الصفحة الوفاة 358: القاضي الصاحب بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد: 632
365: المدرسة الصاحبية
366: دار الحديث
368: الخانكاه البهائية
368: تتمة الكلام على المدرسة السلطانية تجاه القلعة
369: سليمان بن مسعود الطوسي الشاعر: 634
370: يوسف بن إسماعيل الشاعر المشهور بالشوّاء: 635
373: عبد الله بن عبد الرحمن الأسدي: 635
374: حامد القزويني: 635
374: يعقوب بن إبراهيم بن النحاس: 637
374: الكلام على المدرسة الحسامية تحت القلعة
376: خليفة بن سليمان القرشي: 638
376: محمد بن عبد الرحمن بن الأستاذ: 638
376: محمد بن عبد الله الأنصاري المتوفى في هذا العقد
377: الأمير عبد القاهر بن عيسى التنبي وآثاره: 639
377: الخانكاه التنبيّة
378: أرسلان شاه بن العادل المتوفى: 639
378: عبد الغني بن محمد بن تيميّة الحرّاني: 639
378: الفضل بن عبد المطلب الهاشمي المتوفى في هذا العقد ظنا
379: محمد بن هاشم الخطيب: 641
380: الأمير إقبال الظاهري وآثاره: 641
380: المدرسة الجمالية
381: الخانكاه الجمالية
381: عبد المحسن بن حمود التنوخي: 643
383: أبو البقا بن يعيش بن علي شارح المفصل: 643
387: القاضي الأكرم علي بن يوسف القفطي: 646(4/557)
397: إسماعيل بن سودكين: 646
397: مفضل بن بصيلة: 646
397: صدّيق بن رمضان: 647
398: الحسن بن أبي طاهر بن الخشاب: 648
398: الكلام على درب بني الخشاب
398: الكلام على التربة الخشابية
399: أحمد بن يوسف الحسيني: 648
399: الحافظ يوسف بن خليل بن قراجا: 648
401: تاج الدين جعفر بن محمد المعروف بالسراج: 649
401: الخضر بن الحسن بن عامر: 649
402: أحمد بن يوسف الأنصاري: 649
402: الإمام محمد بن عمرون النحوي: 649
403: الأمير مسعود بن أيبك: 649
403: ذكر ما كان حول دار العدل وهو موضع المستشفى الآن من الآثار
403: المدرسة الفطيسية
403: الخانكاه الفطيسية
403: المدرسة القليجية
404: جامع الناصري
404: خانكاه سنقرجاه النوري
405: محمد بن محمد بن الوزان: 650
405: الملك الصالح أحمد بن غازي صاحب عينتاب: 651
406: محمد بن طلحة القرشي الشيعي: 652
408: النصر بن الملك صلاح الدين: 652
408: عبد السلام بن عبد الله بن تيميّة الحرّاني جد الشيخ تقي الدين: 652
409: الإمام محمد بن محمد البلخي الحنفي: 653
410: صقر بن يحيى الفقيه الشافعي: 653(4/558)
الصفحة الوفاة 410: الشريف أحمد بن محمد الحسيني نقيب الأشراف المتوفى سنة: 653
411: الكلام على مدرسة النقيب التي كانت مبنية فوق جبل الجوشن
412: الآثار التي كانت في الفيض
412: المدرسة الدقاقية
412: تربة ابني أيبك
413: القبة التي كانت هناك
413: أبو بكر بن يوسف بن هلال: 653
413: المبارك بن أبي بكر بن حمدان: 654
413: علاء الدين علي بن أبي الرجا: 654
414: محمد بن محمد بن الخضر سنة: 655
415: سليمان بن عبد المجيد العجمي: 656
415: محمد بن الحسن القاسمي: 656
416: يحيى بن محمد بن العديم: 656
416: محمد بن أحمد بن العديم: 656
416: محمد بن محمد الأنصاري: 656
417: فاطمة خاتون سنة: 656
417: الخانكاه الكاملية
417: أبو بكر محمد بن السلطان صلاح الدين: 657
417: أحمد بن محمد بن الخضر الفقيه الحنفي: 658
418: إبراهيم بن يوسف القفطي: 658
419: الحافظ إبراهيم بن خليل الآدمي: 658
419: محمد بن أبي القاسم القزويني: 658
419: محمد بن يحيى بن العديم: 658
420: توران شاه بن السلطان صلاح الدين: 658
421: عبد اللطيف بن أحمد السعدي الأنصاري: 658
421: عمر بن عبد المنعم: 658
421: عبد الواحد بن عبد الله بن العديم: 658(4/559)
الصفحة الوفاة 421: شيخ الإسلام علي بن إبراهيم بن خشنام: 658
422: أحمد بن محمد بن الخضر الفقيه الحنفي: 658
422: الحسن بن أحمد بن أمين الدولة: 658
423: يوسف بن أحمد الأنصاري: 658
423: الأمير حسام الدين بن محمد الغرياني: 658
424: عبد الرحمن بن عبد الرحيم العجمي باني الشرفية المتوفى سنة: 658
425: الكلام على المدرسة الشرفية الشافعية
426: بقية الآثار التي في زقاق الزهراوي وأين كان يسكن سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز
430: المدرسة البدرية
430: نسب الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن العديم وترجمة أسرته
444: ترجمة الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد العديم: 660
460: المدرسة العديمية
461: تتمة الكلام على المدرسة الحلوية
467: الكلام على المدرسة الحدادية في محلة السفاحية
469: الكلام على درب الحدادين
469: الكلام على المدرسة المقدمية في الجلّوم
470: الكلام على درب الحطابين وما كان فيه من الآثار
471: الكلام على المسجد المعروف بمسجد اليتامى والمدرسة الجاولية
472: أحمد بن عبد الله الأسدي المعروف بابن الأستاذ: 662
473: أبو بكر بن يوسف بن الزرّاد الحراني: 663
473: عبد الله بن محمد بن الخضر: 665
474: الحسن بن علي التاجر المعروف بابن عمرون: 666
474: عبد الرحيم بن عبد الرحيم العجمي: 670
475: أحمد بن سعيد بن الأثير: 671
476: محمد بن محمد الأسدي: 672
476: عبد الرحمن بن عمر بن العديم: 677(4/560)
الصفحة الوفاة 479: أبو القاسم بن حسين ابن العود الشيعي: 679
481: أحمد بن عمر بن العديم المتوفى في هذه السنين تقريبا
481: عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية: 682
482: عيسى بن مهنا أمير العرب: 683
483: محمد بن عبد الله بن الخضر: 684
483: محمد بن إبراهيم بن شداد: 684
483: محمد بن يعقوب الأسدي: 695
484: محمد بن عبد السلام بن أبي عصرون: 685
485: أحمد بن عبد الله بن الزبير: 690
486: إبراهيم بن عبد المنعم بن أمين الدولة: 691
486: محمد بن يوسف أبو الفضل: 692
487: إسماعيل بن هبة الله بن العديم: 694
487: عبد الملك بن عبد الله بن العجمي: 694
488: محمد بن عمر بن العديم: 695
488: أحمد بن محمد الظاهري: 696
489: فاخرة بنت عبد الله العجمي: 697
489: علاء الدين أيدكين بن عبد الله الشهابي: 697
489: عبد اللطيف بن نصر الميهني: 697
490: محمد بن إبراهيم بن النحاس: 698
492: أحمد بن إسماعيل التبلي: 698
492: أيوب بن أبي بكر بن النحاس: 699
492: إسماعيل بن أحمد بن الأثير: 699
494: محمد بن منصور الحاضري: 700
أعيان القرن الثامن 495: عبد الله بن محمد القيسراني: 703
496: عبد المحسن بن محمد بن العديم: 704(4/561)
الصفحة الوفاة 496: محمد بن الحسين التيتي: 704
497: إبراهيم بن علي بن خشنام: 705
497: محمد بن أيوب بن عبد القاهر التادفي: 705
498: سنقر بن عبد الله الزيني: 706
498: محمد بن عبد الله بن القيسراني: 707
499: شهدة بنت الصاحب كمال الدين عمر بن العديم المتوفاة: 709
499: حسن بن علي بن زهرة: 711
499: حسين بن علي بن زهرة: 711
499: عبد العزيز بن محمد بن العديم: 711
500: عمر بن مسعود الكناني سنة: 711
501: إبراهيم بن عبد الله البيري: 712
501: إسماعيل بن عبد اللطيف العجمي: 712
501: غازي بن أحمد الواسطي الكاتب: 712
502: أحمد بن محمد العجمي: 714
502: علي بن صالح السحوجي: 714
503: يوسف بن مظفر الكاتب: 714
503: الحسن بن علي السغناقي: 714
504: علي بن علي بن سوادة: 714
507: نخوة بنت محمد النصيبي: 719
507: عبد الوهاب بن محمد بن عثمان البلخي: 720
507: عمر بن عبد العزيز بن العديم: 720
509: علي بن الحسن الهروي: 722
509: محمد بن عثمان بن الحداد المتوفى: 724
509: الشهاب محمود بن سليمان بن فهد: 725
511: عبد الوهاب بن عمر بن أمين الدولة: 725
511: طلحة بن يوسف: 725(4/562)
2 - لصفحة الوفاة 512: عمر بن حسن بن حبيب: 726
514: محمد بن إسحق بن صقر: 726
516: الإمام طلحة النحوي المقري: 726
516: علي بن أحمد الحداد: 726
516: يعقوب بن عبد الكريم ناظر الجيش: 729
517: إبراهيم بن صالح العجمي: 731
517: يوسف بن محمد بن النصيبي: 731
518: محمد بن ناهض: 731
518: حسن بن محمد بن زهرة: 732
518: محمد بن أبي حامد الطبيب: 732
518: عبد الرحمن سبط الأبهري: 733
519: أحمد بن يحيى بن جهبل: 733
519: شرف الدين عبد الرحمن بن عماد الدين العجمي: 733
519: عمر بن محمد بن العديم: 734
521: الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور: 735
521: مهنا بن إبراهيم الفوعي الصوفي: 736
523: الأمير إزبك الحموي: 737
524: محمد بن عبد الرحمن بن النصيبي: 737
524: أحمد بن إبراهيم الفقيه المعروف بالبرهان الحلبي: 738
525: عثمان بن علي بن خطيب جبرين: 738
527: الشريف محمد بن الحسن بن زهرة: 739
528: عبد المؤمن بن عبد الرحمن بن العجمي: 741
530: ألطنبغا بن عبد الله باني الجامع في ساحة الملح: 742
530: إبراهيم بن خليل الرسعني: 742
531: شيخ الاسلام الحافظ يوسف بن عبد الرحمن المزي الحلبي ثم الدمشقي: 742(4/563)
الصفحة الوفاة 530: علي بن معتوق الدنيسري: 743
535: كمال الدين المهمازي: 743
535: التربة المهمازية
535: جامع المقلمات
537: إبراهيم بن أحمد الأسدي: 744
537: عمر بن محمد العجمي: 744
538: محمد بن محمد السفاقسي: 744
538: محمد بن نبهان الجبريني: 744
539: محمد بن علي بن أيبك السروجي: 744
540: أيدمر بن عبد الله الشماع: 744
540: جامع أيدمر (الخواجا)
541: أمير العرب سليمان بن مهنا: 744
542: الحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي: 748
542: القاضي محمد بن الصائغ: 749
542: عبد الرحمن بن هبة الله المعري: 749
543: علي بن محمد بن نبهان: 749
543: عبد اللطيف بن يوسف العجمي: 749
544: يوسف بن مظفر بن الوردي: 749
انتهى بعون الله الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس(4/564)
الجزء الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
(تتمة أعيان القرن الثامن)
351 - عمر بن مظفر بن الوردي المتوفى سنة 749
عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري زين الدين بن الوردي الفقيه الشافعي الشاعر المشهور.
نشأ بحلب وتفقه بها ففاق الأقران، وأخذ عن القاضي شرف الدين البارزي بحماة وعن الفخر خطيب جبرين بحلب، ونظم البهجة الوردية في خمسة آلاف وثلاثة وستين بيتا أتى على الحاوي الصغير بغالب ألفاظه، وأقسم بالله لم ينظم أحد بعده الفقه إلا وقصر دونه (1). وله «ضوء الدرة» على ألفية ابن معطي، و «شرح الألفية» لابن مالك، و «الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة»، وله «مقامات» و «منطق الطير» نظم ونثر، وله «الكلام على مائة غلام» مائة مقطوع لطيفة، و «الدراري السارية في مائة جارية» مائة مقطوع كذلك. ومن نظمه «اختصار الملحة» للحريري غزل، واختصر الألفية لابن مالك في مائة وخمسين بيتا وشرحها وغير ذلك.
وكان ينوب في الحكم في الكثير من معاملات حلب، وولي قضاء منبج فتسخطها وعاتب ابن الزملكاني بقصيدة مشهورة على ذلك، ورام العود إلى نيابة الحكم بحلب فتعذر، ثم أعرض عن ذلك ومات في الطاعون العام آخر سنة 49بعد أن عمل مقامة سماها «النبا في الوبا»، وملكت ديوان شعره في مجلد لطيف
__________
(1) في المنهل الصافي: قال الحافظ ابن حجر أيضا: من نظم الفقه بعد ابن الوردي فقد أتعب نفسه.(5/7)
وذكر الصفدي في أعيان العصر أنه اختلس معاني شعره وأنشد من ذلك شيئا كثيرا، ولم يأت بدليل عن أن ابن الوردي هو المختلس، بل المتبادر إلى الذهن عكس ذلك، نعم استشهد الصفدي على صحة دعواه بقول ابن الوردي:
وأسرق ما أردت من المعاني ... فإن فقت القديم حمدت سيري
وإن ساويته نظما فحسبي ... مساواة القديم وذا لخيري
وإن كان القديم أتم معنى ... فهذا مبلغي ومطار طيري
وإن الدرهم المضروب باسمي ... أحبّ إليّ من دينار غيري
ومما أورده الصفدي قوله:
سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه
ولا تقصد الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيّقه
فزعم أنهما من قول الصفدي:
اترك هوى الأتراك إن شئت أن ... لا تبتلى فيهم بهمّ وضير
ولا ترجّ الجود من وصلهم ... ما ضاقت الأعين منهم لخير
أنشدني أبو اليسر بن الصائغ بدمشق قال: أنشدنا الشيخ زين الدين بن الوردي لنفسه:
إني تركت عقودهم وفروضهم ... وفسوخهم والحكم بين اثنين
ولزمت بيتي قانعا ومطالعا ... كتب العلوم وذاك زين الزين
الأبيات. وله في ابن الزملكاني غرر المدائح اهـ. (الدرر الكامنة) (1).
وقال القناوي في شرحه للامية المؤلف: هو الشيخ الإمام الهمام شيخ الإفتاء والتدريس المحقق المدقق المتبحر في الفقه والأدب وسائر العلوم، زين الدين أبو حفص عمر بن مظفر ابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس الحلبي الشافعي البكري الصديقي منسوب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونسبه معروف مشهور لا شك فيه. تفقه على الشيخ شرف الدين البارزي رحمه الله تعالى، وجالس أكابر العلماء. قال بعض العلماء: كان الشيخ
__________
(1) تنبيه: ما تجده هنا من أعيان القرن الثامن بدون عزو فهو منقول من الدرر الكامنة كما أشرنا إليه قبلا.(5/8)
سراج الدين عمر بن الوردي رجلا صالحا كثير الخيرات حسن الخلق سيد شعراء عصره، جمع في شعره بين الحلاوة والطلاوة والجزالة، له مقام عظيم عند الناس ومهابة كثيرة لما كان عليه من الزهد والورع والخشية والخوف من الله تعالى. برع في سائر العلوم وصنف تصانيف حميدة ونظم فيها منظومات فائقة مجيدة، وكفاه شرفا هذه المنظومة العظيمة وما حوت من المسائل الجلية، وكذلك منظومته المشهورة المسماة «بالبهجة في الفقه»، وما أحسن قوله في آخرها:
فهي عروس بنت عشر بكر ... بكرية لها الدعاء مهر
وفضائله ومناقبه رضي الله تعالى عنه أكثر من أن تحصى، فهو الغاية والنهاية. وكانت وفاته في سابع عشري ذي الحجة الحرام ختام عام تسعة وأربعين وسبعمائة وهو في عشر السبعين رحمه الله تعالى ونفعنا به اهـ.
ورأيت في الرسالة المسماة «بنفحة العنبر في نسب الشيخ علي إسكندر للصدّيق الأكبر» ما نصه: وفي غير الديار المصرية منهم (أي من المنسوبين للصديق رضي الله عنه) جماعة منهم زين الدين عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس بن علي ابن أحمد بن عمر بن فظلما (هكذا وهو محرف) بن سعيد بن القاسم بن النصر بن محمد ابن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن [بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه] عرف بابن الوردي الحلبي الإمام المشهور صاحب البهجة. توفي ببلده حلب، هكذا ساق الرملي نسبه في شرحه على البهجة، وقد أشار لذلك في لاميته:
مع أني أحمد الله على ... نسبي إذ بأبي بكر اتصل
وحق له في ذلك الفخر الجسيم لكونه ينتمي إلى إمام عظيم.
وقال في ديوانه:
جدي هو الصديق واسمي عمر ... وابني أبو بكر وبنتي عائشه
لكن يزيد ناقص عندي ففي ... ظلم الحسين ألف ألف فاحشه
وأورد له في المنهل الصافي قوله:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيل
وله أيضا:(5/9)
ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيل
وله أيضا:
ضممتها عند اللقاء ضمة ... منعشة للكلف الهالك
قالت تمسكت وإلا فما ... هذا الشذا قلت بأذيالك
وله أيضا:
يا سائلي تصبرا ... عن لثم فيه لا تسل
ما تستحي تبدلني ... بالصبر عن ذاك العسل
وله في حصّاد وأجاد:
هويت حصّادا حكت قامتي ... من طول ما يهجرني منجله
أقول والسنبل من حوله ... مولاي أنت الشمس في السنبله
وله أيضا:
ومليح إذا النحاة رأوه ... فضّلوه على بديع الزمان
برضاب عن المبرّد يروى ... ونهود تروى عن الرمّان
وترجمه الجلال السيوطي في «بغية الوعاة» وقال: إن من جملة مؤلفاته «اللباب في علم الإعراب» قصيدة وشرحها، «مختصر الملحة» نظمها، «تذكرة الغريب في النحو»، نظمها وشرحها. «منطق الطير» في التصوف [هي نثر ونظم]. أرجوزة في تعبير المنام اسمها «ضوء درة الأحلام في تعبير المنام»، أرجوزة في «خواص الأحجار والجواهر» وغير ذلك. وله مقامة في الطاعون العام. واتفق أنه مات بأخرة في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين وسبعمائة. والرواية عنه غزيرة، وقد حدث عنه أبو اليسر بن الصائغ الدمشقي، روى لنا عنه أعني عن أبي اليسر جماعة بالإجازة.
ومن نظم ابن الوردي:
لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واقصد من جواد كريم
كيف يرجّى الرزق من عند من ... يقضي بأن الفلس مال عظيم
وله:(5/10)
لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واقصد من جواد كريم
كيف يرجّى الرزق من عند من ... يقضي بأن الفلس مال عظيم
وله:
أنت ظبيي أنت مسكي ... أنت درّي أنت غصني
في التفات وثناء ... وثنايا وتثنّ
وله:
لما شتت عيني ولم ... ترفق لتوديع الفتى
أدنيتها من خده ... والنار فاكهة الشتا
وله:
سبحان من سخّر لي حاسدي ... يحدث لي في غيبتي ذكرا
لا أكره الغيبة من حاسد ... يفيدني الشهرة والأجرا
وله:
مرت نساء كالظبا خلفها ... أدهم يحميها من الكيد
قلن لما تصلح قلت الظبا ... للصيد والأدهم للقيد
وله:
رومية الأصل لها مقلة ... تركية صارمها هندي
قد فضحتني وجنتاها فقل ... في وجنة فاضحة الوردي
وترجمه ابن شاكر في فوات الوفيات وأورد له من النظم مما هو غير مذكور في بغية الوعاة قوله:
مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خدّه القاني نصيبا ... فقد عزم الغريب على الخروج
وقوله:
جاءنا مكتتما ملتثما ... فدعوناه لأكل وعجبنا
مد في السفرة كفا ترفا ... فحسبنا أن في السفرة جبنا
وقال:
قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق
قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق
وقال:(5/11)
قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق
قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق
وقال:
جبرتني يا عدتي بالصله ... فتممي الإحسان (1) تنفي الوله
وهذه قد حسبت زورة ... مالك بالفيئة مستعجله
وقال:
بالله يا معشر أصحابي ... إغتنموا علمي وآدابي
فالشيب قد حل برأسي وقد ... أقسم لا يرحل إلا بي
وقال:
رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني
قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثير لقلة القاني
وقال:
وكنت إذا رأيت ولو عجوزا ... يبادر بالقيام على الحراره
فأصبح لا يقوم لبدر تمّ ... كأن النحس قد ولي الوزاره
وقال:
من كان مردودا بعيب فقد ... ردتني الغيد بعيبين
الرأس واللحية شابا معا ... عاقبني الدهر بشيبين
وقال:
دهرنا أمسى ضنينا ... باللقا حتى ضنينا
يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا
وقال:
أنتم أحباي وقد ... فعلتم فعل العدا
حتى تركتم خبري ... في العالمين مبتدا
__________
(1) رواية الديوان:
جبرت يا عائدتي بالصله ... فتممي الإحسان تنفي الوله
وهذه قد حسبت زورة ... لم أنت يا لعبة مستعجله(5/12)
وقال:
وتاجر شاهدت عشّاقه ... والحرب فيما بينهم ثائر
قال علام اقتتلوا هكذا ... قلت على عينك يا تاجر
وقال:
إني عدمت صديقا ... قد كان يعرف قدري
دعني لقلبي ودمعي ... عليه أحرق وأذري
وله وقد نقلهما العرضي في مجموعته:
كم من صديق صدوق الود تحسبه ... في راحة ولديه الهم والنكد
لا يغبطنّ بنو الدنيا بنعمتهم ... فراحة القلب لم يظفر بها أحد
وله أيضا مقتبسا للحديث الشريف:
يا شاكيا من كربه ... وباكيا من كربه
لا راحة لمؤمن ... دون لقاء ربه
وله وهو مما أورده في تاريخه «تتمة المختصر» في حوادث سنة 622:
لا تحرصنّ على فضل ولا أدب ... فقد يضر الفتى علم وتحقيق
واحذر تعدّ من العقّال بينهم ... فإن كل قليل العقل مرزوق
والحظ أنفع من خط تزوّقه ... فما يفيد قليل الحظ تزويق
والعلم يحسب من رزق الفتى وله ... بكل متسع في الفضل تضييق
أهل الفضائل والآداب قد كسدوا ... والجاهلون فقد قامت لهم سوق
والناس أعداء من سارت فضائله ... فإن تعمق قالوا عنه زنديق
وله أيضا:
قال بعض الناس إني ... فاضل في العلم خامل
وكذا الفاضل مثلي ... عند قسم الرزق فاضل
وقال في تاريخه تتمة المختصر: إن فخر الدين عثمان بن البارزي الحموي قاضي القضاة بحلب كان رحمه الله ولاني الحكم بشيزر، فلما دخلتها صرعتني بزفرة هوائها وأرسلت
إلي الوخم على فترة من مائها، وزارتني الحمى غبا حتى ازددت للموت حبا، فكتبت إليه عاتبا عليه:(5/13)
قال بعض الناس إني ... فاضل في العلم خامل
وكذا الفاضل مثلي ... عند قسم الرزق فاضل
وقال في تاريخه تتمة المختصر: إن فخر الدين عثمان بن البارزي الحموي قاضي القضاة بحلب كان رحمه الله ولاني الحكم بشيزر، فلما دخلتها صرعتني بزفرة هوائها وأرسلت
إلي الوخم على فترة من مائها، وزارتني الحمى غبا حتى ازددت للموت حبا، فكتبت إليه عاتبا عليه:
أيا باعثي أقضي بشيزر ما الذي ... أردت قضا أشغالهم أم قضا نحبي
حكيت بها الناعور حالا لأنني ... بكيت على جسمي ودرت على قلبي
وكتبت إلى ابنه كمال الدين محمد:
قيل لي شيزر نار ... وبها العاصي مخلّد
قلت لا أمكث فيها ... أنا من حزب محمد
فلما وقف على ذلك أعفاني منها اهـ.
وترجمه ابن الخطيب في الدر المنتخب وقال: إنه ولي القضاء بعدة بلاد متفرقة من أعمال حلب، ثم سكن بها واستوطنها إلى أن مات. ثم ساق أبياتا من نظمه.
قال ابن شاكر: ومن جملة مؤلفاته تتمة تاريخ صاحب حماة. قال: وبلغنا وفاته في الطاعون سنة تسع وأربعين وسبعماية وهو في عشر السبعين اهـ.
وقال قبل موته بيومين وهما في آخر ديوانه:
ولست أخاف طاعونا كغيري ... فما هو غير إحدى الحسنيين
فإن مت استرحت من الأعادي ... وإن عشت اشتفت أذني وعيني
قال ابن حجة الحموي في كتابيه «خزانة الأدب وثمرات الأوراق»: ومن الأراجيز المرتجلة التي سارت الركبان ببلاغة ارتجالها ولطف انسجامها أرجوزة الشيخ زين الدين عمر بن المظفر الوردي سقى الله ثراه التي ارتجلها بدمشق المحروسة عند الامتحان المفحم.
ذكر الشيخ الإمام إسماعيل بن كثير أن الشيخ زين الدين قدم دمشق في أيام القاضي نجم الدين بن صصري فأجلسه في الصفة المعروفة بالشباك في جملة الشهود، وكان يومئذ زري الحال، فاستخف به الشهود، فحضر يوما كتابة مشترى ملك فقال بعضهم: أعطوا المعري يكتبه على سبيل الاستهزاء، فقال الشيخ: ارسموا لي أكتبه نظما أو نثرا، فزاد استهزاؤهم به فقالوا: بل نظما، فأخذ الطرس وكتب ارتجالا ما صورته:
باسم إله الخلق هذا ما اشترى ... محمد بن يونس بن سنقرا
من مالك بن أحمد بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلّق
فباعه قطعة أرض واقعه ... بكورة الغوطة وهي جامعه
لشجر مختلف الأجناس ... والأرض في البيع مع الغراس
وذرع هذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع
وذرعها في العرض أيضا عشره ... وهو ذراع باليد المعتبره
وحدّها من قبلة ملك التقي ... وحائز الروميّ حدّ المشرق
ومن شمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن جهبل
وهذه تعرف من قديم ... بأنها قطعة بنت الرومي
بيعا صحيحا لازما شرعيّا ... ثم شراء قاطعا مرعيّا
بثمن مبلغه من فضّه ... وازنة جيدة مبيضّه
جارية للناس في المعامله ... ألفان منها النصف ألف كامله
قبضها البائع منه وافيه ... فعادت الذمة منها خاليه
وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض القطعة منه وجرى
بينهما بالبدن التفرّق ... طوعا فما لأحد تعلّق
ثم ضمان الدرك المشهور ... فيه على بائعه المذكور
وأشهدا عليهما بذاك في ... رابع عشر رمضان الأشرف
من عام سبعمائة وعشره ... من بعد خمسة تليها الهجره
والحمد الله وصلى ربي ... على النبي وآله والصحب
يشهد بالمضمون من هذا عمر ... ابن المظفر المعري إذ حضر
فلما فرغ الشيخ من نظمه وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم، فقالوا وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة: لعل الشيخ يسد عن أحد منا برسم شهادته، فقال عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول:(5/14)
باسم إله الخلق هذا ما اشترى ... محمد بن يونس بن سنقرا
من مالك بن أحمد بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلّق
فباعه قطعة أرض واقعه ... بكورة الغوطة وهي جامعه
لشجر مختلف الأجناس ... والأرض في البيع مع الغراس
وذرع هذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع
وذرعها في العرض أيضا عشره ... وهو ذراع باليد المعتبره
وحدّها من قبلة ملك التقي ... وحائز الروميّ حدّ المشرق
ومن شمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن جهبل
وهذه تعرف من قديم ... بأنها قطعة بنت الرومي
بيعا صحيحا لازما شرعيّا ... ثم شراء قاطعا مرعيّا
بثمن مبلغه من فضّه ... وازنة جيدة مبيضّه
جارية للناس في المعامله ... ألفان منها النصف ألف كامله
قبضها البائع منه وافيه ... فعادت الذمة منها خاليه
وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض القطعة منه وجرى
بينهما بالبدن التفرّق ... طوعا فما لأحد تعلّق
ثم ضمان الدرك المشهور ... فيه على بائعه المذكور
وأشهدا عليهما بذاك في ... رابع عشر رمضان الأشرف
من عام سبعمائة وعشره ... من بعد خمسة تليها الهجره
والحمد الله وصلى ربي ... على النبي وآله والصحب
يشهد بالمضمون من هذا عمر ... ابن المظفر المعري إذ حضر
فلما فرغ الشيخ من نظمه وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم، فقالوا وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة: لعل الشيخ يسد عن أحد منا برسم شهادته، فقال عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول:
قد حضر العقد الصحيح أحمد ... ابن رسول وبذاك يشهد
وقال الأحدب في ذيل ثمرات الأوراق: كتب العلامة زين الدين بن الوردي إلى قاضي القضاة الكمال البارزي وقد كان عزله من منصب القضاء وولى أخاه:
حمّلتني وأخي تباريح البلا ... وتركتنا ضدين مختلفين
يا حي عالم عصرنا وزماننا ... ألك التصرف في دم الأخوين
فأجابه بقوله:(5/15)
حمّلتني وأخي تباريح البلا ... وتركتنا ضدين مختلفين
يا حي عالم عصرنا وزماننا ... ألك التصرف في دم الأخوين
فأجابه بقوله:
أبا عمر انزجر عن مثل هذا ... فأحمد بالولاية مطمئنّ
فإن يك فيك معرفة وعدل ... فأحمد فيه معرفة ووزن
وترجمه السبكي في طبقات الشافعية قال: وله شعر أحلى من السكر المكرر، وأغلى قيمة من الجوهر. ومما أورده من نظمه قوله:
لما رأى الزهر الشقيق انثنى ... منهزما لم يستطع لمحه
وقال من جاء فقلنا له ... جاء شقيق عارضا رمحه
وقوله:
وأغيد يسألني ... ما المبتدا والخبر
مثّلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر
وقوله في مليح خليفة:
يا أمير المؤمنين اعطف ولا ... تحتجب عنا بمن قد شرّفك
لو كشفت الستر قبّلنا الثرى ... وترحمنا على من خلّفك
قال أبو ذر في الكلام على درب بني السفاح: (محلة السفاحية): وكان بهذا الدرب دار الشيخ زين الدين بن الورديّ وقد خربت وصارت دمنة وجدد مكانها إصطبل.
وقال المترجم في آخر تذييله لتاريخ أبي الفداء: في ذي الحجة من سنة 749بلغنا وفاة القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري. (ثم قال): دخل رحمه الله قبل وفاته بمدة معرة النعمان فنزل بالمدرسة التي أنشأتها، ففرح لي بها وأنشد فيها بيتين أرسلهما لي بخطه وهما:
وفي بلد المعرة دار علم ... بنى الوردي منها كل مجد
هي الوردية الحلواء حسنا ... وماء البئر منها ماء ورد
فأجبته بقولي:
أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي
جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي
أقول: وذكر الشيخ وفا الرفاعي المتوفى سنة 1264في منظومته التي ذكر فيها ما وقف عليه ممن دفن في ترب حلب أن ابن الوردي المذكور مدفون في صحن المقام المعروف بمقام إبراهيم في التربة المشهورة بتربة الصالحين خارج باب المقام. والصحيح أنه مدفون قبلي حائط المقام ملاصقا لأخيه جمال الدين كما رأيته محررا على هامش نسخة خطية من التاريخ المنسوب لابن الشحنة.(5/16)
أمولانا شهاب الدين إني ... حمدت الله إذ بك تم مجدي
جميع الناس عندكم نزول ... وأنت جبرتني ونزلت عندي
أقول: وذكر الشيخ وفا الرفاعي المتوفى سنة 1264في منظومته التي ذكر فيها ما وقف عليه ممن دفن في ترب حلب أن ابن الوردي المذكور مدفون في صحن المقام المعروف بمقام إبراهيم في التربة المشهورة بتربة الصالحين خارج باب المقام. والصحيح أنه مدفون قبلي حائط المقام ملاصقا لأخيه جمال الدين كما رأيته محررا على هامش نسخة خطية من التاريخ المنسوب لابن الشحنة.
وطبع من مؤلفاته مقاماته وديوانه ورسائله طبعت مع شرح لامية العرب وشرح المقصورة الدريدية في مطبعة الجوائب في الآستانة.
وطبعت غير مرة قصيدته المشهورة باللامية التي مطلعها (اعتزل ذكر الأغاني والغزل)، ومنظومته لمتن الحاوي في فقه السادة الشافعية المسماة بالبهجة مع شرحها للقاضي زكريا المسمى ب «الغرر البهية شرح البهجة الوردية».
وطبع تاريخه «تتمة المختصر في أخبار البشر» وهو الذي اختصره من تاريخ أبي الفدا وذيل عليه كما قدمناه في المقدمة. ومن مؤلفاته التي لم يذكرها مترجموه «تحرير الخصاصة في تيسير الخلاصة» وهو حل الألفية نثرا، منه نسخة في السلطانية بمصر ورقمها 335.
352 - أحمد بن يوسف بن العجمي المتوفى سنة 750
أحمد بن يوسف بن أحمد (1) بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الرحمن بن العجمي شهاب الدين بن بهاء الدين.
قال ابن حبيب: كان عالما ماجدا حسن الكتابة رئيسا، له نظم ونثر، وباشر كتابة الإنشاء وتدريس الرواحية بحلب ومات بها سنة خمسين عن نيف وخمسين.
353 - عبد القاهر السفاح قاضي حلب المتوفى سنة 750
عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح الحلبي نجم الدين أبو محمد.
__________
(1) في الأصل: أحمد بن يوسف بن عبد الرحمن. والصواب ما أثبتناه نقلا عن «الدرر الكامنة».(5/17)
ولد سنة بضع وتسعين واشتغل وتفقه ومهر وولي حسبة حلب، ثم ناب في الحكم بها عن ابن العديم. وكان شافعيا يحكم بمذهبه وينوب عن الحنفي، ثم ولي قضاء حلب استقلالا. وكان يعرف الفقه والعربية ويحاضر محاضرة حسنة (ويلعب الشطرنج عالية) (1). وكان حسن الشكل جهوري الصوت تام القامة عنده شهامة. وهو ابن أخي كاتب السر بحلب زين الدين عمر بن يوسف بن أبي السفاح. مات في رمضان سنة 50 وسبعمائة.
قال ابن حبيب: فاضل نجمه سعيد، ورئيس مداه بعيد، وماجد جد فوصل، وعارف بالعزم على العز حصل. إلى أن قال: كنت في مجلسه وحضرت دروسه.
354 - محمد بن عمر بن العديم المتوفى سنة 752
محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد ابن يحيى بن زهير بن أبي جرادة العقيلي ناصر الدين بن كمال الدين بن العديم.
ولد سنة 689، وسمع من الأبرقوهي وغيره، وولي قضاء حماة ثم قضاء حلب، وطلب إلى القاهرة عندما أخرج الحسام الغوري ليستقر في القضاء، فلما وصل إلى دمشق وصل المرسوم بعوده إلى حلب على حاله. وكان صدرا رئيسا ممدحا. وطالت مدته بحلب، وليها بضعا وثلاثين سنة. ومات في شوال سنة 752. وهو جد كمال الدين عمر بن جمال الدين إبراهيم قاضي الحنفية بالديار المصرية في زماننا.
قرأت بخط محمد بن محمد بن سعد في شيوخ حلب سنة 748: سمع من الأبرقوهي السيرة ومن الحجار البخاري ثم ثلاثيات الدارمي وجزء أبي الجهم والأربعين تخريج ابن البعلي.
وقال ابن رافع في معجمه: سمع من الأبرقوهي السيرة وسمع من جده وعم أبيه وحدث.
__________
(1) ما بين قوسين إضافة من «الدرر الكامنة» ليست في الأصل.(5/18)
355 - أحمد بن أبي طالب المتوفى سنة 752
أحمد بن أبي طالب عبد الرحمن بن محمد بن أبي القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن الخطيب بحلب شمس الدين بن قطب أبي طالب.
ولد سنة 680، وأحضر في الثالثة على الكمال النصيبي الشمائل وسمع على سنقر وحدث ودرّس بعدة مدارس. وكان فاضلا كتب المنسوب على طريقة ابن العديم. ذكره ابن حبيب وأثنى عليه. وأخذ عنه رافع وابن شاكر وغيرهما. مات سنة 52وقد جاوز السبعين.
356 - عمر بن يوسف السفاح المتوفي سنة 754
عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح الحلبي زين الدين بن عز الدين ابن زين الدين بن شرف الدين.
تعانى الأدب وكتب في الإنشاء، وولي وكالة بيت المال ونظر الأحباس، ثم ولي كتابة السر بحلب عوضا عن جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود في سنة تسع وأربعين، فباشرها بحسن سياسة ومكارم أخلاق إلى أن عزل بشهاب الدين الحسيني في سنة إحدى وخمسين وصودر وجرى عليه ما لم يجر على كاتب سر غيره. ثم رجع إلى وظائفه الأولى فأقام بحلب إلى أن مات في شعبان سنة 754.
ورثاه الأديب شمس الدين الصفدي الشاعر بدمشق بأبيات منها:
ويحق لي سفح المدامع إن بكت ... عين الزمان على فتى السفّاح
وبعد هذا البيت كما في ترجمته في الدر المنتخب:
فاقت شمائله الشمول بلطفها ... والكيس يغني عن كؤوس الراح
وكانت وفاته بحلب عن نيف وستين سنة تغمده الله برحمته.
357 - محمد بن سعيد الطائي الكاتب المتوفى سنة 755
محمد بن سعيد بن زبان الطائي تاج الدين الحلبي.(5/19)
ولد سنة بضع وتسعين، وكتب الإنشاء بحلب. وولي نظر بعلبك ثم نظر الدواوين بحلب. ثم سكن دمشق وولي بها نظر البيوت وغير ذلك. وأصابه الفالج فأقعد نحوا من أربع سنين. وكان حسن الشكل كثير السيادة جميل الأخلاق والملبس والخط سريع الكتابة مقتدرا على الإنشاء، كان يكتب الكتاب منكوسا من الحسبلة إلى البسملة في أي معنى اقترح عليه. مات في جمادى الآخرة سنة 755.
358 - محمد بن علي الهروي المتوفي سنة 755
محمد بن علي بن الحسن الشيخ جمال الدين بن علاء الدين الهروي الأصل الحلبي الدار المعروف بالشيخ زاده الحنفي.
كان فقيها صوفيا بارعا في المذهب، وله نظم جيد باللغة الفارسية.
قال ابن حبيب: فاضل حسن وصفه، وطاب عرفه، يميل إلى التصوف، ويشتمل برداء التزهد والتعفف. أنشدني بيتين باللسان الفارسي وذكر لي معناهما، واقترح علي نظمه باللغة العربية فقلت:
ألحاظه شهدت بأني مخطىء ... وأتت بخط عذاره تذكارا
يا حاكم الحب اتئد في قصتي ... فالخط زور والشهود سكارى
توفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى اهـ. (المنهل).
359 - الشريف علي بن حمزة بن زهرة المتوفى سنة 755
علي بن حمزة بن علي بن الحسن بن زهرة الشريف علاء الدين أبو الحسن بن عز الدين أبو المكارم بن النقيب فخر الدين أبي الحسن بن شمس الدين أبي علي الحسيني نقيب الأشراف بحلب.
ذكره الإمام ابن حبيب في تاريخه: ماجد شرف محتده، واتسع معهده، وطاب نجاره وارتفع مناره، كان رئيسا سعيدا، كاتبا مجيدا، عارفا خبيرا، حاكما على الشرفاء أميرا، وافر الحرمة، ظاهر النعمة، ذا ثروة وعقار، وجلالة ووقار، وخيل وخول وخدم، وقدم راسخة في السعادة وقدم. أقام بالقاهرة وكتب في ديوان إنشائها، وباشر وكالة بيت المال
بحلب المشهورة محاسن شهبائها، واستمر يتفيأ من العز بظله الوريف، إلى أن قيل له قد حان ما وعدت الحين أيها الشريف. انتهى.(5/20)
ذكره الإمام ابن حبيب في تاريخه: ماجد شرف محتده، واتسع معهده، وطاب نجاره وارتفع مناره، كان رئيسا سعيدا، كاتبا مجيدا، عارفا خبيرا، حاكما على الشرفاء أميرا، وافر الحرمة، ظاهر النعمة، ذا ثروة وعقار، وجلالة ووقار، وخيل وخول وخدم، وقدم راسخة في السعادة وقدم. أقام بالقاهرة وكتب في ديوان إنشائها، وباشر وكالة بيت المال
بحلب المشهورة محاسن شهبائها، واستمر يتفيأ من العز بظله الوريف، إلى أن قيل له قد حان ما وعدت الحين أيها الشريف. انتهى.
توفي في سنة خمس وخمسين وسبعمائة بحلب عن نيف وسبعين سنة تغمده الله برحمته اهـ (الدر المنتخب).
360 - عمر بن سعيد التلمساني القاضي المالكي المتوفى سنة 756
عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني المالكي، قاضي القضاة بحلب.
ولي قضاء حلب على مذهبه في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة عوضا عن القاضي شهاب الدين أحمد بن ياسين الرباحي، وباشرها نحو خمسة أعوام (وبعد أن ذكر ثناء ابن حبيب عليه قال):
وكانت وفاته بها عن نيف وستين سنة. وذكره غير ابن حبيب ووصفه بخلاف ما وصفه به ابن حبيب فقال الصفدي: إنه استقر في قضاء حلب بعد الرباحي بعد سعي شديد، وتعجب الناس من إقدامه على ذلك لما يعرفونه من جهله المفرط وعدوها من المعضلات. قال: وخلف أموالا كثيرة وكتبا جمة. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وسبعمائة في رجب اهـ. (الدر المنتخب).
361 - علي بن بلبان المتوفى سنة 756
علي بن بلبان الأمير علاء الدين الحاجب.
مولده سنة بضع وسبعمائة. ولي حجوبية دمشق ثم حجوبية حلب وتردد بينهما.
وكان أميرا فاضلا ذكيا فطنا يستحضر كثيرا من أشعار المتقدمين والمتأخرين، وأمعن التواريخ والوقايع، مع حلاوة المنطق وفصاحة اللسان وكثرة الاستحضار والتمثل بالبيت النادر في وقته. وكان مع ذلك مشهورا بالكرم والفروسية. توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى اهـ. (المنهل الصافي).
أقول: وهو أخو الحسن بن بلبان باني الجامع المعروف بالمهمندار والمشهور الآن
بالقاضي، وقد وقفت على ترجمته في مختصر الدر المنتخب لابن الملا بخطه والمنهل الصافي، وكلاهما لم يذكرا تاريخ وفاته لذا ذكرته هنا، ويغلب على الظن أن وفاته في هذه السنين.(5/21)
أقول: وهو أخو الحسن بن بلبان باني الجامع المعروف بالمهمندار والمشهور الآن
بالقاضي، وقد وقفت على ترجمته في مختصر الدر المنتخب لابن الملا بخطه والمنهل الصافي، وكلاهما لم يذكرا تاريخ وفاته لذا ذكرته هنا، ويغلب على الظن أن وفاته في هذه السنين.
362 - الحسن بن بلبان باني جامع القاضي
الحسن بن بلبان حسام الدين ابن المهمندار أخو الأمير علاء الدين أبي الحسن علي الذي كان حاجب الحجاب بحلب والأمير ناصر الدين محمد (1) أحد المقدمين بحلب ثم نائب القلعة بها.
وكان حسام الدين المذكور أميرا بحلب، وبنى بها جامعا حسنا داخل باب اليهود المعروف الآن بباب النصر ووقف عليه وقفا، ولما زلزلت حلب سنة ست وثمانماية انهدمت قبلية الجامع المذكور فأعادها بعض التجار من ماله كما كانت اهـ.
وفي الدر المنتخب: تربة بني المهمندار تجاه تربة موسى الحاجب (المتوفى سنة 756 وتربته بالقرب من باب المقام).
الكلام على جامع المهمندار: قال أبو ذر: بناه الحسن بن بلبان حسام الدين المهمندار، كان من أمراء حلب، ووقف عليه وقفا من جملته حصة بقرية السموقة وحصة بحمّام عزاز والبيت الذي تجاه الجامع المذكور. ثم إن جمال الدين (3) يوسف ابن الأمير أحمد المهمندار ذكر أنه استبدل بهذا البيت مكانا (2). ومن شرط واقفه كما رأيته في كتاب وقفه أن يكون له جاب ومعمار وشاد وقد ألحق فيه وعامل وذلك في عاشر شوال سنة اثنتين وسبعماية. وهذا الجامع نير كثير المياه له منارة لم يوجد في مملكة الشام أحسن منها، بل ذكر لي أن ولا في مصر أظرف منها. وله منبر من الرخام الأصفر، وكذلك سدته. وهذه المنارة فيها من الصنايع من أولها إلى رأس قبتها بحيث إن الناظر لا يميز حجرا من حجر من الأشكال المختلفة في نحتها
__________
(1) كانت وفاته سنة 792ويظهر أنه ولد المترجم أو حفيده، وقد سقط ذلك من الناسخ.
