراء، ونشرا للواء النّصفة، حفظ الله على الإسلام ظلّهم، وزيّن ببدور الدين والدنيا هالتهم، وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم.
حاله: كان شابّا كما تطلّع وجهه، حسن الهيئة، ظاهر الحياء والوقار، قليل الكلام، صليفة عن اللفظ، آدم اللون (1)، ظاهر السكون والحيريّة والحشمة، فاضلا متخلّقا. قدّمه أبوه، أمير الرتبة، موفّي الألقاب، بوطن سجلماسة، وهي عمالة ملكهم، فاستحقّ الرتبة في هذا الباب بمزيد هذه الرتبة المشترط لأول تأليفه. ولمّا قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، أحوج ما كانت الحال إلى من ينظم الشّت، ويجمع الكلمة، ويصون الدّما سبحانه أحوج ما كانت الدنيا إليه، وصيّر إلى وارثه طواعية وقسرا ومستحقّا وغلابا، وسلما، وذاتا وكسبا، السلطان أخيه، تحصل هو وأخ له اسمه محمد، وكنيته أبو الفضل، يأتي التعريف بحاله في مكانه إن شاء الله، فأبقى، وأغضى، واجتنب الهوى، وأجاب داعي البرّ والشفقة والتقوى، فصرفهما إلى الأندلس باشرت إركابها البحر بمدينة سلا ثاني اليوم الذي انصرفت من بابه، وصدرت عن بحر جوده، وأفضت بإمامة عنايته، مصحبا بما يعرض لسان الثّناء من صنوف كرامته، في غرض السّفارة عن السلطان بالأندلس، تغمّده الله برحمته، ونزل مربلّة من بلاد الأندلس المصروفة إلى نظره، واصلا السير إلى غرناطة.
دخوله غرناطة: قدم هو وأخوه عليها، يوم عشرين من جمادى الأولى، من عام اثنين وخمسين وسبعمائة. وبرز السلطان إلى لقائهما، إبلاغا في التّجلّة،
__________
(1) آدم اللون: أسمر. لسان العرب (أدم).(1/191)
وانحطاطا في ذمّة التّخلّق، فسعيا إليه مرتجلين، وفاوضهما، حتى قضيت الحقوق، واستفرجت تفقّده وجرايته، وحلّا بأحظى الأمكنة، واحتفيا في سرير مجلسه مقسوم بينهما الحظّ، من هشّته ولحظته. فأما محمد، فسوّلت له نفسه الأطماع، واستفزّته الأهواء، أمرا كان قاطع أجله، وسعد أخيه، اختاره الله من دونه. وأمّا إبراهيم المترجم به، فجنح إلى أهل العافية، بعد أن ناله اعتقال، بسبب إرضاء أخيه أمير المسلمين فارس، في الأخريات لشهر ذي حجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة، وتقديم ولده الصبيّ، المكنى بأبي بكر، المسمّى بسعيد لنظر وزيره في الحزم والكفاية، حرّكه الاستدعاء، وأقلقته الأطماع وهبّ به السائل، وعرّض بغرضه إلى صاحب الأمر بالأندلس، ورفق عن صبوحه، فشكا إلى غير مصمت، فخرج من الحضرة ليلا من بعض مجاري المياه، راكبا للخطر، في أخريات جمادى الأولى من العام بالحضرة المكتبة الجوار، من ثغور العدو، ولحق بملك قشتالة، وهو يومئذ بإشبيلية، قد شرع في تجرية إلى عدوّه من برجلونة، فطرح عليه نفسه، وعرض عليه مخاطبات استدعائه، ودسّ له المطامع المرتبطة بحصول غايته، فقبل سعايته، وجهّز له جفنا من أساطيله، أركب فيه، في طائفة تحريكه، وطعن بحر المغرب إلى ساحل أزمور (1)، وأقام به منتظرا إلى إنجاز المواعد، ممّن بمرّاكش، فألفى الناس قد حطبوا في حبل منصور بن سليمان، وبايعوه بجملتهم، فأخفق مسعاه، وأخلف ظنّه، وقد أخذ منصور بمخنّق البلد الجديد دار ملك فاس، واستوثق له الأمر، فانصرف الجفن أدراجه. ولمّا حاذى لبلاد غمارة من أحواز أصيلا (2). تنادى (3) به قوم منهم، وانحدروا إليه، ووعدوه الوفاء له، فنزل إليهم، واحتملوه فوق أكتادهم، وأحدقوا به في سفح جبلهم، وتنافسوا في الذّبّ عنه، ثم كبسوا أصيلا فملكوها، وضيّق بطنجة، فدخلت في أمره، واقتدت بها سبتة وجبل الفتح، واتصل به بعض الخاصّة، وخاطبه الوزير المحصور، وتخاذل أشياع منصور، فخذلوه، وفرّوا عنه جهارا بغير علّة، وانصرفت الوجوه إلى السلطان أبي سالم، فأخذ بيعاتهم عفوا، ودخل البلد المحصور، وقد تردّد بينه وبين الوزير المحصور مخاطبات في ردّ الدعوة إليه، فدخل البلد يوم الخميس خامس عشر (4) شعبان من عام التاريخ، واستقرّ وجدّد الله عليه أمره، وأعاد ملكه، وصرف عليه حقّه وبلي هذا الأمير من سير الناس إلى تجديد
__________
(1) أزمور أو أزمورة: بلد بالمغرب في جبال البربر. معجم البلدان (ج 1ص 169).
(2) أصيلا أو أصيلة: مدينة كبيرة بقرب طنجة، كثيرة الخير والخصب، كان لها مرسى مقصود.
الروض المعطار (ص 42).
(3) في الأصل: «تنادوا».
(4) في الأصل: «عشرة».(1/192)
عهد أبيه، وطاعتهم إلى أمره، وجنوحهم إلى طاعته، وتمنّي مدّته، حال غريبة صارت عن كثب إلى أضدادها، فصرف ولده إلى اجتثاث شجرة أبيه، فالتقط من الصّبية بين مراهق ومحتلم ومستجمع، طائفة تناهز العشرين، غلمانا ردنة، قتلوا إغراقا من غير شفعة توجب إباحة قطرة من دمائهم، ورأى أن قد خلا له الجوّ، فتواكل، وآثر الحجبة، وأشرك الأيدي في ملكه، فاستبيحت أموال الرعايا، وضاقت الجبايات، وكثرت الظلامات، وأخذ الناس حرمان العطاء، وانفتحت أبواب الإرجاف، وحدّت أبواب القواطع، إلى أن كان من أمره ما هو معروف.
وفي أول من شهر رجب عام واحد وستين وسبعمائة، تحرّك الحركة العظمى إلى تلمسان، وقد استدعى الجهات، وبعض البلاد، ونهد في جيوش تجرّ الشوك والحجر، ففرّ سلطانها أمام عزمه، وطار الذّعر بين يدي الضّلالة، وكنّا قد استغثنا القرار في إيالته، وانتهى بنا الإزعاج إلى ساحل سلا من ساحل مملكته فخاطبته وأنا يومئذ مقيم بتربة أبيه، متذمّم بها، في سبيل استخلاص أملاكي بالأندلس، في غرض التهنئة والتوسّل:
«مولاي، فتّاح الأقطار والأمصار، فائدة الزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار».
وفاته: وفي ليلة العشرين من شهر ذي قعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة، ثار عليه بدار الملك، وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد، من مدينة فاس، الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد الله بن علي، نسمة السوء، وجملة الشؤم، المثل البعيد في الجرأة على قدر، اهتبل (1) غرّة انتقاله إلى القصر السلطاني بالبلد القديم، محتولا إليه، حذرا من قاطع فلكيّ الجدر منه استعجله ضعف نفسه، وأعانه على فرض صحته به، وسدّ الباب في وجهه، ودعا الناس إلى بيعة أخيه المعتوه، وأصبح حائرا بنفسه، يروم استرجاع أمر ذهب من يده، ويطوف بالبلد، يلتمس وجها إلى نجاح حيلته، فأعياه ذلك، ورشقت من معه السهام، وفرّت عنه الأجناد والوجوه، وأسلمه الدهر، وتبرّأ منه الجدّ. وعندما جنّ عليه الليل، فرّ على وجهه، وقد التفت عليه الوزراء، وقد سفّهت أحلامهم، وفالت آراؤهم، ولو قصدوا به بعض الجبال المنيعة، لولّوا وجوههم شطر مظنّة الخلاص، واتّصفوا بعذار الإقلاع، لكنهم نكلوا عنه، ورجعوا أدراجهم، وتسلّلوا راجعين إلى برّ غادر الجملة، وقد سلبهم الله لباس الحياء والرّجلة، وتأذّن الله لهم بسوء العاقبة، وقصد بعض بيوت البادية، وقد فضحه نهار
__________
(1) اهتبل: احتال. لسان العرب (هبل).(1/193)
الغداة، واقتفى البعث أثره، حتى وقعوا عليه، وسيق إلى مصرعه، وقتل بظاهر البلد، ثاني اليوم الذي كان غدر فيه، جعلها الله له شهادة ونفعه بها، فلقد كان بقيّة البيت، وآخر القوم، دماثة وحياء، وبعدا عن الشرّ، وركونا للعافية.
وأنشدت على قبره الذي ووريت به جثّته بالقلعة من ظاهر المدينة، قصيدة أدّيت فيها بعض حقّه: [الوافر]
بني الدنيا، بني لمع السّراب، ... لدوا للموت وابنوا للخراب
إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر ابن يحيى الهنتاني، أبو إسحاق
أمير المؤمنين بتونس، وبلاد إفريقية، ابن الأمير أبي زكريا، أمير إفريقية، وأصل الملوك المتأثّلين العزّ بها، والفرع الذي دوّح بها، من فروع الموحّدين بالمغرب، واستجلابه بها أبا محمد عبد المؤمن بن علي، أبا الملوك من قومه، وتغلّب ذريته على المغرب وإفريقية والأندلس معروف كله، يفتقر بسطه إلى إطالة كثيرة، تخرج عن الغرض.
وكان جدّ هؤلاء الملوك من أصحاب المهدي، في العشرة الذين هبّوا لبيعته، وصحبوه في غربته، أبو حفص، عمر بن يحيى، ولم يزل هو وولده من بعده، مرفوع القدر، معروف الحق.
ولمّا صار الأمر للناصر (1) أبي عبد الله بن المنصور أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي، صرف وجهه إلى إفريقية، ونزل بالمهديّة، وتلوّك إليه ابن غانية (2) فيمن لفّه من العرب والأوباش، في جيش يسوق الشجر والمدر، فجهّز إلى لقائه عسكرا لنظر الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص (3)، جدّهم الأقرب،
__________
(1) الناصر أبو عبد الله هو محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، حكم الأندلس والمغرب من سنة 595هـ إلى سنة 610هـ. وترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 236).
(2) هو أبو زكريا يحيى بن إسحاق المسوفي، المعروف بابن غانية، أمير مرسية وبلنسية وقرطبة وغرب الأندلس من قبل علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي. قاوم الموحدين في أول استيلائهم على الأندلس فقتلوه سنة 543هـ.
(3) هو عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاني الحفصي، مؤسّس دولة الحفصيين بإفريقية. كان أبوه من موطّدي دعائم الحكم لعبد المؤمن الموحدي. استوزره الناصر الموحدي ثم ولّاه تونس سنة 603هـ. وتوفي بها سنة 618هـ، وليس سنة 629هـ كما سيأتي بعد(1/194)
فخرج من ظاهر المهدية في أهبة ضخمة، وتعبئة محكمة، والتقى الجمعان، فكانت على ابن غانية، الدائرة، ونصر الشيخ محمد نصرا لا كفاء له، وفي ذلك يقول أحمد بن خالد من شعر عندهم: [الطويل]
فتوح بها شدّت عرى الملك والدّين ... تراقب منّا منكم غير ممنون
وفتحت المهدية على هيئة ذلك الفتح، وانصرف الناصر إلى تونس، ثم تفقّد البلاد، وأحكم ثقافها (1)، وشرع في الإياب إلى المغرب، وترجّح عنده تقديم أبي محمد بن أبي حفص المصنوع له بإفريقية، على ملكها، مستظهرا منه بمضاء وسابقة وحزم بسط يده في الأموال، وجعل إليه النظر في جميع الأمور، سنة ثلاث وستمائة. ثم كان اللقاء بينه وبين ابن غانية في سنة ست بعدها فهزم ابن غانية، واستولى على محلّته فاتصل سعده، وتوالى ظهره، إلى أن هلك مشايعا لقومه من بني عبد المؤمن، مظاهرا بدعوتهم عام تسعة وعشرين وستمائة (2).
وولي أمره بعده، كبير ولده، عبدالله، على عهد المستنصر بالله بن الناصر من ملوكهم وقد كان الشيخ أبو محمد زوحم، عند اختلال الدولة، بالسيد أبي العلاء الكبير، عمّ أبي المستنصر على أن يكون له اسم الإمارة بقصبة تونس، والشيخ أبو محمد على ما لسائر نظره فبقي ولده عبد الله على ذلك بعد، إلى أن كان ما هو أيضا معروف من تصيّر الأمر إلى المأمون أبي العلاء إدريس، ووقعه السيف في وجوه الدولة بمراكش، وأخذه بثرّة (3) أخيه وعمّه منهم. وثار أهل الأندلس على السيد أبي الربيع بعده بإشبيلية وجعجعوا بهم، وأخذوا في التشريد بهم، وتبديد دعوتهم واضطربت الأمور، وكثر الخلاف، ولحق الأمير أبو زكريا بأخيه بإفريقية، وعرض عليه الاستبداد، فأنف من ذلك، وأنكره عليه إنكارا شديدا، خاف منه على نفسه فلحق بقابس فارّا، واستجمع بها مع شيخها مكّي، وسلف شيوخها اليوم من بني مكي فمهّد له، وتلقّاه بالرحب، وخاطب له الموحدين سرّا، فوعدوه بذلك، عند خروج عبد الله من تونس إلى الحركة، من جهة القيروان. فلمّا تحرّك نحوا عليه، وطلبوا منه المال، وتلكّأ، فاستدعوا أخاه الأمير أبا زكريا، فلم يرعه وهو قاعد في خبائه آمن في سربه، إلّا ثورة الجند به، والقبض عليه، ثم طردوه إلى مرّاكش وقعد
__________
قليل. انظر الأعلام للزركلي (ج 4ص 176) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(1) أحكم ثقافها: أحكم تحصينها من قوله: ثقفه بالرمح: أي طعنه. لسان العرب (ثقف).
(2) تقدّم في الصفحة السابقة أن وفاة عبد الواحد بن أبي حفص كانت سنة 618هـ.
(3) الثّرّة: الطعنة الكثيرة الدم، والمراد أنه أخذ بالثأر.(1/195)
أخوه الأمير أبو زكريا مقعده، وأخذ بيعة الجند والخاصّة لنفسه، مستبدّا بأمره، ورحل إلى تونس، فأخذ بيعة العامّة، وقتل السّيد الذي كان بقصبتها وقبض أهل بجاية حين بلغهم الخبر على واليها السّيد أبي عمران، فقتلوه تغريقا وانتظمت الدولة، وتأثّل الأمر. وكان حازما داهية مشاركا في الطّلب، أديبا راجح العقل، أصيل الرأي، حسن السياسة، مصنوعا له، موفقا في تدبيره جبى الأموال، واقتنى العدد، واصطنع الرجال، واستكثر من الجيش، وهزم العرب، وافتتح البلاد، وعظمت الأمنة بينه وبين الخليفة بمراكش الملقّب بالسّعيد. وعزم كلّ منهما على ملاقاة صاحبه، فأبى القدر ذلك فكان من مهلك السعيد بظاهر تلمسان ما هو معروف. واتصل بأبي زكريا هلك ولده وليّ العهد أبي يحيى ببجاية، فعظم عليه حزنه وأفرط جزعه، واشتهر من رثائه فيه قوله: [الطويل]
ألا جازع يبكي لفقد حبيبه ... فإني لعمري قد أضرّ بي الثّكل
لقد كان لي مال وأهل فقدتهم ... فهأنا لا مال لديّ (1) ولا أهل
سأبكي وأرثي حسرة لفراقهم ... بكاء قريح لا يملّ ولا يسلو (2)
فلهفي ليوم فرّق الدهر بيننا ... ألا فرج يرجى فينتظم الشّمل؟
وإني لأرضى بالقضاء وحكمه ... وأعلم ربّي أنه حاكم عدل
نسبه ابن عذاري المراكشي في البيان المغرب (3). واعتلّ بطريقه فمات ببلد العنّاب لانقضاء أربعة من مهلك السعيد وكان موت السعيد يوم الثلاثاء، منسلخ صفر سنة ست وأربعين وستمائة. وبويع ولده الأمير أبو عبد الله بتونس وسنّه إحدى وعشرين سنة، فوجد ملكا مؤسّسا، وجندا مجنّدا، وسلطانا قاهرا ومالا وافرا فبلغ الغاية في الجبروت والتّيه والنّخوة والصّلف، وتسمّى بأمير المؤمنين، وتلقّب بالمستنصر بالله ونقم عليه أرباب دولته أمورا أوجبت مداخلة عمّه أبي عبد الله بن عبد الواحد، المعروف باللّحياني. ومبايعته سرّا بداره، وانتهى الخبر للمستنصر، فعاجل الأمر قبل انتشاره برأي الحزمة من خاصّته، كابن أبي الحسين، وأبي جميل بن أبي الحملات بن مردنيش، وظافر الكبير، وقصدوا دار عمّه فكبسوها، فقتلوا من كان بها، وعدّتهم تناهز خمسين، منهم عمّه، فسكن الإرجاف، وسلم المنازع، وأعطت
__________
(1) في الأصل: «لديّ أهل ولا أهل». وهكذا لا يستقيم الوزن والمعنى.
(2) في الأصل: «ولا يسل».
(3) نسب أبي عبد الله الناصر لدين الله محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 236).(1/196)
مقادها، واستمرّت أيّامه. وأخباره في الجود والجرأة والتّعاظم على ملوك زمانه، مشهورة. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين وستمائة وولي أمره بعده ابنه الملقّب بالواثق بالله، وكان مضعوفا، ولم تطل مدته.
عاد الحديث، وكان عمّه المترجم، لمّا اتصل به مهلك أخيه المستنصر، قد أجاز البحر من الأندلس، ولحق بتلمسان، وداخل كثيرا من الموحّدين بها، كأبي هلال، فهيّأ له أبو هلال تملّك بجاية، ثم تحرّك إلى تونس، فتغلّب عليها، فقتل الواثق وطائفة من إخوته وبنيه، منهم صبيّ يسمّى الفضل، وكان أنهضهم، واستبدّ بالأمر، وتمّت بيعته بإفريقية، وكان من الأمر ما يذكر.
حاله: كان أيّدا (1)، جميلا وسيما، ربعة بادنا، آدم اللون، شجاعا بهمة، عجلا غير مراخ، ولا حازم، منحطّا في هوى نفسه، منقادا للذّته، بريئا من التشمّت في جميع أمره. وولي الخلافة في حال كبره، ووخطه الشيب، وآثر اللهو، حتى زعموا أنه فقد فوجد في مزرعة باقلا مزهرة ألفي فيها بعد جهد، نائما بينها، نشوان يتناثر عليه سقطها واحتجب عن مباشرة سلطانه فزعموا أن خالصته (2) أبا الحسن بن سهل، داخل الناس بولده أبي فارس في خلعه، والقيام مكانه، وبلغه ذلك، فاستعدّ وتأهّب، واستركب الجند، ودعا ولده، فأحضره ينتظر الموت من يمينه وشماله، وأمر للحين فقتل وطرح بأزقّة المدينة، وعجّل بإزعاج ولده إلى بجاية، وعاد إلى حاله.
دخوله غرناطة: قالوا: ولمّا أوقع الأمير المستنصر بعمّه أبي عبد الله، كان أخوه أبو إسحاق، ممّن فرّ بنفسه إلى الأندلس ولجأ إلى أميرها أبي عبد الله بن الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر، ثاني ملوكهم (3) فنوّه به، وأكرم نزله، وبوّأه بحال عنايته، وجعل دار ضيافته لأول نزوله القصر المنسوب إلى السّيد (4) خارج حضرته،
__________
(1) الأيّد: القوي. لسان العرب. (أيد).
(2) الخالصة هنا: الصفيّ وموضع الثقة. لسان العرب (خلص).
(3) هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 50) وسترد له ترجمة إضافية في هذا الجزء من الإحاطة.
(4) هو أبو إسحاق بن يوسف الموحدي، ولّي غرناطة سنة 615هـ، وبنى قصرا خارج مدينة غرناطة عرف باسمه. وفي عصر بني نصر استعمل هذا القصر للضيافة. وما يزال حتى يومنا هذا بعض منه وقد زرته غير مرة، وهو عبارة عن بهو مربع ذي قبة عالية على جوانبها شعار بني نصر: «لا غالب إلّا الله».(1/197)
وهو آثر قصوره لديه، وحضر غزوات أغزاها ببلاد الروم، فظهر منه في نكاية العدو وصدامه سهولة وغناء.
ولمّا اتصل به موت أخيه تعجّل الانصراف، ولحق بتلمسان، وداخل منها كبيرا من الموحّدين، يعرف بأبي هلال بباجة كما تقدم، فملّكه أبو هلال منها بجاية، ثم صعد تونس فملكها، فاستولى على ملك ابن أخيه وما ثمّ من ذمّه، وارتكب الوزر الأعظم فيمن قتل معه، وكان من أمره ما يأتي ذكره إن شاء الله.
إدبار أمره بهلاكه على يد الدّعيّ الذي قيّضه الله لهلاك حينه:
قالوا: واتّهم بعد استيلائه على الأمر فتى من أخصّاء فتيان المستنصر اسمه نصير، بمال وذخيرة وتوجّه إليه طلبه، ونال منه. وانتهز الفتى فرصة لحق فيها بالمغرب واستقرّ بحلال المراعمة من عرب دبّاب، وشارع الفساد عليه، بجملة جهده، حريصا على إفساد أمره، وعثر لقضاء الله وقدره بدعيّ من أهل بجاية يعرف بابن أبي عمارة.
حدّثني الشيخ المسنّ الحاج أبو عثمان اللّواتي من عدول المياسين، متأخر الحياة إلى هذا العهد قال: خضت مع ابن أبي عمارة ببعض الدكاكين بتونس، وهو يتكهّن لنفسه ما آل إليه أمره، ويعدّ بعض ما جرى به القدر. وكان أشبه الخلق بأحد الصبية الذين ماتوا ذبحا، بالأمير أبي إسحاق، وهو الفضل، فلاحت لنصير وجه حيلته، فبكى حين رآه، وأخبره بشبهه بمولاه، ووعده الخلافة فحرّك نفسا مهيّأة في عالم الغيب المحجوب إلى ما أبرزته المقادر، فوجده منقادا لهواه، فأخذ في تلقينه ألقاب الملك، وأسماء رجاله، وعوائده، وصفة قصوره، وأطلعه على إمارات جرت من المستنصر لأمراء العرب سرّا كان يعالجها نصير، وعرضه على العرب، بعد أن أظهر العويل، ولبس الحداد، وأركبه، وسار بين يديه حافيا، حزنا لما ألفاه عليه من المضيعة، وأسفا لما جرى عليه، فبايعته العرب النافرة، وأشادوا بذكره، وتقوّوا بما قرّره من إمارته فعظم أمره، واتصل بأبي إسحاق نبأه فبرز إليه، بعد استدعاء ولده من بجاية، فالتقى الفريقان، وتمّت على الأمير أبي إسحاق الهزيمة، واستلحم الكثير ممّن كان معه وهلك ولده، ولجأ أخوه الأمير أبو حفص لقلعة سنان، وفرّ هو لوجهه حتى لحق ببجاية وعاجله ابن أبي عمارة فبعث جريدة من الجند لنظر أشياخ من الموحّدين، أغرت إليهم الإيقاع، فوصلت إلى بجاية، فظن من رآه من الفلّ المنهزم، فلم يعترضه معترض عن القصبة. وقبض على الأمير أبي إسحاق، فطوّقه الحمام، واحتزّ رأسه، وبعث إلى ابن أبي عمارة به، وقد دخل تونس، واستولى على ملكها،
وأقام سنين ثلاثة، أو نحوها في نعماء لا كفاء له، واضطلع بالأمر، وعاث في بيوت أمواله، وأجرى العظائم على نسائه ورجاله إلى أن فشا أمره، واستقال الوطن من تمرّته فيه وراجع أرباب الدولة بصائرهم في شأنه، ونهد إليه الأمير أبو حفص طالبا بثأر أخيه، فاستولى، ودحض عاره، واستأصل شأفته، ومثل به والملك لله الذي لا تزن الدنيا جناح بعوضة عنده.(1/198)
حدّثني الشيخ المسنّ الحاج أبو عثمان اللّواتي من عدول المياسين، متأخر الحياة إلى هذا العهد قال: خضت مع ابن أبي عمارة ببعض الدكاكين بتونس، وهو يتكهّن لنفسه ما آل إليه أمره، ويعدّ بعض ما جرى به القدر. وكان أشبه الخلق بأحد الصبية الذين ماتوا ذبحا، بالأمير أبي إسحاق، وهو الفضل، فلاحت لنصير وجه حيلته، فبكى حين رآه، وأخبره بشبهه بمولاه، ووعده الخلافة فحرّك نفسا مهيّأة في عالم الغيب المحجوب إلى ما أبرزته المقادر، فوجده منقادا لهواه، فأخذ في تلقينه ألقاب الملك، وأسماء رجاله، وعوائده، وصفة قصوره، وأطلعه على إمارات جرت من المستنصر لأمراء العرب سرّا كان يعالجها نصير، وعرضه على العرب، بعد أن أظهر العويل، ولبس الحداد، وأركبه، وسار بين يديه حافيا، حزنا لما ألفاه عليه من المضيعة، وأسفا لما جرى عليه، فبايعته العرب النافرة، وأشادوا بذكره، وتقوّوا بما قرّره من إمارته فعظم أمره، واتصل بأبي إسحاق نبأه فبرز إليه، بعد استدعاء ولده من بجاية، فالتقى الفريقان، وتمّت على الأمير أبي إسحاق الهزيمة، واستلحم الكثير ممّن كان معه وهلك ولده، ولجأ أخوه الأمير أبو حفص لقلعة سنان، وفرّ هو لوجهه حتى لحق ببجاية وعاجله ابن أبي عمارة فبعث جريدة من الجند لنظر أشياخ من الموحّدين، أغرت إليهم الإيقاع، فوصلت إلى بجاية، فظن من رآه من الفلّ المنهزم، فلم يعترضه معترض عن القصبة. وقبض على الأمير أبي إسحاق، فطوّقه الحمام، واحتزّ رأسه، وبعث إلى ابن أبي عمارة به، وقد دخل تونس، واستولى على ملكها،
وأقام سنين ثلاثة، أو نحوها في نعماء لا كفاء له، واضطلع بالأمر، وعاث في بيوت أمواله، وأجرى العظائم على نسائه ورجاله إلى أن فشا أمره، واستقال الوطن من تمرّته فيه وراجع أرباب الدولة بصائرهم في شأنه، ونهد إليه الأمير أبو حفص طالبا بثأر أخيه، فاستولى، ودحض عاره، واستأصل شأفته، ومثل به والملك لله الذي لا تزن الدنيا جناح بعوضة عنده.
وفي هذا قلت عند ذكر أبي حفص في الرجز المسمّى ب «نظم (1) الملوك»، المشتمل على دول الإسلام أجمع، على اختلافها إلى عهدنا، فمنه في ذكر بني حفص: [الرجز]
أوّلهم يحيى بن عبد الواحد ... وفضلهم ليس له من جاحد
وهو الذي استبدّ بالأمور ... وحازها ببيعة الجمهور
وعظمت في صقعه آثاره ... ونال ملكا عاليا مقداره
ثم تولّى ابنه المستنصر ... وهو الذي علياه لا تنحصر
أصاب ملكا رئيسا أوطانه ... وافق عزّا ساميا سلطانه
ودولة أموالها مجموعه ... وطاعة أقوالها مسموعه
فلم تخف من عقدها انتكاثا ... وعاث في أموالها عياثا
هبّت بنصر عزّه الرياح ... وسقيت بسعده الرّماح
حتى إذا أدركه شرك الرّدى ... وانتحب النّادي عليه والنّدى
قام ابنه الواثق بالتّدبير ... ثم مضى في زمن يسير
سطا عليه العمّ إبراهيم ... والملك في أربابه عقيم
وعن قريب سلب الإماره ... عنه الدعيّ ابن أبي عماره
عجيبة من لعب الليالي ... ما خطرت لعاقل ببال
واخترم السيف أبا إسحاقا ... أبا هلال لقي المحاقا
واضطربت على الدّعي الأحوال ... والحق لا يغلبه المحال
ثم أبو حفص سما عن قرب ... وصيّر الدّعي رهين التّرب
ورجع الحق إلى أهليه ... وبعده محمد يليه
__________
(1) المراد كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» وهو لابن الخطيب، وقد تقدم ذكره في غير مكان.(1/199)
وهذه الأمور تستدعي الإطالة، مخلّة بالغرض، ومقصدي أن أستوفي ما أمكن من التواريخ التي لم يتضمنها ديوان، وأختصر ما ليس بقريب، والله وليّ الإعانة بمنّه.
إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد ابن سهل بن مالك بن أحمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي
يكنى أبا إسحاق.
أوّليّته: منزل جدّهم الداخل إلى الأندلس قرية شون (1) من عمل، أو قيل من إقليم إلبيرة. قال ابن البستي: بيتهم في الأزد، ومجدهم ما مثله مجد، حازوا الكمال، وانفردوا بالأصالة والجلال، مع عفّة وصيانة ووقار، وصلاح وديانة، نشأ على ذلك سلفهم، وتبعهم الآن خلفهم. وذكرهم مطرّف بن عيسى في تاريخه (2)، في رجال الأندلس. وقال ابن مسعدة (3): وقفت على عقد قديم لسلفي، فيه ذكر محمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي، وقد حلّي فيه بالوزير الفقيه أبي أحمد بن الوزير الفقيه أبي عمرو إبراهيم. وتاريخ العقد سنة ثلاث وأربعمائة، فناهيك من رجال تحلّوا بالجلالة والطهارة منذ أزيد من أربعمائة سنة، ويوصفون في عقودهم بالفقه والوزارة منذ ثلاثمائة سنة، في وقت كان فيه هذا المنصب في تحلية الناس، ووصفهم، في نهاية من الضّبط والحرز، بحيث لا يتّهم فيه بالتّجاوز لأحد، لا سيما في العقود، فكانوا لا يصفون فيه الشخص إلّا بما هو الحقّ فيه والصدق، وما كان قصدي في هذا إلّا أن شرفهم غير واقف عليه، أو مستند في الظهور إليه، بل ذكرهم على قديم الزمان شهير وقدرهم خطير.
قلت: ولمّا عقد لولدي عبد الله أسعده الله، على بنت الوزير أبي الحسن بن الوزير أبي الحسن القاسم بن الوزير أبي عبد الله بن الفقيه العالم الوزير، حزم فخارهم، ومجدّد آثارهم، أبي الحسن سهل بن مالك، خاطبت شيخنا أبا البركات بن
__________
(1) شون: بالإسبانية، وتقع شمال غرناطة.
(2) هو أبو القاسم مطرف بن عيسى بن لبيب بن محمد بن مطرف الغساني الإلبيري الغرناطي، من قضاة الأندلس وأدبائها ومؤرّخيها. توفي سنة 356هـ وقيل: 357هـ. من مؤلفاته «فقهاء إلبيرة» و «شعراء إلبيرة» و «أنساب العرب النازلين في إلبيرة وأخبارهم». تاريخ علماء الأندلس (ص 837)، وبغية الوعاة (ص 392)، والأعلام (ج 7ص 250).
(3) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن مسعدة العامري، وقد سبق وترجم له ابن الخطيب في هذا الجزء.(1/200)
الحاجّ، أعرض ذلك عليه، فكان من نصّ مراجعته: فسبحان الذي أرشدك لبيت السّتر والعافية والأصالة، وشحوب الأبرار، قاتلك الله ما أجلّ اختيارك. وخلف هذا البيت الآن على سنن سلفهم من التحلّي بالوزارة، والاقتياد من العظمة الزاكية، والاستناد القديم الكريم، واغتنام العمر بالنّسك، عناية من الله، اطّرد لهم قانونها، واتصلت عادتها، والله ذو الفضل العظيم.
حاله: كان من أهل السرّ والخصوصيّة، والصّمت والوقار، ذا حظّ وافر من المعرفة بلسان العرب، ذكيّ الذّهن، متوقّد الخاطر، مليح النادرة، شنشنته معروفة فيهم. سار بسيرة أبيه، وأهل بيته، في الطهارة والعدالة، والعفاف والنّزاهة.
وفاته (1):
إبراهيم بن فرج بن عبد البر الخولاني
من أهل قرطبة، يكنى أبا إسحاق، ويعرف بابن حرّة.
أوّليّته: من أهل البيوتات بالحضرة، ولي أبوه القهرمة لثاني (2) الملوك من بني نصر، فتأثّل مالا ونباهة.
حاله: هذا الرجل من أعيان القطر، ووزراء الصّقع، وشيوخ الحضرة، أغنى هذه المدرة يدا، وأشغلهم بالعرض الأدنى نفسا، تحرّف بالتّجر المربوب في حجر الجاه، ونما ماله، تحاط به الجدات، وتنمو الأموال، ففار تنّورها، وفهق حوضها، كثير الخوض في التصاريف الوقتية، والأدوات الزمانية، وأثمان السلع، وعوارض الأسعار، متبجّح بما ظهرت به يده من علق مضنّة هرى المدينة، الذي ينفق على أسواقها، عند ارتفاع القيم، وتمييز الأسعار، وبلوغها الحدّ الذي يراه كفؤ حبّته، ومنتهى ثمن غلّته. غرق الفكر، يخاطب الحيطان والشّجر والأساطين، محاسبا إياها على معاملات وأغراض فنيّة، يري من التلبّس شيئا من المعارف والآداب والصنائع، وحجة من الحجج في الرّزق. تغلب عليه السّذاجة والصحّة، دمث، متخلّق، متنزّل، مختصر الملبس والمطعم، كثير التبذّل، يعظم الانتفاع به في باب التوسعة بالتسلّف
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) ثاني سلاطين بني نصر هو محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، وقد حكم غرناطة من سنة 671هـ إلى سنة 701هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 50) وسترد ترجمته في هذا الجزء من الإحاطة.(1/201)
والمداينة، حسن الخلق، كثير التجمّل مبتلى بالموقب والطّانز (1)، يسمع ذي القحة، ويصمّ على ذوي المسألة.
ظهوره وحظوته: لبس الحظوة شملة، لم يفارق طوقها رقبته، إذ كان صهرا للمتغلب على الدولة أبي عبد الله بن المحروق (2)، صار بسهم في جذور خطته، وألقى في مرقة حظوته، مشتملا على حاله، بعباءة جاهه. ثم صاهر المصيّر الأمر إليه بعده القائد الحاجب أبا النعيم رضوان، مولى الدولة النصرية، وهلمّ جرّا، بعد أن استعمل في السّفارة إلى العدوة وقشتالة، في أغراض تليق بمبعثه، مما يوجب فيه المياسير والوجوه، مشرّفين معزّزين بمن يقوم بوظيفة المخاطبة والجواب، والردّ والقبول. وولّي وزارة السلطان، لأول ملكه في طريق من ظاهر جبل الفتح إلى حضرته، وأياما يسيرة من أيام اختلاله، إلى أن رغب الخاصّة من الأندلسيين في إزالته، وصرف الأمر إلى الحاجب المذكور الذي تسقّط مع رئاسته المنافسة، وترضّى به الجملة.
محنته: وامتحن هو وأخوه، بالتّغريب إلى تونس، عن وطنهما، على عهد السلطان الثالث من بني نصر (3). ثم آب عن عهد غير بعيد، ثم أسن واستسرّ أديمه، وضجر عن الركوب إلى فلاحته التي هي قرّة عينه، وحظّ سعادته، يتطارح في سكّة المتردّدين بإزاء بابه، مباشر الثّرى بثوبه، قد سدكت (4) به شكاية شائنة، قلّما يفلت منها الشيوخ، ولا من شركها، فهي تزفه بولاء، بحال تقتحمها العين شعثا، وبعدا عن النظر، فلم يطلق الله يده من جدته على يده، فليس في سبيل دواء ولا غذاء إلى أن هلك.
وفاته: في وسط شوّال عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
مولده: في سنة خمس وسبعين وستمائة.
__________
(1) الموقب: اسم فاعل أوقب، وهو القادح الذي يذمّ الآخرين. والطانز: الذي يسخر من الآخرين. لسان العرب (وقب) و (طنز).
(2) هو محمد بن أحمد بن محمد بن المحروق تولى الوزارة لسلطان غرناطة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل النصري عام 725هـ، ثم قتل بأمر السلطان المذكور عام 729هـ. اللمحة البدرية (ص 94).
(3) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الملقّب بالمخلوع، وقد حكم غرناطة من سنة 701هـ حتى سنة 708هـ. اللمحة البدرية (ص 60).
(4) سدكت به: لزمته ولم تفارقه. لسان العرب (سدك).(1/202)
إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي (1)
يكنى أبا إسحاق، ويعرف بابن المرأة.
حاله: سكن مالقة دهرا طويلا، ثم انتقل إلى مرسية، باستدعاء المحدّث أبي الفضل المرسي والقاضي أبي بكر بن محرز، وكان متقدما في علم الكلام، حافظا ذاكرا للحديث والتفسير، والفقه والتاريخ، وغير ذلك. وكان الكلام أغلب عليه، فصيح اللسان والقلم، ذاكرا لكلام أهل التصوّف، يطرّز مجالسه بأخبارهم. وكان بحرا للجمهور بمالقة ومرسية، بارعا في ذلك، متفنّنا له، متقدّما فيه، حسن الفهم لما يلقيه، له وثوب على التمثيل والتّشبيه، فيما يقرب للفهم، مؤثرا للخمول، قريبا من كل أحد، حسن العشرة، مؤثرا بما لديه. وكان بمالقة يتّجر بسوق الغزل. قال الأستاذ أبو جعفر وقد وصمه: وكان صاحب حيل ونوادر مستظرفة، يلهي بها أصحابه، ويؤنسهم، ومتطلّعا على أشياء غريبة من الخواص وغيرها، فتن بها بعض الحلبة، واطّلع كثير ممّن شاهده على بعض ذلك، وشاهد منه بعضهم ما يمنعه الشرع من المرتكبات الشّنيعة، فنافره وباعده بعد الاختلاف إليه، منهم شيخنا القاضي العدل المسمّى الفاضل، أبو بكر بن المرابط، رحمه الله أخبرني من ذلك بما شاهد مما يقبح ذكره، وتبرّأ منه من كان سعى في انتقاله إلى مرسية، والله أعلم بغيبه وضميره.
تواليفه: منها (2) شرحه كتاب الإرشاد لأبي المعالي، وكان يعلقه من حفظه من غير زيادة وامتداد. وشرح الأسماء الحسنى. وألّف جزءا في إجماع الفقهاء، وشرح محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن العريف. وألّف غير ذلك. وتواليفه نافعة في أبوابها، حسنة الرصف والمباني.
من روى عنه: أبو عبد الله بن أحلى، وأبو محمد عبد الرحمن بن وصلة.
وفاته: توفي بمرسية سنة إحدى (3) عشرة وستمائة.
إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري
تلمساني وقرشي الأصل، نزل بسبتة، يكنى أبا إسحاق، ويعرف بالتلمساني.
__________
(1) ترجمة ابن دهاق في التكملة (ج 1ص 140)، والوافي بالوفيات (ج 6ص 171)، والديباج المذهب (ج 1ص 273).
(2) قارن بالتكملة (ج 1ص 140).
(3) في الأصل: «أحد عشر» وهو خطأ نحوي.(1/203)
حاله: كان فقيها عارفا بعقد الشروط، مبرّزا في العدد والفرائض، أديبا، شاعرا، محسنا، ماهرا في كل ما يحاول. نظم في الفرائض، وهو ابن ثمان (1)
وعشرين سنة، أرجوزة محكمة بعلمها، ضابطة، عجيبة الوضع. قال ابن عبد الملك:
وخبرت منه في تكراري عليه، تيقّظا وحضور ذهن، وتواضعا، وحسن إقبال وبرّ، وجميل لقاء ومعاشرة، وتوسّطا صالحا فيما يناظر فيه من التواليف، واشتغالا بما يعنيه من أمر معاشه، وتخاملا في هيئته ولباسه، يكاد ينحطّ عن الاقتصاد، حسب المألوف والمعروف بسبتة. قال ابن الزبير: كان أديبا لغويّا، فاضلا، إماما في الفرائض.
مشيخته: تلا بمالقة على أبي بكر بن دسمان، وأبي صالح محمد بن محمد الزّاهد، وأبي عبد الله بن حفيد، وروى بها عن أبي الحسن سهل بن مالك، ولقي أبا بكر بن محرز، وأجاز له، وكتب إليه مجيزا أبو الحسن بن طاهر الدباج، وأبو علي الشلوبين. ولقي بسبتة الحسن أبا العباس بن علي بن عصفور الهواري، وأبا المطرّف أحمد بن عبد الله بن عفيرة، فأجازا له. وسمع على أبي يعقوب بن موسى الحساني الغماري.
من روى عنه: روى عنه الكثير ممّن عاصره، كأبي عبد الله بن عبد الملك وغيره.
تواليفه: من ذلك الأرجوزة الشهيرة في الفرائض، لم يصنّف في فنّها أحسن منها. ومنظوماته في السّير، وأمداح النبي، صلى الله عليه وسلم، من ذلك المعشّرات على أوزان العرب، وقصيدة في المولد الكريم، وله مقالة في علم العروض الدّوبيتي.
شعره: وشعره كثير، مبرّز الطّبقة بين العالي والوسط، منحازا أكثر إلى الإجادة جمّة، وتقع له الأمور العجيبة فيه كقوله: [المنسرح]
الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرّفها
ما كلّ من سرّبت (2) له نعم ... منك يرى قدرها ويعرفها
بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرّة عنك عزّ مصرفها
أما ترى الشمس تعطف بالنّ ... ور على البدر وهو يكسفها؟
دخوله غرناطة: أخبر عن نفسه أن أباه انتقل به إلى الأندلس، وهو ابن تسعة أعوام، فاستوطن به غرناطة ثلاثة أعوام، ثم رحل إلى مالقة، فسكن بها مدّة، وبها
__________
(1) في الأصل: «ثمانية»، وهو خطأ نحوي.
(2) في الأصل: «سرت» وهكذا ينكسر الوزن.(1/204)
قرأ معظم قراءته. ثم انتقل إلى سبتة، وتزوّج بها أخت الشيخ أبي الحكم مالك بن المرحّل. وهذا الشيخ جدّ صاحبنا وشيخنا أبي الحسين التلمساني لأبيه، وهو ممّن يطرّز به التأليف، ويشار إليه في فنون لشهرته.
ومن شعره، وهو صاحب مطوّلات مجيدة، وأمادح مبدية في الإحسان معيدة، فمن قوله يمدح الفقيه أبا القاسم العزفي أمير سبتة: [الكامل]
أرأيت من رحلوا وزمّوا العيسا (1) ... ولا نزلوا على الطلول حسيسا (2)؟
أحسبت سوف يعود نسف ترابها ... يوما بما يشفي لديك نسيسا؟
هل مؤنس (3) نارا بجانب طورها ... لأنيسها؟ أم هل تحسّ حسيسا؟
مولده: قال ابن عبد الملك: أخبرني أنّ مولده بتلمسان سنة تسع وستمائة.
وفاته: في عام تسعين وستمائة بسبتة، على سنّ عالية، فسحت مدى الانتفاع به.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الساحلي
المشهور بالطّويجن (4)، من غرناطة.
حاله: من كتاب «عائد الصلة»: كان، رحمه الله، نسيج وحده في الأدب، نظما ونثرا، لا يشقّ فيهما غباره، كلام صافي الأديم، غزير المائية، أنيق الدّيباجة، موفور المادة، كثير الحلاوة، جامع بين الجزالة والرّقّة إلى خطّ بديع، ومشاركة في فنون، وكرم نفس، واقتدار على كل محاولة. رحل بعد أن اشتهر فضله، وذاع أوجه، فشرّق، وجال في البلاد. ثم دخل إلى بلد السّودان، فاتصل بملكها، واستوطنها زمانا طويلا، بالغا فيها أقصى مبالغ المكنة، والحظوة، والشّهرة، والجلالة، واقتنى مالا دثرا، ثم آب إلى المغرب، وحوّم على وطنه، فصرفه القدر إلى مستقرّه من بلاد السودان، مستزيدا من المال. وأهدى إلى ملك المغرب هديّة تشتمل على طرف، فأثابه عليها مالا خطيرا، ومدحه بشعر بديع كتبناه عنه. وجرى ذكره في كتاب «التاج» بما نصّه (5):
__________
(1) زمّوا العيس: خطموها للرحيل. لسان العرب (زمم).
(2) عجز البيت مختلّ الوزن.
(3) في الأصل: «هل من مؤنس» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) يكنى أبا إسحاق، وترجمته في نثير فرائد الجمان (ص 308)، والكتيبة الكامنة (ص 235)، ونفح الطيب (ج 2ص 405)، و (ج 3ص 397).
(5) النص في الكتيبة الكامنة (ص 235).(1/205)
«جوّاب الآفاق، ومحالف الإباق (1)، ومنفق سعد (2) الشّعر كل الإنفاق رفع ببلده (3) للأدب راية لا تحجم، وأصبح فيها يسوّي ويلجم فإن نسب، جرى ونظم نظم الجمان المحامد، وإن أبّن ورثى غبّر في وجوه السوابق وحثا. ولمّا اتّفق كساد سوقه، وضياق حقوقه، أخذ بالحزم، وأدخل على حروف علائه عوامل الجزم، يسقط على الدول سقوط الغيث، ويحلّ كناس الظّبا وغاب اللّيث، شيّع العجائب، وركّض النّجائب، فاستضاف بصرام، وشاهد البرابي والأهرام، ورمى بعزمته الشآم، فاحتلّ ثغوره المحوطة، ودخل دمشق، وتوجّه الغوطة، ثم عاجلها بالعراق، فحيّا بالسّلام مدينة السّلام، وأورد بالرّافدين رواحله، ورأى اليمن وسواحله، ثم عدل إلى الحقيقة عن المجاز، وتوجّه إلى شأنه الحجاز، فاستلم الرّكن والحجر، وزار القبر الكريم لمّا صدر، وتعرّف بمجتمع الوفود بملك السّود، فغمره بإرفاده، وصحبه إلى بلاده، فاستقرّ بأوّل أقاليم العرض، وأقصى ما يعمر من الأرض، فحلّ بها محلّ الحمر في الغار، والنور في سواد الأبصار وتقيّد بالإحسان، وإن كان غريب الوجه واليد واللسان. وصدرت عنه رسائل أثناء إغرابه، تشهد بجلالة آدابه، وتعلّق الإحسان بأهدابه».
نثره: فمن ذلك ما خاطب به أهل غرناطة بلده وقد وصل إلى مرّاكش:
«سلام ليس دارين شعاره، وحلق الروض والنضير به صداره، وأنسى نجدا شمّه الزكي وعراره، جرّ ذيله على الشجر فتعطّر، وناجى غصن البان فاهتزّ لحديثه وتأطّر، وارتشف الندى من ثغور الشّقائق، وحيّا خدود الورد تحت أردية الحدائق، طربت له النّجدية المستهامة، فهجرت صباها ببطن تهامة، وحنّ ابن دهمان لصباه، وسلا به التّميمي عن ريّاه، وأنسى النّميري ما تضوّع برقيب من بطن نعماه، واستشرف السمر والبان، وتخلق بخلوقة الآس والظّيّان (4)، حتى إذا راقت أنفاس تحيّاته ورقّت، وملكت نفائس النفوس واستشرقت، ولبست دارين في ملائها، ونظمت الجوزاء في عقد ثنائها، واشتغل بها الأعشى عن روضه ولها، وشهد ابن برد شهادة أطراف المساويك لها، خيّمت في ربع الجود بغرناطة ورقّت، وملأت دلوها إلى عقد ركبه، وأقبلت منابت شرقها عن غربه، لا عن عرفه هناك تترى لها صدور المجالس تحمل صدورا، وترائب المعالي تحلّي عقودا نفيسة وجذورا، ومحاسن الشرف تحاسن
__________
(1) في الكتيبة الكامنة: «الرفاق».
(2) في الكتيبة الكامنة: «سعر».
(3) كلمة «ببلده» ساقطة من الكتيبة الكامنة.
(4) الظّيّان: ياسمين البرّ. محيط المحيط (ظوي).(1/206)
البروج في زهرها، والأفنية في إيوانها، والأندية في شعب بوّانها (1)، لو رآها النعمان لهجر سديره، أو كسرى لنبذ إيوانه وسريره، أو سيف لقصّر عن غمدانه، أو حسّان لترك جلّق (2) لغسّانه: [الطويل]
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها
فإذا قضيت من فرض السلام ختما، وقضت من فاره الثّناء حتما، ونفضت طيب عرارها على تلك الأنداء، واقتطفت أزاهر محامدها أهل الودّ القديم والإخاء، وعمّت من هنالك من الفضلاء، وتلت سور آلائها على منبر ثنائها، وقصّت وعطفت على من تحمل من الطلبة بشارتهم، وصدرت عن إشارتهم، وأنارت نجما حول هالتهم المنيرة ودارتهم، فهناك تقصّ أحاديث وجدي على تلك المناهج، لا إلى صلة عالج، وشوقي إلى تلك العليا، لا إلى عبلة، والجزا إلى ذلك الشريف الجليل، فسقى الله تلك المعاهد غيداقا (3) يهمي دعاؤها، ويغرق روضها إغراقا، حتى تتكلّل منه نحور زندها درّا، وترنو عيون أطراف نرجسها إلى أهلها سررا، وتتعانق قدود أغصانها طربا، وتعطف خصور مذانبها على أطراف كثبانها لعبا، وتضحك ثغور أقاحيها (4) عند رقص أدواحها عجبا، وتحمّر خدود وردها حياء، وتشرق حدائق وردها سناء، وتهدي إلى ألسنة صباها خبر طيبة (5) وإنباء، حتى تشتغل المطريّة عن روضتها المردودة، والمتكلّىء عن مشاويه المجودة، والبكري عن شقائق رياض روضته النديّة، والأخطل عن خلع بيعته الموشيّة. فما الخورنق (6) وسراد، والرّصافة وبغداد، وما لفّ النّيل في ملأته كرما إلى أفدين سقايته، وحارته غمدان عن محراب، وقصر وابرية البلقاء عن غوطة ونهر، بأحسن من تلك المشاهد التي تساوي في حسنها الغائب والشاهد. وما لمصر تفخر بنيلها، والألف منها في شنيلها (7)، وإنما زيدت الشين هنالك ليعد بذلك:
[الوافر]
ويا لله من شوق حثيث ... ومن وجد تنشّط بالصميم
إذا ما هاجه وجد حديث ... صبا منها إلى عهد قديم
__________
(1) شعب بوّان: موضع بأرض فارس، وهو أحد متنزهات الدنيا. معجم البلدان (ج 1ص 503).
(2) جلّق: هي دمشق نفسها، وقيل: موضع بقرية من قرى دمشق. معجم البلدان (ج 2ص 154).
(3) الغيداق من الشباب: الناعم، والجمع غياديق. محيط المحيط (غيدق).
(4) في الأصل: «أقاحها»، والأقاحيّ: جمع أقحوان وهو نبات. محيط المحيط (قحا).
(5) طيبة: اسم لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. معجم البلدان (ج 4ص 53).
(6) الخورنق: قصر كان بظهر الحيرة. معجم البلدان (ج 1ص 401).
(7) ورد قول ابن الخطيب هذا في نفح الطيب (ج 1ص 148).(1/207)
أجنح إنساني في كل جانحة، وأنطق لساني من كل جارحة، وأهيم وقلبي رهين الأنين، وصريع البين، تهفو (1) الرياح البليلة إذا ثارت، وتطير به أجنحة البروق الخافقة أينما طارت، وقد كنت أستنزل قربهم براحة الأجل، وأقول عسى وطن يدنيهم ولعلّ، وما أقدر الله أن يدني على الشّحط، ويبري جراح البين بعد اليأس والقنط، هذا شوقي يستعيره البركان لناره، ووجدي لا يجري قيس في مضماره، فما ظنّك وقد حمت حول المورد الخصر، ونسمت ريح المنبت الخضر، ونظرت إلى تلك المعاهد من أمم، وهمست باهتصار ثمار ذلك المجد اليانع والكرم، وإن المحبّ مع القرب لأعظم همّا، وأشدّ في مقاساة الغرام غمّا: [الوافر]
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذ دنت الدّيار من الديار
وقربت مسافة الدّوّار، لكن الدهر ذو غير، ومن ذا يحكم على القدر، وما ضرّه لو غفل قليلا، وشفى بلقاء الأحبّة غليلا، وسمح لنا بساعة اتفاق، ووصل ذلك الأمل القصير بباع، وروى مسافة أيام، كما طوى مراحل أعوام.
لدّ إبليس، أفلا أشفقت من عذابي، وسمحت ولو بسلام أحبابي؟
أسلمتني إلى ذرع البيد، ومحالفة الذميل والوخيد (2)، والتنقّل في المشارق والمغارب، والتمطّي في الصّهوات والغوارب. يا سابق البين دع محمله، وما بقي في الجسم ما يحمله، ويا بنات جديل، ما لكنّ وللذميل؟ ليت سقمي عقيم فلم يلد ذات البين، المشتّتة ما بين المحبين، ثم ما للزاجر الكاذب، وللغراب الناعب، تجعله نذير الجلا، ورائد الخلا، ما أبعد من زاجر، عن رأي الزّاجر، إنما فعل ما ترى، ذات الغارب والقرى، المحتالة في الأزمّة والبرى، المتردّدة بين التّأويب والسّرى طالما باكرت النّوى، وصدعت صدع الثّوى، وتركت الهائم بين ربع محيل، ورسم مستحيل، يقفو الأثر نحوه، ويسأل الطّلل عن عهده، وإن أنصفت فما لعين معقودة، وإبل مطرودة، مالت عن الحوض والشّوط، وأسلمت إلى الحبل والعصا والسّوط، ولو خيّر النائي لأقام، ولو ترك القطا ليلا لنام، لكن الدهر أبو براقش (3)،
__________
(1) في الأصل: «تهفق».
(2) الذّميل: السير اللين. والوخيد: السير السريع. لسان العرب (ذمل) و (وخد).
(3) أبو براقش: طائر صغير برّيّ كالقنفذ أعلى ريشه أغرّ وأوسطه أحمر وأسفله أسود، فإذا هيّج انتفش فتغيّر لونه ألوانا شتّى حتى قيل لكل متلوّن ذي وجهين: أحول من أبي برقش، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
كأبي براقش كلّ يو ... م لونه يتقلّب
محيط المحيط (برقش).(1/208)
وسهم بينه وبين بنيه غير طائش فهو الذي شتّت الشّمل وصدعه، وما رفع سيف بعماده إلّا وضعه، ولا بلّ غليلا أحرقه بنار وجده ولا نفعه. فأقسم ما ذات خضاب وطوق، شاكية غرام وشوق، برزت في منصّتها، وترجمت عن قضيّتها، أو غربت عن بيتها، ونفضت شرارة زفرتها عن عينها، ميلا حكت الميلا والغريض، وعجماء ساجلت بسجعها القريض، وكصّت (1) الفود فكأنما نقرت العود، وردّدت العويل، كأنما سمعت النّقيل، نبّهت الواله فثاب، وناحت بأشواقها فأجاب. حتى إذا افترّ بريقها، استراب في أنّتها، فنادى يا حصيبة الساق، ما لك والأشواق؟ أباكية ودموعك راقية؟ ومحرّرة وأعطافك حالية؟ عطّلت الخوافي، وحلّيت القوادم، وخضّبت الأرجل، وحضرت المآتم. أمّا أنت، فنزيعة خمار، وحليفة أنوار وأشجار، تتردّدين بين منبر وسرير، وتتهادين بين روضة وغدير أسرفت في الغناء، وإنما حكيت خرير الماء، وولعت بتكرير الراء، فقالت: أعد نظر البقير، ولأمر ما جدع أنفه قصير، أنا التي أغرقت في الرّزء، فكنّيت عن الكل بالجزء كنت أربع بالفيافي ما ألافي، وآنس مع مقيلي، بكرته وأصيلي، تحتال من غدير إلى شرج (2)، وتنتقل من سرير إلى سرج، آونة تلتقط الحبّ، وحينا تتعاطى الحبّ، وطورا تتراكض الفنن، وتارة تتجاذب الشّجن، حتى رماه الدهر بالشّتات، وطرقه بالآفات، فهأنا بعده دامية العين، دائمة الأين، أتعلّل بالأثر بعد العين فإن صعدت مناري، ألهبت منقاري، أو نكأت أحشائي، خضّبت رجلي بدمائي، فأقسم لا خلعت طوق عهده، حتى أردي من بعده، بل ذات خفض وترف، وجمال باهر وشرف، بسط الدهر يدها، وقبض ولدها، فهي إذا عقدت التّمائم على تريب، أو لفّت العمائم على نجيب، حثّت المفؤود، وأدارت عين الحسود، حتى إذا أينعت فسالها، وقضى حملها وفصالها، عمر لحدها بوحيد كان عندها وسطى، وفريد أضحى في نحر عشيرتها سمطا، استحثّت له مهبّات النسيم الطّارق، وخافت عليه من خطرات اللّحظ الرّاشق، فحين هشّ للجياد، ووهب التمائم للنّجاد ونادى الصريم، يا الآل والحريم، فشدّ الأناة، واعتقل القناة، وبرز يختال في عيون لامه، ويتعرّف منه رمحه بألفه ولامه، فعارضه شثن (3) الكفّين، عاري الشعر والمنكبين، فأسلمه لحتفه، وترك حاشية ردائه على عطفه، فحين انبهم
__________
(1) كصّت الفود: دقّته. والفود: معظم شعر الرأس، والمراد هنا: الرأس. محيط المحيط (كصّ) و (فود).
(2) الشّرج: مسيل الماء من الحرّة إلى السهل. محيط المحيط (شرج).
(3) الشّثن: الغليظ. محيط المحيط (شثن).(1/209)
لشاكلته ما جرى برزت لترى: [الطويل]
فلم تلق فيها (1) غير خمس قوائم ... وأشلاء لحم تحت ليث سخايل
يحطّ على أعطافه وترائبه ... بكفّ حديد النّاب صلب المفاصل
أعظم من وجد إلى تلك الآفاق، التي أطلعت وجوه الحسن والإحسان، وسفرت عن كمال الشرف، وشرف الكمال عن كل وجه حسان، وأبرزت من ذوي الهمم المنيفة، والسّير الشريفة، ما أقرّ عين العلياء، وحلّى جيد الزمان، فتقوا للعلم أزهارا أربت على الروض المجود، وأداروا للأدب هالة استدارت حولها بدور السّعود، نظم الدهر محاسنهم حليّا في جيده ونحره، واستعار لهم الأفق ضياء شمسه وبدره، وأعرب بهم الفخر عن صميمه، وفسح لهم المجد عن مصدره، فهم إنسان عين الزمان، وملتقى طريقي الحسن والإحسان، نظمت الجوزاء مفاخرهم، ونثرت النّثرة مآثرهم، واجتلبت الشّعرى من أشعارهم، وطلع النور من أزرارهم، واجتمعت الثّريّا لمعاطاة أخبارهم، وودّ الدّلو لو كرع في حوضهم، والأسد لو ربض حول ربضهم، والنعايم لو غذّيت بنعيمهم، والمجرّة لو استمدّت من فيض كرمهم، عشق المسك محاسنهم فرقّ، وطرب الصبح لأخبارهم فخرق جبينه وشقّ، وحام النّسر حول حمامهم وحلّق، وقدّ الفخار جدار محامدهم وخلّق، إلى بلاغة أخرست لسان لبيد، وتركت عبد الحميد غير حميد، أهلّ ابن هلال لمحاسنهم وكبّر، وأعطى القارئ ما زجر به قلمه وسطّر، وأيس إياس من لحاقهم فأقصر لما قصّر.
ومنها: فما للوشي تألّق ناصعه، وتأنّق يانعه، بأحسن ممّا وشته أنفاسهم، ورسمته أطراسهم، فكم لهم من خريدة غذّاها العلم ببرّه، وفريدة حلّاها البيان بدرّه، واستضاءت المعارف بأنوارهم، وباهت الفضائل بسناء منارهم، وجلّيت المشكلات بأنوار عقولهم وأفكارهم، جلّوا عروس المجد وحلّوا، وحلّوا في ميدان السيادة ونشأوا، وزاحموا السّهى بالمناكب، واختطّوا التّرب فوق الكواكب، لزم محلّهم التّكبير، كما لزمت الياء التّصغير، وتقدّموا في رتبة الأفهام، كما تقدّمت همزة الاستفهام، ونزلوا من مراتب العلياء، منزلة حروف الاستعلاء، وما عسى أن أقول ودون النهاية مدى نازح، وما أغنى الشمس عن مدح المادح، وحسبي أن أصف ما أعانيه من الشوق، وما أجده من التّوق، وأعلّل نفسي بلقائهم، وأتعلّل بالنّسيم الوارد من تلقائهم، وإن جلاني الدهر عن ورود حوضهم، وأقعدني الزمان عن اجتناء روضهم، فما ذهب ودادي، ولا تغيّر اعتقادي، ولا جفّت أقلامي عن مدادهم ولا
__________
(1) كلمة «فيها» ساقطة من الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى.(1/210)
مدادي، وأنا ابن جلا (1) في وجدهم، وطلّاع الثّنايا إلى كرم عهدهم، إن دعوا إلى ودّ صميم وجدوني، أضع العمامة عن ذوي عهد قديم عرفوني، ولو شرعوا نحوي قلم مكاتبتهم، وأسحّوا بالعلق الثّمين من مخاطبتهم، لكفّوا من قلبي العاني قيد إساره، وبلوا صدى وجدي المتحرّق بناره، ففي الكتابة بلغة الوطر، وقد يغني عن العين الأثر، والسلام الأثير الكريم الطيب الرّيا، الجميل المحيّا، يحضر محلّهم الأثير، وكبيرهم إذ ليس فيهم صغير، ويعود على من هناك من ذوي الودّ الصميم، والعهد القديم، من أخ برّ وصاحب حميم، ورحمة الله وبركاته».
ولا خفاء ببراعة هذه الرسالة على طولها، وكثرة أصولها، وما اشتملت عليه من وصف وعارضة، وإشارة وإحالة، وحلاوة وجزالة.
شعره: ثبت لديّ من متأخّر شعره قوله من قصيدة، يمدح بها ملك المغرب (2)، أمير المسلمين، عند دنوّ ركابه من ظاهر تلمسان ببابه أولها (3): [الكامل]
خطرت كميّاس (4) القنا المتأطّر ... ورنت بألحاظ الغزال الأعفر
ومن شعره في النسيب: [البسيط]
زارت وفي كلّ لحظ طرف محترس ... وحول كلّ كناس كفّ مفترس
يشكو لها الجيد ما بالحلي من هدر ... ويشتكي الزّند ما بالقلب من خرس
متى تلا خدّها الزّاهي الضّحى نطقت ... سيوف ألحاظها من آية الحرس
في لحظها سحر فرعون ورقّتها ... آيات موسى وقلبي موضع القبس
تخفي النّمومين من حلي ومبتسم ... تحت الكتومين من شعر ومن غلس
وترسل اللّحظ نحوي ثم تهزأ بي ... تقول بعد نفوذ الرّمية احترس
أشكو إليها فؤادا واجلا أبدا ... في النّازعات وما تنفكّ من عبس
__________
(1) أخذه من قول سحيم بن وثيل الرياحي: [الوافر] أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وفيات الأعيان (ج 2ص 24)، والوافي بالوفيات (ج 7ص 74).
(2) هو أمير المسلمين أبو الحسن علي المريني، ملك المغرب، كما جاء في نثير فرائد الجمان (ص 309).
(3) ورد منها خمسون بيتا في نثير فرائد الجمان (ص 312309) وجاء فيها أنه قالها في مدح الملك المغربي المذكور يحرّضه فيها على قتال أمير المؤمنين أبي تاشفين العبد الوادي ملك تلمسان، قاتل أبيه.
(4) في نثير فرائد الجمان: «كميّاد».(1/211)
يا شقّة النّفس إنّ النّفس قد تلفت ... إلّا بقيّة رجع الصّوت والنّفس
هذا فؤادي وجفني فيك قد جمعا ... ضدّين فاعتبري إن شئت واقتبسي
ويا لطارق نوم منك أرّقني ... ليلا ونبّهني للوجد ثم نسي
ما زال يشرب من ماء القلوب فلم ... أبصرته ذابلا يشكو من اليبس
ملأت طرفي عن ورد تفتح في ... رياض خدّيك صلّا غير مفترس
وقلت للّحظ والصّدغ احرسا فهما ... ما بين مصم وفتّاك ومنتكس
وليلة جئتها سحرا أجوس بها ... شبا العوالي وخيس الأخنف الشّرس
أستفهم الليل عن أمثال أنجمه ... وأسأل (1) العيس عن سرب المها الأنس
وأهتك السّتر لا أخشى بوادره ... ما بين منتهز طورا ومنتهس
بتنا نعاطي بها ممزوجة مزجت ... حلو الفكاهة بين اللّين والشّرس
أنكحتها من أبيها وهي آيسة ... فثار أبناؤها في ساعة العرس
نور ونار أضاءا في زجاجتها ... فذاك خدّك يا ليلى وذا نفسي (2)
حتى إذا آب نور الفجر في وضح ... معرّك جال بين الفجر والغلس
وهيمنت بالضنا تحت الصباح صبا ... قد أنذرتها ببرد القلب واللّعس
قامت تجرّ فضول الريط آنسة ... كريمة الذيل لم تجنح إلى دنس
تلوث فوق كثيب الرمل مطرفها ... وتمسح النّوم عن أجفانها النّعس
فظلّ قلبي يقفوها بملتهب ... طورا ودمعي يتلوها بمنبجس
دهر يلوّن لونيه كعادته ... فالصبح في مأتم والليل في عرس
وإحسانه كثير، ومقداره كبير. ثم آب إلى بلاد السودان، وجرت عليه في طريقه محنة، ممّن يعترض الرفاق ويفسد السبيل، واستقرّ بها على حاله من الجاه والشّهرة، وقد اتخذ إماء للتسرّي من الزّنجيّات، ورزق من الجوالك أولادا كالخنافسة. ثم لم يلبث أن اتصلت الأخبار بوفاته بتنبكتو، وكان حيّا في أوائل تسعة وثلاثين وسبعمائة (3).
__________
(1) في الأصل: «وأسال» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «نفس»، بدون ياء.
(3) في نثير فرائد الجمان (ص 308): توفي بمالي من أرض جناوة في عام 744هـ. وهكذا جاء في نفح الطيب (ج 2ص 406) وفي نفح الطيب (ج 3ص 397). وذكره المقري ثانية ولم يلقبه بالساحلي، فتوهم أنه شخصية أخرى وقال: توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة.(1/212)
إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أسد بن موسى ابن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أسد بن قاسم النميري
من أهل غرناطة، يكنى أبا إسحاق ويعرف بابن الحاجّ (1).
أوّليّته: بيت نبيه، يزعم من يعنى بالأخبار، أن جدّهم الداخل إلى الأندلس ثوابة بن حمزة النّميري، ويشركهم فيه بنو أرقم الوادي شيون (2). وكان سكناه بجهة وادي آش، ولقومه اختصاص وانتقال ببعض جهاتها، وهي شوظر، والمنظر، وقرسيس، وقطرش تغلّب العدو عليها على عهد عبد العزيز، وآوى جميعهم إلى كنف الدولة النصرية، فانخرطوا في سلك الخدمة، وتمحّض خلفهم بالعمل. وكان جدّه الأقرب إبراهيم، رجلا خيّرا من أهل الدين والفضل والطهارة والذكاء كتب للرؤساء من بني إشقيلولة، عند انفرادهم بوادي آش. واختصّ بهم، وحصل منهم على صهر بأم ولد بعضهم، وضبط المهمّ من أعمالهم. ثم رابته منهم سجايا أوجبت انصرافه عنهم، وجنوحه إلى خالهم السلطان الذي كاشفوه بالثورة، فعرف حقّه، وأكرم وفادته، وقبل بيانه فقلّده ديوان جنده، واستمرّت أيام عمره تحت رعيه، وكنف عنايته. وكان ولده عبد الله، أبو صاحبنا المترجم به، صدرا من صدور المستخدمين في كبار الأعمال، على سنن رؤسائهم، مكسابا متلافا، سريّ النفس، غاض الحواز. ولي الأشغال بغرناطة وسبتة عند تصيّرها إلى إيالة بني نصر وجرى طلاقه هذا، في صلّ دنيا عريضة تغلّبت عليه بآخرة، ومضى لسبيله، مصدوقا بالكفاية، وبراعة الخط، وطيب النفس، وحسن المعاملة.
حاله: هذا (3) الرجل نشأ على عفاف وطهارة امتهك صبابة ترف من بقايا عافية، أعانته على الاستظهار ببزّة، وصانته من التحرّف بمهنة. ثم شدّ وبهرت خصاله، فبطح بالشّعر وبلغ الغاية في إجادة (4) الخط، وحاضر بالأبيات، وأرسم (5)
في كتابة الإنشاء، عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، مستحقّا حسن سمة (6)، وبراعة
__________
(1) ترجمة ابن الحاج النميري في الكتيبة الكامنة (ص 260)، ونيل الابتهاج، طبعة فاس (ص 14)، والمنهل الصافي (ج 1ص 66)، ونثير فرائد الجمان (ص 313)، ونفح الطيب (ج 3 ص 279) و (ج 9ص 330).
(2) نسبة إلى مدينة وادي آش.
(3) نفح الطيب (ج 9ص 330).
(4) في النفح: «جودة».
(5) في النفح: «وارتسم في كتاب الإنشاء».
(6) في النفح: «سمت، وجودة أدب وخطّ».(1/213)
خط، وجودة أدب، وإطلاق يد، وظهور كفاية وفي أثناء هذا الحال، يقيد ولا يفتر، ويروي الحديث، ويعلّق الأناشيد، ولا يغبّ النظم والنثر، ولا يعفي القريحة، معمّى، مخوّلا في العناية، مشتملا على الطهارة، بعيدا في زمان الشّبيبة عن الرّيبة، نزيها على الوسامة عن الصّبوة والرّقية، أعانه على ذلك نخوة في طبعه، وشفوف وهمّة. كان مليح الدّعابة، طيّب الفكاهة، آثر المشرق، فانصرف عن الأندلس في محرّم عام سبعة وثلاثين وسبعمائة، وألمّ بالدول، محرّكا إياها بشعره، هازّا أعطافها بأمداحه فعرف قدره، وأعين على طيّته فحجّ وتطوّف، وقيّد، واستكثر، ودوّن في رحلة سفره وناهيك بها طرفة وقفل إلى إفريقية، وكان علق بخدمة بعض ملوكها، فاستقرّ ببجاية لديه، مضطلعا بالكتابة والإنشاء. ثم انتقل إلى خدمة سلطان المغرب، أمير المسلمين أبي الحسن ولم ينشب أن عاد إلى البلاد المشرقية، فحجّ، وفصل إلى إفريقية، وقد دالت الدولة بها بالسلطان المذكور، فتقاعد عن الخدمة، وآثر الانقباض ثم ضرب الدهر ضرباته، وآل حال السلطان إلى ما هو معروف، وثابت للموحّدين برملة بجاية بارقة لم تكد تتقد حتى خبت، فعاد إلى ديوانه من الكتابة عن صاحب بجاية. ثم أبى مؤثرا للدّعة في كنف الدولة الفارسية (1)، ونفض عن الخدمة يده، لا أحقّق مضطرا أم اختيارا، وحجة كليهما قائمة لديه، وانقطع إلى تربة الشيخ أبي مدين (2) بعبّاد تلمسان، مؤثرا للخمول، عزيزا به، ذاهبا مذهب التّجلّة من التجريد والعكوف بباب الله، مفخرا لأهل نحلته، وحجّة على أهل الحرص والتهافت، من ذوي طبقته، راجع الله بنا إليه بفضله. ثم جبرته الدولة الفارسية على الخدمة، وأبرته بزّة النّسك، فعاد إلى ديدنه من الكتابة، رئيسا ومرءوسا. ثم أفلت نفيه موت السلطان أبي عنان فلحق بالأندلس، وتلقي ببرّ وجراية، وتنويه وعناية، واستعمل في السفارة إلى الملوك وولّي القضاء في الأحكام الشرعية بالقليم بقرب الحضرة وهو الآن بحاله الموصوفة، صدرا من صدور القطر وأعيانه، يحضر مجلس السلطان، ويعدّ من نبهاء من ينتاب بابه، وقد توسّط من الاكتهال، مقيما لرسم الكتابة والظرف مع الترخيص للباس الحرير، والخضاب بالسواد، ومصاحبة الأبّهة، والحرص على التّجلّة.
__________
(1) أي في دولة السلطان فارس أبي عنان.
(2) الشيخ أبو مدين: هو الصوفي شعيب بن الحسين التلمساني، الأندلسي الأصل، المتوفّى بتلمسان سنة 594هـ. وقبره بعبّاد تلمسان ويزار إلى جانب مدافن الأولياء. الأعلام (ج 3ص 166) وفيه ثبت بأسماء مصادر ترجمته.(1/214)
وجرى ذكره في «التاج المحلّى» بما نصّه (1): «طلع شهابا ثاقبا، وأصبح بشعره للشّعرى مصاقبا، فنجم وبرع، وتمّم المعاني واخترع إلى خطّ يستوقف الأبصار رائقه، وتقيّد الأحداق حدائقه، وتفتن الألباب فنونه البديعة وطرائقه، من بليغ يطارد أسراب المعاني البعيدة فيقتنصها، ويغوص على الدّرر الفريدة فيخرجها، ويستخلصها بطبع مذاهبه دافقة، وتأييد رايته خافقة. نبه في عصره شرف البيان من بعد الكرى، وانتدب بالنشاط إلى تجديد ذلك البساط وانبرى، فدارت الأكواس، وتضوّع الورد والآس، وطاب الصّبوح، وتبدّل الروح المروح، ولم تزل نفحاته تتأرّج، وعقائل بناته تتبرّج، حتى دعي إلى الكتابة، وخطب إلى تلك المثابة، فطرّز المفارق برقوم أقلامه، وشنّف المسامع بدرّ كلامه ثم أجاب داعي نفسه التي ضاق عنها جثمانه، لا بل زمانه، وعظم لها فكره وغمّه، وتعب في مداراتها، وكما قال أبو الطيب المتنبي:
«وأتعب خلق الله من راد محمده»، فارتحل لطيّته، واقتعد غارب مطيّته، فحجّ وزار، وشدّ للطّواف الإزار. ثم هبّ إلى المغرب وحوّم، وقفل قفول النسيم عن الرّوض بعدما تلوّم، وحطّ بإفريقية على نار القرى، وحمد بها صباح السّرى، ولم يلبث أن تنقل، ووحر الحميم شفافه وتنغل، ثم بدا له أخرى فشرق، وكان عزمه أن يجتمع فتفرّق».
مشيخته: روى (2) عن مشيخة بلده وأشجر، وقيّد واستكثر، وأخذ في رحلته عن أناس شتّى يشقّ إحصاؤهم.
تواليفه: منها كتاب «المساهلة والمسامحة، في تبيين طرق المداعبة والممازحة»، و «إيقاظ الكرام، بأخبار المنام»، و «تنعيم الأشباح بمحادثة الأرواح»، وكتاب «الوسائل، ونزهة المناظر والحمائل» و «الزّهرات، وإجالة النّظرات»، وكتاب في «التّورية» على حروف المعجم، أكثره مروي الأسانيد عن خلق كثير، والله تعالى يخره وجزء في تبيين المشكلات الحديثة الواصلة من زبيد اليمن إلى مكّة وجزء في بيان اسم (3) الله الأعظم، وهو كبير الفائدة، و «نزهة الحدق، في ذكر الفرق»، وكتاب الأربعين حديثا البلدانية، والمستدرك عليها من البلاد التي دخلتها، ورويت فيها، زيادة على الأربعين، و «روضة العباد المستخرجة من الإرشاد»، وهو من تأليف شيخنا القطب أبي محمد الشافعي والأربعون حديثا التي رويتها عن الأمراء والشيوخ،
__________
(1) نقل لسان الدين في الكتيبة الكامنة (ص 261260) ما ذكره في التاج المحلى، وهو لا يوافق ما أدرجه هنا في ترجمة ابن الحاج.
(2) نفح الطيب (ج 9ص 331).
(3) في النفح: «الاسم الأعظم، كثير الفائدة».(1/215)
الذين رووا عن الملوك والأمراء والشيوخ الذين رووا عن الملوك والخلفاء القريب عهدهم ووصلت بها خاتمة ذكرت فيها فوائد مما رويته عن الملوك والأمراء، وعن الشيوخ الذين رووا عن الملوك والأمراء وكتاب «اللّباس والصّحبة» وهو الذي جمعت فيه طرق المتصوّفة، المدّعي أنه لم يجمع مثله وكتاب فيه شطر الحماسة لحبيب، وهو غير مكمل ورجز (1) في الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت ببلاد (2)
الشرق ورجز صغير في الحجب والسّلاح، ورجز في الجدل ورجز (3) في الأحكام الشرعية سمّاه، ب «الفصول المقتضبة، في الأحكام المنتخبة» وكتاب سمّاه ب «مثاليث (4) القوانين، في التّورية والاستخدام والتّضمين»، وهو كله من نظمه وله تأليف سمّاه ب «فيض العباب، وإجالة قداح الآداب، في الحركة إلى قسنطينة والزّاب».
شعره: ومن شعره في المقطوعات (5): [الكامل]
طاب العذيب بماء (6) ذكرك وانثنى ... فكأنما ماء العذيب سلافه
واهتزّ من طرب للقياك الحمى ... فكأنّما باناته (7) أعطافه
ومن ذلك (8): [الطويل]
لي المدح يروى منذ كنت كأنما ... تصورت مدحا للورى وثناء
وما لي هجاء فاعجبنّ لشاعر ... وكاتب سرّ لا يقيم هجاء
ومن ذلك (9): [الطويل]
ولي فرس من علية الشّهب سابق ... أصرّفه يوم الوغى كيف أطلب
غدوت (10) له في حلبة القوم مالكا ... يتابعني ما شئت في السّبق أشهب (11)
__________
(1) في النفح: «وجزء».
(3) في النفح: «وجزء».
(2) في النفح: «بالمشرق».
(4) في النفح: «مثالب».
(5) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 266).
(6) في الكتيبة: «بطيب».
(7) في الأصل: «بأناته» وقد اخترنا هذه الكلمة كما في الكتيبة الكامنة لأنها أكثر ملاءمة للمعنى.
والبانات: جمع بانة وهي التي يشبه بها الخصر الدقيق.
(8) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 266)، ونثير فرائد الجمان (ص 318)، ونفح الطيب (ج 9ص 334).
(9) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 266).
(10) في الأصل: «عدوت» بالعين المهملة، والتصويب من الكتيبة.
(11) في الكتيبة: «فتابعني منه كما شاء أشهب».(1/216)
وقال، وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء «فيض (1) الثغور» وشرب منها (2): [المتقارب]
تعجّبت من ثغر هذي البلاد ... وها أنت من عينه شارب (3)
فلله ثغر أرى شاربا ... وعين بدا فوقها حاجب
ومن ذلك (4): [المتقارب]
وحمراء في الكأس مشمولة ... تحثّ على العود في كلّ بيت
فلا غرو أن جاءني سابقا ... إلى الأنس خلّ (5) يحثّ الكميت
وقال مضمّنا، وقد تذكر حمراء غرناطة، وبابها الأحفل المعروف «بباب الفرج» (6): [المتقارب]
أقول وحمراء غرناطة تشوق ... تشوق النّفوس وتسبي المهج
ألا ليت شعري بطول السّرى ... أرتنا الوجى واشتكت العرج
وما لي في عرج رغبة ... ولكن لأقرع باب الفرج
وقال ملغزا في قلم وهو ظريف (7): [الطويل]
أحاجيك (8) ما واش يراد حديثه ... ويهوى الغريب النازح الدار إفصاحه
تراه مع الأحيان أصفر ناحلا ... كمثل مريض وهو قد لازم الرّاحه (9)
وقال: [الطويل]
وقالوا رمى في الكأس وردا فهل ترى ... لذلك وجها؟ قلت أحسن به قصدا
ألم تجد اللذّات في الكأس حلبة؟ ... فلا تنكروا فيها الكميت ولا الوردا
__________
(1) في نفح الطيب (ج 9ص 337): «ببعض الثغور».
(2) البيتان في نفح الطيب (ج 9ص 337).
(3) رواية عجز البيت في النفح هي:
ومولاي من عينها شارب
(4) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 266)، ونفح الطيب (ج 9ص 337).
(5) في الكتيبة: «حبّ».
(6) كان باب الفرج في عهد بني نصر باب قصر الحمراء الرئيسي، وليس له أثر اليوم.
(7) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 267)، ونفح الطيب (ج 9ص 336).
(8) في النفح: «سألتك».
(9) في النفح:
تراه مدى الأيام أصفر ناحلا ... كمثل عليل وهو قد لازم الرّاحه(1/217)
وقال (1): [الطويل]
كماة تلاقت تحت نقع سيوفهم ... وللهام رقص كلّما طلب الثّار
فلا غرو أن غنّت وتلك رواقص ... لها (2) فيهم في مارد الحرب أوتار
وقال: [الرجز]
وعارض في خدّه نباته ... فحسنه بين الورى يسحرنا
أجرى دموعي إذ جرت شوقا له ... فقلت هذا عارض ممطرنا
وقال وقد توفي السلطان أبو يحيى بن أبي بكر، صاحب تونس، وولي ابنه أبو حفص بعد قتله لإخوته: [الطويل]
وقالوا أبو حفص حوى الملك غاصبا ... وإخوته أولى وقد جاء بالنّكر
فقلت لهم كفّوا فما رضي الورى ... سوى عمر من بعد موت أبي بكر
وقال مضمّنا، وقد حضر الفتى الكبير عنبر قتالا، وكان فارسا مذكورا عند بني مرين: [الكامل]
ولقد أقول وعنبر ذاك الفتى ... يلقى الفوارس في العجاج الأكور
يا عاثرين لدى الجلاد لعا فقد ... بسقت لكم ريح الجلاد بعنبر
وقال وقد اشتاق إلى السّبيكة (3) خارج حمراء غرناطة: [مجزوء الرمل]
إنّ (4) إفراط بكائي ... لم يرع مني عريكه
قد أذاب العين لمّا ... زاد شوقي للسّبيكه
وقال: [الكامل]
لمّا نزلت من السّبيكة صادني ... ظبي وددت لديه أن لم أنزل
فاعجب لظبي صاد ليثا لم يكن ... من قبلها متخبّطا في أحبل
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 268).
(2) بياض في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا، وفي الكتيبة: «فبينهم في مأزق الحرب».
(3) السبيكة: موضع خارج مدينة غرناطة، وقد تغنّى بها عدد من الشعراء. راجع في ذلك: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 37).
(4) في الأصل: «وإنّ» وهكذا ينكسر الوزن.(1/218)
وقال وهو ظريف: [الكامل]
قد قارب العشرين ظبي لم يكن ... ليرى الورى عن حبّه سلوانا
وبدا الربيع بخدّه فكأنما ... وافى الربيع ينادم النّعمانا
وقال (1): [الطويل]
أتوني فعابوا من أحبّ جماله ... وذاك على سمع المحبّ خفيف
فما فيه عيب غير أنّ جفونه ... مراض وأنّ الخصر منه ضعيف
وقال: [المتقارب]
أيا عجبا كيف تهوى الملوك ... محلّي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلّا خديم بفاس
نثره: ونثره تلو نظمه في الإجادة، وقد تضمّن الكتاب المسمى ب «نفاضة الجراب» منه ذكر كل بديع فمما ثبت فيه، مما خاطبته به، وقد ولّي خطّة القضاء بالإقليم، أداعبه، وأثير ما تستحويه عجائبه: [السريع]
يا (2) قاضي العدل الذي لم تزل ... تمتار شهب الفضل من شمسك
قعدت للإنصاف بين الورى ... فاطلب لنا الإنصاف من نفسك
«ما للقاضي، أبقاه الله، ضاق ذرع عدله الرّحيب، عن العجيب وهمّ عن العتب، وضنّ على صديقه حتى بالكتب أمن المدوّنة الكبرى ركب هذا التحريج، أم من المبسوطة ذهب إلى هذا الأمر المريج أم من الواضحة امتنع عن الإمام ببديع الوفاء والتعريج؟ من أمثالهم ارض من أخيك بعشر ودّه إذا ولّي، وقد قنعنا والحمد لله بحبّة من مدّه، وإشارة من درجه، وبرّة وصاعة معتدلة، من زمان بلوغ أشدّه فما باله يمطل مع الغنى، ويحوج إلى العنا، مع قرب الجنى المحلة حلّة ضالع، ومطمع وطامع، ومرأى ورأي، ومستمع وسامع، والكنف واسع، والمكان لا ناء ولا شاسع والضّرع حافل والزّرع كاف كافل والقريحة وارية الزّند، والإمالة خافقة البند وهب أن البخل يقع بها في الخوان على الإخوان، فما باله يسمح بالبيان، وليس الخبر كالعيان ويتعدّى حظّ الجنان، لا خطّ البنان أعيذ سيدي من ارتكاب رأي ذميم، ينقل إلى نميرها بيت تميم ويقصد معناه بتميم، وهلّا تلا حم وعهدي بالسياسة القاضوية، وقد نامت في مهاد أهل الظرف، نوم أهل الكهف، ولم تبال بمردّد الويل
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 269).
(2) في الأصل: «أيا» وهكذا ينكسر الوزن.(1/219)
واللهف، أو شربة لحفظ الصّحة بختجا، ودقّت لإعادة الشّبيبة عفصا ورد سختجا وغطّت الصبح بالليل إذا سجا، ومدّت على ضاحي البياض صلّا سجسجا وردّت سوسن العارض بنفسجا، ولبس بحرها الزّاخر من طحلب البحر منتسجا وأحكام العامّة، ومزين المرأة ينصح ويرشد، ويطوي المحاسن وينشد، حتى حسنت الدّارة، وصحّت الاستدارة، وأعجبه الوجه الجميل، والقدّ الذي يميد في دكّة الدّار ويميل، وأغرى بالسّواك السّميم والتكميل، وولج بين شفرتي سيد الميل، وقيل لو صاح اليمين خاب فيك التّأميل وامتدّ جناح برنس السّرق، واحتفل الغصن الرّطيب في الورق، ورشّ الورد بمائه عند رشح العرق. وتهيّأ لمنطلق، فقرأت عليه نساء أعوانه، وكتبة ديوانه، سورة الفلق من بعد ما وقف الإمليق حجّابه على إقدامهم، وسحبهم جلاوزته من أقوامهم فمثلوا واصطفّوا، وتألّفوا والتفّوا، وداروا وحفّوا، وما تسلّلوا ولا خفوا كأنما أسمعتهم صيحة النّشر، وأخرجوا لأول الحشر، فعيونهم بملتقى المصراع معقودة، وأذهانهم لمكان الهيبة مفقودة، وحبالتهم قبل الطلب بها منقودة فبعد ما فرش الوساد، وارتفع بالنّفاق الكساد، وذارع البكا وتأرّج الحسّاد، واستقام الكون وارتفع الفساد، وراجعت أرواحها الأجساد جاءت السّادة القاضوية فجلست، وتنعّمت الأحداق بالنظر فيها واختلست، وسجّت الأكفّ حتى أفلست وزانت شمسها ذلك الفلك، وجلت الأنوار ذلك الحلك، وفتحت الأبواب وقالت هيت لك ووقفت الأعوان سماطين ومثلوا خطّين، وتشكّلوا مجرّة تنتهي منك إلى البطين، يعلنون بالهديّة ويجهرون، و {لََا يَعْصُونَ اللََّهَ مََا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مََا يُؤْمَرُونَ} (1) من كل شهاب ثاقب وطائف غاسق واقب، وملاحظ مراقب كميش الإزار، بعيد المزار، حامل للأوبار، خصيم مبين، وارث سوفسطائيّا عن رثين، مضطلع بفقه البين وحريمها، فضلا عن تلقين الخصوم وتعليمها، يرأسهم العريف المقرّب، والمقدّم المدرّب، والمشافه المباشر، والنّابح الشاكر، والنّهج العاشر الذي يقتضي خلاص العقد، ويقطع الكالي والنّقد، ويزكّي ويجرّح، ويمسك ويسرّح ويطرح، ويحمل من شاء أو يشرّح، والمسيطر الذي بيده ميزان الرّزق، وجميع أجزاء المفترق، وكافة قابلة، وحم الدّواة الفاغرة، ورشا بلالة الصّدور الواغرة فإذا وقف الخصمان بأقصى مطرح الشعاع، أيّان يجتمع الرّعاع، وأعلنّا النّداء، وطلب الأعداء، وصاحا: جعل الله أنفسنا لك الفداء، ورفع الأمر إلى مقطع الحق، والأولى بالمثوبة الأحق، أخذتهما الأيدي دفعا في القفيّ، ورفعا السّتر اللّطيف الخفيّ، وأمسكا بالحجر والأكمام، ومنعا المباشرة والإلمام فإذا أدلى بحجّته من
__________
(1) سورة التحريم 66، الآية 6.(1/220)
أدلى، وسمعها دينه عدلا، وحقّ القول، واستقرّ الهول، ووجبت اليمين، أو الأداء الذي يفوت له الذخر الثمين، أو الرهن أو الضّمين، أو الاعتقال الذي هو على أحدهما كالأمين نهش الصّل، الذي سليمه لا هل، ولسبت العقارب، التي لا يفلتها الهارب، ولا تخفى منها المشارب وكم تحت ظلام الليل من غرارة يحملها غرّ، وصدّه ريح فيها صرّ ويهدي ارتقاب قلّة شهد، وكبش يجرّ بقرنيه، ويدفع بعد رفع ساقيه ومعزى وجدي وقلائد، وسرب دجاج، ذوات بجاج، يفضحن الطّارق، ويشعثن المفارق، فمتى يستفيق سيدي مع هذا اللّغط العائد بالصّلة، واللهو المتّصلة، وتفرغ يده البيضاء لأعمال ارتياض، وخطّ سواد في بياض، أو حنين لدوح أو رياض أو إمتاع طرف، باكتشاف حرف، أو إعمال عدل لرسول في صرف، أو حشو طرف، بتحفة ظرف شأنه أشدّ استغراقا، ومثواه أكثر طراقا، من ذكرى حبيب ومنزل (1)، وأمّ معدّل وكيف يستخدم القلم الذي يصرف ماء الحبر، بذوب التّبر، في ترّهات عدم جناها وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها اللهمّ إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصّدر، ويشام من خلالها اللّجين الرفيع القدر، أو يحيى للفكاهة والأنس، أو ينفق لديها ذمام على الجنس فربما تقع المخاطبة المبرورة، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة والمرغوب من سيّدنا القاضي أن يذكرنا يوما بالإغفال في نعيمه، ولا يخيّب آمالنا المتعلّقة بأذيال زعيمه، ويسهمنا حظّا من فرائد خطّه، لا من فوايد خطّته، ويجعل لنا كفلا من فضل بريته وحنطته لا من فضل هرّته وقطّته فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه، وعن الطرف المجموعة، بفنون حفظه، وعن قصب السّكر، بقصب أقلامه وعن جنى الرّوم بروامه، وبهديه، عن جديه وبمجاجته، عن دجاجته وبدلجه عن أترجّه وعن البر ببرّه، وعن الحبّ بحبّه ولا نأمل إلّا طلوع بطاقته، وقد رضينا بوسع طاقته وإلّا فلا بدّ أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه، ونوالي عليه ضرايب الكتائب، حتى يتّقي بضريبة كتبه، والسلام».
فراجعني بما نصه: [الطويل]
فنيت عن الإنصاف منّي لأنني ... كما قلت لكم من فراقكم قاض
فمن سمعنا أو من بعينك إنني ... بكلّ الذي ترضاه يا سيدي راض
__________
(1) يشير إلى قول امرئ القيس: [الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل
ديوان امرئ القيس (ص 8).(1/221)
«عمرك الله أيها الإمام الفذّ، ومن بمدحه تطرب الأسماع وتلذّ، أوحد الدنيا وحائز الرّتبة العليا ولولا أنك فوق ما يقال، والزّلّة إن لم تظهر العجز عن وصفك لا تقال، لأطلت في القول، وهدرت هدير قرع الشّول، لكن تحصيل الحاصل محال، ولكلّ في تهيّب كمالك مقال، ومقام وحال ولولا أنّ الدعاء مأمول، وهو يظهر الغيب مقبول، والزيادة من فضل الله لا تنتهي، والنّعم قد توافيك، فوق ما تشتهي، لأريت أن ذلك أمر كفي، وأمر ظهر فيه ما خفي: [البسيط]
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربّي فهو قد فعلا
إيه يا سيدي، ما هذه الكلمات السّحريّة والأنفاس النّفيسة الشّجرية، والألفاظ التي أنالت المرغوب وخالطت بشاشتها القلوب، والنّزعات الرّائقة، والأساليب الفائقة، والفصاحة التي سلبت العقول، والبلاغة التي أوجبت الذّهول والبيان الذي لا يضيق صحيفه، ولا يبلغ أحد مدّه ونصيفه يمينا بما احتوى من المحاسن، واللطائف التي لم يكن ماؤها بالآسن، وقسما ببراعتك التي هي الواسي المطاع، وطرسك الذي أبهجت به الأبصار والأسماع لقد عاد لي بكتابتك عيد الشّوق، وجاد لي بخطابك جدّ التّوق، ولعهدي بنفسي رهن أشجاني، غير محلولة عقدة لساني، أشدّ من الصخرة جلدا، وأغلظ من الإبل كبدا حتى إذا بدت حقيدة القلب وهبّ نسيمه الرّطب، وأفيح مورده العذب، وأضاء بنوره الشّرق والغرب، ولم يبق لي بثّ ولا شجن، ولا شاقني أهل ولا وطن ومضى سيف اللسان بعد النبوّ، ونهض طرف الفكر بعد البكر، وهزّني الطّرب المثير للأفراح، ومشى الجذل في أطرافي وأعطافي مشي الرّاح بيد أني خجلت ولا خجلة ربّة الخدر، وتضاءلت نفسي لجلالة ذلك القدر وقلت ما لي بشربة من كأس بيانه، وقطرة من بحور إحسانه حتى أؤدّي ولو بعض حقّك، وأكتب عقد ملك رقيّ لرقك، إنني على ما وليت من الصّدقة والصّداقة وبعد طلاقك لكني أقوم في حقك مستغفرا، ولا أرضى أن أكون لذمّة المخدوم خفرا على أنني أقول، قد كتبت فلم يردّ جوابي، وجرمت فهاج الجوى بي، ولعمري قد لزمت فيه خطّة الأدب، ولم أر التّثقيل على المولى الرّفيع الرّتب فأما وقد نفقت عندك بضاعتي المزجاة، وشملني من لدنك الحلم والإناة، وشرّفتني بالخطاب الكريم، والرسالة التي عرفت في وجهها نضرة النعيم فما أبغي إلّا إيرادها عليك وكلها خراج، ولبردها في الإجادة إنهاج ولعلّك ترضى التّخريج من مدوّنة الأخبار، والمبسوطة والواضحة، لكن من الأعذار. وأمّا الولاية التي يقنع بسببها من الودّ بالعشر، أو بحبّة من المدّ إلى يوم النّشر، فلا بدّ أن يكون القانع محتاجا للوالي، ومفتقرا إلى التفقّد المتوالي وأما إذا كان القانع هو الذي تولّى الخطّة، وأكسب الهرّ
الذي أشار إليه والقطّة، فهو قياس عكسه كان أقيس، بل تعليم لمن وجد في نفسه خيفة وأوجس وهأنا قد فهمت وعلمت، من حسن تأديبك ما علمت، وعلى ما فرّطت في جنبك ندمت، وإلى المعذرة والحمد لله ألهمت ومع ذلك أعيد حديث الشيخ القاضي، وذكر عهدك به في الزمان الماضي فلقد أجاد في الخضاب بالسّواد، واعتمد على قول المالكي الذي هدى إلى الرّشاد، وأوجبه بعضهم في بلاد الجهاد وبيّن عمر منافع الخضاب الصادقة الإشهاد، وخضب بالسّواد جماعة من الصّحابة الأمجاد وكان ذلك ترخيصا لم يعدّ شرعا، لكنه دفع شرّا وجلب نفعا لا كأخيه الذي أبكى عين الحميم، وأنشد قول الرّضيّ يوم السقيم، وفجع قلوب أترابه، ولم يأت بيت النّصف من بابه وإلّا فقد علم أن في الخير مشروع (1)، وتعجّل الشيء قبل أوانه ممنوع، وستغبط أخاك ولو بعد حين، وما كل صاحب يحمد في إيضاح وتبيين، وإني لأرجو أن تتزوجها بكرا، تلاعبها وتلاعبك، أو ثيّبا تقصر عن حبّها مآربك فلا جرم ترجع إلى الخضاب، وحينئذ تمتّع برشف الرّضاب وإلّا قالت سيدي، لا تعظم المنى، ولا تجعل القطر قبل أن يموت عمر لعمر الله إن هذا الموقف صعب، قد ملأ الروح منه روع ورعب وإن أضاف إلى ذلك غلبة الأوهام، وظن الشيخوخة الصادرة عن نيل المرام، سكن المتحرك المصلوب، وتنغّص عند ذلك المحبوب والله يعينك أيّها المولى، ويواليك من بسطه أضعاف ما ولى. وأما الأوصاف التي حسبتها أوصافي، وأوجبت حكمها بالقياس على خلافي، فهي لعمري أوصاف لا تراد، ومراع لا شكّ أنها تراد غير أني بعيد العهد بهذه البلاد، لا أمت لها إلّا بالانتساب والميلاد، لا كالقضاة الذين ذكرت لهم عهدا، ونظمت حلاهم في جيد الدهر عقدا ولو أنك بسرّك بصّرتني بشروط القضاء وسجايا أهل الصّرامة والمضاء، لحقّقت المناط، وأظهرت الزهد والاغتباط لكني جهلت والآن ألهمت وما علّم الإنسان إلّا ليعلم، والله يهدينا إلى الذي يكون أحسن وأقوم وإني لأعلم(1/222)
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربّي فهو قد فعلا
إيه يا سيدي، ما هذه الكلمات السّحريّة والأنفاس النّفيسة الشّجرية، والألفاظ التي أنالت المرغوب وخالطت بشاشتها القلوب، والنّزعات الرّائقة، والأساليب الفائقة، والفصاحة التي سلبت العقول، والبلاغة التي أوجبت الذّهول والبيان الذي لا يضيق صحيفه، ولا يبلغ أحد مدّه ونصيفه يمينا بما احتوى من المحاسن، واللطائف التي لم يكن ماؤها بالآسن، وقسما ببراعتك التي هي الواسي المطاع، وطرسك الذي أبهجت به الأبصار والأسماع لقد عاد لي بكتابتك عيد الشّوق، وجاد لي بخطابك جدّ التّوق، ولعهدي بنفسي رهن أشجاني، غير محلولة عقدة لساني، أشدّ من الصخرة جلدا، وأغلظ من الإبل كبدا حتى إذا بدت حقيدة القلب وهبّ نسيمه الرّطب، وأفيح مورده العذب، وأضاء بنوره الشّرق والغرب، ولم يبق لي بثّ ولا شجن، ولا شاقني أهل ولا وطن ومضى سيف اللسان بعد النبوّ، ونهض طرف الفكر بعد البكر، وهزّني الطّرب المثير للأفراح، ومشى الجذل في أطرافي وأعطافي مشي الرّاح بيد أني خجلت ولا خجلة ربّة الخدر، وتضاءلت نفسي لجلالة ذلك القدر وقلت ما لي بشربة من كأس بيانه، وقطرة من بحور إحسانه حتى أؤدّي ولو بعض حقّك، وأكتب عقد ملك رقيّ لرقك، إنني على ما وليت من الصّدقة والصّداقة وبعد طلاقك لكني أقوم في حقك مستغفرا، ولا أرضى أن أكون لذمّة المخدوم خفرا على أنني أقول، قد كتبت فلم يردّ جوابي، وجرمت فهاج الجوى بي، ولعمري قد لزمت فيه خطّة الأدب، ولم أر التّثقيل على المولى الرّفيع الرّتب فأما وقد نفقت عندك بضاعتي المزجاة، وشملني من لدنك الحلم والإناة، وشرّفتني بالخطاب الكريم، والرسالة التي عرفت في وجهها نضرة النعيم فما أبغي إلّا إيرادها عليك وكلها خراج، ولبردها في الإجادة إنهاج ولعلّك ترضى التّخريج من مدوّنة الأخبار، والمبسوطة والواضحة، لكن من الأعذار. وأمّا الولاية التي يقنع بسببها من الودّ بالعشر، أو بحبّة من المدّ إلى يوم النّشر، فلا بدّ أن يكون القانع محتاجا للوالي، ومفتقرا إلى التفقّد المتوالي وأما إذا كان القانع هو الذي تولّى الخطّة، وأكسب الهرّ
الذي أشار إليه والقطّة، فهو قياس عكسه كان أقيس، بل تعليم لمن وجد في نفسه خيفة وأوجس وهأنا قد فهمت وعلمت، من حسن تأديبك ما علمت، وعلى ما فرّطت في جنبك ندمت، وإلى المعذرة والحمد لله ألهمت ومع ذلك أعيد حديث الشيخ القاضي، وذكر عهدك به في الزمان الماضي فلقد أجاد في الخضاب بالسّواد، واعتمد على قول المالكي الذي هدى إلى الرّشاد، وأوجبه بعضهم في بلاد الجهاد وبيّن عمر منافع الخضاب الصادقة الإشهاد، وخضب بالسّواد جماعة من الصّحابة الأمجاد وكان ذلك ترخيصا لم يعدّ شرعا، لكنه دفع شرّا وجلب نفعا لا كأخيه الذي أبكى عين الحميم، وأنشد قول الرّضيّ يوم السقيم، وفجع قلوب أترابه، ولم يأت بيت النّصف من بابه وإلّا فقد علم أن في الخير مشروع (1)، وتعجّل الشيء قبل أوانه ممنوع، وستغبط أخاك ولو بعد حين، وما كل صاحب يحمد في إيضاح وتبيين، وإني لأرجو أن تتزوجها بكرا، تلاعبها وتلاعبك، أو ثيّبا تقصر عن حبّها مآربك فلا جرم ترجع إلى الخضاب، وحينئذ تمتّع برشف الرّضاب وإلّا قالت سيدي، لا تعظم المنى، ولا تجعل القطر قبل أن يموت عمر لعمر الله إن هذا الموقف صعب، قد ملأ الروح منه روع ورعب وإن أضاف إلى ذلك غلبة الأوهام، وظن الشيخوخة الصادرة عن نيل المرام، سكن المتحرك المصلوب، وتنغّص عند ذلك المحبوب والله يعينك أيّها المولى، ويواليك من بسطه أضعاف ما ولى. وأما الأوصاف التي حسبتها أوصافي، وأوجبت حكمها بالقياس على خلافي، فهي لعمري أوصاف لا تراد، ومراع لا شكّ أنها تراد غير أني بعيد العهد بهذه البلاد، لا أمت لها إلّا بالانتساب والميلاد، لا كالقضاة الذين ذكرت لهم عهدا، ونظمت حلاهم في جيد الدهر عقدا ولو أنك بسرّك بصّرتني بشروط القضاء وسجايا أهل الصّرامة والمضاء، لحقّقت المناط، وأظهرت الزهد والاغتباط لكني جهلت والآن ألهمت وما علّم الإنسان إلّا ليعلم، والله يهدينا إلى الذي يكون أحسن وأقوم وإني لأعلم
سيدي بخبري، وأطلع جلاله على عجري (2) وبجري ولكني رحلت عن تلك الحضرة، وعدمت النّظرة في تلك النّظرة لبست الإهمال، واطّلعت في السفر والاعتمال، فأقيم بادي الكآبة، مهتاج الصّبابة، قد فارقت السّكن، وخلفت الدار مثيرة الشّجن:
[الوافر]
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار
__________
(1) تقتضي قواعد الإعراب أن تنصب لأنها اسم إنّ.
(2) العجر: العيوب. والبجر: الأحزان. لسان العرب (عجر) و (بجر).(1/223)
حتى إذا حططت رحلي بالقرى، وقنعت بالزّاد الذي كفى معيارا والقرى أدخلت إلى دار ضيقة المسالك، شديدة الظّلمة كالليل الحالك، تذكّرني القبر وأهواله وتنسيني الذي أهواه، بل تزيد على القبر برفل لا يتخلّص، وبراغيث كزريعة الكتّان حين تمحّص وبعوض يطيل اللهز (1)، ولا تغنّي حتى تشرب، وبوق يسقط سقوط النّدى، ويزحف إلى فراشي زحف العدا وأراقم خارجة من الكوى، وحيّات بلدغها نزّاعة للشّوى وجنون يسمع عزيفها، وسرّاق لا يعدم تخويفها هذا ولا قرق لمن بالقهر حبس، إلّا حصير قد اسودّ من طول ما لبس لا يجتزى في طهارته بالنّضح، ولا يحشد من جلس عليه إلّا بالجرح حتى إذا سجا الليل، وامتدّ منه على الآفاق الذيل، فارقني العون فراق الكرى، ورأيت الدمع لما جرى قد جرى فأتوسّد والله ذراعي، ولأحمد والله اضطجاعي فكلا ليليّ محمومين (2)، والوجع والسّهر محمولان على الرأس والعين حتى إذا طلع الصبح، وآن لبالي وعيون الخصوم الفتح، أتاني عون قد انحنى ظهره ظهره، ونيّف عن المائة عمره، لا يشعر بالجون الصّيّب، ولا تسمعه كلمات أبي الطيّب بربري الأصل، غير عارف بالفصل حتى إذا أذنت للخصوم، وأردت إحياء الرسوم، دخل عليّ غولان عاقلان، وأثقل كتفي منهما مائلان، قد أكلا الثّوم النّيء والبصل، وعرقا في الزّنانير عرقا اتّصل، يهديان إليّ تلك الروائح، ويظهران لي المخازي والفضائح فإذا حكمت لأحدهما على خصمه، وأردت الفصل الذي لا مطمع في فصمه هرب العون هربا، وقضى من النجاة بنفسه أربا واجتمع إلى النصحاء، وجاء المرضى والأصحّاء، كلّ يقول أتريد تعجيل المنايا، وإثكال الولايا، وإتعاب صديقك السّيد العماد، بمرتبة كما فعل مع القاضي الحدّاد فأقول هذا جهاد، وما لي في الحياة مراد، فأرتكب الخطر، وأقضي في الحكم الوطر، والله يسلّم، ويكمل اللطف ويتمّم. وأما إذا جاء أحدكم لكتب عقد، وطمعت في نسيئة أو نقد، قطعت يومي في تفهّم مقصده، مستعيذا بالله من غضبه وحرده حتى إذا ما تخلّصت منه، وملأت السّجل بما أثبته عنه، كشف عن أنياب عضل، وعبس عبوس المحب لانقطاع وصل وقال: لقد أخطأت فيما كتبت، ورسمت ما أردت وأحببت فأكتب عقدا ثانيا وثالثا، وأرتقب مع كل كلام حادث حادثا فإذا رضي، فأسأله كيف وسنّ السّالي الذي أظهره، أو اسمه أو السيف، أخرج من فمه درهما نتنا، قد لزم ضرسا عفنا فأعاجله في البخور، وأحكّه في الصّخور، حتى إذا حمل لمن يبيع
__________
(1) اللهز: الطّعن، يقال: لهزه بالرمح إذا طعنه في صدره. لسان العرب (لهز).
(2) تقتضي قواعد الإعراب أن ترفع هكذا: «محمومان».(1/224)
خبز الذّرة منتنا، ويرى أنه قد فضل بذلك أنسا وحسنا، وجده ناقصا زائفا، فيرجع حامله وجلا خائفا، ويبقى القاضي فقيد الهجوع، يشدّ الحجر على بطنه من الجوع، على أنني أحمد خلاء البطن، وما بجسمي لا يحكى من الوهن لتعذّر المرحاض، وبعد ماء الحياض، وكمون السّباع في الغياض، وتعلّق الأفاعي بالرّداء الفضفاض، ونجاسة الحجارة، وكثرة تردّد السّيارة، والانكشاف للريح العقيم، والمطر المنصبّ إلى الموضع الذميم. هذه الحال، وعلى شرحها مجال، وقد صدقتك سنن فكري، وأعلمتك بذات صدري، فتجلّى الغرارة غرور، وشهود الشّهد زور، والطّمع في الصّرّة إصرار، ودون التّبر يعلم الله تيّار. وأما الكبش، فحظّي منه غباره إذا خطر، والثّور بقرنه إذا العيد حضر، كما أن حظّي من الجدي التأذّي بمسلكه، وإنّ جدي السماء لأقرب لي من تملّكه، وأنا من الحلاوة سالم ابن حلاوة، ولا أعهد من طرف الطرف الدّماوة، ودون الدّجاج كل مدجّج، وعوض الأترجّ رجّة بكل معرج، ولو عرفت أنك تقبل على علّاتها الهدايا، وتوجب المزيد لأصحابك المزايا، لبعثت بالقماش، وأنفذت الرّياش، وأظهرت الغنى، والوقوف بمبنى المنى، وأوردتها عليك من غير هلع، مطّلعة في الجوف بعد بلع، من كل ساحليّة تقرّب إلى البحر، وعدوية لا تعدّ وصدر مجلس الصّدر، حتى أجمع بين الفاكهة والفكاهة، ويبدو لي بعد الشقف وجوه الوجاهة، وأتبرأ من الصّدّ المذموم، ولا أكون أهدأ من القطا لطرق اللّوم لأنك زهدت في الدنيا زهد ابن أدهم، وألهمك الله من ذلك أكرم ما ألهم فيدك من أموال الناس مقبوضة، وأحاديث اللها الفاتحة للها مرفوضة وإذا كان المرء على دين خليله، ومن شأنه سلوك نهجه وسبيله، فالأليق أن أزهد في الصّفراء والبيضاء، وأقابل زخرف الدنيا بالبغضاء، وأحقّق وأرجو على يدك حسن التخلّي، والاطّلاع على أسرار التّجلّي حتى أسعد بك في آخرتي ودنياي، وأجد بركة خاطرك في مماتي ومحياي أبقاك الله بقاء يسر، وأمتع بمناقبك التي يحسدها الياقوت والدّر، ولا زلت في سيادة تروق نعتا، وسعادة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وأقرأ عليك سلاما عاطر العرف، كريم التأكيد والعطف، ما رثى لحالي راث، وذكرت أدّاية حراث، ورحمة الله وبركاته. وكتبه أخوك ومملوكك، وشيعة مجدك، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى عام أربعة وستين وسبعمائة».
مولده: بغرناطة عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
محنته: توجّه رسولا عن السلطان إلى صاحب تلمسان السلطان أحمد بن موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان، وظفر بالجفن الذي ركبه العدو، بأحواز جزيرة حبيبة، من جهة وهران، فأسر هو ومن بأسطول
سفره من المسلمين وبلغ الخبر فعظم الفجع وبينا (1) نحن نروم سفر أسطول يأخذ الثار، ويستقري الآثار، فيقيل العثار إذ (2) اتّصل الخبر بمهادنة السلطان المذكور، ففدي من أسر بذلك المال الذي ينيف على سبعة آلاف من العين في ذلك فتخلّص من المحنة لأيام قلائل، وعاد فتولّى السلطان إرضاءه عمّا فقد، وضاعف له الاستغناء وجدّد وكان حديثه من أحاديث الفرج بعد الشدّة محسوبا، وإلى سعادة السلطان منسوبا. وأنشدته شعرا في مصابه، بعدها، وقد قضيت له من برّ السلطان على عادتي، ما جبر الكسر، وخفض الأمر: [المتقارب](1/225)
محنته: توجّه رسولا عن السلطان إلى صاحب تلمسان السلطان أحمد بن موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان، وظفر بالجفن الذي ركبه العدو، بأحواز جزيرة حبيبة، من جهة وهران، فأسر هو ومن بأسطول
سفره من المسلمين وبلغ الخبر فعظم الفجع وبينا (1) نحن نروم سفر أسطول يأخذ الثار، ويستقري الآثار، فيقيل العثار إذ (2) اتّصل الخبر بمهادنة السلطان المذكور، ففدي من أسر بذلك المال الذي ينيف على سبعة آلاف من العين في ذلك فتخلّص من المحنة لأيام قلائل، وعاد فتولّى السلطان إرضاءه عمّا فقد، وضاعف له الاستغناء وجدّد وكان حديثه من أحاديث الفرج بعد الشدّة محسوبا، وإلى سعادة السلطان منسوبا. وأنشدته شعرا في مصابه، بعدها، وقد قضيت له من برّ السلطان على عادتي، ما جبر الكسر، وخفض الأمر: [المتقارب]
خلصت كما خلص الزّبرقان ... وقد محق النّور عنه السّرار (3)
وفي السّيّق والرار ... في هذا سرّ وفي ذا أسرار (4)
وكان تاريخ هذه المحنة المردفة المنحة، حسبما نقلته من خطّه قال: «اعلموا يا سيدي أبقاكم الله تعالى، أنّ سفرنا من ألمريّة، كان في يوم الخميس السادس لشهر ربيع الآخر من عام ثمانية وستين وسبعمائة، وتغلّب علينا العدو في عشيّة يوم الجمعة الثاني منه، بعد قتال شديد وكان خروجنا من الأسر في يوم السبت الثاني والعشرين لربيع الثاني المذكور، وكان وصولي إلى الأندلس في أسطول مولانا نصره الله، في جمادى الآخرة من العام المذكور، بعد أن وصلوا قرطاجنّة وأخذوا أجفانا ثلاثة من أجفان العدوّ، وعمل المسلمون الأعمال الكريمة».
إبراهيم بن خلف بن محمد بن الحبيب بن عبد الله بن عمر ابن فرقد القرشي العامري (5)
قال ابن عبد الملك: كذا وقفت على نسبه بخطّه في غير ما موضع من أهل مورة (6)، وسكن إشبيلية.
حاله: كان متفنّنا في معارفه، محدّثا، راوية، عدلا، فقيها، حافظا، شاعرا، كاتبا، بارعا، حسن الأخلاق، وطئ الأكناف، جميل المشاركة لإخوانه وأصحابه، كتب بخطه الكثير من كبار الدّواوين وصغارها، وكان من أصحّ الناس كتبا، وأتقنهم
__________
(1) في الأصل: «وبين».
(2) في الأصل: «إذا».
(3) في الأصل: «السّرا».
(4) البيت منكسر الوزن، ولا معنى له، وخصوصا صدره.
(5) ترجمة إبراهيم بن خلف العامري في التكملة (ج 1ص 131).
(6) مورة، بالإسبانية: حصن بالأندلس من أعمال طليطلة. معجم البلدان (ج 5ص 221).(1/226)
ضبطا وتقييدا، لا تكاد تلقى فيما تولّى تصحيحه خللا، وكان رؤوفا شديد الحنان على الضعفاء والمساكين واليتامى، صليبا في ذات الله تعالى، يعقد الشروط محتسبا، لا يقبل ثوابا عليها إلّا من الله تعالى.
مشيخته: تلا بالسّبع على أبي عمران موسى بن حبيب، وحدّث عن أبي الحسن بن سليمان بن عبد الرحمن المقرئ، وعبد الرحمن بن بقّي، وأبي عمرو ميمون بن ياسين، وأبي محمد بن عتّاب، وتفقّه بأبويّ عبد الله بن أحمد بن الحاجّ، وابن حميد، وأبي الوليد بن رشد، وأجاز له أبو الأصبغ بن مناصف، وأبو بكر بن قزمان، وأبو الوليد بن طريف.
من روى عنه: روى عنه أبو جعفر، وأبو إسحاق بن علي المزدالي، وأبو أمية إسماعيل بن سعد السعود بن عفير، وأبو بكر بن حكم الشّرمسي، وابن خير، وابن تسع، وابن عبد العزيز الصدفي، وأبو الحجاج إبراهيم بن يعقوب، وأبو علي بن وزير، وأبو الحسن بن أحمد بن خالص، وأبو زيد محمد الأنصاري، وأبو عبد الله بن عبد العزيز الذّهبي، وأبو العباس بن سلمة، وأبو القاسم بن محمد بن إبراهيم المراعي، وأبو محمد بن أحمد بن جمهور، وعبد الله بن أحمد الأطلس.
تواليفه: دوّن برنامجا ممتعا ذكر فيه شيوخه، وكيفيّة أخذه عنهم، وله رجز في الفرائض مشهور، ومنظوم كثير، وترسّل منوّع، وخطب مختلفة المقاصد، ومجموع في العروض.
دخوله غرناطة: قال المؤرّخ: وفي عام أربعة وخمسين وخمسمائة، عند تغيّب الخليفة (1) بالمهديّة، استدعى السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة، عند استقراره بها، الحافظ أبا بكر بن الجدّ، والحافظ أبا بكر بن حبيش، والكاتب أبا القاسم بن المراعي، والكاتب أبا إسحاق بن فرقد، وهو هذا المترجم به، فأقاموا معه مدّة تقرب من عامين اثنين بها.
شعره: مما ينقل عنه قصيدة شهيرة في رثاء الأندلس: [المتقارب]
ألا مسعد منجز ذو فطن ... يبكي بدمع معين هتن
جزيرة أندلس حسرة ... لا غالب من حقود الزّمن
ويندب أطلالها آسفا ... ويرثي من الشّعر ما قد وهن
__________
(1) هو الخليفة عبد المؤمن بن علي الموحدي الذي حكم الأندلس والمغرب حتى سنة 558هـ.
راجع البيان المغرب قسم الموحدين (ص 79).(1/227)
ويبكي الأيامى ويبكي اليتامى ... ويحكي الحمام ذوات الشّجن
ويشكو إلى الله شكوى شج ... ويدعوه في السّرّ ثم العلن
وكانت رباطا لأهل التّقى ... فعادت مناطا لأهل الوثن
وكانت معاذا لأهل التّقى ... فصارت ملاذا لمن لم يدن
وكانت شجى في حلوق العدا ... فأضحى لهم مالها محتجن
وهي طويلة، ولديّ خلاف فيمن أفرط في استحسانها. وشعره عندي وسط.
ومن شعره وهو حجّة في عمره عند الخلاف في ميلاده ووفاته، قال: [الطويل]
ثمانون (1) مع ستّ عمرت وليتني ... أرقت دموعي بالبكاء على ذنب
فلا الدّمع في محو الخطيئة غنية ... إذا هاج من قلب منيب إلى الرّبّ
فيا سامع الأصوات رحماك أرتجي ... فهب (2) إنسكاب الدّمع من رقّة القلب
وزكّ الذي تدريه من شيمة ... تعلّق بالمظلوم من شدّة الكرب
وزكّ مثابي في العقود وكتبها ... لوجهك لم أقبل ثوابا على كتب
ولا تحرمني أجر ما كنت فاعلا ... فحقّ اليتامى عندي من لذي صعب
ولا تخزني يوم الحساب وهو له ... إذا جئت مذعورا من الهول والرّعب
مولده: حسبما نقل من خط ابنه أبي جعفر، ولد، يعني أباه سنة أربع وثمانين وأربعمائة (3).