(2) هو المحكمة الشرعية الآن، وقد عد ابن الشحنة في الدر المنتخب هذه الدار من جملة الدور العظام التي في حلب، وكانت سكن الواقف وسكن ذريته من بعده إلى أن استبدلت.
(3) في مخطوطة «كنوز الذهب» التي صورتها بحوزة الأستاذ محمد كامل فارس: جار الله يوسف(5/22)
وتركيبها ودرابزينها من الأحجار المخرمة. وإلى جانب هذا الجامع مسجد قديم لم يغيره الواقف، إنما جعله في جانب جامعه من الغرب وفتح بينهما. انتهى.
وبيت المهمندار كان بيت سعادة وحشمة ومعروف ورياسة وثروة كبيرة، فآل ذلك إلى الأخوين وهما ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد، فتوفي شهاب الدين عن ولد ذكر، وأما ناصر الدين فلم يتزوج قط، وكان محتشما قليل الكلام، وله ثروة عظيمة، وكان يحب جمع الكتب النفيسة والأشياء النفيسة من كل فن. أخبرني القاضي علاء الدين الحاضري قال: اجتمعت به يوما وكان ابن أخيه يوسف صغيرا، فخرج يلعب فزجره عمه فنهيته عن ذلك فقال لي: إن عمر هذا يبيع مسامير بيتنا. وتوفي ناصر الدين المذكور فورثه ابن أخيه يوسف فحبب إليه الحج، فحج حجتين عظيمتين وأصرف عليهما أموالا كثيرة وبدرا (1) وباع الأملاك شيئا فشيئا ولم يبق له أثره لكن في أنواع الخير لا في معصية اهـ.
المكتوب على جدار الجامع المذكور بجانب الباب: ملعون من تعاطى تصوير ما فيه روح بقرب هذا الجامع أو يرفع صورة ما فيها روح ليجمع الناس عليها أو يبيعها، ومن فعل ذلك كان داخلا في عموم قوله صلّى الله عليه وسلم (إن أصحاب هذا الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) اهـ وهي بغير تاريخ.
أقول: هذا الجامع في المحلة المعروفة بالفرافرة داخل باب النصر، ويعرف عند الناس بجامع القاضي. وكان عمر بن موسى بن علي المهمندار بالمملكة الحلبية وقف بعد الثمانمائة وقفا كبيرا بحلب وعينتاب وفي بعض القرى وجعل ثلث ريعه لهذا الجامع، ومنذ مائة سنة تغلبت الناس والحكومة ودائرة الأوقاف على هذه العقارات ولم يبق بيد المتولين شيء مما وقفه عمر بن موسى المذكور، والباقي له الآن من العقارات 25دكانا منها ثمانية مخرجة من نفس الجامع ومنها ما هو مخرج من المحكمة الشرعية أخرج منها ثمان دكاكين والباقي هو في السوق المعروف بسويقة علي بالقرب من الجامع، وله ربع حمّام السلطان التي هي تحت القلعة وسدس حمّام البشاشير في عينتاب المعروفة (بحمام إيكي قبولي) الواقعة في محلة ابن أيوب، وتبلغ واردات أوقافه الآن نحو ستين ألفا أي نحو مائتين وعشرين ليرة عثمانية ذهبا.
__________
(1) في مخطوطة «كنوز الذهب»: وبذر.(5/23)
وعلى إثر الزلزلة التي حصلت سنة 1237تخربت أروقة الجامع ولم يبق منه سوى قسم من القبلية، وعقاراته كذلك كانت مشرفة على الخراب وأجرتها زهيدة جدا، لذا سعي في إخراج الدكاكين من نفس الجامع وصاروا يولون على هذا الوقف من خيرة العلماء والصلحاء، وآخر من ولي منهم الشيخ أحمد الكواكبي، وبعد وفاته تولى عليه الشيخ عبد السلام الترمانيني ثم ولده الشيخ محمد بدر الدين الذي توفي سنة 1309، وبعد وفاته ولي ولده صديقنا الأديب الفاضل الشيخ محمد بهاء الدين الترمانيني مدير نفوس ولاية حلب الآن، فاهتم بعمارته وعمر رواقه الشرقي والشمالي وبنى في هذا حجرة واسعة داخلها قسطل ليتوضأ منه ويصلى هناك وقت الشتاء، وبلط صحنه بالرخام الأبيض، وفي سنة 1343سعى بترميمه وتدهينه فعادت إليه بهجته، وكذا اهتم في ترميم وقفه حتى بلغ ريعها إلى ما تقدم.
وممن وقف على هذا الجامع الأمير مقبل بن عبد الله، فإنه شرط في كتاب وقفه المؤرخ سنة 942أن يعين ثلاثة أشخاص من حفظة القرآن العظيم يقرؤون بين المنبر والمحراب كل يوم جمعة قبل الصلاة، وعين لكل واحد منهم أربعين درهما فضة وهو من الأوقاف الأعشارية المضبوطة لدائرة أوقاف حلب.
ومنارة الجامع لم تزل باقية من عهد بناء الواقف، وهي كما وصفها الشيخ أبو ذر يعجب الناظر لها لإحكام صنعتها وحسن هندستها يخالها من يراها أنها قطعة واحدة، وهي في مقدمة الآثار العربية القديمة الباقية في حلب، وإليك صورتها:(5/24)
مئذنة جامع المهمندار
مئذنة جامع المهمندار (التفاصيل)(5/25)
مئذنة جامع المهمندار (التفاصيل)
363 - الأمير موسى بن عبد الله الناصري الحاجب المتوفى سنة 756
قال أبو ذر: قال ابن حبيب: كان إماما كبيرا، عارفا خبيرا، حسن السياسة، جزيل الرياسة، ذا نعمة وافرة، وحشمة وجوهها سافرة، وخول وخيل، وسير إلى الخير فسبق السيل، ولي الحجوبية بحلب مدة أعوام، وأظهر من مباشرته بالذخيرة خواطر الأقوام، ثم انتقل إلى البيرة، فأحسن فيها السيرة، واستمر عالي الصوت والصيت، إلى أن لحق بجوار من يحي ويميت. مات بالبيرة سنة ست وخمسين وسبعماية، ودفن بالتربة التي أنشأها ظاهر حلب وهو من أبناء السبعين. وخارج مدفنه مدرسة له كان نظرها بيد شخص من الحنفية، فانتزع النظر من العلامة محب الدين ابن الشحنة، وكان الواقف جده لأمه، وكان كثيرا ما ينشد:
تشفع بالنبيّ فكل عبد ... يجار إذا تشفع بالنبيّ
ولا تجزع إذا ضاقت أمور ... فكم لله من لطف خفيّ
الكلام على هذه التربة: قال أبو ذر: تربة موسى الحاجب هذه بالقرب من باب المقام، تشتمل على بوابة وعليها قبو، وإلى جانبها حوض ماء كان يأتي إليه الماء من قناة حيلان، أنشأها موسى بن عبد الله الناصري الأمير شرف الدين نائب السلطنة بالبيرة ثم حاجب حلب اهـ.
وقال ابن الشحنة في الكلام على الترب: تربة جدي لأمي الأمير موسى الحاجب، وهي تشتمل على إيوان له شبابيك على الطريق جعله مدرسة يذكر فيها مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وداخلها تربة واسعة وجنينة بها بئر صغير يساق ماؤه إلى القسطل الذي بناه لصيق باب التربة، وهذا الباب ذو قناطر ثلاثة وقبو مصلب معقود بالجملة على ميسرة الظاهر من المدينة اهـ.
364 - أحمد بن يوسف بن السمين المتوفى سنة 756
أحمد بن يوسف بن عبد الدايم بن محمد الحلبي شهاب الدين المقري النحوي المعروف بابن السمين نزيل القاهرة.(5/26)
تعانى النحو فمهر فيه، ولازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات على التقي الصائغ ومهر فيها، وسمع الحديث من يونس الدبوسي وغيره، وولي تدريس القرآن بجامع ابن طولون والإعادة بالشافعي، وناب في الحكم وولي نظر الأوقاف. وله تفسير القرآن في عشرين مجلدة رأيته بخطه، وإعراب القرآن سماه «الدر المصون» في ثلاثة أسفار بخطه صنفه في حياة شيخه وناقشه فيه مناقشات كثيرة غالبها جيدة، وجمع كتابا في أحكام القرآن، وشرح التسهيل والشاطبية. قال الأسنوي في الطبقات: كان فقيها بارعا في النحو والقراءات ويتكلم في الأصول، خبيرا أديبا. مات في جمادى الآخرة وقيل في شعبان سنة 756. (ومثله في بغية الوعاة نقلا عن الدرر الكامنة).
وكتابه «إعراب القرآن» موجود في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب في مجلدين ضخمين، ومنه نسخة في مكتبة كوبريلي محمد باشا في الآستانة ورقمها 99، ونسخة في مكتبة يكي جامع في الآستانة في ثلاثة أجزاء.
ومن مؤلفاته «عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ». قال في الكشف: وممن ألف في غريب القرآن ابن السمين الحلبي وهو أحسن الكتب المؤلفة في هذا الشان اهـ.
منه نسخة في العثمانية والأحمدية بحلب والسلطانية بمصر، وفي مكتبة سرويلي في الآستانة منه نسختان، وفي خزانة أحمد تيمور باشا بمصر، قال في مقالته نوادر المخطوطات المنشورة في مجلة الهلال: وهو أوفى من مفردات الراغب.
365 - إسماعيل بن فرفور المتوفى سنة 757
إسماعيل بن إبراهيم الحلبي المعروف بابن فرفور عماد الدين. تنقل في الخدم وتقدم عند تنكز نائب الشام، واقتنى الأملاك بدمشق وحلب، وباشر توقيع الدست ونظر الخاص بدمشق. وكانت له معرفة بالحساب مع محبة الخير والدين والإيثار. مات في صفر سنة 757.
الكلام على 49558 درب بني الفرافرة:
قال أبو ذر: نسبة إلى بني فرفور، وكانوا رؤساء، وكان بهذا الدرب مسكن نقباء
الجيش الأمير شهاب الدين أحمد وشعبان أولاد كيكلدي وكانا من أهل الخير والصلاح يميلون إلى العدل ويحبون أهل الخير، وكانا محبين لوالدي وغيره من أهل الخير. وكان شعبان المذكور يجلس عند حانوت الذي يبيع الشمع والذي يبيع الفاكهة شخصين يخبرانه بمن اشترى الفاكهة والشمع، فيرسل إليه بكرة النهار ويقول له: بلغ النائب عنك أنك تفعل كذا وكذا وأراد إخراج إقطاعك فارجع عما أنت فيه وإلا أخرج إقطاعك. وإنما يفعل ذلك شفقة عليه لأنه إذا فعل المحرم احتاج إلى بيع الإقطاع.(5/27)
قال أبو ذر: نسبة إلى بني فرفور، وكانوا رؤساء، وكان بهذا الدرب مسكن نقباء
الجيش الأمير شهاب الدين أحمد وشعبان أولاد كيكلدي وكانا من أهل الخير والصلاح يميلون إلى العدل ويحبون أهل الخير، وكانا محبين لوالدي وغيره من أهل الخير. وكان شعبان المذكور يجلس عند حانوت الذي يبيع الشمع والذي يبيع الفاكهة شخصين يخبرانه بمن اشترى الفاكهة والشمع، فيرسل إليه بكرة النهار ويقول له: بلغ النائب عنك أنك تفعل كذا وكذا وأراد إخراج إقطاعك فارجع عما أنت فيه وإلا أخرج إقطاعك. وإنما يفعل ذلك شفقة عليه لأنه إذا فعل المحرم احتاج إلى بيع الإقطاع.
وبهذا الدرب قسطل من أيام الظاهر غازي، وكان عليه قبو فاندثر (1). ولما قدم الأشرف برسباي إلى حلب نزل بهذا الدرب العلامة بدر الدين العيني اهـ.
49559 - درب بني الريان:
قال: هو الدرب الآخذ من هذا الدرب (أي درب الفرافرة) إلى جهة القرناصية، وتقدم الكلام على بني الريان. وهناك مساكن بني الأستاذ والخانكاه العادلية وخانكاه أخرى.
الكلام على 49560 الخانكاه العادلية:
وقال في الكلام على خوانك النساء: خانكاه أنشأتها ضيفه خاتون بنت العادل سيف الدين أبي بكر أم الملك العزيز محمد داخل باب أربعين مكتوب على بابها:
بنيت سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وإلى جانبها من جهة الشرق زاوية أخي باك العجمي دخلتها مع ولده الخواجا أحمد.
وتجاه هذه الخانكاه خانكاه القوامية أظنها نسبة لمن سكن بها لا لبانيها، وهي وقف على البسطامية اهـ.
قال في الدر المنتخب: في هذا الباب (خانكاه) أنشأتها الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل داخل باب الأربعين تجاه مسجد الشيخ الحافظ عبد الرحمن ابن الأستاذ.
أقول: لم تزل هذه الخانكاه في هذا الدرب تجاه المدرسة المعروفة الآن بالهاشمية والجامع
__________
(1) في الهامش بخط ابن الموقع: هو القسطل الذي بقرب الخانكاه. ولا زال موجودا بقربها.(5/28)
المعروف بالزينبية، وبابها تنزل إليها بدرجة وهو مؤلف من ثلاث أحجار سوداء كبيرة، وهو باق من عهد بنائه، وفوق هذا الباب حجرة مكتوب عليها:
(1) البسملة. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا
(2) لغفور شكور. الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب
(3) ولا يمسنا فيها لغوب. أنشىء هذا الرباط المبارك في أيام مولانا السلطان
(4) الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر
(5) غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين في شهور سنة خمس وثلثين وستمائة اهـ.
وتجد بعد الباب دهليزا تدخل منه إلى صحن مربع طوله 40قدما وعرضه كذلك، تجد في شماليه إيوانا واسعا عظيم الارتفاع قنطرته مبنية من حجارة ضخمة، وفي الجنوب قبلية فيها محراب بديع بلغت فيه الصنعة منتهاها من الهندسة والهندام، يكتنف المحراب عمودان من الرخام الأزرق يعلو كل واحد منهما تاج مرخم ترخيما بديعا يدلك على دقة صنعة وبراعة، وعلى القنطرة أحجار مدورة يتخللها قطع صغيرة من الفسيفساء وهي ملونة تلوينا حسنا، لكن الأوساخ المتراكمة على هذا المحراب ذهبت ببهجته وحسن بهائه.
وعن يمين القبلية ويسارها حجر صغيرة يعلوها طابق آخر فيه حجر، لكن معظمها متهدم، ويسكن هذا الحجر غرباء من العبيد والجواري والفقراء، وفي وسط الصحن حوض صغير مؤلف من سبع أحجار على شكل الحوض الذي في رباط الفردوس، غير أن ذاك أهم منه، ومن هذا الصحن تدخل في دهليز آخر تخرج منه إلى صحن صغير فيه أربع حجر أيضا. والمكان من نحو مائتي سنة لم يدخل إليه المعمار لذا تراه سائرا إلى الخراب، والمهم فيه هو ذلك المحراب العظيم.
366 - خالد بن القيسراني الكاتب المتوفى سنة 759
خالد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر القاضي شرف الدين أبو البقاء بن عماد الدين المخزومي الشهير بابن القيسراني الحلبي ثم الدمشقي، الكاتب البارع في الإنشاء.(5/29)
كان بارعا ماهرا بليغا، وله مباشرة وفضل، باشر ديوان الإنشاء ووكالة بيت المال بدمشق، إلى أن توفي بها سنة تسع وخمسين وسبعمائة عن نيف وخمسين سنة رحمه الله تعالى.
367 - إبراهيم بن الشهاب محمود المتوفى سنة 760
إبراهيم بن محمود بن سلمان بن فهد الحلبي جمال الدين.
ولد سنة 676في شعبان، وسمع من الدمياطي والأرموي (1)، وحدث عن أبيه، وأجازت له العجوز زينب بنت مكي حديثا عن الشيخ برهان الدين الشامي وغيره (2).
وكان قدومه القاهرة من حلب صحبة أبيه، فكتب في الإنشاء. وكان علاء الدين بن الأثير يأنس به ويركن إليه. واستقر هو في كتابة السر بحلب بعد عزل عماد الدين بن القيسراني، فباشرها ست عشرة سنة إلى أن صرف بتاج الدين بن الزين خضر في سنة 33، ثم رتب في ديوان الإنشاء بمصر عن علاء الدين بن فضل الله وباشر توقيع الدست، ثم أعيد إلى كتابة السر بحلب في سنة 47، ثم عزل بابن السفاح، ثم أعيد، وكان ابنه كمال الدين يسد عنه إلى أن صرف في ربيع الأول سنة 59، واستمر بطالا إلى أن مات يوم عرفة، وقيل في ليلة سابعه. وأرخه شيخنا في شوال سنة ستين وسبعمائة، والأول أقوى لأنه قول الصفدي وهو أخبر به.
ومن شعره:
إن اسم من أهواه تصحيفه ... وصف لقلب المدنف العاني
وشطره من قبل تصحيفه ... يقاد فيه المذنب الجاني
وقال في المنهل الصافي: سمع من والده وأجاز له جماعة من المشايخ وحدث بالقاهرة، سمع بها عليه شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني والإمام شمس الدين محمد بن جابر وعبد الرحمن بن يوسف المزي وآخرون، وحدث بحلب سمع منه بها الحافظ زين الدين العراقي والشيخ أبو الحسن نور الدين الهيثمي وابن البنا الدمشقي وابن حبيب والخطيب ناصر الدين
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: والأبرقوهي.
(2) في «الدرر الكامنة»: وأجاز له الفخر وزينب بنت مكي، حدثنا عنه الشيخ(5/30)
أبو المعالي محمد بن عشاير وأسباطه الشريف عز الدين أحمد وأخوه محمد وأختهما فاطمة أولاد الشريف أبي العباس أحمد الحسينيون، وفتى والدهم طيبغا الشريفي وغيرهم. ومهر في الكتابة وبرع في الإنشاء، وولي كتابة حلب وباشرها ثلاث مرات نيفا وعشرين سنة.
وكان له النظم الرايق والنثر الفايق. وفيه وفي أبيه يقول الشريف شهاب الدين أبو عبد الله الحسيني المصري عندما باشر كتابة سر حلب ووالده إذ ذاك كاتب سر دمشق المحروسة:
إن محمود وابنه ... بهما تشرف الرتب
فدمشق بذا سمت ... وبهذا سمت حلب
وفيه يقول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة رحمه الله من قصيدة (1): (2)
أجيراننا حيّا الربيع دياركم ... وإن لم يكن فيها لطرفي مربع
ولما كان بحلب كتب إلى والده متشوقا من أبيات:
هل زمن ولى بكم عايد ... أم هل ترى يرجع عيش مضى
فارقتكم بالرغم مني ولم ... أختره لكني أطعت القضا
وهو ووالده من بيت كتابة وعلم وفضل وإنشاء، ولهما النظم الرايق والنثر الفايق.
توفي في شوال سنة ستين وسبعماية بحلب. وكان رحمه الله كثير الفضايل اقتبس من محاسن والده، وكان كثير الوقار عفيفا دينا مليح الخط فصيح اللسان متواضعا على طريقة السلف بارعا منشيا بليغا كثير البر والخير رحمه الله اهـ.
ولابن نباتة المصري فيه وفي أبيه المدائح الكثيرة والمراثي، وهي في ديوانه المطبوع في مصر. قال وقد سافر ابن الشهاب محمود وقدم ابن مشكور في حلب:
كم تمسّكت بممدوحين في ... حلب رفدهما لي ما عدم
فبمشكورين محمود مضى ... وبمحمودين مشكور قدم
__________
(1) لم أجد هذه القصيدة في ديوانه المطبوع.
(2) البيت ثالث أبيات قصيدة مطلعها:
سرى طيفها حيث العواذل هجع ... فنمّ علينا نشره المتضوع(5/31)
368 - إبراهيم بن محمد بن ناهض المتوفى سنة 761
إبراهيم بن محمد بن ناهض بن سالم بن نصر الله تقي الدين ابن الضرير.
ولد أول سنة 698بحلب. وسمع من أبيه ومحمود بن أبي بكر الأرموي وجماعة، وأجاز له التقي سلمان وغيره، وأخذ عن ابن الوكيل بحلب كثيرا من الأشعار، حتى التزم مرة أنه ينشد عشرة آلاف بيت من حفظه على روي واحد، ونسخ بخطه كثيرا من المصاحف وغيرها (1). وكان حسن العشرة جميل الصحبة أبي النفس. وكانت له منظرة بأعلى مشهد الفراديس (هكذا والصواب الفردوس المكان المشهور) لا يزال يدعو الأكابر إليها فلا يتصور أن أحدا من أكابر البلد ما صعد إليها لحسن عشرته. وإلى هذه الطبقة أشار ابن نباتة بقوله فيما كتبه إليه سباعية أولها (هنا بيتان لم أنقلهما لأن أكثر الكلمات تعذر عليّ فهمها) (2).
وقال ابن حبيب: كان حسن المحاضرة، مفيد المذاكرة، جمع وسمع وحصل ودأب، وكتب وتأدب، وأم بفردوس حلب. ومات سنة 761عن بضع وسبعين سنة اهـ.
369 - محمد بن محمد سبط ابن السفاح المتوفى سنة 761
محمد بن محمد عز الدين الشافعي سبط ابن السفاح. ولد سنة 728، واشتغل وأجيز
__________
(1) انظر المجلد الرابع من مجلة المجمع العلمي العربي في صحيفة (380).
(2) الأبيات كما هي في ديوان ابن نباتة وقد وجهها إلى ابن أبي حجلة شهاب الدين:
أواه من جائرة جاره ... فتانة الألحاظ سحاره
إن أصبحت للعهد نباذة ... فعينها للعقل خماره
كأنها في السحر باللحظ من ... لفظ شهاب الدين ممتاره
والفضل واللفظ الرفيع الذي ... من دارة البدر انثنى داره
منظره ما بين زهر الدجى ... أخبارها في الفضل طياره
يا نائيا أسطره قد نأت ... فوحشة المشتاق كراره
باب البريد افتح بكتب فلي ... عين بدمع الشوق فواره
وهناك خلاف بين رواية الديوان ورواية مخطوطة «الدر المنتخب» لابن خطيب الناصرية النسخة التركية التي يقوم بتحقيقها الأستاذ محمد كامل فارس، ففي البيت الثالث: تقي الدين بدل شهاب الدين، ورواية البيت الرابع:
النير الهادي بأفق التقى ... من دارة البدر ابتنى داره(5/32)
بالإفتاء، ودرس بالمشهد الحسيني، ومات في ربيع الأول سنة 761.
370 - الشريف علي بن محمد بن زهرة المتوفى سنة 761
علي بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن أبي إبراهيم الممدوح الشريف زين الدين أبي العباس الحسيني الحلبي.
تقدم ذكر جده وجماعة من بيتهم.
قرأت في تاريخ الإمام ابن حبيب في ترجمته: سيد نسبه عريق، وفرع أصله وريق، وشرفه مرتفع، وشمل أهله بتدبيره مجتمع. كان بهي المنظر، عذب المورد والمصدر، حسن البشر والوداد، رافلا في ملأ من السيادة والسداد، ذا حشمة زائدة، وصلة منافعها على الطالبين عائدة، وصمت وسكون، وميل إلى فعل الخير وركون، يتمسك بأفنان عز العزلة، ويواظب جد القول فيترك هزله. ولي نقابة الأشراف بحلب فشرف قدرها وثمر وقفها وضبط أمرها، واستجلب أدعية السادة من أقربائه، ولم يبرح علي المنزلة إلى أن لحق بالسالفين من أولياء الله وأصفيائه. انتهى.
توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وستين وسبعمائة بحلب عن ست وستين سنة.
وفيه يقول الأديب زين الدين عبد الرحمن بن الخضر السخاوي لما ولي النقابة:
بني الحسين تولى أمركم رجل ... يرضي أباكم عليّا في ألوّته
يعصي اللوائم في نسك وفي كرم ... فقد أطاعه برا في أبوّته
وفيه يقول أيضا:
أبا الحسن المرضيّ سرت من التقى ... بأحسن سير يا أبا الحسنين
ولا عجب أن قام بالحق أهله ... وسار عليّ سيرة العمرين
ورثاه الأديب عز الدين أبو علي بن البنا العباسي بقصيدة منها:
تعفّت رسوم المجد بعد عليّها ... وأصبح صبح الجود كالليل مظلما
وراح لسان الحمد في كل وجهة ... عن النطق مشغول السريرة أبكما
ألا في سبيل الله من كان مجده ... على كاهل الغبراء للمجد مخذما
ومن كان في صدر المجالس للعلا ... عصاما يراعي منه كفؤا مكرّما
ومن كان البحر الخضم سماحة ... وصدرا وقولا مستقيما وأنعما
من الغرّآل المصطفى كم تسربلوا ... نعيم عجاج سحبه تمطر الدما
إذا ظعنوا كانوا بدور غياهب ... وإن نزلوا كانوا لوافدهم حمى
عليّ أبا المعروف قد كنت راضيا ... إذا عرضت يوما له راحة همى
نعمت وأشقيت القريب كأنما ... فراقك شب الحزن فيهم وأضرما
ليهنك مأواك الذي بت جوّه ... جوار كريم بالترفّل منعما
اهـ. (الدر المنتخب لابن خطيب الناصرية).(5/33)
تعفّت رسوم المجد بعد عليّها ... وأصبح صبح الجود كالليل مظلما
وراح لسان الحمد في كل وجهة ... عن النطق مشغول السريرة أبكما
ألا في سبيل الله من كان مجده ... على كاهل الغبراء للمجد مخذما
ومن كان في صدر المجالس للعلا ... عصاما يراعي منه كفؤا مكرّما
ومن كان البحر الخضم سماحة ... وصدرا وقولا مستقيما وأنعما
من الغرّآل المصطفى كم تسربلوا ... نعيم عجاج سحبه تمطر الدما
إذا ظعنوا كانوا بدور غياهب ... وإن نزلوا كانوا لوافدهم حمى
عليّ أبا المعروف قد كنت راضيا ... إذا عرضت يوما له راحة همى
نعمت وأشقيت القريب كأنما ... فراقك شب الحزن فيهم وأضرما
ليهنك مأواك الذي بت جوّه ... جوار كريم بالترفّل منعما
اهـ. (الدر المنتخب لابن خطيب الناصرية).
371 - أغلبك بن عبد الله الجاشنكير المتوفى بعد ستين وسبعماية
أغلبك بن عبد الله الجاشنكير حاجب الحجاب.
كان أميرا دينا صارما مواظبا على الصلوات الخمس، وله بر وأوقاف بحلب، وله حرمة وافرة وشهامة، وهو مشهور بالحزم والدين والصرامة والتطلع إلى مصالح الرعية، إلا أنه كان يحدّ على الخمر كثيرا ويقول: ثمانون للحد والباقي لما يحصل منه من الفساد والافتراء. وكان مصمما على الأمور مراعيا للقانون السلطاني. توفي رحمة الله تعالى بحلب سنة وستين وسبعمائة اهـ. (الدر المنتخب).
قال أبو ذر: تربة أغلبك: ملاصقة للتربة البلقا [أي خارج باب المقام] وهي مشتملة على قبو على بابها وحوض ماء كان يأتي إليه الماء من دولاب داخل التربة، وقد عطل، ويدخل من باب هذه التربة إلى حوش وبه إيوان صغير وبيت للدولاب المذكور وعليه قبة، ويدخل من هذا الحوش إلى حوش آخر به قبر الواقف وغيره. وبعد أن ترجمه بما تقدم قال: توفي بعد الستين وسبعمائة. ولهذه التربة قراء اهـ.
أقول: لم أقف على مكان هذه التربة ولعلها دثرت.
372 - عبد الوهاب بن إبراهيم العجمي المتوفى سنة 762
عبد الوهاب بن إبراهيم بن صالح بن هاشم بن أبي حامد عبد الله بن عبد الرحمن بن
الحسين ابن العجمي الحلبي، يلقب بتاج الدين.(5/34)
عبد الوهاب بن إبراهيم بن صالح بن هاشم بن أبي حامد عبد الله بن عبد الرحمن بن
الحسين ابن العجمي الحلبي، يلقب بتاج الدين.
ولد بعد السبعمائة، وبرع هو في الشروط، وكان محمود السيرة. مات سنة 62.
ذكره ابن حبيب وقال: لم يبلغ الستين. وكان ظاهر الديانة وافر الأمانة.
قلت: وقد تقدم أبوه، وكان مسند حلب في عصره.
373 - الشريف محمد بن علي بن زهرة المتوفى سنة 762
محمد بن علي بن حمزة بن علي بن الحسن بن زهرة الشريف بدر الدين الحسيني نقيب الأشراف بحلب.
ولد بالقاهرة، وقدم حلب بعد موت أبيه فباشر الوظيفة إلى أن مات سنة 762.
374 - فاطمة بنت عمر بن الحسن بن حبيب المتوفاة سنة 763
فاطمة بنت أبي القاسم عمر بن أبي الحسن بن عمر بن حبيب الحلبية.
أسمعها أبوها الكثير من سنقر والعماد النابلسي وغيرهما، وكان مولدها سنة سبعمائة.
وسمعت أيضا من التاج النصيبي وغيره وحدثت بسنن ابن ماجه وغير ذلك. ماتت سنة 763.
375 - محمد بن يعقوب المعروف بابن الصاحب المتوفى سنة 763
محمد بن يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي ثم الدمشقي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين.
كان أولا يعرف بابن الصاحب، ثم صار يعرف بناصر الدين بن يعقوب. ولد سنة بضع وسبعمائة، وتعانى الاشتغال وقرأ القرآن على الرومي، وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب والحاجبية، وقرأ على ابن إمام المشهد وابن خطيب جبرين والأثير الأبهري، وأذن له ابن الزملكاني في الإفتاء لما كان قاضيا بحلب، ودرس بحلب في النورية والأسدية. وكان
على ذهنه من العلاج جملة، ويستحضر كتاب القانون ومن المعاني والبيان كثيرا. ولي كتابة الإنشاء بحلب ثم توقيع الدست، وكان أرغون يقربه ويكرمه، ثم ولي كتابة السر بحلب عوضا عن الشهاب بن القطب سنة 39، ثم ولي كتابة السر بدمشق سنة 47، وولي بها تدريس الشاميتين ومشيخة الشيوخ. وكان ينظم سريعا ويكتب خطا حسنا، واستمر بيده تدريس الأسدية بحلب وقضاء العسكر إلى أن مات بدمشق وحصل لأولاده الإقطاعات من إمرة العشرة فما دونها ولمماليكه وإلزامه والرواتب الوافرة على الديوان والجامع، واقتنى من الكتب النفيسة شيئا كثيرا إلى الغاية من الأملاك والبساتين المعظمة بدمشق وبلادها وحلب ومعاملاتها ما شاء الله. وبحث على فخر الدين بن خطيب جبرين «الكشاف»، وقرأ على أمين الدين الأبهري نصف التذكرة للطوسي في الهيئة، وقرأ عليه رسائل الأسطرلاب.(5/35)
كان أولا يعرف بابن الصاحب، ثم صار يعرف بناصر الدين بن يعقوب. ولد سنة بضع وسبعمائة، وتعانى الاشتغال وقرأ القرآن على الرومي، وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب والحاجبية، وقرأ على ابن إمام المشهد وابن خطيب جبرين والأثير الأبهري، وأذن له ابن الزملكاني في الإفتاء لما كان قاضيا بحلب، ودرس بحلب في النورية والأسدية. وكان
على ذهنه من العلاج جملة، ويستحضر كتاب القانون ومن المعاني والبيان كثيرا. ولي كتابة الإنشاء بحلب ثم توقيع الدست، وكان أرغون يقربه ويكرمه، ثم ولي كتابة السر بحلب عوضا عن الشهاب بن القطب سنة 39، ثم ولي كتابة السر بدمشق سنة 47، وولي بها تدريس الشاميتين ومشيخة الشيوخ. وكان ينظم سريعا ويكتب خطا حسنا، واستمر بيده تدريس الأسدية بحلب وقضاء العسكر إلى أن مات بدمشق وحصل لأولاده الإقطاعات من إمرة العشرة فما دونها ولمماليكه وإلزامه والرواتب الوافرة على الديوان والجامع، واقتنى من الكتب النفيسة شيئا كثيرا إلى الغاية من الأملاك والبساتين المعظمة بدمشق وبلادها وحلب ومعاملاتها ما شاء الله. وبحث على فخر الدين بن خطيب جبرين «الكشاف»، وقرأ على أمين الدين الأبهري نصف التذكرة للطوسي في الهيئة، وقرأ عليه رسائل الأسطرلاب.
قال الصفدي: ذكر لي أنه أحضر على سنقر الزيني في الرابعة، وكان مولده سنة بضع وسبعمائة، قال: وهذا لا ينتظم، فإن وفاة سنقر سنة ست، قلت: فتحمل على أنه ولد في أول سنة ثلاث، ويفرع على أن البضع من ثلاث إلى تسع. ولابن نباتة فيه مدائح كثيرة (وذكر هنا بيتين من نظم المترجم تعذر علي فهمهما فأضربت عنهما) (1).
قال الصفدي: كان محظوظا إلى الغاية، ولم يكن فيه شر مع الاحتمال الكثير وكظم الغيظ. ونقل إلى كتابة سر حلب في سنة ستين، ثم أعيد إلى كتابة السر بدمشق في سنة 62فباشرها إلى أن مات. قال: وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات. قال: وكتب إلي في ليلة مطيرة:
وكأن القطر في ساجي الدجى ... لؤلؤ رصّع ثوبا أسودا
وإذا ما قارب الأرض غدا ... فضة تشرق من بعد المدى
قال الصفدي: كان من رجالات الدهر حزما وعزما وسياسة ودربة، ينال مقاصده ولو كانت عند النعائم، ويتناول الثريا قاعدا غير قائم. وكان وجيها عند النواب يثني عليه أصحاب السيوف والأقلام مع السكون والأخلاق الرضية. وكان لا يواجه أحدا بما يكره.
__________
(1) البيتان هما اللذان سيردان بعد قليل: مشبب شب نقلا عن أبي ذر. وقد وردا في «الدرر الكامنة» تحقيق محمد سيد جاد الحق.(5/36)
وقال مرة: أنا أوقع عن الله وعن رسوله وعن السلطان وعن النائب وعن قاضي القضاة.
وقل أن اجتمعت هذه لغيره، لأنه كان يفتي فهو يوقع عن الله ورسوله، وكاتب سر وهو يوقع عن السلطان والنائب وكان بيده توقيع القاضي فاستمر.
وقال ابن كثير: كانت فيه نباهة وممارسة للعلم وجودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه فليس يتوسم (أو يتوهم) فيه سوء مع المهابة والعفة، وقد حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة إنه لم يرتكب فاحشة قط ولا خطر له ذلك.
وقال ابن رافع: سمع من إبراهيم بن العجمي وغيره وحدث وخرجت له مشيخة، وكان متواضعا ذا مروءة وتودد. وكانت وفاته في سادس ذي القعدة سنة 763 بدمشق اهـ.
وله ترجمة وجيزة في تاريخ أبي ذر. قال: وهو القائل:
مشبب شبّ في صناعته ... ريحانة الوقت منشىء الطرب
كأن أنفاسه لآلته ... روح تثير الحياة في القصب
قال الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات بعد أن ذكر من تلقى عنهم العلم: وكان قد تولى في حياة والده نظر الخاص المرتجع عن العربان بحلب مدة تقارب ثمانية أشهر، ثم نقل بذلك إلى كتابة الإنشاء بحلب، ثم لما كان الأمير سيف الدين أرغون بحلب نائبا جعله من موقعي الدست، وكان يحبه كثيرا ويقول له: يا فقيه، ويجلسه عنده في الليل.
وتولى تدريس النورية والشعيبية بحلب في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وتولى تدريس الأسدية سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ورسم له بكتابة سر حلب عوضا عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وتولى قضاء العسكر بحلب تلك السنة. ولم يزل بحلب إلى أن توفي تاج الدين بن الزين خضر بدمشق في أيام الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فسير طلبه من الكامل أن يكون عنده بدمشق كاتب سر، فرسم له بذلك، فحضر إلى دمشق رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وطلع الناس وتلقوه من [لعله مع] عز الدين طقطاي الدوادار والأمير سيف الدين تمر المهمندار والموقعين، ولم أر أحدا دخل دخوله من كتاب السر إلى دمشق. ورأيته ساكنا محتملا مداريا، لا يرى مشاققة أحد ولا منازعته، كثير الإحسان إلى الفقراء والمساكين يبرهم
ويقضي حوائجهم، ويكتب كتابة حسنة وينظم وينثر سريعا، ويستحضر قواعد الفقه فروعا وأصولا، وقواعد أصول الدين وقواعد الإعراب والمعاني والهيئة وقواعد الطب، ويستحضر من كليات الطب جملة. ولي دمشق سنة ثمان وأربعين. سمع صحيح مسلم على الشيخ محمد السلاوي، وسمع سنن أبي داود على الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة، وعلى بنت الخباز، وسمع عليها جملة من الأجزاء ومشيخة ابن عبد الدايم وغير ذلك. وكتب بمرج القشولة (1) صحبة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب الشام، وقد وقع مطر كثير برعد وبرق:(5/37)
وتولى تدريس النورية والشعيبية بحلب في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وتولى تدريس الأسدية سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ورسم له بكتابة سر حلب عوضا عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وتولى قضاء العسكر بحلب تلك السنة. ولم يزل بحلب إلى أن توفي تاج الدين بن الزين خضر بدمشق في أيام الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي، فسير طلبه من الكامل أن يكون عنده بدمشق كاتب سر، فرسم له بذلك، فحضر إلى دمشق رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وطلع الناس وتلقوه من [لعله مع] عز الدين طقطاي الدوادار والأمير سيف الدين تمر المهمندار والموقعين، ولم أر أحدا دخل دخوله من كتاب السر إلى دمشق. ورأيته ساكنا محتملا مداريا، لا يرى مشاققة أحد ولا منازعته، كثير الإحسان إلى الفقراء والمساكين يبرهم
ويقضي حوائجهم، ويكتب كتابة حسنة وينظم وينثر سريعا، ويستحضر قواعد الفقه فروعا وأصولا، وقواعد أصول الدين وقواعد الإعراب والمعاني والهيئة وقواعد الطب، ويستحضر من كليات الطب جملة. ولي دمشق سنة ثمان وأربعين. سمع صحيح مسلم على الشيخ محمد السلاوي، وسمع سنن أبي داود على الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة، وعلى بنت الخباز، وسمع عليها جملة من الأجزاء ومشيخة ابن عبد الدايم وغير ذلك. وكتب بمرج القشولة (1) صحبة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب الشام، وقد وقع مطر كثير برعد وبرق:
كأن البرق حين تراه ليلا ... ظبى في الجو قد خرجت بعنف
تخال الضوء منه نار جيش ... أضاءت والرعود فجيش زحف
فكتبت الجواب:
يحاكي البرق بشرك يوم جود ... إذا أعطيت ألفا بعد ألف
وصوت الرعد مثل حشا عدو ... يخاف سطاك في حيف وحتف
فكتب الجواب إليّ:
لئن أوسعت إحسانا وفضلا ... وجدت بنظم مدح فيك لايق
فهذا الفضل أخجل صوب سحب ... وهذا البشر أخجل بشر بارق
ثم ذكر الصفدي ما دار بينه وبين المترجم من المحاورة في هذا الباب يكتب ذاك إلى هذا وهذا يجاوبه وفيه طول لذلك تركت نقله.
376 - عمر بن عيسى بن عمر الباريني المتوفى سنة 764
عمر بن عيسى بن عمر الشيخ الإمام زين الدين أبو حفص الباريني الشافعي نزيل حلب.
ولد ببارين سنة إحدى وسبعمائة، وهي قرية من عمل حماة، ثم جاء إلى حماة وأخذ
__________
(1) في «الوافي بالوفيات»: الغشولة.(5/38)
عن ابن البارزي قاضيها وسمع على الحجار، ثم انتقل إلى حلب وسكنها وحضر عند علمائها، وسمع من العز إبراهيم بن العجمي، وحدث بحلب. وكان إماما فاضلا فقيها فرضيا نحويا أديبا بارعا ورعا زاهدا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. درس بالمدرسة النورية النفرية استقلالا وبالمدرسة الأسدية نيابة، واشتغل بحلب. أخذ عنه العلم جماعة من مشايخنا كالإمام شمس الدين محمد بن الركن المعري والشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد البابي والشيخ زين الدين أبي حفص عمر الكركي، وقرأ عليه أيضا الشيخ شرف الدين أبو بكر الداديخي وغيرهم. وله نظم ونثر وقواعد في النحو والفقه، نظم ونثر وكتب الخط المنسوب وجوده كتب على ابن خطيب بعلبك.
ذكره الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن الملقن القاهري في كتابه «طبقات الشافعية» وقال: قدم علينا سنة أربع وستين واجتمع بي واجتمعت به غير مرة. ألف من الفرائض والعربية. انتهى.
أنشدنا شيخنا العلامة الحافظ برهان الدين أبو إسحق إبراهيم بن محمد الحلبي قال:
أنشدنا الإمام الفاضل النحوي كمال الدين إبراهيم بن الحلاوي قال: أنشدنا شيخنا العلامة النحوي زين الدين أبو حفص الباريني لنفسه في أسماء الولائم:
لدعوة العرس أتى وليمه ... وجاء للمصيبة الوضيمه
وللختان قد أتى الإعذار ... وللبنا وكيرة تختار
ولقدوم الغائب النقيعه ... وذي الضيافات أتت مسموعه
والخرس أو بالصاد للولاده ... السابع العقيقة المعتاده
ووضعوا مأدبة لكل ما ... يصنع لا بسبب تقدما (1)
توفي الشيخ زين الدين يوم الجمعة ثامن شوال سنة أربع وستين وسبعمائة بحلب ودفن خارج باب المقام بالقرب من المدرسة الظاهرية. وفيه يقول الإمام ابن حبيب:
حلب تغير حالها لما اختفى ... من فضل زين الدين عنها ما ظهر
ومدارس العلماء منها أقفرت ... من بعد عامرها أبي حفص عمر
انتهى (الدر المنتخب).
__________
(1) وممن نظم في أسماء الولائم الإمام علي بن عثمان الطائي المتوفى سنة 769وستأتيك ترجمته قريبا.(5/39)
377 - أحمد بن محمد النصيبي المتوفى سنة 764
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف الحلبي المعروف بابن النصيبي، كمال الدين ابن تاج الدين ابن كمال الدين ابن زين الدين.
ولد سنة 695، وأسمع على سنقر الزيني ورشيد بن كامل وجماعة من أصحاب ابن خليل، وولي كتابة الإنشاء بحلب، وكتب وجمع وعلق كثيرا. روى عنه ابن بردس (هكذا) وابن عشائر وابن ظهيرة. وأثنى عليه ابن حبيب وغيره. روى عن سنقر مسند الشافعي والبخاري، وعلى إبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي جزء سبعين (1). مات بحلب في سنة 764.
378 - أحمد بن مغلطاي المتوفى سنة 764
أحمد بن مغلطاي بن عبد الله الشمسي قراسنقر (2) المنصوري.
كان أحد الأمراء بحلب، وكان ذكيا شجاعا عارفا حسن المحاضرة والمذاكرة يحب أهل العلم والأدب، وله نظم وسط. وولي بحلب الحجابة وشد الأوقاف، وناب في مملكة أياس مدة. ومات في سنة 64عن بضع وخمسين سنة. ذكره ابن حبيب وقال: ناب بأياس وولي الحجوبية وشد الأوقاف بحلب، وكان فاضلا خيرا يحب العلم والمذاكرة.
مات سنة 764، ومولده تقريبا سنة 713.
379 - أحمد بن ياسين الرباحي المتوفى سنة 764
أحمد بن ياسين بن محمد الرباحي، بضم الراء وتخفيف الموحدة (3)، المالكي.
__________
(1) في الهامش: صوابه بفتح فإنه لم يذكر في مشتبه النسبة الضم، فالظاهر أن الناسخ رآها في خط شيخنا هكذا بضمه فصحفها والله أعلم.
(3) في «الدرر الكامنة»: جزء سفيان.
(2) كلمة «قراسنقر» غير واردة في «الدرر الكامنة».(5/40)
كان يحفظ التنقيح للقرافي، ثم ولي قضاء المالكية بحلب وهو أول من وليه بها، وعمل فيه ابن الوردي تلك المقامة الظريفة (1) وبالغ في الحط عليه. وعزل منها الرباحي بعد أربع سنين، ثم عاد إليها (2)، بعد عمر بن سعيد التلمساني بعد أربع أخر سنة اثنتين وخمسين، فسار شبه الأولى، فعزل، ثم عين نائبا في سنة ستين. ثم في سنة 64 (3) دخل إلى القاهرة ليسعى في العود فأدركه أجله بها في رجب أو قبله سنة 64.
وقد ذمه أيضا ابن حبيب في تاريخه وقال في حقه: استقر مذموما على ألسنة الأقوام، إلى أن صرف بعد أربعة أعوام. وذكر أنه لما عزل أولا حبس بقلعة حلب ثم أفرج عنه، واتفق أنه يوم عزله أولا دقت البشائر بحلب وزينت البلد لما وردت الأخبار بنصرة العسكر الموجه إلى سنجار، فقال بعض الحلبيين:
سألت عن بشائر ... تضرب في الممالك
فقيل لي ما ضربت ... إلا بعزل المالكي
وقال في ذلك أيضا:
يا ابن الرباحيّ الذي خسر الحجى ... كم آية في هتك سترك بيّنت
يكفيك من أمر تضاعف جهله ... أن المدينة يوم عزلك زيّنت
380 - عبد الله بن يوسف بن السفاح المتوفى سنة 764
عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن السفاح الحلبي شمس الدين أبو محمد كاتب الإنشاء بحلب.
ولد سنة بضع وسبعمائة، ومهر في الإنشاء، وكان حسن الأخلاق والكتابة مليح المحاضرة كريم النفس، أثنى عليه ابن حبيب وغيره. مات بالقاهرة في سنة 764.
وهو القائل لما تغرب إلى دمشق ثم إلى القاهرة يعتذر عن العود إلى بلده:
__________
(1) هي في ديوانه في صحيفة 190.
(2) في «الدرر الكامنة»: ثم عزل بعمر
(3) في «الدرر الكامنة»: ثم عزل ثانيا في سنة ستين، ثم في سنة 63دخل(5/41)
أأرضى حمى الشهباء دارا وقد علت ... عليها لأبناء اليهود صناجق
فإن نكّست أعلامهم أنا راجع ... إليها وإلا فهي مني طالق
وهذا البيتان أوردهما ابن الشحنة في الباب الخامس والعشرين من الدر المنتخب حيث قال: وكأني بمعترض يقول: أطلت في ذكر حلب الشرح ولم تذكر فيها شيئا كغيرها من القدح. فو الله ما تجاوزت بل عندي أني قصرت في الإطراء والمدح، وما علمت والله فيها شيئا من الجرح. نعم غلب على أهلها التشيع في بعض الدول لتشيع ملوكها، ثم زال ذلك ولله الحمد والمنة. وقد تقدم ما نقلته عن شيخي الحافظ [البرهان] الحلبي في ذلك من كون أن جميع أهل حلب كانوا أهل سنّة، وكانوا حنفية، ولا وقعت على هجو فيها إلا ما أنشدني بعض عمومتي من قول بعض فضلاء أهلها وقد رأس بها طائفة من أهل الشمالية أعني حارة اليهود وهو هذان البيتان فقال: (وعن حلب قوّض خيامي فإنها) إلى آخر البيتين (1).
381 - حسن بن علي العباسي الشاعر المتوفى سنة 765
حسن بن علي بن الحسن بن علي العباسي عز الدين أبو الثناء (2) الحلبي نزيل حلب الشاعر.
كان فاضلا بارعا جميل المحاضرة حسن النظم والإنشاء. مات سنة 765عن نحو سبعين سنة. وهو القائل:
شاهداها ثم اعذراني فعينا ... ها لدعوى محبها شاهداها
ورداها من دمع عيني فكم بلّ لجاريه يوم بانت رداها (3)
وترجمه في المنهل الصافي فقال: كان أديبا ماهرا، برع في النظم والنثر ومدح أعيان حلب وغيرها. ومن شعره:
__________
(1) البيتان هما:
وعن حلب قوّض خيامي فإنها ... عليها لأبناء اليهود سناجق
فإن نكّست عنها فإني عائد ... إليها وإلا فهي مني طالق
(2) في «الدرر الكامنة»: ابن البنّاء.
(3) أثبتنا البيت نقلا عن الدرر الكامنة، والأصل فيه اختلال وتصحيف.(5/42)
أنفقت عمري رجاء وصلكم ... والعصر إني بكم لفي خسر
ذروا فؤادا أمسى أسيركم ... معذبا بالصدود والهجر
أو فهبوا لي عقلا أعيش به ... ودبروني فقد حرت في أمري
توفي عز الدين هذا بحلب في سنة خمس وستين وسبعمائة عن نحو سبعين سنة اهـ.
(المنهل الصافي).
382 - أحمد بن يعقوب بن الصاحب المتوفى سنة 765والكلام على تربته
قال أبو ذر في الكلام على الترب: تربة ابن الصاحب: بالقرب من الظاهرية من شماليها وبينهما تربة بني سوادة (1)، أنشأها الأمير شهاب الدين أحمد بن الصاحب شرف الدين أبي محمد يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي، وكان وافر النعمة سافر الهمة والعزيمة، وله فضيلة ومعرفة وقراءة بالفصاحة والطرب، يجتمع بأهل العلم والأدب ويترفق بذوي القصد والطلب. توفي سنة خمس وستين وسبعمائة ودفن بهذه التربة. وهي مشتملة على بوابة محكمة ظريفة بالحجر النحيت النظيف الكثير الصناعة، إذ هي قبو ليس مجوفا كعادة الأقبية بل كالفرش. وبوسط هذا القبو كالفسقية التي تكون في وسط قاعة، إذ هذا القبو كرخام مرخم، وفوق هذا القبو غرفة من الحجر أيضا، وفي زماننا تصدعت الدعامة التي عليها القبو فأصلحت. وداخل هذه البوابة قبلية لطيفة وحوش. وقد جعل هذا المكان واقفه تربة ورباطا. وسيأتي ذكر وقفها وترجمة واقفها في مكتب الأيتام الذي أنشأه بحلب اهـ.
أقول: هذه التربة كما قال أبو ذر أمام المدرسة الظاهرية تجاه بابها بينهما جادة وداران، وهاتان الداران كانتا تربة بني سوادة، ولم يبق لهذه أثر. وأما تربة الصاحب أحمد فقد بقي منها ساحة صغيرة في صدرها محراب مشرف على الخراب، وعن يمينه قبر المترجم وقد ذهب معظمه. ولم يبق من آثار الأبنية التي ذكرها أبو ذر شيء سوى بقية أحجار كبيرة بنيت مع جدران من لبن بناء غير محكم أحيطت بها هذه الساحة، وهناك حجرة
__________
(1) بين الظاهرية وتربة الصاحب جادة وداران وتربة بنى سوادة كانت فيما بين ذلك.(5/43)
كبيرة مشطورة شطرين بنيت في جانبي باب صغير من جهة الغرب تدخل منه إلى التربة وقد كتب عليها:
(1) و (2) البسملة. إنما يعمر مساجد إلى قوله تعالى فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. عمر هذا المسجد
(3) المبارك والرباط والتربة المباركة في دولة مولانا السلطان ابن السلطان الملك الناصر أبي المحاسن
(4) حسين أدام الله أيامه ونشر في الخافقين أعلامه على يد أضعف خلق الله تعالى وأحوجهم
(5) إلى مغفرة ربه الرحيم العبد الفقير أحمد بن يعقوب بن عبد الكريم عفا الله عنهم.
وشرقي هذه التربة الرباط الذي ذكر هنا ومحله الآن دور حقيرة.
آثاره بحلب:
قال أبو ذر في الكلام على مكاتب الأيتام: مكتب ابن الصاحب هذا بالقرب من مصبغة حلب، وهي مشتملة على بوابة وداخلها فرش من الرخام وبركة وإيوان، وإلى جانب هذا المكان قبة عظيمة البناء، أوصى بإنشاء هذا المكان الأمير شهاب الدين بن الصاحب المتقدم ذكره في الترب في سنة خمس وستين وسبعمائة وتوفي في هذه السنة. وأخبرني والدي أنه كان متكلما عليها [أي على المدرسة] الشيخ شهاب الدين أحمد بن المرحل شيخه، وكان إذا خرج لقسم نواحيها يركب حمارة الفلاح لئلا يثقل على الفلاح كلفة دابة أخرى، ويطلب من الفلاح رغيفا وبيضا ليس إلا. ولما توفي واقفها وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها:
أعليّ في حب الديار ملام ... أم هل تذكّرها عليّ حرام
أم هل ألام إذا ذكرت معاهدا ... فارقتها ولها عليّ ذمام
دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيران عليّ كرام
فارقتهم فارقت من وجدي بهم ... أفهل لهم أو للكرى إلمام
كانوا حياتي فابتليت بفقدهم ... فعلى الحياة تحية وسلام
وشرط واقفها أن يكون النظر في هذا المكان لمن يكون حاجبا بحلب، وقد وقفت على كتاب الوقف وفيه قدر معاليم أرباب الوظائف.(5/44)
أعليّ في حب الديار ملام ... أم هل تذكّرها عليّ حرام
أم هل ألام إذا ذكرت معاهدا ... فارقتها ولها عليّ ذمام
دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيران عليّ كرام
فارقتهم فارقت من وجدي بهم ... أفهل لهم أو للكرى إلمام
كانوا حياتي فابتليت بفقدهم ... فعلى الحياة تحية وسلام
وشرط واقفها أن يكون النظر في هذا المكان لمن يكون حاجبا بحلب، وقد وقفت على كتاب الوقف وفيه قدر معاليم أرباب الوظائف.
أقول: موقع هذا المكتب ويعرف الآن بالصاحبية في محلة السويقة تجاه الخان المعروف بخان الوزير، ولا زال بنيانه قائما غير أن قنطرة بابه الذي يعد في جملة الآثار العربية الهامة في حلب لحقها الوهن وذهب بعض أحجارها، وفي نية دائرة الأوقاف إصلاحها وتتميم ما نقص منها على مقتضى هندستها القديمة. ومكتوب على بابها:
(1) البسملة. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله
(2) هذا ما أنشأه العبد الفقير المستعيذ بالله من التقصير أحمد بن يعقوب بن الصاحب
(3) غفر الله له ولمن كان السبب ولجميع المسلمين وذلك في تاريخ خمس وستين وسبعمائة اهـ.
تدخل من هذا الباب إلى صحن صغير فيه حوض، وشرقيه حجرة صغيرة فيها محراب صغير نقش عليه {وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ فَلََا تَدْعُوا مَعَ اللََّهِ أَحَداً}. وتدخل من هذه الحجرة إلى قبلية مربعة طولها 12ذراعا وعرضها 10أذرع ولها قبة عظيمة الارتفاع مبنية من الحجر، وهناك محراب فيه عمودان من الرخام، ويعلو المحراب نقوش في الحجر ملونة تعد في طليعة الآثار القديمة التي في حلب. وقد كتب فوق المحراب {أَنَّ اللََّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ويتخلل تلك الكتابة نقوش أيضا زادت تلك الكتابة حسنا وبهاء. ويعلو هذه الكتابة نقوش على طول المحراب عرضها نحو ثلث ذراع وهي ملونة بالخضرة والحمرة، وتلك الأصباغ باقية من عهد بناء هذا المكان.
وشمالي القبلية سدة من خشب تحتها باب صغير يخرج منه إلى الجادة. وفي صحن المدرسة إيوان صغير في شرقيه باب مسدود الآن ينفذ منه إلى خربة يخرج منها إلى الجادة الشرقية، والمكان جميعه في حاجة إلى الترميم، فعسى أن تتوفق لذلك دائرة الأوقاف حفظا لهذا الأثر القديم من السير إلى طريق الخراب. ويسكنه الآن بعض مهاجري أهل المدينة المنورة. وقد كان قبل سنوات يقرأ هناك شيخنا الشيخ أحمد المكتبي رحمه الله درس النحو وغيره وظل على ذلك مدة ليست بالقليلة.(5/45)
383 - أحمد بن محمد بن العديم المتوفى سنة 765
أحمد بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى ابن أبي جرادة شهاب الدين بن جمال الدين أبي غانم بن الصاحب كمال الدين بن العديم العقيلي الحلبي الحنفي.
ولد في رأس القرن، وأسمع على بيبرس العديمي وعمتيه خديجة وشهدة وحدث. سمع عليه ابن عشائر منتقى مشيخة النسوي والأول من مشيخة ابن شاذان الكبرى (انا) بيبرس وغير ذلك، وولي نيابة شيزر مدة لأنه كان يرى (1) مع معرفة بالتاريخ والأدب جيد المذاكرة حسن المحاضرة. وحكى أخوه القاضي كمال الدين عنه أنه أخبره أنه رأى في منامه كأن شخصا ينشده:
يا غافلا صدته آماله ... عن المقام الأشرف الأسنى
انهض عدمتك نحو العلا (2) ... وافتح لها مقلتك الوسنى
قال فحفظتهما وزدتهما:
وارجع إلى مولاك واخضع له ... تستوجب الإحسان والحسنى
قال أخوه: فلما أنشدني ذلك أعقبه بأن قال: ما أظن إلا أن نفسي نعيت إليّ، فمات في السنة المقبلة وذلك سنة 765عن بضع وسبعين سنة.
قال ابن حبيب: ويقال جاوز السبعين وقرأ على بيبرس مشيخة ابن شاذان الكبرى، والأول والثاني من حديث ابن السماك، وولي نيابة السلطنة مدة يسيرة، وكان ذا حشمة زائدة وتجمل.
384 - الشريف حسن بن محمد بن زهرة المتوفى سنة 766
حسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي شمس
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: لأنه كان بزي الجند.
(2) هكذا في الأصل وفي الدرر الكامنة أيضا، وفيه اختلال.(5/46)
الدين بن بدر الدين نقيب الأشراف بحلب.
وكان أمير طبلخاناه ثم عزل ومات في سنة 766. أرخه ابن حبيب وسيأتي ذكر جده. اهـ.
قال في الكشف: «نفائس الدرر في فضائل خير البشر» لحسن بن محمد الحسيني النساب الحلبي المتوفى سنة 766، ذكره في طبقات الأنساب العشرة. اهـ.
385 - القاضي محمد بن عمر المعري المتوفى سنة 766
محمد بن عمر بن هبة الله بن معمر العمري الحلبي القاضي ناصر الدين بن عم قاضي القضاة الكمال عمر المعري.
كان نائبا للمذكور في القضاء بحلب، وكان ماجدا كريما ودودا، أثنى عليه ابن حبيب وأرخ وفاته سنة 766عن نحو خمسين سنة.
386 - محمد بن محمد الحموي المعروف بابن القواس المتوفى سنة 766
محمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن ناصح تقي الدين بن ناصر الدين بن شرف الدين الحموي الأصل ثم الحلبي الشهير بابن القواس. ولد بحماة ونشأ بها، وانتقل إلى حلب وولي خطابة الجامع العلائي ظاهر حلب، وشغل ودرس ووعظ، ومات بحلب سنة 766.
387 - أحمد بن محمود بن صدقة المتوفى سنة 767
أحمد بن محمود بن إسماعيل بن إبراهيم بن صدقة الحلبي الأديب.
اشتغل كثيرا، ومهر في الأدب والتصوف فضبطت عليه ألفاظ موبقة، فرفع أمره إلى الحكام بحلب، فحكم القاضي المالكي صدر الدين الدميري بسفك دمه فقتل. وهو القائل:
إذا نلت المنى بصديق صدق ... فكان وداده وفق المراد
فحاذر أن تعامله بقرض ... فإن القرض مقراض الوداد
أنشدهما له ابن حبيب. وفيه قال الشاعر:(5/47)
إذا نلت المنى بصديق صدق ... فكان وداده وفق المراد
فحاذر أن تعامله بقرض ... فإن القرض مقراض الوداد
أنشدهما له ابن حبيب. وفيه قال الشاعر:
مضى مستبيح الزنا والربا ... إلى خازن المهلك الحالك
وفاز الدميري بتدميره ... فمن مالكي إلى مالك
قلت: وهذا مأخوذ من الذي قيل في البققي، وكان أقبل على اللهو والفسوق ولبس زي الأجناد وقرض الأعراض ووقع في كلمات، إلى أن آل أمره إلى القتل فقتل. ومن شعره:
ولرب قوم أدبروا مذ أقبلت ... دنياهم عن كل ندب فاضل
جاؤوا وقد رأسوا بكل نقيصة ... فاقتص منهم دهرهم بالكامل
قال ابن حبيب: كان ذكيا كثير المحفوظ، لكنه حفظت عنه مقالات زرية، وزندقة راوندية، فأقيمت عليه البينة بذلك عند الصدر الدميري أحمد بن عبد القاهر قاضي المالكية، فحكم بقتله فقتل بمشهد من النائب تحت قلعة حلب في سنة 767وقد جاوز الخمسين.
وهنا كتب الشيخ إبراهيم بن عمر البقاعي بهامش «الدرر الكامنة» بخطه ما نصه:
حدثني العلامة قاضي القضاة محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي الحنفي، حدثني النجم عبد الخالق بن محمد بن عبد الخالق بن الوردي، حدثني الشرف أبو بكر بن الزين عمر ابن الوردي أن الكمال أبا القاسم عمر بن عثمان المعري قاضي الشافعية بحلب كان له جار من أبناء الجند اسمه أحمد بن محمود بن صدقة، وكان ذا مال كثير، وكان لا يتحاشى عن فعلة منكر، وكان فاضلا، وكان مع تهتكه جريئا لا يرد لسانه عن شيء، فكان يحفظ عليه أشياء من الكفريات، فكان قبيح الفعل والقول، وكان يبغض الكمال المذكور، وكان يؤذيه ويحتمله الكمال، إلى أن ركب يوما للتدريس ببعض وظائفه، فمر على ابن صدقة فتنخم ابن صدقة وبصق وقال: على لحيتك يا كذا، فسمعها الكمال. قال الشرف ابن الوردي: وكنت إلى جانبه وكان في وجهه أثر ضربة حافر بغل، فكان إذا اغتاظ اختلج ذلك الأثر فاختلج فاشتد اختلاجه، قال: فقلت في نفسي: راحت والله روح ابن صدقة ببصقة، فوصل الكمال إلى تلك المدرسة فوقف قليلا ولم ينزل، ثم مضى إلى
دار النيابة فاجتمع بنائب حلب جرجي، ثم رجع فذهب إلى الشيخ شهاب الدين الأذرعي فاجتمع به واجتمع ببقية قضاة حلب، وكان المالكي الصدر الدميري، ثم رجع إلى بيته فسئل عن السبب في ذلك فإذا هو قد سأل النائب الإذن في الدعوى على ابن صدقة بما يرتكبه، فأجابه وطلب فوضع في السجن، وسعى الكمال في الشهود فحصلهم وضبط مقالاتهم فيه وأتقن الأمر وأحضر ابن صدقة في صبيحة الغد فادعى عليه عند الصدر الدميري المالكي وأقيمت عليه البيّنة ورد في السجن، فنظم قصيدة أولها:(5/48)
حدثني العلامة قاضي القضاة محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي الحنفي، حدثني النجم عبد الخالق بن محمد بن عبد الخالق بن الوردي، حدثني الشرف أبو بكر بن الزين عمر ابن الوردي أن الكمال أبا القاسم عمر بن عثمان المعري قاضي الشافعية بحلب كان له جار من أبناء الجند اسمه أحمد بن محمود بن صدقة، وكان ذا مال كثير، وكان لا يتحاشى عن فعلة منكر، وكان فاضلا، وكان مع تهتكه جريئا لا يرد لسانه عن شيء، فكان يحفظ عليه أشياء من الكفريات، فكان قبيح الفعل والقول، وكان يبغض الكمال المذكور، وكان يؤذيه ويحتمله الكمال، إلى أن ركب يوما للتدريس ببعض وظائفه، فمر على ابن صدقة فتنخم ابن صدقة وبصق وقال: على لحيتك يا كذا، فسمعها الكمال. قال الشرف ابن الوردي: وكنت إلى جانبه وكان في وجهه أثر ضربة حافر بغل، فكان إذا اغتاظ اختلج ذلك الأثر فاختلج فاشتد اختلاجه، قال: فقلت في نفسي: راحت والله روح ابن صدقة ببصقة، فوصل الكمال إلى تلك المدرسة فوقف قليلا ولم ينزل، ثم مضى إلى
دار النيابة فاجتمع بنائب حلب جرجي، ثم رجع فذهب إلى الشيخ شهاب الدين الأذرعي فاجتمع به واجتمع ببقية قضاة حلب، وكان المالكي الصدر الدميري، ثم رجع إلى بيته فسئل عن السبب في ذلك فإذا هو قد سأل النائب الإذن في الدعوى على ابن صدقة بما يرتكبه، فأجابه وطلب فوضع في السجن، وسعى الكمال في الشهود فحصلهم وضبط مقالاتهم فيه وأتقن الأمر وأحضر ابن صدقة في صبيحة الغد فادعى عليه عند الصدر الدميري المالكي وأقيمت عليه البيّنة ورد في السجن، فنظم قصيدة أولها:
رماني زماني بالقطيعة والضنك ... وجار فأجرى في بحار الردى فلكي
تقاسم مني المال من ليس وارثي ... فللمالكي روحي وللشافعي ملكي
ومخلصها وهي في التاج السبكي قاضي دمشق:
وإني سآوي عند طوفان غدرهم ... إلى جبل العلياء تاج العلا السبكي
وأرسلها إليه بدمشق يسأله فيها حقن دمه.
قال ابن الشحنة: قال عمي فتح الدين: لما سمع أبوك أخي الشيخ محب الدين هذه القصيدة قال: هلك والله كما هلك ابن نوح القائل {سَآوِي إِلى ََ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمََاءِ}
قال: وأرسل ابن صدقة إلى النائب من وعده بمال فمال إلى إطلاقه، فحضر القضاة ومعهم الشيخ شهاب الدين الأذرعي فقالوا للنائب عنه فوجدوه مترددا في أمره، فقال الأذرعي للمالكي: أنت يا قاضي القضاة حكمت بإراقة دم ابن صدقة هذا؟ فقال:
نعم حكمت بإراقة دمه، فقال: قم يا أمير فاحضر ضرب عنقه، فلم يسعه إلا الامتثال، فقاموا إلى الموضع الذي يقتل فيه، فصار ابن صدقة يقول: يا جرجي {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ} فقال: القضاة فعلوا ذلك، فقال شخص معه: ادفعوا هذه الورقة إلى الأمير، فدفعها إليه فخطفها الأذرعي فمزقها قبل أن يعلم النائب ما فيها، وضربت عنق ابن صدقة. وبعد يوم أو يومين حضر من التاج السبكي حكم بحقن دمه فإذا الأمر قد فات اهـ.
قال في «المختار من الكواكب المضية»: ومن شعر أحمد بن صدقة مضمنا للبيت الأخير:(5/49)
يا حاديا أسر الحشى لما سرى ... رفقا بمغرى مغرم هجر الكرى
فلقد توقف حاله مذ حال من ... يهواه عنه ودمع مقلته جرى
ولئن جنحت إلى تحامل عاذل ... فيمن يحمّل للركاب وما افترى
فانظر غواربها التي قد غربّت ... فيها الشموس فحق أن تتبصرا
وإذا رأت عيناك طرفا أسودا ... فاعلم بأن هناك موتا أحمرا
وله:
كيف السبيل إلى اتباع مفنّدي ... وهواك يا طلق الجمال مقيّدي
أودى المحب مذ اشترطت تلافه ... بلواحظ من شرطها أن لا تدي
غادرتني بالغدر حلف صبابة ... وكآبة لا تنقضي وتسهّد
وتركتني يا آخذي غرضا لأغ ... راض الرماة وعرضة للعوّد
فوليّ دمعي قد توالى مسحه ... في وجنتي كعقايق في عسجد
قمر له طرفي وقلبي منزل ... يا ناقص العهد ارفقن بالمعهد
إني امرؤ لم يثنني عن حبها ... إلا ثناء محمد بن محمد
ففكاكه للمجتري وجماله ... للمجتلي ونواله للمجتدي
قال بعضهم: وقفت مع ابن صدقة المذكور نتحادث بعد العصر بالمدرسة الشرفية، فطال بنا المجلس، فخفت أن يخرج وقت العصر فقلت: سيبني حتى أصلي، فقال لي:
وأنت أيضا مربوط اهـ.
388 - أحمد بن إبراهيم العينتابي المتوفى سنة 767
أحمد بن إبراهيم بن أيوب العلامة شهاب الدين العينتابي الحلبي الحنفي قاضي العسكر بدمشق.
نشأ بحلب وتفقه على علماء عصره، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وشارك في عدة علوم، وتصدر للإفتاء والتدريس والتصانيف. ثم قدم دمشق وولي بها قضاء العسكر وأكب على الإشغال والاشتغال وانتفع به الطلبة. ومن مصنفاته شرح مجمع البحرين في الفقه في عشر مجلدات وسماه «المنبع في شرح المجمع» وشرح المغني في الأصول وغير ذلك.
وكان دينا خيرا عفيفا. توفي بدمشق في سنة سبع وستين وسبعماية وقد أناف على الستين رحمه الله. اهـ. (المنهل الصافي).(5/50)
نشأ بحلب وتفقه على علماء عصره، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وشارك في عدة علوم، وتصدر للإفتاء والتدريس والتصانيف. ثم قدم دمشق وولي بها قضاء العسكر وأكب على الإشغال والاشتغال وانتفع به الطلبة. ومن مصنفاته شرح مجمع البحرين في الفقه في عشر مجلدات وسماه «المنبع في شرح المجمع» وشرح المغني في الأصول وغير ذلك.
وكان دينا خيرا عفيفا. توفي بدمشق في سنة سبع وستين وسبعماية وقد أناف على الستين رحمه الله. اهـ. (المنهل الصافي).
389 - أبو بكر بن عمر بن العديم المتوفى سنة 768
أبو بكر بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي جمال الدين بن كمال الدين.
ولد سنة نيف وسبعمائة، واشتغل وتميز وتعانى الآداب، وهو أخو قاضي حلب ناصر الدين. سمع على بيبرس العديمي (1) وجزء البانياسي وحدث. وكان فاضلا حسن الخلق والمحاضرة والخط، وولي مشيخة خانقاه الصالح بحلب ومات بها فجأة في سنة 768.
ذكره أبو جعفر بن الكويك في معجم ابن جماعة وأثنى عليه ابن حبيب.
390 - محمد بن محمد بن هلال المتوفى سنة 769
محمد بن محمد بن عبد الله بن سالم بن هلال الحلبي شمس الدين المعروف بابن العراقي.
اشتغل وأخذ عن فخر الدين بن خطيب جبرين وعن الكمال بن الضيا العجمي، وتميز وتصدر للإشغال بحلب، وعلق على الحاوي تعليقا حسنا. قال ابن رافع: تلقينا وفاته في صفر سنة 769. قلت: وأرخه ابن حبيب وهو أعرف: توفي في ذي الحجة سنة 68، وأثنى عليه بالعلم والفضل. وتقدم ذكر والده وأنه سمع من سنقر. قلت:
وهو والد صاحبنا نائب الحكم جمال الدين عبد الله العراقي، ذكر لي أن أباه كان صديق الشهاب الأذرعي وأنه أوصاه على أولاده.
391 - علي بن عثمان الطائي ابن خطيب جبرين المتوفى سنة 769
علي بن عثمان بن علي بن عثمان الطائي الشافعي الحلبي زين الدين أبو الحسن ابن قاضي القضاة فخر الدين أبي عمر وابن خطيب جبرين، وبقية نسبه تقدمت في ترجمة أبيه.
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: وأسمع جزء الرففي على بيبرس العديمي.(5/51)
وزين الدين علي هذا هو جدي أبو أمي، وابن عمه جدي لأبي. ولد بحلب سنة عشر وسبعماية واشتغل على أبيه وغيره، وحصل طرفا من الفقه والأصول وسمع الحديث، وولي تدريس المدرسة السيفية الشافعية ودرس بها وخطابة الجامع الناصرية. وكان إنسانا حسنا كريما حسن الخلق متواضعا، وأهل حلب يعظمونه لأن غالب فضلائها تلاميذ والده، وكتب كثيرا وعلق في الأصول تعاليق كثيرة رأيتها بخطه دروسا وذهبت في الواقعة التيمرية. توفي في رابع عشرين ربيع الآخر سنة تسع وستين وسبعماية بحلب ودفن بتربتنا خارج باب المقام تغمده الله برحمته. اهـ. (الدر المنتخب).
392 - محمد بن إبراهيم بن أبي الثناء الكاتب المتوفى سنة 769
محمد بن إبراهيم بن محمود بن سلمان كمال الدين أبو الفضل ابن الرئيس جمال الدين أبي إسحق ابن الرئيس شهاب الدين أبي الثناء الحلبي موقع الدست بحلب وبالقاهرة.
وكان كاتبا ماجدا ذكيا ماهرا في صناعة الترسل، سالكا في ذلك طريق جده. اشتغل في الفقه والأدب وكتب الخط الجيد، وسمع الحديث من والده وغيره، وحدث وكتب الإنشاء بحلب ثم بالقاهرة. ومن نظمه:
سأترك فضل الخل من أجل منّه ... ولو بلغت بي حاجتي غاية البلوى
فمن منّ يوما بالعطاء على امرىء ... فإن بذاك المنّ يستوجب السلوى
وله من أبيات:
بي غرام من حبيب فاتن ... لم أشاهد مثله في عمري
وجهه لما تبدّى مقبلا ... أخجل الشمس وضوء القمر
قدّه كالغصن في الروض له ... ثمر يا حسنه من ثمر
ذو لحاظ لو رآها زاهد ... بات منها خائفا ذا حذر
جسمه كالماء في رقته ... لكن القلب شبيه الحجر
لائمي دعني وكن متعطفا (1) ... بالذي تعلمه من خبري
__________
(1) هكذا في الأصل.(5/52)
وكتب إليه الإمام الأديب بدر الدين خليل الشهير بالناسخ الحلبي جوابا يستسعيه في أمر نظما ونثرا، فمن النظم:
يقبّل الأرض من أتاه ... مشرّف حاز كل بشر
فيه خطاب وحسن خط ... كنفث سحر ونظم درّ
يعرب عما حوى ضميري ... بخفض عيش ورفع قدر
تخذته في الدجى أنيسي ... من دون زيد ودون عمرو
فكان كالشمس في نهاري ... وفي ظلام الدجى كبدري
إن كان روضا فمن سحاب ... أو كان درا فلفظ بحر
مولاي إن عاثت الأيادي ... فأنت ذخر وأيّ ذخر
وأنت إن طال ليل خطب ... وجهك لي من سناه فجري
فدم كما عهدت مولى (1) ... لجر نفع ودفع ضرّ
وشدّ أزري وقوّ ضعفي ... وانظر إلى فاقتي وفقري
واغتنم الأجر وانتقذني ... لله من عسرة بيسر
يا آل محمود قد غدوتم ... زهر نجوم وروض زهر
جملتم الملك بالمعالي ... بنشر فضل وكتم سرّ
وزنتم الدهر بالمعاني ... بحسن نظم وحسن نثر
توفي بالقاهرة سنة تسع وستين وسبعمائة وله ثلاث وأربعون سنة اهـ. (الدر المنتخب).
393 - حسين بن سليمان الطائي المتوفى سنة 770
حسين بن سليمان بن أبي الحسن بن سليمان بن ريان شرف الدين الطائي موقع الإنشاء بحلب.
ولد في شوال سنة اثنتين وسبعماية. وكان أبوه ناظر الدولة، فنشأ هو نشأة حسنة
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: فدم كما قد عهدت مولى.(5/53)
وتعانى الآداب، وكان صادق اللهجة حسن المجالسة رقيق الحاشية، ونظم «زهر الربيع في البديع» في سبعمائة بيت، ونظم كتابا في أحكام المواليد ما كان أغناه عنه. مات في سنة سبعين وسبعمائة، وأرخه ابن حبيب سنة 69. وهو القائل:
كأن الهلال بجو السماء ... وقد قارن الزهرة النيّره
سوار لحسناء من عسجد ... على قفله ركّبت جوهره
وهو القائل:
نحن الموقعون في وظائف ... قلوبنا من أجلها في حرق
قسمتنا في الكتب لا في غيرها ... وقطعنا ووصلنا في الورق
وترجمه في المنهل الصافي بنحو ما تقدم قال: وله في عذار أشقر:
كأنما عذاره الأشقر في الخد الندي
قنديل بلّور له ... سلسلة من عسجد
قال في الكشف: «نظام القلائد في أحكام الموالد» لحسين بن سليمان الطائي الحلبي أرجوزة في 700بيت ثم شرحها في مجلد اهـ.
394 - إبراهيم بن عمر التيزيني المتوفى سنة 770
إبراهيم بن عمر بن أبي السخا التيزيني الحلبي جمال الدين بن الحكم.
ولد سنة تسعين وستماية، وتفقه ببلده وبرع، ثم ولي قضاءها، ثم ناب في الحكم بحلب عن الكمال المعري وناب عنه في دروس العصرونية وغيرها. وله سماع من الوادي آشي وحدث عنه. سمع منه أبو بكر بن المخصوص. ومات سنة سبعين تقريبا.
395 - إبراهيم بن عمر بن الحلاوي المتوفى سنة 772
إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الحلاوي جمال الدين النحوي.
إمام في النحو فاضل، قرأ الفقه على ابن الوردي والبارزي، وانتفع في النحو بابن الوردي. تصدر بالجامع الكبير بحلب وجلس مع الشهود وعمل بأخرة موقّع درج، وأقبل
آخر عمره على الفقه. وله نظم يسير حسن. أخذ عنه العز بن جماعة. ومات بحلب ليلة الاثنين سابع عشري رمضان سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة اهـ (بغية الوعاة).(5/54)
إمام في النحو فاضل، قرأ الفقه على ابن الوردي والبارزي، وانتفع في النحو بابن الوردي. تصدر بالجامع الكبير بحلب وجلس مع الشهود وعمل بأخرة موقّع درج، وأقبل
آخر عمره على الفقه. وله نظم يسير حسن. أخذ عنه العز بن جماعة. ومات بحلب ليلة الاثنين سابع عشري رمضان سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة اهـ (بغية الوعاة).
وترجمه في الدرر الكامنة بنحو ما تقدم وذكر أن ولادته كانت سنة 726وأنه كان شافعي المذهب وسمع منه البرهان سبط بن العجمي، وسمى جده أحمد بن عمر والله أعلم.
396 - حسن بن محمد البشتاكي المتوفى سنة 772
حسن بن محمد البشتاكي بدر الدين أبو محمد الحنفي مفتي دار العدل بحلب.
ذكره ابن حبيب وقال: أقام بالقاهرة مدة ثم تحول إلى حلب وباشر وظيفة الإفتاء والتدريس. ومات سنة 772.
397 - أبو بكر بن محمد النصيبي المتوفى سنة 773
أبو بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف النصيبي الحلبي شرف الدين.
ولد سنة ست أو سبع وسبعمائة، وسمع على أبيه وعلى أبي بكر بن العجمي وعلى ابن صالح وأبي طالب وإبراهيم بن صالح بن هاشم وغيرهم وحدث. روى عنه إسماعيل ابن بردس (هكذا) وأبو المعالي بن عشائر. وكان رئيسا جيد الرأي كثير البر من كتّاب الإنشاء بحلب، حسن الخط، باشر عدة وظائف ثم تركها تعففا ولزم بيته مواظبا على الخير والتلاوة حتى مات في سنة 773في ذي الحجة منها وله سبع وستون سنة.
398 - علي بن إبراهيم بن معاسين المتوفى سنة 773
علي بن إبراهيم بن حسن بن تميم الرئيس علاء الدين بن معاسين الحلبي كاتب السر.
ولد سنة بضع وسبعماية، واشتغل بالقراءات وتعانى الأدب وتقدم إلى أن ولي كتابة السر بحلب سنة 62بعد تحول ناصر الدين بن يعقوب عنها، فباشرها نحو عشر سنين.
ذكره ابن حبيب فقال: كاتب حسن خطه، وطما نهره واخضر شطه، وبسقت
أغصان سعده، وأينعت ثمرات مجده، وساد على أبناء جنسه وسار نبأ قلمه، وكان حازما عارفا، ثم امتحن وعزل وصودر وضرب. ووصفه بأنه كان يكتب أولا الإنشاء ثم رقي إلى كتابة السر. ومات سنة 773.(5/55)
ذكره ابن حبيب فقال: كاتب حسن خطه، وطما نهره واخضر شطه، وبسقت
أغصان سعده، وأينعت ثمرات مجده، وساد على أبناء جنسه وسار نبأ قلمه، وكان حازما عارفا، ثم امتحن وعزل وصودر وضرب. ووصفه بأنه كان يكتب أولا الإنشاء ثم رقي إلى كتابة السر. ومات سنة 773.
399 - علي بن الحسن البابي المتوفى 774
علي بن الحسن بن خميس الشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن البابي باب بزاعا الحلبي الشافعي.
اشتغل بحلب على جدي الأعلى لأمي قاضي القضاة فخر الدين أبي عمرو علي بن خطيب جبرين وغيره، ورحل إلى دمشق فاشتغل بها مدة، ثم رجع إلى حلب وتفقه. وكان إماما عالما فقيها ورعا دينا صالحا، وقرأ عليه الفقه جماعة بحلب منهم شيخنا ابن أخيه شمس الدين محمد بن إسماعيل البابي، ودرس بالسيفية في آخر عمره، نزل له عنها جدي أبو أمي علاء الدين أبو الحسن علي بن قاضي القضاة فخر الدين المذكور في مرض موته.
وذكره ابن حبيب في تاريخه وقال فيه: كان حسن الطريقة، دينا على الحقيقة، مستمسكا بحبال التقوى، مقتديا بما ينقل عن السلف ويروى، قليل الكلام، منقطعا عن الأنام، ذا وقار وسكون، وسمت يملأ القلوب والعيون. ورد إلى حلب في حال شبابه، وأخذ عن أهل العلم الشريف وأربابه، ولازم الصلاح والسداد، ودأب إلى أن أفتى وأفاد، وانتفع به الطلاب، وأطرب الأسماع بقراءته في المحراب، ودرس بالسيفية في آخر عمره، واستمر إلى أن غاب عن الأصحاب ضوء قمره. انتهى.
توفي بحلب في سنة أربع وسبعين وسبعمائة عن بضع وستين سنة ودفن خارج باب المقام عند قبر الشيخ زين الدين الباريني بالقرب من الظاهرية تغمده الله برحمته اهـ. (الدر المنتخب).
400 - محمد بن عبد الكريم بن العجمي المتوفى سنة 774
محمد بن عبد الكريم بن محمد بن صالح بن هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرابيسي الأصل الحلبي، ظهير الدين أبو هاشم المعروف بابن العجمي أحد الشهود بحلب.(5/56)
ولد بها سنة أربع وتسعين وستمائة، وسمع من سنقر الزيني الصحيح وابن ماجه ومنتقى الأحكام (1) والبعث وأخبار الزبير بن بكار وجزء أبي الجهم، ومن بيبرس العديمي مشيخة شاذان وجزء البانياسي، وعلى إبراهيم بن الشيرازي جزء سفيان ومن غيرهم فأكثر وحدث.
سمع منه شيخنا العراقي وغيره. ومات بحلب يوم الثلاثاء النصف من المحرم سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
401 - علي بن صالح القرمي المتوفى سنة 774
علي بن صلاح بن أبي بكر بن محمد بن علي الإمام علاء الدين أبو الحسن السخومي القرمي الشافعي نزيل حلب.
كان عالما بالأصول والتفسير والفقه وغيرهما، دينا كثير العبادة. أقام بحلب يفتي ويصنف ويشغل وانتفع به الطلبة.
ذكره الإمام ابن حبيب فقال: عالم جليل القدر، يسر القلب ويشرح الصدر، وعامل كثير العبادة، متصد للإفتاء والإفادة، كان عارفا بالفقه وتفسير آيات القرآن، ماهرا في الأصول والعربية والمعاني والبيان، ورد إلى حلب، وانتفع به أهل الطلب، وأقام بها نحو أربعة أعوام، عاكفا على التأليف منقطعا عن الأقوام، واستمر مشتغلا بما يفيد ويجدي، إلى أن لحق بجوار من يعيد ويبدي. وصنف تفسير القرآن العزيز وكتابا في الأصول. توفي بحلب سنة أربع وسبعين وسبعمائة عن بضع وستين سنة تغمده الله برحمته اهـ. (الدر المنتخب).
402 - بكتمر القرناصي المتوفى سنة 775وذكر جامعه
قال أبو ذر: (جامع القرناصي): أنشأه بكتمر القرناصي، وله ترجمة في تاريخ شيخنا المؤرخ، وقد توفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة، وفيه خطبة وفقهاء من الشافعية مرتبون ولهم مدرس، وأدركت الشيخ يوسف الكردي يدرس فيه، وقد وقع حائطه الغربي في أيام الشيخ يوسف المذكور فتبرع بعمارته الحاج أحمد بن فستق النشابي وكان صديقا للشيخ يوسف المذكور، وأحضر عليا بن الرحال فبلغ بأسه الجبل وأقامه ووقف على أسه
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: منتقى الأموال.(5/57)
حين أسسه. وله منارة محكمة لطيفة من حسن البناء والأحجار والنحت، ثم في أيامنا تزعزع رأسها فنقض وأعيد ولم يعيدوه كما كان، فإنهم نقصوا من طول العمد التي عليها قبتها فإنهم كانوا طوالا. وذكر لي من أثق به أن الحاج أحمد بن فستق المذكور استشار الشيخ يوسف في أن يحج، وكان الحائط المذكور إذ ذاك متهدما، فأجابه الشيخ: إنك قد حججت، وأنا أدلك على فعل خير يحصل إن شاء الله لك منه أجر الحاج، وأشار عليه بأن يعمر حائط القرناصية، فقال الحاج أحمد: أستخير الله تعالى، ومضى من عنده فلقيه الشيخ بيرم المجذوب في طريقه فقال له: افعل الذي أشار عليك الشيخ، فشرع الحاج أحمد وبنى الحائط المذكور انتهى.
أقول: محلها معروف في محلة الفرافرة وسيأتي ذكرها في ترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن أشريف المتوفى سنة 1244إن شاء الله تعالى.
403 - أحمد بن محمد الأنصاري المتوفى سنة 775
أحمد بن محمد بن جمعة بن أبي بكر بن إسماعيل بن حسن الأنصاري الحلبي شهاب الدين أبو العباس، عرف بابن الحنبلي الشافعي.
ولد في شهر ربيع الآخر سنة 648 (هكذا) والصواب (698)، وتفقه بحلب على الفخر بن الخطيب الطائي، وسمع على العز إبراهيم بن صالح والوادي أشي والتاج النصيبي والبدر بن جماعة، ورحل في طلب الحديث وبرع حتى صار إماما عالما مع الزهد والورع.
ولي خطابة جامع حلب مدة تزيد على عشرين سنة، ثم نزل عنها لأبي الحسن بن عشائر ولابن أخيه أبي البركات موسى بن محمد بن محمد بن جمعة. وكان دمث الأخلاق يستحضر فروعا كثيرة. وله نظم منه ما وجدت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي: أنشدنا لنفسه بالقاهرة قدم علينا سنة 764:
معانقة الفقر خير لمن ... يعانقه من سؤال الرجال
ولا خير في نيل من ماله ... عزيز النوال بذلّ السؤال
قال: وبلغتنا وفاته في سنة 775بحلب. قلت: مات في 16ذي الحجة سنة 4فأرخه الزركشي بعد سنة لبلوغ الخبر إلى القاهرة. ومن مسموعه المنتقى من مسند الحارث سمعه
من العز بن صالح أنا يوسف بن خليل عاش سبعا وسبعين سنة. وذكر موسى بن مملوك وكان من الصالحين، أنه حضره حين احتضر فبدأ بقراءة سورة الرعد، فلما انتهى إلى قوله {أُكُلُهََا دََائِمٌ وَظِلُّهََا} خرجت روحه.(5/58)
معانقة الفقر خير لمن ... يعانقه من سؤال الرجال
ولا خير في نيل من ماله ... عزيز النوال بذلّ السؤال
قال: وبلغتنا وفاته في سنة 775بحلب. قلت: مات في 16ذي الحجة سنة 4فأرخه الزركشي بعد سنة لبلوغ الخبر إلى القاهرة. ومن مسموعه المنتقى من مسند الحارث سمعه
من العز بن صالح أنا يوسف بن خليل عاش سبعا وسبعين سنة. وذكر موسى بن مملوك وكان من الصالحين، أنه حضره حين احتضر فبدأ بقراءة سورة الرعد، فلما انتهى إلى قوله {أُكُلُهََا دََائِمٌ وَظِلُّهََا} خرجت روحه.
404 - إبراهيم بن أحمد الرعباني المتوفى سنة 776
إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن محمد بن هبة الله بن محمد ابن عبد الباقي الحلبي الحنفي المعروف بابن الرعباني أبو إسحق كمال الدين المعروف بابن أمين الدولة، وهو لقب هبة الله جده الأعلى.
ولد بحلب في ربيع الأول سنة 695، وسمع بها من سنقر الحلبي صحيح البخاري ومشيخته، ومن أبي بكر بن أحمد بن العجمي الثمانين للآجري، وعلى أخيه أبي طاهر جزء الكسائي والذكر لابن فارس. ومن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الشيرازي جزء سفيان وغيرهم. وولي وكالة بيت المال بحلب ونظر الدواوين وكتب الإنشاء. وكان رئيسا نبيلا، حدث بحلب ودمشق، ومات في ليلة الأحد ثامن جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة. وهو من شيوخ الحافظ أبي الوفا سبط ابن العجمي بالسماع. وسمع منه أبو حامد بن ظهيرة بدمشق وبحلب اهـ.
405 - محمد بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة 776
محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن الشحنة الحلبي كمال الدين والد محب الدين الحنفي.
اشتغل كثيرا حتى مهر وأفتى ودرس في مذهبه. وكان فاضلا بارعا. مات في ربيع الأول سنة 776، وأنجب ولده الإمام العلامة محب الدين قاضي حلب.
406 - عبد الله بن علي العجمي المتوفى سنة 777
عبد الله بن علي بن عبد المتعال (1) بن عبد الله بن أبي حامد عبد الرحمن بن الحسن بن
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: عبد الملك.(5/59)
عبد الرحمن أبو حامد زين الدين العجمي.
سمع من أبي طالب بن العجمي قريبه شيئا من المقامات وغيرها وحدث. سمع منه البرهان المحدث بحلب وقال: إنه لم يلق من بني العجمي أقعد (1) نسبا منه. قلت: ولد بحلب في سابع عشري رمضان سنة 697ومات بها في ربيع الآخر سنة 777.