وفاته: بعد صلاة المغرب من ليلة الثلاثاء الثامن عشر من محرم عام اثنين وسبعين وخمسمائة. ونقل غير ذلك.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيدس بن محمود النفزي
أبّذي (4) الأصل، غرناطي الاستقرار، ويكنى أبا إسحاق.
حاله: خاتمة الرّحّال بالأندلس، وشيخ المجاهدات وأرباب المعاملات، صادق الأحوال، شريف المقامات، مأثور الإخلاص مشهور الكرامات، أصبر الناس على
__________
(1) في الأصل: «ثمانون عاما مع ست» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «فهب لي انسكاب» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) في التكملة (ج 1ص 132): «ومولده بعد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة».
(4) نسبة إلى أبّذة، وهي مدينة صغيرة بالأندلس على مقربة من النهر الكبير، وهي بالإسبانية:
. الروض المعطار (ص 6).(1/228)
مجاهداته، وأدومهم على عمل وذكر وصلاة وصوم، لا يفتر عن ذلك ولا ينام، آية الله في الإيثار، لا يدّخر شيئا لغد، ولا يتحرّف بشيء، وكان فقيها حافظا، ذاكرا للغة والأدب، نحويّا ماهرا، درس ذلك كلّه أول أمره، كريم الأخلاق، غلب عليه التصوّف فشهر به، وبمعرفة طريقه الذي ندّ فيها أهل زمانه، وصنّف فيها التصانيف المفيدة.
ترتيب زمانه: كان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين، فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه، وييسّر من تفسير، وحديث وعظة، إلى طلوع الشمس فيتنفّل صلاة الضّحى، وينفصل إلى منزله، ويأخذ في أوراده، من قراءة القرآن والذّكر والصلاة إلى صلاة الظهر، فيبكّر فى رواحه، ويوالي التنفّل إلى إقامة الصلاة، ثم كذلك في كل صلاة، ويصل ما بين العشاءين بالتنفّل، هذا دأبه أبدا.
وكان أمره في التوكّل عجبا، لا يلوي على سبب، وكانت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء، فيدفع ذلك بجملته، وربما كان الطعام بين يديه، وهو محتاج، فيعرض من يسأله، فيدفعه جملة، ويبقى طاويا، فكان الضعفاء والمساكين له لياذا ينسلون من كل حدب، فلا يردّ أحدا منهم خائبا، ونفع الله بخدمته وصحبته، واستخرج بين يديه عالما كثيرا.
مشيخته: أخذ القراءة عن أبي عبد الله الحضرمي، وأبي الكوم جودي بن عبد الرحمن، والحديث عن أبي الحسن بن عمر الوادي آشي، وأبي محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله، والنحو واللغة عن ابن يربوع وغيره. ورحل وحجّ، وجاور وتكرّر. ولقي هناك غير واحد، من صدور العلماء وأكابر الصوفية، فأخذ صحيح البخاري سماعا منه سنة خمس وستمائة عن الشّريف أبي محمد بن يونس، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن المغرباني، ونصر بن أبي الفرج الحضرمي، وسنن أبي داود وجامع التّرمذي على أبي الحسن بن أبي المكارم نصر بن أبي المكارم البغدادي، أحد السامعين على أبي الفتح الكروخي، وأبي عبد الله محمد بن مستري الحمة، وأبي المعالي بن وهب بن البنا، وببجاية عن أبي الحسن علي بن عمر بن عطيّة.
من روى عنه: روى عنه خلق لا يحصون كثرة منهم أحمد بن عبد المجيد بن هذيل الغسّاني، وأبو جعفر بن الزبير، وغيره.
تواليفه: صنّف في طريقة التصوّف وغيرها تصانيف مفيدة منها «مواهب العقول وحقائق المعقول»، و «الغيرة المذهلة، عن الحيرة والتّفرقة والجمع»، و «الرحلة العنوية»، ومنها «الرسائل في الفقه والمسائل»، وغير ذلك.(1/229)
شعره: له أشعار في التصوّف بارعة، فمن ذلك ما نقلته من خط الكاتب أبي إسحاق بن زكريا في مجموع جمع فيه الكثير من القول: [الوافر]
يضيق عليّ من وجدي الفضاء ... ويقلقني من الناس العناء
وأرض الله واسعة ولكن ... أبت نفسي تحيط بها السماء
رأينا العرش والكرسيّ أعلى ... فواليناهما حرم الولاء (1)
فأين الأين منّا أو زمان ... بحيث لنا على الكلّ استواء
شهدنا للإله بكلّ حكم ... فغاب القلب وانكشف الغطاء
ويدعوني الإله إليه حقّا ... فيؤنسني من الخوف الرّجاء
ويقبضني ويبسطني ويقضي ... بتفريقي وجمعي ما يشاء
ويعي في وجود الخلق نحوا ... ينعت من تولّاه الفناء
فكم أخفي وجودي وقت فقدي ... كأن الفقد والإحيا سواء
فسكر ثم صحو ثم سكر ... كذاك الدهر ليس له انقضاء
فوصفي حال من وصفي ولكن ... ظهور الحقّ ليس له خفاء
إذا شمس النهار بدت تولّت ... نجوم الليل ليس لها انجلاء
ومن شعره: [البسيط]
كم عارف سرحت في العلم همّته ... فعقله لحجاب العقل هتّاك
كساه نور الهدى بردا وقلّده ... درّا ففي قلبه للعلم أسلاك
كسب ابن آدم في التحقيق كسوته ... إنّ القلوب لأنوار وأحلاك
كلّف فؤادك ما يبدي عجائبه ... إنّ ابن آدم للأسرار درّاك
كيف وكم ومتى والأين منسلب ... عن وصف باريها والجهل تبّاك
كبّر وقدّس ونزّه ما أطقت فلم ... يصل إلى ملك الأملاك أملاك
كرسيه ذلّ والعرش استكان له ... ونزه الله أملاك وأفلاك
كلّ يقرّ بأنّ العجز قيّده ... والعجز عن درك الإدراك درّاك
وقال: وهو ما اشتهر عنه، وأنشدها بعض المشارقة في رحلته في غرض اقتضى ذلك، يقتضي ذكره طولا: [البسيط]
يا من أنامله كالمزن هامية ... وجود كفّيه أجرى من يجاريها
__________
(1) هنا اختلفت حركة الروي، فجاءت مكسورة، وهذا ما نسمّيه بالإقواء.(1/230)
بحقّ من خلق الإنسان من علق ... انظر إلى رقعتي وافهم معانيها
أني فقير ومسكين بلا سبب ... سوى حروف من القرآن أتلوها
سفينة الفقر في بحر الرّجا غرقت ... فامنن عليها بريح منك يجريها
لا يعرف الشوق إلّا من يكابده ... ولا الصّبابة إلّا من يعانيها
وقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وقد ذكره: على الجملة فبه ختم جلّة أهل هذا الشأن بصقع الأندلس، نفعه الله ونفع به.
مولده: ولد بجيّان سنة اثنتين وستين وخمسمائة أو ثلاث وستين.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التّسوليّ (1)
من أهل تازيّ، يكنى أبا سالم، ويعرف بابن أبي يحيى.
حاله: من أهل «الكتاب المؤتمن» (2): كان (3) هذا الرجل قيّما على «التّهذيب»، و «رسالة ابن أبي زيد»، حسن الإقراء لهما وله عليهما تقييدان نبيلان، قيّدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصّغير، حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس، ولم أر في متصدّري بلده أحسن تدريبا (4) منه. كان فصيح اللسان، سهل الألفاظ، موفيا حقوقها، وذلك لمشاركته الحضر فيما في أيديهم (5) من الأدوات وكان مجلسه وقفا على «التهذيب» و «الرسالة» وكان مع ذلك شيخا (6) فاضلا، حسن اللقاء، على خلق بائنة من (7) أخلاق أهل مصره. امتحن بصحبة السلطان، فصار يستعمله في الرسائل، فمرّ في ذلك حظّ كبير من عمره ضائعا، لا في راحة دنيا، ولا في نصيب (8) آخرة. ثم قال: هذه (9) سنّة الله فيمن خدم الملوك، ملتفتا إلى ما يعطونه، لا إلى ما يأخذون من عمره وراحته، أن يبوؤا (10) بالصّفقة الخاسرة، لطف الله بمن ابتلي بذلك، وخلّصنا خلاصا جميلا.
__________
(1) ترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن التسولي في تاريخ قضاة الأندلس (ص 172)، ونفح الطيب (ج 7ص 362)، وأزهار الرياض (ج 5ص 57) وكنيته فيه: «أبو إسحاق».
(2) عنوان هذا الكتاب هو: «الكتاب المؤتمن في أنباء أبناء الزمن» وهو من تأليف ابن الحاج البلفيقي، شيخ لسان الدين ابن الخطيب.
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 363362).
(4) في النفح: «تدريسا».
(5) في النفح: «بأيديهم».
(6) في النفح: «سمحا».
(7) في النفح: «على».
(8) في النفح: «نصب».
(9) في النفح: «وهذه».
(10) في النفح: «يبوء».(1/231)
ومن كتاب «عائد الصلة» (1): الشيخ، الحافظ، الفقيه، القاضي، من صدور المغرب، مشاركا (2) في العلم، متبحّرا (3) في الفقه، كان وجيها عند الملوك، صحبهم، وحضر مجالسهم، واستعمل في السفارة، فلقيناه بغرناطة، وأخذنا بها عنه تامّ السّراوة (4)، حسن العهد، مليح المجالس، أنيق المحاضرة، كريم الطبع، صحيح المذهب.
تصانيفه: قيّد (5) على «المدوّنة» بمجلس شيخه القاضي (6) أبي الحسن كتابا مفيدا وضمّ أجوبته على المسائل في سفر، وشرح كتاب «الرسالة» شرحا عظيم الفائدة.
مشيخته: لازم (7) أبا الحسن الصغير، وهو كان قارىء كتب الفقه عليه، وجلّ انتفاعه في التفقّه به. وروى عن أبي زكريا بن أبي ياسين (8)، قرأ عليه كتاب «الموطّأ»، إلّا كتاب «المكاتب»، وكتاب «المدبّر»، فإنه سمعه بقراءة الغير، وعن أبي عبد الله بن رشيد، قرأ عليه «الموطأ»، و «شفاء» عياض، وعن أبي الحسن بن عبد الجليل السّداري (9)، قرأ عليه «الأحكام الصغرى» لعبد الحق، وأبي الحسن بن سليمان، قرأ عليه «رسالة ابن أبي زيد»، وعن غيرهم.
وفاته: فلج بآخرة، فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان فمن (10) دونه، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة (11).
إبراهيم بن محمد بن علي بن محمد ابن أبي العاصي التّنوخي (12)
أصله من جزيرة طريف، ونشأ بغرناطة واشتهر.
__________
(1) النص أيضا في نفح الطيب (ج 7ص 363).
(2) في النفح: «مشاركة».
(3) في النفح: «وتبحّرا».
(4) السراوة: السخاء في مروءة. لسان العرب (سرا).
(5) النص أيضا في نفح الطيب (ج 7ص 363).
(6) كلمة «القاضي» غير واردة في النفح.
(7) النص في نفح الطيب (ج 7ص 364363).
(8) في النفح: «زكريا بن يس».
(9) في النفح: «السدراتي».
(10) في النفح: «ومن».
(11) في تاريخ قضاة الأندلس: توفي في حدود 749هـ.
(12) ترجمة إبراهيم التنوخي في الكتيبة الكامنة (ص 32)، وبغية الوعاة (ص 185) وجاء في بغية الوعاة أنه ولد في حدود سنة سبع وسبعين وستمائة، وتوفي سنة 726هـ.(1/232)
حاله: من «عائد الصلة»: كان نسيج وحده حياء، وصدقة، وتخلّقا، ومشاركة، وإيثارا. رحل عند استيلاء العدو على جزيرة طريف، عام أحد وسبعين وستمائة، متحوّلا إلى مدينة سبتة، فقرأ بها واستفاد. وورد الأندلس، فاستوطن مدينة غرناطة، وكتب في الجملة عن سلطانها، وترقى معارج الرّتب، حالّا محالا، من غير اختلاف على فضله، ولا نزاع في استحقاقه، وأقرأ فنونا من العلم، بعد مهلك أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، بإشارة منه به وولّي الخطابة والإمامة بجامعها منتصف صفر عام ستة عشر وسبعمائة، وجمع بين القراءة والتدريس، فكان مقرئا للقرآن، مبرّزا في تجويده، مدرّسا للعربية والفقه، آخذا في الأدب، متكلّما في التفسير، ظريف الخط، ثبتا محققا لما ينقله. وألقى الله عليه من المحبة والقبول، وتعظيم الخلق له، ما لا عهد بمثله لأحد بلغ من ذلك مبلغا عظيما، حتى كان أحبّ إلى الجمهور من أوصل أهلهم وآبائهم، يتزاحمون عليه في طريقه، يتمسّحون به، ويسعون بين يديه، ومن خلفه، ويتزاحم مساكينهم على بابه، قد عوّدهم طلاقة وجهه، ومواساته لهم بقوته، يفرّقه عليهم متى وجدوه، وربما أعجلوه قبل استواء خبزه، فيفرّقه عليهم عجينا، له في ذلك أخبار غريبة. وكان صادعا بالحق، غيورا على الدين، مخالفا لأهل البدع، ملازما للسّنّة، كثير الخشوع والتخلّق على علوّ الهمّة، مبذول المشاركة للناس والجدّ في حاجاتهم، مبتليا (1) بوسواس في وضوئه، يتحمل الناس من أجله مضضا في تأخير الصلوات ومضايقة أوقاتها.
مشيخته: قرأ ببلده على الخطيب القاضي المقرئ أبي الحسن عبيد الله بن عبد العزيز القرشي، المعروف بابن القارئ، من أهل إشبيلية، وقرأ بسبتة على الأستاذ إمام المقرئين لكتاب الله، أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن الطيّب بن زرقون القيسي الضرير، نزيل سبتة، والأستاذ أبي إسحاق الغافقي المريوني، وقرأ على الشيخ الوزير أبي الحكم بن منظور القيسي الإشبيلي، وعلى الشيخ الراوية الحاج أبي عبد الله محمد بن الكتامي التلمساني بن الخضّار، وقرأ بغرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وأخذ عن أبي الحسن بن مستقور.
شعره: كان يقرض شعرا وسطا، قريبا من الانحطاط. قال شيخنا أبو بكر بن الحكيم (2) في كتابه المسمّى ب «الفوائد المنتخبة، والموارد المستعذبة»: كتب إليه
__________
(1) في الأصل: «مبتلي»، وقد صوّبناه لأن قواعد اللغة تقتضي النصب، كونه خبر كان.
(2) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن الحكيم اللخمي، وسيترجم له ابن الخطيب بإفاضة في الجزء الثاني من كتاب الإحاطة.(1/233)
شيخنا وبركتنا أبو جعفر بن الزيّات في شأن شخص من أهل البيت النبوي بما نصّه:
[الخفيف]
رجل يدّعي القرابة للبي ... ت وإنّ الثريّا منه بمعزل
سال (1) مني خطابكم وهو هذا ... ولكم في القلوب أرفع منزل
فهبوه دعاءكم وامنحوني ... منه حظّا ينمي الثواب ويجزل
وعليكم تحيّة الله مادا ... م أمير الهدى يولّي ويعزل
فأجابه: [الخفيف]
يا إمامي ومن به قطركم ذا ... ك وحادي البلاد أطيب منزل
لم أضع ما نظمتم من يدي حتى ... أنيل الشّريف تحفة منزل
وحباه بكلّ منح جزيل ... من غدا يمنح الثّواب ويجزل
دمتم تنشرون علما ثواب الله فيه لكم أعزّ وأجزل تذكرون الله ذكرا كثيرا ... وعليكم سكينة الله تنزل
وطلبتم منّي الدّعاء وإنّي ... عند نفسي من الشروط بمعزل
لكن ادعو ولتدع لي برضا الله وأبدى فهم ذكر قد أنزل وحديث الرسول صلّى عليه ... كل وقت وربّ لنا الغيث ينزل
وعليكم تحيّتي كل حين ... ما اطمأنّت بمكة أمّ معزل
قال: ومما أنشدني من نظمه أيضا في معرض الوصيّة للطلبة (2): [الكامل]
اعمل بعلمك تؤت علما إنما ... عدوى علوم المرء منح الأقوم (3)
وإذا الفتى قد نال علما ثم لم ... يعمل به فكأنما (4) لم يعلم
__________
(1) في الأصل: «سأل» وكذا ينكسر الوزن.
(2) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 33)، وبغية الوعاة (ص 186).
(3) في الكتيبة الكامنة: «تؤت حكما إنما جدوى نهج الأقوم». وفي بغية الوعاة: «
تؤت حكمة إنما جدوى نهج الأقوم».
(4) في الكتيبة والبغية: «فكأنه».(1/234)
وقال موطئا على البيت الأخير (1): [المتقارب]
أمولاي أنت الغفور الكريم ... لبذل النّوال مع المعذره (2)
عليّ ذنوب وتصحيفها ... ومن عندك الجود والمغفره
إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد ابن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي (3)
أمير المؤمنين (4) بالأندلس، رحمه الله.
أوّليّته: تقرّر عند ذكر الملوك من قومه في اسم صنو جدّه، أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله.
حاله: من كتاب «طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر» من تصنيفنا (5):
«كان، رحمه الله، حسن (6) الخلق، جميل (7) الرّواء، رجل جدّ، سليم الصدر، كثير الحياء، صحيح العقل (8)، ثبتا في المواقف، عفيف الإزار، ناشئا في حجر الطهارة، بعيدا عن (9) الصّبوة، بريئا من المعاقرة. نشأ مشتغلا بشأنه، متبنّكا (10) نعمة أبيه، مختصّا بإيثار السلطان جدّه أبي أمّه، وابن عمّ والده، منقطعا إلى الصّيد، مصروف (11) اللّذّة إلى استجادة سلاحه، وانتقاء مراكبه، واستفراه جوارحه، إلى أن أفضى إليه الأمر، وساعدته الأيام، وخدمه الجدّ، وتنقّل (12) إلى بيته الملك به، وثوى في عقبه الذّكر، فبذل العدل في رعيّته، واقتصد في جبايته، واجتهد في مدافعة
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 33). وقوله: «وقال موطئا على البيت الأخير» جاء في الكتيبة الكامنة بعد هذين البيتين مباشرة: [مخلع البسيط]
دنياك مهما اعتبرت فيها ... كجيفة عرضة انتهاب
إن شئتها فاحتمل أذاها ... واصبر عليها مع الكلاب
(2) في الكتيبة الكامنة: «أنت الكريم العفو وللمعذره».
(3) ترجمة إسماعيل بن فرج في اللمحة البدرية (ص 78).
(4) في اللمحة البدرية (ص 78): «أمير المسلمين». وهو اللقب الصحيح لسلاطين بني نصر.
(5) النص في اللمحة البدرية (ص 78).
(6) في اللمحة البدرية: «جميل».
(7) في اللمحة البدرية: «حسن».
(8) في اللمحة البدرية: «العقد».
(9) في اللمحة البدرية: «من».
(10) تبنّك بالمكان: أقام به وتأهل، وتبنّك في عزّه: تمكّن.
(11) في الأصل: «معروف» والتصويب من اللمحة البدرية.
(12) في اللمحة: «وانتقل به إلى بيت الملك وثوى».(1/235)
عدو الله (1)، وسدّ ثلم ثغوره (2)، فكان غرّة في قومه، ودرّة في بيته، وحسنة من حسنات دهره. وسيرد نبذ من أحواله، مما يدلّ على فضل جلاله».
صفته: كان معتدل القدّ، وسيم الصورة، عبل اليدين، أبيض اللون، كثير اللحية، بين السواد والصهوبة (3) أنجل أعين أفوه مليح العين، أقنى الأنف، جهير الصوت أمه الحرّة الجليلة، العريقة في الملوك، فاطمة بنت أمير المؤمنين أبي عبد الله نخبة الملك، وواسطة العقد، وفخر الحرم، البعيدة الشّأو في العزّ والحرمة، وصلة الرّعي، وذكر التراث. واتصلت حياتها، ملتمسة الرأي، برنامجا للفوائد، تاريخا للأنساب، إلى أن توفيت في عهد حفيدها السلطان أبي الحجّاح، رحمها الله، وقد أنفت على تسعين من السنين، فكان الحفل في جنازتها، موازيا لمنصبها، ومتروكها، المفضي إليه خطيره، وقلت في رثائها: [الطويل]
نبيت على علم بغائلة الدهر ... ونعلم أنّ الخلق في قبضة الدّهر
ونركن للدنيا اغترارا بقهرها ... وحسبك من يرجو الوفاء من الغدر
ونمطل بالعزم الزّمان سفاهة ... فيوم إلى يوم، وشهر إلى شهر
وتغري بها نفسي المطامع والهوى ... ونرفض ما يبقى ضيعة العمر
هو الدهر لا يبقى على حدثانه ... جديد ولا ينفكّ من حادث نكر
وبين الخطوب الطارقات تفاضل ... كفضل من اغتالته في رفعة القدر
ألم تر أنّ المجد أقوت ربوعه ... وصوّح من أدواحه كل مخضرّ
ولاحت على وجه العلاء كآبة ... فقطّب من بعد الطلاقة والبشر
وثبتّ اسمها في الوفيات من الكتاب المذكور بما نصّه:
«السلطانة الحرّة، الطاهرة، فاطمة بنت أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين الغالب بالله، بقيّة نساء الملوك، الحافظة لنظام الإمارة، رعيا للمتات (4)، وصلة للحرمة، وإسداء للمعروف، وسترا للبيوتات، واقتداء بسلفها الصالح، في نزاهة النفس، وعلوّ الهمّة، ومتانة الدين، وكشف الحجاب، ونفاذ العزم، واستشعار الصبر.
توفّيت في كفالة حفيدها أمير المسلمين أبي الحجاج، مواصلا برّها، ملتمسا دعاءها،
__________
(1) في اللمحة: «عدوه الله وعدوه».
(2) في اللمحة: «ثغره».
(3) الصهوبة: هي احمرار الشعر.
(4) المتات: ما يمتّ به كالحرمة والقرابة. محيط المحيط (متت).(1/236)
مستفيدا تجربتها وتاريخها، مباشرا مواراتها بمقبرة الجنان، داخل الحمراء، سحر يوم الأحد السابع لذي حجة، من عام تسعة وأربعين وسبعمائة».
أولاده: تخلّف (1) من الولد أربعة أكبرهم محمد، وليّ الأمر (2) من بعده، وفرج شقيقه التالي له بالسنّ، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه المذكور، المتقلب في الإيالات، الهالك أخيرا في سجن قصبة ألمرية عام أحد وخمسين وسبعمائة، مظنونا به الاغتيال، ثم أخوه أمير المسلمين أبو الحجاج، تغمّده الله برحمته، أقعد القوم في الملك، وأبعدهم أمدا في السعادة، ثم إسماعيل أصغرهم سنّا، المبتلي في زمان (3) الشبيبة في الثّقاف (4) المخيف مدة أخية، المستقرّ الآن موادعا مرفودا، بقصر المستخلص من ظاهر شالوبانية، وبنتين ثنتين من حظيّته علوة، عقد عليهما أخوهما أبو الحجاج، لرجلين من قرابته.
وزراؤه: وزر (5) له أول أمره القائد البهمة (6) أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الفهري، وبيت هؤلاء القوّاد شهير، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة. أشرك معه في الوزارة الفقيه الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود المحاربي، من أعيان الحضرة، وذوي النباهة، فجاذب رفيقه حبل الخطّة، ونازعه لباس الحظوة، حتى ذهب باسمها ومسمّاها. وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح، فخلص له شربها، وسيأتي التعريف بكل على انفراد.
كتابه: كتب (7) عنه لأول أمره بمالقة، ثم بطريقه إلى غرناطة، وأياما يسيرة بها، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المتقدّم ذكره. ثم ألقى المقادة إلى كاتب الدولة قبل، شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب فاصل الخطّة، وباري القوس، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.
قضاته: استقضى (8) أخا وزيره، الشيخ الفقيه أبا بكر بن يحيى بن مسعود بن علي، رجل الجزالة، وفيصل الحكم، فاشتدّ في إقامة الحكم (9)، وغلظ بالشرع، واستعان بالجاه، فخيفت (10) سطوته، واستمرّ قاضيا إلى آخر أيامه.
__________
(1) النص في اللمحة البدرية (ص 7978).
(2) في اللمحة: «وليّ عهده والأمير من بعده».
(3) في اللمحة: «المبتلي زمن شبيبته بالاعتقال».
(4) الثّقاف: الاعتقال. لسان العرب (ثقف).
(5) النص في اللمحة البدرية (ص 79).
(6) كلمة «البهمة» ساقطة في اللمحة البدرية.
(7) النص في اللمحة البدرية (ص 79).
(8) النص في اللمحة البدرية (ص 8079).
(9) في اللمحة: «الحقّ».
(10) في الأصل: «فخيف» والتصويب من اللمحة البدرية.(1/237)
رئيس جنده الغربي: الشيخ (1) البهمة (2)، لباب قومه، وكبير بيته، أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء (3) إدريس بن عبد الله (4) بن عبد الحق، مشاركا له في النعمة، ضاربا بسهم في المنحة، كثير التجنّي والدّالّة، إلى أن هلك المخلوع، وخلا الجوّ، فكان منه بعض الإقصار.
الملوك على عهده: وأولا (5) بعدوة المغرب: كان على عهده من ملوك المغرب السلطان الشهير، جواد الملوك، الرّحب الجناب، الكثير الأمل، خدن العافية، ومحالف الترفية، مفحم (6) النّعيم، السعيد على خاصته وعامته، أبو سعيد عثمان بن السلطان الكبير، المجاهد، المرابط، أبي يوسف (7) بن عبد الحق. وجرت بينه (8) وبينه المراسلات، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه وصدرا من أيام ولده أبي عبد الله حسبما مرّ (9) عند ذكره.
وبمدينة تلمسان، وطن القبلة، الأمير أبو حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان. ثم توفي قتيلا (10) على عهده بأمر ولده المذكور، واستغرقت أيام ولده المذكور الوالي بعده، إلى أن هلك في صدر أيام أبي الحجاج وجرت بينه وبين الأمير مراسلات وهدايات.
وبمدينة تونس، الشيخ المتلقّب بأمير المؤمنين أبو يحيى زكريا بن أبي حفص المدعو باللّحياني، المتوثّب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي زكريا بن أبي حفص، وهو كبير، إلّا أن أبا حفص أكبر سنّا وقدرا، وقد تملّك تونس تاسع جمادى الآخرة من عام ظهر له اضطراب من بها، أحد عشر وسبعمائة، وتمّ له الأمر. واعتقل أبا البقاء بعد خلعه، ثم اغتاله في شوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، ثم رحل عن تونس لما ظهر له من اضطراب أمره بها، وتوجّه إلى طرابلس (11)
في وسط عام خمسة عشر (12)، واستناب صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي
__________
(1) النص في اللمحة البدرية (ص 80).
(2) البهمة: الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى له من شدة بأسه. لسان العرب (بهم).
(3) في اللمحة: «العلى».
(4) في المصدر نفسه: «عبد الله بن يعقوب بن عبد الحق».
(5) النص في اللمحة البدرية (ص 8280). وفي الأصل: «وأولاد» والتصويب من اللمحة.
(6) في اللمحة: «ومتبحبح النعيم».
(7) في اللمحة: «أي يوسف يعقوب بن».
(8) في اللمحة: «وجرت بينهما».
(9) في اللمحة: «يمرّ».
(10) في اللمحة: «قتيلا بأمر ولده على عهده سادس عشر جمادى الثانية من عام ثمانية عشر وسبعمائة».
(11) في اللمحة: «أطرابلس».
(12) في اللمحة: «وسبعمائة».(1/238)
عمر (1)، ولم يعد بعد إليها. ثم اضطرب أمر إفريقية، وتنوّبه (2) عدة من الملوك الحفصيين، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمر (3) المذكور، وأبو عبد الله بن (4)
اللّحياني، والسلطان أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق، لبنة تمامهم، وآخر رجالهم، واستمرّت أيامه إلى أيام ولده الأمير بالأندلس ومعظم أيام ولديه، رحم الله الجميع.
ومن ملوك الروم بقشتاله كان على عهده مقرونا بالعهد القريب من ولايته، الطاغية هرانده بن شانجة بن ألهنشة (5) بن هراندة المجتمع له ملك قشتالة وليون (6)، وهو المتغلّب على إشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وجيّان ابن الهنشة (7) الذي جرت له وعليه هزيمة الأرك (8) والعقاب (9)، ابن شانجه بن الهنشة المسمّى إنبرذور، وهو الذي أفرد صهره وزوج بنته بملك برتقال، إلى أجداد، يخرجنا تقصّي ذكرهم عن الغرض.
ومن ملوك رغون (10) من شرق الأندلس، الطّاغية جايمش بن بطره بن جايمش الذي تغلب على بلنسية، ابن بطره بن الهنشة (11)، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في أخريات أيامه، فولّي ملك أرغون (12) بعده ألهنشة (13) بن جايمش إلى أخريات (14)
أيامه.
وببرتقال ألهنشة (15) بن يومس (16) بن ألهنشة (17) بن شانجة بن ألهنشة (18) بن شانجة بن ألهونشة (19)، وتسمّى (20) أولا دوقا.
ذكر تصيّر الأمر إليه: لما ولي (21) الأمر بالأندلس، حرسها الله، السلطان أبو الجيوش نصر بن السلطان أبي عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أبي عبد الله بن
__________
(1) في اللمحة: «عمران».
(3) في اللمحة: «عمران».
(2) في اللمحة: «وتناوبه».
(4) كلمة «بن» ساقطة في اللمحة.
(5) في اللمحة: «ألفونش».
(6) في اللمحة: «ملك ليون وقشتالة».
(7) في اللمحة: «ابن الهونش».
(8) كانت وقعة الأرك سنة 591هـ بين الموحدين بقيادة الخليفة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، وكان النصر فيها للموحدين. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 221218).
(9) كانت وقعة العقاب سنة 609هـ، بين الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين، فكانت السبب في هلاك الأندلس. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 263).
(10) مملكة رغون: هي نفسها أراغون.
(11) في اللمحة: «الهونش».
(13) في اللمحة: «الهونش».
(15) في اللمحة: «الهونش».
(17) في اللمحة: «الهونش».
(18) في اللمحة: «الهونش».
(19) في اللمحة: «الهونش».
(12) في اللمحة: «رغون».
(14) في اللمحة: «آخر».
(16) في اللمحة: «ذونيش».
(20) في الأصل: «ويسمو» والتصويب من اللمحة.
(21) قارن باللمحة البدرية (ص 8482).(1/239)
نصر، يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، بالهجوم على أخيه أبي عبد الله الزّمن المقعد، الآمن في ركن بيته، واغتيال ابن الحكيم وزيره ببابه، والإشادة بخلعه حسبما يأتي في موضعه، استقرّ الأمر على ضعف أخيه، وسارع دخلته، فساءت السّيرة لمنافسة الخاصّة، وكان الرئيس الكبير عميد القرابة، وعلم الدولة أبو سعيد فرج، ابن عمّ السلطان المخلوع، وأخيه الوالي بعده، راسخا قدمه وعرفه، بمثوبة الوارث، ولنظره عن أبيه المسوّغ عن جدّه مالقة وما إليها، ولنظره مدينة سبتة، المضافة إلى إيالة المخلوع عن عهد قريب، قد أفرد بها ولده المترجم به، وجميعهم تحت طاعته، وفي زمان انقياد سوغ مديد الدولة، بل مدّ سروها لما شاء عزّ وجلّ من احتوائهم في حبل هذا الدايل، يتعقبون على الرئيس الكبير أمورا تثرّ مخيمة الصدور، وتستدعي فرض الطاعة، وتحتوي على مظنّات مخلة، واحترسوا صافيات منافعه، وأوعزوا إلى ولاة الأعمال بالتضييق على رجاله، وصرفوا سننه عن نظره. ولمّا بادر إلى الحضرة لإعطاء صفقة البيعة وتهنئة السلطان نصر عن روحه وابن عمّه، على عادته، داخله بعض أرباب الأمر، محذّرا، ومشيرا بالامتناع ببلده، والدّعاء لنفسه، ووعده بما وسعه، فاستعجل الانصراف إلى بلده، ولم تمرّ إلّا برهة، واشتعلت نار الفتنة، وهاجت مراجل الحفيظة، فتلاحق به ولده، وأظهر الانفراد والاستعداد في سابع عشر رمضان من هذا العام. وأقام ولده إسماعيل، برسم الملك والسلطان، ورتّب له ألقاب الملك، ودوّن ديوان الملك بحسبه، ونازل حضرة أنتقيرة، وناصبها القتال، فتملّكها ودخلت مربلّة في طاعته، وتحرّك إلى بلّش فنازلها، ونصب عليها المجانيق فدانت، فضخمت الدعوة، ومكنت الجباية، والتفّ إليه من مساعير الحروب ومن أجاب.
وتحرّك إلى غرناطة في أول شهر محرم، عام اثني عشر وسبعمائة، ونزل بقرية العطشا من مرجها. وبرز السلطان نصر في جيش خشن (1)، مستجاد العدّة، وافر الرّجل (2)، فكان اللقاء ثالث عشر الشهر، فأظهر الله أقلّ الفئتين (3)، وانجرّت على الجيش الغرناطي الهزيمة، وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقي لبعض الفدن، فنجا بعد لأي ودخل البلد مفلولا، وانصرف الجيش المالقي ظاهرا إلى بلده. وطال بالرئيس وولده الأمر وضرّستها الفتنة، وعظم احتياجه إلى المال، وكادت تفضحه المطاولة، وزاحمه الملك بمكلف ضخم، فاقتضى ذلك إذعانه إلى الصلح، وإصغاره المهادنة، على سبيله من المقام ببلده، مسلّما للسلطان في جبايته، جارية وطائفة في رئاسته، وأرزاق جنده، فتمّ ذلك في ربيع الأول من العام المذكور. ثم لقحت فتنة في العام
__________
(1) في اللمحة: «أخشن».
(2) الرّجل: الجنود المشاة.
(3) في اللمحة: «الطائفتين».(1/240)
بعده، فعادت جذعة، وكانت ثورة الأشياخ في غرناطة في رمضان من العام المذكور هاتفين بخلعان السلطان، وطاعة مخلوعهم، وطالبين منه إسلام وزيره خدن الروم، المتهم على الإسلام أبي عبد الله (1) بن الحاجّ. ثم لحق زعماؤهم بمالقة عند اختلال ما أبرموه، فكانت الحركة الثانية لغرناطة بعد أمور اختصرتها، من استبداد السلطان أبي الوليد بأمره (2)، والانحطاط في القبض على أبيه، إلى هوى جنده، والتصميم في طلب حقّه، فاتصل سيره، واحتلّ بلوشة سرار شوال فتملّكها. ورحل قافلا إلى وطنه، طريد كلب الشتاء، وافر الخزانة، واقتضى الرأي الفائل ممّن له النظر الجاش من زعيم شيوخ جندها، اتّهاما له بالطاغية، فسجنه. ثم بدا له في أمره، ثم سرّحه بعد استدعاء يمينه، فوغرت صدور حاشيته، وتبعهم من كان على مثل رأيهم، وهو شوكة حادّة، فصرفوا الوجوه إلى السلطان المقبل الحظ، المحبوب إليه هوى الملك، بما راعه، ثانيا من عنانه بأحواز أرجدونة، إلّا تثويب داعيهم، فكرّ إلى المدينة وبرز إليه جيشها، ملتفّا على عبد الحق بن عثمان، فأبلى (3)، وصدق الحملة، فكادت تكون الدائرة فلولا ثبوت السلطان لما استقبلت بأسفلهم الحملة، فولّوا منهزمين، وتبعهم إلى سور المدينة، وقد خفت اللّفيف والغوغاء النّاعقون (4) بالخلعان، الشّرهون إلى تبديل الدّعوات، وإلى (5) تسنّم المآذن والمنارات (6) والرّبا. وبرز أهل ربض البيّازين، الهافّون إلى مثل هذه البوارق، إلى شرف ربوتهم (7)، كلّ يشير مستدعيا إعلانا بسوء الجوار، وملل الإيالات، والانحطاط، وبعد التلوّن والتقلّب، وسآمة العافية شنشنة معروفة في الخلق مألوفة. وبودر غلق باب إلبيرة، ففضّ (8) قفله، ودخلت المدينة، وجاء (9) السلطان إلى معقل الحمراء بأهله وذخيرته وخاصّته، وبرز السلطان أبو الوليد بالقصبة القدمى تجاهها، بالدار الكبرى المنسوبة لابن المول، ينفذ الصكوك، ويذيع العفو، ويؤلف الشّارد، وضعفت بصائر المحصورين، وفشلوا على وجود الطعمة، ووفور المال، وتمكّن المنعة، فالتمسوا لهم ولسلطانهم عهدا نزلوا به، منتقلين إلى مدينة وادي آش، في سبيل العوض بمال معروف، وذخيرة موصوفة وتمّ ذلك، وخرج السلطان رحمه الله مخلوعا، ساء به القرار، جانيا على ملكه الأخابيث والأغمار، ليلة الثامن والعشرين من شوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستقرّ بها
__________
(1) في اللمحة: «الإسلام محمد ابن الحاج».
(2) في اللمحة: «بنفسه».
(3) في اللمحة: «وأبلى في الدفاع، فكادت تقع به الدبرة لولا ثبوت».
(4) في اللمحة: «والناعقون».
(5) في اللمحة: «إلى».
(6) في اللمحة: «والمنازه».
(7) في اللمحة: «بيوتهم».
(8) في اللمحة: «فنقض».
(9) في اللمحة: «ولجأ».(1/241)
موادعا مرة، ومحاربا أخرى، إلى أن هلك حسبما يأتي ذكره. وخلا للسلطان (1)
الجوّ، وصرفت (2) إليه المقادة، وأطاعه القاصي والدّاني، ولم يختلف عليه اثنان، والبقاء الخلص لله وحده.
مناقبه: اشتدّ (3)، رحمه الله، على أهل البدع، وقصر الخوض على ما تضطر إليه الملّة. ولقد تذوكر بين يديه أهل البيت، فبذل في فدية بعضهم ما يعزّ بذله، ونقل منهم بعضا من حرف خبيثة، فزعموا أنه رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم، فشكر (4) له ذلك. واشتدّ في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات، وحظر تجلّي القينات للرجال في الولائم، وقصر طربهنّ على أجناسهنّ من الناس، وأخذ يهود الذمّة بالتزام سمة تشهرهم، وشارة تميّزهم، وليوفّى (5) حقّهم من المعاملة التي أمر بها الشّارع في الخطاب والطّرق (6)، وهي شواشي صفر.
ولقد حدّث من يخفّ حديثه، من الشيوخ أولي المجانة والدّعابة، قال: كنّا عاكفين على راح، وبرأسي شاشيّة ملف حمراء، فحاول أصحابي إنامتي، حتى أمكن ذلك، وبادروا إلى رقاع من ثوب أصفر، فصنعوا منها شاشية، ووضعوها في رأسي، مكان شاشيتي، وأيقظوني، فقمت لشأني، وقد هيّئوا ثمنا لشراء بقل وفاكهة، وجهّزوني لشرائه، فخرجت حتى أتيت دكان السوق، فساومته، فلمّا نظر إليّ قال لصاحبه: جزى الله هذا السلطان خيرا، والله لقد كنت أبادر هذا اللّعين بالسلام عند لقائه، أظنّه مسلما، وبصق عليّ فهممت أن أوقع به، ثم فطنت للحلية، فانتزعتها، وبادرت فأوسعتهم ذمّا، وعظم خجلي، وسبقني إليهم عين لهم عليّ، فكاد الضحك يهلكهم عند دخولي. ومناقبه كثيرة.
جهاده وبعض الأحداث في مدته: والتأثت (7) الأمور، لأول مدته، فجرت على جيشه بمظاهرة جيش المخلوع لجيش الرّوم، الهزيمة الشنيعة، بوادي فرتونة أوقع بهم الطاغية بطره، كافل ملك الروم، المملك صغيرا على عهد أبيه، وعمّه الذّابّ عنه، ففشا في الأعلام القتل، وذلك في صفر من عام ستة عشر وسبعمائة، وظهر العدوّ بعدها فغلب على حصن شتمانس (8) وحصن بجيج (9)، وحصن طشكر،
__________
(1) في اللمحة: «للسلطان أبي الوليد».
(2) في اللمحة: «وضربت».
(3) النص في اللمحة البدرية (ص 84).
(4) في اللمحة: «يشكر».
(5) في اللمحة: «ليوفّوا».
(6) في اللمحة: «في الطرق والخطاب».
(7) النص في اللمحة البدرية (ص 8584).
(8) في اللمحة البدرية: «وظهر العدو بعدها على حصن قنبل وحصن متمانس».
(9) في المصدر نفسه: «وحصن نجيح».(1/242)
وثغر (1) روط. ثم صرفت المطامع عزمه إلى الحضرة، فقصد مرجها، وكفّ الله عاديته، وقمعه، ونصر الإسلام عليه، ودالت للدين عليه الهزيمة العظمى بالمرج من ظاهر غرناطة على بريد منها، واستولى على محلّته (2) النّهب، وعلى فرسانه ورجاله القتل، وعظم الفتح، وبهر الصنع وطار الذكر، وثاب السّعد. وكانت الوقيعة سادس جمادى الأولى من عام تسعة عشر وسبعمائة، وفي ذلك يقول كاتبه شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب:
الحمد حقّ الحمد للرحمن ... كافي العدو وناصر الإيمان
ومكيّف الصنع الكريم ودافع ال ... خطب العظيم وواهب الإحسان
في كل أمر للمهيمن حكمة ... أعيت على الأفكار والأذهان
واستقرّ ملكهم القتيل بأيدي المسلمين بعد فرارهم، فجعل في تابوت خشب، ونصب بالسور المنازل من الحمراء يسار الداخل بباب يعقوب من أبوابها، إذاعة للشّهرة، وتثبّتا لتخليد الفخر.
ومن الغريب أنني في هذه الأيام بعد خمسين سنة تماما (3)، تفقدت ذلك المكان في بعض ما أباشره، أيام نيابتي عن السلطان بدار ملكه على عادتي، فألفيته قد علا عليه كوم من الحجارة، رجم الصبيان إياه، فظهر لي تجديد الإشادة به، والاستفتاح بوقوع مثله، ولمّا كشف عن الرّمة لتنقل إلى وعاء ثان، ألفي بعظم القطن (4) العريض منها سنان مرهب ثبت في العظم، انتزع منه، وقد غالبتني الرقّة والإجهاش، وقلت اللهمّ ادّخر رضوانك لمن أودع في هذه الرّمّة الطاغية، سنان جهادك إلى اليوم، وأثبه وارفع درجته، إنك أهل لذلك.
رجع (5): واستقامت الأيام، وهلك المخلوع، فصفا الجو، واتّحدت الكلمة، وأمكن الجهاد، فتحرّك في شهر (6) رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وأعمل القصد (7) إلى بلاد العدو، ونازل حصن إشكر (8)، الشّجى المعترض (9) في حلق
__________
(1) في المصدر نفسه: «وحصن روط».
(2) في المصدر نفسه: «محلّاته».
(3) أي بعد خمسين سنة من تاريخ وقيعة وادي فرتونة من عام 719هـ، وهو ما يوافق سنة 769هـ.
(4) عظم القطن: عظم ما انحدر من ظهر الإنسان واستوى. محيط المحيط (قطن).
(5) النص في اللمحة البدرية (ص 85).
(6) كلمة «شهر» غير واردة في اللمحة البدرية.
(7) في اللمحة: «الحركة».
(8) إشكر: بالإسبانية، وهي من مدن غرناطة. مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 54).
(9) في اللمحة: «المتعرض».(1/243)
بسطة، فأخذ بمخنّقه (1)، ونشر الحرب عليه (2)، ورمى بالآلة العظمى المتخذة بالنفط كرة حديد محماة طاق (3) البرج المنيع من معقله، فاندفعت يتطاير شررها، واستقرّت بين محصوريه، فعاثت عياث الصواعق السموية، فألقى الله الرعب في قلوبهم، وأتوا بأيديهم، ونزلوا قسرا على حكمه في الرابع والعشرين من الشهر، وأقام بظاهره، فصيّره دار جهاد، وعمل في خندقه بيده، وانصرف، فكانت غزاة جمّة البركة عظمت بها على الشرق الجدوى، وأنشد الشعراء في هذه الوجهة قصائد أشادت بفضلها، وشهرت من ذكرها، فمن ذلك عن كاتب سرّه (4) قوله (5): [الكامل]
أمّا مداك فغاية لم تلحق (6) ... أعيت على غرّ الجياد السّبق (7)
ورفع إليه شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل، قصيدة أولها (8): [الطويل]
بحيث القباب (9) الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند
أنشدني منها في وصف النفط قوله:
وظنّوا بأنّ الصّعق (10) والرّعد في السما ... فحاق بهم من دونها الصّعق والرّعد
غرائب أشكال سما هرمس بها ... مهنّدة (11) تأتي الجبال فتنهدّ
ألا إنها الدنيا تريك عجائبا ... وما في القوى منها فلا بدّ أن يبدو
وفي (12) العاشر لشهر رجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة، تحرّك للغزو (13) بعد أخذ الأهبة والاستكثار والاجتهاد للمطوعة، وقصد مدينة مرتش العظيمة الساحة، الطيبة البقعة، فأضرب بها المحلّات وكان القصد (14) إجمام الناس، فصوّب (15) الحشود ووجّهها إلى ما بها من بحر (16) الكروم والملتفّات، وأدواح
__________
(1) في اللمحة: «بمخنقها».
(2) في اللمحة: «عليها».
(3) في اللمحة: «طاقة».
(4) كاتب سرّه: هو الحكيم أبو زكريا بن هذيل كما جاء في اللمحة البدرية.
(5) البيت في اللمحة البدرية (ص 86).
(6) في اللمحة البدرية: «لم تسبق».
(7) جاء في اللمحة البدرية بعد هذا البيت، البيت التالي:
فاشرح بسعدك كل معنى مشكل ... وافتح بسيفك كل باب مغلق
(8) الأبيات في اللمحة البدرية (ص 85).
(9) في اللمحة: «البنود».
(10) في اللمحة: «بأن الرعد والصعق».
(11) في اللمحة: «مهندمة».
(12) النص في اللمحة البدرية (ص 86).
(13) في اللمحة: «إلى الغزو، وأخذ الأهبة».
(14) في اللمحة: «قصده».
(15) في اللمحة: «فصرفت».
(16) في اللمحة: «شكر».(1/244)
الأشجار، فأمعنوا في إفسادها، وبرز حاميتها، فناشبت الناس القتال، فحميت النفوس، وأريد منع الناس، فأعيا أمرهم وسال منهم البحر، فتعلّقوا بالأسوار، وقيل للسلطان: بادر بالركوب، فقد دخل الرّبض (1)، فركب ووقف بإزائها، فدخل البلد (2)
عنوة، واعتصم أهله بالقصبة، فدخلت أيضا القصبة عنوة، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى كبيرا أو صغيرا (3)، فساءت القتلة، وقبحت الأحدوثة، ورفعت من الغد آكام من الجثث صعد ذراها المؤذّنون، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاء (4) له، فكان (5) دخوله من هذه الغزاة في الرابع والعشرين لرجب المذكور.
وفاته: ولما (6) فصل من مرتش نقم على أحد الرؤساء من قرابته، وهر ابن عمّه محمد بن إسماعيل، المعروف بصاحب الجزيرة، أمرا تقرّعه عليه، وبالغ في الإهمال له (7)، وتوعّده بما أثار حفيظته، فأقدم عليه بالفتكة الشّنعاء التي ارتكبها منه بباب قصره، بين عبيده وأرباب دولته (8)، آمن ما كان سربا، وأعزّ سلطانا (9) وجندا وذلك يوم الاثنين ثالث يوم من دخوله من مرتش، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدّام، فوثب به، وهو مجتاز بين السّماطين من ناسه إلى مجلس (10) كان يجلس فيه للناس، فاعتنقه وانتضى (11) خنجرا كان ملصقا في ذراعه، فأصابه بجراحات ثلاث إحداهنّ في عنقه، بأعلى ترقوته، فخرّ صريعا. وصاح بكر وزيره، فعمّته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك، ووقعت الرّجّة، وسلّت السيوف، وتشاغل كلّ بمن يليه، واستخلص السلطان من يديه، وحيل بينه وبينه وحين تشاغل القوم بالوزير، رفع السلطان وظنّ أنه قد أفلت جريحا، فوقع البهت، وبادروا الفرار، فسدّت المذاهب، فقتلوا حيث وجدوا. وأخذت الظّنّة قوما من أبريائهم، فامتحنوا (12)، ونهب (13) الغوغاء دورهم، وعلّقت بالجدران أشلاؤهم، وكان يوما عصيبا، وموقفا صعبا، واحتمل السلطان إلى بعض دور قصره، وبه صبابة روح، أشبه
__________
(1) في اللمحة: «البلد».
(2) في اللمحة: «الحصن».
(3) في اللمحة: «صغير أو كبير».
(4) في الأصل: «لا كفا» والتصويب من اللمحة البدرية.
(5) في اللمحة: «وكان».
(6) النص في اللمحة البدرية (ص 8887).
(7) في اللمحة: «وبالغ في تأنيبه، وتوعّده».
(8) قوله: «وأرباب دولته» ساقط في اللمحة البدرية.
(9) في اللمحة: «وأعزّ نفرا وأمكن امتناعا، غدوة يوم الاثنين الثالث من يوم دخوله».
(10) في اللمحة: «إلى مجلس القعود الخاص، فاعتنقه».
(11) في اللمحة: «وسلّ».
(12) في اللمحة: «فاستحلفوا».
(13) في اللمحة: «ونهبت».(1/245)
شيء بالعدم، للزوق العمامة بفوهة شريانه المبتور، ففاض لحينه بنفس زوال العمامة، رحمه الله.
وكان من أخذ البيعة لولده الأمير أبي عبد الله من بعده، ما هو معروف في موضعه. ودفن غلس ليلة (1) الثلاثاء، ثاني يوم وفاته، بروضة الجنة (2) من قصره، إلى جانب جدّه وتنوهي الاحتفال بقبره نقشا، وتخريما (3)، وإحكاما، وحليا، وتمويها، يشقّ (4) على الوصف، وكتب بإزاء رأسه في لوح الرخام ما نصّه، من كلام شيخنا، بعد سطر الافتتاح:
«هذا قبر السلطان الشهيد، فتّاح الأمصار، وناصر ملّة المصطفى المختار، ومحيي سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب والمحراب، الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة، وأمضاهم في ذات الله صولة، سيف الجهاد، ونور البلاد الحسام (5) المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن، المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن الهمام الأعلى الطاهر الذات والفخار (6)، الكريم المآثر والآثار، كبير الإمامة النّصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدّس، المرحوم أبي سعيد فرج، ابن علم الأعلام، وحامي حمى الإسلام، صنو الإمام الغالب، وظهيره (7) العليّ المراتب، المقدّس، المرحوم أبي الوليد إسماعيل بن نصر، قدّس الله روحه الطيّب، وأفاض عليها (8) غيث رحمته الصيّب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحباه (9) بالحسنى والزيادة، جاهد في سبيل الله حقّ الجهاد، وصنع له في فتح البلاد، وقتل كبار الأعاد (10)، ما يجده مذخورا يوم التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فختم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعدّ له من كرامته وثوابه، وغبار الجهاد طيّ أثوابه، فاستشهد (11) رحمه الله شهادة أثبتت له في الشّهداء من الملوك قدما، ورفعت له في أعلام السعادة علما.
__________
(1) في اللمحة: «ليلة يوم الثلاثاء».
(2) في اللمحة: «الجنان».
(3) في اللمحة: «وتنجيدا».
(4) في اللمحة: «يشذّ عن الوصف».
(5) في الأصل: «ذي الحسام» والتصويب من اللمحة.
(6) في اللمحة: «والنّجار».
(7) في الأصل: «وظهيره المقدس العلي» والتصويب من اللمحة.
(8) في اللمحة: «عليه».
(9) في الأصل: «وحيّاه» والتصويب من اللمحة.
(10) في اللمحة: «كبار ملوك الأعاد».
(11) في اللمحة: «استشهد».(1/246)
«ولد رضي الله عنه، في الساعة المباركة بين يدي الصبح من يوم الجمعة سابع عشر شوّال (1) عام سبعة وسبعين وستمائة، وبويع يوم الخميس السابع والعشرين لشوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستشهد في يوم الاثنين السادس والعشرين لشهر رجب (2) عام خمسة وعشرين وسبعمائة. فسبحان الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق».
وبعده من جهة اللوح الأخير (3): [البسيط]
تخصّ قبرك يا خير السلاطين ... تحيّة كالصّبا مرّت بدارين
قبر به من بني نصر إمام هدى ... عالي المراتب في الدنيا وفي الدين
أبو الوليد، وما أدراك من ملك ... مستنصر واثق بالله مأمون
سلطان عدل وبأس غالب وندى ... وفضل تقوى وأخلاق ميامين
لله ما قد طواه الموت من شرف ... وسرّ مجد بهذا اللحد مدفون
ومن لسان بذكر الله منطلق ... ومن فؤاد بحبّ الله مسكون
أما الجهاد فقد أحيا معالمه ... وقام منه بمفروض ومسنون
فكم فتوح له تزهى (4) المنابر من ... عجب بهنّ وأوراق الدواوين
مجاهد نال من فضل الشهادة ما ... يجبي عليه بأجر غير ممنون
قضى كعثمان في الشهر الحرام ضحى ... وفاة مستشهد في الدار مطعون
في عارضيه غبار الغزو تمسحه ... في جنّة الخلد أيدي حورها العين
يسقى بها عين تسنيم (5)، وقاتله ... مردّد بين زقّوم وغسلين
تبكي البلاد عليه والعباد معا ... فالخلق ما بين أحزان أفانين
لكنه حكم ربّ لا مردّ له ... فأمره الجزم بين الكاف والنون
فرحمة الله ربّ العالمين على ... سلطان عدل بهذا القبر مدفون
بعض ما رثي به: وعظمت (6) فيه فجيعة المسلمين لما ثكلوا من جهاده وعزمه، وبلوه من سعده وعزّ (7) نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهنت (8) في شجوه القرائح، وبكاه الغادي والرائح. فمن المراثي التي أنشدت على قبره، قول كاتبه شيخنا
__________
(1) في اللمحة: «شهر شوّال».
(2) في اللمحة: «رجب الفرد».
(3) القصيدة في اللمحة البدرية (ص 8988).
(4) في الأصل: «تزهو» والتصويب من اللمحة.
(5) في الأصل: «تسليم» والتصويب من اللمحة.
(6) النص في اللمحة البدرية (ص 89).
(7) في اللمحة: «وعزّة».
(8) في اللمحة: «وتراهقت».(1/247)
أبي الحسن بن الجيّاب (1): [الطويل]
أيا عبرة العين امزجي الدّمع بالدّم ... ويا زفرة الحزن احكمي وتحكّمي
ويا قلب ذب وجدا وغمّا ولوعة ... فإنّ الأسى فرض على كل مسلم
ويا سلوة الأيّام لا كنت فابعدي ... إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم
وصح بأناة الصبر سحقا تأخري ... وقل لشكاة الحزن أهلا تقدّمي
ولم لا وشمس الملك والمجد والهدى ... وفتّاح أبواب النّدى والتكرّم
ثوى بين أطباق الثرى رهن غربة ... وحيدا وأصمته الليالي بأسهم
على ملك الإسلام فاسمح بزفرة ... تساقط درّا بين فذّ وتوأم
على علم الأعلام والقمر الذي ... تجلّى بوجه العصر غرّة أدهم
على أوحد الأملاك غير منازع ... أصالة أعراق وفضل تقدّم
ومن مثل إسماعيل نور لمهتد ... وبشرى لمكروب وعفو لمجرم
وما مثل إسماعيل للبأس والندى ... لإصراخ مذعور وإغناء معدم
وما مثل إسماعيل للحرب يجتنى ... به الفتح من غرس القنا المتحطّم
وما مثل إسماعيل سهم سعادة ... أصاب به الإسلام شاكلة الدم
شهيد سعيد صبّحته شهادة ... تبوّأ منها في الخلود التنعم
أتت وغبار الغزو طيّ ثيابه ... ظهير أمان من دخان جهنّم
فتبّا لدار لا يدوم نعيمها ... فما عرسها إلّا طليعة مأتم
ولا أنسها إلا رهين بوحشة ... ولا شهدها إلّا مشوب بعلقم
فيا من يرى الدنيا مجاجة نحلة ... ألا فاعتبرها فهي نبتة أرقم
فمن شام منها اليوم برق تبسّم ... ففي الغد تلقاه بوجه جهنّم
فضاحكها باك وجذلانها شج ... وطالعها هاو ومبصرها عم
وسرّاؤها تفنى وضرّاؤها معا ... فكلتاهما طيف الخيال المسلّم
سطت بملوك الأرض من بعد آدم ... تبدّد منهم كلّ شمل منظم
فكم من قصير قصّرت شأو عمره ... فخرّ صريعا لليدين وللفم
وكم كسرت كسرى وفضّت جيوشه ... فلم تحمه منها كتائب رستم
ولو أنها ترعى إمام هداية لأعفت ... عليّا من حسام ابن ملجم (2)
__________
(1) ورد منها في اللمحة البدرية فقط البيتان الأول والثاني.
(2) هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل الإمام علي بن أبي طالب.(1/248)
وما قتلت عثمان في جوف داره ... فقدس من مستسلم ومسلّم
وما أمكنت فيروز (1) من عمر الرّضى ... فهدّت من الإسلام أرفع معلم
إلى آخرها. وتضمن إجمال ما ذكر من ذلك، التاريخ المسمّى ب «قطع السلوك» (2) المنظوم رجزا من تأليفي بما نصّه: [الرجز]
وعندما خيف انتثار السّلك ... ووزر الرّوم وزير الملك
تدارك الأمر الإمام الطّاهر ... فعالج الدار طبيب ماهر
وهو أبو الوليد إسماعيل ... والشمس لا يفقدها دليل
ابن الرئيس الماجد الهمام ... فرد العلا وعلم الأعلام
وجدّه صنو الإمام الغالب ... مناقب كالشّهب الثواقب
فقاد من مالقة الجنودا ... ونشر الأعلام والبنودا
وعاد نصر بمدى حمرائه ... أتى وأمر الله من ورائه
فخلع الأمر وألقى باليد ... من بعد عهد موثّق مؤكّد
وسار في الليل إلى وادي الأشى ... والملك لله يعزّ من يشا
ولم يزل فيها إلى أن ماتا ... وطلّق الدنيا بها بتاتا
واتّسق الأمر وقرّ الملك ... وربما جرّ الحياة الهلك
ومن الرجز المذكور في وصف جهاده ومقتله: [الرجز]
وكان يوم المرج في دولته ... ففرّق الأعداء من صولته
وفتح المعاقل المنيعه ... وابتهجت بعدله الشريعه
وانتبه الدهر له من نومه ... على يدي طائفة من قومه
بكى عليه الحرب والمحراب ... وندبته الضّمّر العرّاب
إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر (3)
السلطان الذي احتال على أخيه، المتوثّب على ملكه، يكنى أبا الوليد.
__________
(1) هو أبو لؤلؤة فيروز قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.
(2) هو اسم كتاب ابن الخطيب: «رقم الحلل في نظم الدول».
(3) معظم هذه الترجمة ورد في اللمحة البدرية (ص 129126).(1/249)
حاله: كان صبيّا كما اجتمع وجهه، بادنا (1) دمث الخلق، ليّن الجانب، شديد البياض، كثيف الحاشية، متصلا بالجفوة، لطول الحجبة، وبعد التمرّن والحنكة، غرّا، فاقدا لحسن الأدب، عريقة ألفاظه في العجمة. تصيّر الأمر إلى أخيه السلطان خيرتهم ولباب بيتهم، يوم قتل أبوهما وله مزية السّنّ والرّجاحة والسكنى بمحل وفاة الأب فأبقى عليه، وأسكنه بعض القصور لصقه، ولم يضايق أمّه فيما استأثرت به من بيت المال، إذ كان إقليده في يدها، وبيضاؤه وصفراؤه في حكمها، ورفّه متبوّأه، واستدعى له ولأخيه المعلم الذي كان السبب في إفاتة إرماقهما، وإعدام حياتهما، الشيخ السّفلة محمد البطروجي البائس، فردّ ذلك السّرب، فاستمرّت أيام احتجابه وانتظاره على قصره، إلى رمضان من عام ستّين وسبعمائة. وحرّك سماسرة الفتنة له ولأمّه جواز الطمع في الملك، ودندنوا لها حتى رقصت على إيقاعهم، وخفّت إلى مواعدهم، وشمّروا إلى خلاص الأمر وأحام الوثبة صهره الرئيس أبو عبد الله، حلف الشؤم زوج أخته، محمد بن إسماعيل، الشهير الكائنة، المذكور في موضعه من حرف الميم، فسيّرت إليه أمّه المال، فبثّه في الدعرة والشرار، حتى تمّ غرضه، واقتحم القلعة من بعض أسوارها عند البالية، وقد هدم منها شيء في سبيل إصلاحه، ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من عام ستين وسبعمائة والسلطان ليلتئذ غير حالّ بها، فملؤوها لجبا ولغطا وصراخا وهولا وتنويرا، في جملة تناهز المائة وانضاف إليهم أخوان رأيهم من حرّاسها وسكانها فألبس الناس، وسقط في أيديهم. وأهدى الليل فتكتة هائلة، وأدّاها شنيعة، فاقتصر كل على النظر لنفسه، وانقسموا فرقتين قصدت إحداهما دار كبير الدولة، وقيّوم التّفويض، وشيخ رجال الملك رضوان، المستبدّ بإحالة كورتها، الشيخ الذّهول، معزوز القدر، ورائب النّكتة، ومعود الإقالة، وجرّار رسن الأطواد، وطول الإملا، الماشي على خدّ الدنيا، المغضوض البصر عن النّظر، المستهين بكل سبّة وحيّة تسعى، المعوّل على نظره، وقوة سعده وإجابة دعوته، مع كونه نسيج وحده في عفافه وديانته، ورضى الناس به، وسقوط منافستهم من أجله، ومأويهم على مولّ لفظه، وبساط معاملته، وصحة عقده. فعالجوا بابه طويلا وتولّجوا داره، وقتلوه بين أهله وولده.
وقصدت الأخرى دار الأمير المترجم به ومعها صهره، فأخرجوه، وأركبوه على فرس، راعد الفرائض، ممتقع اللون، مختلط القول، تحفّ به داياته بين مولولة،
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 126): «بدينا».(1/250)
وتافلة ومعوّذة، قد جعلوا به سيفا مصلتا على سبيل اللّواعب بالنّصول والرّواقص، في مدارج اللهو واستخرجت طبول الملك فقرعت، وقيدت الخيل من مرابطها فركبت، وقصدت الخزائن السلاحية ففرقت، وتمّ الأمر، وحلّ من الريب على دار الإمارة القصد، وخرجت الكتب إلى البلاد والقواعد، فالتقت باليد أمهاتها لقطع من بها من أولي الأمانة، بتمام الأمر، وهلاك السلطان، فتمّ له الأمر، وبادر أخوه السلطان لحينه لظهر سابق كان مرتبطا عند مجرّ له من الجنّة لصق القلعة، فاستأجر الليل، ووافق الحزم، فاستقرّ بوادي آش، وكان أملك بها، ونازلته المحلّات، وأخذ بمخنّقه الحصص، واستنصرت لمنازلته الناس، وأعملت الحيل وتأذّن الله بثبوت قدمه، وانتقاله إلى ملك المغرب صبح عيد النحر من العام المذكور إلى أن أعاد الله إليه أمره وردّ عليه حقّه، وتولّى بعد اليأس جبره، حسبما يذكر في موضعه، إن شاء الله.
وخلا الجو لهذا الأمير المضعوف، واستولى على أريكة الملك الأغمار وأولو البطالة، وأولياء صهره الرئيس، خاطبها له ابتداء ثم ناقلها إلى نفسه انتهاء، وحاملها إلى غايته درجا، وإلى إعاقته سلّما وهو ما هو من غشّ الحبيب، وسوء العقد، ودخل السريرة، واستيطان المكروه، فأغرى منه بالعهد نفسا مطاوعة للشهوة، متبرّمة بالامتحان والخلوة، بريّة من نور العلم وتهذيب الحكمة، ناشئة بين أخابيث القسوة، جانية أماني الشهوة والمخالفة، مضادّة للفلاح، حايدة عن سبيل النجاة، بمحل اغتراب عن النّصحاء، وانتباذ عن مقاعد الأحرار فجرى طلق الجموح في التخلّف، حتى كبا لفيه ويديه، وأعان نسمة السوء الرئيس على نفسه وقد كان اصطنع الرجال، واستركب أولي البسالة، وأسالف الدّعرة واختصّ في سبيل خدمته والذبّ عنه، بالبؤساء والمساعير، يشركهم في الأكلة، ويصافيهم النعمة. وأظلم ما بينهما، فحذر كلّ جانب أخيه، إلّا أن المهين كا أضعف من أن يستأثر بخطة المعالجة، ويهتدي إلى سبيل الحزم. وفي عشيّ يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر شعبان، شارفه من مكمن غدره الرّحب بجوار قصره، وارتبط به الخيل واستكثر من الحاشية، وأخفى المساعير، وداخل الموروري المشؤوم على الدولة، فبادر رجاله سدّ الأبواب، وانخرط في جملة أوباشه من باب السلطان، من الرّجل لنظر ممالئه في العناء، وعونه على الهول الموروري، فأحاط به، وقد بادر الاعتصام بالمصنع ثاني الصرح المنسوب إلى هامان سموّا ونفالا في السّكاك (1) وسعة ذرع. وبعدما رقي وصرخ بالناس،
__________
(1) السّكاك: الهواء الملاقي عنان السماء، والسماء. محيط المحيط (سكك).(1/251)
يناشدهم الذّمام، فخفّ إليه منهم الكثير، وتراكموا بالطريق تحته، وتولّى استنزاله عن سويّه مملوك أبيه، العلج المخذول عبّاد، وقد تحصّل في قبضته الغادر، فقتل له في الغارب والذّروة، ووعده الحياة، فنزل عن أمان فسحة الغدر الصّراح، والوفاء المستباح. ولحين استهاله، أمر نقله إلى المطبق، فقيد مختبلا كثير الضراعة، إلى الأريّ (1) لصق قصره، وتعاورته السيوف، وألحق به صغيره قيس، استخرج من بعض الخزائن، وقد جهدت أمّه في إخفائه فمضى لسبيله، وطرح رأسه على الرّعاع المجيبين لندائه، فانفضّوا لحينه، وبقي مطروحا موارى بحلس (2) دابّة من دواب الظهر، إلى يوم بعده، فووري هو وأخوه بمقربة من مدفن أبيهما، فكان من أمرهما عبرة. وقد استوفى ذلك الكتاب المسمى ب «نفاضة الجراب» من تأليفنا.
وزراء دولته: قدّم للوزارة عشية (3) يوم ولايته، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري، بطالع الشؤم، ونعبة النحس. عهد بالطبيب الإسرائيلي الحبري العظيم المهارة في الفن النجومي، إبراهيم بن زرزار، يتطاير بتلك الولاية بكون النّحس الأعظم في درجة طالعها، جذوا انفرد بنحز أديمه الجهّالة، المعدودون في البهم والهمج، الذين لا يعبأ الله بهم فكان الخبر وفوق الخبر، فلم ير في الأندلس وزارة أثقل وطأة، ولا أخبث عهدا، ولا أعظم شرها، ولا أكثر حجرا منها. ثم كانت عاقبتهما أنهما في النار خالدان فيها، وذلك جزاء الظالمين من رجل حبركى (4)، كمد اللون، تنطف سحنته مرّة وسمّا، غائر العين، مطأطئ الرأس، طرف في الحقد والطمع وعيّ المنطق وجمود الكفّ، معدن من معادن الجهل، مثل في الخيانة تناول الأمر مزاحما فيه بالرئيس المتوثّب، وابن عمّ نفسه، الغادر، الضخم الجرارة، بالوعث المهين، وثور النقل، وثعبان الفواكه، وصاعقة الأخونة (5)، ووكيل الدولة المنحطّ عن خلالهم بالأبوّة والنشأة فجرت أمورها أسوأ مجاريها، إلى أن كان ما أذن الله به، من مداخلة الرئيس الغادر، على قتل أميره المسكين المهين، مقلّده أنوه الرّتب، وتاركه وخطة الخيانة ثم أخذه الأخذة الرابية بيد من أمدّه في الغيّ، وظاهره في الخزي فجعله نكالا لما بين يديه وما خلفه، وموعظة للمتّقين، حسبما يأتي في اسمه، بحول الله تعالى.
__________
(1) الأريّ: محبس الدواب. لسان العرب (أري).
(2) الحلس: كساء تجلّل به الدابّة تحت البردعة. لسان العرب (حلس).
(3) في اللمحة البدرية (ص 127): «عشيّ».
(4) الحبركى: الغليظ الرقبة والضعيف الرّجلين كأنه مقعد لضعفهما. لسان العرب (حبرك).
(5) الأخونة: جمع خوان وهو المائدة. لسان العرب (خون).(1/252)
كاتبه: واستعمل في الكتابة صاحبنا الرجل الأخرق، الطّوال، الأهوج، البريّ من الخلال الحميدة، إلّا ما كان من وسط الخط وسوقيّ السجع، والدرك الأسفل من النظم، عبد الحق (1) بن محمد بن عطية المحاربي، الآتي ذكره (2). وهو الذي أفرده الله، جلّ جلاله بالغاية البعيدة من مجال سوء العهد وقلّة الوفاء. وتولّى القضاء أبو جعفر (3) أحمد بن أبي القاسم بن جزي أياما، ثم شهّر به قوم من الفقهاء منافسيه، ورشقوه بما أوجب صرفه وقدّم للقضاء الشيخ المسنّ، الطويل السّباحة في بحر الأحكام، المفري الودجين والحلقوم بسكّين القضاء، المنبوز (4) بالموبقات فيه، تجاوز الله عنه، سلمون بن علي بن سلمون. وشيخ الغزاة على عهده، يحيى بن عمر بن عبد الله بن عبد الحق، شيخ الغزاة لأخيه، أصبح يوم الكائنة في قياده، ونصح له فأمر له وضاعف برّه.
الملوك على عهده
مولده: في يوم الاثنين الثامن والعشرين لربيع الأول من عام أربعين وسبعمائة.
وفاته: حسبما تقرّر آنفا في يوم الأربعاء السابع والعشرين لشعبان من عام أحد وستين وسبعمائة.
أبو بكر بن إبراهيم، الأمير أبو يحيى المسوفي الصحراوي (5)
من أمراء المرابطين، صهر علي بن يوسف بن تاشفين، زوج أخته، وأبو ولده منها يحيى، المشهور بالكرم.
أوّليّته: معروفة تستقرأ عند ذكر ملوكهم.
حالهم: كان مثلا في الكرم، وآية في الجود، أنسى أجواد الإسلام والجاهلية إلى الغاية في الحياء والشجاعة والتّبريز في ميدان الفضائل. استوزر الوزير الحكيم الشهير أبا بكر بن الصائغ، واختصّه فتجمّلت دولته ونبه قدره. وأخباره معه شهيرة.
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 127): «الفقيه أبو محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية المحاربي».
(2) ستأتي ترجمته في الجزء الثالث من الإحاطة.
(3) في اللمحة البدرية (ص 128): «الفقيه أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزي».
(4) المنبوز: المعروف، المشهور.
(5) أخبار أبي بكر بن إبراهيم، المشور بابن تيفلويت، صاحب سرقسطة، في البيان المغرب (ج 4 ص 61) والمغرب (ج 1ص 61) و (ج 2ص 119)، والحلة السيراء (ج 2ص 276).
والمسوفي: نسبة إلى مسوفة وهي قبيلة بربرية من بطون صنهاجة.(1/253)
ولايته: ولّي غرناطة سنة خمسمائة. ثم انتقل منها إلى سرقسطة عند خروج المستعين بن هود إلى روطة (1)، فأقام بها مراسم الملك، وانهمك في اللذّات، وعكف على المعاقرة، وكان يجعل التّاج بين ندمائه، ويتزيّا بزيّ الملوك، إلى أن هلك بها تحت مضايقة طاغية الروم المستولي عليها بعد.
خروجه من الصحراء: قال المؤرّخ: كان أبو بكر هذا رئيسا على بعض قبيله في الصحراء، وكان ابن عمّه منفردا بالتدبير فاتفق يوما أن دخل على ابن عمّه في خبائه، وزوج ابن عمّه تمتشط في موضع قريب من الخباء فاشتغلت نفس أبي (2) بكر بالمرأة لحسنها وجمالها، فحين دخل قال لابن عمّه: فلانة تريد الوصول إليك وإنما قصد الاستئذان لرجل من أصحابه، فنطق باسم المرأة لشغل باله بها، فقال له ابن عمّه بعد طول صمت وفكرة، وقد أنكر ذلك: عهدي بهذا الشخص لا يستأذن علينا.
فرجع عقله، وثاب لبّه، وعلم قدر ما من القبيح وقع فيه، فخرج من ذلك المجلس، وركب جمله، وهان عليه مفارقة وطنه من أجل العار، واستصحب نفرا قليلا من أصحابه على حال استعجال، ورحل ليلا ونهارا، حتى وصل سجلماسة (3) أولي عمالات علي بن يوسف ابن عمّه واتصل به قدومه، فأوجب حقّه، وعرف قدره، وعقد له على أخته، وولّاه على سرقسطة دار ملك بني هود بشرق الأندلس، بعد ولاية غرناطة.
نبذة من أخباره في الكرم: قالوا: لمّا حلّ بظاهر سجلماسة، مجهول الوفادة، خافي الأمر، نزل بظلّ نخلة بظاهرها، لا يعرف أحدا ولا يقصده، فجاء في ذلك الموضع رجل حداد فقراه (4) بعنز كان عنده، وتعرّف له، وأبو بكر يستغرب أمره فلمّا فرغوا من أكلهم، قال للحداد: ألا تصحبنا لموضع أملنا، وتكون أحد إخواننا، حتى تحمد لقاءنا؟ فأجابه وصحبه الحداد، وخدمه، فلمّا قربوا من مرّاكش، استأذن أبو بكر عليّ بن يوسف بن تاشفين، وأعلمه بنفسه، فأخرج له عليّ بن يوسف فرسا من عتاق خيله، وكسوة من ثيابه وألف دينار، فأمر أبو بكر بدفعها للحداد، فبهت
__________
(1) روطة، بالإسبانية وهي معقل أو حصن أو ثغر كان قد لجأ إليه صاحب سرقسطة عماد الدولة عبد الملك بن أحمد بن المؤتمن بن المقتدر بن هود، عندما أخرجه أهل سرقسطة من مدينتهم واستدعوا عامل علي بن يوسف بن تاشفين سنة 503هـ. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 175)، والمغرب (ج 2ص 428).
(2) في الأصل: «أبو» وهو خطأ نحوي.
(3) سجلماسة: مدينة في جنوب المغرب في طرق بلاد السودان. آثار البلاد (ص 42).
(4) قراه: أضافه وأكرمه. لسان العرب (قرا).(1/254)
الحداد وانصرف الرسول موجّها إلى مرسله فأخبره بما عاين من كرمه وفعله، فأعاده إليه في الحين بفرس أخرى، وكسى كثيرة، وآلاف من المال، فلمّا دخل مرّاكش، ولقي عليّ بن يوسف وأنزله، أنزل الحداد مع نفسه في بيت واحد، وشاركه في الأموال التي توجّه بها، فانصرف يجرّ وراءه دنيا عريضة.
ولمّا ملك سرقسطة (1)، اختصّ الوزير الحكيم أبا بكر بن الصائغ، ولطف منه محلّه. ذكر أنه غاب يوما عنه وعن حضور مجلسه بسرقسطة، ثم بكر من الغد، فلمّا دخل قال له: أين غبت يا حكيم عنّا؟ فقال: يا مولاي، أصابتني سوداء واغتممت، فأشار إلى الفتى الذي كان يقف على رأسه، وخاطبه بلسان عجمي (2)، فأحضره طبقا مملوءا مثاقيل محشمة، وعليها نوادير ياسمين، فدفعه كلّه إليه، فقال ابن باجة: يا مولاي، لم يعرف جالينوس من هذا الطّب، فضحك.
وذكر أنه أنشد شعرا في مدحه، وقد قعد للشراب، فاستفزّه الطرب، وحلف أن لا يمشي إلّا من فوق المال إلى منزله في طريقه، فالتمس الخدّام برنسه بأن كانوا يطرحون من المال شيئا له خطر، على أوعيته حتى يغمرها، فيمشي خطوا إلى أن وصل إلى منزله وحسد الحكيم أصحابه، ولم يقدروا على مطالبته. واتفق أن سار الأمير أبو بكر، وأمر أصحابه بالتأهّب والاستعداد، فاستعدّ ابن باجة، واتخذ الأقبية والأخبية، واستفره الجياد من بغال الحمولة، فكانت له منها سبعة صفر الألوان، حمل عليها الثياب والفرش والمال فلمّا نزل الأمير بمقرّه، مرّت عليه البغال المذكورة في أجمل الهيئات، فقال لجلسائه: لمن هذه البغال؟ ومن يكون من رجالنا هذا فأصابوا العزّة؟ فقالوا: هي للحكيم ابن الصائغ، صاحب سرقسطة، وليعلم مولانا أنّ في وسط كل حمل منها ألف دينار ذهبا سوى المتاع والعدّة فاستحسن ذلك. وقال: أهذا حقّ؟ قالوا: نعم، فدعا الخازن على المال، وقال له ادفع لابن باجة خمسة آلاف دينار ليكمل له ذلك اثني عشر ألفا، فقد سمعته غير ما مرة يتمنّى أن يكون له ذلك ثم بعث عنه في الحين وقال له: يا حكيم، ما هذا الاستعداد، فقال له: يا مولاي، كل ذلك من هباتكم وأعطياتكم، ولما علمت أن إظهار ذلك يسرّكم، فسرّ بذلك.
وأخباره رحمه الله كثيرة.
محنته: قالوا: ولمّا ولّي غرناطة سنة خمسمائة، ثار بها، وانبرى على قومه لأمر رابه، فانتبذ عنه قومه، وناصبوه الحرب، حتى استنزلوه عنوة، وقبضوا عليه،
__________
(1) ملكها سنة 510هـ، كما جاء في البيان المغرب (ج 4ص 61).
(2) في الأصل: «عجمية».(1/255)
ووجّهوه إلى علي بن يوسف، فآثر الإبقاء عليه، وعفا عنه، واستعمله بسرقسطة كذا ذكره الملّاحي، وأشار إليه. وعندي أن الأمر ليس كذلك، وأنّ الذي جرى له ذلك، أبو بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين، فيتحقّق.
وفاته: توفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة بعد أن ضاق ذرعه بطاغية الروم، الذي أناخ عليه بكلكله. وعندما تعرّف خبر وفاته، واتصلت بالأمير أبي إسحاق إبراهيم بن تاشفين، وهو يومئذ والي مرسية، بادر إلى سرقسطة، فضبطها، ونظر في سائر أمورها، ثم صدر إلى مرسية.
رثاؤه: ورثاه الحكيم أبو بكر بن الصائغ (1) بمراث اشتهر عنه منها قوله (2):
[الطويل]
سلام وإلمام ووسميّ مزنة (3) ... على الجدث النائي (4) الذي لا أزوره
أحقّ أبو بكر تقضّى فلا ترى (5) ... تردّ جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك اللحود بلحده (6) ... لقد أوحشت أقطاره (7) وقصوره
ومن ذلك قوله (8): [الخفيف]
أيها الملك قد (9) لعمري نعى المج ... د نواعيك (10) يوم قمنا فنحنا
__________
(1) هو محمد بن يحيى بن باجّة، فيلسوف الأندلس وإمامها في الألحان، استوزره أبو بكر بن إبراهيم، المعروف بابن تيفلويت صاحب سرقسطة. توفي سنة 533هـ. وترجمته في قلائد العقيان (ص 298)، والمغرب (ج 2ص 119) واسمه فيه: محمد بن الحسين بن باجه، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 515)، ووفيات الأعيان (ج 4ص 422)، وخريدة القصر قسم شعراء المغرب (ج 2ص 283)، والوافي بالوفيات (ج 2ص 420)، ومطمح الأنفس (ص 397)، ومعجم الأدباء (ج 4ص 547في ترجمة ابن خاقان). وسترد ترجمته في الجزء الرابع من الإحاطة في ترجمة ابن خاقان.
(2) الأبيات في المغرب (ج 2ص 119)، وقلائد العقيان (ص 303).
(3) في المغرب: «وإلمام وروح ورحمة على الجسد النائي».
(4) في الأصل: «الثاني» والتصويب من المصدرين.
(5) في المصدرين: «أحقّا أبا بكر تقضّى فما يرى».
(6) في القلائد: «القبور بلحده»، وفي المغرب: «تلك القبور بقبره».
(7) في الأصل: «أقصاره» والتصويب من القلائد. وفي المغرب: «أمصاره».
(8) الأبيات في قلائد العقيان (ص 301300).
(9) في الأصل: «المفدّى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من القلائد.
(10) في الأصل: «ناعيك» والتصويب من القلائد.(1/256)
كما تقارعت والخطوب إلى أن ... غادرتك الخطوب في التّرب رهنا (1)
غير أني إذا ذكرتك والدّه ... ر أخال اليقين في ذاك ظنّا
وسألنا متى اللقاء فقيل (2) ال ... حشر قلنا صبرا إليه وحزنا
إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، أمير المؤمنين، الملقب بالمأمون، مأمون الموحدين (3)
أوّليّته: جدّه عبد المؤمن، جذع الشجرة، وينبوع الجداول هو ابن علي بن علوي بن يعلى بن موار بن نصر بن علي بن عامر بن موسى بن عون الله بن يحيى بن ورجايغ بن سطفور بن نفور بن مطماط بن هزرج بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وكان طالبا بربريّا ضعيفا، خرج مع عمّه يؤمّ للشرق، وكان رأى رؤيا هالته تدلّ على ملك، إذ كانت صفحته من طعام على ركبتيه، يأكل منها الناس، وكانت أمه رأت وهي حامل، كأنّ نارا خرجت منها أحرقت المشرق والمغرب فكانت في نفسه حركة، لأجل هذه الرؤيا فلمّا حلّ بسجلماسة، سمع بها عن المهدي، وكان رجلا يعرف بأبي عبد الله السّوسي، ووصف له بالعلم، فتشوّف إلى لقائه، ليرى ما عنده في تأويل رؤياه فانصرف إليه مع بعض الطلبة، فلقي رجلا قد وسمه، على ما يزعم الناس، حدثان من أبي حامد الغزالي، وعلقت به دعوة منه، في إذهاب ملك أهل اللّثام (4)، لحرق كتابه على أيديهم، فهو مغرّى بالخروج عليهم، مهيأ في عالم الغيب إلى تخريب دعوتهم فوافق شنّ طبقة (5)، وما اجتمع الدّاآن إلّا ليقتتلا، والله غالب على أمره، فأجلسه، وسأله عن اسمه، وبلده، وسنّه، ونسبه، بالتعريف وأمره أن يخفي من أمره، وعبّر له رؤياه، بأنه يملك الأرض فاهتزّت الآمال وتعاضدت ونفذت مشيئة الله بأن دالت الدولة، وهلك محمد بن تومرت المهدي فأفضى الأمر إلى عبد المؤمن، واستولى على ملك اللّمتونيين، فأباد خضراءهم، واستأصل شأفتهم، واستولى على
__________
(1) في الأصل: «وهنا» والتصويب من القلائد.
(2) في القلائد: «فقالوا».
(3) يكنّى المأمون إدريس بن يعقوب الموحدي بأبي العلاء، وترجمته في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 274)، والحلل الموشية (ص 123)، ورايات المبرزين (ص 59)، والاستقصاء (ج 2ص 236).
(4) أهل اللّثام: هم المرابطون.
(5) هو مثل شنّ: رجل من دهاة العرب وعقلائهم، وطبقة: بنت هذا الرجل، يضرب للمتوافقين.
مجمع الأمثال (ج 2ص 359).(1/257)
ملك المغرب، فأقام به رسما عظيما، وأمرا جسيما، وأورثه بنيه من بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء.
حاله: كان، رحمه الله، شهما شجاعا، جريئا، بعيد الهمّة، نافذ العزيمة، قويّ الشكيمة، لبيبا، كاتبا أديبا، فصيحا، بليغا، أبيّا، جوادا، حازما. وذكره ابن عسكر المالقي في تاريخ بلده قال: دخل مالقة من قبل أخيه، فوصل إليها في الحادي عشر من محرم، وهو شاب حدث، فكان منه من نباهة القدر وجلالة النفس، وأبّهة الملك ما يعجز عنه كثير من الملوك. ولحين وصوله عقد مجلس مذاكرة، استظهر له نبهاء الطلبة، وكان الشيخ علي بن عبد المجيد يحضره. وكان يبدو منه، مع حداثة سنّه، من الذكاء والنّبل والتفطّن، ما كان يبهت الحاضرين، وكانوا ينظرون منه إلى بدريّ الحسن، وأسديّ الهيبة، وكهليّ الوقار والتؤدة واشتغل بما يشتغل به الملوك من تفخيم البناء، كبنيان رياض السيّد الذي على ضفة الوادي (1) بمالقة المعروف باسمه، لله ورسوله، وكان عرفاء البنّائين لا يتصرفون إلّا بنظره واستمرّت ولايته مفخّم الأمر، عظيم الولاية، إلى أن نقل منها إلى قرطبة، ثم نقل إلى إشبيلية وفيها بويع الخلافة (2).
تصيّر الأمر إليه، وجوازه إلى العدوة:
قام على أخيه العادل بين يدي مقلعة، ببمالأة أخيه السيد أبي زيد، أمير بلنسية وتحريكه إياه، فتمّ له ذلك وعقدت له البيعة بمرّاكش والأندلس. ثم إن الموحدين في مراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا عنه إلى ابن عمّه أبي زكريا بن الناصر واتصل به خبر خلعهم إياه فهاجت نفسه، ووقدت جمرته، واستعدّ لأخذ ثأره، ورحل من إشبيلية، واستصحب جمعا من فرسان الروم، واستجاز البحر سنة ست وعشرين وستمائة، قاصدا مراكش وبرز ابن عمّه إلى مدافعته، والتقى الجمعان فكانت الهزيمة على يحيى بن الناصر، وفرّ إلى الجبال، واستولى القتل على جيشه، ودخل المأمون مراكش فأمر بتقليد شرفاتها بالرؤوس فعمّتها على اتّساع السّاحة واستحضر النّاكثين لبيعته وبيعة أخيه، وهم كبار الدولة، واستفتى قاضيه (3) بمرأى منهم، واستحضر
__________
(1) قال في الحلل الموشية (ص 124) إن المأمون بنى قصر السيد بمالقة حين كان واليا عليها سنة 623هـ. والمراد بالوادي: وادي المدينة، وهو نهر يخترق الحاضرة مالقة.
(2) في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 274): «بويع بإشبيلية يوم الخميس ثاني شهر شوّال من سنة أربع وعشرين وستمائة».
(3) في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 285)، والحلل الموشية (ص 124): القاضي المكيدي.(1/258)
خطوطهم وبيعاتهم، فأفتى بقتلهم، فقتل جماعتهم، وهم نحو مائة رجل (1)، واتّصل البحث عمّن أفلت منهم، وصرف عزمه إلى محو آثار دولة الموحّدين، وتغيير رسمها، فأزال اسم مهديها عن الخطبة والسّكّة والمآذن، وقطع النداء عند الصلاة «تاصليت الإسلام» وكذلك «منسوب رب» «وبادرى» (2)، وغير ذلك، مما جرى عليه عمل الموحّدين وأصدر في ذلك رسالة حسنة، من إنشائه، يأتي ذكرها في موضعه.
وعند انصرافه من الأندلس، خلا للأمير أبي عبد الله بن هود الجوّ، بعد وقائع خلت بينهما، وانتهز النصارى الفرصة فعظمت الفتنة، وجلّت المحنة.
دخوله غرناطة: لم يصحّ عندي أنه دخل غرناطة، مع غلبة الظن القريب من العلم بذلك، إلّا طريقه إلى مدافعته المتوكل بن هود بجهة مرسية فإنه تحرك لمعالجة أمره في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد، والي بلنسية، بعد هزائم جرت بصقع الشرق لابن هود فتحرك المأمون إليه، واحتلّ غرناطة، في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إلى أخيه، يقوّي بصيرته، ويعلمه بنفوذه إليه والتفّ عليه جيش غرناطة وما والاها، واتصل سيره إلى الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورقة، فانهزم ابن هود، وفرّ إلى مرسية، وعساكر الموحدين في عقبه واستقصاء مثل هذا يخرج عن الغرض.
وخاطب لأول أمره، وأخذ الناس ببيعته من بأقطار الأندلس، صادعا بالأمر المعروف، والنّهي عن المنكر، والحضّ على الصلوات وإيتاء الزكاة، وإيتاء الصدقات، والنهي عن شرب الخمر والمسكرات والتحريض على الرعاية، فمن كتابه:
«الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر أصلين يتفرّع منهما مصالح الدنيا والدين، وأمر بالعدل والإحسان، إرشادا إلى الحق المبين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد النبي الكريم، المبعوث بالشريعة التي طهرت الجيوب من الأدران، واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان، طورا بالشدة، وتارة باللّين القائل، ولا عدول عن قوله: «ومن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين وعلى آله أعلام الإسلام، الملقين راية الإسلام باليمين، الذين مكّنهم الله في الأرض، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفاء بالواجب لذلك التمكين.
__________
(1) في البيان المغرب (ص 285): مائة شخص من أعيانهم. أما الذين قتلوا، يقول ابن عذاري، أمم لا تحصى. وقدّر صاحب الحلل الموشية (ص 124) عددهم بأربعة عشر ألف فارس وأكثر.
(2) يبدو أن هذه الكلمات بربرية.(1/259)
ومن فصل: «وإذا كنّا نوفي الأمة تمهيد دنياها، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهمّ وأولى، والتهمّم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحقّ أن يقدّم وأحرى، وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتبع السّنن المشروعة ونذر البدع.
ولنا أن لا ندّخر عنها نصيحة، ولانغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع».
ومن فصل: «وأول ما يتناول به الأمر النافذ، الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعتها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحبّ الأعمال إليّ الصلاة لأوقاتها». وقال: «أول ما ينظر فيه من أعمال العيد الصلاة». وقال عمر: إن أهمّ أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع. وقال: «لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وهي الركن الأعظم من أركان الإيمان، والسور الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزية على صلاة الواحد، أمر لا يضيّعه المفلحون، ولا يحافظ عليها إلّا المؤمنون. قال ابن مسعود، رضي الله عنه: لقد رأينا، وما يتخلّف عنها إلّا المنافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى يتهادى بين الرّجلين، حتى يقام في الصّف. وشهود الصبح، وعشاء الآخرة شاهد بمحضر الإيمان. ولقد جاء: حضور الصبح في جماعة يعدل قيام ليلة، وحسبكم بهذا الرّجحان. ومن الواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين، ويأخذ بها في جميع الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ونيط في إلزامها قوله عليه الصلاة والسلام: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين». وهي طويلة في معاني متعددة.
نثره ونظمه: ولمّا غيّر رسوم الموحّدين وأوقع بأرباب دولتهم خبر النكث ببيعته وبيعتي أخيه وعمّه، كتب إلى الأقطار عن نفسه، ولم يكمل إنشاءه بكتابة رسالة بديعة اشتملت على فصول كثيرة تنظر في كتاب «المغرب» و «البيان المغرب» وغير ذلك.
وكتابا بخطّه إلى أهل أندوجر (1): «إلى الجماعة والكافّة من أهل فلانة، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة أما بعد فإنّه قد وصل من قبلكم كتابكم الذي (2) جدّد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السّهاد (3)، بالداهية النّاد (4)
__________
(1) الرسالة في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 286285).
(2) في البيان المغرب: «كتاب جدد».
(3) في المصدر نفسه: «من العناد».
(4) في الأصل: «الساد»، والتصويب من البيان المغرب.(1/260)
أتعتذرون من المحال بضعف الحال، وقلّة (1) الرجال؟ إذا نلحقكم بربّات الحجال.
كأنّا لا نعرف مناحي أقوالكم، وسوء (2) منقلبكم وأحوالكم لا جرم أنكم سمعتم بالعدوّ قصمه الله، وقصده إلى (3) ذلك الموضع عصمه الله فطاشت قلوبكم خورا، وعاد صفوكم كدرا، وشممتم ريح الموت وردا وصدرا وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب (4)، وأن الفضاء قد غصّ بالتفاف القنا واصطفاف المناكب (5)، ورأيتم غير شيء فتخيّلتموه (6) طلائع الكتائب. تبّا لهمّتكم (7) المنحطّة، وشيمتكم (8) الرّاضية بأدون خطّة أحين (9) ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذبّ (10) عن كلمة إيمانكم، نسّقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفّقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة لقد آن لكم أن تتبدلوا جلّ الخرصان (11)، إلى مغازل النّسوان وما لكم ولصهوات الخيول، وإنما على الغانيات جرّ الذيول. أتظهرون العناد (12) تخريصا، بل تصريحا وتلويحا، ونظنّ أن لا يجمع لكم شتّا، ولا يدني منكم نزوجا. أين المفرّ وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم؟ فأزيلوا (13) هذه النزعة النّفاقيّة من (14) خواطركم قبل أن نمحو بالسيف أقوالكم وأفعالكم، ونستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، ونحن نقسم بالله لو اعتسفتم كل بيداء سملق، واعتصمتم بأمنع معقل، وأحفل فيلق، ما ونينا عنكم زمانا، ولا ثنينا عن استئصال العزم منكم (15) عنانا فلا يغرّنكم الإمهال، أيّها الجهّال». وهي طويلة. وقال عند الإيقاع بالأشياخ أولي الفساد على الدول، وصلبهم في الأشجار والأسوار، مما كلف السّلمي بحفظها واستظرافها (16): [الكامل]
أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه بالذّكّار (17)
__________
(1) في البيان المغرب: «وبقلة الرجال، فألحقكم».
(2) في البيان المغرب: «ولا نعلم بتقلّبكم في أحوالكم».
(3) كلمة «إلى» ساقطة في البيان المغرب.
(4) في البيان المغرب: «الجوانب».
(5) في المصدر نفسه: «المقانب».
(6) في المصدر نفسه: «فحسبتموه».
(7) في المصدر نفسه: «لهممكم».
(8) في المصدر نفسه: «وشيمكم».
(9) في المصدر نفسه: «حين».
(10) في المصدر نفسه: «والذبّ بالكلمة عن مقتضى إيمانكم».
(11) في المصدر نفسه: «أن تمدوا ذيل الحرمان».
(12) في المصدر نفسه: «العناد تصريحا وتلويحا، وتظنون أنكم إذا تفرّقتم لا نجمع لكم شتاتا، ولا ندني».
(13) في الأصل: «فأميطوا».
(14) في الأصل: «عن».
(15) في الأصل: «عنكم».
(16) الأبيات في الحلل الموشية (ص 125)، والبيان المغرب قسم الموحدين (ص 285).
(17) في المصدرين: «للذكار».(1/261)
ففساده فيه الصلاح لغيره ... بالقطع والتّعليق في الأشجار
ذكّارهم ذكري إذا ما أبصروا ... فوق الجذوع وفي (1) ذرى الأسوار
لو عمّ عفو (2) الله سائر (3) خلقه ... ما كان أكثرهم من اهل النّار
توقيعه: قال ابن عسكر: وكانت تصدر منه توقيعات نبيلة، فمنها أن امرأة رفعت رقعتها بأحد من الأجناد ممّن نزل دارها، وصدر لها أمر ينكر فوقّع على رقعتها: «يخرج هذا النازل، ولا يعوّض بشيء من المنازل». وغير ذلك مما اختصرناه.
بنوه: أبو محمد عبد الواحد وليّ عهده، وأمير المؤمنين بعد وفاته، الملقّب بالرشيد وعبد العزيز، ومان وأبو الحسن علي، الملقّب بالسعيد، الوالي بعد أخيه الرشيد.
بناته: ابنة العزيز، وصفية، ونجمة، وعائشة، وفتحونة وأمّهات الجميع روميّات، وسرّيّات مغربيات.
وزراؤه: وزر له الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر وغيره.
كتّابه: كتب له جملة من مشاهير الكتّاب، منهم أبو زكريا الفازازي، وأبو المطرّف بن عميرة، وأبو الحسن الرّعيني، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو العباس بن عمران، وغيرهم. وما منهم إلّا شهير كبير.
وفاته: توفي، رحمه الله، بوادي أم الربيع، وقد طوى المراحل من ظاهر سبتة، مقلعا عن حصارها، مبادرا إلى مرّاكش، وقد اتصل به دخول يحيى بن الناصر إياها، فأعدّ السير وقد اشتدّ حنقه على أهلها، وأقسم أن يبيح حماها للرّوم، ويذهب اسمها ومسمّاها، فهلك عند دنوّه منها فجأة، فكانت عند أهل مراكش من غرر الفرج بعد الشدة وكتمت زوجه حبابة الرومية، أم الرشيد ولده، خبر وفاته إلّا عن الأفراد من قوّاد النصارى وبعض الأشياخ، واتفق القول على مبايعة ابنها المذكور، بيعة خاصّة ثاني يوم وفاته ثم جعل في هودج وأشيع أنه مريض، وزحفت الجيوش على تعبئته وبرز يحيى بن الناصر من مراكش إلى لقائه، والتقى الجمعان فانهزم يحيى، واستولى الرشيد عليه، ودخل مراكش فاستقام الأمر وكانت
__________
(1) في الحلل الموشية: «في» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الحلل الموشية: «حكم». وفي البيان المغرب: «حلم».
(3) في البيان المغرب: «كافة».(1/262)
وفاة المأمون أبي العلا، رحمه الله، ليلة الخامس عشر لمحرم عام ثلاثين وستمائة (1).
وجرى ذكر المأمون والمهدي وأوّليّتهم في الرجز المتضمّن ذكر المسلمة (2) من نظمي بما نصّه بعد ذكر الدولة اللّمتونية: [الرجز]
ونجم المهديّ وهو الدّاهيه ... فأصبحت تلك المباني واهيه
وانحكم الأمر له وانجمعا ... في خبر نذكر منه لمعا
لم يأل فيها أن دعا لنفسه ... وكان في الحزم فريد جنسه
أغرب في ناموسه ومذهبه ... وفي الذي سطّره من نسبه
وعنده سياسة وعلم ... وجرأة وكلام وحلم
ووافقت أيامه في الناس ... لدولة المسترشد العبّاسي
ثم انقضت أيامه المنيفه ... وكان عبد المؤمن الخليفة
فضاء لون سعده ووضحا ... ولاح مثل الشمس في وقت الضّحى
ثم تلمسان وفاسا فتحا ... وملك أصحاب اللثام قد محا
ولما انتهى القول إلى المأمون المترجم به، بعد ذكر من يليه وعبد المؤمن جدّه، قلت: [الرجز]
ثم تولّى أمرهم أبو العلا ... فسلّط البيض على بيض الطّلا
وهو الذي أركب جيش الروم ... وجدّ في إزالة الرسوم
أسباط بن جعفر بن سليمان بن أيوب بن سعد السعدي سعد ابن بكر بن عفان الإلبيري
هذا هو جدّ سعيد بن جودي بن سوادة بن جودي بن أسباط، أمير المغرب.
وقدرهم بهذه المدينة شهير.
__________
(1) في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 274): «توفي يوم السبت منسلخ ذي الحجة من سنة تسع وعشرين وستمائة، فكانت دولته خمسة أعوام وثلاثة أشهر». وهكذا جاء في الحلل الموشية (ص 123، 125).
(2) هو كتاب «رقم الحلل في نظم الدول» وهو عبارة عن تاريخ منظوم للدول الإسلامية الخلفاء الأوائل، وبني العباس، وبني الأغلب، وبني أمية بالأندلس، والطوائف والمرابطين والموحدين وبني نصر وبني مرين. وقد شرح ابن الخطيب نفسه هذه القصائد نثرا بقلمه.(1/263)
حاله: وكان من أهل العلم والفقه، والدين المتين، والورع الشديد، والصلاح الشهير.
نباهته: ولّاه الأمير عبد الرحمن قضاء إلبيرة حين بلغه زهده وورعه، وأنّه لم يشرك إخوته في شيء من ميراث أبيه، إذ كان لم يحضر الفتح، فبرىء به إليهم، وابتاع موئلا بوطنه أنيط به ماء، وانفرد به للعبادة والتبتّل، فاستقدمه هشام، فركب حماره وقدم عليه في هيئة رثّة بذلّة، فتوسّم فيه الخير، وقدّمه ووسّع له في الرّزق، ووهب له ضياعا كثيرة تعرف اليوم باسمه. وتوفي هشام وهو قاض بإلبيرة، فأقرّه ابنه الحكم ثم ولّاه شرطته، إلى أن توفي أسباط. قلت: انظر حال الشرطة عند الخلفاء من كان يختار لها لولايتها.
أسلم بن عبد العزيز بن هشام بن خالد بن عبد الله بن خالد ابن حسين بن جعفر بن أسلم بن أبان
مولى عثمان بن عفّان، رضي الله عنه يكنى أبا الجعد.
أوّليّته: من أهل شرق الأندلس، أصلهم من لوشة فتيّة غرناطة (1)، وموضعهم بها معروف، وإلى جدّهم ينسب جبل أبي خالد المطلّ عليها، وكان لهم ظهور هنالك، وفيهم أعلام وفضلاء.
حاله: كان أسلم من خيار أهل إلبيرة، شريف البيت، كريم الأبوّة، من كبار أهل العلم، وكانت فيه دعابة، لم ينسب إليه قطّ بسببها خزية في دين ولا زلّة. قال أبو الفضل عياض (2): كان أسلم من خيار أهل إلبيرة، رفيع الدرجة في العلم، وعلوّ الهمّة في الإدراك، والرواية والدّيانة، والصّحبة، وبعد الرّحلة في طلب العلم، معروف النّصيحة والإخلاص للأمراء.
مشيخته: لقي بمصر، المدني، ومحمد بن عبد الحكم، ويونس، والربيع بن سليمان المؤذن، وأحمد بن عبد الرحيم البرقي. وسمع من علي بن عبد العزيز، وسليمان بن عمران بالقيروان.
__________
(1) لوشة: بالإسبانية، وهي مدينة ضخمة، أسماها ابن الخطيب فتية غرناطة أو بنت غرناطة، اعتزازا بها كونه منها. راجع: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 63).
(2) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، المتوفّى سنة 544هـ. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.(1/264)
من روى عنه: سمع منه عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن يونس، ومحمد بن قاسم، وغير واحد، وانصرف إلى الأندلس من رحلته، فنال الوجاهة العظيمة.
ولايته: ولّاه قضاء الجماعة بغرناطة، الناصر لدين الله، أول ولايته، وسط سنة ثلاثمائة، إلى أن استعفى سنة تسع وثلاثمائة فأعفاه، ثم أعاده. وكان في قضائه صارما لا هوادة عنده. قال المؤرّخ: كان الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا خرج إلى مغازيه. وحكى ابن حارث أن ابن معاذ وابن صالح أتيا يوما، فلمّا أخذا مجلسهما نظر إليهما وقال: ألقوا ما أنتم ملقون فأبهتهما. ودخل عليه محمد بن وليد يوما، فكلّمه في شيء، فقال أسلم: سمعنا وعصينا. فقال ابن وليد: ونحن قلنا واحتسبنا. وأتاه في بعض مجالسه شهود، بعضهم من أهل المدينة بقرطبة، وبعضهم من شلار من الرّبض الشرقي، يشهدون في ترشيد امرأة من الرّبض الغربي، فلما أخذوا مجالسهم، فتح باب الخوخة التي في المجلس الذي يجلس بدهليزه، ونادى من بخارجه فاجتمعوا اسمعوا، عجبا لله درّ الشاعر حيث يقول: [الكامل]
راحت مشرّقة ورحت مغرّبا ... شتّان بين مشرّق ومغرّب
هؤلاء من أهل المدينة وشلار، يشهدون في ترشيد امرأة من ساكنات آخر بلاط مغيث، ثم سكت فدهش القوم وتسلّلوا. وبلغه عن بعض الشهود المتّهمين أنه أرشي في شهادته ببساط، فلما أتى ليؤدّيها، ودخل على أسلم، جعل يخلع نعليه عند المشي على بساط القاضي، فناداه: أبا فلان، البساط، الله الله فتنبّه بأن أمره عند القاضي، ولم يجسر على أداء شهادته تلك. وخاصم فقيه عند أسلم رجلا في خادم أغربها، وجاء بشاهد أتى به من إشبيلية، فقال: يا قاضي، هذا شاهدي فاسمع منه، فصعّد أسلم في الشاهد وصوّب، وقال: أمحتسب (1) أو مكتسب أصلحك الله؟ فقال الشاهد: أحسن الظنّ أيها القاضي، فليس هذا إليك، هذا إلى الله المطّلع على ما في القلوب، ولم تقعد هذا المقعد لتسأل عن هذا وشبهه، وإنما عليك الظاهر، وتكل الباطن إلى الله، فإن شئت، فاسمع الشهادة كما يلزمني أداؤها، ثم اقبلها أو اضرب بها الحائط. وفي رواية أخرى، وليس لك أن تكشف السّتر المنسدل بينك وبيني، فإن هذا التفسير للشهود يوقف عن الشهادة عندك، ويعرّض لإهانتك أهل لائقة، وفي ذلك من ضياع الحقوق ما لا يخفى، فأخجل أسلم كلامه، وقال له: لك ما قلت، فأدّ
__________
(1) المحتسب هنا بمعنى المدّخر أجره عند الله تعالى.(1/265)
شهادتك، يرحمك الله. قال: فأين الخادم؟ تحضر حتى أشهد على عينها، قال أسلم وفقيه أيضا: هاتوا الخادم، فجاءت من عند الأمين، فلمّا مثلت بين يديه، نظر منها مليّا، ثم قال: أعرف هذه الخادم ملكا لهذا الرجل، لا أعرف ملكه، زال عنها بوجه من الوجوه، إلى حين شهادتي هذه، سلام على القاضي، ثم خرج، فبقي أسلم متعجّبا منه.
محنته: كفّ بصره في أخريات أيامه، فطلب لأجل ذلك الإعفاء فأعفي، ولزم بيته صابرا محتسبا إلى حين وفاته.
مولده: سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
أسد بن الفرات بن بشر بن أسد المرّي
من أهل قرية الصّير مورته (1)، من إقليم البساط من قرى غرناطة.
حاله: كان عظيم القدر والشرف والشّهرة، أصيل المعرفة والدين.
مشيخته: خرج إلى المشرق، ولقي مالك بن أنس، رضي الله عنه، روى عنه سحنون بن سعيد.
تآليفه: ألّف كتاب «المختلطة»، وولّي القضاء بالقيروان أجمل ما كانت وأكثر علما، وولّاه زيادة الله (2) غزو صقلية، ففتحها وأبلى بلاء حسنا.
وفاته: توفي، رحمه الله، محاصرا سرقوسة منها سنة ثلاث عشرة (3) ومائتين.
هذا ما وقع في كتاب أبي القاسم الملّاحي. وذكره عياض فذكر خلافا في اسمه وفي أوّليته.
أبو بكر المخزومي الأعمى الموروري المدوّري (4)
حاله: كان أعمى (5)، شديد القحة والشّرّ، معروفا بالهجاء، مسلّطا على
__________
(1) الصير مورته: بالإسبانية.
(2) هو أبو محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، صاحب إفريقية من سنة 201هـ إلى سنة 223هـ. البيان المغرب (ج 1ص 96)، والكامل في التاريخ (ج 6ص 328، 493).
(3) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.
(4) ترجمة أبي بكر المخزومي في المغرب (ج 1ص 228)، ورايات المبرزين (ص 160)، ونفح الطيب (ج 1ص 185، 278).
(5) هذا النص في نفح الطيب (ج 1ص 185).(1/266)
الأعراض، سريع الجواب، ذكيّ الذهن، فطنا للمعاريض (1)، سابقا في ديوان (2)
الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره.
دخوله غرناطة: وذكر شيء من شعره، ومهاترته مع نزهون بنت القلاعي.
قال (3) أبو الحسن بن سعيد، في كتابه المسمّى ب «الطالع السعيد»: قدم على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد عمل غرناطة، ونزل قريبا منه، وكان يسمع به فقال: صاعقة يرسلها الله، عزّ وجلّ، على من يشاء من عباده، ثم رأى أن يبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعاه بهذه الأبيات: [المجتث]
يا ثانيا للمعرّي ... في حسن نظم ونثر
وفرط ظرف ونبل ... وغوص فهم وفكر
صل ثم واصل حفيّا ... بكلّ شكر وبرّ (4)
وليس إلّا حديث ... كما زها عقد درّ
وشادن قد تغنّي (5) ... على رباب وزمر
وما يسامح فيه ال ... غفور من كأس خمر
وبيننا عقد حلف ... لبان شرك وكفر (6)
فقم نجدّده عهدا ... بطيب شكر وسكر (7)
والكأس مثل رضاع ... ومن كمثلك يدري؟
ووجّه (8) له الوزير أبو بكر بن سعيد عبدا صغيرا قاده، فلمّا استقرّ به المجلس، وأفعمته روائح النّدّ (9) والعود والأزهار، وهزّت عطفه الأوتار، قال: [البسيط]
دار السّعيديّ ذي أم دار رضوان (10) ... ما تشتهي النّفس فيها حاضر دان
__________
(1) المعاريض: جمع معراض وهو التورية، والمعراض من الكلام: فحواه. محيط المحيط (عرض).
(2) في النفح: «ميدان».
(3) النص والأبيات في النفح (ج 1ص 186185).
(4) في النفح: «بكلّ برّ وشكر».
(5) في النفح: «وشادن يتغنّى على».
(6) رواية البيت في النفح هي:
وبيننا عهد حلف ... لياسر حلف كفر
(7) في النفح: «نعم فجدّده ويسر».
(8) النص والشعر في نفح الطيب (ج 1ص 188186) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(9) النّدّ: بفتح النون وتشديد الدال: الطّيب. مختار الصحاح (ندد).
(10) رضوان، بكسر الراء وسكون الضاد: اسم بوّاب الجنة وخازنها، والمراد هنا الجنّة. محيط(1/267)
سقت أبارقها للنّدّ سحب ندى ... تحدو برعد لأوتار وألحان (1)
والبرق من كلّ دنّ (2) ساكب مطرا ... يحيي به ميت أفكار وأشجان
هذا النعيم الذي كنّا نحدّثه ... ولا سبيل له إلّا بآذان
فقال أبو بكر بن سعيد: «ولا سبيل له إلّا بآذان» (3)، فقال: حتى يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات، قال: وإن قائلها أعمى، فقال: أمّا أنا، فلا أنطق بحرف في ذلك، فقال: من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي، الآتي ذكرها، حاضرة، فقالت: ونراك يا أستاذ، قديم النغمة (4)، بندّ وغناء وطيب شراب، تتعجب من تأتّيه، وتشبّهه بنعيم الجنة، وتقول: ما كان يلمّ إلّا بالسّماع، ولا يبلغ إليه إلّا بالعيان؟ لكن من يجيء من حصن المدوّر، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفة بمجالس النّغم (5)؟ فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى، فقالت له: دعه (6)، فقال: من هذه الفاعلة (7)؟ فقالت: عجوز مقام أمّك، فقال:
كذبت، ما هذا صوت عجوز، إنما هذه نغمة قحبة محترقة تشمّ روائح كذا (8) منها على فرسخ (9)، فقال له أبو بكر: يا أستاذ، هذه نزهون بنت القلاعي الشّاعرة الأديبة، فقال: سمعت بها لا أسمعها الله خيرا، ولا أراها إلّا أيرا (10). فقالت له:
يا شيخ سوء تناقضت، وأيّ خير أفضل للمرأة ممّا ذكرت (11)؟ ففكّر المخزومي ساعة ثم قال: [الطويل]
على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وإن كان قد أمسى من الضّوء عاريا (12)
__________
المحيط (رضي).
(1) في النفح: «سقت أباريقها تحدى وعيدان».
(2) الدّنّ: الراقود العظيم. القاموس المحيط (دنن).
(3) هنا تعريض بأن المخاطب أعمى يعتمد على الأذن.
(4) في النفح: «النعمة» بالعين غير المعجمة.
(5) في النفح: «النعيم».
(6) في النفح: «ذبحة».
(7) في النفح: «الفاضلة».
(8) في النفح: «هنها». والهن، بفتح الهاء: الفرج. القاموس المحيط (هنن).
(9) في النفح: «فراسخ».
(10) بياض في الأصل، وقد أشار عنان إلى حذفها لأنها كلمة نابية. وقد أخذناها من النفح.
(11) قوله: «ممّا ذكرت» أضفناه من نفح الطيب ليستقيم المعنى والسجعة معا.
(12) أخذ معنى هذا البيت من قول ذي الرّمّة في صاحبته ميّ: [الطويل]
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشّين لو كان باديا
الشعر والشعراء (ص 439).(1/268)
قواصد نزهون توارك (1) غيرها ... ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا (2)
فأعملت فكرها وقالت (3): [المجتث]
قل للوضيع مقالا ... يتلى إلى حين يحشر
من المدوّر أنشئ ... ت والخرا (4) منه أعطر
حيث البداوة أمست ... في أهلها (5) تتبختر
لذاك (6) أمسيت صبّا ... بكلّ شيء مدوّر (7)
خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كلّ أعور
جازيت شعرا بشعر ... فقل لعمري من أشعر (8)
إن كنت في الخلق أنثى ... فإنّ شعري مذكّر
فقال لها اسمعي (9): [المتقارب]
ألا قل لنزهونة ما لها ... تجرّ من التّيه أذيالها
ولو أبصرت فيشة (10) شمّرت ... كما عوّدتني، سربالها
__________
(1) في الأصل: «تدارك»، وقد صوّبناه من النفح.
(2) عجز هذا البيت تضمين لبيت المتنبي من قصيدة قالها في مدح كافور: [الطويل]
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا
العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب (ص 474).
(3) الأبيات أيضا في المغرب (ج 1ص 228) ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(4) الخرا: كلمة عامّيّة، وبالفصحى: «الخرء» وهو العذرة. القاموس المحيط (خرىء).
(5) في النفح: «مشيها». وفي المغرب: «جهلها».
(6) في الأصل: «لذلك» وهكذا ينكسر الوزن والتصويب من المغرب والنفح.
(7) رواية البيت في المغرب هي:
لذاك أمسيت تهوى ... حلول كلّ مدور
(8) في الأصل: «من أشعر» بهمزة أصلية، وهكذا ينكسر الوزن. ورواية البيت في المغرب هي:
جاوبت هجوا بهجو ... فقل لعنت من اشعر
(9) البيتان أيضا في المغرب (ج 1ص 228).
(10) في الأصل: «بشّة»، والتصويب من المغرب والنفح. والفيشة، بفتح الفاء والشين وسكون الياء:
رأس الذّكر. محيط المحيط (فيش).(1/269)
فحلف أبو بكر بن سعيد ألّا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمة، فقال المخزومي: أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون شيء؟ فقال: أنا أشتري منك عرضها فاطلب، فقال: بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك، فإنه ليّن القدّ رقيق الملمس (1). فقال أبو بكر: لولا أنه صغير كنت أبلّغك فيه مرادك، وأهبه لك ففطن لقصده، وقال: أصبر عليه حتى يكبر، ولو كان كبيرا ما آثرتني على نفسك فضحك أبو بكر وقال: قد هجوت نثرا، وإن لم تهج نظما، فقال: أيها الوزير، لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح بينه وبين نزهون.
وقال يمدح القاضي بغرناطة أبا الحسن بن أضحى (2)، رحمهما الله (3):
عجبا للزمان يطلب هضمي (4) ... وملاذي منه عليّ بن أضحى
جاره قد سما على النّطح عزّا ... ليس يخشى من حادث الدهر (5) نطحا
فكأنّي علوت قرن فلان ... أيّ تيس مطوّل القرن ألحى
فقال له ابن أضحى: هلّا اقتصرت على ما أنت بسبيله، فكم تقع في الناس؟
فقال: أنا أعمى وهم حفر فلا أزال أقع فيها، فقال: فأعجبني كلامه على قبحه.
وحديث مقامه بغرناطة يقتضي طويلا.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف، كان حيّا بعد الأربعين وخمسمائة.
أصبغ بن محمد بن الشيخ المهدي
يكنى أبا القاسم عالم مشهور.
حاله: كان محقّقا بعلم العدد والهندسة، مقدّما في علم الهيئة والفلك وعلم النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطّب.
__________
(1) في النفح: «فإنه ليّن اليد، رقيق المشي».
(2) الوزير أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى، من بيت عظيم بغرناطة، ثار بها ودعا لنفسه بعد مقتل تاشفين بن يوسف بن تاشفين المرابطي سنة 539هـ. وتوفي سنة 540هـ. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.
(3) الأبيات في المغرب (ج 1ص 230).
(4) في المغرب: «ثاري».
(5) في المغرب: «من طالب الثّأر».(1/270)
تواليفه: تواليفه حسان، وموضوعاته مفيدة منها كتاب «المدخل إلى الهندسة» في تفسير كتاب أقليدس. ومنها كتاب ثمار العدد المعروف ب «المعاملات». ومنها كتابه الكبير في الهندسة، تقصّى فيه أجزاءها. ومنها كتاب في الآلة المعروفة بالأسطرلاب. ومنها تاريخه الذي ألّفه وهو تاريخ كبير.
وفاته: قال ابن جماعة في تاريخه: أخبرني أبو مروان سليمان بن عيسى الناشىء المهندس، أنه توفي بمدينة غرناطة قاعدة الأمير حبّوس ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت لرجب سنة ست وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ست وخمسين سنة شمسية. وعدّه من مفاخر الأندلس.
أبو علي بن هدية
من أهل غرناطة.