407 - عمر بن إبراهيم بن العجمي المتوفى سنة 777
عمر بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الشيخ الإمام العلامة كمال الدين أبو حفص وأبو الفضل ابن الشيخ تقي الدين أبي إسحاق الحلبي الشافعي من بيت العلم والرياسة والوجاهة والتقدم.
مولده بحلب في سلخ جمادى الآخرة سنة أربع وسبعماية. سمع من نسيبيه الأخوين أبي بكر أحمد وأبي طالب ابني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن العجمي وأبي عبد الله الوادي آشي، قدم عليهم ورحل، فسمع بحماة من الإمام شيخ الإسلام شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم بن البارزي وابن مزين، وسمع بدمشق على الحافظ المزي وأخذ عنه، وعلى عائشة بنت محمد بن المسلم بن سلامة الحرانية وغيرها، وسمع على الحجار، ورحل إلى القاهرة فسمع بها.
واشتغل بالفقه بحلب على جدي الأعلى لأمي فخر الدين أبي عمرو عثمان بن خطيب جبرين وبه تفقه، وقرأ بحماة الفقه أيضا على القاضي شيخ الإسلام شرف الدين بن البارزي المشار إليه، وبدمشق على العلامة برهان الدين الفراري، وبالقاهرة على الشيخ شمس الدين الأصفهاني قرأ عليه أصول الفقه وحصل. وكان إماما عالما مفتيا محدثا فقيها، حدث بحلب، سمع عليه بها جماعة كثيرون منهم شيخنا أبو إسحق إبراهيم وأبو المعالي ابن عشاير وأبو البركات موسى الأنصاري وغيرهم، ودرس بحلب بالمدارس الزجاجية والشرفية والظاهرية والبلدقية.
وذكره الإمام الحافظ أبو عبد الله الذهبي في معجمه المختص بالفضلاء وقال فيه: العالم الفقيه كمال الدين، قال: قدم علينا دمشق طالب حديث. قال: وله فهم ومشاركة
__________
(1) في بعض مخطوطات الدرر الكامنة: أسعد.(5/60)
وفضائل وسمع بمصر وإسكندرية وأفتى اهـ.
واشتغل عليه بحلب جماعة. أخبرني شيخنا أبو إسحق الحلبي قال: التزم الشيخ كمال الدين المذكور أن يقرىء في يوم واحد ربع الحاوي الصغير في الفقه بالدليل والتعليل، فجلس بالمدرسة الظاهرية وجلس عنده بعض الطلبة فقرأ عليه من أول الحاوي، فشرع يقرره بالدليل والتعليل. قال شيخنا: فرحت إليهم وقت الضحى فوجدته يقرر في باب الحيض، واستمر إلى أن وصل إلى كتاب الصلاة، فسئم الطلبة وتحقق استحضاره في الفقه.
وكان شيخا جليلا دينا كريما ذا أخلاق جميلة ومحاضرة حسنة، وله اليد الطولى في الفرائض والحساب، وكتب وصنف.
وذكره الإمام بدر الدين بن حبيب في تاريخه وقال فيه: عالم تبين عرفانه، وتميز طوفانه، ومحدث طابت أخباره، وحسنت آثاره، قدره جليل، وبيته أثيل، وأخلاقه جميلة، ومحاضرته بالمحاسن كفيلة، حصل ودأب، ورحل وسمع وقرأ وكتب، وأفتى وأجاد، ورأس على أقربائه وساد، وباشر بحلب مشيخة الخانقاه الزينية، ودرس بالرواحية والشرفية والزجاجية والظاهرية، واستمر ماشيا على الدهر، إلى أن رمي من الحتف بسهم القهر. انتهى. (الدر المنتخب).
أخبرنا شيخنا أبو الوفا بن محمد الحلبي بها قال: (أنا) المشايخ الستة كمال الدين أبو الفضل عمر بن إبراهيم بن عبد الله بن العجمي، والمسند عز الدين محمد بن عبد العزيز العجمي، والرحلة المكثر كمال الدين أبو الحسن محمد بن الإمام أبي القاسم عمر بن حبيب، والخليل الأصيل ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن محمد الشهير بابن الطباخ، والخليل الأصيل زين الدين عمر بن محمد بن علي بن الركابي، والخليل الأصيل تاج الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام المسند شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عشاير السلمي الحلبيون، قال الثلاثة الأولون: (أنا) سماعا الشيخ الإمام المسند شمس الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن العجمي. وقال الثلاثة الآخرون: (اتنا) إجازة زينب بنت كمال الدين أحمد ابن عبد الرحيم المقدسة قالت هي وأبو بكر بن العجمي: (اتنا) ابن القميرة قال شمس الدين أبو بكر سماعا وقال إجازة قال: (اتنا) أم عتب تجنّي بنت عبد الله الوهبانية قراءة عليها وأنا أسمع قالت: (انا) أبو عبد الله الحسيني بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي،
(انا) أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن زرقويه، (أنا) أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، (ثنا) زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، (ثنا) معروف الكرخي، قال بكر ابن خنيس: [إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات.(5/61)
أخبرنا شيخنا أبو الوفا بن محمد الحلبي بها قال: (أنا) المشايخ الستة كمال الدين أبو الفضل عمر بن إبراهيم بن عبد الله بن العجمي، والمسند عز الدين محمد بن عبد العزيز العجمي، والرحلة المكثر كمال الدين أبو الحسن محمد بن الإمام أبي القاسم عمر بن حبيب، والخليل الأصيل ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن محمد الشهير بابن الطباخ، والخليل الأصيل زين الدين عمر بن محمد بن علي بن الركابي، والخليل الأصيل تاج الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام المسند شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عشاير السلمي الحلبيون، قال الثلاثة الأولون: (أنا) سماعا الشيخ الإمام المسند شمس الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن العجمي. وقال الثلاثة الآخرون: (اتنا) إجازة زينب بنت كمال الدين أحمد ابن عبد الرحيم المقدسة قالت هي وأبو بكر بن العجمي: (اتنا) ابن القميرة قال شمس الدين أبو بكر سماعا وقال إجازة قال: (اتنا) أم عتب تجنّي بنت عبد الله الوهبانية قراءة عليها وأنا أسمع قالت: (انا) أبو عبد الله الحسيني بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي،
(انا) أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن زرقويه، (أنا) أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، (ثنا) زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، (ثنا) معروف الكرخي، قال بكر ابن خنيس: [إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات.
الحديث].
توفي بحلب يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين تغمده الله برحمته اهـ.
وترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة ببعض ما تقدم، ومما قاله: أنه كان له إلمام قوي بعلم الحديث، وانتهت إليه رياسة الفتوى بحلب مع الشهاب الأذرعي. ونحو ذلك في المنهل الصافي.
408 - عمر بن أحمد بن أمين الدولة المتوفى سنة 777
عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم (1) ابن أمين الدولة الحلبي زين الدين أبو حفص.
ولد سنة عشر وسبعماية، وباشر ديوان الإنشاء مدة، ثم أعرض عنه.
وقال ابن حبيب: تعلق بمذهب أحمد ولازم التواضع، واشتغل بالكتابة والأدب والحديث، وقدم دمشق ومصر، ورجع إلى حلب فمات بها في سنة 777وله سبع وستون سنة.
409 - محمد بن عمر بن حبيب المتوفى سنة 777
محمد بن عمر بن حسن بن عمر بن حبيب بن عمر بن شويخ بن عمر الدمشقي الأصل الحلبي كمال الدين.
ولد في مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وسبعمائة، وحضر على سنقر الموطأ للقعنبي ومسند الشافعي والبخاري وابن ماجه ومعجم ابن قانع والناسخ لأبي عبيد والصمت
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: عبد المؤمن.(5/62)
والمحاسبة، كلاهما لابن أبي الدنيا، والمقامات، وسمع أيضا من العماد بن السكري وبيبرس العديمي وأبي المكارم بن النقيبي وأبي بكر وأبي طالب ابني ابن العجمي وإسماعيل وإبراهيم وعبد الرحمن أولاد صالح العجمي وإبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي وغيرهم، وأجاز له الدمياطي وابن جعفر الموازيني وعمر الحمصي وعلي بن القيم وآخرون، وكتب في ديوان الإنشاء بحلب، وحدث بالكثير وتفرد، ورحل الناس إليه، وأكثر عنه أهل مكة حين جاور بها سنة 73. وكانت وفاته بالقاهرة في 19جمادى الآخرة سنة 777.
410 - عبد الله بن مشكور المتوفى سنة 778
عبد الله بن مشكور الحلبي، ناظر الجيش بها مدة طويلة.
وله مآثر معروفة بحلب، منها أنه أجرى الماء إلى الجامع الناصري من القناة بعد أن بنى به بركة لذلك، وله جامع بباب قنسرين، ووقف على المحبوسين من الشرع وكانوا قبل في حبس أهل الجرائم. ثم قال القاضي علاء الدين: كان يحب الفقراء والعلماء ويحسن إليهم كثيرا. ومات في جمادى الآخرة سنة 778اهـ. وقدمنا في ترجمة الحسن بن الخشاب المتوفى سنة 648في الكلام على درب بني الخشاب أن برأس هذا الدرب مسجدا يعرف بابن مشكور وقد جعل حبسا الآن اهـ.
أقول: يغلب على الظن أن هذا المكان الآن هو الخان المعروف بخان أبي عين، ولا أثر هناك لهذا المسجد.
وقال أبو ذر في الكلام على المحلات: (السهلية): هي سويقة حاتم، بها حمّامان لبني عصرون وقد صارتا لابن مشكور، ولها دولاب تجاه الحمّام الواحد جعل الآن دارا ووقفها ابن مشكور على رباط بالقدس وعلى مصالح القساطل التي من السهلية إلى باب الجنان، وجعل النظر في ذلك لخطيب الجامع الكبير بحلب اهـ.
411 - محب الدين محمد بن يوسف المعروف بناظر الجيش المتوفى سنة 778
لم أقف له على ترجمة.(5/63)
وقد ذكره في الكشف في الكلام على شراح التسهيل في النحو لابن مالك قال: وممن شرحه الشيخ محب الدين محمد بن يوسف بن أحمد المعروف بناظر الجيش الحلبي المتوفى سنة 778قرب إلى إتمامه، واعتنى بالأجوبة الجيدة عن اعتراضات أبي حيان اهـ. يوجد نسخة منه في مكتبة نور عثمانية في الآستانة ورقمها 4560، ونسخة في المكتبة السلطانية في خمسة أجزاء بها خروم ورقم النسخة 349. وقد سماه في فهرستها «تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد» وذكرت أن مولد المؤلف سنة 697.
وذكر له في الكشف من المؤلفات شرحا على التلخيص في المعاني والبيان.
412 - علي بن محمد بن محمد بن عشاير المتوفى سنة 778
علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد الإمام علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ بدر الدين أبي عبد الله بن عشاير الحلبي الشافعي.
ولد قبل العشرين وسبعماية بحلب، ونشأ بها واشتغل وحصل طرفا من الفقه، وسمع عماد الدين الهروي الشهير بالعجمي المائة الفراوية بحلب والوادي آشي. وكان يقول إنه قرأ على العلامة قاضي القضاة فخر الدين ابن خطيب جبرين وكأنه حضر عنده وحدث بحلب. سمع عليه شيخنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد الحلبي وابنه أبو المعالي بن عشاير وغيرهما. وولي خطابة جامع حلب في آخر عمره وباشرها.
وذكره الإمام بدر الدين محمد بن حبيب في تاريخه وقال فيه: عالم علمه خافق، وجواد فضله سابق، ورئيس بيته مرتفع، وشمل أصالته مجتمع. كان قليل الاجتماع بالناس، متلفعا من الديانة والصيانة بأفخر لباس، أفتى وأفاد وحصل ودأب، وباشر في آخر عمره خطابة الجامع بحلب، وعمر دار القراءة بحضرة المدرسة الشرفية، واستمر على ما هو بصدده إلى أن أدركته المنية. انتهى. توفي رحمه الله سنة ثمان وسبعين وسبعماية بحلب اهـ. (الدر المنتخب).
آثاره بحلب
49561 - المدرسة ودار القرآن العشائرية:
قال في كنوز الذهب في باب (ذكر آدر القرآن العزيز): فمنها العشائرية، وهي
مطلة على الجامع الكبير من شباك أحدث في حائط الجامع بعد فتنة كبيرة، فشرط واقفها على نفسه أنه لا يمنع أحدا من الجامع أن يدخل ليستنجي فيها، فسكنت الفتنة حينئذ.(5/64)
قال في كنوز الذهب في باب (ذكر آدر القرآن العزيز): فمنها العشائرية، وهي
مطلة على الجامع الكبير من شباك أحدث في حائط الجامع بعد فتنة كبيرة، فشرط واقفها على نفسه أنه لا يمنع أحدا من الجامع أن يدخل ليستنجي فيها، فسكنت الفتنة حينئذ.
قال والدي في تاريخه: أنشأها بعد وفاة ولديه الحسن والحسين شيخنا علاء الدين علي ابن بدر الدين محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي العشاير. ثم إن ولده ناصر الدين محمد غير ذلك (ستأتي ترجمته قريبا) وجعل نفسه الواقف، وزاد ونقص في الأعيان والشروط. انتهى. وشرط فيها مدرسا على مذهب الإمام الشافعي وملقنا للقرآن. وهي لطيفة وفيها إيوان منجور من صنعة أولاد عبد الله القلعيين فرد في بابه. اهـ.
أقول: قد رأيت الوقفية وهي محررة سنة 786، وقد ذكر فيها أن الواقفين علي ومحمد (الواقف وولده) وعمر بن إبراهيم بن قاسم، وهذا أيضا من بني الخطيب. وباب هذه المدرسة من الزقاق الذي هو تجاه المدرسة الشرفية، وفيها بيوت وداخلها قاعة واسعة حسنة البناء تعد من الآثار القديمة التي في حلب، فيها محراب وبئر ماء. وقبل سنين كان بعض المشايخ يؤدب فيها الأطفال، ولما مات بطل ذلك. ولها باب كبير تخرج منه إلى الرواق الشمالي من الجامع الكبير وهو الشباك الذي ذكره أبو ذر، ويظهر أنه اتخذ بابا بعد الألف بقليل في زمن ساكن هذه القاعة الشيخ عبد الوهاب العرضي أو ولده أبي الوفا وقد كانا من مدرسيها، وإلى الآن يتناوبها المدرسون، غير أني من أوائل هذا القرن إلى هذه السنة لم أرها مفتوحة ولم أر بها مدرسا قط. ويسكن هذه المدرسة الآن البديعة شخصان من بني الخطيب وقد اتخذا هذه القاعة البديعة مطبخا فساء بذلك حالها وذهبت بهجتها ولله الأمر.
413 - القاضي موسى بن فياض الحنبلي المتوفى سنة 778
موسى بن فياض بن موسى بن عبد العزيز بن فياض الحنبلي قاضي القضاة المتوفى سنة 778أبو البركات شرف الدين المقدسي الصالحي الحنبلي.
قدم إلى حلب ودرس، وكان سمع من الحجار وحدث عنه. وسمع عليه ابن عشائر وبرهان الدين المحدث. وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بحلب في سنة 48واستمر خمسا وعشرين سنة. وكان صالحا ورعا مطرح التكلف معظما للشرع. ومات سنة 778عن نيف وتسعين سنة، قاله ابن حبيب.(5/65)
قال البرهان صاحبه: كان مولده سنة نيف وتسعين، فعلى هذا ما جاوز التسعين.
وكان ترك القضاء لولده أحمد قبل موته بخمس سنين. قرأت بخط محمد بن يحيى بن سعد في ذكر شيوخ حلب سنة 48أن شرف الدين هذا سمع الصحيح على الحجار وأبي بكر ابن أحمد بن عبد الدايم وعيسى المطعم سنة 12، وسمع على التقي سليمان جزء ابن مخلد وعلى أبي بكر والحجار.
414 - سليمان بن داود الكاتب المتوفى سنة 778
سليمان بن داود بن يعقوب بن أبي سعيد القاضي جمال الدين أبو الربيع المعروف بالمصري الحلبي الكاتب الأديب.
كان بارعا في صناعة الإنشاء والترسل، وله النظم الرائق والنثر الفائق، مع رياضة الخلق وحسن الخلق، وباشر كتابة الإنشاء وعدة وظائف بحلب حتى مات في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وقد قارب الخمسين. وكان له شعر جيد وقصائد على حروف المعجم سماها «بالشفعية في مدح خير البرية» صلى الله عليه وسلم استوعب فيها بحور الشعر.
ومن شعره:
أو حشني أنس أهل نجد ... وهم بسفح النقا نزول
أنس الورى زائل محال ... والأنس بالله لا يزول
وله:
وإنا لنجري في ودادك جهدنا ... وإن كنت تمشي في الوداد على رسل
بعدت ولم تقنع بذاك وإنما ... بخلت عن الأخوان بالكتب والرسل
وله أيضا:
رياض جرت بالظلم عادات ريحها ... وسار بغير العدل في الحكم سيرها
ففرقت الأغصان عند اعتناقها ... وسلسلت الأنهار إذ حنّ طيرها
اهـ. (المنهل الصافي).(5/66)
415 - أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني المتوفى سنة 778
أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم الممدوح السيد الشريف أبو العباس بن شمس الدين أبي المجد بن شهاب الدين أبي العباس بن علاء الدين أبي الحسن بن شمس الدين أبي عبد الله بن زين الدين أبي الحسن الحراني ثم الحلبي الحسيني، نقيب الأشراف بحلب وكاتب الإنشاء فيها، وأحد أعيانها سؤددا ورياسة وكرما وفضلا، مع رياضة أخلاق وتواضع وإحسان لمن يرد عليه. ولم يزل على ذلك إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة اهـ.
وترجمه في الدرر الكامنة بأخصر مما تقدم، لكنه قال: ولد بعد سنة سبعمائة تقريبا، وكان حسن الطريقة جميل الأخلاق.
416 - عمر بن أحمد بن المهاجر الشاعر المتوفى سنة 778
عمر بن أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن المهاجر الملقب زين الدين الحلبي الشافعي.
ولد وتفقه بحلب على الشيخ زين الدين أبي حفص عمر الباريني، وقرأ الأدب على الشيخين أبي عبد الله وأبي جعفر الأندلسيين نزيلي حلب، وبرع في الأدب وكتب الإنشاء بحلب ودأب وحصل. وكان عنده فضيلة ولديه مشاركة، وكان يعد من أعيان الحلبيين، وله نظم ونثر. ومن نظمه:
وقوم غض طرف الدهر عنهم ... فسادوا عند ما عمّ الفساد
فأمكن منهم ربّ البرايا ... بعدل عند ما ظلموا وزادوا
وقالوا لا نعود إذا رجعنا ... لقد كذبوا ولو ردّوا لعادوا
وله:
إني لأكره أرزاقا ينغّصها ... فراق أبعد جار قد وعى فيتي
فكيف أرغب في سحت ينغّصه ... فراق أهلي وأوطاني وعافيتي
ومن نظمه في حمام الرسائل:
الله هادي طائر البشر الذي ... وافى ففرج كربة المحزون
حمل البطاقة بالبشائر والهنا ... يا مرحبا بالطائر الميمون
توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، هكذا أخبرني ولده صاحبنا القاضي زين الدين عبد الرحمن بحلب رحمه الله تعالى. اهـ. (الدر المنتخب).(5/67)
الله هادي طائر البشر الذي ... وافى ففرج كربة المحزون
حمل البطاقة بالبشائر والهنا ... يا مرحبا بالطائر الميمون
توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، هكذا أخبرني ولده صاحبنا القاضي زين الدين عبد الرحمن بحلب رحمه الله تعالى. اهـ. (الدر المنتخب).
417 - حسن بن عمر بن حبيب المتوفى سنة 779
حسن بن عمر بن الحسن بن حبيب بن عمر بن شويخ بن عمر بن بدر الدين أبو محمد وأبو طاهر الدمشقي الأصل الحلبي المولد والمنشأ، كان أبوه محتسبا بحلب وله عمل كثير في الحديث.
ولد سنة عشر وسبعمائة، ونشأ محبا في الآداب، وأخذ عن ابن نباتة وغيره. وهو صاحب «نسيم الصبا» يشتمل على أدب كثير. واستعمل «مقاصد الشفاء» لعياض وسماه «أسنى المطالب في أشرف المناقب» فسبكها سجعا سمعه منه أبو حامد ابن ظهيرة، وصنف «درة الأسلاك في دولة الأتراك» سجع كله يدل على اطلاع زائد واقتدار على النظم والنثر، لكنه ليس في الطبقة العليا منها. وهو القائل:
ألحاظه شهدت بأني ظالم ... وأتت بخط عذاره تذكارا
يا حاكم الحب اتئد في قتلتي ... فالخط زور والشهود سكارى
وكان مولده في شعبان سنة عشر. وحضر في عاشر شهر على إبراهيم وإسماعيل وعبد الرحمن أولاد صالح عشرة الحداد، وعلى بيبرس المصافحة وغيرها، ثم سمع من إبراهيم بن صالح ومن والده عمر ومن فخر الدين ابن خطيب جبرين، وسمع بالقاهرة ومصر والإسكندرية. وكان فاضلا كيّسا صحيح النقل. حدث عنه ابن عشائر وابن ظهيرة وسبط ابن العجمي ومحب الدين ابن الشحنة وعلاء الدين ابن خطيب الناصرية، وقال في ترجمته: هو أول شيخ سمعت عليه الحديث وأجاز لي. قلت: سمع عليه وهو في الخامسة وأظنه آخر الرواة عنه بالسماع. وكان يوقع عن القضاة. وانقطع في آخر عمره بمنزله.
وله «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه»، جرى فيه على طريقة درة الأسلاك. وباشر نيابة القضاء ونيابة كتابة السر. وكان أخذ عن فخر الدين ابن خطيب جبرين في الفقه.
وقرأت بخط محمد بن يحيى بن سعيد فين كان حيا بحلب من الشيوخ سنة 758:(5/68)
وله «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه»، جرى فيه على طريقة درة الأسلاك. وباشر نيابة القضاء ونيابة كتابة السر. وكان أخذ عن فخر الدين ابن خطيب جبرين في الفقه.
وقرأت بخط محمد بن يحيى بن سعيد فين كان حيا بحلب من الشيوخ سنة 758:
حسن بن عمر بن حبيب مقيم بطرابلس حينئذ، وحضر على بيبرس جزء البانياسي، قلت والمصافحة للبرباني وجزء هلال الحفار وهو يومئذ في الرابعة. وسمع من أبي المكارم النصيبي عوالي سعد بن منصور ومن بني العجمي عبد الرحمن وعبد الرحيم وإسماعيل وإبراهيم ومن إسحق النحاس ونخوة بنت النصيبي وغيرهم. وأجاز له من مصر الرشيد بن المعلم (1)
والحسن الكردي وموسى بن علي وزينب بنت شكر.
ومات في ربيع الآخر سنة 779وأنجب ولده طاهرا، وقد ذيل على تصنيف أبيه «درة الأسلاك في دولة الأتراك» وتأخر إلى بعد القرن بسنوات اهـ.
وكتابه «نسيم الصبا» مطبوع: طبع عدة مرات، وهو مشهور متداول بين الأدباء.
قال في الكواكب المضية: أنشأ هذا الكتاب في سنة ست وخمسين.
ومن نظمه في فصل في الخيل والإبل:
جرد بهن بكل عين جنّة ... فإذا جرين أتين بالنيران
يحكين في البيد النعام رشاقة ... ويسرن في الأنهار كالحيتان
قال الشيخ علاء الدين ابن الخطيب: أنشدني بدر الدين الحسن بن حبيب لنفسه مما كتبه في كتاب إلى دمشق لما ولي العلامة بهاء الدين أبو البقاء السبكي:
شرفت دمشق بحاكم أوصافه ... منها الديانة والصيانة والتقى
ولسانه عن كل فن معرب ... من ذا الذي إعرابه كأبي البقا
وفي سنة سبع وستين جمع مجلدا من شعره وسماه «بالبدور»، فمنه:
الورد والنرجس مذعاينا ... لينوفرا يلزم أنهاره
شمرّ ذا للخوض عن ساقه ... وفكّ ذا للعوم أزراره
وأورد الشيخ محمد العرضي في مجموعته الكثير من نظمه، منه قوله:
بين صدغ الحبيب والجفن خال ... عنبريّ يسبي عقول البرايا
__________
(1) في الكشف: «تحية المسلم المنتقى من شعر ابن المعلم» لحسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفى 779.(5/69)
فاعرفوا حق عرفه وشذاه ... واعلموا أن في الزوايا خبايا
ومنه في نتيف:
يا من يروم بظفره ... نتف العذار المظلم
أتعبت نفسك فاسترح ... من ذا البلاء المبرم
من ذا الذي يقوى على ... ردّ السواد الأعظم
ومنه:
الصدق يورث قائليه مهابة ... سر نحوه نعم الطريق طريقه
واحفظ به عهد الصحاب فإنه ... من قلّ منه الصدق قلّ صديقه
ومنه:
إياك من ذل السؤال ومل إلى ... عز القناعة واجتنب أهل الريا
وأرق إذا ما ألجأتك ضرورة ... ماء الحياة ولا ترق ماء الحيا
أقول: شعره خير من نثره، واسم ديوانه «الشذور» كما في كشف الظنون.
وترجمه صاحب المنهل الصافي فقال: حضر في الرابعة على بيبرس العديمي وعلى أبي بكر العجمي، وسمع من أبي بكر النصيبي ومن أبي طالب عبد الرحيم بن العجمي والكمال ابن النحاس، وأجاز له جماعة من مصر وغيرها. وقرأ على القاضي فخر الدين بن خطيب جبرين. وكان يرتزق بالشروط عند الحكام بحلب. وكان له فضل ومشاركة جيدة واليد الطولى في النظم والنثر، وله سماع ورواية ومؤلفات مفيدة، منها كتاب «نفحات الأرج من كتاب تبصرة الفرج» (لابن الجوزي)، وتاريخ «درة الأسلاك في دولة الأتراك»، وذيل عليه ولده الشيخ أبو العز طاهر، وكتاب «نسيم الصبا» وكتاب «النجم الثاقب في أشرف المناقب» (1)، وكتاب «أخبار الدول وتذكار الأول» مسجعا. وكانت له وجاهة، وباشر كتابة الحكم العزيز وكتابة الإنشاء والتوقيع الحكمي وغير ذلك من الوظائف الدينية، ثم تخلى عن ذلك جميعه في آخر عمره ولزم داره حتى توفي بحلب يوم
__________
(1) مرتب على ثلاثين فصلا وهو مسجع منه نسخة في برلين ونسخة في حلب عند الفاضل الأديب الشيخ أحمد سراج الدين سبط الترمانيني.(5/70)
الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة. ومن شعره يمدح القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله بقصيدة منها:
جوانحي للقا الأحباب قد جنحت ... وعاديات غرامي نحوهم جنحت
وعبرتي عبرة للناظرين غدت ... لأنها بجفوني إذ جرت جرحت
يا حبذا جيرة سفح النقا نزلوا ... آيات حسنهم ذكر الحسان محت
صدّوا فطرفي لبعد الدار ينشدهم ... يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت
آها لعيش تقضّى في معاهدهم ... وطيب أنفاس أوقات بهم نفحت
حيث الحواسد والأعداء قد صددت ... والسعد من فوقنا أطياره صدحت
والدهر قد غضّ طرف الحادثات لنا ... والدهر أعينه في الخضرة انفتحت
والورق ساجعة والقضب راكعة ... والسحب هامعة والغدر قد طفحت
والعود عودان هذا نشره عطر ... وذاك ألحانه أحزاننا نزحت
والراح تشرق في الراحات تحسبها ... أشعة الشمس في الأقداح قد قدحت
أكرم بها بنت كرم كفّ خاطبها ... كفّ الخطوب وإسداء الندى منحت
مظلومة سجنت من بعد ما عصرت ... مع أنها ما جنت ذنبا ولا اجترحت
كم أعربت عن سرور كان منكتما ... وكم صدور لأرباب الهوى شرحت
تديرها بيننا حوراء ساحرة ... كأنها من جنان الخلد قد سرحت
ألحاظها لو بدت للبيض لاحتجبت ... وقدّها لو رأته الشمس لافتضحت
ظلّامة للكرى عن مقلتي حبست ... أما تراها ببحر الدمع قد سبحت
ورب عاذلة فيمن كلفت بها ... تكلّفت لملامي في الهوى ولحت
جاءت وفي عزمها نصحي وما علمت ... أني أزيد غراما كلما نصحت
بالروح أفدي من النقصان عارية ... تسربلت برداء الحسن واتشحت
غيداء من ظبيات الأنس كانسة ... لكنها عن معاني الحسن قد سنحت
عيني إلى غير مرأى حسن طلعتها ... وغير فضل بن فضل الله ما طمحت
وله فيمن اسمه موسى:
لما بدا كالبدر قال عاذلي ... من ذا الذي فاق على شمس الضحى
فقلت موسى واستفق فإنه ... أهون شيء عنده حلق اللحى
وله أيضا:(5/71)
لما بدا كالبدر قال عاذلي ... من ذا الذي فاق على شمس الضحى
فقلت موسى واستفق فإنه ... أهون شيء عنده حلق اللحى
وله أيضا:
يا أيها الساهون عن أخراهم ... إن الهداية فيكم تتعرف
المال بالميزان يصرف عندكم ... والعمر بينكم جزافا يصرف
وذكر له في الكشف من المؤلفات شرحا على الحاوي الصغير في فروع الشافعية وسماه «التوشيح»، و «إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري»، و «الكوكب الوقاد من كتب الاعتقاد» انتقاه من كتاب الاعتقاد للبيهقي، و «مقامات الوحوش»، و «المقامة الطردية»، و «مقامة الخيل والإبل»، و «مقياس النبراس» وهو على حروف المعجم نظم ونثر، و «كشف المروط من محاسن الشروط»، قال في الكشف: أورد فيه جملة من السجلات على اصطلاح أهل مصر اهـ. وجدت نسخة منه في جامع أبي يحيى في محلّة الجلّوم داخل القبة التي فيها ضريح الشيخ محمد الكواكبي ملقاة في خزانة هناك مع غيرها من الكتب، ويوجد نسخة منه في المكتبة السلطانية في مصر، و «المقتفى من سيرة المصطفى» منه نسخة في هذه المكتبة محررة سنة 841ورقم النسخة 309.
418 - الشريف محمد بن علي بن زهرة المتوفى سنة 779
محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الشريف مجد الدين أبو سالم الحسيني الحلبي.
كان فاضلا بليغا، سافر إلى بلاد العجم وأخذ عن علماء عصره، ولقي جماعة ببلاد خراسان وماوراء النهر، ثم رجع إلى حلب فأقام بها. وكان ذا أدب وفصاحة. وسمع من الفقيه المحدث المفسر شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن الحسن بن أبي العلاء الفيروز بادي «مشارق الأنوار» للصاغاني، وحدث بشيء منه بحلب بروايته عن المذكور وعن الفقيه المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخليفة. هكذا نقل من خطه، وروي غير ذلك. ومن نظمه:
أبا سالم إعمل لنفسك صالحا ... فما كل ما لاقى الحمام بسالم
ومالي سوى حب النبي وآله ... يقيني يقيني بارك الله راحمي
توفي ليلة الخميس 24ربيع الأول سنة 779.(5/72)
أبا سالم إعمل لنفسك صالحا ... فما كل ما لاقى الحمام بسالم
ومالي سوى حب النبي وآله ... يقيني يقيني بارك الله راحمي
توفي ليلة الخميس 24ربيع الأول سنة 779.
419 - صالح بن أحمد السفاح المتوفى سنة 779
صالح بن أحمد بن عمر القاضي صلاح الدين أبو النسك الشافعي الحلبي الشهير بابن السفاح.
ولد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة بحلب وبها نشأ، وولي وكالة بيت المال ونظر الأوقاف وعدة وظائف أخر. وكان يعد من رؤساء حلب. وهو أبو القاضي شهاب الدين أحمد كاتب سر حلب ثم كاتب السر بالديار المصرية، وأبو الرئيس ناصر الدين أبي عبد الله محمد. وكان كاتبا حسن التصرف عالي الهمة دينا خيرا، ذكره أبو العز زين الدين طاهر ابن حبيب وأثنى عليه وأورد له نظما من ذلك دو بيت:
لا نلت من الوصال ما أمّلت ... إن كان متى ما حلت عني حلت
أحببتكم طفلا وها قد شبت ... أبغي بدلا ضاق عليّ الوقت
توفي بقرية بصرى متوجها إلى الحج في سنة تسع وسبعين وسبعمائة اهـ. (المنهل الصافي).
420 - أبو جعفر أحمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي المتوفى سنة 779
قال أبو ذر في الكلام على درب بني سوادة الذي تقدم ذكره في ترجمة علي بن سوادة المتوفى سنة 714: واعلم أن بهذا الدرب مسجد طغرل، بني في أيام العزيز بتولي عبد المجيد بن الحسن بن العجمي في سنة سبع عشرة وستماية (1)، ويعرف هذا المسجد قبل فتنة تيمور بمسجد النحاة نسبة إلى الشيخين الإمامين شهاب الدين أبي جعفر أحمد بن يوسف
__________
(1) هو المسجد الذي في أول محلة باب قنسرين قبلي الخان الجديد المعروف بخان قنصة، ولم يزل بابه القديم موجودا، وهو مؤلف من ثلاثة أحجار سوداء، وبعض بنائه القديم في الداخل لم يزل باقيا ورممه في القرن الماضي بعض بني ميرو، وقد كانت منازلهم جوار هذا المسجد في موضع الخان المعروف بخان صلاحية الذي بني من نحو عشرين سنة.(5/73)
ابن مالك الرعيني الأندلسي الغرناطي المالكي ورفيقه شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن علي بن جابر الهواري الأندلسي المالكي الأعمى المعروفين بالأعمى والبصير، ولهما النظم الفايق والمؤلفات الحسنة. وقد كتب الشيخ أبو جعفر نسخة من البخاري في ثلاثين مجلدا، وكذا نسخة من صحيح مسلم، وبعض هذين الكتابين موجود بحلب، وكان جيد الخط.
وهذان الرجلان ترافقا من البلاد ثم قدما القاهرة، ولما رحل أبو جعفر من غرناطة أنشد:
ولما وقفنا للوداع وقد بدت ... قباب ربا نجد على ذلك الوادي
نظرت فألفيت السبيكة فضة ... لحسن بياض الزهر في ذلك النادي
فلما كستها الشمس عاد لجينها ... لنا ذهبا فاعجب لأكسيرها البادي
وله:
تجنّت فجنّت في الهوى كل عاقل ... رآها وأحوال المحب جنون
وما وعدت إلا عدت في مطالها ... كذلك وعد الغانيات يكون
وله:
محاجر دمعي قد محاهن ما جرى ... من الدمع لما قيل قد رحل الركب
تناقض حالي مذ شجاني فراقهم ... فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب
وله:
مهلا فما شيم الوفاء معارة ... لم ابتغى من نيلها أوطارا
رتب المعالي لا تنال بحيلة ... يوما ولو جهد الغنى (1) أو طارا
وله:
لا تأتمنه على القلوب ... فمنه أصل غرامها
فلحاظه هن التي ... رمت الورى بسهامها
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: الفتى.(5/74)
وله:
لما عدا في الناس عقرب صدغها ... كفّت أذاه عن الورى بالبرقع
والصبح تحت خمارها متستر ... عنا متى شاءت تقول له اطلع
وله:
منازل ليلى إن خلت فلطالما ... بها عمرت في القلب مني منازل
وسائل شوقي كل يوم يزورها ... وما ضيّعت عند الكرام الوسائل
وله:
ناولته وردة فاحمر من خجل ... وقال وجهي يغنيني عن الزهر
الخدّ ورد وعيني نرجس وعلى ... خدي عذار كريحان على نهر
وله:
صيرتني في هواك اليوم مشتهرا ... لا قيس ليلى ولا غيلان في الأول
زعمت أن غرامي فيك مكتسب ... لا والذي خلق الإنسان من عجل
ولما قدما القاهرة اجتمعا بالشيخ أبي حيان، ثم قدما دمشق وحلب ورحلا إلى ماردين ثم رجعا إلى حلب، ثم حجا من حلب مرارا وحاورا وأسمعا بها وبقلعة المسلمين، وقبل موتهما افترقا بالقلوب لأن أبا عبد الله تزوج بالبيرة (بيره جك) وأقام وقدم أبو جعفر حلب. وبيت أبي عبد الله بالبيرة معروف على شاطىء الفرات. وتوفي أبو جعفر بحلب منتصف رمضان سنة تسع وسبعين وسبعماية ودفن بمقابر الصالحين، وكانت جنازته مشهودة، ورثاه رفيقه الشيخ أبو عبد الله بقصيدة طنانة وهي (1):
لقد عزّ مفقود وجلّ مصاب ... فللخدّ من حمر الدموع خضاب
مصاب لعمري ما أصيب بمثله ... ولا أنا فيما بعد ذاك أصاب
فإن أبك لم أعتب وإن أر صابرا ... فليس على الصبر الجميل عتاب
__________
(1) أثبتنا هذه القصيدة بتمامها مع طولها لأنا وجدناها من غرر القصائد في المراثي ولاشتمالها على كثير من الحكم ولندرة وجودها، وإني لم أجدها ولا بعضها في غير هذا الكتاب.(5/75)
بكيت ولكن لم أجد ذاك نافعا ... ولا فيه إلا أن يضيع ثواب
فأبت بحسن الصبر وهو أجلّ ما ... إليه إذا جلّ المصاب يؤاب
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ... فللناس عنها رحلة وذهاب
إذا ما رأيت الدار ملأى فإنه ... سينعق فيها بالفراق غراب
ومن صحب الأيام كرّت خطوبها ... عليه وكرّات الخطوب غراب
وكيف خلاص المرء منها وخلفه ... خيول الردى يجرين وهي عراب
لئن جمعتنا والجماعة رحمة ... فقد فرقتنا والفراق عذاب
تشاب بسمّ الموت والمرء غافل ... موارد منها للحياة عذاب
وما العسل الصافي بشيء وإن حلا ... إذا كان بالسمّ القتول يشاب
يهول كمثل البحر إن هب عاصف ... فيهرم من أهوالها ويشاب
تغرّ الورى حتى إذا أطمعتهم ... فطالوا إلى نيل المراد وطابوا
رمتهم بأنواع الخطوب فلم تكن ... لتسمع شكوى أو يخاف جواب
يعدّون من عزّ النفوس اكتسابها ... وما هو إلا ذلة وتباب
وما مثل الدنيا وطلاب مثلها ... سوى جيف من حولهن كلاب
فتبّا لها مذ جرّدت سيف غدرها ... لقتل الورى ما جفّ منه ذباب
فكم قتلت من ذي جلال ولم تقل ... كأن نفوس العالمين ذباب
لقد راع قلبي من تقلّب دهره ... أمور قضت أن الحياة سراب
حوادث لم تتركن لي غير أدمع ... يشاب طعام لي بها وشراب
أرى الناس تمضي واحدا بعد واحد ... ولم أرهم بعد الترحل آبوا
هم كحباب الماء يعلو فينطفي ... ولا طمع في أن يدوم حباب
يذيب الثرى من ليس يحصون كثرة ... كهول وشيب قد مضوا وشباب
تفقدت أترابي فألفيت كلهم ... تضمنهم بطن التراب فغابوا
فماذا انتظاري إن فيهم لأسوة ... فلم يبق إلا أن تحثّ ركاب
ولكن أرجّي أن أعيش لعلني ... ييسر لي قبل الممات متاب
وكان يهون الموت لو ترك الفتى ... ولم يك في يوم الحساب عقاب
ولكننا نجزى ونسأل في غد ... ونقطع من دون الخلاص عقاب
فلا يتمنّ الموت شخص لشدة ... ينال بها من دهره ويصاب
إذا مات فات الأمر وانقطع الرجا ... ولم يبق إلا موقف وحساب
وما دام حيا قد يوفق للتقى ... فيفعل فعلا صالحا ويثاب
عجبت لهذا الدهر تفنى خياره ... وهم فيه زين إن ذا لعجاب
لقد أخذ الموت اللباب فلم يدع ... سوى القشر لا يلفى لديه لباب
فأي شهاب غاب عنا فلم يكن ... ليخلفه في الخافقين شهاب
فو الله ما يأتي الزمان بمثله ... وإن زعموا إتيانه فكذاب
فكم عطف الحسنى على مثلها وكم ... حوى منه تأكيد البيان جواب
ومن نعته هذا فلا بدل له ... ولو طلبوا الأبدال منه لخابوا
هو العلم الفرد المنادى لكشف ما ... له عن عقول الباحثين غياب
فإن ضمّ منا للقلوب محبة ... فقد أنصفوا في ضمه وأصابوا
سلوني على المرء الخبير سقطتم ... فأحواله في الصالحين عجاب
أبا جعفر ما زلت والله سالكا ... سبيل رجال أخلصوا وأنابوا
عطفت على كتب الحديث وضبطه ... فولّى مشيب فيهما وشباب
وكنت إذا أدّيته قارئا له ... تكاد القلوب القاسيات تذاب
فتطرب أهل الحي حتى كأنما ... غذا القوم من ثغر الكؤوس رضاب
فما للبخاري بعد موتك قارىء ... ولو علموا عظم المقام لهابوا
وكم مدع في العلم إدراكه الغنى ... وما ثم من علم لديه يصاب
مرارا أمام المصطفى قد قرأته ... بأفصح نطق لم يفته صواب
تخاطبه في قبره وهو سامع ... وأنت بإجزال الثواب تجاب
وفي حجر إسماعيل أيضا قرأته ... وقد شرعت للدارعين حراب
فتسمع أصوات الرجال إذا التقوا ... كما تزأر الآساد وهي غضاب
وأنت مديم للقراءة لا الحشا ... يراع ولا منك الفؤاد يراب
ومن كان في البيت المحرم قارئا ... حديث رسول الله كيف يهاب
وفي ذاك ما زلنا جميعا كأننا ... حسامان ضمّ الصفحتين قراب
نلازم تحقيق العلوم وجمعها ... وليس نرى إلا بحيث نثاب
فنسهر حتى يقضي الليل عمره ... ويكشف عن وجه الصباح نقاب
وكنا كندماني جذيمة لم يكن ... يعضّ علينا للتفرق ناب
فلم ندر إلا والتفرق واقع ... وقد سد من دون التواصل باب
كأن لم يكن منا اجتماع ولم نبت ... ومن بيننا للكشف منه كتاب
وأي اجتماع بعد ما حكم الردى ... وحان من النوب (1) المهيل حجاب
ولكن نرجّى أن يكون لنا غدا ... بجنة عدن مجمع ومآب
أبا جعفر قد كنت أكرم صاحب ... إذا عدّ من أهل الوفاء صحاب
لقد كنت سمح النفس خلوا عن الأذى ... حميد السرى لا شيء فيك يعاب
ولو أن ما بي من فراقك بالحصى ... لذاب فكيف القلب ليس يذاب
بموتك مات العلم والحلم والتقى ... فأصبح ربع الفضل وهو خراب
وأصبحت الطلاب بعدك لا يرى ... لهم طمع في أن ينال طلاب
فمن للمعاني الغرّ بعدك عند ما ... ترى وهي للذهن السليم صعاب
ومن لفنون العلم يجمع شملها ... إذا اختلفت سبل لها وشعاب
ومن لكلام الحق في وجه مبطل ... ولو أنه قد عزّ منه جناب
لمثلك تبكي العين من متوكل ... عليه من الحمد الجميل ثياب
أبا جعفر ما مات من عاش ذكره ... وذكرك باق لم ينله ذهاب
فو الله ما أنساك حتى يضمني ... كمثلك في بطن الضريح تراب
سبقت وإنا لاحقون فكلّنا ... سنمضي مضاء ليس فيه إياب
ولا بد أن يستوفي المرء عمره ... ويفرغ زاد خصّه وشراب
وتقديم أقوام وتأخير غيرهم ... يفاوت أعمارا لهن كتاب
لقد أوحشت من بعدك الأرض كلها ... كان البلاد العامرات يباب
فآنسك المولى كما كنت مؤنسي ... وذو البر مجزيّ به ومثاب
سقى الله ذاك القبر صيّب رحمة ... يخالطها من ذي الجلال ثواب(5/76)
بكيت ولكن لم أجد ذاك نافعا ... ولا فيه إلا أن يضيع ثواب
فأبت بحسن الصبر وهو أجلّ ما ... إليه إذا جلّ المصاب يؤاب
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ... فللناس عنها رحلة وذهاب
إذا ما رأيت الدار ملأى فإنه ... سينعق فيها بالفراق غراب
ومن صحب الأيام كرّت خطوبها ... عليه وكرّات الخطوب غراب
وكيف خلاص المرء منها وخلفه ... خيول الردى يجرين وهي عراب
لئن جمعتنا والجماعة رحمة ... فقد فرقتنا والفراق عذاب
تشاب بسمّ الموت والمرء غافل ... موارد منها للحياة عذاب
وما العسل الصافي بشيء وإن حلا ... إذا كان بالسمّ القتول يشاب
يهول كمثل البحر إن هب عاصف ... فيهرم من أهوالها ويشاب
تغرّ الورى حتى إذا أطمعتهم ... فطالوا إلى نيل المراد وطابوا
رمتهم بأنواع الخطوب فلم تكن ... لتسمع شكوى أو يخاف جواب
يعدّون من عزّ النفوس اكتسابها ... وما هو إلا ذلة وتباب
وما مثل الدنيا وطلاب مثلها ... سوى جيف من حولهن كلاب
فتبّا لها مذ جرّدت سيف غدرها ... لقتل الورى ما جفّ منه ذباب
فكم قتلت من ذي جلال ولم تقل ... كأن نفوس العالمين ذباب
لقد راع قلبي من تقلّب دهره ... أمور قضت أن الحياة سراب
حوادث لم تتركن لي غير أدمع ... يشاب طعام لي بها وشراب
أرى الناس تمضي واحدا بعد واحد ... ولم أرهم بعد الترحل آبوا
هم كحباب الماء يعلو فينطفي ... ولا طمع في أن يدوم حباب
يذيب الثرى من ليس يحصون كثرة ... كهول وشيب قد مضوا وشباب
تفقدت أترابي فألفيت كلهم ... تضمنهم بطن التراب فغابوا
فماذا انتظاري إن فيهم لأسوة ... فلم يبق إلا أن تحثّ ركاب
ولكن أرجّي أن أعيش لعلني ... ييسر لي قبل الممات متاب
وكان يهون الموت لو ترك الفتى ... ولم يك في يوم الحساب عقاب
ولكننا نجزى ونسأل في غد ... ونقطع من دون الخلاص عقاب
فلا يتمنّ الموت شخص لشدة ... ينال بها من دهره ويصاب
إذا مات فات الأمر وانقطع الرجا ... ولم يبق إلا موقف وحساب
وما دام حيا قد يوفق للتقى ... فيفعل فعلا صالحا ويثاب
عجبت لهذا الدهر تفنى خياره ... وهم فيه زين إن ذا لعجاب
لقد أخذ الموت اللباب فلم يدع ... سوى القشر لا يلفى لديه لباب
فأي شهاب غاب عنا فلم يكن ... ليخلفه في الخافقين شهاب
فو الله ما يأتي الزمان بمثله ... وإن زعموا إتيانه فكذاب
فكم عطف الحسنى على مثلها وكم ... حوى منه تأكيد البيان جواب
ومن نعته هذا فلا بدل له ... ولو طلبوا الأبدال منه لخابوا
هو العلم الفرد المنادى لكشف ما ... له عن عقول الباحثين غياب
فإن ضمّ منا للقلوب محبة ... فقد أنصفوا في ضمه وأصابوا
سلوني على المرء الخبير سقطتم ... فأحواله في الصالحين عجاب
أبا جعفر ما زلت والله سالكا ... سبيل رجال أخلصوا وأنابوا
عطفت على كتب الحديث وضبطه ... فولّى مشيب فيهما وشباب
وكنت إذا أدّيته قارئا له ... تكاد القلوب القاسيات تذاب
فتطرب أهل الحي حتى كأنما ... غذا القوم من ثغر الكؤوس رضاب
فما للبخاري بعد موتك قارىء ... ولو علموا عظم المقام لهابوا
وكم مدع في العلم إدراكه الغنى ... وما ثم من علم لديه يصاب
مرارا أمام المصطفى قد قرأته ... بأفصح نطق لم يفته صواب
تخاطبه في قبره وهو سامع ... وأنت بإجزال الثواب تجاب
وفي حجر إسماعيل أيضا قرأته ... وقد شرعت للدارعين حراب
فتسمع أصوات الرجال إذا التقوا ... كما تزأر الآساد وهي غضاب
وأنت مديم للقراءة لا الحشا ... يراع ولا منك الفؤاد يراب
ومن كان في البيت المحرم قارئا ... حديث رسول الله كيف يهاب
وفي ذاك ما زلنا جميعا كأننا ... حسامان ضمّ الصفحتين قراب
نلازم تحقيق العلوم وجمعها ... وليس نرى إلا بحيث نثاب
فنسهر حتى يقضي الليل عمره ... ويكشف عن وجه الصباح نقاب
وكنا كندماني جذيمة لم يكن ... يعضّ علينا للتفرق ناب
فلم ندر إلا والتفرق واقع ... وقد سد من دون التواصل باب
كأن لم يكن منا اجتماع ولم نبت ... ومن بيننا للكشف منه كتاب
وأي اجتماع بعد ما حكم الردى ... وحان من النوب (1) المهيل حجاب
ولكن نرجّى أن يكون لنا غدا ... بجنة عدن مجمع ومآب
أبا جعفر قد كنت أكرم صاحب ... إذا عدّ من أهل الوفاء صحاب
لقد كنت سمح النفس خلوا عن الأذى ... حميد السرى لا شيء فيك يعاب
ولو أن ما بي من فراقك بالحصى ... لذاب فكيف القلب ليس يذاب
بموتك مات العلم والحلم والتقى ... فأصبح ربع الفضل وهو خراب
وأصبحت الطلاب بعدك لا يرى ... لهم طمع في أن ينال طلاب
فمن للمعاني الغرّ بعدك عند ما ... ترى وهي للذهن السليم صعاب
ومن لفنون العلم يجمع شملها ... إذا اختلفت سبل لها وشعاب
ومن لكلام الحق في وجه مبطل ... ولو أنه قد عزّ منه جناب
لمثلك تبكي العين من متوكل ... عليه من الحمد الجميل ثياب
أبا جعفر ما مات من عاش ذكره ... وذكرك باق لم ينله ذهاب
فو الله ما أنساك حتى يضمني ... كمثلك في بطن الضريح تراب
سبقت وإنا لاحقون فكلّنا ... سنمضي مضاء ليس فيه إياب
ولا بد أن يستوفي المرء عمره ... ويفرغ زاد خصّه وشراب
وتقديم أقوام وتأخير غيرهم ... يفاوت أعمارا لهن كتاب
لقد أوحشت من بعدك الأرض كلها ... كان البلاد العامرات يباب
فآنسك المولى كما كنت مؤنسي ... وذو البر مجزيّ به ومثاب
سقى الله ذاك القبر صيّب رحمة ... يخالطها من ذي الجلال ثواب(5/77)
بكيت ولكن لم أجد ذاك نافعا ... ولا فيه إلا أن يضيع ثواب
فأبت بحسن الصبر وهو أجلّ ما ... إليه إذا جلّ المصاب يؤاب
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ... فللناس عنها رحلة وذهاب
إذا ما رأيت الدار ملأى فإنه ... سينعق فيها بالفراق غراب
ومن صحب الأيام كرّت خطوبها ... عليه وكرّات الخطوب غراب
وكيف خلاص المرء منها وخلفه ... خيول الردى يجرين وهي عراب
لئن جمعتنا والجماعة رحمة ... فقد فرقتنا والفراق عذاب
تشاب بسمّ الموت والمرء غافل ... موارد منها للحياة عذاب
وما العسل الصافي بشيء وإن حلا ... إذا كان بالسمّ القتول يشاب
يهول كمثل البحر إن هب عاصف ... فيهرم من أهوالها ويشاب
تغرّ الورى حتى إذا أطمعتهم ... فطالوا إلى نيل المراد وطابوا
رمتهم بأنواع الخطوب فلم تكن ... لتسمع شكوى أو يخاف جواب
يعدّون من عزّ النفوس اكتسابها ... وما هو إلا ذلة وتباب
وما مثل الدنيا وطلاب مثلها ... سوى جيف من حولهن كلاب
فتبّا لها مذ جرّدت سيف غدرها ... لقتل الورى ما جفّ منه ذباب
فكم قتلت من ذي جلال ولم تقل ... كأن نفوس العالمين ذباب
لقد راع قلبي من تقلّب دهره ... أمور قضت أن الحياة سراب
حوادث لم تتركن لي غير أدمع ... يشاب طعام لي بها وشراب
أرى الناس تمضي واحدا بعد واحد ... ولم أرهم بعد الترحل آبوا
هم كحباب الماء يعلو فينطفي ... ولا طمع في أن يدوم حباب
يذيب الثرى من ليس يحصون كثرة ... كهول وشيب قد مضوا وشباب
تفقدت أترابي فألفيت كلهم ... تضمنهم بطن التراب فغابوا
فماذا انتظاري إن فيهم لأسوة ... فلم يبق إلا أن تحثّ ركاب
ولكن أرجّي أن أعيش لعلني ... ييسر لي قبل الممات متاب
وكان يهون الموت لو ترك الفتى ... ولم يك في يوم الحساب عقاب
ولكننا نجزى ونسأل في غد ... ونقطع من دون الخلاص عقاب
فلا يتمنّ الموت شخص لشدة ... ينال بها من دهره ويصاب
إذا مات فات الأمر وانقطع الرجا ... ولم يبق إلا موقف وحساب
وما دام حيا قد يوفق للتقى ... فيفعل فعلا صالحا ويثاب
عجبت لهذا الدهر تفنى خياره ... وهم فيه زين إن ذا لعجاب
لقد أخذ الموت اللباب فلم يدع ... سوى القشر لا يلفى لديه لباب
فأي شهاب غاب عنا فلم يكن ... ليخلفه في الخافقين شهاب
فو الله ما يأتي الزمان بمثله ... وإن زعموا إتيانه فكذاب
فكم عطف الحسنى على مثلها وكم ... حوى منه تأكيد البيان جواب
ومن نعته هذا فلا بدل له ... ولو طلبوا الأبدال منه لخابوا
هو العلم الفرد المنادى لكشف ما ... له عن عقول الباحثين غياب
فإن ضمّ منا للقلوب محبة ... فقد أنصفوا في ضمه وأصابوا
سلوني على المرء الخبير سقطتم ... فأحواله في الصالحين عجاب
أبا جعفر ما زلت والله سالكا ... سبيل رجال أخلصوا وأنابوا
عطفت على كتب الحديث وضبطه ... فولّى مشيب فيهما وشباب
وكنت إذا أدّيته قارئا له ... تكاد القلوب القاسيات تذاب
فتطرب أهل الحي حتى كأنما ... غذا القوم من ثغر الكؤوس رضاب
فما للبخاري بعد موتك قارىء ... ولو علموا عظم المقام لهابوا
وكم مدع في العلم إدراكه الغنى ... وما ثم من علم لديه يصاب
مرارا أمام المصطفى قد قرأته ... بأفصح نطق لم يفته صواب
تخاطبه في قبره وهو سامع ... وأنت بإجزال الثواب تجاب
وفي حجر إسماعيل أيضا قرأته ... وقد شرعت للدارعين حراب
فتسمع أصوات الرجال إذا التقوا ... كما تزأر الآساد وهي غضاب
وأنت مديم للقراءة لا الحشا ... يراع ولا منك الفؤاد يراب
ومن كان في البيت المحرم قارئا ... حديث رسول الله كيف يهاب
وفي ذاك ما زلنا جميعا كأننا ... حسامان ضمّ الصفحتين قراب
نلازم تحقيق العلوم وجمعها ... وليس نرى إلا بحيث نثاب
فنسهر حتى يقضي الليل عمره ... ويكشف عن وجه الصباح نقاب
وكنا كندماني جذيمة لم يكن ... يعضّ علينا للتفرق ناب
فلم ندر إلا والتفرق واقع ... وقد سد من دون التواصل باب
كأن لم يكن منا اجتماع ولم نبت ... ومن بيننا للكشف منه كتاب
وأي اجتماع بعد ما حكم الردى ... وحان من النوب (1) المهيل حجاب
ولكن نرجّى أن يكون لنا غدا ... بجنة عدن مجمع ومآب
أبا جعفر قد كنت أكرم صاحب ... إذا عدّ من أهل الوفاء صحاب
لقد كنت سمح النفس خلوا عن الأذى ... حميد السرى لا شيء فيك يعاب
ولو أن ما بي من فراقك بالحصى ... لذاب فكيف القلب ليس يذاب
بموتك مات العلم والحلم والتقى ... فأصبح ربع الفضل وهو خراب
وأصبحت الطلاب بعدك لا يرى ... لهم طمع في أن ينال طلاب
فمن للمعاني الغرّ بعدك عند ما ... ترى وهي للذهن السليم صعاب
ومن لفنون العلم يجمع شملها ... إذا اختلفت سبل لها وشعاب
ومن لكلام الحق في وجه مبطل ... ولو أنه قد عزّ منه جناب
لمثلك تبكي العين من متوكل ... عليه من الحمد الجميل ثياب
أبا جعفر ما مات من عاش ذكره ... وذكرك باق لم ينله ذهاب
فو الله ما أنساك حتى يضمني ... كمثلك في بطن الضريح تراب
سبقت وإنا لاحقون فكلّنا ... سنمضي مضاء ليس فيه إياب
ولا بد أن يستوفي المرء عمره ... ويفرغ زاد خصّه وشراب
وتقديم أقوام وتأخير غيرهم ... يفاوت أعمارا لهن كتاب
لقد أوحشت من بعدك الأرض كلها ... كان البلاد العامرات يباب
فآنسك المولى كما كنت مؤنسي ... وذو البر مجزيّ به ومثاب
سقى الله ذاك القبر صيّب رحمة ... يخالطها من ذي الجلال ثواب
421 - محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي المتوفى سنة 780
محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الضرير أبو عبد الهوّاري المريّي المالكي، عرف بابن جابر، نزيل حلب.
__________
(1) لعل الصواب: الترب.(5/78)
رحل من المغرب هو ورفيقه الشيخ أبو جعفر المتقدم في الأحمديين (هو الذي قبله) وقدم دمشق وسمع بها على أشياخ عصره، وتوجه من دمشق إلى حلب في آخريات سنة ثلاث وأربعين وسبعماية.
ذكره الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه الكبير وقال: سألته عن مولده فقال:
سنة ثمان وتسعين وستماية بالمريّة.
وقرأ القرآن والنحو على أبي الحسن علي بن محمد بن يعيش، والفقه لمالك رضي الله عنه على أبي عبد الله محمد بن سعيد الرّندي، وسمع على أبي عبد الله محمد الزواوي صحيح البخاري غير كامل، وسمع بحلب وحدث بها. وكان إماما عالما فاضلا بارعا نحويا أديبا، له النظم والنثر البديعان، وألف وجمع ونظم حلة السير في مدح خير الورى المعروفة «بالبديعية» وأتى فيها بأنواع من البديع. وكان أمة في النحو، وشغل الطلبة بحلب، اشتغل عليه بها غالب أولاد الحلبيين، وبه وبصاحبه انتفعوا في النحو الأدب. ومن نظمه:
تبسمت فتباكى الدرّ من وجل ... وأقبلت فتولى الغصن ذا عجب
تفتّر عن حبب يبدو على ذهب ... يهديك من شنب ضربا من الضرب
ومن نظمه:
جميع ما جاء في القرآن من علم ... للأنبياء ففي الأعجام معدود
إلا محمدا المختار صالحهم ... شعيبهم وبخلف عندهم هود
والأعجميّ سوى نوح ولوطهم ... لزومه لامتناع الصرف موجود
وله:
جاءت تجر فروعا خلف ذي هيف ... فبلّغت صبّها من لثمها الأملا
وأرسلت غسقا وأطلعت قمرا ... وألثمت بردا وأرشفت عسلا
انتقل الشيخ أبو عبد الله المذكور إلى البيرة فسكنها مدة قبل موته، ولم يزل مقيما بها إلى أن توفي رحمه الله تعالى بها في جمادى الآخرة من سنة ثمانين وسبعمائة اهـ. (الدر المنتخب).
قال أبو ذر في كنوز الذهب في آخر ترجمة أبي جعفر الغرناطي المتقدم: وأما رفيقه
الشيخ أبو عبد الله فإنه توفي بالبيرة سنة ثمانين وسبعمائة. ولهما رحلة في مجلد والبديعية وشرحها. ورأيت للشيخ أبي عبد الله قصيدة تتضمن رحلة وذكر المنازل موضع موضع من نهر الفرات إلى مكة، وهنا ساقها الشيخ أبو ذر جميعها وهي طويلة جدا، لذا أضربنا عنها. ثم قال: ومن شعر الشيخ أبي عبد الله:(5/79)
قال أبو ذر في كنوز الذهب في آخر ترجمة أبي جعفر الغرناطي المتقدم: وأما رفيقه
الشيخ أبو عبد الله فإنه توفي بالبيرة سنة ثمانين وسبعمائة. ولهما رحلة في مجلد والبديعية وشرحها. ورأيت للشيخ أبي عبد الله قصيدة تتضمن رحلة وذكر المنازل موضع موضع من نهر الفرات إلى مكة، وهنا ساقها الشيخ أبو ذر جميعها وهي طويلة جدا، لذا أضربنا عنها. ثم قال: ومن شعر الشيخ أبي عبد الله:
إني سئمت من الزمان لطول ما ... قد صدّ عن حسن الوفاء رجاله
ومن النوادر في زمانك أن ترى ... خلّا حمدت وداده وخلاله
ولا أعلم بعدهما قدم حلب من المغاربة مثلهما اهـ.
قال ابن حجة في أوائل شرحه لبديعيته: وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الشهيرة «ببديعية العميان» فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيّب الكلم
فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم. (إلى أن قال): ونظم هذه القصيدة سافل بالنسبة إلى طريق الجماعة، غير أن الشيخ الإمام شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي [رفيقه المتقدم] شرحها شرحا مفيدا اهـ.
قال في كشف الظنون في الكلام على «كفاية المتحفظ في اللغة» (1): ونظمها محمد ابن أحمد بن جابر الأعمى وفرغ منه في سنة 770اهـ. وأوردنا بيتين من نظمه في الجزء الثاني (ص 366).
422 - الأمير موسى بن محمد بن شهري المتوفى سنة 780
موسى بن محمد الأمير شرف الدين بن الأمير ناصر الدين المعروف بابن شهري نائب السلطنة بسيس.
__________
(1) تأليف القاضي شهاب الدين محمد بن أحمد الخويي المتوفى سنة 693.(5/80)
كان من أعيان أمراء حلب، وكان عنده فضيلة ومشاركة جيدة، وكان يكتب الخط المنسوب، وتولى سيس وغيرها إلى أن توفي سنة ثمانين وسبعمائة عن نيف وأربعين سنة رحمه الله تعالى. اهـ (المنهل).
وذكره ابن الشحنة في روض المناظر في حوادث سنة 776فقال: لما فتحت سيس وأضيف إليها طرسوس وآذنة وأياس وجعلت مملكة برأسها استقر في كفالتها الأمير موسى ابن شهري، واستقر بها حجاب وكاتب سر وأرباب الدولة على عادة المماليك، وأقطعت جهاتها بمناشير، وتوفي بها رحمه الله اهـ.
423 - محمد بن إبراهيم بن سنكي المتوفى سنة 780
محمد بن إبراهيم بن سنكي بن أيوب بن قراجا المقري ابن يوسف الشيخ الإمام الفقيه المقري القاضي حافظ الدين أبو عبد الله تاج الدين أبي إسحق القيصري الحلبي الحنفي.
أخذ القراءات عن ابن نصحان وشمس الدين المقدسي وعن قاضي القضاة فخر الدين عثمان ابن خطيب جبرين، وتفقه بجماعة، وبرع وأفتى، ودرس وولي عدة وظائف دينية منها قضاء العسكر بحلب ثم بدمشق، ثم ترك ذلك كله ولبس خرقة التصوف ودام على رئاسته ملازما لبيته، إلى أن توفي بحلب سنة ثمانين وسبعمائة وقد أناف على السبعين رحمه الله تعالى اهـ. (المنهل الصافي).
424 - محمد بن الحسين النعّال الشاعر المتوفى في حدود الثمانين
محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسماعيل بن منصور شمس الدين الحلبي المعروف بابن النعال.
ولد بالحلة في سنة ثمان وسبعمائة، وتعانى الآداب فمهر، وقدم حلب ومدح أعيانها.
كتب عنه أبو المعالي بن عشائر.
ومن نظمه ما كتب به إلى الشريف عبد العزيز بن محمد الهاشمي يعاتبه من أبيات:
قل للشريف المرتضى علم الهدى ... وابن الغطارف من ذؤابة هاشم
أيضيع حقي عندكم وولاؤكم ... ديني ولم أحلل عقود تمائمي
ومن نظمه:(5/81)
قل للشريف المرتضى علم الهدى ... وابن الغطارف من ذؤابة هاشم
أيضيع حقي عندكم وولاؤكم ... ديني ولم أحلل عقود تمائمي
ومن نظمه:
ورد الخدود ورمّان النهود على ... بان القدود به قد عيل مصطبري
يا صاحبيّ بأرض النيل لي قمر ... جمال مهجته أبهى من القمر
وكان في حدود الثمانين (أي وسبعمائة).
425 - أحمد بن عمر بن العجمي المتوفى سنة 780
أحمد بن عمر بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن الشهيد شهاب الدين أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي شهاب الدين بن جمال الدين المعروف بأبي الضيا، وهو عثمان المذكور في نسبه.
ولد سنة 742بحلب، وهو من بيت كبير مشهور، بها تفقه على زين الدين الباريني وعلاء الدين البابي، وكتب بخطه كثيرا، ودخل القاهرة وأخذ عن فضلائها، وقرأ الأصول ببلده على السيد جمال الدين عبد الله الحسيني نزيل حلب، ودرس بالشرفية وغيرها، وولي قضاء العسكر. فلما خرج العسكر إلى أياس لقتل التركمان العصاة (في سنة ثمانين، فلما) (1)
خرج معهم ففقد في ذي القعدة عند انكسار العسكر، وكان ذلك في سنة ثمانين وسبعمائة.
426 - عبد الرحمن بن يوسف بن سحلول المتوفى سنة 782
عبد الرحمن بن يوسف بن سحلول الحلبي شمس الدين. كان من رؤساء الحلبيين، وكان معظما عند الأسعردي النائب بحلب، وبنى له الأسعردي خانقاه خارج باب الجنان على شط النهر وهي تعرف به. وكان شمس الدين غاية في الجود ومكارم الأخلاق. ومات في 19المحرم سنة 782وأنجب ولده ناصر الدين محمدا. اهـ.
49562 - الخانكاه السحلولية:
قال أبو ذر: هذه الخانكاه على شاطىء نهر قويق شمالي حلب، أنشأها شخص يدعى
__________
(1) ما بين قوسين فراغ في الأصل.(5/82)
الشقيرا من مباشري حلب جعلها متنزها له ولم يقفها، فوصلت إلى كافل حماة الأسعردي.
وكان عبد الرحمن بن سحلول صاحبا للأسعردي، وكان الرئيس عبد الرحمن قد أحسن للأسعردي عند دخوله حلب فكافأه ووقف عليه هذا المكان وبنى له محرابا وجعل له خلاوي برسم الفقراء، كذا قال شيخنا. وكان به منارة فآلت إلى السقوط فأخرجها الشيخ ناصر الدين محمد بن الشيخ ناصر الدين محمد بن الشيخ عبد الرحمن وجعل مكانها غرفة وذهبت الغرفة أيضا.
وهذه الخانقاه مكان لطيف نزه فيه من الرخام الملون والشبابيك المطلة على نهر قويق والبساتين، وإلى جانبها بحرة، فأفردها وباعها الشيخ ناصر الدين المذكور.
وبهذه الخانكاه مدرس على مذهب الشافعي بشرط واقفها. والأسعردي ترجمته في تاريخ شيخنا.
وعبد الرحمن المذكور هو ابن يوسف بن سحلول، كان رئيسا، وتوفي يوم السبت تاسع عشري المحرم سنة اثنتين وثمانين وسبعماية ودفن خارج الخانقاه. ومن جملة أوقافها حصة بقرية بنغلا وحصة بحمّام أنطاكية. وعلى الفقهاء والمدرس حصة بخان خارج باب أنطاكية بحلب. وعلى بابها مكتوب: أنشأ هذه الخانكاه عبد الرحمن بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين وسبعماية. فلما توفي آل أمر هذا المكان إلى الشيخ ناصر الدين المذكور ولده، فقام بها أتم قيام على أكمل الوجوه من الرئاسة وإطعام الناس، فكان الفقراء والرؤساء يحضرون إليه فيضع بين يدي كل شخص ما يليق به، وكانت لم تزل البسط والفرش والأغطية موضوعة في مرجتها وعلى الدكة التي في المرجة، وكانت هذه الدكة مرخمة بالرخام الأصفر لأجل من يبيت هناك.
أخبرني من أثق به أنه كان يضع بين يدي الناس النقل بحيث إن الشخص لا يرى من تجاهه من كثرته. وكان التين الأخضر إذ ذاك قليلا بحلب فكان يحضره من تيزين لأجل من يحضر إلى عنده، ولما قدم البلقيني حلب قبل فتنة تمر عمل البلقيني ميعادا بجامع منكلي بغا (الرومي) وخرج الناس في خدمته في ضيافة القاضي كمال الدين بن العديم إلى هذا المكان، فتأخر ابن العديم بمأكوله فأحضر ناصر الدين المذكور من حواضر بيته ما قام بالحاضرين.(5/83)
ولما أغصب دمر دامش والدي بقضاء حلب أراد والدي أن يرحل من حلب، فجاء إليه ناصر الدين بالجمال ليرحله، فلما غير دمرداش نيته ثبت والدي عن الرحلة. ولم يزل ناصر الدين في رياسة وحشمة حتى سرقه السراق ليلا.
ثم إنه خرج من حلب وقدم على جمال الدين الأستادار بالقاهرة فلم ينصفه، وكانت أم جمال الدين الأستادار بنت عبد الله بن سحلول، وكان عبد الله عم ناصر الدين وزير حلب.
ثم إنه حج من القاهرة فتوفي وهو متوجه سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وخلف ثلاثة أولاد وهم ناصر الدين المذكور والأمير أحمد والأمير عبد الرزاق، فاستقل ناصر الدين بهذا المكان لأنه كان على طريقة الفقراء وقام بها دون والده، فلما أشرف على الموت أسند تدريسها إلي.
وتوفي يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وثمانمائة وصلّي عليه بجامع حلب ودفن خارج الخانكاه.
فقام بها بعده ابن أخيه ناصر الدين محمد بن الأمير أحمد وتوفي في الليلة المسفر صباحها عن يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين وثمانماية وصلي عليه بجامع حلب ودفن بالسحلولية وهي وقف على القادرية اهـ.
أقول: لا أثر لهذه الخانكاه الآن، ويظهر أنها دثرت بعد الألف، وقد ذكرها الرضي الحنبلي في تاريخه «در الحبب» في ترجمة أبي بكر بن قمر المتوفى سنة 961حيث قال:
إن المترجم جدد الناعورة المشتركة بين الخانقاه الشمسية السحلولية والجنينة الكائنة شماليها وكانت تعرف قديما بالقيشانية. وأما الناعورة فقد كان موضعها في النهر أمام البناية العظيمة التي بنيت حديثا لتتخذ مدرسة للهندسة، وقد تخربت منذ 10أو 12سنة، ويغلب على الظن أن السحلولية كانت موضع هذه المدرسة. وقد كان هناك بقية بناء وبئر نسفت منذ سنوات قلائل حينما عرضت الجادة الآخذة إلى جهة باب الجنان.
وقد كان جنوبي هذه الخانكاه بهذا الدرب خانقاه أخرى تسمى الدورية سيأتي الكلام عليها في ترجمة الشمس محمد الأطعاني المتوفى سنة 807وقد دخلت في التكية المولوية من جهة الجنوب.
وكان هناك زاوية أخرى يقال لها زاوية الشيخ خضر ذكرها أبو ذر في تاريخه فقال:(5/84)
وكان هناك زاوية أخرى يقال لها زاوية الشيخ خضر ذكرها أبو ذر في تاريخه فقال:
49563 - زاوية الشيخ خضر:
هذه الزاوية على شاطىء قويق شمالي حلب، أنشأها الرئيس بدر الدين بن زهرة منتزها وأخرج منها أمواتا منهم امرأة بنقشها، لأنها كانت مقبرة، فرفع فيه قصة منظومة وقصيدة على لسان الأموات إلى السلطان فصادره. ثم انتقلت بعد ذلك إلى شمس الدين محمد بن العجمي وزين الدين ابن النصيبي.
وهذه الزاوية بها بحرة عظيمة ليس في حلب مقدارها، وبها إيوان وبه مناظر على نهر قويق والبساتين. ولما انتقلت إلى ابن العجمي وزين الدين بن النصيبي المتقدمين اغتصبها جلبان كافل حلب منهما وأمر بنفيهما، فابتاعها منهما قهرا وجعلها زاوية للأحمدية والأدهمية بشرط أن يضاف من نزلها من الطوايف الثلاثة ثلاثة أيام. ثم إنها تشعثت في فتنة تيمر فرممها أقباي مملوك المؤيد ووقف عليها وقفا بأنطاكية. وخضر المذكور كان عجمي الدار اهـ.
أقول: ولا أثر لها الآن ولا أدري متى دثرت.
427 - كمال الدين عمر بن عثمان المعري قاضي حلب المتوفى سنة 783
عمر بن عثمان بن هبة الله بن معمّر قاضي القضاة كمال الدين أبو القاسم المعري الحلبي الشافعي.
مولده سنة اثنتي عشرة وسبعمائة تخمينا. ولي قضاء بلدة المعرة واشتغل بحماة على ابن البارزي قاضيها، وسمع من الحجار والمندومي، وولي قضاء حلب في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة عوضا عن القاضي نجم الدين محمد الزرعي وباشرها أشهرا قليلة، ثم عزل بالقاضي نجم الدين المذكور، ثم وليها في سنة سبع وخمسين عوضا عن القاضي نجم الدين بحكم وفاته، واستمر حاكما بها مدة أربع عشرة سنة، ثم نقل إلى قضاء الشام فأقام به مدة، ثم ولي حلب وولي القضاء بطرابلس أيضا. وكان قليل العلم، ومن العجب أنه ولي دار الحديث الأشرفية بدمشق انتزعها من الحافظ بن كثير مع أن شرطها أن يكون من أعلم أهل البلد بالحديث، فمنعته الطلبة وعدوا عليه غلطات وفلتات، منها أنه قال الجهبذ فنطق بها بضم الجيم وفتح الهاء، وقد حدث. سمع عليه بحلب شيخنا أبو إسحق الحلبي وأبو المعالي بن عشاير.(5/85)
وكان قاضيا جليلا نبيلا عاقلا ساكنا محترما مداريا، إلا أنه كان ينسب إليه أشياء لا تليق، منها الرشوة ظاهرا مع أنه كان كثير الصيام والحج، وكان يقول: ليس في قضاة الإسلام أقدم هجرة مني، فإنه ولي قضاء بلدة المعرة سنة ثلاث وثلاثين، ولما كان ثلاث وستين وسبعمائة توجه القاضي كمال الدين المذكور إلى الحجاز، فلما توجه منها اجتمع عليه جماعة من أعيان الحلبيين ومشايخهم وهم قاضي القضاة جمال الدين أبو إسحق إبراهيم ابن العديم الحنفي وقاضي القضاة شرف الدين بن فياض الحنبلي والشيخ شهاب الدين أبو العباس الأذرعي والشيخ كمال الدين عمر بن العجمي والإمام الخطيب شهاب الدين أحمد الأنصاري والشيخ زين الدين أبو حفص الباريني الشافعيون وغيرهم من الحنفية وكتبوا في حقه محاضر، فلما بلغ ذلك القاضي كمال الدين المذكور توجه إلى الديار المصرية من الطريق ولم يتوجه إلى الحجاز، وكان بالقاهرة الأمير يلبغا الخاصكي صاحب القاضي كمال الدين المذكور وجهز طلب المذكورين، فتوجهوا إلى القاهرة، وذلك في سنة أربع وستين، فلما وصلوها طلبهم الأمير يلبغا المشار إليه وقام مع القاضي كمال الدين قياما عظيما فاجتمعوا عند الأمير يلبغا. وأما القاضي كمال الدين فإن الأمير يلبغا أنزله عنده في بيت، فلما اجتمعوا بالأمير يلبغا شرعوا يذكرون مثالب القاضي كمال الدين التي رموه بها، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم الأمير يلبغا: فإذا تاب أما تقبل توبته؟ فسكت الجماعة، ثم دخل عليهم بالصلح فلم يسعهم مخالفته، فعند ذلك طلبه من البيت المذكور وهم قاعدون فجاء القاضي كمال الدين وحضر معهم وتعاتبوا. ثم إن الأمير يلبغا قام وأصلح بينهم وأعطاهم نفقته، بلغني أنه أعطى كل قاض ثلاثة آلاف درهم وكل فقيه منهم ألف درهم وقال لهم: شوشنا عليكم يا جماعة.
ثم توجه القاضي كمال الدين إلى حلب قاضيا على عادته وتوجه المذكورون إلى حلب ولم يحصل لهم من القاضي كمال الدين بعد ذلك أذى ولا صدر منه شيء، فإنه كان عاقلا ساكنا كثير الاحتمال والإغضاء والمسامحة، وحصل على ثروة كبيرة، ثم عزل، ثم ولي قضاء حلب، ولم يزل قاضيا بحلب إلى أن توفي نهار يوم السبت تاسع شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ودفن في بيته، ثم نقل بعد سنتين إلى خارج باب المقام إلى تربة الفردوس ظاهر حلب تغمده الله برحمته اهـ (الدر المنتخب).
وقدمنا في الجزء الرابع (في الكلام على درب البنات بعد ترجمة أحمد أبي المكارم
الإسكافي) أين كان بيته وأنه معمّر خان القاضي المعروف بهذا الاسم في محلة باب قنسرين.(5/86)
وقدمنا في الجزء الرابع (في الكلام على درب البنات بعد ترجمة أحمد أبي المكارم
الإسكافي) أين كان بيته وأنه معمّر خان القاضي المعروف بهذا الاسم في محلة باب قنسرين.
428 - شهاب الدين أحمد الأذرعي المتوفى سنة 783
أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم ابن داود بن يوسف بن جابر الشيخ شهاب الدين الأذرعي أبو العباس.
ولد بأذرعات الشام في وسط سنة ثمان وسبعمائة، وسمع من الحجار والمزي، وحضر عند الذهبي، وتفقه على ابن النقيب وابن حجلة. ودخل القاهرة فحضر درس الشيخ مجد الدين الرنكلوني ولازم الفخر المصري وهو الذي أذن له، وشهد له عند السبكي بالأهلية، ثم ألزم بالتوجه إلى حلب، وناب عن قاضيها نجم الدين بن الصائغ، فلما مات ترك ذلك وأقبل على الأشغال والاشتغال وراسل السبكي بالمسائل الحلبيات، وهي في مجلد مشهورة، واشتهرت فتاويه في البلاد الحلبية.
وكان سريع الكتابة مطرح النفس كثير الجود صادق اللهجة كثير الخوف من الله، جمع «التوسط والفتح بين الروضة والشرح» في عشرين مجلدا كثير الفوائد، وشرح المنهاج للنووي شرحين سمى أحدهما «غنية المحتاج» والآخر «القوت» (1) وحجمهما متقارب، وفي كل منهما ما ليس في الآخر، إلا أنه كان في الأصل وضع أحدهما لحل ألفاظ الكتاب فقط فما انضبط له ذلك بل انتشر جدا.
وقدم القاهرة بعد موت الشيخ جمال الدين الأسنوي وذلك في جمادى الأولى سنة 62 وأخذ عنه بعض أهلها، ثم رجع ورحل إليه من فضلاء المصريين الشيخ بدر الدين الزركشي فقرأت بخطه: رحلت إليه في سنة 63فأنزلني داره وأكرمني وحباني وأنساني الأهل والأوطان، والشيخ جمال الدين البيجوري وكتب عنه شرح المنهاج بخطه، فلما قدم دمشق أخذه عنه بعض الرؤساء وذكر لي أنه كان يكتب في الليل على شمعتين أو أكثر. وذكر لي بعض مشايخنا أنه كان يكتب في الليل كراسا تصنيفا وفي النهار كراسا تصنيفا لا يقطع ذلك، ولكن لو كان ذلك مع المواظبة لكانت تصانيفه كثيرة جدا، لكن لعله ترك ذلك مسودات فضاعت بعده. ومن نظمه:
__________
(1) في كشف الظنون: قوت المحتاج في شرح المنهاج في الفروع للأذرعي أحمد بن حمدان بن أحمد المتوفى سنة 783.(5/87)
يا موجدي من العدم ... ارحم فقد زلّ القدم
واغفر ذنوبا قد مضى ... وقوعها من القدم
لا عذر في اكتسابها ... إلا الخضوع والندم
إن الجواد شأنه ... غفران زلات الخدم
وكان فقيه النفس لطيف الذوق كثير الإنشاد للشعر، وله نظم قليل. وكان يقول الحق وينكر المنكر ويخاطب نواب حلب بالغلظة، وكان محبا للغرباء محسنا إليهم معتقدا لأهل الخير، كثير الملازمة لبيته لا يخرج إلا إلى ضرورة، وكان كثير التحري في أموره، وكان لا يأذن لأحد في الإفتاء إلا نادرا. وكان الشيخ زين الدين أبو حفص عمر الباريني الشافعي نزيل حلب مع جلالة قدره إذا اجتمعت عنده الفتاوي التي يستشكلها يحضرها ويجتمع به ويسأله عنها فيجيبه فيعتمد على جوابه. وقد ذكرت عنه كرامات ومكاشفات.
وبالغ ابن حبيب في الثناء عليه في ذيله على تاريخ والده.
قرأت بخط الشيخ برهان الدين المحدث بحلب وأجازنيه، أنشدنا الإمام شيخ الشافعية شهاب الدين الأذرعي:
كم ذا برأيك تستبدّ ... ما هكذا الرأي الأسدّ
أأمنت جبّار السما ... ء ومن له البطش الأشدّ
فاعلم يقينا أنه ... ما من مقام العرض بدّ
عرض به يقوى الضعيف ... ويضعف الخصم الألدّ
ولذلك العرض اتقى ... أهل التقى وله استعدّ
وهي طويلة. مات في 15جمادى الآخرة سنة سبعمائة وثلاث وثمانين.
وترجمه في المنهل الصافي بنحو ما تقدم وقال: إنه اختصر الحاوي للماوردي. وكتب على المهمات ولم يكمله. وكان رحمه الله فقير النفس محكما للفقه مليح المحاضرة كثير الإنشاد للشعر، وله نظم، قوالا بالحق، ينكر المنكر ويخاطب نواب حلب بخطاب فيه غلظ، كثير الفوائد، ولديه فضائل وكياسة وحشمة وإنسانية ومحبة لأهل العلم خصوصا للغرباء محسنا إليهم. ودرس بالمدرسة الظاهرية والأسدية والبلدقية ودار الحديث البهائية بحلب استقلالا. ومن نظمه قوله:(5/88)
كيف لا يستجيب ربي دعائي ... وهو سبحانه دعاني إليه
مع رجائي لفضله وابتهالي ... واتكالي في كل خطب عليه
وله غير ذلك اهـ.
أقول: إن قبره على قارعة الطريق في محلة المقامات بظاهر باب المقام، وقد جدده محمد هلال بن فخرو من أهالي هذه المحلة سنة 1312. ومكتوب على قبره من داخل الألواح هذه الأبيات:
تعاهد قبور الصالحين مسلما ... بحسن اعتقاد وانقياد مع الأدب
وصاحب هذا القبر أتحفه دائما ... بخير دعاء فهو مما له وجب
فهذا الإمام الأذرعي أحمد الذي ... سما وإلى حمدان حقا قد انتسب
وهذا أبو العباس يعرف كنية ... وهذا شهاب الدين يشهر باللقب
ومكتوب على اللوح من الداخل:
لقد ساد أهل العصر علما وعفة ... وزان بلاد الشام لا سيما حلب
فمولده قد كان في عام وارث 707 ... ومدرجه لله حجة فاقترب 783
وتجديد هذا القبر في السنة التي ... بخمسين بعد الألف مما يلي رجب
ومكتوب على ظاهر اللوح:
ولد المرحوم سنة 707ووفاته سنة 783وجدد قبره سنة 1050ثم جدد هذا المزار بتاريخ اسم الله الغفار سنة 1312.
429 - محمد بن بلبيك (1) الصروي المتوفى سنة بضع وثمانين
محمد بن بلبيك الصروي.
كان محبا لأهل الخير والصلاح، وأنشأ جامعه المعروف به بالبياضة داخل باب القناة.
توفي سنة بضع وثمانين وسبعماية بالرها ونقل إلى حلب فدفن بها اهـ (الدر المنتخب).
__________
(1) في «كنوز الذهب» وهرتزفيلد: بيليك.(5/89)
الكلام على جامع الصروي:
قال أبو ذر: هذا الجامع بالبياضة أنشأه الحاج ناصر الدين محمد بن بلبيك الصروي في سنة ثمانين وسبعماية، وهو جامع لطيف له محراب من الرخام الأصفر، وكذلك منبره وسدته. وفي أيامي وسع قبليته وصحنه الأقباعي. وتلقب هذه المحلة بالبياضة بالتخفيف، وكذلك حلب تلقب بالشهباء والبيضاء لبياض أرضها لأن غالبها من الحجارة الحوارة وترابها يضرب إلى البياض وإذا أشرف الإنسان عليها ظهرت له بيضاء اهـ.
أقول: قبلية هذا الجامع متوسطة في السعة وصحنه كذلك، ومن نحو عشر سنين عمل في وسط الصحن حوض ينزل إليه بدرج جلب إليه الماء من القسطل الذي هو خارج الجامع التابع له وذلك من وصية ثابت أفندي المدرس. وحينما كان سعادة مرعي باشا الملاح حاكم حلب الآن مديرا للأوقاف فرش أرضه بالرخام. وفي سنة 1340أثناء ولاية كامل باشا القدسي عمر فيه مدير الأوقاف السيد يحيى الكيالي إيوانا من الجهة الشرقية كان خربا وبلط أرضه بالرخام، وكان باب الجامع والجدار الذي بجانبه من جهة الشمال متوهنا كاد يسقط هو والمنارة التي فوقه فعمر تحت قنطرة الباب قنطرة أخرى حفظت الباب والمنارة، ومن تأمل في كيفية بناء هذه القنطرة يأخذه العجب من مهارة البنائين في حلب، ولبناء هذه القنطرة السابقة ذهب بعض الكتابة المنقوشة على الباب، وإليك ما بقي منها:
(1) البسلمة (بقي منها الرحيم) إنما يعمر مساجد الله إلى قوله واليوم (والباقي داخل في البناء إلى قوله:
(2) ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أنشأ هذا، والباقي داخل في العمارة).
(3) الحاج ناصر الدين محمد بن بدر الدين بيلبيك الصروي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين.
ومكتوب على باب منارة الجامع:
(1) وقف الفقير إلى الله تعالى أحمد بن عبد الجليل المصحف
(2) المكرم على روح ابن عمه صدقة ابن يوسف الدباغ ليقرأ فيه بالجامع السروي
(3) وقد يكون عليه نظر الإمام والبواب فلا يخرج منه أبدا حرر سنة خمسين وثمانماية.(5/90)
(2) المكرم على روح ابن عمه صدقة ابن يوسف الدباغ ليقرأ فيه بالجامع السروي
(3) وقد يكون عليه نظر الإمام والبواب فلا يخرج منه أبدا حرر سنة خمسين وثمانماية.
وكان أحدث في وسط القبلية درابزين من الدف على شاكلة قبر ووضع فوقه لوح كتب عليه ما يفيد أن تحته قبر يحيى الجركسي وذلك بناء على رؤيا رآها الشيخ وفا الرفاعي المتوفى سنة 1264، وكلف المتولي على الجامع يومئذ مصطفى آغا الشاه بندر ببناء هذا الدرابزين وبقي نحو سبعين سنة، وكان وجوده يمنع تسوية الصفوف، فكان المصلون يتبرمون وفي مقدمتهم الشيخ نجيب بن الشيخ يوسف العطار من علماء هذه المحلة وسكانها ومن المواظبين على الصلاة بالجماعة، فسمع منه الشيخ عبد القادر من بني سلطان الضرير الحافظ فوعده برفعه ليلا وفعل ذلك، ففي اليوم الثاني حينما أتى المصلون ارتفع ضجيج بعضهم ورفعوا الأمر إلى الوالي وللمحكمة الشرعية، واختفى الشيخ عبد القادر مدة، وراجع المشتكون بالآستانة بواسطة أبي الهدى أفندي الصيادي وأتت الأوامر بإعادة هذا الدرابزين، ولإصرار القسم الأعظم من أهل المحلة لم يمكن من الرجوع، ولدى الكشف على ما تحت هذا الدرابزين لم يوجد قبر وإنما وجد درج ينزل منه إلى مغارة بمقدار عشر درجات هي تحت جميع القبلية فيها عدة قبور، وظهر أن باب هذه المغارة من داخل القبلية تحت مطلع السدة، ولما لم يوجد شيء تحت الدرابزين أخذت عدة فتاوي بعدم إرجاعه.
ومنبر القبلية من الحجارة الصفراء الضخمة ومحرابه كذلك، وفي وسطه قبة مرتفعة البناء. وللجامع محدث ومدرس للفقه، والمحدث الآن الشيخ أحمد العالم الكيالي يقوم به عن عمه أبي زوجته شيخنا الشيخ محمد الجزماتي، ومدرس الفقه الشيخ عمر المرتيني، وقد كان قبل ذلك يدرس فيه الشيخ محمد علي الكحيل، ثم شيخنا الشيخ محمد الزرقا وشيخنا الشيخ بشير الغزي.
430 - أحمد بن موسى والد البدر العيني المتوفى سنة 784
أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي شرف الدين أبي البركات ابن الشيخ شهاب الدين العينتابي الحنفي والد العلامة قاضي القضاة بدر الدين محمود العينتابي المشهور بالعيني.(5/91)
قال ولده في تاريخه: وهو والد العبد الضعيف مؤلف هذا التاريخ. توفي يوم الاثنين سادس عشرين رجب سنة أربع وثمانين وسبعمائة ودفن في الغد بمقبرة طريق حلب. وكان فقيها مستحضرا في الفروع والأصول، خبيرا بأمور المكاتبات الشرعية والسجلات الحكمية، وله مشاركة في سائر الفنون. ناب في الحكم عن القضاة ثلاثين سنة، ثم استقل حاكما بعين تاب مدة، ثم توفي وهو معزول منقطع إلى الله تعالى اهـ (المنهل الصافي).