حاله: قال أبو القاسم الملّاحي فيه: من أهل الدين، والفضل، والأمانة، والعدالة، والمعرفة بالتكسير والأعمال السلطانية، وولّي «المستخلص» (1) بغرناطة، فثقب وأجاد النظر. قال ابن الصّيرفي: ولما ولي الوزير أبو علي بن هديّة المستخلص، وباشر جلائل الأمور ودقائقها بنفسه، حمى المناصفين، ورفع المؤن والكلف عنهم، ووسّع بسليف البذر عليهم، وآثرهم بالنّصفة بالتزام حصّة بيت المال ولم يكن له حجّاب ولا بوّاب، فكان القويّ والضعيف، والمشروف والشريف، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، شرعا سواء في الوصول إليه، والتكلّم في مجلسه، فلم يهتضم جانب، ولا دحضت حجة إلّا أنه ارتفعت الرّقبة، وزالت الهيبة، وأمحق نور الخطّة وخصّ أحباس (2) جامع غرناطة بنظره، بفضل مال كثير من غلّته، ونبّه باجتماعه ليزيد به بلاطين في مسقفه من شرقه وغربه، فأكمل الله ذلك بسعيه وعلى يديه ورام ربع المستخلص، وزاد به في حمّاماته ورمّ حوانيته، واستحدث منيحة سمّاها المستحدثة، وغرس قضبان الجوز في مواضع المياه، وعوّض بما ذهب، وشمّر في جمع المال، ووالى الحفز على العمل، ونصح بمقتضى جهده، ومنتهى وسعه، ولم تمدّ يده في مصانعة، ولا مالت إلى مداخلة، ولكنه لم يحمل في حق، ولا نوقش في باطل.
__________
(1) هو مستخلص السلطان، أي أملاكه الخاصة.
(2) الأحباس: هي ما يحبس لأغراض الخير، وهي الأوقاف.(1/271)
أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطّنجالي
من أهل لوشة.
نبيلة حسيبة، تجيد قراءة القرآن، وتشارك في فنون من الطّلب، من مبادئ غريبة، وخلف وإقراء مسائل الطّبّ، وتنظم أبياتا من الشعر. وذكرتها في خاتمة «الإكليل» (1) بما نصّه: «ثالثة حمدة وولّادة، وفاضلة الأدب والمجادة، تقلّدت المحاسن من قبل ولّادة، وأولدت أبكار الأفكار قبل سنّ الولادة. نشأت في حجر أبيها، لا يدّخر عنها تدريجا ولا سهما، حتى نهض إدراكها وظهر في المعرفة حراكها، ودرّسها الطبّ ففهمت أغراضه، وعلمت أسبابه وأعراضه». وفي ذكر شعرها:
«ولمّا قدم أبوها من المغرب، وحدّث بخبرها المغرب، توجّه بعض الصدور إلى اختبارها، ومطالعة أخبارها، فاستنبل أغراضها واستحسنها، واستطرف لسنها، وسألها عن الخطّ، وهو أكسد بضاعة جلبت، وأشحّ درّة حلبت. فأنشدته من نظمها:
[البسيط]
الخطّ ليس له في العلم فائدة ... وإنّما هو تزيين بقرطاس
والدرس سؤلي لا أبغي به بدلا ... بقدر علم الفتى يسمو على الناس
وراجعها بعض المجّان، يغفر الله له: [مجزوء البسيط]
إن فرط الدرس يا أمّي سحق ... وهذا هو المشهور في الناس (2)
فخذ من الدرس شيئا تافها ... خطّا وبالفهم كلّ الناس (3)
ومن شعرها في غرض المدح: [الكامل]
إن قيل من للناس (4) ربّ فضيلة ... حاز العلا والمجد منه أصيل
فأقول رضوان وحيد زمان ... إنّ الزمان بمثله لبخيل
__________
(1) هو كتاب ابن الخطيب المسمّى: «الإكليل الزاهر فيمن فصل عند نظم الجواهر».
(2) عجز هذا البيت مختلّ الوزن.
(3) في الأصل: «خطّا وبالفهم يحيى كل الناس» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(4) في الأصل: «الناس» وهكذا ينكسر الوزن.(1/272)
بلكّين بن باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري ابن مناد الصّنهاجي (1)
الأمير الملقّب بسيف الدولة، صاحب أمر والده والمرشح للولاية بعده.
حاله: قال المؤرّخ (2): كان زيري بن مناد، ممّن ظهر في حرب ابن يزيد بإفريقية، واتّسم هو وقومه بطاعة العبيديين أمراء الشيعة، فكانوا حربا لأضدادهم من زناتة الموالين لأملاك المراونة (3) لتحقّق جدّهم خزر بولايته عثمان بن عفان، رضي الله عنه فلمّا صار الأمر إلى بني مناد بعد انتقال ملك الشيعة إلى المشرق، وولّي الأمر باديس بن منصور بن بلكّين بن زيري، ذهب أعمامه وأعمام أبيه إلى استضعافه، فلم يعطهم ذلك من نفسه، ووقعت بينهم الحرب التي قتل فيها عمّ أبيه ماكسن بن زيري، فرهب الباقون منهم صولة باديس، وخافوا عاديته على أنفسهم، على صغر سنّه فخاطب شيخ بيته يومئذ زاوي بن زيري ومعه أبناء أخيه، المظفّر بن أبي عامر ليجوز إليه إلى الأندلس رغبة في الجهاد، فألفى همّة بعيدة، وملكا شامخا، يذهب إلى استخدام الأشراف واصطناع الملوك، فأذن في ذلك فدخل منهم جماعة الأندلس مع أميرهم زاوي بن زيري، ومعه أبناء أخيه حباسة وحبّوس وماكسن فأنزلهم المظفّر وأكرمهم، إلّا أنهم كابدوا مشقّة من دهرهم الذي أصارهم يخدمون بأبواب الملوك من أعدائهم غيرهم فلمّا انهدمت الإمامة، وانشقّت عصا الجماعة، سعوا في الفتنة سعي غيرهم من سائر قبائل البرابرة، عند تشديد أهل الأندلس للبربر وانحازوا عند ظهورهم على أهل الأندلس، بملوك بني حمّود، إلى بلاد تضمّهم، فانحازت صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم زاوي بن زيري إلى مدينة غرناطة. ثم آثر زاوي العودة إلى وطنه إفريقية، فخرج عن الأندلس حسبما يتفسر في موضعه. والتفّ قومه على ابن أخيه حبّوس بن ماكسن، في جماعة عظيمة تحمي حوزته، وأقام بها ملكا وغلب على ما اتصل بمدينته من الكور، فتملّك قبرة (4)، وجيّان (5)، واتّسع نظره، وحمى وطنه ورعيّته ممّن جاوره من البرابر وكان داهية شجاعا، فدامت رئاسته، واتصل ملكه،
__________
(1) بلكين أو بلقين بن باديس ولّاه أبوه على مالقة بعد أن ضمّها إلى غرناطة عام 449هـ، واستمرت ولايته عليها إلى سنة 456هـ حيث توفي مسموما. انظر أخباره في كتاب: مملكة غرناطة في عهد بني زيري للدكتورة مريم قاسم طويل (ص 162وما بعدها).
(2) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 263).
(3) المراونة: هم بنو مروان الأمويون.
(4) قبرة: بالإسبانية، وتتصل بأعمال قرطبة من قبليّها. راجع مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 62).
(5) جيان: بالإسبانية، وتسمّى قنّسرين لشبهها بها. راجع المرجع السابق (ص 59).(1/273)
إلى أن هلك. فولى بعده ابنه باديس، وسيأتي التعريف به وولد له ابنه بلكّين هذا المترجم به، فرشّحه إلى ملكه، وأخذ له بيعة قومه، وأهّله للأمر من بعده. قال المؤرّخ (1): ونشأ لباديس بن حبّوس، ولد اسمه بلكّين، وكان عاقلا نبيلا، فرشّحه للأمر من بعده وسمّاه سيف الدولة وقال: ولّي مالقة في حياة أبيه، وكان نبيلا جليلا ووقعت على كتاب بخطه نصّه بعد البسملة:
«هذا ما التزمه واعتقد العمل به، بلكّين بن باديس، للوزير القاضي أبي عبد الله بن الحسن الجذامي سلّمه الله. اعتقد به إقراره على خطّة الوزارة، والقضاء في جميع كوره (2)، وأن يجري من الترفيع والإكرام له إلى أقصى غاية، وأن يحمل (3) على الجراية في جميع أملاكه بالكور (4) المذكورة، حاضرتها وباديتها، الموروثة منها، والمكتسبة، القديمة الاكتساب والحديثة، وما ابتاع منها من العالي (5)، رحمه الله وغيره، لا يلزمها وظيف بوجه، ولا يكلّف منها كلفة، على كل حال، وأن يجري في قرابته، وخوله وحاشيته وعامري ضيعه، على المحافظة والبرّ والحرية. وأقسم على ذلك كلّه بلكّين بن باديس بالله العظيم، والقرآن (6) الحكيم، وأشهد الله على نفسه وعلى التزامه له، وكفى بالله شهيدا. وكتب بخطّ يده مستهل شهر رمضان العظيم سنة ثمان (7) وأربعين وأربعمائة، والله المستعان». ولا شكّ أن هذا المقدار يدلّ على نبل، ويعرف عن كفاية.
سبب وفاته: قال صاحب البيان المغرب وغيره (8): وأمضى باديس كاتب أبيه ووزيره (9) إسماعيل بن نغرالة (10) اليهودي على وزارته وكتابته وسائر أعماله، ورفعه
__________
(1) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 122121).
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «جميع كورة ريّة».
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «وأن يجري على الجزية».
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «بكورة ريّة».
(5) العالي: هو خليفة الأندلس إدريس بن يحيى بن حمود، وقد حكم غرناطة وقرمونة سنة 434هـ، وخلع سنة 438هـ، بعد أربع سنين من حكمه.
(6) في تاريخ قضاة الأندلس: «وبالقرآن».
(7) في تاريخ قضاة الأندلس: «سنة 449».
(8) البيان المغرب (ج 3ص 266264).
(9) في البيان المغرب: «فأمضى باديس وزيرا له وكاتبا، وزير أبيه إسماعيل».
(10) إن الذين ترجموا لإسماعيل اختلفوا في رسم اسم شهرته فأسماه ابن حزم ابن النغرال، ثم قال: ابن النغريلة. وذكره صاعد الأندلسي ابن الغزال. وجعله الأمير عبد الله كابن الخطيب ابن نغرالة، وكتبه ابن عذاري: نغرالة. وهو عند ابن خلدون: نعزلة. وعند المقري: نغدلة. وأغلب الظن أن هذا التباين في رسم شهرته عائد إلى طبيعة النطق أو إلى تصحيف الناسخ أو المحقّق أو المترجم. انظر الفصل في الملل والأهواء والنّحل (ج 1ص 152)، ورسائل ابن حزم (ج 3(1/274)
فوق كل منزلة وكان لولده بلكّين (1) خاصّة من المسلمين يخدمونه، وكان مبغضا في اليهودي (2)، فبلغه أنه تكلّم في (3) ذلك لأبيه، فبلغ منه كلّ مبلغ فدبّر (4) الحيلة، فذكروا أنه دخل عليه يوما فقبّل الأرض بين يديه، فقال له الغلام: ولم ذلك؟ فقال:
يرغب العبد (5) أن تدخل داره مع من أحببت من عبيدك ورجالك، فدخل إليه بعد ذلك، فقدّم له ولرجاله طعاما وشرابا، ثم جعل السّم في الكأس لابن باديس، فرام القيء، فلم يقدر عليه، فحمل إلى قصره وقضى (6) نحبه في يومه وبلغ الخبر إلى أبيه ولم يعلم السبب، فقرّر اليهوديّ عنده أنّ أصحابه وبعض جواريه سمّوه، فقتل باديس جواري (7) ولده، ومن فتيانه وبني عمّه جماعة كبيرة، وخافه سائرهم ففرّوا عنه. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وأربعمائة. وبعده قتل اليهودي في سنة تسع وخمسين.
باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي (8)
كنيته أبو مناد، ولقبه الحاجب المظفّر بالله، الناصر لدين الله.
أوّليّته: قد تقدّم الإلماع بذلك عند ذكر ابنه بلكّين.
حاله: كان رئيسا يبسا، طاغية، جبّارا، شجاعا، داهية، حازما، جلدا، شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمّة، مأثور الإقدام، شره السيف، واري زناد الشرّ، جمّاعة للمال ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته الرعايا، وطمّ
__________
ص 41)، وطبقات الأمم (ص 136)، ومذكرات الأمير عبد الله (ص 36)، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 230)، والبيان المغرب (ج 3ص 264)، وكتاب العبر (ج 4ص 346)، ونفح الطيب (ج 6ص 93). وكان إسماعيل الوزير الأول في عهد حبوس بن ماكسن ابن زيري وولده باديس بن حبوس، وبوفاة إسماعيل عام 448هـ ارتقى ابنه يوسف بن إسماعيل ابن نغرالة إلى خطة الوزارة التي تبوّأها أبوه.
(1) في البيان المغرب: «بلقين».
(2) في البيان المغرب: «في هذا اليهودي».
(3) في البيان المغرب: «فيه عند أبيه فبلغ ذلك من اليهودي كلّ مبلغ».
(4) في البيان: «ودبّر الحيلة عليه فدخل اللعين يوما على الفتى وقبّل».
(5) في البيان: «عبدك منك أن».
(6) في البيان: «فقضى نحبه في غد يومه».
(7) في البيان: «من جواري».
(8) حكم باديس بن حبوس غرناطة من عام 429هـ إلى عام 467هـ. وترجمته في المغرب (ج 2 ص 107)، والبيان المغرب (ج 3ص 262، 264)، واللمحة البدرية (ص 31)، وكتاب العبر (م 4ص 345) واسمه فيه: باديس بن حسون، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 229). وقد قامت الدكتورة مريم قاسم طويل بدراسة وافية عنه في كتابها: مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 169119) فلتنظر.(1/275)
تحت جناح سيفه العمران، واتّسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر، وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظّفر (1)، مصنوعا له في الأعداء، يقنع أقتاله بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربه. قال ابن عسكر (2): يكنى أبا مسعود، وكان من أهل الحزم وحماية الجانب، وكان يخطب ويدعو للعلويّين بمالقة (3)، فلمّا توفي إدريس بن يحيى العالي (4)، ملك مالقة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة (5).
وقال الفتح في قلائده (6): «كان باديس بن حبّوس بغرناطة عاتيا في فريقه، عادلا عن سنن العدل وطريقه يجترئ على الله غير مراقب، ويسري (7) إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولم (8) يشرب الماء إلّا من قليب دم أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر وما زال متّقدا في مناحيه، متفقّدا لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلّا على وجل».
أخباره في وقائعه: ينظر إيقاعه بزهير العامري ومن معه في اسم زهير، فقد ثبت منه هنالك نبذة، وإيقاعه بجيش ابن عبّاد بمالقة عندما طرق مالقة وتملّكها، واستصرخ من استمسك بقصبتها من أساودتها، وغير ذلك مما هو معلوم، وشهرته مغنية عن الإطالة.
ومن أخباره في الجبرية والقسوة، قال ابن حيّان: عندما استوعب الفتكة بأبي نصر بن أبي نور اليفرني أمير رندة المنتزي بها وقتله، ورجوعها إلى ابن عباد حكى أبو بكر الوسنشاني الفقيه عن ثقة عنده من أصادقة التّجّار، أنه حضر مدينة غرناطة، حضرة باديس بن حبّوس الجبار، أيام حدث على أبي نصر، صاحب تاكرنّا، ما حدث، وأن أميرها باديس قام للحادثة وقعد، وهاج من داء عصبيّته ما قد سكن، وشقّ أثوابه، وأعلن أعواله، وهجر شرابه الذي لا صبر له عنه، وجفا ملاذّه وأوهمته
__________
(1) مطعم الظفر: كثير الظفر.
(2) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص 121).
(3) العلويون هم بنو حمود، أصحاب مالقة والجزيرة الخضراء. راجع: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 122).
(4) بويع العالي إدريس بن يحيى بن علي بن حمود بمالقة سنة 434هـ. أخباره في مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 123121). وذهب القلقشندي إلى أن العالي إدريس بويع في عام 439هـ. صبح الأعشى (ج 5ص 238).
(5) قضى باديس بن حبوس الصنهاجي على بني حمود بمالقة وضمّ مملكتهم إلى غرناطة سنة 449هـ. انظر في ذلك: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 126125).
(6) قلائد العقيان (ص 18).
(7) في القلائد: «ويجري».
(8) في القلائد: «ولا شرب».(1/276)
نفسه الخبيثة تمالؤ رعيّته من أهل الأندلس، على الذي دهى أبا نصر، فسوّلت له نفسه حمل السيف على أهل حضرته جميعا، مستحضرا لهم، وكيما ينبرهم، ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه، ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع الأقرب أيام الجمعة، من قوة همومه وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل، مدبّر دولته الذي لا يقطع أمرا دونه، مستخليا مستكتما بسرّه، مصمّما في عزمه، إن هو لم يوافقه عليه فنهاه عن ذلك وخطّأ رأيه فيه، وسأله الأناة ومحض الرويّة، وقال له: هبك وصلت إلى إرادتك ممّن بحضرتك، على ما في استباحتهم من الخطر، فأنّى تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك، وبسائط أعمالك؟ أتراهم يطمئنون إلى الذّهول عن مصائبهم، والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم إلّا سيوفا ينتظمون عليك في جموع، يغرقونك في لججها أنت وجندك فردّ نصيحته، وأخذ الكتمان عليه، وتقدّم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح، والتّعبئة لركوبه يوم الفتكة، يوم تلك الجمعة، فارتجّ البلد. وذكر أن اليهودي دسّ نسوانا إلى معارف لهنّ من زعماء المسلمين بغرناطة، ينهاهم عن حضور المسجد يومهم، ويأمرهم بإخفاء أنفسهم وفشا الخبر فتخلّف الناس عن شهود الجمعة ولم يأته إلّا نفر من عامّتهم، اقتدوا بمن أتاه من مشيخة البربر وأغفال القادمين وجاء إلى باديس الخبر، والجيش في السلاح حوالي قصره، فساءه وفتّ في عضده، ولم يشكّ في فشوّ سرّه، وأحضر وزيره وقلّده البوح بسرّه فأنكر ما قرفه به وقال: ومن أين ينكر على الناس الحذر، وأنت قد استركبت جندك وجميع جيشك في التّعبئة، لا لسفر ذكرته، ولا لعدوّ وثب إليك، فمن هناك حدس القوم على أنك تريدهم، وقد أجمل الله لك الصّنع في نفارهم، وقادك إصارهم، فأعد نظرك يا سيدي، فسوف تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي. فنصّح وزيره شيخ من موالي صنهاجته، فانعطف لذلك بعد لأي، وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره.
قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى ب «البيان المغرب» (1): أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي (2)، وعمالا متصرّفين من أهل ملّته، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين. قال ابن حيّان: وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علما وحلما وفهما، وذكاء، ودماثة، وركانة، ودهاء، ومكرا، وملكا لنفسه، وبسطا من خلقه، ومعرفة
__________
(1) البيان المغرب (ج 3ص 264).
(2) هو إسماعيل بن نغرالة اليهودي كما في البيان المغرب. وله ترجمة في المغرب (ج 2ص 114)، ولابنه يوسف بن إسماعيل ترجمة في المغرب (ج 2ص 115).(1/277)
بزمانه، ومداراة لعدوّه، واستسلالا لحقودهم بحلمه ناهيك من رجل كتب بالقلمين، واعتنى بالعلمين، وشغف باللسان العربي، ونظر فيه، وقرأ كتبه، وطالع أصوله فانطلقت يده ولسانه، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي، فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسوله، صلى الله عليه وسلم، والتزكية لدين الإسلام، وذكر فضائله، ما يريده، ولا يقصر فيما ينشئه عن أوسط كتّاب الإسلام فجمع لذلك «السّجيج في علوم الأوائل الرياضية» وتقدم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النّجومية ويشارك في الهندسة والمنطق، ويفوق في الجدل كلّ مستول منه على غاية قليل الكلام مع ذكائه، ماقتا للسباب، دائم التفكّر، جمّاعة للكتب. هلك في العشر الثاني لمحرم سنة تسع وخمسين وأربعمائة (1)، فجلّل اليهود نعشه، ونكّسوا لها أعناقهم خاضعين، وتعاقدوه جازعين، وبكوه معلنين وكان قد حمل ولده يوسف المكنّى بأبي حسين على مطالعة الكتب، وجمع إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية، يعلّمونه ويدارسونه، وأعلقه بصناعة الكتابة، ورشّحه لأول حركته، لكتابة ابن مخدومه بلكّين برتبة المترشّح لمكانه، تمهيدا لقواعد خدمته فلما هلك إسماعيل في هذا الوقت، أدناه باديس إليه، وأظهر الاغتباط به، والاستعاضة بخدمته عن أبيه.
ذكر مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغرالة الإسرائيلي:
قال صاحب البيان (2): وترك ابنا له يسمى (3) يوسف لم يعرف ذلّ (4) الذّمّة، ولا قذر اليهودية. وكان جميل الوجه، حادّ الذّهن، فأخذ (5) في الاجتهاد في الأحوال، وجمع (6) المال، واستخراج الأموال، واستعمال (7) اليهود على الأعمال، فزادت منزلته عند أميره (8)، وكانت له عليه (9) عيون في قصره من نساء وفتيان، يشملهم (10)
بالإحسان، فلا يكاد باديس يتنفس، إلّا وهو يعلم ذلك (11). ووقع ما تقدم ذكره، في
__________
(1) هنا يخلط ابن الخطيب بين إسماعيل بن النغرالة وبين ابنه يوسف بن إسماعيل ابن النغرالة، وجعل وفاته عام 459هـ، وهو عام وفاة ابنه يوسف. كذلك شاركه في هذا الوهم النباهي في المرقبة العليا (ص 91) وابن خلدون في كتاب العبر (م 4ص 346).
(2) البيان المغرب (ج 3ص 265264).
(3) في البيان المغرب: «اسمه».
(4) في البيان المغرب: «ذلّة».
(5) في البيان المغرب: «فأخذ نفسه بالاجتهاد».
(6) قوله: «وجمع المال» ساقط في البيان المغرب.
(7) في البيان المغرب: «واستعمل اليهود إخوانه على».
(8) في البيان المغرب: «أميره باديس».
(9) في البيان المغرب: «له عيون عليه».
(10) في البيان المغرب: «شغلهم الملعون بالإحسان».
(11) هنا ينتهي النقل عن ابن عذاري.(1/278)
ذكر بلكّين من اتّهامه بسمّه، وتولّيه التهمة به عند أبيه، للكثير من جواريه وخدّامه، وفتك هذا بقريب له، تلو له في الخدمة والوجاهة، يدعى بالقائد، شعر منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة واستهدف للناس فشغلت به ألسنتهم، وملئت غيظا عليه صدورهم، وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الإلبيري، في الإغراء بهم، واتفق أن أغارت على غرناطة بعوث صمادحية تقول إنها باستدعائه، ليصير الأمر الصّنهاجيّ إلى مجهزها الأمير بمدينة ألمريّة. وباديس في هذه الحال منغمس في بطالته، عاكف على شرابه.
ونمي هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة، فراحوا إلى دار اليهودي مع العامّة، فدخلوا عليه، فاختفى، زعموا في بيت فحم، وسوّد وجهه، يروم التنكير فقتلوه لمّا عرفوه، وصلبوه على باب مدينة غرناطة، وقتل من اليهود في يومه، مقتلة عظيمة، ونهبت دورهم، وذلك سنة تسع وخمسين وأربعمائة (1). وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود ينقلونه بتواتر عندهم، أمام باب إلبيرة، على غلوة، يعترض الطريق، على لحده حجارة كدان جافية الجرم ومكانه من الترفّه والتّرف والظّرف والأدب معروف وإنما أتينا ببعض أخباره لكونه ممّن لا يمنع ذكره في أعلام الأدباء والأفراد إلا نحلته.
مكان باديس من الذكاء وتولّعه بالقضايا الآتية:
قال ابن الصّيرفي: حدّثني أبو الفضل جعفر الفتى، وكان له صدق، وفي نفسه عزّة وشهامة وكرم، وأثنى عليه، وعرّف به، حسبما يأتي في اسم جعفر المذكور، قال: خاض باديس مع أصحابه في المجلس العلي، من دار الشّراب بقصره، واصطفّت الصّقاليب (2) والعبيد بالبرطل (3) المتصل به لتخدم إرادته، فورد عليه نبأ قام لتعرّفه عن مجلسه، ثم عاد إلى موضعه وقد تجهّم وجهه، وخبثت نفسه، فحذر ندماؤه على أنفسهم، وتخيّلوا وقوع الشّرّ بهم، ثم قال: أعلمتم ما حدث؟ قالوا: لا، والله يطلع على خير، قال: دخل المرابط (4) الدّمنة، فسري عن القوم، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء بنصره، وفسحة عمره، ودوام دولته، ثم وجموا لوجومه، فلمّا رأى
__________
(1) في أعمال الأعلام لابن الخطيب (القسم الثاني ص 233): قتلوه وصلبوه سنة 469هـ، وقيل:
سنة 465هـ.
(2) الصقاليب: هم الصقالبة، وهم أولئك الأرقّاء الذين ينتسبون إلى جنسيات أوروبية مختلفة.
راجع: مملكة ألمرية في عهد المعتصم بن صمادح (ص 68).
(3) البرطل: كلمة إسبانية وهي، وتعني البوّابة ومدخل البيت والبهو ذا الشّرفات المعقودة على الأعمدة.
(4) يشير إلى دخول يوسف بن تاشفين المرابطي الأندلس.(1/279)
تكدّر صفوهم، قال: أقبلوا على شأنكم، ما نحن وذاك، اليوم خمر وغدا أمر (1)، بيننا وبينه أمداد الفجو، والنّشور الجبال وأمواج البحار، ولكن لا بدّ له أن يتملّك بلدي، ويقعد منه مقعدي، وهذا أمر لا يلحقه أحد منّا، وإنما يشقى أحفادنا. قال جعفر: فلمّا دخل الأمير القصر، عند خلعه حفيد باديس برحبة مؤمّل (2)، طاف بكل ركن ومكان منه، وأنا في جملته حتى انتهى إلى ذلك المجلس، فبسط له ما قعد عليه، فتذكرت قول باديس، وتعجبت منه تعجّبا ظهر عليّ، فالتفت إليّ أمير المسلمين منكرا، وسألني ما بي، فأخبرته وصدقته، وقصصت عليه قول باديس، فتعجّب، وقام إلى المسجد بمن معه، فصلّى فيه ركعات، وأقبل يترحّم على قبره.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف: توفي باديس ليلة الأحد الموفي عشرين من شوّال سنة خمس وستين وأربعمائة (3)، ودفن بمسجد القصر. قلت: وقد ذهب أثر المسجد، وبقي القبر يحفّ به حلق له باب، كل ذلك على سبيل من الخمول، وجدث القبر رخام، إلى جانب قبر الأمير المجاهد أبي زكريا يحيى بن غانية، المدفون في دولة الموحّدين به.
وقد أدال اعتقاد الخليفة في باديس بعد وفاته، قدم العهد بتعرّف أخبار جبروته وعتوّه على الله سبحانه، لما جبلهم عليه من الانقياد للأوهام والانصياع للأضاليل، فعلى حفرته اليوم من الازدحام بطلاب الحوائج والمستشفين من الأسقام، حتى أولو الدّواب الوجيعة، ما ليس على قبر معروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي.
ومن أغرب ما وقفت عليه رقعة رفعها إلى السلطان على يدي رجل من أهل الخبر مكتّب (4) يؤمّ في مسجد القصبة القدمى من دار باديس، يعرف بابن باق، وهو يتوسّل إلى السلطان ويسأل منه الإذن في دفنه مجاورا لقبره. وعفو الله أوسع من أن يضيق على مثله، ممّن أسرف على نفسه، وضيّع حقّ ربّه. ودائره اليوم طلول قد
__________
(1) قوله: «اليوم خمر وغدا أمر» لامرىء القيس، وقد قاله عندما بلغ أن بني أسد ثاروا على أبيه وقتلوه، وكان آنذاك في مجلس شراب.
(2) رحبة مؤمل أو حور مؤمل أو حوز مؤمل: كان من أجمل متنزهات غرناطة، سمّي بذلك نسبة إلى مؤمل أحد خدّام ملك غرناطة باديس بن حبوس، ولاحتوائه على سطر من شجر الحور.
مملكة غرناطة (ص 35).
(3) كذا ورد في اللمحة البدرية (ص 31). ويرى ابن خلدون أن باديس توفي سنة 467هـ. ويتردد القلقشندي في تاريخ الوفاة، فمرة يذكر أنه توفي سنة 467هـ، ويذكر مرة أخرى أنه توفي عام 477هـ. كتاب العبر (م 4ص 346) و (م 6ص 369)، وصبح الأعشى (ج 5ص 242، 248).
(4) المكتّب: معلّم الكتابة. محيط المحيط (كتب).(1/280)
تغيّرت أشكالها وقسّم التملّك جنّاتها، ومع ذلك فمعاهدها إليه منسوبة، وأخباره متداولة.
وقد ألمعت في بعض مشاهده بقولي من قصيدة، غريبة الأغراض، تشتمل على فنون، أثبتها إحماضا وفكاهة، لمن يطالع هذا الكتاب، وإن لم يكن جلبها ضروريّا فيه، فمنها (1): [الطويل]
عسى خطرة (2) بالرّكب يا حادي العيس ... على الهضبة الشّمّاء من قصر باديس
بكرون بن أبي بكر بن الأشقر الحضرمي
يكنى أبا يحيى.
حاله: كان من ذوي الأصالة ومشايخ الجند، فارسا نجدا حازما سديد الرأي، مسموع القول، شديد العضلة (3)، أيّدا (4)، فحلا وسيما، قائدا عند الجند الأندلسي، في أيام السلطان ثاني ملوك بني نصر، من أحفل ما كان الأمر، يجرّ وراءه دنيا عريضة، وجبى الجيش على عهده مغانم كثيرة.
قال شيخنا ابن شبرين في تذكرة ألفيتها بخطه: كان له في الخدمة مكان كبير، وجاه عريض، ثم صرفه الأمر عن رسمه، وأنزله الدهر عن حكمه، تغمّدنا الله وإياه برحمته.
وفاته: في عام أربعة عشر وسبعمائة، ودفن بمقبرة قومه بباب إلبيرة.
بدر مولى عبد الرّحمن بن معاوية الداخل
يكنى أبا النصر، رومي الأصل.
حاله: كان شجاعا داهية، حازما فاضلا، مصمّما تقيّا، علما من أعلام الوفاء.
لازم مولاه في أعقاب النكبة، وصحبه إلى المغرب الأقصى، مختصّا به ذابّا عنه، مشتملا عليه، وخطب له الأمر بالأندلس، فتمّ له بما هو مذكور.
__________
(1) البيت مطلع قصيدة من 36بيتا وردت في نثير فرائد الجمان (ص 248245)، وأزهار الرياض (ج 1ص 237234)، ونفح الطيب (ج 9ص 194191). وسترد في الجزء الرابع من الإحاطة.
(2) في النثير: «خطوة».
(3) شديد العضلة: كثير الدهاء. لسان العرب (عضل).
(4) الأيّد: القوي. لسان العرب (أيد).(1/281)
قال أبو مروان في المقتبس: إن عبد الرّحمن لمّا شرّده الخوف إلى قاصية المغرب، وتنقّل بين قبائل البربر، ودنا من ساحل الأندلس وكان بها همّه يستخبر من قرب، فعرف أن بلادها مفترقة بفرقتي المضرية واليمانية، فزاد ذلك في أطماعه، فأدخل إليهم بدرا مولاه يحسّس عن خبرهم، فأتى القوم ويلي ما عندهم، فداخل اليمانيين منهم، وقد عصفت ريح المضريين بظهور بني العباس بالمشرق، فقال لهم:
ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم، فيقيم أودكم ويدرّككم آمالكم؟ فقالوا: ومن لنا به في هذه الديار، فقال بدر: ما أدناه منكم، وأنا الكفيل لكم به، هذا فلان بمكان كذا وكذا يقدّمنّ نفسه فقالوا: فجىء به أهلا، إنّا سراع إلى طاعته، وأرسلوا بدرا بكتبهم يستدعونه، فدخل إليه بأيمن طائر، واستجمع إليه خلق كثير من أنصاره قاتل بهم يوسف الفهري، فقهره لأول وقائعه، وأخذ الأندلس منه وأورثها عقبه.
محنته: قال الراوي: وكان من أكبر من أمضى عليه عبد الرحمن بن معاوية حكم سياسته وقوّمه معدلته، مولاه بدر المعتق منه بكل ذمّة محفوظة، الخائض معه لكل غمرة مرهوبة، وكل ذلك لم يغن عنه نقيرا لما أسلف في إدلاله عليه، وكثير من الانبساط لحرمته، فجمع مركب تحامله حتى أورده ألما يضيق الصدر عنه، وآسف أميره ومولاه، حتى كبح عنانه عن نفسه بعد ذلك كبحة أقعى بها أو شارف حمامه، لولا أن أبقى الأمير على نفسه التي لم يزل مسرفا عليها. قال: فانتهى في عقابه لمّا سخط عليه أن سلب نعمته، وانتزع دوره وأملاكه وأغرمه على ذلك كله أربعين ألفا من صامته، ونفاه إلى الثّغر، فأقصاه عن قربه، ولم يقله العثرة، إلى أن هلك، فرفع طمع الهوادة عن جميع ثقله وخدمته، وصيّر خبره مثلا في الناس بعده.
تاشفين بن علي بن يوسف أمير المسلمين (1) بعد أبيه بالعدوة
صالي حروب الموحدين.
أوّليّته: فيما يختصّ به التعريف بأوّليّة قومه، ينظر في اسم أبيه وجدّه إن شاء الله. قال ابن الورّاق في كتاب المقياس وغيره (2): وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولّى الأمير علي بن يوسف أمير لمتونة، الشهير بالمرابط، ولده الأمير
__________
(1) ترجمة تاشفين بن علي بن يوسف المرابطي في الحلل الموشية (ص 90)، والبيان المغرب (ج 4ص 79)، والذخيرة (ق 2ص 407).
(2) قارن بالبيان المغرب (ج 4ص 79).(1/282)
المسمّى بسير عهده من بعده. وجعل له الأمر في بقية حياته ورأى أن يولي ابنه تاشفين الأندلس، فولّاه مدينة (1) غرناطة، وألمريّة ثم قرطبة مضافة إلى ما بيده.
قلت: وفي قولهم رأي أن يولّى الأندلس فولّاه مدينة غرناطة، شاهد كبير على ما وصفناه من شرف هذه المدينة فنظر في مصالحها، وظهر له بركة في النصر على العدو، وخدمه الجدّ الذي أسلمه. وتبرّأ منه في حروبه مع الموحّدين حسبما يتقرّر في موضعه، فكانت له على النصارى وقائع عظيمة بعد لها الصّيت، وشاع الذّكر حسبما يأتي في موضعه. قال: فكبر ذلك على أخيه سير وليّ عهد أبيه، وفاوض أباه في ذلك وقال له: إن الأمر الذي أهّلتني إليه (2) لا يحسن لي مع تاشفين، فإنه قد حمل الذكر والثّناء دوني، وغطّى على اسمي، وأمال إليه جميع أهل (3)
المملكة، فليس لي معه اسم ولا ذكر، فأرضاه بأن عزله عن الأندلس وأمره بالوصول إلى حضرته، فرحل عن الأندلس في أواسط سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ووصل مرّاكش، وصار من جملة من يتصرّف بأمر أخيه سير ويقف ببابه كأحد حجّابه فقضى الله وفاة الأمير سير على الصورة القبيحة حسبما يذكر في اسمه، وثكله أبوه واشتدّ جزعه عليه، وكان عظيم الإيثار والإرضاء لأمّه قمر، وهي (4) التي تسبّبت في عزل تاشفين وإخماله نظرا إلى ابنها، فقطع المقدار بها عن أملها بهلاكه.
ولمّا توفي الأمير سير، أشارت الأمّ المذكورة على أبيه بتقديم ولده إسحاق، وكان رؤوما لها، قد تولّت تربيته عند هلاك أمّه وتبنّته، فقال لها: هو صغير السّن لم يبلغ الحلم ولكن حتى أجمع الناس في المسجد خاصّة وعامّة، وأخبرهم فإن صرفوا الخيار إليّ، فعلت ما أشرت به. فجمع الناس وعرض عليهم الأمر فقالوا كلهم في صوت واحد: تاشفين، فلم توسعه السياسة مخالفتهم فعقد له الولاية بعده ونقش اسمه في الدنانير والدراهم مع اسمه، وقلّده النظر في الأمور السلطانية، فاستقرّ بذلك. وكتب إلى العدوة والأندلس وبلاد المغرب ببيعته، فوصلت البيعات من كل جهة. ثم رمى به جيوش الموحّدين الخارجين عليه، فنبا جدّه ومرضت أيامه، وكان الأمر عليه لا له، بخلاف ما صنع الله له بالأندلس.
__________
(1) في البيان المغرب: «فولّاه إمارة أغرناطة».
(2) في البيان المغرب: «له».
(3) كلمة «أهل» ساقطة في البيان المغرب.
(4) راجع البيان المغرب (ج 4ص 97).(1/283)
قال أبو مروان الورّاق (1): وكان (2) أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين قد أمل في ابنه تاشفين ما لم تكن الأقدار تساعده به، فتشاءم به وعزم على خلعه وصرف عهده إلى إسحاق (3) ولده الأصغر، ووجّه إلى عامله على إشبيلية عمر (4)، أن يصل إليه ليجعله شيخ ابنه، إلى أن وافاه خبر أمضّه وأقلقه ولم يمهله، فأزعج تاشفين إلى عدوّه على غير أهبة بتفويضه إياه، وصرف المدد في إثره، وتوفي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين (5) لفعله ذلك.
ملكه ووصف حاله: فأفضى إليه ملك أبيه، بتفويضه إياه في حياته، لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وكان بطلا شجاعا حسن الرّكبة والهيئة، سالكا ناموس الشريعة، مائلا إلى طريقة المستقيمين، وكتب المريدين قيل إنه لم يشرب قطّ مسكرا ولا استمع إلى قينة، ولا اشتغل بلذّة ممّا يلهو به الملوك.
الثّناء عليه: قال ابن الصيرفي (6): وكان بطلا شجاعا، أحبّه الناس، خواصّهم وعوامّهم، وحسنت سياسته فيهم، وسدّ الثّغور، وأذكى (7) على العدو العيون، وآثر الجند، ولم يكن منه إلّا الجدّ، ولم تنل عنده الحظوة (8)، إلّا بالعناء والنجدة. وبذلك حمل على الخيل، وقلّد الأسلحة، وأوسع الأرزاق، واستكثر من الرّماة (9) وأركبهم وأقام همّتهم (10) للاعتناء بالثغور ومباشرة الحرب، ففتح الحصون وهزم الجيوش وهابه العدو. ولم ينهض إلا ظاهرا ولا صدر إلّا ظافرا. وملك الملك ومهد بالحزم وتملّك (11) نفوس الرعيّة بالعدل (12)، وقلوب الجند بالنّصفة. ثم قال: ولولا الاختصار الذي اشترطناه لأوردنا من سنى خلاله ما يضيق عنه الرّحب، ولا يسعه الكتب.
دينه: قال المؤرّخ: عكف على زيارة قبر أبي وهب الزاهد بقرطبة، وصاحب أهل الإرادة، وكان وطئ الأكناف (13)، سهل الحجاب، يجالس الأعيان ويذاكرهم.
__________
(1) النص في البيان المغرب (ج 4ص 10099) بتصرّف.
(2) في البيان المغرب: «وقد كان».
(3) كلمة «إسحاق» ساقطة في البيان المغرب.
(4) في الأصل: «أغمار» والتصويب من البيان المغرب.
(5) كذا جاء في البيان المغرب (ج 4ص 80) و (ص 100).
(6) قارن بالحلل الموشية (ص 90).
(7) في الحلل الموشية: «وأذكى العيون على العدو».
(8) في الحلل الموشية: «الخطوة».
(9) في الحلل الموشية: «الرمات».
(10) في الحلل الموشية: «هممهم».
(11) في الحلل الموشية: «وملك».
(12) في الحلل الموشية: «بالمعدلة».
(13) الأكناف: جمع كنف وهو الناحية. لسان العرب (كنف).(1/284)
قال ابن الصيرفي: ولمّا قدم غرناطة أقبل على صيام النهار، وقيام الليل، وتلاوة القرآن، وإخفاء الصّدقة، وإنشاء العدل، وإيثار الحق.
دعابته: قالوا: مرّ يوما بمرج القرون، من أحواز قلعة يحصب، فقال لزمّال من عبيده كان يمازحه: هذا مرجك فقال الزمّال: ما هو إلّا مرجك ومرج أبيك، وأما أنا فمن أنا؟ فضحك وأعرض عنه.
دخوله غرناطة: قالوا (1): وفي عام ثلاثة وعشرين وخمسمائة، ولّي الأمير أبو محمد تاشفين بن أمير المسلمين عليّ بن أمير المسلمين يوسف، ووافاها في السابع عشر (2) لذي حجة فقوّى الحصون وسدّ الثغور وأذكى العيون (3)، وعمد إلى رحبة القصر، فأقام بها السقائف والبيوت، واتخذها لخزن السلاح ومقاعد الرجال، وضرب السّهام وأنشأ السّقي، وعمل التّراس، ونسج الدّروع، وصقل البيضات والسيوف، وارتبط الخيل، وأقام المساجد في الثغور، وبنى لنفسه مسجدا بالقصر، وواصل الجلوس للنظر في الظّلامات، وقراءة الرّقاع، وردّ الجواب وكتب التوقيعات، وأكرم الفقهاء والطلبة، وكان له يوم في كل جمعة، يتفرّغ فيه للمناظرة.
وزراؤه: قال أبو بكر: وقرن الله به ممّن ورد معه، الزبير بن عمر اللّمتوني، ندرة الزمان كرما وبسالة، وحزما وأصالة، فكان كما جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من ولّي شيئا من أمور المسلمين فأراد الله به خيرا، جعل الله له بطانة خير، وجعل له وزيرا صالحا، إن نسي شيئا ذكّره، وإن ذكره أعانه».
عمّاله: الوزير أبو محمد الحسين بن زيد بن أيوب بن حامد بن منحل بن يزيد.
كتّابه: الرئيس العالم أبو عبد الله بن أبي الخصال، والكاتب المؤرّخ أبو بكر الصيرفي وغيرهما (4).
ومن أخبار جهاده: خرج (5) الأمير تاشفين في رمضان عام أربعة وعشرين وخمسمائة بجيش غرناطة ومطوعتها، واتصل به جيش قرطبة إلى حصن السّكّة من عمل طليطلة، وقد اتخذه العدو ركابا لإضراره بالمسلمين، وشحنه وجمّ به شوكة
__________
(1) النص في البيان المغرب (ج 4ص 80) وبعضه في الحلل الموشية (ص 90).
(2) في البيان المغرب: «في السابع والعشرين».
(3) في البيان المغرب: «العيون على العدو».
(4) في الأصل: «وغيرهم».
(5) قارن بالبيان المغرب (ج 4ص 8683).(1/285)
حادّة بقومس مشهور فأحدق به، ونشر الحرب عليه، فافتتحه عنوة وقتل من كان به وأحيا قائده «فرند» ومن معه من الفرسان، وصدر إلى غرناطة، فبرز له الناس بروزا لم يعهد مثله. وفي شهر صفر من عام خمسة وعشرين أوقع بالعدو المضيق على أوّليته. وفي ربيع الأول من عام ستة وعشرين، تعرّف خروج عدو طليطلة إلى قرطبة فبادر الأمير تاشفين إلى قرطبة، ثم نهد (1) إلى العدو في خفّ، وترك السيقة والثقل بأرجونة. وقد اكتسح العدوّ بشنت إشطبين (2) والوادي الأحمر.
وأسرى الليل، وواصل الركض، وتلاحق بالعدو بقرية براشة. فتراءى الجمعان صبحا، وافتضح الجيش، ونشرت الرّماح والرّايات، وهدرت الطبول، وضاقت المسافة، وانتبذ العدو عن الغنيمة والتفّ الجمع، فتقصرت الرّماح، ووقعت المسابقة، ودارت الحرب على العدو، وأخذ السيف مأخذه، فأتى القتل على آخرهم، وصدر إلى غرناطة ظافرا. وفي (3) آخر هذا العام خرج العدو «للنمط» وقد احتفل في جيشه إلى بلاد الإسلام، فصبح إشبيلية يوم النصف من رجب، وبرز إليه الأمير أبو حفص عمر بن علي بن الحاج، فكانت به الدّبرة (4) في نفر من المسلمين استشهد جميعهم ونزل العدو على فرسخين من المدينة فجلّلها نهبا وغارة فقتل عظيما، وسبى عظيما وبلغ الخبر الأمير تاشفين، فطوى المراحل، ودخل إشبيلية، وقد أسرّها واستؤصلت باديتها، وكثر بها التأديب والتنكيل فأخذ أعقاب العدو، وقد قصد ناحية بطليوس وباجة ويابرة في ألف (5) عديده من أنجاد الرجال، ومشهور الأبطال، فراش جولا عهدا بالرّوع، فظفر بما لا يحصيه أحد، ولا يقع عليه عدد وانثنى على رسل لثقل (6) السيقة، وثقته ببعد الصّارخ (7)، وتجشمت بالأمير تاشفين الأدلاء كل ذروة وثنيّة، وأفضى به الإعداد (8) إلى فلاة بقرب الزّلاقة، وهو المهيع الذي يضطر العدو إليه، ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى أقبلت الطلائع منذرة بإقبال العدوّ، والغنيمة في يده قد ملأت الأرض فلما تراءى
__________
(1) نهد: برز.
(2) شنت إشطبين أو إشتبين: بالإسبانية، وهي حصن بالأندلس تحت أصل جبل ممتنع. الروض المعطار (ص 60).
(3) قارن بالحلل الموشية (ص 91) والبيان المغرب (ج 4ص 8988).
(4) الدبرة: الهزيمة.
(5) في الحلل الموشية: «تألفهم جيش يحتوي على آلاف من أنجاد رجالهم ومشهور أبطالهم».
(6) في الأصل: «انتقل» والتصويب من البيان المغرب.
(7) في البيان المغرب: «وثقتهم ببعد الصارخ منهم».
(8) في البيان المغرب: «الإغذاذ به إلى فدان بقرب».(1/286)
الجمعان، واضطربت (1) المحلات، ورتبت المراكب فأخذت مصافّها، ولزمت الرجال مراكبها (2)، فكان القلب مع الأمير ووجوه المرابطين وأصحاب الطاعات وعليه البنود الباسقات، مكتّبة (3) بالآيات، وفي المجتبين (4) كبار الدولة من أبطال الأندلس، عليهم حمر الرّايات بالصور الهائلة (5)، وفي الجناحين أهل الثغر والأوشاب من أهل الجلادة، عليهم الرّايات المرقّعات بالعذبات المجزّعات. وفي المقدمة مشاهير زناته ولفيف الحشم بالرايات المصبغات المنبّقات (6). والتقى الجمعان، ونزل الصبر، وحميت النفوس، واشتدّ الضرب والضراب وكثرت الحملات فهزم الله الكافرين، وأعطوا رقابهم مدبرين، فوقع القتل، واستلحم العدوّ السيف، واستأصله الهلاك والأسار وكان فتحا جليلا لا كفاء له، وصدر الأمير تاشفين ظافرا إلى (7) بلده في جمادى من هذا العام. ولو ذهبنا لاستقصاء حركات الأمير تاشفين وظهوره لاستدعى ذلك طولا كثيرا.
بعض ما مدح به: فمن ذلك (8): [الكامل]
أمّا وبيض الهند عنك خصوم ... فالرّوم تبذل ما ظباك تروم
تمضي سيوفك في العدا ويردّها ... عن نفسه حيث الكلام وخيم (9)
وهذه القصائد قد اشتملت على أغراضها الحماسية، والملك سوق يجلب إليها ما ينفق عندها.
وفاته: قد تقدّم انصرافه عن الأندلس سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، وقيل:
سنة اثنتين (10)، واستقراره بمرّاكش مرءوسا لأخيه سير، إلى أن أفضى إليه الأمر بعد أبيه. قال: واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين، أبي محمد عبد المؤمن بن
__________
(1) في البيان المغرب: «اضطربت المحلتان، وترتبت المواكب».
(2) في البيان المغرب: «مراكزها فكان في القلب».
(3) في الحلل الموشية: «مكتوبة».
(4) في المصدرين: «وفي الجانبين كفاة الدولة وحماة الدعوة من أبطال».
(5) في المصدرين: «الهائلات».
(6) في البيان المغرب: «بالرايات المصنفة». والمنبقّات: المزركشات. لسان العرب (نبق).
(7) في الحلل الموشية: «إلى قرطبة عزيزا ظافرا، وكان ذلك سنة ثمان وعشرين وخمسمائة». وفي البيان المغرب: «إلى قرطبة ثم إلى أغرناطة، وذلك في جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين».
(8) البيتان في البيان المغرب (ج 4ص 89).
(9) في البيان المغرب: «رحيم».
(10) في الأصل: «اثنين».(1/287)
علي خليفة مهديهم، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره، والدفاع عن ملك بلغ مداه، وتمّت أيامه. كتب الله عليه، فالتأث سعده، وفلّ جدّه، ولم تقم له قائمة إلى أن هزم، وتبدّد عسكره، ولجأ إلى وهران، فأحاط به الجيش، وأخذه الحصار. قالوا:
فكان من تدبيره أن يلحق ببعض السواحل، وقد تقدّم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله، ليرفعه إلى الأندلس فخرج ليلا في نفر من خاصّته فرّقهم الليل، وأضلّهم الرّوع، وبدّدتهم الأوعار، فمنهم من قتل، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية وتردّى بتاشفين فرسه من بعض الحافّات، ووجد ميّتا في الغد، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وصلبه الموحّدون، واستولوا على الأمر من بعده، والبقاء لله تعالى.
ثابت بن محمد الجرجاني ثم الأسترآباذي (1)
يكنى أبا الفتوح.
حاله: قال ابن بسّام (2): كان الغالب على أدواته علم اللّسان، وحفظ الغريب، والشعر الجاهلي والإسلامي، إلى المشاركة في أنواع التعاليم، والتصرّف في حمل السلاح، والحذق بأنواع (3) الجندية والنّفاذ في أنواع (4) الفروسيّة، فكان الكامل في خلال جمّة. قال أبو مروان: ولم يدخل الأندلس أكمل من أبي الفتوح في علمه وأدبه. قال ابن زيدون: لقيته بغرناطة، فأخذت عنه أخبار المشارقة، وحكايات كثيرة وكان غزير الأدب، قويّ الحفظ في اللغة، نازغا إلى علم الأوائل من المنطق والنجوم والحكمة، له بذلك قوة ظاهرة.
طروؤه على الأندلس: قال صاحب الذخيرة (5): طرأ على الحاجب (6) منذ صدر الفتنة للذائع من كرمه، فأكرمه (7) ورفع شأنه، وأصحبه ابنه (8) المرشّح لمكانه (9)،
__________
(1) ترجمة ثابت بن محمد الجرجاني في بغية الوعاة (ص 210)، وجذوة المقتبس (ص 184، 352)، والذخيرة (ق 4ص 124)، وبغية الملتمس (ص 253)، والصلة (ص 206)، ومعجم الأدباء (ج 2ص 366)، ومملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 270).
(2) الذخيرة (ق 4ص 124).
(3) في الذخيرة: «بالآلات».
(4) في الذخيرة: «معاني».
(5) الذخيرة (ق 4ص 125124).
(6) في الذخيرة: «الجانب». ويستفاد من النص أنه طرأ على علي بن حمود الحسني، الذي كان خليفة ولم يكن حاجبا. بويع له بقرطبة سنة 407هـ وقتله الصقالبة في العام التالي في حمام قصره.
(7) في الذخيرة: «فأكرم نزله، ورفع من شأنه».
(8) هو ابنه يحيى بن علي بن حمود.
(9) في الذخيرة: «المرشح كان لسلطانه».(1/288)
فلم يزل له بهما (1) المكان المكين، إلى أن تغيّر عليه يحيى لتغيّر الزمان، وتقلّب الليالي والأيام بالإنسان، ولحق (2) بغرناطة بعسكر البرابرة، فحلّت به من أميرهم باديس الفاقرة (3).
من روى عنه: قال أبو الوليد: قرأت عليه بالحضرة الحماسة في اختيار أشعار العرب، يحملها عن أحمد بن عبد السلام بن الحسين البصري، ولقيه ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، عن أبي رياش أحمد بن أبي هشام بن شبل العبسي بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وله في الفضائل أخبار كثيرة.
محنته ووفاته: لحقه عند باديس مع عمه يدّير بن حباسه تهمة في التدبير عليه، والتسوّر على سلطانه، دعتهما إلى الفرار عن غرناطة، واللّحاق بإشبيلية. قال أبو يحيى الورّاق: واشتدّ شوق أبي الفتوح إلى أهله عند هربه مع يدّير إلى إشبيلية لمّا بلغه أن باديس قبض على زوجته وبنيه وحبسهم بالمنكّب عند العبد قدّاح صاحب عذابه، وكان لها من نفسه موقع عظيم، وكانت أندلسيّة جميلة جدّا لها طفلان ذكر وأنثى، لم يطق عنهما صبرا وعمل على الرجوع إلى باديس طمعا في أن يصفح عنه، كما عمل مع عمّه من أبي ريش فاستأمن إلى باديس يوم نزوله على باب إستجة إثر انهزام عسكر ابن عباد، وفارق صاحبه يدّير، ورمى هو بنفسه إلى باديس من غير توثّق بأمان أو مراسلة فلما أدخل عليه وسلم، قال له: ابتدئ، بأي وجه جئتني يا نمّام؟
ما أجرأك على خلقك، وأشدّ اغترارك بسحرك، فرّقت بين بني ماكسن، ثم جئت تخدعني كأنك لم تصنع شيئا فلاطفه، وقال اتّق الله يا سيدي، وارع ذمامي، وارحم غربتي وسوء مقامي، ولا تلزمني ذنب ابن عمّك فما لي سبب فيه، وما حملني على الفرار معه إلّا الخوف على نفسي لسابق خلطته ولقد لفظتني البلاد إليك مقرّا بما لم أجنه رغبة في صفحك، فافعل أفعال الملوك الذين يجلّون عن الحقد على مثلي من الصعاليك قال: بل أفعل ما تستحقّه إن شاء الله أن تنطلق إلى غرناطة، فدم على حالك، والق أهلك إلى أن أقبل، فأصلح من شأنك. فاطمأنّ إلى قومه، وخرج إلى غرناطة وقد وكّل به فارسان، وقد كتب إلى قدّاح بحبسه فلمّا شارف إلى غرناطة قبض عليه، وحلق رأسه، وأركب على بعير، وجعل خلفه أسود فظّ ضخم يوالي صفعه، فأدخل البلد مشهّرا، ثم أودع حبسا ضيّقا، ومعه رجل من أصحاب يدّير أسر في الوقعة من صنهاجة، فأقاما في الحبس معا إلى أن قفل باديس.
__________
(1) في الذخيرة: «بها».
(2) في الذخيرة: «ففارقه ولحق في غرناطة».
(3) الفاقرة: الداهية.(1/289)
مقتله: قال أبو مروان في الكتاب المسمّى بالمتين: واستراح باديس أياما في غرناطة يهيم بذكر الجرجاني، ويعض أنامله، فيعارضه فيه أخوه بلكّين، ويكذب الظنون وسعى في تخليصه، فارتبك باديس في أمره أياما، ثم غافض أخاه بلكين فقتله وقتا أمن فيه أمر معارضته لاشتغاله بشراب وآلة، وكانت من عادته فأحضر باديس الجرجاني إلى مجلسه، وأقبل يشتمه ويسبّه ويبكّته، ويطلق الشماتة ويقول، لم تغن عنك نجومك يا كذّاب، ألم يعد أميرك الجاهل؟ يعني يدّير، أنه سوف يظفر بي ويملك بلدي ثلاثين سنة، لم لم تدقّق النظر لنفسك وتحذر ورطتك؟ قد أباح الله لي دمك. فأيقن أبو الفتوح بالموت وأطرق ينظر إلى الأرض، لا يكلّمه ولا ينظر إليه فزاد ذلك في غيظ باديس، فوثب من مجلسه والسيف في يده، فخبط به الجرجاني حتى جدّ له وأمر بحزّ رأسه قال: وقدّم الصّنهاجي الذي كان محبوسا معه إلى السيف، فاشتدّ جزعه، وجعل يعتذر من خطيئته، ويلحّ في ضراعته فقال له باديس:
أما تستحي يا ابن الفاعلة يصبر المعلم الضعيف القلب على الموت مثل هذا الصبر، ويملك نفسه عن كلامه لي واستعطافي، وأنت تجزع مثل هذا الجزع؟ وطال ما أعددت نفسك في أشدّاء الرجال، لا أقال الرجال، لا أقال الله مقيلك فضرب عنقه، وانقضى المجلس.
ومن تمام الحكاية ممّا جلبه ابن حيّان، قال: وكلّم الصنهاجيّون باديس في جثّة صنهاجهم المقتول مع أبي الفتوح، فأمرني بإسلامها إليهم، فخرجوا بها من فورهم إلى المقبرة على نعش، فأصابوا قبرا قد احتفر لميت من أهل البلد، فصبّوا صاحبهم الصّنهاجي فيه، وواروه من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، فعجب الناس من تسحّيهم في الاغتصاب حتى الموتى في قبورهم.
مولده: سنة خمسين وثلاثمائة.
وفاته: كما ذكر ليلة السبت لاثنتين بقيتا من محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. قال برهون من خدّام باديس: أمرني بمواراة أبي الفتوح إلى جانب قبر أحمد بن عباس، وزير زهير العامري، فقبراهما في تلك البقعة متجاوران، وقال:
اجعل قبر عدوّ إلى جانب عدو إلى يوم القصاص، فيا لهما قبران أجمّا أدبا لا كفاء له، والبقاء لله سبحانه.
جعفر بن أحمد بن علي الخزاعي
من أهل غرناطة، ويعسوب الثاغية والراغية (1) من أهل ربض البيّازين، يكنى أبا
__________
(1) يعسوبهم: سيدهم ورئيسهم. والثاغية: الشاة يقال: ما له ثاغية ولا راغية: أي ليس له شاة ولا(1/290)
أحمد الشهير ذكره بشرق الأندلس، المعروف بكرامة الناس، المقصود الحفرة، المحترم التّربة حتى من العدوّ، والرائق بغير هذه الملّة. خرج قومه من وطنهم عند تغلّب العدو على الشرق، فنزلوا ربض البيّازين جوفي (1) المدينة، وارتاشوا، وتلثّموا (2)، وبنوا المسجد العتيق، وأقاموا رسم الإرادة، يرون أنهم تمسكوا من طريق الشيخ أبي أحمد بآثاره، فلا يغبّون بيته، ولا يقطعون اجتماعا، على حالهم المعروفة من تلاوة حسنة، وإيثار ركعات، ثم ذكر ثم ترجيع أبيات في طريق التصوّف، مما ينسب للحسين بن منصور الحلاج (3) وأمثاله، يعرفونها منهم مشيخة، قوّالون، هم فحول الأجمة وضرائك (4) تلك القطيعة يهيجون بلابلهم، فلا ينشبون أن يحمى وطيسهم، ويخلط مرعيّهم (5) بالهمل، فيرقصون رقصا غير مساوق للإيقاع الموزون، دون العجال الغالبة منهم، بإفراد كلمات من بعض المقول، ويكرّ بعضهم على بعض، وقد خلعوا خشن ثيابهم، ومرقوعات قباطيهم ودرانيكهم (6). فيدوم حالهم حتى يتصبّبوا عرقا. وقوّالهم يحرّكون فتورهم، ويزمرون روحهم، يخرجون بهم من قول إلى آخر، ويصلون الشيء بمثله، فربما أخذت نوبة رقصهم بطرفي الليل التمام، ولا تزال المشيّعة لهم يدعونهم، ويحاجّونهم إلى منازلهم، وربما استدعاهم السلطان إلى قصره محمضا في لطائف نعيمه باخشيشانهم، مبديا التبرّك بألويتهم. ولهم في الشيخ أبي أحمد والد نحلتهم، وشحنة قلوبهم، عصبيّة له وتقليد بإيثاره، أنفجت (7)
لعقده أيمانهم، وشرط في صحّة دينهم، وارتكبوا في النفور عن سماع المزمار القصبي المسمّى بالشّبابة الذي أرخص في حضور الولائم، مع نفخ برعه العدد الكثير من الجلّة الصلحاء القدوة مرتكبا، حتى ألحقوه بالكبائر الموبقة، وتعدّوا اجتنابه جبلة وكراهة طباعيّة، فتزوى عند ذكره الوجوه. وتقتحم عند الاتّهام به الدّور، وتسقط فيما
__________
ناقة، أي ليس له شيء. لسان العرب (عسب) و (ثغا).
(1) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة، أي الشمال. اللمحة البدرية (ص 22، حاشية 3).
(2) أغلب الظن أنه يريد أن يقول إنهم ساروا على طريقة الملثمين أي المرابطين.
(3) أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج زاهد مشهور، توفي سنة 309هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 2ص 118) وفيه ثبت المصادر التي ترجمت له.
(4) الضرائك: جمع ضريك وهو النسر الذكر. محيط المحيط (ضرك).
(5) في الأصل: «مريعهم». وهذا مأخوذ من المثل: «اختلط المرعي بالهمل». والمرعيّ: الذي له راع. والهمل من الإبل: السّدى المتروك ليلا ونهارا يرعى بلا راع. محيط المحيط (همل).
(6) القباطي: جمع قبطية وهي ثياب بيض رقاق من كتّان تنسج بمصر. والدرانيك: جمع درنك وهي الطنفسة. محيط المحيط (قبط) و (درنك).
(7) أنفجه: أثاره. محيط المحيط (نفج).(1/291)
بينهم بفلتة سماعه أخوّة الطريق. وهم أهل سذاجة وسلامة، أولو اقتصاد في ملبس وطعمة واقتيات بأدنى بلغة، ولهم في التعصّب نزعة خارجيّة (1)، وأعظمهم ما بين مكتسب متسبّب وبين معالج مدرة، ومريع حياكة، وبين أظهرهم من الذّعرة والصعاليك كثير، والطّرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق، جعلنا الله ممّن قبل سعيه، وارتضى ما عنده، ويسّره لليسرى.
حاله: قام هذا الرجل مقام الشيخ أبي تمام قريبه على هيئة مهلكه، فسدّ مسدّه، على حال فتور وغرارة، حتى لان متن الخطة، وخفّ عليه بالمران ثقل الوظيفة، فأمّ وخطب، وقاد الجماعة من أهل الإرادة. وقضى في الأمور الشرعية بالرّبض، تحت ضبن (2) قاضي الجماعة، وهو الآن بعده على حاله، حسن السّجيّة، دمث الأخلاق، ليّن العريكة، سهل الجانب، مقترن الصدق والعفّة، ظاهر الجدّة، محمود الطريقة، تطأه أقدام الكلف، وتطرّح به المطارح القاصية، حوى على الشفاعات، مستور الكفاية في لفق الضعف، متوالي شعلة الإدراك في حجر الغفلة، وجه من وجوه الحضرة في الجمهورية، مرعيّ الجانب، مخفّف الوظائف، مقصودا من منتامي (3) أهل طريقه بالهدايا، مستدعى إلى من بالجهات منهم في كثير من الفصول، ظاهر الجدوى في نفير الجهاد، رحمه الله، ونفع بأهل الخير.
مولده: عام تسعة وسبعمائة.
وفاته: يوم الاثنين التاسع والعشرين لرمضان خمسة وستين وسبعمائة.
جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة الخزاعي (4)
من أهل شرق الأندلس، من نظر دانية، يكنى أبا أحمد، الوليّ الشهير.
حاله: كان (5) أحد الأعلام المنقطعي (6) القرين في طريق كتاب الله، وأولي الهداية الحقّة، فذّ، شهير، شائع الخلّة، كثير الأتباع، بعيد الصيت، توجب حقّه حتى الأمم الدائنة بغير دين الإسلام، عند التغلّب على قرية مدفنه بما يقضى منه بالعجب.
__________
(1) النزعة الخارجية: نسبة إلى مذهب الخوارج.
(2) الضّبن: ما بين الكشح والإبط. محيط المحيط (ضبن).
(3) منتامو هذه الطريقة: أنصارها الذين يطمئنون إليها.
(4) ترجمة ابن سيد بونة الخزاعي في التكملة (ج 1ص 197)، والوافي بالوفيات (ج 11ص 110)، ونفح الطيب (ج 3ص 253، 359).
(5) قارن بنفح الطيب (ج 3ص 359).
(6) في النفح: «المنقطعين المقرّبين».(1/292)
قال الأستاذ أبو جعفر بن الزّبير عند ذكره في الصّلة (1): أحد أعلام (2) المشاهير فضلا وصلاحا قرأ ببلنسية (3)، وكان يحفظ نصف «المدوّنة» وأقرأها، ويؤثر (4) الحديث والتفسير والفقه، على غير ذلك من العلوم.
مشيخته: أخذ (5) القراءات السبع عن المقرئ أبي الحسن بن هذيل، وأبي الحسن بن النّعمة، ورحل إلى المشرق، فلقي في رحلته جلّة، أشهرهم وأكبرهم في باب الزهد وأنواع سني الأحوال، ورفيع المقامات، الشيخ الجليل، الوليّ لله تعالى، العارف، أبو مدين شعيب (6) بن الحسين، المقيم ببجاية، صحبه وانتفع به، ورجع من عنده بعجائب دينية، ورفيع أحوال إيمانية، وغلبت عليه العبادة، فشهر بها حتى رحل إليه الناس للتبرّك بدعائه، والتيمّن برؤيته ولقائه، فظهرت بركته على القليل والكثير منهم وارتووا زلالا من ذلك العذب النّمير، وحظّه من العلم مع عمله الجليل موفور، وعلمه نور على نور. لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن حسين بن سيدبونة حين ورد غرناطة، فكان يحدّث عنه بعجائب.
دخوله غرناطة: وذكر المعتنون بأخباره بالحضرة إلى طريقه، أنه دخل الحضرة وصلّى في رابطة الرّبط من باب (7) وأقام بها أياما، فلذلك المسجد المزية عندهم إلى اليوم. وانتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلّب العدو على الشرق على بلدهم، إلى هذه الحضرة، فسكنوا منها ربض البيّازين، على دين وانقباض وصلاح، فيحجّون بكنوز من أسراره، ومبشّراته مضنون بها على الناس. وبالحضرة اليوم منهم بقية تقدّم الإلماع بذكرهم.
وفاته: توفي، رحمه الله، بالموضع المعروف بزناتة، في شوّال سنة أربع وعشرين وستمائة، وقد نيّف على الثمانين (8).
__________
(1) المراد: صلة الصلة لابن الزبير، وليس الصلة لابن بشكوال.
(2) في النفح: «الأعلام».
(3) في النفح: «ببلنسية وتفقّه، وحفظ نصف».
(4) في النفح: «وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها».
(5) قارن بالتكملة (ج 1ص 197)، ونفح الطيب (ج 3ص 253، 359).
(6) شعيب بن الحسين أندلسي تلمساني، من مشاهير الصوفية. توفي بتلمسان سنة 594هـ. الأعلام (ج 3ص 166) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(7) بياض في الأصل.
(8) في التكملة: (ج 1ص 198): «وتوفي عن سنّ عالية تقارب المئة».(1/293)
الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص القرشي الفهري
نشأ بغرناطة، يكنى أبا علي، ويعرف بابن الناظر (1).
حاله: كان متفنّنا في جملة معارف، أخذ من كل علم سنا بحظّ وافر، حافظا للحديث والتفسير، ذاكرا للأدب واللغة والتواريخ، شديد العناية بالعلم، مكبّا على استفادته وإفادته، حسن اللقاء لطلبة العلم، حريصا على نفعهم، جميل المشاركة لهم.
وقال الأستاذ: كان من بقايا أهل الضبط والإتقان لما رواه، وآخر مقرئي القرآن، ممّن يعتبر في الأسانيد ومعرفة الطرق والروايات، متقدّما في ذلك على أهل وقته، وهو أوفر من كان بالأندلس في ذلك. أقرأ القرآن والعربية بغرناطة مدة، ثم انتقل إلى مالقة (2) فأقرأ بها يسيرا، ثم انقبض عن الإقراء، وبقي خطيبا بقصبة مالقة نحوا من خمس (3) وعشرين سنة، ثم كرّ منتقلا إلى غرناطة (4)، فولي قضاء ألمريّة، ثم قضاء بسطة، ثم قضاء مالقة.
وصمته: قال الأستاذ: إلّا أنه كان فيه خلق أخلّت به، وحملته على إعداء ما ليس من شأنه، عفا الله عنه، فكان ذلك مما يزهّد فيه.
مشيخته: روى عن الأستاذ المقرئ أبي محمد عبد الله بن حسين الكوّاب، أخذ عنه قراءة السبع وغير ذلك، وعن أبي علي وأبي الحسن بن سهل بن مالك الأزديّ، وأبي عبد الله محمد بن يحيى، المعروف بالحلبي، وجماعة غير هؤلاء، ورحل إلى إشبيلية فروى بها عن الشيخ الأستاذ أبي علي (5) أكثر كتاب سيبويه تفقّها، وغير ذلك. وأخذ عن جماعة كثيرة من أهلها، وقدم عليها. إذ ذاك القاضي أبو القاسم بن بقيّ، فلقيه بها وأخذ عنه، ورحل إلى بلنسية، فأخذ بها عن الحاج أبي الحسن بن خيرة، وأبي الربيع بن سالم، وسمع عليه جملة صالحة، كأبي عامر بن يزيد بن أبي العطاء بن يزيد وغيرهم، وبجزيرة شقر عن أبي بكر بن وضّاح، وبمرسية
__________
(1) ترجمة ابن الناظر في تاريخ قضاة الأندلس (ص 163162).
(2) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 163) أنه ارتحل عن غرناطة لغرض عنّ له بها فلم يقض، فأنف من ذلك، فاستقرّ بمالقة.
(3) في الأصل: «خمسة» وهو خطأ نحوي.
(4) يذكر النباهي في تاريخ قضاة الأندلس (ص 163) أن ابن الناظر فرّ من مالقة إلى غرناطة لتغيير كان سببه فتنة الخلاف بها.
(5) هو أبو علي الشلوبيني كما جاء في تاريخ قضاة الأندلس (ص 163).(1/294)
عن جماعة من أهلها، وبأوريولة عن أبي الحسن بن بقيّ، وبمالقة عن آخرين، وتحصّل له جماعة نيّفوا على الستين.
تصانيفه: منها المسلسلات، والأربعون حديثا، والترشيد في صناعة التّجويد، وبرنامج رواياته وهو نبيل.
شعره: كان يقرض شعرا لا يرضى لمثله، ممّن برّز تبريزه في المعارف.
مولده: يوم الخميس لاثنتي عشرة (1) ليلة بقيت من شوّال سنة خمسين وستمائة.
وفاته: توفي بغرناطة لأربع عشرة (2) ليلة خلت من جمادى الآخرة (3) سنة تسع وتسعين وستمائة.
الحسن بن محمد بن الحسن النباهي الجذامي (4)
من أهل مالقة، يكنى أبا علي.
أوّليّته: قال القاضي المؤرّخ أبو عبد الله بن أبي عسكر فيه: من حسباء مالقة وأعيانها وقضاتها، وهو جدّ بني الحسن المالقيين، وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة، لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر، استقضى جدّه المنصور بن أبي عامر، وكانت له ولأصحابه حكاية مع المنصور.
قال القاضي ابن بياض: أخبرني أبي، قال: اجتمعنا يوما في متنزّه لنا بجهة الناعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر في حداثة سنّه، وأوان طلبه، وهو مرتج مؤمّل، ومعنا ابن عمّه عمرو بن عبد الله بن عسكلاجة، والكاتب ابن المرعزى، والفقيه أبو الحسن المالقي، وكانت سفرة فيها طعام، فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي كان يتكلّم به: لا بدّ أن نملك الأندلس، ونحن نضحك منه ومن قوله.
ثم قال: يتمنّى كلّ واحد منكم عليّ ما شاء أولّيه فقال عمرو: أتمنى أن تولّيني المدينة، نضرب ظهور الجنّات. وقال ابن المرعزى: وأنا أشتهي الأسفح (5)، القضاء في أحكام السّوق. وقال أبو الحسن: وأنا أحب هذه، أن توليني قضاء مالقة بلدي.
__________
(1) في الأصل: «لاثني عشر» وهو خطأ نحوي.
(2) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.
(3) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 163): جمادى الأولى.
(4) ترجمة الحسن بن محمد بن الحسن النباهي في الصلة (ص 225).
(5) الأسفح: الأصلع، والمراد هنا الأرض الأقل عطاء. لسان العرب (سفح).(1/295)
قال موسى بن غدرون: قال لي: تمنّ أنت، فشققت لحيته بيدي، واضطربت به وقلت قولا قبيحا من قول السفهاء. فلمّا ملك ابن أبي عامر الأندلس، ولّى ابن عمّه المدينة، وولّى ابن المرعزى أحكام السوق، وولّى أبا الحسن المالقي قضاء ريّه، وبلغ كل واحد ما تمنّى، وأخذ منّي مالا عظيما أفقرني لقبح قولي: فبيت بني الحسن شهير، وسيأتي من أعلامه ما فيه كفاية.
حاله: قال ابن الزّبير: كان طالبا نبيلا من أهل الدين والفضل والنّهى والنباهة.
نباهته: قال ابن الزبير في كتاب نزهة البصائر والأبصار: استقضي بغرناطة.
وفاته: توفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، ذكره ابن بشكوال في الصّلة، وعرّف بولايته قضاء غرناطة، وذكره ابن عسكر، وتوهّم فيه الملّاحي، فقال: هو من أهل إلبيرة.
حسن بن محمد بن حسن القيسي
من أهل مالقة، يكنى أبا علي، ويعرف بالقلنار.
حاله: كان، رحمه الله، بقيّة شيوخ الأطباء ببلده، حافظا للمسائل الطّبية، ذاكرا للدواء، فسيح التّجربة، طويل المزاولة، متصرّفا في الأمور التي ترجع إلى صناعة اليدين صدلة وإخراعة، محاربا، مقدورا عليه في أخرياته، ساذجا، مخشوشنا، كثير الصحة والسلامة، محفوظ العقيدة، قليل المصانعة، بريّا من التشمّت، يعالج معيشته بيده في صبابة فلاحة. أخذ صناعة الطب عن أبي الحسن الأركشي (1)، ومعرفة أعيان النبات عن المصحفي وسرح معه، وارتاد منابت العشب في صحبته، فكان آخر السحّارين بالأندلس، وحاول عمل التّرياق الفارق بالديار السلطانية عام اثنين وخمسين وسبعمائة مبرّزا في اختيار أجزائه، وإحكام تركيبه، وإقدام على اختبار مرهوب حياته، قتلا وصنجا وتقريصا، بما يعجب من إدلاله فيه، وفراهته عليه.
حسن بن محمد بن باصة
يكنى أبا علي، ويعرف بالصّعلعل، رئيس المؤقّتين بالمسجد الأعظم من غرناطة، أصله من شرق الأندلس.
__________
(1) نسبة إلى أركش وهي حصن بالأندلس على وادي لكه. الروض المعطار (ص 27).(1/296)
حاله: كان فقيها إماما في علم الحساب والهيئة، أخذ عنه الجلّة والنبهاء، قائما على الأطلال والرّخائم والآلات الشعاعية، ماهرا في التعديل، مع التزام السّنّة، والوقوف عند ما حدّ العلماء في ذلك، مداوم النظر، ذا مستنبطات ومستدركات وتواليف، نسيج وحده ورحقة وقته.
وفاته: توفي بغرناطة عام ستة عشر وسبعمائة.
الحسن بن محمد بن علي الأنصاري
من أهل (1)، يكنى أبا علي ويعرف بابن كسرى.
حاله: كان متقدّما في حفظ الأدب واللغة، مبرّزا في علم النحو، شاعرا مجيدا، ممتع المؤانسة، كثير المواساة، حسن الخلق، كريم النفس، مثرّا (2) في نظم الشعر في غير فن، مدح الملوك والرؤساء، مؤثرا للخمول على الظهور، وفي تخامله يقول شعرا ثبت في موضعه.
مشيخته: روى عن أبي بكر بن عبد الله بن ميمون الكندي، وأبي عبد الله الكندي، وأبي الحكم بن هرودس، وأبي عبد الله بن غالب الرّصافي.
ممّن روى عنه: روى عنه أبو الطاهر أحمد بن علي الهواري السّبتي، وأبو عبد الله إبراهيم بن سالم بن صالح بن سالم.
نباهته وإدراكه: من كتاب نزهة البصائر والأبصار، قال القاضي أبو عبد الله بن عسكر: نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي، رحمه الله ما معناه:
قال: حدّثني الفقيه الأديب أبو علي، قال: كنت بإشبيلية، وقد قصدتها لبعض الملوك، فبينما أنا أسير في بعض طرقها، لقيت الشيخ أبا العباس، فسلّمت عليه، ووقفت معه، وكنت قد ذكر لي أنّ بها رجلا من الصالحين، زاهدا، فاضلا، ينتقد من الشعر في الزهد والرقائق، ببدائع تعجب. وكان بالمغرب قد قصّد الهربيّ والنادر، فسألني أبو العباس عن مصيري، فأعلمته بقصدي، فرغب أن يصحبني إليه، حتى أتيناه، فرأيناه رجلا عاقلا، قاعدا في موضع قذر، فسلّمنا عليه، فردّ علينا، وسألناه عن قعوده في ذلك الموضع، فقال: أتذكّر الدّنيا وسيرتها، فزدنا به غبطة ثم استنشدناه في ذلك الغرض من كلامه، ففكّر ساعة ثم أنشدنا كلاما قبيحا، تضمّن من القبيح ومن الإقذاع والفواحش ما لا يحلّ
__________
(1) بياض في الأصل.
(2) مثرّا: مكثرا. لسان العرب (ثرر).(1/297)
سماعه، فقمنا نلعنه، وخجلت من أبي العباس، واعتذرت له. ثم اتفق أن اجتمعنا في مجلس الأمير الذي كنت قد قصدته، فقال أبو العباس: إن أبا علي قد حفظ لبعض الحاضرين شعرا في الزهد، من أعذب الكلام وأحسنه، فسألني الأمير وطلب مني إنشاده، فخجلت ثم ثاب إليّ عقلي، فنظمت بيتين، فأنشدتهما إيّاه وهما:
[المنسرح]
أشهد ألّا إله إلّا الله ... محمد المصطفى رسول الله
لا حول للخلق في أمورهم ... إنما الحول كلّه لله
قال: فأعجب الأمير ذلك واستحسنه.
ومن مقاماته بين يدي الملوك وبعض حاله، نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الحسن بن أبي الحسن، قال: المروي منسوب إلى قرية بقرب مالقة، وهو الذي قال فيه الشيخ أبو الحجاج بن الشيخ رضي الله عنه: [المجتث]
إذا سمعت من اسرى ... ومن إلى المسجد أسرى
فقل ولا تتوقّف ... أبا علي ابن كسرى
قال: وهو قريب الأستاذ الأديب أبي علي الإستجي ومعلّمه، وأحد طلبة الأستاذ أبي القاسم السّهيلي، وممّن نبع صغيرا، وارتحل إلى غرناطة ومرسية. وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا إسحاق بإشبيلية: [الكامل]
قسما بحمص (1) وإنّه لعظيم ... وهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة أبو القاسم السّهيلي، فقام عند إتمامه القصيدة، وقال: لمثل هذا أحسيك الحسا، وأواصل في تعليمك الإصباح والإمساء، وكان يوما مشهودا.
وأنشد الأمير أبا يعقوب حين حلّها: [الطويل]
أمعشر أهل الأرض في الطول والعرض ... بهذا استنادي في القيامة والعرض
لقد قال فيك الله ما أنت أهله ... فيقضي بحكم الله فيك بلا نقض
وإياك يعنى ذو الجلال بقوله ... كذلك مكّنّا ليوسف في الأرض
وذكره ابن الزّبير، وابن عبد الملك، وابن عسكر، وغيرهم.
__________
(1) حمص: هي إشبيلية.(1/298)
ومن شعره في معنى الانقطاع والتسليم إلى الله تعالى، وهي لزوميّة، ولنختم بها، ختم الله لنا بالحسنى: [الطويل]
إلهي أنت الله ركني وملجئي ... وما لي إلى خلق سواك ركون
رأيت بني الأيام عقبى سكونهم ... حراك وفي عقبى الحراك سكون
رضى بالذي قدّرت تسليم عالم ... بأنّ الذي لا بدّ منه يكون
وفاته: توفي بمدينة مالقة في حدود ثلاث وستمائة.
الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق التغلبي
يكنى أبا علي، مرسيّ الأصل، سبتيّ الاستيطان، منتم إلى صاحب الثورة على المعتمد (1).
حاله: كان نسيج وحده، وفريد دهره، إتقانا ومعرفة، ومشاركة في كثير من الفنون اللسانية والتعالميّة، متبحّرا في التاريخ، ريّانا من الأدب، شاعرا مفلقا، عجيب الاستنباط، قادرا على الاختراع والأوضاع، جهم المحيّا، موحش الشكل، يضمّ برداه طويّا لا كفاء له، تحرّف بالعدالة، وبرّز بمدينة سبتة، وكتب عن أميرها، وجرت بينه وبين الأديب أبي الحكم مالك بن المرحّل من الملاحات والمهاترات أشدّ ما يجري بين متناقضين، آلت به إلى الحكاية الشهيرة، وذلك أنه نظم قصيدة نصّها: [الكامل]
لكلاب سبتة في النّباح مدارك ... وأشدّها دركا لذلك مالك (2)
شيخ تفانى في البطالة عمره ... وأحال فكّيه الكلام الآفك
كلب له في كلّ عرض عضّة ... وبكلّ محصنة لسان آفك
متهمّم (3) بذوي الخنا متزمّع ... متهازل بذوي التّقى متضاحك
أحلى شمائله السّباب المفتري ... وأعفّ سيرته الهجاء الماعك
وألذّ شيء عنده في محفل ... لمز لأستار المحافل هاتك
__________
(1) صاحب الثورة على المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية، هو عبد الله بن رشيق، الذي قام على المعتمد بمرسية إذ كانت مرسية آنذاك تابعة لمملكة إشبيلية وكان عليها ابن عمار من قبل المعتمد فاستقل بها ابن رشيق وطرد منها ابن عمار، ودعا إلى نفسه. ابن بلقين: مذكرات الأمير عبد الله (ص 111110)، والمعجب (ص 192)، ومملكة غرناطة (ص 212211).
(2) هو أبو الحكم مالك بن المرحّل، الذي تقدّم اسمه.
(3) في الأصل: «متهم» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.(1/299)
يغشى مخاطره اللئيم تفكّها ... ويعاف رؤيته الحليم النّاسك
لو أن شخصا يستحيل كلامه ... خرءا (1) للاك الخرء منه لائك
فكأنه التمساح يقذف جوفه ... من فيه ما فيه ولا يتماسك
أنفاسه وفساؤه من عنصر ... وسعاله وضراطه متشارك
ما ضرفا من معدّ الله (2) ... لو أسلمته نواجذ وضواحك
في شعره من جاهلية طبعه ... أثقال أرض لم ينلها فاتك
صدر وقافية تعارضتا معا ... في بيت عنس أو بعرس فارك
قد عمّ أهل الأرض بلعنه ... فللأعنية في السماء ملائك
ولأعجب العجبين أنّ كلامه ... لخلاله مسك يروح ورامك
إن سام مكرمة جثا متثاقلا ... يرغو كما يرغو البعير البارك
ويدبّ في جنح الظلام إلى الخنا ... عدوا كما يعدو الظّليم الراتك
نبذ الوقار لصبية يهجونه ... فسياله فرش لهم وأرائك
يبدي لهم سوآته ليسوءهم ... بمسالك لا يرتضيها سالك
والدهر باك لانقلاب صروفه ... ظهرا لبطن وهو لاه ضاحك
واللسن تنصحه بأفصح منطق ... لو كان ينجو بالنّصيحة هالك
تب يا ابن تسعين فقد جزت المدا ... وارتاح للّقيا بسنّك مالك
أو ما ترى من حافديك نشابها ... ابن يضاجع جدّه ويناسك
هيهات أيّة عشرة لهجت به ... هنوات مملوك وطيّع مالك
يا ابن المرحّل لو شهدت مرحّلا ... وقد انحنى بالرّحل منه الحارك
وطريد لوم لا يحلّ بمعشر ... إلّا أمال قفاه صفع دالك
مركوب لهو لجاجة وركاكة ... وأراك من ذاك اللجاج البارك
لرأيت للعين اللئيمة سحّة ... وعلا بصفع عرك أذنك عارك
وشغلت عن ذمّ الأنام بشاغل ... وثناك خصم من أبيك مماحك
قسما بمن سمك السماء مكانها ... ولديه نفس رداء نفسك شائك
لأقول للمغرور منك بشيبة ... بيضاء طيّ الصّحف منها حالك
لا تأمنن للذئب دفع مضرّة ... فالذئب إن أعفيته بك فاتك
__________
(1) الخرء: العذرة، والغائط. القاموس المحيط (خرأ).
(2) صدر هذا البيت لا يستقيم وزنه ولا معناه.(1/300)
عار على الملك المنزّه أن يرى ... في مثل هذا للملوك مسالك
فكلامه للدّين سمّ قاتل ... ودنوّه للعرض داء ناهك
فعليه ثم على الذي يصغى له ... ويل يعاجله وحتف واشك
وأتاه من مثواه آت مجهز ... لدم الخناجر بالخناجر سافك
وهي طويلة، تشتمل من التعريض والصريح على كل غريب، واتخذ لها كنانة خشبية كأوعية الكتب، وكتب عليها: «رقاص معجّل، إلى مالك بن المرحّل». وعمد إلى كلب، وجعلها في عنقه، وأوجعه خبطا حتى لا يأوي إلى أحد، ولا يستقرّ، وطرده بالزّقاق متكتّما بذلك. وذهب الكلب وخلفه من الناس أمّة، وقرىء مكتوب الكنانة، واحتمل إلى أبي الحكم، ونزعت من عنق الكلب، ودفعت إليه، فوقف منها على كل فاقرة (1) كفّت من طماحه، وغضّت عن عنان مجاراته، وتحدّث بها مدة، ولم يغب عنه أنها من حيل ابن رشيق، فعوّق سهام المراجعة، ثم أقصر مكبوحا، وفي أجوبته عن ذلك يقول: [المتقارب]
كلاب المزابل آذينني ... بأبوالهنّ على باب داري
وقد كنت أوجعها بالعصا ... ولكن عوت من وراء الجدار
واستدعاه بآخرة أمير المغرب السلطان أبو يعقوب، فاستكتبه، واستكتب أبا الحكم صدقة، فيقال إنه جرّ عليه خجلة كانت سبب وفاة أبي علي. ودخل الأندلس، وحطّ بها بألمريّة، وقد أصيب بأسر عياله، فتوسّل إلى واليها من قرابة السلطان الغالب بالله، بشعر مدحه فيه من قصيدة أولها: [الكامل]
ملقي النوى ملق لبعض نوالكا ... فاشف المحبّ ولو بطيف خيالكا
ومنها:
لا تحسبنّي من فلان أو فلا ... أنا من رجال الله ثم رجالكا
ومنها:
نصب العدوّ حبائلا لحبائبي ... وعلقت في استخلاصها بحبالكا
وفي خاتمها:
وكفاك شرّ العين عيب واحد ... لا عيب فيه سوى فلول نصالكا
__________
(1) القاقرة: الداهية التي تكسر الفقار، والجمع فواقر. محيط المحيط (فقر).(1/301)
ولحق بغرناطة، ومدح السلطان بها، ونجحت لديه مشاركة الرئيس بألمريّة.
فجبر الله حاله، وخلّص أسره.
ومما جمع فيه بين نثره ونظمه ما كتبه لمّا كتب إليه الأديب الطبيب صالح بن شريف بهاتين القصيدتين اللتين تنازع فيهما الأقوام، واتفقوا على أن يحكم بينهما الأحلام، وعبّر عن ذلك الأقلام، ولينظرهما من تشوّق إليهما بغير هذا الموضع.
تواليفه: وأوضاعه غريبة، واختراعاته عجيبة، تعرّفت أنه اخترع في سفرة الشطرنج شكلا مستديرا. وله الكتاب الكبير في التاريخ، والتلخيص المسمّى ب «ميزان العمل» وهو من أظرف الموضوعات، وأحسنها شهرة.
وفاته: كان حيّا عام أربعة وسبعين وستمائة.
حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي (1)
يكنى أبا مسعود، ملك إلبيرة وغرناطة وما والاها.
حاله وأوّليّته: أما أوّليّته، فقد مرّ ذلك بما فيه كفاية عند ذكر بلكّين. ولمّا دخل زاوي بن زيري على الأندلس غبّ إيقاعه بالمرتضى الذي نصبته الجماعة، واستيلائه على محلّته بظاهر غرناطة، خاف (2) تمالؤ الأندلس عليه، ونظر للعاقبة، فأسند الأمر إلى ابن أخيه، حبّوس بن ماكسن، وكان بحصن آشر (3)، فلمّا ركب البحر من المنكّب، وودّعه به زعيم البلدة وكبير فقهائها أبو عبد الله بن أبي زمنين، ذهب إلى ابن أخيه المذكور واستقدمه، وجرت بينه وبين ابن عمّه المتخلّف على غرناطة من قبل والده، محاورة انجلت عن رحيله تبعا لأبيه حبّوس، فاستبدّ بالملك، ورأب الصّدع سنة إحدى (4) عشرة وأربعمائة. قال ابن عذاري في تاريخه (5): فانحازت (6)
صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم حبّوس بن ماكسن، وقد كان أخوه حباسة هلك في
__________
(1) ترجمة حبّوس في المغرب (ج 2ص 194)، والمختصر في أخبار البشر (ج 2ص 198)، وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 2ص 8)، وصبح الأعشى (ج 5ص 242)، والبيان المغرب (ج 3ص 264) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 229)، وكتاب العبر (م 4ص 346) و (م 6ص 369). وهناك دراسة مفصلة عنه في كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري (ص 105) فلتنظر.
(2) في الأصل: «وخاف».
(3) في الأصل: «أشتر»، وقد صوّبناه من مذكرات الأمير عبد الله (ص 19) حيث حدّد موقع حصن آشر في الغرب، وهو بالإسبانية.
(4) في الأصل: «أحد عشر» وهو خطأ نحوي.
(5) البيان المغرب (ج 3ص 264).
(6) في البيان المغرب: «وانحاز».(1/302)
الفتنة، وبقي منهم معه بعد انصراف زاوي إلى إفريقية، جماعة عظيمة، فانحازوا إلى مدينة غرناطة، وأقام حبّوس بها ملكا عظيما، وحامى (1) رعيّته ممّن جاوره من سائر البرابرة (2) المنتشرين حوله، فدامت رئاسته.
وفاته: توفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة (3).
الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن ابن معاوية (4)
صفته وحاله: كان أصهب العين، أسمر، أقنى، معسّل اللحية، جهير الصوت، طويل الصّلب، قصير الساقين، عظيم السّاعد، أفصم، وكان ملكا (5)
جليلا، عظيم الصّيت، رفيع القدر، عالي الهمّة، فقيها بالمذهب، عالما بالأنساب، حافظا للتاريخ، جمّاعا للكتب، محبّا في العلم والعلماء، مشيرا للرجال من كل بلد، جمع العلماء من كل قطر، ولم يكن في بني أمية أعظم همّة، ولا أجلّ رتبة في العلم وغوامض الفنون منه. واشتهر بهمّته بالجهاد، وتحدّث بصدقاته في المحلول، وأملته الجبابرة والملوك.
دخوله إلبيرة: قال ابن الفيّاض: كتب إليه من الثغر الجنوبي أن عظيم الفرنجة من النصارى حشدوا إليه وسألوه الممرة (6) بطول المحاصرة، فاحتسب شخوصه بنفسه إلى ألمرية في رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، في جحفل لجب من نجدة الأولياء وأهل المراتب. ولما أحلّ إلبيرة ورد عليه كتاب أحمد بن يعلى من طرطوشة بنصر الله العزيز وصنعه الكريم على الرّوم. ووافى ألمريّة، وأشرف على أمورها، ونظر إلى أسطولها وجدّده، وعدّته يومئذ ثلاثمائة قطعة، وانصرف إلى قرطبة.
__________
(1) في البيان المغرب: «وحمى».
(2) في البيان المغرب: «سائر الأمراء المنتزين حوله».
(3) تقدّم في «فصل فيمن تداول هذه المدينة» أن حبوس بن ماكسن مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
(4) ترجمة الحكم بن عبد الرحمن، المعروف بالمستنصر في جذوة المقتبس (ص 13)، وبغية الملتمس (ص 18)، والحلّة السيراء (ج 1ص 200)، والمغرب (ج 1ص 186)، والبيان المغرب (ج 2ص 232)، ونفح الطيب (ج 1ص 365)، ورسائل ابن حزم الأندلسي (ج 2 ص 194)، وجمهرة أنساب العرب (ص 100).
(5) كان المستنصر خليفة وليس ملكا، حكم الأندلس من سنة 350هـ إلى سنة 366هـ.
(6) الممرة: الاستمرار.(1/303)
مولده: لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثمائة.
وفاته: لأربع (1) خلون من صفر سنة ستّ وستين وثلاثمائة، وعمره نحو من ثلاث وستين سنة، وهو خاتمة العظماء من بني أمية.
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان بن أمية (2)
كنيته أبو العاصي.
صفته: آدم، شديد الأدمة (3)، طويل، أشمّ، نحيف، لم يخضب. بنوه تسعة عشر من الذكور، منهم عبد الرحمن وليّ عهده.
بناته: إحدى وعشرون (4)، أمّه أمّ ولد اسمها زخرف.
وزراؤه وقوّاده: خمسة، منهم إسحاق بن المنذر، والعباس بن عبد الله، وعبد الكريم بن عبد الواحد، وفطيس بن سليمان، وسعيد بن حسّان.
قضاته: مصعب بن عمران، وعمر (5) بن بشر، والفرج بن كنانة. وبشر بن قطن، وعبد (6) الله بن موسى، ومحمد بن تليد، وحامد بن محمد بن يحيى.
كتابه: فطيس بن سليمان، وعطاف (7) بن زيد، وحجّاج بن العقيلي (8).
حاجبه: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث.
حاله: كان الحكم شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتّقى. وكان حسن التدبير في سلطانه، وتولية أهل الفضل، والعدل في رعيّته، مبسوط اليد بالعطاء الكثير، وكان فصيحا، بليغا، شاعرا مجيدا، أديبا، نحويّا.
__________
(1) في الحلة السيراء (ج 1ص 200): «وتوفي لليلتين خلتا من صفر».
(2) ترجمة الحكم بن هشام، المعروف بالحكم الربضي، في جذوة المقتبس (ص 10)، وبغية الملتمس (ص 14)، والحلّة السيراء (ج 1ص 43)، والبيان المغرب (ج 2ص 68)، والمغرب (ج 1ص 38)، ونفح الطيب (ج 1ص 326)، ورسائل ابن حزم الأندلسي (ج 2 ص 192)، وجمهرة أنساب العرب (ص 97).
(3) الأدمة: السمرة. محيط المحيط (أدم).
(4) في المغرب (ج 1ص 38) أنهنّ ثلاثون.
(5) في البيان المغرب: «ومحمد بن بشير».
(6) في المصدر نفسه: «وعبيد الله بن موسى».
(7) في المصدر نفسه: «وخطّاب بن زيد».
(8) في المصدر نفسه: «وحجاج العقيلي».(1/304)
قال ابن عذاري (1): كانت فيه بطالة، إلّا أنه كان شجاعا (2)، مبسوط اليد، عظيم العفو، وكان يسلّط قضاته وحكّامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصّته. وهو الذي جرت على يده الفتكة العظيمة بأهل ربض قرطبة (3)، الذين هاجوا به وهتفوا بخلعانه، فأظهره الله عليهم، في خبر شهير. وهو الذي أوقع بأهل طليطلة أيضا، فأبادهم بحيلة الدّعاء إلى الطعام بما هو معلوم.
دخوله غرناطة: قالوا: وبإلبيرة وأحوازها تلاقى مع عمّه أبي أيوب سليمان بن عبد الرحمن، فهزمه وقتله حسبما ثبت في اسم أبي أيوب.
شعره: قالوا: وكان له خمس جوار قد استخلصهنّ لنفسه، وملّكهنّ أمره، فذهب يوما إلى الدخول عليهنّ، فتأبّين عليه، وأعرضن عنه، وكان لا يصبر عنهنّ، فقال (4): [البسيط]
قضب من البان ماست فوق كثبان ... ولّين (5) عنّي وقد أزمعن هجراني
ناشدتهنّ بحقّي فاعتزمن على ال ... عصيان (6) حتى خلا منهنّ همياني
ملكنني ملك من ذلّت عزيمته ... للحبّ ذلّ أسير موثّق عاني
من لي بمغتصبات (7) الرّوح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزّي وسلطاني
ثم عطفن عليه بالوصال فقال (8): [الخفيف]
نلت كلّ (9) الوصال بعد البعاد ... فكأنّي ملكت كلّ العباد
وتناهى السرور إذ نلت ما لم ... يغن عنه تكاثف الأجناد
__________
(1) البيان المغرب (ج 2ص 79).
(2) في البيان المغرب: «كان شجاع النفس، باسط الكفّ».
(3) لذلك سمّي بالحكم الرّبضي، والمراد الربض الغربي من العاصمة قرطبة، وهو محلّه بها. معجم البلدان (ج 3ص 26). وخبر ثورة الربضي أولا سنة 189هـ وثانيا سنة 202هـ. البيان المغرب (ج 2ص 71، 75)، وتاريخ افتتاح الأندلس (ص 6968)، والحلّة السيراء (ج 1 ص 4744)، ونفح الطيب (ج 1ص 327).
(4) الأبيات في البيان المغرب (ج 2ص 79)، والحلّة السيراء (ج 1ص 50)، ونفح الطيب (ج 1 ص 330).
(5) في البيان المغرب: «أعرضن».
(6) في المصدر نفسه: «الهجران».
(7) في نفح الطيب: «بمقتضيات».
(8) البيتان في البيان المغرب (ج 2ص 79).
(9) كلمة «كل» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من البيان المغرب.(1/305)
مناقبة: أنهى (1) إليه عباس بن ناصح وقد عاد من الثغر أن امرأة من ناحية وادي الحجارة سمعها تقول: وا غوثاه، يا حكم، ضيّعتنا، وأسلمتنا، واشتغلت عنّا، حتى استأسد العدوّ علينا، ورفع إليه شعر في هذا المعنى والغرض، فخرج من قرطبة كاتما وجهته، وأوغل في بلاد الشّرك، ففتح الحصون، وهدّم المنازل، وقتل وسبى (2)، وقفل بالغنائم على الناحية التي فيها تلك المرأة، فأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم يفدون به أسراهم (3)، ويصلحون به أحوالهم، وخصّ المرأة وآثرها، وأعطاها عددا من الأسرى، وقال لها: هل أغاثك الحكم؟ قالت: إي والله، أغاثنا وما غفل عنّا، أعانه الله وأعزّ نصره.
وفاته: توفي لأربع بقين لذي الحجة سنة ست ومائتين، وكان عمره اثنتين (4)
وخمسين سنة. وجرى ذكره في الرجز من نظمي في تاريخ دول الإسلام (5) بما نصّه:
[الرجز]
حتى إذا الدهر عليه احتكما ... قام بها ابنه المسمّى حكما
واستشعر الثورة فيها وانقبض ... مستوحشا كاللّيث أقعى وربض
حتى إذا فرصته لاحت تفض ... فأفحش الوقعة في أهل الرّبض
وكان جبّارا بعيد الهمّه ... لم يرع من آل بها أو ذمّه
حكم بن أحمد بن رجا الأنصاري
من أهل غرناطة، يكنى أبا العاصي.
حاله: كان من قرّائها ونبهائها، وكان من أهل الفضل والطلب، وإليه ينسب مسجد أبي العاصي، وحمام أبي العاصي ودربه بغرناطة، وكفى بذلك دليلا على الأصالة والتأثّل. ذكره أبو القاسم ولم يذكر من أمره مزيدا على ذلك.
__________
(1) قارن بالبيان المغرب (ج 2ص 73).
(2) في البيان المغرب: «وقتل كثيرا، وأسر كذلك».
(3) في المصدر نفسه: «سباياهم».
(4) في الأصل: «اثنين» وهو خطأ نحوي.
(5) هو كتاب «رقم الحلل في نظم الدول».(1/306)
حاتم بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله ابن سعيد بن الحسين بن عثمان بن سعيد بن عبد الملك ابن سعيد بن عمّار بن ياسر (1)
أوّليّته: قد مرّ بعض ذلك، وسيأتي بحول الله.
حاله: قال أبو الحسن بن سعيد في كتابه الموضوع في مآثر القلعة (2): كان صاحب سيف وقلم وعلم، ودخل في الفتنة المردنيشيّة (3)، حسبما مرّ ذلك عند ذكر أخيه أبي جعفر، فصار من جلساء الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش بمرسية، وأرباب آرائه، وذوي الخاصّة من وزرائه، وكان مشهورا بالفروسية والشجاعة والرأي.
حكاياته ونوادره: قال: كان التّندير والهزل قد غلبا عليه، وعرف بذلك، فصار يحمل منه ما لا يحمل من غيره. قالوا: فحضر يوما مع الأمير محمد بن سعد، يوم الجلاب (4) من حروبه، وقد صبر الأمير صبرا جميلا. ووالى الكرّ المرّة بعد المرة.
وذلك بمرأى من حاتم فردّ رأسه إليه، وقال: يا قائدا أبا الكرم، كيف رأيت؟ فقال له حاتم: لو رآك السّلطان اليوم لزاد في مرتّبك، فضحك ابن مردنيش، وعلم أنه أراد بذلك: لا تليق به المخاطرة، وإنما هو للثّبات والتدبير. وقال له يوما وقد جرى ذكر الجنّات: جنّ اليوم يا أبا الكرم على بستانك بالزّنقات. وأردت أن أكون من ضيافتك، فقال عبد الرحمن بن عبد الملك، وهو إذ ذاك وزير الأمير وبيده المجابي والأعمال:
لعل الأمير اغترّ بسماع اسمه حاتم، ما فيه من الكرم إلّا الاسم، فقال الحاتم: ولعلّ الأمير اغترّ بسماع أمانة عبد الرحمن، فقدّمه على وزرائه، وما عنده من الأمانة إلّا الاسم، فقال ابن مردنيش وقد ضحك: الأولى فهمت، ولم أفهم الثانية، فقال له كاتبه أبو محمد السلمي: إنما أشار إلى قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أمير هذه الأمة، وأمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض فطرب ابن مردنيش، وجعل يقول: أحسنتما.
__________
(1) ترجمة حاتم بن سعيد في المغرب (ج 2ص 168)، ونفح الطيب (ج 5ص 47).
(2) هي قلعة بني سعيد، المسماة «يحصب»، والكتاب هو «الطالع السعيد، في تاريخ بني سعيد».
(3) هي فتنة محمد بن سعد بن مردنيش.
(4) فحص الجلاب: مكان على عشرة أميال من مرسية، وفيه وقعت المعركة بين قوات الموحدين وابن مردنيش. تاريخ المن بالإمامة (ص 279). وقد تحدّث ابن عذاري عن هذه المعركة دون أن يسمّيها. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 88).(1/307)
شعره: قال أبو الحسن: ولم أحفظ من شعر حاتم ما أورده في هذا المكان إلّا قوله يخاطب حفصة الرّكّونية الشاعرة، التي يأتي ذكرها، حين فرّ إلى مرسية، وتركها بغرناطة: [الوافر]
أحنّ إلى ديارك يا حياتي ... وأبصر ذو وهد سيل الظّبات (1)
وأهوى أن أعود إليك لكن ... خفوق البند (2) عاق عن القنات
وكيف إلى جنابك من سبيل ... وليس يحلّه إلّا عداتي!
مولده: في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وقال أبو القاسم الغافقي فيه عند ذكره: كان طالبا نبيها، جميلا، سريّا، تامّ المروءة، جميل العشرة.
وفاته: قال: مات بغرناطة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة (3).
حباسة بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي (4)
كان شهما هيّبا، بهمة من البهم، كريما في قومه، أبيّا في نفسه، صدرا من صدور صنهاجة وكان أشجع من أخيه حبّوس.
وفاته: قال أبو مروان (5) عند ذكر وقعة «رمداي» بطرف قرطبة في حروب البرابرة لأهلها في شوّال عام اثنين وأربعمائة، قال (6): واستلحم حباسة بن ماكسن الصنهاجي ابن أخي زاوي بن زيري، وهو فارس صنهاجة طرّا وفتاها وكان قد تقدّم إلى هذه الناحية، زعموا لمّا بلغه اشتداد الأمر فيها، فرمى بنفسه على طلّابها، واتّفق أن ركب بسرج طري العمل متفتح اللّبد، وخانه مقعده عند المجاولة، لتقلّبه على الصّهوة وقيل إنه كان منتبذا على ذلك، فتطارح على من بإزائه، ومضى قدما بسكرى
__________
(1) كذا ورد عجز البيت منكسر الوزن، وغير مفهوم المعنى. والظّبات: جمع ظبة وهي حدّ السيف. محيط المحيط (ظبو).
(2) البند: العلم الكبير، فارسي معرّب، والجمع بنود. محيط المحيط (بند).
(3) في النفح (ج 5ص 47): «توفي بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة».
(4) حكم حباسة غرناطة من سنة 410هـ إلى سنة 429هـ، وترجمة حباسة بن ماكسن في المغرب (ج 2ص 107)، والبيان المغرب (ج 3ص 262، 264)، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 229)، واللمحة البدرية (ص 31) واسمه في كل المصادر: «حبوس» مكان «حباسة». وفي كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر، للدكتورة مريم قاسم دراسة وافية عنه (ص 117105) فلتنظر.
(5) هو المؤرّخ أبو مروان بن حيان.
(6) قارن بالبيان المغرب (ج 3ص 112111)، وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 229).
والنص في كتاب «المتين» لابن حيان.(1/308)
شجاعته ونشوته، يصافح البيوت بصفحته، ويستقبل القنا بلبّاته، لا يعرض له شيء إلّا حطّه، إلى أن مال به سرجه، فأتيح حمامه لاشتغاله بذلك، بطعنة من يد المسمّى النّبيه النصراني، أحد فرسان الموالي العامريين فسقط لفيه، وانتظمته رماح الموالي فأبادته وحامى أخوه حبّوس، وبنو عمّه، وغيرهم من أنجاد البرابرة على جثته، فلم يقدروا على استنقاذها بعد جلاد طويل، وغلب عليه الموالي فاحتزّوا رأسه، وعجّلوا به إلى قصر السلطان، وأسلموا جسده للعامّة فركبوه بكل عظيمة، واجتمعوا إليه اجتماع البغاث على كبير الصّقورة، فجرّوه في الطرق وطافوا به الأسواق، وقطعوا بعض أعضائه، وأبدوا شواره وكبده بكل مكروه من أنواع الأذى، بأعظم ما ركب ميت، فلمّا سئموا تجراره، أوقدوا له نارا فحرقوه بها جريا على ذميم عادتهم، في قبح المثلة، ولؤم القدرة. وانجلت الحروب في هذا اليوم لمصابه، عن أمر عظيم، وبلغ من جميع البرابرة الحزن عليه مناله، ورأت أن دماء أهل قرطبة جميعا لا تعدله.
من الكتاب «المتين».
حبيب بن محمد بن حبيب
من أهل النّجش (1)، من وادي المنصورة (2) أخوه مالك النّجشي، دباب الحلقات، ومراد أذناب المقرّبين.
حاله: كان على سجيّة غريبة من الانقباض المشوب بالاسترسال، والأمانة مع الحاجة، بادي الزّي واللسان، يحفظ الغريب من اللغة، ويحرّك شعرا لا غاية وراءه في الرّكاكة، وله قيام على الفقه وحفظ القرآن، ونغمة حسنة عند التّلاوة. قدم الحضرة غير ما مرة وكان الأستاذ، إمام الجماعة، وسيبويه الصناعة، أبو عبد الله بن الفخّار، المعروف بإلبيري، أبا مثواه ومحطّ طيّته، يطلب منه مشاركته بباب السلطان في جراية يرغب في تسميتها، وحال يروم إصلاحها، فقصدني مصحبا منه رقعة تتضمن الشّفاعة، وعرض عليّ قصيدة من شعره يروم إيصالها إلى السلطان، فراجعت الأستاذ برقعة أثبتها على جهة الإحماض وهي:
«يا سيدي الذي أتشرّف، وبالانتماء إلى معارفه أتميّز، وصل إليّ عميد حصن النجش، وناهض أفراخ ذلك العشّ، تلوح عليه مخايل أخيه المسمّى بمالك، ويترجّج به الحكم في الغاية في أمثال تلك المسالك، أشبه من الغراب بالغراب، وإنها لمن
__________
(1) هو حصن النجش، كما سيرد بعد قليل.
(2) ذكره ابن سعيد وقال: نهر المنصور، مشهور بالحسن، لما عليه من الحصون والضياع. المغرب (ج 2ص 81، 84).(1/309)
عجائب الماء والتراب، فألقى من ثنائكم الذي أوجبته السيادة والأبوّة، ما يقصر عن طيب الألوّة، وتخجل عند مشاهدته الغرر المجلوّة، وليست بأولي برّ أسديتم، ومكرمة أعدتم وأبديتم، والحسنات وإن كانت فهي إليكم منسوبة، وفي أياديكم محسوبة، وبلوت من الرجل طلعة نتفة، لم يغادر من صفات النبل صفة، حاضر بمسائل من الغريب، وقعد مقعد الذكي الأريب. وعرض عليّ حاجته وغرضه، وطلب مني المشاركة، وهي مني لأمثاله مفترضة، ووعدني بإيقافي على قصيدة حبّرها، وأنسى بالخبر خبرها، وباكرني بها اليوم مباكرة الساقي بدهاقه، وعرضها عليّ عرض التاجر نفائس أعلاقه، وطلب مني أن أهذّب له ما أمكن من معانيها وألفاظها، وأجلو القذى عن ألحاظها، فنظرت منها إلى روض كثرت أثغابه، وجيش من الكلام زاحم خواصّه أو شابه، ورمت الإصلاح ما استطعت، فعجزت عن ذلك وانقطعت، ورأيت لا جدوى إلى ذلك الغرض، ما لم تبدّل الأرض غير الأرض. وهذا الفنّ، أبقى الله سيدي، ما لم يمتّ إلى الإجادة بسبب وثيق، وينتمي في الإحسان إلى مجد عريق، وكان رفضه أحسن وأحمد، واطّراحه بالفائدة أعود، وإذا اعتبره من عدل وقسط، وجده طريقين لا يقبل الوسط، فمنهما مالّ يقتنى ويدّخر، وسافل يهزأ به ويسخّر، والوسط ثقيل لا يتلبّس به نبيل. قيل لبعضهم: ألا تقول الشعر؟ فقال: أريد منه ما لا يتأتّى لي، ويتأتّى لي منه ما لا أريده. وقال بعضهم: فلان كمغنّ وسط لا يجيد فيطرب، ولا يسيء فيسلّي. فاقتضى نظركم الذي لا يفارق السّداد والتوفيق، وإرشادكم الذي رافقه الهدى ونعم الرفيق، أن يشير عليه بالاستغناء عن رفعها، والامتساك عن دفعها، فهو أقوى لأمته (1)، وأبقى على سكنته وسمته، وأستر لما لديه، قبل أن يمدّ أبو حنيفة رجليه، وإن أصمّت عن هذا العذل مسامعه، وهفت به إلى النجاح مطامعه، فليعتمد على الاختصار، فذو الإكثار جمّ العثار، وليعدل إلى الجادة عن ثنيات الطّرق، ويجتزئ عن القلادة بما أحاط بالعنق، فإذا رتّبها وهذّبها، وأوردها من موارد العبارة أعذبها، تولّيت زفافها وإهداءها، وأمطت بين يدي الكفوء الكريم رداءها، والسلام».
حمدة بنت زياد المكتّب (2)
من ساكني وادي الحمّة بقرية بادي من وادي آش.
__________
(1) الأمت: المكان المرتفع، والمراد مكانته. محيط المحيط (أمت).
(2) ترجمتها في المطرب (ص 11)، ورايات المبرزين (ص 167)، والمغرب (ج 2ص 145)، وفوات الوفيات (ج 1ص 394)، والذيل والتكملة (السفر الثامن، القسم الأول ص 485)،(1/310)
حالها: قال أبو القاسم: نبيلة، شاعرة، كاتبة ومن شعرها وهو مشهور (1):
[الوافر]
أباح الدّمع أسراري بوادي ... له في الحسن (2) آثار بوادي
فمن نهر (3) يطوف بكلّ روض ... ومن روض يطوف بكل وادي
ومن بين الظّباء مهاة إنس ... سبت لبّي وقد سلبت فؤادي (4)
لها لحظ ترقّده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح السّواد (5)
كأنّ الصّبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل في الحداد (6)
ومن غرائبها (7): [الطويل]
ولمّا أبى الواشون إلّا قتالنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار (8)
__________
والمقتضب في كتاب تحفة القادم (ص 214)، والتكملة (ج 4ص 261) وفيه أنها «حمزة»، وبغية الملتمس (ص 546)، ونفح الطيب (ج 6ص 62).
(1) الأبيات في المغرب (ج 2ص 146) ورايات المبرزين (ص 167) وفوات الوفيات (ج 1ص 395) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 214) والتكملة (ج 4ص 261) والمطرب (ص 11) منسوبة إلى الوادي آشية دون تعيين الاسم، ونفح الطيب (ج 6ص 62) وبغية الملتمس (ص 546) والذيل والتكملة (السفر الثامن القسم الأول ص 485).
(2) في المقتضب: «أباح الدهر به للحسن». وفي المطرب والتكملة والذيل والتكملة: «به للحسن». وفي فوات الوفيات ونفح الطيب: «له للحسن».
(3) في المقتضب: «فمن واد يطوف». وفي النفح: «يرفّ» بدل «يطوف».
(4) في الأصل: «ومن بني الظّبا مهات إنس». وهكذا ينكسر الوزن. وفي المقتضب والتكملة وفوات الوفيات والذيل والتكملة: «مهاة رمل سبت عقلي». وفي المغرب: «مهاة رمل تبدّت لي قيادي». وفي النفح: «ملكت» بدل «سلبت».
(5) في الأصل: «السوادي». وفي المقتضب: «ذؤابتها عليه كمثل البدر في الظّلم الدادي». وفي المطرب: «رأيت الصبح أشرق في الدآدي». وفي النفح: «أفق» بدل «جنح». وفي التكملة والذيل والتكملة وفوات الوفيات: «الدآدي» بدل «السواد».
(6) في الأصل: «في الحدادي». وفي المقتضب: «تخال الصبح مات له خليل فمن». وفي المطرب: «تخال البدر مات له خليل فمن». وفي الفوات والتكملة والذيل والتكملة والنفح: «تسربل بالحداد».
(7) الأبيات في رايات المبرزين (ص 168) والمغرب (ج 2ص 146) وفوات الوفيات (ج 1ص 395) ونفح الطيب (ج 6ص 62).
(8) في الرايات وفوات الوفيات والمغرب ونفح الطيب: «فراقنا» بدل «قتالنا». وفي الرايات: وليس لهم «بدل»: «وما لهم».(1/311)
وشنّوا على آذاننا (1) كلّ غارة ... وقلّت حماتي عند ذاك وأنصاري
رميتهم (2) من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسّيف والسّيل والنار
وقال أبو الحسن بن سعيد في حمدة وأختها زينب (3): شاعرتان، أديبتان، من أهل الجمال، والمال، والمعارف والصّون، إلّا أن حبّ الأدب كان يحملهما على مخالطة أهله، مع صيانة مشهورة، ونزاهة موثّق بها.
حفصة بنت الحاج الرّكوني (4)
من أهل غرناطة، فريدة الزمان في الحسن، والظّرف، والأدب، واللّوذعيّة قال أبو القاسم: كانت أديبة، نبيلة، جيّدة البديهة، سريعة الشعر.
بعض أخبارها: قال الوزير أبو بكر بن يحيى بن محمد بن عمر الهمداني:
رغبت أختي إلى حفصة أن تكتب شيئا بخطها فكتبت (5): [البسيط]
يا ربّة الحسن، بل يا ربّة الكرم ... غضّي جفونك عمّا خطّه قلمي (6)
تصفّحيه بلحظ الودّ منعمة ... لا تحفلي بقبيح (7) الخطّ والكلم
قال أبو الحسن بن سعيد، وقد ذكر أنهما باتا بحوز مؤمّل (8) في جنّة له هنالك على ما يبيت عليه أهل الظّرف والأدب، قال (9): [الطويل]
__________
(1) في المغرب وفوات الوفيات والنفح: «وشنّوا على أسماعنا وقلّ حماتي». وفي الرايات: «وشنوا على أسماعنا».
(2) في المغرب وفوات الوفيات والنفح: «غزوتهم». وفي الرايات: «غزوتهم من ناظريك وأدمعي».
(3) هذا النص لم يرد لا في المغرب ولا في رايات المبرزين، برغم أن فيها، كما مرّ، ترجمة وشعر لحمدة المترجم لها.
(4) ترجمة حفصة في المغرب (ج 2ص 138) ورايات المبرزين (ص 161) والتكملة (ج 4ص 260) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 219) ومعجم الأدباء (ج 3ص 228) والمطرب (ص 10) ونفح الطيب (ج 4ص 192) و (ج 5ص 309). والركوني: نسبة إلى ركانة، وهي بالإسبانية، وهي مدينة من عمل بلنسية بالأندلس. معجم البلدان (ج 3ص 63) ونصوص عن الأندلس (ص 11، 141). وجعلها ابن عذاري قرية من عمل طليطلة. البيان المغرب (ج 2ص 58).
(5) البيتان في نفح الطيب (ج 5ص 314).
(6) في الأصل: «القلم» والتصويب عن النفح.
(7) في النفح: «برديء».
(8) تقدم الحديث عن حوز مؤمل في فصل «ذكر ما ينسب إلى هذه الكورة من الأقاليم التي نزلتها العرب بخارج غرناطة».
(9) الحكاية وأبيات أبي جعفر بن سعيد اللامية وأبيات حفصة الدالية في رايات المبرزين(1/312)
رعى الله ليلا لم يرع بمذمّم ... رعانا ووارانا بحوز مؤمّل (1)
وقد نفحت (2) من نحو نجد أريجة (3) ... إذا نفحت هبّت بريح (4) القرنفل
وغرّد قمريّ على الدّوح وانثنى ... قضيب من الرّيحان (5) من فوق جدول
يرى (6) الرّوض مسرورا بما قد بدا له: ... عناق وضمّ وارتشاف مقبّل
فقالت: [الطويل]
لعمرك ما سرّ الرياض وصالنا (7) ... ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسد
ولا صفّق النّهر ارتياحا لقربنا ... ولا صدح (8) القمريّ إلّا لما وجد (9)
فلا تحسن (10) الظّنّ الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرّشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمر سوى كي ما تكون (11) لنا رصد
قال أبو الحسن بن سعيد: وبالله ما أبدع ما كتبت به إليه وقد بلغها أنه علق بجارية سوداء أسعت له من بعض القصور، فاعتكف معها أياما وليالي، بظاهر غرناطة، في ظلّ ممدود، وطيب هوى مقصور وممدود (12): [مخلع البسيط]
يا أظرف الناس قبل حال ... أوقعه نحوه (13) القدر
عشقت سوداء مثل ليل ... بدائع الحسن قد ستر
__________
(ص 163162) ومعجم الأدباء (ج 3ص 229) ونفح الطيب (ج 4ص 192).