431 - عبد الرحيم بن الترجمان المتوفى سنة 786
عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم الحلبي التاجر المعروف بابن الترجمان.
ولد قبل الثلاثين، وسمع من العز بن إبراهيم بن صالح بن العجمي حضورا، وسمع على غيره وهو كبير وحدث، فسمع عليه البرهان المحدث بحلب.
قال القاضي علاء الدين في تاريخه: كان ذا ثروة ظاهرة وتجار من تحت يده يسافرون له، وكان دينا خيرا عليه سكون، وله مكتب للأيتام تجاه المدرسة الشرفية بحلب وقف عليه وقفا جيدا. ومات يوم عيد الفطر سنة 786اهـ.
قال أبو ذر في الكلام على مكاتب الأيتام بحلب: مكتب عماد الدين بن الترجمان هذا تجاه الشرفية وله وقف بحور وبانقوسا اهـ.
أقول: ولا أثر لذلك الآن، والذي أمام الشرفية خان بني من نحو 15سنة بناه التاجر الحاج محمد العطري وعرف بخان العطري، وكان قبل ذلك دورا اشتراها وعمرها خانا.
432 - إبراهيم بن محمد بن العديم المتوفى سنة 787
إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير العقيلي الحلبي جمال الدين بن العديم بن ناصر الدين بن كمال الدين من بيت كبير مشهور بحلب.
ولد في سادس ذي الحجة سنة 711تقريبا، وسمع صحيح البخاري على الحجار بحماة، وعلى العز إبراهيم بن صالح بن العجمي عشرة الحداد، وسمع من الكمال ابن
النحاس، وحفظ المختار. وولي قضاء حلب بعد أبيه في سنة 752إلى أن مات، إلا أنه تخلل في ولايته أنه صرف مرة بابن الشحنة.(5/92)
ولد في سادس ذي الحجة سنة 711تقريبا، وسمع صحيح البخاري على الحجار بحماة، وعلى العز إبراهيم بن صالح بن العجمي عشرة الحداد، وسمع من الكمال ابن
النحاس، وحفظ المختار. وولي قضاء حلب بعد أبيه في سنة 752إلى أن مات، إلا أنه تخلل في ولايته أنه صرف مرة بابن الشحنة.
قال علاء الدين في تاريخه: كان عاقلا عادلا في الحكم خبيرا بالأحكام عفيفا كثير الوقار والسكون، إلا أنه لم يكن ناقدا في الفقه ولا في غيره من العلوم مع أنه درس بالمدارس المتعلقة بالقاضي الحنفي كالحلوية والشاذبختية. وكان يحفظ المختار ويطالع في شرحه.
وقرأت بخط البرهان المحدث أن ابن العديم هذا ادعى عنده مدع على آخر بمبلغ فأنكر، فأخرج المدعي وثيقة فيها: أقر فلان بن فلان، فأنكر المدعى عليه أن الأسم المذكور في الوثيقة اسم أبيه، قال له: فما اسمك أنت؟ قال فلان، قال: واسم أبيك؟ قال: فلان، فسكت عنه القاضي وتشاغل بالحديث مع من كان عنده حتى طال ذلك، وكان القارىء يقرأ في صحيح البخاري، فلما فرغ المجلس صاح القاضي: يا ابن فلان، فأجابه المدعى عليه مبادرا، فقال له: ادفع لغريمك حقه، فاستحسن من حضر هذه الحيلة إلى أن استغفل المدعى عليه حتى التجأ إلى الاعتراف.
وكانت وفاته في سادس عشري المحرم سنة 787.
وقرأت بخط البرهان الحلبي: كان من بقايا السلف، وفيه مواظبة على الصلوات في الجامع الكبير، نظيف اللسان وافر الفضل طويل الصمت والمهابة في غاية الفقه، مع المعرفة بالمكاتيب والشروط، كبير القدر عند الملوك والأمراء، له مكارم ومآثر، وكان كثير النظر في مصالح أصحابه.
433 - أبو بكر بن عمر بن مظفر ابن الوردي المتوفى سنة 787
أبو بكر بن عمر بن مظفر بن عثمان بن أبي الفوارس المعري ثم الحلبي شرف الدين ابن الشيخ زين الدين ابن الوردي.
قيل ولد سنة قال القاضي علاء الدين في تاريخه: كان كثير الهجاء، ويستحضر كثيرا من تراجم الحلبيين وماجرياتهم مع حسن المنادمة وطيب المحاضرة واطراح التكلف في المأكل والملبس. وتفقه بأبيه وعمه وتعانى الأدب وباشر تدريس البهائية بدمشق وناب في الحكم ونظم ونثر، ومات في ربيع الأول سنة 787بحلب.(5/93)
434 - علي بن محمد بن قرناص الحموي المتوفى سنة 787
علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قرناص علاء الدين الخزاعي الحموي ثم الحلبي.
رجل عارف ومباشر كبير صدوق مشهور بالأمانة والثقة. سمع على نخوة بنت النصيبي وهي جدة والده لأبيه، وسمع على غيرها أيضا. وهو من بيت معروف بحلب وحماة.
وهنا أورد ابن الخطيب حكاية غريبة عنه أضربت عنها لغرابتها، ثم قال: توفي علاء الدين ابن قرناص في سنة سبع وثمانين وسبعماية بحلب رحمه الله اهـ.
وترجمه في الدرر الكامنة وقال: إنه سمع منه الشيخ إبراهيم المحدث.
434 - م طقتمر الكلتائي باني المدرسة المعروفة بالكلتاوية المتوفى سنة 787 (1)
طقتمر بن عبد الله الكلتائي الأمير سيف الدين الكلتائي نسبة إلى الأمير كلتاي.
كان من أكابر العلماء، وتولى عدة وظائف ونيابات. ولي نيابة سنجار والبيرة وقلعة الروم، ثم حجوبية طرابلس، ثم نقل إلى حلب أمير مائة ومقدم ألف بها، ثم استقل في آخر عمره في حجوبية حلب وبنى بها مدرسة بالبياضة ووقف عليها وقفا كبيرا على السادة الحنفية. وكان له ثروة ووجاهة، وكان فيه ظلم وتعسف، إلا أنه كان يجل أهل العلم ويكرمهم. وكان شكلا ضخما. وتوفي بحلب في حادي عشر شهر رمضان سنة سبع وثمانين وسبعماية ودفن بمدرسته بحلب رحمه الله تعالى اهـ (المنهل الصافي).
آثاره بحلب
49564 - المدرسة الكلتاوية:
قال في كنوز الذهب: هذه المدرسة داخل بانقوسا بالقرب من المدرسة الأتابكية، أنشأها طقتمر الكلتاوي. أخبرني والدي رحمه الله أنه نشأ له ولد وأنه سمع أن أهل الحديث تطول
__________
(1) سهونا عن ترقيم هذه الترجمة فآثرنا أن نكرر الرقم.(5/94)
أعمارهم، فأحضر والدي والشيخ عز الدين لقراءة البخاري عنده، فقرىء البخاري عنده للبركة، وحضر فقهاء بانقوسا وسمعوا، ووقف لها أوقافا كثيرة من جملتها معصرة خارج بانقوسا.
والكلتاوي نسبة إلى الأمير كلتاي والي البيرة وسنجار وقلعة الروم، ثم استقل بالحجوبية بحلب، وكان فيه ظلم وتعصب للأئمة، وكان يحب أهل العلم. ومات في حادي عشر رمضان سنة سبع وثمانين وسبعماية ودفن بمدرسته اهـ.
وفي الدر المنتخب: (المدرسة الكلتاوية): داخل باب القناة، بناها الأمير طقتمر الكلتاوي على نشز من الأرض عن يسرة الداخل على المدينة، وبنى إلى جانبيها دارا كبيرة واسعة مرخمة، وجعل تحتها إصطبلات واسعة، وظاهر الإصطبلات حوانيت، والكل وقف على المدرسة، ووقف عليها أوقافا كثيرة غير ذلك، وشرط أن يكون مدرسها حنفيا والطلبة كذلك اهـ.
أقول: قد تغيرت الآن أوضاع هذه المدرسة ولم يبق من بنائها القديم سوى بعض قبليتها، ويبلغ طول القبلية 16ذراعا وعرضها نحو سبعة أذرع، وعن يمينها حجرة صغيرة حديثة البناء يؤدب فيها الأطفال، وصحن المدرسة يبلغ طوله 35ذراعا وعرضه 18، وليس ثمة شيء من الحجر للطلبة. وبعض الصحن أمام القبلية مفروش بالرخام ومعظمه لا رخام فيه، وفيه بعض شجرات زيتون وتين وسرو. ولا أثر لقبر الواقف هناك ولا يعلم مكانه. ومكان المدرسة مرتفع يطل على كثير من منازل حلب الشمالية شرقا وغربا.
وهي الآن تحت يد دائرة الأوقاف والباقي من وقفها دار واحدة. وجنوبي المدرسة وشرقها تربة واسعة يدفن أهل تلك المحلة فيها موتاهم.
435 - عبد اللطيف بن محمد الميهني المتوفى سنة 787
عبد اللطيف بن محمد بن موسى بن أبي الفتوح بن أبي سعيد فضل الله بن أبي الخير الميهني الملقب نجم الدين الحواساني الحلبي شيخ الشيوخ بحلب.
ذكره الإمام زين الدين أبو العز طاهر ابن شيخنا أبي محمد بن حبيب في ذيله على تاريخ والده وقال فيه: كان إنسانا خيرا في نفسه، مثابرا على فعل الخير في يومه أضعاف أمسه،
كثير الانبساط والإيناس، جيدا في أمور دنياه ومعاملته مع الناس، مريحا لخاطره مشتملا على نفع ذاته، مزيحا لأعذار نفسه محتملا ثقل تكاليف الحياة في حركاته وسكناته، يحب الرياضة ويتكلم عليها، ويرغب في محادثة أهل الفتوى ويميل إليها، ويمشي بين أهل حرفته بملابس جود فاخرة، ويفشي لهم أسرار معرفة اكتسبها من صدور القوم الصادرة، وجده أبو الخير أول من فرض لأهل التصوف النصيب، وبالغ في إكرامهم وتقريب البعيد منهم وتأهيل الغريب. وكان له بين أهل هذه الطائفة قدم صدق معروفة، ومزايا فضل وإحسان بلسان الشكر موصوفة، باشر الوظيفة المذكورة بعد وفاة والده وهو صغير، واستمر فيها إلى أن درج بالوفاة إلى رحمة الله العلي الكبير. انتهى.(5/95)
ذكره الإمام زين الدين أبو العز طاهر ابن شيخنا أبي محمد بن حبيب في ذيله على تاريخ والده وقال فيه: كان إنسانا خيرا في نفسه، مثابرا على فعل الخير في يومه أضعاف أمسه،
كثير الانبساط والإيناس، جيدا في أمور دنياه ومعاملته مع الناس، مريحا لخاطره مشتملا على نفع ذاته، مزيحا لأعذار نفسه محتملا ثقل تكاليف الحياة في حركاته وسكناته، يحب الرياضة ويتكلم عليها، ويرغب في محادثة أهل الفتوى ويميل إليها، ويمشي بين أهل حرفته بملابس جود فاخرة، ويفشي لهم أسرار معرفة اكتسبها من صدور القوم الصادرة، وجده أبو الخير أول من فرض لأهل التصوف النصيب، وبالغ في إكرامهم وتقريب البعيد منهم وتأهيل الغريب. وكان له بين أهل هذه الطائفة قدم صدق معروفة، ومزايا فضل وإحسان بلسان الشكر موصوفة، باشر الوظيفة المذكورة بعد وفاة والده وهو صغير، واستمر فيها إلى أن درج بالوفاة إلى رحمة الله العلي الكبير. انتهى.
سمع الشيخ نجم الدين هذا «الشمائل» للترمذي من والده، ورأيته بحلب. وكانت وفاته بها سنة سبع وثمانين وسبعمائة وقد جاوز السبعين رحمه الله تعالى اهـ (الدر المنتخب).
أقول: وهو من شيوخ الحافظ الكبير البرهان إبراهيم بن محمد سبط بني العجمي المتوفى سنة 841، وكان شيخا لخانقاه البلاط وقد تقدم ذلك عند الكلام عليها في ترجمة شمس الدين لؤلؤ المتوفى سنة 511.
436 - محمد بن أبي بكر بن النصيبي المتوفى سنة 787
محمد بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن النصيبي الملقب شمس الدين، وبقية نسبه في ترجمة أبيه.
كان إنسانا حسنا، كتب الإنشاء بحلب، وهو معدود من أعيان الحلبيين ومن بيت الوجاهة والتقدم، وكان كثير التلاوة للقرآن، وكتابته مليحة. توفي في سنة سبع وثمانين وسبعمائة بحلب في فصل الوبا الكائن في هذه السنة اهـ (الدر المنتخب).
437 - محمد بن طلحة المتوفى سنة 788
محمد بن طلحة بن يوسف بن عبد الله شمس الدين الحلبي.
ولد سنة خمس وسبعمائة وقرأ القرآن وسمع على الكمال ابن النحاس الجزء المنتقى من
مشيخة العماد بن النحاس وحدث به، وقرأ بعض القرآن ببعض الروايات. وكان يسكن بالخانقاه الصلاحية بحلب ويؤم بالعصرونية، وكان يعاشر الأكابر مع الظرف البالغ والمجون.(5/96)
ولد سنة خمس وسبعمائة وقرأ القرآن وسمع على الكمال ابن النحاس الجزء المنتقى من
مشيخة العماد بن النحاس وحدث به، وقرأ بعض القرآن ببعض الروايات. وكان يسكن بالخانقاه الصلاحية بحلب ويؤم بالعصرونية، وكان يعاشر الأكابر مع الظرف البالغ والمجون.
ومات سنة ثمان وثمانين وسبعمائة.
438 - أحمد بن عبد الرحمن النصيبي المتوفى سنة 788
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن طاهر بن يوسف النصيبي الحلبي.
ولد سنة 12، وسمع من العماد أبي بكر بن محمد الهروي. وكان كثير التلاوة عفيفا نزها. وباشر الأحباس بحلب. وكان يواظب الجامع. روى عنه ابن عشائر والياسوفي والبرهان سبط بن العجمي وآخرون. مات يوم السبت ثاني المحرم سنة 788.
439 - عائشة بنت عمر بن محمد العجمي المتوفاة سنة 789
عائشة بنت عمر بن محمد بن العجمي والدة الشيخ برهان الدين محدث حلب.
سمعت على إبراهيم بن صالح العجمي زوج عمتها وحدثت. سمع منها ولدها. وماتت في 5رجب سنة 789.
440 - الإمام محمد بن علي بن الخطيب المعروف بابن أبي العشائر المتوفى سنة 789
محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي حامد بن أبي المكارم عبد المنعم بن أبي العشاير أبو المعالي السلمي الحلبي ناصر الدين الخطيب.
ولد سنة 42في ربيع الأول وحفظ القرآن، وقرأ في الفقه على الزين الباريني وغيره، وأخذ عن الأعميين وغيرهما العربية، وقرأ الأصول على تاج الدين السبكي وابن قاضي الجبل، وطارحه بأبيات فأجابه ومدحه، واعتنى بالحديث فسمع ببلده من صلاح الدين عبد الله بن المهندس وصلاح الدين خليل الصفدي والخطيب شمس الدين أحمد بن عبد
الرحمن بن العجمي والظهير محمد بن عبد الكريم بن العجمي وأولاد ابن حبيب كمال الدين وشرف الدين وبدر الدين، وبدمشق سنة 67من جماعة من أصحاب الفخر، وتخرج بابن رافع وغيره، وأخذ عن محمود بن خليفة. وسمع بالقاهرة من جماعة من الشيوخ، وأخذ العلم عن جمع جم بهذه البلاد، وذكر للقضاء.(5/97)
ولد سنة 42في ربيع الأول وحفظ القرآن، وقرأ في الفقه على الزين الباريني وغيره، وأخذ عن الأعميين وغيرهما العربية، وقرأ الأصول على تاج الدين السبكي وابن قاضي الجبل، وطارحه بأبيات فأجابه ومدحه، واعتنى بالحديث فسمع ببلده من صلاح الدين عبد الله بن المهندس وصلاح الدين خليل الصفدي والخطيب شمس الدين أحمد بن عبد
الرحمن بن العجمي والظهير محمد بن عبد الكريم بن العجمي وأولاد ابن حبيب كمال الدين وشرف الدين وبدر الدين، وبدمشق سنة 67من جماعة من أصحاب الفخر، وتخرج بابن رافع وغيره، وأخذ عن محمود بن خليفة. وسمع بالقاهرة من جماعة من الشيوخ، وأخذ العلم عن جمع جم بهذه البلاد، وذكر للقضاء.
وكان فاضلا عالما حسن الخط جدا جيد الضبط والشعر والتذكر، مشاركا في العلوم له تعاليق وتخاريج ومجاميع مفيدة، وخطب بجامع حلب بعد أبيه. وكان بليغا مفوّها، وكان سريع الحفظ جدا حتى قيل إنه حفظ الأنعام وهو شاب من مرة واحدة، وكان متسع الحال من الدنيا مع الرياسة التامة يكتب في الاستدعاءات:
للسائلين أجزت ذلك لافظا ... ومعظما لشرايع وشعائر
واسمي الشهير محمد بن عليّ بن محمد بن محمد بن عشاير ومن نظمه:
لا تحفلن بذي العذار وإن يكن ... قد بالغ الشعراء فيه وأطنبوا
فلربما عاف الصديّ وروده ... عذبا زلالا قد علاه الطحلب
مات بمصر في ربيع الأول سنة 789، وبخط القاضي علاء الدين في 26ربيع الآخر اهـ.
ونقل ترجمته الشيخ كامل الغزي في تاريخه نهر الذهب (1) فقال: هو محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن عشائر الخطيب الإمام ناصر الدين أبو المعالي السلمي الحلبي الشافعي من أعيان العلماء وفضلائهم، (2) أخذ عن أكثر من مائتي شيخ في حلب ودمشق والقاهرة وغيرها، ومن جملة شيوخه العلامة تاج الدين السبكي وصلاح الدين الصفدي. وكان مع علمه صاحب ثروة كبيرة وملك كثير. وكتب عدة مجاميع مفيدة، وشرع بكتابة ذيل على تاريخ ابن العديم في حلب فكتب منه مقدار مجلدة ولم
__________
(1) انظر في الجزء الأول في صحيفة «37» (*).
(2) انظر في الجزء الأول في صحيفة «37» (*).
(*) لعل المؤلف قد وقع في سهو في هذه الحاشية.(5/98)
يكمل، وله «تاج النسرين في تاريخ قنسرين» (1). ومن شعره قوله:
لله إن صبغ البكا ... ديباج وجهي بالنجيع
نفس تذوب ومقلة ... عنها تموّه بالدموع
وله:
وقفت بالرسم حين بانوا ... وأوحشت منهم الربوع
وقلت يا عين ساعديني ... فها هنا تسكب الدموع
وله:
ما حيلتي إن حلبت الدهر أشطره ... والزبدة المرديان الهمّ والنصب
وكيف أحرز جاها أو أنال غنى ... والحرفة الخاملان الفضل والأدب
وترجمه في كنوز الذهب في كلامه على العشائرية فقال: هو الإمام الرحال المحدث الخطيب ناصر الدين محمد الرئيس، ذو الهيبة العلية والنفس الأبية والخط الباهر.
رحل إلى دمشق وقرأ على مشايخها وأتقن وخرج ونظر التواريخ كثيرا، نظرت أجزاء من تذكرته، وانتقى من معجم البرزالي والدمياطي والذهبي وابن رافع أشياء حسنة وهي عندي بخطه في مجلد. وقد سمع والدي معه أشياء كثيرة ولم يثبتها والدي بخطه اعتمادا عليه، فصار والدي يطالبه بها ليكتب سماعه فصار يماطله، وذهب على والدي مسموع كثير بسبب ذلك. وقد ذهب الزبيري إلى وجوب العارية في هذه الصورة والله أعلم بقصده.
وخرج من حلب إلى القاهرة لأنه لم يرض الذل بحلب، وتوفي بالقاهرة ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر في سادس عشرين ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وسبعمائة.
واتفقت له قضايا بحلب مع ابن أبي الرضا أوجبت خروجه من حلب. وخلف ولدا يقال له ولي الدين. ومات ولده ولي الدين المذكور عن غير ولد فأبيعت كتبه بعده بالبخس، حتى إنه أبيع شرح أحكام عبد الحق لابن بزيزة كل جزء بدرهم. وكان ناصر الدين المذكور يخبو كتبه ولا يظهر عليها أحدا، فلقد رأيت مجاميعه تباع بالهوان.
__________
(1) ذكره في كشف الظنون.(5/99)
أنشدني والدي رحمه الله قال: أنشدني الإمام ناصر الدين بن عشائر لنفسه:
حديث الثغر صحّ لنا ... مسلسل ريقه العالي
رواة الحسن تسنده ... لصفوان بن عسّال
ومن نظمه:
حملت من المودة منك جهدي ... ومن مين التنصل فوق طوقي
أفاخرك المحبة لا أحاشي ... إذا ما قلت شوقك دون شوقي
وله:
أفديه وضاح المحيا طرفه ... شاكي السلاح بمرهف بتّار
ظبي شعار جبينه وعيونه ... الحق أبلج والسيوف عواري
ورأيت بخطه من شعر بدر الدين محمد المعروف بابن الخطيب:
ومذ شاع عني حب ليلى وأنني ... كلفت بها شوقا وهمت بها وجدا
تعرّض لي من كل حي حسانه ... وأبدين لي شوقا وأظهرن لي ودّا
وقلن عسى أن تملك القلب ناقلا ... غرامك في ليلي إلينا فما أجدى
أبى الله أن أنقاد إلا لحبها ... وتعسا لمن ألقى إلى غيرها عهدا
وو الله ما حبي لها جاز حدّه ... ولكنها في حسنها جازت الحدّا
وقد درس بهذه المدرسة (أي دار القرآن العشائرية، وقد قدمنا الكلام عليها) شمس الدين النواوي، وآل تدريسها بعد ذلك إلى بدر الدين محمد بن عمر الواقف، وكان جاهلا فأخذته عنه ولم أدرس بها وألزمت بالنزول له عنها كرها، فلما توفي أخذها القاضي زين الدين بن النصيبي وأخوه القاضي شرف الدين. وقد أغلق هذا المكان بعد فتنة تمر وصار مسكنا لأقارب الواقف يلعبون فيه بالشطرنج، فنزل فيها العلامة المحقق شمس الدين الأطعاني فأقام فيه ذاكرا قائما، فلما توفي سكنها الشيخ الصالح أبو بكر الحيشي رحمه الله تعالى.
441 - علي بن محمد بن عبد الرحمن العبيي المتوفى سنة 790
علي بن محمد بن عبد الرحمن علاء الدين الشهير بابن العبيي القاهري الأصل الحلبي الدار.(5/100)
كان إنسانا حسنا لطيفا عنده حشمة ولطافة في الخطاب، وينظم نظما حسنا، وسماعه للشعر في غاية من المعرفة للعيوب الشعرية، ناقدا لها. وقرأ قراءات، وجاور بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له قبل المجاورة وظائف كتابة فنزل عنها وجاور، ثم استقر بحلب وباشر بها توقيع الدست. رأيته بحلب ولم آخذ عنه شيئا، وكان قد رأى الناس وصحبهم. وكان عرض له وسواس ويحدث أحيانا نفسه، وكان يسكن بالمدرسة السلطانية تجاه باب القلعة.
أنشدني الإمام المحدث الحافظ برهان الدين أبو إسحق سبط ابن العجمي الحلبي بها قال: أنشدني الإمام المقري علاء الدين علي بن بدر الدين محمد بن عبد الرحمن العبيي القاهري ثم الحلبي لنفسه من كتاب كتبه جوابا لبعض أصحابه:
أهّلتني لجواب ... ما كان ظني أجاوب
لكنني عبد رقّ ... مدبّر ومكاتب
وأنشدني قال: أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه:
بذكرك يحيا الفضل بعد مماته ... وغصن التمني من يراعك مثمر
وجودك في صحف المكارم خالد ... ومن جود كفيك الربيع وجعفر
وأنشدني قال: أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه:
حلاوية ألفاظها سكّرية ... قلتني وقوّت نار قلبي بالعجب
مسيّر دمعي في خدودي مشبّك ... ومن أجل ست الحسن قد زاد بالسكب
وأنشدني قال: أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه:
تمتع ببنت الكرم في غسق الدجى ... ولا تنس عند الفجر رشف رضابها
وزفّ عروس الراح في الليل والضحى ... فشمس المحيّا أسفرت عن نقابها
ومن نظمه في حمام الرسائل:
وطائر بالسرور وافى ... مطوّقا جيده مخلّق
يسجع بالبشر حين يأتي ... لا غرو أن يسجع المطوّق
وله في الوحواح الأزرق:(5/101)
وطائر بالسرور وافى ... مطوّقا جيده مخلّق
يسجع بالبشر حين يأتي ... لا غرو أن يسجع المطوّق
وله في الوحواح الأزرق:
كأنما زهر الوحواح حين بدا ... ريش الفواخت فوق الأرض منثور
أو كاس فيروزج في الأرض قد وضعت ... فالجو من طيب ذاك الكاس مخمور
وله:
ومهفهف فضح الغصون قوامه ... ويكاد من لطف ولين يعقد
سكران من خمر بفيه رائق ... واللحظ منه على المحب يعربد
توفي يوم السبت غرة المحرم سنة تسعين وسبعمائة بحلب بحارة المغاربة تجاه مسجد غوث ودفن بتربة أهله خارج باب المقام رحمه الله تعالى اهـ (الدر المنتخب).
وترجمه في الدرر الكامنة فقال: علي بن محمد بن عبد الرحمن العبيي بضم المهملة وسكون الموحدة نسبة إلى بيع العبي، المصري الأصل الحلبي. وكان أبوه قاضيا بأعزاز فولد هو بها سنة 690، وتعانى القراءات وجاور بالمدينة الشريفة، ثم تحول إلى حلب فولي توقيع الدست بها، وكان حسن النظم، سمع من نظمه الشيخ برهان الدين المحدث وأبو حامد بن ظهيرة، ومنه في الجلّنار:
انظر إلى الروض البديع وحسنه ... فالزهر بين منظّم ومنضّد
والجلّنار على الغصون كأنه ... قطع من المرجان فوق زبرجد
442 - أبو الرضى أحمد بن عمر الحموي المتوفى سنة 791
أحمد بن عمر بن محمد أبي الرضى شهاب الدين أبو الحسين الحموي الأصل الشافعي نزيل حلب.
تفقه ببلده على شرف الدين ابن خطيب القلعة، وبدمشق على التاج السبكي وغيرهما، ومهر وتقدم ودرس، ثم قدم حلب على قضاء العسكر، ثم ولي قضاءها استقلالا ثلاث مرات. وكان فاضلا عالما كثير الاستحضار عارفا بالقراءات وله فيها نظم سماه «عقد البكر» (1)، وله نظم في أشياء متعددة. وكانت دروسه حافلة والثناء عليه وافرا. ثم كان
__________
(1) قال محرر النسخة عن الأصل الشيخ إبراهيم البقاعي تلميذ المؤلف ابن حجر على الهامش: النظم إنما هو في غريب(5/102)
ممن قام على الظاهر برقوق وأنكر سلطته فسعى به إليه فتطلبه فاختفى مدة وحج فيها، ثم قدم حلب مستخفيا، فلما كانت فتنة يلبغا الناصري وتغلبه على المملكة ولاه قضاء حلب لما أعيد حاجي إلى السلطنة، فاستمر إلى أن خرج الظاهر من الكرك فثار على نائب حلب كمشبغا الحموي بأهل بانقوسا فقاتله وأعان أهل حلب كمشبغا فكانت النصرة لأهل حلب، فقبض على العادة وأخذه كمشبغا وسار إلى نصرة الظاهر فأعدمه بطريق حماة، وذلك في مستهل ذي القعدة سنة (791). ورثاه الأديب أحمد بن محمد بن عماد المعروف بحميد الضرير المعبر بموشح أوله: قرأت بخط الشيخ برهان الدين الطرابلسي سبط ابن العجمي وأجازنيه، أنشدني الأديب شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد المعروف بحميد الضرير المعبر لنفسه يرثي ابن أبي الرضى بموشح منسجم النظم (لم أنقله لسقامة الخط) (1).
على ابن أبي الرضا مراصطباري وسارا
وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا
مدارس درسه اشتاقت إليه ... وحن العلم والعلما لديه
وأشياخ الحديث بكت عليه
فكم سألوه عن نص البخاري مرارا
فحبر في الجواب بلا اعتذار كبارا
إمام كان في كل العلوم ... يعم على الخصائص والعموم
ويكرم ضيفه عند القدوم
ويحسن للفقير بلا احتقار وقارا
ويكسو بالفضائل كل عار إزارا
لأهل الفضل كان يقوم يلقى ... ويعشق من يحب العلم عشقا
وإن أفتى ترى فتواه حقا
فأصحاب الفتاوي في انحصار حيارى
__________
القرآن سماه «عقد البكر في نظم غريب الذكر» قاله في تاريخه، وحدثني العلامة المحب ابن الشحنة أن له كتابا نحو خمس كراريس نظم ونثر وكله عاطل ليس فيه حرف منقوط سماه «الدرة العاطلة والدرة الهاطلة» فالتزم ما في الكتاب في أشهر اهـ. وفي المنهل الصافي أنه قتل وعمره زيادة عن أربعين سنة.
(1) أثبتنا الموشح نقلا عن «الدرر الكامنة».(5/103)
وقد عدمته أهل الاختيار بدارا
فريدا كان في نقل المذاهب ... فللطلاب كم أبدى غرائب
وفي حلب لقد صعد المناصب
ولا يسعى لأبواب الكبار نهارا
ولم يقطع لأهل الافتقار مزارا
جواد كان في رد الجواب ... وكم في العلم ألف من كتاب
وميز للمشايخ والشباب
وكانت منه أهل الاشتهار فخارا
ولا يرعى الملوك ولا يداري إمارا
لقد بطل الرشى لما تقضّى ... وكم قد رد بعد الحل أرضا
وكان الغيظ يكظمه ويرضى
لمن أسعى لقد زاد افتكاري وحارا
وعقلي طار من بعد اختياري نفارا
مضى ابن أبي الرضى حمدا وولى ... وسافر سفرة ما عاد أصلا
ترى هل كان في الدنيا وولى
فعن أولاده وعن الذراري توارى
وأوحش حين سار إلى القفار ديارا
مضى ابن أبي الرضى قاضي القضاة ... وأصبحت المنازل خاليات
سيسكن في القصور العاليات
ويلبس من حرير الافتخار شعارا
ويلقى الجبر بعد الإنكسار فخارا
عليه يا دموعي هيا هيا ... فقلبي قد كواه البين كيا
أقول وإن قضى لو كان حيا
على ابن أبي الرضى مر اصطباري وسارا
وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا
قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان ابن أبي الرضى من رجال العلم بجده
وهمته، وكان يقوم بأمر الشرع ويشتد في إنكار المنكرات اهـ.(5/104)
وقد عدمته أهل الاختيار بدارا
فريدا كان في نقل المذاهب ... فللطلاب كم أبدى غرائب
وفي حلب لقد صعد المناصب
ولا يسعى لأبواب الكبار نهارا
ولم يقطع لأهل الافتقار مزارا
جواد كان في رد الجواب ... وكم في العلم ألف من كتاب
وميز للمشايخ والشباب
وكانت منه أهل الاشتهار فخارا
ولا يرعى الملوك ولا يداري إمارا
لقد بطل الرشى لما تقضّى ... وكم قد رد بعد الحل أرضا
وكان الغيظ يكظمه ويرضى
لمن أسعى لقد زاد افتكاري وحارا
وعقلي طار من بعد اختياري نفارا
مضى ابن أبي الرضى حمدا وولى ... وسافر سفرة ما عاد أصلا
ترى هل كان في الدنيا وولى
فعن أولاده وعن الذراري توارى
وأوحش حين سار إلى القفار ديارا
مضى ابن أبي الرضى قاضي القضاة ... وأصبحت المنازل خاليات
سيسكن في القصور العاليات
ويلبس من حرير الافتخار شعارا
ويلقى الجبر بعد الإنكسار فخارا
عليه يا دموعي هيا هيا ... فقلبي قد كواه البين كيا
أقول وإن قضى لو كان حيا
على ابن أبي الرضى مر اصطباري وسارا
وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا
قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان ابن أبي الرضى من رجال العلم بجده
وهمته، وكان يقوم بأمر الشرع ويشتد في إنكار المنكرات اهـ.
443 - أشقتمر المنصوري نائب حلب المتوفى سنة 791
قال في المنهل الصافي: أشقتمر بن عبد الله المارديني الناصري الأمير سيف الدين، أحد أعيان الأمراء الأكابر في عدة دول. أصله من مماليك صاحب ماردين، وبعثه إلى الملك الناصر حسن فرباه الناصر وأدبه، وكان يعرف ضرب العود ويحسن قول الموسيقى ويعرف عدة فنون. ولما رأى الناصر منه حسن الحزم والمعرفة قربه وأدناه وأمّره. ثم تنقل بعد موت أستاذه السلطان حسن في عدة وظائف إلى أن ولاه الملك الأشرف شعبان بن حسين نيابة حلب بعد وفاة الأمير قطلوبغا الأحمدي فباشرها نحوا من سنة ونصف، وعزل عنها في شهر رجب سنة ست وستين بالأمير جرجي الناصري الإدريسي، ثم ولي نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قشتمر المنصوري بحكم إحضاره إلى القاهرة، فدام في نيابة طرابلس إلى أن أعيد إلى نيابة حلب عوضا عن قشتمر المنصوري أيضا في سنة إحدى وسبعين وسبعماية، وولي من بعده نيابة طرابلس الأمير أيدمر الدوادار، فباشر نيابة حلب سنتين وعزل في سنة ثلاث وسبعين عنها بالأمير أيدمر الدوادار وأعيد إلى نيابة طرابلس والسواحل عوضا عن أيدمر المذكور، ثم أعيد إلى نيابة حلب مرة ثالثة عوضا عن أيدمر سنة أربع وسبعين، ثم عزل عن نيابة حلب سنة خمس وسبعين بالأمير أيدمر الخوارزمي، وولي نيابة الشام فباشرها أربعة أشهر وعزل وأعيد إلى نيابة حلب، وفي هذه الولاية الرابعة أقام مدة وغزاسيس وفتحها في سنة ست وسبعين وسبعماية، وكان فتحا عظيما. وفيه يقول الشيخ بدر الدين بن حبيب:
الملك الأشرف إقباله ... يهدى له كلّ عزيز نفيس
لما رأى الخضراء في شامه ... تختال والشقراء عجبا تميس
وعاين الشهباء في ملكه ... تجري وتبدي ما يسر الجليس
ساق إلى سوق العدا أدهما ... وساعد الجيش على أخذ سيس
وفي هذا المعنى أيضا يقول العلامة زين الدين بن عمر الوردي:
يا سيد الأمراء فتحك سيسا ... سرّ المسيح وأحزن القسّيسا
والمسلمون بذاك قد فرحوا وقد ... حمدوا عليه الواحد القدّوسا
واستمر الأمير أشقتمر في نيابته هذه إلى أن عزل عنها بالأمير منكلي بغا الأحمدي وقبض عليه وحبس بالإسكندرية مدة، ثم أطلق من السجن ورسم له بالإقامة بالقدس بطّالا، فتوجه إلى القدس فأقام به إلى أن أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضا عن الأمير تمرباي الأفضلي الأشرفي سنة إحدى وثمانين، ثم نقل بعد عشرة أشهر إلى نيابة دمشق عوضا عن الأمير بيدمر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وسبعماية إلى أن عزل في شهر المحرم سنة أربع وثمانين ورسم له بالتوجه إلى القدس بطّالا، فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة الشام من قبل الملك الظاهر برقوق في سنة ثمان وثمانين، ثم عزل بعد أربعة أشهر بحكم عجزه ورسم له بالإقامة بحلب بطّالا، فأقام إلى أن توفي بها في شهر شوال سنة إحدى وتسعين وسبعماية.(5/105)
يا سيد الأمراء فتحك سيسا ... سرّ المسيح وأحزن القسّيسا
والمسلمون بذاك قد فرحوا وقد ... حمدوا عليه الواحد القدّوسا
واستمر الأمير أشقتمر في نيابته هذه إلى أن عزل عنها بالأمير منكلي بغا الأحمدي وقبض عليه وحبس بالإسكندرية مدة، ثم أطلق من السجن ورسم له بالإقامة بالقدس بطّالا، فتوجه إلى القدس فأقام به إلى أن أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضا عن الأمير تمرباي الأفضلي الأشرفي سنة إحدى وثمانين، ثم نقل بعد عشرة أشهر إلى نيابة دمشق عوضا عن الأمير بيدمر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وسبعماية إلى أن عزل في شهر المحرم سنة أربع وثمانين ورسم له بالتوجه إلى القدس بطّالا، فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة الشام من قبل الملك الظاهر برقوق في سنة ثمان وثمانين، ثم عزل بعد أربعة أشهر بحكم عجزه ورسم له بالإقامة بحلب بطّالا، فأقام إلى أن توفي بها في شهر شوال سنة إحدى وتسعين وسبعماية.
وكان أميرا جليلا شهما شجاعا مدبرا سيوسا ذا رأي ودهاء ومعرفة، مع دين وعدل في الرعية، طالت أيامه في السعادة والولايات الجليلة وتردد في نيابة حلب منذ كان الملك الظاهر جنديا إلى أن وليها من قبله وهو سلطان. وكان مشكور السيرة في أحكامه يميل إلى الخير والصلاح، ولكنه كان مغرما بجمع المال وعمر أملاكا كثيرة بحلب وعمر عند باب النيرب (في محلة القصيلة) مدرسة وقرر فيها طلبة ومقرئين، وله عدة مآثر رحمه الله تعالى اهـ.
أقول: ذكرت في الجزء الثاني (ص 363) ولاية قشتمر المنصوري لحلب سنة 770 وأنه قتل في هذه السنة هو وولده محمد ودفنا في جامع المقامات (خارج باب المقام)، وذكرت ما كتب على قبريهما، ثم ذكرت أن من آثاره الجامع المعروف بالسكاكيني في محلة القصيلة وتربة ظاهر باب المقام، وذلك سهو مني نشأ من تقارب الاسمين. والصواب أن الباني للجامع وهو مدرسة أيضا أشقتمر المنصوري صاحب هذه الترجمة، ويرشدك إلى ذلك أن الجامع بني سنة 773كما هو مكتوب على بابه كما تقدم وقشتمر كانت وفاته سنة 770.
الكلام على 49565 تربة أشقتمر:
قال أبو ذر في الكلام على الترب: (تربة أشقتمر): شمالي الفردوس، أنشأها أشقتمر كافل حلب، وكان إذا عزل عن حلب يجلس فيها. وهذه التربة محكمة البناء لها بوابة وعليها
قبو معقود مفروش بالرخام ودكك رخام وحوض ماء من قناة حيلان، وداخل هذه التربة قبة عظيمة بمناظر على هذا الحوض وهو مدفون بهذه القبة، وقد دفنت في هذه القبة بنت شيخ الإسلام ابن الشحنة محب الدين وجماعة من ذريته. وغربي هذه القبة حوش وبه إيوان ومدفون بهذه الحوش جماعة ممن لاذ ببني الشحنة اهـ (1).(5/106)
قال أبو ذر في الكلام على الترب: (تربة أشقتمر): شمالي الفردوس، أنشأها أشقتمر كافل حلب، وكان إذا عزل عن حلب يجلس فيها. وهذه التربة محكمة البناء لها بوابة وعليها
قبو معقود مفروش بالرخام ودكك رخام وحوض ماء من قناة حيلان، وداخل هذه التربة قبة عظيمة بمناظر على هذا الحوض وهو مدفون بهذه القبة، وقد دفنت في هذه القبة بنت شيخ الإسلام ابن الشحنة محب الدين وجماعة من ذريته. وغربي هذه القبة حوش وبه إيوان ومدفون بهذه الحوش جماعة ممن لاذ ببني الشحنة اهـ (1).
444 - محمد بن بلبان المتوفى سنة 792
محمد بن بلبان الأمير ناصر الدين ابن الأمير سيف الدين المهمندار الحلبي.
أحد الأمراء مقدمي الألوف بحلب، ثم ولاه الظاهر برقوق نيابة قلعة حلب عوضا عن الأمير ناصر الدين محمد بن سلار، فاستمر بها إلى أن اتفق عصيان الأمير يلبغا الناصري نائب حلب وافقه الأمير ناصر الدين هذا على العصيان وسلم إليه قلعة حلب بعد قتال هين في الظاهر، وذلك في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وكان للأمير ناصر الدين ابنان حاجبان بحلب ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد الذي ولي بعد ذلك نيابة حماة، وكانا أيضا متفقين مع الناصري، فلما توجه يلبغا الناصري إلى القاهرة وملكها إلى أن وقع بينه وبين منطاش وقبض منطاش على الناصري وحبسه بالإسكندرية، ثم خرج منطاش بالملك المنصور إلى جهة البلاد الشمالية لقتال برقوق وقد خرج من حبس الكرك وواقعه وانتصر برقوق وتوجه إلى الديار المصرية، واستمر منطاش بدمشق أرسل طلب الأمير ناصر الدين هذا إليه، فتوجه إليه وقبض عليه وصادره ثم قتله بدمشق في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة رحمه الله.
وكان أميرا خيرا دينا من بيت رياسة وعراقة، وكان له ثروة عظيمة وحشم وبيتهم معروف بحلب اهـ. (المنهل الصافي).
445 - طرنطاي مجدد المدرسة الطرنطائية المتوفى سنة 792
طرنطاي بن عبد الله الأمير سيف الدين نائب دمشق.
__________
(1) انظر الجزء الثاني (ص 365).(5/107)
كان أولا من جملة أمراء دمشق، ثم ولي حجوبية الحجاب بها، ولما ولي الحجوبية شدد على العوام وأبادهم وحرض على النهي عن بيع المنكرات وعن السكر وعاقب على ذلك خلائق، واستمر على ذلك مدة وعظمت حرمته وقويت هيبته على العوام إلى الغاية وحسنت به أحوال الرعية، واستمر على ذلك إلى أن طلب الأمير ألطنبغا الجوباني نائب دمشق إلى الديار المصرية، وأمسكه الملك الظاهر برقوق بالقرب من قطيا قبل وصوله إلى القاهرة وحبسه بالإسكندرية، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر إلى طرنطاي المذكور تشريفا بنيابة دمشق عوضا عن الجوباني وذلك في سلخ شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فوصل إليه التشريف السلطاني في أوائل ذي القعدة، واستمر في نيابة دمشق واشتغل بحرب منطاش عن العوام.
واستمر طرنطاي في نيابة دمشق إلى أن قدمها يلبغا الناصري ومنطاش، وخرج إليهم طرنطاي صحبة العسكر السلطاني المصري والشامي وتقاتل مع الناصري ومنطاش حتى انهزم وقتل الأمير جاركس الخليلي أمير أخور وقبض الأتابك أيتمش على طرنطاي المذكور وحبس بقلعة حلب إلى أن ملكها الأمير كمشبغا الحموي بعد خروج برقوق من حبس الكرك، أطلقه وأنعم عليه، وأقام عند كمشبغا وقاتل أهل بانقوسا معه، ثم سيره إلى الملك الظاهر برقوق فوافاه بظاهر دمشق فقبل الأرض بين يديه وأقام عنده حتى وصل منطاش بالملك المنصور إلى ظاهر دمشق وواقع برقوق، فقاتل الأمير طرنطاي المذكور يومئذ بين يدي برقوق حتى قتل في المعركة في يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة.
وكان أميرا جليلا مهابا مطاعا عادلا في حكمه مشهور السيرة منقادا إلى الخير، جدد بحلب المدرسة خارج باب النيرب وعمل لها خطبة ووقف على ذلك وقفا جيدا. ومات وهو من أبناء الخمسين رحمه الله (المنهل الصافي).