(1) في رايات المبرزين ومعجم البلدان: «بمذمم عشية وارانا بحوز». وفي النفح: «بمذمم عشية وارانا بحور».
(2) في الرايات ومعجم الأدباء والنفح: «وقد خفقت».
(3) في الأصل: «أريجه»، والتصويب من الرايات والنفح.
(4) في الرايات والنفح: «بريّا». وفي معجم الأدباء: «جاءت بريّا».
(5) في الأصل: «ريحان» وهكذا ينكسر الوزن، وقد صوّبناها من الرايات ومعجم البلدان والنفح.
(6) في الرايات والنفح: «ترى».
(7) في الرايات ومعجم الأدباء والنفح: «بوصلنا».
(8) في الأصل: «مدح» والتصويب من الرايات والنفح. وفي المعجم: «غرّد».
(9) في الرايات: «وما صفّق بقربنا إلّا بما وجد». والقمريّ: نوع من الحمام.
(10) في الأصل: «فلا تحسبنّ» وهكذا ينكسر الوزن. والتصويب من الرايات ومعجم الأدباء والنفح.
(11) في الأصل: «يكون» والتصويب من الرايات والنفح، وهكذا يكون الضمير عائدا إلى النجوم، وهو أفضل للسياق.
(12) أبيات حفصة وجواب ابن سعيد لها في معجم الأدباء (ج 3ص 230229).
(13) في المعجم: «وسطه».(1/313)
لا يظهر البشر في دجاها ... كلّا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكلّ من هام في الصّور
من الذي هام في جنان (1) ... لا نور (2) فيه ولا زهر؟
فكتب إليها بأظرف اعتذار، وألطف أنوار: [مخلع البسيط]
لا حكم إلّا لأمر ناه ... له من الذنب يعتذر (3)
له محيّا به حياتي ... أعيذ مجلاه (4) بالسّور
كضحوة (5) العيد في ابتهاج ... وطلعة الشّمس والقمر
بسعده (6) لم أمل إليه إلّا ... اطّرافا (7) له خبر
عدمت صبحي فاسودّ عشقي (8) ... وانعكس الفكر والنّظر
إن لم تلح يا نعيم روحي ... فكيف لا تفسد الفكر؟
قال: وبلغنا أنه خلا مع حاتم وغيره من أقاربهم، لهم طرب ولهو، فمرّت على الباب مستترة، وأعطت البوّاب بطاقة فيها مكتوب (9): [الخفيف]
زائر قد أتى بجيد غزال ... طامع من محبّه بالوصال (10)
أتراكم بإذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغل من الأشغال؟ (11)
فلمّا وصلت الرّقعة إليه، قال: وربّ الكعبة، ما صاحب هذه الرّقعة إلّا الرّقيعة حفصة ثم طلبت فلم توجد، فكتب إليها راغبا في الوصال والأنس
__________
(1) رواية صدر البيت في معجم الأدباء هي:
من الذي حبّ قبل روضا
(2) في الأصل: «نوّار» وهكذا ينكسر الوزن، وقد صوّبناه من معجم الأدباء.
(3) رواية البيت في الأصل هي:
لا حكم إلّا لآمر ناه ... له من ذنبه معتذر
وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من معجم الأدباء.
(4) في الأصل: «مداه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من معجم الأدباء.
(5) في الأصل: «كصحبة»، وقد صوّبناه من المعجم لأنه هكذا يتلاءم والسياق.
(6) في الأصل: «سعده»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من معجم الأدباء.
(7) في معجم الأدباء: «طريفا».
(8) كذا في معجم الأدباء، وفي كلا الحالتين ينكسر وزن صدر البيت.
(9) البيتان في معجم الأدباء (ج 3ص 231230) ونفح الطيب (ج 5ص 316).
(10) في نفح الطيب: «الغزال مطلع تحت جنحه للهلال».
(11) رواية البيت في النفح هي:
ما ترى في دخوله بعد إذن ... أو تراه لعارض في انفصال(1/314)
الموصول (1): [الخفيف]
أيّ شغل عن الحبيب (2) يعوق ... يا صباحا (3) قد آن منه الشّروق
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من جميع (4) المنى فكم ذا نشوق
بحياة الرّضى يطيب صبوح ... عرفا إن جفوتنا أو غبوق (5)
لا وذلّ الهوى (6) وعزّ التلاقي ... واجتماع إليه عزّ الطريق
وذكرها الأستاذ في «صلته»، فقال: وكانت أستاذة وقتها، وانتهت إلى أن علّمت النساء في دار المنصور وسألها يوما أن تنشده ارتجالا فقالت (7):
[المجتث]
امنن عليّ بصكّ (8) ... يكون للدّهر (9) عدّه
تخطّ يمناك فيه: ... الحمد لله وحده (10)
قال: فمنّ عليها، وحرّز لها ما كان لها من ملك.
وفاتها: قالوا: توفيت بحضرة مرّاكش في آخر سنة ثمانين أو إحدى وثمانين وخمسمائة (11).
__________
(1) الأبيات في معجم الأدباء (ج 3ص 231).
(2) في المعجم: «المحبّ».
(3) في الأصل: «يا صاحبا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من معجم الأدباء.
(4) في المعجم: «لذيذ».
(5) رواية البيت في المعجم هي:
لا وحبّيك لا يطيب صبوح ... غبت عنه ولا يطيب غبوق
والصبوح: خمر الصباح، والغبوق: خمر العشي.
(6) في المعجم: «الجفا».
(7) البيتان في رايات المبرزين (ص 162) والمغرب (ج 2ص 138) والمقتضب من كتاب تحفة القادم (ص 219) ومعجم الأدباء (ج 3ص 228) والتكملة (ج 4ص 261) ونفح الطيب (ج 5ص 309). وقبل البيتين بيت آخر ورد في المقتضب ونفح الطيب وهو:
يا سيّد الناس يا من ... يؤمّل الناس رفده
(8) في الرايات والمغرب ومعجم الأدباء والنفح: «بطرس».
(9) في المغرب: «في الدهر».
(10) في التكملة: «والحمد» بدل «الحمد». ورواية البيت في المقتضب هي:
خطّت يمينك فيه ... والحمد لله وحده
وعجز البيت هو العلّامة السلطانية عند الموحدين، كما جاء في نفح الطيب.
(11) جاء في معجم الأدباء أنها توفيت سنة ست وثمانين وخمسمائة.(1/315)
الخضر بن أحمد بن الخضر بن أبي العافية (1)
من أهل غرناطة، يكنى أبا القاسم.
حاله: من كتاب «عائد الصلة» (2): كان، رحمه الله، صدرا من صدور القضاة، من أهل النظر والتقييد، والعكوف على الطّلب، مضطلعا (3) بالمسائل، مسائل الأحكام مهتديا (4) لمظنّات النّصوص، نسخ بيده الكثير، وقيّد على الكثير من المسائل، حتى عرف فضله، واستشاره الناس (5) في المشكلات. وكان بصيرا بعقد الشروط، ظريف الخطاب (6)، بارع الأدب، شاعرا مكثرا، مصيبا غرض الإجادة.
وتصرّف في الكتابة السلطانية، ثم في القضاء، وانتقل في الولايات الرفيعة النّبيهة.
وجرى ذكره في «التّاج المحلّى» بما نصّه (7):
«فارس في ميدان البيان، وليس الخبر كالعيان وحامل لواء الإحسان، لأهل هذا الشّان (8) رفل في حلل (9) البدائع فسحب أذيالها، وشعشع أكواس (10) العجائب فأدار جريالها (11)، واقتحم على الفحول (12) أغيالها (13)، وطمح إلى الغاية البعيدة فنالها، وتذوكرت المعضلات (14) فقال: أنا لها. عكف واجتهد، وبرز إلى مقارعة المشكلات ونهد، فعلّم وحصّل، وبلغ الغاية وتوصّل وتولّى القضاء، فاضطلع بأحكام الشّرع، وبرع في معرفة الأصل والفرع، وتميّز في المسائل بطول الباع، وسعة الذّراع فأصبح صدرا في مصره، وغرّة في صفحة عصره. وسيمرّ في بديع كلامه، وهثّات (15) أقلامه، وغرر إبداعه، ودرر اختراعه، ما يستنير (16) لعلم الحليم، وتلقي له البلغاء يد التسليم».
__________
(1) ترجمة الخضر بن أحمد في تاريخ قضاء الأندلس (ص 186) والكتيبة الكامنة (ص 177) ونيل الابتهاج طبعة فاس (ص 93).
(2) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 186).
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «مضطلعا بنوازل الأحكام».
(4) في المصدر نفسه: «مهتديا لاستخراج غرائب النصوص».
(5) في المصدر نفسه: «القضاة».
(6) في المصدر نفسه: «ظريف الخط».
(7) قارن بالكتيبة الكامنة (ص 178177).
(8) في الكتيبة: «هذا اللسان».
(9) في الكتيبة: «سحائب».
(10) في الكتيبة: «أكؤس».
(11) في الأصل: «جريا لها» والتصويب من الكتيبة. والجريال: الخمر.
(12) في الأصل: «الليوث».
(13) الأغيال: الأجمات.
(14) في الكتيبة: «المخترعات».
(15) المراد بهثّات أقلامه: الكتابة السريعة العابرة.
(16) في الكتيبة: «وشعره يستفزّ حلم الحليم، ويلقي له فرسان المجال أيدي التسليم».(1/316)
شعره: قال في غرض الحكمة والأمثال (1): [الكامل]
عزّ (2) الهوى نقصان والرأي الذي ... ينجيك منه، إذا ارتأيت مروما (3)
فإذا رأيت الرأي يتّبع الهوى ... خالف وفاقهما تعدّ حكيما
وكيف تخاف من الحليم مداجيا (4) ... خف من نصيحك ذي (5) السّفاهة شوما
واحذر معاداة الرجال توقّيا ... منهم ظلوما كنت أو مظلوما
فالناس (6) إما جاهل لا يتّقي ... عارا ولا يخشى العقوبة لوما
أو عاقل يرمي بسهم مكيدة ... كالقوس ترسل سهمها مسموما
فاحلم عن القسمين تسلم منهما ... وتسد فتدعى سيّدا وحليما (7)
ودع المعاداة (8) التي من شأنها ... أن لا تديم على الصّفاء قديما (9)
أبت المغالبة الوداد فلا تكن ... ممّن يغالب ما حييت نديما (10)
وإذا منيت بقربه (11) فاخفض جنا ... ح (12) الذّلّ واخضع ظاعنا ومقيما
إنّ الغريب لكالقضيب محاير (13) ... إن لم يمل للريح عاد رميما
وارع (14) الكفاف ولا تجاوز حدّه ... ما بعده يجني عليك هموما
وابسط يديك متى غنيت ولا تكن ... فيما (15) يكون به المديح ذميما
وإذا بذلت فلا تبذّر إنّ ذا ال ... تبذير يومئذ أخوه رجيما (16)
وعف الورود إذا تزاحم مورد ... واحسب ورود الماء منه حميما
واصحب كريم الأصل ذا فضل فمن ... يصحب لئيم الأصل عدّ لئيما
فالفضل من لبس الكرام فمن عرى ... عنه فليس لما (17) يقول كريما
__________
(1) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 179178).
(2) في الكتيبة: «عدّ».
(3) في الكتيبة: «نئوما».
(4) في الأصل: «مراجيا» والتصويب من الكتيبة الكامنة. ومداجيا: مداريا يقال: داجاه إذا داراه وواطأه كأنه ساتره بالعداوة. محيط المحيط (دجا).
(5) في الكتيبة: «في السفاهة».
(6) في الكتيبة: «والناس».
(7) في المصدر نفسه: «وحكيما».
(8) في المصدر نفسه: «المماراة».
(9) في المصدر نفسه: «نديما».
(10) في الكتيبة: «حليما».
(11) في الكتيبة: «بغربة».
(12) في الأصل: «فاخفض له جناح» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(13) في الكتيبة: «تحيّرا».
(14) في المصدر نفسه: «وابغ».
(15) في المصدر نفسه: «فيمن».
(16) في المصدر نفسه: «التبذير مثل أخيه كان رجيما».
(17) في المصدر نفسه: «كما يقال».(1/317)
(إنّ المقارن بالمقارن يفتدي) (1) ... مثل جرى جري الرياح قديما
وجماع كلّ الخير في التّقوى فلا ... تعدم حلى التّقوى تعدّ عديما
وقال يصف الشّيب من قصيدة، وهي طويلة أولها (2): [الكامل]
لاح الصباح، صباح شيب المفرق ... فاحمد سراك نجوت ممّا تتّقي
هي شيبة الإسلام فاقدر قدرها ... قد أعتقتك وحقّ قدر المعتق
خطّت بفودك أبيضا في أسود ... بالعكس من معهود خطّ مهرق (3)
كالبرق راع بسيفه (4) طرف الدّجى ... فأعار (5) دهمته شتات (6) الأبلق
كالفجر يرسل في الدّجنّة خيطه ... ويجرّ (7) ثوب ضيائه بالمشرق
كالماء يستره بقعر (8) طحلب ... فتراه بين خلاله كالزّئبق
كالحيّة الرقشاء إلّا أنه ... لا يبرأ الملسوع منه إذا رقي
كالنّجم عدّ لرجم شيطان الصّبا ... يا ليت شيطان الصّبا لم يحرق
كالزّهر إلّا أنه لم يستنم (9) ... إلّا بغصن (10) ذابل لم يورق
كتبسّم الزّنجيّ إلّا أنه ... يبكي العيون بدمعه (11) المترقرق
وكذا البياض قذى العيون ولا ترى ... للعين أبكى (12) من بياض المفرق
ما للغواني وهو لون خدودها ... يجزعن من لألائه المتألّق
وأخلته لمع السّيوف ومن يشم ... لمع السّيوف على المفارق يفرق
هو ليس ذاك ولا الذي أنكرته (13) ... كن (14) خائفا ما خفن منه واتّق
داء يعزّ على (15) الطبيب دواؤه ... ويضيع خسرا فيه مال المنفق
__________
(1) هذا من قول عدي بن زيد العبادي، المتوفّى سنة 35ق. هـ: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن مقتدي
معجم الشعراء للمرزباني (ص 250).
(2) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 181180).
(3) في الكتيبة الكامنة: «المهرق». والمهرق: الصحيفة.
(4) في الكتيبة الكامنة: «بسوطه».
(5) في الكتيبة الكامنة: «فأعاد».
(6) في الكتيبة الكامنة: «شيات».
(7) في الكتيبة الكامنة: «ويحوك».
(8) في الكتيبة: «بقاع».
(9) في الكتيبة: «يبتسم».
(10) في الكتيبة: «لغصن».
(11) في الكتيبة: «بدمعها».
(12) في الكتيبة: «أنكى».
(13) في المصدر نفسه: «أنكرنه».
(14) في الأصل: «نكن» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة: «نكرا فخف ما».
(15) في الكتيبة: «عن».(1/318)
لكنه والحقّ أصدق مقول ... شين المسيء الفعل زين المتّقي
ومن مقطوعاته قوله (1): [المتقارب]
أقلّي فما الفقر بالمرء عار (2) ... ولا دار من يألف الهون دارا
وما (3) يكسب العزّ إلّا الغنى ... غنى النّفس فلتتّخذه (4) شعارا
وما اجتمع الشّمل في غيره ... فيحسن إلّا وساء انتشارا
فزهرة غيرك لا تنظري (5) ... فيألم قلبك منه انكسارا
وهزّي إليك بجذع الرّضى ... تساقط عليك الأماني ثمارا
وقال أيضا: [المجتث]
العلم حسن وزين ... والجهل قبح وشين
والمال عزّ وعيش ... والفقر ذلّ وحين
والناس أعضاء جسم ... فمنهم است وعين
هذي مقالة حقّ ... ما في الذي قلت مين
وقال أيضا: [الخفيف]
إن أراك الزمان وجها عبوسا ... فستلقاه بعد ذلك طلقا (6)
لا يهمّنك حاله إنّ في طر ... فة عين ترتاح فيه وتشقى
أيّ عزّ رأيت أو أيّ ذلّ ... لذوي الحالتين في الدهر يبقى
سل نجوم الدّجى إذا ما استنارت ... ما الذي في وقت الظّهيرة تلقى
وتفكّر وقل بغير ارتياب ... كلّ شيء يفنى وربّك يبقى
وقال أيضا (7): [الكامل]
لو أنّ أيام الشّباب تعود لي ... عود النّضارة للقضيب المورق
ما إن بكيت على شباب قد ذوى ... وبقيت منتظرا لآخر مونق
__________
(1) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 181).
(2) في الكتيبة: «عارا».
(3) في الكتيبة: «ولا».
(4) في الأصل: «فاتّخذه»، وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(5) في الأصل: «فدهر تنظرن» وهكذا ينكسر الوزن، ولا معنى له، والتصويب من الكتيبة.
(6) في الأصل: «من بعد ذاك طلقا» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 181).(1/319)
وقال في القلم (1): [الطويل]
لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... وإن لم يكن إلّا قصيرا مجوّفا
تعلّم منه الناس (2) أبدع حكمة ... فها هو أمضى ما يكون محرّفا
وقال في التشبيه: [البسيط]
كأنما السّوسن الغضّ الذي افتتحت ... منه كمائمه المبيضّة اللون
بنان كفّ فتاة قطّ ما خضبت ... تلقى بها من يراها خيفة العين
وقال يعرّض بقوم من بني أرقم: [المتقارب]
إذا ما نزلت بوادي الأشى (3) ... فقل ربّ من لدغه سلّم
وكيف السلامة في موطن ... به عصبة من بني أرقم؟
وقال موريا بالفقه، وهو بديع (4): [الخفيف]
لي دين على الليالي قديم ... ثابت الرّسم منذ خمسين حجّه (5)
أفأعدى بالحكم بعد عليها (6)؟ ... أم لها في تقادم الدّهر (7) حجّه؟
ونختم مقطوعاته بقوله (8): [الطويل]
نجوت بفضل الله ممّا أخافه ... ولم لا وخير العالمين شفيع؟
وما ضعت في الدنيا بغير شفاعة ... فكيف إذا كان الشفيع أضيّع؟
وقال أيضا: [الطويل]
عليك بتقوى الله فيما ترومه ... من الأمر تخلص بالمرام وبالأجر
ولا ترج غير الله في نيل حاجة ... ولا دفع ضرّ في سرار ولا جهر
فمن أمّ غير الله أشرك عاجلا ... وفارقه إيمانه وهو لا يدري (9)
وفاته: توفي قاضيا ببرجة، وسيق إلى غرناطة، فدفن بباب إلبيرة عصر يوم الأربعاء آخر يوم من ربيع (10) عام خمسة وأربعين وسبعمائة.
__________
(1) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 182).
(2) في الكتيبة: «السيف».
(3) في الأصل: «الآشي» وهكذا ينكسر الوزن.
(4) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 182).
(5) الحجّة، بكسر الحاء: السنة.
(6) في الأصل: «أقاعدا بالحكم عليها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(7) في الكتيبة: «العهد».
(8) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 182).
(9) في الأصل: «لا يدر».
(10) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 186): «ربيع الأول».(1/320)
خالد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي (1)
من أهل قنتورية (2)، من حصون وادي المنصورة.
حاله: هذا الرجل من أهل الفضل والسذاجة، كثير التواضع، منحطّ في ذمّة التّخلّق، نابه الهيئة، حسن الأخلاق، جميل العشرة، محبّ في الأدب قضى ببلده وبغيره، وحجّ وقيّد رحلته في سفر، وصف فيه البلاد ومن لقي، بفصول جلب أكثرها من كلام العماد الأصبهاني، وصفوان وغيرهما، من ملح. وقفل إلى الأندلس، وارتسم في تونس في الكتابة عن أميرها زمانا يسيرا وهو الآن قاض ببعض الجهات الشرقية.
وجرى ذكره في الرّحلة (3) التي صدرت عني في صحبة الرّكاب السلطاني عند تفقّد البلاد الشرقية في فصل حفظه الناس، وأجروه في فكاهاتهم وهو:
«حتى إذا الفجر تبلّج، والصّبح من باب المشرق تولّج، عدنا وتوفيق الله قائد، وكنفنا من عنايته صلة وعائد، تتلقّى ركابنا الأفواج، وتحيّينا الهضاب والفجاج إلى قنتورية، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام الوصال، قريبة البكر من الآصال، كان المبيت بإزاء قلعتها السّامية الارتفاع، الشهيرة الامتناع وقد برز أهلها في العديد والعدّة والاحتفال الذي قدم به العهد على طول المدّة، صفوفا بتلك البقعة خيلا ورجلا كشطرنج الرّقعة، لم يتخلّف ولد عن والد، وركب قاضيها ابن أبي خالد وقد شهرته النّزعة الحجازيّة، وقد لبس من الحجازيّ، وأرخى من البياض طيلسانا، وتشبّه بالمشارقة شكلا ولسانا، وصبغ لحيته بالحنّاء والكتم (4)، ولاث عمامته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب والأريب للأريب، وخيّرته بين خصلتين، وقلت: نظمت مقطوعتين، إحداهما مدح والأخرى قدح فإن همت ديمتك، وكرمت شيمتك، فللذين أحسنوا الحسنى، وإلّا فالمثل الأدنى. فقال: أنشدني لأرى على أيّ امرئ أتيت، وأفرق بين ما جنّيتني وما جنيت، فقلت: [الكامل]
قالوا وقد عظمت مبرة خالد ... قاري الضيوف بطارف وبتالد
__________
(1) ترجمه خالد البلوي في الكتيبة الكامنة (ص 134) ونفح الطيب (ج 3ص 277).
(2) في الكتيبة الكامنة: «القتوري». وقنتورية: بالإسبانية:.
(3) هذا السّفر هو رحلة البلوي المسماة ب «تاج المفرق في تحلية أهل المشرق».
(4) الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه. محيط المحيط (كتم).(1/321)
ماذا تممت به فجئت بحجّة ... قطعت بكل مجادل ومجالد
أن يفترق نسب يؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
وأما الثانية فيكفي من البرق شعاعه، وحسبك من شرّ سماعه. ويسير التنبيه كاف للنّبيه فقال: لست إلى قراي بذي حاجة، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة فقلت: ضريبة غريبة، ومؤنة قريبة عجّل ولا تؤجّل، وإن انصرم أمد النهار فأسجل فلم يكن إلّا كلّا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشر منهم بقدومها يبتدر، يزفّونها كالعروس فوق الرّءوس، فمن قائل يقول: أمّها يمانيّة، وآخر يقول: أخوها الخصيّ الموجّه إلى الحضرة العليّة، وأدنوا مرابطها من المضرب، بعد صلاة المغرب، وألحفوا في السؤال، وتشطّطوا في طلب النّوال فقلت: يا بني اللّكيعة جئتم ببازي، بماذا كنت أجازي، فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون حتى إذا سلّت لذبحها المدى، وبلغت من طول أعمارها المدى، قلت: يا قوم، ظفرتم بقرّة العين، وأبشروا باقتراب اللقاء فقد ذبحت لكم غراب البين».
ولقد بلغني أنه لهذا العهد بعد أن طال المدى، يتظلّم من ذلك، وينطوي من أجله على الوجدة فكتبت إليه: وصل الله عزّة الفقيه النّبيه، العديم النظير والتّشبيه وارث العدالة عن عمّه وابن أبيه، في عزّة تظلّله، وولاية تتوّج جاهه وتكلّله.
داود بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان ابن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي الأندي (1)
يكنى أبا سليمان.
أوّليّته: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: من بيت علم وعفاف، أصله من أندة (2)، حصن بشرقي الأندلس، وانتقل أبو سليمان هذا مع أخيه أبي محمد إلى حيث يذكر بعد.
حاله: قال ابن عبد الملك: كان حافظا للقراءة، عارفا بإقراء القرآن بها، أتقن ذلك عن أبيه، ثم أخيه كبيره أبي محمد، محدّثا متّسع الرواية، شديد العناية بها، كثير
__________
(1) نسبة إلى أندة، وهي مدينة من أعمال بلنسية بالأندلس، كثيرة المياه والشجر، وبخاصة التين، فإنه يكثر بها. معجم البلدان (ج 1ص 264) والروض المعطار (ص 41). وترجمة داود بن سليمان بن حوط الله في التكملة (ج 1ص 256) والوافي بالوفيات (ج 13ص 46) وشذرات الذهب (ج 5ص 94).
(2) أندة: عمل بلنسية. التكملة (ج 1ص 256).(1/322)
السّماع، مكثرا، عدلا، ضابطا لما ينقله، عارفا بطرق الحديث. أطال الرّحلة في بلاد الأندلس، شرقها وغربها، طالبا العلم بها، ورحل إلى سبتة وغيرها من بلاد الأندلس العدوية (1). وعني بلقاء الشيوخ كبارا وصغارا والأخذ منهم أتمّ عناية، وحصل له بذلك ما لم يحصل لغيره. وكان فهيما بصيرا بعقد الشروط، حاذقا في استخراج نكتها، تلبّس بكتبها زمانا طويلا بمسجد الوحيد من مالقة، وكان محبّا في العلم وأهله، حريصا على إفادته إيّاهم، صبورا على سماع الحديث، حسن الخلق، طيّب النفس، متواضعا، ورعا، منقبضا، ليّن الجانب، مخفوض الجناح، حسن الهدى، نزيه النفس، كثير الحياء، رقيق القلب، تعدّد الثّناء عليه من الجلّة.
قال ابن الزّبير: كان من أهل العدالة والفضل، وحسن الخلق، وطيب النفس والتّواضع، وكثرة الحياء. وقال ابن عبد المجيد: كان ممّن فضّله الله بحسن الخلق والحياء على كثير من العلماء. وقال أبو عبد الله بن سلمة مثل ذلك. وقال ابن (2)
بمثله.
مشيخته: قال الأستاذ: أقرأ (3) بمرسية، وأخذ بها، وبقرطبة، ومالقة، وإشبيلية، وغرناطة وسبتة، وغيرها من بلاد الأندلس، وغرب العدوة، واعتناؤه يعينه وأخاه بباب الرّواة، والأخذ عن الشيوخ، حتى اجتمع لهما ما لم يجتمع لأحد من أهل عصرهما فمن ذلك أبوهما أبو داود، وأبو الحسن صالح بن يحيى بن صالح الأنصاري، وأبو القاسم بن حسن، وأبو عبد الله بن حميد، وأبو زيد السّهيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عراق الغافقي، وأبو العباس يحيى بن عبد الرحمن المجريطي، وعن ابن بشكوال. وأخذ عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي محمد بن عبد الله، وأبي عبد الله بن الفخّار الحافظ، وأبي العباس بن مضاء، وأبي محمد بن بونة، وأبي محمد بن عبد الصمد بن يعيش الغسّاني، وأبي بكر بن أبي حمزة، وأبي جعفر بن حكم الزاهد، وأبي خالد بن يزيد بن رفاعة، وأبي محمد عبد المنعم بن الفرس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي محمد بن جمهور، وأبي بكر بن النّيار، وأبي الحسن بن محمد بن عبد العزيز الغافقي الشّقوري، وأبي القاسم الحوفي القاضي، وأبي بكر بن بيبش بن محمد بن بيبش العبدري، وأبي الوليد بن جابر بن هشام الحضرمي، وأبي
__________
(1) بلاد الأندلس العدوية: الجهات التي كانت على ضفة بحر المتوسط، المقابلة للجزيرة الخضراء، وهي سبتة ومليلة وغيرهما.
(2) بياض في الأصل.
(3) قارن بالتكملة (ج 1ص 257256).(1/323)
بكر بن مالك الشّريشي، وأبي عبد اليسر الجزيري، وأبي بكر بن عبد الله السكسكي، وأبي الحجاج ابن الشيخ الفهري، وغيرهم ممّن يطول ذكرهم.
قضاؤه وسيرته فيه: قال ابن أبي الربيع: لازمت (1) ابني حوط الله، فكان أبو محمد يفوق أخاه والناس في العلم، وكان أبو سليمان يفوق أخاه والناس في الحلم.
واستقضي بسبتة وألمريّة والجزيرة الخضراء، وقام قاضيا بها مدة، ثم نقل منها إلى قضاء بلنسية آخر ثمان وستمائة، ثم صرف بأبي القاسم بن نوح، وقدّم على القضاء بمالقة في حدود إحدى عشرة (2) وستمائة، فشكرت أحواله كلها، وعرف في قضائه بالنّزاهة. قال أبو عبد الله بن سلمة: كان إذا حضر خصوم، ظهر منه من التواضع، ووطأة الأكناف، وتبيين المراشد، والصبر على المداراة، والملاطفة، وتحبيب الحقّ، وتكريه الباطل، ما يعجز عنه. ولقد حضرته. وقد أوجبت الأحكام عنده الحدود على رجل، فهاله الأمر، وذرفت عيناه، وأخذ يعتب عليه ويؤنّبه على أن ساق نفسه إلى هذا، وأمر بإخراجه ليحدّ بشهود في موضع آخر لرقّة نفسه، وشدّة إشفاقه. واستمرّت ولايته بمالقة إلى أن توفي.
مولده: ببلدة أندة سنة ستين وخمسمائة (3).
وفاته: قال أبو عبد الرحمن بن غالب: توفي إثر صلاة الصبح من يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وستمائة، ودفن إثر صلاة العصر يوم وفاته، بسفح جبل فاره (4)، في الروضة المدفون بها أخوه أبو محمد، فأتبعه الناس ثناء جميلا ذكر، واختلفوا في جنازته، وخرج إليها النساء والصبيان داعين متبكّين.
رضوان النّصري الحاجب المعظّم (5)
حسنة الدولة النصرية، وفخر مواليها.
أوّليّته: روميّ الأصل، أخبرني أنه من أهل القلصادة (6)، وأن انتسابه يتجاذبه القشتالية من طرف العمومة، والبرجلونيّة (7) من طرف الخؤولة، وكلاهما نبيه في
__________
(1) قارن بالتكملة (ج 1ص 257).
(2) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.
(3) في التكملة (ج 1ص 257): «ومولده بأنده سنة 552».
(4) جبل فاره: بالإسبانية، يعلو مدينة مالقة وهو إلى الآن معروف بجبل الفارو، أي المنارة. نزهة المشتاق (ص 570) والتكملة (ج 3ص 179).
(5) راجع أخبار رضوان النصري في اللمحة البدرية (ص 94، 103، 115).
(6) قلصادة: بالإسبانية، وهي بلدة واقعة جنوب قشتالة.
(7) نسبة إلى برجلونة، أي برشلونة.(1/324)
قومه، وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محلّ أصالته من داخل قشتالة إلى السّكنى بحيث ذكر. ووقع عليه سباء (1) في سنّ الطفوليّة، واستقرّ بسببه بالدار السلطانية، ومحض إحراز رقّه، السلطان دايل قومه، أبو الوليد المارّ ذكره، فاختصّ به، ولازمه قبل تصيير الملك إليه، مؤثرا له مغتبطا بمخايل فضله، وتماثل استقامته، ثم صيّر الملك إليه فتدرّج في معارج حظوته، واختصّ بتربية ولده، وركن إلى فضل أمانته، وخلطه في قرب الجوار بنفسه، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه، وجعل الجوائز السّنيّة لعظماء دولته على يده، وكان يوجب حقّه ويعرف فضله، إلى أن هلك، فتعلّق بكنف ولده، وحفظ شمله، ودبّر ملكه، فكان آخر اللّخف، وسترا للحرم، وشجى للعدا، وعدّة في الشّدة، وزينا في الرّخاء، رحمة الله عليه.
حاله وصفته: كان هذا الرجل مليح الشّيبة والهيئة، معتدل القدّ والسّحنة، مرهب البدن، مقبل الصورة، حسن الخلق، واسع الصدر، أصيل الرأي، رصين العقل، كثير التجمّل، عظيم الصبر، قليل الخوف في الهيعات (2)، ثابت القدم في الأزمات، ميمون النّقيبة (3)، عزيز النّفس، عالي الهمّة، بادي الحشمة، آية في العفّة، مثلا في النزاهة، ملتزما للسّنّة، دؤوبا على الجماعة، جليس القبلة شديد الإدراك مع السكون، ثاقب الذّهن مع إظهار الغفلة مليح الدّعابة مع الوقار والسكينة، مستظهرا لعيون التاريخ، ذاكرا للكثير من الفقه والحديث، كثير الدّالّة (4) على تصوير الأقاليم وأوضاع البلاد، عارفا للسياسة، مكرما للعلماء، متركا للهوادة، قليل التصنّع، نافرا من أهل البدع متساوي الظاهر والباطن، مقتصدا في المطعم والملبس.
مكانته من الدين: اتّفق على أنه لم يعاقر مسكرا قطّ ولا زنّ بهناة، ولا لطخ بريبة، ولا وصم بخلّة تقدح في منصب، ولا باشر عقاب جاز، ولا أظهر شفاء من غائظ، ولا اكتسب من غير التّجر والفلاحة مالا.
آثاره: أحدث المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها بعد، وسبّب إليها الفوائد، ووقف عليها الرّباع المغلّة، وانفرد بمنقبها (5)، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدرا وظرفا وفخامة، وجلب الماء الكثير إليها من النهر، فأبّد سقيه عليها، وأدار السّور (6)
__________
(1) السّباء: الأسر. محيط المحيط (سبى).
(2) الهيعات: جمع هيعة وهي كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع. محيط المحيط (هيع).
(3) ميمون النقيبة: مبارك النفس. محيط المحيط (نقب).
(4) كثير الدالّة: جريء. محيط المحيط (دلل).
(5) المنقب: الطريق في الجبل، والمراد أنه انفرد بفضلها. محيط المحيط (نقب).
(6) ما تزال تقوم حتى اليوم بقية من هذا السور خلف ربض البيازين بغرناطة.(1/325)
الأعظم على الرّبض الكبير المنسوب للبيّازين، فانتظم منه النّجد والغور، في زمان قريب، وشارف التمام إلى هذا العهد. وبنى من الأبراج المنيعة في مثالم الثّغور وروابي مطالعها المنذرة، ما ينيف على أربعين برجا، فهي ماثلة كالنجوم ما بين البحر الشرقي من ثغر بيرة (1)، إلى الأحواز العربية. وأجرى الماء بجبل مورور، مهتديا إلى ما خفي على من تقدّمه، وأفذاذ أمثال هذه الأنقاب يشقّ تعداده.
جهاده: غزا في السادس والعشرين من محرم عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة بجيش مدينة باغة (2)، وهي ما هي من الشّهرة، وكرم البقعة، فأخذ بمخنّقها، وشدّ حصارها، وعاق الصريخ عنها، فتملّكها عنوة، وعمّرها بالحماة، ورتّبها بالمرابطة، فكان الفتح فيها عظيما. وفي أوائل شهر المحرم من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة غزا بالجيش عدو المشرق، وطوى المراحل مجتازا على بلاد قشتالة، لورقة، ومرسية، وأمعن فيها.
ونازل حصن المدوّر، وهو حصن أمن غائلة العدو، مكتنف بالبلاد، مدّ بالبسيني (3)، موضوع على طيّة التجارة، وناشبه القتال، فاستولى عنوة عليه منتصف المحرم من العام المذكور، وآب مملوء الحقائب سبيا وغنما.
وغزواته كثيرة، كمظاهرة الأمير الشهير أبي مالك على منازلة جبل الفتح، وما اشتهر عنه فيه من الجدّ والصبر، وأوثر عنه من المنقبة الدّالة على صحة اليقين، وصدق الجهاد، إذ أصابه سهم في ذراعه وهو يصلّي، فلم يشغله عن صلاته، ولا حمله توقع الإغارة على إبطال عمله.
ترتيب خدمته وما تخلّل عن ذلك من محنته:
لمّا استوثق أمر الأمير المخصوص بتربيته، محمد، ابن أمير المسلمين أبي الوليد نصر، وقام بالأمر وكيل أبيه الفقيه أبو عبد الله محمد بن المحروق، ووقع بينه وبين المترجم عهد على الوفاء والمناصحة، ولم يلبث أن نكبه وقبض عليه ليلة كذا من رجب عام ثمانية وعشرين وسبعمائة، وبعثه ليلا إلى مرسى المنكّب، واعتقله في المطبق من قصبتها بغيا عليه، وارتكب فيه أشنوعة أساءت به العامّة،
__________
(1) بيرة: بالإسبانية، وهي بلدة صغيرة تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة ألمرية.
(2) باغه: بالإسبانية، وقد عدّها أبو الفداء بلدة. تقديم البلدان (ص 177). وجعلها ابن الدلائي قرية. نصوص عن الأندلس (ص 93). ويبدو من كلام ابن الدلائي الذي كان معاصرا لبني زيري بغرناطة في عصر ملوك الطوائف في القرن الخامس الهجري، أن باغة كانت آنذاك قرية. وذهب الحميري مذهب ابن الخطيب، فجعلها مدينة. الروض المعطار (ص 122).
(3) هي الآلات والتجهيزات الضخمة.(1/326)
وأنذرت باختلال الحال، ثم أجازه البحر، فاستقرّ بتلمسان، ولم يلبث أن قتل المذكور، وبادر سلطانه الموتور بفرقته عن سدّته، فاستدعاه، فلحق محلّه من هضبة الملك متملّيا ما شاء من عزّ وعناية، فصرفت إليه المقاليد، ونيطت به الأمور، وأسلم إليه الملك، وأطلقت يده في المال. واستمرّت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، والتأث الأمر، وظهر من سلطانه التنكّر عليه، فعاجله الحمام فخلّصه الله منه، وولي أخوه أبو الحجاج من بعده، فوقع الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، فرضي الكلّ به، وفرحت العامّة والخاصّة للخطة، لارتفاع المنافسات بمكانه، ورضي الأضداد بتوسّطه، وطابت النفوس بالأمن من غائلته، فتولّى الوزارة وسحب أذيال الملك، وانفرد بالأمر، واجتهد في تنفيذ الأحكام، وتقدّم الولاة، وجواب المخاطبات وقوّاد الجيوش، إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة، فنكبه الأمير المذكور نكبة ثقيلة البرك، هائلة الفجأة من غير زلّة مأثورة، ولا سقطة معروفة، إلّا ما لا يعدم بأبواب الملوك من شرور المنافسات، ودبيب السّعايات الكاذبة. وقبض عليه بين يدي محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب، وقد شهر الرّجال سيوفهم فوقه يحفّون به، ويقودونه إلى بعض دور الحمراء، وكبس ثقات السلطان منزله، فاستوعبوا ما اشتمل عليه من نعمة، وضمّ إلى المستخلص عقاره، وسوّغ الخبر عظيم غلاته. ثم نقل بعد أيام إلى قصبة ألمرية محمولا على الظّهر، فشدّ بها اعتقاله، ورتّب الحرس عليه إلى أوائل شهر ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته. ووجد فقد نصحه، وأشفق لما عدم من أمانته، والانتفاع برأيه، وعرض عليه بما لنوم الكفّ والإقصار عن ضرّه، فعفا عنه، وأعاده إلى محلّه من الكرامة، وصرف عليه من ماله، وعرض الوزارة فأباها، واختار بردّ العافية، وأنس لذّة التخلّي، فقدم لذلك من سدّ الثغور، فكان له اللفظ، ولهذا الرجل المعنى، فلم يزل مفزعا للرأي، محلّى في العظة على الولاية، كثير الآمل والغاشي، إلى أن توفي السلطان المذكور غرّة شوّال من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، فشعب الثّأي (1)، وحفظ البلوى، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي عبد الله، وقام خير قيام بأمره، وجرى على معهود استبرائه، وقد تحكّمت التجربة، وعلت السّنّ، وزادت أنّة الخشية، وقربت من لقاء
__________
(1) الثأي: الضعف والركاكة وآثار الجرح. لسان العرب (ثأى).(1/327)
الله الشّقّة، فلا تسأل عمّا حطّ من خل، وأفاض من عدل، وبذل من مداراة. وحاول عقد السلم، وسدّ أمور الجند على القل، ودامت حاله متصلة على ما ذكر، وسنّه تتوسّط عشر التسعين إلى أن لحق بربّه. وقد علم الله أني لم يحملني على تقرير سيرته، والإشادة بمنقبته داعية، وإنما هو قول بالحق، وتسليم لحجّة الفضل، وعدل في الوصف، والله، عزّ وجلّ، يقول: {وَإِذََا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (1).
وفاته: في ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان من عام ستين وسبعمائة، طرق منزله بعد فراغه من إحياء ثلث الليل، متبذّل اللّبسة، خالص الطويّة، مقتضيا للأمن، مستشعرا للعافية، قائما على المسلمين بالكلّ، حاملا للعظيمة، وقد بادره الغادرون بسلطانه، فكسروا غلقه بعد طول معالجة، ودخلوا عليه وقتلوه بين أهله وولده، وذهبوا إلى الدايل برأسه، وفجعوا الإسلام، بالسائس الخصيب المتغاضي، راكب متن الصبر، ومطوق طوق النزاهة والعفاف، وآخر رجال الكمال والستر، الضافي على الأندلس، ولوئم من الغد بين رأسه وجسده، ودفن بإزاء لحود مواليه من السبيكة (2) ظهرا. ولم يشهد جنازته إلّا القليل من الناس، وتبرّك بعد بقبره. وقلت عند الصلاة عليه، أخاطبه دون الجهر من القول لمكان التقية: [الطويل]
أرضوان، لا توحشك فتكة ظالم ... فلا مورد إلّا سيتلوه مصدر
ولله سرّ في العباد مغيّب ... يشهّد بخافيه القضاء المقدّر
سميّك مرتاح إليك مسلّم ... عليك ورضوان من الله أكبر
فحثّ المطا ليس النعيم منغّص ... ولا العيش في دار الخلود مكدّر
زاوي (3) بن زيري بن مناد الصّنهاجي
الحاجب المنصور، يكنى أبا مثنّى.
__________
(1) سورة الأنعام 6، الآية 152.
(2) السبيكة: موضع خارج غرناطة. وقد ذكره الشعراء، ومنهم أبو جعفر الإلبيري الرعيني. راجع:
مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 37).
(3) حكم زاوي غرناطة من سنة 403هـ إلى سنة 410هـ. وترجمته في الذخيرة (ق 1ص 453) والبيان المغرب (ج 3ص 113، 128، 163، 164) والمغرب (ج 2ص 106) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 119، 228). ونفح الطيب (ج 2ص 29) واللمحة البدرية (ص 31) وكتاب العبر (م 4ص 324، 345، 346، 354). وهناك دراسة مفصلة عن زاوي بن زيري في كتاب مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 10483) فلتنظر.(1/328)
أوّليّته: قد مرّ (1) ما حدث بين أبيه زيري وبين قرابته من ملوك إفريقية، وباديس بن منصور من المشاحنة التي أوجبت مخاطبة المظفر بن أبي عامر في اللّحاق بالأندلس، وإذنه في ذلك، فدخل الأندلس منهم على عهده جماعة وافرة من مساعير الحروب وآثار الحتوف، مع شيخهم هذا وأميرهم، ودخل منهم معه أبناء أخيه ماكسن وحباسة وحبّوس، وقاموا في جملة المظفّر، وزاوي مخصوص باسم الحجابة فلمّا اختلّ بناء الخلافة، بمحمد بن عبد الجبار الملقّب بالمهدي، أذلّهم وتنكّر لهم، وأشاع بينهم وبين أمثالهم من البرابر، المغايرة، فكان ذلك سبب الفتنة التي يسمّيها أهل الأندلس بالبربرية فانحاشوا، ونفروا عهده، وبايعوا سليمان بن الحكم، واستعانوا بالنصارى، وحرّكوا على أهل قرطبة خصوصا، وعلى أهل الأندلس عموما، ما شاء الله من استباحة، وإهلاك النفوس، وغلبوا على ملك الأندلس، وما وراء البيضة، واقتسموا أمّهات الأقطار، وانحازوا إلى بلاد تضمّهم، فانحازت صنهاجة مع رئيسهم المذكور إلى غرناطة، فأووا إليها، واتخذوها ملجأ، وحماها زاوي المذكور، وأقام بها ملكا، وأثّل بها سلطانا لذويه، فهو أوّل من مدّن غرناطة، وبناها وزادها تشييدا ومنعة، واتصل ملكه بها، وارتشحت عروقه، إلى أن كان من ظهوره بها وأحوازها، على عساكر الموالي، الراجعين بإمامهم المرتضى إلى قرطبة، البادين بقتاله، والآخذين بكظمه، بما تقرّر ويتقرّر في اسم المرتضى، من باب المحمّدين.
وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه شهير الذّكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة، والأنفة، والحزم.
قال بعضهم: أحكم التدبير، والدولة تسعده، والمقادر تنجده، وحكيت له في الحروب حكايات عجيبة.
بعض أخباره في الرأي: قال أبو مروان: وقد مرّ ذكر الفتنة البربرية لمّا خلص ملأ القوم، لتشاور أميرهم، وهم فرض في خروجهم من قرطبة، عندما انتهوا إلى فحص هلال، واجتمعوا على التّأسّي، وضرب لهم زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد الصّنهاجي، مثلا بأرماح خمسة جمعها مشدودة، ودفعها لأشدّ من حضره منهم، وقال: اجهد نفسك في كسرها كما هي وأغمزها، فعالج ذلك فلم
__________
(1) مرّ ذلك في ترجمة بلكين بن باديس بن حبوس بن ماكسن بن زيري.(1/329)
يقدر عليه، فقال له: حلّها وعالجها رمحا رمحا، فلم يبعد عليه دقّها، فأقبل على الجماعة، فقال: هذا مثلكم يا برابرة، إن جمعتم لم تطاقوا، وإن تفرّقتم لم تبقوا، والجماعة في طلبكم، فانظروا لأنفسكم وعجّلوا، فقالوا: نأخذ بالوثيقة، ولا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، فقال لهم: بايعوا لهذا القرشي سليمان، يرفع عنكم الأنفة في الرياسات، وتستميلون إليه العامّة بالجنسية، ففعلوا، فلمّا تمّت البيعة قال: إن مثل هذا الحال لا يقوى على أهل الاستطالة، فيقيّد له رئيس كل قبيلة منكم، قبيلة يتكفّل السلطان بتقويمهم، وأنا الكفيل بصنهاجة، قال: وامتارت بطون القبائل على أرحامها، وقبائلها إلى أفخاذها وفصائلها، فاجتمع كل فريق منهم على تقديم سيّده، فاجتمعت صنهاجة على كبيرها زاوي، ولم تزل تلك القبائل المتألّفة بالأندلس لطاعة أميرها، المنادين له إلى أن أورثوهم الإمارة.
التوقيع: قالوا (1): ولمّا نازله المرتضى الذي أجلب به الموالي العامريين بظاهر غرناطة، خاطبه بكتاب يدعوه فيه إلى طاعته، وأجمل موعده فيه فلما قرىء على زاوي قال لكاتبه: اكتب على ظهر رقعته: {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} (1) السورة (2). فلمّا بلغت المرتضى أعاد عليه كتابا يعده فيه بوعيده، فلمّا قرىء على زاوي، قال: ردّ عليه: {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ} (1) (3) إلى آخرها، فازداد المرتضى غيظا، وناشبه القتال، فكان الظّهور لزاوي.
قال المؤرّخ (4): واقتتلت صنهاجه مع أميرهم مستميتين لما دهمهم من بحر العساكر، على انفرادهم وقلّة عددهم، إلى أن انهزم أهل الأندلس، وطاروا على وجوههم، مسلموهم وإفرنجهم، لا يلوون على أحد، فأوقع البرابر (5) بهم السيف، ونهبوا تلك المحلّات، واحتووا على ما لا كفاء له اتساعا وكثرة ظلّ الفارس يجيء من أتباع المنهزمين ومعه العشرة، ولا تسل عمّا دون ذلك من فاخر النّهب، وخير الفساطيط، ومضارب الأمراء والرؤساء.
__________
(1) قارن بالذخيرة (ق 1ص 454453) ومذكرات الأمير عبد الله (ص 22) والبيان المغرب (ج 3ص 126125) ونفح الطيب (ج 2ص 3029).
(2) سورة الكافرون 109، الآية 1.
(3) سورة التكاثر 102، الآية 1.
(4) النص في الذخيرة (ق 1ص 454) والبيان المغرب (ج 3ص 126) ولكن ببعض الاختلاف عمّا هنا.
(5) في الذخيرة: «البرابرة». وهكذا كان ابن الخطيب يستعمل مرة كلمة «البرابر» ومرة أخرى كلمة «البرابرة» للتعبير عن البربر.(1/330)
قال ابن حيّان (1): فحلّ بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبة (2) أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم (3) جمع بعدها وفرّوا بإدبار (4)، وباؤوا بالصّغار.
منصرفه عن الأندلس:
قال المؤرّخ (5): ولهول ما عاينه زاوي من اقتدار أهل الأندلس في أيّام (6) تلك الحروب وجعاجعهم، وإشرافهم على التغلّب عليه، هان سلطانه عنده بالأندلس، وخرج (7) عنها نظرا إلى عاقبة أمره، ودعا بجماعة (8) من قومه لذلك فعصوه، وركب البحر بجيشه وأهله، فلحق بإفريقية وطنه. قال: فكان من أغرب الأخبار في (9) الدولة الحمّودية انزعاج ذلك الشيخ زاوي (10) عن سلطانه بعد ذلك الفتح العظيم الذي ناله على أهل الأندلس، وعبوره البحر بعد أن استأذن ابن عمّه المعز بن باديس، فأذن له.
وحرص بنو عمّه بالقيروان، على رجوعه لهم لحال سنّه، وتقريبهم (11) يومئذ من مثله من مشيختهم لمهلك جميع إخوتهم، وحصوله هو على مقرّر (12) بني مناد، الغريب الشأن (13)، في أن لا تحجب عنهم نساؤهم وكنّ زهاء ألف امرأة في ذلك الوقت، هنّ ذوات محرم من بنات إخوته وبناتهنّ وبني بنيهنّ. وكان رحيل زاوي عن الأندلس سنة عشر (14) وأربعمائة. قال ابن حيّان (15): وأخبار هذا الداهية كثيرة، وأفعاله ونوادره مأثورة.
زهير العامريّ، فتى المنصور بن أبي عامر (16)
حاله: كان شهما داهية، سديد المذهب، مؤثرا للأناة، ولي بعد خيران صاحب ألمريّة، وقام بأمره أحمد قيام، سنة تسع (17) عشرة وأربعمائة، يوم الجمعة لثلاث
__________
(1) النص في الذخيرة (ق 1ص 455) والبيان المغرب (ج 3ص 127).
(2) في الذخيرة: «مصيبة سوداء».
(3) في الذخيرة: «لهم على البربر جمع بعد».
(4) في الذخيرة: «بالإدبار». وفي البيان المغرب: «وأقرّوا بالإدبار».
(5) النص في الذخيرة (ق 1ص 459457).
(6) كلمة «أيام» ساقطة في الذخيرة.
(7) في الذخيرة: «وعزم على الخروج عنها نظرا في».
(8) في الذخيرة: «جماعة».
(9) في الذخيرة: «في تلك الدولة».
(10) في الذخيرة: «زاوي ابن زيري».
(11) في الذخيرة: «وتعرّيهم يومئذ عن مثيله».
(12) في الذخيرة: «هو قعدد».
(13) في الذخيرة: «شأنه».
(14) في الأصل: «سنة ستة عشر وأربعمائة»، والتصويب من الذخيرة.
(15) النص في الذخيرة (ق 1ص 460) والبيان المغرب (ج 3ص 129).
(16) ترجمة زهير العامري في مذكرات الأمير عبد الله (ص 34) والمغرب (ج 2ص 194) والذخيرة (ق 1ص 656) والبيان المغرب (ج 3ص 168) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 216).
(17) في الأصل: «تسعة عشر» وهو خطأ نحوي.(1/331)
خلون من جمادى الأولى. وكان أميرا بمرسية، فوجّه عنه خيران حين أحسّ بالموت، فوصل إليه، وكان عنده إلى أن مات. فخرج زهير مع ابن عباس (1) إلى الناس، فقال لهم: أمّا الخليفة خيران فقد مات، وقد قدّم أخاه زهيرا هذا، فما تقولون؟ فرضي الناس به، فدامت مدة ولايته عشرة أعوام ونصف عام إلى أن قتل.
مناقبه: قال أبو القاسم الغافقي (2): وكان حسن السّيرة جميلها بنى المسجد في ألمريّة، ودار (3) فيه من جهاته الثلاث، المشرق والمغرب والجوف وبنى مسجدا ببجّانة، وشاور الفقهاء، وعمل بقولهم وملك قرطبة، ودخل قصرها، يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ودام سلطانه عليها خمسة عشر شهرا ونصف شهر.
قال ابن عذاري (4): وأما زهير الفتى فامتدّت (5) أطناب مملكته من ألمريّة إلى قرطبة (6) ونواحيها، وإلى بيّاسة، وإلى الفجّ من أول طليطلة. وقالوا (7): قرّ ما بينه وبين باديس فأرسل باديس (8) إلى زهير رسوله مكاتبا مستدعيا تجديد المحالفة، فسارع زهير، وأقبل نحوه، وضيّع الحزم، واغترّ بالعجب، ووثق بالكثرة، أشبه شيء بمجيء الأمير الضخم إلى عامل (9) من عمّاله، قد ترك رسم (10) الالتقاء بالنّظراء وغير ذلك من وجوه الحزم، وأعرض عن ذلك كله وأقبل ضاربا بسوطه، حتى تجاوز الحدّ الذي جرت (11) العادة بالوقوف عنده من عمل باديس دون إذنه وصيّر الأوعار والمضايق خلف ظهره، فلا يفكّر فيها، واقتحم البلد، حتى صار (12) إلى باب غرناطة. ولمّا وصل خرج باديس في جمعه، وقد أنكر اقتحامه عليه، وعدّه حاصلا
__________
(1) هو أبو جعفر أحمد بن عباس، وترجمته في الذخيرة (ق 1ص 656) والمغرب (ج 2ص 205) والبيان المغرب (ج 3ص 293) ونفح الطيب (ج 5ص 81).
(2) قارن بأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 216).
(3) في أعمال الأعلام: «وزاد فيه».
(4) البيان المغرب (ج 3ص 169168).
(5) في البيان المغرب: «فكان قد امتدّت».
(6) في البيان المغرب: «إلى شاطبة، وما يليها إلى بياسة، وما وراءها إلى الفج من أول عمل طليطلة».
(7) النص في الذخيرة (ق 1ص 659656) والبيان المغرب (ج 3ص 171169) وكلاهما تصرّف في النص.
(8) في الذخيرة: «وأرسل رسوله إلى زهير ملطفا في العتاب، مستدعيا».
(9) في الذخيرة: «العامل».
(10) في الذخيرة: «رسوم».
(11) في الذخيرة: «جرت به العادة من الوقوف».
(12) في الذخيرة: «وصل».(1/332)
في قبضته فبدأه بالجميل والتّكريم، وأوسع عليه وعلى رجاله في (1) العطاء والقرى والتعظيم بما مكّن اغترارهم، وثبّت طمأنينتهم. ووقعت المناظرة بين زهير وباديس (2)، ومن حضرهما من رجال دولتيهما، فنشأ (3) بينهما عارض الخلاف لأول وهلة، وحمل زهير أمره على التّشطّط، فعزم باديس على اللقاء (4) ووافقه عليه قوم من خدّامه، فأقام المراتب، ونصب الكتائب، وقطع قنطرة لا محيد عنها لزهير، والحائن (5) لا يشعر وغاداه عن تعبئة محكمة، فلم يرعه إلّا رجّة القوم راجعين، فدهش زهير وأصحابه، إلّا أنه أحسن تدبير الثبات لو استتمّه، وقام فنصب الحرب، وثبت في قلب العسكر، وقدّم خليفته هذيلا في وجوه أصحابه إلى الموالي، فلمّا رأتهم صنهاجة، علموا أنهم الحماة والشّوكة (6)، ومتى حصدوا لم يثبت من وراءهم، فاختلطوا بهم (7)، واشتدّ القتال، فحكم الله لأقلّ الطائفتين من صنهاجة ليري الله (8) قدرته، فانهزم زهير وأصحابه وتقطّعوا، وعمل السيف فيهم فمزّقوا، وقتل زهير، وجهل مصرعه وغنم رجال باديس من المال والمرافق (9) والأسلحة والحلية والعدّة والغلمان والخيام (10)، ما لا يحاط بوصفه. وكانت وفاة زهير يوم الجمعة عقب شوّال، سنة تسع وعشرين وأربعمائة بقرية ألفنت خارج غرناطة.
طلحة بن عبد العزيز بن سعيد البطليوسي وأخواه أبو بكر وأبو الحسن بنو القبطرنة (11)
يكنى أبا محمد.
__________
(1) في الذخيرة: «في القرى والتعظيم، ما مكّن».
(2) في الذخيرة: «بين باديس وزهير».
(3) في الذخيرة: «ففشا».
(4) «باديس عند ذلك على القتال، ووافقه قومه صنهاجة، فأقام مراتبه ونصب كتائبه».
(5) في البيان المغرب: «والخائن».
(6) في الذخيرة: «أنهم حمته وشوكته، وأنهم متى خضدوها». وفي البيان المغرب: «أنهم حماته وشوكته وأنهم متى حصدوها».
(7) في المصدرين: «فاختلط الفريقان».
(8) كلمة «الله» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(9) في البيان المغرب: «والخزائن».
(10) في البيان المغرب: «والخيام وسائر أنواع الأموال ما لا يحيط به الوصف».
(11) تراجم الإخوة الثلاثة في المغرب (ج 1ص 367) وقلائد العقيان (ص 148) والمطرب (ص 186) ونفح الطيب (ج 2ص 169). وترجمة أبي محمد طلحة في التكملة (ج 1ص 270) والذخيرة (ق 2ص 753) والمغرب (ج 1ص 367). وترجمة أبي بكر عبد العزيز في التكملة (ج 3ص 90). وترجمة الأخوين أبي بكر وأبي الحسن في رايات المبرزين (ص 96، 97).(1/333)
حالهم: كانوا عيونا من عيون الأدب بالأندلس، ممّن اشتهروا بالظرف، والسّرو والجلالة. وقال أبو الحسن بن بسّام وقد ذكر أبا بكر منهم، فقال (1): أحد فرسان الكلام (2)، وحملة السيوف والأقلام، من أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابرا عن كابر. ثلاثة كهقعة الجوزاء، وإن أربوا عن الشهر (3) في السّنا والسناء (4). كتب أبو محمد عبد العزيز وأخواه عن ملك لمتونة، ودخلوا معه غرناطة. ذكر ذلك غير واحد. واجتزأت بذكر أبي محمد، وأتبعه أخويه اختصارا.
شعره: من شعر أبي محمد، قوله في الاستدعاء (5): [المتقارب]
هلمّ إلى روضنا يا زهر (6) ... ولح في سماء المنى (7) يا قمر
وفوّق (8) إلى الأنس سهم الإخاء ... فقد عطّلت قوسه والوتر (9)
إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما بغصون (10) الأماني ثمر (11)
وقعت من القلب وقع المنى ... وحزت (12) من العين حسن الحور
قال أبو نصر (13): بات مع أخويه في أيام صباه، واستطابة جنوب الشّباب وصباه، بالمنية المسمّاة بالبديع، وهي (14) روض كان المتوكل يكلف بموافاته، ويبتهج بحسن صفاته، ويقطف ريحانه (15) وزهره، ويقف (16) عليه إغفاءه وسهره، ويستفزّه الطرب متى ذكره، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره، ويدير حميّاه على ضفة نهره، ويخلع سرّه فيه لطاعة جهره، ومعه أخواه، فطاردوا اللذّات حتى أنضوها، ولبسوا برود السرور فما (17) نضوها، حتى صرعتهم العقار، وطلّحتهم تلك
__________
(1) الذخيرة (ق 2ص 754753).
(2) في الذخيرة: «فرسان الكلوم والكلام».
(3) في الذخيرة: «على الشمس».
(4) هنا ينتهي النقل عن الذخيرة.
(5) الأبيات في المغرب (ج 1ص 368) وقلائد العقيان (ص 151).
(6) في الأصل: «يا زهير» والتصويب من المصدرين.
(7) في المغرب: «العلا».
(8) في القلائد: «هلمّ».
(9) هذا البيت غير وارد في المغرب.
(10) في القلائد: «لغصون». وفي المغرب: «لعيون».
(11) في المغرب: «ممر».
(12) في المصدرين: «وحسّنت في العين».
(13) أبو نصر: هو ابن خاقان، والنص في كتابه قلائد العقيان (ص 151150). وورد أيضا في نفح الطيب (ج 2ص 169).
(14) في الأصل: «وهو» والتصويب من القلائد.
(15) في القلائد والنفح: «رياحينه».
(16) في النفح: «ويوقف».
(17) في القلائد والنفح: «وما».(1/334)
الأوقار (1) فلمّا همّ رداء الفجر أن يندى، وجبين الصبح أن يتبدّى (2)، قام الوزير أبو محمد فقال (3): [الخفيف]
يا شقيقي وافى (4) الصّباح بوجه (5) ... ستر اللّيل نوره وبهاؤه
فاصطبح، واغتنم مسرّة يوم ... لست (6) تدري بما يجيء مساؤه
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال: [الخفيف]
يا أخي، قم تر النّسيم عليلا ... باكر الرّوض والمدام شمولا (7)
في رياض تعانق الزّهر فيها ... مثل ما عانق الخليل خليلا (8)
لا تنم واغتنم مسرّة يوم ... إنّ تحت التّراب نوما طويلا
ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن وقد ذهب (9) من عقله الوسن، فقال: [البسيط]
يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي ... قم نصطبح قهوة (10) من خير ما ذخروا
وبادرا غفلة الأيّام واغتنما ... فاليوم خمر ويبدو في غد خبر (11)
وقال أبو بكر في بقرة أخذها له الرنق (12) صاحب قلمورية، وقد أعاد أرضه (13): [الطويل]
__________
(1) كذا في النفح، وفي القلائد: «الأوتار».
(2) في الأصل: «يبتدى» والتصويب من المصدرين.
(3) هذان البيتان وأبيات أبي بكر وأبي الحسن التالية وردت أيضا في المغرب (ج 1ص 367 368) والمطرب (ص 187186) والذخيرة (ق 2ص 773) ونفح الطيب (ج 2ص 169 170).
(4) في المغرب والمطرب: «أتى».
(5) في الأصل: «بوجهه» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الخمسة.
(6) في القلائد والمغرب: «ليس».
(7) في المغرب: «الشمولا».
(8) هذا البيت ساقط في المغرب والمطرب والذخيرة.
(9) في النفح: «وقد هبّ».
(10) في المصادر الخمسة: «خمرة».
(11) يشير هنا إلى قول امرئ القيس: «اليوم خمر وغدا أمر»، وقد قاله عندما أبلغ أن بني أسد ثاروا على أبيه وقتلوه، وكان آنذاك في مجلس شراب. وقد أخذ هذا المعنى بشار بن برد فقال:
اليوم خمر ويبدو في غد خبر ... والدهر ما بين إنعام وإبآس
ديوان بشار بن برد (ص 143).
(12) الرنق أو الريق هو ألفونسو هنريكز صاحب قلمورية أو قلمرية، وكانت حينئذ عاصمة البرتغال.
(13) الأبيات في الذخيرة (ق 2ص 769).(1/335)
وأفقدنيها الرّنق أمّا حفيّة ... إذا هي ضفّت (1) ألّفت بين رفدين (2)
تعنّفني أمّي على أن رثيتها ... بشعري (3) وأن أتبعتها الدّم من عيني (4)
لها الفضل عندي أرضعتني أربعا (5) ... وبالرغم ما بلّغتني رأس عامين (6)
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر
الرئيس المتوثّب على الملك، وحيّ كرسي الإمارة، وعاقد صفقة الخسران المبين، يكنى أبا عبد الله.
أوّليّته: معروفة.
حاله: «من نفاضة الجراب» (7) وغيره: كان شيطانا، ذميم الخلق، حرفوشا، على عرف المشارقة، متراميا للخسائس، مألفا للدّعرة والأجلاف والسّوّار وأولي الريب، خبيثا كثير النّكر، منغمسا في العهن، كلفا بالأحداث، متقلبا عليهم في الطرق، خليع الرّسن، ساقط الحشمة، كثير التّبذّل، قوّاد عصبة كلاب، معالجا لأمراضها، مباشرا للصّيد بها، راجلا في ثياب منتاب الشّعر من الجلود والسوابل والأسمال عقد له السلطان على بنته لوقوع القحط في رجال بيتهم، ونوّههه بالولاية، وأركبه، وأغضى له عن موبقات تقصر به، إلى أن هلك وحاد الأمر عن شقيق زوجه، واستقرّ في أخيه، وثقل على الدولة، لكراهة طلعته، وسوء الأحدوثة به، فأمر بترك المباشرة، والدخول للقلعة، وأذن له في التّصرف في البلد والفحص، وأبقيت عليه النعمة، فداخل أمّ زوجه، وضمن لها تمام الأمر لولدها، وأمدّته بالمال، فنظر من المساعير شيعة، من كسرة الأغلاق، وقتلة الزقاق، ومختلسي البضائع، ومخيفي السّابلة، واستضاف من أسافلة الدولة، من آسفته بإقصار قصد، أو مطل وعد، أو حطّ رتبة، أو عزل عن ولاية، فاستظهر منهم بعدد ولا، كالشّقيّ الدّليل الموروري، الغريب الطّور، وإبراهيم بن أبي الفتح المنبوذ بالإضليع، قريع الجهل، ومستور العظيمة، وارتادوا عورة القلعة فاهتدوا منها إلى ما شاؤوا وتألّفوا بخارج. ثم تسلّلوا
__________
(1) في الأصل: «حفت» والتصويب من الذخيرة. وضفّت: حلبت باليد كلها لكبر ضرع البقرة.
(2) في الأصل: «وفدين» والتصويب من الذخيرة. والرّفد: القدح الضخم.
(3) كلمة «بشعري» ساقطة في الإحاطة، وقد أضفناها من الذخيرة.
(4) في الأصل: «من عين» والتصويب من الذخيرة.
(5) كلمة «أربعا» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الذخيرة.
(6) في الأصل: «بلغتني وأمي حولين» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذخيرة.
(7) هذا النص لم يرد في نفاضة الجراب المطبوع.(1/336)
ببطن الوادي المعروف ب «هدارّه»، إلى أن لصقوا بجناح السّور الصّاعد، الراكبة قوسه جرية النهر، وصعدوا مساوقين جناحه المتّصل بسور القلعة، وقد نقص كثير من ارتفاعه، لحدثان إصلاح فيه، فتسوّروه عن سلّم، ودافع بعض محاربيهم بعضا في استباق أدراجه، فدخلوا البلد في الثّلث الأخير من ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان عام ستين وسبعمائة، ثم استغلظوا بالمشاعل، وقتلوا نائب الملك رضوانا النّصري، سايس الأمر، وبقيّة المشيخة، واستخرجوا السلطان الذي هو يزيفه، فنصبوه للناس، وتمّ الأمر، بما دلّ على احتقار الدنيا عند الله وانخرط هذا الخبّ في طور غريب من التنزّل للسلطان، والاستخدام لأمّه، والتهالك في نصحه، وخلط نفسه فيه، وتبذّل في خدمته يتولّى له الأمور، ويمشي في زيّ الأشراط بين يديه، ويتأتّى لشهواته، ويتظاهر بحراسته. ولمّا علم أن الأمر يشقّ تصيّره إليه من غير واسطة، بغير انقياد الناس إليه، من غير تدريج كاده (1)، فألطف الحيلة في مساعدته على اللذّات، وإغرائه بالخبائث، وشغله بالعهر، وقتله بالشّهوات المنحرفة، وجعل يتبرّأ من دنّيته وينفق بين الناس من سلع اغتيابه، ويرى الجماهير الإنكار لصنيعه، ويزيّن لهم الاستعاضة منه بعد ما غلظت شوكته، وضمّ الرجال إلى نفسه موريا بحفظه والاستظهار على صونه. وفي الرابع من شعبان عام أحد وستين وسبعماية، ثار به في محلّ سكناه في جواره، واستجاش أولياء غدره وكبس منزله، مداخلا للوزير المشؤوم، عاقدا معه صفقة الغدر. وامتنع السلطان بالبرج الأعظم، فاستنزله وقتله، كما مرّ في اسم المذكور قبل، واستولى على الملك، فلم يختلف عليه اثنان. واشتغل طاغية الروم بحرب، كان بينه وبين القطالنيّين (2)، فتمالأ لمسالمته، فاغتبط الصنيع وتهنّا المنحة، وتشطّط على الروم في شروط غير معتادة، سامحوه بها مكيدة واستدراجا، واجتاز أمير المسلمين المصاب بغدره إلى الأندلس، طالبا لحقّه، ومبادرا إلى ردّ أمره، فسقط في يده، ووجّه الجيش إليه بمثواه من بلد رندة، فانصرف عنها خائبا، ورجع أدراجه، يشكّ في النجاة، وتفرّغ إليه الطاغية، ففضّ عليه جمّه وقد أجرت عليه شوكته وقيعة نصر الله فيها الدّين، وأملى لهذا الوغد، فلم يقله العثرة بعدها، ونازل حصونه المهتضمة، واستولى على كثير منها، وحام فلم يصحر غلوة، وأكذب ما موّه به من البسالة، وظهر للناس بلبس الصوف، وأظهر التّوبة على سريرة دخلة، وفسق مبين، وقلّ ما بيده، ونفد بيت ماله، فلم يجد شيئا يرجع إليه، من بعد ما سبك الآنية والحلية، وباع العقار لتبذيره، وسحّه المال سحّا، في أبواب الأراجيف
__________
(1) كاده: أخضعه وغلبه.
(2) هم سكان قطلونية.(1/337)
والاختلاف، والبهج بالغنا، فشرف الإنقاب إلى الفرار، وأزمع إلى الانسلال. وعندما تحرّك السلطان إلى غربي مالقة، ونجع أهلها بطاعته ودخلوا في أمره، وسقط عليه الخبر، اشتمل على الذخيرة جمعاء، وهي التي لم تشتمل خزائن الملوك مطلقا على مثلها، من الأحجار واللؤلؤ والقصب، والتفّ عليه الجمع المستميت، جمع الضلال ومردّ الغيّ، وخرح عن المدينة ليلة الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة، وصوّب وجهه إلى سلطان قشتالة مكظوم تجنيه، وموتور سوء جواره، من غير عهد، إلّا ما أمل من التبقّي عنده من التّذميم به، وضمان إتلاف الإسلام، واستباحة البلاد والعباد بنكرته.
ولمّا استقرّ لديه نزله، تقبّض عليه، وعلى شرذمته المنيفة على ثلاثمائة فارس من البغاة، كشيخ جنده الغربي إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، ومن سواه تحصّل بسببهم بيد الطّاغية، كلّ ما تسمو إليه الآمال، من جواد فاره، أو منطقة ثقيلة، وسلاح محلّى، وجوشن رفيع، ودرع حصينة، وبلبلة منيعة، وبيضة مذهّبة، وبزّة فاخرة، وصامت عتيد، وذخيرة شريفة، فتنخّل منهم متولّي التسوّر، فجعلهم أسوة رأسهم في القتل، خرّ بعضهم يومئذ على بعض، في القتل، وأخذتهم السيوف، فحلّوا بعد الشّهرة، والتمثيل في أزقّة المدينة، وإشاعة النداء في الجزيرة، ثاني رجب من العام المؤرّخ به، وركب أسوق سائرهم الأداهم، واستخلصهم الإسار، وبادر بتوجيه رؤوسهم، فنصبت من فوق العورة التي كان منها تسوّرهم القلعة، فمكثت بها إلى أن استنزلت ووريت وانقضى أمره على هذه الوتيرة مشؤوما دبيرا، لم يمتّعه الله بالنعيم، ولا هنّاه سكنى المحلّ الكريم، ولا سوّغه راحة، ولا ملأه موهبة، ولا أقام على فضله حجّة، ولا أعانه على زلفة. إنما كان رئيس السرّاق وعريف الخراب، وإمام الشّرار، ندر يوما في نفسه، وقد رفعت إلى امرأة من البدو تدّعي أنها سرقت دارها، قال: إن كان ليلا بعد ما سدّ باب الحمراء عليّ وعلى ناسي، فهي والله كاذبة، إذ لم يبق سارق في الدنيا، أو في البلاد، إلّا وقد تحصل خلفه، وقانا الله المحن، وثبّتنا على مستقرّ الرّشد، ولا عاقنا عن جادة الاستقامة.
وزراء دولته: استوزر الوزير المشؤوم ممدّه في الغيّ، الوغد، الجهول، المرتاش من السرقة، الحقود على عباد الله لغير علّة عن سوء العاقبة، المخالف في الأدب سنن الشريعة، البعيد عن الخير بالعادة والطبيعة، دودة القزّ، وبغل طاحونة الغدر، وزقّ القطران، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري، فانطلقت يده على الإبشار، ولسانه على الأعراض، وعينه على النظر الشّزر، وصدره على التأوّه والرّين(1/338)
يلقى الرجل كأنه قاتل أبيه، محدّقا إلى كمّيه، يحترش بهما خبيئة، أو يظنّ بهما رشوة، فأجاب الله دعاء المضطرين، ورغبات السّائلين، وعاجله بالأخذة الرّابية، والبطشة القاضية فقبض عليه في ليلة السبت العاشر لرمضان من العام المذكور، وعلى ابن عمّه العصر فوط وعلى الحيرا من نواهض بيتهما، وأنفذ الأمر بتعريضهم، فمضى حكم الله بهذه المنيّة الفرعونية فيهم، لا تبديل لكلمات الله، قاهر الجبابرة، وغالب الغلاب، وجاعل العاقبة للمتّقين.
واستوزر بعده، أولي الناس وأنسبهم إلى دولته، وأحقّهم بمظاهرته، المسوس الجبّار اليأس والفطرة، المختبل الفكرة، القيل، المرجّس، الحول، الشهير، الضّجر، محمد بن علي بن مسعود فيما بلي الناس على طول الحمرة، وانفساح زمان التجربة، أسوأ تدبيرا، ولا أشرّ معاملة، ولا أبذأ لسانا، ولا أكثر شكوى ومعاتبة، ولا أشحّ يدا، ولا أجدب خوانا، من ذلك المشؤوم، بنعق البوم، ينعق بما لا يسمع، ويسرد الأكاذيب، ويسيء السّمع، فيسيء الإجابة، ويقود الجيش فيعود بالخيبة، إلى أن كان الفرار، فصحبه إلى مصرعه وكان ممّن استؤثر به القيد الثقيل، والأسر الشديد، والعذاب الأليم، عادة بذلك عبد «المالاخوينا»، التي كان يحجب سمتها، زمان ترفيهه، فقضت عليه سيّىء الميتة، مطّرح الجثّة. سترنا الله بستره ولا سلبنا في الحياة ولا في الممات ثوب عنايته.
كاتب سرّه: صاحبنا الفقيه الأهوج، قصب الريح، وشجرة الخور، وصوت الصّدى، أبو محمد عبد الحق بن عطية، المستبدّ بتدبير الدّبير، خطا فوق الرّقاع الجاهلة، ومسارّة في الخلوات الفاسقة، وصدعا فوق المنابر الكبيبة، بحلّة لثّ الراية، ويذبّ عنه ذبّ الوالدة، ينتهي في الاعتذار عن هناته إلى الغايات القاصرة.
قضاته: شيخنا أبو البركات، قيس ليلى القضاء، المخدوع بزخرف الدنيا على الكبرة والعناء، لطف الله به، وألهمه رشده.
شيخ الغزاة على عهده: إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق بن محيو، بقية بيت الدّبرة، ووشيجة الشجرة المجتثّة، عذّب في الجملة من أهل بيته عند القبض عليهم، واستقرّ في القبض الأشهب من قبيله بالمغرب، مطلق الإقطاع، مرموقا بعين التجلّة، مكنوفا بشهرة الأب، إلى أن سعي به إلى السلطان، نسيج وحده، فارس بن علي، واستشعر البثّ فطار به الذّعر لا يلوي عنانا، حتى سقط بإفريقيّة، وعبر البحر
إلى ملك برجلونة (1)، ثم اتّصل بالدولة النصرية، بين إدالة الغدر، وإيالة الشّرّ، فقلّده الدائل مشيخة الغزاة، ونوّه به، فاستراب معزله يحيى بن عمر، ففرّ إلى أرض الروم حسبما يذكر في اسمه فقام له بهذا الوظيف، ظاهر الشّهرة والأبّهة، مخصوصا منه بالتجلّة، إلى أن كان ما كان من إزمانه وفراره فوفّى له وصحبه ركابه، وقاسمه المنسجة شقّ الأبلة، واستقرّ بعد قتله أسيرا عانيا علق الدهر، لضنانة العدوّ بمثله، إلى أن أفلت من دون الأغلاق، وشدّ الوثاق. ولحق بالمسلمين في خبر لم يشتمل كتاب الفرج بعد الشدّة على مثله، والإغراب منه، يستقرّ في اسمه إلماع به ثم استقرّ بالمغرب معتقلا، ثم مات رحمه الله.(1/339)
شيخ الغزاة على عهده: إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق بن محيو، بقية بيت الدّبرة، ووشيجة الشجرة المجتثّة، عذّب في الجملة من أهل بيته عند القبض عليهم، واستقرّ في القبض الأشهب من قبيله بالمغرب، مطلق الإقطاع، مرموقا بعين التجلّة، مكنوفا بشهرة الأب، إلى أن سعي به إلى السلطان، نسيج وحده، فارس بن علي، واستشعر البثّ فطار به الذّعر لا يلوي عنانا، حتى سقط بإفريقيّة، وعبر البحر
إلى ملك برجلونة (1)، ثم اتّصل بالدولة النصرية، بين إدالة الغدر، وإيالة الشّرّ، فقلّده الدائل مشيخة الغزاة، ونوّه به، فاستراب معزله يحيى بن عمر، ففرّ إلى أرض الروم حسبما يذكر في اسمه فقام له بهذا الوظيف، ظاهر الشّهرة والأبّهة، مخصوصا منه بالتجلّة، إلى أن كان ما كان من إزمانه وفراره فوفّى له وصحبه ركابه، وقاسمه المنسجة شقّ الأبلة، واستقرّ بعد قتله أسيرا عانيا علق الدهر، لضنانة العدوّ بمثله، إلى أن أفلت من دون الأغلاق، وشدّ الوثاق. ولحق بالمسلمين في خبر لم يشتمل كتاب الفرج بعد الشدّة على مثله، والإغراب منه، يستقرّ في اسمه إلماع به ثم استقرّ بالمغرب معتقلا، ثم مات رحمه الله.
من كان على عهده من الملوك: وأولا بمدينة فاس دار ملك المغرب، السلطان، الخيّر، الكريم الأبوّة، المودود قبل الولاية، الليّن العريكة، الشهير الفضل في الحياة، آية الله في إغراب الصّنع، وإغراب الإدبار، أبو سالم إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، أمير المسلمين، المترجم به في حرف الألف. ولمّا قتل يوم الحادي والعشرين لذي قعدة من عام اثنين وستين، قام بالأمر بعده أخوه المتحيّل أبو عامر تاشفين بن علي إلى أواخر صفر عام ثلاثة وستين ولحق بالبلد الجديد، الأمير أبو محمد زيان بن الأمير أبي عبد الرحمن بن علي بن عثمان المترجم به في بابه، ثم المتولّي من عام ثمانية وستين وسبعمائة السلطان أبو فارس عمّه المؤمّل للمّ الشّعث، وضمّ النّشر، وتجديد الأمر بحول الله، ابن السلطان الكبير المقدّس، أبي الحسن بن سعيد بن يعقوب بن عبد الحق، وهو بعد متّصل الحال إلى اليوم.
وبتلمسان الأمير أبو حمّو، موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان.
وبإفريقية الأمير الخليفة على عرفهم، إبراهيم بن أمير المؤمنين أبي يحيى بن حفص.
وبقشتالة، بطره بن الهنشه بن هرانده بن شانجه المصنوع له، وليّ النعمة منه، ومستوجب الشكر من المسلمين لأجله، بإراحته منهم.
وبرغون، بطره بن شانجه.
__________
(1) برجلونة: هي برشلونة.(1/340)
وبرندة، مزاحمه بالملك الفخم، أمير المسلمين حقيقة، المرتّب الحقّ، المعقود البيعة، وصاحب الكرّة، ووليّ حسن العاقبة، مجتثّ شجرته الخبيثة، وصارخ إيالته الدّنيّة، أبو عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر.
مولده: مولد هذه النّسمة المشؤومة أول يوم من رجب عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
وفاته: توفي قتيلا ممثّلا به بطيلاطة من ظاهر إشبيلية، في ثاني يوم من رجب عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وسيقت رؤوس أشياعه، الغادرين مع رأسه إلى الحضرة فصلبت بها. وفي ذلك قلت: [السريع]
في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشّيطان في كل واد
لا خلّفت ذكرا ولا رحمة ... في فم إنسان ولا في فؤاد
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف ابن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر الخزرجي (1)
أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه، رحمه الله.
أوّليّته: معروفة.
حاله: كان معدودا في نبلاء الملوك (2)، صيانة، وعزّا وشهامة، وجمالا، وخصلا عذب الشمائل، حلوا لبقا، لوذعيّا، هشّا، سخيّا المثل المضروب به في الشجاعة المقتحمة حدّ التهوّر حلس ظهور الخيل، وأفرس (3) من جال على ظهورها (4)، لا تقع العين، وإن غصّت الميادين، على أدرب بركض الجياد منه، مغرما بالصّيد، عارفا بسمات السّقار (5) وشتات الخيل يحبّ الأدب، ويرتاح إلى الشعر، وينبّه على العيون، ويلمّ بالنادرة الحارّة. أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه، وهو (6) يوم الثلاثاء السابع والعشرين لرجب
__________
(1) هذه الترجمة وردت كاملة في اللمحة البدرية (ص 10290) وجاء فيه الاسم هكذا:
«محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي، أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه، يكنى أبا عبد الله».
(2) في اللمحة البدرية (ص 90): «الملوك وأبناء الملوك صرامة وعزّة وشهامة».
(3) في اللمحة البدرية: «أفرس».
(4) في اللمحة البدرية: «على صهوة».
(5) في اللمحة البدرية: «الشّفار وشيات الخيل».
(6) كلمة «وهو» ساقطة في اللمحة.(1/341)
من (1) عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وناله الحجب، واشتملت عليه الكفالة إلى أن شبّ (2) وظهر، وفتك بوزيره المتغلّب على ملكه، وهو غلام لم يبقل خدّه، فهيب شأنه، ورهبت سطوته، وبرز لمباشرة الميادين، وارتياد المطارد، واجتلاء الوجوه، فكان ملء العيون والصدور.
ذكاؤه: حدّثني (3) القائد أبو القاسم ابن الوزير عبد الله بن عيسى وزير جدّه، قال: تذوكر يوما بحضرته تباين قول (4) المتنبي (5): [المتقارب]
ألا (6) خدّد الله ورد الخدود ... وقدّ قدود الحسان القدود
وقول امرئ القيس (7): [الطويل]
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (8)
وقول إبراهيم بن سهل (9): [البسيط]
إنّي له من دمي المسفوك معتذر (10) ... أقول حمّلته في (11) سفكه تعبا
فقال، رحمه الله، بديهة (12): بينهما ما بين نفس ملك عربي وشاعر (13)، ونفس يهودي تحت الذّمّة، وإنما تتنفّس بقدر همّتها (14)، أو كلاما هذا معناه. ولما (15) نازل مدينة قبرة ودخل جفنها عنوة (16)، ونال قصبتها، ورماها بالنّفط، وتغلّب عليها، وهي ما هي عند المسلمين، وعند النصارى (17)، من الشّهرة والجلالة، بادرناه (18) نهنّئه بما
__________
(1) كلمة «من» ساقطة في اللمحة.
(2) في اللمحة البدرية (ص 91): «شدا وظهر، وشبّ عن الطوق. وفتك».
(3) في اللمحة: «حدّثني ابن وزير جدّه القائم أبو القاسم بن محمد بن عيسى قال».
(4) في اللمحة: «تباين معنى قول».
(5) ديوان المتنبي (ص 47).
(6) في الديوان واللمحة: «أيا».
(7) ديوان امرئ القيس (ص 13) واللمحة البدرية (ص 91).
(8) يقول: إذا لم تعجبك خليقتي فأخرجي أمري من أمرك. ويقال: نسل الريش: سقط.
(9) ديوان ابن سهل الإسرائيلي (ص 15) واللمحة البدرية (ص 91).
(10) في الأصل: «معتذرا» والتصويب من الديوان واللمحة البدرية.
(11) في الديوان واللمحة: «من».
(12) في اللمحة: «بديها» على حداثته: بينهم.
(13) في اللمحة: «وشاعر عربي».
(14) في اللمحة: «هممها، أو ما معناه هذا».
(15) في اللمحة: «لمّا».
(16) في اللمحة: «ودخلها عنوة، وهي ما هي».
(17) في اللمحة: «والنصارى».
(18) في اللمحة: «بادرنا».(1/342)
نسّق (1) له، فزوى (2) وجهه عنّا، وقال: ماذا تهنّونني به، كأنكم رأيتم تلك الخرقة بكذا (3) يعني العلم الكبير في منار إشبيلية (4)، فعجبنا من بعد همّته، ومرمى عزمه (5).
شجاعته: أقسم أن يغير على باب مدينة بيّانة في عدّة قليلة عيّنها الميمن (6)، فوقع البهت وتوقّعت الفاقرة، لقرب الصّريخ، ومنعة الحوزة، وكثرة الحامية، واتصال تخوم البلاد، ووفور الفرسان بذلك الصّقع وتنخّل أهل الحفاظ، وهجم (7) على باب الكفّار نهارا، وانتهى إلى باب المدينة، وقد برزت الحامية، وتوقع فرسان الرّوم الكمناء، فأقصروا عن الإحصار، وحمي المسلمون فشدّ عليهم، فأعطوهم الضّمّة ودخلوا أمامهم المدينة ورمى السلطان أحد الرجال النّاشبة بمزراق كان بيده محلّى السّنان رفيع القيمة، وتحامل (8) يريد الباب فمنع الإجهاز (9) عليه، وانتزاع الرّمح الذي كان يجرّه خلفه، وقال: اتركوه يعالج به رمحه (10) إن كان أخطأته المنيّة، وقد أفلت من أنشوطة خطر عظيم.
جهاده ومناقبه: كان له وقائع في الكفّار، على قلّة أيامه، وتحرّك ونال البلاد، وفتح قبرة، ومقدّم جيش العدو الذي بيّت بظاهرها وأثخن فيه، وفتح الله على يده مدينة باغوة، وتغلب المسلمون على حصن قشتالة، ونازل حصن قشرة (11) بنفسه لدى قرطبة، فكاد أن يتغلّب عليه، لولا مدد اتّصل للنصارى به. وأعظم مناقبه تخليص جبل الفتح، وقد أخذ الطاغية بكظمه، ونازله على قرب العهد من تملّك المسلمين إياه، وناخ (12) بكلكله، وهدّ بالمجانيق أسواره، فدارى الطّاغية، واستنزل
__________
(1) في اللمحة: «تسنّى».
(2) في اللمحة: «فزوى عنّا وجهه قائلا: وماذا».
(3) في اللمحة: «الكذا».
(4) المراد منار جامع إشبيلية الذي بناه المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي سنة 593هـ، ويعرف باسم «لا جيرالدا». البيان المغرب قسم الموحدين (ص 228227).
(5) في اللمحة: «أمله».
(6) في اللمحة البدرية (ص 92): «في عدة يسيرة من الفرسان عيّنتها اليمين».
(7) في اللمحة البدرية: «وهجم عليها فانتهى إلى بابها وحمل على أضعافه».
(8) في اللمحة البدرية: «وتحامل الطعين يريد».
(9) في اللمحة البدرية «من الأجهاز».
(10) في اللمحة البدرية: «جرحه إن أخطأته».
(11) في اللمحة البدرية: «قشرة لأول أمره وهدّ سوره، وكاد يتغلب عليه لولا مدد دخله، فارتحل وقد دوّخ الصقع».
(12) في اللمحة البدرية (ص 93): «وأناخ عليه بكلكله».(1/343)
عزمه وتحفه (1)، ولحق في موضع اختلاله، إلى أن صرفه عنه، وعقد له صلحا، ففازت به قداح الإسلام، وتخلّصه من بين ناب العدو وظفره فكان الفتح عظيما لا كفاء له.
بعض الأحداث في دولته: وفي شهر المحرم (2) من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، نشأت بين المتغلّب (3) على دولته، وزيره، وبين شيخ الغزاة وأمير القبائل العدوية، عثمان بن أبي العلاء، الوحشة وألحقت ريحها السعايات، فصبّت على المسلمين شؤبوب فتنة عظم فيهم أثرها (4) معاطبا، وسئم الانصراف عن الأندلس، فلحق (5) بساحل ألمريّة، وأحوزته المذاهب وتحامت جواره الملوك، فداخل (6) أهل حصن أندرش، فدخل في طاعته، ثم استضاف (7) إليه ما يجاوره، فأعضل الدّاء، وتفاقمت اللأواء، وغامت سماء الفتنة (8)، واستنفد خزائن الأموال المستعدة لدفاع العدو، واستلحق الشيخ أبو سعيد عمّ السلطان، وقد استقرّ بتلمسان، فلحق به، وقام بدعوته في أخريات صفر عام (9) سبعة وعشرين وسبعمائة واغتنم الطاغية فتنة المسلمين فنزل ثغر بيرة (10)، ركاب الجهاد، وشجى العدو، فتغلّب عليه، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره، فاتّسع نطاق الخوف (11)، وأعيا داء الشّر، وصرف إلى نظر (12) ملك المغرب، في أخريات العام، رندة ومربلّة وما يليهما (13)، وتردّدت الرسائل بين السلطان وبين شيخ الغزاة، فأجلت (14) الحال عن مهادنة، ومعاودة للطاعة، فصرف أميرهم أدراجه إلى العدوة، وانتقلوا إلى سكنى وادي آش على رسم الخدمة والحماية على شروط مقرّرة وأوقع السلطان بوزيره، وأعاد الشيخ إلى محلّه من حضرته أوائل عام ثمانية وعشرين بعده، واستقدم القائد الحاجب أبا النعيم رضوان من أعاصم حباليه
__________
(1) في اللمحة البدرية: «وتاحفه إلى أن صرفه عنه ففازت به قداح الإسلام».
(2) في اللمحة البدرية: «محرّم».
(3) في اللمحة البدرية: «بين وزيره المتغلّب على أمره محمد بن أحمد المحروق وبين شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلى فصبّت».
(4) في اللمحة البدرية: «أثرها فخرج مغاضبا وهمّ للانصراف».
(5) في اللمحة البدرية: «ولحق».
(6) في اللمحة البدرية: «ثم داخل».
(7) في اللمحة البدرية: «واستضاف».
(8) في اللمحة البدرية: «المحنة. واستلحق المذكور عمّ السلطان».
(9) في اللمحة البدرية: «من عام».
(10) في اللمحة البدرية: «ونازل ثغر وبرة».
(11) في اللمحة البدرية: «الضرّ».
(12) في اللمحة البدرية: «نظر السلطان ملك».
(13) في اللمحة البدرية: «إليهما».
(14) في اللمحة البدرية: «وأجلت الحال إلى مهادنة عثمان بن أبي العلى، وصرف».(1/344)
قتيله، فقام بأمره أحسن قيام. وعبر البحر بنفسه بعد استقرار ملكه في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة من (1) عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، فاجتمع مع ملك المغرب السلطان الكبير أبي الحسن بن عثمان، فأكرم نزله، وأصحبه إلى الأندلس، وحباه بما لم يحب به ملك تقدّمه، من مغربيّات (2) الخيل، وخطير الذخيرة، ومستجاد العدّة ونزل (3) الجيش على أثره جبل الفتح وتوجّه الحاجب أبو النعيم بأكبر إخوة السلطان، مظاهرا على سبيل النّيابة، وهيّأ الله فتحه. ثم استنقاذه بلحاق السلطان، ومحاولة أمره كما تقدّم، فتمّ ذلك يوم (4) الثلاثاء الثاني عشر لذي (5) حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولته: وزر له وزير أبيه (6)، وأخذ له البيعة، وهو مثخن (7) بالجراحات التي أصابته يوم الفتك بأبيه السلطان أبي الوليد، ولم ينشب أن أجهز (8) جرح تجاوز عظم الدماغ، بعد مصابرة ألم العلاج الشديد، حسبما يأتي في اسمه، وهو أبو الحسن علي بن مسعود بن يحيى بن مسعود المحاربي. وترقى إلى الوزارة والحجابة وكيل أبيه محمد بن أحمد (9) المحروق، من أهل غرناطة، يوم الاثنين غرّة شهر رمضان من (10) عام خمسة وعشرين وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم. ثم اغتيل (11) بأمره، عشيّ ثاني يوم من محرم فاتح تسعة وعشرين وسبعمائة. ثم وزر له القائد (12) أبو عبد الله بن القائد أبي بكر عتيق بن يحيى بن المول من وجوه الدولة، وصدور من يمتّ بوصله، إلى السابع عشر من رجب من العام ثم صرف إلى العدوة. وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة (13) أبو النعيم مولى أبيه، إلى آخر مدته، بعد أن التأث أمره
__________
(1) كلمة «من» ساقطة في اللمحة البدرية (ص 94).
(2) في اللمحة البدرية: «مقربات».
(3) في اللمحة البدرية: «ونازل على أثره».
(4) في اللمحة البدرية: «في يوم».
(5) في اللمحة البدرية: «من شهر ذي حجة عام».
(6) في اللمحة البدرية: «أبيه أبو الحسن بن مسعود، وأخذ».
(7) في اللمحة البدرية: «مثخن بما أصابه من الجراحات يوم».
(8) في اللمحة البدرية: «أن أجهزت عليه عدواها».
(9) في اللمحة البدرية: «أحمد بن محمد بن المحروق».
(10) كلمة «من» ساقطة في اللمحة.
(11) في اللمحة البدرية: «ثم قتل ثاني يوم».
(12) في اللمحة البدرية: «القائد محمد بن أبي بكر بن يحيى بن مول، المعروف بالقيجاطي، من وجوه الدولة إلى سابع عشر من شهر رجب».
(13) في اللمحة البدرية: «والنيابة مولى أبيه القائد أبو النعيم رضوان الشهير الديانة والسعادة إلى آخر مدته».(1/345)
لديه، وزاحمه بأحد المماليك المسمى (1) بعصام حسبما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
رئيس كتّابه: كتب له (2) كاتب أبيه قبله، وأخيه بعده، شيخنا نسيج وحده، أبو الحسن علي بن الجيّاب الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
قضاته: استمرّت الأحكام لقاضي أبيه، أخي (3) وزيره، الشيخ الفقيه أبي بكر (4) بن مسعود، رحمه الله، إلى عام سبعة وعشرين وسبعمائة، ووجّهه (5) رسولا عنه إلى ملك المغرب، فأدركته (6) وفاته بمدينة سلا، فدفن بمقبرة سلا (7). رأيت قبره بها، رحمه الله. وتخلّف ابنه (8) أبا يحيى مسعود (9) عام أحد وثلاثين وسبعمائة وتولّى الأحكام الشرعية القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر الأشعري (10)، خاتمة الفقهاء، وصدر العلماء، رحمه الله، فاستمرّت له الأحكام إلى تمام مدة أخيه بعده.
أمه: روميّة اسمها «علوة» وكانت أحظى لدّاتها عند أبيه، وأمّ بكره، إلى أن نزع عنها في أخريات أمره، لأمر جرّته الدّالّة، وتأخّرت وفاتها عنه إلى مدة أخيه.
من كان على عهده من الملوك بأقطار المسلمين والنصارى:
فبفاس (11)، السلطان الكبير، الشهير، الجواد، خدن العافية، وحلف السعادة، وبحر الجود، وهضبة الحلم، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، الذي بذل المعروف، وقرّب الصلحاء والعلماء، وأدنى مكانهم، وأعمل إشارتهم، وأوسع بأعطيته المؤمنين المسترفدين، وعظم قدره، واشتهر في الأقطار صيته، وفشا
__________
(1) في اللمحة البدرية: «يسمى عصاما أياما يسيرة بين يدي وفاته».
(2) في اللمحة (ص 95): «عنه كاتب أبيه وأخيه شيخنا الإمام العلّامة الصالح أبو الحسن بن الجياب رحمه الله إلى آخر مدته».
(3) في اللمحة البدرية: «وأخي».
(4) في اللمحة البدرية: «أبي بكر يحيى بن مسعود المحاربي، رحمه الله».
(5) في اللمحة البدرية: «فتوجّه رسولا إلى».
(6) في اللمحة البدرية: «وأدركته الوفاة».
(7) في اللمحة البدرية: «شالّة».
(8) في اللمحة البدرية: «ولده».
(9) في اللمحة البدرية: «مسعودا نائبا عنه، فاستمرّت له الأحكام».
(10) في اللمحة البدرية: «الأشعري المالقي».
(11) في اللمحة البدرية ص (95): «وأولا بالمغرب السلطان الشهير الكبير الجواد وليّ العافية وحليف السعادة أبو سعيد».(1/346)
معروفه، وعرفت بالكفّ عن الدماء والحرمات عفّته، إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة (1) عام أحد وثلاثين وسبعمائة. ثم صار الأمر إلى ولده السلطان، مقتفي (2) سننه في الفضل والمجد، وضخامة السلطان، مبرّا عليه بالبأس المرهوب، والعزم الغالب، والجدّ الذي لا يشوبه هزل، والاجتهاد الذي لا تتخلّله (3) راحة، الذي بعد مداه، وأذعن لصولته عداه، واتصلت ولايته مدته، ومعظم مدة أخيه الوالي بعده.
وبتلمسان الأمير عبد الرحمن بن موسى (4) بن يغمراسن، من بني عبد الواد، مشيّد القصور، ومروّض الغروس، ومتبنّك التّرف، واتّصل (5) إلى تمام مدته، وصدرا من مدة أخيه بعده.
وبتونس الأمير أبو يحيى، أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق لبنة تمام قومه، وصقر الجوارح (6) من عشّه، وسابق الجياد من حلبته، إلى تمام المدة، وصدرا كبيرا من دولة أخيه بعده.
ومن ملوك النصارى (7)، ملك على عهده الجفرتين القنيطية والتاكرونية، الطاغية المرهوب الشّبا، المسلط على دين الهدى، ألهنشة بن هراندة بن شانجه بن ألفنش بن هراندة، الذي احتوى على كثير من بلاد المسلمين حتى الجفرتين. واتصلت أيامه إلى أخريات أيام أخيه، وأوقع بالمسلمين على عهده، وتملّك الجزيرة الخضراء وغيرها.
وبرغون، ألفنش بن جايمش بن ألفنش بن بطره (8) بن جايمش الذي استولى على بلنسية، ودام إلى آخر مدته، وصدرا من مدة أخيه. وقد استقصينا من العيون أقصى ما سحّ به الاستقصاء، وما أغفلناه أكثر، ولله الإحاطة.
مولده: في الثامن من شهر المحرم من عام خمسة عشر وسبعمائة.
__________
(1) في اللمحة البدرية: «قعدة».
(2) في اللمحة البدرية: «المقتفي سننه في المجد والفضل».
(3) في الأصل: «يتخلّله».
(4) في الأصل (ص 96): «موسى أبو تاشفين، مشيّد».
(5) كلمة «واتصل» غير واردة في اللمحة البدرية.
(6) في اللمحة البدرية: «وصقر جوارح متأخريهم إلى تمام مدته وصدرا كبيرا من دولة أخيه».
(7) في اللمحة البدرية: «النصارى، وأولا بقشتالة: ألفونش بن هراندة بن شانجه بن ألفونش بن هراندة الذي ملك على عهده الجفرتين».
(8) في اللمحة البدرية: «بيطره بن ألفونش بن بيطره بن جايمش المستولي على بلنسية إلى آخر».(1/347)
وفاته: وإلى هذا العهد مات وغرت عليه من رؤوس الجند، من قبائل العدوة، الصّدور، وشحنت عليه القلوب غيظا وكان شرها لسانه، غير جزوع ولا هيّاب (1)، فربما يتكلّم بملء فيه من الوعيد الذي لا يخفى على المعتمد به. وفي ثاني يوم من إقلاع الطاغية من الجبل (2)، وهو يوم الأربعاء الثاني (3) عشر من ذي حجة، وقد عزم على ركوب البحر من ساحل مربلة (4)، فهو مع وادي ياروا من ظاهر جبل الفتح، تخفيفا للمؤونة، واستعجالا للصّدور، وقد أخذت على حركته المراصد فلمّا توسّط كمين القوم، ثاروا إليه وهو راكب بغلا أثابه به ملك الروم، فشرعوا في عتبه بكلام غليظ، وتأنيب قبيح، وبدأوا بوكيله فقتلوه، وعجّل بعضهم بطعنه، وترامى عليه مملوك من مماليك أبيه، زنمة (5) من أخابيث العلوج يسمّى زيانا، صونع على مباشرة الإجهاز عليه، فقضى لحينه بسفح (6) الربوة الماثلة، يسرة العابر للوادي ممّن يقصد جبل الفتح (7)، وتركوه بالعراء (8) بادي البوار، مسلوب البزّة، سييء المصرع، قد عدت عليه نعمه، وأوبقه سلاحه، وأسلمه أنصاره وحماته.
ولمّا فرغ القوم من مبايعة أخيه السلطان (9) أبي الحجاج، صرفت الوجوه يومئذ (10) إلى دار الملك، ونقل القتيل إلى مالقة، فدفن على حاله تلك برياض تجاور منية السّيد، فكانت وفاته ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر لذي (11) حجة من عام ثلاثة (12) وثلاثين وسبعمائة. وأقيمت على قبره (13) بعد حين قبّة، ونوّه بقبره. وهو اليوم (14) ماثل رهن غربة، وجالب عبرة، جعلنا الله للقائه على حذر وأهبة، وبلوح الرخام الماثل عند رأسه مكتوب:
__________
(1) في اللمحة البدرية: «هيابة».
(2) في اللمحة البدرية: «عن جبل الفتح».
(3) في اللمحة البدرية: «ثالث عشر من شهر ذي الحجة».
(4) في اللمحة البدرية (ص 97): «ساحل منزله بموقع وادي السقايين، تماروا من ظاهر الجبل».
(5) في اللمحة البدرية: «زنمة من أخابث المعلوجا اسمه زيان، صونع». والزنمة: الوغد.
(6) في اللمحة البدرية: «في سفح».
(7) في اللمحة البدرية: «الجبل».
(8) في اللمحة البدرية: «بالعراء مسلوب الساتر، سييء».
(9) في اللمحة البدرية: «السلطان يوسف صرفت».
(10) كلمة: «يومئذ» ساقطة في اللمحة.
(11) كلمة: «من ذي حجة عام» ساقطة في اللمحة.
(12) في الأصل: «ثلاث» وهو خطأ نحوي.
(13) في الأصل: «وأقيمت عليه بعيد زمان قبة».
(14) في الأصل: «الآن ماثل بها رهن وحدة، ومستدعى عبرة، وعليه مكتوب».(1/348)
هذا قبر السلطان الأجلّ، الملك الهمام، الأمضى الباسل، الجواد ذي المجد الأثيل، والملك الأصيل، المقدّس، المرحوم، أبي عبد الله محمد بن السلطان الجليل الكبير، الرفيع، الأوحد، المجاهد، الهمام، صاحب الفتوح المسطورة (1)، والمغازي المشهورة، سلالة أنصار النبي، صلى الله عليه وسلّم، أمير المؤمنين (2)، وناصر الدين، الشهيد، المقدّس، المرحوم أبي الوليد بن فرج بن نصر، قدّس الله روحه وبرّد ضريحه. كان مولده في الثاني (3) لمحرم عام خمسة عشر وسبعمائة، وبويع في اليوم الذي استشهد فيه والده رضي الله عنه السادس والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وتوفي رحمه الله في الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، فسبحان من لا يموت: [الكامل]
يا قبر سلطان الشجاعة والنّدى ... فرع الملوك الصيد أعلام الهدى
وسلالة السّلف الذي آثاره ... وضّاحة لمن اقتدى ومن اهتدى
سلف لأنصار النبيّ نجاره ... قد حلّ منه في المكارم محتدا
متوسّط البيت قد أسّست ... هـ سادة الأملاك أوحد أوحدا
بيت بناه (4) محمّدون ثلاثة ... من آل نصر أورثوه محمّدا
أودعت وجها قد تهلّل حسنه ... بدرا بآفاق الجلالة قد بدا
وندّا يسحّ على العفاة مواهبا ... مثنى الأيادي السابغات وموحدا
يبكيك مذعور بك استعدى على ... أعدائه فسقيتهم كأس الردى
يبكيك محتاج أتاك مؤمّلا ... فغدا وقد شفعت يداك له اليدا
أمّا سماحك فهو أسنى (5) ديّة ... أما جلالك فهو أسمى مصعدا
جادت ثراك من الإله سحابة (6) ... لرضاه عنك تجود هذا المعهدا
[وشرّ ما تبع هذا السلطان تواطؤ قتلته من بني أبي العلاء وأصهارهم وسواهم من شيوخ خدّامه، كالوكيل في مدة أخيه بعد، الشيخ الذهول مسافر بن حركات وسواه، على اكتتاب عقد بعد وفاته، بأمور من القول تقدح في أصل الديانة، وأغراض تقتضي إلى الوهن في الدّين، وهنات تسوّغ إراقة دمه الذي
__________
(1) في الأصل: «المستورة».
(2) في الأصل: «المسلمين».
(3) في الأصل: «الثامن».
(4) في اللمحة البدرية (ص 98): «بنوه».
(5) في اللمحة البدرية: «أهمى ديمة».
(6) في اللمحة البدرية: «سحائب».(1/349)
توفّرت الدواعي على حياطته، والذّبّ عنه، تولّى كبرها شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، مرتكبا منها وصمة محت على غرر فضله إلى كثير من خدّامه ومماليكه، وبعثوا بها إلى ملك المغرب، فاقتطعت جانب التمهيل والتأخير واللبث عن الحكم، والتعليل عن السّماع، وبروز الأغراض، واتّباع السيئة أمثالها. وقد كان، رحمه الله، من الجهاد وإقامة رسم الدين، بحيث تزلّ عن هذه الهنات صفاته، وتنكر هذه المذمّات صفاته، وكان بمكان من العزّ، وإرسال السّجية، ربما عذله الشيخ في بعض الأمر، فيسجم إضجارا وتمليحا بإخراجه ولم يمرّ إلّا الزمان اليسير وأوقع الله بالعصبة المتمالئة عليه من أولاد عبد الله، فسفتهم رياح النّكبات، واستأصلت نعمهم أيدي النّقمات، ولم تقم لهم من بعد ذلك قائمة، والله غالب على أمره] (1).
وتبعت هذا السلطان نفوس أهل (2) الحرية، ممّن له طبع رقيق، وحسّ لطيف ووفاء كريم، ممّن كان بينه وبين سطوته دفاع وفي جوّ اعتقاده له صفاء فصدرت (3)
مراث مؤثرة، وأقاويل للشجون مهيجة، نثبت منها يسيرا على العادة. فمن ذلك ما نظمه الشيخ الكاتب (4) القاضي أبو بكر بن شبرين وكان على (5) فصاحة ظرفه، وجمال روايته، غراب قربه، ونائحة مأتمه، يرثيه ويعرّض ببعض من حمل عليه من (6)
ناسه وخدّامه: [مجزوء الرمل]
استقلّا ودعاني ... طائفا بين المغاني
وانعما بالصبر إني ... لا أرى ما تريان
ومن قوله (7): [الخفيف]
عين بكي لميّت غادروه ... في ثراه ملقى وقد غدروه
دفنوه ولم يصلّ عليه ... أحد منهم ولا غسّلوه
إنما مات يوم (8) مات شهيدا ... فأقاموا رسما ولم يقصدوه
__________
(1) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(2) في اللمحة البدرية: «أولي».
(3) في اللمحة البدرية: «فصدر فيه من التأبين أقاويل».
(4) كلمة «الكاتب» ساقطة في اللمحة.
(5) في اللمحة البدرية: «على ظرفه وحسن روائه غراب ندبة ونائحة حاتم يرثيه».
(6) في اللمحة البدرية: «عليه من خدّامه».
(7) الأبيات في اللمحة البدرية (ص 102).
(8) في اللمحة البدرية: «حين».(1/350)
محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد ابن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي (1)
ثالث الملوك من بني نصر، يكنى أبا عبد الله.
أوّليّته: معروفة.
حاله: كان من أعاظم أهل بيته، صيتا وهمّة، أصيل المجد، مليح الصورة، عريق الإمارة، ميمون النّقيبة، سعيد النّصبة، عظيم الإدراك تهنّأ العيش مدة أبيه، وتملّى (2) السياسة في حياته، وباشر الأمور بين يديه، فجاء نسيج وحده إدراكا، ونبلا، وفخارا، وشأوا (3). ثم تولّى الأمر بعد أبيه فأجراه على ديدنه وتقيّل (4)
سيرته، ونسج على منواله. وقد كان الدهر ضايقه في حصّته، ونغّصه ملاذّ الملك بزمانة (5) سدكت (6) بعينيه لمداخلة (7) السّهر، ومباشرة أنوار ضخام الشمع، إذ كانت تتّخذ له منها جذوع في أجسادها مواقيت تخبر بانقضاء ساعات الليل، ومضيّ الرّبع (8)، وعلى التزامه لكنّه وغيبوبته في كسر بيته، فقد خدمته السّعود، وأمّلت بابه الفتوح، وسالمته الملوك، وكانت أيامه أعيادا. وكان يقرض الشعر ويصغي إليه ويثيب عليه، فيجيز الشعراء، ويرضخ (9) للندماء، ويعرف مقادير (10)
العلماء، ويواكل الأشراف والرؤساء، ضاربا في كل إصلاح (11) بسهم، مالئا (12)
من كل تجربة وحنكة، حارّ النّادرة، حسن التوقيع، مليح الخطّ، تغلب (13) عليه الفظاظة والقسوة.
__________
(1) هذه الترجمة وردت كاملة في اللمحة البدرية (6960).
(2) في اللمحة البدرية (ص 60): «وتملأ السياسة حياته».
(3) في اللمحة البدرية: «وفخامة وبأوا».
(4) في الأصل: «وتقبل» والتصويب من اللمحة البدرية.
(5) الزمانة: العاهة الدائمة. لسان العرب (زمن).
(6) سدكت بعينيه: لزمتهما. لسان العرب (سدك).
(7) في اللمحة البدرية (ص 61): «لمواصلة».
(8) في اللمحة البدرية: «الهزيع».
(9) يرضخ للندماء: يبذل لهم العطايا يقال: رضخ له من ماله يرضخ رضخا إذا أعطاه. لسان العرب (رضخ).
(10) في الأصل «مقادر» والتصويب من اللمحة البدرية.
(11) في اللمحة البدرية: «اصطلاح».
(12) في اللمحة البدرية: «مليّا».
(13) في اللمحة البدرية: «يغلب».(1/351)
شعره: كان (1) له شعر مستظرف من مثله، لا بل يفضل به الكثير ممّن ينتحل الشعر من الملوك. ووقعت (2) على مجموع له، ألّفه بعض خدّامه، فنقلت (3) من مطوّلاته: [السريع]
واعدني وعدا وقد أخلفا ... أقلّ شيء في المليح (4) الوفا
وحال عن عهدي ولم يرعه ... ما ضرّه لو أنّه (5) أنصفا
ما بالها لم تتعطّف على ... صبّ (6) لها ما زال مستعطفا
يستطلع الأنباء من نحوها ... ويرقب البرق إذا ما هفا
خفيت سقما عن عيون الورى ... وبان حبّي بعد ما قد خفا
لله كم من ليلة بتّها ... أدير من ذاك اللّمى قرقفا (7)
متّعتني بالوصل منها وما ... أخلفت وعدا (8) خلت أن يخلفا
ومنها:
ملّكتك القلب وإني امرؤ ... عليّ ملك الأرض قد وقّفا
أوامري في الناس مسموعة ... وليس منّي في الورى أشرفا
يرهف سيفي في الوغى مصلتا (9) ... ويتّقى عزمي إذا ما أرهفا
وترتجى يمناي يوم النّدى ... تخالها السّحب غدت وكفا
نحن ملوك الأرض من مثلنا ... حزنا تليد الفخر والمطرفا
نخاف إقداما ونرجى ندى ... لله ما أرجى وما أخوفا
لي راية في الحرب كم غادرت ... ربع العدا قاعا بها صفصفا
يا ليت شعري والمنى جمّة ... والدّهر يوما هل يرى منصفا
هل يرتجي العبد (10) تدانيكم ... أو يصبح الدهر له مسعفا
__________
(1) في اللمحة البدرية: «كان شعره مستطرفا من مثله».
(2) في اللمحة البدرية (ص 62): «وقفت».
(3) في اللمحة البدرية: «فمن بعض المطوّلات».
(4) في اللمحة البدرية: «الملاح».
(5) في الأصل واللمحة: «أنه» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «صاحب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية. والصّبّ: العاشق المشتاق. لسان العرب (صبب).
(7) القرقف: الخمر.
(8) في اللمحة: «عهدا خفت أن».
(9) في الأصل: «متسلّطا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية.
(10) في اللمحة البدرية: «اليوم».(1/352)
مناقبه: وأعظم مناقبه المسجد (1) الجامع بالحمراء، على ما هو عليه، من الظرف والتنجيد، والتّرقيش، وفخامة العمد، وإحكام أتوار (2) الفضة، وإبداع ثراها (3)، ووقف عليه الحمّام بإزائه، وأنفق فيه مال الجزية (4)، وأغرمها لمن يليه من الكفّار، فدوا به (5) زرعا، نهد (6) إليه صائفته لانتسافه، وقد أهمّتهم فتنة، فظهر بها منقبة يتيمة، ومعلوّة فذّة، فاق بها من تقدّمه، ومن تأخّره من قومه.
جهاده: أغزى الجيش لأول أمره مدينة المنظر، فاستولى عليها عنوة، وملك (7)
من احتوت عليه المدينة، ومن جملتهم الزّعيمة (8) صاحبة المدينة، من أفراد عقائل الروم، فقدمت الحضرة في جملة السّبي (9)، نبيهة المركب، ظاهرة الملبس، رائقة (10)
الجمال، خصّ بها ملك المغرب، فاتّخذها لنفسه، وكان هذا الفتح عظيما، والصّيت (11) بمزايه عظيما بعيدا. أنشدني.
ما نقل عنه من الفظاظة والقسوة (12):
هجم لأول أمره على طائفة من مماليك أبيه، وكان سيّىء الرأي فيهم، فسجنهم في مطبق الأريّ من حمرائه، وأمسك مفتاح قفله عنده، وتوعّد من يرمقهم بقوت بالقتل، فمكثوا أياما، وصارت أصواتهم تعلو بشكوى الجوع، حتى خفتت ضعفا بعد أن اقتات آخرهم موتا من لحم من سبقه وحملت الشفقة حارسا كان برأس المطبق، على أن طرح لهم خبزا يسيرا، تنقص أكله، مع مباشرة بلواهم، ونمي إليه ذلك، فأمر بذبحه على حافة الجبّ، فسالت عليهم دماؤه وقانا الله مصارع السّوء، وما زالت المقالة عنها شنيعة، والله أعلم بجريرتهم لديه.
وزراؤه: بقي (13) على خطة الوزارة وزير أبيه أبو (14) سلطان عزيز بن علي بن عبد المنعم الداني، الجاري ذكره بحول الله في محلّه، متبرّما، بحياته [إلى أن توفي،
__________
(1) في اللمحة البدرية: «ابتناء المسجد الأعظم بالحمراء من غرناطة».
(2) الأتوار: الأواني.
(3) في اللمحة البدرية (ص 63): «ثرياتها».
(4) في اللمحة البدرية: «جزية أغرمها من يليه».
(5) في اللمحة البدرية: «بها».
(6) في اللمحة البدرية: «جهز جيشا صائفة». والصائفة: قوات الجيش التي تخرج صيفا للغزو.
(7) في اللمحة البدرية: «وتملك من اشتملت عليه، ومن».
(8) في اللمحة البدرية: «العلجة».
(9) في اللمحة البدرية: «من السّبي».
(10) في اللمحة البدرية: «رائعة».
(11) في اللمحة البدرية: «والصيت لأجله بعيدا».
(12) هذه القطعة ساقطة في اللمحة البدرية.
(13) في اللمحة البدرية: «أبقى».
(14) في اللمحة البدرية: «وهو الشيخ الوزير أبو سلطان».(1/353)
فأنشد عند موته: [السريع]
مات أبو زيد فواحسرتا ... إن لم يكن قد (1) مات من جمعه
مصيبة لا غفر الله لي ... أن كنت أجريت لها دمعه] (2)
وتمادى (3) بها أمره، [يقوم بها حاشيته، وقد ارتاح إليها متولّيها بعده، المترفّع بدولته، القائد الشهير، البهمة أبو بكر بن المول. حدّث قارىء العشر من القرآن بين يدي السلطان، ويعرف بابن بكرون، وكان شيخا متصاونا ظريفا، قال: عزم السلطان على تقديم هذا الرجل وزيرا، وكان السلطان يؤثر الفأل، وله في هذا المعنى وساوس ملازمة، فوجّه إليّ الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى يومئذ، أبو عبد الله بن الحكيم المستأثر بها دونه، والمتلقّف لكرتها قبله، وخرج لي عن الأمر، وطلب مني أن أقرأ آيا يخرج فألها عن الغرض قال: فلمّا غدوت لشأني تلوت بعد التعوّذ قوله، عزّ وجلّ: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا بِطََانَةً مِنْ دُونِكُمْ لََا يَأْلُونَكُمْ خَبََالًا وَدُّوا مََا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضََاءُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ} إلى قوله: {بَيَّنََّا} (4)، فلما فرغت الآية، سمعته حاد عن رأيه الذي كان أزمعه] (5)، وقدّم (6) للوزارة كاتبه أبا عبد الله بن الحكيم في ذي قعدة من عام ثلاثة وسبعمائة، وصرف إليه تدبير (7) ملكه، فلم يلبث أن تغلّب على أمره، وتقلّد جميع (8) شؤونه، حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله.
كتّابه: استقلّ برئاسته (9) وزيره المذكور، وكان ببابه من كتّابه جملة تباهى بهم دسوت (10) الملوك، أدبا وتفنّنا وفضلا وظرفا، كشيخنا تلوه وولي (11) الرّتبة الكتابية من (12) بعده، وفاصل الخطبة على أثره، وغيره ممّن يشار إليه في تضاعيف الأسماء، كالشيخ الفقيه القاضي أبي بكر بن شبرين، والوزير الكاتب أبي عبد الله بن عاصم، والفقيه الأديب أبي إسحاق بن جابر، والوزير الشاعر المفلق أبي عبد الله اللّوشي (13)،
__________
(1) كلمة «قد» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(2) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(3) في اللمحة البدرية: «وتمادى أمره برهة».
(4) سورة آل عمران 3، الآية 118.
(5) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(6) في اللمحة البدرية: «أنهض للوزارة كاتبه وكاتب أبيه الوزير الصدر الحاج المحدّث أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن الحكيم اللخمي الرندي في ذي قعدة».
(7) في اللمحة البدرية: «تدبيره وألقى في يده أزمّة الملك فلم يلبث».
(8) في اللمحة البدرية: «كافة».
(9) في اللمحة البدرية (ص 64): «برياسة القلم الأعلى وزيره، وكان كتّابه جملة».
(10) في اللمحة البدرية: «بهم الدول أدبا».
(11) في اللمحة البدرية: «ولي».
(12) كلمة «من» ساقطة في اللمحة البدرية.
(13) في اللمحة البدرية: «اللوشي، والرئيس أبي محمد».(1/354)
من كبار القادمين عليه، والفقيه الرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي الكاتب (1) أبي الحجاج الطرطوشي، والشاعر المكثر أبي العباس القرّاق (2) وغيرهم.
قضاته: استمرّت ولاية قاضي أبيه الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد (3) بن هشام الألشي (4)، قاضي العدل، وخاتمة أولي (5) الفضل، إلى أن توفي عام أربعة (6)
وسبعمائة. وتولّى له القضاء القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرشي المنبوز (7) بابن فركون، وتقدّم التعريف به، والتنبيه على فضله، إلى آخر أيامه.
من كان على عهده من الملوك بالأقطار (8):
وأول ذلك بفاس كان على (9) عهده بها السلطان الرفيع القدر، السامي الخطر، المرهوب الشّبا، المستولي في العزّ وبعد الصّيت على المدى، أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المنصور بن عبد الحق، وهو الذي وطّد الدولة المرينيّة (10)، وجبا الأموال العريقة (11)، واستأصل من تتّقى (12) شوكته من القرابة وغيرهم. وجاز إلى الأندلس في أيام أبيه وبعده، غازيا، ثم حاصر تلمسان، وهلك عليها في أوائل ذي قعدة عام ستة وسبعمائة، [فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشهرا] (13). ثم صار الأمر إلى حافده أبي ثابت عامر بن الأمير أبي عامر عبد الله بن يوسف بن يعقوب بعد اختلاف وقع ونزاع انجلى (14) عن قتل جماعة من كبارهم (15) منهم الأمير أبو يحيى بن السلطان أبي يوسف، والأمير أبو سالم بن السلطان أبي يعقوب. واستمرّ الأمر للسلطان (16) أبي ثابت إلى صفر (17) من عام ثمانية وسبعمائة. وصار الأمر (18) إلى
__________
(1) كلمة: «الكاتب» ساقطة في اللمحة البدرية.
(2) في اللمحة البدرية: «بن القراق».
(3) في اللمحة البدرية: «محمد بن محمد بن هشام».
(4) نسبة إلى إلش، وهي مدينة من كور تدمير. الروض المعطار (ص 30).
(5) في اللمحة البدرية: «ألي».
(6) في الأصل: «أربع» وهو خطأ نحوي.
(7) في اللمحة البدرية: «المنبز».
(8) في اللمحة البدرية: «من كان من الملوك على عهده».
(9) في اللمحة البدرية: «كان ملكا بها على عهده السلطان».
(10) كلمة: «المرينية» ساقطة في اللمحة.
(11) في اللمحة البدرية: «العريضة».
(12) في اللمحة البدرية: «يتّقي».
(13) ما بين قوسين ساقط في اللمحة.
(14) في اللمحة البدرية (ص 65) «انجلى الأمر فيه عن».
(15) في اللمحة البدرية: «أكابرهم».
(16) في اللمحة البدرية: «بالسلطان».
(17) في اللمحة البدرية: «إلى شهر صفر عام».
(18) في اللمحة البدرية: «الأمر بعده إلى».(1/355)
أخيه أبي الربيع سليمان تمام مدّة (1) ملكه وصدرا من دولة أخيه نصر (2)، حسبما يذكر في موضعه إن شاء الله.
وبتلمسان الأمير أبو سعيد عثمان بن يغمراسن، ثم أخوه أبو عمران (3) موسى، ثم ولده أبو تاشفين عبد الرحمن إلى آخر مدة أخيه (4).
وبتونس (5) السلطان الفاضل، الميمون النّقيبة، المشهور الفضيلة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر أبي عبد الله بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص، من أولي (6) العفّة، والنزاهة (7)، والتؤدة، والحشمة، والعقل، عني بالصالحين (8)، واختصّ بأبي محمد المرجاني، [فأشار بتقويمه] (9)، وظهرت (10) عليه بركته، [وكان يرتبط إليه، ويقف في الأمور عنده، فلم تعدم الرعيّة بركة ولا صلاحا في أيامه] (11)، إلى أن هلك في ربيع الآخر عام تسعة وسبعمائة، ووقعت بينه وبين هذا الأمير المترجم به (12) المراسلة والمهاداة.
وبقشتالة (13) هراندة بن شانجه بن أدفونش (14) بن هراندة، [المستولي على إشبيليّة وقرطبة، ومرسية، وجيّان، ولا حول ولا قوة إلّا بالله] (15). هلك أبوه وتركه صغيرا، مكفولا على عادتهم، فتنفّس المخنّق وانعقدت السلم، واتصل الأمان مدة أيامه، وهلك في دولة أخيه.
وبرغون جايمش (16) بن ألفنش بن بطره.
__________
(1) كلمة «مدة» ساقطة في اللمحة.
(2) في اللمحة البدرية: «نصر بعده حسبما يذكر».
(3) في اللمحة البدرية: «أخوه أبو زيان ثم أبوه الأمير أبو حمو. ثم ولده الأمير أبو تاشفين».
(4) في اللمحة البدرية: «آخر مدته».
(5) في اللمحة البدرية: «وبتونس: كان أميرا بتونس على عهده السلطان الفاضل أبو عبد الله».
(6) في اللمحة البدرية: «ألي».
(7) كلمة «والنزاهة» ساقطة في اللمحة.
(8) في اللمحة البدرية: «والتؤدة والفضل والحشمة والعقل والعناية بالصالحين، اختصّ منهم بأبي».
(9) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(11) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(15) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(10) في اللمحة البدرية: «فظهرت».
(12) في اللمحة البدرية: «به من بني نصر المراسلة».
(13) في اللمحة البدرية (ص 66): «وبقشتالة: كان على عهده من ملوك قشتالة هراندة».
(14) في اللمحة البدرية: «ألفونش».
(16) في اللمحة البدرية: «الطاغية جايمش بن الهونشة».(1/356)
الأحداث (1): في عام ثلاثة وسبعمائة، نقم (2) على قريبه الرئيس أبي الحجاج بن نصر الوالي (3) بمدينة وادي آش، [أمرا أوجب عزله عنها، وكان مقيما بحضرته فاتخذ الليل جملا، وكان أملك بأمرها وذاع الخبر، فاستركب الجيش، وقد حدّ ما ينزل في استصلابه، وجدّد الصكوك بولايته خوفا من اشتعال الفتنة، وقد أخذ على يديه، وأغرى أهل المدينة بحربه، فتداعوا لحين شعورهم باستعداده وأحاطوا به، فدهموه وعاجلوه، فتغلبوا عليه، وقيد إلى بابه أسيرا مصفّدا، فأمر أحد أبناء عمّه فقتله صبرا، وتملّا فتحا كبيرا، وأمن فتنة عظيمة] (4). وفي شهر (5) شوّال من عام خمسة وسبعمائة قرع الأسماع النبأ العظم (6)، الغريب، من تملّك (7) سبتة وحصولها في قبضته (8)، وانتزاعها من يد (9) رئيسها أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم، الرئيس الفقيه، ابن الإمام المحدّث أبي العباس العزفي حسبما يتقرّر في اسم الرئيس الفقيه أبي طالب إن بلّغنا الله ذلك واستأصل ما كان لأهلها (10) من الذخائر والأموال، ونقل رؤساءها، وهم عدّة، إلى حضرته غرناطة في غرّة المحرم من العام، فدخلوا عليه، وقد احتفل بالملك، واستركب في الأبّهة الجند، فلثموا أطرافه، واستعطفه (11) شعراؤهم بالمنظوم من القول، وخطباؤهم بالمنثور منه، فطمأن روعهم وسكّن جأشهم، وأسكنهم في جواره، وأجرى عليهم الأرزاق الهلالية، وتفقّدهم في الفصول إلى أن كان من أمرهم ما هو معلوم.
اختلاعه: في يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة أحيط بهذا السلطان، وأتت (12) الحيلة عليه، وهو مصاب بعينيه، مقعد في كنّه، فداخلت طائفة من وجوه (13) الدولة أخاه، وفتكت بوزيره الفقيه أبي عبد الله بن الحكيم، ونصبت للناس الأمير أبا الجيوش نصرا أخاه، وكبست (14) منزل السلطان، فأحيط به، وجعل الحرس عليه (15)، وتسومع بالكائنة فكان (16) البهت، وسال من الغوغاء البحر، فتعلّقوا
__________
(1) في اللمحة البدرية: «بعض الأحداث».
(2) في اللمحة البدرية: «ثار عليه قريبه الرئيس أبو».
(3) كلمة «الوالي» ساقطة في اللمحة.
(4) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(5) كلمة: «شهر» ساقطة في اللمحة البدرية.
(6) كلمة: «العظم» ساقطة في اللمحة البدرية.
(7) في اللمحة البدرية: «من تملكه مدينة سبتة».
(8) في اللمحة البدرية: «قبضة ملكه».
(9) في اللمحة البدرية: «يدي».
(10) في اللمحة البدرية: «لرؤسائها من الخزائن والذخائر، ونقلهم وهم عدّة».
(11) في اللمحة البدرية: «واستعطفته».
(12) في اللمحة البدرية (ص 67): «تمّت».
(13) في اللمحة البدرية: «كبار».
(14) في اللمحة البدرية: «وكبس».
(15) في اللمحة البدرية: «وجعل عليه الحرس».
(16) في اللمحة البدرية: «فوقع».(1/357)
بالحمراء، يسألون عن الحادثة، فشغلوا بانتهاب (1) دار الوزير، وبها من مال الله ما يفوت الوصف، وكان الفجع في إضاعته على المسلمين، وإطلاق الأيدي الخبيثة عليه عظيما. وفي آخر اليوم عند الفراغ من الأمر، دخل (2) على السلطان المخلوع، الشهداء عليه بخلعه، بعد نقله من دار ملكه إلى دار أخرى، فأملى، رحمه الله، زعموا، وثيقة خلعه، مع شغب الفكر، وعظم الداهية، وانتقل، رحمه الله، بعد، إلى القصر المنسوب إلى السيد بخارج الحضرة أقام به يسيرا، ثم نقل إلى مدينة المنكّب. وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله.
[ومما يؤثر من ظرفه حدّث من كان منوطا به من خاصّته، مدة أيام إقامته بقصر نجد، قبل خلعه، قال: أرسل الله الأغربة على سقف القصر، وكان شديد التطيّر والقلق لذلك حسبما تقدّم من الإشارة إلى ذلك بحديث العشر وكان من جملتها غراب، شديد الإلحاح، حادّ النّعيب والصياح، فأغرى به الرّماة من مماليكه بأنواع القسيّ فأبادوا من الغربان أمّة وتخطّأ الحتف ذلك الغراب الخبيث العبقان فلمّا انتقل إلى سكنى الحمراء ظهر ذلك الغراب على سقفه ثم لما أهبط مخلوعا إلى قصر شنيل تبعه، وقام في بعض السّقف أمامه، فقال يخاطبه رحمه الله: يا مشؤوم، يا محروم بين الغربان، قد خلّصت أمرنا، ولم يبق لك علينا طلب، ولا بيننا وبينك كلام ارجع إلى هؤلاء المحارم فاشتغل بهم قال: فأضحكنا على حال الكآبة بعذوبة منطقه، وخفّة روحه] (3).
وفاته: قد تقدّم ذكر استقراره بالمنكّب. وفي أخريات شهر جمادى الآخرة عام (4) عشرة وسبعمائة، أصابت السلطان نصرا (5) سكتة، توقّع منها موته، بل شكّ في حياته فوقع التفاوض الذي تمخّض إلى (6) التوجيه عن السلطان المخلوع الذي بالمنكّب ليعود إلى (7) الأمر، فكان ذلك، وأسرع إلى إيصاله (8) إلى غرناطة في محفّة، فكان حلوله بها في رجب (9) من العام المذكور. وكان من قدر الله، أن أفاق
__________
(1) في اللمحة البدرية: «بأنهاب دور الوزير الكائنة بالربض وبها».
(2) في اللمحة: «أدخل على السلطان قوم من الفقهاء أشهدهم بخلع نفسه، ونقل إلى القصر المنسوب إلى السيد».
(3) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(4) في اللمحة البدرية: «من عام».
(5) كلمة «نصرا» ساقطة في اللمحة البدرية.
(6) في اللمحة البدرية: «عن».
(7) في اللمحة البدرية: «له».
(8) في اللمحة البدرية: «وأسرع به إلى».
(9) في اللمحة البدرية (ص 68): «في غرّة شهر رجب».(1/358)
أخوه من مرضه، ولم يتمّ للمخلوع الأمر، فنقل من الدار التي كان بها إلى دار أخيه الكبرى، فكان آخر العهد به. ثم شاعت وفاته أوائل شوّال من العام المذكور، فذكر أنه اغتيل غريقا في البركة في الدار المذكورة لما توقع من عادية جواره ودفن بمقبرة السّبيكة، مدفن قومه، بجوار (1) الغالب بالله جدّه، ونوّه بجدثه، وعليه مكتوب ما نصّه (2):
«هذا قبر السلطان الفاضل، الإمام العادل، علم الأتقياء، أحد الملوك الصلحاء، المخبت (3) الأوّاه، المجاهد في سبيل الله، الرّضيّ الأورع، الأخشى لله الأخشع، المراقب (4) في السرّ والإعلان، المعمور الجنان بذكره واللسان، السالك في سياسة الخلق وإقامة الحقّ، منهاج (5) التقوى والرّضوان، كافل الأمّة بالرأفة (6)
والحنان، الفاتح لها بفضل سيرته، وصدق سريرته، ونور بصيرته، أبواب اليمن والأمان، المنيب الأوّاب، العامل بكلّ (7) ما يجده نورا مبينا يوم الحساب، ذي الآثار السّنيّة، والأعمال الطاهرة العليّة (8)، القائم في جهاد الكفّار بماضي العزم وخالص النيّة، المقيم (9) قسطاس العدل، المنير (10) منهاج الحلم والفضل، حامي الذّمار، وناصر دين المصطفى المختار، المقتدي بأجداده الأنصار، المتوسّل بفضل (11) ما أسلفوه من أعمال البرّ والجهاد، ورعاية العباد والبلاد، إلى الملك القهّار، أمير المسلمين، وقامع المعتدين، المنصور بفضل الله، أبي عبد الله ابن أمير المسلمين الغالب بالله السلطان الأعلى، إمام الهدى، وغمام (12) النّدى، محيي السّنّة، حسن الأمّة (13)، المجاهد في سبيل الله، الناصر لدين الله، أبي عبد الله ابن أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله بن يوسف بن نصر، كرّم الله وجهه ومثواه، ونعّمه برضاه. ولد رضي الله عنه يوم (14) الأربعاء الثالث لشعبان المكرم من عام خمسة وخمسين وستمائة. وتوفي، قدّس الله روحه، وبرّد ضريحه، ضحوة يوم الاثنين الثالث لشوّال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، رفعه الله إلى منازل أوليائه الأبرار،
__________
(1) في اللمحة البدرية: «وبجوار».
(2) في اللمحة البدرية: «ما نصّه من جانب».
(3) المخبت: المطيع. لسان العرب (خبت).
(4) في اللمحة البدرية: «المراقب لله في السّرّ».
(5) في اللمحة البدرية: «منهج».
(6) في اللمحة البدرية: «بالكرامة».
(7) كلمة «بكل» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة.
(8) كلمة «العلية» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة.
(9) في اللمحة البدرية: «مقيم».
(10) في اللمحة البدرية: «منير».
(11) في اللمحة البدرية: «بما».
(12) في اللمحة البدرية: «غمام».
(13) في اللمحة البدرية: «ومعزّ الملّة».
(14) في اللمحة البدرية: «في يوم».(1/359)
وألحقه بأئمّة الدين (1)، لهم عقبى الدّار، وصلّى الله على سيّدنا (2) محمد المختار، وعلى آله، وسلّم تسليما».
ومن الجانب الآخر: [الطويل]
رضى الملك الأعلى يروح ويغتدي ... على قبر مولانا الإمام المؤيّد
مقرّ العلى والملك والبأس والنّدى ... فقدّس من مغنى كريم ومشهد
ومثوى الهدى والفضل والعدل والتّقى ... فبورك من مثوى زكي وملحد
فيا عجبا طود الوقار جلالة ... ثوى تحت أطباق الصفيح المنضّد
وواسطة العقد الكريم الذي له ... مآثر فخر (3) بين مثنى وموحد
محمد الرّضيّ سليل محمد ... إمام النّدى (4) نجل الإمام محمد
فيا نخبة الأملاك غير منازع ... ويا علم الأعلام غير مفنّد
بكتك بلاد كنت تحمي ذمارها (5) ... بعزم أصيل أو برأي مسدّد
وكم معلم للدين أوضحت رسمه ... بنى لك في الفردوس أرفع مصعد
كأنّك ما سست البلاد وأهلها ... بسيرة ميمون النّقيبة مهتد
كأنك ما قدت الجيوش إلى العدا ... فصيّرتهم نهب القنا المتقصّد
وفتحت من أقطارهم كلّ مبهم ... فتحت به باب النّعيم المخلّد
كأنك ما أنفقت عمرك في الرّضى ... بتجديد غزوات (6) وتشييد مسجد
وإنصاف مظلوم وتأمين خائف ... وإصراخ مذعور وإسعاف مجتد
كأنّك ما أحييت للخلق (7) سنّة ... تجادل عنها باللسان (8) وباليد
كأنّك ما أمضيت في الله عزمة ... تدافع فيها بالحسام المهنّد
فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... بذاك (9) ثواب (10) الله يلقاك في غد
تعوّضت ذخرا من مقام خلافة ... مقيم (11) منيب خاشع متعبّد
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 69): «بأئمة الحق الذين لهم».
(2) في اللمحة البدرية: «سيدنا ومولانا وآله وصحبه وسلم تسليما».
(3) في اللمحة البدرية: «مجد».
(4) في اللمحة البدرية: «الهدى».
(5) في اللمحة البدرية: «ثغورها».
(6) في اللمحة البدرية: «غزو أو بتشييد».
(7) في اللمحة البدرية: «للحقّ».
(8) في اللمحة البدرية: «بالحسام المهنّد».
(9) في اللمحة البدرية: «فذاك».
(10) في الأصل: «ثوب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة.
(11) في اللمحة البدرية: «مقام».(1/360)
وكلّ الورى من كان أو هو كائن ... صريع الرّدى إن لم (1) يكن (2) فكأن قد
فلا زال جارا للرسول محمد ... بدار نعيم في رضى الله سرمد
وهذي القوافي قد وفيت بنظمها ... فيا ليت شعري هل يصيخ (3) لمنشد
محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد ابن خميس بن نصر الأنصاري الخزرجي (4)
ثاني الملوك الغالبين (5) من بني نصر، وأساس (6) أمرهم، وفحل جماعتهم.
أوّليّته: تقرّر بحول الله في اسم أبيه الآتي بعد حسب الترتيب المشترط.
حاله: من كتاب «طرفة العصر» من تأليفنا كان هذا السلطان أوحد الملوك جلالة، وصرامة، وحزما. مهّد (7) الدولة، ووضع ألقاب خدمتها، وقرّر (8) مراتبها، واستجاد أبطالها. وأقام رسوم الملك فيها، واستدرّ جباياتها، مستظهرا على ذلك بسعة الذّرع، وأصالة السياسة، ورصانة العقل، وشدّة الأسر، ووفور الدّهاء، وطول الحنكة، وتملأ التجربة، مليح الصورة، تامّ الخلق، بعيد الهمّة، كريم الخلق، كثير الأناة. قام بالأمر بعد أبيه، وباشره مباشرة الوزير أيام حياته، فجرى على سنن أبيه، من اصطناع أجناسه، ومداراة عدوّه، وأجرى (9) صدقاته، وأربى عليه بخلال، منها براعة الخطّ، وحسن التوقيع، وإيثار العلماء، والأطباء (10)، والعدلين، والحكماء، والكتّاب، والشعراء، وقرض الأبيات الحسنة (11)، وكثرة الملح، وحرارة النّادرة.
وطما بحر من الفتنة لأول استقرار (12) أمره، وكثر (13) عليه المنتزون والثّوّار، وارتجّت الأندلس، وسط أكلب الكفّار، فصبر (14) لزلزالها رابط الجأش ثابت المركز، وبذل من الاحتيال والدّهاء المكنوفين بجميل الصبر، ما أظفره بخلوّ الجوّ (15). وطال
__________
(1) كلمة «لم» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة.
(2) في اللمحة البدرية: «يجز».
(3) في اللمحة البدرية: «تصيخ».
(4) هذه الترجمة وردت كاملة في اللمحة البدرية (ص 5850).
(5) كلمة «الغالبين» ساقطة في اللمحة البدرية (ص 50).
(6) في اللمحة البدرية: «وعظيمهم وأساس».
(7) في اللمحة البدرية (ص 50): «ممهّد الدولة الذي وضع».
(8) في اللمحة البدرية: «وقدّر».
(9) في اللمحة البدرية: «وإجراء».
(10) في اللمحة البدرية: «من الأطباء والمنجمين والحكماء».
(11) في اللمحة البدرية: «الأبيات من الشعر».
(12) كلمة «استقرار» ساقطة في اللمحة البدرية.
(13) في اللمحة البدرية: «وتكاثر المنتزون عليه والثوار».
(14) في اللمحة البدرية: «فثبت».
(15) في اللمحة البدرية: «جوّه».(1/361)
عمره، وجدّ (1) صيته، واشتهر في البلاد (2) ذكره، وعظمت غزواته، وسيمرّ (3) من ذكره ما يدلّ على أجلّ من ذلك إن شاء الله.
شعره وتوقيعه: وقفت على كثير من شعره، وهو نمط منحطّ بالنسبة إلى أعلام الشعراء، ومستظرف (4) من الملوك والأمراء. من (5) ذلك، يخاطب وزيره (6):
[المتقارب]
تذكّر عزيز ليال مضت ... وإعطاءنا المال بالرّاحتين
وقد قصدتنا ملوك الجهات ... ومالوا إلينا من العدوتين
وإذ (7) سأل السّلم منّا اللّعين ... فلم يحظ إلّا بخفّي حنين
وتوقيعه يشذّ عن الإحصاء (8)، وبأيدي الناس إلى هذا العهد كثير من ذلك فمما كتب به على رقعة كان رافعها يسأل التصرّف في بعض الشهادات ويلحّ عليها:
[الوافر]
يموت على الشّهادة وهو حيّ ... إلهي لا تمته على الشهاده
وأطال الخطّ عند إلهي إشعارا بالضّراعة عند الدعاء والجدّ. ويذكر أنه وقع بظهر رقعة لآخر اشتكى ضرر أحد الجند المنزلين في الدّور، ونبزه بالتّعرّض لزوجه:
«يخرج هذا النّازل (9)، ولا يعوّض بشيء من المنازل».
بنوه: ثلاثة وليّ عهده أبو عبد الله المتقدّم الذّكر، وفرج المغتال أيام أخيه، ونصر الأمير بعد أخيه (10).
بناته: أربع، عقد لهنّ، جمع أبرزهنّ إلى أزواجهنّ، من قرابتهنّ، تحت أحوال ملوكية، ودنيا عريضة، وهنّ: فاطمة، ومؤمنة، وشمس، وعائشة، منهنّ أمّ حفيدة إسماعيل الذي ابتزّ ملك بنيه عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
__________
(1) في اللمحة البدرية: «وبعد».
(2) في اللمحة البدرية: «في الآفاق».
(3) في اللمحة البدرية: «وسيمرّ ما يدلّ على جلالة قدره وعلوّ سلطانه».
(4) في اللمحة البدرية (ص 51): «ومستطرف».
(5) في اللمحة البدرية: «فمن ذلك قوله يخاطب».
(6) وزيره هو أبو سلطان عزيز بن علي بن عبد المنعم الداني، كما ورد في اللمحة البدرية (ص 52).
(7) في الأصل: «وإذا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من اللمحة البدرية.
(8) في اللمحة البدرية: «الإحصاء كثرة».
(9) في اللمحة البدرية: «النازل النازل».
(10) في اللمحة البدرية (ص 52): «أخيه المخلوع على يده».(1/362)
وزيره (1): كان وزيره، الوزير الجليل الفاضل، أبو سلطان (2)، لتقارب الشّبه، زعموا في السّن والصورة، وفضل الذّات، ومتانة (3) الدين، وصحّة الطبع، وجمال الرّواء، أغنى وحسنت واسطته، ورفعت إليه الوسائل (4)، وطرّزت باسمه الأوضاع، واتصلت (5) إلى أيامه أيام مستوزره، ثم صدرا من أيام وليّ عهده.
كتّابه: ولّي (6) له خطّة الكتابة والرياسة العليا في الإنشاء (7) جملة، منهم كاتب أبيه أبو بكر (8) بن أبي عمرو اللّوشي، ثم الأخوان أبوا (9) علي الحسن والحسين، ابنا محمد بن يوسف بن سعيد اللّوشي سبق الحسن وتلاه الحسين، وكانا توأمين ووفاتهما متقاربة. ثم كتب له الفقيه (10) أبو القاسم محمد بن محمد بن العابد الأنصاري، آخر الشيوخ، وبقية الصّدور والأدباء (11)، أقام كاتبا مدة (12) إلى أن أبرمه انحطاطه في هوى نفسه، وإيثاره المعاقرة، حتى زعموا (13) أنه قاء ذات يوم بين يديه. فأخّره عن الرّتبة (14)، وأقامه في عداد كتّابه (15) إلى أن توفي تحت رفده (16). وتولّى الكتابة الوزير أبو عبد الله بن الحكيم (17)، فاضطلع بها إلى آخر دولته.
قضاته: تولّى له خطّة القضاء قاضي أبيه الفقيه العدل (18) أبو بكر (19) بن محمد بن فتح الإشبيلي الملقّب بالأشبرون. تولّى قبل ذلك خطة السّوق، فلقي
__________
(1) في اللمحة البدرية: «وزراؤه».
(2) في اللمحة البدرية: «أبو سلطان عزيز بن علي بن عبد المنعم الداني».
(3) في اللمحة البدرية: «إلى متانة».
(4) في اللمحة البدرية: «الممادح».
(5) في اللمحة البدرية: «واتصلت أيامه إلى تمام أيام».
(6) في اللمحة البدرية: «تولّى».
(7) في اللمحة البدرية: «العليا لقلم الإنشاء».
(8) في اللمحة البدرية: «أبيه وابن كاتبه أبو بكر بن يوسف اللوشي اليحصبي ثم الإخوان».
(9) في الأصل: «أبو» والتصويب من اللمحة البدرية.
(10) في اللمحة البدرية (ص 53): «له أبو القاسم محمد بن عابد الأنصاري أحد الشيوخ».
(11) في اللمحة البدرية: «الأدباء».
(12) في اللمحة البدرية: «عنه مدة».
(13) في اللمحة البدرية: «لزعموا أنه قاء يوما».
(14) في اللمحة البدرية: «عن رتبته».
(15) في اللمحة البدرية: «كتّابه وتحت رفده».
(16) تحت رفده: تحت كنفه وعطائه.
(17) في اللمحة البدرية: «أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي الوزير لولده، فاضطلع».
(18) قوله: «الفقيه العدل» ساقط في اللمحة البدرية.
(19) في اللمحة البدرية: «أبو بكر محمد بن فتح بن علي الإشبيلي».(1/363)
سكران (1) أفرط في قحته، واشتدّ في عربدته (2)، وحمل على الناس، فأفرجوا عنه فاعترضه واشتدّ عليه حتى تمكّن منه بنفسه، واستنصر (3) في حدّه، وبالغ في نكاله واشتهر ذلك عنه، فجمع له أمر الشرطة وخطّة السوق، ثم ولّي القضاء، فذهب أقصى مذاهب الصّرامة، إلى أن هلك فولي (4) خطّة القضاء بعده الفقيه العدل أبو عبد الله محمد (5) بن هشام من أهل ألش، لحكاية (6) غبطت السلطان بدينه (7)، ودلّته على محلّه من العدل والفضل، فاتّصلت أيام قضائه إلى أيام (8) مستقضيه، رحمه الله.
جهاده: وباشر (9) هذا السلطان الوقائع، فانجلت ظلماتها عن صبح نصره، وطرّزت مواقعها (10) بطراز جلادته وصبره فمنها وقيعة المطران وغيرها، مما يضيق التأليف عن استقصائه. وفي (11) شهر المحرّم من عام خمسة وتسعين وستمائة، على تفئة (12) هلاك طاغية الروم، شانجه بن أذفونش، عاجل الكفّار (13) لحين دهشهم، فحشد أهل الأندلس، واستنفر المسلمين، فاغتنم الداعية، وتحرّك في جيش يجرّ الشّوك والشجر (14)، ونازل مدينة قيجاطة وأخذ بكظمها، ففتحها الله على يديه، وتملّك بسببها جملة من الحصون التي (15) ترجع إليها وكان الفتح في ذلك (16)
عظيما، وأسكنها جيشا من المسلمين، وطائفة من الحامية، فأشرقت العدوّ بريقه.
وفي صائفة عام تسعة وتسعين وستمائة، نازل مدينة القبذاق (17) فدخل جفنها، واعتصم من تأخّر أجله بقصبتها، ذات القاهرة العظيمة الشأن، الشهيرة في البلدان، فأحيط بهم، فخذلوا وزلزل الله أقدامهم فألقوا باليد، وكانوا أمنع من عقاب الجو وتملّكها على حكمه، وهي من جلالة الوضع، وشهرة المنعة، وخصب السّاحة،
__________
(1) في اللمحة البدرية: «سكرانا من الجند قد أفرط في القحة».
(2) في اللمحة البدرية: «العربدة».
(3) في اللمحة البدرية: «واستبصر».
(4) في اللمحة البدرية: «فتولّى».
(5) في اللمحة البدرية: «محمد بن محمد بن هشام».
(6) في اللمحة البدرية: «بحكاية».
(7) في اللمحة البدرية: «به».
(8) في اللمحة البدرية: «إلى تمام أيام مستقضيه، رحمهما الله تعالى».
(9) في اللمحة البدرية: «باشر، رحمه الله، الوقائع».
(10) في اللمحة البدرية: «مواقفها بطرر».
(11) في اللمحة البدرية (ص 54): «ففي شهر محرم».
(12) أي على حين موته وبلا إضاعة وقت.
(13) في اللمحة البدرية: «الكفر لحين الدهشة».
(14) في اللمحة البدرية: «والمدر».
(15) في اللمحة البدرية: «الحصون الراجعة إليها».
(16) في اللمحة البدرية: «بذلك».
(17) مدينة القبذاق من نواحي قرطبة.(1/364)
وطيب الماء، والوصول إلى أفلاذ (1) الكفر، والاطّلاع على عوراته، بحيث شهر.
فكان تيسّر (2) فتحها من غرائب الوجود، وشواهد اللّطف، وذلك في صلاة الظهر من يوم الأحد الثامن لشهر شوّال عام تسعة وتسعين وستمائة وأسكن بها رابطة المسلمين (3)، وباشر العمل في خندقها بيده، رحمه الله، [فتساقط الناس، من ظهور دوابّهم إلى العمل، فتمّ ما أريد منه سريعا.
وأنشدني شيخنا أبو الحسن الجيّاب يهنّئه بهذا الفتح: [الطويل]
عدوّك مقهور وحزبك غالب ... وأمرك منصور وسهمك صائب
وشخصك مهما لاح للخلق أذعنت ... لهيبته عجم الورى والأعارب
وهي طويلة] (4).
من كان على عهده من الملوك:
كان على عهده بالمغرب، السلطان الجليل، أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق، الملقّب بالمنصور وكان ملكا صالحا، ظاهر السذاجة، سليم الصدر، مخفوض الجناح، شارعا أبواب الدّالّة عليه منهم أشبه بالشيوخ منه بالملوك، في إخمال (5)
اللّفظ، والإغضاء عن الجفوة، والنداء بالكنية. وهو الذي استولى على ملك الموحّدين، واجتثّ شجرتهم من فوق الأرض، وورث سلطانهم، واجتاز إلى الأندلس، كما تقدّم مرّات ثلاثا (6) أو أزيد منها، وغزا العدوّ، وجرت بينه وبين السلطان المترجم به أمور، من سلم ومناقضة (7)، وإعتاب، وعتب، [حسبما تدلّ على ذلك القصائد الشّهيرة المتداولة وأولها ما كتب به على عهده، الفقيه الكاتب الصّدر، أبو عمرو بن المرابط، في غرض استنفاد للجهاد: [السريع]
هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو منجد؟] (8)
وتوفي السلطان المذكور بالجزيرة الخضراء في عنفوان وحشة بينه وبين هذا السلطان في محرم (9) خمسة وثمانين وستمائة وولي بعده
__________
(1) في اللمحة البدرية: «أفلاذ فؤاد الكفر».
(2) في اللمحة البدرية: «تيسير».
(3) في اللمحة: «من المسلمين».
(4) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(5) في اللمحة البدرية (ص 55): «في احتمال اللغط».
(6) في الأصل: «ثلاث» وهو خطأ نحوي.
(7) في اللمحة البدرية: «ومناصبة وعتب وإعتاب».
(8) ما بين القوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(9) في اللمحة البدرية (ص 55): «محرم من عام».(1/365)
ولده (1)، العظيم الهمّة، القوي العزيمة (2)، أبو يعقوب يوسف، وجاز إلى الأندلس على عهده، واجتمع به بظاهر مربلّة (3)، وتجدّد العهد، وتأكّد الودّ ثم عادت الوحشة المفضية إلى تغلب العدوّ على مدينة (4) طريف، فرضة المجاز الأدنى، واستمرّت أيام السلطان أبي يعقوب إلى آخر مدة السلطان المترجم (5) به، ومدة ولده بعده.
وبوطن تلمسان، أبو يحيى يغمور (6)، وهو يغمراسن بن زيّان بن ثابت بن محمد بن بندوس بن طاع الله بن علي بن يمل، وهو أوحد أهل (7) زمانه جرأة وشهامة، ودهاء، وجزالة، وحزما. مواقفه في الحروب (8) شهيرة، وكانت بينه وبين بني مرين وقائع، كان عليه فيها الظهور، وربما ندرت الممانعة وعلى ذلك فقويّ الشكيمة، ظاهر المنعة. ثم ولّي بعده ولده عثمان إلى تمام مدة السلطان المترجم به، وبعضا من دولة ولده.
وبوطن إفريقية، الأمير الخليفة، أبو عبد الله بن أبي زكريا بن أبي حفص، الملقّب بالمستنصر، المثل المضروب، في البأس (9) والأنفة، وعظم الجبروت (10)، وبعد الصّيت، إلى أن هلك سنة أربع (11) وسبعين وستمائة ثم ولده الواثق بعده، ثم الأمير أبو إسحاق وقد تقدّم ذكره. ثم كانت دولة الدّعيّ (12) ابن أبي عمارة المتوثّب على ملكهم ثم دولة أبي حفص مستنقذها من يده، وهو عمر بن أبي زكريا بن (13) عبد الواحد، ثم السلطان الخليفة الفاضل، الميمون النّقيبة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر (14) أبي عبد الله بن الأمير زكريا (15).
وبوطن النّصارى، بقشتالة، ألفنش (16) بن هراندة، إلى أن ثار عليه ولده شانجه، واقتضت الحال إجازة سلطان المغرب، واستجار به وكان من لقائه بأحواز الصّخرة من كورة تاكرنّا ما هو معلوم. ثم ملك (17) بعده ولده شانجه، واتّصلت
__________
(1) في اللمحة البدرية: «بعده السلطان المعظم البعيد الهمّة».
(2) في اللمحة البدرية: «العزمة».
(3) مربلة: ناحية من أعمال قبرة بالأندلس.
(4) في اللمحة البدرية: «جزيرة».
(5) في اللمحة البدرية: «المذكور ومدة ولده من بعد».
(6) في اللمحة البدرية: «يعمور بن زيان»
(7) كلمة «أهل» ساقطة في اللمحة البدرية.
(8) في اللمحة البدرية: «الحرب».
(9) في اللمحة البدرية: «البأو».
(10) في اللمحة البدرية (ص 56): «الجبروتية».
(11) في الأصل: «أربعة» وهو خطأ نحوي.
(12) في اللمحة البدرية: «الداعي».
(13) في اللمحة البدرية: «زكريا يحيى بن».
(14) في اللمحة البدرية: «المستنصر بالله».
(15) في اللمحة البدرية: «أبي زكريا».
(16) في اللمحة البدرية: «ألفنش فرانده».
(17) في اللمحة البدرية: «وملك».(1/366)
ولايته مدة أيام السلطان، وجرت بينهما خطوب إلى أن هلك عام أربعة (1) وسبعين (2)
وستمائة. وولّي بعده ولده هراندة سبعة عشر (3) عاما، وصار الملك إليه، وهو صبيّ صغير، فتنفّس مخنّق أهل الأندلس، وغزا سلطانهم (4) وظهر إلى آخر مدته.
وبرغون، ألفنش بن جايمش بن بطره بن جايمش، المستولي على بلنسية. ثم هلك وولّي بعده جايمش (5) ولده، وهو الذي نازل مدينة ألمرية على عهد نصر ولده، واستمرّت أيام حياته إلى آخر مدته. وكان لا نظير له في الدّهاء (6) والحزم والقوة.
ومن الأحداث في أيامه:
على عهده تفاقم الشّر (7)، وأعيا داء الفتنة، ولقحت حرب الرؤساء الأصهار من بني إشقيلولة، فمن دونهم، وطنب سرادق الخلاف، وأصاب الأسر وفحول الثروة الرؤساء، فكان بوادي آش الرئيسان أبو محمد وأبو الحسن (8)، وبمالقة وقمارش الرئيس أبو محمد عبد الله، وبقمارش رئيس آخر هو الرئيس أبو إسحاق. فأما الرئيس أبو محمد فهلك، وقام بأمره بمالقة، ولده، وابن أخت السلطان المترجم به. ثم خرج عنها في سبيل الانحراف والمنابذة إلى ملك (9) المغرب، ثم تصيّر أمرها إلى السلطان، على يد واليها من بني علي (10). وأما الرئيسان، فصابرا المضايقة، وعزما (11) على النطاق والمقاطعة بوادي آش زمانا طويلا وكان آخر أمرهما الخروج عن وادي آش إلى ملك المغرب معوّضين بقصر كتامة حسبما يذكر في أسمائهم إن بلّغنا الله إليه.
وفي أيامه كان (12) جواز السلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق إلى الأندلس مغازيا (13) ومجاهدا في سبيل الله في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة، وقد فسد ما بين سلطان النصارى وبين ابنه (14). واغتنم المسلمون الغرّة،
__________
(1) في الأصل: «أربع» وهو خطأ نحوي.
(2) في اللمحة البدرية: «وتسعين».
(3) في اللمحة البدرية: «سبع عشرة سنة».
(4) في اللمحة البدرية: «سلطانها».
(5) في اللمحة البدرية: «ولده جايمش الذي نازل ألمرية».
(6) في اللمحة البدرية: «في الحزم والدهاء».
(7) في اللمحة البدرية (ص 56): «تفاقم على عهده الشرّ».
(8) في اللمحة البدرية: «فكان بمدينة وادي آش وأبو حسن».
(9) في اللمحة البدرية: «إلى ملكة ملك».
(10) في اللمحة البدرية: «محلى».
(11) في اللمحة البدرية: «ومرنا على المقاطعة».
(12) في اللمحة البدرية: «جاز السلطان أمير المسلمين أبو يوسف».
(13) في اللمحة البدرية: «غازيا».
(14) في اللمحة البدرية: «ما بين ابن سلطان الروم وبين الملك أبيه».(1/367)
واستدعي سلطان المغرب إلى الجواز ولحق به السلطان المترجم به وجمع مجلسه بين المنتزين عليه وبينه وأجلت الحال عن وحشة. وقضيت الغزاة وآب السلطان إلى مستقرّه.
وفي العام بعده، كان (1) إيقاع السلطان ملك المغرب بالزعيم «ذنّونه»، واستئصال شأفته، وحصد شوكته. ثم عبر البحر ثانية بعد رجوعه إلى العدوة واحتلّ بمدينة طريف في أوائل ربيع الأول عام سبعة وسبعين وستمائة ونازل إشبيلية وكان اجتماع السلطانين بظاهر قرطبة فاتصلت اليد وصلحت الضمائر ثم لم تلبث الحال أن استحالت إلى فساد، فاستولى ملك المغرب على مالقة، بخروج المنتزي بها إليه، يوم (2) الأربعاء التاسع والعشرين لرمضان عام سبعة وسبعين (3)
وستمائة. ثم رجعت إلى ملك (4) الأندلس بمداخلة من كانت بيده ولنظره، حسبما يأتي بعد إن شاء الله.
وعلى عهده نازل طاغية الروم الجزيرة (5) الخضراء، وأخذ بمخنّقها، وأشرف على افتتاحها، فدافع (6) الله عنها، ونفّس حصارها (7)، وأجاز الرّوم بحرها على يد الفئة القليلة من المسلمين، فعظم المنح (8)، وأسفر الليل، وانجلت الشّدة، في وسط ربيع (9) الأول من عام ثمانية وسبعين وستمائة (10).
مولده: بغرناطة عام ثلاثة وثلاثين وستمائة. وأيام دولته ثلاثون سنة وشهر واحد، وستة أيام.
وفاته: من كتاب «طرفة العصر» من تأليفنا في التاريخ، قال: واستمرّت الحال إلى أحد وسبعمائة، فكانت في ليلة الأحد الثامن من شهر شعبان في صلاة العصر، وكان السلطان، رحمه الله في مصلّاه، متوجّها إلى القبلة لأداء فريضته، على أتمّ ما يكون عليه المسلم من الخشية والتأهّب، زعموا أن شرقا كان يعتاده لمادة كانت تنزل من دماغه، وقد رجمت الظنون في غير ذلك لتناوله عشيّة يومه كعكا اتخذت له بدار
__________
(1) في اللمحة البدرية: «كانت الوقيعة بالزعيم الكبير من زعماء الروم المسمى ذنونه».
(2) في الأصل: «إلى يوم» والتصويب من اللمحة البدرية (ص 58).
(3) في اللمحة البدرية: «وتسعين».
(4) في اللمحة البدرية: «ملكة السلطان بمداخلة من كانت لنظره إياه».
(5) كلمة «الجزيرة» ساقطة في اللمحة البدرية.
(6) في اللمحة البدرية: «فدفع».
(7) في اللمحة البدرية: «حصرها وأحان أجفان الروم لبحرها وعلى أيدي الفئة».
(8) في اللمحة البدرية: «الفتح».
(9) في اللمحة البدرية: «شهر ربيع».
(10) في الأصل: «ثمانية وسبعة وسبعين وستمائة»، والتصويب من اللمحة البدرية.(1/368)
وليّ عهده، والله أعلم بحقيقة ذلك. ودفن منفردا، عن مدفن سلفه، شرقيّ المسجد الأعظم، في الجنان المتّصل بداره (1). ثم ثني بحافده السلطان أبي الوليد، وعزّز (2)
بثالث كريم من سلالته، وهو السلطان أبو الحجاج بن أبي الوليد، تغمّد الله جميعهم برحمته (3)، وشملهم بواسع مغفرته وفضله.
__________
(1) في اللمحة البدرية: «بدارهم».
(2) في اللمحة البدرية: «ثم عزّز».
(3) في اللمحة البدرية: «بعفوه».(1/369)
فهرس المحتويات
إهداء 1
مقدمة المحقّق 3
أولا مؤلّفاته التاريخية 14
ثانيا مؤلّفاته في الجغرافيا والرحلات 15
ثالثا مؤلّفاته في التراجم 16
رابعا المؤلّفات الأدبية (شعرا ونثرا) 17
خامسا مؤلّفاته في الشريعة والتّصوّف والحثّ على جهاد النفس 20
سادسا مؤلّفاته في السياسة 22
سابعا مؤلّفاته في الطّبّ والأغذية 24
ثبت بأسماء مصادر ومراجع الدراسة والتحقيق 27
مقدمة المؤلّف 3
القسم الأوّل في حلى المعاهد والأماكن والمنازل والمساكن فصل في اسم هذه المدينة ووضعها على إجمال واختصار 13
فصل في فتح هذه المدينة ونزول العرب الشاميين من جند دمشق بها وما كانت عليه أحوالهم، وما تعلق بذلك من تاريخ 18
ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين بهذه الكورة من النصارى المعاهدين على الإيجاز والاختصار 21(1/370)
ذكر ما ينسب إلى هذه الكورة من الأقاليم التي نزلتها العرب بخارج غرناطة، وما يتصل بها من العمالة 25
فصل فيما اشتمل عليه خارج المدينة من القرى والجنّات والجهات 25
فصل 28
فصل 31
فصل 36
فصل فيمن تداول هذه المدينة من لدن أصبحت دار إمارة باختصار واقتصار 40
القسم الثاني في حلى الزّائر والقاطن والمتحرّك والسّاكن أحمد بن خلف بن عبد الملك الغساني القليعي 45
أحمد بن محمد بن أحمد بن يزيد الهمداني اللخمي 47
أحمد بن محمد بن أضحى بن عبد اللطيف بن غريب ابن يزيد بن الشّمر بن عبد شمس بن غريب الهمداني الإلبيري 47
أحمد بن محمد بن أحمد بن هشام القرشي 49
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جزيّ الكلبي 52
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سعدة بن سعيد بن مسعدة بن ربيعة بن صخر بن شراحيل بن عامر بن الفضل بن بكر بن بكّار بن البدر بن سعيد بن عبد الله العامري 56
أحمد بن محمد بن أحمد بن قعنب الأزدي 58
أحمد بن محمد بن سعيد بن زيد الغافقي 59
أحمد بن أبي سهل بن سعيد بن أبي سهل الخزرجي 59
أحمد بن عمر بن يوسف بن إدريس بن عبد الله بن ورد التميمي 60
أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن علي الأموي 60
أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي 62
أحمد بن عبد الحق بن محمد بن يحيى بن عبد الحق الجدلي 66(1/371)
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الصقر الأنصاري الخزرجي 68
أحمد بن أبي القاسم بن عبد الرحمن 71
أحمد بن إبراهيم بن الزّبير بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن الزبير بن عاصم بن مسلم بن كعب الثّقفي 72
أحمد بن عبد الولي بن أحمد الرعيني 75
أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري 76
أحمد بن عبد النور بن أحمد بن راشد رحمه الله 77
أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن محمد بن مصادف بن عبد الله 80
أحمد بن حسن بن باصة الأسلمي المؤقّت بالمسجد الأعظم بغرناطة 81
أحمد بن محمد بن يوسف الأنصاري 82
أحمد بن محمد الكرني 83
أحمد بن محمد بن أبي الخليل، مفرّج الأموي 83
أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمّار بن ياسر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم 88
غريبة في أمره مع حفصة 92
أحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد بن أحمد القرشي، المعروف بابن فركون 92
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان 93
أحمد بن أيوب اللّمائي 101
أحمد بن محمد بن طلحة 104
أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري 108
أحمد بن عباس بن أبي زكريا 125
أحمد بن أبي جعفر بن محمد بن عطيّة القضاعي 127
أحمد بن محمد بن شعيب الكرياني 134(1/372)
أحمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن حسين بن علي بن سليمان بن عرفة اللخمي 138
أحمد بن علي الملياني 143
أحمد بن محمد بن عيسى الأموي 144
أحمد بن الحسن بن علي بن الزيّات الكلاعي 145
إبراهيم بن محمد بن مفرّج بن همشك 151
انخلاعه للموحدين عمّا بيده وجوازه للعدوة، ووفاته بها 155
إبراهيم بن أمير المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ 155
إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاني، أبو إسحاق 159
إدبار أمره بهلاكه على يد الدّعيّ الذي قيّضه الله لهلاك حينه 163
إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن سهل بن مالك بن أحمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي 165
إبراهيم بن فرج بن عبد البر الخولاني 166
إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي 168
إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري 168
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الساحلي 170
إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أسد بن موسى بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أسد بن قاسم النميري 178
إبراهيم بن خلف بن محمد بن الحبيب بن عبد الله بن عمر بن فرقد القرشي العامري 191
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيدس بن محمود النفزي 193
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التّسوليّ 196
إبراهيم بن محمد بن علي بن محمد بن أبي العاصي التّنوخي 197
إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي 200
إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر 214(1/373)
الملوك على عهده 218
أبو بكر بن إبراهيم، الأمير أبو يحيى المسوفي الصحراوي 218
إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، أمير المؤمنين، الملقب بالمأمون، مأمون الموحدين 222
تصيّر الأمر إليه، وجوازه إلى العدوة 223
أسباط بن جعفر بن سليمان بن أيوب بن سعد السعدي سعد بن بكر بن عفان الإلبيري 228
أسلم بن عبد العزيز بن هشام بن خالد بن عبد الله بن خالد بن حسين بن جعفر بن أسلم بن أبان 229
أسد بن الفرات بن بشر بن أسد المرّي 231
أبو بكر المخزومي الأعمى الموروري المدوّري 231
أصبغ بن محمد بن الشيخ المهدي 235
أبو علي بن هدية 236
أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطّنجالي 237
بلكّين بن باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي 238
باديس بن حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي 240
ذكر مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيل بن نغرالة الإسرائيلي 243
مكان باديس من الذكاء وتولّعه بالقضايا الآتية 244
بكرون بن أبي بكر بن الأشقر الحضرمي 246
بدر مولى عبد الرّحمن بن معاوية الداخل 246
تاشفين بن علي بن يوسف أمير المسلمين بعد أبيه بالعدوة 247
ثابت بن محمد الجرجاني ثم الأسترآباذي 253
جعفر بن أحمد بن علي الخزاعي 255
جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة الخزاعي 257
الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص القرشي الفهري 259
الحسن بن محمد بن الحسن النباهي الجذامي 260
حسن بن محمد بن حسن القيسي 261
حسن بن محمد بن باصة 261(1/374)
الحسن بن محمد بن علي الأنصاري 262
الحسين بن عتيق بن الحسين بن رشيق التغلبي 264
حبّوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي 267
الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية 268
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن أمية 269
حكم بن أحمد بن رجا الأنصاري 271
حاتم بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسين بن عثمان بن سعيد بن عبد الملك بن سعيد بن عمّار بن ياسر 272
حباسة بن ماكسن بن زيري بن مناد الصّنهاجي 273
حبيب بن محمد بن حبيب 274
حمدة بنت زياد المكتّب 275
حفصة بنت الحاج الرّكوني 277
الخضر بن أحمد بن الخضر بن أبي العافية 281
خالد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي 286
داود بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي الأندي 287
رضوان النّصري الحاجب المعظّم 289
ترتيب خدمته وما تخلّل عن ذلك من محنته 291
زاوي بن زيري بن مناد الصّنهاجي 293
منصرفه عن الأندلس 296
زهير العامريّ، فتى المنصور بن أبي عامر 296
طلحة بن عبد العزيز بن سعيد البطليوسي وأخواه أبو بكر وأبو الحسن بنو القبطرنة 298
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر 301
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر الخزرجي 306(1/375)
من كان على عهده من الملوك بأقطار المسلمين والنصارى 311
محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي 316
ما نقل عنه من الفظاظة والقسوة 318
من كان على عهده من الملوك بالأقطار 320
محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الأنصاري الخزرجي 326
من كان على عهده من الملوك 330
ومن الأحداث في أيامه 332(1/376)
المجلد الثانى
تتمة قسم الثانى
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم
محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج ابن يوسف بن نصر الخزرجي (1)
أمير المسلمين لهذا العهد بالأندلس، صدر الصدور، وعلم الأعلام، وخليفة الله، وعماد الإسلام، وقدوة هذا البيت الأصيل، ونير هذا البيت الكريم، ولباب هذا المجد العظيم، ومعنى الكمال، وصورة الفضل، وعنوان السّعد، وطائر اليمن، ومحول الصّنع، الذي لا تبلغ الأوصاف مداه، ولا توفي العبارة حقّه، ولا يجري النظم والنثر في ميدان ثنائه، ولا تنتهي المدائح إلى عليائه.
أوّليّته: أشهر من إمتاع الضّحى، مستولية على المدى، بالغة بالسّعة بالانتساب إلى سعد بن عبادة عنان السماء، مبتجحة في جهاد العدا، بحالة من ملك جزيرة الأندلس، وحسبك بها، وهي بها في أسنى المزاين والحلي، وقدما فيه بحسب لمن سمع ورأى.
حاله: هذا السلطان أيمن أهل بيته نقيبة، وأسعدهم ميلادا وولاية، قد جمع الله له بين حسن الصورة، واستقامة البنية، واعتدال الخلق، وصحّة الفكر، وثقوب الذّهن، ونفوذ الإدراك، ولطافة المسائل، وحسن التأنّي وجمع له من الظّرف ما لم يجمع لغيره، إلى الحلم والأناة اللذين يحبّهما الله، وسلامة الصدر، التي هي من علامة الإيمان، ورقّة الحاشية، وسرعة العبرة، والتبريز في ميدان الطهارة والعفّة، إلى ضخامة التّنجّد، واستجادة الآلات، والكلف بالجهاد، وثبات القدم، وقوة الجأش، ومشهور البسالة، وإيثار الرّفق، وتوخّي السّداد، ونجح المحاولة. زاده الله من فضله،
__________
(1) ترجمة الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر في اللمحة البدرية (ص 113، 129) وأزهار الرياض (ج 4ص 34).(2/3)
وأبقى أمره في ولده، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية واختيارا، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدّس أبيه، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، لمخايل الخير، ومزية السّن، ومظنّة (1) البركة، وهو يافع، قريب العهد (2) بالمراهقة، فأنبته الله النّبات الحسن، وسدل به السّتر، وسوّغ العافية، وهنّأ العيش فلم تشحّ في مدته السماء، ولا كلب الأعداء، ولا تبدّلت الألقاب، ولا عونيت الشدائد، ولا عرف الخوف، ولا فورق الخصب، إلى أن كانت عليه الحادثة، ونابه التّمحيص الذي أكسبه الحنكة، وأفاده العبرة، فشهد بعناية الله في كفّ الأيدي العادية، وأخطأ ألم السّهام الرّاشقة، وتخييب الآمال المكايدة، وانسدال أروقة السّتر والعصمة، ثم العودة، الذي عرف الإسلام بدار الإسلام قدرها، وتملّأ عزّها ورجح وزنها، كما اختبر ضدّها فرصة الملك، وشاع العدل، وبعد الصيت، وانتشر الذّكر، وفاض الخير وغزر القطر، فظهرت البركات، وتوالت الفتوح، وتخلّدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل، ما يسعه الترتيب بحول الله.
ترتيب دولته الأولى: إذ هو ذو دولتين، ومسوّغ ولايتين، عزّزهما الله، بملك الآخرة، بعد العمر الذي يملأ صحايف البرّ، ويخلّد حسن الذّكر، ويعرف إلى الوسيلة، ويرفع في الرفيق الأعلى الدّرجة، عند الله خير وأبقى للذين آمنوا، وعلى ربّهم يتوكلون.
وزراؤه وحجّابه: انتدب إلى النّيابة عنه، والتّشمير إلى الحجابة ببابه، الشيخ القائد المعتمد بالتّجلّة، المتحول من الخدّام النّبهاء، المتسود الأبوة المخصوص بالقدح المعلّى من المزية، المسلّم في خصوصيّة الملك والتربية، ظهير العلم والأدب، وأمين الجدّ، ومولى السّلف، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد، وعقد سفرة (3)
السلطان، وبقية رجال الكمال من مشيخة (4) المماليك، وخيار الموالي، أبا النعيم رضوان، رحمه الله، فحمد الكلّ، وخلف السلطان، وأبقى الرّتب، وحفظ الألقاب، وبذل الإنصاف، وأوسع الكنف، واستدعى النّصيحة، ولم يأل جهدا في حسن السّيرة، وتظاهر المحض، وأفردني بالمزيّة وعاملني بما يرتدّ عنه جسر أطرف الموالاة والصّحبة، ووفّى لي الكيل الذي لا يقتضيه السّن، والقربة من الاشتراك في الرتبة، والتّزحزح عن الهضبة، والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة، والمحافظة على التّشيّع والقدمة، بلغ في ذلك أقصى الغايات، مدارج التخلق المأثور عن الجلّة،
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 113): «ومظنة الحصافة».
(2) في اللمحة: «قريب عهد بحال المراهقة».
(3) في اللمحة البدرية: «وعقدة السلطان».
(4) في اللمحة البدرية: «مشيخة ولاء بيتهم أبو النعيم رضوان».(2/4)
والتودّد إليّ المرّة بعد المرّة، واختصصت بفوت المدّة بالسلطان، فكنت المنفرد بسرّه دونه، ومفضي همّه، وشفاء نفسه، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته، أو تصيّر توجيه السّذاجة في معاملاته، وصلاح ما يتغيّر عليه من قلبه، إلى أن لحق بربّه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره:
أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، مطمح الطّواف (1)، وموفى الاختيار، ولباب القوم، وبقيّة السلف، جزما ودهاء، وتجربة وحنكة وجدّا وإدراكا، ناهيك من رجل فذّ المنازع، غريبها، مستحقّ التقديم، شجاعة وأصالة، ورأيا ومباحثة، نسّابة قبيله، وأضحى قسّهم، وكسرى ساستهم، إلى لطف السّجية، وحسن التأنّي، لغرض السلطان، وطرق التّنزل للحاجات، ورقّة غزل الشّفاعات، وإمتاع المجلس، وثقوب الذّهن والفهم، وحسن الهيئة. وزاده خصوصيّة ملازمته (2) مجلس الرّقاع (3) المعروضة، والرسّل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سرّه: قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إليّ أبوه المولى المقدّس، رحمه الله، من الوقوف على رأسه، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده، والكتابة والإنشاء والعرض والجواب، والخلعة والمجالسة، جامعا بين خدمة القلم، ولقب الوزارة، معزّز الخطط برسم القيادة، مخصوصا بالنيابة عنه في الغيبة، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة، مطلق أمور الإيالة، محكما في أشتاته تحكيم الأمانة، مطلق الراية، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العزّ، وتأكد الرّعي، وتمحّض القرب، فنقلني من جلسة المواجهة، إلى صفّ الوزارة وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصيّة، كافأ الله فضله، وشكر رعيه، وأعلى محلّه عنده.
وأصدر لي هذا الظّهير لثاني يوم ولايته: هذا ظهير كريم، صفي شربه. وسفّرني في الرسالة عنه، إلى السلطان، الخليفة الإمام، ملك المغرب، وما إليه من البلاد الإفريقية، أبي عنان، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى، عن كثير من الخدمة، ونوّه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة، فاخترت للكلّ والبدلة، وما صان عنه في سبيل التجلّة، وإن كان منتهى أطوار الرّفعة، الفقيه أبا محمد بن
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 116): «الطرف ومرمى الاختيار».
(2) في اللمحة البدرية (ص 117): «بملازمة».
(3) في اللمحة البدرية (ص 117): «مجلس العرض وملتقى الرسل الواردة وإجالة قداح المشورة».(2/5)
عطية (1)، مستنزلا عن قضاه وادي آش وخطابتها، فكان يتولّى ما يكتب بنظري، وراجعا لحكمي، ومتردّدا لبالي، مكفى المؤنة في سبيل الحمل الكلي، إلى وقوع الحادثة، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.
قضاته: جدّد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ الأستاذ الشريف (2)، نسيج وحده، وفريد دهره، إغرابا في الوقار، وحسن السّمت، وأصالة البيت (3)، وتبحّرا في علوم اللّسان، وإجهازا في فصل القضايا، وانفرادا ببلاغة الخطبة، وسبقا في ميدان الدهاء والرّجاحة، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، الجانح إلى الإيالة النّصرية من مدينة سبتة (4). وسيأتي التعريف به في مكانه، إن شاء الله.
وتوفي، رحمه الله، بين يدي حدوث الحادثة، فأرجىء الأمر بمكانه، إلى قدوم متلقّف الكرة، ومتعاور تلك الخطّة، الشيخ الفقيه القاضي، أبي البركات قاضي أبيه، ووليها الأحقّ بها بعده، إذ كان غايبا في السّفارة عنه، فوقع التّمحيص قبل إبرام الأمر على حال الاستنابة.
الملوك على عهده: وأوّلهم بالمغرب، السلطان، الإمام (5)، أمير المسلمين، أبو عنان (6) ابن أمير المسلمين أبي الحسن (7) ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ، البعيد الشأو (8) في ميدان السّعادة، والمصمي أغراض السّداد، ومعظّم (9) الظّفر، ومخوّل الموهبة، المستولي على آماد الكمال (10)، عقلا وفضلا وأبّهة ورواءا، وخطّا وبلاغة، وحفظا وذكاء (11) وفهما وإقداما (12)، تغمّده الله برحمته، بعثني إلى بابه رسولا على إثر بيعته، وتمام أمره،
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 116): «الفقيه الكاتب أبا محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية»
(2) كلمة «الشريف» ساقطة في اللمحة البدرية (ص 116).
(3) قوله: «وأصالة البيت» ساقط في اللمحة البدرية (ص 116).
(4) في اللمحة البدرية (ص 116): «سبتة إلى أخريات شعبان من عام ستين وسبعمائة، وتوفي رحمه الله».
(5) في اللمحة البدرية (ص 117): «الشهير».
(6) في اللمحة البدرية: «المسلمين فارس ابن».
(7) في اللمحة البدرية: «أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب».
(8) في اللمحة البدرية: «شأو السعادة، المعمى».
(9) في اللمحة البدرية: «مطعم».
(10) في اللمحة البدرية: «الآماد البعيدة الكمالية أبهة».
(11) في اللمحة البدرية (ص 117): «وإدراكا».
(12) في اللمحة البدرية: «وإقداما وشجاعة».(2/6)
وخاطبا إثره وودّه، مسترفدا من منحة قبوله، فألفيت بشرا مبذولا، ورفدا ممنوحا، وعزّا باذخا، يضيق الزمان عن جلالته، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور، وأنشدته بين يدي المخاطبة، ومضمن الرسالة: [المنسرح]
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدّجى قمر
فأحسب وكفى، واحتفل واحتفى، وأفضت بين يديه كرمته، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد رحب. هاج به الخدّام أسدا، أرود، شثن الكفّين، مشعر اللّبدة، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا به، من بعد إقلاعه، من بعض كواه، وأثارته من خلفه، واستشاط وتوقّد بأسا. وجلب ثور عبل الشّوى، منتصب المروى، يقدمه صوار من الجواميس، فقربت الخطى، وحميت الوغى، وبلغ الزئير والجوار ما شاء، في موقف من ميلاد الشيم العلى يخشى الجبان مقارعة العدا، ويوطن نفسه الشجاع على ملاقاة الرّدى، وخار الأسد عن المبارزة، لما بلغ منه ثقافا عن رد المناوشة، ومضطلعا بأعباء المحاملة، فتخطاه إلى طائفة من الرّجالة، أولي عدّة، وذوي دربة، حمل نفسه متطارحا كشهاب الرّجم، وسرك الدّجى، وأخذته رماحهم بإبادته، بعد أن أردى بعضهم، وجدّل بين يدي السلطان، متخبطا في دمه.
وعرّض بعض الحاضرين، وأغرى بالنظم في ذلك، فأنشدته: [الكامل]
أنعام أرضك تقهر الآسادا ... طبعا كسا الأرواح والأجسادا
وخصائص لله بثّ ضروبها ... في الخلق ساد لأجلها من سادا
إن الفضائل في حماك بضائع ... لم تخش من بعد النّفاق كسادا
كان الهزبر محاربا فجزيته ... بجزاء من في الأرض رام فسادا
فابغ المزيد من آلائه بشكره ... وارغم بما خوّلته الحسّادا
فاستحسن تأتّي القريحة، وإمكان البديهة، مع قيد الصّفة، وهيبة المجلس.
وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب، ومهاداة أثيرة، وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوعة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ستة وخمسين وسبع مائة، وقد نجح السّعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمّن رحلي الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفي، زعموا، بحيلة، وقيل: حتف أنفه، لمّا نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبّر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه، وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من
تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلّة، من أهل بيته. جدّد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب، وأغلظ العقاب، وصيّر إيالته أضيق من الخدّ. وأمدّ الأندلس، وهزم الأضداد، وخلّد الآثار، وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرّك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرّت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر (1) لذي حجة من عام تسعة (2) وخمسين وسبعمائة.(2/7)
وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب، ومهاداة أثيرة، وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوعة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ستة وخمسين وسبع مائة، وقد نجح السّعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمّن رحلي الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفي، زعموا، بحيلة، وقيل: حتف أنفه، لمّا نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبّر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه، وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من
تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلّة، من أهل بيته. جدّد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب، وأغلظ العقاب، وصيّر إيالته أضيق من الخدّ. وأمدّ الأندلس، وهزم الأضداد، وخلّد الآثار، وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرّك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرّت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر (1) لذي حجة من عام تسعة (2) وخمسين وسبعمائة.
وصار الأمر إلى ولده المسمى بالسّعيد، المكنى بأبي بكر، مختار وزيره ابن عمر الفدودي. ورام ضبط الإيالة المشرقية فأعياه ذلك، وبايع الجيش الموجّه إليها منصور بن سليمان (3)، ولجأ الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد، مثوى الخلافة المرينيّة، فكان أملك بها. ونازله منصور بن سليمان، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوّة شكيمته. وغادر السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن (4)، أخو الهالك السلطان أبي عنان، الأندلس، وقد كان استقرّ بها بإزعاج أخيه إيّاه عن المغرب، كما تقدم في اسمه، فطلع على الوطن الغربيّ بإعانة من ملك النصارى، عانى فيها هولا كثيرا، واستقرّ بآخرة بعد إخفاق شيعته المرّاكشية، بساحل طنجة، مستدعى ممن بجبال غمارة، ودخلت سبتة وطنجة في طاعته. وفرّ الناس عن منصور بن سليمان، ضربة لازب، وتقبّض عليه وعلى ابنه، فقتلا صبرا، نفعهما الله.
وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر لشعبان عام ستين وسبعمائة، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان من لحاق السلطان برندة، واستعانته على ردّ ملكه ما يأتي في محلّه، والبقاء لله سبحانه.
وبتلمسان السلطان أبو حمّو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمرس (5) بن زيان، قريب العهد باسترجاعها، لأول أيام السعيد.
وبتونس (6) الأمير إبراهيم ابن الأمير أبي بكر ابن الأمير أبي حفص ابن الأمير أبي بكر بن أبي حفص بن إبراهيم بن أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد، لنظر الشيخ
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 117): «الرابع والعشرين من ذي حجة عام تسعة».
(2) في الأصل: «تسع» وهو خطأ نحوي.
(3) في اللمحة البدرية: «منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق».
(4) في اللمحة البدرية: «أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب».
(5) في الأصل: «يغمراس» والتصويب من اللمحة البدرية (ص 119).
(6) في اللمحة البدرية: «وبإفريقية إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى أبي بكر بن أبي حفص».(2/8)
رأس الدولة، وبقية الفضلاء، الشهير الذكر، الشائع الفضل، المعروف السياسة، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن تافراقين، تحت مضايقة من عرب الوطن.
ومن ملوك النصارى بقشتالة (1)، بطره بن ألهنشه بن هراندة بن شانجه بن ألفنش (2) بن هرانده، إلى الأربعين (3)، وهو كما اجتمع وجهه، تولى (4) الملك على أخريات أيام أبيه في محرم عام أحد وخمسين وسبعمائة. وعقد معه سلم (5) على بلاد المسلمين. ثم استمرّ ذلك بعد وفاته في دولة ولده المترجم به، وغمرت الرّوم فتنة (6)
وألقت العصا، وأغضت القضاء، وأجالت على الكثير من الكبار الرّدى، بما كان من إخافته سائر إخوانه لأبيه، من خاصّته، العجلة الغالبة على هواه، فنبذوه على سوء بعد قتلهم أمّهم، وانتزوا عليه بأقطار غرسهم فيها أبوهم قبل موته بمرعيّة أمّهم. وسلك لأول أمره سيرة أبيه في عدوله عن عهوده بمكابيه لمنصبه، إلى اختصاص عجلة، أنف بحراه كبار قومه، من أجل ضياع بذره وانقراض عقبه، فمال الخوارج عليه، ودبّروا القبض عليه، وتحصّل في أنشوطة، يقضي أمره بها إلى مطاولة عقله أو عاجل خلع، لولا أنه أفلت وتخلّص من شرارها. فاضطره ذلك إلى صلة السّلم، وهو الآن بالحالة الموصوفة.
الأحداث في أيامه:
لم يحدث في أيامه حدث إلّا العافية المسحّة والهدنة المتّصلة، والأفراح المتجدّدة، والأمنة المستحكمة، والسّلم المنعقدة. وفي آخر جمادى عام ستة (7)
وخمسين وسبعمائة لحق بجبل الفتح (8)، فشمّم شعبته، وأبرّ مبتوته (9)، كان على ثغره العزيز على المسلمين، من لدن افتتاحه، الموسوم الخطة، المخصوص بمزية تشييده، عيسى بن الحسن بن أبي منديل (10)، بقيّة الشيوخ أولي الأصالة والدّهاء، والتزيّي بزي الخير، والمثل السائر في الانسلاخ من آية السعادة، والإغراق في سوء العقبى، والله غالب على أمره، فكان أملك بمصامّه، وقرّ عينه بلقاء ولده، والتمتع منه بجواد عتيق. ملّي من خلال السياسة، أرداه سوء الحظ، وشؤم النّصبة، واظلمّ ما بينه وبين
__________
(1) في اللمحة البدرية: «وبقشتالة».
(2) في اللمحة البدرية: «ألهونش».
(3) في اللمحة البدرية: «أربعين».
(4) في اللمحة البدرية: «ولي».
(5) في اللمحة البدرية: «السلم».
(6) كلمة «فتنة» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من اللمحة.
(7) في الأصل: «ست» وهو خطأ نحوي.
(8) هو جبل طارق.
(9) أي قام بتعلية أسواره وإصلاح أجزائه الخربة الهالكة. الإحاطة (ج 2ص 23) حاشية رقم 3.
(10) في اللمحة البدرية (ص 120): «منديل العسكري».(2/9)
سلطانه، مسوغه برداء العافية على تفه صغر، وملبسه رداء العفّة على قدح الأمور، أبدى منها الخوف على ولده، وعرض ديسم عزمه، على ذوبان الجبل، فانحطّوا في هواه، وغرّوه بكاذب عصبة، فأظهر الامتناع سادس ذي قعدة من العام المذكور، واتصلت الأخبار، وساءت الظنون، وضاقت الصدور، ونكست الرءوس لتوقّع الفاقرة، بانسداد باب الصّريخ، وانبتات سبب (1) النّصرة، وانبعاث طمع العدوّ، وانحطّت الأطماع في استرجاعه واستقالته، لمكان حصانته، وسموّ الذّروة، ووفور العدّة، ووجود الطّعمة، وأخذه بتلاشي الفرصة. ثم ردفت الأخبار بخروج جيشه صحبة ولده إلى منازلة أشتبونة (2)، وإخفاق أمله فيها، وامتساك أهلها بالدعوة، وانتصافهم من الطائفة العادية فبودر إليها من مالقة بالعدد. وخوطب السلطان من ملك المغرب، أيّده الله، بالجليّة، فتحققت المنابذة واستقرّت الظنون. وفي الخامس والعشرين من شهر ذي قعدة، ثار به أهل الجبل، وتبرّأ منه أشياعه، وخذلوه بالفرار، فأخذت شعابه ونقابه، فكرّ راجعا أدراجه إلى القاعدة الكبيرة، وقد أعجله الأمر، وحملته الطمأنينة على إغفال الاستعداد بها، وكوثر (3) فألقي به، وقد لحق به بعض الأساطيل بسبتة، لداعي تسوّر توطّى على إمارته، فقيّد هو وابنه، وخيض بهما البحر للحين، ولم ينتطح فيها عنزان، رحمه الله سنام فئة ألقت بركها، وأناخت بكلكلها، وقد قدّر أنها واقعة، ليس لها من دون الله كاشفة، فقد كان من بالجبل برموا على إيالة ذينك المرتسمين، وألقوا أجوارها، وأعطوهما الصفقة، بما أطمعهما في الثورة، ولكل أجل كتاب. واحتمل إلى الباب السلطاني بمدينة فاس، وبرز الناس إلى مباشرة إيصالهما مجلوبين في منصّة الشهرة، مرفوعين في هضبة المثلة. ثم أمضى السلطان فيهما حكم الفساد، بعد أيام الحرابة، فقتل الشيخ بخارج باب السمّارين من البلد الجديد، بأيدي قرابته، فكان كما قال الأول: [الكامل]
أضحت رماح بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق
وقطعت رجل الولد ويده، بعد طول عمل وسوء تناول، ولم ينشب أن استنقذه حمامه فأضحى عبرة في سرعة انقلاب حالهما من الأمور الحميدة، حسن طلعة، وذياع حمد، وفضل شهرة، واستفاضة خيريّة، ونباهة بيت، وأصالة عزّ، إلى ضدّ هذه الخلال، وقانا الله مصارع السوء، ولا سلب عنا جلباب السّتر والعافية.
__________
(1) كلمة «سبب» ساقطة في اللمحة البدرية.
(2) أشتبونة بالإسبانية: وهي بلدة تقع على البحر المتوسط، وشمال جبل طارق.
الإحاطة (ج 2ص 24) حاشية رقم 3.
(3) أي كثر خصومه.(2/10)
وسدّ السلطان ثغر الجبل بآخر من ولده اسمه السعيد، وكنيته أبو بكر، فلحق به في العشر الأول من المحرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، ورتّب له بطانته، وقدّر له أمره، وسوّغه رزقا رغدا، وعيشا خفضا. وبادر السلطان المترجم له، إلى توجيه رسوله قاضيا حقّه، مقرّر السّرور بجواره، وأتبع ذلك ما يليق من الحال من برّ ومهاداة ونزل، وتعقبت بعد أيام المكافات، فاستحكم الودّ، وتحسنت الألفة إلى هذا العهد، والله وليّ توفيقهم ومسني الخير والخيرة على أيديهم.
الحادثة التي جرت عليه:
واستمرت أيامه كأحسن أيام الدول، خفض عيش، وتوالي خصب، وشياع أمن، إلّا أنّ شيخ الدولة القائد أبا النعيم، رحمه الله، أضاع الحزم. وإذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، سلب ذوي العقول عقولهم، بما كان من أمنه جانب القصر الملزم دار سكناه، من علية فيها أخو السلطان، بتهاونه، يحيل أمّه المداخلة في تحويل الأمر إليه، جملة من الأشرار، دار أمرهم على زوج ابنتها الرئيس محمد بن إسماعيل بن فرج من القرابة الأخلاف، وإبراهيم بن أبي الفتح، والدليل الموروري، وأمدّته بالمال، فداخل القوم جملة من فرسان القيود، وعمرة السّجون، وقلاميد الأسوار.
وكانت تتردّد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا الخبيث، المنزوع العصمة، خارج القلعة حتى تمّ يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من العام، اجتمعوا وقد خفي أمرهم، وقد تألّفوا عددا يناهز المائة بالقوس الداخل من وادي هدارّه إلى البلد، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء، وكان بسورها ثلم، لم يتمّ ما شرعوا فيه من إصلاحه فنصبوا سلما أعدّ لذلك، وصعدوا منه. ولمّا استوفوا، قصدوا الباب المضاع المسلحة، للثقة بما قبله فلمّا تجاوزوه أعلنوا بالصياح، واستغلظوا بالتهويل، وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء، فقصدت طائفة منهم دار الشيخ القائد أبي النّعيم فاقتحمته غلابا وكسرت أبوابه وقتلته في مضجعه وبين أهله وولده، وانتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير، الذي قامت بدعوته، فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحوّلا بأهله إلى سكنى «جنّة العريف» خارج القلعة، فلمّا طرقه النبأ وقرعت سمعه الطبول سدّده الله وساند أمره في حال الحيرة، إلى امتطاء جواد كان مرتبطا عنده في ثياب تبذّله ومصاحبا لأفراد من ناسه وطار على وجهه، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته، وطرق مكانه بأثر ذلك، فلم يلف فيه، واتّبع فأعيا المتبع. ومن الغد، استقام الأمر لأولي الثورة، واستكملوا لصاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم بالأزمّة، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي آش، بعد أن ثبت أهلها مع
المعتصم بها، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق، وخيف فوات البدر ونفاد القوة، فشرع السلطان في النظر لنفسه، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحديث في شأنه، فتمّ ذلك ثاني يوم عيد النّحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان، ساكنّا بجنتي المنسوبة إليّ من الحضرة، منتقلا إليها بجملتي، عادة المترفين، إذ ذاك من مثلي، فتخطاني الحتف، ونالتني النكبة، فاستأصلت النعمة العريضة، والجدة الشهيرة، فما ابتقت طارفا ولا تليدا، ولا ذرت قديما ولا حديثا، والحمد لله مخفّف الحساب، وموقظ أولي الألباب، ولطف الله بأن تعطّف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطّه، وجعل أمري من فصول قصده. ففكّت عني أصابع الأعداء، واستخلصت من أنيابهم، ولحقت بالسلطان بوادي آش، فذهب البأس، واجتمع الشّمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور، فكان النزول بفحص ألفنت، ثم الانتقال إلى لوشة، ثم إلى أنتقيره، ثم إلى ذكوان، ثم إلى مربلّة، يضم أهل كلّ محل من هذه مأتما للحسرة، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر، والاستقرار بمدينة سبتة، وكفى بالسلامة غنما، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.(2/11)
وكانت تتردّد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا الخبيث، المنزوع العصمة، خارج القلعة حتى تمّ يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من العام، اجتمعوا وقد خفي أمرهم، وقد تألّفوا عددا يناهز المائة بالقوس الداخل من وادي هدارّه إلى البلد، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء، وكان بسورها ثلم، لم يتمّ ما شرعوا فيه من إصلاحه فنصبوا سلما أعدّ لذلك، وصعدوا منه. ولمّا استوفوا، قصدوا الباب المضاع المسلحة، للثقة بما قبله فلمّا تجاوزوه أعلنوا بالصياح، واستغلظوا بالتهويل، وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء، فقصدت طائفة منهم دار الشيخ القائد أبي النّعيم فاقتحمته غلابا وكسرت أبوابه وقتلته في مضجعه وبين أهله وولده، وانتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير، الذي قامت بدعوته، فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحوّلا بأهله إلى سكنى «جنّة العريف» خارج القلعة، فلمّا طرقه النبأ وقرعت سمعه الطبول سدّده الله وساند أمره في حال الحيرة، إلى امتطاء جواد كان مرتبطا عنده في ثياب تبذّله ومصاحبا لأفراد من ناسه وطار على وجهه، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته، وطرق مكانه بأثر ذلك، فلم يلف فيه، واتّبع فأعيا المتبع. ومن الغد، استقام الأمر لأولي الثورة، واستكملوا لصاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم بالأزمّة، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي آش، بعد أن ثبت أهلها مع
المعتصم بها، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق، وخيف فوات البدر ونفاد القوة، فشرع السلطان في النظر لنفسه، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحديث في شأنه، فتمّ ذلك ثاني يوم عيد النّحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان، ساكنّا بجنتي المنسوبة إليّ من الحضرة، منتقلا إليها بجملتي، عادة المترفين، إذ ذاك من مثلي، فتخطاني الحتف، ونالتني النكبة، فاستأصلت النعمة العريضة، والجدة الشهيرة، فما ابتقت طارفا ولا تليدا، ولا ذرت قديما ولا حديثا، والحمد لله مخفّف الحساب، وموقظ أولي الألباب، ولطف الله بأن تعطّف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطّه، وجعل أمري من فصول قصده. ففكّت عني أصابع الأعداء، واستخلصت من أنيابهم، ولحقت بالسلطان بوادي آش، فذهب البأس، واجتمع الشّمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور، فكان النزول بفحص ألفنت، ثم الانتقال إلى لوشة، ثم إلى أنتقيره، ثم إلى ذكوان، ثم إلى مربلّة، يضم أهل كلّ محل من هذه مأتما للحسرة، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر، والاستقرار بمدينة سبتة، وكفى بالسلامة غنما، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وكان الرحيل إلى باب السلطان، تحت برّ لا تسعه العبارة، ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألمّ عاقه عن الإصحار والتغنّي على البعد، يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده، في مركب هائل، واحتفال رائع رائق، فعورض فيه النزول عن الصّهوات، والبرّ اللائق بمناصب الملوك، والوصول إلى الدار السلطانية، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين يدي مؤمّله، فأنشدته مغريا بنصره، كالوسيلة بقولي (1): [الطويل]
سلا هل لديها من مخبّرة ذكر؟ ... وهل أعشب الوادي ونمّ به الزّهر؟
فهاج الامتعاض، وسالت العبرات، وكان يوما مشهودا، وموقفا مشهورا، طال به الحديث، وعمرت به النوادي، وتوزّعتنا النزائل على الأمل، شكر الله ذلك وكتبه لأهله، يوم الافتقار إلى رحمته. واستمرّت الأيام، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس، والسلطان تغلبه المواعيد، وتونسه الآمال، والأسباب تتوفّر، والبواعث تتأكّد. وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، واستقرّت بي الدار بمدينة سلا، مرابطا، مستمتعا بالغيبة، تحت نعمة كبيرة، وإعفاء من التكليف.
__________
(1) البيت مطلع قصيدة من 75بيتا وردت في الكتيبة الكامنة (ص 125122) وكتاب العبر (م 7 ص 642638) ونفح الطيب (ج 7ص 8480) وأزهار الرياض (ج 1ص 200196).(2/12)
وفي اليوم السابع لشوال من عام التاريخ، قعد السلطان بقبّة العرض بظاهر جنّة المصارة لتشييعه (1)، بعد اتخاذ ما يصلح لذلك من آلة وحلية، وقد برز الخلق، لمشاهدة ذلك الموقف المسيل للدموع، الباعث للرّقّة، المتبع بالدّعوات، لما قذف الله في القلوب من الرحمة، وصحبه به في التغرّب من العناية، فلم تنب عنه عين، ولا خمل له موكب، ولا تقلّصت عنه هيبة، ولا فارقته حشمة، كان الله له في الدنيا والآخرة. وأجاز، واضطربت الأحوال، بما كان من هلاك معينه السلطان أبي سالم، وغدر الخبيث المؤتمن على قلعته به، عمر بن عبد الله بن علي، صعّر الله حزبه، وخلّد خزيه، وسقط في يده، إلّا أنّه ثبتت في رندة من إيالة الأندلس، الراجعة إلى إيالة المغرب، قدمه، فتعلّل بها، وارتاش بسببها، إلى أن فتح الله عليه، وسدّد عزمه، وأراه لمّا ضعفت الحيل صنعه، فتحرّك إلى برّ مالقة، وقد فغر عليها العدوّ فمه، ثم أقبل على مالقة، مستميتا دونها، فسهّل الله الصّعب، وأنجح القصد، واستولى عليها، وانثالت عليه لحينها البلاد، وبدا الريّس المتوثّب على الحضرة، بعد أن استوعب الذّخيرة والعدّة، في جملة ضخمة ممن خاف على نفسه، لو وفّى بذمّة الغادر وعهده، واستقرّ بنادي صاحب قشتالة، فأخذه بجريرته (2)، وحكّم الحيلة في جنايته وغدره، وألحق به من شاركه في التّسوّر من شيعته، ووجّه إلى السلطان برءوسهم تبع رأسه. وحثّ السلطان أسعده الله خطاه إلى الحضرة، يتلقّاه الناس، مستبشرين، وتتزاحم عليه أفواجهم مستقبلين مستغفرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته، وقطع دابر الكافرين.
وكان دخول السلطان دار ملكه، وعوده إلى أريكة سلطانه، وحلوله بمجلس أبيه وجدّه، زوال يوم السبت الموفي عشرين لجمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، جعلنا الله من همّ الدنيا على حذر، وألهمنا لما يخلص عنده من قول وعمل. وتخلّف الأمير وولده بكره، أسعده الله، بمدينة فاس فيمن معه من جملة، وخلّفه من حاشية ولد المستولي على ملك المغرب في إمساكه إلى أن يسترجع رندة في معارضة هدفه. ثم إن الله جمع لأبيه بجمع شمله، وتمّم المقاصد بما عمّه من سعده. وكان وصولي إليه معه، في محمل اليمن والعافية، وعلى كسر التّيسير من الله والعناية يوم السبت الموفي عشرين شعبان عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
__________
(1) أي لتشييع سلطان غرناطة المخلوع.
(2) الجريرة: الذنب والجناية. لسان العرب (جرر).(2/13)
ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكور:
هنّأ المسلمين ببركتها الوافرة، ومزاياها المتكاثرة، السلطان، أيّده الله، قد مرّ ذكره، ويسّر الله من ذلك ما تيسّر.
وزراؤه: اقتضى حزمه إغفال هذا الرّسم جملة، مع ضرورته في السياسة، وعظم الدخول، حذرا من انبعاث المكروه له من قبله، وإن كان قدّم بهذا اللقب في طريق منصرفه إلى الأندلس، وأيّاما من مقامه برندة، فنحله عن كره، علي بن يوسف بن كماشة، من عتاق خدّامه وخدّام أبيه، مستصحبا إيّاه، مسدول التّجمّل على باطن نفرة، مختوم الجرم، على شوكه، في حطبه في حبل المتغلب، وإقراضه السيئة من الحسنة، والمنزل الخشن، إلى الإنفاق منه على الخلال الذّميمة، ترأسها خاصّة الشّوم، علاوة على حمل الشيخ الغريب الأخبار، والطّمع في أرزاق الدور، والاسترابة بمودّة الأب، وضيق العطن، وقصر الباب، وعيّ اللّسان، ومشهور الجبن. ولمّا وقع القبض، وساء الظنّ، بعثه من رندة إلى الباب المريني ليخلي منه جنده، ويجسّ مرض الأيام، بعد أن نقل من الخطة كعبه، فتيسّر بعد منصرفه الأمر، وتسنّى الفتح.
وحمله الجشع الفاضح، والهوى المتّبع، على التشطّط لنفسه، والكدح لخويصته بما أقطعه الجفوة، وعسر عليه العودة على السلطان بولده، إلى أن بلغ الخبر برجوع أمره، ودخول البلاد في طاعته، فألقى ما تعيّن إليه، وأهوى به الطمع البالغ في عرش الدولة، ويرتاش في ريق انتقامها. وتحرّك وراية الإخفاق خافقة على رأسه، قطب مخلصه، وجؤجوة عوده، من شيخ تدور بين فتكه رحى جعجعة، وتثور بين أضلاعه حيّة مكيدة، وينعق فوق مساعيه غراب شوم وطيرة. وحدّث حرفاؤه صرفا من مداخلة سلطان قشتالة، أيام هذه المجاورة، فبلغ أمنيته من ضرب وعد واقتناء عهد، واتخاذ مدد، وترصيد دار قرار، موهما نفسه البقاء والتعمير والتملّي، وانفساح المدة والأمر، وقيادة الدّجن (1) عند تحوّل الموطن لملّة الكفر، يسمح لذلك، لنقصان عقله، وقلّة حيائه وضعف غيرته. وطوى المراحل، وقيّض حمّى تزلزل لها فكّاه، أضلّها الحسرة، وانتزاء الخبائث. وتلقّاه بمالقة، إيعاز السلطان بالإقامة بها، لما يتّصل به من سوء تصريفه، ثم أطلع شافع الحياء في استقامة وطنه طوق عتبه، وصرفه إلى منزله، ناظرا في علاج مرضه. ثم لمّا أفاق وقفه دون حدّه، ولم يسند إليه شيئا من أموره، فشرع في ديدنه من الفساد عليه، وتمرّس سلطان قشتالة، شاكيا إليه بثّه، وأضجر لسكنى باديته بالثّغر، فراب السلطان أمره، وأهمّه شأنه، فتقبّض عليه وعلى ولده، وصرفا في
__________
(1) يقصد بهم المدجنين وهم المسلمون الأندلسيون الذين بقوا في أرضهم التي افتتحها النصارى.(2/14)
جملة من دائرة السّوء ممن ثقلت وطأته، فغرّبوا إلى تونس، أوائل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحجّ، واستقرّ ببجاية يريد المغرب، حنّ إلى جوار النّصرانية، التي ريم سلفه العبوديّة إليها، فعبر البحر إلى برجلونة (1)، ينفض عناء طريق الحجّ على الصّلبان، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود، تقبيل أيدي الكفّار.
ثم قصد باب المغرب رسولا عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين، فلم ينجح فيه قصده، فتقاعد لمّا خسر فيه ضمانه، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة، وعنّ على كتب إليه بخطّه، يتنفّق عنده ويغريه بالمسلمين، فتقبّض عليه، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقرّ حاله إلى اليوم، وأبرأ إلى الله من التّجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.
ولمّا وفدت على السلطان بولده، وقرّت عيني بلقائه، تحت سداده وعزّه، وفوق أريكة ملكه، وأدّيت ما يجب من حقّه عرضت عليه غرضي، ونفضت له خزانة سرّي، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي، وصرفت إلى التّشريق (2)
وجهي، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة، ولاطفني بما عاملت البرّ بين الدّعر والضّنانة، ويضرب الآماد، وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن مؤازرته أبرّ القرب، وراكنني إلى عهد بخطّه، فسح فيه لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب، صلوات الله عليه، في طلب الزّيادة على تلك النّسبة، وأشهد من حضر من العلية، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكّم عقلي في اختيار عقله، وغطّى من جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواه في التحول ثانيا وقصدي، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت بالله، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحقّ بالجهاد، ورمى إليّ بدنياه، وحكّمني فيما ملكته يداه، وغلّبني على أمره لهذا العهد، والله غالب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدّة أجرى الله فيها، من يمن النّقيبة، واطّراد السّداد، وطرد الهوى، ورفض الزّور، واستشعار الجدّ، ونصح الدّين، وسدّ الثغور، وصون الجباية، وإنصاف المرتزقة، ومحاولة العدوّ، وقرع الأسماع بلسان الصّدق، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة، وقدح زناد الرّجولة، ما هو معلوم، يعضّد دعواه، ولله المنّة، سجية السّذاجة، ورفع التّسمّت، وتكوّر المنسأة، وتفويت العقار في سبيل القربة، والزّهد في الزّبرج (3)، وبثّ حبال الآمال، والتّعزيز بالله عن الغنيمة، وجعل الثوب غطاء الليل، ومقعد المطالعة فراش
__________
(1) هي برشلونة.
(2) يريد أنه قصد مكة لقضاء فريضة الحجّ.
(3) الزّبرج: الزينة من وشي أو جوهر ونحو ذلك، والذهب. محيط المحيط (زبرج).(2/15)
النّوم، والشغل لمصلحة الإسلام، لريم الأنفاس، فأثمر هذا الكرخ، وأثبج هذا المسعى مناقب الدولة، بلغت أعنان السماء (1)، وآثارا خالدة ما بقيت الخضراء على الغبراء، وأخبارا تنقل وتروى، إن عاندها الحاسد، فضحه الصّباح المنير، وكاثره القطر المنثال، وأعياه السّيل المتدافع.
فما يختص من ذلك بالسلطان، فخامة الرتبة، ونباهة الألقاب، وتجمّل الرياش، وتربع الشريعة، وارتفاع التّشاجر ببابه، والمنافسة والاغتباط منه، بمجالس التنبيه والمذاكرة، وبدار الدموع في حال الرّقة، والإشادة باحتقار الدنيا بين الخاصة، وتعيين الصدقات في الأوقات العديدة، والقعود لمباشرة المظالم ستة عشر يوما في كل شهر من شهور الأهلّة، يصل إليه فيها اليتيم والأرملة، فيفرح الضعيف، وينتظر حضور الزمن، ويتغمّد هفوة الجاهل، ويتأثر لشكوى المصاب، ويعاقب الوزعة على الأغلاط، إلى إحسان الملكة في الأسرى، والإغراب في باب الحلم، والإعياء في ترك الحظ، والتبرّي من سجيّة الانتقام، والكلف بارتباط الخيل، واقتناء أنواع السلاح، ومباشرة الجهاد، والوقار في الهيعات (2)، وإرسال سجيّة الإيمان، وكساد سوق المكيدة، والتصامم عن السعاية هذا مع الشباب الغضّ، والفاحم الجعد، وتعدّد حبائل الشيطان في مسالك العمر، ومطاردة قانص اللّذات في ظلّ السّلم، ومغازلة عيون الشهوات من ثنايا الملوك. وأيم الله الذي به تستخلص الحقوق، وتيسّر السّتور، وتستوثق العهود، ولا تطمئن القلوب إلّا به ما كاذبته، ولا راضيت في الهوادة طوله، ولا سامحته في نقيض هذه الخلال. ولقد كنت أعجب من نفاق أسواق الذّكرى لديه، وانتظام أقيسة النصح عنده، وإيقاع نبات الرّشد فيه نصيحة، وأقول: بارك الله فيها من سجيّة، وهنّأ المسلمين بها من نفس زكيّة. وسيأتي بيان هذه النتائج، وتفسير مجمل هذه الفضائل بحول من لا حول إلّا به سبحانه.
والحال متصلة على عهده الوثير من إعانته بالوسوع والخروج له عن هذه العهدة، والتسليم له في البقيّة، إرهافا لسيف جهاده، وجلاء لمرآة نصحه، وتسوية لميزان عدله، وإهابة لمحمد رشده، شدّ العقدة، عقدة وغيرة على حرمة ماله وعرضه، ورعاية للسان العلم المنبئ عن شأنه، ونيابة عنه في معقل ملكه، ومستودع ماله وذخيرته، ومحافظة على سرّه وعلانيته لحرمه وولده، وعمرانا للجوانح بتفضيله وحبّه، معاملة أخلص الله قصدها لوجهه، وأمحضها من أجله، ترفعه عن جراية
__________
(1) كلمة «السماء» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليكتمل المعنى والسجعة معا.
(2) الهيعات: جمع هيعة وهي كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع. محيط المحيط (هيع).(2/16)
رحل هلالها، وإقطاع تنجع قدرته، أو فصلة تعبث البنان بنشيرها، وخطّة تشدّ إليه على منشورها. والله يرجح ميزاني عنده، ويحظى وسيلتي لديه، ويحرّك مكافأة سعيي في خواطر حجّه، وينبّه لتبليغ أملي من حجّ بيت الله، وزيارة رسول الله، بمنّه وكرمه، فما على استحثاث الأجل من قرار، ولا بعد الشّيب من إعذار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أولاده (1): كمل له في هذا الوقت من الولد أربعة ثلاثتهم ذكور، يوسف بكره، وأراه يتلوه سعد، ثم نصر، غلمة روقة، قد أفرغهم الله في قالب الكمال، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، فسح الله لهم أمد السعادة، وجعل مساعيهم جانحة إلى حسنى العقبى، سالكا بهم سبيل الاهتداء بفضل الله ورحمته.
قضاته (2): قدّم لأول قدومه، الفقيه القاضي، الحسيب، الخيّر، أبا جعفر بن أحمد بن جزي، شاكرا بلاءه بمالقة، إذ كان قد ألقاه قاضيا بها للمتغلّب، فلم يأل جهدا في الإجلاب على من اعتصم بقصبتها، والتحريض على استنزالهم، فاتّخذ زلفة لديه، فأجرى الأحكام، وتوخّى السّداد. ثم قدّم (3) إليها الفقيه القاضي الحسيب، أبا الحسن علي بن عبد الله بن الحسن، عين الأعيان ببلده مالقة، والمخصوص برسم التّجلّة، والقيام بوظيفة (4) العقد والحلّ بها (5) في الدولة الأولى، وأصالة البيت، والانقطاع إليه، ومصاحبة ركابه في طلب الملك، ومتسوّر المشاق من أجله، وأولى الناس باستدرار خلف دولته، فسدّد وقارب، وحمل الكلّ (6)، وأحسن فصاحة (7)
الخطبة والخطّة، وأكرم المشيخة وأرضى، واستشعر النّزاهة، ولم يقف في حسن التأنّي عند (8) غاية، واشتمل معها لفق الخطابة، فأبرز وأعلم، تسمّيا وحفظا وجهوريّة، فاتّفق في ذلك على رجاحته، واستصحب نظره على الأحباس، فلم يقف في النصح عند غاية، أعانه الله.
__________
(1) في اللمحة البدرية (ص 115): «ولده: ولد له إلى هذا العهد ولد ذكر اسمه يوسف على اسم أبيه».
(2) تحت عنوان «قضاته» ذكر ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص 116) قاضيا واحدا هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، وقال: إن الغني بالله جدّد له أحكام القضاء والخطابة إلى أخريات شعبان من عام 760هـ.
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 116).
(4) في النفح: «والقيام بالعقد والحلّ».
(5) من هنا حتى قوله: «باستدرار خلف دولته» غير وارد في النفح.
(6) الكلّ، بفتح الكاف وتشديد اللام: الضعيف. لسان العرب (كلل).
(7) في النفح: «مصاحبة».
(8) في النفح: «على».(2/17)
كتّابه (1): أسند الكتابة إلى الفقيه المدرك، المبرّز في كثير من الخلال، ملازمه أيضا في طلب الملك، ومطاردة قنص الحظّ، أبي عبد الله بن زمرك، ويأتي التعريف بجميعهم.
شيخ غزاته: متولي ذلك في الدولة الأولى، الشيخ أبو زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق (2)، قدّمه إليها معتبا إياه، طاويا بساط العدوّ بالجملة، قدّموها بابنه عثمان على الخاصّة يومئذ، لمظاهرته في الوجهة، وسعيه في عودة الدّولة، واستمرّت الحال إلى اليوم الثالث عشر لشهر رمضان من عام أربعة وستين وسبعمائة، وكان القبض على جملتهم، وأجلى هذا البيت من سفرة السياسة مدّة، مجتزيا فيه بنظره على رسمه في الوزارة من قبيله. ثم قدّم إليها موعوده بها القديم الخدمة، وسالف الأدمة، لمّا لجأ إلى وادي آش مفلتا من وبقة الحادثة، الشيخ أبا الحسن علي بن بدر الدين بن موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، حلف السّداد أيامه، والمقاربة والفضل والدّماثة، المخصوص على اختصار بيمن النّقيبة، واستمرّت أيامه إلى نقبة القفول عن غزوة جيّان أخريات محرم من عام تسعة وستين، وتوفي، رحمه الله، حتف أنفه، فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبّيه، واستغفاره، والاعتراف بصدق موالاته، وتفجيعه لفقده، وما أعرب به من وفاء نجده، وقدّم لها عهدا طرف اختياره، الأمين، الشّهم، البهمة، خدن الشّهرة، والمشار إليه بالبسالة، وفرع الملك والأصالة، عبد الرحمن ابن الأمير أبي الحسن علي بن السلطان أبي علي عمر ابن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، إذ كان قد لحق به، بعد ظهور أتيح له بوطنه من المغرب، استقرّ مبايعا بعمالة سجلماسة وما إليها، وطن جدّه، وميراث سلفه، ففسح له جانب قبوله، وأحلّه من قربه محلّ مثله، وأنزله بين ثغر الاغتباط ونحره، ثم استظهر به على هذا الأمر، فأحسن الاختيار، وأعزّ الخطة، وهو القائم عليها لهذا العهد، وإلى الله أسباب توفيقه.
ظرف السلطان وحسن توقيعه:
بذّ في هذا الباب من تقدّمه، وكثرة وقوعه، بحيث لا يعدّ نادره، وقليل الشيء يدلّ على كثيره. مرّ بي يوما ومعي ولده، يروم اتخاذ حذق القرآن، فقلت له: أيّدك
__________
(1) في عنوان: «كتابه» ذكر ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص 116) أنه هو الذي أجرى للغني بالله رسم العرض والإنشاء، ثم هو نفسه قد استخدم في أخريات أيام الغني بالله كاتب الدولة التونسية الفقيه الكاتب أبا محمد عبد الحق بن أبي القاسم بن عطية.
(2) كذا ذكره ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص 116) وقال إن الغني بالله أقرّه على الغزاة على عهد أبيه.(2/18)
الله، الأمير يريد كذا، ولا بدّ له من ذلك، وأنا وكيله عليك في هذا، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا خفاء ببراعة هذا التوقيع، وغرابة مقاصده، ومجالسه على الأيام معمورة بهذا ومثله.
الملوك على عهده: بالمغرب (1) السلطان الجليل إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تولّى ملك المغرب حسبما تقدم في اسمه (2)، وألقى إليه بالمقاليد، واستوسقت له الطاعة، وبحسب ما بثّ الله من اشرباب (3) الخلق إليه، وتعطّشهم إلى لقائه، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الخلال، شرقا بأيامه وإحصاء لسقطاته، وولعا باغتيابه وتربصا لمكروه به، إذ أخفقت فيه الآمال، واستولت الأيدي من خدّامه على ملكه. وقيّض الله لإبادة أمره، وتغيّر حاله وهدّ ركنه، الخائن الغادر نسمة السوء وقذار ناقة الملك، وصاعقة الوطن وحرد السّيد عمر بن عبد الله بن علي (4) مؤتمنة على البلد الجديد، دار ملكه ومستودع ماله وذخيرته، فسدّ الباب دونه، وجهر بخلعانه. وفض في اتّباع الناعق المشؤوم سور ماله، وأقام الدّعوة باسم أخيه أبي عمر، ذي اللّوثة، الميؤوس من إفاقته، وذلك ضحوة اليوم الثامن عشر لشوال من عام اثنين وستين وسبعمائة. وبادر السلطان أبو سالم البيعة من متحول سكناه بقصر البلد القديم (5)، وصابر الأمر عامة اليوم. ولمّا جنّ الليل، فرّ لوجهة، وأسلم وزراءه وخاصّته، وقيّدت خطاه الخيريّة، فأوى إلى بعض البيوت، وبه تلاحق متبوعه، فقيد إلى مصرعه السّوء بظاهر بلده، وحز رأسه، وأوتي به إلى الغادر. وكان ما بين انفصال السلطان عنه مودّعا إلى الأندلس بإعانته، ومطوّق فضل تلقيه وقفوله وحسن كفالته، ثمانية أشهر ويوم واحد. واستمرّت دعوة أخيه المموّه به إلى الرابع والعشرين من صفر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة،
__________
(1) ضمن العنوان نفسه جاء في اللمحة البدرية (ص 117): أن سلطان المغرب في عهد الغني بالله هو أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، وولي بعده ولده السعيد أبو بكر.
(2) المراد إبراهيم بن أبي الحسن بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.
(3) الاشرباب: المحبة يقال: أشرب فلان حبّ فلانة، أي خالط قلبه. وأشرب قلبه محبة هذا:
أي حلّ محلّ الشراب. لسان العرب (شرب).
(4) في اللمحة البدرية (ص 119118): «عمر ابن الوزير عبد الله بن علي البيّاني».
(5) البلد القديم هو مدينة فاس القديمة، والبلد الجديد هو ضاحية أنشأها بنو مرين بجوار مدينة فاس.(2/19)
واستدعي من باب قشتالة الأمير محمد أبو زيّان ابن الأمير أبي زيد بن عبد الرحمن ابن السلطان المعظّم أبي الحسن. وقد استقرّ نازعا إليه أيام عمّه السلطان أبي سالم، وقع عليه اختيار هذا الوزير الغادر، إذ وافق شنّ تغلّبه طبق ضعفه (1)، وأعمل الحيلة في استجلابه، فوصل حسب غرضه، وأجريت الأمور باسمه، وأعيد أخوه المعتوه إلى مكانه، واستمرّت أيام هذا الأمير مغلوبا عليه، مغرى بالشراب على فيه وبين الصّحب إلى أن ساءت حاله، وامتلأت بالموجدة على الوزير نفسه، فعاجله بحتفه، وباشر اغتياله، وأوعز إلى خدامه بخنقه، وطرحه بحاله في بعض سواقي قصره، متبعا ببعض أواني خمره، يوهم بذلك قاتله، تردّيه سكرا، وهويه طفوحا.
ووقف عليه بالعدول عند استخراجه، وندب النّاس إلى مواراته، وبايع يومه ذلك أبا فارس عبد العزيز وارث ملك أبيه السلطان أبي الحسن، المنفرد به، وخاطب الجهات بدعوته، وهو صبيّ ظاهر النبل والإدراك، مشهور الصّون، وأعمل الحيلة لأول أمره، على هذا الوزير مخيف أريكة ملكه، ومظنّة البدا في أمره، فطوّقه الحمام واستأصل ما زراه من مال وذخيرة، شكر الله على الدولة صنيعة، وفي ذلك يقول: [الطويل]
لقد كان كالحجاج في فتكاته ... تحاذره البرّاء دوما وتخشاه
تغدّى به عبد العزيز مبادرا ... وعاجله من قبل أن يتعشّاه
وكان بعده وليّه الحق ونصيره لا إله إلّا هو. وهو اليوم ملك المغرب، مزاحما بابن أخيه، السلطان أبي سالم، المعقود البيعة بمرّاكش وما إليها، جمع الله شتات الإسلام، ورفع عن البلاد والعباد مضرّة الفتنة.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى ابن الأمير أبي يعقوب يوسف (2) بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان. حسبما كان في الدولة الأولى، متفقها منه على خلال الكرم والحزم، مضطلعا بأمره والقيام على ما بيده.
وبتونس (3)، الأمير أبو سالم إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى بن أبي حفص، حسبما تقدم ذكره.
__________
(1) أخذه من المثل: «وافق شنّ طبقة». وشنّ هو رجل من دهاة العرب، وطبقة بنته، يضرب للمتوافقين. مجمع الأمثال (ج 2ص 359).
(2) في اللمحة البدرية (ص 119): «يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن».
(3) في اللمحة البدرية (ص 119): «وبإفريقية إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى أبي بكر بن أبي حفص بن إسحاق ابن الأمير أبي زكرياء».(2/20)
ومن ملوك النصارى:
فبقشتالة سلطانها المتقدم الذكر في الدولة الأولى، بطره ابن السلطان ألهنشة (1) بن هراندة بن شانجه بن ألهنشة (2) بن هراندة، متأكّدة بينهما السلم الجمّة، والهدنة المبرمة، بما سلف من مظاهرته إيّاه، والحرص على ما استحانه من المغرب في أسطوله، وبعثه إليه برأس عدوّه المتوثّب على ملكه، ورؤوس أشياعه، الظالمين الغدرة، وأتباعه الفجرة، مستمرّة أيامه إلى وسط شعبان عام سبعة وستين، صارفا وجهه إلى محاربة صاحب برجلونة (3)، مستوليا على كثير من قواعده الشهيرة، وقلاعه المنيعة، لما أسلفه به من إجازته، أخيه أندريق المدعوّ بالقند، ومظاهرته حتى ساءت أحواله وأحوال عدوّه، وأوهنت الحركات قوى جيشه، وأضعف الاحتشاد عمرة أرضه، واشرأبّت القلوب إلى الانحراف عن دعوته، ومالت النفوس إلى أخيه، وقامت البلاد بدعوته، وتلاحقت الوجوه بجهته، ورام التمسّك بإشبيلية دار ملكه، فثار أهلها به في عام سبعة وستين. فخرج فارّا عنها (4) به والسلاح يهشّ إليه، وبعد أن استظهر بخويصته، وأحمل ما قدر عليه من ذخيرة، ورفع من له من ولد وحرمة، رأى سخنة العين من انتهاب قصوره، وتشعيث منازله، وعياث الأيدي في خزائنه، وأسمعه الناس من محض التأنيب وأعراض الشمّات، ما لا مزيد عليه، ولاذ بصاحب برتغال، فنأى عنه جانبه لما يجنيه أبواه من مخالفة رأي الأمّة فيه، فقصد بلاد غليسية، وتلاحق أخوه أندريق بحضرة إشبيلية، فاستوى على الملك وطاعت لأمره البلاد، وعاجله المسلمون لأول أمره، فاستولوا على كثير من الثغور، والحمد لله.
ولمّا توسّد له الأمر تحوّل لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية في البحر، واستقرّ ببلد بيونة، ممّا وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطّة القشتالية وأمر نفسه، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة (5)، وهو المعروف ببرقسين أبي الأمير، وبين أول أرضه وبين قشتالة ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور، الساكن بأول ما تلقّاه من تلك الأرض، وسفر بينه وبين أبيه فأنكر الأب استئذانه إياه، والمراجعة في نصره، حميّة له، وامتعاضا للواقع. وحال هذه الأمة غريبة في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقّة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمد، وبين يدي العشائق، عادة العرب الأول. وأخبارهم في القتال غريبة، من الاسترجال والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجثوّ في الأرض، أو دفن ببعض الأرض في التّراب، والاستظهار في
__________
(1) في اللمحة البدرية: «ألهونش».
(2) في اللمحة البدرية: «ألهونش».
(3) هي مدينة برشلونة.
(4) بياض في الأصل.
(5) الأنتكيرة: هي إنكلترا.(2/21)
حال المحاربة ببعض الألحان المهيّجة، ورماتهم قسيّهم غريبة جافية، وكلّهم في دروع، والإحجام عندهم، والتقهقر مقدار الشّبر ذنب عظيم، وعار شنيع، ورماتهم يثبتون للخيل في الطّراد، وحالهم في باب التّحليّ بالجواهر، وكثرة آلات الفضة، غريب. وبعد انقضاء سبعة عشر يوما كان رجوعه ورجوع البرنس المذكور معه مصاحبا بأمراء كثيرين من خترانه (1) وقرابته، وبعد أن أسلفوه مالا كثيرا، واختصّ منه صاحب الأنتكيرة، بمائتي ألف دينار من الذهب إلى ما اختصّ به غيره، وارتهنوا فيه ولده وذخيرته. وكان ينفق على نفسه وجيشه بحسب دينار واحد من الذهب للفارس في ثلاثة أيام. وكان تأليف الجيوش في بنبلونة في أزيد من ثلاثين ألفا، وعسر عليهم المجاز على فحص أحدونيه، لبلاد تمسك لطاعة القند أخيه فصالح القوم صاحب نبارّه (2) على الإفراج لهم، ونزلت المحلّات في فحص نبارّة، ما بين حدود أرض نبارّة وقشتالة، ونزل المتصيّر إليه أمر قشتاله، القند بإزائها في جموع لم تنتظم لمثله، إلّا أنه لشهامته واغتراره، أجاز خندقا كان بين يديه، وعبر جسرا نشب فيه عند الجولة. وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس إبريل العجمي، وبموافقة شعبان من عام ثمانية وستين. وكان هذا الجمع الإفرنجي الآتي من الأرض الكبيرة (3) في صفوف ثلاثة، مرتبة بعضها خلف بعض، ليس فيهم فارس واحد، إنما هم رجّالة، سواء أميرهم ومأمورهم، في أيديهم عصي جافية في غلظ المعاصم يشرعونها أمامهم، بعد إثبات زجاجها (4) فيما خلفهم من الأرض، يستقبلون منها وجوه عدوّهم، ونحور خيله، ويجعلونها دعائم وتكآت لبناء مصافّهم، فلم تقلقهم المحلات، وبين أيديهم من الرّماه النّاشبة الدّارعة، ما لا يحصيهم إلّا الله عزّ وجلّ. وسايرهم السلطان، مستدعى نصرهم راجلا أميالا برأيهم إلى أن أعيا بعد ميلين منها فأركبوه بغلة حملوه بينهم عليها، إلى موقف اللقاء والقند، وكان على مقدمة القوم الدك أخو البرنس، والبرنس مع السلطان مستجيره في القلب، والقند المعروف بقند أرمانيان، وكثير من الأمراء ردى وسيفه دونهم، ومن خلف الجميع الخيل بجنبها ساستهم وغلمانهم وخدّامهم، ووراءها دوابّ الظّهر وأبغالهم، وفي أثناء هذه العبيّة من البنود وآلات الحرب والطرب والأبواق ما يطول ذكره. وكان في مقدمة القند المستأثر بملك قشتالة أخوه شانجه في رجل قشتالة، قد ملأ السّهل والجبل، ومن خلفهم أولو
__________
(1) الختران: جمع خاتر أو ختّار، وهو المخادع، لسان العرب (ختر).
(2) نبارّه: بالإسبانية وهي بلاد البشكنس، وعاصمتها بنبلونة.
(3) المراد بالأرض الكبيرة فرنسا.
(4) الزّجاج: جمع زجّ وهو الحديدة التي في أسفل الرمح. محيط المحيط (زجج).(2/22)
الخيل الجافية القبيلية، المسبغة الدّروع، من رأس إلى حافر، في نحو ألف وخمسمائة، وفي القلب أخوه الآخر دنطية في جمهور الزّعماء والفرسان والدّرق، وهو الأكثر من رجال الجيش اليوم، ومن ورائهم السلطان أندريق في لفيف من الناس. ولما حمل بعضهم على بعض أقدم رماة الفرنج، ثقة بدروعهم، فعظم أثرهم فيمن بإزائهم من رماة عدوهم ورجالهم، لكونهم كشفاء، فكشفوا إياهم.
وحملت خيل قشتالة الدّارعة، فزحزحت كرّ المصافّ الإفرنجي، واتصل الحرب بالبرنس، وهو مطلّ عليهم في ربوة، فصاح بهم بحيث أسمع، وتناول شيئا من التراب فاستفه، وكسر ثلاث عصيي، وفعل من معه مثل فعله، وهي عادتهم عند الغضب، وعلامة الإقدام الذي لا نكوص بعده. ووجّه إلى أخيه في المقدمة، يقول له: إن وجدت في نفسك ضعفا، فاذكر أنك ولد صاحب الأنتكيرة. وحمل الكلّ حملة رجل واحد، فلم تجد الخيل الدّارعة سبيلا، وقامت في نحورها تلك الأسنّة، فولّوا منهزمين.
ولمّا رأى القند هزيمة أخيه، تقدّم بنفسه بمن معه من مدد الأمة الرّغونية (1)، وهو ينادي: يا أهل قشتالة، يا موالي، إياكم والعار، ها أنذا، فلم يثبت أمره، وتراجع فلّه. فعند ذلك فرّ في أربعة من أولي ثقته، واستولى القتل والأسر على خاصّته، وتردّى المنهزمون في الوادي خلفهم، فكان ذلك أعون الأسباب على هلكهم، فأناف عدد من هلك في هذه الوقيعة، حسبما اشتهر، خمسين ألفا. وامتلأت أيدي هذه الأمة من الأسلحة والأموال والأمتعة والأسرى الذين يفادونهم بمال عظيم، واتصل القند المنهزم بأرض رغون، ثم نجم من البلاد الفرنسية، ودخل أخوه بهذه الأمة أوائل البلاد معترفا بحميد سعيهم، وعزيز نصرهم، وقد رابه استيلاؤهم، وأوجسه تغلبهم، وساءه في الأرض الرّعّادة عياثهم فاستأذنهم في اللّحوق بقواعد أرضه، وقبض الأموال التي تجبي منها نفقاتهم، وقبض منها ديونهم قبله. وحثّ السّير، فوصل طليطلة، لا يصدّق بالنجاة، وخاطب السلطان المترجم به، وقدر ودّه، وحذّره سورة هذه الأمة التي فاض بحرها وأعيا أمرها، وأنهى إليه شرّها، وشره إلى استئصال المسلمين، وحدّ له مواعدها التي جعلت لذلك. ووصل إشبيليّة وانثالت البلاد عليه، وعادت الإيالة إلى حكمه، ثم شرع في جعل الضرائب، وفرض الأموال، وأخاف الناس بالطّلب والتّبعات، فعاد نفورهم عنه جزعا، وامتنعوا من الغرم، وطردوا العمّال، وأحسّ
__________
(1) نسبة إلى رغون، وهي مملكة أراجون في الثغر الأعلى إلى الجنوب الشرقي من سرقسطة.(2/23)
بالشّرّ، فتحصّن بإشبيلية وجهاتها على نفسه، وطال على الأمة الواصلة في سبيل نصره الأمر. فرجعت إلى بلادها، ووقيت نفرة الفرسان، وأولي الأتباع، وأظهروا الخلاف، وكشفت جيّان وجهها في خلعانه، والرّجوع إلى دعوة أخيه المتصرّف، فتحرّك إليها السلطان المترجم به، بعد أن احتشد المسلمين، فكان من دخولها عنوة، واستباحة المسلمين إياها وتخريبها، ما هو مذكور في موضعه. ثم ألحقت بها مدينة أبّدة، الذاهبة في مخالفة مذاهبها والحمد لله. وخالفت عليه قرطبة، واستقرّ بها من الكبار جملة، كاتبوا أخاه، واستعجلوا، فتعرّف في هذه الأيام، أنه قد بلغ أرض برغش، ونار الفتنة بينهم، ويد الإسلام لهذا العهد، والمنية لله، وحده غالبة.
وإنما مددنا القول في ذكر هذه الأحوال الرّومية، لغرابة تاريخها، وليستشعر الحذر، ويؤخذ من الأمة المذكورة وغيرها، والله وليّ نصر المؤمنين بفضله.
وبأرض رغون سلطانها الكائن على الدولة الأولى.
بعض مناقب الدولة لهذا العهد:
وأولا ما يرجع إلى مناقب الحلم والكظم من مآزق الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.
فمن ذلك أن السلطان لمّا جرت الحادثة، وعظه التمحيص، وألجأ إلى وادي آش، لا يملك إلّا نفسه في خبر طويل، بادر إلى مخاطبة ثقته بقصبة ألمريّة، قلعة الملك، ومظنّة الامتناع، ومهاد السّلامة، ومخزن الجباية والعدّة، وقد أصبح محلّ استقراره، بينها، وبين المنتزى سدّا، وبيعة أهلها لم ينسخ الشرع منها حكما يناشده الله في رمقه، ويتملّقه في رعي ذمّته، والوفاء له، وإبراء غربته، وتمسّكه من أمانته، فردّ عليه أسوأ الردّ، وسجن رسوله في المطبق، وخرج منها لعدوّه، وناصح بعد في البغي عليه. فلمّا ردّ الله الأمر، وجبر الحق، أعتب وأجرى عليه الرّزق. ولمّا ثار في الدولة الثانية الدليل البركي (1)، هاتفا بالدعوة لبعض القرابة، وأكذبه الله، وعقّه الشيطان بعد نشر راية الخلاف، وجعل للدولة، علوّ اليد، وحسن العاقبة، وتمكّن من المذكور، أبقى عليه، وغلّب حكم المصلحة العامة في استحيائه، وهو من مغربات الحلم المبني على أساس الدين، وابتغاء وجه الله.
ولمّا أجلى عن الترشيح من القرابة، بعد تقرّب التهمة، وغمس الأيدي في المعصية، صرفوا إلى المغرب صرف العافية، وأجرى على من تخلّفوه عوائد
__________
(1) الدليل البركي: هو أحد وزراء سلطان غرناطة الغني بالله.(2/24)
الأرزاق، ومرافق المواسم، ووعد ضعفاءهم بالإرفاد، وتجوفي عمّا يرجع للجميع من عقار ورباع، وأسعفت آمالهم في لحاق ذويهم من أهل وولد.