الكلام على 49566 المدرسة الطرنطائية:
مكان هذه المدرسة في آخر محلة باب النيرب في المحلة المعروفة الآن بمحلة محمد بك، وهي مدرسة شاهقة البناء تضارع القلاع في إحكام البناء وإتقانه، ومكتوب على بابها كتابة حديثة استند فيها على ما أخبرت على ما رؤي ببعض الكتب وهي: [أوقف هذين الجامع
والمدرسة عفيف ابن محمد شمس الدين سنة 785] وفي شرقي المدرسة وغربيها رواقان ضيقان في كل واحد منهما أربعة عواميد عظيمة، ووراءها أربع حجر صغار، وفوق هذين الرواقين رواقان آخران ضيقان أيضا، ووراء كل منهما خمس حجر. وشمالي المدرسة إيوان كبير لم تزل قنطرته القديمة موجودة، وقد سد من القنطرة إلى الأرض واتخذ زاوية يقيم فيها الأذكار بنو البادنجكي. وهناك في قبلي المدرسة إيوان عن يمينه حجرة واسعة في شماليها ضريح لبعض مشايخ الطريقة الأوسية وأظنه من أهل القرن العاشر لزم هذه المدرسة إلى أن مات فدفن هنا.(5/108)
مكان هذه المدرسة في آخر محلة باب النيرب في المحلة المعروفة الآن بمحلة محمد بك، وهي مدرسة شاهقة البناء تضارع القلاع في إحكام البناء وإتقانه، ومكتوب على بابها كتابة حديثة استند فيها على ما أخبرت على ما رؤي ببعض الكتب وهي: [أوقف هذين الجامع
والمدرسة عفيف ابن محمد شمس الدين سنة 785] وفي شرقي المدرسة وغربيها رواقان ضيقان في كل واحد منهما أربعة عواميد عظيمة، ووراءها أربع حجر صغار، وفوق هذين الرواقين رواقان آخران ضيقان أيضا، ووراء كل منهما خمس حجر. وشمالي المدرسة إيوان كبير لم تزل قنطرته القديمة موجودة، وقد سد من القنطرة إلى الأرض واتخذ زاوية يقيم فيها الأذكار بنو البادنجكي. وهناك في قبلي المدرسة إيوان عن يمينه حجرة واسعة في شماليها ضريح لبعض مشايخ الطريقة الأوسية وأظنه من أهل القرن العاشر لزم هذه المدرسة إلى أن مات فدفن هنا.
ولما توفي شيخ السجادة في الزاوية التي ذكرناها العالم العامل الشيخ محيي الدين البادنجكي وذلك في 11رجب سنة 1327دفن في هذه الحجرة في شماليها ملاصقا لضريح الأوسي رحمه الله.
وفي صدر الإيوان قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة إلى الآن، وشمالي المدرسة منارة صغيرة عمرت سنة 1293من وصية بعض الموثرات.
وفي صحن المدرسة مغارة منقورة نقرا تتجلى فيها صفة القدم، وفي وسطها حوض حجارته كبيرة جدا وفوقه منفذ إلى الصحن يسحب منه الماء. وغربي هذه المغارة باب يأخذ إلى مغارة يقال لها مغارة الشعارة وهي شرقي المدرسة. ولم يبق من أوقاف المدرسة ما يستحق الذكر. وشمالي باب المدرسة باب آخر قديم داخله دار يسكنها الآن شيخ الزاوية المذكورة، ويظهر أن هذه الدار كانت خانكاه تابعة لهذه المدرسة وهيئة البناء تفيد أن الباني واحد.
446 - علي بن طنبغا الموقّت المتوفى سنة 793
علي بن طنبغا الإمام علاء الدين أبو الحسن الحلبي الموقت.
كان إماما في علوم الهيئة والحساب والجبر والمقابلة والأصلين عالما في ذلك ذكيا، أخذ هذه العلوم عن العجم الواردين إلى حلب فإنه لم يرحل من حلب. كان يسكن بجامع ألطنبغا وهو موقت البلد. واشتغل عليه في العلوم المذكورة جماعة من مشايخنا كالإمام أبي البركات موسى الأنصاري والشيخ شمس الدين محمد بن يعقوب النابلسي، وقرأ عليه أيضا
الشيخ شرف الدين الداديخي وشيخنا الشيخ عز الدين الحاضري وغيرهم.(5/109)
كان إماما في علوم الهيئة والحساب والجبر والمقابلة والأصلين عالما في ذلك ذكيا، أخذ هذه العلوم عن العجم الواردين إلى حلب فإنه لم يرحل من حلب. كان يسكن بجامع ألطنبغا وهو موقت البلد. واشتغل عليه في العلوم المذكورة جماعة من مشايخنا كالإمام أبي البركات موسى الأنصاري والشيخ شمس الدين محمد بن يعقوب النابلسي، وقرأ عليه أيضا
الشيخ شرف الدين الداديخي وشيخنا الشيخ عز الدين الحاضري وغيرهم.
حكى لي بعض طلبته أن قاضي القضاة جمال الدين محمود بن الحافظ الحنفي قال له يوما: يا كافر، فقال له ابن طنبغا: بم عرفت الله، فسكت القاضي جمال الدين المذكور، فقال علاء الدين بن طنبغا: من هو الكافر؟ الذي يعرف الله أو الذي ما يعرف الله؟
ثم إن القاضي جمال الدين المذكور بعد ذلك جعل يعظمه، وكان يقال إن عقيدته فاسدة وينسب إلى ترك الصلاة وإلى شرب الخمر، ولم يكن عليه وضاءة ولا أبهة العلم.
ولما كان الأمير منطاش بدمشق في سنة اثنتين وتسعين وسبعماية بعد أن كسر من الملك الظاهر برقوق سير طلب علاء الدين بن طنبغا إلى دمشق ليسأله عن أمور، فلما وصل إليه سأله عن الطالع ذلك الوقت، فقال: إن تحرك شخص فيه فإن كان تاجرا انكسر، فاتفق أن منطاش رحل من دمشق تلك الليلة ولم يقاتل العسكر المصري الوارد عليه من القاهرة لقتاله، ثم جاء علاء الدين بن طنبغا إلى حلب ورأيته أنا بحلب وكان خاملا لم يكن عليه وضاءة ولا نور العلم.
وأخبرني شيخنا أبو إسحق الحافظ قال: سألت قاضي القضاة شرف الدين أبا البركات الأنصاري وشمس الدين أبا عبد الله النابلسي عنه فقالا (1): إنه إذا حان وقت الصلاة فيستحي منا فيقوم يتوضأ ويصلي.
وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وسبعماية تخمينا بحلب عفا الله عنه وسامحه اهـ (الدر المنتخب).
447 - محمد بن نجم النجار المتوفى سنة 794
محمد بن نجم بن محمد بن النجار الحلبي شمس الدين أبو عبد الله الحنفي.
كان أبوه نجارا فنشأ في صناعته، ثم اشتغل بالعلم فمهر وتميز إلى أن أفتى ودرس، وناب في الحكم عن القاضي جمال الدين بن العديم مدة، وكان له مال وثروة وسكن بالحلاوية مع حسن الشكالة. ومات سنة أربع أو 795بحلب. ذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب.
__________
(1) في الأصل: فقال.(5/110)
448 - محمد بن أحمد بن المهاجر الكاتب الحنفي المتوفى سنة 794
محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الله المهاجر الحلبي الملقب شمس الدين، كاتب السر بها ثم قاضي القضاة الشافعي.
كان إنسانا حسنا فاضلا أديبا فقيها على مذهب الحنفية، وله الكتابة الحسنة والنظم الرائق والنثر الفائق، كان أولا حنفيا معدودا من الفقهاء الحنفية بحلب، ولي كتابة سر حلب مدة زمانية ثم عزل عنها ثم سافر إلى القاهرة وصار شافعي المذهب، وولي قضاء الشافعية بحماة ثم انتقل إلى حلب وولي بها قضاء القضاة الشافعية، واستمر مدة نحو سنتين وباشرها مباشرة حسنة، ثم عزل عن قضاء حلب بابن أبي الرضى لما أفضى الأمر إلى الأمير يلبغا في تلك المدة، فلما استقر الملك الظاهر برقوق في السلطنة سافر إلى مصر فأعطاه السلطان نظر الجيش بحلب فلم يرتضه، ثم عاد إلى حلب على غير وظيفة بل على وظائفه، ومنها مشيخة خانقاه الملك الصالح، واستمر بحلب إلى أن توفي.
أنشدنا الإمام الحافظ أبو زرعة بن العراقي بالقاهرة، أنشدنا الشيخ جبريل بن محمد ابن علي المقدسي قال: أنشدنا قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن المهاجر لنفسه:
زر أشرف الرسل الكرام وإن نبا ... بك منزل أو شطّ بعد مزاره
فعليك بالآثار يا مغرى به ... لتشاهد الأنوار من آثاره
وأنشدنا أبو زرعة قال: أنشدنا جبريل المذكور قال: أنشدنا ابن المهاجر لنفسه:
قلن (1) لمن عاب شعري ... بالجهل منه إلى كم
عليّ نحت القوافي ... وما عليّ إذا لم (2)
وأنشدني علاء الدين المذكور قال: أنشدني القاضي شمس الدين بن المهاجر لنفسه في صاحب من السامرة بدمشق:
سامرني في جلّق صاحب ... تبا له من صاحب ماكر
__________
(1) لعل الصواب: قلت.
(2) في البيت نظر إلى قول البحتري:
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر(5/111)
ورام إضلالي بتنميقه ... قلت فما خطبك يا سامري
ومن نظمه في حمام الرسائل:
لله در حمام البشر حيث أتى ... يطيّر الهمّ إذ ينقضّ من أفقه
أكرم به واردا عمّ الهناء به ... وطائرا ألزموه العشر في عنقه
توفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة في ربيع الأول اهـ. (الدر المنتخب).
449 - محمود بن محمد الحافظي المتوفى سنة 794
محمود بن محمد بن إبراهيم بن سنبكي بن أيوب بن قراجا المقري بن يوسف قاضي القضاة جمال الدين ابن قاضي القضاة حافظ الدين ابن الشيخ تاج الدين القيصري الحلبي الحنفي المعروف بالحافظي، قاضي قضاة حلب ورئيسها، هو من بيت رئاسة وفضل.
تولى قضاء حلب عوضا عن قاضي القضاة محب الدين بن الشحنة في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، واستمر إلى أن توفي بحلب سنة أربع وتسعين وسبعمائة. قال البدر العيني:
كان رجلا دينا عفيفا ولديه بعض فضيلة وبعض كتب على المجمع شرحا مطولا وسماه «الأجمع» انتهى. (المنهل).
450 - علي بن عبد الله بن يوسف البيري المتوفى سنة 794
علي بن عبد الله بن يوسف القاضي علاء الدين البيري الحلبي الأديب المنشىء الكاتب.
نشأ بحلب وبرع في الإنشاء والأدب، وخدم الملوك إلى أن اتصل بنائبها الأمير يلبغا الناصري، ولما قدم صحبته إلى الديار المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق وحبسه في الكرك في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وصار الأمير يلبغا الناصري مدبر مملكة الملك المنصور حاجي وبيده العقد والحل جعل المذكور في الإنشاء وعظم قدره في تلك الأيام وزادت حرمته، إلى أن قبض منطاش على الناصري في السنة المذكورة وحبسه بالإسكندرية إلى أن أطلقه برقوق بعد عوده إلى الملك وولاه نيابة حلب حسبما نذكره في محله إن شاء الله تعالى، خلع السلطان على علاء الدين المذكور واستكتبه في الإنشاء حتى قدم القاضي علاء
الدين علي بن عيسى الكركي من الكرك وأقره السلطان في كتابة السر، واختص بالظاهر في الظاهر وفي الباطن غير ذلك، حتى تمكن الملك الظاهر من الأمير يلبغا الناصري وقبض عليه بحلب وقتله بها قبض على علاء الدين المذكور وحمله معه إلى القاهرة في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وسبعماية.(5/112)
نشأ بحلب وبرع في الإنشاء والأدب، وخدم الملوك إلى أن اتصل بنائبها الأمير يلبغا الناصري، ولما قدم صحبته إلى الديار المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق وحبسه في الكرك في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وصار الأمير يلبغا الناصري مدبر مملكة الملك المنصور حاجي وبيده العقد والحل جعل المذكور في الإنشاء وعظم قدره في تلك الأيام وزادت حرمته، إلى أن قبض منطاش على الناصري في السنة المذكورة وحبسه بالإسكندرية إلى أن أطلقه برقوق بعد عوده إلى الملك وولاه نيابة حلب حسبما نذكره في محله إن شاء الله تعالى، خلع السلطان على علاء الدين المذكور واستكتبه في الإنشاء حتى قدم القاضي علاء
الدين علي بن عيسى الكركي من الكرك وأقره السلطان في كتابة السر، واختص بالظاهر في الظاهر وفي الباطن غير ذلك، حتى تمكن الملك الظاهر من الأمير يلبغا الناصري وقبض عليه بحلب وقتله بها قبض على علاء الدين المذكور وحمله معه إلى القاهرة في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وسبعماية.
وكان فاضلا بارعا له اليد الطولى في النظم والنثر والترسل، وله تصانيف جيدة في ذلك منها «تلوين الحريري من تكوين البيري» يشتمل على ماله من منظوم ومنثور، وله غير ذلك. ومن شعره:
أرى البدر لما أن دنا لغروبه ... وألبس منه أزرق الماء أبيضا
توهم أن البحر رام التقامه ... فسل له سيفا عليه مفضّضا
وله عفا الله عنه:
شعر حبيبي فوق أردافه ... سود ليال القطع والوصل بيض
يا شعره النامي ويا ردفه ... أوقعتماني في الطويل العريض
اهـ. (المنهل الصافي).
وقال في الدرر الكامنة في ترجمته: نشأ بحلب وتعانى الأدب فمهر في النظم والنثر والإنشاء، وكتب الخط الحسن، ورتب في توقيع الدست، وكان أخذ عن أبي جعفر وأبي عبد الله الأندلسيين في العربية وغيرها. ومن عنوان شعره وكتبهما إلى صديق له كان يجالسه في صحن الجامع:
غبت عن الصحن يا حبيبي ... فما على حسنه طلاوه
يا حلو يا رائق المعاني ... ما راق صحن بلا حلاوه
وترجمه في الدر المنتخب بنحو ما تقدم ومما قاله: وكان القاضي علاء الدين المذكور أديبا بليغا كاتبا ويحفظ عدة مقامات من مقامات الحريري، طارح أدباء زمانه وطارحوه وكتبوا إليه وكتب إليهم نظما ونثرا، وكان بينه وبين القاضي شمس الدين محمد بن المهاجر كاتب السر بحلب (1) إذ ذاك بعض شيء في الباطن، فاتفق أن ابن مهاجر عمل لابنه عرسا
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: بحماة.(5/113)
فأرسل إليه القاضي علاء الدين البيري رأس غنم وكتب إليه على ما أخبرت:
ليهن نجلك عرس ... بعرس خير كريمه
فاملك أمان أمان ... أحوالها مستقيمه
واقبل غنيمة عبد ... يرى القبول غنيمه
وردها عليه القاضي شمس الدين بن المهاجر وكتب إليه:
يا من غدا ذا أياد ... قد أخجلت كل ديمه
الغنم بالغرم يجزى ... والعبد يحصي غريمة
غنيمة لك خذها ... البعد عنك غنيمه
وأنشدني نظام الدين قال: أنشدني القاضي علاء الدين البيري لنفسه:
لله مملوك غدا مالكي ... إذ مر لا يحنو على هالك
يا شافعي في الحب كن مالكي ... فإن مملوكي غدا مالكي
وله في حمام الرسائل:
أهلا بورقاء إذا وافت محصنة ... تهدي من البشر ما أوصافه أرجه
جاءت مغردة فالنفس قد طربت ... وكيف لا وهي بالأرواح ممتزجه
451 - أحمد بن محمد بن زهرة المتوفى سنة 795
أحمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن زهرة بن علي الحسيني العلوي الحلبي شيخ الشيوخ بحلب، يكنى أبا طالب.
ولد في رجب سنة 17. وكان جليلا فاضلا ساكنا لم يضبط عليه في حق أحد من الصحابة ما يكره، بل ذكر أبو بكر عنده مرة فقال شخص: رضي الله عنه، فقال:
هو أبو بكر جدي، يشير إلى أن جعفر بن محمد الصادق جده الأعلى كانت أمه من ذرية أبي بكر الصديق وهي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. مات في صفر سنة 795اهـ.(5/114)
452 - عمر بن محمود الكركي المتوفى سنة 797
عمر بن محمود بن محمد الشيخ زين الدين أبو حفص الكركي الشافعي شيخنا نزيل حلب.
أخبرني أن مولده سنة ثمان وعشرين. قدم حلب في سنة بضع وأربعين وسبعماية واشتغل على الشيخ زين الدين الباريني وغيره في الفقه، وعلى الإمام أبي جعفر المغربي في النحو، وحفظ التنبيه والحاوي في الفقه وألفية ابن مالك في النحو، ودأب وحصل ورحل إلى دمشق فقرأ بها على الحسباني وبهاء الدين أبي البقا، ثم رجع إلى حلب وأقام بها يفتي ويشتغل.
وكان رجلا فاضلا دينا مواظبا على وظائفه عاقلا وحصل ثروة.
وكان أولا يجلس مع العدول بباب الأسدية للشهادة ومنها حصل الثروة، ثم ترك ذلك واشتغل بالاشتغال بالعلم ليس إلا مقبلا على شأنه. قرأت عليه غالب منهاج النووي في الفقه بحثا.
توفي رابع شهر رمضان سنة سبع وتسعين وسبعماية بحلب ودفن خارج باب المقام جوار قبر شيخه الشيخ زين الدين الباريني رحمه الله تعالى اهـ. (الدر المنتخب).
453 - يوسف بن الكيال الصوفي المتوفى أواخر الثامن
يوسف بن الكيال الحلبي الصوفي.
ذكر الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي أنه حدثه بالتائية لابن الفارض المسماة «نظم السلوك» وأنه سمعها على سبط ابن الفارض بسماعه من جده وأنه سمع على السبط أيضا الترجمة التي جمعها لجده وهي في أول ديوانه قال: وما أظنه كان معتمد الكذب لأنه صوفي متقشف متعفف كثير السكوت، ولكنه ليس من أهل الحديث فيعرف استقامة شيء أم لا. وكان أكثر إقامته بقلعة المسلمين من معاملة حلب اهـ.(5/115)
454 - إبراهيم بن عبد الله الخلاطي المتوفى سنة 799
إبراهيم بن عبد الله الخلاطي الشريف الريودي (1).
ولد سنة عشرين تقريبا، وتفقه ببلده ومهر في عدة فنون، وقدم حلب فسكن في زاوية وهرع الناس إليه. وكان قوي النفس فعظم عند أهل الدولة. وكان ينسب إلى عمل إتقان الطب وغيره من الفنون، فبلغ الظاهر خبره فاستحضره من حلب وعظمه، وكان ينسب إلى عمل الكيمياء، والمشهور أنه كان يتقن صناعة اللازورد وحصل منها مالا جما، وكان السلطان ربما مر عليه بداره يكلمه وهو راكب وهو مطل عليه من طاق، وكان الناس يترددون إليه ولا يخرج من منزله إلا نادرا. ومات في جمادى الأولى سنة 799وكانت جنازته حافلة وظهر في تركته من آلات الكيمياء أشياء ولم يسمح لأحد بتعليم ما كان يعرفه من اللازورد.
455 - محمد بن مبارك البشناقي المتوفى سنة 800
محمد بن مبارك بن عمر البشناقي الحلبي الرومي الأصل الحنفي شمس الدين.
قرأ الهداية على التاج بن البرهان، وأخذ عن شمس الدين محمد بن الأفرم وحج معه ولازمه. ودخل القاهرة وأخذ عن علمائها، ثم رجع إلى حلب فأقام بها يفتي ويدرس ويشغل مع الخير والسكون والوقار. مات في رمضان سنة ثمانمائة 800اهـ.
456 - الشيخ إبراهيم اللازوردي المتوفى سنة 800
الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللازوردي.
كان يذكر عنه عجائب وغرائب ومكاشفات ويتكلم في فنون عديدة ولا يعلم من أين يسترزق، فبعض الناس يقول: من الكيمياء، وبعضهم يقول: من اللازورد، وبعضهم يقول: معه جوهر، وأقوال الناس فيه مختلفة، وأناس يعتقدون ولايته، وأناس يقولون حكيم، وأقول: هذا الرجل كما قيل:
__________
(1) في «الدرر الكامنة»: اللازوردي.(5/116)
إنما يعرف ذا الفضل من الفضل ذووه قال المؤيد: وأما الشيخ إبراهيم اللازوردي فهو رجل صالح زاهد ورع سكن خارج حلب قريب ناحية بانقوسا بقرية بابلّى، وكان له بيت به حوش وفيه دجاج كل واحدة مشكلة مربوطة بمفردها ولهم خادم مخصوص بهم يغسل القمح ويطعمهم ولا يدعهم يأكلون شيئا من القمامات والمزابل كعادة الدجاج، وذلك الخادم يكنس ما تحتهم ويلتقط البيض ولا يدع البيضة تسقط على الأرض. وعنده بقر ترعى في أراض هو يعرفها ويستطيب مرعاها. وكان يقول: بين بابلّى وجبرين عشب يساوي ملكا. وله بيت خاص به، وله خادم يدعى الولد إذا طلب منه شيء من المأكول يأمره بالدخول إلى ذلك البيت فيأخذ ما أراد. وكان لا يشتري شيئا من المأكولات ولا غيرها.
(ذكر) الحافظ بن حجر قال: خرج كافل حلب المحروسة في أيام الربيع متنزها فانتهى إلى أرض حيلان والشيخ إذ ذاك جالس على حافة النهر، فنزل الكافل وأرسل له بحلوى فقبلها وأدار ظهره إلى القاصد وأخرج من خرج قصعة كبيرة من أبنوس وفيها حلاوة عجمية سخنة وأقرصة غير مكسورة، وأمر القاصد بحملها إلى الكافل، فعجب الكافل من ذلك وقال لخواصه الذين معه: هذه القصعة لا تدخل في خرج لكبرها، وهذه الأقراص كيف دخلت في الخرج وما تكسرت.
(وقال ابن شهبة): كان يحضر إلى الشيخ المذكور أصحاب الأمراض فيصف لهم ما يلائمهم في الباطن ويعطيهم الأدوية من عنده، فاتفق أنه جاء إليه شخص وشكا السعال، فأمره بشرب الخل، فقيل له في ذلك فقال: هذا شكله شكل مقلّش، والمقلّش يأخذ ما التقطه ويضعه في فيه فركب شيء على ريته، والخل يزيل ما عليها. قال: فشرب ذلك الرجل فشفي. وله غير ذلك من المناقب.
(وقال ابن شهبة في تاريخه): وفي سنة سبع وثمانين وصل إلى دمشق من حلب الشيخ إبراهيم اللازوردي مطلوبا إلى السلطان معظما وهو من الزهاد وله خبرة بالطب وغير ذلك، ثم توجه إلى القاهرة واجتمع بالسلطان برقوق هو والعبد الصالح إبراهيم بن زقاعة فألزمهما السلطان بمداواة ولده، فكان يطلب من الشيخ ابن زقاعة العقاقير فيحضرها للدواء والمرض يزداد، فتأدبا وتركا المداوة وقالا للسلطان: هذا أمر لا يتم، فمات الولد.(5/117)
(وذكر الدميري) قال: عرض لبعض الحلبيين جنون، وكان الشيخ إبراهيم اللازوردي إذ ذاك بدمشق، فكتب إليه أهله يخبرونه بحاله، فأرسل إليه بشراب في إناء، فسقي منه فشفي وكتب في صحيح مسلم، ثم عاوده فسقي منه فشفي وعاود الكتابة، فلم يزل كذلك حتى فرغ الشراب فلم يعاوده شيء من ذلك.
(وأما) أقوال الناس واختلافهم في أمره فهي عادتهم في أهل الخير والصلاح والعفاف والانقطاع عن الناس، فتارة يرمونه باعتقاد الفلاسفة، وتارة يرمونه بالجنون، وتارة بمعرفة الكيمياء إلى غير ذلك، والرجل لسان حاله يقول:
ما تم إلّا ما يريد ... فدع همومك واطّرح
واترك خواطرك التي ... شغلت فؤادك تسترح
قال الشريف حسين الأخلاطي: اختار الشيخ إبراهيم الإقامة بقرية بابلّى خارج حلب المحروسة واستحسن الإقامة بها، وكان رجلا صالحا وترجمته مشهورة.
وكانت وفاته بالقاهرة سنة ثمانماية اهـ. (الكواكب المضية).
457 - سولي بن قراجا الدلغادري المتوفى سنة 800
سولي بن قراجا بن دلغادر التركماني أمير التركمان الأوجاقية والبوزاوقية نائب أبلستين.
وليها بعد أخيه غرس الدين خليل وطالت مدته بها، واتفقت له أمور مع العسكر الحلبي غير مرة حتى أمسك واعتقل بقلعة حلب مدة إلى أن تحيل وهرب إلى بلاده. وسبب ذلك أن الأمير يلبغا الناصري أطلقه من الحبس وأمره بالإقامة بحلب، ثم خرج الناصري في بعض الأيام إلى الميدان وسولي هذا معه، فلما كان الليل هرب وعلم الناصري بذلك فركب خلفه ساعة، ثم عاد إلى مكانه، ويقال إنه هرب بإذن الناصري له في الباطن، ثم وقع له أمور وحوادث، ولا زال عاصيا على السلطنة حتى قتل غيلة على فراشه في سنة ثمانمائة، قتله شخص يقال له علي خان بسكين في خاصرته وهو نائم مع امرأته في بيت خركاه في أول الليل بالقرب من مرعش، وذلك بممالأة الملك الظاهر برقوق على ذلك من سنين، فلما قتل هرب علي خان في الليل إلى أن حضر الملك الظاهر برقوق فأنعم عليه وأحسن إليه وأعطاه إمرة عشرة بأنطاكية. وكان علي خان في خدمة ولد سولي هذا الأمير صدقة ابن سولي.(5/118)
قال قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني: وكان له صيت عظيم وحرمة بين التراكمين، وكان في أيام ولايته أبلستين ومرعش وغيرهما ينصف الناس وفي أيام عزله يظلم الناس ويأخذ أموالهم ويفرق عسكره إلى بلاد المسلمين فيقطعون الطريق ويفسدون على وجه الأرض، وكان سولي هذا هو الذي ساعد منطاشا على خراب البلاد الشمالية ولا سيما حين حضر معه على عينتاب وسلط تراكمينه الذين لا يعرفون الله ولا رسوله على أهلها، فنهبوا أموالهم وسبوا حريمهم وفسقوا فيها، وكان قتل هذا من الفتوح العظيم للمسلمين. ولقد اجتمعت به مرارا حين قدم بعسكره إلى عينتاب وتكلمت عنده بالأحاديث الزاجرة والمواعظ الرائقة ليرق قلبه ويرفع شره عن المسلمين، فكان يظهر الطاعة والقبول في الظاهر ويضمر السوء والفحشاء في الضمائر. ومع ظلمه الظاهر كان يتعاطى اللواطة ويتعاطى الخمر فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر وقتل هو بطّال، ثم قدم ابنه صدقة إلى مصر فخلع عليه السلطان وولاه إمرة التركمان عوضا عن ناصر الدين محمد بن خليل ابن قراجا ابن دلغادر، فلما وصل إلى محل ولايته وقع بينهما قتال عظيم، ولم تزل هذه الطائفة تقتل بعضها بعضا، ولولا ذلك لكانوا أفسدوا الأرض ومن عليها. انتهى كلام العيني اهـ. (المنهل الصافي).(5/119)
أعيان القرن التاسع
458 - عبد اللطيف بن أحمد السراج القاهري المتوفى سنة 801
عبد اللطيف بن أحمد السراج الفيومي (1) القاهري ثم الحلبي الشافعي.
ولد سنة أربعين وسبعمائة تقريبا، واشتغل بالفقه على الأسنوي وغير واحد كالبلقيني، وأخذ الفرائض عن صلاح الدين العلائي فمهر فيها، وقرأ على البلقيني بحلب في فروع ابن الحداد. وكان قد قدمها وولي بها قضاء العسكر، ثم صرف وولي تدريس المدرسة الظاهرية خارج باب المقام، ثم استقر له نصفها. وكان فاضلا في الفرائض مشاركا في غيره مواظبا على الاشتغال والأشغال وقراءة الميعاد على الناس صبيحة يوم الجمعة بالجامع الكبير بحلب، ذا نظم كثير، فمنه في مدح النحو والمنطق:
إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا لميزان العقول مرجح ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق
وله في مدح البلاغة وذم المنطق:
دع منطقا فيه الفلاسفة الألى ... ضلّت عقولهم ببحر مغرق
واجنح إلى نحو البلاغة واعتبر ... أن البلاء موكّل بالمنطق
ومنه:
أخفيت عشق حبيبي مظهرا جلدا ... فقال قولا يحاكي الدر من فيه
أنى سكنت شغاف القلب مبتدأ ... وصاحب البيت أدرى بالذي فيه
__________
(1) في «الضوء اللامع» طبعة القدسي عام 1354هـ: الفوّي. (نسبة إلى الفوّه: بليدة على شاطىء النيل قرب رشيد).(5/120)
وله فيمن يحيض:
فائدة في أربع تحيض ... ببيت شعر نظمها قريض
المرأة الخفّاش ثم الأرنب ... والضبع الرابع ثم المرأب (1)
وفي كتاب الحيوان يذكر ... للجاحظ انقل عنه ما لا ينكر
وله نظم عدة مسائل من الحاوي مفردة وتخميس البردة وغير ذلك كأسئلة سأل عنها الشيخ زاده الحنفي لما قدم حلب وأجابه عنها.
قال ابن خطيب الناصرية: قرأت عليه طرفا من الفرائض وتخميسه للبردة وكتبت عنه ما تقدم من نظمه. مات وهو متوجه من حلب إلى القاهرة، اغتسل خارج دمشق في سنة إحدى وذهب دمه هدرا فلم يعرف قاتله رحمه الله. وقد ذكره شيخنا في إنبائه باختصار اهـ. (الضوء اللامع) (2).
459 - محمد بن علي النابلسي المتوفى سنة 801
محمد بن علي بن يعقوب الشمس أبو عبد الله النابلسي الأصلي الحلبي الشافعي.
ولد سنة بضع وخمسين وسبعمائة بنابلس، وقدم دمشق فتفقه بها ثم حلب. ومن شيوخه بها الشهاب الأذرعي، وبرع وتصدر فيها لإقراء الفقه وأصله والنحو. وكان إماما فقيها مشاركا في العربية والأصول والميقات ذكيا دينا، حفظ كتبا كثيرة منها أكثر المنهاج وأكثر الحاوي وجميع التمييز للبارزي والعمدة والشاطبية ومختصر ابن الحاجب والمنهاج الأصلي والتسهيل لابن مالك، وكان يكرر عليها. قال البرهان الحلبي: وكان سريع الإدراك محافظا على الطهارة سليم اللسان صحيح العقيدة لا أعلم بحلب أحدا من الفقهاء على طريقته.
وزاد غيره أنه ناب في القضاء عن الشرف أبي البركات الأنصاري ودرس بالنورية النفرية.
مات في ربيع الثاني سنة إحدى (وثمانماية) ودفن بتربة بني الخابوري خارج باب المقام تجاه تربة بني النصيبي. ذكره ابن خطيب الناصرية وهو ممن أخذ عنه شيخنا (أي الحافظ بن حجر) في إنبائه اهـ.
__________
(1) هكذا في الضوء، وفي المنهل المأدب، وكلاهما غير ظاهر. وعد في حياة الحيوان بعد هذه الأربعة الكلبة.
(2) (تنبيه): ما نذكره في هذا القرن بدون عزو فهو من الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للحافظ السخاوي وهو من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق.(5/121)
460 - محمد بن أحمد الجعفري المتوفى سنة 801
محمد بن أحمد بن عمر الشريف (1) أبو بكر الجعفري لكون أبيه كان يقول إنهم جعفريون، العجلوني نزيل حلب، ويعرف بخطيب سرمين وهو بكنيته أشهر، وكذا كتبه غير واحد مع الكنى كابن خطيب الناصرية والمقريزي في عقوده.
وقال أبو بكر بن أحمد بن عمر: وسمى شيخنا في معجمه والده محمدا، وهذا سهو، كان أصله من عجلون ثم سكن أبوه عزاز وولي هذا خطابة سرمين العقبة قرية من عملها كأبيه، وقرأ بحلب على الزين أبي حفص الباريني، وسمع من الظهير ابن العجمي وغيره، وكتب عن أبي عبد الله بن جابر الأعمى بديعيته وحدث بها، سمعها منه شيخنا بمكة في سنة موته وقال: إنه كان ينتسب جعفريا لكونه من ذرية جعفر بن أبي طالب. وكانت له عناية بقراءة الصحيحين يحفظ أشياء تتعلق بذلك ويضبطها، ووعظ على الكرسي بحلب ومكة، وروى عن الصدر الياسوفي شيئا من نظمه مع البديعية. أخذ عنه التقي الفاسي بمكة. وحج وجاور غير مرة وانقطع سنين بمكة حتى كانت وفاته بها في سادس عشري صفر سنة إحدى (وثمانمائة)، ودفن بالمعلاة.
وقد ذكره الفاسي في تاريخ مكة وأثنى على فضيلته أيضا، وكذا أثنى عليه ابن خطيب الناصرية مع الخير والديانة والمواظبة على العبادة رحمه الله وإيانا اهـ.
461 - عمر بن أيدغمش المتوفى سنة 801
عمر بن أيدغمش النصيبي الحلبي ويعرف بالكبير.
ولد سنة تسع عشرة وسبعماية بحلب. وكان أبوه من موالي البهاء أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن النصيبي، فسمع ابنه هذا على مولى أبيه المذكور وغيره الشمائل للترمذي، وعلى العز إبراهيم بن العجمي عشرة الحداد وجزء الحاوي. وكان خاتمة أصحابه، وحدث وسمع منه الأئمة كالبرهان العجمي (2) والعز الحاضري والشهاب الحسيني
__________
(1) في «الضوء اللامع»: الشرف.
(2) في «الضوء اللامع»: الحلبي(5/122)
وغيرهم. وحدثنا عنه جماعة منهم البهاء بن المصري والزين بن السفاح. وكان فراء ثم صار جنديا ثم عاد إلى صنعة الفراء.
مات في ذي القعدة سنة إحدى (وثمانماية) بحلب، أرخه ابن خطيب الناصرية وقال:
كان جنديا عارفا بالصيد، ثم ترك ذلك واستمر في صناعة الفراء المصيّص حتى مات.
وأكثر عنه الحلبيون والرحالة، وكنت عزمت على الرحلة إلى حلب لأجله فبلغتني وفاته فتأخرت عنها لأنه كان مسندها ودهم الناس اللنك رحمه الله اهـ.
462 - طورمش الكمشبغاوي المتوفى بعد سنة 801
طرمش بضم أوله وكسر ثالثه وآخره معجمة، ومعناه قام. قيل إن الذي معناه قام هو ضورمش بالضاء المعجمة أيضا الكمشبغاوي كمشبغا الحموي نائب حلب.
كان دوادار سيده بها، ثم صار من جملة أمراء حلب. وبنى ببانقوسا بها جامعا مليحا، ثم نقله الظاهر برقوق إلى حجوبية الحجاب بطرابلس وبنى بها تربة ووقف عليها أوقافا، ثم توجه إلى حصن الأكراد بعد سنة إحدى فتوفي بها. وكان مشكور السيرة، ذكره ابن خطيب الناصرية وغيره اهـ.
463 - عبد المنعم المصري المتوفى سنة 802
عبد المنعم بن عبد الله المصري الحنفي.
اشتغل بالقاهرة، ثم قدم حلب فقطنها وعمل المواعيد. وكان آية في الحفظ يحفظ ما يلقيه في الميعاد دائما من مرة أو مرتين، شهد له بذلك البرهان المحدث قال: وكان يجلس مع الشهود ثم دخل بغداد فأقام بها ثم رجع إلى حلب فمات بها في ثالث صفر سنة اثنتين (وثمانماية). ذكره شيخنا في إنبائه اهـ.
464 - عبد الله بن عشائر المتوفى سنة 802
عبد الله بن أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن
عبد الله بن عشائر التاج الحلبي الشافعي.(5/123)
عبد الله بن أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن
عبد الله بن عشائر التاج الحلبي الشافعي.
ولد بحلب سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وسمع بها على التقي إبراهيم بن عبد الله بن العجمي، وأجازت له زينب بنة الكمال وجماعة من دمشق، وحدث. سمع عنه البرهان الحلبي. وكان عاقلا دينا ساكنا ذا وظائف وأملاك بحيث يعد في الأعيان. مات في ربيع الآخر سنة اثنتين (وثمانمائة) بحلب ودفن بمقبرتهم خارج باب المقام. ذكره ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا في إنبائه اهـ.
465 - محمد بن عمر بن العجمي المتوفى سنة 802
محمد بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الله الشمس بن الكمال الحلبي بن العجمي الشافعي.
ولد سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وحفظ الحاوي وسمع على التقي السبكي ومحمد ابن يحيى بن سعد المسلسل وحدث به عنهما، وأجاز له المزي وجماعته ولم يحدث بشيء منها، وجلس مع الشهود بباب الجامع، وتنزل في المدارس بل درس بالظاهرية شريكا للقنوي (1). وكان سليم الفطرة نظيف اللسان خيرا لا يغتاب أحدا. مات في رمضان سنة اثنتين (وثمانماية). ذكره ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا في إنبائه اهـ.
466 - محمد بن أحمد الهاشمي المتوفى سنة 803
محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن الفضل العماد الهاشمي شيخ الشيوخ بحلب.
وليها بعد أبي الخير الميهني وباشر مدة، وكان من بيوت الحلبيين وأحد أعيانها.
مات في الكائنة العظمى مع اللنكية في الأسر سنة ثلاث (وثمانمائة)، قاله شيخنا في إنبائه اهـ.
467 - يوسف الأذرعي المتوفى سنة 803
يوسف بن إبراهيم بن عبد الله الجمال الأذرعي ثم الدمشقي الحلبي الشافعي.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: للفوّي.(5/124)
قدم من بلاده إلى دمشق فأقام بها مدة، واشتغل في الفقه على علمائها، ثم قدم حلب وحضر المدارس مع الفقهاء، وناب في قضاء تيزين عن الشرف الأنصاري. وكان فاضلا في الفقه وفروعه مقتصرا عليها. مات بتيزين في سنة ثلاث (وثمانمائة)، ذكره ابن الناصرية وكذا شيخنا في إنبائه وقال عنه: إنه اشتغل كثيرا في الفقه وغيره، وقرره الأنصاري في قضاء الباب ثم تيزين اهـ.
468 - شرف الدين موسى الأنصاري المتوفى سنة 803
موسى بن محمد بن محمد بن جمعة بن أبي بكر شرف الدين أبو البركات الأنصاري الحلبي الشافعي ابن أخي الشهاب أبي العباس أحمد الأنصاري الخطيب.
ولد في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ونشأ في كنف عمه فأقرأه، واشتغل كثيرا وتفقه بالأذرعي وبالشمس محمد العراقي شارح الحاوي، ثم ارتحل إلى القاهرة فأخذ بها عن الأسنوي والولوي المنفلوطي والبلقيني وغيرهم، وسمع بها وبحلب وغيرهما، ومن شيوخه في السماع أحمد بن مكي الأيكي زغلش والعلاء مغلطاي. ولا زال يدأب حتى حصل طرفا جيدا من كل علم، ودرس بالأسدية والعصرونية من مدارس حلب، وولي قضاءها عن الظاهر برقوق فحمدت سيرته، ولكنه عزل مرة بعد أخرى، وكذا ولي خطابة جامعها بعد موت ولي الدين بن عشائر. وشرح الغاية القصوى للبيضاوي فكتب منه قطعة. وكان قاضيا فاضلا دينا عفيفا خيرا كثير الحياء لا يواجه أحدا بمكروه. مات في رمضان سنة ثلاث (وثمانمائة) ودفن بحلب. ذكره ابن خطيب الناصرية وهو ممن أخذ عنه، وذكره شيخنا في إنبائه فأخر جمعة عن أبي بكر وقال: إنه أدمن الاشتغال حتى مهر، وأفتى ودرس وخطب بجامع حلب واشتهر، ثم ولي القضاء في زمن الظاهر مرارا، ثم أسر مع اللنكية، فلما رجع الملك عن البلاد الشامية أمر بإطلاق جماعة هو منهم، فأطلق من أسرهم في شعبان، فتوجه إلى أريحا وهو متوعك فمات بها.
وكان فاضلا دينا كثير الحياء قليل الشر، وهو في عقود المقريزي رحمه الله اهـ.
وفي تاريخ آخر أنه توفي بأريحا في ثامن رمضان من السنة ونقل إلى حلب اهـ. وهو ممن كان مع ابن الشحنة في مجلس تيمور لنك كما تقدم.(5/125)
469 - محمد بن محمود السرميني المتوفى سنة 803
محمد بن محمود بن إسماعيل بن المنتخب الشمس السرميني نزيل حلب ووالد العلاء علي الماضي.
أثنى عليه البرهان الحلبي بقوله: كان كبير القدر في الصلاح والعبادة وللناس فيه اعتقاد كبير، وكتب عنه حكاية وأرخ وفاته في الكائنة العظمى سنة ثلاث وثمانمائة، وكذا وصفه شيخنا بالعالم الرباني اهـ.
470 - محمد بن أحمد بن علي المعري المتوفى سنة 803
محمد بن أحمد بن علي بن سليمان الشمس أبو عبد الله ابن الركن المعري ثم الحلبي الشافعي ممن ينسب إلى أبي الهيثم التنوخي عم أبي العلاء المعري.
ولد في سنة بضع وثلاثين وسبعمائة، وتفقه وأخذ عن الزين الباريني والتاج ابن الدريهم، وبدمشق عن التاج السبكي، وكتب بخطه من الكتب الكبار الكثير المتقن مع ضعفه، وخطب بجامع حلب مدة وأنشأ خطبا في مجلدة. وكان حاد الخلق كثير البر والصدقة له نظم وسط بل نازل، فمنه في معالج:
جسمي سقيم من هوى ... مهفهف يعالج
كيف تزول علّتي ... وممرضي معالج
ومنه:
أحببت رساما كبدر الدجى ... بل فاق في الحسن على البدر
فقلت ما ترسم يا سيدي ... قال بتعذيبك بالهجر
مات في الكائنة العظمى سنة ثلاث.
ذكره ابن خطيب الناصرية وأنشد من نظمه غير ذلك، وهو ممن أخذ عنه النحو وغيره، وكذا أخذ عنه ابن الرسام أيضا ابن عم الجمال ابن السايق لأمه. ورأيت له مصنفا سماه «روض الأفكار وغرر الحكايات والأخبار»: وكتب على ظهره قريب له أنه مات
مقتولا شهيدا على يد تمر لنك لكونه لعنه بكلام شديد. قال: وكان عالما صالحا مفتيا رحمه الله اهـ.(5/126)
ذكره ابن خطيب الناصرية وأنشد من نظمه غير ذلك، وهو ممن أخذ عنه النحو وغيره، وكذا أخذ عنه ابن الرسام أيضا ابن عم الجمال ابن السايق لأمه. ورأيت له مصنفا سماه «روض الأفكار وغرر الحكايات والأخبار»: وكتب على ظهره قريب له أنه مات
مقتولا شهيدا على يد تمر لنك لكونه لعنه بكلام شديد. قال: وكان عالما صالحا مفتيا رحمه الله اهـ.
قال ابن الخطيب: وله في مليح تركي:
ظبي من الترك سبى حسنه ... قلبي وفي نار الجوى أحرقه
لا يرتجي عاشقه وصله ... أما تراه عينه ضيّقه
وله في مليح قارىء:
يا مشبها في حسنه يوسفا ... وتالي الآيات من يوسف
هل أنزل الرحمن في آية ... تحليل قتل العاشق المدنف
وله في مليح ناظر:
قلبي معنّى وجسمي ... مضنى على حب ناظر
لم يحل مذ غاب عني ... سواه عندي بناظر
وله:
صفاء أبناء هذا العصر ممتنع ... فعش وحيدا لتلقى راحة البال
واغفر لخلّ هفا في الدهر هفوته ... فالماء والطين لا يبقى على حال
471 - الشريف أحمد الحسيني الإسحاقي المتوفى سنة 803
أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم بن محمد الممدوح بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن أبي طالب، العز أبو جعفر بن الشهاب أبي العباس بن أبي المجد الحسيني ثم الإسحاقي الحلبي الشافعي نقيب الأشراف وابن نقيبهم وابن أخي نقيبهم ووالد نقيبهم وسبط الإمام الجمالي أبي إسحق إبراهيم بن الشهاب محمود الكاتب.
ولد في سنة إحدى وأربعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن واشتغل كثيرا
في النحو وغيره على شيوخ وقته كأبي عبد الله المغربي الضرير، وسمع على جده لأمه والقاضي ناصر الدين بن العديم وغيرهما، واستجاز له جده لأمه الوادي آشي وأبا حيان والميدومي وأحمد بن كشغدي وآخرين من دمشق ومصر وغيرهما وحدث.(5/127)
ولد في سنة إحدى وأربعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن واشتغل كثيرا
في النحو وغيره على شيوخ وقته كأبي عبد الله المغربي الضرير، وسمع على جده لأمه والقاضي ناصر الدين بن العديم وغيرهما، واستجاز له جده لأمه الوادي آشي وأبا حيان والميدومي وأحمد بن كشغدي وآخرين من دمشق ومصر وغيرهما وحدث.
سمع منه البرهان الحلبي وابن خطيب الناصرية وآخرون، منهم البهاء ابن المصري وقرأ عليه الاستيعاب بسماعه له منه بإجازته من الوادي آشي، وروى عنه شيخنا بالإجازة وخرج عنه في بعض تخاريجه. وكان أوحد وقته زهدا وورعا وصيانة وعفة وجمال صورة ذا وقار وسكينة ومهابة وجلالة وسمت حسن، لا يشك من رآه أنه من السلالة الطاهرة واقتفاء لآثار السلف متمسكا بالسنة.