وممّا يرجع إلى عوائد الرّفق، ومرافق العدل من مأزق في جهاد النفس، وقوف وكيل الدولة، مع من يجاور مستخلص (1) السلطان من العامرين (2) ومما ولي الفلاحة، وقد ادّعوا أضرارا، يجرّه الحوار بين يدي القاضي بالحضرة، حتى بعد منقطع الحقّ، على ما يخصّ السلطان من الأصول التي جرّها الميراث عن كريم السّلف. ولا كقضية التاجر المعروف بالحاج اللبّاس، من أهل مدينة وادي آش، وقد تحصّلت في داره، من قبل التاجر المذكور جارية من بنات الروم، في سبيل تفوّت الذّمم، ومستهلك المتولات، وترقّت إلى تربية ولده، وأصبحت بعض الأظآر (3) لأمرائه، واتّصل بها كلفه، وزاد هيمانه، وغشي مدافن الصّالحين من أجلها، وأنهيت إليه خبره وبثّه، وقرّرت عنده شجوه، وألمعت بما ينقل في هذا الباب عن الملوك قبله، فبادر إلى إخراجها من القصر بنفسه، وانتزاعها من أيدي الغبطة، انتزاع القهر، بحاله في جميل الزّي، فمكّنت منها يد عاشقها الذّاهل، وقد خفّت نفسه، وسكن حسّه، وكاد لقاؤه إيّاها أن يقضي عليه. ونظائر هذا الباب متعددة.
ومن مواقف الصّدق والإحسان من خارق جهاد النفس، بناء المارستان الأعظم، حسنة هذه التخوّم القصوى، ومزيّة المدينة الفضلى. لم يهتد إليه غيره من الفتح الأول، مع توفّر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همّة الدّين، ونفس التقوى، فأبرزه موقف الأخدان (4)، ورحلة الأندلس، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدّد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحّة هواء، وتعدّد خزائن ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبرّ على مارستان مصر (5)، بالسّاحة العريضة، والأهوية الطيّبة، وتدفّق المياه من فورات المرمل، وأسود الصخر، وتموّج البحر، وانسدال الأشجار، إلى موافقته إياي، وتسويغه ما اخترعته بإذنه، وأجريته بطيب نفسه، من اتخاذ المدرسة والزاوية، وتعيين التّربة، مغيرا في ذلك كله على مقاصد
__________
(1) المراد بمستخلص السلطان: الأملاك السلطانية الخاصة.
(2) العامريون: هم الذين يفلحون الأرض ويعمرونها. لسان العرب (عمر).
(3) الأظآر: جمع ظئر، والظئر: المرضعة غير ولدها، وظئر الرجل: ابنه من الرضاع. لسان العرب (ظأر).
(4) الأخدان: جمع خدن وهو الصاحب والرفيق والصديق. محيط المحيط (خدن).
(5) أغلب الظن أنه المارستان المنصوري الكبير الذي أنشأه السلطان المنصور بن قلاوون سنة 683هـ.(2/25)
الملوك، نقشا عليه، بطيب اسمه في المزيد، وتخليد في الجدرات للذّكر، وصونا للمدافن غير المعتادة، في قلب بلده بالمقاصر والأصونة، وترتيل التلاوة، آناء الليل (1)، وأطراف النهار. وكل ذلك إنما ينسب إلى صدقاته، وعلوّ همّته. ويشهد بما ينبّه الحسّ إلى المنقبة العظمى، في هذا الباب، من إمداد جبل الفتح، مع كونه في إيالة غيره، وخارج عن ملكة حكمه، وما كان من إعانته، وسدّ ثغره، فانهار إليه على خطر السّرى، والظهر البعيد المسعى، ما ملأ الأهواء، وقطع طمع العداة، أنفقت عليه الأموال، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بودر بذلك، بين يدي التفاؤل، بنزول العدوّ إياه، فكان الكرى (2) على إيصال الطعام إليه، بحساب درهم واحد وربع درهم للرّطل من الطعام، منفعة فذّة، وحسنة كبرى، وبدعا من بدع الفتوى.
وفي موقف الاستعداد لعدوّ الإسلام، من خارق جهاد النفس، إطلاق البنى (3)، للمدّة القريبة، والزمان الضيق، باثنين وعشرين ثغرا من البلاد المجاورة للعدوّ، والمشتركة الحدود، مع أراضيه، المترامية النيران لقرب جوابه، منها ثغر أرجدونة (4)، المستولي عليه الخراب، أنفق في تجديد قصبته واتخاذ جبّه، ما يناهز عشرين ألفا من الذهب، فهو اليوم شجى العدو، ومعتصم المسلمين، وحصن أشر، وما كان من تحصين جبله بالأسوار والأبراج، على بعد أقطاره، واتخاذ جباب الماء به، واحتفار السانية (5) الهايلة بربضه، ترك بها من الآثار ما يشهد بالقوة لله، والعناية بالإسلام. ثم ختم ذلك بنديد حصن الحمراء، رأس الحضرة، ومعقل الإسلام، ومفزع الملك، ومعقد الأيدي، وصوان المال والذّخيرة، بعد أن صار قاعا صفصفا، وخرابا بلقعا، فهو اليوم عروس يجلي المهضب، ويغازل الشهب، سكن لمكانه الإرجاف، وذوت نجوم الأطماع، ونقل إليه مال الجباية، المتفضّل لهذا العهد، بحسب التدبير، ونفّد الخراج، وصوّن الألقاب، وقمع الخزانة بما لم يتقدّم به عهد، من ثمانين سنة، والحمد لله، وتجديد أساطيل الإسلام، وإزاحة علل جيوش المرج، وعساكر البحر، فهي لهذا العهد، ملس الأديم، شارعة الشّبا، منقضّة جفاتها إلى مساواة الأعداء، راكبة ظهور المحاسن، قلقة الموافق، قدما إلى الجهاد، قد تعدّد إغزاؤها، وجاست
__________
(1) آناء الليل: ساعاته.
(2) الكرى: الأجر.
(3) البنى: جمع بناء.
(4) أرجدونة وأرشذونة، بالإسبانية: قاعدة كورة ريّه، وهي بقبليّ قرطبة، ومن مدنها مالقة، وتبعد عنها ثمانية وعشرين ميلا. الروض المعطار (ص 25).
(5) السانية: الساقية.(2/26)
البحر سوابحها، وتعرّفت بركتها، والحمد لله، وأنصاب جيش الجهاد، استغرق الشهور المستقبلة، لرود الصفراء والبيضاء الأهلّة إلى أكفّ أهلها، على الدوام، بعد أن كانت يتحيّفها المطل، وينقصها المطال، والحمد لله.
وفي مواقف الجهاد الحسّي، وبيع النّفوس من الله، وهو ثمرة الجهاد الأول، ما لا يحتاج عليه إلى دليل، من الجوف (1) إلى حصن أشر، قبل الثغر، والجارح المطلّ على الإسلام، والعزم على افتتاحه، وقد غاب الناس من مساورته، وأعيا عليهم فتحه، فلزمه السلطان بنفسه، بياض يوم القيظ، محرضا للمقاتلة، مواسيا لهم، خالطا نفسه بالمستنفرة، يصابر لهيب النار، ووقع السلاح، وتعميم الدّخان، مفديا للكلمات، محرّضا لذوي الجراح، مباشرا الصلاة على الشهداء، إلى أن فتحه الله على يده، بعزمه وصبره، فباشر رمّ سوره بيده، وتحصين عورته بنفسه، ينقل إليه الصّخر، وينال الطّين، ويخالط الفعلة، لقرب محلّ الطاغية، وتوقع المفاجأة. ثم كان هذا العمل قانونا مطّردا في غيره، وديدنا في سواه، حسبما نذكر في باب الجهاد.
وفي باب النصيحة للمسلمين من مآزق الجهاد الأكبر، ما صدر في هذه الدولة، من مخاطبة الكافة، بلسان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صدعت بذلك الخطباء من فوق أعواد المنابر، وأسمعت آذان المحافل، ما لم يتقدم به عهد في الزمان الغابر.
نص الكتاب: ولمّا صحّت الأخبار بخروج الأمة الإفرنسية إلى استئصال هذه البقيعة، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون، صدر من مخاطبة الجمهور في باب التحريض بما نصّه:
«من أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد نصر، أيّده الله ونصره، وأوى أمره، وخلّد مآثره، إلى أوليائنا الذين نوقظ من الغفلة أحلامهم، وندعوهم لما يطهّر من الارتياب إيمانهم، ويخلص لله أسرارهم وإعلانهم، يرثي لعدم إحسانهم، وخيبة قياسهم، ويغار من استيلاء الغفلات على أنواعهم وأجناسهم، ونسأل الله لهم ولنا إقالة العثرات، وتخفيض الشدائد المعتورات، وكفّ أكفّ العوادي المبتدرات. إلى أهل فلانة، دافع الله عن فئتهم الغريبة، وعرّفهم في الذراري والحرم عوارف اللطائف القريبة، وتداركهم بالصنائع العجيبة، سلام عليكم أجمعين، ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) الجوف في اصطلاح المغاربة الجهة المقابلة للقبلة، أي الشمال. اللمحة البدرية (ص 22، حاشية 3).(2/27)
أما بعد حمد الله الذي لا نشرك به أحدا، ولا نجد من دونه ملتحدا، مبتلي قلوب المؤمنين أيها أقوى جلدا، وأبعد في الصبر مدى، ليزيد الذين اهتدوا هدى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنقذ من الردى، وتكفل الشفاعة لمن غدا، ضاربا هام العدا، ومجاهدا من اتخذ مع الله ولدا، والرضى عن آله الذين كانوا لسماء ملّته عمدا، فلم ترعهم الكتائب الوافرة وكانوا لهم أقل عددا، ولا هالتهم أمم الكفر وإن كانت أظهر جمعا وأكثر عددا، صلاة لا تنقطع أبدا، ورضى لا يبلغ مدى. فإنا كتبنا إليكم، كتبكم الله فيمن امتلأ قلبه غضبا لأعدائه وحميّة، ورمى بفكره غرض السّداد، فلم يخط منه هدفا ولا رمية. وقد (1) اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذّمام، وما جعل الله تعالى (2) للمأموم على الإمام، فوجب علينا (3) إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المفترقة (4)، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أنّ كبير (5) النصرانية، الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يبكون (6) ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضما وقضما (7)، وأوسعتهم هضما فلم تبق لهم (8) عصبا ولا عظما، ونثرت ما كان نظما، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو (9) ما مزّق الشّتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها كالقطر (10) المنثال، والجراد الذي تضرب به الأمثال، وعاهدهم وقد حضر التمثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمنوا (11) لمن ارتضاه (12) الطاعة، ويجمعوا من (13) ملّته الجماعة، ويطلع الكلّ على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام السّاعة، وأقطعهم، قطع الله بهم، العباد والبلاد، والطّارف والتّلاد (14)، وسوّغهم الحريم المستضعف (15) والأولاد، وبالله نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج، فما سدّت لديه طريقة، إلّا أنّا رأينا غفلة الناس مع
__________
(1) من هنا حتى الآية الكريمة (إحدى الحسنيين) ورد في نفح الطيب (ج 6ص 205204).
(2) كلمة «تعالى» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من النفح.
(3) قوله: «فوجب علينا» ساقط في النفح.
(4) في النفح: «المتفرقة».
(5) في المصدر نفسه: «كبير دين النصرانية».
(6) في المصدر نفسه: «يكبرون».
(7) خضم الطعام: قطعه وأكله. والقضم: التقطيع بأطراف الأسنان. لسان العرب (خضم) و (قضم).
(8) كلمة «لهم» ساقطة في النفح.
(9) في الأصل: «ويرفى» والتصويب من النفح. ويرفو: يرقع. لسان العرب (رفا).
(10) في النفح: «القطر».
(11) في النفح: «يدمثوا».
(12) في النفح: «ارتضاه من أمته الطاعة».
(13) في النفح: «في».
(14) الطارف: الجديد المستحدث. التّلاد: القديم الموروث. لسان العرب (طرف) و (تلد).
(15) كلمة «المستضعف» ساقطة في النفح.(2/28)
تصميمهم مؤذنة بالبوار (1)، وأشفقنا للذين (2) من وراء البحار، وقد أصبح معظمهم (3)
في لهوات الكفّار، وأردنا أن نهزّهم (4) بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، وتلهمكم الاستنصار بالله عند عدم الانتصار، فإن جبر الله الخواطر بالضراعة إليه، والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بانتهاء اليسار، وإلا فقد تعيّن في الدنيا والآخرة حظّ الخسار، فإنّ من ظهر عليه عدوّ دينه (5)، وهو عن (6) الله مصروف، وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب ملهوف (7)، فقد تلّه (8) الشيطان للجبين، وخسر (9) الدنيا والآخرة، وذلك (10) هو الخسران المبين. ومن نفذ فيه قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وآجر (11)
بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطّن النفس عن (12) الشهوات الموبقة في دار الخلود، العائدة بالحياة الدّائمة والوجود، أو الظّهور على عدوّه المحشور إليه المحشود (13)، صبرا على المقام المحمود، وبيعا (14) تكون الملائكة فيه من (15)
الشهود، حتى تعيث (16) يد الله في ذلك البناء المهدوم، بقوة الله المحمود، والسّواد الأعظم الممدود، كان على أمر ربّه (17) بالحياء المردود: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنََا إِلََّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللََّهُ بِعَذََابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينََا فَتَرَبَّصُوا إِنََّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (52) (18). فالله (19) الله في الهمم، فقد خبت (20)
ريحها. والله الله في العقائد، فقد خفتت (21) مصابيحها. والله الله في الرّجولة (22)، فقد فلّ حدّها. والله الله في الغيرة، فقد نعس (23) جدّها، والله الله في الدّين، فقد طمع
__________
(1) في النفح: «البوار». والبوار: الهلاك. لسان العرب (بور).
(2) في النفح: «للدين المنقطع من».
(3) في النفح: «مضغة».
(4) في النفح: «نهزّكم».
(5) في النفح: «عدو دين الله تعالى».
(6) في النفح: «من».
(7) في النفح: «عنه ملهوف».
(8) تلّه: صرعه، وتلّه للجبين: صرعه، ومنه قول الله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} سورة الصافات 37، الآية 103. وانظر محيط المحيط (تلل).
(9) في النفح: «وقد خسر».
(10) في النفح: «ذلك».
(11) في النفح: «وأفرد».
(12) في النفح: «على الشهادة المبوئة دار».
(13) في الأصل: «عدوه المحشود إليه»، والتصويب من النفح.
(14) في النفح: «وبيعا من الله تكون».
(15) كلمة «من» ساقطة في النفح.
(16) في النفح: «تعين».
(17) في النفح: «أمريه».
(18) سورة التوبة 9، الآية 52. وهنا ينتهي النص في نفح الطيب.
(19) النص في نفح الطيب (ج 10ص 232).
(20) في النفح: «خمدت».
(21) في النفح: «خبت».
(22) في النفح: «الرجولية».
(23) في النفح: «تعسّر».(2/29)
العدوّ في تحويله. والله الله في الحريم، فقد مدّ إلى استرقاقه يد تأميله. والله الله في المساكن التي زحف لسكناها، والله الله في الملّة التي يريد إطفاء نورها وسناها (1)، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في القرآن العظيم (2). والله الله في الجيران. والله الله في الطّارف والتّالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد. اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنزل الصبر والسكينة. اليوم (3) تحتاج الهمم أن ترعى هذه النفوس الكريمة الذّمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشّمم، اليوم يرجع إلى الله تعالى المصرّون، اليوم يفيق من نومه الغافلون (4) والمغترون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحقّ القول، ويسدّ الباب، ويحيق العذاب، ويسترق بالكفر (5) والرّقاب، فالنساء تقي بأنفسهنّ أولادهنّ الصغار، والطّيور ترفرف لتحمي الأوكار (6)، إذا أحست العياث (7) بأفراخها والإضرار. تمرّ الأيام عليكم مرّ السحاب، وذهاب الليالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كدّ إلّا لزينة يحلّى بها نحر وجيد، ولا سعي إلّا في (8) متاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد. وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمى أو رضى (9) مسخّر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الدّيمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عنكم رحمة السماء واغبرّت جوانبكم المخضرّة احتياجا إلى بلالة الماء {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ وَمََا تُوعَدُونَ} (22) (10) وإليها الأكفّ تمدّون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر (11)
منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا للصدقة (12) خبر، وتتوقّون عن (13) إعادة الرغبة إلى الغني (14) الحميد، والولي الذي {إِنْ يَشَأْ} [15] يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16).
وأيم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات، وضاقت المتّسعات، وتزاحمت على جماله وغصّت الجماعات (17). أتعزّزا على الله وهو القوي العزيز؟ وتلبيسا (18) على الله وهو
__________
(1) في النفح: «إطفاء سناها».
(2) كلمة «العظيم» ساقطة في النفح.
(3) في النفح: «اليوم ترعى لهذه المساجد الكرام الذّمم».
(4) في المصدر نفسه: «الغفلة المغترّون».
(5) في المصدر نفسه: «الكفر الرقاب».
(6) الأوكار: جمع وكر وهو عش الطائر. لسان العرب (وكر).
(7) في النفح: «العيث».
(8) كلمة «في» ساقطة في النفح.
(9) قوله: «أو رضى» ساقط في النفح.
(10) سورة الذاريات 51، الآية 22.
(11) يصحر: يسير في الصحراء. لسان العرب (صحر).
(12) في النفح: «ولا الصدقة».
(13) في النفح: «من».
(14) في النفح: «الوليّ الحميد والغنيّ الدني».
(15) في الأصل: «شاء».
(16) سورة إبراهيم 14، الآية 19.
(17) في الأصل: «وتزاحمت على أنديته الجماعات».
(18) في الأصل: «أتلبيسا».(2/30)
الذي يميّز الخبيث من الطيب والشّبه من الإبريز؟ أمنابذة والنواصي بيده (1)؟ أغرورا في الشدائد (2) بالأمل والرجوع بعد إليه؟. من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ ثم (3) ينزل الرزق ويفيده؟ من يرجع إليه في الملمّات؟ من يرجّى في الشدائد والأزمات؟ من يوجد في المحيا والممات؟ أفي الله شكّ يختلج القلوب؟ أم (4) غير الله يدفع المكروه، وييسّر المطلوب؟ تفضلون على اللجإ إليه في الشدائد، بواسم الجهل (5)، وثرّة الأهل (6)
وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته، تمدّ إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعزته (7) العقاب، وتستعجل إلى مواعد (8) إجابته الارتقاب، وكأنكم أنتم (9)
عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه بنيتم. أما تعلمون كيف كان نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه من التبلغ باليسير، والاستعداد إلى دار الرحيل (10)
الحقّ والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله والرجوع دخلت عليه (11) فاطمة، رضي الله عنها، وبيدها كسرة شعير، فقال: ما هذه (12) يا فاطمة؟ فقالت: يا رسول الله، خبزت قرصة، وأحببت أن تأكل منها.
فقال: يا فاطمة، أما أنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث؟ وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين مرة، يلتمس رحماه، ويقوم وهو المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، حتى تورّمت (13) قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجدّ والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الرّبى والوهاد. فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون؟ وإذا لم تهتدوا بهديه (14) فبمن تهتدون؟ وإذا لم ترضوه باتّباعكم فكيف تعتزون (15) إليه وتنتسبون؟ وإذا لم ترغبوا في الاتّصاف بصفاته غضبا لله تعالى وجهادا، وتقللا من العرض الأدنى وسهادا، ففيم ترغبون؟ فابتروا حبال الآمال، فكلّ آت قريب، واعتبروا بمثلات ما دهم (16) من تقدم من أهل البلاد والقواعد، فذهولكم عنها غريب، وتفكّروا في منابرها التي كان (17)
يعلوها واعظ أو خطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعدّدة الصفوف، والجماعات
__________
(1) في النفح: «في يديه».
(2) قوله: «في الشدائد» ساقط في النفح.
(3) في النفح: «من».
(4) في النفح: «أثمّ».
(5) في النفح: «إليه موائد الفضل، ونزه الجهل».
(6) قوله: «وثرة الأهل» ساقطة في النفح.
(7) في النفح: «لعظمته».
(8) في النفح: «مواعيد».
(9) كلمة «أنتم» ساقطة في النفح.
(10) في النفح: «والاستعداد للرحيل إلى دار الحق».
(11) كلمة «عليه» ساقطة في النفح.
(12) في النفح: «هذا».
(13) في النفح: «ورمت».
(14) في النفح: «به».
(15) تعتزون: تنتسبون إليه. لسان العرب (عزا).
(16) قوله: «ما دهم» ساقط في النفح.
(17) في النفح: «التي يعلو عليها واعظ وخطيب».(2/31)
المعمورة بأنواع الطّاعات (1)، وكيف أخذ الله فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغمضوا (2) عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم، ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان. هذا والناس ناس، والزمان زمان.
فما هذه الغفلة عن من إليه الرّجعى وإليه المصير؟ وإلى متى التّساهل في حقوقه وهو السميع البصير؟ وحتى متى مدّ الأمل في الزمن القصير؟ وإلى متى نسيان اللّجإ إلى الولي النصير؟ قد تداعت الصلبان مجلبة (3) عليكم، وتحرّكت الطواغيت من كلّ جهة إليكم. أفيخذلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم؟ وألسنة الآيات تناديكم؟ لم تمح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من افتتحها (4) من عدد قليل، وصابر فيها كلّ خطب جليل، فوالله لو تمحّض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التّثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عزم (5) التأييد. ولكن شمل الداء، وصمّ النداء، وعميت الأبصار، فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح؟ فتعالوا نستغفر الله جميعا، فهو الغفور الرحيم، ونستقبل مقيل العثرات (6)، فهو الرّءوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدّمت أيدينا، فقبول المعاذير من شأن الكريم. سدّت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلّا منك يا كريم (7)، يا فتّاح، يا وهّاب {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ} (7) (8) {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (123) (9) {وَلََا تَهِنُوا وَلََا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (139) (10) {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) (11). أعدّوا الخيل وارتبطوها، وروّضوا النفوس على الشهادة واغبطوها (12)، فمن خاف الموت رضي بالدنيّة، ولا بدّ على كلّ حال من المنيّة، والحياة مع الذلّ ليست من شيم (13) أهل العقول والنفوس السّنيّة، واقتنوا السلاح والعدّة، وتعرّفوا إلى الله في الرّخاء يعرفكم في الشدّة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبنيان (14) المرصوص
__________
(1) في النفح: «الطاعة».
(2) في النفح: «أغضوا عنه عيونهم».
(3) في النفح: «متراكمة».
(4) في النفح: «فتحها».
(5) في النفح: «عادة».
(6) في النفح: «العثار».
(7) قوله: «يا كريم» ساقط في النفح.
(8) سورة محمد 47، الآية 7.
(9) سورة التوبة 9، الآية 123.
(10) سورة آل عمران 3، الآية 139.
(11) سورة آل عمران 3، الآية 200.
(12) في النفح: «وغبّطوها».
(13) في النفح: «شيم النفوس السنيّة».
(14) في النفح: «كالبناء».(2/32)
لحملات العدو (1) النازل بفنائكم، وحطّوا (2) بالتعويل على الله وحدة بلادكم، واشتروا من الله جلّ جلاله أبناءكم (3).
ذكروا أنّ امرأة احتمل السبع ولدها، وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة فتصدّقت برغيف، فأطلق السبع ولدها. وسمعت النداء: يا هذه، لقمة بلقمة، وإنّا لما استودعناه لحافظون. اهجروا (4) الشهوات، واستدركوا الباقيات (5) من قبل الفوات، وأفضلوا (6) لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصّبر على الأزمات، والمواساة في المهمّات، وأيقظوا جفونكم من السّنات. واعلموا أنكم رضّع (7) ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب، والدّين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص (8)، فتفقّدوا معاملتكم (9) مع الله تعالى، فمهما رأيتم (10) الصّدق غالبا، والقلب للمولى الكريم مراقبا، وشهاب اليقين (11) ثاقبا، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب، ولا ينالكم من أجلها (12) عدوّ مطالب، وأنكم (13) في السّتر الكثيف، وعصمة (14) الخبير اللّطيف. ومهما رأيتم الخواطر متبدّدة، والظنون بالله متردّدة، والجهات التي تخاف وترجى متعدّدة، والغفلة عن الله ملابسها (15) متجدّدة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، واعلموا (16) أنّ الله منفّذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلّا على الظّالمين. والتوبة تردّ الشارد والله يحبّ التّوّابين، ويحب المتطهّرين، وهو القائل: {إِنَّ الْحَسَنََاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئََاتِ ذََلِكَ ذِكْرى ََ لِلذََّاكِرِينَ} (17). وما أقرب صلاح الأحوال، إذا صلحت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون:
حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَلََا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} (5) (18).
__________
(1) في النفح: «هذا العدو».
(2) في النفح: «وحوطوا».
(3) في النفح: «أولادكم».
(4) في النفح: «واهجروا».
(5) في النفح: «البقية من بعد الفوات».
(6) أفضل من الشيء: ترك منه بقيّة. محيط المحيط (فضل).
(7) في النفح: «رضعاء».
(8) العويص: الصعب. لسان العرب (عوص).
(9) في النفح: «معاملاتكم».
(10) في النفح: «ومهما لقيتم».
(11) في النفح: «البنين».
(12) في النفح: «لأجلها».
(13) في النفح: «فإنكم».
(14) في النفح: «وكنف».
(15) في النفح: «ملامسها».
(16) في النفح: «فاعلموا».
(17) سورة هود 11، الآية 114.
(18) سورة فاطر 35، الآية 5.(2/33)
وثوبوا (1) سراعا إلى طهارة القلوب، وإزالة الشّوب (2)، واقصدوا أبواب غافر الذنوب (3)
وقابل التّوب، واعلموا أنّ سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسدّ طريق (4)
العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلّقوا متابكم بالصّرائر (5)، فهو علّام السرائر، وإنما علينا معاشر الأولياء (6) أن ننصحكم وإن كنّا أولى بالنّصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة علم الله عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة، فقد ناديناكم (7) إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم لدنيا (8) نفس مبذولة في جهاد الكفّار، وتقدّم (9) إلى ربّكم العزيز الغفّار، وتقدّم لديكم إلى مواقف الصّبر التي لا ترتضي (10) بتوفيق الله الفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدّار، والاختيار لله وليّ الاختيار، ومصرّف الأقدار. وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدوّ، ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى (11) من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدّعاء إلى (12) من وعد بإجابته، وتقبّل (13) من صرف إليه وجه إنابته. اللهمّ كن لنا في هذا الانقطاع (14) نصيرا، وعلى أعدائك ظهيرا، ومن انتقام عبدة الأصنام مجيرا (15). اللهمّ قوّ من ضعفت حيلته، فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلّا أنت، إياك (16) نعبد، وإياك نستعين.
اللهمّ ثبّت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدوّ الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام. اللهمّ دافع بملائكتك المسوّمين، [عمّن ضيّقت أرجاؤه، وانقطع إلّا منك رجاؤه. اللهمّ هيّئ لضعفائنا، وكلّنا ضعيف فقير، إليك، ذليل بين يديك حقير، رحمة تروى بالأزمة وتشبع، وقوة تطرد وتستتبع. يا غلاب الغلّاب، يا هازم الأحزاب، يا كريم العوائد، يا مفرّج الشدائد، ربّنا أفرغ علينا صبرا، وثبّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين (17)]. اللهمّ اجعلنا (18) ممن تيقّظ فتيقّظ، وذكر
__________
(1) ثاب: رجع. لسان العرب (ثوب).
(2) الشّوب: المخالط من الأدران لسان العرب (شوب).
(3) في النفح: «الذنب».
(4) في النفح: «طرق».
(5) في النفح: «بالضرائر».
(6) قوله: «معاشر الأولياء» ساقط في النفح.
(7) في النفح: «سبقناكم».
(8) في الأصل: «الدنيا» والتصويب من النفح.
(9) في النفح: «وتقدم قبلكم إلى مواقف الصبر».
(10) في النفح: «ترضى بالفرار».
(11) نصلى النار: نحترق بها. قال الله تعالى: {لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى} (15) سورة الليل 92، الآية 15.
(12) في النفح: «لمن».
(13) في النفح: «فإنه يقبل».
(14) في النفح: «الاهتمام».
(15) في النفح: «كفيلا».
(16) في النفح: «فإياك».
(17) ما بين قوسين ساقط في نفح الطيب.
(18) في النفح: «اللهم اجعلنا على تيقّظ وتذكّر من قال».(2/34)
فتذكّر، ومن {قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً وَقََالُوا حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللََّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوََانَ اللََّهِ وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (174) (1). وقد وردت علينا المخاطبات من قبل (2) إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين، أولي الامتعاض لله والحميّة، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحقّ الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنّفرة لانتهاك ذمار نبيّهم (3) المختار، وحركة سلطانهم (4) محلّ أخينا بمن له من الأولياء والأنصار، إلى الإعانة على هؤلاء الكفّار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النّار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضّمين للعزّ والأجر والفخار، والسّلام الكريم يخصّكم أيها الأولياء، ورحمة الله وبركاته (5). في الثاني عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرّفنا الله خيره، صحّ هذا، فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى. والحمد لله على عوائده الحسنى.
ومن الغيرة على الدين، وتغيّر أحوال الملحدين، من مآزق جهاد النفس، ما وقع به العمل من إخماد البدع، وإذهاب الآراء المضلة، والاشتداد على أهل الزّيغ والزّندقة. وقد أضاقت أرباب هذه الأضاليل الشريعة، وسدّت مضرّهم في الكافّة، فيسلّط عليهم الحكّام، واستدعيت الشهادات، وأخذهم التّشريد، فهل تحسّ منهم أحدا، أو تسمع لهم ركزا؟
وقيّد في ذلك عني مقالات أخرى. منها رسالة «الغيرة على أهل الحيرة»، ورسالة «حمل الجمهور على السنن المشهور». ورسالة «أنشدت على أهل الرّد».
فارتفع الخوض، وكسدت تلك الأسواق الخبيثة، وصمّ منها الصّدى، ووضح نار الهدى، والحمد لله، ولو تتبعت مناقب الهدى، لأخرج ذلك عن الغرض.
الأحداث: وفي غرة ذي الحجة كانت الثورة الشّنعاء المجحفة بالدولة، وقد كان السلطان أنذر بطائفة، تداخل بعض القرابة، فعاجله بالقبض عليه، وهو في محل ولايته، فصفّد وأحمل إلى قصبة ألمريّة، وخاف أرباب المكيدة افتضاح الأمر، فتعجّلوا إبراز الكامن، وإظهار الخبث، وتولّى ذلك جملة من بني غرون ذنابى بيت
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآيتان 173، 174.
(2) في النفح: «من إخواننا».
(3) في الأصل: «بيتهم» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «سلطانهم بتلك الأقطار والأمصار، ومدافعة».
(5) هنا ينتهي النص في نفح الطيب.(2/35)
الإدبار، وقد عابهم من بني مطرون، يدور أمرهم على الدّليل البركي (1)، فأكذب الله دعوتهم، بعد أن أركبوا الشيخ عليّا بن نصر، ونصبوه تلقاء القلعة بباب البنود (2)، ودعوا الناس إلى بيعته. وأخذ السلطان حذره، وناصبهم القتال، وأشاع العطا، واستركب الجيش. وعمّر الأسوار، فأخفق القصد، وفرّ الدليل البركي، وتقبّض على الرئيس المذكور، وجعل الله العاقبة الحسنة للسلطان.
وكان ممّا أمليته يومئذ بين يدي السلطان، من الكلام المرسل، ما هو نصه، بعد الصّدر: وإلى هذا فممّا أفادته الفطر السليمة، والحلم والقضاء بالشريعة، والنّقل الشرعي والسّنن المرعي، أنّ مغالب الحقّ مغلوب، ومزاحم الله مهزوم، ومكابر البرهان بالجهل موسوم، ومرتع الغيّ مهجور، وسيف العدوان مفلول، وحظّ الشيطان موكوس، وحزب السلطان منصور. ولا خفاء بنعمة الله علينا، التي اطّردها في المواطن العديدة والهضبات البعيدة، والشّبهات غير المبينة، والظّلمات الكثيفة، معلن بوفور الحظّ من رحمته، وإبراز القداح في مجال كرامته، والاختصاص بسيما اختياره، فجعل العصمة ليلة الحادث علينا من دون مضجع أمانا، ونهج لنا سبيل النّجاة بين يدي كسبه علينا، وسخّر لنا ظهري الطّريف والطريق، بعد أن فرّق لنا بحر الليل، وأوضح لنا خفيّ المسلك، وعبّد لنا عاصي الحزم، ودمّث غمر الشّعراء (3)، وأوطأنا صهوة المنعة، وضرب وجوه الشّرذمة المتبعة، بعد أن ركضوا قنيب البراذن البادئة، من خزائن إهدائنا، المتجمّلة بحلي ركبنا وتحمّلوا السلاح والرّياش المختار من أثير صلاتنا، وأبهروا الأنفاس التي طال ما رفعها إيناسنا وأبلغها الريق تأميننا، وصبّبوا العرق الذي أفضله طعامنا، شرهين إلى دمنا، المحظور بالكتاب والسّنّة، المحوط بسياج البيعة، المحصّن عنهم بتقديم النّعمة، وحرمة الأب ومتعدّد الأذمّة، فجعل الله بيننا وبينهم حاجزا، وسدّ ليأجوجهم من المردة مانعا، وانقلبوا يعضّون الأنامل الغضّة من سريط جفاننا، ويقلّبون الأكفّ التي أجدبها الدّهر، ترفيعا من المهن المترتّبة في خدمتنا، قد حالهم صغار القدر، وذلّ الخيبة، وكبح الله جماعتهم عن التّنفق بتلك الوسيلة. واحتللنا قصبة وادي آش، لا نملك إلّا أنفسنا، لم يشبها غشّ الملّة، ولا كياد الأمّة، ولا دنّسها والحمد لله عار الفاحشة، ولا وسمها الشّوم في الولاية، ولا
__________
(1) الدليل البركي: هو أحد وزراء سلطان غرناطة، الغني بالله.
(2) باب البنود: من أبواب غرناطة، يفصله عن قصبة الحمراء نهر حدرّه، وما يزال هذا الباب قائما حتى اليوم. راجع نهاية الأندلس للأستاذ محمد عبد الله عنان (ص 21) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم طويل (ص 294).
(3) الشّعراء: الأرض الكثيرة الشجر. محيط المحيط (شعر).(2/36)
أحبط عمل نجابتها دخل العقيدة، ولا مرض السّريرة، مذ سلّمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب، وصيّر إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة، نرى أنّها أملك لحرمتنا، وأعلم بما كنّا، وأرحم بنا، فتشبّثت بها القدم، وحميت لنا من أهلها، رعاهم الله الهمم، وصدقت في الذّبّ عنّا العزائم، وحاصرنا جيش العدو، وأولياء الشياطين، وظهر الباطل، فبان الظّفر والاستقبال، وظهرت الفئة القليلة، والله مع الصابرين، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضّيق، وأهمّنا من الأمر، فلم نطلق به غارة، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة، ولا سرّحنا عنّا اكتساح على هجمة، ولا شعنا لبسا في بيت ولا حلّة، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزائننا من أعشار وزكوات، وحظوظ من زراعات، وارتقبنا الفرج ممّن محّص بالشّدة، والإقالة ممن نبّه من الغفلة، وألهم الإقلاع والتّوبة. ثم وفّقنا سبحانه، وألهمنا من أمرنا رشدا، وسلك بنا طريقا في بحر الفتنة يبسا، فدناه بحقن الدماء، وتأمين الأرجاء، وشكرنا على البلاء كشكرنا إيّاه على الآلاء. وخرجنا على الأندلس، ولقد كاد، لولا عصمته، بأن نذهب مذاهب الزّوراء، ونستأصل الشّأفة (1)، ونستأصل العرصة (2)، سبحانه ما أكمل صنعه، وأجمل علينا ستره، إلى أن جزنا البحر، ولحقنا بجوار سلطان المغرب. لم تنب عنّا عين، ولا شمخ علينا أنف، ولا حمل علينا بركب (3)، ولا هتفت حولنا غاشية، ولا نزع عنّا للتقوى والعفاف ستر، بل كان الناس يوجبون لنا الحقّ الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا، والضّفادع ببركة نعمتنا، حتى إذا الناس عافوا الصّيحة، وتملّوا الحسرة، وسيموا الخسار والخيبة، وسامهم الطّغام (4) الذين يرجون لله وقارا، ولا يألون لشعائره المعظّمة احتقارا، كلاب الأطماع، وعبدة الطاغوت (5)، ومدبّر وحجون الجهل، ومياسيس أسواق البعد عن الرّب، وعرائس محرم الزينة، ودود القزّ، وثغار النّهم الأعزّة على المؤمنين بالباطل، الأذلّة في أنفسهم بالحق، ممن لا يحسن المحاولة، ولا يلازم الصّهوة، ولا يحمل السلاح، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء، ولا يطعم المسكين، ولا يشعر بوجود الله، جاروا من شقيّهم المحروم، على مضعوف ملتفّ في الحرم المحصور، محتف بلطف المهد، معلّل بالخداع، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم، شؤم على الإسلام، ومعرّة في وجه الدين، أخذ الله
__________
(1) الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم، وإذا قطعت مات صاحبها، وقوله: استأصل شأفته: أي أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو أزاله من أصله. محيط المحيط (شأف).
(2) العرصة: ساحة الدار. محيط المحيط (عرص).
(3) الركب: الجماعة من عشرة فصاعدا. محيط المحيط (ركب).
(4) الطّغام: أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه سواء. محيط المحيط (طغم).
(5) الطاغوت: اللّات والعزّى، والشيطان، والأصنام. محيط المحيط (طغا).(2/37)
منهم حقّ الشريعة، وأنصف أئمّة الملّة، فلم ينشبوا أن تهارشوا، فعضّ بعضهم، واستأصلهم البغي، وألحم للسيف، وتفنن القتل، فمن بين مجدّل يوارى بأحلاس الدّواب الوبرة، وغريق يزفّ به إلى سوء الميتة، واستبينت حرمة الله، واستضيم الدّين، واستبيحت المحرّمات، واستبضعت الفروج في غير الرّشدة، وساءت في عدوّ الدّين الحيلة، فتحرّكنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولي الحريّة، وتحريض من أولي الحفيظة والهمّة، وتداحر من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثّائرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثّأي (1)، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضرّ والبأساء، أما الحبوة فالتمسها، وجلّ الرّبّ، واستشاط عليها جوّ السماء. وأمّا مرافق البحر ومرافده، فسدّت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحميّة، فبدّدها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأمّا المال، فاصطلم السّفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزائنه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وافتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها، وجردتموا الآلة إلى أعلاها، والدّغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخرّبت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحقّ البهت، وخذل الناصر، وتبرّأت الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النّصفة، ولم نقرّه على الدّنيّة، وباينّاه أحوج ما كنّا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفّار مثله، اعتزازا بالله، وثقة به، ولجأ إليه، وتوكلا عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأوجى أمره، وأشدّ قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة، ونهدنا قدما، لا نهاب الهول ولا نراقبه، وأطللنا على أحواز ريّه (2) في الجمع القليل، إلّا من مدد الصّبر المفرد، إلّا من مظاهرة الله الغفل، إلّا من زينة الحق المظلّل جناح عقابه يجتاح الروح، تسدّ جياده بصهيل العزّ، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلمّا أحسّ بنا المؤمنون المطهّرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدّعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشّرذمة الغاوية، والطّائفة المناصبة لله المحاربة، وأقبلوا ثنيّات وأفرادا، وزرافات ووحدانا، ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيّا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلّقون بأذيالنا تعلّق الغريق، يئنّون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرّفناهم الأمان من الأعداء، وأول عارفة جعلونا
__________
(1) الثّأي والثّأى: الضعف والركاكة، وآثار الجرح.
(2) ريّه: كورة من كور الأندلس كثيرة الخيرات. الروض المعطار (ص 279).(2/38)
عليهم، وصرفنا وجه التّأمين والتّأنيس، وجميل الودّ إليهم، وخارطناهم (1) الإجهاش والرّقعة، ووثّبنا (2) لهم من الذّلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلّفوهم بها، من أخلاف لا يزال تطأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفائهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشمّر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرّ عنها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدّته في الغيّ، وأجرته على حرمة الله. وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة، يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقتياد جيوش الصّلبان، وشدّ الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدّين، وطمس معالم الحق، كيادا لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيّته، وتبديلا لنعمة الله كفرا، ولمعروف الحقّ نكرا، أصبح له الناس على مثل الرّضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظّلّة، وعودة الكرّة، وعقبى المعرّة، والله من ورائهم محيط، وبما يعملون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نقدم مذ حللنا بدار الملك شيئا على مراسلة صاحب قشتالة في أمره، نناشده العهد، ونطري له الوفاء، ونناجزه إلى الحقّ، ونقوده إلى حسن التلطّف، إلى الذي نشاء من الأمن، فحسم الداء، واجتثّ الأعداء، وناصح الإسلام وهو أعدا عدوه، وحزم الدين، وهو المعطل من أدوائه، وصارت صغرى عناية الله بنا، التي كانت العظمى، واندرجت أولاها في الأخرى، وأتت ركائب اليمن واليمين تترى، ورأى المؤمنون أن الله لم يخلق هذا الصّقع سدى ولا هباء عبثا، وأن له فينا خبيئة غيب، وسرّ عناية، يبلّغنا إيّاها، ويطوّقنا طوقها، لا مانع لعطائه، ولا معدّد لآلائه، له الحمد ملء أرضه وسمائه.
فمن اضطردت له هذه العجائب، فحملته عوائق الاستقامة مزية جيوب التقوى، كيف لا يتمنّى، ويدين لله بمناصحته، ويحذر عناد الله بمخالفته، ويخشى عاقبة أمره، إنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. فقلّمنا أظفار المطالبة وأغضينا عن البقيّة وسوّغنا من كشف وجهه في حربنا نعمة الإبقاء، وأقطعنا رحم من قطع طاعتنا جانب الصّفح، وأدررنا لكثير ممن شحّ عنّا ولو بالكلمة الطيّبة جورية الرزق، ووهنا ما وجب لنا من الحق، ودنّا له بكظم الغيظ وعمرنا الرّتب بأربابها،
__________
(1) لم ترد هذه الصيغة في معاجم اللغة، والمراد أنهم بكوا بكاء شديدا.
(2) وثّبه: أقعده على وسادة، والمراد هنا أنه أكرمهم وأقالهم من الذّلّة. محيط المحيط (وثب).(2/39)
وجردنا الألقاب بعد خرابها، وقبضنا الجباية محمّلة كتد العادة، مقودة بزمام الرّفق، ممسوحا عطفها بكفّ الطواعية، فبلّلنا صدأ الجيش الممطول بالأماني، المعلّل بالكذب، المستخدم في الذبّ عن مجاثم الفحشاء، ومراقد العهر، ودارينا الأعداء، وحسمنا الداء، وظهر أمر الله وهم كارهون، إلّا أن تلك الشّر ذمة الخبيثة أبقت جراثيم نفاق، ركبها انحجار الغدر، وبذر بها حصيد الشّرّ، وأخلطوا الحقائب اللّعنة ممن ساء ظنّه، وخبث فكره، وظنّ أن العقاب لا يفلته، والحقّ لا يذره، والسياسة لا تحفزه، فدبّت عقاربهم، وتدارت طوافاتهم، وتأبّت فسادهم، فدبّروا أمرا تبره الله تتبيرا، وأوسعه خزيا وبيلا، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان، من لا يصلح لشيء من الوظائف، ولا يستقلّ ببعض الكلف، فحركوا منهم زاهق زمانه، من شرّ الدّواب الذين لا يسمعون، فأجّرهم رسنه، وتوقف وقفة العين بين الورد والصّدر، بخلال ما أطلعنا الله طلع نيّته، فعاجلناه بالقبض، واستودعناه مصفدا ببعض الأطباق البعيدة، والأجباب العميقة، فخرج أمرهم، وخافوا أن نحترش السعايات، صباب مكرهم، وتتبع نفاقهم، فأقدموا إقدام العير على الأسد، استعجالا للحين، ورجعا لحكم الخيار، وإقداما على التي هي أشدّ، تولّى كبرها، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي (1) حلف التهور والخرق، المموّه بالبسالة وهو الكذوب النّكوث الفلول، تحملنا هفوته، وتغمّدنا بالعفو قديما وحديثا زلّته، وأعرضنا فيه عن النّصيحة، وأبقينا له حكم الولاية، وأنسنا من نفرته، وتعاففنا عن غرّته، وسوّغنا الجرائم التي سبقت، والجرائر التي سلفت، من إفساد العهد وأسر المسلمين، والافتيات على الشرع، والصّدوع بدعوى الجاهلية، فلم يفده إلّا بطرا، ولم يزده إلّا مكرا، والخير في غير أهله يستحيل شرّا، والنفع ينقلب ضرّا. والتفّت عليه طائفة من الخلائق، بنو غرّون قرعاء الجبل والمشأمة، وأذناب بيت الإدبار، ونفاية الشرّار، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس، ابن بطرون، الضعيف المنّة السقيط الهمّة، الخامل التفصيل والجملة، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حمامهم، وأن العدو قد دهمهم، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم، وأنّ رماحهم تنهشهم وتنوشهم، وسرعانهم ترهقهم، كأنهم سقطوا من السماء، أو ثاروا من بين الحصباء، ثم جالوا في أزقّة البلد يقذفون في الصّفاح نار الحباحب (2) ركضا فوق الصّخر المرصوف،
__________
(1) الخبيث البركي: هو أحد وزراء سلطان غرناطة، الغني بالله.
(2) الحباحب: ذباب يطير بالليل له شعاع في ذنبه كالسراج، وبنار الحباحب يضرب المثل في الضعف. محيط المحيط (حبب).(2/40)
وخوضا في الماء غير المرهوف. ثم قصدوا دار الشيخ البائس علي بن أحمد بن نصر، نفاية البيت، ودردى القوم، ممسوخ الشكل، قبيح اللّتغ، ظاهر الكدر، لإدمان المعاقرة، مزنون بالمعاقرة والرّبت على الكبرة، ساقط الهمّة، عديم الدّين والحشمة، منتمت في البخل والهلع، إلى أقصى درجات الخسّة، مثل في الكذب والنميمة، معيّب المثانة، لا يرق بوله، ولا يجفّ سلسه، فاستخرجوه مبايعا في الخلافة، منصوبا بأعلى كرسي الإمامة، مدعوما بالأيدي لكونه قلقا لا يثبت على الصّهوة، مختارا لحماية البيضة، والعدل في الأمة، مغتما للذبّ عن الحنيفية السّمحة، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا، منتترا باب البنود (1)، مستندا إلى الربض، مطلا على دار الملك، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري، الكسح الدروب برسم المسومة، الحرد، المهين الحجة، فحل طاحونة الغدر، وقدر السّوق والخيانة، واليهودي الشكل والنّحل، وقرعت حوله طبول الأعراس، إشادة بخمول أمره، واستهجان آلته، ونشرت عليه راية فال رأيها، وخاب سعيها، ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصّغير من حيله، وانبثّت في سكك البلد مناديه، وهتف أولياء باطله باسمه وكنيته، وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت، ودعوا سماسير الغرور فصمّت، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنّا بالله وتوكلنا عليه، وفوّضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند، وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد. وملأنا الأكفّ بالسلاح، وعمرنا الأبراج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الرّبض، نخبر مخبره ونسبر غوره، فألفيناه متواريا في وكره، مرعيا على دينه، مشفقا من الإخطار برمّه، مشيرا بكمّه. وتفقّدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، وليّ أمرنا، الذي اتخذناه ظهيرا واستنبطناه مشيرا، والتزمناه جليسا وصهيرا، ولم ندخر عنه محلّا أثيرا، الشيخ الأجلّ، أبا سعيد عثمان ابن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحّو، ممهّد الرعب بقدومه، والسّعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الجملة، سابغ العدّة، مزاح العلة، وافر النّاشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولفّ عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى داسه
__________
(1) باب البنود: أحد أبواب مدينة غرناطة، وما يزال قائما حتى اليوم. راجع نهاية الأندلس للأستاذ محمد عبد الله عنان (ص 294) ومملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر للدكتورة مريم قاسم طويل (ص 294).(2/41)
بالسّنابك، وتخلّفه مجرّ العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السّلم واستظلاله بظلال العافية، لحثّ الفاقرة، ووقعت به الرّزيّة. وفرّ الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيّهم أذلّ من وتد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبّض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعلبان مكيدة، وشكيّة ضلال ومظنّة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرّع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثلّ إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثائرة، والحمد لله من يومها، واجتثّت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتمّ نوره ولو كره الكافرون {إِنَّ هََؤُلََاءِ مُتَبَّرٌ مََا هُمْ فِيهِ وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (139) (1).وماذا رابهم منّا، أصغر الله منقلبهم، وأخزى مردّهم، واستأصل فلكهم؟ أولا يتبنى أمر وارثه، ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمق الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلّا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوّغا من هدنة، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفّة، وأظهر الله علينا من نعمة. ربّنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهمّ ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنّا أردنا لجماعتهم شرّا، وفي دينهم إغماضا، وعن العدل فيهم عدولا، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعي صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسّلنا طاعتهم، واهد بنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.
ولما أسفر صبح هذا الصّنع عن حسن العفو، واستقرّ على التي هي أزكى، وظهر لنا، لا تخاف بالله دركا ولا تخشى، وأن سبيل الحق أنجى ومحجّته أحجى، خاطبنا كم نجلو نعم الله قبلنا عليكم، ونشيد بتقوى الله بناديكم، وعنايته لدينا ولديكم، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتبارا، فزجّوا الله وقارا، وتزيّدوا يقينا واستبصارا، وتصفّوا العين من اختار لكم اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم. كتب في كذا. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة الأعراف 7، الآية 139. ومتبّر: هالك.(2/42)
الجهاد في شعبان من عام سبعة وستين وسبعمائة:
اقتضى نظر الحزم، ورأى الاجتهاد للإسلام إطلاق الغارات على بلد الكفرة من جميع جهات المسلمين، فعظم الأثر، وشهر الذكر، واكتسحت الماشية، وألحم السيف. وكان ثغر برغة، الفائزة به يد الكفرة، لهذه السنين القريبة، قد أهمّ القلوب، وشغل النفوس، وأضاق الصدور، لانبتات (1) مدينة رندة، بحيث لا يخلص الطّيف، ولا تبلغ الرسالة من الطّير وغيرها إلى ناحية العدو، فوقع العمل على قصده واستعانة الله عليه، واستنفر لمنازلته أهل الجهات الغربية من مالقة ورندة، وما بينهما، ويسّر الله في فتحه، بعد قتال شديد، وحرب عظيمة، وجهاد شهير، واستولى المسلمون عليه، فامتلأت أيديهم أثاثا وسلاحا ورياشا وآلة، وطهّرت للحين مساجده، وزيّنت بكلمة الله مشاهده، وأنست بالمؤمنين معاهده، ورتّبت فيه الحماة والرماة، والفرسان الكماة، واتّصلت بفتحة الأيدي، وارتفعت العوائق، وأوضحت بين المسلمين وأخوانهم السبل، والحمد لله. وتوجّهت بفتحه الرسائل، وعظمت المنن الجلائل، وفرّ العدو لهذا العهد عن حصن السهلة، من حصون الحفرة اللّويشيّة، وسدّ الطريق الماثلة، وذلك كله في العشر الأوسط لشعبان من هذا العام. ثم أجلب المسلمون في رندة في أخرياته وقصدوا باغة وجيرة فاستنزلوا أهلها، وافتتحوها، فعظمت النعمة، واطّرد الفتح، واتسعت الجهة.
وكانت مما خوطبت به الجهة المرينيّة (2) من إملائي:
المقام الذي نبشره بالفتح ونحيّيه، ونعيد له خبر المسرّة بعد أن نبديه ونسأل الله أن يضع لنا البركة فيه، ونشرك مساهمته فيما نهصره من أغصان الزهور ونجنيه، ونعلم أن عزّة الإسلام وأهله أسنى أمانيه، وإعانتهم أهمّ ما يعنيه. مقام محلّ أخينا الذي نعظم قدره، ونلتزم برّه، ونعلم سرّه في مساهمة المسلمين وجهره السلطان الكذا، الذي أبقاه الله في عمل الجهاد ونيّته متكفلة بنشر كلمة الله طويّته، متممة من ظهور الدين الحنيف أمنيته، معظّم جلاله، ومجزل ثنائه، ومؤمّل عادة احتفاله بهذا الوطن الجهادي واعتنائه، أيّد الله أمره، وأعزّ نصره. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله، واصل سبب الفتوح، ومجزل مواهب النّصر الممنوح، ومؤيد الفئة القليلة بالملائكة والرّوح، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيّه، الآتي بنور الهدى بيّن الوضوح، الداعي من قبوله ورضوانه إلى المنهل المورود والباب المفتوح، والرّضا عن آله وأصحابه، أسود السّروج وحماة السّروح، والمقتفين
__________
(1) الانبتات: الانقطاع. لسان العرب (بتت).
(2) المراد بالجهة المرينية بلاط بني مرين بفاس.(2/43)
نهجه في جهاد عدوّ الله بالعين القارّة والصدر المشروح، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصّروح، فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم سبوغ المواهب، ووضوح المذاهب، وعزة الجانب، وظفرة الكتائب. من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله واكفة السحائب، كفيلة بنيل الرغائب، والله يصل لنا ولكم عوارف اللطائف، ويجعل الشّهيد دليلا على الغائب. وإلى هذا وصل الله إعزازكم، وحرس أحوازكم، وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنّا بادرنا تعريفكم بما فتح الله علينا من الثغر العزيز على الإسلام، العائد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام، ركاب الغارات، وممكّن حياة المضرّات، ومخيف الطريق السابلة والمسارح الآهلة، حصن برغة. ويسّر الله في استرجاعه، مع شهرة امتناعه، وتطهّر من دنس الكفّار، وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة الساطعة الأنوار، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها، ووفت الأوتار أوبارها، فسار الكتاب إليكم، وأجير الأجر لم يجفّ عرقه، وعذر الاستعجال لاحبة طرقه. ولما عدنا إلى حضرتنا، بعد ما حصّناه وعمّرناه، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه، لم تكد البنود لمسرّة فتحه أن تعاد إلى أماكن صونها، مرتقبة عادة الله في عونها، حتى طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده، بتشفيع أفراده، وذلك أن أهل رندة، حرسها الله، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة، كان الله لجميعهم، وتولّى شكر صنيعهم، فيما كان من امتيازهم بحصن برغة، الجار المصاقب لها، فحميت هممهم السنيّة، وهانت في الله موارد المنيّة، وتضافر العمل والنيّة، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتوح الهنيّة، فوجهوا نحو حصن وحبر، وهو الداين صحر المدينة ونحرها، والعدوّ الذي لا يفتر عن ضرّها، والحيّة الذكر التي هي مروان أمرها ففتحوه بعون الله وقوته، وتهنّوا بعده سلوك الطريق، وإشاعة الريق، ومراصد الحرس، ومجلوّ الجرس، وأنصفوا، وانصرفوا إلى حصن باغة، من مشاهد تلك الحفرة، فناشبوه القتال، وأذاقوه الوبال، وفوقوا إليه النّبال، ففتحه الله فتحا هينا، لم تفتّ فيه للمسلمين نفس، ولا تطرّق لنصر التيسير لبس، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية، والمنن المتقدّمة والتالية، وأعدنا الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب، والطبول إلى قرعها عملا من الإشارة بالواجب، وشكرنا الله على اتصال المواهب، ووضوح المذاهب، وخاطبنا مقامكم الذي نرى الصّنائع متواترة بنيّته الصالحة وقصده، ويعتد في الحرب والسلم بمجده، علما بأن هذه المسرّات، نصيبكم منها النصيب الأوفى وارتياحكم إلى مثلها لا يخفى. ونحن نرقب ما تنجلي عنه هذه النكايات التي تفتّت كبد العدو تتاليها، وتروع أحوازه وما يليها، ولا بدّ له من امتعاض يروم به صرع المعرّة، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرّة، والله يجعلها محركات لحتفه المرقوب، وحينه المجلوب، ويحقق حقّ القلوب، في نصرة المطلوب، عرّفناكم بما تريدون
عملا بواجب برّكم، ومعرفة بقدركم، وما يتزايد نعرفكم به، ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه، والسلام.(2/44)
نهجه في جهاد عدوّ الله بالعين القارّة والصدر المشروح، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصّروح، فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم سبوغ المواهب، ووضوح المذاهب، وعزة الجانب، وظفرة الكتائب. من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله واكفة السحائب، كفيلة بنيل الرغائب، والله يصل لنا ولكم عوارف اللطائف، ويجعل الشّهيد دليلا على الغائب. وإلى هذا وصل الله إعزازكم، وحرس أحوازكم، وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنّا بادرنا تعريفكم بما فتح الله علينا من الثغر العزيز على الإسلام، العائد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام، ركاب الغارات، وممكّن حياة المضرّات، ومخيف الطريق السابلة والمسارح الآهلة، حصن برغة. ويسّر الله في استرجاعه، مع شهرة امتناعه، وتطهّر من دنس الكفّار، وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة الساطعة الأنوار، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها، ووفت الأوتار أوبارها، فسار الكتاب إليكم، وأجير الأجر لم يجفّ عرقه، وعذر الاستعجال لاحبة طرقه. ولما عدنا إلى حضرتنا، بعد ما حصّناه وعمّرناه، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه، لم تكد البنود لمسرّة فتحه أن تعاد إلى أماكن صونها، مرتقبة عادة الله في عونها، حتى طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده، بتشفيع أفراده، وذلك أن أهل رندة، حرسها الله، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة، كان الله لجميعهم، وتولّى شكر صنيعهم، فيما كان من امتيازهم بحصن برغة، الجار المصاقب لها، فحميت هممهم السنيّة، وهانت في الله موارد المنيّة، وتضافر العمل والنيّة، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتوح الهنيّة، فوجهوا نحو حصن وحبر، وهو الداين صحر المدينة ونحرها، والعدوّ الذي لا يفتر عن ضرّها، والحيّة الذكر التي هي مروان أمرها ففتحوه بعون الله وقوته، وتهنّوا بعده سلوك الطريق، وإشاعة الريق، ومراصد الحرس، ومجلوّ الجرس، وأنصفوا، وانصرفوا إلى حصن باغة، من مشاهد تلك الحفرة، فناشبوه القتال، وأذاقوه الوبال، وفوقوا إليه النّبال، ففتحه الله فتحا هينا، لم تفتّ فيه للمسلمين نفس، ولا تطرّق لنصر التيسير لبس، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية، والمنن المتقدّمة والتالية، وأعدنا الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب، والطبول إلى قرعها عملا من الإشارة بالواجب، وشكرنا الله على اتصال المواهب، ووضوح المذاهب، وخاطبنا مقامكم الذي نرى الصّنائع متواترة بنيّته الصالحة وقصده، ويعتد في الحرب والسلم بمجده، علما بأن هذه المسرّات، نصيبكم منها النصيب الأوفى وارتياحكم إلى مثلها لا يخفى. ونحن نرقب ما تنجلي عنه هذه النكايات التي تفتّت كبد العدو تتاليها، وتروع أحوازه وما يليها، ولا بدّ له من امتعاض يروم به صرع المعرّة، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرّة، والله يجعلها محركات لحتفه المرقوب، وحينه المجلوب، ويحقق حقّ القلوب، في نصرة المطلوب، عرّفناكم بما تريدون
عملا بواجب برّكم، ومعرفة بقدركم، وما يتزايد نعرفكم به، ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه، والسلام.
الغزاة إلى حصن أشر (1):
وفي أوائل شهر رمضان بعده، أعمل السلطان الحركة السعيدة إلى حصن أشر، وهو قفل الثغر الذي فضّه الطاغية، وسورها الذي فرغه الكفر، وجارحه المحلّق على البلاد، والمتحكم لولا فضل الله في الأموال والأولاد، فتأذن الله برد مغتصبه، والشّفا من وصبه، وأحاط به وناصبه الحرب، ففتحه الله على يده عنوة، على سموّ ذروته، وبعد صيته وشهرته، واختيار الطاغية في حاميته بعد حرب لم يسمع بمثله، فاز بمزية الحمد فيها السلطان، لمباشرته إياها بنفسه، وحمل كلّها فوق كاهله، واتّقاد ما حمد من الحميّة بتحريضه. ثم لما كان بعد الفتح من استخلاص القصبة وسدّ ثلمها بيده، ومصابرة جو القيظ عامّة يومه، فحاز ذكرا جميلا وحلّ من القلوب محلّا أثيرا، ورحل منها، بعد أن أسكن بها من الفرسان رابطة متخيرة، ومن الرّماة جملة، وتخلّف سلاحا وعدّة، فكان الفتح على المسلمين، في هذا المعقل العزيز عليهم جليلا، والمنّ من الله جزيلا، والصنع كثيرا، وصدرت المخاطبة للمغرب بذلك، على الأسلوب المرسل الخلي من السجع الغني.
الغزاة المعملة إلى أطريرة (2):
في شهر شعبان من عام ثمانية وستين وسبعمائة، كانت الحركة إلى مدينة أطريرة بنت إشبيلية، وبلدة تلك الناحية الآمنة، مهاد الهدنة البعيدة عن الصّرمة، حرك إليها بعد المدى، وآثرها بمحض الرّدى، من بين بلاد العدا، ما أسلف به أهلها المسلمين، من قتل أسراهم في العام قبله. فنازلها السلطان أول رمضان، وناشبها الحرب واستباح المدينة وربضها عنوة، ولجأ أهلها إلى قصبتها المنيعة، ذات الأبراج المشيّدة، وأخذ القتال بمخنّقهم، وأعان الزحام على استنزالهم، فاستنزلوا على حكم المسلمين، فيما يناهز خمسة، بما لم يتقدمه عهد ولا اكتحلت به في هذه المدة عين، ولا تلقته عنها أذن، وامتلأت أيدي المسلمين، بما لم يعلمه إلّا الله، من شتّى الغنائم، وأنواع الفوائد، واقتسم الناس السّبي ربعا على الأكفال والظهور، وتقديرا بقدر الرجال، وحملا فوق الظهور للفرسان، وعمرانا للسروج
__________
(1) أشر: بالإسبانية، وهو حصن يقع على ضفة نهر شنيل.
(2) أطريرة: بالإسبانية وهي مدينة تقع جنوب شرقي إشبيلية. راجع: أزهار الرياض (ج 4 ص 60).(2/45)
والأعضاد بالصّبية، وبرز الناس إلى ملاقاة السلطان، في هول من العزّ شهير من الفخر، وبعيد من الصيت، قرّت له أعينهم، وقعد لبيعتهم أياما تباعا، وملأ بهم البلاد هدايا وتحفا والحمد لله، وصدرت المخاطبة بذلك إلى السلطان بالمغرب بما نصه من الكلام المرسل من إنشائي.
الغزاة إلى فتح جيّان:
وفي آخر محرم من عام تسعة وستين وسبعمائة، كانت الحركة الكبرى إلى مدينة جيان، إحدى دور الملك، ومدن المعمود، وكرسيّة الإمارة، ولو أن المدن الشهيرة افتتحها الله عنوة، ونقل المسلمون ما اشتملت عليه من النّعم والأقوات والأموال والأنعام والأثواب والدّواب والسّلاح، ومكّنهم من قتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتخريب الديار، ومحو الآثار، واستنساف النّعم، وقطع الأشجار. وهذا الفتح خارق، تعالى أن يحيط به النّظم والنثر. فذكره أطير، وفخره أشهر. وصدرت في ذلك المخاطبة من إملائي إلى ملك المغرب. وأصاب الخلق عقب القفول في هذه الغزاة، مرض وافد، فشا في الناس كافة، وكانت عاقبته السّلامة وتدارك الله بلطفه، فلم يتّسع المجال لإنشاد الشعراء، ومواقف الإطراء، إلى شغل عن ذلك.
الغزاة إلى مدينة أبدة:
وفي أول ربيع الأول من هذا العام، كان الغزو إلى مدينة أبدة، واحتلّ بظاهرها جيش المسلمين، وأبلى السلطان في قتالها، وقد أخذت بعد جارتها جيّان أقصى أهبة، واستعدّت بما في الوسع والقوة، وكانت الحرب بها مشهورة. وافتتحها المسلمون فانتهبوها، وأعفوا مساكنها العظيمة البناء، وكنائسها العجيبة المرأى، وألصقوا أسوارها بالثّرى، ورأوا من سعة ساحتها، وبعد أقطارها، وضخامة بنائها، ما يكذّب الخبر فيه المرأى، ويبلّد الأفكار، ويحيّر النّهى. ولله الحمد على آلائه التي لا تحصى. وقفل المسلمون عنها، وقد أخربوها، بحيث لا تعمر رباعها، ولا تأتلف حجورها وجموعها. وصدرت المخاطبة بذلك إلى صاحب المغرب من إنشائي بما نصّه:
وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصّنع للمسلمين، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه، وحياز سبعة من كبار أصحابه، وأهل ملّته إليه، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين، وإجلابهم على من آثر طاعته ضدّه، فانهزم بظاهر حصن منتيل، ومعه عدد من فرسان المسلمين، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة
ولا استعداد، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنّقه، وأدار على الحصن البناء، وفرّ جيش المحصور، فاجتمع فلّه بأحواز أبدة، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصا على تخليصه، ليسبّب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر، وتشغل بعض العدو ببعضه.(2/46)
وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصّنع للمسلمين، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه، وحياز سبعة من كبار أصحابه، وأهل ملّته إليه، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين، وإجلابهم على من آثر طاعته ضدّه، فانهزم بظاهر حصن منتيل، ومعه عدد من فرسان المسلمين، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة
ولا استعداد، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنّقه، وأدار على الحصن البناء، وفرّ جيش المحصور، فاجتمع فلّه بأحواز أبدة، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصا على تخليصه، ليسبّب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر، وتشغل بعض العدو ببعضه.
وفي أثناء هذه المحاولة تباطن الحاين المحصور بمن معه، وبعد عليه الخلاص من ورطته، ومساهمة المسلمين إياه في محنته وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته، فداخل بعض أمراء أخيه وظهرائه، ممن يباشر حصاره، وكان قومسا شهيرا من المدد الذي ظاهره، من أهل إفرنسية، ووعده بكل ما يطمع من مال ومهد، وتوفية عهد، فأظهر له القبول، وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه، سجنه ومن لحق به من الأدلّاء وأولي الحرّة بالأرض وأمسكه، وقد طيّر الخبر إلى أخيه، فأقبل في شرذمة من خواصّه وخدّامه، فهجم عليه وقتله، وأوسع العفو من كان محصورا معه، وطير إلى البلاد برأسه، وأوغر التّبن في جثّته، ولبس ثياب الحزن من أجله، وإن كان معترفا بالصّواب في قتله، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة الجاهر بمظاهرة المسلمين، وما جرّ ذلك من افتتاح بلادهم، وتخريب كنائسهم، والإتيان على نعمهم، فأجابته ضربة، واتفقت على طاعته، فلم يختلف عليه منها اثنان، إلّا ما كان من مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى، ووقع ارتفاع شتاتهم، وصرفوا وجوههم إلى المسلمين، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدوّ الثقيل ببرجلونة (1)، وعدوّ الأشبونة، والعدو الثّقيل الوطأة بإفرانسيّة. وقد كان الله، جلّ جلاله، ألهم أهل البصائر النظر في العواقب، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان، المخلي بيني وبين النصائح، في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه، والتّفطّن لمكايد من يحطب في حبل أخيه، وأريته اتخاذ معقل يحرز ولده وذخيرته، ويكون له به الخيار على دهره، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة، والتواريخ المعروفة، لتتّصل الفتنة بأرضهم، فقبل الإشارة وشكر النصيحة، واختار لذلك مدينة قرمونة المختصّة بالجوار المكتّب، من دار ملكهم إشبيلية، فشيّد هضابها، وحصّن أسوارها، وملأها بالمخازن طعاما وعدّة، واستكثر من الآلات، واستظهر عليها بالثّقات، ونقل إليها المال والذخيرة، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية، وأسرى المسلمين، وبالغ في ذلك، فيما لا غاية وراءه ولا مطمع، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه، حتى تركها عدّة خلفه، وأودع
__________
(1) هي مدينة برشلونة، عاصمة مملكة أراغون في أيام ابن الخطيب.(2/47)
بها ولده وأهله، ولجأ إليها بعض من خدّامه ممن لا يقبل مهدنة ضدّه، ولا يقرّ أمان عدوه، والتفوا على صغير من ولده كالنّحل على شهده، ولجأوا إلى المسلمين، فبغّض عليهم الكرّة والفتح بقاء هذا الشّجى المعترض في حلقه، وأهمّه تغيير أمره، وجعجع به المسلمون لأجله، وأظهروا لمن انحاز بقرمونة الامتساك بعهده، فعظم الخرق، وأظهر الله نجح الحيلة، وصدّق بها المخيّلة، وتفتّر الأمر، وخمدت نار ذلك الإرجاف، واشتغل الطاغية بقرمونة، بخلال ما خوطب به صاحب الأرض الكبيرة (1)، فطمّعه في المظاهرة، وتحطّب له ملك قشتالة، وعقد السّلم مع صاحب برطغال (2)
والأشبونة، ونشأت الفتن بأرضهم، وخرجت عليهم الخوارج، فأوجب إزعاجه إلى تلك الجهة، وإقرار ما بالبلاد المجاورة للمسلمين من الفرسان والحماة تقاتل وتدافع عن أحوازها، وجعل الخصص موجّهة قرمونة، وانصرف إلى سدّ الفتوق التي عليه بلطف الحيلة، ببواطن أرضه، وأحشاء عمالته، وصار في ملكه أشغل من ذات النّحيين، فساغ الرّيق، وأمكن العذر، وانتهز الغرّة، واستؤنفت الحركة، فكانت إلى حصن منتيل والحويز، ففتحهما الله في رمضان من عام سبعين وسبعمائة، ثم إلى ثغر روطة، ففتحه الله عن جهد كبير، واتصل به حصن زمرة، فأمّن الإسلام عادية العدوّ بتلك الناحية، وكبس أهل رندة بإيعاز من السلطان إليها وإلى من بالجبل، جبل الفتح، حصن برج الحكيم والقشتور، فيسّر الله فتحهما في رمضان أيضا.
ثم كانت الحركة إلى الجزيرة الخضراء (3)، باب الأندلس، وبكر الفتح الأول، فكانت الحركة إليها شهر ذي الحجة من العام المذكور. ووقع تحريض الناس بين يدي قصدها في المساجد بما نصّه:
معاشر المسلمين المجاهدين، وأولي الكفاية عن ذوي الأعذار من القاعدين، أعلى الله بعلوّ أيديكم كلمة الدين، وجعلكم في سوى الأجر والفخر من الزاهدين، اعلموا، رحمكم الله، أن الإسلام بالأندلس ساكن دار، والجزيرة الخضراء بابه، ومبعد مغار، والجزيرة الخضراء ركابه، فمن جهتها اتصلت في القديم والحديث أسبابه، ونصرته على أعدائه وأعداء الله أحبابه، ولم يشكّ العدو الكافر الذي استباحها، وطمس بظلمة الكفر صباحها، على أثر اغتصابها، واسوداد الوجوه المؤمنة لمصابها، وتبديل محاربها، وعلوق أصله الخبيث في طيّب تراثها، أن صريع الدين الحنيف بهذا الوطن الشريف لا ينتعش ولا يقوم، بعد أن فري الحلقوم، وأن الباقي
__________
(1) الأرض الكبيرة هي فرنسا.
(2) برطغال: هي البرتغال.
(3) راجع: أزهار الرياض (ج 4ص 72).(2/48)
رمق يذهب، وقد سدّ إلى التّدارك المذهب، لولا أن الله دفع الفاقرة (1) ووقاها، وحفظ المسكنة واستبقاها، وإن كان الجبل (2) عصمة الله نعم البقية، وبمكانه حفّت التقية، فحسبك من مصراع باب فجع بثانيه، ومضايق جوار حيل بينه وبين أمانيه.
والآن، يا عباد الله، قد أمكنكم الانتهاز، فلا تضيّعوا الفرصة، وفتر المخنّق فلا تسوّغه غصّة، واعمروا البواطن بحميّة الأحرار، وتعاهدوا مع الله معاهد الأولياء الأبرار، وانظروا للعون من الذّراري والأبكار، والنشأة الصّغار، زغب الحواصل في الأكوار، والدين المنتشر بهذه الأقطار، واعملوا للعواقب تحمدوا عملكم، وأخلصوا لله الضمائر يبلّغكم من فضله أملكم، فما عذر من سلّم في باب وكره، وماذا ينتظر من أذعن لكيد عدوّه ومكره. من هذه الفرضة، دخل الإسلام تروّع أسوده، ومن هذه الجهة طلع الفتح الأول تخفق بنوده، ومنها تقتحم الطير الغريب، إذا رامت الجواز وفوده، فيبصر بها صافّات والدليل يقوده. الباب المسدود، يا عباد الله، فافتحوه، وجه النّصر تجلّى يا عباد الله فالمحوه، الداء العضال يا عباد الله فاستأصلوه، حبل الله يا رجال الله قد انقطع فصلوه. في مثلها ترخص النفوس الغالية، في مثلها تختبر الهمم العالية، في مثلها تشهر العقائد الوثيقة، وتدسّ الأحباس العريقة، فنضّر الله وجه من نظر إلى قلبه، وقد امتلأته حميّة الدين، وأصبح لأن تكون كلمة الله هي العليا متهلّل الجبين.
اللهمّ إنّا نتوسّل إليك بأسرار الكتاب الذي أنزلته، وعناية النبيّ العربي الذي أوفدت من خصوص الرّحمات وأجزلت، وبكل نبيّ ركع لوجهك الكريم وسجد، وبكل وليّ سدّه من إمدادك كما وجد، ألا ما رددت علينا ضالّتنا الشاردة، وهنّأتنا بفتحها من نعمك الواردة، يا مسهل المآرب العسرة، يا جابر القلوب المنكسرة، يا وليّ الأمة الغريبة، يا منزل اللطائف القريبة، اجعل لنا من ملائكة نصرك مددا، وأنجز لنا من تمام نورك الحقّ موعدا. ربّنا آتنا من لدنك رحمة، وهيّئ لنا من أمرنا رشدا.
فوقع الانفعال، وانتشرت الحميّة، وجهزت الأساطيل. وكانت منازلتها يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور، وعاطاها المسلمون الحرب، فدخلت البنية وهي المدينة الملاصقة لها عنوة، قتل بها من الفرسان الدّارعة عدّة، وصرفت الغنائم إلى المدينة الكبرى، فرأوا من أمر الله، ما لا طاقة لهم به، وخذلهم الله جلّ
__________
(1) الفاقرة: الداهية التي تكسر الفقار، والجمع فواقر. محيط المحيط (فقر).
(2) المقصود هنا جبل الفتح، أي جبل طارق.(2/49)
جلاله، على منعة الأسوار وبعد مهاوي الأغوار، وكثرة العدّ والعدد، وطلبوا الأمان لأنفسهم، وكان خروجهم عنها يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور، السعيد على المسلمين، في العيد والسرور، برد الدين، ولله الحمد على آلائه، وتوالي نعمه وإرغام أعدائه.
وفي وسط ربيع الأول من عام أحد وسبعين وسبعمائة، أعمل الحركة إلى أحواز إشبيلية دار الملك، ومحل الشّوكة الحادّة، وبها نائب سلطان النصارى، في الجمع الخشن من أنجاد فرسانهم، وقد عظم التضييق ببلدة قرمونة، المنفرد بالانتزاء على ملك النصارى، والانحياز إلى خدمة المسلمين، فنازل المسلمون مدينة أشونة (1)، ودخلوا جفنها عنوة، واعتصم أهلها بالقصبة، فتعاصت، واستعجل الإقلاع منها لعدم الماء المروي والمحلّات، فكان الانتقال قدما إلى مدينة مرشانة وقد أحدقوا بها، وبها العدّة والعديد من الفرسان الصّناديد، ففتحها الله سبحانه، إلّا القصبة، واستولى المسلمون فيها، وفي جارتها، من الدواب والآلات على ما لا يأخذه الحصر، وقتل الكثير من مقاتلتها، وعمّ جميعها العدم والإحراق، ورفعت ظهور دواب المسلمين من طعامها ما تقلّه أظهر مراكب البحار، ما أوجب في بلاد المسلمين التّوسعة، وانحطاط الأسعار، وأوجب الغلاء في أرض الكفّار، وقفل، والحمد لله، في عزّ وظهور، وفرح وسرور.
مولده السعيد النّشيئة (2)، الميمون الطلوع والجيئة:
المقترن بالعافية، منقولا من تهليل نشأته المباركة، وحرز طفولته السعيدة، في نحو ثلث ليلة الاثنين والعشرين من جمادى الآخرة عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. قلت: ووافقه من التاريخ الأعجمي رابع ينير من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين (3) لتاريخ الصّفر. واقتضت صناعة التعديل بحسب قيمودا وبطليموس، أن يكون الطالع ببرج القمر لاستيلائه على مواضع الاستقبال المتقدم للولادة، ويكون التخمين على ربع ساعة وعشر ساعة، وثلث عشر الساعة السادسة من ليلة الاثنين المذكورة، والطالع من برج السّنبلة، خمس عشرة درجة، وثمان وأربعون دقيقة من درجة. كان الله له في الدنيا والآخرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) أشونه، بالإسبانية:، وهي مدينة من كور إستجة الأندلس. الروض المعطار (ص 60).
(2) النشيئة: النشأة.
(3) الصواب: 21كانون الثاني من عام 1338م.(2/50)
محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر ابن قيس الخزرجي الأنصاري (1)
من ولد سعد بن عبادة، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ابن سليمان بن حارثة بن خليفة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمر بن يعرب بن يشجب بن قحطان بن هميسع بن يمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم صلّى الله عليه وعلى محمد الكريم. أمير المسلمين بالأندلس ودايلها خدمة النّصريين بها. يكنى أبا عبد الله، ويلقب بالغالب بالله.
أوّليّته: وقد اشتهر عند كثير ممن عني بالأخبار أن هذا البيت النّصري من ذرّية سعد بن عبادة سيد الخزرج، وصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وصنّف الناس في اتصال نسبهم بقيس بن سعد بن عبادة غير ما تصنيف. وأقوى ما ذكر قول الرّازي: دخل الأندلس من ذرّية سعد بن عبادة رجلان، نزل أحدهما أرض تاكرونّا، ونزل الآخر قرية من قرى سقر سطونة، تعرف بقرية الخزرج، ونشأ بأحواز أرجونة من كنبانيّة (2)
قرطبة، أطيب البلاد مدرة، وأوفرها غلّة، وهو بلده، وبلد جدّه، في ظل نعمة، وعلاج فلاحة، وبين يدي نجدة وشهرة، بحيث اقتضى ذلك، أن يفيض شريان الرياسة، وانطوت أفكاره على نيل الإمارة، ورآه مرتادو أكفاء الدول أهلا، فقد حوا رغبته، وأثاروا طمعه.
حدّث شيخنا الكاتب الشاعر، محمد بن محمد بن عبد الله اللّوشي اليحصبي، وقد أخبرني أنه كان يوجد بمدينة جيّان رجل من أهل الماليّة، وكان له فرس أنثى من عتاق الخيل، على عادة أولي المالية، وكان له من أهل الثغور، من ارتباط الخيل، والتنافس في إعداد القوة. وشهرت هذه الفرس في تلك الناحية، وبعث الطّاغية ملك الروم في ابتياعها، فعلقت بها كفّ هذا الرجل، وآثر بها نفسه، وازداد غبطة بها لديه، ورأى في النوم قائلا يقول له: سر إلى أرجونة، بفرسك، وابحث عن رجل اسمه كذا، وصفته كذا، فأعطه إياها، فإنه سيملك جيّانا وسواها، ينتفع بها عقبك. وأرجىء الأمر، فعرض عليه ثانية، وحثّ في ذلك في الثّالثة، فسأل ثقة له خبيرا بتلك الناحية وأهلها، فقال له المخبر، وكان يعرف بابن يعيش، فوصفه له، فتوجه الفقيه إلى
__________
(1) ترجمة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر في المغرب (ج 2ص 109) والبيان المغرب قسم الموحدين (ص 296، 341) واللمحة البدرية (ص 36).
(2) كنبانية: كلمة إسبانية، وتعني الأرض الجرداء. راجع نفح الطيب (ج 4ص 191) حاشية المحقق.(2/51)
أرجونة، ونزل بها، وتسومع به، وأقبل السلطان وأظهاره، وتكلموا في شأنه، فذكر غرضه فيه، وأظهر العجز عن الثّمن، وسأل منه تأخير بعضه، فأسعفه، واشترى منه الفرس بمال له خطر. فلما كمل له القصد، طلب منه الخلوة به في المسجد من الحصن، وخرج له عن الأمر، وأعطاه بيعته، وصرف عليه الثّمن، واستكتمه السلطان خيفة على نفسه، وانصرف إلى بلده.
قال: وفي العام بعده، دعا إلى نفسه بأرجونة، وتملّك مدينة جيّان، واختلف في السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقيل: إن بعض العمال أساء معاملته في حقّ مخزني، وقيل غير ذلك.
حاله: هذا الرجل كان آية من آيات الله في السّذاجة والسلامة والجمهورية، جنديّا، ثغريّا شهما، أيّدا، عظيم التّجلّد، رافضا للدّعة والرّاحة، مؤثرا للتقشف، والاجتراء باليسير، متبلغا بالقليل، بعيدا عن التّصنّع، جافي السلاح، شديد العزم، مرهوب الإقدام، عظيم التّشمير، مقريا لضيفه، مصطنعا لأهل بيته، فظّا في طلب حظّه، محميا لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشرا للحروب بنفسه، تتغالى الحكاة في سلاحه، وزينة دبوره. يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجدّ في أموره. سعد بيوم الجمعة، وكان فيه تملّكه جيّان ثم حضرة الملك غرناطة، وقيل: يوم قيامه شرع فيه الصّدقة الجارية على ضعفاء الحضرة، ومنائهم إلى اليوم.
وتملك مدينة إشبيلية (1) في أخريات ربيع الأول من عام ظهوره، وهو عام تسعة وعشرين وستمائة نحوا من ثلاثين يوما. وملك قرطبة في العشر الأول لرجب من العام المذكور، وكلاهما عاد إلى ملك ابن هود.
ولما تمّ له القصد من تملّك البيضة، والحصول على العمّال، مباشرا للحسابات بنفسه، فتوفّر ماله، وغصّت بالصامت خزائنه، وعقد السّلم الكبير، وتهنّأ أمره، وأمكنه الاستعداد، فأنعم الأهواء، وملأ بطن الجبل المتصل بالقلعة حبوبا مختلفة، وخزائن درّة، ومالا وسلاحا وارية ظهرا، وكراعا، فوجد فائدة استعداده، ولجأ إلى ما ادّخره من عتاده.
سيرته: تظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية، يخطب لهم زمانا يسيرا، وتوصل بسبب ذلك إلى إمداد منهم وإعانة، ولقبل ما افتتح أمره بالدعاء للمستنصر العباسي ببغداد، حاذيا حذو سميّه ابن هود، للهج العامة في وقته، بتقلد تلك الدعوة، إلى أن نزع عن ذلك كله.
__________
(1) في المغرب: «وقد ملك إشبيلية وقتل ملكها المعتضد الباجي».(2/52)
وكان يعقد للناس مجلسا عاما، يومين في كل أسبوع، فترتفع إليه الظلامات، ويشافه طالب الحاجات، وتنشده الشعراء، وتدخل إليه الوفود، ويشافه أرباب النصائح في مجلس اختصّ به أهل الحضرة، وقضاة الجماعة، وأولي الرتب النّبيهة في الخدمة، بقراءة أحاديث من الصّحيحين، ويختم بأعشار من القرآن. ثم ينتقل إلى مجلس خاص، ينظر فيه في أموره، فيصرف كل قصد إلى من يليق به ذلك، ويؤاكل بالعشيّات خاصته من القرابة ومن يليهم من نبهاء القوّاد.
أولاده: أعقب ثلاثة من الذكور، محمدا وليّ عهده وأمير المسلمين على أثره والأميرين أبا سعيد فرج، وأبا الحجاج يوسف توفّيا على حياته حسبما يتقرر بعد إن شاء الله.
وزراء دولته: وزر له جماعة الوزير أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد، زعيم قاعدة جيّان وهو الذي مكّنه من ناصية جيّان المذكورة. واستوزر علي بن إبراهيم الشّيباني من وجوه حضرته، وذوي النّسب من الفضلاء أولي الدّماثة والوقار. واستوزر الرئيس أبا عبد الله ابن الرئيس أبي عبد الله الرّميمي. واستوزر الوزير أبا يحيى ابن الكاتب من أهل حضرته، وغيرهم ممن تبلغ به الشهرة مبلغا فيهم.
كتّابه: كتب له من الجلّة جماعة، كالكاتب المحدّث الشهير أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن سعيد اليحصبي اللّوشي، ولما توفي كتب عنه ولده أبو بكر بن محمد. هؤلاء مشاهير كتّابه، ومن المرؤوسين أعلام، كأبي بكر بن خطاب وغيره.
قضاته: ولي له قضاء الجماعة، القاضي العالم الشهير، أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، من جلّة أهل الأندلس في كبر البيت، وجلالة المنصب، وغزارة العلم. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الجليل بن غالب الأنصاري الخزرجي. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد السلام التميمي، وهذا الرجل من أهل الدين والأصالة، وآخر قضاة العدل. ثم ولي بعده الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي. ثم ولي بعده الفقيه القاضي الحسيب أبو عبد الله بن أضحى، وبيته شهير، ولم تطل مدته. وولي بعده آخر قضاته أبو بكر محمد بن فتح بن علي الإشبيلي، الملقب بالأشبرون.(2/53)
الملوك على عهده:
بمرّاكش المأمون إدريس، مأمون الموحّدين، مزاحما بأبي زكريا يحيى بن الناصر بن المنصور بن عبد المؤمن بالجبل. ولما توفي المأمون ولي الرشيد أبو محمد عبد الواحد في سنة ثلاثين وستمائة، وولي بعده أبو حفص عمر بن إسحاق المرتضى، إلى أن قتله إدريس الواثق أبو دبّوس في عام خمسة وستين. وولي بعده يسيرا بنو عامر بن علي بمراكش، وتعاقب منهم على عهده جلّة كالأمير عثمان وابنه حمو، وأخيه أبي يحيى بن عبد الحق. واستمرّ الملك في أسنّ أملاكهم، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو إلى آخر أيامه.
وبتلمسان، شبيهه يغمراسن بن زيّان، أول ملوكهم، وتقدمه أخوه أكبر منه برهة. ويغمراسن أول من أثّل الملك، وحاز الذّكر، واستحق الشهرة.
وبتونس، الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص. وخاطبه السلطان المترجم به، والتمس رفده، وقد حصل على إعانته، وولي بعد موته ولده المستنصر أبو عبد الله، ودامت أيامه إلى أول أيام ولد السلطان المترجم له عام أربعة وسبعين.
وبقشتالة هراندة بن ألهنشة بن شانجه الإنبرطور. وهراندة هذا هو الذي ملك قرطبة وإشبيلية، ولما هلك ولي بعده ألفنش ولده ثلاثا وثلاثين سنة، واستمرّ ملكه مدة ولايته، وصدرا من دولة ولده بعده.
وبرغون جايمش ابن بطره ابن ألفونش قمط برجلونه. وجايمش هذا هو الذي ملك بلنسية وصيّرها دار ملكه من يد أبي جميل زيّان بن مردنيش.
لمع من أخباره: قام ابن أبي خالد بدعوته بغرناطة، كما ذكر في اسمه، ودعاه وهو بجيّان، فبادر إليها في أخريات رمضان من عام خمسة وثلاثين وستمائة، بعد أن بعث إليه الملأ من أهلها ببيعتهم مع رجلين من مشيختهم أبي بكر (1) الكاتب، وأبي جعفر التّيزولي.
قال ابن عذاري في تاريخه (2): أقبل وما زيّه بفاخر، ونزل (3) عشي اليوم الذي
__________
(1) في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 342): «أبي بكر ابن الكاتب، وأبي جعفر النمزولي».
(2) البيان المغرب قسم الموحدين (ص 342).
(3) في البيان المغرب: «ونزل بخارج غرناطة على أن يدخلها من الغد غدوا ثم بدا له غير ذلك فدخلها مع غروب الشمس يوم نزوله».(2/54)
وصل بخارج غرناطة، على أن يدخلها من الغد، ثم بدا له فدخلها عند غروب الشمس، نظرا للحزم.
وحدّث أبو محمد البسطي قال (1): عاينته (2) يوم دخوله وعليه شاشيّة (3) ملفّ مضلعة أكتافها مخرّقة (4). وعند ما نزل بباب جامع القصبة، كان مؤذن المغرب في الحيعلة، وإمامه يومئذ أبو المجد المرادي قد غاب، فدفع الشيخ السلطان إلى المحراب، وصلّى (5) بهم، على هيئته تلك، بفاتحة الكتاب. و {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ} (1) (6). والثانية ب {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (1) (7). ثم وصل قصر باديس، والشمع بين يديه (8).
وفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة، صالح طاغية الروم، وعقد معه السّلم الذي طاحت في شروطه جيّان. وكان واقع بالعدو الراتب تجاه حضرته، المختص بحصن بليلش على بريد من الحضرة، وكان الفتح عظيما، ثم حالفه الصّنع بما يضيق المجال عن استيعابه. وفي حدود اثنين وستين وستمائة صالح طاغية الروم، وعقد معه السلم، وعقد البيعة لولي عهده، واستدعى القبائل للجهاد.
مولده: في عام خمسة وتسعين وخمسمائة بأرجونة، عام الأرك (9).
وفاته: في منتصف جمادى الثانية من عام واحد وسبعين وستمائة، ورد عليه وقد أسنّ، جملة من كتّاب الزّعائم، يقودون جيشا من أتباعهم، فبرز إلى لقائهم بظاهر حضرته، ولما كرّ آئبا إلى قصره، سقط ببعض طريقه، وخامره خصر، وهو راكب، وأردفه بعض مماليكه، واسمه صابر الكبير، وكانت وفاته ليلة الجمعة التاسع
__________
(1) النص في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 343342).
(2) في البيان المغرب: «فعاينته».
(3) في المصدر نفسه: «دخوله بشاية». والشاية والشاشية: لباس حربي محشو بالقطن لوقاية المحارب.
(4) في المصدر نفسه: «مقطعة».
(5) في المصدر نفسه: «فصلّى بهم على هيئة سفره بفاتحة».
(6) سورة النصر 110، الآية 1.
(7) سورة الإخلاص 112، الآية 1.
(8) في البيان المغرب: «ثم خرج إلى قصر باديس ابن حبوس والشمع بين الأبواب يتّقد».
(9) كانت وقعة الأرك سنة 591هـ وليس سنة 595هـ، وذلك بين المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي وجيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، وكان النصر فيها للموحدين، وكان عدد قتلى النصارى ثلاثين ألفا، واستشهد من المسلمين نحو الخمسمائة. البيان المغرب قسم الموحدين (ص 218).(2/55)
والعشرين لجمادى الثانية المذكورة، ودفن بالمقبرة الجامعة العتيقة بسنام السّبيكة، وعلى قبره اليوم منقوش:
«هذا قبر السلطان الأعلى، عزّ الإسلام، جمال الأنام، فخر الليالي والأيام، غياث الأمة، غيث الرحمة، قطب الملة، نور الشريعة، حامي السنّة، سيف الحق، كافل الخلق، أسد الهيجاء، حمام الأعداء، قوام الأمور، ضابط الثغور، كاسر الجيوش، قامع الطغاة، قاهر الكفرة والبغاة، أمير المؤمنين، علم المهتدين، قدوة المتقين، عصمة الدين، شرف الملوك والسلاطين، الغالب بالله، المجاهد في سبيل الله، أمير المسلمين، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الأنصاري، رفعه الله إلى أعلى عليّين، وألحقه بالذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين، والشهداء والصالحين. ولد، رضي الله عنه، وأتاه رحمة من لدنه، عام أحد وتسعين وخمسمائة، وبويع له يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان عام خمسة وثلاثين وستمائة، وكانت وفاته يوم الجمعة بعد صلاة العصر التاسع والعشرين لجمادى الآخرة عام أحد وسبعين وستمائة، فسبحان من لا يفنى سلطانه، ولا يبيد ملكه، ولا ينقضي زمانه، لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم».
ومن جهة أخرى: [البسيط]
هذا محلّ العلى والمجد والكرم ... قبر الإمام الهمام الطاهر العلم
لله ما ضمّ هذا اللحد من شرف ... ومن شيم علوية الشّيم
بالجود والباس ما تحوي صفائحه ... لا بأس عنترة ولا ندى هرم
مغني الكرامة والرضوان يعهده ... فخر الملوك الكريم الذات والشيم
مقامه في كلا يومي ندى ووغى ... كالغيث في مجد وكالليث في أجم
مآثر تليت آثارها سورا ... تقرّ بالحق فيها جملة الأمم
كأنه لم يسر في محفل لجب ... تضيق عنه بلاد العرب والعجم
ولم يباد العدا منه ببادرة ... يفتر منها الهدى عن ثغر مبتسم
ولم يجهز لهم خيلا مضمرة ... لا تشرب الماء إلّا من قليب دم
ولم يقم حكم عدل في سياسته ... تأوي رعيته منه إلى حرم
من كان يجهل ما أولاه من نعم ... وما حواه لدين لله من حرم
فتلك آثاره في كل مكرمة ... أبدى وأوضح من نار على علم
لا زال تهمي على قبر تضمّنه ... سحائب الرحمة الوكّافة الدّيم(2/56)
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر ابن محمد بن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، المنصور بن أبي عامر (1)
معظّم الظّفر، وخدن السّعد، وملقى عصيّ الجدّ، وجوّ رياح الشهرة، وديوان فنون السياسة، وحجاج الدولة العبشميّة (2)، في التّخوم المغربية، المزيّ (3) بالظّرف وكمال السّجية، والجهاد العظيم، العريق في بحبوحة بلاد الكفار، رحمه الله تعالى.
أوّليّته: دخل جدّه عبد الملك الأندلس مع طارق مولى موسى بن نصير في أول الداخلين من المغرب، وكان له في فتحها أثرا جميلا، وإلى ذلك أشار مادحه محمد بن حسان (4): [الطويل]
وكلّ عدوّ أنت تهزم (5) عرشه ... وكلّ فتوح عنك يفتح بابها
وإنّك (6) من عبد المليك الذي له ... حلى فتح قرطاجنّة (7) وانتهابها
ونزل عبد الملك الجزيرة الخضراء لأول الفتح، فساد أهلها، وكثر عقبه بها وتكررت فيهم النّباهة، وجاوروا الخلفاء بقرطبة. وكان والد محمد هذا، من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان. سمع الحديث، وأدّى الفريضة، ومات منصرفا عن الحج بإطرابلس.
حاله: كان هذا الرجل بكر الدهر، وفائدة الأيام، وبيضة العمر، وفرد الخلق في اضطراد السّعد، وتملد العاجل من الحظ، حازما، داهية، مشتملا على أقطار السؤدد، هويّا إلى الأقاصي، وطموحا، سوسا حميّا، مصطنعا للرجال، جالبا
__________
(1) ترجمة المنصور العامري في البيان المغرب (ج 2ص 256) والذخيرة (ق 4ص 56) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 59) والحلة السيراء (ج 1ص 268) ومطمح الأنفس (ص 388) وجذوة المقتبس (ص 17، 78) وبغية الملتمس (ص 21، 115) والمعجب (ص 72) وكتاب العبر (م 4ص 318) والمغرب (ج 1ص 195) والمختصر في أخبار البشر (ج 2ص 117، 136) وتتمة المختصر في أخبار البشر (ج 1ص 477) ونفح الطيب (ج 1ص 382).
(2) العبشمية: نسبة إلى عبد شمس، وهي من أوصاف الدولة الأموية. محيط المحيط (شمس).
(3) المزيّ: الظريف. محيط المحيط (مزي).
(4) البيتان في البيان المغرب (ج 2ص 256) وجاء فيه أن المادح هو محمد بن حسين الشاعر العالم بأخبار الأندلس.
(5) في البيان المغرب: «تهدم».
(6) في الأصل: «برأيك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من البيان المغرب.
(7) في الأصل: «قرطبة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من البيان المغرب.(2/57)
للأشراف، مستميلا للقلوب، مطبقا المفاصل، مزيحا للعلل، مستبصرا في الاستبداد، خاطبا جميل الذكر، عظيم الصبر، رحيب الذّرع، طموح الطرف، جشع السيف، مهادي جياد العقاب والمثوبة، مهيبا، جزلا، منكسف اللون، مصفر الكفّ، آية الله، جلّ جلاله، في النّصر على الأعداء ومصاحبة الظّفر، وتوالي الصّنع.
نباهته: قال المؤرخ (1): سلك سبيل القضاء (2) في أوّليّته، مقتفيا آثار عمومته وخؤولته، يطلب (3) الحديث في حداثته. وكتب منه كثيرا، ولقي الجلّة من رجاله، ثم صحب الخليفة الحكم (4) متحزّبا في زمرته، وولي له الأعمال من القضاء والإمامة، ثم استكفاه، فعدل عن سبيله، وصار في أهل الخدمة. ثم اختصّه بخدمة أمّ ولده هشام، فزاد بخاصّته لولي العهد، عزّا ومكانة من الدولة، فاحتاج الناس إليه، وغشوا بابه، وبلغ الغاية من أصحاب السلطان معه، إسعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب، وحسن أخلاق، فاستطار ذكره، وعمّر بابه، وساعده الجدّ. ولمّا صار أمر المسلمين إليه، بلغ (5) التي لا فوقها عزّا وشهرة.
الثناء عليه: قال: وفي الدولة العامرية، وأعين محمد على أمره، مع قوة سعده، بخصال مؤلفة لم تجتمع لمن قبله، منها الجود، والوقار، والجدّ والهيبة، والعدل والأمن، وحبّ العمارة، وتأمير المال، والضبط للرعية، وأخذهم بترك الجدل والخلاف والتّشغّب، من غير وهن في دينه، وصحّة الباطن، وشرح كل فضل، وجلب كلّ ما يوجب عن المنصور فيه.
غزواته وظهوره على أعدائه:
واصل، رحمه الله، الغزو بنفسه، فيما يناهز خمسين غزوة، وفتح فيها البلاد، وخضد شوكة الكفر، وأذلّ الطواغيت وفضّ مصاف الكفّار، وبلغ الأعماق، وضرب على العدو الضرائب، إلى أن تلقّاه عظيم الروم بنفسه وأتحفه بابنته في سبيل الرغبة في صهره، فكانت أحظى عقائله، وأبرّت في الدين والفضل على سائر أزواجه، وعقد اثني عشر بروزا إلى تلقي ملوك الروم القادمين عليه مصطهرين بإلحاح سيفه، منكبّين على لثم سريره.
__________
(1) النص في البيان المغرب (ج 2ص 258257) بتصرف.
(2) في البيان المغرب: «القضاة».
(3) في البيان المغرب: «فطلب».
(4) هو خليفة الأندلس الحكم بن عبد الرحمن الناصر، المعروف بالحكم المستنصر، وقد حكم الأندلس من سنة 350هـ إلى سنة 366هـ.
(5) في الأصل: «فبلغ».(2/58)
شعره: ومما يؤثر من شعره (1): [الطويل]
رميت بنفسي هول كلّ عظيمة (2) ... وخاطرت والحرّ الكريم يخاطر (3)
وما صاحبي إلّا جنان مشيّع ... وأسمر خطّيّ وأبيض باتر (4)
ومن شيمتي (5) أني على كلّ (6) طالب ... أجود بمال لا تقيه المعاذر
وإني لزجّاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر
فسدت (7) بنفسي أهل كلّ سيادة ... وكاثرت (8) حتى لم أجد من أكاثر
وما شدت بنيانا (9) ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر
رفعنا العوالي (10) بالعوالي سياسة (11) ... وأورثناها في القديم معافر (12)
وبلغ في ملكه أقطار المغرب، إلى حدود القبلة (13)، وبمدينة فاس، إثر ولده المقلّد فتح تلك الأقطار، ونهد أولئك الملوك الكبار.
دخوله غرناطة: قال صاحب الديوان في الدولة العامرية، وقد مرّ ذكر المنصور، قومس الفرنجة بمدينة برشلونة: وهذه الأمة أكثر النصرانية جمعا، وأوسعها، وأوفرها من الاستعداد، وما أوطىء من الممالك والبلاد، وفتح من القواعد، وهزم من الجيوش. وقفل المنصور عنها، وهو أطمع الناس في استئصالها ثم خصّهم بصائفة سنة خمس وسبعين، وهي الثالثة عشرة (14) لغزواته
__________
(1) الأبيات في البيان المغرب (ج 2ص 274) والحلة السيراء (ج 1ص 274) ونفح الطيب (ج 1 ص 383). وورد منها ثلاثة أبيات في المغرب (ج 1ص 203).
(2) في البيان المغرب: «كريهة».
(3) في البيان المغرب والحلة السيراء: «مخاطر».
(4) الجنان: القلب. المشيّع: الجريء. الأسمر: الرمح. الخطيّ: المنسوب إلى الخط وهو موضع باليمامة كانت تصنع منه الرماح. الأبيض: السيف. لسان العرب (جنن) و (شيع) و (سمر) و (خطط) و (بيض).
(5) في الحلة السيراء: «شيمي».
(6) كلمة «كلّ» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من الحلة السيراء.
(7) في الحلة والبيان: «لسدت».
(8) في النفح: «وفاخرت من أفاخر».
(9) في المغرب: «بيتا لي».
(10) في الأصل: «العلى» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر الأربعة.
(11) في المغرب: «بسالة». وفي الحلة: «حديثه». وفي البيان المغرب والنفح: «حديثة».
(12) رفعنا العوالي: رفعنا المجد. والعوالي: الرماح. معافر: قبيلة المنصور العامري.
(13) تقع بلاد القبلة في جنوب المغرب.
(14) في الأصل: «عشر» وهو خطأ نحوي.(2/59)
وقد احتفل لذلك، واستبلغ في النّفير، واستوفى أتمّ الأبّهة، وأكمل العدّة، فجعل طريقه على شرقي الأندلس لاستكمال ما هنالك من الأطعمة، فسلك طريق إلبيرة، إلى بسطة، إلى تدمير وعزم في هذه الغزوات بريل ملك فرنجة ونازل مدينة برجلونة فدخلها عنوة يوم الاثنين النصف من صفر، سنة أربع وسبعين أو خمس بعدها.
قلت: وفي دخول المنصور بجيشه بلد إلبيرة ما يحقق دعوى من ادّعى دخول المعتمدين من أهل الأندلس لذلك العهد إذ كان يصحب المنصور في هذه الغزوة، من الشعراء المرتزقين بديوانه من يذكر فضلا عن سائر الأصناف على ندارة هذا الصنف من الخدام بالنسبة للبحر الزاخر من غيرهم.
والذي صحّ أنه حضر ذلك، أبو عبد الله محمد بن حسين الطّبني، أبو القاسم حسين بن الوليد، المعروف بابن العريف، أبو الوضّاح بن شهيد، عبد الرحمن بن أحمد، أبو العلا صاعد بن الحسن اللغوي، أبو بكر زيادة الله بن علي بن حسن اليمني، عمر بن المنجم البغدادي، أبو الحسن علي بن محمد القرشي العباسي، عبد العزيز بن الخطيب المحرود، أبو عمر يوسف بن هارون الزيّادي، موسى بن أبي طالب، مروان بن عبد الحكم بن عبد الرحمن، يحيى بن هذيل بن عبد الملك بن هذيل المكفوف، سعد بن محمد القاضي، ابن عمرون القرشي المرواني، علي النقاش البغدادي، أبو بكر يحيى بن أمية بن وهب، محمد بن إسماعيل الزبيدي، صاحب المختصر في اللغة، أحمد بن درّاح القسطليّ، متنبيّ الأندلس، أبو الفرج منيل بن منيل الأشجعي، محمد بن عبد البصير، الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد، محمد بن عبد الملك بن جهور، محمد بن الحسن القرشي، من أهل المشرق، أبو عبيدة حسان بن مالك بن هاني، طاهر بن محمد المعروف بالمهنّد، محمد بن مطرّف بن شخيص، سعيد بن عبد الله الشّنتريني، وليد بن مسلمة المرادي، أغلب بن سعيد، أبو الفضل أحمد بن عبد الوهاب، أحمد بن أبي غالب الرّصافي، محمد بن مسعود البلخي، عبادة بن محمد بن ماء السماء، عبد الرحمن بن أبي الفهد الإلبيري، أبو الحسن بن المضيء البجلي الكاتب، عبد الملك بن سهل، الوزير عبد الملك بن إدريس الجزيري، قاسم بن محمد الجيّاني.
قال المؤرخ: هؤلاء من حفظته منهم، وهم أكثر من أن يحصوا، فعلى هذا يتبنى القياس في ضخامة هذا الملك، وانفساح هذا العزّ.(2/60)
وفاته: توفي، رحمه الله، منصرفا من غزاته المسمّاة بقنالش والرّيد، وقد دوّخ أقطار قشتالة، ليلة الاثنين سبع وعشرين لرمضان عام اثنين وتسعين وثلاثمائة (1)، وقد عهد أن يدفن ببلد وفاته، بعد وصية شهيرة صدرت عنه، إلى المظفّر ولده، فدفن بمدينة سالم، التي بناها في نحر العدو من وادي الحجارة، وبقصرها، وقبره معروف إلى اليوم. وكان قد اتخذ له من غبار ثيابه الذي علاها في الجهاد، وعاء كبيرا بحديه، رحمه الله. وكتب على قبره هذا الشعر (2): [الكامل]
آثاره تنبيك عن أخباره (3) ... حتى كأنّك بالعيان (4) تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمي الثغور سواه (5)
محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن قريش بن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف ابن نعيم، لخمي النسب (6)
أوّليّته: دخل الأندلس جدّه عطاف مع بلج بن بشر القشيري، من أشراف الطّالعة البلجية، وهم من عرب حمص من أرض الشام، وموضعه بها يعرف بالعريش في آخر الجفار بين مصر والشام. ونزل عطاف بقرية تعرف بيومين من إقليم طشانة على ضفة النهر الأعظم من أرض إشبيلية. ولمّا هلك قريش، ورث السيادة إسماعيل بن قريش، وهو القاضي المشهور بالفضل والدهاء، يكنّى أبا الوليد. ولي الشرطة الوسطى لهشام بن الحكم، وخطّة الإمامة إلى صلاة الجمعة.
ثم خلفه أبو القاسم المنفرد برئاسة إشبيلية، المتحف فيها بخطط الوزارتين والقضاء
__________
(1) في كتاب العبر لابن خلدون: هلك المنصور سنة 374هـ بعد 27سنة من ملكه. وفي جذوة المقتبس وبغية الملتمس والمعجب والمختصر في أخبار البشر، وتتمة المختصر في أخبار البشر:
توفي المنصور سنة 393هـ.
(2) البيتان في البيان المغرب (ج 2ص 301) والحلة السيراء (ج 1ص 273) والمغرب (ج 1ص 203202).
(3) في المغرب: «عن أوصافه».
(4) في البيان المغرب: «بالعيون».
(5) رواية البيت في البيان المغرب هي:
تالله ما ملك الجزيرة مثله ... حقّا ولا قاد الجيوش سواه
(6) ترجمة المعتمد بن عباد في قلائد العقيان (ص 4) والذخيرة (ق 2ص 41) والمعجب (ص 158) والحلة السيراء (ج 2ص 52) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 157) والبيان المغرب (ج 3ص 244، 257) والوافي بالوفيات (ج 3ص 183) ووفيات الأعيان (ج 4ص 274) والصلة (ص 499، في ترجمة القاضي عبد الرحمن بن سوار).(2/61)
والمظالم. وعزّ جاهه، وكثرت حاشيته، وتعدّدت غلمانه، وأذعنت له عداته. ثم خلفه الأمير المعتضد ولده، وكان خيّرا حازما، سديد الرأي، مصنوعا له في الأعداء، فلمّا توفي، تصيّر الأمر إلى ولده المترجم به، المكني أبا القاسم إلى حين خلعه.
حاله: قالوا كلّهم: كان المعتمد، رحمه الله، فارسا شجاعا، بطلا مقداما، شاعرا ماضيا، مشكور السيرة في رعيته. وقال أبو نصر في قلائده (1): «وكان المعتمد على الله ملكا قمع العدا، وجمع (2) بين البأس والنّدا، وطلع على الدنيا بدر هدى، لم يتعطل يوما كفّه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغور (3) برّه بواسم». لقبه أولا الظّافر، ثم تلقب (4) بالمعتمد، كلفا بجاريته اعتماد، لمّا ملّكها، لتتّفق حروف لقبه بحروف اسمها، لشدة ولوعه بها.
وزراؤه: ابن زيدون. وابن عمّار، وغيرهما.
أولاده المملّكون: عبيد الله، يكنى أبا الحسن، وهو الرّشيد، وهو الذي لم يوافق أباه على استصراخ المرابطين، وعرّض بزوال الملك عنهم، فقال: أحبّ إليّ أن أكون راعي إبل بالعدوة من أن ألقى الله، وقد حوّلت الأندلس دار كفر، وكان قد ولّاه عهده، وبويع له بإشبيلية، وهو المحمول معه إلى العدوة. ثم الفتح، وهو الملقب بالمأمون، كان قد بويع له بقرطبة، وهو المقتول بها، المحمل رأسه إلى محلّة العدوّ المرابطين، المحاصرة لأبيه بإشبيلية. ثم يزيد الراضي، وكان قد ولّاه رندة، فقتل لما ملكها اللمتونيون. ثم عبد الله، ويكنّى أبا بكر. هؤلاء الأربعة من جاريته اعتماد، السيدة الكبرى، والمدعوة بالرّميكيّة منسوبة إلى مولاها رميك بن حجاج، الذي ابتاعها منه المعتمد.
ملمّته: لمّا تكالب أدفونش بن فردلاند على الأندلس بعد أخذه مدين طليطلة ضيق بالمعتمد، وأجحف في الجزية التي كان يتّقي بها على المسلمين عاديته، وعلى ذلك أقسم أخذها وتجنّى عليه، وطمع في البلاد، فحكى بعض الإخباريين أنه وجّه إليه رسله في آخر أمره لقبض تلك الضريبة، مع قوم من رؤساء النصارى، ونزلوا خارج باب إشبيلية، فوجّه إليهم المال، مع بعض الوزراء، فدخلوا على اليهودي
__________
(1) قلائد العقيان (ص 4).
(2) كلمة «بين» غير واردة في القلائد.
(3) في الأصل: «وثغوره برّة»، والتصويب من القلائد.
(4) عن لقبه بالمعتمد لتتفق حروف لقبه بحروف اسم زوجته اعتماد ورد في الحلة السيراء (ج 2ص 62).(2/62)
المذكور في خبائه، وأخرجوا المال، فقال لهم: لا أخذت منه هذا العيار ولا أخذت منه إلّا ذهبا مشجّرا، ولا يؤخذ منه في هذا العام إلّا أجفان البلاد، ونقل كلامه إلى المعتمد، فبادر بالقبض عليه وعلى النصارى، ونكّل بهم، وقتل اليهودي بعد أن بذل في نفسه زنة جسمه ذهبا، فلم يقبل منه، واحتبس النصارى، وراسله الطاغية في إطلاقهم، فأبى إلّا أن يخلي منه حصن الحدود، فكان ذلك. واستصرخ اللّمتونيّين، وأجاز البحر بنفسه، وأقسم الطاغية بإيمانه المغلّطة ألّا يرفع عنه يده. وهاجت حفيظة المعتمد، واجتهد في جواز المرابطين، وكان مما هو معلوم من الإيقاع بالطاغية في وقعة الزّلاقة (1)، فإنه الذي أصلى نارها بنفسه، فعظم بلاؤه، وشهر صبره، وأصابته الجراح في وجهه ويده، رحمه الله. وفي ذلك يقول أبو بكر بن عبادة المرّي (2):
[الوافر]
وقالوا كفّه جرحت فقلنا ... أعاديه تواقعها (3) الجراح
وما أثر (4) الجراحة ما رأيتم ... فتوهنها المناصل والرّماح
ولكن فاض سيل البأس (5) منها ... ففيها من مجاريه انسياح (6)
وقد صحّت وسحّت بالأماني ... وفاض الجود منها والسّماح
رأى منه أبو يعقوب فيها ... عقابا لا يهاض له جناح (7)
فقال له لك القدح المعلّى ... إذا ضربت بمشهدك القداح
ولما اتصلت به الصّيحة بين يدي دخول المدينة، ركب في أفراد من عبيده وعليه قميص يشفّ عن بدنه، والسيف منتضى بيده، ويمّم باب الفرج، فقدّم الداخلين، فردّهم على أعقابهم وقتل فارسا منهم فانزعجوا أمامه وخلّفوا الباب فأمر بإغلاقه وسكنت الحال وعاد إلى قصره. وفي ذلك
__________
(1) كانت وقعة الزلاقة في سنة 479هـ بين المرابطين وملوك الطوائف من جهة والإسبان من جهة ثانية. وكان النصر فيها للمسلمين. وهناك دراسة مستفيضة عنها في كتاب: مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص 204183) فلتنظر.
(2) هو أبو بكر بن عبادة، المعروف بابن القزاز، والأبيات في قلائد العقيان (ص 13) والمغرب (ج 2ص 135) وأعمال الأعلام (القسم الثالث ص 149).
(3) في المغرب: «توافقها».
(4) في الأصل: «وما لمرتد» والتصويب من القلائد والمغرب.
(5) في المغرب «الجود».
(6) رواية عجز البيت في المغرب هي: فأمسى في جوانبها انسياح.
(7) هذا البيت والذي يليه غير واردين في المغرب.(2/63)
يقول (1): [مجزوء الكامل]
إن يسلب القوم العدا (2) ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضّلوع
قد رمت يوم نزالهم ... ألّا تحصّنني الدّروع
وبرزت ليس سوى القمي ... ص عن الحشا شيء دفوع
أجلي تأخّر لم يكن ... بهواي ذلّي والخضوع
ما سرت قطّ إلى القتا ... ل (3) وكان من أملي الرجوع
شيم الأولى (4) أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
جوده: وأخبار (5) جوده شهيرة، ومما يؤثر من ذلك، على استصحاب حال العزّ، ووفور ذات اليد، وأدوات الملك، غريب. والشاهد المقبول بقاء السجيّة ومصاحبة الخلق الملكية، مع الإقتار والإيسار، وتقلّب الأطوار. وتعرّض له الحصري القرموني الضرير بخارج طنجة وهو يجتاز عليها في السواحل من قهر واعتقال، بأشعار ظاهرة المقت، غير لائقة بالوقت، ولم يكن بيده، زعموا، غير ثلاثين دينارا (6)
كانت بخفّه، معدّة لضرورة ضرر وأزمة، وأطبع عليها دمه، وأدرج قطعة شعر طيّها اعتذار عن نزرها، راغبا في قبول أمرها، فلم يراجعه الحصري بشيء عن ذلك، فكتب إليه (7): [مجزوء الرمل]
قل لمن جمع العل ... م وما (8) أحصى صوابه
كان في الصّرة شعر ... فتنظّرنا (9) جوابه
قد أثبناك (10) فهلّا ... جلب الشّعر جوابه (11)؟
__________
(1) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص 8988) وقلائد العقيان (ص 2221) والحلة السيراء (ج 2ص 6665).
(2) رواية صدر البيت في الحلة السيراء هي: إن تستلب عنّي الدّنا.
(3) في الحلة السيراء: «إلى الكماة».
(4) في الديوان: «الألى».
(5) قارن بالذخيرة (ص 2ص 6766).
(6) في الذخيرة (ق 2ص 67): «مثقالا».
(7) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص 91) والذخيرة (ق 2ص 67) والمعجب (ص 206).
(8) في الذخيرة: «ومن».
(9) في الأصل: «فانتظرنا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الديوان والمصدرين الآخرين.
(10) في الأصل: «أتيناك» وهو تحريف، والتصويب من الديوان والمصدرين الآخرين.
(11) في الديوان والمصدرين الآخرين: «ثوابه».(2/64)
حلمه: رفع إليه صدر دولته شعر، أغري فيه بأبي الوليد بن زيدون، وهو شهير، وتخيّر له موقع وترصّد حين، وانتظر به مؤجره، وهو (1): [الكامل]
يا أيها الملك الأعزّ (2) الأعظم ... اقطع وريدي كلّ باغ يسلم (3)
واحسم بسيفك داء (4) كلّ منافق ... يبدي الجميل وضدّ ذلك يكتم
لا تتركن للناس موضع شبهة (5) ... واحزم فمثلك في العظائم يحزم
قد قال شاعر كندة فيما مضى ... قولا (6) على مرّ الليالي يعلم
«لا يسلم الشّرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدّم (7)»
فوقّع على الرقعة (8): [الكامل]
كذبت مناكم، صرّحوا أو جمجموا ... الدّين أمتن والسجيّة (9) أكرم
خنتم ورمتم أن أخون وإنما ... حاولتم أن يستخفّ يلملم (10)
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسّمر في صدر (11) النّحور تحطّم
وزحفتم بمحالكم لمجرّب ... ما زال يثبت للمحال (12) فيهزم
أنّى رجوتم غدر من جرّبتم ... منه الوفاء وظلم (13) من لا يظلم
أنا ذا (14) كم لا السّعي (15) يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصّنيعة يهدم (16)
كفّوا وإلّا فارقبوا لي بطشة ... يبقى (17) السّفيه بمثلها يتحلّم (18)
__________
(1) الأبيات في الذخيرة (ق 2ص 51) وقلائد العقيان (ص 1514).
(2) في المصدرين: «العليّ».
(3) في الذخيرة: «ينئم». وفي القلائد: «ييتم».
(4) كلمة «داء» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها من المصدرين.
(5) في القلائد: «تهمة».
(6) في المصدرين: «بيتا».
(7) البيت للمتنبي وهو في ديوانه (ص 630).
(8) الأبيات في ديوان المعتمد بن عباد (ص 67) والذخيرة (ص 2ص 5251) وقلائد العقيان (ص 1615).
(9) في الديوان والذخيرة: «والمروءة».
(10) يلملم: موضع على ليلتين من مكة، وهو ميقات أهل اليمن. معجم البلدان (ج 5ص 441).
(11) في الديوان والقلائد: «في ثغر». وفي الذخيرة: «ما في ثغر الصدور».
(12) في الديوان: «في المجال». وفي الذخيرة: «في المحال».
(13) في الديوان والذخيرة: «وجور».
(14) في القلائد: «أنا ذلكم».
(15) في الديوان والمصدرين: «لا البغي».
(16) في الذخيرة: «يثلم».
(17) في الديوان والمصدرين: «يلقى».
(18) في الديوان والمصدرين: «فيحلّم».(2/65)
توقيعه ونثره في البديهة:
كتب مع الحمائم إلى ولده الرشيد عقب الفراغ من وقعة الزّلّاقة:
يا بني، ومن أبقاه الله وسلّمه، ووقاه الأسواء وعصمه، وأسبغ عليه آلاءه وأنعمه، كتبته، وقد أعزّ الله الدين، وأظهر المسلمين، وفتح لهم على يدي مستدعيات الفتح المبين، بما يسّره الله في أمسه وسناه، وقدّره سبحانه وقضاه، من هزيمة أدفونش ابن فردلند لعنه الله وأصلاه، وإن كان طاح للجحيم، ولا أعدمه وإن كان أهل العيش الذّميم، كما قنعه الخزي العظيم. وأتى القتل على أكثر رجاله وحماته، واتصل النّهب سائر اليوم، والليلة المتصلة به، جميع محلّاته، وجمع من رؤوسهم بين يديّ، من مشهوري رجالهم، ومذكوري أبطالهم، ولم يختر منهم إلّا من شهر وقرّب، وامتلأت الأيدي ممّا سلب ونهب. والذي لا مرية فيه، أن الناجي منهم قليل، والمفلت من سيوف الجزع والبعد قتيل، ولم يصبني بفضل الله إلّا جرح أشوى، وحسن الحال عندنا والله وزكى، ولا يشغل بذلك بال، ولا يتوهم غير الحال التي أشرت إليها حال، والأدفونش بن فرذلاند، إن لم يصبح تحت السيوف فسيموت لا محالة كمدا، وإن كان لم تعلقه أسراد الحمام فغدا، فإن برأسه طمرة ولحام. فإذا ورد كتابي هذا، فمر بجمع الخاص والعام، من أهل إشبيلية، وجيرانها الأقربين، وأصفيائنا المحبين، في المسجد الجامع، أعزّهم الله، وليقرأ عليهم فيه، ليأخذوا من المسرّة بأنصبائهم، ويضيفوا شكرا لله إلى صالح دعائهم، والحمد لله على ما صنع حقّ حمده، جلّ المزيد لأمر حين، إلّا من عنده والسلام.
تلطّفه وظرفه: قال أبو بكر الداني: سألني في بعض الأيام عند قدومي عليه بأغمات، قاضيا حقّ نعمته، مستكثرا من زيارته، مستمتعا برائق أدبه، على حال محنته، عن كتبي، فأعلمته بذهابها في نهب حضرته. وكنت قد جلبت في سفرتي تلك، الأشعار الستة، بشرح الأستاذ أبي الحجاج الشّنتمري الأعلم، وكانت مستعارة، فكتمتها عنه. ووشى إليه أحد الأصحاب، فخجل بكرمه وحسن شيمته، من الأخذ معي في ذكر ما كتمته، فاستطرد إلى ذلك بغرض نبيل، ونحا فيه نحوا، يعرب عن الشّرف الأصيل، وأملى عليّ، في جملة ما كان يمليه: [الكامل]
وكواكب لم أدر قبل وجوهها ... أنّ البدور تدور في الأزرار
نادمتها في جنح ليل دامس ... فأعرنه مثلا من الأنوار
في وسط روضة نرجس كعيونها ... ما أشبه النّوار بالنّوار
فإذا تواصفنا الحديث حسبتني ... ألهو بملتقط لدرّ نثار(2/66)
فإذا اكتحلت برقّ ثغر باسم ... سكبت جفوني أغزر الأمطار
حذر الملام وخيفة من جفوة ... تذر الصدور على شفير هار
ترك الجواري الآنسات مذاهبي ... وسوّلها ظفر بريشة الأشعار
فلم أتمالك عند ذلك ضحكا، وعلمت أن الأمر قد سرّي إليه، فأعلمته قصّتها، فبسط العذر بفضله، وتأوّل الأمر، وقسّم الأشعار، على ثلاثة من بنيه ذوي خطّ رائع، ونقل حسن، وأدب بارع، أخذوا في نسخها، وصرفوا الأصل لأجل قريب.
محنته: ولم يلبث أمير اللمتونيين بعد جوازه إلى الأندلس، وظهوره على طائفة الروم، أن فسد ما بينه وبين رؤساء الطوائف بالأندلس، وعزم على خلعهم، فأجاز من سبتة العساكر، وسرب الأمداد. وأخذ المعتمد بالعزم يحصّن حصونه، وأودع المعاقل عدّته، وقسّم على مظان الامتناع ولده، وصمدت الجموع صمدة بنيه، ونازل الأمير سير إشبيلية، دار المعتمد، وحضرة ملكه، ونازل الأمير محمد ابن الحاج قرطبة، وبها المأمون، ونزل جرور من قواده رندة، وبها الرّاضي ابن المعتمد. واستمرّ الأمر، واتصلت المحاصرة، ووقعت أمور يضيق الكتاب على استقصائها. فدخلت قرطبة في جمادى الآخرة عام أربعة وثمانين وأربعمائة، وقتل الراضي، وجلب رأسه فطيف به بمرأى من أبيه. وكان دخول إشبيلية على المعتمد، دخول القهر والغلبة، يوم الأحد لعشر بقين من رجب، وشملت الغارة، واقتحمت الدّور، وخرج ابن عباد في شكّته (1)، وابنه مالك في أمّته معهما، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة ورهقت الخيل، وكثر، فدخل القصر ملقيا بيده. ولما جنّ الليل، وجّه ابنه الأكبر الرشيد إلى الأمير، فحجب عنه، ووكّل بعض خدمه به، وعاد إلى المعتمد فأخبره بالإعراض عنه، فأيقن بالهلكة، وودّع أهله، وعلا البكاء، وكثر الصّراخ، وخرج هو وابنه، فأنزلا في خباء حصين، ورقبا بالحرس، وأخرج الحرم من قصره، وضمّ ما اشتمل عليه، وأمر بالكتب إلى ولده برندة ففعل. ولمّا نزل، واستوصلت ذخيرته، سلا، وأجيز المعتمد البحر، ومن معه إلى طنجة، فاستقرّ بها في شعبان من العام، وفي هول البحر عليه في هذا الحال، يقول رحمه الله: [البسيط]
لم أنس والموت يدنيني ويقصيني ... والموت كأنّ المنى يأتيني
أبصرت هولا لو أنّ الدهر أبصره ... لما خوّفا لأمر ليس بالدّون
__________
(1) الشّكّة: السلاح وعدّة الحرب. لسان العرب (شكك).(2/67)
قد كنت ضانّا بنفس لا أجود بها ... فبعتها باضطرار بيع مغبون
كم ليلة بتّ مطويا على حرق ... في عسر من عيون الدبر في العين
فتلك أحسن أم ظللت به ... في ظلّ عزّة سلطان وتمكين؟
ولم يكن والذي تعنو الوجوه له ... عرضي مهانا ولا مالي بمخزون
وكم خلوت من الهيجا بمعترك ... والحرب ترفل في أثوابها الجون
يا ربّ إن لم تدع حالا أسرّ به ... فهب لعبدك أجرا غير ممنون
وجرى على بناته شيء يوم خروجهن، واضطرتهن الضيقة إلى معيشتهنّ من غزل أيديهن، وجرت عليه محن طال لها شجنه وأقعده قيده، إلى أن نقل إلى أغمات وريكة، وحلّ عنه الاعتقال، وأجري عليه رزقه، تبلّغ به لمدة من أعوام أربعة، واستنقذه حمامه، رحمة الله عليه.
وصوله إلى غرناطة: قال ابن الصّيرفي: وقد أجرى ذكر تملّك يوسف بن تاشفين غرناطة، وخلع أميرها عبد الله بن بلقّين حفيد باديس، يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب عام ثلاثة وثمانين (1)، ولحق ابن عباد (2) وحليفه ابن مسلمة (3) بخيل ورجل ورماة وعدد، وحلّ ذلك من ابن عباد تضمّنا لمسرّة أمير المسلمين، وتحقّقا بموالاته، فدخلا عليه، وهنّئاه، وقد تحكّمت في نفس ابن عباد الطماعيّة في إسلام غرناطة إلى ابنه، بعد استصفاء نعمة صاحبها، عوضا عن الجزيرة الخضراء، وكان قد أشخصه معه، فعرّض بغرضه، فأعرض أمير المسلمين عن الجميع إعراضا، كانت منية كل منهما التخلّص من يده، والرجوع إلى بلده، فأعمل ابن عباد الحيلة، فكتب، يزعم أنه وردت عليه تحثّه من إشبيلية في اللحاق أنباء مهمة طرقت بتحرك العدو، واستأذن بها في الصّدور، فأخذ له ولحليفه ابن مسلمة، فانتهزا الفرصة، وابتدرا الرجعة، ولحق كل بموضعه يظنّ أنه ملك رئاسة أمره.
مولده: ولد المعتمد على الله بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولّي سنة إحدى وستين. وخلع سنة أربع وثمانين.
__________
(1) كذا ورد في الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام (ص 320).
(2) هو المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية. وقصته والمتوكل بن الأفطس مع ابن تاشفين الواردة هنا، انظرها في وفيات الأعيان (ج 5ص 485) والحلل الموشية (ص 5251) والبيان المغرب (ج 4ص 127، 144143).
(3) هو المتوكل بن الأفطس، صاحب بطليوس. (4) هو الراضي يزيد ابن المعتمد بن عباد.(2/68)
وفاته: كانت وفاة المعتمد على الله بأغمات في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، بعد أن تقدمت وفاته وفاة الحرة اعتماد، وجزع عليها جزعا أقرب سرعة لحاقه بها. ولما أحسّ بالمنية رثى نفسه بهذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره (1):
[البسيط]
قبر الغريب سقاك الرّائح الغادي ... حقّا ظفرت بأشلاء ابن عبّاد
بالحلم بالعلم بالنّعمى إذا اتصلت ... بالخصب إن أجدبوا بالرّيّ للصادي
بالطّاعن الضارب الرّامي إذا اقتتلوا ... بالموت أحمر بالضّرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم ... بالبدر في ظلم بالصّدر في النادي
نعم هو الحقّ فاجاني (2) على قدر ... من السماء ووافاني (3) لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النّعش أعلمه ... أنّ الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم ... روّاك كلّ قطوب البرق رعّاد
يبكي أخاه الذي غيّبت وابله ... تحت الصّفيح بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمع الطّلّ منهمرا ... من أعين الزّهر لم تبخل بإسعاد
فلا (4) تزل صلوات الله نازلة (5) ... على دفينك لا تحصى بتعداد
بعض ما رثي به: قال ابن الصّيرفي: وخالف في وفاة المعتمد، فقال:
كانت في ذي حجة. فلمّا انفصل الناس من صلاة العيد، حفّ بقبره ملأ، يتوجعون ويترحمون عليه، وأقبل ابن عبد الصمد، فوقف على قبره وأنشد (6):
[الكامل]
ملك الملوك، أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السّماع عوادي؟
لمّا خلت (7) منك القصور فلم (8) تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت (9) قبرك موضع الإنشاد
__________
(1) الأبيات في المعجب (ص 222)، وهي غير واردة في ديوانه.
(2) في الأصل: «فاجأني» وهكذا ينكسر الوزن. وفي المعجب: «نعم هو الحقّ حاباني به قدر».
(3) في المعجب: «فوافاني».
(4) في المعجب: «ولا».
(5) في المعجب: «دائمة».
(6) الأبيات في قلائد العقيان (ص 30) ووفيات الأعيان (ج 4ص 289) وجاء في الأخير أن الشاعر هو: أبو بحر عبد الصمد.
(7) في وفيات الأعيان: «نقلت عن».
(8) في المصدر: «ولم».
(9) في وفيات الأعيان: «وجعلت».(2/69)
ثم خرّ يبكي، ويقبّل القبر ويعفر وجهه في التّراب، فبكى ذلك الملأ حتى أخضلوا ملابسهم، وارتفع نشيجهم، فلله درّ ابن عبد الصمد، وملاذ ذلك البلد.
محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش الجذامي (1)
قال بعضهم: ينتمي في تجيب، الأمير أبو عبد الله.
أوّليّته: معروفة. وعلى يد أبيه جرت الوقيعة الكبرى بظاهر إفراغة (2)، على ابن رذمير الطاغية، فجلّت الشّهرة، وعظمت الأثرة. قال بعضهم: تولى أبوه سعد قيادة إفراغه وما إليها، وضبطها. ونازلها ابن رذمير، فشهر غناؤه بها في دفاعه، وصبره على حصاره، إلى أن هزمه الله عزّ وجلّ، على يدي ابن غانية. وظهر بعد ذلك فحسن بلاؤه، وبعد صيته. ورأس ابنه محمد، ونفق في ألفته. وكان بينه وبين ابن عياض المتأمّر بمرسية صهر، ولّاه لأجله بلنسية. فلما توفي ابن عياض، بادرها ابن سعد، وبلغه أثناء طريقه غدر العدوّ بحصن جلال، فكرّ وقاد له وفتحه. وعاد فملك بلنسية، وقد ارتفع له صيت شهير، ثم دخلت مرسية في أمره، واستقام له الشّرق، وعظمت حاله.
حاله: قال ابن حمامة: ساد من صغره بشجاعته ونجابته، وصيت أبيه، فمال بذلك إلى القيادة، وسنّه إحدى وعشرون سنة. ثم ارتقى إلى الملك الراسخ، والسلطان الشامخ، بباهر شجاعته وشهامته، فسما قدره، وعظم أمره، وفشى في كل أمة ذكره.
وقال غيره: كان بعيد الغور، قويّ السّاعد، أصيل الرأي، شديد العزم، بعيد العفو، مؤثرا للانتقام، مرهوب العقوبة.
وقال في مختصر «ثورة المريدين» (3): كان عظيم القوة في جسمه، ذا أيد في عظمته، جزّارة في لحمه، وكان له فروسيّة، وشجاعة، وشهامة، ورئاسة.
__________
(1) ترجمة ابن مردنيش في المعجب (ص 278) والمغرب (ج 2ص 250) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 259) وكتاب العبر (م 4ص 357) واسمه فيه: محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش، ونفح الطيب (ج 4ص 185، 289) و (ج 5ص 41، 45) و (ج 6ص 147، 215، 235).
(2) إفراغه بالإسبانية، وهي مدينة بغربي لاردة، لها حصن منيع وبساتين كثيرة. حاصرها ابن رذمير سنة 528هـ، فتصدّى له يحيى بن علي بن غانية فهزمه بعد أن قتل أكثر رجاله بالجملة، وفرّ ابن رذمير. الروض المعطار (ص 48).
(3) هذا الكتاب لابن صاحب الصلاة، صاحب كتاب: «تأريخ المن بالإمامة». ولسوء الحظ، فقد(2/70)
بطالته وجوده: قال: وكان له يومان في كل جمعة الاثنين والخميس، يشرب مع ندمائه فيهما، ويجود على قوّاده، وخاصته وأجناده، ويذبح البقر فيهما، ويفرق لحومها على الأجناد، ويحضر القيان بمزاميرهن وأعوادهن، ويتخلل ذلك لهو كثير، حتى ملك القلوب من الجند، وعاملوه بغاية النّصح، وربما وهب المال في مجالس أنسه.
ذكر أنه استدعى يوما ابن الأزرق أحد قوّاده، فشرب معه ومع القرابة، في مجلس قد كساه بأحمر الوشي والوطيء والآنية من الفضة وغيرها، وتمادى في لهو وشراب عامة اليوم، فلما كمل نهاره معهم، وهبهم الآنية، وكلّ ما كان في المجلس من الوشي وغير ذلك.
ما نقم عليه ووصم به:
قالوا: كان عظيم الانهماك في ميدان البطالة، واتخذ جملة من الجواري، فصار يراقد منهن جملة تحت لحاف واحد (1). وانهمك في حب القيان، والزّمر والرقص.
قالوا: وكان له فتى اسمه حسن، ذو رقبة سمينة، وقفا عريض، فإذا شرب، كان يرزّه، ويعطيه بعد ذلك عطاء جزيلا. وفي ذلك يقول كاتبه المعروف بالسّالمي، وكان يحضر شرابه ويخمر: [المنسرح]
أدر كؤوس المدام والرّزّ ... فقد ظفرنا بدولة العزّ
ونعم الكفّ من قفا حسن ... فإنها في ليانة الخزّ
وصاحب إن طلبت أخدعه ... فلم يك (2) في بذله بمعتزّ
انحنى على أخداعي فأطربني ... وهزّ عطفيّ أيّما هزّ
وأجزل صلة السّالمي حين أنشدها إياه، واشتهرت هذه الأبيات بالشرق، واستظرفها الناس. فردّ مرسية دار مجونه، وبلغ في زمانه ألفا وأربعين. وآثر زيّ النصارى من الملابس، والسلاح، واللّجم، والسروج. وكلف بلسانهم يتكلم مباهتة، وألجأه الخروج عن الجماعة، والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى، ومصانعتهم، والاستعانة بطواغيتهم، فصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضريبة، وصالح ملك
__________
هذا الكتاب، وهو يتناول تاريخ طائفة دينية دعت إلى الزهد والتقشف بزعامة أبي العباس أحمد بن قسي. راجع تأريخ المن بالإمامة (مقدمة المحقق).
(1) قال ابن الخطيب في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261): «فكان يراقد أزيد من مائتي جارية تحت لحاف واحد».
(2) في الأصل: «فلم يكن» وهكذا ينكسر الوزن.(2/71)
قشتالة على أخرى فكان يبذل لهم في السنة خمسين ألف مثقال. وابتنى لجيشه من النصارى منازل معلومات وحانات للخمور، وأجحف برعيّته لأرزاق من استعان به منهم، فعظمت في بلاده المغارم وثقلت، واتخذ حوانيت بيع الأدم والمرافق، تختنق بجانبه، وجعل على الأغنام وعروض البقر، مؤنا غريبة. وأما رسوم الأعراس والملاهي، فكانت قبالاتها غريبة. حدّث بعض المؤرخين عن الثقة، قال: كنت بجيّان مع الوزير أبي جعفر الوقّشي، فوصل إليه رجل من أهل مرسية، كان يعرفه، فسأله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيره، فقال الرجل: أخبرك بما رأيته من جور عمّاله وظلمهم وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن عبد الرحمن، كان له بنظر شاطبة، ضويعة يعيش بها، وكان لازمها أكثر من فائدها، فأعطى لازمها حتى افتقر، وفرّ إلى مرسية. وكان أمر ابن مردنيش، أنه من فرّ من الرعيّة أمام الغزو، أخذ ماله للمخزن. قال الرجل الشّاطبي: فلما وصلت إلى مرسية فارّا عن وطني، خدمت الناس في البنيان، فاجتمع لي مثقالان سعديّان، فبينما أنا أمشي في السوق، وإذا بقوم من أهل بلدي شاطبة، ومن قرابتي، فسألتهم عن أولادي وزوجتي، فقالوا: إنهم في عافية، ففرحت فرحا عظيما، وسألتهم عن الضّويعة، فقالوا: إنها باقية بيد أولادك، فقلت لهم: عسى تبيتوا عندي الليلة، فاشتريت لحما وشرابا، وضربنا دفّا. فلمّا كان عند الصباح، وإذا بنقر عنيف بالباب. فقلت: من أنت؟ فقال: أنا الطّرقون الذي بيده قبالة اللهو، وهي متّفقة بيدي، وأنتم ضربتم البارحة الدّف فأعطنا حق العرس الذي عملت. فقلت له: والله ما كانت لي عرس، فأخذت وسجنت، حتى افتديت بمثقال واحد من الذي خدمت به، وجئت إلى الدار، فقيل لي إن فلانا وصل من شاطبة السّاعة، فمشيت لأسأله عن أولادي، فقال: تركتهم في السّجن، وأخذت الضّويعة من أيديهم في رسم الجبالي، فرجعت إلى الدار، إلى قرابتي، وعرّفتهم بالذي طرأ عليّ، وبكيت طول ليلتي، وبكوا معي، فلمّا كان من الغد، وإذا بناقر بالباب، فخرجت، فقال: أنا رجل صاحب المواريث، أعلمنا أنكم بكيتم البارحة، وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غنيّ، وأخذتم كلّ ما ترك، فقلت: والله ما بكيت إلّا نفسي، فكذبني وحملني إلى السجن، فدفعت المثقال الثاني، ورجعت إلى الدار وقلت:
أخرج إلى الوادي، إلى باب القنطرة، أغسل ثيابي من درن السجن، وأفرّ إلى العدوة، فقلت لامرأة تغسل الثياب: اغسلي مما عليّ، وجرّدتها، ودفعت لي زنارا ألبسه. فبينا أنا كذلك، وإذا بالخصيّ قائد ابن مردنيش، يسوق ستين رجلا من أهل الجبل، لابسي الزنانير، فرآني على شكلهم، فأمر بحملي إلى السّخرة والخدمة بحصن مسقوط عشرة أيام، فلبثت أخدم وأحضر مدة عشرة أيام، وأنا أبكي وأشتكي للقائد المذكور، حتى أشفق عليّ وسرّحني. فرجعت أريد مرسية، فقيل لي عند باب البلد: كيف اسمك؟(2/72)
فقلت: محمد بن عبد الرحمن، فأخذني الشرطي، وحملت إلى القابض بباب القنطرة، فقالوا: هذا من كتبته من أرباب الحالي بكذا وكذا دينار، فقلت: والله ما أنا إلّا من شاطبة، وإنما اسمي وافق ذلك الاسم، ووصفت له ما جرى عليّ، فأشفق وضحك مني وأمر بتسريحي، فسرت على وجهي إلى هنا.
بعض الأحداث في أيامه، ونبذ من أخباره:
استولى على بلاد الشّرق، مرسية وبلنسية وشاطبة ودانية، ثم اتسع نطاق ملكه، فولّي جيّان، وأبدة، وبيّاسة، وبسطة، ووادي آش. وملك قرمونة، ونازل قرطبة وإشبيلية، وكاد يستولي على جميع بلاد الأندلس، فولّي صهره ابن همشك، وقد مرّ في باب إبراهيم، مدينة جيّان وأبدة وبيّاسة، وضيّق منها على قرطبة، واستولى على إستجة، ودخل غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وثار عليه يوسف بن هلال من أصهاره بحصن مطرنيش وما إليه. ثم تفاسد ما بينه وبين صهره الآخر ابن همشك، فكان سبب إدبار أمره، واستولى العدو في مدة ابن سعد على مدينة طرطوشة عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة، وعلى حصن إقليج، وحصن شرانية.
دخوله غرناطة: ولما دخل ابن همشك (1) مدينة غرناطة، وامتنعت عليه قصبتها، وهزم الجيش المصرخ لمن حصر بها من الموحدين بمرج الرّقاد (2) وثاب أثناء ذلك أمر الموحدين، فتجهز لنصرهم السيد أبو يعقوب، وأجاز البحر، واجتمعوا بالسيد أبي سعيد بمالقة، استمدّ ابن همشك صهره الأسعد، أبا عبد الله محمد بن سعد، فخرج بنفسه في العسكر الكبير من أهل الشرق والنصارى، فوصل إلى غرناطة، واضطربت محلته بالربوة السامية المتصلة بربض البيّازين، وتعرف إلى اليوم بكدية مردنيش، وتلاحق جيش الموحدين بأحواز غرناطة، فأبينوا جيش عدوهم، فكانت عليه الدّبرة، وفر ابن مردنيش، فلحق بجيان، واتصلت عليه الغلبة من لدن منتصف عام ستين، فلم يكن له بعده ظهور.
وفاته: وظهر عليه أمر الموحدين، فاستخلصوا معظم ما بيده، وأوقعوا بجنده الوقائع العظيمة، وحصر بمدينة مرسية، واتصل حصاره، فمات أثناء الحصار في عاشر
__________
(1) هو القائد أبو الحسن بن همشك، صهر محمد بن مردنيش، كما ورد في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261).
(2) مرج الرقاد: موضع بظاهر غرناطة، انهزم فيه الموحدون أقبح هزيمة سنة 557هـ على يد أبي الحسن بن همشك، صهر محمد بن مردنيش. راجع أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 261).(2/73)
رجب من عام سبعة وستين وخمسمائة (1) وله ثمانية وأربعون عاما، ووصل أمره أبو القمر هلال (2)، وألقى باليدين إلى الموحدين، فنزل على عهد ورسوم حسبما يأتي في موضعه.
محمد بن يوسف بن هود الجذامي
أمير المسلمين بالأندلس، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب السلطانية بالمتوكل على الله (3).
أوّليّته: من ولد المستعين بن هود. وأوّليتهم معروفة، ودولتهم مشهورة، وأمراؤهم مذكورون. خرج من مرسية تاسع رجب عام خمسة وعشرين وستمائة إلى «الصّخور» من جهاتها، في نفر يسير من الجنود معه، وكان الناس يستشعرون ذلك، ويرتقبون ظهور مسمّى باسمه واسم أبيه، ويندّدون بإمرته وسلطانه. وجرى عليه بسبب ذلك امتحان في زمن الموحّدين مرات، إذ كان بعض الهاتفين بالأمور الكائنة، والقضايا المستقبلة، يقول لهم: يقوم عليكم قائم من صنف الجند، اسمه محمد بن يوسف، فقتلوا بسبب ذلك شخصا من أهل جيّان. ويقال إن شخصا ممن ينتحل ذلك، لقي ابن هود، فأمعن النظر إليه، ثم قال له: أنت سلطان الأندلس، فانظر لنفسك، وأنا أدلّك على من يقيم ملكك، فاذهب إلى المقدّم الغشتي فهو القائم بأمرك. وكان الغشتي (4) رجلا صعلوكا (5) يقطع الطريق، وتحت يده جماعة من أنجاد (6) الرجال، وسباع الشرّار، قد اشتهر أمرهم، فنهض إلى المقدم، وعرض عليه الأمر، وقال: نستفتح بمغاورة إلى أرض العدو، على اسمك وعلى سعدك، ففعلوا، فجلبوا كثيرا من الغنائم والأسرى، وانضاف إلى ابن هود طوائف مثل هؤلاء، وبايعوه
__________
(1) كذا في أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 262)، وفي المعجب (ص 279) أنه مات في شهور سن 568هـ. وفي نفح الطيب (ج 6ص 147، 235) أن وفاته كانت سنة 566هـ.
(2) هو هلال بن محمد بن سعد بن مردنيش، تولّى الأمر بعد موت أبيه سنة 567هـ، ولكنه خالف أباه في العداء للموحدين، فتخلّى عن مرسيه، وأذعن للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن. أعمال الأعلام (القسم الثاني ص 271).
(3) ترجمة المتوكل محمد بن يوسف بن هود في البيان المغرب قسم الموحدين (ص 276) والمعجب (ص 417) والمغرب (ج 2ص 251) وكتاب العبر (م 4ص 361) والحلة السيراء (ج 128ص 296، 303، 308) وأعمال الأعلام (القسم الثاني ص 277) والأعلام للزركلي (ج 7ص 149).
(4) قارن بالبيان المغرب (قسم الموحدين ص 276).
(5) في البيان المغرب: «حواسا».
(6) في البيان المغرب (ص 277): «من أراذل الناس».(2/74)
ب «الصّخيرات» (1) كما ذكر، من ظاهر مرسية، وتحرّك إليه السيد أبو العباس بعسكر مرسية، فأوقع به وشرّده، ثم ثاب إليه ناسه، وعدل إلى الدّعاء للعباسيين، فتبعه اللّفيف، ووصل تقليد الخليفة المستنصر بالله ببغداد، فاستنصر الناس في دعوته، وشاع ذكره، وملك القواعد، وجيّش الجيوش، وقهر الأعداء، ووفّى للغشتي بوعده، فولّاه أسطول إشبيلية، ثم أسطول سبتة، مضافا إلى أمرها، وما يرجع إليه، فثار به أهلها بعد وخلعوه، وفرّ أمامهم في البحر، وخفي أثره إلى أن تحقق استقراره أسيرا في البحر بغرب الأندلس، ودام زمانا، ثم تخلّص في سنّ الشيخوخة، ومات برباط آسفي.
حاله: كان شجاعا، ثبتا، كريما حيّيا، فاضلا، وفيّا، متوكّلا عليه، سليم الصدر، قليل المبالاة، فاستعلى لذلك عليه ولاته بالقواعد، كأبي عبد الله بن الرّميمي بألمريّة، وأبي عبد الله بن زنون بمالقة، وأبي يحيى عتبة بن يحيى الجزولي بغرناطة.
وكان مجدودا، لم ينهض له جيش، ولا وفّق لرأي لغلبة الخفّة عليه، واستعجاله الحركات، ونشاطه إلى اللقاء، من غير كمال استعداد.
بعض الأحداث في أيامه (2):
جرت عليه هزائم، منها هزيمة السلطان الغالب بالله إيّاه مرّتين، إحداهما بظاهر إشبيلية، وركب البحر فنجا بنفسه، ثم هزمه بإلبيرة من أحواز غرناطة، زعموا كل ذلك في سنة أربع وثلاثين وستمائة أو نحوها.
وفي سنة خمس وثلاثين، كان اللقاء بينه وبين المأمون إدريس أمير الموحدين بإشبيلية، فهزمه المأمون أقبح هزيمة، واستولى على محلّته، ولاذ منه بمدينة مرسية.
ثم شغل المأمون الأمر، وأهمّته الفتنة الواقعة بمرّاكش، فصرف وجهه إليها، وثاب الأمر للمتوكل، فدخلت في طاعته ألمريّة، ثم غرناطة، ثم مالقة. وفي سبع وعشرين وستمائة، تحرّك بفضل شهامته بجيوش عظيمة، لإصراخ مدينة ماردة، وقد نازلها العدوّ وحاصر، ولقي الطّاغية بظاهرها، فلم يتأنّ، زعموا، حتى دفع بنفسه العدوّ، ودخل في مصافّه، ثم لمّا كرّ إلى ساقته، وجد الناس منهزمين لما غاب عنهم، فاستولت عليه هزيمة شنيعة، واستولى العدو على ماردة بعد ذلك.
__________
(1) في البيان المغرب (ص 277) أن الصخيرات موضع بمقربة من مرسية.
(2) قارن بالبيان المغرب قسم الموحدين (ص 289288، 294).(2/75)
وفتح عليه في أمور، منها تملّكه إشبيلية سنة تسع وعشرين وستمائة، وولّى عليها أخاه الأمير أبا النجاة سالما الملقب بعماد الدولة. وفي سنة إحدى وثلاثين، رجعت قرطبة إلى طاعته، واستوسق أمره. وتملّك غرناطة ومالقة عام خمسة وعشرين وستمائة، ودانت له البلاد. وفي العشر الأول من شوال، دخل في طاعته الريّسان أبو زكريا، وأبو عبد الله، ابنا الرئيس أبي سلطان عزيز بن أبي الحجاج بن سعد، وخرجا عن طاعة الأمير أبي جميل، وأخذا البيعة لابن هود على ما في أيديهما. وفي سنة ست وعشرين وستمائة، تملك الجزيرة الخضراء عنوة، يوم الجمعة التاسع لشعبان من العام، وفي العشر الوسط من شوال ورد عليه الخبر ليلا بقصد العدوّ وجهة مدينة وادي آش، فأسرى ليله مسرجا بقية يومه، ولحق بالعدو على ثمانين ميلا، فأتى على آخرهم، ولم ينج منه أحد.
إخوته: الرئيس أبو النجاة سالم، وعلامته: «وثقت بالله»، ولقبه «عماد الدولة»، والأمير أبو الحسن عضد الدولة، وأسره العدو في غارة، وافتكّه بمال كثير، والأمير أبو إسحاق شرف الدولة. وكلهم يكتب عنه، من الأمير فلان.
ولده: أبو بكر الملقب بالواثق بالله، أخذ له البيعة على أهل الأندلس، في كذا، وولّي بعده وليّ عهده، واستقلّ بملك مرسية، ثم لم ينشب أن هلك.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مرّات عديدة، إحداها في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقد وردت عليه الرّاية والتقليد من الخليفة العباسي ببغداد. وبمصلّى غرناطة، قرىء على الناس كتابه، وهو قائم، وزيّه السّواد، ورايته السوداء بين يديه، وكان يوم استسقاء، فلم يستتمّ على الناس قراءة الكتاب يومئذ، إلّا وقد جادت السماء بالمطر، وكان يوما مشهودا، وصنعا غريبا، وأمر بعد انصرافه، أن يكتب عنه بتلك الألقاب التي تضمّنها الكتاب المذكور إلى البلاد.
وفاته: اختلف الناس في سبب وفاته، فذكر أنه قد عاهد زوجه ألّا يتخذ عليها امرأة طول عمره، فلمّا تصيّر إليه الأمر، أعجبته روميّة حصلت له بسبب السّبي من أبناء زعمائهم، من أجمل الناس، فسترها عند ابن الرّميمي خليفته، فزعموا أن ابن الرميمي علق بها، ولما ظهر حملها، خاف افتضاح القصة، فدبّر عليه الحيلة، فلمّا حلّ بظاهر ألمريّة، عرض عليه الدخول إليها، فاغتاله ليلا، بأن أقعد له أربعة رجال، قضوا عليه خنقا بالوسائد. ومن الغد ادّعى أنه مات فجأة، ووقف عليه العدول، والله أعلم بحقيقة الأمر سبحانه، وكانت وفاته ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين وستمائة. وفي إرجاف الناس بولاية ابن هود، والأمر قبل وقوعه،
يقول الشاعر: [الطويل](2/76)
وفاته: اختلف الناس في سبب وفاته، فذكر أنه قد عاهد زوجه ألّا يتخذ عليها امرأة طول عمره، فلمّا تصيّر إليه الأمر، أعجبته روميّة حصلت له بسبب السّبي من أبناء زعمائهم، من أجمل الناس، فسترها عند ابن الرّميمي خليفته، فزعموا أن ابن الرميمي علق بها، ولما ظهر حملها، خاف افتضاح القصة، فدبّر عليه الحيلة، فلمّا حلّ بظاهر ألمريّة، عرض عليه الدخول إليها، فاغتاله ليلا، بأن أقعد له أربعة رجال، قضوا عليه خنقا بالوسائد. ومن الغد ادّعى أنه مات فجأة، ووقف عليه العدول، والله أعلم بحقيقة الأمر سبحانه، وكانت وفاته ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين وستمائة. وفي إرجاف الناس بولاية ابن هود، والأمر قبل وقوعه،
يقول الشاعر: [الطويل]
همام به زاد الزمان طلاقة ... ولذّت لنا فيه الأماني موردا
فقل لبني العباس ها هي دولة ... أغار بها الحقّ المبين وأنجدا
فإن الذي قد جاء في الكتب وصفه ... بتمهيد هذي الأرض قد جاء فاهتدا
فإن بشّرتنا بابن هود محمد ... فقد أظهر الله ابن هود محمّدا
محمد بن أحمد بن زيد بن أحمد بن زيد بن الحسن ابن أيوب بن حامد بن زيد بن منخل الغافقي
يكنى أبا بكر، من أهل غرناطة. وسكن وادي آش.
أوّليّته: أصل هذا البيت من إشبيلية، وذكره الرّازي في الاستيعاب، فقال:
وبإشبيلية بيت زيد الغافقي، وهم هناك جماعة كبيرة، فرسان ولهم شرف قديم، وقد تصرّفوا في الخدمة. بلديّون (1)، ثم انتقلوا إلى طليطلة، ثم قرطبة، ثم غرناطة. وذكر الملّاحي في كتابه الحسن بن أيوب بن حامد بن أيوب بن زيد، وعدّه من أهل الشّورى، وقضاة الجماعة بغرناطة. وأحمد بن زيد بن الحسن هو المقتول يوم قيام بني خالد، بدعوة السلطان أبي عبد الله الغالب بالله بن نصر (2)، وكان عامل المتوكل على الله بن هود بها، وعمّن جمع له بين الدّين والفضل والماليّة.
حاله ونباهته ومحنته ووفاته:
كان هذا الرجل عينا من أعيان الأندلس، وصدرا من صدورها، نشأ عفّا متصاونا عزوفا، وطلاوة، نزيها، أبيّا، كريم الخؤولة، طيّب الطّعمة، حرّ الأصالة، نبيه الصّهر. ثم استعمل في الوزارة ببلده، ثم قدّم على من به من الفرسان، فأوردهم الموارد الصفيّة بإقدامه، واستباح من العدوّ الفرصة، وأكسبهم الذكر والشهرة، وأنفق في سبيل الله، إلى غضاضة الإيمان، وصحّة العقد، وحسن الشّيمة، والاسترسال في ذكر التواريخ، والأشعار الجاهليّة، والأمثال، والتمسّك بأسباب الدين، وسحب أذيال الطّهارة، وهجر الخبايث، وإيثار الجدّ، والانحطاط في هوى الجماعة.
__________
(1) البلديون: هم العرب الذين دخلوا الأندلس على يد موسى بن نصير، والشاميون هم العرب الذين دخلوا الأندلس مع بلج بن بشر القشيري سنة 123هـ. راجع الجزء الأول من الإحاطة في «فصل في فتح هذه المدينة».
(2) هو أبو عبد الله الغالب بالله محمد بن يوسف بن محمد بن نصر الخزرجي الأنصاري، حكم غرناطة من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 42).(2/77)
مشيخته: قرأ بغرناطة على شيخ الجماعة أبي عبد الله بن الفخّار، وببلده على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني، وبه انتفاعه. وكان جهوري الصّوت، متفاضلا، قليل التهيّب في الحفل. ولما حدث بالسلطان أبي عبد الله من كياد دولته، وتلاحق بوادي آش مفلتا، قام بأمره، وضبط البلد على دعوته، ولمّ المداهنة في أمره، وجعل حيل عدوه دبر أذنه، إلى أن خرج عنها إلى العدوة، فكان زمان طريقه مفديا له بنفسه، حتى لحق بمأمنه، فتركها مغربة.
خبر في وفاته ومعرجه:
وكانت الحمد لله على محمده، واستأثر به الدّاخل، فشدّ عليه يد اغتباطه، وأغرى به عقد ضنانته، وخلطه بنفسه، ثم أغرى به لمكانته من الشهامة والرياسة، فتقبّض عليه، وعلى ولده، لباب بني وقته، وغرّة أبناء جنسه، فأودعهما مطبق أرباب الجرائم، وهمّ باغتيالهما، ثم نقلهما إلى مدينة المنكّب ليلة المنتصف لمحرم من عام اثنين وستين وسبعمائة في جملة من النّبهاء مأخوذين بمثل تلك الجريرة. ثم صرف الجميع في البحر إلى بجاية، في العشر الأول لربيع الأول مصفّدين. ولما حلّوا بها، أقاموا تحت برّ وتجلّة. ثم ركبوا البحر إلى تونس، فقطع بهم أسطول العدو بأحواز تكرنت، ووقعت بينه وبين المسلمين حرب، فكرم مقام المترجم يومئذ، وحسن بلاؤه. قال المخبر: عهدي به، وقد سلّ سيفا، وهو يضرب العدو ويقول: اللهمّ اكتبها لي شهادة. واستولى العدو على من كان معه من المسلمين، ومنهم ولده، وكتب: افتكّ الجميع ببلد العنّاب، وانصرف ابنه إلى الحج، وآب لهذا العهد بخلال حميدة كريمة، من سكون وفضل ودين وحياء، وتلاوة، إلى ما كان يجده من الرّكض، ويعانيه من فروسية، فمضى على هذا السبيل من الشهادة، نفعه الله، في ليلة الجمعة الثامن لرجب من عام اثنين وستين وسبعمائة.
شعره: أنشدني قاضي الجماعة أبو الحسن بن الحسن له: [البسيط]
يا أيها المرتجي للطف (1) خالقه ... وفضله في صلاح الحال والمال
لو كنت توقن حقا لطف قدرته ... فاشمخ بأنفك عن قيل وعن (2) قال
فإنّ لله لطفا عزّ خالقنا ... عن أن يقاس بتشبيه وتمثال
وكل أمر وإن أعياك ظاهره ... فالصّنع في ذاك لا يجري على بال
__________
(1) في الأصل: «لطف» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) كلمة «عن» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.(2/78)
محمد بن أحمد بن محمد الأشعري
من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن المحروق، الوكيل بالدار السلطانية، القهرمان بها، المستوزر آخر عمره، سداد من عون.
حاله وأوليته وظهوره: كان، رحمه الله، من أهل العفاف والتّصاون، جانحا إلى الخير، محبّا في أهل الإصلاح، مغضوض الطّرف عن الحرم، عفيفا عن الدماء، مستمسكا بالعدالة، من أهل الخصوصيّة، كتب الشروط، وبرّز في عدول الحضرة.
وكان له خط حسن، ومشاركة في الطلب، وخصوصا في الفرائض، وحظّه تافه من الأدب. امتدح الأمراء، فترقى إلى الكتابة مرءوسا مع الجملة. وعند الإيقاع بالوزير ابن الحكيم، تعيّن لحصر ما استرفع من منتهب ماله، وتحصّل بالدار السلطانية من أثاثه وخرثيّه (1)، فحزم واضطلع بما كان داعية ترقيه إلى الوكالة، فساعده الوقت، وطلع له جاه كبير، وتملّك أموالا عريضة، وأرضا واسعة، فجمع الدنيا بحزمه ومثابرته على تنمية داخله. وترقى إلى سماء الوزارة في الدّولة السادسة من الدول النّصرية (2)، بتدبير شيخ الغزاة، وزعيم الطائفة عثمان بن أبي العلي (3)، فوصله إلى أدوار دنياه، والله قد خبّأ له المكروه في المحبوب، وتأذّن الله سبحانه بنفاد أجله على يده، فاستولى وحجب السلطان. ثم وقعت بينه وبين مرشّحه الوحشة الشهيرة عام سبعة (4) وعشرين وسبعمائة، مارسا لمكان الفتنة، صلة فارط في حجب السلطان، وأجلى جمهور ما كان ببابه، ومنع من الدخول إليه، فاضطربت حاله، وأعمل التدبير عليه، فهجم عليه بدار الحرّة الكبيرة جدّة السلطان، وكان يعارضها في الأمور، ويجعلها تكأة لغرضه، فتيان من أحداث المماليك المستبقين مع محجوبه، تناولاه سطّا بالخناجر، ورمى نفسه في صهريج الدار، وما زالا يتعاورانه من كل جانب حتى فارق الحياة، رحمه الله تعالى.
مشيخته: قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزّبير، وكانت له فيه فراسة صادقة.
__________
(1) الأثاث: ما جدّ من متاع البيت، ولا واحد له. والخرثيّ: أردأ متاع البيت. محيط المحيط (أثث) و (خرث).
(2) المراد بالدولة السادسة سادس سلاطين بني نصر، وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر. وترجمته في اللمحة البدرية (ص 90). وترجم له ابن الخطيب في الجزء الأول من الإحاطة ترجمة ضافية.
(3) في الأصل: «العلاء» والتصويب من اللمحة البدرية (ص 93).
(4) في الأصل: «سبع» وهو خطأ نحوي.(2/79)
محمد بن فتح بن علي الأنصاري
يكنى أبا بكر، ويشهر بالأشبرون، قاضي الجماعة.
حاله: كان طرفا في الدّهاء والتخلّق والمعرفة بمقاطع الحقوق، ومغامز الرّيب، وعلل الشهادات، فذّا في الجزالة، والصّرامة، مقداما، بصيرا بالأمور، حسن السيرة، عذب الفكاهة، ظاهر الحظوة، عليّ الرتبة. خرج من إشبيلية عند تغلّب العدوّ عليها، وولّي القضاء بمالقة وبسطة. ثم ولّي الحسبة بغرناطة، ثم جمعت له إليها الشّرطة. ثم قدّم قاضيا، واستمرّت ولايته نحوا من ثلاثين سنة.
وفاته: توفي ليلة الحادي عشر من شهر ربيع الأول عام ثمانية وتسعين وستمائة.
محمد بن أحمد بن علي بن حسن بن علي ابن الزيات الكلاعي (1)
ولد الشيخ الخطيب أبي جعفر بن الزيات، من أهل بلّش، يكنى أبا بكر.
حاله: من «عائد الصلة» من تأليفنا: كان، رحمه الله، شبيها بأبيه، في هديه، وحسن سمته ووقاره، إلّا أنه كان حافظا للرتبة، مقيما للأبّهة، مستدعيا بأبيه ونفسه للتجلّة، بقية من أبناء المشايخ، ظرفا وأدبا ومروءة وحشمة، إلى خطّ بديع قيد البصر، ورواية عالية، ومشاركة في فنون، وقراءة، وفقه، وعربية، وأدب وفريضة، ومعرفة بالوثاق والأحكام. تولّى القضاء ببلده، وخلف أباه على الخطابة والإمامة، فأقام الرّسم، واستعمل في السّفارة، فسدّ مسدّ مثله، وأقرأ ببلده، فانتفع به.
مشيخته: قرأ على الأستاذ الخطيب أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي، وبغرناطة على شيخ الجماعة الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ومن أعلام مشيخته جدّه للأمّ، خال أبيه، الحكمي العارف أبو جعفر ابن الخطيب أبي الحسن بن الحسن المذحجي الحمي، والخطيب الربّاني أبو الحسن فضل بن فضيلة، والوزير أبو عبد الله بن رشيد.
__________
(1) ترجمة محمد بن أحمد بن الزيات الكلاعي في الكتيبة الكامنة (ص 115) ونيل الابتهاج (ص 237).(2/80)
محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن الحاج (1)
يكنّى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج.
أوّليّته وحاله: كان أبوه نجّارا من مدجّني مدينة إشبيلية، من العارفين بالحيل الهندسية، بصيرا باتخاذ الآلات الحربية الجافية، والعمل بها. وانتقل إلى مدينة فاس على عهد أبي يوسف المنصور بن عبد الحق، واتخذ له الدّولاب المنفسح القطر، البعيد المدى، مليّن المركز والمحيط، المتعدّد الأكواب، الخفيّ الحركة، حسبما هو اليوم ماثل بالبلد الجديد، دار الملك بمدينة فاس، أحد الآثار التي تحدو إلى مشاهدتها الرّكاب، وبناء دار الصّنعة بسلا. وانتقل بعد مهلك أبيه إلى باب السلطان ثاني الملوك من بني نصر (2)، ومتّ إليه بوسيلة أدنت محلّه، وأسنت جراياته، إلى أن تولّى وزارة ولده أمير المسلمين، أبي الجيوش نصر (3)، واضطلع بتدبيره، ونقم الناس عليه إيثاره لمقالات الرّوم، وانحطاطه في مهوى لهم، والتشبّه بهم في الأكل والحديث، وكثير من الأحوال والهيئات والاستحسان، وتطريز المجالس بأمثالهم وحكمهم، سمة وسمت منه عقلا، لنشأته بين ظهرانيهم، وسبقت إلى قوى عقله المكتسب في بيوتهم، فلم تفارقه بحال، وإن كان آية في الدهاء، والنظر في رجل بعيد الغور، عميق الفكر، قائم على الدّمنة، منطو على الرّضف، ليّن الجانب، مبذول البشر، وحيد زمانه في المعرفة بلسان الرّوم وسيرهم، محكم الأوضاع في أدب الخدمة، ذرب بالتصرف في أبواب الملوك.
وكان من ثورة العامة بسلطانه ما تقدم، وجهروا بإسلامه إليهم، وقد ولّوه بسبب الثورة، وطوّقوه كياد الأزمة، فضنّ به السلطان ضنانة أعربت عن وفائه، وصان مهجته، واستمرّ الأمر إلى أن خلع الملك عن الملك. وكان نزول الوزير المذكور تحت خفارة شيخ الغزاة، وكبير الطائفة، عثمان بن أبي العلى، فانتقل محفوظ
__________
(1) ذكره ابن الخطيب في اللمحة البدرية (ص 71)، وقال: إنه تولّى وزارة سلطان غرناطة أبا الجيوش نصر بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر.
(2) الصواب أنه ثالث سلاطين بني نصر، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الملقب بالمخلوع، ووالد أبي الجيوش نصر. وقد حكم غرناطة من سنة 701 هـ إلى سنة 708هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 60). وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة.
(3) هو أبو الجيوش نصر بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، رابع سلاطين بني نصر بغرناطة، حكم من سنة 708هـ إلى سنة 722هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 70). وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الثالث من الإحاطة.(2/81)
الجملة، محوط الوفر، ولم ينشب إلى أن لجأ إلى العدوة، واتصل بالأمير أبي علي عمر بن السلطان الكبير أبي سعيد، فحرّكه، زعموا، على محادّة أبيه، وحمله على الانتزاء، فكان ما هو معلوم من دعائه إلى نفسه، ومنازعة أبيه، ولقائه إياه بالمقرمدة (1)، وفلّ جيشه، وفي أثنائه هلك المترجم به.
وفاته: توفي بفاس الجديد في العشر الأول من شعبان عام أربعة عشر (2)
وسبعمائة.
محمد بن رضوان بن محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن أرقم النّميري
من أهل وادي آش، يكنى أبا يحيى.
حاله: كان صدرا شهيرا، عالما علما، حسيبا، أصيلا، جمّ التحصيل، قويّ الإدراك، مضطلعا بالعربية واللغة، إماما في ذلك، مشاركا في علوم من حساب وهيئة وهندسة. قال الشيخ: كان في هذا كله أبرع من لقيته، إلى سراوة وفضل وتواضع ودين، جاريا في ذلك على سنن سلفه، وعلوّ محتده، جالسته، رحمه الله، كثيرا عند علية من أدركته بغرناظة لإقامته بها، وتكرر لقائي إياه بها وبغيرها، فرأيت أصيلا جليلا قد جمع علما وفضلا، وحسن خلق، وكان حسن التقييد، لخطّه رونق يمتاز به، ويبعد عن غيره. ولّي القضاء ببلده، ثم ولّي بعد مدة ببرشانة (3)، فحمدت سيرته.
مشيخته: أخذ القراءات السبع عن أبي كرم جودي بن عبد الرحمن، وقرأ عليه الغريب واللغة، ولازمه في ذلك، وأجاز له إجازة عامة، وأخذ من غيره ببلده، وصحب بغرناطة جملة من العلماء بها، أيام اختلافه إليها، وإقامته بها.
تواليفه: ألّف كتابا سماه «الاحتفال في استيفاء ما للخيل من الأحوال»، وهو كتاب ضخم وقفت عليه من قبله وأفدته. واختصر الغريب المصنّف، وله تقاييد منثور ومنظوم في علم النجوم، ورسالة في الأسطرلاب الخطي والعمل به، وشجرة في أنساب العرب.
وفاته: وفي ليلة السبت السابع عشر لشهر ربيع الآخر عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
__________
(1) المقرمدة: بلدة تقع جنوب شرقي مدينة فاس.
(2) في الأصل: «أربع عشرة» وهو خطأ نحوي.
(3) برشانة: بالإسبانية، وهي حصن على مجتمع نهرين. الروض المعطار (ص 88).
وذكرها ياقوت في معجم البلدان (ج 1ص 384) وقال: إنها من قرى إشبيلية بالأندلس.(2/82)
محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ابن محمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن سوار ابن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير بن عيّاش (1)
المكنى بأبي عيشون بن حمّود، الداخل إلى الأندلس صحبة موسى بن نصير، ابن عنبسة بن حارثة بن العباس بن المرداس، يكنّى أبا البركات، بلفيقي (2) الأصل، مروي (3) النشأة والولادة والسلف، يعرف بابن الحاج، وشهر الآن في غير بلده بالبلفيقي، وفي بلده بالمعرفة القديمة.
أوّليّته: قد تقدم اتصال نسبه بحارثة بن العباس بن مرداس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خطبائه وشعرائه، رئيس في الإسلام، ورئيس في الجاهلية. وكان لسلفه، وخصوصا لإبراهيم، من الشهرة بولاية الله، وإيجاب الحقّ من خلقه ما هو مشهور، حسبما تنطق به الفهارس، يعضّد هذا المجد من جهة الأمومة، كأبي بكر بن صهيب، وابن عمه أبي إسحاق، وغيرهم، الكثير ممن صنّف في رجال الأندلس، كأبي عبد المجيد المالقي، وابن الأبار، وابن طلحة، وابن فرتون، وابن صاحب الصلاة، وابن الزّبير، وابن عبد الملك، فلينظر هناك.
حاله: نشأ ببلده ألمرية عمود العفة، فضفاض جلباب الصّيانة، غضيض طرف الحياء، نائي جنب السّلام، حليف الانقباض والازورار، آويا إلى خالص النّشب وبحت الطّعمة، لا يرى إلّا في منزل من سأله، وفي حلق الأسانيد، أو في مسجد من المساجد خارج المدينة المعدّة للتّعبّد، لا يجيء سوقا، ولا مجمعا، ولا وليمة، ولا مجلس حاكم أو وال، ولا يلابس أمرا من الأمور التي جرت عادته أن يلابسها بوجه من الوجوه. ثم ترامى إلى رحلة، فجاس خلال القطر الغربي إلى بجاية، نافضا إياه من العلماء والصلحاء والأدباء والآثار بتقييده، وأخذه قيام ذكر، وإغفال شهرة. ثم صرف عنانه إلى الأندلس، فتصرف في الإقراء، والقضاء، والخطابة. وهو الآن نسيج
__________
(1) ترجمة أبي البركات محمد بن محمد بن الحاج البلفيقي في الكتبية الكامنة (ص 127) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 202) ونفح الطيب (ج 8ص 16) وأزهار الرياض (ج 4ص 107) والديباج المذهب (ص 164) والتعريف بابن خلدون (ص 61) وجذوة الاقتباس (ص 183) والدرر الكامنة (ج 4ص 155)، وغاية النهاية (ج 2ص 235).
(2) نسبة إلى بلفيق وهي بلدة تابعة لمدينة ألمرية. الإحاطة (ج 2ص 143) حاشية رقم 1بتحقيق عنان.
(3) نسبة إلى مدينة ألمرية.(2/83)
وحده في أصالة عريقة، وسجيّة على السلامة مفطورة، فما شئت من صدر سليم، وعقد وثيق، وغور قريب، ونصح مبذول، وتصنّع مرفوض، ونفس ساذجة، وباطن مساو للظاهر، ودمعة سريعة، وهزل يثمر تجلّة، وانبساط يفيد حسن نيّة، إلى حسن العهد، وفضل المشاركة، ورقّة الحاشية، وصلابة العود، وصدق العزيمة، وقوة الحامية، وبلاغة الموعظة، وجلّة الوقت، وفائدة العصر، تفننا وإمتاعا، فارس المنابر غير الهيّابة، ولا الجزوع، طيّب النّغمة بالقرآن، مجهشا في مجال الرّقة، كثير الشفقة لصالح العامة، متأسفا لضياع الأوقات، مدمعا على الفيئة، مجمّا، محوّلا في رئاسة الدين والدنيا. هذا ما يسامح فيه الإيجاز، ويتجافى عنه الاختصار، ويكفي فيه الإلماع والإشارة، أبقى الله شيخنا أبا البركات.
مشيخته وولايته: تقدم قاضيا بقنالش (1)، في جمادى الثانية عام خمسة عشر وسبع مائة ثم ولّي مربلّة، وإستبونة (2) ثم كانت رحلته إلى بجاية. ثم عاد فقعد بمجلس الإقراء من مالقة للكلام على صحيح مسلم، متّفقا على اضطلاعه بذلك. ثم رحل إلى فاس. ثم آب إلى الأندلس، واستقرّ ببلده ألمرية، فقعد بمسجدها الجامع للإقراء، ثم قدّم قاضيا ببرجة ودلّاية، والبينول (3) وفنيانة (4)، ثم نقل عنها إلى بيرة، ثم غربي ألمرية. ثم قدّم قاضيا بمالقة، ثم قدّم بغربها مضافا إلى الخطابة، ثم أعيد إلى قضاء ألمرية، بعد وفاة القاضي أبي محمد بن الصائغ. ومن كتاب «طرفة العصر» من تأليفنا في خبر ولايته ما نصه:
فتقلّد الحكم في الثالث والعشرين لشعبان من عام سبعة (5) وأربعين وسبعمائة، ثالث يوم وصوله مستدعى، وانتابه الطّلبة ووجوه الحضرة والدولة، مهنئين بمثواه من دار الصيانة، ومحل التّجلّة، إحدى دور الملوك بالحمراء، فطفقوا يغشونه بها زرافات ووحدانا، في إتاحة الخير، وإلهام السّداد، وتسويغ الموهبة. وكان وصوله، والأفق قد اغبرّ، والأرض قد اقشعرّت لانصرام حظّ من أيام الشتاء الموافق لشهر ولايته، لم
__________
(1) قنالش: بلدة تابعة لمقاطعة ألمرية، على مقربة من بلفيق بلد المترجم له أبي البركات البلفيقي.
الإحاطة (ج 2ص 145) حاشية رقم 2.
(2) إستبونة أو أشتبونة: بالإسبانية، وهي بلدة تقع على البحر المتوسط شمال جبل طارق. الإحاطة (ج 2ص 24) حاشية رقم 3.
(3) البينول: بالإسبانية:، وهي بلدة تابعة لمقاطعة مالقة. الإحاطة (ج 2ص 145) حاشية رقم 6.
(4) فنيانة: قرية بقرب وادي آش من الأندلس، وقيل هي حصن. نزهة المشتاق (ص 567) والروض المعطار (ص 441).
(5) في الأصل: «سبع» وهو خطأ نحوي.(2/84)
يسح فيه الغمام بقطرة، ولا لمعت السماء بنزعة، حتى أضرّت الأنفس الشحّ، وحسر العسر عن ساقه، وتوقفت البذور، فساعده الجدّ بنزول الرّحمة عند نزوله من مرقاة المنبر، مجابة دعوة استسقائه، ظاهرة بركة خشوعه، ولذلك ما أنشدته في تلك الحال (1): [الكامل]
ظمئت إلى السّقيا الأباطح والرّبا ... حتى دعونا العام عاما مجدبا
والغيث مسدول الحجاب وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدّبا
وتولى النظر في الأحكام فأجال قداحها، مضطلعا بأصالة النظر، وإرجاء المشبّهات، وسلك في الخطابة طريقة مثلى، يفرغ في قوالب البيان أغراضها، ويصرف على الأحكام الكوائن والبساطات أساليبها، من المحاكاة، باختلاف القبض والبسط، والوعد والوعيد، حظوظها على مقبض العدل، وسبب الصواب يقوم على كثير مما يصدع به، من ذلك شاهد البديهة، ودليل الاستيعاب. قال شيخنا أبو البركات: ثم صرفت عنها للسبب المتقدم، وبقيت مقيما بها، لما اشتهر من وقوع الوباء بألمريّة، ثم أعدت إلى القضاء والخطابة بألمرية، وكتب بذلك في أوايل رجب عام تسعة وأربعين. وبقيت على ذلك إلى أن صرفت بسبب ما ذكر. ثم أعدت إليها في أواخر رجب سنة ست وخمسين، عسى أن يكون الانقطاع لله سبحانه. فأنا الآن أتمثل بما قاله أبو مطرّف (2) بن عميرة رحمه الله: [الخفيف]
قد نسبنا إلى الكتابة يوما ... وأتت (3) خطّة القضاء تليها
وبكلّ لم نطق للمجد إلّا ... منزلا نابيا وعيشا كريها
نسبة بدّلت فلم تتغيّر ... مثل ما يزعم المهندس فيها
بدّل من لفظ الكتابة إلى الخطابة. وأغرب ما رأيت ما أحكي لك، وأنت أعلم ببعض ذلك، أن أفضل ما صدر عني في ذلك، الخطة من العمل الذي أخلصت لله فيه، ورجوت منه المثوبة عليه، وفيه مع ذلك مفتخر لمن أراد أن يفتخر غير ملتفت للدنيا، فعليه عوّلت سبحانه. انتهى كلامه.
تصانيفه: كتب إليّ بخطّه ما نصه، وهو فصل من فصول: وأما تواليفي فأكثرها، أو كلها عير متمّمة، في مبيّضات. منها كتاب قد يكبو الجواد في أربعين
__________
(1) البيتان في نفح الطيب (ج 8ص 17).
(2) هو أحمد بن عبد الله بن عميرة البلنسي، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول من الإحاطة، ووردت أبياته التالية هناك ببعض اختلاف عما هنا.
(3) في الأصل: «ثم جاءت» وهكذا ينكسر الوزن.(2/85)
غلطة عن أربعين من النّقّاد، وهو نوع من تصحيف الحفّاظ للدّارقطني، منها «سلوة الخاطر فيما أشكل من نسبة النّسب الرّتب إلى الذّاكر». ومنها كتاب «قدر جمّ في نظم الجمل». ومنها كتاب «خطر فبطر، ونظر فحظر، على تنبيهات على وثائق ابن فتّوح». ومنها كتاب «الإفصاح فيمن عرف بالأندلس بالصّلاح». ومنها «حركة الدّخولية في المسألة المالقية». ومنها «خطرة المجلس في كلمة وقعت في شعر استنصر به أهل الأندلس» جزء صغير. ومنها «تاريخ ألمريّة» غير تام. ومنها ديوان شعره المسمى ب «العذب والأجاج في شعر أبي البركات ابن الحاج» (1). ومختصره سمّاه القاضي الشريف «اللؤلؤ والمرجان، اللذان من العذب والأجاج يستخرجان» (2). ومنها «عرائس بنات الخواطر المجلوّة على منصّات المنابر» يحتوي على فصول الخطب التي أنشئت بطول بنى والخطابة. ومنها «المؤتمن على أنباء أبناء الزمن». ومنها تأليف في أسماء الكتب، والتّعريف بمؤلفيها، على حروف المعجم.
ومنها «ما اتفق لأبي البركات فيما يشبه الكرامات». ومنها كتاب «ما رأيت وما رئي لي من المقامات». ومنها كتاب «المرجع بالدّرك على من أنكر وقوع المشترك».
ومنها «مشبّهات اصطلاح العلوم». ومنها «ما كثر وروده في مجلس القضاء». ومنها «الغلسيّات»، وهو ما صدر عني من الكلام على صحيح مسلم أيام التكلّم عليه في التّغليس. ومنها «الفصول والأبواب، في ذكر من أخذ عني من الشيوخ والأتباع والأصحاب».
ثم قال: وقد ذهب شرخ الشّباب ونشاطه، وتقطّعت أوصاله، ورحل رباطه، وأصبحت النفس تنظر لهذا كله بعين الإمهال والإغفال، وقلّة المبالاة التي لا يصل أحد بها إلى منال. وهذه الأعمال لا ينشّط إليها إلّا المحرّكات التي هي مفقودة عندي، أحدها طلبة مجتمعون متعطّشون إلى ما عندي، متشوّفون غاية التّشوّف، وأين هذه بألمرية؟ الثاني، طلب رياسة على هذا، ومتى يرأس أحد بهذا اليوم، وعلى تقدير أن يرأس به وهو محال في عادة هذا الوقت، فالتشوّف لهذه الرياسة مفقود عندي.
الثالث، سلطان يملأ يد من يظهر مثل هذا، على يده غبطة، وما تم هذا. الرابع، نيّة خالصة لوجه الله تعالى في الإفادة، وهذا أيضا مفقود عندي، ولا بدّ من الإنصاف.
الخامس، قصد بقاء الذّكر، وهذا خيال ضعيف بعيد عني. السادس، الشفقة على شيء ابتدى، وسعي في تحصيل مباديه، أن يضيع على قطع ما سوى هذا الإشفاق،
__________
(1) في نفح الطيب (ج 8ص 19): «العذب والأجاج، من كلام أبي البركات ابن الحاج».
(2) في المصدر نفسه: «اللؤلؤ والمرجان، من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان».(2/86)
وهذا السادس، هو الذي في نفسي منه شيء، وبه أنا أقيد أسماء من لقيت، وما أخذت، ويكون إن شاء الله إبراز إذا الصّحف نشرت. وأكثر زماني يذهب في كيفية الخروج عما أنا فيه، فإذا ينظر إليّ العاقل في هذا الوقت بعين البصيرة، لا يسعه إلّا الشّفقة عليّ، والرّحمة لي، فإنه يرى رجلا مطرقا أكثر نهاره، ينظر إلى مآله، فلا ينشط إلى إصلاحه، وهو سابع ولا يلبس بالعبادة، وهو في زمانها المقارب للفوت، ولا ينهض إلى إقامة حقّ كما ينبغي لعدم المعين، ولا يجنح إلى شيء من راحات الدنيا، ويشاهد من علوم الباطل الذي لا طاقة له على رفعه ما يضيّق صدر الحرّ يقضي نصف النهار، محتلّا في مكان غير حسن، تارة يفكر، وتارة يكتب ما هو على يقين منه أنه كذا لا ينتفع به، ونصف النهار يقعد للناس، تارة يرى ما يكره، وتارة يسمع ما يكره، لا صديق يذكّره بأمر الآخرة، ولا صديق يسليه بأمر الدنيا، يكفيني من هذه الغزارة، اللهمّ إليك المشتكى يا من بيده الخلق، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
شعره: من مطوّلاته في النزعة الغربية التي انفرد بها، منقولا من ديوانه، قال:
ومما نظمته بسبتة في ذي الحجة من عام خمسة وعشرين وسبعمائة، في وصف حالي، وأخذها عني الأستاذ بسبتة، أبو عبد الله بن هاني، والأديب البارع أبو القاسم الحسيني، وأبو القاسم بن حزب الله، وسواهم. ولما انفصلت من سبتة إلى بلاد الريف (1) زدت عليها أبياتا في أولها، وكثر ذلك بوادي لو من بلاد الريف وهي:
[الطويل]
تأسفت لكن حين عزّ التأسّف ... وكفكفت دمعا حين لا عين تذرف
ورام سكونا هو في رجل طائر ... ونادى بأنس والمنازل تعنف
أراقب قلبي مرّة بعد مرة ... فألفيه ذيّاك الذي أنا أعرف
سقيم ولكن لا يحسّ بدائه ... سوى من له في مأزق الموت موقف
وجاذب قلبا ليس يأوي لمألف ... وعالج نفسا داؤها يتضاعف
وأعجب ما فيه استواء صفاته ... إذ الهمّ يشقيه أو السرّ ينزف
إذا حلّت الضّرّاء لم ينفعل لها ... وإن حلّت السّراء لا يتكيّف
مذاهبه لم تبد غاية أمره ... فؤاد، لعمري، لا يرى منه أطرف
فما أنا من قوم قصارى همومهم ... بنوهم وأهلهم وثوب وأرغف
__________
(1) تقع بلاد الريف في المغرب الأقصى. الإحاطة (ج 2ص 151) حاشية رقم 1.(2/87)
ولا لي بالإسراف فكر محدث ... سيغدو حبيبي أو سيشعر مطرف
ولا أنا ممّن لهوه جلّ شأنه ... بروض أنيق أو غزال مهفهف
ولا أنا ممّن أنسه غاية المنى ... بصوت رخيم أو نديم وقرقف
ولا أنا ممّن تزدهيه مصانع ... ويسبيه بستان ويلهيه مخرّف
ولا أنا ممن همّه جمعها فإن ... تراءت يثب بسعي لها وهو مرجف
على أنّ دهري لم تدع لي صروفه ... من المال إلّا مسحة أو مجلف
ولا أنا ممن هذه الدار همّه ... وقد غرّه منها جمال وزخرف
ولا أنا ممن للسّؤال قد انبرى ... ولا أنا ممن صان عنه التّعطف
ولا أنا ممن نجّح الله سعيهم ... فهمّتهم فيها مصلّى ومصحف
فلا في هوى أضحى إلى اللهو قائدا ... ولا في تقى أمسى إلى الله يزلف
أحارب دهري في نقيض طباعه ... وحربك من يقضي عليك تعجرف
وأنظره شزرا بأصلف ناظر ... فيعرض عنّي وهو أزهى وأصلف
وأضبطه ضبط المحدّث صحفه ... فيخرج في التّوقيع أنت المصحف
ويأخذ مني كلّ ما عزّ نيله ... ويبدو بجهلي منه في الأخذ محتف
أدور له في كل وجه لعلّني ... سأثبته وهو الذي ظلّ يحذف
ولما يئسنا منه تهنّا ضرورة ... فلم تبق لي فيها عليه تشوّف
تكلّفت قطع الأرض أطلب سلوة ... لنفسي فما أجدى بتلك التكلّف
وخاطرت بالنفس العزيزة مقدما ... إذا ما تخطّى النّصل قصد مرهف
وصرّفت نفسي في شؤون كثيرة ... لحظّي فلم يظفر بذاك التّصرّف
وخضت لأنواع المعارف أبحرا ... ففي الحين ما استجرتها وهي تترف
ولم أحل من تلك المعاني بطائل ... وإن كان أهلوها أطالوا وأسرفوا
وقد مرّ من عمري الألذّ وها أنا ... على ما مضى من عهده أتلهّف
وإني على ما قد بقي منه إن بقي ... لحرمة ما قد ضاع لي أتخوّف
أعدّ ليالي العمر والفرض صومها ... وحسبك من فرض المحال تعسّف
على أنها إن سلّمت جدليّة ... تعارض آمالا عليها ينيّف
تحدّثني الآمال وهي كدينها ... تبدّل في تحديثها وتحرّف
بأنّي في الدّنيا سأقضي مآربي ... وبعد يحقّ الزهد لي والتقشّف
وتلك أمان لا حقيقة عندها ... أفي قرني الضّدّين يبقى التكلّف؟(2/88)
وربّ أخلّاء شكوت إليهم ... ولكن لفهم الحال إذ ذاك لم يفوا (1)
فبعضهم يزري عليّ وبعضهم ... يغضّ وبعض يرثي ثم يصدف
وبعضهم يومي إليّ تعجّبا ... وبعض بما قد رأيته يتوقف
وبعضهم يلقي جوابه على ... مقتضى العقل الذي عنه يتوقّف
يسيء استماعا ثم يعدّ إجابة ... على غير ما تحذوه يحذو ويخصف
ولا هو يبدي لي عليّ تعقّلا ... ولا هو يرثي لي ولا هو يعنف
وما أمرنا إلّا سواء إنما ... عرفنا وكلّ منهم ليس يعرف
فلو قد فرغنا من علاج نفوسنا ... وحطّوا الدنيّة من عليل وأنصفوا (2)
أما لهم من علّة أرمت بهم ... ولم يعرفوا أغوارها وهي تتلف؟
وحضنا لهم في الكتب عن كنه أمرهم ... ومثلي عن تلك الحقائق يكشف
وصنّفت في الآفات كلّ غريبة ... فجاء كما يهوى الغريب المصنّف
وليس عجيبا من تركّب جهلهم ... فإن يحجبوا عن مثل ذاك وصرّفوا (3)
إذا جاءنا بالسّخف من نزو عقله ... إذا ما مثلناه أزهى وأسخف
فما جاءنا إلّا بأمر مناسب ... أينهض عن كفّ الجبان المثقّف؟
ولكن عجيب الأمر علمي وغفلتي ... فديتكم أيّ المحاسن أكشف
إلّا أنها الأقدار يظهر سرّها ... إذا ما وفى المقدور فالرأي يخلف
أيا ربّ إن اللّب طاش بما جرى ... به قلم الأقدار والقلب يرجف
وإنّا لندعوهم ونخشى وإنما ... على رسمك الشّرعي من لك يعكف
أقول وفي أثناء ما أنا قائل ... رأيت المنايا وهي لي تتخطّف
وإني مع السّاعات كيف تقلّبت ... لأسهمها إن فوّقت متهدّف
وما جرّ ذا التّسويف إلّا شيبتي ... تخيّل لي طول المدى فأسوّف
إذا جاء يوم قلت هو الذي يلي ... ووقتك في الدنيا جليس مخفّف
أقدّم رجلا عند تأخير أختها ... إذا لاح شمس فالنّفس تكسف
كأنّي لداني المراقد منهم ... ولم أودعهم والخضّ ريّان ينسف
وهبني أعيش هل إذا شاب مفرقي ... وولّى شبابي هل يباح التّشوّف؟
وكيف ويستدعي الطريق رياضة ... وتلك على عصر الشّباب توظّف
__________
(1) في الأصل: «يف».
(2) في الأصل: «وأنصف».
(3) في الأصل: «وصرف».(2/89)
متى يقبل التّقويم غير عطوفة ... وبي بعده حسّان (1) فالنّار تنسف؟
ولو لم يكن إلّا ظهورة سرّه ... إذا ما دنا التّدليس هان التنطّف
أمولى الأسارى أنت أولى بعذرهم ... وأنت على المملوك أحقّ وأعطف
قذفنا بلجّ البحر والقيد آخذ ... بأرجلنا والرّيح بالموج تعصف
وفي الكون من سرّ الوجود عجائب ... أطلّ عليها العارفون وأشرفوا (2)
وكعت عليهم نكثة فتأخّروا ... وددت بأن القوم بالكل أسعف
فليس لنا إلّا أن نحطّ رقابنا ... بأبواب الاستسلام والله يلطف
فهذا سبيل ليس للعبد غيرها ... وإلّا فماذا يستطيع المكلّف
وقال: وضمنها محاورة بينه وبين نفسه، وقيّدتها عنه زوال يوم الثلاثاء التاسع والعشرين لمحرم خمس وخمسين وسبعمائة، برابطة العقاب (3)، متعبد الشيخ ولي الله أبي إسحاق الإلبيري، رحمه الله، فمنها (4): [الكامل]
يأبى شجون حديثي الإفصاح ... إذ لا تقوم بشرحه الألواح
قالت صفية إذ مررت (5) بها ... أفلا تنزّل ساعة ترتاح؟
فأجبتها لولا الرقيب لكان لي (6) ... ما تبتغي بعد الغدوّ رواح
قالت: وهل في الحيّ حيّ غيرنا؟ ... فاسمح فديتك فالسماح رياح
فأجبتها: إنّ الرقيب هو الذي (7) ... بيديه منّا هذه الأرواح
وهو الشهيد على موارد عبده ... سيّان ما الإخفاء والإفصاح (8)
قالت وأين يكون جود (9) الله إذ ... يخشى (10) ومنه هذه الأفراح
فافرح بإذن (11) الله جلّ جلاله ... واشطح فنشوان الهوى شطّاح
__________
(1) في الأصل: «بعد حسّا» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «وأشرف».
(3) هي رابطة العقاب أو رباط العقاب، كانت تخصص للعبادة، وكانت على مقربة من مدينة غرناطة. الإحاطة (ج 2ص 155) حاشية رقم 4من تعليق الأستاذ محمد عبد الله عنان.
(4) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 129128).
(5) في الكتيبة: «صفية عند ما مرّت بها إبلي أتنزل».
(6) في الكتيبة: «في».
(7) في الكتيبة: «الرقيب هوالك».
(8) في الكتيبة: «والإيضاح».
(9) في الأصل: «وجود» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.
(10) في الأصل: «تخشى» والتصويب من الكتيبة.
(11) في الكتيبة: «فافرح على اسم الله».(2/90)
وانهج (1) على ذمم الرجال ولا تخف ... فالحكم (2) رحب والنّوال مباح
وانزل على حكم السّرور ولا تبل ... فالوقت صاف ما عليك جناح
واخلع عذارك في الخلاعة يا أخي ... باسم الذي دارت به الأقداح
وانظر إلى هذا النهار فسنّه ... ضحكت ونور جبينه وضّاح
أنواره ضحكت (3) وأترع كأسه ... فقد استوى ريحانه والرّاح
وانظر إلى الدنيا بنظرة رحمة ... فجفاؤها بوفائها ينزاح
فأجبتها لو كنت تعلم (4) ما الذي ... يبدو لتاركها وما يلتاح
من كلّ معنى غامض من أجله ... قد ساح قوم في الجبال وناحوا (5)
حتى لقد سكروا من الأمر الذي ... هاموا به عند العيان فباحوا (6)
لعذرتني وعلمت أني طالب ... ما الزهد في الدنيا له مفتاح
فاترك صفيّك قارعا باب الرضى ... والله جلّ جلاله الفتّاح
يا حيّ (7)، حيّ على الفلاح وخلّني ... فجماعتي حثّوا المطيّ وراحوا (8)
وقيدت من خطه في جملة ما كتب إليّ ما نصه:
ومما نظمته بغرناطة، وبعضه ببرجة، وهو مما يعجبني، وأظنه كتبه لك، وهو غريب المنزع، وإنه لكما، قال (9): [الكامل]
خذها على رغم الفقيه سلافة ... تجلى بها الأقمار في شمس الضّحى
أبدى أطباء القلوب لأهلها ... منها شرابا للنفس مبرّحا (10)
وإذا المرائي (11) قال في نشوانها ... قل أنت بالإخلاص فيمن قد صحا
ياقوتة (12) دارت على أربابها ... فاهتزّت الأقدام منها واللّحا
مزجت فغار الشيخ من تركيبها ... فلذاك جرّدها وصاح وسرّحا (13)
فبدت (14) فغار الشيخ من إظهارها ... فاشتدّ يبتدر الحجاب ملوّحا
__________
(1) في الكتيبة: «وارهج».
(2) في الكتيبة: «فالحلم».
(3) في الكتيبة: «نفحت».
(4) في الكتيبة: «كنت عالمة الذي».
(5) في الأصل: «وتاح» والتصويب من الكتيبة.
(6) في الأصل: «وساح» والتصويب من الكتيبة.
(7) في الكتيبة: «يا أخت».
(8) في الأصل: «وراح» والتصويب من الكتيبة.
(9) القصيدة في الكتيبة الكامنة (ص 130129).
(10) في الكتيبة: «مفرّحا».
(11) في الأصل: «وإذا امرؤ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(12) في الكتيبة: «يا قهوة».
(13) في الكتيبة: «وصرّحا».
(14) في الكتيبة: «وبدت».(2/91)
لا تعترض أبدا على مسترفد (1) ... قد غار من أسرارها أن يفضحا (2)
وكذاك لا تعتب على مستهتر ... لم يدر ما الإيضاح لمّا أوضحا
سكران يعثر في ذيول لسانه ... كفرا ويحسب أنه قد سبّحا
كتم الهوى حريّة (3) بعض وبع ... ض ضاق ذرعا بالغرام فبرّحا
لا تخشينّ (4) على العدالة هاتفا ... ثغر (5) ارتياح العاشقين فجرّحا (6)
الحبّ خمر العارفين قد ضفت (7) ... حتما على من ذاقها أن يشطحا
فاشطح على هذا الوجود وأهله ... عجبا فليس براجح من رجّحا
كبّر عليهم إنهم موتى على ... غير الشّهادة ما أغرّ وأقبحا
واهزأ بهم فمتى يقل نصحاؤهم ... أهج (8) فقل حتى ألاقي مفلحا
وإذا أريبهم (9) استخفّ فقل له ... بالله يا يحيى بن يحيى دع جحا
أبني سليم قد نجا مجنونكم ... مجنون ليلى العارفين (10) به قد محا
هل يستوي من لم يبح بحبيبه ... مع من بذكر حبيبه قد أفصحا (11)
فافرح وطب وابهج (12) وقل ما شئته (13) ... ما أملح الفقراء يا ما أملحا
ومن مقطوعاته التي هي آيات العجائب، وطرر حلل البدائع في شتى الأغراض والمقاصد، قوله يعتذر لبعض الطلبة، وقد استدبره ببعض حلق العلم بسبتة (14): [السريع]
إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحقّ برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها (15)
__________
(1) في الكتيبة: «مستهتر».
(2) في الكتيبة: «تفضحا».
(3) في الأصل: «كم الهوى حرب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة.
(4) في الكتيبة: «لا تحسبنّ».
(5) في الكتيبة: «نقد».
(6) في الكتيبة: «مبرّحا».
(7) في الكتيبة: «خمر العاشقين وقد قضت».
(8) في الكتيبة: «أفلح».
(9) في الكتيبة: «وإذا رزينهم استخفّك».
(10) في الكتيبة: «العامرية».
(11) في الكتيبة: «صرحا».
(12) في الكتيبة: «وارهج».
(13) في الأصل: «شئت» والتصويب من الكتيبة.
(14) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 131) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 206) ونفح الطيب (ج 8ص 26).
(15) إنسان العين: بؤبؤها. لسان العرب (أنس).(2/92)
ومنها قوله في غرض التورية، وهو بديع في معناه (1): [الطويل]
يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي (2) له لا يفنّد (3)
يقولون (4) أمسك عنه قد ذهب الصّبا ... وكيف يرى (5) الإمساك والخيط أسود؟ (6)
ومنها قوله في المجبّنات، وهو من الغريب البديع (7): [الطويل]
ومصفرّة الخدّين مطويّة الحشا ... على (8) الجبن والمصفرّ يؤذن بالخوف
لها هيئة (9) كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف
ومنها قوله في النّصح، ولها حكاية تقتضي ذلك: [الكامل]
لا تبذلنّ نصيحة إلّا لمن ... تلقى لبذل النّصح منه قبولا
فالنصح إن وجد القبول فضيلة ... ويكون إن عدم القبول فضولا
ومنها في الحكم (10): [الخفيف]
ما رأيت الهموم تدخل إلّا ... من دروب العيون والآذان
غضّ طرفا وسدّ سمعا ومهما (11) ... تلق همّا فلا تثق بضمان
ومنها قوله، وهو من المعاني المبتكرات (12): [الكامل]
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقا (13)
__________
(1) البيتان في الكتيبة (ص 131) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 206) ونفح الطيب (ج 8ص 23).
(2) في الكتيبة وتاريخ قضاة الأندلس: «حبّي».
(3) يفنّد: يتّهم بالكذب. لسان العرب (فند).
(4) في الأصل: «يقولون لي أمسك». وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصادر.
(5) في المصادر: «أرى».
(6) في البيت تورية فالإمساك يطلق على الصوم، وأراد هنا الكفّ عن الحب. والخيط الأسود يطلق على الليل، وأراد العذار، وفي التنزيل الكريم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. سورة البقرة 2، الآية 187.
(7) البيتان في الكتيبة (ص 131)، وتاريخ قضاة الأندلس (ص 205)، ونفح الطيب (ج 8ص 23).
(8) في الكتيبة: «عن».
(9) في الكتيبة وتاريخ قضاة الأندلس ونفح الطيب: «بهجة».
(10) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 132).
(11) في الكتيبة: «سمعا وإن أحسست همّا».
(12) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 133132) ونفح الطيب (ج 8ص 27).
(13) أصل القول: «رقأ»، وقد أسقط الهمزة للضرورة الشعرية يقال: رفأ الدمع إذا جفّ. لسان العرب (رفأ).(2/93)
ولذاك قد (1) صبغت (2) بلون أزرق ... أو ما ترى ثوب المآتم أزرقا؟
ومنها قوله في المعاني الغربية. قال: ومما نظمته في عام أربعة وأربعين في التفكر في المعاني، مغلق العينين: [السريع]
أبحث فيما أنا حصّلته ... عند انغماض العين في جفنها
أحسبني كالشاة مجترّة ... تمضغ ما يخرج من بطنها
وقال: ومما نظمته بين أندرش وبرجة (3) عام أربعة وأربعين، وأنا راكب مسافر، وهو مما يعجبني، إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني. قلت ويحقّ أن يعجبه (4):
[الطويل]
تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان (5) فأعطيها الأمان (6) فتقبل
عجبت لخصم لجّ في طلباته ... يصالح عنها (7) بالمحال فيفصل
[قال: ومما نظمته في السنّة المذكورة من ذمّ النساء] (8): [الخفيف]
ما رأيت النّساء يصلحن إلّا ... للذي يصلح الكنيف لأجله (9)
فعلى هذه الشريطة صالح (10) ... هنّ لا تعد بامرئ عن محلّه
قال: ومما نظمته في السنّة المذكورة (11): [الخفيف]
قد هجرت (12) النساء دهرا فلم أب ... لغ أذاني (13) صفاتهنّ الذميمه
ما عسى أن يقال في هجو من قد ... خصّه المصطفى بأقبح شيمه
أو يبقى لناقص (14) العقل والدّي ... ن إذا عدّت المثالب قيمه؟
وقال: وما نظمته في تاريخ لا أذكره الآن، هذان البيتان، ولم أر معناهما لمن مضى. ولو رحل رجل إلى خراسان، ولم يأت إلّا بهما، كان ممن لم يخفق
__________
(1) في الكتيبة: «ما».
(2) في النفح: «ظهرت».
(3) أندرش وبرجة كانتا في عهد ابن الخطيب تابعتين لمقاطعة ألمرية.
(4) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 133) ونفح الطيب (ج 8ص 26).
(5) ليس لي به يدان: ليس لي عليه قدرة.
(6) في الكتيبة: «وأعطيها الأماني».
(7) في الكتيبة: «عنه».
(8) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 133).
(9) في الأصل: «من أجله» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب في الكتيبة الكامنة.
(10) في الكتيبة: «فأصحبهنّ».
(11) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 133).
(12) في الكتيبة: «قد هجوت».
(13) في الأصل: «آذاني» وهكذا ينكسر الوزن. وفي الكتيبة الكامنة: «أداني» بدال غير معجمة.
(14) في الأصل: «لنا قصر» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الكتيبة الكامنة.(2/94)
مسعاه، ولا أجدب مرعاه، ينفتح بهما للقلب باب من الراحة فسيح، إذا أجهده ما يكابد من المضاضة، ونقض العهود، واختلاف الوعود. وهذه المحنة من شرّ ما ابتلي به بنو آدم، شنشنة نعرفها من أمرهم. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي (1):
[الطويل]
رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء (2) على العهد
فلو (3) قد وفوا كنّا (4) أسارى حقوقهم ... نراوح ما (5) بين النّسيئة والنقد
وقال يداعبني، وعلى سبيل الكناية يخاطبني: ولقد لقيت رجلا ببلاد الهند يعرف بأبي البركات ابن الحاج، وكان برد في بستان كان له، فقلت أهجوه عام أربعة وأربعين وسبعمائة: [الكامل]
قالوا أبو البركات جمّ (6) ماؤه ... فغدا أبو البركات لا البركات (7)
قلنا لأن يكنى بموجوداته ... أولى من أن يكنى بمعدومات
ومما نظمته عام خمسة وأربعين وسبعمائة (8): [السريع]
قد كنت معذورا بعلمي وما ... أبثّ من وعظي بين البشر (9)
من حيث قد أمّلت إصلاحهم ... بالوعظ والعلم فخان النّطر
فلم أجد أوعظ للناس من ... أصوات وعّاظ جلود البقر
ومما نظمته بمرسى تلهى، من بلد هنين (10)، عام ثلاثة وخمسين، وقد أصابني هوس في البحر وخاطبت به بعض الأصحاب: [الكامل]
رأسي به هوس جديد لا الذي ... تدريه من هوس قديم فيه
قد حلّ ما أبديه من هذا كما ... قد حلّ من ذاك الذي أخفيه
__________
(1) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص 205) ونفح الطيب (ج 8ص 26).
(2) في الأصل: «البقا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين السابقين.
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «ولو قرّبوا كنّا».
(4) في النفح: «كانوا».
(5) كلمة «ما» ساقطة في الأصل، وهكذا ينكسر الوزن، وقد أضفناها من المصدرين السابقين.
(6) جمّ ماؤه: كثر واجتمع. محيط المحيط (جمم).
(7) في الأصل: «لا أبا البركات» وهكذا ينكسر الوزن.
(8) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 134133).
(9) في الكتيبة: «مغرورا بوعظي وما علمي بين».
(10) هونين: بلد في جبال عاملة في جنوب لبنان. معجم البلدان (ج 5ص 420).(2/95)
ومن الملح قوله: قال: وبتّ بحمام الخندق من داخل ألمرية ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفردا، فطفىء المصباح، وبقيت مفكرا، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيّل الجنّ في الأرحاء والحمامات، وعدم إقدام كافة الناس إلّا ما شذّ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة في نفسي عند ذلك، أعراض وأوهام، فقلت مرتجلا، رافعا بذلك صوتي: [الكامل]
زعم الذين عقولهم قدرها ... إن عرّضت للبيع غير ثمين
أن الرّحا معمورة بالجن وال ... حمّام عندهم كذا بيقين
إن كان ما قالوه حقا فاحضروا ... للحرب هذا اليوم من صفّين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة ... بأني مصارع قيس المجنون
قال: ودخلت رياضا يوما، فوجدت كساء منشورا للشمس لم أعرفه من حوائجي، ولا من حوائج حارسة البستان، فسألتها فقالت: هو لجارتي، فقلت:
[الكامل]
من منصفي من جارتي جارت على ... مالي كأني كنت من أعدائها
عمدت إلى الشمس التي انتشرت على ... أرضي وأمّت فيه بئس كسائها
لولا غيوم يوم تيبس الكسا ... سرّت لحجب السّحب جلّ ضيائها
لقضيت منهم الخسار لأنني ... أصبحت مزورا على بخلائها
قلت: وصرت إلى مغنى بحمّة بجّانة (1)، وسار معي كلب كان يحرس رياضي اسمه قطمير، وهو، فيما يذكر، كلب أهل الكهف، في بعض الأقوال، فتبعني من ألمريّة إلى الحمّة، ثم من الحمّة إلى ألمرية، فقلت: [المتقارب]
رحلت وقطمير كلبي رفيقي ... يونس قلبي بطول الطريق
فلمّا أنخت أناخ حذائي ... يلاحظني لحظ خلّ شفيق
ويرعى أذمّة رفقي كما ... يتغنّى الصديق الصدوق
على حين قومي بني آدم ... بلؤمهم لم يوفوا حقوقي
ولا فرق بين الأباعد منهم ... وبين أخ مستحب شفيق
أو ابن متى تلقاه تلقه ... هويّ اشتياق بقلب خفوق
__________
(1) بجانة: بالإسبانية، وهي مدينة بالأندلس، وحمّة بجانة عجيبة الشأن، تقع في جبل شامخ يبعد عن بجانة ثلاثة أميال. الروض المعطار (ص 79).(2/96)
فما منهم من وليّ حميم ... ولا ذي إخاء صحيح حقيق
وناهيك ممن يفضّل كلبا ... عليهم فيا ويلهم من رفيق
ألا من يرقّ لشيخ غريب ... أبي البركات الفتى البلفيق
وقال: وممّا نظمته بتاريخ لا أذكره هذين البيتين (1): [الطويل]
وإنّي لخير (2) من زماني وأهله ... على أنني للشّرّ أوّل سائق (3)
لحى الله دهرا قد تقدّمت أهله ... فتلك لعمر الله إحدى البوائق
ومن النزعات الشاذة الأغراض: [البسيط]
لا بارك الله في الزّهاد إنهم ... لم يتركوا عرض الدنيا لفضلهم
بل أثقلتهم تكاليف الحياة فلم ... يصايروها فملّوا ثقل حملهم
وعظّم الناس منهم تركها فغدوا ... من غبطة التّرك في حرص لأجلهم
نعم أسلّم أن القوم إذ زهدوا ... زادا وأعلى الناس طرّا فضل تركهم
من حيث قد أحرزوا التّرجيح دونهم ... لا شيء أبين من ترجيح فضلهم
فالمال والجود والراحات غاية ما ... يحكي لنا الزهد في ذاعن أجلّهم
والزاهدون براحات القلوب مع ال ... أبدان سرّوا وعزّوا بعد ذلّهم
فكل ما فرّقوا قد حصّلوا غرضا ... منه وزادوا ثناء الناس كلّهم
قال: ومما نظمته عام أربعين في ذم الخمر من جهة الدنيا، لا من جهة الدين، إذ ليس بغريب: [الطويل]
لقد ذمّ بعض الخمر قوم لأنها ... تكرّ على دين الفتى بفساد
وقد سلّموا قول الذي قال إنها ... تحلّ من الدنيا بأعظم ناد
وتذهب بالمال العظيم فلن ترى ... لمدمنها من طارف وتلاد
فيمسي كريما سيّدا ثم يغتدي ... سفيها حليف الغيّ بعد رشاد
وقالوا: تسلّى وهو عارية لها ... وإلّا فلم يأتوا لذاك بشاد
وصلّ (4) ونور وحسناء طفلة ... ومرأى به للطّريف سير جواد
__________
(1) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص 206).
(2) في الأصل: «وأين الخير» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس.
(3) في الأصل: «سابق»: والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس.
(4) أصل القول: «وصلة» وهكذا ينكسر الوزن.(2/97)
وهلّا (1) يداوى من مرارتها التي ... أواخرها مقرونة بمهاد؟
ولو أشرب الإنسان مهلا بهذه ... لأصبح مسرورا بأطيب زاد
ومن حسن حال الشّاربين يقيّؤ ... نها بالرغم من برق وساد (2)
ومن حسن ذا المحروم أنّ مدامه ... إذا غلبت تكسوه ثوب رقاد
فيختلف النّدمان طرّا لروحه ... ويحدوهم نحو المروءة حادي
ومن حسنه بين الورى ضرب ظهره ... فيمسي بلا حرب رهين جلاد
مجانين في الأوهام قد ضلّ سعيهم ... يخففون بيعا بحسن غواد
ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجوه المطالب في جنسه، ممّا نظمته يوم عرفة عام خمسين (3) وأنا منزو في غار ببعض جبال ألمرية (4):
[الخفيف]
زعموا أنّ في الجبال رجالا (5) ... صالحينا (6) قالوا من الأبدال
وادّعوا أنّ كلّ من ساح فيها ... فسيلقاهم على كلّ حال
فاخترقنا تلك الجبال مرارا ... بنعال طورا ودون نعال
ما رأينا فيها سويّ (7) الأفاعي ... وشبا (8) عقرب كمثل النبال
وسباعا يجرون (9) بالليل عدوا ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي (10)
ولو أنّا (11) لدى العدوة الأخ ... رى رأينا نواجذ الرّئبال (12)
وإذا أظلم الدّجى جاء إبلي ... س إلينا يزور طيف الخيال (13)
__________
(1) أصل القول: «وهل» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) هكذا ورد عجز هذا البيت، وهو منكسر الوزن.
(3) يعني عام خمسين وسبعمائة كما في نفح الطيب (ج 8ص 18).
(4) القصيدة في نفح الطيب (ج 8ص 18).
(5) في الأصل: «قوما» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل والنفح: «صالحين» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) في النفح: «خلاف».
(8) شبا العقرب: إبرتها التي تلدغ بها، واحدتها شباة. محيط المحيط (شبا).
(9) في الأصل: «يخترون» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(10) في الأصل: «الفيال» والتصويب من النفح.
(11) في الأصل: «ولو كنّا» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(12) الرئبال: الأسد، ونواجذه: أنيابه، واحدها ناجد. محيط المحيط (رأبل) و (نجذ).
(13) في النفح: «خيال».(2/98)
هو كان الأنيس فيها ولولا ... هـ أصيبت عقولنا بالخبال (1)
خلّ عنك المحال يا من تعنّى ... ليس يلقى (2) الرّجال غير الرجال
قال: ومن المنازع الغريبة ذمّ الأصحاب ومدح الأعداء، فمن ذلك قولي:
[المتقارب]
جزى الله بالخير أعداءنا ... فموردهم أنسى المصدر
هم حملونا على العرف كرها ... وهم صرفونا عن المنكر
وهم أقعدونا بمجلس حكم ... وهم بوّؤونا ذرى المنبر
وهم صيّرونا أئمة علم ... ودين وحسبك من مفخر
عدوّي بأول فدي مأثم ... وإن جئت بالإثم لم يعذر
وأنت ترى تمحيص من يعد ... ل بين المسيء وبين البري (3)
ولا زوّد الله أصحابنا ... بزاد تقيّ ولا خيّر
هم جرّؤونا على كل إثم ... وما كنت لولاهم بالمخبر
وعدّوا من اكبار آثامنا ... فكانوا أضرّ من الفاتر
أعارني القوم ثوب التّقى ... وإني مما أعاروني بري
إذا خدعوني ولم ينصحوا ... وإني بالنّصح منهم حري
فمن كان يكذب حال الرّضى ... يصدق في غضب يفتري
بلى سوف تلقى لدى الحالتين ... يحكم النّفس هوى الفري
فياربّ أبق علينا عقولنا ... نبيع بها وبها نشتري
قال: وما رأيت هذا المعنى قط لأحد، ثم رأيت بعد ذلك لبعضهم ما معناه:
[الطويل]
عداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
فوقع حافري على ساق هذا. قال: ومما نظمته، متخيّلا أني سابق معناه:
[الوافر]
خلسنا ليلة من كفّ دهر ... ضنين بالليالي الطيّبات
__________
(1) الخبال: الجنون. لسان العرب (خبل).
(2) في الأصل: «تلقى» والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «البر». والبري: أصلها: البريء، وقد حذفت الهمزة للضرورة الشعرية.(2/99)
سلكنا للهوى والعقل فيها ... مسالك قد جلين على الشّتات
قضينا بعض حقّ النفس فيها ... وحقّ الله مرعيّ الثّبات
فلم نر قبله في الدهر وقتا ... بدت حسناته في السيّئات
ثم رأيت بعد ذلك على هذا: [مخلع البسيط]
لا وليال على المصلّى ... تسرق في نسكها الذنوب
فوقعت ساقي على حافر هذا المحروم، إلا أني جرّدت ذلك في المعنى، وأوضحته، وجلوته على كرسي التّقعيد والتّنجيد، فلولا التاريخ لعاد سارق البرق.
نثره: وأمّا نثره، فنمط مرتفع عن معتاد عصره، استنفارا وبلاغة، واسترسالا وحلاوة، قلّما يعرّج على السّجع، أو يأمر على التّكليف، وهو كثير بحيث لا يتعيّن عيونه، ولكن نلمع منه نبذة، ونجلب منه يسيرا. كتب إليّ عند إيابي من الرّسالة إلى ملك المغرب، متمثّلا ببيتين لمن قبله، صدّر بهما (1): [السريع]
أيتها (2) النفس إليه اذهبي ... فحبّه المشهور من مذهبي
أيأسني (3) التّوبة من حبّه ... طلوعه شمسا من المغرب
بل محلّك أمثل من التمثيل بالشمس، فلو كان طلوعك على هذه الأقطار شمسا، لأصبح جلّها لك عبّاد. ولو كان نزولك مطرا لتكيّفت الصّخور ترابا دمثا.
ولولا معرفتنا معشر إخوان الصّفا، بإقرار أنفسنا، لحكمنا بأن قلوبنا تمائم لأصدقائنا، ولكن سبقت عيون السعادة بالكلّات، فلو تصادف بالرضى محلّا لأنّ تحصيل الحاصل محال، لا زلت محروسا، بعين الذي لا تأخذه سنة ولا نوم مكنوفة ببركة الذي يرومه رائم، والسلام.
وكتب إليّ عند ما تقلّدت من رئاسة الإنشاء ما تقلدت: تخصكم يا محلّ الابن الأرضى ولادة، والأخ الصادق إخلاصا وودّا، خصّكم الله من السعادة بأعلاها مرقى، وأفضلها عقبى، وأحمدها غنى، وأكرمها مسعى، تحيّة اللهفان إلى أيام لقائك، المسلى عنها بتأميل العود إليها، المزجى أوقاته بترداد الفكر فيها، محمد بن الحاج، أبقاه الله، عن شوق، والذي لا إله إلّا هو، لم أجد قط مثله إلى وليّ حميم. والله على ما نقول وكيل، معرّفا أنني بعلاقمه، وتصليني عن كسره مجامعه، لما اعتنى به
__________
(1) البيتان لابن خروف الشاعر، وقيل لغيره، وهما في نفح الطيب (ج 8ص 26).
(2) في الأصل: «يا أيتها» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «إيأسي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/100)
من توقّلكم بالرّتبة التي ما زال أحبّاؤكم بها ممطولي برّه، على أنك لم تزد بذلك رتبة على ما كنت باعتبار الأهليّة، والمكانة العليّة، إلّا عند الأطفال والأغفال، والمحلّقين من النساء والرجال، لكن أفزعتنا هذه المخاطبة المحظيّة في قالب الجمهور، ولم نسر فيها، على الأصح، لكن على الجمهور، ولو كانت مصارف الوجود بيدي، لوافتك من الوجود منازل أسمائه منازل، وأوطأتك أفلاكه مراكب، وأوردتك كوثره مشربا، وأحللتك أرفعه معقلا، وأقبستك بدره مصباحا، وأهدتك أسراره تحفا. وقد تبلغ المقاصد مبالغ لا تنتهي أقاصيها الأعمال، فنحن وما نضمره لتلك الجملة الجليلة الفاضلة، مما الله رقيب عليه، ومحيط بدقائقه. ولو كانت لهذا العبد الغافل، المأسور في قيد نفسه، المحزون على انتهاب الأيام، رأس عمره في غير شيء، دعوة يساعدها الوجد حتى يغلب على ظنّه أن العليم بذات الصدور، ولّاها من قبوله بارقة لخصّك بها، والله شهيد على ما تكنّه الأفئدة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والفضل جمّ، والمحاسن عديدة، فلنقصر اضطرارا، ولنكفّ امتثالا للرسم، وانقيادا، أمتع الله به.
محمد بن عبد الله بن منظور القيسي (1)
من أهل مالقة، يكنى أبا بكر.
أوّليّته: أصله (2) من إشبيلية، من البيت المشهور بالتّعيين والتقدّم، والأصالة، تشهد بذلك جملة أوضاع، منها «الرّوض المحظور (3) في أوصاف بني منظور»، وغيره.
حاله: من كتاب «عائد الصلة». كان (4) جمّ التواضع والتخلّق، كثير البرّ، مفرط الهشّة، مبذول (5) البشر، عظيم المشاركة، سريع اللسان إلى الثّناء، مسترسلا في باب الإطراء، دربا على الحكم، كثير الحنكة، قديم العالة، بصيرا بالشّروط، ولّي القضاء بجهات كثيرة، وتقدم بمالقة، بلده فشكرت (6) سيرته، وحمدت مدارته. وكان سريع
__________
(1) ترجمة ابن منظور في الكتيبة الكامنة (ص 119) والدرر الكامنة (ج 4ص 37) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 192). وجاء في المصدر الأخير أنه «أبو بكر محمد بن عبيد الله بن محمد بن يوسف بن يحيى بن عبيد الله بن منظور».
(2) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 192).
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «المنظور».
(4) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص 192).
(5) في تاريخ قضاة الأندلس: «مبدول» بالدال المهملة.
(6) في المصدر نفسه: «فحمدت سيرته، وشكرت طريقته».(2/101)
العبرة، كثير الخشية، حسن الاعتقاد، معروف الإيثار والصّدقة، شائع الإقراء لمن ألمّ بصقعه، واجتاز على محلّ ولايته، جاريا على سنن سلفه، ينظم وينثر، فلا يقصر.
مشيخته: قرأ (1) على الأستاذ أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي، ولازمه وانتفع به، وسمع على غيره من الأعلام، كالخطيب الولي أبي عبد الله الطّنجالي، والعدل الراوية المسنّ أبي عبد الله بن الأديب، والمسن أبي الحكم مالك بن المرحّل، وعلى الشيخ الصوفي أبي عبد الله محمد بن أحمد الأقشري الفاسي، ولبس عنه خرقة التّصوف، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، وعن الشيخ القاضي أبي المجد بن الأحوص، وعلى ابن مجاهد الرّندي، المعروف بالسّمّار، والخطيب أبي العباس بن خميس بالجزيرة الخضراء، وعلى الخطيب الزاهد أبي عبد الله السلّال. وكتب إليه بالإجازة، أبو عبد الله بن الزبير، والفقيه أبو الحسن بن عقيل الرّندي، والوزير المعمّر أبو عمر (2) الطّنجي، وأبو الحكم بن منظور، ابن عم أبيه، والأستاذ أبو عبد الله بن الكماد. نقلت ذلك من خطه.
تواليفه: أخبرني (3) أنه ألّف «نفحات المسوك (4)، وعيون التّبر المسبوك في أشعار الخلفاء والوزراء والملوك». وكتاب «السّحب (5) الواكفة والظلال الوارفة، في الردّ على ما تضمّنه المضنون (6) به على غير أهله من اعتقاد الفلاسفة». وكتاب الصّيّب الهتّان، الواكف بغايات الإحسان، والمشتمل على أدعية مستخرجة من الأحاديث الصحيحة النبوية وسور القرآن». وكتاب «البرهان والدليل في خواص سور التّنزيل، وما في قراءتها في النوم من بديع التأويل (7)». وكتاب يشتمل على أربعين حديثا في الرقائق، موصولة الأسانيد. وكتاب «تحفة الأبرار في مسألة النبوة والرسالة، وما اشتملت عليه من الأسرار». وكتاب «الفعل المبرور، والسّعي المشكور، فيما وصل إليه، أو تحصل لديه من نوازل القاضي أبي عمر بن منظور».
شعره: ومن شعره قوله (8): [البسيط]
ما للعطاس ولا للفأل من أثر ... فثق فديتك (9) بالرحمن واصطبر
__________
(1) النص أيضا في تاريخ قضاة الأندلس (ص 192)، ولكن باختصار.
(2) في المصدر نفسه: «أبو عمرو».
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 192).
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «النسوك».
(5) في المصدر نفسه: «السجم».
(6) في المصدر نفسه: «المظنون به من اعتقادات الفلاسفة».
(7) وقوله: «وما في قراءتها التأويل» ساقط في تاريخ قضاة الأندلس.
(8) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص 119) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 192).
(9) في تاريخ قضاة الأندلس: «بدينك».(2/102)
وسلّم الأمر فالأحكام ماضية ... تجري على السّنن (1) المربوط بالقدر
محمد بن علي بن الخضر بن هارون الغساني
من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عسكر (2).
حاله: من كتاب «الذّيل والتكملة» (3): كان مقرئا (4) مجوّدا، نحويا (5)، متوقّد الذهن، متفنّنا في جملة معارف، ذا حظّ صالح من رواية الحديث، تاريخيا، حافظا، فهيما (6) مشاورا، دؤوبا (7) في الفتوى، متينا في (8) الدّين، تامّ المروءة، سنيّا فاضلا، معظّما عند الخاصة والعامة، حسن الخلق، جميل العشرة، رحيب (9) الصّدر، مسارعا إلى قضاء الحوايج (10)، شديد الإجمال (11)، محسنا إلى من أساء إليه، نفّاعا بجاهه، سمحا بذات يده، متقدّما في عقد الوثائق، بصيرا بمعانيها، سريع البديهة (12) في النظم والنثر، مع البلاغة والإحسان في الفنّين.
ولّي قضاء مالقة نائبا عن القاضي (13) أبي عبد الله بن الحسن مدة، ثم ولي (14) مستبدّا بتقديم الأمير أبي عبد الله بن نصر (15)، يوم السبت لليلتين بقيتا من رمضان عام (16) خمسة وثلاثين (17). وأشفق (18) من ذلك وامتنع منه وخاطبه مستعفيا، وذكر أنه لا يصلح للقيام بما قلّده من تلك الخطّة تورّعا منه، فلم يسعفه.
__________
(1) في الأصل: «السّنّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(2) ترجمة ابن عسكر في التكملة (ج 2ص 139) والذيل والتكملة (السفر السادس ص 449) وبغية الوعاة (ص 76) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 158) واختصار القدح المعلى (ص 130) والمغرب (ج 1ص 431) ونفح الطيب (ج 3ص 111) و (ج 4ص 478) و (ج 6ص 84).
(3) الذيل والتكملة (السفر السادس ص 450).
(4) في الأصل: «مغربا» والتصويب من الذيل والتكملة.
(5) في الذيل: «نحويا ماهرا».
(6) في الذيل: «فقيها».
(7) في الذيل: «دربا بالفتوى».
(8) في الذيل: «متين الدين».
(9) في الذيل: «رحب».
(10) في الذيل: «حوائج الناس».
(11) في الذيل: «الاحتمال».
(12) في الذيل: «سريع القلم والبديهة في إغشاء نظم الكلام ونثره».
(13) كلمة «القاضي» ساقطة في الذيل.
(14) في الذيل: «وليه».
(15) هو الغالب بالله أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، أول سلاطين بني نصر بغرناطة، وقد حكم من سنة 635هـ إلى سنة 671هـ. اللمحة البدرية (ص 42).
(16) كلمة «عام» ساقطة في الذيل.
(17) في الأصل: «خمس وثلاثين» وهو خطأ نحوي. وفي الذيل: «خمس وثلاثين وستمائة».
(18) في الذيل: «فأشفق».(2/103)
فتقلّدها، وسار فيها أحسن سيرة، وأظهر الحقوق التي كان الباطل قد غمرها، ونفّذ الأحكام.
وكان ماضي العزيمة، مقداما، مهيبا، جزلا في قضائه، لا تأخذه في الله لومة لائم، واستمرّ على ذلك بقية عمره.
مشيخته: روى (1) عن أبي إسحاق الزّوالي، وأبي بكر بن (2) عتيق بن منزول (3)، وأبي جعفر الجيان (4)، وأبي حسن الشقوري، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي الخطّاب بن واجب، وأبي زكريا الأصبهاني مقيم غرناطة.
من روى عنه: روى (5) عنه أبو بكر بن خميس ابن أخته، وأبو العون (6)، وأبو عبد الله بن بكر الإلبيري (7). وحدّث عنه بالإجازة، أبو عبد الله الأبّار (8)، وأبو القاسم بن عمران، وكتب بالإجازة للعراقيين من (9) أهل بغداد الذين استدعوها من أهل الأندلس، حسبما تقدم (10) في رسم أبي بكر بن هشام، وضمنها نظما ونثرا اعترف له بالإجادة فيهما.
تصانيفه: صنّف (11) كتبا كثيرة، أجاد فيها وأفاد، منها «المشرع الرّوي في الزيادة على المروي (12)». ومنها «أربعون حديثا» التزم فيها موافقة اسم شيخه، اسم الصابي (13)، وما أراه سبق إلى ذلك، وهو شاهد بكثرة شيوخه، وسعة روايته. ومنها «نزهة الناظر في مناقب عمّار بن ياسر». ومنها «الخبر (14) المختصر، في السّلوى (15)
عن ذهاب البصر»، ألّفه لأبي محمد بن أبي الأحوص (16) الضرير الواعظ. ومنها
__________
(1) النص في الذيل: (السفر السادس ص 449).
(2) كلمة «بن» غير واردة في الذيل.
(3) في الذيل: «قنترال».
(4) في الذيل: «الجيار».
(5) ما يزال النقل عن الذيل والتكملة (السفر السادس ص 449).
(6) في الذيل: «وابن أبي العيون».
(7) في الذيل: «وأبو عبد الله بن أبي بكر البري».
(8) في الذيل: «ابن الأبار».
(9) كلمة «من» غير واردة في الذيل.
(10) في الذيل: «تقدم ذكره».
(11) ما يزال النقل مستمرا عن الذيل (ج 6ص 450).
(12) في الذيل: «على غريبي الهروي».
(13) في الذيل: «الصحابي».
(14) في الذيل: «الجزء».
(15) في الذيل والتكملة وتاريخ قضاة الأندلس: «السّلوّ».
(16) في الذيل: «خرص».(2/104)
«رسالة في ادّخار الصبر، وافتخار القصر والفقر». ومنها «الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمجالس (1) الأعلام من أهل مالقة الكرام». وله اسم آخر، وهو «مطلع الأنوار ونزهة الأبصار (2)، فيما احتوت عليه مالقة من الرؤساء والأعلام والأخيار، وتقيّد من المناقب والآثار». واخترمته المنيّة عن إتمامه فتولّى إتمامه ابن أخته أبو بكر محمد بن خميس المذكور، وقد نقلت منه في هذا الكتاب.
شعره: ومن شعره، وقد نعيت إليه نفسه قبل أن تغرب من سماء معارفه شمسه (3): [الطويل]
ولما انقضى (4) إحدى وخمسون حجّة ... كأنّي منها بعد كرب (5) أحلم
ترقّيت أعلاها لأنظر فوقها ... مدى (6) الحتف منّي علّني (7) منه (8) أسلم
إذا هو قد أدنت إليه كأنما ... ترقّيت فيه نجوة وهو سلّم (9)
وقال في أحدب: [السريع]
وأحدب تحسب في ظهره ... جاء (10) به في نهر عائمة
مثلّث الخلقة لكنّه ... في ظهره زاوية قائمة
ومن أمثال نظمه قوله، وقد استدعيت منه إجازة (11): [الطويل]
أجبتك لا أني (12) لما رمته أهل ... ولكنّ ما أجبت (13) محتمل سهل
وما العلم إلّا البحر طاب مذاقه ... وما لي علّ في الورود ولا نهل (14)
__________
(1) في الذيل: «بمحاسن».
(2) في الذيل: «ونزهة البصائر والأبصار».
(3) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص 158).
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «ولمّا انقضت».
(5) في المصدر نفسه: «منها ما تذكّرت أحلم».
(6) في تاريخ قضاة الأندلس: «إلى».
(7) في الأصل: «عليّ» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من تاريخ قضاة الأندلس.
(8) في تاريخ: «منها».
(9) رواية البيت في تاريخ قضاة الأندلس هي:
إذا هي قد أدنته مني كأنما ... ترقيت فيها نحوه وهو سلّم
(10) في الأصل: «جابه» وهكذا ينكسر الوزن.
(11) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 6ص 451).
(12) في الأصل: «لأني» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل.
(13) في الذيل: «أحببت».
(14) رواية البيت في الأصل مضطرب ومنكسر الوزن هكذا:(2/105)
فكيف (1) أراني أهل ذاك وقد أتى ... عليّ المميتان (2) البطالة والجهل
وأسأل (3) ربي العفو عني فإنه ... لما يرتجيه العبد من فضله (4) أهل
مولده: تخمينا في نحو أربع وثمانين وخمسمائة.
وفاته: ظهر يوم الأربعاء لأربع خلون من جمادى الآخرة، عام ستة وثلاثين وستمائة (5).
محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن سعد الأشعري المالقي (6)
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بكر، من ذرية (7) بلج بن يحيى بن خالد بن عبد الرحمن بن يزيد (8) بن أبي بردة. واسمه عامر بن أبي عامر بن أبي موسى.
واسمه عبد الله بن قيس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن حزم (9) في جملة من دخل الأندلس من العرب (10).
حاله: من «عائد الصلة»: كان (11) من صدور العلماء، وأعلام الفضلاء، سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفننا. فسيح الدرس، أصيل النظر، واضح المذهب، مؤثرا
__________
وما العلم إلّا بحر طال مدانه ... وما لي محمّ في الورود ولا نهل
والتصويب من الذيل والتكملة.
(1) في الذيل: «وكيف».
(2) في الأصل: «المحتيان» والتصويب من الذيل.
(3) في الذيل: «فنسأل».
(4) في الأصل: «فضل» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل.
(5) كذا في التكملة (ج 2ص 140) والذيل والتكملة (ج 6ص 452) وبغية الوعاة (ص 76) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 159). وفي اختصار القدح المعلّى: «ومات بمالقة سنة ثمان وثلاثين وستمائة».
(6) ترجمة محمد بن يحيى الأشعري في تاريخ قضاة الأندلس (ص 177) واللمحة البدرية (ص 95، 104) ونفح الطيب (ج 7ص 359) ونيل الابتهاج (ص 234) والدرر الكامنة (ج 4ص 284).
(7) في نفح الطيب: «من ذرية أبي موسى الأشعري».
(8) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 378): «زيد».
(9) هاء الضمير في كلمة «ذكره» يعود إلى عبد الله بن قيس الأشعري، وقد ذكره ابن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص 397).
(10) في تاريخ قضاة الأندلس: «المغرب».
(11) النص في نفح الطيب (ج 7ص 360359).(2/106)
للإنصاف، عارفا بالأحكام والقراءات (1)، مبرّزا في الحديث تاريخا وإسنادا وتعديلا وتجريحا (2)، حافظا للأنساب والأسماء والكنى، قائما على العربية، مشاركا في الأصول والفروع، واللغة والعروض والفرائض والحساب، مخفوض الجناح، حسن التخلق (3)، عطوفا على الطلبة، محبّا في العلم والعلماء، مجلّا لأهله (4)، مطّرح (5)
التصنّع، عديم المبالاة بالملبس، بادي الظاهر، عزيز النفس، نافذ الحكم، صوّالة، معروف بنصرة من أزر إليه. تقدّم للشياخة (6) ببلده مالقة، ناظرا في أمور العقد والحل، ومصالح الكافة. ثم ولّي القضاء بها، فأعزّ الخطة، وترك الهوادة وإنفاد الحق (7) ملازما للقراءة والإقراء، محافظا للأوقات، حريصا على الإفادة.
ثم ولّي القضاء (8) والخطابة بغرناطة في العشر الأول لمحرم سبعة وثلاثين وسبعمائة، فقام بالوظائف، وصدع (9) بالحق، وجرّح (10) الشهود فزيّف منهم ما ينيف على السبعين (11) عددا، واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها، وصادم تيّارها، غير مبال بالمغبّة، ولا حافل بالتّبعة، فناله لذلك من المشقّة، والكيد العظيم ما نال مثله، حتى كان (12) يمشي إلى الصلاة ليلا في مسلّة، لا يطمئن على حاله.
جرت في هذا الباب حكايات إلى أن استمرت الحال على ما أراده الله، وعزم عليه الأمير في بعض من الخطّة، ليردّه إلى العدالة، فلم يجد في قناته مغمزا، ولا في عوده معجما، وتصدّر لبثّ العلم بالحضرة، يقرئ فنونا منه جمّة، فنفع وخرّج، ودرّس العربية والفقه والأصول، وأقرأ القرآن، وعلم الفرائض والحساب، وعقد مجالس الحديث شرحا وسماعا، على سبيل من انشراح الصّدر، وحسن التجمّل، وخفض الجناح (13).
__________
(1) في النفح: «والقراءة».
(2) في النفح: «وجرحا».
(3) في النفح: «الخلق».
(4) قوله: «مجلّا لأهله» غير وارد في النفح.
(5) في النفح: «مطرّحا للتصنع».
(6) هذه الكلمة غير واردة في النفح.
(7) في النفح: «وترك الشوائب، وأنفذ الحقّ».
(8) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 179): «ثم ولّي قضاء الجماعة، فقام بالوظائف». وفي نفح الطيب (ج 8ص 360): «ثم ولّي القضاء بغرناطة المحروسة، سنة 737».
(9) صدع بالحق: جهر به. لسان العرب (صدع).
(10) في النفح: «وبهرج».
(11) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 179): «على الثلاثين عددا». وفي نفح الطيب: «على سبعين، واستهدف».
(12) في النفح: «حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلا، ولا يطمئن».
(13) في النفح: «جناح».(2/107)
وذكره القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن، فقال (1): وأما شيخنا، وقريبنا مصاهرة، أبو عبد الله بن أبي بكر، فصاحب عزم ومضاء، وحكم صادع وقضاء. كان له، رحمه الله، مع كل قولة صولة، وعلى كل رابع لا يعرف ذرّة، فأحرق قلوب الحسدة والصّب، وأعزّ الخطّة بما أزال عنها من الشّوائب، وذهّب وفضّض (2) كواكب الحق بمعارفه، ونفذ في المشكلات، وثبت في المذهلات (3)، واحتج وبكّت، وتفقّه ونكّت.
توقيعه: قال: وحدّثنا صاحبنا أبو جعفر الشّقوري قال (4): كنت قاعدا في مجلس حكمه فرفعت إليه امرأة رقعة، مضمونها أنها محبّة في مطلّقها، وتبتغي من يستشفع لها في ردّها، فتناول الرّقعة، ووقع في ظهرها للحين من غير مهلة: الحمد لله، من وقف على ما بالمقلوب (5)، فليصغ لسماعه إصاغة مغيث، وليشفع للمرأة عند زوجها، تأسّيا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبربرة في مغيث. والله يسلم لنا العقل والدين، ويسلك بنا مسالك المهتدين. والسلام يعتمد على من وقف على هذه الأحرف من كاتبها، ورحمة الله. قال صاحبنا: فقال لي بعض الأصحاب: هلّا كان هو الشفيع لها؟ فقلت: الصحيح أنّ الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على النصوص (6).
شعره: ولم يسمع له شعر إلّا بيتين في وصف قوس عربي النّسب في شعر من لا شعر له، وهما: [البسيط]
هام الفؤاد ببنت (7) النّبع والنّشم ... زوراء (8) تزري بعطف البان والصّنم
قوام قامتها تمام معطفها ... من يلق مقتلها تصميه أو تصم
مشيخته: قرأ على الأستاذ المتفنّن الخطيب أبي محمد بن أبي السّداد الباهلي (9) القرآن العظيم جمعا وإفرادا، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث، ولازمه،
__________
(1) النص في نفح الطيب (ج 7ص 360). وهو لم يرد حرفيّا في تاريخ قضاة الأندلس، وجاء فيه ما في معناه.
(2) ذهّبها وفضّضها: جعلها ناصعة كالذهب والفضة.
(3) في النفح: «المعضلات».
(4) النص في تاريخ قضاة الأندلس (ص 182) ونفح الطيب (ج 7ص 361) ببعض اختلاف عما هنا.
(5) في المصدرين السابقين: «القلوب، فليصخ لسماعه». والمراد هنا بالمقلوب: ظهر الرّقعة.
(6) في النفح: «المنصوص».
(7) في الأصل: «في بنت»، وهكذا ينكسر الوزن.
(8) في الأصل: «زورا» وهكذا ينكسر الوزن.
(9) هو عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السّداد الأموي المالقي، الشهير بالباهلي، وسيترجم(2/108)
وتأدب به. وعلى الشيخ الراوية الصالح أبي عبد الله محمد بن عيّاش الخزرجي القرطبي، قرأ عليه كثيرا من كتب الحديث، منها كتاب صحيح مسلم، وسمع عليه جميعه إلّا دولة واحدة. ومن أشياخه القاضي أبو القاسم قاسم بن أحمد بن حسن بن السّكوت، والفقيه المشاور الصّدر الكبير أبو عبد الله بن ربيع، والخطيب القدوة الولي أبو عبد الله بن أحمد الطّنجالي، والشيخ القاضي أبو الحسن ابن الأستاذ العلّامة أبي الحجاج بن مصامد، والأستاذ خاتمة المقرئين أبو جعفر بن الزّبير، والخطيب المحدّث أبو عبد الله بن رشيد، والخطيب الولي الصالح أبو الحسن (1) بن فضيلة، والأستاذ أبو الحسن بن اللّباد المشرفي، والشيخ الأستاذ أبو عبد الله بن الكماد السّطّي اللّبليسي. وأجازه من أهل سبتة شيخ الشّرفاء أبو علي بن أبي التّقى طاهر بن ربيع، والعدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري، وأبو إسحاق التلمساني، والحاج العدل الراوية أبو عبد الله بن الحصّار، والأستاذ المقرئ ابن أبي القاسم بن عبد الرحيم القيسي، والأستاذ أبو بكر بن عبيدة، والشيخ المعمر أبو عبد الله بن أبي القاسم بن عبيد الله الأنصاري. ومن أهل إفريقية الأديب المعمر أبو عبد الله محمد بن هارون، وأبو العباس أحمد بن محمد الأشعري المالقي نزيل تونس، ومحمد بن محمد بن سيّد الناس اليعمري، وعثمان بن عبد القوي البلوي.
ومن أهل مصر النّسابة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطي، والمحدّث الراوية أبو المعالي أحمد بن إسحاق، وجماعة غيرهم من المصريين والشاميين والحجازيين.
مولده: في أواخر ذي حجة من عام أربعة (2) وسبعين وستمائة.
وفاته: فقد في مصاب (3) المسلمين يوم المناجزة بطريف (4) شهيدا محرّضا، زعموا أن بغلة كان عليها كبت به، وأفاق رابط الجأش، مجتمع القوى. وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يكن عنده قوة عليه. وقال: انصرف، هذا يوم الفرج (5)،
__________
له ابن الخطيب في الجزء الثالث من الإحاطة.
(1) في نفح الطيب (ج 7ص 361): «أبو الحسين».
(2) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 184): «ومولده في أواخر شهر ذي الحجة من عام 673».
(3) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 183): «مصافّ».
(4) موقعه طريف: هي الموقعة الشهيرة التي كانت بين الإسبان وبني مرين، وكان مع بني مرين قوات الأندلس بقيادة السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري، سنة 741هـ، وكانت الهزيمة فيها للمسلمين. اللمحة البدرية (ص 105).
(5) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 184) ونفح الطيب (ج 7ص 362): «الفرح».(2/109)
إشارة إلى قوله تعالى في الشهداء: {فَرِحِينَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1)، وذلك ضحى يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد ابن ناصر بن حيّون بن القاسم بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (2)
حسبما نقل من خطه:
أوّليّته: معروفة، كان وليته مثله.
حاله: هذا (3) الفاضل جملة من جمل الكمال، غريب في الوقار والحصافة، وبلوغ المدى، واستولى على الأمم حلما وأناة، وبعدا عن الريب، وتمسكا بعرى النزاهة، واستمساكا مع الاسترسال، وانقباضا مع المداخلة، معتدل الطريقة، حسن المداراة، مالكا أزمّة الهوى، شديد الشفقة، كثير المواساة، مغار حبل الصبر، جميل العشرة، كثيف ستر الحيا، قوي النفس، رابط الجأش، رقيق الحاشية، ممتع المجالسة، متوقد الذهن، أصيل الإدراك، بارعا بأعمال المشيخة، إلى جلال المنتمى، وكرم المنصب ونزاهة النفس، وملاحة الشّيبة، وحمل راية البلاغة، والإعلام في ميادين البيان، رحلة الوقت في التبريز بعلوم اللسان، حائز الخصل (4) والفضل في ميدانها، غريبة (5) غزيرة الحفظ، مقنعة الشّاهد (6)، مستبحرة النظر، أصيلة التوجيه، بريّة عن النّوك والغفلة، مرهفة باللغة والغريب والخبر والتاريخ والبيان، وصناعة البديع، وميزان العروض، وعلم القافية، وتقدّما في الفقه، ودرسا له، وبراعة في الأحكام، وإتقان التّدريس، والصبر، والدّؤوب عليه، بارع التصنيف، حاضر الذهن، فصيح اللسان، مفخرة من مفاخر أهل بيته.
__________
(1) سورة آل عمران 3، الآية 170.
(2) ترجمة محمد بن أحمد الحسني في تاريخ قضاة الأندلس (ص 210) ونثير فرائد الجمان (ص 231) وجاء فيه أنه يكنى أبا القاسم، ونفح الطيب (ج 7ص 182) وبغية الوعاة (ص 16) والدرر الكامنة (ج 3ص 352) واللمحة البدرية (ص 105، 116) وكشف الظنون (ص 1807).
(3) النص في بغية الوعاة (ص 16) نقلا عن الإحاطة، والسيوطي ينقل بتصرف.
(4) كلمة «الخصل» غير واردة في بغية الوعاة.
(5) في بغية الوعاة: «عربية».
(6) في بغية الوعاة: «الشمائل».(2/110)
ولايته: قدم على الحضرة في دولة الخامس من ملوك بني نصر (1)، كما استجمع شبابه، يفهق علما باللسان، ومعرفة بمواقع البيان، وينطق بالعذب الزّلال من الشعر، فسهّل له كنف البر، ونظم في قلادة كتاب الإنشاء، وهو إذ ذاك ثمينة الخزرات، محكمة الرّصف، فشاع فضله، وذاع رجله. ثم تقدم، فنقل من طور الحكم، إلى أن قلّد الكتابة والقضاء والخطابة بالحاضرة، بعد ولاية غيرها التي أعقبها ولاية مالقة في الرابع من شهر ربيع الآخر عام سبعة وثلاثين وسبعمائة. فاضطلع بالأحكام، وطبّق مفصل الفضل، ماضي الصّريمة، وحيّ الإجهار، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، قليل النّاقد، مطعم التوفيق، يصدع في مواقف الخطب، بكل بليغ من القول، مما يريق ديباجته، ويشفّ صقاله، وتبرأ من كلال الخطباء جوانبه وأطرافه. واستعمل في السّفارة للعدوّ ناجح المسعى، ميمون النّقيبة، جزيل الحياء والكرامة، إلى أن عزل عن القضاء في شعبان من عام سبعة وأربعين وسبعمائة، من غير زلّة تخفض، ولا هنة تؤثر، فتحيّز إلى التّحليق لتدريس العلم، وتفرّغ لإقراء العربية والفقه، ولم ينشب أميره المنطوي على الهاجس، المغري بمثله، أن قدّمه قاضيا بوادي آش، بنت حضرته، معزّزة بسندها الكبير الخطّة، فانتقل إليه بجملته. وكانت بينه وبين شيخنا أبي الحسن بن الجيّاب، صداقة صادقة، ومودة مستحكمة، فجرت بينهما أثناء هذه النّقلة، بدائع، منها قوله، يرقب (2) خطّة القضاء التي اخترعها، ويوليها خطة الملامة (3):
[السريع]
لا مرحبا بالناشز الفارك ... إن جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك
أقسمت بالنّور المبين الذي ... منه بدت مشكاة أنوارك
ومظهر الحكم الحكيم الذي ... يتلو عليه (4) طيب أخبارك
ما لقيت مثلك كفؤا لها ... ولا أوت أكرم من دارك (5)
__________
(1) الخامس من سلاطين بني نصر هو أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف، وقد حكم من سنة 713إلى سنة 725هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 78).
(2) في الأصل: «يوس عنه خطة»، وهو كلام لا معنى له، وصوبناه من تاريخ قضاة الأندلس (ص 212).
(3) الأبيات في تاريخ قضاة الأندلس (ص 213212).
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «علينا».
(5) رواية البيت في المصدر السابق هي:
ما ألفت مثلك كفؤا ولا ... أوت إلى أكرم من دارك(2/111)
ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة، فوليها، واستمرت حاله وولايته على متقدّم سمته من الفضل والنّزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن الجادّة، إلى أن هلك السلطان (1) مستقضيه، مأموما به، مقتديا بسجدته، يوم عيد الفطر، خمسة وخمسين وسبعمائة. وولي الأمر ولده (2) الأسعد، فجدّد ولايته، وأكّد تجلّته، ورفع رتبته، واستدعى مجالسته.
مشيخته: قرأ (3) ببلده سبتة على أبيه الشريف الطاهر، نسيج وحده في القيام، وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جلّ انتفاعه، وعليه جلّ استفادته. وأخذ عن الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماريّ، والخطيب المحدّث أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والفقيه الصالح أبي عبد الله بن حريث. وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.
محنته: دارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة، فعركته بالثّقال، وتخلّص من شرارها هولا، لتطارح الأمير المتوثّب أمام ألمريّة عليه، خاتما في السّجدة، ودرس الحماة إياه عند الدّجلة، من غير التفات لمحل الوطأة، ولا افتقاد لمحل صلاة تلك الأمّة، فغشيه من الأرجل، رجل الرّبى كثيرة، والتفّ عليه مرسل طيلسانه، سادّا مجرى النّفس إلى قلبه، فعالج الحمام وقتا، إلى أن نفّس الله عنه، فاستقلّ من الرّدى، وانتبذ من مطّرح ذلك الوغى، وبودر بالفصاد، وقد أشفى، فكانت عثرة لقيت لما ومتاعا، فسمح له المدى آخر من يوثق به، من محل البثّ، ومودعات السّرّ من حظيّات الملك، أن السلطان عرض عليه قبل وفاته في عالم الحلم، كونه في محراب مسجده، مع قاضيه المترجم به، وقد أقدم عليه كلب، أصابه بثوبه، ولطّخ ثوبه بدمه، فأهمّته رؤياه، وطرقت به الظنون مطارقها، وهمّ بعزل القاضي، انقيادا لبواعث الفكر، وسدّا لأبواب التوقيعات، وقد تأذن الله بإرجاء العزم، وتصديق الحلم، وإمضاء الحكم، جلّ وجهه، وعزّت قدرته، فكان من الأمر ما تقرر في محله.
__________
(1) هو السلطان أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج، سابع سلاطين بني نصر بغرناطة. راجع اللمحة البدرية (ص 102).
(2) هو الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج، ثامن سلاطين بني نصر بغرناطة، والمتوفّى سنة 793هـ. ترجمته في اللمحة البدرية (ص 113، 129) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 213) والدرر الكامنة (ج 4ص 291) وأزهار الرياض (ج 1ص 37، 58، 194).
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 217).(2/112)
تصانيفه: وتصانيفه بارعة، منها، «رفع الحجب المستورة في (1) محاسن المقصورة (2)»، شرح فيها مقصورة الأديب أبي الحسن حازم بما تنقطع الأطماع فيه.
ومنها «رياضة الأبيّ (3) في قصيدة الخزرجي»، أبدع في ذلك بما يدل على الاطلاع وسداد الفهم، وقيّد على «كتاب التّسهيل» لأبي عبد الله بن مالك تقييدا جليلا، وشرحا بديعا، قارب التمام. وشرع في تقييد على الخبر المسمّى ب «درر السّمط في خبر السّبط». ومحاسنه جمّة، وأغراضه بديعة.
شعره: وأمّا الشعر، فله فيه القدح المعلّى، والحظّ الأوفى، والدّرجة العليا، طبقة وقته، ودرجة عصره، وحجة زمانه، كلامه متكافئ في اللفظ والمعنى، صريح الدّلالة، كريم الخيم، متحصّد الحبل، خالص السّبك، وأنا أثبت منه جزما خصّني به، سمّاه جهد المقل، اشتمل من حرّ الكلام، على ما لا كفاء له.
الحمد لله تردّده أخرى الليالي، فهو المسؤول أن يعصمنا من الزّلل، زلل القول، وزلل الأعمال. والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها جملة من بنات فكري، وقطعا مما يحيش به في بعض الأحيان صدري، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كل الإضراب، ولزمت في دفنها وإخفائها دين الأعراب، لكني آثرت على المحو الإثبات، وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هي عرضت على ذلك المجد، وسألها كيف نجت من الوأد، فقد أوتيتها من حرمكم إلى ظلّ ظليل، وأحللتها من بنائكم معرّسا ومقيل، وأهديتها علما بأن كرمكم بالإغضاء عن عيوبها جدّ كفيل، فاغتنم قلة التهدئة مني، إن جهد المقلّ غير قليل، فحسبها شرفا أن تبوّأت في جنابك كنفا، وكفاها مجدا وفخرا أن عقدت بينها وبين فكرك عقدا وجوارا ومما قلت في حرف الهمزة.
مولده: بسبتة في السادس لشهر ربيع الأول (4) من عام سبعة وتسعين وستمائة.
وفاته: توفي قاضيا بغرناطة في أوائل شعبان (5) من عام ستين وسبعمائة.
__________
(1) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 217): «عن».
(2) هي مقصورة أديب المغرب أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجنّي الأندلسي، التي مدح بها أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا عبد الله محمدا الحفصي. راجع نفح الطيب (ج 7ص 182).
(3) في تاريخ قضاة الأندلس: «الآن في شرح قصيدة».
(4) هكذا في تاريخ قضاة الأندلس (ص 217). وفي بغية الوعاة: «ربيع الآخر».
(5) في تاريخ قضاة الأندلس (ص 217): «ووفاته بغرناطة ضحى يوم الخميس الحادي والعشرين لشهر شعبان من عام 760». وفي نفح الطيب (ج 7ص 190): «وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة».(2/113)
محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي (1)
قاضي الجماعة ببيضة الإسلام فاس، يكنى أبا عبد الله.
حاله: هذا الرجل له أبوّة صالحة، وأصالة زاكية، قديم الطلب، ظاهر التخصّص، مفرط في الوقار، نابه البزّة والركبة، كثير التهمة، يوهم به الفارّ، وصدر الصّدور في الوثيقة والأدب، فاضل النفس، ممحوض النصح، جميل العشرة لإخوانه، مجري الصّداقة نصحا ومشاركة وتنفيقا على سجيّة الأشراف وسنن الحسباء، مديد الباع في فن الأدب، شاعر مجيد، كاتب بليغ، عارف بالتّحسين والتّقبيح، من أدركه، أدرك علما من أعلام المشيخة. قدّمه السلطان الكبير العالم أبو عنان فارس، قاضيا بحضرته، واختصّه، واشتمل عليه، فاتصل بعده سعده، وعرف حقّه. وتردّد إلى الأندلس في سبيل الرسالة عنه، فذاع فضله، وعلم قدره. ولما كان الإزعاج من الأندلس نحو النّبوة التي أصابت الدولة، بلوت من فضله ونصحه وتأنيسه، ما أكد الغبطة، وأوجب الثناء، وخاطبته بما نصه: [الكامل]
من ذا يعدّ فضائل الفشتالي ... والدهر كاتب آيها والتّالي
علم إذا التمسوا الفنون بعلمه ... مرعى المشيح ونجعة المكتال
نال الذي لا فوقها من رفعة ... ما أمّلتها حيلة المحتال
وقضى قياس تراثه عن جدّه ... إن المقدّم فيه عين التالي
قاضي الجماعة، بماذا أثنى على خلالك المرتضاة؟ أبقديمك الموجب لتقديمك؟ أم بحديثك الداعي لتحمّل حديثك؟ وكلاهما غاية بعد مرماها، وتحامى المتصوّر حماها، والضالع لا يسام سبقا، والمنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وما الظنّ بأصالة تعترف بها الآثار وتشهد، وأبوّة صالحة كانت في غير ذات الحق تزهد، وفي نيل الاتصال به تجهد، ومعارف تقرر قواعد الحق وتمهّد، وتهزم الشّبه إذا تشهّد. وقد علم الله أن جوارك لم يبق للدهر عليّ جوارا (2)، ولا حتّ من غصني ورقا ولا نوّارا. هذا وقد زأر على أسد وحمل ثورا، فقد أصبحت في ظل الدولة التي وقف على سيدي اختيارها، وأظهر خلوص إبريزه معيارها، تحت كنف وعزّ مؤتنف، وجوار أبي دلف، وعلى ثقة من الله بحسن خلف. وما منع من انتساب ما لديه من
__________
(1) نسبة إلى فشتاله وهي إحدى القبائل الجبلية التي تقطن في شمال مدينة فاس. الإحاطة (ج 2 ص 187) حاشية رقم 1.
(2) في الأصل: «جوار».(2/114)
الفضائل إلّا رحلة لم يبرك بعد حملها، ولا قرّ عملها، وأوحال حال بيني وبين مسوّر البلد القديم (1) مهلها. ولولا ذلك لا غتبطت الزّائد، واقتنيت الفوائد، والله يطيل بقاءه، حتى تتأكد القربة، التي تنسى بها الغربة، وتعظم الوسيلة، التي لا تذكر معها الفضيلة.
وأمّا ما أشار به من تقييد القصيدة التي نفق سوقها استحسانه، وأنس باستظرافها إحسانه، فقد أعمل وما أمهل، والقصور باد إذا تأمّل، والإغضاء أولى ما أمّل، فإنما هي فكرة قد أخمدت نارها الأيام، وغيّرت آثارها اللّئام. وقد كان الحق إجلال مطالعة سيدي من خللها، وتنزيه رجله عن تقبيل مرتجلها. لكنّ أمره ممتثل، وأتى من المجد أمرا لا مردّ له مثل. والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم برّه، ابن الخطيب، ورحمة الله.
فكتب إليّ مراجعا، وهو المليء بالإحسان: [الكامل]
وافت يجرّ الزّهو فضلة بردها ... حسناء قد أضحت نسيجة وحدها
لله أي قصيدة أهديت لو ... يهتدي المعارض نحو غاية قصدها
لابن الخطيب بها محاسن جمّة ... قارعت عنه الخطوب ففلّت من حدّها (2)
سرّ البلاغة عنه أودع حافظا ... قد صانه حتى فشا من عندها
في غير عقد نفثنه بسحرها (3) ... فلذا أتى سلسا منظّم عقدها
لم أدر ما فيها وقمت معاونا ... من طرسها أو معلما من بردها
حتى دفعت بها لأبعد غاية ... باعا تقصّر في البلوغ بحدّها
حدّان من نظم ونثر إنّ من ... يلقاهما منها بذلّة عبدها
أولى يدا بيضاء موليها فما ... لي مزية من (4) أن أقوم بحمدها
ورفضت تكذيب المنى متشيّعا ... لعلي مرآها يصادق وعدها
فبذلت شعري رافعا من برّها ... وهززت عطفي رافلا من بردها
خذها، أعزّ الله جنابك، وأدال للأنس على الوحشة اغترابك، كغبّة (5) الطائر المتجعد، ونهبة الثائر المستوفز، ومقة اللّحظ، قليلة اللّفظ، قد جمعت من سوامها وانقحامها، بين نظم قيد، وصلود زند، ونوّعت، فعلى إقدامها وانحجامها إلى قاصر
__________
(1) البلد القديم هو مدينة فاس القديمة، والبلد الجديد هو ضاحية فاس الملوكية. الإحاطة (ج 2 ص 189) حاشية رقم 1.
(2) عجز هذا البيت منكسر الوزن.
(3) صدر هذا البيت منكسر الوزن.
(4) كلمة «من» ساقطة في الأصل، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(5) الغبّة: البلغة من العيش. محيط المحيط (غبب).(2/115)
ومعتد، وليتني إذا جادت سحابة ذلك الخاطر الماطر الودق، وانجاب العاني عن مزنة فكرتي، بتقاضي الجواب، انجياب الطّوق، وأيقنت أني قد سدّ عليّ باب القول وأرتحج، وقلت: هذه السّالفة الكلية فسدت لها الدّاعة من تكلّم الإمرة ولم أنه إذ أعوزت المرّة بالحلوة، لكني قلت: وجدّ المكثر كجهد المقلّ، والواجب قد يقلّ الامتثال فيه بالأقلّ. فبعثت بها على علّاتها، وأبلغتها عذرها، في أن كتبت عن شوقها بلغاتها، وهي لا تعدم من سيدي في إغضاء كريم، وإرضاء سليم. والله، عزّ وجلّ، يصل بالتأنيس الحبل، ويجمع الشّمل.
والسلام الكريم يخصّ تلك السيادة، ورحمة الله وبركاته. من محمد بن أحمد الفشتالي.
وهو الآن قاض بفاس المذكورة، محمود السيرة، أبقاه، وأمتع به.
محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقري (1)
يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة بفاس وتلمسان.
أوّليّته: نقلت من خطّه، قال (2): وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مرارا (3)، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري، صاحب أبي مدين (4)، الذي دعا له ولذرّيته، بما ظهر فيهم من قبول (5) وتبيّن. وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي (6) الصلاة، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور، ويقال: إن هذا الحضور، ممّا أدركه من مقامات شيخه أبي مدين. ثم (7) اشتهرت ذريّته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهّدوا طريق الصحراء
__________
(1) محمد بن محمد المقري، جدّ المقري صاحب كتاب نفح الطيب، وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص 209) والتعريف بابن خلدون (ص 59) ونيل الابتهاج (ص 249) ونفح الطيب (ج 7ص 195) وأزهار الرياض (ج 1ص 5) و (ج 4ص 204).
(2) النص في نفح الطيب (ج 7ص 195).
(3) في النفح: «مزارا».
(4) أبو مدين: هو شعيب بن الحسين الأندلسي التلمساني، المتوفى سنة 594هـ، وقد تقدم ذكره في الجزء الأول من الإحاطة في ترجمة جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة الخزاعي.
(5) في النفح: «قبوله».
(6) أغلب الظن أنه ينسبه إلى عروة بن الزبير، الذي كان يطيل الصلاة ويكثر من الدعاء.
(7) النص في نفح الطيب (ج 7ص 198196).(2/116)
بحفر الآبار، وتأمين التّجار، واتخذوا طبل الرّحيل (1)، وراية التّقدم (2) عند المسير.
وكان ولد يحيى، الذي (3) كان أحدهم أبو بكر، خمسة رجال، فعقدوا الشّركة بينهم فيما ملكوه (4) وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، وكان (5) أبو بكر ومحمد، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب (6) بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي، وهما شقيقاهم الصغيران، بأي والأتن (7) فاتخذوا هذه (8) الأقطار والحوايط والدّيار، فتزوجوا (9) النساء، واستولدوا الإماء. وكان التلمساني يبعث إلى الصّحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتّبر، والسّجلماسي كلسان الميزان يعرّفهما بقدر الرّجحان والخسران (10)، ويكاتبهما بأحوال التّجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الفخامة (11) أحوالهم. ولما افتتح التّكرور كورة أي والأتن وأعمالها، أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها (12) منهم إلى نفسه الرّجال، ونصب دون (13) ماله القتال. ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه، ومكّنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحبّ، والخلاصة الأقرب. ثم صار يكاتب من بتلمسان، يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب، ما ينبئ عن ذلك، فلما استوثقوا من الملوك، تذلّلت لهم الأرض للسّلوك، فخرجت أموالهم عن الحدّ، وكادت تفوق (14) الحصر والعدّ لأن بلاد الصحراء، قبل أن يدخلها أهل مصر، كانت (15) تجلب لها من المغرب ما لا بال له (16) من السّلع، فيعاوض (17) عنه بماله بال من الثمن (18). ثم قال أبو مدين:
الدنيا ضمّ جنب أبو حمو (19)، وشمل ثوباه. كان يقول: لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السّلع، ويأتون بالتّبر الذي
__________
(1) في النفح: «طبلا للرحيل».
(2) في النفح: «تقدم».
(3) في النفح: «الذين أحدهم».
(4) في النفح: «بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه».
(5) في النفح: «مكان».
(6) في النفح: «أمي وأبي».
(7) هو موضع بالصحراء.
(8) في النفح: «بهذه الأقطار الحوائط».
(9) في النفح: «وتزوجوا».
(10) في النفح: «بقدر الخسران والرجحان».
(11) في النفح: «الضخامة».
(12) في النفح: «فيها».
(13) في النفح: «دونها ودون ما لهم القتال».
(14) في النفح: «تفوت».
(15) في النفح: «كان يجلب إليها من».
(16) ما لا بال له: أي ما ليس بذي شأن.
(17) في النفح: «فتعاوض».
(18) في النفح: «الثمن. أي مدبر دنيا ضمّ جنبا أبي حمو».
(19) أبو حمو: هو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيان، كما سيرد بعد قليل في عنوان: مولده.(2/117)
كلّ أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذّهب، ويأتي إليها بما يضمحلّ عن قريب ويذهب، إلى ما يغيّر من العوائد، ويجرّ السفهاء إلى المفاسد.
ولما هلك (1) هؤلاء الأشياخ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلطان (2)، فلم تزل (3) حالهم في نقصان إلى هذا الزمان (4)، فها أنا ذا لم أدرك (5) في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشا، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرّغت بحول الله، عزّ وجلّ، للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء، سواء المقيم القاطن، والوارد والظاعن.
حاله: هذا (6) الرجل مشار إليه بالعدوة المغربية اجتهادا، ودؤوبا، وحفظا وعناية، واطلاعا، ونقلا ونزاهة، سليم الصدر، قريب الغور، صادق القول، مسلوب التّصنّع، كثير الهشّة، مفرط الخفّة، ظاهر السذاجة، ذاهب أقصى مذاهب التخلّق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة، مضايق في العقد والتوجّه، يكابد من تحصيل النيّة بالوجه واليدين مشقّة، ثم يغافض (7) الوقت فيها، ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير، برجفة ينبو عنها سمع من لم يكن (8) تأنّس بها عادة، بما هو دليل على حسن المعاملة، وإرسال السّجية، قديم النّعمة، متصل الخيريّة، مكبّ على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصّيانة والعدالة، منصف في المذاكرة، حاسر الذراع (9) عند المباحثة، راحب عن الصّدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن، ولا ضانّ (10) بالفائدة، كثير الالتفاف، متقلّب الحدقة، جهير بالحجّة، بعيد عن المراء والمباهتة، قائل بفضل أولي الفضل من الطّلبة، يقوم أتمّ القيام على العربيّة والفقه والتفسير، ويحفظ الحديث، ويتهجّر بحفظ الأخبار (11) والتاريخ والآداب، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر
__________
(1) في النفح: «ولمّا درج».
(2) في النفح: «السلاطين».
(3) في النفح: «يزل».
(4) في النفح: «الزمن».
(5) في النفح: «من».
(6) النص في نفح الطيب (ج 7ص 200199).
(7) في النفح: «يغافص».
(8) في النفح: «من لم تؤنسه بها العادة».
(9) في النفح: «للذراع».
(10) ضانّ: اسم فاعل ضنّ أي بخل. لسان العرب (ضنن).
(11) في النفح: «بحفظ التاريخ والأخبار».(2/118)
مصيبا في ذلك (1) غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة الصّوفية كلام أرباب المقال، ويعتني بالتّدوين فيها. شرّق وحجّ، ولقي جلّة، واضطبن (2) رحلة مفيدة، ثم آب إلى بلده، فأقرأ به، وانقطع إلى خدمة العلم. فلما ولي ملك المغرب السلطان، محالف الصّنع ونشيدة الملك، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير المسلمين (3) أبو عنان فارس (4)، اجتذبه وخلطه بنفسه، واشتمل عليه، وولّاه قضاء الجماعة بمدينة فاس، فاستقلّ بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحكم (5)، وألان الكلمة، وآثر التّسديد، وحمل الكلّ (6)، وخفض الجناح، فحسنت عنه القالة (7)، وأحبّته الخاصّة والعامة.
حضرت بعض مجالسه للحكم، فرأيت من صبره على اللّدد (8)، وتأتّيه (9) للحجج ورفقه بالخصوم، ما قضيت منه العجب.
دخوله غرناطة: ثم (10) لمّا أخّر عن القضاء، استعمل بعد لأي في الرّسالة، فوصل الأندلس، أوائل جمادى الثانية من عام ستة (11) وخمسين وسبعمائة. فلما قضى غرض الرسالة (12)، وأبرم عقد وجهته، واحتلّ مالقة في منصرفه، بدا له في نبذ الكلفة، واطّراح (13) وظيفة الخدمة، وحلّ التّقيّد، إلى ملازمة الإمرة، فتقاعد، وشهر غرضه، وبتّ في الانتقال، طمع من كان صحبته، وأقبل على شأنه، فخلّي بينه وبين همّه. وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربّه. وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة، والعدول عنها، بقصد التّخلّي والعبادة، وأنكر ما نحله (14)
غاية الإنكار، من إبطال عمل الرسالة، والانقباض قبل الخروج عن العهدة، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد حمله على الظّنّة والمواطأة على النّفرة، وتجهّزت جملة من الخدّام المجلّين في مآزق (15) الشّبهة، المضطلعين بإقامة الحجة، مولين خطّة الملام، مخيّرين بين سحائب عاد من الإسلام، مظنّة إغلاق النعمة (16)،
__________
(1) قوله: «في ذلك» غير وارد في النفح.
(2) اضطبن الرحلة: اعتزمها.
(3) في النفح: «المؤمنين».
(4) هذه الكلمة غير واردة في النفح.
(5) في النفح: «الحق».
(6) الكلّ: التّعب. محيط المحيط (كلل).
(7) حسنت عنه القالة: حسن قول الناس فيه.
(8) اللّدد: الخصومة الشديدة. لسان العرب (لدد).
(9) في النفح: «وتأنّيه».
(10) النص في نفح الطيب (ج 7ص 202200).
(11) في الأصل: «ست» وهو خطأ نحوي. وفي نفح الطيب: «سبعة».
(12) في النفح: «رسالته».
(13) في الأصل: «واصطراح» والتصويب من النفح.
(14) في النفح: «ما حقه الإنكار».
(15) في النفح: «مأزق».
(16) في النفح: «النقمة».(2/119)
وإيقاع المثلة (1)، والإساءة (2) بسبب القطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمّم بمسجدها، وجأر (3) بالانقطاع إلى الله، وتوعّد من يجيره (4) بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه، فأهمّ أمره، وشغلت القلوب آبدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضت (5) له رفع التّبعة، وتركه إلى تلك الوجهة.
ولمّا تحصّل ما تيسّر من ذلك، انصرف محفوفا بعالمي القطر، قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المترجم (6) به قبله، والشيخ الخطيب أبي البركات بن الحاج، مستهلين (7) لوروده، مشافهين للشفاعة (8) في غرضه، فأقشعت (9) الغمّة، وتنفّست الكربة. وجرى أثناء هذا من المراسلة والمراجعة، ما تضمّنه الكتاب المسمّى ب «كناسة الدّكان بعد انتقال السّكان» المجموع بسلا ما صورته:
«المقام الذي يحبّ الشّفاعة، ويرعى الوسيلة، وينجز العدّة، ويتمّم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيى حمده الممادح العريضة الطويلة، مقام محلّ والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصحّ في الله تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده، وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا (10) ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطّبع الكريم إذا دعاها، معظّم سلطانه الكبير، وممجّد مقامه الشهير، المتشيّع لأبوّته الرفيعة قولا باللّسان واعتقادا بالضمير، المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والوليّ النّصير. فلان (11). سلام كريم، طيب برّ عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأبوّتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد (12) حمد الله، الذي جعل الخلق الحميدة دليلا على عنايته بمن حلّاه حلاها، وميّز بها النفوس النفيسة، التي اختصّها بكرامته وتولّاها، حمدا يكون كفوا
__________
(1) في النفح: «العقوبة».
(2) في النفح: «أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة».
(3) في الأصل: «جار» بدون همزة، والتصويب من النفح. وجأر إلى الله: رفع صوته بالدعاء.
(4) في النفح: «يجبره».
(5) في النفح: «اقتضى له فيها رفع».
(6) في النفح: «المذكور قبله».
(7) في النفح: «مسلمين».
(8) في النفح: «بالشفاعة».
(9) في النفح: «فانقشعت».
(10) أغلب الظن أنه أبو عنان فارس ابن أبي الحسن المريني، سلطان المغرب، المتوفّى سنة 759هـ. راجع حاشية عنان.
(11) هو ثامن سلاطين بني نصر محمد بن أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل، وقد حكم غرناطة من عام 755إلى عام 793هـ. راجع اللمحة البدرية (ص 113، 129).
(12) النص في نفح الطيب (ج 7ص 204202).(2/120)
للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة والسلام (1) على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، المترقّي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها، والرضا عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لمّا ابتلاها، وعسل ذكرهم (2) في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها، والدعاء لمقام أبوّتكم حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول الفتح: أنا طلّاع الثّنايا وابن جلاها (3)، والصّنائع التي تخترق المفاوز بركائبها المبشّرات فتفلي فلاها. فإنّا كتبنا إليكم، كتب الله تعالى لكم عزّة مشيّدة البناء، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلّدكم قلائد (4)
مكارم الأخلاق، ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء. من حمراء غرناطة حرسها الله، والودّ باهر السّناء (5)، مجدّ على الأناء، والتشيّع رحب الدّسيعة (6) والفناء.
وإلى هذا، وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم! فإننا خاطبنا مقامكم الكريم، في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري، خار الله تعالى لنا وله، وبلّغ الجميع من فضله العميم أمله، جوابا عمّا صدر من مثابتكم (7) فيه من الإشارة المتمثّلة (8)، والمآرب المعملة، والقضايا غير المهملة، نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يردّ، وظمآها عن منهل قبولكم لا تجلى (9) ولا تصدّ، حسبما سنّه الأب الكريم والجدّ، والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحدّ. ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيّلة، وتبلّج صبح الزّهادة والفضيلة، وجود النفس الشّحيحة بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخلّيه عن هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد، ومداومة الاستغفار.
وكنّا لما تعرّفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل الذي أبرزه للعيان
__________
(1) كلمة «والسلام» غير واردة في النفح.
(2) عسل ذكرهم في الأفواه: أصبح حلوا كالعسل، وهو كناية عن استعذاب الحديث عنهم. لسان العرب (عسل).
(3) أخذه من قول سحيم بن وثيل الرياحي: [الوافر] أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
الشعر والشعراء (ص 538).
(4) في النفح: «من قلائد».
(5) في النفح: «السنا، ظاهر السناء، مجدّد على».
(6) الدسيعة: الخلق ورحب الدسيعة: طيب الخلق والطباع. محيط المحيط (دسع).
(7) في النفح: «مثابكم».
(8) في النفح: «الممتثلة».
(9) في النفح: «لاتحلأ».(2/121)
وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجرى عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا: أما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله، ففرّ من مالقة على ما تعرّفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدّة لسكنى المتّسمين بالخير، والمحترفين ببضاعة الطّلب، بحيث لم يتعرّف وروده ووصوله إلّا ممّن لا يؤبه بتعريفه، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلّة تصريفه. ثم تلاحق إرسالكم الجلّة. فوجبت حينئذ الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما تحققناه من أمره، وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولّى وجهه شطرها فقد آثر أثيرا، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلا كبيرا وخيرا كثيرا، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همّه. فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدّنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظّه الباقي وقسمه، ويتوسّل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعوّل البريء على فضله، ويثق المذنب بحلمه. فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان، وهو أرب من آراب (1)، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم بما ضمّنا عنه وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضا منه من صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طيّة الإسعاف في الطريق إن قصد، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلّق بجناب الله من مثلكم حاصلا، والدّين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلا، وطالب (2)
كيمياء السّعادة بإعانتكم واصلا. ولما مدّت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبدا يحرّض، وعلمكم يصرّح بمزيتها ولا يعرّض، فكمّلوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصحّ حديث في الباب، ووفّوا غرضنا من مجدكم، وخلّوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب وقابل التّوب بإخلاص المتاب، والتّشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية الجناب، الذي تعلّق به، أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم عير مكملة الآراب. وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب، ويقتضي خلاصها بالرّغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان. ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الرّكاب، بسبق (3) أعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفّر الثناء الجميل، ويربي على التّأميل، ويكتب على الودّ الصريح العقد وثيقة
__________
(1) الآراب: جمع أرب وهو البغية والمطلب. لسان العرب (أرب).
(2) في الأصل: «وطالبنا» والتصويب من النفح.
(3) في النفح: «يسبق».(2/122)
التّسجيل. وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرّفد الجزيل. والسلام الكريم يخصّ مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، والله ينفع بقصده، وييسر علينا الرجعة إلى وجهه وفضله (1).
مشيخته: قال (2): فممّن أخذت عنه، واستفدت منه علماها، يعني تلمسان، الشامخان، وعالماها الراسخان: أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى، ابنا محمد بن عبد الله بن الإمام (3)، وحافظها ومدرّسها ومفتيها أبو موسى عمران بن موسى بن يوسف المشذالي (4)، صهر شيخ المتأخرين (5) أبي علي ناصر الدين (6) على ابنته، ومشكاة الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكيم الكناني (7) السّلوى، رحمه الله. ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور (8)، والشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن (9)
البرّوني، وأبو عمران موسى بومن (10) المصمودي الشهير بالبخاري. قال: سمعت البرّوني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرّس البخاري (11)، ورفيق له يدرّس صحيح مسلم، وكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاض، فطلب المشهود عليه بالإعذار فيهما، فقال له أبو عمران: أتمكّنه من الإعذار في الصّحيحين البخاري ومسلم؟ فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين. ثم قال: ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها، خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط، أدرك أبا
__________
(1) قوله: «والله ينفع حتى: وفضله» غير وارد في النفح.
(2) تحدث المقري عن مشيخة ابن الخطيب في نفح الطيب (ج 7ص 206، 213، 214، 223 224، 228).
(3) ترجمة ابني محمد بن عبد الله بن الإمام في التعريف بابن خلدون (ص 28) والديباج المذهب (ص 152) ونيل الابتهاج (ص 139).
(4) في نفح الطيب (ج 7ص 213): «المشدّالي». وترجمة المشدّالي في نيل الابتهاج (ص 377).
(5) في النفح: «المدرسين».
(6) هو منصور بن أحمد بن عبد الحق، المتوفّى سنة 731هـ. ترجمته في نيل الابتهاج (ص 377) وعنوان الدراية (ص 134).
(7) كلمة «الكناني» غير واردة في نفح الطيب (ج 7ص 214).
(8) ترجمة أبي عبد الله بن عبد النور في التعريف بابن خلدون (ص 46) وجذوة الاقتباس (ص 190) ونيل الابتهاج (ص 240).
(9) في النفح: (ج 7ص 214): «الحسين». وترجمه البروني في نيل الابتهاج (ص 228).
(10) هذه الكلمة غير واردة في النفح.
(11) في النفح: «يدرس صحيح البخاري».(2/123)
إسحاق الطيّار. ومنهم أبو عبد الله بن محمد الكرموني، وكان بصيرا بتفسير الرّؤيا، فمن عجائب شأنه، أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن عبد الحق مع من كان فيه، من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبا جمعة علي التّلالسي الجرايحي منهم، كأنه قائم على ساقية دائرة، وجميع أقداحها وأقواسها تصب في نقير في وسطها، فجاء ليشرب، فاغترف الماء، فإذا فيه فرث ودم، فأرسله، واغترف فإذا هو كذلك، ثلاثا أو أكثر، ثم عدل إلى خاصّة ماء، فجاءها وشرب منها. ثم استيقظ، وهو النهار، فأخبره، فقال: إن صدقت الرؤيا، فنحن عن قليل خارجون من هذا السجن. قال: كيف؟ قال: الساقية الزمان، والنّقير السلطان، وأنت جرايحي، تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدّم، وهذا ما لا يحتاج معه إلى دليل، فأخرج، فوجد السلطان مطعونا بخنجر، فأدخل يده في جوفه، فناله الفرث والدّم، فخاط جراحته وخرج، فرأى خاصّة ماء، فغسل يده وشرب. ولم يلبث السلطان أن توفي، وسرّحوا من كان في سجنه. ومن أشياخه الإمام نسيج وحده، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد الآبلي التلمساني، وهو رحلة الوقت في القيام على الفنون العقلية، وإدراكه وصحّة نظره.
حدّث قال: قدم على مدينة فاس، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بابن المسفّر، رسولا من صاحب بجاية. وزاره الطلبة، فكان مما حدّثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين، يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتب فخر الدين، واستشكله الشيخ معهم. وهذا نصه: ثبت في بعض العلوم العقلية، أن المركّب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركّب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل، فأخبروا بذلك الشيخ الآبلي لما رجعوا إليه، فتأمله ثم قال: هذا كلام مصحّف، وأصله أن المركّب قبل البسيط في الحسّ، والبسيط قبل المركّب في العقل، وأن الحسّ أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفّر، فلجّ، فقال لهم الشيخ: التمسوا النسخ، فوجدوا في لفظ بعضها كما قال الشيخ.
رحلته: رحل (1) إلى بجاية مشرّقا، فلقي بها جلّة، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، ابن المسفّر (2). ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ
__________
(1) راجع نفح الطيب (ج 7ص 237236، 239).
(2) توفي ابن المسفر في عام 743هـ، وترجمته في نيل الابتهاج (ص 237) والديباج المذهب (ص 332).(2/124)
أبي يوسف يعقوب الزّواوي، فقيه ابن فقيه. ومنهم أبو علي (1) حسن بن حسن إمام المعقولات بعد ناصر الدين. وبتونس قاضي الجماعة وفقيهها أبو عبد الله بن عبد السلام (2)، وحضر دروسه، وقاضي المناكح أبو محمد اللخمي (3)، وهو حافظ فقهائها في وقته، والفقيه أبو عبد الله بن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول. ثم حجّ فلقي بمكة إمام الوقت أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن التّوزري، المعروف بخليل، وإمام المقام أبا العباس رضيّ (4) الدين الشافعي، وغير واحد من الزّائرين والمجاورين وأهل البلد. ثم دخل الشام، فلقي بدمشق شمس الدين بن قيّم الجوزية، صاحب ابن تيميّة، وصدر الدين الغماري المالكي، وأبا القاسم بن محمد اليماني الشافعي وغيرهم. وببيت القدس أبا عبد الله بن مثبت، والقاضي شمس الدين بن سالم، والفقيه أبا عبد الله بن عثمان، وغيرهم.
تصانيفه: ألّف (5) كتابا يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية، ضمّنها كل أصيل (6) من الرأي والمباحثة. ودوّن في التّصوّف إقامة المريد، ورحلة المتبتّل، وكتاب الحقائق والرّقائق، وغير ذلك.
شعره: نقلت (7) من ذلك قوله: هذه لمحة العارض لتكملة ألفيّة ابن الفارض، سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت على ردّها بحول الله المعين.
من فصل الإقبال (8): [الطويل]
رفضت السّوى وهو الطّهارة عندما ... تلفّعت في مرط الهوى وهو زينتي
وجئت الحمى وهو المصلّى ميمّما ... بوجهة قلبي وجهها وهو قبلتي
وقمت وما استفتحت إلّا بذكرها ... وأحرمت إحراما لغير تجلّة (9)
فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ... سجود وإن لاهت (10) قيام بحسرة
__________
(1) في النفح: «أبو علي حسين بن حسين».
(2) هو محمد بن عبد السلام المنستيري، المتوفى سنة 750هـ. وترجمته في تاريخ قضاة الأندلس (ص 199) والتعريف بابن خلدون (ص 19) والديباج المذهب (ص 336) ونيل الابتهاج (ص 240).
(3) في النفح: «الأجمي».
(4) في النفح: «بن رضي».
(5) النص في نفح الطيب (ج 7ص 266).
(6) في النفح: «أصل».
(7) النص في نفح الطيب (ج 7ص 306).
(8) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 308306).
(9) في النفح: «تحلّة» بالحاء غير المعجمة.
(10) لاهت: تسترت. محيط المحيط (لاه).(2/125)
على أننا في القرب والبعد واحد ... تؤلّفنا (1) بالوصل عين التّشتّت
وكم من هجير خضت ظمآن طاويا ... إليها وديجور طويت برحلة (2)
وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ... بزرقة (3) أسنان الرّماح وحدّة
وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسّيك أيام الفجار ومؤتة
ولمّا اقتسمنا خطّتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برّة
خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضيّة
وكم لي على حكم الهوى من تجلّد ... دليل على أنّ الهوى من سجيّتي
يقول سميري والأسا سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إلّا لمحنة
لو أنّ مجوسا بتّ موقد نارها ... لما ظلّ إلّا منهلا ذا شريعة
ولو كنت بحرا لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرّت (4)
فلا ردم من نقب (5) المعاول آمن ... ولا هدم إلّا منك (6) شيد بقوّة
فممّ تقول الأسطقسّات (7) منك أو ... علام مزاج ركّبت أو طبيعة
فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلّا فأنت الدّهر صاحب قعدة
فما أنت يا هذا الهوى؟ ماء أو هوا ... أم النار أم دسّاس عرق الأمومة؟
وإني على صبري كما أنت (8) واصف ... وحالي أقوى القائمين بحجّة
أقلّ الضّنى أن عجّ من جسمي الضّنى ... وما شاكه معشار بعض شكيّتي
وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلّا احترقت بلوعة
وأخفي الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي وأخفى الوجد صبر المودّة
وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحبّ أقلّي (9) ذكرها وفضيحتي
وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالأمس وسل حرّ الجفون الغزيرة
وأوجز أمري أنّ دهري كلّه ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة
__________
(1) في الأصل: «تألّفنا» والتصويب من النفح.
(2) طاويا: أي طاويا بطني من الجوع. طويت: قطعت واجتزت. لسان العرب (طوى).
(3) في الأصل: «مزرّقة» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) استحرّت: اشتدّت. محيط المحيط (حرر).
(5) في الأصل: «نقيب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في الأصل: «إلّاك شيّد» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(7) في الأصل: «الأسفطسات» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(8) في النفح: «أنا».
(9) في الأصل: «أفلي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.(2/126)
أروح وما يلقى التأسّف راحتي ... وأغدو ما يعدو التفجّع خطّتي
وكالبيض بيض الدهر والسّمر سوده ... مساءتها في طيّ طيب المسرّة
وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحبّ رؤيتي
سقام بلا برء، ضلال بلا هدى ... أوام بلا ريّ، دم لا بقيمة
ولا عتب فالأيام ليس لها رضا ... وإن ترض منها الصّبر فهو تعنّتي (1)
ألا أيها اللّوّام عني قوّضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي
ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلّوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي
فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنّت
تجلّى وأرجاء الرّجاء حوالك ... ورشدي غاو والعمايات عمّت
فلم يستبن حتى كأني كاسف ... وراجعت إبصاري (2) له وبصيرتي
ومن فصل الاتصال (3): [الطويل]
وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الرّدى بين الظّبا والأسنّة
فجاوزت في حدّي مجاهدتي له ... مشاهدتي لمّا سمت بي همّتي
وحلّ جمالي في الجلال فلا أرى ... سوى صورة التّنزيه في كلّ صورة
وغبت عن الأغيار في تيه حالتي ... فلم أنتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي
وكاتبت ناسوتي بأمّارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنّة
وعلم يقيني صار عينا حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي
وبدّلت بالتّلوين تمكين عزّة ... ومن كلّ أحوالي مقامات رفعة
وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبّتي
وكم جلت في سمّ الخياط (4) وضاق بي ... لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة
وما اخترت إلّا دنّ بقراط زاهدا ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة
وفقري مع الصّبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي
وأكتم حبّي ما كنى عنه أهله ... وأكني إذا هم صرّحوا بالخبيّة
وإنّي في جنسي ومنه لواحد ... كنوع، ففصل النوع علّة حصّتي
__________
(1) في الأصل: «بغيتي» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «أبصاري»، والتصويب من النفح.
(3) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 309308) وجاء فيه: «وفي» بدل «ومن».
(4) سمّ الخياط: ثقب الإبرة. محيط المحيط (سمم) و (خيط).(2/127)
تسبّبت في دعوى التوكّل ذاهبا ... إلى أنّ أجدى حيلتي ترك حيلتي
وآخر حرف صار مني أولا ... مريدا وحرف في مقام العبودة
تعرّفت يوم الوقف منزل قومها ... فبتّ بجمع سدّ خرق التّشتّت
فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعيّة
فبايعتها بالنفس دارا سكنتها ... وبالقلب منه منزلا فيه حلّت
فخلّص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة
فيا نفس لا ترجع تقطّع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة
ومن فصل الإدلال (1): [الطويل]
تبدّت (2) لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤداي من سناها بلفحة (3)
ومرّت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدّت لها فيك القران وقرّت
ملامي أبن، عذري استبن، وجدي استعن ... سماعي أعن، حالي أبن، قائلي اصمت
فمن شاهدي سخط ومن قاتلي (4) رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي
مرامي إشارات، مراعي تفكّر (5) ... مراقي نهايات، مراسي تثبّت
وفي موقفي والدّار أقوت رسومها ... تقرّب أشواقي تبعّد حسرتي
معاني أمارات، مغاني تذكّر ... مباني بدايات، مثاني تلفّت
وبثّ غرام، والحبيب بحضرة ... وردّ سلام والرقيب بغفلة
ومطلع بدر في قضيب على نقا ... فويق محلّ عاطل دون دجية
ومكمن سحر بابليّ له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السّمهريّة
ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غضّ بجنّة وجنّة
ورصف اللآلي في اليواقيت كلّما ... تعلّ بصرف الرّاح في كل سحرة
سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة
ورمّان كافور عليه طوابع ... من الندّ (6) لم تحمل به بنت مزنة
ولطف هواء بين خفق وبانة ... ورقّة ماء في قوارير فضّة
لقد عزّ الصّبر حتى كأنّه ... سراقة لحظ منك للمتلفّت
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 311309).
(2) في الأصل: «تبوّب»، والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «بلفعة» والتصويب من النفح.
(4) في النفح: «قائلي».
(5) في الأصل: «تعكر» والتصويب من النفح.
(6) النّدّ: عود يتبخّر به. لسان العرب (ندد).(2/128)
وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة
وكلّ فصيح منك يسري لمسمعي ... وكلّ مليح منك يبدو لمقلتي
تهون عليّ النّفس فيك وإنها ... لتكرم أن تغشى سواك بنظرة
فإن تنظريني بالرّضا تشف علّتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلّتي
وإن تذكريني والحياة بقيدها ... عدلت لأمتي منيتي بمنيّتي
وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ... تجلّت دجاه عند ذاك وولّت
صليني وإلّا جدّدي الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلّت
فما أمّ بوّ هالك بتنوفة (1) ... أقيم لها خلف الحلاب فدرّت
فلمّا رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنّت
بكت كلّما راحت عليه وإنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنّت
بأكثر منّي لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصّبر أحسن حلية
فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنّت
أهوّن ما ألقاه إلّا من القلى ... هوى ونوى نيل الرّضا منك بغيتي
أخوض الصّلى أطفي العلا والعلوّ لا ... أصلّ السّلا أرعى الخلى بين عبرتي
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة
وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت
فغنّت غناء أعجميّا فهيّجت ... غرامي من ذكرى عهود تولّت
فأرسلت الأجفان سحبا وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنّت (2)
نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي فصلّى وصلّت
فيا لهما قلبا شجيّا ونظرة ... حجازيّة لو جنّ طرف لجنّت
ووا عجبا للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف سترة
وللعين لمّا سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطّنت كيف دلّت
وكنّا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامي بأعلام العلا كلّ رتبة
إلى مستوى ما فوقه فيه (3) مستوى ... فلمّا توافينا ثبثّ وزلّت
__________
(1) البوّ: ولد الناقة. التنوفة: الأرض الواسعة التي لا ماء فيها ولا إنسان. محيط المحيط (بوو) و (تنف).
(2) أكنّت: سترت. محيط المحيط (كنن).
(3) كلمة «فيه» ساقطة من الإحاطة، وقد أضفناها من النفح.(2/129)
وكنّا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدى قبر شيبة
مؤكدة بالنّذر أيام عهده ... فلمّا تواثقنا اشتددت وحلّت
ومن فصل الاحتفال (1): [الطويل]
أزور اعتمارا أرضها بتنسّك ... وأقصد حجّا بيتها بتحلّة
وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كلّ فطرة
ولولا خفاء الرّمز لا ولن ولم ... تجدها لشملي مسلكا بتشتّت
ولو لم يجدّد عهدنا عقد خلّة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة
بعثت إلى قلبي بشيرا بما رأت ... على قدم عيناي منه فكفّت
فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشّام من نور الصفات الكريمة
فيالك من نور لو أنّ التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النّفيسة
تحدّث أنفاس الصّبا أن طيبها ... بما حملته من حراقة حرقة
وتنبىء آصال الربيع عن الرّبا ... وأشجاره إن قد تجلّت فجلّت
وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنّت بترجيعي (2) على كلّ أيكة
فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قرّبتني بخلّة
تبدّى وما زال الحجاب ولا دنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي
له كلّ غير في تجلّيه مظهر ... ولا غير إلّا ما محت كفّ غيرة
تجلّي دليل واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان ومحو تثبّت
فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو الشيء لم تحمد فجار أليّتي
وفي كل خلق منه كلّ عجيبة ... وفي كلّ خلق منه كل لطيفة
وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة
أراه بقلب (3) القلب واللّغز كامنا ... وفي الزّجر والفال الصحيح الأدلة
وفي طيّ أوفاق الحساب وسرّ ما ... يتمّ من الأعداد فابدأ بستّة
وفي نفثات السّحر في العقد التي ... تطوع (4) لها كلّ الطّباع الأبيّة
يصوّر شكلا مثل شكل ويعتلي ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 313311).
(2) الترجيع: ترديد الصوت، وأراد هنا الغناء. لسان العرب (رجع).
(3) في الأصل: «يقلّب» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(4) في الأصل: «تطوّع» وهكذا ينكسر الوزن.(2/130)
وفي كلّ تصحيف وعضو بذاته ... اختلاج وفي التّقويم مجلى لرؤية
وفي خضرة الكمّون تزجي شرابه ... مواعيد عرقوب على إثر صفرة
وفي شجر قد خوّفت قطع أصلها ... فبان بها حمل لأقرب مدّة
وفي النّخل في تلقيحه واعتبر بما ... أتى فيه عن غير البريّة واسكت
وفي الطابع السّبتي في الأحرف التي ... يبيّن منها النّظم كلّ خفية
وفي صنعة الطّلسم والكيمياء وال ... كنوز وتغوير المياه المعينة
وفي حرز أقسام المؤدّب محرز ... وحزب أصيل الشّاذليّ وبكرة
وفي سيمياء الحاتميّ ومذهب اب ... ن سبعين إذ يعزى إلى شرّ بدعة
وفي المثل الأولى وفي النّحل الألى ... بها أوهموا لمّا تساموا بسنّة
وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلّا ناطقا بعجيبة
فلا سرّ إلّا وهو فيه سريرة ... ولا جهر إلّا وهو فيه كحلية
سل الذّكر عن أنصاف أصناف ما ابتنى ... عليه الكلام من حروف سليمة
وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدّها وتثبّت
فلا بدّ من رمز الكنوز لذي الحجا ... ولا ظلم إلّا ظلم صاحب حكمة
ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مسّ البرد خوفي لميتتي
ولو لم تداركني ولكن بعطفها ... درجت رجائي أن نعتني خيبتي
ولو لم تؤانسني عنّا قبل لم ولم ... قضى العتب منّي بغية بعد وحشتي
ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هوّنت بالصبر كلّ بليّة
ومن فصل الاعتقال (1): [الطويل]
سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة
وذلك لما أطلع الشمس في الدّجى ... محيّا ابنة الحيّين في خير ليلة
يمانيّة لو أنجدت حين أنجدت (2) ... لما أبصرت عيناك حيّا كميّت
لأصحمة (3) في نصحها قدم بنى ... لكلّ نجاشيّ بها حصن ذمّة
ألمّت فحطّت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التّوديع حتى استقلّت
__________
(1) القصيدة في نفح الطيب (ج 7ص 315313).
(2) أنجدت الأولى: من النجدة. وأنجدت الثانية: دخلت نجدا. لسان العرب (نجد).
(3) أصحمة: هو نجاشي الحبشة، الذي استقبل بالحبشة مهاجري المسلمين وأحسن معاملاتهم، ولمّا توفّي صلّى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.(2/131)
فلو سمحت لي بالتفات وحلّ من ... مهاوي الهوى والهون جدّ تفلّتي
ولكنها همّت بنا فتذكّرت ... قضاء قضاة الحسن قدما فصدّت
أجلت خيالا إنني لا أجلّه ... ولم أنتسب منه لغير تعلّة
على أنني كلّي وبعضي حقيقة ... وباطل أوصافي وحقّ حقيقتي
وجنسي وفصلي والعوارض كلّها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي (1)
وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيّتي القدسيّة
وفي كلّ لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معنى منه معنى للوعتي
ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمري والورى تحت قبضتي
ووقتي شهود في فناء شهدته ... ولا وقت لي إلّا مشاهد غيبة
أراه معي حسّا ووهما وإنه ... مناط الثّريّا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقّن سمعي ما توسوس مهجتي
ملأت بأنوار المحبّة باطني ... كأنّك نور في سرار سريرتي
وجلّيت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنّك في أفقي كواكب زينة
فأنت الذي أخفيه عند تستّري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي
فته أحتمل، واقطع أصل واعل استفل ... ومر أمتثل واملل أمل، وارم أثبت
فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكنة
ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إلّا إليك بمنّة
تعلّقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة
وحامت حواليها وما وافقت حمى ... سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي
فلو فاتني منك الرّضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة
ولو كنت في أهل اليمين منعّما ... بكيت على ما كان من سبقيّة
وكم من مقام قمت عنك مسائلا ... أرى كلّ حيّ كلّ حيّ وميّت
أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علما يبرّد غلّتي
ولم يدر قولي ابن سيناء سائلا ... فقل كيف أرجو عنده برء علّتي
فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيّتي؟
لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعي بينهم طول مدّتي
فقيّض لي نهجا إلى الحقّ سالكا ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي
__________
(1) يستعمل الشاعر في هذا البيت اصطلاحات علم المنطق.(2/132)
فحصّنت أنظار الجنيد (1) جنيدها ... بترك فلي من رغبة ريح رهبة
وكسّرت عن رجل ابن أدهم أدهما ... وأنقذته من أسر حبّ الأسرة
وعدت على حلّاج شكري (2) بصلبه ... وألقيت بلعام التّفاتي (3) بهوّة
فقولي مشكور ورأيي ناجح ... وفعلي محمود بكلّ محلّة
رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرّضا فيه جلّتي
فعشت ولا ضيرا أخاف ولا قلى ... وصرت حبيبا في ديار أحبّتي
فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلّغ نفسي منهم ما تمنّت
وأنشدني قوله في حال قبض وقيّدتها عنه (4): [الطويل]
إليك بسطت الكفّ أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطّرف أستشعر الذّلّا
وها أنا ذا قد قمت (5) يقدمني الرّجا ... ويحجمني (6) الخوف الذي خامر العقلا
أقدّم رجلا إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرّجلا
ولي عثرات لست آمل أن هوت ... بنفسي ألّا أستقل وأن أصلى
فإن تدرّكني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى
قال، ومما نظمته من الشعر (7): [مجزوء الكامل]
وجد تسعّره الضلو ... ع وما تبرّده المدامع
همّ تحرّكه الصّبا ... بة والمهابة لا تطاوع
أملي (8) إذا وصل الرّجا ... أسبابه فالموت قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشّاق صانع؟
قال: ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء (9): [الرمل]
نحن، إن تسأل بناس، معشر ... أهل ماء فجّرته الهمم
عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السّمر الطوال الخيم
__________
(1) في الأصل: «الجند» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(2) في الأصل: «سكرى» والتصويب من النفح.
(3) في الأصل: «التفاني» والتصويب من النفح.
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 315).
(5) في الأصل: «قدمت» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من النفح.
(6) في النفح: «ويحجم بي».
(7) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 315).
(8) في النفح: «أمل».
(9) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 316315).(2/133)
عرّضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم
أورثونا المجد حتى إننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم
ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوي إذا ما اقتحموا
قال: ومما قلته مذيّلا به قول القاضي أبي بكر بن العربي (1): [مجزوء الوافر]
أما والمسجد الأقصى ... وما يتلى به نصّا
لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا
قولي: [مجزوء الوافر]
فأقلع بي إليه هوى ... جناحا عزمه قصّا (2)
أقلّ القلب واستعدى ... على الجثمان فاستعصى
فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى
قال: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدوّنة (3): [البسيط]
لا تعجبنّ لظبي قد دها أسدا ... فقد دها أسدا من قبل سحنون
قال: ومما قلته من الشعر (4): [البسيط]
أنبتّ عودا بنعماء (5) بدأت بها ... فضلا وألبستها بعد اللّحى الورقا
فظلّ مستشعرا مستدثرا أرجا (6) ... ريّان ذا بهجة يستوقف الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ... عوّدته من جميل من لدن خلقا
وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ... وغذّه برجاء واسقه غدقا (7)
واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقا
ومما قيّدت عنه أيام مجالسته ومقامه بغرناطة، وقد أجرى ذكر أبي زيد ابن الإمام، أنه (8) شهد مجلسا بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمّو،
__________
(1) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 316).
(2) أقلع: نشر شراع السفينة، وهنا يشبّه الهوى بالملّاح.
(3) البيت في نفح الطيب (ج 7ص 316).
(4) الأبيات في نفح الطيب (ج 7ص 317).
(5) في النفح: «لنعماء».
(6) مستشعرا: لابسا الشعار، وهو اللباس الذي يلامس البدن. مستدثرا: لابسا الدثار. لسان العرب (شعر) و (دثر).
(7) الغدق: بالفتح: الماء الكثير. لسان العرب (غدق).
(8) النص في نفح الطيب (ج 7ص 211208).(2/134)
ذكر فيه أبو زيد المذكور، أن ابن القاسم مقيد بالنظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشذالي (1)، وادّعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه أو (2) يبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة. قال: فلو تقيّد بمذهبه لم يخالفه لغيره، فاستظهر أبو زيد بنصّ لشرف الدين بن (3) التلمساني، ومثّل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك، والمزني إلى الشافعي. فقال أبو موسى عمران (4): هذا مثال، والمثال لا يلزم (5) صحّته، فصاح به أبو زيد (6) ابن الإمام وقال لأبي عبد الله بن أبي عمر (7): تكلّم، فقال: لا أعرف ما قال هذا الفقيه، والذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثّل به، فقال أبو موسى للسلطان: هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما (8)
يومئذ، وأنا حديث السن: ما أنصفهما (9) الرّجل، فإن المثل (10) كما يؤخذ على جهة التحقيق، كذلك يؤخذ على جهة التقريب، ومن ثمّ جاء ما قال (11) هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمران (12)، وكيف لا وهذا سيبويه يقول: وهذا مثال ولا يتكلّم به، فإذا صحّ أن المثال قد يكون تقريبا، فلا يلزم صحة المثال، ولا فساد الممثّل لفساده، فهذان القولان من أصل واحد.
وقال: شهدت مجلسا آخر عند هذا السلطان، قرىء فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله»، من (13) صحيح مسلم، فقال له الأستاذ أبو إسحاق بن حكم السّلوي: هذا الملقّن محتضر حقيقة، ميّت مجازا، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة؟ فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه. وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض «التنقيح»، فقلت: زعم القرافي أن المشتقّ إنما يكون حقيقة في الحال، مجازا في الاستقبال، مختلفا فيه في الماضي، إذا كان محكوما به.
وأمّا (14) إذا كان متعلّق الحكم كما هنا، فهو حقيقة مطلقا إجماعا، وعلى هذا التقرير لا مجاز ولا سؤال. ولا يقال: إنه احتجّ على ذلك بما فيه نظر لأنّا نقول: إنه نقل الإجماع، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب عنها (15) بالدليل، كما ذكر أيضا. بل
__________
(1) في النفح: «المشدّالي».
(2) في النفح: «ويبلغه».
(3) كلمة «بن» غير واردة في نفح الطيب.
(4) في النفح: «فقال عمران».
(5) في النفح: «تلزم».
(6) في النفح: «أبو موسى».
(7) في النفح: «عمرو».
(8) في النفح: «لهما وأنا يومئذ حديث».
(9) في النفح: «أنصفتما».
(10) في النفح: «المثل كما تؤخذ».
(11) في النفح: «قاله».
(12) في النفح: «عمرو».
(13) في النفح: «في».
(14) في النفح: «أمّا».
(15) في النفح: «مدّعيها».(2/135)
نقول: إنه أساء حيث احتجّ في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطّهارة ونحوها. بل هذا أشنع، لكونه مما علم كونه من الدّين ضرورة (1). ثم إنّا لو سلّمنا نفي الإجماع، فلنا أن نقول: إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة لأنّ تلقينه قبل ذلك، إن لم يدهش، فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين: أي لقّنوا من تحكمون بأنه ميت. أو يقال (2): إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام، ألا ترى اختلافهم فيه: هل هو (3) أخذ من حضور الملائكة أو حضور الأجل، أو حضور الجلّاس؟ ولا شك أن هذه حالة خفيّة يحتاج في نصها (4) إلى دليل الحكمة أو إلى وصف ظاهر يضبطها، وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضا ممّا لا يعرّف بنفسه، بل بالعلامات. فلمّا وجب اعتبارها، وجب كون تلك التسمية إشارة إليها، والله أعلم.
وقال: وكان أبو زيد يقول، فيما جاء من الأحاديث: ما (5) معنى قول ابن أبي زيد: «وإذا سلّم الإمام، فلا يلبث (6) بعد سلامه ولينصرف»، وذلك بعد أن ينتظر (7)
من يسلّم من خلفه لئلّا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق جمعا بين الأدلة.
وقلت (8): وهذا من ملح الفقيه. وقال: كان أبو زيد يعني الإمام، يصحّف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها، فيقول: و «المفارقات»، ولعلّه في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لمّا قرأ عليه: [مجزوء الكامل]
وغررتني وزعمت أنك ... لابن في الصّيف (9) تامر
فقال: [مجزوء الكامل]
وغررتني وزعمت أنك ... لا تني (10) بالضّيف تامر
فقال: أنت في تصحيفك أشهر من الحطيئة، أو كما يحكى (11) عن الشافعي أنه لما صلّى في رمضان بالخليفة، لم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في
__________
(1) في النفح: «بالضرورة».
(2) في النفح: «أو نقول».
(3) كلمة «هو» غير واردة في النفح.
(4) في النفح: «في نصبها دليلا على الحكم إلى وصف».
(5) في النفح: «من».
(6) في النفح: «يثبت».
(7) في النفح: «ينتظر بقدر ما يسلّم».
(8) في النفح: «قلت».
(9) في النفح: «بالصيف».
(10) في النفح: «لابن».
(11) في النفح: «كما حكي عمن صلّى بالخليفة في رمضان، ولم».(2/136)
المصحف، وقرأ الآية «صنعة الله أصيب بها من أساء. إنما المشركون نحس. وعدها إياه (1)، تقية لكم خير لكم. هذا أن دعوا للرحمن ولدا، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» (2).
وقال (3): وذكر أبو زيد ابن الإمام في مجلسه يوما أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشريطتين (4): {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23) (5)، فإنهما يستلزمان (6) بحكم الإنتاج «ولو علم الله فيهم خيرا لتولّوا وهم معرضون» وهو محال. ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم: قال الخونجي: والإهمال بإطلاق لفظه، لو وأن في المتّصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزئية، ولا قياس على (7) جزئيّتين. فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين، أخبرته بهذا، وبما أجاب به الزّمخشري وغيره، ممّا يرجع إلى انتفاء أمر (8) تكرار الوسط. فقال لي: الجوابان في المعنى سواء لأن القياس على الجزئيّتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرار (9) الوسط. وأخبرت بذلك شيخنا أبا عبد الله الآبلي، فقال: إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين، إلى سائر ما يشترط، فقلت: ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلا لمجمل ما ينبني عليه الوسط (10) وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن حسين. قال الآبلي: وأجبت بجواب السّلوي، ثم رجعت إلى ما قاله الناس، لوجوب كون مهملات القرآن كلّية لأن الشّرطية لا تنتج جزئيّة. فقلت: هذا فيما يساق منها للحجة مثل {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (11). أما في مثل هذا فلا قلت (12). وكان يلزم السؤال الأول لو لم يكن للمتولي سبب تأخر، حسبما تبين في مسألة، لو لم يطع الله، فلينظر ذلك في اسم شيخنا أبي بكر يحيى بن هذيل رحمه الله.
وقال (13): لما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن بن فرحون، نزيل طيبة، على تربتها السلام، سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين: [الوافر]
__________
(1) في النفح: «أباه».
(2) في النفح: «يعنيه».
(3) النص في نفح الطيب (ج 7ص 215).
(4) في النفح: «الشرطيتين».
(5) سورة الأنفال 8، الآية 23.
(6) في النفح: «تستلزمان».
(7) في النفح: «عن».
(8) في النفح: «انتفاء تكرر الوسط».
(9) في النفح: «تكرر».
(10) في النفح: «من الوسط».
(11) سورة الأنبياء 21، الآية 22.
(12) كلمة «قلت» غير واردة في النفح.
(13) النص في نفح الطيب (ج 7ص 218215).(2/137)
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلنا (1) بالرّقمتين
كلانا ناظر قمرا ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
ففكّر ثم قال: لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لفرط (2) الاستحسان يرى أنها الحقيقة. فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة. وأيضا وهو ينظر إلى قمر مجازا، وهو لإفراطه استحسانها (3) يرى أنّ قمر السماء هو المجاز، فقد رأت بعينه لأنها ناظرة المجاز.
قلت: ومن هذا يعلم وجه الفاء في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} والفاء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني، فتأمّله، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ كل (4) الفهم، ينشده: «وأذكرتني». فالفاء في البيت الأول، منبّهة على الثاني، وهذا النحو يسمى «الإيذان في علم البيان».
وقال: سألني ابن حكم عن نسب هذا (5) المجيب في هذا البيت: [الكامل]
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحبّ حرام
ففكرت ثم قلت له (6): أراه تميميا لإلغائه «ما» النافية. فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. وسأل ابن فرحون ابن حكم يوما (7): هل تجد في التّنزيل ستّ فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت: [البسيط]
رأى فحبّ فرام الوصل فامتنعت ... فسام صبرا فأعيا نيله فقضى
ففكر ابن (8) حكم، ثم قال: نعم قوله عزّ وجلّ: {فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نََائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنََادَوْا} (9) إلى آخرها، فمنعت له البناء في {فَتَنََادَوْا}.
فقال لابن فرحون: فهل عندك غيره؟ فقال: نعم، قوله عزّ وجلّ: {فَقََالَ لَهُمْ رَسُولُ اللََّهِ نََاقَةَ اللََّهِ وَسُقْيََاهََا} (13) (10) إلى آخرها، فمنع لهم بناء الآخرة لقراءة الواو. فقلت له: امنع ولا تسند، فيقال (11): إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السّند لا يسمع الكلام عليه. وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام: {فَعَلَى اللََّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}
__________
(1) في النفح: «وصلها».
(2) في النفح: «لإفراط».
(3) في النفح: «الاستحسان «لها يرى».
(4) في النفح: «حقّ».
(5) كلمة «هذا» غير واردة في النفح.
(6) كلمة «له» غير واردة في النفح.
(7) كلمة «يوما» غير واردة في النفح.
(8) في النفح: «ففكر ثم قال».
(9) سورة القلم 68، الآيات 2119.
(10) سورة الشمس 91، الآية 13.
(11) في النفح: «فيقال لك».(2/138)
{وَشُرَكََاءَكُمْ} (1). وكقول امرئ القيس: «غشيت ديار الحيّ بالبكرات، البيتين (2)». لا يقال قوله: فالحبّ (3) سابع لأنا نقول إنه عطف على «عاقل» المجرّد منها، ولعلّ حكمة السّتة أنها أول الأعداد التامة، كما قيل في حكمة خلق السماوات والأرض فيها، وشأن اللسان عجيب.
وقال (4): سمعت ابن حكم يقول: كتب (5) بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
[المجتث]
ابعث إليّ بشيء ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... ممّا أشير إليه
فبعث إليه ببطّة من مرّي (6) شرب، يشير بذلك إلى الرّياء.
وحدّثت أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم دعي (7) إلى وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس بن الأشقر غضارا من اللّوز المطبوخ بالمرّي، لمناسبة لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرّض له بالرياء. وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فقدّم (8) له القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته.
وقال عند ذكر شيخه أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد المجاصي: دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السّطي في أيام عيد، فقدّم لنا طعاما، فقلت: لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث «من أكل مع مغفور له، غفر له» فتبسّم، وقال لي: دخلت على سيدي أبي عبد الله الفاسي بالإسكندرية، فقدّم
__________
(1) سورة يونس 10، الآية 71.
(2) بينا امرئ القيس هما [الطويل]:
غشيت ديار الحيّ بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحلّيت فمنعج ... إلى عاقل فالجبّ ذي الأمرات
ديوان امرئ القيس (ص 78).
(3) في النفح: «فالجبّ».
(4) النص في نفح الطيب (ج 7ص 221218).
(5) في النفح: «بعث».
(6) البطّة: إناء كالقارورة. محيط المحيط (بطط). والمرّي، بتشديد الراء: نوع من مستحضرات تتخذ في صنع الأطعمة، ويقال إنه مركب يصنع من الدقيق والملح والعسل والتمر وأشياء أخرى. ويقال هو نوع يعمل من السمك المالح واللحوم المالحة. ملحق معجم المعاجم العربية لدوزي (مادة مري) وكتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين (ص 82).
(7) في النفح: «حضر وليمة».
(8) في النفح: «فناوله القاضي».(2/139)
لنا (1) طعاما، فسألته عن هذا الحديث فقال: وقع في نفسي (2) شيء، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عنه، فقال (3): لم أقله، وأرجو أن يكون كذلك. وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان، بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي، بمصافحته أبا العباس أحمد الملثّم، بمصافحته المعمّر، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدّث عن شيخه أبي محمد الدّلاصي، أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصّه لدينه وعقله، بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق (4) بمماليكه: يا ساقي، يا طبّاخ، يا مزين. فناداه (5) ذات يوم: يا فرّاش، فظنّ أن (6) ذلك لموجدة (7) عليه. فلم ير أثر ذلك، وتصوّرت له به خلوة، فسأله عن مخالفته لعادته (8)، فقال له: لا عليك، كنت يومئذ جنبا، فكرهت أن أذكر (9) اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تلك الحالة. وقال: أنشدني المجاصي، قال: أنشدني الإمام (10)
نجم الدين الواسطي، قال: أنشدني شرف الدين الدمياطي، قال: أنشدني تاج الدين الآمدي (11)، مؤلف «الحاصل»، قال: أنشدني الإمام فخر الدين (12) لنفسه:
[الطويل]
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة (13) من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى (14) ووبال (15)
__________
(1) كلمة «لنا» غير واردة في النفح.
(2) في النفح: «نفسي منه شيء».
(3) في النفح: «فقال لي».
(4) يقال: نعق الغراب إذا صوّت، ونعق الراعي الغنم: صاح بها، وينعق بمماليكه: ينادي. لسان العرب (نعق).
(5) في النفح: «فنادى به ذات».
(6) كلمة «أن» غير واردة في النفح.
(7) الموجدة: الغضب. لسان العرب (وجد).
(8) في النفح: «لعادته معه فقال».
(9) في النفح: «فكرهت ذكر رسول».
(10) كلمة «الإمام» غير واردة في النفح.
(11) في النفح: «الأرموي».
(12) هو فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن البكري الطبرستاني الأصل، الرازي المولد، إمام مفسّر وطبيب وأديب وشاعر. توفي سنة 606هـ. ترجمته في وفيات الأعيان (ج 4ص 82) وعيون الأنباء في طبقات الأطباء (ص 462) والبداية والنهاية (ج 13ص 55). وأبياته هذه في وفيات الأعيان (ج 4ص 84) وعيون الأنباء (ص 468) والوافي بالوفيات (ج 4ص 258257) ونفح الطيب (ج 7ص 221220). وفي البداية والنهاية (ص 56) فقط البيتان الثاني والثالث.
(13) في عيون الأنباء: «في عقلة».
(14) في الوافي بالوفيات: «ردى».
(15) في الأصل: «ودبال»، والتصويب من المصادر المذكورة.(2/140)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال (1)
وكم من رجال قد رأينا ودولة (2) ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال (3)
وقال (4): وقد مرّ من ذكر الشريف القاضي أبي علي حسين بن يوسف بن يحيى الحسني في عداد شيوخه وقال: حدّثني أبو العباس الرّندي عن القاضي أبي العباس بن الغمّاز (5)، قال: لمّا قدم القاضي أبو العباس بن الغماز من بلنسية، نزل بجاية فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع (6)، فجاء عبد الحق يوما، وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته، وكملت هيئته، فلمّا نظر إليه ابن الغماز أنشده:
[الخفيف]
لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها (7)
لو زليخا رأته حين تبدّى ... لتمنّته أن يكون فتاها
وقال أيضا: إن ابن الغمّاز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزّيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلّوه (8). وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهلّه، فردّهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة. وقد (9) وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع بن سالم (10)، فأنشدنا فيه: [الطويل]
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محيّاه
فلمّا تصدّى لارتقاب شقيقه ... تبدّى له دون الأنام فحيّاه
__________
(1) في الوافي بالوفيات: «طول دهرنا سوى فيه قلت وقالوا».
(2) في وفيات الأعيان وعيون الأنباء: «وكم قد رأينا من رجال ودولة».
(3) في المصدرين السابقين: «فزالوا» بدل «فماتوا». ورواية عجز البيت في الوافي بالوفيات هي:
ومال فزالت والجبال جبال
(4) النص في نفح الطيب (ج 7ص 222).
(5) هو أحمد بن محمد بن الحسن بن الغماز الأنصاري ولي قضاء بجاية، وتوفي بتونس سنة 693هـ. عنوان الدراية (ص 70).
(6) لعبد الحق بن ربيع ترجمة ضافية في عنوان الدراية (ص 32).
(7) تاها: فعل ماض من التيه، والألف للإطلاق، وأصل القول: تاه.
(8) لم يهلّوه: لم يروه. لسان العرب (هلل).
(9) كلمة «وقد» غير واردة في النفح.
(10) هو سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي، المتوفى سنة 634هـ. وسيترجم له ابن الخطيب في الجزء الرابع من الإحاطة.(2/141)
وجرى في ذكر أبي عبد الله بن النجار (1)، الشيخ التعالمي من أهل تلمسان، فقال (2): ذكرت يوما قول ابن الحاجب فيما يحرّم من النساء بالقرابة، وهي «أصول وفصول، أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا»، فقال: إن تركّب لفظ التّسمية العرفية من الطّرفين حلّت، وإلّا حرمت، فتأمّلته، فوجدته كما قال: لأن أقسام هذا الضابط أربعة: التّركيب من الطرفين، كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت، والتركيب (3) من قبل الرجل كابنة الأخ والعمّ مقابله كابن الأخت والخالة.
وذكر الشيخ الرئيس أبا محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي. وقال (4):
كان ينكر إضافة الحول إلى الله عزّ وجلّ، فلا يجيز أن يقال: «بحول الله وقوّته»، قال: لأنه لم يرد إطلاقه (5)، والمعنى يقتضي امتناعه لأنّ الحول كالحيلة، أو قريب منها.
وحكى (6) عن شيخه أبي زيد عبد الرحمن الصّنهاجي (7)، عن القاضي أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدّكالي، أنه اختصم عنده رجلان في شاة، ادّعى أحدهما أنه أودعها الآخر، وادّعى الآخر أنها ضاعت منه، فأوجب اليمين على المودع (8) أنها ضاعت من غير تضييع، فقال: كيف أضيّع، وقد شغلتني حراستها عن الصلاة، حتى خرج وقتها؟ فحكم عليه بالغرم، فقيل له في ذلك، فقال: تأوّلت قول عمر: و «من ضيّعها فهو لما سواها أضيع».
وحكى عن الشيخ الفقيه رحلة الوقت أبي عبد الله الآبلي، حكاية في باب الضّرب، وقوة الإدراك، قال (9): كنت يوما مع القاسم بن محمد الصّنهاجي، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها: [السريع]
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار، وترجمته في التعريف بابن خلدون (ص 47) ونيل الابتهاج (ص 239) وجذوة الاقتباس (ص 190) ونفح الطيب (ج 7ص 224).
(2) النص في نفح الطيب (ج 7ص 225).
(3) في النفح: «التركب».
(4) النص في نفح الطيب (ج 7ص 228227).
(5) إطلاق الأسماء على الله سبحانه وتعالى مختلف فيه بين العلماء.
(6) النص في نفح الطيب (ج 7ص 229).
(7) في النفح: هو أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن علي الصنهاجي المكتب.
(8) في النفح: «المودع عنده أنها».
(9) النص في نفح الطيب (ج 7ص 232231).(2/142)
فقال لي: ما مطلبه؟ فقلت: «نارنج». ودخل (1) عليه وأنا عنده بتلمسان الشيخ الطبيب (2) أبو عبد الله الدبّاغ المالقي (3)، فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشّطر:
«ثمّ حبيب قلّما ينصف» فأخذته وكتبته، ثم قلبته وصحّفته، فإذا به (4): قصبتا ملفّ شحمي.
وقال: قال (5) شيخنا الآبلي: لما نزلت تازة مع أبي الحسن بن برّي، وأبي عبد الله التّرجالي، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما إلى (6) الكلام، فاستكشفت منهما عن معنى هذا البيت للمعري: [الطويل]
أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فجعلا يفكّران فيه، فنمت حتى أصبحا، ولم يجداه، وسألوني عنه، فقلت:
معناه «أقول لعبد الله لمّا وهي سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس: شم لنا برقا».
قلت: وفيه نظر (7). وإن استقصينا مثل هذا، خرجنا عن الغرض.
مولده: نقلت من خطه: كان (8) مولدي بتلمسان أيام أبي حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان. وقد وقفت على تاريخ ذلك، ورأيت (9) الصّفح عنه لأن أبا الحسن بن موسى (10) سأل أبا الطاهر السّلفي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا الفتح بن زيّان بن مسعدة (11) عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت (12) محمد بن علي بن محمد اللبّان عن سنّه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت حمزة بن يوسف السّهمي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا بكر محمد بن علي النفزي (13) عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا إسماعيل التّرمذي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي (14) عن
__________
(1) في النفح: «دخل عليه الآبلي وأنا».
(2) كلمة «الطبيب» غير واردة في النفح.
(3) في النفح: «المالقي المتطبب».
(4) في النفح: «فإذا هو».
(5) النص في نفح الطيب (ج 7ص 233).
(6) في النفح: «عن الكلام، فاستكشفتهما».
(7) في النفح: «قلت: وفي جواز مثل هذا نظر».
(8) النص في نفح الطيب (ج 7ص 199198).
(9) في النفح: «ولكني رأيت».
(10) في النفح: «مؤمن».
(11) قوله: «بن مسعدة» غير وارد في النفح.
(12) في النفح: «سألت علي بن محمد اللبان».
(13) في النفح: «محمد بن عدي المنقري».
(14) في النفح: «سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنّه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي».(2/143)
سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، ليس من المروءة إخبار الرجل عن سنّه (1).
وفاته: توفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين وسبعمائة، وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله. ونقل إلى تربة سلفه بمدينة تلمسان حرسها الله.
محمد بن عياض بن محمد بن عياض بن موسى اليحصبي
من أهل سبتة، حفيد القاضي الإمام أبي الفضل عياض، يكنى أبا عبد الله.
حاله: قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: كان من عدول القضاة، وجلّة سراتهم، وأهل النزاهة فيهم، شديد التحري في الأحكام والاحتياط، صابرا على الضعيف فيهم والملهوف، شديد الوطأة على أهل الجاه وذوي السّطوة، فاضلا، وقورا، حسن السّمت، يعرّفه كلامه أبدا، ويزينه ذلك لكثرة وقاره، محبّا في العلم وأهله، مقرّبا لأصاغر الطلبة، ومكرّما لهم، ومعتنيا بهم، معملا جهده في الدّفع عنهم، لما عسى أن يسوءهم ليحبّب إليهم العلم وأهله، ما رأينا بعده في هذا مثله. سكن مالقة مع أبيه عند انتقال أبيه إليها، إلى أن مات أبوه سنة خمس وخمسين وستمائة.
حدّثني شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب، وجرى ذكر إعرابه لفظ من حديثه عن شيوخه، قال: دخلت على القاضي المذكور، فسأل أحدنا عن أبيه، فقال: ابن فلان.
وذكر معرفة مشتركة بين تجّار فاس، فقال: أيهما الذي ينحت في الخشب، والذي يعمل في السلاح؟ فما فطن لقصده لسذاجته. وحدّثني عن ذكر جزالته أنها كانت تقع له مع السلطان مستقضيه، مع كونه مرهوبا، شديد السّطوة، وقائع تنبىء عن تصميمه، وبعده عن الهوادة منها أن السلطان أمر بإطلاق محبوس كان قد سجنه، فأنفذ بين يدي السلطان الأمر للسّجّان بحبسه، وتوعّده إن أطلقه. ومنها إذاعة ثبوت العيد في أخريات يوم كان قد أمل السلطان البروز إلى العيد في صباحه، فنزل عن القلعة ينادي: عبد الله، يا ميمون، أخبر الناس عن عيدهم اليوم، وأمثال ذلك.
مشيخته: قرأ بسبتة، وأسند بها، فأخذ عن أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري وغيره، ورحل إلى الجزيرة الخضراء، فأخذ بها كتاب سيبويه وغيره تفقيها على النحويّ الجليل أبي القاسم عبد الرحمن بن القاسم القاضي المتفنن. وأخذ بها أيضا كتاب «إيضاح الفارسي» عن الأستاذ أبي الحجاج بن مغرور، وأخذ بإشبيلية وغيرها
__________
(1) في النفح: «المروءة للرجل أن يخبر بسنّه».(2/144)
عن آخرين. وقرأ على القاضي أبي القاسم بن بقيّ بن نافحة، وأجاز له. وكتب له من أهل المشرق جماعة كثيرة، منهم أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح الصّيدلاني، وأجاز له بأصبهان، وهو سبط حسن بن مندة، أجاز له في شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وتحمل عن أبي علي الحداد، شيخ السّلفي الحافظ عن محمود الصيرفي ونظائرهما، وجماعة من إصبهان كثيرة كتبوا له بالإجازة. وكتب له من غيرها من البلاد نيّف وثمانون رجلا، منهم أحد وستون رجلا كتبوا له مع الشيخ المحدث أبي العباس المغربي، والقاضي أبي عبد الله الأزدي، وقد نصح على جميعهم في برنامجيهما، واستوفى أبو العباس الغربي نصوص الإسترعات، وفيها اسم القاضي أبو عبد الله بن عياض.
من روى عنه: قال الأستاذ أبو جعفر، رحمه الله: أجاز لي مرتين اثنتين (1).
وقال: حدّثني أبو عبد الله مشافهة بالإذن، أنبأنا أبو الطاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي كتابة من دمشق، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الرّازي، المعروف بابن الحطّاب، بالحاء المهملة، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الوهاب البغدادي بالفسطاط، أخبرنا موسى بن محمد بن عرفة السمسار ببغداد، قال أبو عمرو بن أحمد بن الفضل النّفزي: أخبرنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان، الصّابر منهم على دينه، كالقابض على الجمر».
هذا الإسناد قريب يعزّ مثله في القرب لأمثالنا، ممن مولده بعد الستمائة، وإسماعيل بن موسى من شيوخ التّرمذي، قد خرّج عنه الحديث المذكور، لم يقع له في مصنّفه ثلاثي غيره.
مولده: بسبتة سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وفاته: توفي بغرناطة يوم الخميس الثامن والعشرين لجمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة.
محمد بن عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى ابن عياض اليحصبي
من أهل سبتة، ولد الإمام أبي الفضل، يكنى أبا عبد الله.
__________
(1) في الأصل: «اثنين» وهو خطأ نحوي.(2/145)
حاله: كان فقيها جليلا، أديبا، كاملا. دخل الأندلس، وقرأ على ابن بشكوال كتاب الصّلة، وولي قضاء غرناطة. قال ابن الزّبير: وقفت على جزء ألّفه في شيء من أخبار أبيه، وحاله في أخذه وعلمه، وما يرجع إلى هذا، أوقفني عليه حفدته بمالقة.
وفاته: توفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد ابن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان ابن عبد السلام بن جبير الكناني (1)
الواصل إلى الأندلس.
أوّليّته: دخل جدّه عبد السلام بن جبير في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري في محرم ثلاث وعشرين ومائة. وكان نزوله بكورة شدونة. وهو من ولد ضمرة بن كنانة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. بلنسي الأصل، ثم غرناطي الاستيطان. شرّق، وغرّب، وعاد إلى غرناطة.
حاله: كان (2) أديبا بارعا، شاعرا مجيدا، سنيّا فاضلا، نزيه المهمة، سريّ النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة في الخط. كتب بسبتة (3) عن أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح كثيرة.
ثم نزع عن ذلك، وتوجّه إلى المشرق. وجرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره، مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته. ونظمه فائق، ونثره بديع. وكلامه المرسل، سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها، طارت كل مطار، رحمه الله.
رحلته: قال من عني بخبره (4): رحل ثلاثا من الأندلس إلى المشرق، وحجّ في كل واحدة منها. فصل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس لثمان خلون من شوال، ثمان وسبعين وخمسمائة، صحبة أبي جعفر بن حسان، ثم عاد إلى وطنه
__________
(1) ترجمة ابن جبير في الذيل والتكملة (ج 5ص 595) والتكملة (ج 2ص 109) وزاد المسافر (ص 72) والنجوم الزاهرة (ج 6ص 221) وشذرات الذهب (ج 5ص 60) والمغرب (ج 2 ص 384) ونفح الطيب (ج 3ص 138) ومقدمة كتابه «رحلة ابن جبير».
(2) النص في الذيل والتكملة (ج 5ص 608607).
(3) في الذيل: «في شبيته».
(4) راجع الذيل والتكملة (ج 5ص 596).(2/146)
غرناطة لثمان بقين من محرم واحد وثمانين، ولقي بها أعلاما يأتي التعريف بهم في مشيخته، وصنّف الرحلة المشهورة، وذكر مناقله فيها وما شاهده من عجايب البلدان، وغرايب المشاهد، وبدايع الصّنايع، وهو كتاب مؤنس ممتع، مثير سواكن النفوس إلى الرّفادة على تلك المعالم المكرمة والمشاهد العظيمة.
ولما (1) شاع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي (2)، قوي عزمه على عمل الرحلة الثانية، فتحرك إليها من غرناطة، يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشرة (3) خلت من شعبان سبع وثمانين. وسكن غرناطة، ثم مالقة، ثم سبتة، ثم فاس (4)، منقطعا إلى إسماع الحديث والتصوّف، وتروية ما عنده. وفضله بديع، وورعه يتحقق، وأعماله الصالحة تزكو. ثم رحل الثالثة من سبتة، بعد موت زوجته عاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقّشي (5)، وكان كلفا بها، فعظم وجده عليها. فوصل مكة، وجاور بها طويلا، ثم بيت المقدس، ثم تجوّل بمصر والإسكندرية، فأقام (6) يحدّث، ويؤخذ عنه إلى أن لحق بربه.
مشيخته: روى بالأندلس عن أبيه، وأبي الحسن بن محمد بن أبي العيش، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس، وابن الأصيلي. وأخذ العربية عن أبي الحجاج بن يسعون. وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السّبتي. وأجاز له أبو الوليد بن سبكة، وإبراهيم بن إسحاق بن عبد الله الغسّاني التونسي، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي الميّانجي، نزيلا مكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفنكي، وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي، وصدر الدين أبو محمد عبد اللطيف الحجري رئيس الشّافعية بأصبهان.
وببغداد العالم الحافظ المتبحر نادرة الفلك أبو الفرج، وكناه أبو الفضل ابن الجوزي.
وحضر بعض مجالسه الوعظية وقال فيه: «فشاهدنا رجلا ليس بعمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كلّ الصّيد»، وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السّلمي الجواري، وأبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وأبو الطاهر
__________
(1) انظر: الذيل والتكملة (ج 5ص 606605).
(2) في الذيل: «بوري».
(3) في الأصل: «عشر» والتصويب من الذيل.
(4) في الذيل: «ثم فاس ثم سبته».
(5) في الذيل: «أبي جعفر أحمد بن عبد الرحمن الوقشي».
(6) في الذيل: «فأقام بها».(2/147)
بركات الخشوعي، وسمع عليه، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني من أئمة الكتاب، وأخذ عنه بعض كلامه، وغيره، وأبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الأخضر بن علي بن عساكر، وسمع عليه، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن إبراهيم والحسين بن هبة الله بن محفوظ بن نصر الرّبعي، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن أبي سعيد الصّوفي، وأجازوا له، وبحرّان الصّوفي العارف أبو البركات حيّان بن عبد العزيز، وابنه الحاذي حذوه.
من أخذ عنه: قال ابن عبد الملك (1): أخذ (2) عنه أبو إسحاق بن مهيب، وابن الواعظ، وأبو تمام بن إسماعيل، وأبو الحسن بن (3) نصر بن فاتح بن عبد الله البجّائي، وأبو الحسن بن علي الشّادي (4)، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا، وأبو بكر يحيى بن محمد بن أبي الغصن (5)، وأبو عبد الله بن حسن بن مجبر (6)، وأبو العباس بن عبد المؤمن البنّاني (7)، وأبو (8) محمد بن حسن اللّواتي، وابن (9)
تامتيت، وابن محمد الموروري، وأبو عمر بن سالم، وعثمان بن سفيان بن أشقر التّميمي التونسي.
وممّن أخذ عنه (10) بالإسكندرية، رشيد الدين أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين بن العطّار، وفخر القضاة ابن الجيّاب، وابنه جمال القضاة.
تصانيفه: منها نظمه. قال ابن عبد الملك (11): «وقفت منه على مجلد متوسط يكون على (12) قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس. ومنه جزء سماه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» في مراثي زوجه أم المجد. ومنه جزء سماه «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان». «وله ترسيل بديع، وحكم مستجادة»، وكتاب رحلته. «وكان أبو الحسن الشّادي يقول: إنها ليست من تصانيفه، وإنما قيّد معاني ما
__________
(1) الذيل والتكملة (ج 5ص 607606).
(2) في الذيل: «روي عنه».
(3) في الذيل: «وأبو الحسن ابن أبي نصر فاتح بن».
(4) في الذيل: «وابن محمد الشاري».
(5) في الذيل: «أبو بكر يحيى بن عبد الملك بن أبي الغصن».
(6) في الأصل: «مجير» والتصويب من الذيل.
(7) في الذيل: «وآباء العباس: ابن عبد المؤمن والنباتي».
(8) في الذيل: «وابن محمد».
(9) في الذيل: «ابن».
(10) في الذيل: «وممن روي عنه».
(11) الذيل والتكملة (ج 5ص 608).
(12) كلمة «على» ساقطة من الذيل والتكملة.(2/148)
تضمنته، فتولى ترتيبها، وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه، على ما تلقاه منه». والله أعلم.
شعره: من ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها، وقد شارف المدينة المكرّمة طيبة، على ساكنها من الله أفضل الصلوات، وأزكى التسليم (1): [المتقارب]
أقول وآنست بالليل نارا ... لعلّ سراج الهدى قد أنارا
وإلّا فما بال أفق الدّجى ... كأنّ سنا البرق فيه استطارا
ونحن من الليل في حندس ... فما باله قد تجلّى نهارا؟
وهذا النّسيم شذا المسك قد ... أعير أم المسك منه استعارا؟
وكانت رواحلنا تشتكي ... وجاها فقد سابقتنا ابتدارا
وكنّا شكونا عناء السّرى ... فعدنا نباري سراع المهارى
أظنّ النفوس قد استشعرت ... بلوغ هوى تخذته شعارا
بشائر صبح السّرى آذنت ... بأنّ الحبيب تدانى مزارا
جرى ذكر طيبة ما بيننا ... فلا قلب في الركب إلّا وطارا
حنينا إلى أحمد المصطفى ... وشوقا يهيج الضلوع استعارا
ولاح لنا أحد مشرقا ... بنور من الشّهداء استنارا (2)
فمن أجل ذلك ظلّ الدّجى ... يحلّ عقود النجوم انتثارا
ومن طرب الرّكب حثّ الخطا ... إليها ونادى البدار البدارا
ولمّا حللنا فناء الرسول ... نزلنا بأكرم مجد (3) جوارا
وحين دنونا لفرض السلام ... قصرنا الخطا ولزمنا الوقارا
فما نرسل اللّحظ إلّا اختلاسا ... ولا نرجع (4) الطّرف إلّا انكسارا
ولا نظهر الوجد إلّا اكتتاما ... ولا نلفظ القول إلّا سرارا
سوى أننا لم نطق أعينا ... بأدمعها غلبتنا انفجارا
وقفنا بروضة دار السلام (5) ... نعيد السلام عليها مرارا
__________
(1) القصيدة في الذيل والتكملة (ج 5ص 603602). وورد منها الأبيات الثلاثة الأول في نفح الطيب (ج 3ص 235).
(2) في الأصل: «استعارا»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(3) في الذيل والتكملة: «خلق».
(4) في الذيل والتكملة: «نرفع».
(5) رواية صدر البيت في الذيل والتكملة هي: وقفنا بروضته للسلام.(2/149)
ولولا مهابته في النفوس ... لثمنا الثّرى والتزمنا الجدارا
قضينا بزورته (1) حجّنا ... وبالعمرتين (2) ختمنا اعتمارا
إليك إليك نبيّ الهدى ... ركبت البحار وجبت القفارا
وفارقت أهلي ولا منّة ... وربّ كلام يجرّ اعتذارا
وكيف نمنّ على من به ... نؤمّل للسيّئات اغتفارا
دعاني إليك هوى كامن ... أثار من الشوق ما قد أثارا
فناديت (3) لبّيك داعي الهوى ... وما كنت عنك أطيق اصطبارا
ووطّنت نفسي بحكم (4) الهوى ... عليّ وقلت رضيت اختيارا
أخوض الدّجى وأروض السّرى ... ولا أطعم النوم إلّا غرارا
ولو كنت لا أستطيع السبيل ... لطرت ولو لم أصادف مطارا (5)
وأجدر من نال منك الرضى ... محبّ ثراك (6) على البعد زارا
عسى لحظة منك لي في غد ... تمهّد لي في الجنان القرارا
فما ضلّ من بمسراك (7) اهتدى ... ولا ذلّ من بذراك استجارا
وفي غبطة من منّ الله عليه لحجّ بيته، وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم يقول (8): [المتقارب]
هنيئا لمن حجّ بيت الهدى ... وحطّ عن النّفس أوزارها
وإنّ السعادة مضمونة ... لمن حجّ (9) طيبة أوزارها
وفي مثل ذلك يقول (10): [المتقارب]
إذا بلغ المرء (11) أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له (12)
__________
(1) في الذيل: «بزورتنا».
(2) في الذيل: «وبالعمرين».
(3) في الأصل: «فناديتك» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(4) في الذيل: «لحكم».
(5) أخذه من قول الأعمى التطيلي من موشحة تامة:
امتنع النوم وشطّ المزار ولا قرار ... طرت ولكن لم أصادف مطار
ديوان الأعمى التطيلي (ص 261) وجيش التوشيح (ص 24) وتوشيع التوشيح (ص 106).
(6) في الذيل: «ذراك».
(7) في الذيل: «بهداك».
(8) البيتان في الذيل والتكملة (ج 5ص 604) ونفح الطيب (ج 3ص 241).
(9) في الذيل: «حلّ».
(10) البيتان في الذيل والتكملة (ج 5ص 604) ونفح الطيب (ج 3ص 236).
(11) في النفح: «العبد».
(12) في الأصل والذيل والتكملة: «أمّله»، والتصويب من النفح.(2/150)
وإن (1) زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله (2)
وفي تفضيل المشرق (3): [الكامل]
لا يستوى شرق البلاد وغربها ... الشرق حاز الفضل باستحقاق (4)
انظر (5) جمال (6) الشمس عند طلوعها ... زهراء تعجب (7) بهجة الإشراق
وانظر إليها عند الغروب كئيبة ... صفراء تعقب ظلمة الآفاق
وكفى بيوم طلوعها من غربها ... أن تؤذن الدنيا بعزم (8) فراق
وقال في الوصايا (9): [الطويل]
عليك بكتمان المصائب واصطبر ... عليها فما أبقى الزمان شفيقا
كفاك من الشكوى (10) إلى الناس أنها (11) ... تسرّ عدوّا أو تسيء (12) صديقا
وقال (13):
لصانع (14) المعروف فلتة عاقل ... إن لم تضعها في محلّ عاقل (15)
كالنفس في شهواتها إن لم تكن ... وقفا (16) لها عادت بضرّ عاجل
نثره: من حكمه قوله (17): إن شرف الإنسان فشرف (18) وإحسان، وإن فاق فتفضّل وإرفاق (19)، ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه، كما يحفظ الجفن إنسانه. فربّ كلمة تقال، تحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة الحداد، من ورائها ملابس
__________
(1) في النفح: «فإن».
(2) في الذيل: «أمّ له».
(3) الأبيات في الذيل والتكملة (ج 5ص 611610).
(4) في الذيل والتكملة: «باسترقاق».
(5) في الأصل: «انظر إلى جمال» وكذا ينكسر الوزن.
(6) في الذيل والتكملة: «لحال».
(7) في المصدر نفسه: «تصحب».
(8) في المصدر نفسه: «بوشك».
(9) البيتان في الذيل والتكملة (ج 5ص 613612).
(10) في الأصل: «بالشكوى»، وكذا ينكسر الوزن، والتصويب من الذيل والتكملة.
(11) في الذيل والتكملة: «أنه».
(12) في الذيل والتكملة: «تسوء».
(13) البيتان في الذيل والتكملة (ج 5ص 610609).
(14) في الأصل: «وصانع» والتصويب من الذيل والتكملة.
(15) في الذيل والتكملة: «قابل».
(16) في الذيل: «وفقا».
(17) قابل بالذيل والتكملة (ج 5ص 609608).
(18) في الذيل والتكملة: «فبفضل».
(19) في الذيل والتكملة: «وإنفاق، ينبغي للإنسان أن يحفظ لسانه».(2/151)
حداد (1). نحن في زمن لا يحظى فيه بنفاق، إلّا من عامل بنفاق. شغل الناس عن طريق الآخرة بزخارف الأغراض، فلجّوا في الصّدود عنها والإعراض، آثروا دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام، أطالوا فيها آمالهم، وقصروا أعمالهم، ما بالهم، لم يتفرغ لغيرها بالهم، ما لهم في غير ميدانها استباق (2)، ولا بسوى هواها اشتياق (3). تالله لو كشفت الأسرار، لما كان هذا الإصرار، ولسهرت العيون، وتفجّرت من شؤونها الجفون (4). فلو أن عين البصيرة من سنتها هابّة، لرأت جميع ما في الدنيا ريحا (5) هابّة، ولكن استولى العمى على البصائر، ولا يعلم الإنسان (6) ما إليه صائر. أسأل الله هداية سبيله، ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله، إنه الحنّان المنّان لا ربّ سواه.
ومنها (7): فلتات الهبات، أشبه شيء بفلتات الشّهوات. منها نافع لا يعقب ندما، ومنها ضارّ يبقي في النفس ألما. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقّها أداء، وربما أثمرت (8) عنده اعتداء. وضرر الشهوة أن لا توافق ابتداء، فتصير لمتبّعها (9) داء، مثلها كمثل السّكر يلتذّ صاحبه بحلاوة (10) جناه، فإذا صحا يعرف (11)
قدر ما جناه. عكس هذه القضية هي الحالة المرضية.
مولده: ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وقيل: بشاطبة سنة أربعين وخمسمائة.
وفاته: توفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان أربع عشرة وستمائة.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين (12)
يكنى أبا بكر، شيخنا الفقيه القاضي المؤرخ الكاتب البارع، رحمة الله عليه.
__________
(1) في الذيل والتكملة: «من ملابس الحداد».
(2) في الذيل والتكملة: «استنان».
(3) في الذيل والتكملة: «استنان».
(4) في الذيل: «العيون».
(5) في الذيل: «ريح».
(6) في الذيل: «المرء».
(7) الذيل والتكملة (ج 5ص 609).
(8) في الأصل: «أثرت»، والتصويب من الذيل والتكملة.
(9) في الذيل: «فتعود لمستعملها».
(10) في الذيل: «بحلو».
(11) في الذيل: «تعرّف».
(12) ترجمة ابن شبرين في الكتيبة الكامنة (ص 166) وتاريخ قضاة الأندلس (ص 190) واللمحة البدرية (ص 64، 90، 98) ونفح الطيب (ج 8ص 85).(2/152)
أوّليّته: أصله (1) من إشبيلية، من حصن شلب من كورة باجة، من غربيّ صقعها، يعرفون فيها ببني شبرين معرفة قديمة. ولّي جدّه القضاء بإشبيلية، وكان من كبار أهل العلم، تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلّب العدو عليها عام ستة وأربعين وستمائة، فاحتل رندة ثم غرناطة، ثم انتقل إلى سكنى سبتة، وبها ولد شيخنا أبو بكر، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة (2)، فارتسم بالكتابة السلطانية، وولّي القضاء بعدة جهات، وتأثّل مالا وشهرة، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.
حاله: كان (3) فريد دهره، ونسيج وحده في حسن السّمت والرّواء (4)، وكمال الظّرف وجمال الشّارة، وبراعة الخطّ، وطيب المجالسة، خاصّيا، وقورا، تام الخلق، عظيم الأبّهة، عذب التّلاوة لكتاب الله، من أهل الدين والفضل والعدالة، تاريخيّا، مقيّدا، طلعة اختيار أصحابه، محققا لما ينقله، فكها مع وقاره، غزلا، لوذعيّا، عليّ شأن الكتابة، جميل العشرة، أشدّ الناس على الشّعر، ثم على المحافظة، ما يحفظه من الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح، يناغي الملكين في إثباتها، مقرّرة التواريخ، حتى عظم حجم ديوانه، تفرّدت أشعاره بما أبرّ على المكثرين، مليح الكتابة، سهلها، صانعا، سابقا في ميدانها، راجحا كفّة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس، اتّسع بها نطاق روايته. وتقلّب بين الكتابة والقضاء، منحوس الحظ في الاستعمال، مضيّقا فيه، وإن كان وافر الجدّ، موسّعا عليه.
وجرى ذكره في كتاب «التاج المحلّى» بما نصّه:
خاتمة المحسنين، وبقية الفصحاء اللّسنين، ملأ العيون هديا وسمتا، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات. إن خطّ، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خطّ. وإن نظم أو نثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر.
وإن تكلّم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع لدرره النّفيسة صدق أسماعه. وفد على الأندلس عند كائنة سبتة، وقد طرحت النّوى برحاله، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله، ومصرّف بلاده، والمستولي على طارفها وتالدها، أبو عبد الله بن الحكيم، قدّس الله صداه، وسقى منتداه، فاهتزّ لقدومه اهتزاز الصّارم، وتلقاه تلقي الأكارم، وأنهض إلى لقائه آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في سمط الكتّاب، وأسلاه عن أعمال
__________
(1) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 190).
(2) في تاريخ قضاة الأندلس: «ثم عاد عند الحادثة التي كانت بها في أواخر عام 705إلى غرناطة».
(3) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 190).
(4) في المصدر السابق: «وجمال الرواء».(2/153)
الأقتاد، ونزل ذمامه تأكّدا في هذه الدول، وقوفي له الآتية منها على الأول، فتصرّف في القضاء بجهاتها، ونادته السيادة هاك وهاتها، فجدّد عهد حكّامه العدول من سلفه وقضاتها. وله الأدب الذي تحلّت بقلائده اللّبات والنّحور، وقصرت عن جواهره البحور. وسيمرّ من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه، ويخبر بكرم عنصره، وطيّب نبعه.
مشيخته: قرأ (1) على جدّه لأمّه الأستاذ الإمام (2) أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وسمع على الرئيس أبي حاتم، وعلى أخيه أبي عبد الله الحسين، وعلى الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعلى الشريف أبي علي بن أبي الشرف، وعلى الإمام أبي عبد الله بن حريث. وسمع على العدل أبي فارس عبد العزيز الجزيري. وسمع بحضرة غرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعلى العدل أبي الحسن بن مستقور، وعلى الوزير أبي محمد بن المؤذن، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد.
وبمالقة على الخطيب ولي الله تعالى، أبي عبد الله الطّنجالي، وعلى الوزير الصّدر أبي عبد الله بن ربيع، وعلى القاضي العدل أبي عبد الله بن برطال. وببجاية على الإمام أبي علي ناصر الدين المشذالي، وعلى أبي العباس الغبريني. وبتونس على أبي علي بن علوان، وعلى قاضي الجماعة أبي إسحاق (3) بن عبد الرّفيع، وسمع على الخطيب الصّوفي وليّ الله تعالى، أبي جعفر الزيات، والصوفي أبي عبد الله بن برطال، وعلى الصدر أبي القاسم محمد بن قائد الكلاعي. وأجازه عالم كثير من أهل المشرق والمغرب.
شعره: وشعره متعدّد الأسفار، كثير الأغراض. وفي الإكثار مجلّل الاختيار، فمنه قوله (4): [الطويل]
أخذت بكظم الرّوح يا (5) ساعة النوى ... وأضرمت في طيّ الحشا لاعج الجوى
فمن مخبري يا ليت شعري متى اللّقا ... وهل تحسن الدنيا وهل يرجع الهوى؟
سلا كلّ مشتاق وأكثر (6) وجده ... وعند النّوى (7) وجدي وفي ساكن الهوى
ولي نيّة ما عشت في حفظ عهدهم ... إلى يوم ألقاهم وللمرء ما نوى
__________
(1) قارن بتاريخ قضاة الأندلس (ص 190).
(2) كلمة «الإمام» ساقطة في تاريخ قضاة الأندلس.
(3) اسمه في المصدر السابق: إبراهيم بن عبد الرفيع.
(4) الأبيات في الكتيبة الكامنة (ص 171170).
(5) في الكتيبة الكامنة: «في ساعة».
(6) في الكتيبة الكامنة: «وأقصر».
(7) في الكتيبة الكامنة: «اللوى».(2/154)
وقال: [المنسرح]
باتوا فمن كان باكيا يبك ... هذي ركاب الشرى بلا شكّ
فمن ظهور الرّكاب معملة ... إلى بطون الرّبى إلى الفلك
تصدّع الشّمل مثلما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السّلك
كن بالذي حدّثوا على ثقة ... ما في حديث الفراق من إفك
من النّوى قبل لم أزل حذرا ... هذا النّوى جلّ (1) مالك الملك
وقال: [السريع]
يا أيها المعرّض اللّاهي ... يسوؤني هجرك والله
يا (2) ليت شعري كم أرى فيك ... لا أقفك عن ويّه وعزاه (3)
ويحي مغيري إلى باخل واه ... من ذا الذي رآه (4)
من يرد الله فيه فتنة ... يشغله في الدنيا بتيّاه
يا غصن البان ألا عطفة ... على معنّى جسمه واه؟
أوسعني بعدك ذلّا وقد ... را يثنيا (5) عندك ذا جاه
ذكرك لا ينفكّ عن خاطري ... وأنت عني غافل ساه
يكفيك يا عثمان من جفوني ... لو كان ذنبي ذنب جهجاه
هيهات لا معترض لي على ... حكمك أنت الآمر النّاهي (6)
قلت: جهجاه المشار إليه رجل من غفّار، قيل: إنه تناول عصا الخطبة من يد عثمان، رضي الله عنه، فكسرها على ركبته، فوقعت فيها الأكلة فهلك.
وقال: [البسيط]
يا من أعاد صباحي فقده حلكا ... قتلت عبدك لكن لم تخف دركا
مصيبتي ليست كالمصائب لا ... ولا بكائي عليها مثل كلّ بكا
فمن أطالب في شرع الهوى بدمي ... لحظي ولحظك في قتلي قد اشتركا
__________
(1) في الأصل: «جلّ مني مالك» وهكذا ينكسر الوزن.
(2) في الأصل: «فيا» وهكذا ينكسر الوزن.
(3) عجز هذا البيت مضطرب، لم أهتد إلى تقويمه.
(4) البيت مضطرب في الوزن والمعنى معا.
(5) في الأصل: «يثنى» وهكذا ينكسر الوزن.
(6) في الأصل: «الناه».(2/155)
وقال، وقد سبقه إليه الرّصافي وهو ظريف: [المنسرح]
أشكو إلى الله فرط بلبالي (1) ... ولوعة لا تزال تذكي لي
بمهجتي حائك شغلت به ... حلو المعاني طرازه عالي
سألته لثم خاله فأبى ... ومنّ ذا نخوة وإذلال
وقال حالي يصون خالي ... يدني فويحي بالحال والخال (2)
يقرّبني الآل من مواعده ... وأتّقي منه سطوة الآل
لكن على ظلمه وقسوته ... فلست عنه الزّمان بالسالي
وقال أيضا مضمنا (3): [البسيط]
لي همّة كلّما حاولت أمسكها ... على المذلّة في أرجاء (4) أرضيها
قالت: ألم تك (5) أرض الله واسعة ... حتى يهاجر عبد مؤمن فيها
وقال مسترجعا من ذنبه، ومستوحشا من شيبه: [السريع]
قد كان عيبي قبل (6) في غيب ... فمذ بدا شيبي بدا عيبي
لا عذر اليوم ولا حجّة ... فضحتني والله يا شيبي
وقال (7): [الخفيف]
أثقلتني الذنوب ويحي وويسي ... ليتني كنت زاهدا كأويس (8)
وجرت بينه وبين السلطان ثالث الأمراء من بني نصر (9)، بعد خلعه من ملكه، وانتثار سلكه، واستقراره بقصبة المنكّب، غريبا من قومه، معوّضا بالسهاد من نومه،
__________
(1) البلبال: شدة الهمّ والوساوس. محيط المحيط (بلبل).
(2) في الأصل: «والحال» بالحاء المهملة.
(3) البيتان في تاريخ قضاة الأندلس (ص 190) والكتيبة الكامنة (ص 172).
(4) في تاريخ قضاة الأندلس: «أرجا أراضيها».
(5) في الأصل: «تكن» وهكذا ينكسر الوزن، والتصويب من المصدرين.
(6) في الأصل: «من قبل في» وهكذا ينكسر الوزن.
(7) البيت في الكتيبة الكامنة (ص 172).
(8) هو أويس القرني أحد زهّاد القرن الأول الهجري. وجاء في الكتيبة الكامنة بعد هذا البيت التالي:
إنما أصل محنتي حبّ دنيا ... هي ليلى ولي بها وجد قيس
(9) هو محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن نصر، الملقب بالمخلوع، وقد حكم غرناطة من سنة 701هـ إلى سنة 708هـ. اللمحة البدرية (ص 60).(2/156)
قد فلّ الدهر سباته، وتركه يندب ما فاته، والقاضي المترجم به يومئذ مدبّر أحكامها، وعلم أعلامها، ومتولّي نقضها وإبرامها، فارتاح يوما إلى إيناسه، واجتلاب أدبه والتماسه، وطلب منه أن يعبّر عن حاله ببيانه، وينوب في بثّه عن لسانه، فكتب إليه:
[الطويل]
قفا نفسا فالخطب فيها يهون ... ولا تعجلا إنّ الحديث شجون
علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا ... ولسنا على علم بما سيكون
ذكرنا نعيما قد تقضّى نعيمه ... فأقلقنا شوق له وحنين
وبالأمس كنّا كيف شئنا وللدّنا ... حراك على أحكامنا وسكون
وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا ... تمدّ رقاب أو تشير عيون
فنغص من ذاك السرور مهنأ ... وكدر من ذاك النّعيم معين
ونبا عن الأوطان بين ضرورة ... وقد يقرب الإنسان ثم يبين
أيا معهد الإسعاد حيّيت معهدا ... وجادك من سكب الغمام هتون
تريد الليالي أن تهين مكاننا ... رويدك إنّ الخير ليس يهون
فإن تكن الأيام قد لعبت بنا ... ودارت علينا للخطوب فنون
فمن عادة الأيّام ذلّ كرامها ... ولكنّ سبيل الصابرين مبين
لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا ... فلا عجب إنّ العبيد تخون
وما غضّ منّا مخبري غير أنه ... تضاعف إيمان وزاد يقين
وكتب إلى الحكم بن مسعود، وهو شاهد المواريث بهذه الدّعابة التي تستخفّ الوقور، وتلج السّمع الموقور:
أطال الله بقاء أخي وسيدي، لأهل الفرائض يحسن الاحتيال في مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر بالاحتياط في أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسّأ، معدّة لتحليل هذا الصّنف المنشّأ من الصّلصال والحمأ. فمن ميّت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى وكفن ينشر، ومن رمس يفتح وباب يغلق، ومن عاصب يحبس ونعش يطلق، فكلما خربت ساحة، نشأت في الحانوت راحة، وكلما قامت في شعب مناحة، اتّسعت للرزق مساحة، فيباكر سيدي الحانوت وقد احتسى مرقته، وسهّل عنقفته، فيرى الصّعبة بالمناصب شطرا، فيلحظ هذا برفق وينظر إلى هذا شزرا، ويأمر بشقّ الجيوب تارة والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ القلم أخذا رفيقا، ويقول وقد خامره السرور: رحم الله فلانا لقد كان لنا صديقا، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف عند ذلك
المراتب، وتتبين الأصدقاء والأجانب، فينصرف هذا، وحظّه التهريب، والنظر الحديد، وينفصل هذا وبين يديه المنذر الصّيت والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت ويسأل عن الكيت والكيت، ويقول: عليّ بما في البيت. أين دعاء الثّاغية والرّاغية؟(2/157)