استقر في النقابة بعد والده، وكذا ولي مشيخة خانقاه ابن العديم مدة، ثم امتنع من مباشرتها وانفرد برياسة حلب حتى كان قضاتها وأكابرها يترددون إليه ولا يردون له كلمة، كل ذلك مع مشاركة جيدة في الفضل ويد في العربية ونظم جيد ونثر رايق وحسن محاضرة في أيام الناس والتاريخ وحلاوة الحديث، وهو من حسنات الدهر. ومن نظمه مما أنشدناه البهاء ابن المصري عنه:
يا رسول الله كن لي ... شافعا في يوم عرضي
فأولو الأرحام نصا ... بعضهم أولى ببعض
وقوله وقد ورد بئر زمزم والناس يتزاحمون عليها:
وذي ضغن يفاخر إذ وردنا ... لزمزم لا بجدّ بل بجدّ
فقلت تنحّ ويح أبيك عنها ... فإن الماء ماء أبي وجدّي
وقوله:
يا سائلي عن محتدي وأورمتي ... البيت محتدنا القديم وزمزم
والحجر والحجر الذي أبدا يرى ... هذا يشير له وهذا يلثم
وبعد هذين البيتين كما في مجموعة العرضي:
ولنا بأبطح مكة وشعابها ... أعلام مجد أين منها الأنجم
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون القوّم
الآمرون الناس بالمعروف والناهون عما ينكرون ويحرم في أبيات.(5/128)
ولنا بأبطح مكة وشعابها ... أعلام مجد أين منها الأنجم
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون القوّم
الآمرون الناس بالمعروف والناهون عما ينكرون ويحرم في أبيات.
قال البرهان الحلبي: نشأ نشأة حسنة لا يعرف له لعب، واستمر على ذلك إلى أن مات ملازما للخير محافظا على الصلاة في أول وقتها، مع الطهارة في البدن والثوب واللسان والعرض. قال لي: أنا أقدم مصالح الناس على مصلحتي. قال: وكان أديبا بليغا كاملا ذا سمت وهيئة وحشمة مفرطة لم أر بحلب أكثر أدبا ولا أحشم منه لا من الأشراف ولا من غيرهم، مع الذكاء وحسن الخلق وحسن الخط والفهم الحسن. مات بعد كائنة التتار بحلب في شهر رجب سنة ثلاث بمدينة تيزين، وكان قد تحول إليها في الكائنة وبينها وبين حلب مرحلتان إلى جهة الفرات، ثم نقل إلى حلب فدفن بمشهد الحسين ظاهرها بسفح جبل جوشن عند أقاربه وأجداده رحمه الله وإيانا. ذكره ابن خطيب الناصرية مطولا وتبعه شيخنا في إنبائه ومعجمه باختصار، وليس عنده فيه في نسبه بعد علي الثاني محمد ولا إبراهيم. قال: وجده محمد والد جعفر يعني الممدوح من ولي نقابة الطالبيين بحلب في أيام سيف الدولة.
وأما في الإنباء فساقه كما تقدم. وهو في عقود المقريزي اهـ.
472 - أحمد بن محمد الحنبلي المتوفى سنة 803
أحمد بن محمد بن موسى بن فياض بن عبد العزيز بن فياض الشهاب أبو العباس المقدسي الأصل الحلبي الحنبلي القاضي.
ولي قضاء حلب سنين في مرتين إحداهما عن عمه الشهاب أحمد بن موسى بسكون وعقل. وكان شكلا حسنا رئيسا عنده لطف وحشمة ورياسة ومكارم ومحبة في العلماء.
مات معتقلا في الفتنة بقلعة حلب في رابع عشر رجب سنة ثلاث. ذكره ابن خطيب الناصرية اهـ.(5/129)
473 - عبد الرحيم بن بهرام المتوفى سنة 803
عبد الرحيم بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن بهرام الزين الجمال الحلبي أحد عدولها.
كان رأسا في العدالة ومعرفة الشروط ذكيا ضابطا متقنا عاقلا ساكنا. وصل إلى اللاذقية قبل أن يرحل التتار عن حلب فمات في شعبان سنة ثلاث بمدينة الشغر ودفن هناك. ذكره ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا وقال: كان مشكور السيرة فاضلا أتقن الشروط ورأس فيها اهـ.
474 - داود بن علي الكردي المتوفى سنة 803 (1)
داود بن علي بهاء الدين الكردي الشافعي نزيل حلب، قرأ بها الفقه على العلامة الزين أبي حفص الباريني.
وكان خيرا دينا معدودا من أعيان فقهائها مديما لتلاوة القرآن والتكسب مع العدول.
مات في كائنة التتار بحلب سنة ثلاث. ذكره ابن خطيب الناصرية واختصره شيخنا اهـ.
475 - محمد بن أحمد المقري ابن الدكن المتوفى سنة 803
محمد بن أحمد بن علي بن سليمان المقري الحلبي الشيخ الإمام العالم المصنف شمس الدين بن الدكن.
مولده في سنة بضع وثلاثين وسبعمائة. وتفقه على تاج الدين بن الدريهم، وأخذ عن القاضي تاج الدين السبكي، وكتب بخطه شيئا كثيرا، ودرس وأفتى وصنف. ومن مصنفاته «روض الأفكار» فيه فوائد حسنة. وترجم في أخرة العشرة دل على فضله، وكتب مجاميع كثيرة، وألف خطبا في مجلدة، وله نظم ونثر وإيثار مع حدة خلق. وذكره القاضي علاء الدين بن خطيب الناصرية في تاريخه. وقال شيخنا (أي في وصفه): الإمام العالم العلامة شمس الدين أحد مشايخ الشافعية بحلب، وأثنى عليه، وانتفع المذكور عليه
__________
(1) في الأصل: داود بن سعدون التجيبي. وهو سهو من المؤلف إذ خلط بين الاثنين.(5/130)
وغيره من الفضلاء. ومات في سنة الفتنة التيمورية سنة ثلاث وثمانماية رحمه الله تعالى اهـ.
476 - محمد بن إسماعيل بن صهيب البابي المتوفى سنة 803
محمد بن إسماعيل بن الحسن بن صهيب بن خميس الشمس البابي ثم الحلبي الشافعي، وكان اسمه أولا سالم.
تفقه بعمه العلاء أبي الحسن علي البابي، وبالزين أبي حفص عمر الباريني، وبرع في الفرائض والنحو وشارك في غيرها من العلوم، ودرس بالمدرسة السيفية بحلب وأشغل الطلبة وأفتى. وكان دينا قنوعا عفيف النفس فقيها ذكيا، غير أنه ترك الجد في الاشتغال بأخرة لاشتغاله بالعيال وفقره، ولما اشتدت فاقته ولاه الشرف أبو البركات الأنصاري قضاء ملطية، ورغب حينئذ عما كان باسمه من خطابة البكتمرية واستناب في إمامة التربة الأرغونية، وتوجه إليها فأقام بها مدة إلى أن حاصرها ابن عثمان صاحب الروم وانفصل عنها، فرجع إلى حلب فأقام بها على إمامة التربة الأرغونية (1)، استمر بها إلى واقعة تمر لنك، فتوفي في سنة ثلاث وثمانماية.
ذكره ابن خطيب الناصرية، وهو ممن قرأ عليه طرفا من الفرائض، وكذا شيخنا في إنبائه تبعا له لكن باختصار اهـ. ومثله في ابن الخطيب.
477 - الشريف علي بن محمد المتوفى سنة 803
علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله ابن جعفر بن زيد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح الزين أبو الحسن الحسيني سبط الزين علي ابن محمد بن أحمد بن علي من بيت لهم جلالة وشهرة.
كان إنسانا حسنا لطيفا حسن الأخلاق كريما، باشر الإنشاء بحلب سنين وعد في
__________
(1) قال أبو ذر في الكلام على الترب: تربة أرغون تحت القلعة وهو مدفون بها ولها قراء وبركة ماء ومنارة على بابها وحوض ماء خارجها وقد عطل، وكان قد أجرى إليه الماء الشيخ الصالح الجبرتي وفعل بهذه التربة كما فعل بغيرها اهـ.
أقول لا حوض بها الآن ولا منارة، وقد ذكرت حالتها الحاضرة في الثاني (ص 310).(5/131)
الأعيان بحيث عين لنظر الجيش بها، ولما عاقب التتار الناس أمسكوه وملؤوا له سطل نحاس من الماء والملح ليسقوه إياه وشرعوا في ربطه، فجاء ثور فشربه في لحظة، فعجبوا وأطلقوه ولم يعاقبوه. ومات بعد ذلك بيسير بريحا في سنة ثلاث ونقل إلى حلب فدفن عند أجداده وأقاربه بمشهد الحسين. ذكره ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا في إنبائه باختصار اهـ.
478 - علي بن محمد التميمي المتوفى سنة 803
علي بن محمد بن يحيى العلاء أبو الحسن التميمي الصرخدي ثم الحلبي الشافعي.
تفقه بدمشق وبالقاهرة، وأخبر أنه سمع المزي بدمشق، وقدم حلب فسكنها وناب في القضاء عن الشهاب ابن أبي الرضى وغيره. وكان عالما مستحضرا فاضلا في الفقه وأصوله نظارا ذكيا، بحث مع الشهاب الأذرعي بنفس عال وابن البلقيني حين قدومه حلب على علمه وفضيلته، ومع ذلك فكان يتورع عن الفتيا ولا يكتب إلا نادرا، مع ملازمة بيته وعدم التردد إلى أحد غالبا. وكان يحضر المدارس مع الفقهاء، فلما بنى تغري بردي النائب جامعه فوض إليه تدريس الشافعية به، فحضر ودرس فيه بحضور الواقف يوم الجمعة بعد الصلاة. وممن أخذ عنه ابن خطيب الناصرية وترجمه بما هذا ملخصه وقال:
إنه انتفع به كثيرا، ومات في الفتنة التيمرية سنة ثلاث. وتبعه شيخنا في إنبائه وقال:
إنه تفقه وهو صغير وسمع من المزي وغيره، وجالس الأذرعي، وكان يبحث معه فلا يرجع إليه رحمه الله وإيانا اهـ.
479 - عمر بن أبي بكر النصيبي المتوفى سنة 803
عمر بن أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر ابن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف الزين أبو حفص بن الشرف بن التاج أبي المكارم بن أبي المعالي الحلبي الشافعي، ويعرف كسلفه بابن النصيبي.
كان رئيسا من بيت كبير معدودا في الأعيان مع الثروة وحسن الخلق والخلق والكتابة الفائقة والمحاضرة الحسنة. سمع الحديث بحلب، وولي حسبة حلب مرارا بالدخول عليه وباشرها أحسن مباشرة مع الحرمة الوافرة والعفة، وحدث بل ودرس بالسيفية للشافعية،
وولي ببلده قضاء العسكر، وكذا الحسبة مرارا مسؤولا في ذلك، وحمدت مباشرته.(5/132)
كان رئيسا من بيت كبير معدودا في الأعيان مع الثروة وحسن الخلق والخلق والكتابة الفائقة والمحاضرة الحسنة. سمع الحديث بحلب، وولي حسبة حلب مرارا بالدخول عليه وباشرها أحسن مباشرة مع الحرمة الوافرة والعفة، وحدث بل ودرس بالسيفية للشافعية،
وولي ببلده قضاء العسكر، وكذا الحسبة مرارا مسؤولا في ذلك، وحمدت مباشرته.
وعفته وحرمته مشهورة. مات بعد الفتنة بأيام في ربيع الأول سنة ثلاث عن خمس وخمسين شهيدا، ذكره ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا في إنبائه باختصار اهـ.
480 - أبو بكر الداديخي المتوفى سنة 803
أبو بكر بن سليمان بن صالح الشرف الداديخي الأصل الحلبي الشافعي، وداديخ قرية من عمل سرمين من غربيات حلب.
أخذ النحو بحلب عن أبي عبد الله وأبي جعفر الأندلسي، وتفقه بها على أبي حفص الباريني، وبدمشق على التاج السبكي، بل أخذ فيها أيضا عن الشمس الموصلي والحافظ ابن كثير، وبرع في الفقه وأصوله، وناب في تدريس المدرسة الصاحبية تجاه النورية، ثم استقل بها وسكنها مديما للإشغال والاشتغال والتصنيف والإفتاء والكتابة بحيث كتب كثيرا من كتب العلم ونفع الناس. وولي القضاء بحلب مدة. وكان دينا عالما. مات بدير كوش من أعمال حلب بعد كائنة تيمور في ربيع الآخر سنة ثلاث ودفن هناك. ذكره ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا وأرخه في جمادى الأولى والله أعلم اهـ.
481 - يوسف بن موسى الجمال الملطي المتوفى سنة 803
يوسف بن موسى بن محمد بن أحمد بن أبي بكر (1) بن عبد الله الجمال أبو المحاسن بن الشرف الملطي الحنفي، ويعرف بالجمال الملطي.
ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة تقريبا بملطية، وأصله من خرت برت، وقدم حلب في شبابه وحفظ القرآن ومتونا واشتغل بها حتى مهر، ثم ارتحل إلى الديار المصرية وهو كبير، فأخذ عن علمائها كالقوام شارح الهداية، فإنه لازمه كثيرا بالصر غتمشية، وكان معيدا فيها مدة حياته، فلما مات أخذ عن أرشد الدين وأمثاله، قاله العيني، وكذا أخذ عن العلاء التركماني وابن هشام، وسمع من مغلطاي والعز ابن جماعة، وحدث عن أولهما
__________
(1) في «الضوء اللامع»: أبي تكين.(5/133)
بالسيرة النبوية والدر المنظوم من كلام المعصوم، وذكر أنه سمع الأولى منه سنة ستين، وحصل وعاد إلى حلب وقد صار أحد أئمة الحنفية يستحضر الكشاف وتفقه على مذهبهم، فشغل بها الطلبة وأفتى وأفاد، إلى أن انتهت إليه رياسة الحنفية فيها مع الثروة، وولاه تغري بردي تدريس جامعه بها، ثم استدعاه الظاهر برقوق على البريد لما مات الشمس الطرابلسي، وقال حينئذ: أنا الآن ابن خمس وسبعين، فحضر من حلب في ربيع الآخر سنة ثمانمائة ونزل عند البدر الكلستاني كاتب السر إلى أن خلع عليه في العشرين منه بقضاء الحنفية، وكانت مدة الفترة مئة وعشرة أيام، فباشره مباشرة عجيبة، فإنه قرب الفساق واستكثر من استبدال الأوقاف وقتل مسلما بنصراني، بل اشتهر أنه كان يفتي بأكل الحشيش وبوجوه من الحيل في أكل الربا، وأنه كان يقول: من نظر في كتاب البخاري تزندق، ومع ذلك فلما مات الكلستاني في سنة إحدى استقر في تدريس الصر غتمشية مضافا للقضاء.
وقد أثنى عليه ابن حجر في علمه وأنه لم يكن محمودا في مباشرته.
وقال العيني: كان يتصدق على الفقراء في كل يوم بخمسة وعشرين درهما يصرف بها فلوسا لا يخل بذلك، ولم يكن يقطع زكاة ماله مع بعض شح وطمع وتغفيل (هكذا ولعله وتقتير)، وإنه أقام بحلب قريبا من ثلاثين سنة فكان يكتب في كل يوم على أكثر من خمسين فتوى بدون مطالعة لقوة استحضاره، وإنه حصل بحلب مالا كثيرا فنهب أكثره في اللنكية. قال: وهو أحد مشايخي، قرأت عليه من كتاب البزدوي مجالس متعددة في حلب سنة ثلاث وثمانين، واختصر معاني الآثار للطحاوي سماه «المعتصر» (1) وصنف غيره. قال: وكان ظريفا لطيفا خفيفا جميل الصورة حسن اللحية مربوع القامة وإلى القصر أقرب. وكذا قال ابن خطيب الناصرية: إنه قرأ عليه السيرة والدر المذكورين وإنه كان
__________
(1) أقول: طبع هذا الكتاب بمطبعة المعارف النظامية الكائنة في حيدر آباد دكن في الهند عاصمة مملكة دولة النظام، وقد ذكرت المطبعة في إعلان خاص ما طبع فيها من الكتب ومن جملتها هذا الكتاب وقالت عنه ما نصه: المعتصر من المختصر من مشكل الآثار للطحاوي للقاضي أبي المحاسن يوسف بن موسى الحنفي، لخص المؤلف هذا الكتاب من كتاب المختصر للقاضي أبي الوليد الباجي المالكي الذي اختصر به كتاب مشكل الآثار للعلامة الحافظ الإمام أبي جعفر الطحاوي الشهير، ورد صاحب المعتصر على الإيرادات والاعتراضات التي في المختصر على الحافظ الطحاوي فجاء نفيسا في فنه مرغوبا للعلماء لا سيما للسادة الحنفية. طبع في مجلد واحد قطع كبير صفحاته 475اهـ. والكتاب على ما يظهر طبع بعد سنة 1320بقليل وإلى الآن لم يصلنا منه إلى الشهباء نسخة ولم نطلع عليه في غيرها من البلاد السورية.(5/134)
فاضلا كثير الاشتغال والإشغال مجتهدا في تحصيل العلم والمال، وله ثروة زائدة حصلها بحيلة العينة. ولما هجم اللنك البلاد عقد مجلس بالقضاة والعلماء بمشاطرة الناس في أموالهم، فقال الملطي: إن كنتم تفعلون بالشوكة فالأمر لكم، وأما نحن فلا نفتي بهذا ولا نحل أن يعمل به في الإسلام، فانكف الأمراء عن التعرض لذلك ثم عن ارتجاع الأوقاف والإقطاع بزعم الاستعانة بذلك في دفع تمر لنك، فكان ذلك معدودا في حسناته مع كونه لا تحمد سيرته في القضاء وكونه نسب إليه ما تقدم، ولكنه قد ثبت أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقال شيخنا في رفع الإصر وغيره: إن المحب ابن الشحنة دخل عليه يوما فذاكره بأشياء وأنشده هجوا فيه موهما أنه لبعض الشعراء القدماء في بعض القضاة وهو:
عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى ... وما راقب الرحمن يوما وما اتقى
يرى جائزا أكل الحشيشة والربا ... ومن يستمع للوحي حقا تزندقا
مات في ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثلاث، وشغر منصب القضاء بعده قليلا إلى أن استقر أمين الدين ابن الطرابلسي. وذكره المقريزي في عقوده وغيرها بما قال بعض المؤرخين: إن الحامل له عليه العداوة مع كونه لم ينفرد بكثير مما قاله رحمه الله وعفا عنه اهـ.
482 - أحمد بن علي المنذري المتوفى سنة 803
أحمد بن علي بن محمد بن أبي الفتح النور المنذري الدمشقي ثم الحلبي الشافعي، ويعرف بابن النحاس وبالمحدث.
اشتغل بالحديث وحصل منه طرفا، وأخذ عن الصلاح الصفدي، وسمع بدمشق وحلب الكثير من أصحاب ابن عبد الدايم، ثم أقام بها وأقرأ بها بعض الطلبة، وكانت محاضرته حسنة يستحضر من التاريخ وأيام الناس طرفا جيدا. وأثنى البلقيني على فضيلته.
وتحول إلى كلّز من أعمال حلب فسكنها وقرأ البخاري على الناس، ثم انتقل إلى سرمين فمات بها في سنة ثلاث فيما يغلب على ظني. قاله ابن خطيب الناصرية، وأورده شيخنا في سنة أربع من إنبائه باختصار نقلا عنه اهـ.(5/135)
483 - الحسن بن محمد العراقي الشاعر المتوفى سنة 803
الحسن بن محمد بن علي عز الدين العراقي المعروف بأبي أحمد، الشاعر المشهور نزيل حلب.
قال ابن خطيب الناصرية: كان من أهل الأدب، وله النظم الجيد، وكان يمدح أكابر حلب ويجيزونه على ذلك، وكان خاملا وينسب إلى التشيع وقلة الدين، وكان يجلس مع العدول للشهادة بمكتب داخل باب النيرب وهو رث الحال. رأيته ولم أكتب عنه شيئا.
ونظمه فائق، فمنه ما رأيته بخطه:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي كل قلب من تفرقنا جمر
بكيت فأبكيت المطيّ توجعا ... ورق لنا من حادث السفر السفر
جرى در دمع أبيض من جفونهم ... وسالت دموع كالعقيق لنا حمر
فراحوا وفي أعناقهم من دموعنا ... عقيق وفي أعناقنا منهم درّ
وله مؤلف سماه «الدر النفيس من أجناس التجنيس» يشتمل على سبع قصائد يمدح بها قاضي القضاة برهان الدين أبا إسحاق إبراهيم بن جماعة الكناني، منها ما رأيته بخطه وهي القصيدة الأولى:
لولا الهلال الذي من حيّكم سفرا ... ما كنت أعني إلى مغناكم سفرا
ولا جرى فوق خدّي مدمعي دررا ... حتى كأن جفوني ساقطت دررا
يا أهل بغداد لي في حيكم قمر ... بمقلتيه لعقلي في الهوى قمرا
يثني من القدّ غصنا أهيفا نظرا ... إذا انثنى في الحلى يسبي لمن نظرا
لم يغن عن حسنهم بدو ولا حضر ... إلا إذا قيل هذا الحب قد حضرا
أفدي غزالا غريرا كم سبى نفرا ... من الأنام وكم من عاشق نفرا
ريم أتى في معانيه على قدر ... لو رام قلبي أن يسلوه ما قدرا
كم حلّ من عقد صبري بالغرام عرى ... حتى السقام بجسمي في هواه عرا
لو لم يكن قلبه قد قدّ من حجر ... ما كان عني لذيذ النوم قد حجرا
قلت: والقصيدة أطول من ذلك استوعبها القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية
بتمامها ثم قال: وله عدة قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة على حروف المعجم.(5/136)
لولا الهلال الذي من حيّكم سفرا ... ما كنت أعني إلى مغناكم سفرا
ولا جرى فوق خدّي مدمعي دررا ... حتى كأن جفوني ساقطت دررا
يا أهل بغداد لي في حيكم قمر ... بمقلتيه لعقلي في الهوى قمرا
يثني من القدّ غصنا أهيفا نظرا ... إذا انثنى في الحلى يسبي لمن نظرا
لم يغن عن حسنهم بدو ولا حضر ... إلا إذا قيل هذا الحب قد حضرا
أفدي غزالا غريرا كم سبى نفرا ... من الأنام وكم من عاشق نفرا
ريم أتى في معانيه على قدر ... لو رام قلبي أن يسلوه ما قدرا
كم حلّ من عقد صبري بالغرام عرى ... حتى السقام بجسمي في هواه عرا
لو لم يكن قلبه قد قدّ من حجر ... ما كان عني لذيذ النوم قد حجرا
قلت: والقصيدة أطول من ذلك استوعبها القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية
بتمامها ثم قال: وله عدة قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة على حروف المعجم.
توفي بحلب في سابع عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. اهـ. (المنهل الصافي).
484 - صدّيق بن نبهان الجبريني المتوفى سنة 803
صدّيق بن عمر بن عمر بن نبهان بن علوان الجبريني.
كان شيخا حسنا رئيسا كريما بهيا حسن الشكالة متوددا مديما للجمعة بحلب وللجماعات ببلده، حج مرارا، ومات بعد الكائنة بحلب في سنة ثلاث بالباب من أعمالها ودفن بها وقد نيف على الستين. ذكره ابن خطيب الناصرية قال: والظاهر أنه حفظ القرآن اهـ.
485 - عبد الأحد الحنبلي المتوفى سنة 803
عبد الأحد بن محمد بن عبد الأحد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق الزين أبو المحاسن الحراني الأصل الحلبي الحنبلي والد محمد الآتي.
ولد سنة بضع عشرة وسبعمائة، وقال ابن خطيب الناصرية: إنه فيما يحسب أخبره أنه سنة ست عشرة أو التي قبلها، وأنه قرأ القراءات على جدي الأعلى لأمي وعم جدتي لأبي الفخر عثمان ابن خطيب جبرين وعلى غيره، وكان يعرف طرفا منها ومن فقه الحنابلة.
وناب في الحكم بحلب. وكان شيخا دينا ظريفا حسن المحاضرة، قرأ عليه البرهان الحلبي جزئين لأبي عمرو، واجتمع به ابن خطيب الناصرية غير مرة. مات في كائنة حلب بعد أن عاقبه التتار في ربيع الأول سنة ثلاث وقد عمر.
وذكره شيخنا في إنبائه في عبد الأحد وكذا في عبد الله وثانيهما غلط.
قال غيرهما: إنه من مشايخ حلب المشهورين، صنف «كافية القاري في فنون المقاري» في القراءات، وإنه كان حفظ المختار فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله على أي مذهب أشتغل؟ فقال: على مذهب أحمد، وأشار إليه لذلك ولده الآتي في أرجوزته التي نظم فيها العمدة لابن قدامة فقال:(5/137)
لما رآه والدي إذا نشا ... في البعض من كرّاته التي رأى
فيها رسول الله وهو يسأل ... منه بأي مذهب يشتغل
قال اشتغل بمذهب ابن حنبل ... أحمد فاخترناه عن أمر جلي
ولا أرى تأويل هذي القصه ... إلا لحكمة بها مختصه
فيها أرادها لنا النبيّ ... منه وإلا كلّهم مهديّ
الله يجزيه جزيل الرحمه ... عنا وكل علماء الأمه
قصيدة لبعض الشعراء يصف بها فظايع تيمور لنك:
وبمناسبة من قتل في هذه السنة من الأعيان بسبب تلك الكائنة العظمى وهي حادثة تيمور لنك التي أتينا على تفصيلها في أواخر الجزء الثاني أذكر هنا قصيدة لبعض الشعراء وجدتها في كنوز الذهب يندب بها الشهباء ويذكر ما فعله بها هذا الطاغية من الفظايع، لكنه لم يذكر اسم الناظم، وهي:
ويلاه ويلاه يا شهبا عليك وقد ... كسوتني ثوب حزن غير منسلب
من بعد ذاك العلا بالعز قد حكمت ... بالذل فيك يد الأغيار والنوب
وحين جاء قضاء الله ما دفعت ... عنك الجيوش ولا الشجعان بالقضب
وأصبح المغل حكاما عليك ولم ... يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب
وفرقوا أهلك السادات فانتشروا ... في كل قطر من الأقطار بالهرب
وبدلوا من لباس الدين ذا خشن ... نعم ومن راحة الأبدان بالنصب
وكل ما كان من مال لديك غدا ... في قبضة المغل بعد الورق والذهب
وخربوا ربعك المعمور حين غدوا ... يسعون في كل نحو منه بالنكب
وخربوا من بيوت الله معظمها ... وخربوا ما بها من أشرف الكتب
كذا بلادك أمست وهي خاوية ... وأصبحت أهلها بالخوف والرهب
لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت ... سبي الحريم ذوات الستر والحجب
من كل جارية كالشمس منظرها ... ولا يراها سوى أم لها وأب
يأتي إليها عدو الدين يفضحها ... ويجتليها على لاه ومرتقب
غلّت يمينك يا من مدها لمسا ... ذات الجمال وشلت منك بالعطب
ولا نقول سوى سبحان من نفذت ... أحكامه في الورى حقا بلا كذب
قضى وقدر هذا الأمر من قدم ... بحكم عدل جرى في اللوح مكتتب
فنسأل الله بالمختار سيدنا ... محمد ذي التقى والطهر والحسب
أن لا يرينا عدوا ليس يرحمنا ... ولا يعاملنا بالمقت والغضب
بجاه هذا النبيّ السيد السند الهادي ... الشفيع الرفيع القدر والرتب
صلى عليه إله العرش خالقنا ... والآل والصحب سادات الورى النجب(5/138)
ويلاه ويلاه يا شهبا عليك وقد ... كسوتني ثوب حزن غير منسلب
من بعد ذاك العلا بالعز قد حكمت ... بالذل فيك يد الأغيار والنوب
وحين جاء قضاء الله ما دفعت ... عنك الجيوش ولا الشجعان بالقضب
وأصبح المغل حكاما عليك ولم ... يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب
وفرقوا أهلك السادات فانتشروا ... في كل قطر من الأقطار بالهرب
وبدلوا من لباس الدين ذا خشن ... نعم ومن راحة الأبدان بالنصب
وكل ما كان من مال لديك غدا ... في قبضة المغل بعد الورق والذهب
وخربوا ربعك المعمور حين غدوا ... يسعون في كل نحو منه بالنكب
وخربوا من بيوت الله معظمها ... وخربوا ما بها من أشرف الكتب
كذا بلادك أمست وهي خاوية ... وأصبحت أهلها بالخوف والرهب
لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت ... سبي الحريم ذوات الستر والحجب
من كل جارية كالشمس منظرها ... ولا يراها سوى أم لها وأب
يأتي إليها عدو الدين يفضحها ... ويجتليها على لاه ومرتقب
غلّت يمينك يا من مدها لمسا ... ذات الجمال وشلت منك بالعطب
ولا نقول سوى سبحان من نفذت ... أحكامه في الورى حقا بلا كذب
قضى وقدر هذا الأمر من قدم ... بحكم عدل جرى في اللوح مكتتب
فنسأل الله بالمختار سيدنا ... محمد ذي التقى والطهر والحسب
أن لا يرينا عدوا ليس يرحمنا ... ولا يعاملنا بالمقت والغضب
بجاه هذا النبيّ السيد السند الهادي ... الشفيع الرفيع القدر والرتب
صلى عليه إله العرش خالقنا ... والآل والصحب سادات الورى النجب
486 - أحمد بن يحيى المعري المتوفى سنة 805
أحمد بن يحيى الشهاب العثماني المعري معرة سرمين. اشتغل ومهر.
ولي قضاء الشافعية بحلب في مستهل شوال سنة خمس وثمانمائة، وكان حسن السيرة فلم يلبث أن قتل في ليلة الأربعاء ثاني عشريه، هجم عليه شخص فضربه في خاصرته فمات.
قال شيخنا في تاريخه نقلا عن خط مجهول وجده بهامش جزء من مسودة تاريخ حلب لابن العديم، قال: ثم وجدته في تاريخ العلاء فقال: أحمد بن يحيى بن أحمد بن ملك السرميني من معرة سرمين، كان قاضي بلده مدة، ثم ولي قضاء حلب بعد الفتنة الكبرى فاغتيل بعد صلاة الصبح ثالث عشر شوال سنة خمس قبل استكمال شهر. قال: وكانت له مروءة وفيه سكون وسيرته حسنة اهـ.
487 - عمر بن إبراهيم الرهاوي المتوفى سنة 806
عمر بن إبراهيم بن سليمان الزين الرهاوي الأصل الحلبي الشافعي.
اشتغل بدمشق على الشمس الموصلي الشافعي، وبحلب على أبي المعالي بن عشاير، وبرع في الأدب والنظم والنثر وصناعة الإنشاء، وكتب خطا حسنا، وفي آخر عمره قرأ على العز أبي البقا الحاضري الحنفي كتاب «المغني» لابن هشام، وكتب الإنشاء بحلب، ثم اشتغل بصحابة ديوان الإنشاء بها عوضا عن ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الطيب سنين، ثم ولي خطابة الجامع الأموي بحلب بعد وفاة أبي البركات الأنصاري وباشرها
بنفسه. وكان ذا مروءة وعصبية. ومن نظمه في مليح حائك:(5/139)
اشتغل بدمشق على الشمس الموصلي الشافعي، وبحلب على أبي المعالي بن عشاير، وبرع في الأدب والنظم والنثر وصناعة الإنشاء، وكتب خطا حسنا، وفي آخر عمره قرأ على العز أبي البقا الحاضري الحنفي كتاب «المغني» لابن هشام، وكتب الإنشاء بحلب، ثم اشتغل بصحابة ديوان الإنشاء بها عوضا عن ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الطيب سنين، ثم ولي خطابة الجامع الأموي بحلب بعد وفاة أبي البركات الأنصاري وباشرها
بنفسه. وكان ذا مروءة وعصبية. ومن نظمه في مليح حائك:
وحائك يحكيه بدر الدجى ... وجها ويحكيه القنا قدّا
ينسج أكفانا لعشاقه ... من غزل جفنيه وقد سدّا
طاق الأمالي (1) دون أهل الهوى ... وشقّة البعد لهم مدّا
فمن رآه ظل في حيرة ... إلى طريق الرشد لا يهدى
وكلما همّ بسلوانه ... من بين أيديه يرى سدّا
ومنه متشوقا من مصر إلى أهله وهم بحلب:
يا غائبين وفي سرّي محلّهم ... دم الفؤاد بسهم البين مسفوك
أشتاقكم ودموع العين جارية ... والقلب في ربقة الأشواق مملوك
مات في ربيع الآخر سنة ست بحلب وصلى عليه بعد الجمعة على باب دار العدل بحضرة نائب البلد ودفن بمشهد الحسين بسفح جبل جوشن. وفيه يقول الزين عبد الرحمن بن الخراط الحموي:
وفي الهراويّ لي مديح ... مسيّر أعجز الحلاوي
قد أطرب السامعين طرّا ... وكيف لا وهو في الرهاوي
ذكره ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا في إنبائه اهـ.
488 - محمد بن سليمان (2) الخراط المتوفى سنة 806
محمد بن سليمان بن عبد الله الشمس الحراني ثم الحلبي الشافعي، ويعرف بابن الخراط.
أصله من الشرق، وقدم به أبوه وهو طفل فسكن حماة، فولد له ابنه هذا، فتعانى أولا صنعة الخرط، ثم تركها وأقبل على العلم فأخذ عن الشرف يعقوب خطيب القلعة والجمال أبي المحاسن ابن خطيب المنصورية بحماة وزوجه أخته، وبدمشق عن الزين عمر ابن مسلم القرشي، ودأب حتى حصل من كل فن طرفا جيدا، وقدم حلب بعد التسعين
__________
(1) لعلها: طلق الأماني.
(2) في «الضوء اللامع»: سلمان.(5/140)
فنزل بالمدرسة الصلاحية، وناب في الحكم عن ناصر الدين محمد الحموي ابن خطيب نقيرين، ثم عن الشرف أبي البركات الأنصاري، ثم عزله وولاه قضاء الرها فأقام بها مدة، ثم ولي قضاء باب بزاعا وكان يتردد إليها من حلب، فلما مات الشمس ابن النابلسي استقر في نيابة القضاء بحلب عوضه، ثم ولاه القاضي نصف تدريس النورية شريكا لأولاد النابلسي وباشرها أصلا ونيابة، ثم استقل بجمعيه بعد. واستمر يفتي ويدرس بل خطب بالجامع الكبير نيابة عن ابن الشرف الأنصاري. وكان فقيها فاضلا دينا ذكيا شديدا في أحكامه مع حدة في خلقه جفاه بعض الناس لها. وممن أخذ عنه ابن خطيب الناصرية وترجمه، وتبعه شيخنا في إنبائه باختصار وقال: إنه ولي عدة تداريس. مات في ليلة الأربعاء سابع ربيع الأول سنة ست بفالج عرض له قبل بيوم واضطراب وإسكات، وصلي عليه من الغد ثم دفن جوار قبر الشهاب الأذرعي خارج باب المقام رحمه الله اهـ.
489 - أبو بكر بن نبهان الجبريني المتوفى سنة 806
أبو بكر بن محمد بن علي بن محمد بن نبهان بن عمر بن نبهان بن علوان بن عباد الشرف ابن الشمس أبي عبد الله بن العلاء أبي الحسن بن القدوة الشمس أبي عبد الله الجبريني الحلبي.
كان شابا حسنا عنده حشمة ودين ورياسة ومكارم ومروءة وعصبية مع الحرمة الوافرة عند الحلبيين والوجاهة والبيتوتة مقيما بزاوية جده بجبرين ظاهر حلب. مات في ليلة الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست ودفن بمقبرة جده نبهان شرقي قرية جبرين. ذكره ابن خطيب الناصرية اهـ.
490 - تاج الأصفهيدي المتوفى سنة 807
تاج بن محمود تاج الدين العجمي الأصفهيدي الشافعي نزيل حلب.
ولد في سنة تسع وعشرين وسبعماية تقريبا، ورد من العجم إلى حلب فتوجه منها إلى الحجاز فحج، ثم عاد إليها وسكن الرواحية بها وولي تدريس النحو بها وإقراء الحاوي أيضا. وكان إماما عالما ورعا عزبا عفيفا غير متطلع للدنيا. صنف شرحا على المحرر وعلى ألفية ابن مالك في النحو ولكنه ليس بالطائل، وغير ذلك، ولم يكن له حظ، ولا تطلع
إلى أمر من أمور الدنيا. وتصدى لشغل الطلبة والإفتاء، وكانت أوقاته مستغرقة في ذلك، فالإقراء من بعد الصبح إلى الظهر بالجامع الكبير ومن ثم إلى العصر بجامع منكلي بغا، والإفتاء من بعد العصر إلى المغرب بالرواحية. وربما يقع له الوهم في الفتيا الفقهية. وهو ممن أسر في الفتنة وأرسل إبراهيم صاحب شماخي يطلبه من تمر لنك واستدعاه إلى بلاده مكرما، فتوجه معه إليها واستمر هناك حتى مات في أثناء ربع الأول سنة سبع. وممن قرأ عليه ابن خطيب الناصرية وترجمه بما هذا ملخصه، ونحوه لشيخنا في إنبائه اهـ.(5/141)
ولد في سنة تسع وعشرين وسبعماية تقريبا، ورد من العجم إلى حلب فتوجه منها إلى الحجاز فحج، ثم عاد إليها وسكن الرواحية بها وولي تدريس النحو بها وإقراء الحاوي أيضا. وكان إماما عالما ورعا عزبا عفيفا غير متطلع للدنيا. صنف شرحا على المحرر وعلى ألفية ابن مالك في النحو ولكنه ليس بالطائل، وغير ذلك، ولم يكن له حظ، ولا تطلع
إلى أمر من أمور الدنيا. وتصدى لشغل الطلبة والإفتاء، وكانت أوقاته مستغرقة في ذلك، فالإقراء من بعد الصبح إلى الظهر بالجامع الكبير ومن ثم إلى العصر بجامع منكلي بغا، والإفتاء من بعد العصر إلى المغرب بالرواحية. وربما يقع له الوهم في الفتيا الفقهية. وهو ممن أسر في الفتنة وأرسل إبراهيم صاحب شماخي يطلبه من تمر لنك واستدعاه إلى بلاده مكرما، فتوجه معه إليها واستمر هناك حتى مات في أثناء ربع الأول سنة سبع. وممن قرأ عليه ابن خطيب الناصرية وترجمه بما هذا ملخصه، ونحوه لشيخنا في إنبائه اهـ.
491 - محمد بن صالح السفاح المتوفى سنة 807
محمد بن صالح بن عمر بن أحمد القاضي ناصر الدين ابن القاضي صلاح الدين الحلبي، ويعرف بابن السفاح.
ولي كتابة الإنشاء بحلب، ثم ترقى في كتابة سرها، ثم لنظر جيشها وامتحن في أيام الظاهر برقوق وصودر، ثم توجه إلى القاهرة بعد وقعة تنم مع الناصر، فاستقر في التوقيع عند يشبك الشعباني فانتهت إليه الرياسة عنده بحيث كان اعتماده في أموره عليه، واستمر في التوقيع بين يديه إلى أن مات، وكان يروم الترقي إلى كتابة سر مصر بل وعين لها فما تيسر.
مات في تاسع عشر محرم سنة سبع، ومنهم من ورّخه في السنة التي بعدها غلطا، ومنهم من أسقط عمر من نسبه.
قال ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا: كان رئيسا عالي الهمة تام الخبرة بسياسة الملوك كبير المروءة والعصبية والصدقة محبا في العلماء والصالحين بارا بهم. زاد شيخنا: وقد رأيته عنده نسك وكان لطيف الشكل. وقال غيره: كانت له ولأسلافه حرمة وافرة بحلب بحيث كان بيتهم من جملة بيوتها المعدودة رحمه الله اهـ.
492 - عبد الله بن محمد النحريري المتوفى سنة 807
عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إدريس بن نصر الجمال أبو محمد النحريري المالكي قاضي حلب ونزيلها.(5/142)
ولد سنة أربعين وسبعماية، وحفظ مختصر ابن الحاجب الفرعي، واشتغل بالقاهرة ومصر وفضل، وقدم حلب في سنة تسع وستين وسمع بها من الظهير ابن العجمي سنن ابن ماجه وغيرها، وكذا سمع من الشمس محمد بن حسن الألفي وغيره، بل كان قد سمع الكثير من أصحاب الفخر. وناب في الحكم بحلب ثم استقل به سنة سبع وثمانين عوضا عن الزين عبد الرحمن بن رشيد فحمدت سيرته. ثم ورد المرسوم في أوائل سنة أربع وتسعين من الظاهر برقوق بإمساكه بسبب كائنة الناصري، فأحس بذلك فاختفى، ودخل بغداد فأقام بها مدة، ثم توجه منها إلى تبريز ثم إلى الحصن فأكرمه صاحبه، وأقام مديما للاشتغال والإشغال بالعلم والحديث إلى سنة ست وثمانماية، فوصل إلى حلب في صفرها فحدث بها. وسمع عليه ابن خطيب الناصرية، وأقام بها أياما ثم توجه إلى دمشق سنة ست فحج ثم رجع قاصدا الحصن، فلما كان بسرمين مات في بكرة يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة سبع.
قال ابن خطيب الناصرية: وكان من أعيان الحلبيين إماما فاضلا فقيها يستحضر كثيرا من الفقه والتاريخ والتصوف، مع ظرف ومحبة في العلم وأهله.
وقال شيخنا في إنبائه: كانت على ذهنه فوائد حديثية وفقهية، وكان يحب الفقهاء والشافعية وتعجبه مذاكرتهم، قال: وقرأت بخط البرهان المحدث بحلب أنه سأل نور الدين ابن الجلال عن فرعين منسوبين للمالكية فلم يستحضرهما وانكسر أن يكون في مذهب مالك، قال: فسألت الجمال فاستحضرهما وذكر أنهما يخرجان من الحاجب الفرعي اهـ.
493 - محمد بن أحمد الأطعاني المتوفى سنة 807
محمد بن أحمد بن أبي الفتح بن سالم البدر أو الشمس ابن الشهاب ابن البدر الحلبي ابن الأطعاني والد أحمد.
ولد في صبيحة يوم الخميس خامس شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعماية بحلب، ونشأ بها فحفظ المنهاج وعرضه في سنة ثلاث وستين على الشهاب الأذرعي والزين عمر بن عيسى ابن عمر الباريني وبه تفقه ونسخ بخطه شرحه لابن الملقن. وعرض عليه النيابة في القضاء ببعض البلاد كأبيه فامتنع وتزهد وسلك طريق التصوف، وسافر إلى القدس فلبس الخرقة
من عبد الله البسطامي، ثم رجع إلى بلده وانقطع بزاوية خارج باب الجنان، وصار معتقدا مقبلا على شأنه دينا بهي المنظر وتلمذ له جماعة ولبس منه غير واحد الخرقة، وحج مرارا وجاور في بعضها، واشتهر بين الحلبيين، وبنيت له زاوية وتردد الأكابر لزيارته والتبرك به، وهو لا يزداد مع ذلك إلا تواضعا وتعبدا. وكان منور الشيبة حسن الخلق والخلق كثير الحياء بهي المنظر.(5/143)
ولد في صبيحة يوم الخميس خامس شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعماية بحلب، ونشأ بها فحفظ المنهاج وعرضه في سنة ثلاث وستين على الشهاب الأذرعي والزين عمر بن عيسى ابن عمر الباريني وبه تفقه ونسخ بخطه شرحه لابن الملقن. وعرض عليه النيابة في القضاء ببعض البلاد كأبيه فامتنع وتزهد وسلك طريق التصوف، وسافر إلى القدس فلبس الخرقة
من عبد الله البسطامي، ثم رجع إلى بلده وانقطع بزاوية خارج باب الجنان، وصار معتقدا مقبلا على شأنه دينا بهي المنظر وتلمذ له جماعة ولبس منه غير واحد الخرقة، وحج مرارا وجاور في بعضها، واشتهر بين الحلبيين، وبنيت له زاوية وتردد الأكابر لزيارته والتبرك به، وهو لا يزداد مع ذلك إلا تواضعا وتعبدا. وكان منور الشيبة حسن الخلق والخلق كثير الحياء بهي المنظر.
وسكن بعد الكائنة العظمى في دار القرآن المجاورة للجامع الكبير حتى مات بعد صلاة الجمعة تاسع ذي القعدة سنة سبع وحضر جنازته من لا يحصى. ذكره شيخنا في إنبائه نقلا عن ابن خطيب الناصرية: وقال لي بعض الحلبيين: إنه ابتنى بحلب زاويتين أعين فيهما من أهل الخير اهـ.
وذكره الرضي الحنبلي في «در الحبب» في آخر ترجمة حسين بن الشهاب أحمد الأطعاني فقال: وقفت له على كتاب سماه «تذكرة المريد بطلب المزيد» (1)، ومن مضمونه أن شيخه في لبس الخرقة عبد الله البسطامي، وهذا هو جلال الدين عبد الله البسطامي الشافعي صاحب الزاوية المعروفة بالقدس ومعيد النظامية ببغداد فيما ذكره ابن حجر في إنبائه.
ووقفت للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن علي الأنطاكي البسطامي الحنفي على تأليفين تعرض فيهما لترجمة الشمس محمد الأطعاني أحدهما «مفاتيح أسرار الصون ومصابيح أنوار الكون» وفيه يقول: إن الله لطف بهذه الأمة وأقام لها في رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، وإنه الذي كان على رأس المائة الثامنة من الصوفية، إلى أن ذكر أن الثناء عليه غنم وأن النساء بمثله عقم، فليفخر به أهل حلب ما سال واديها وأذّن مناديها. والكتاب الثاني «شمس الآفاق في علم الأوفاق» وفيه يقول: إني كنت أوان الصبا (وزمان التردي برداء الصفا إلى أن قال: دائم التطرق لأبواب الدعاء بالحمد والثناء إلى الجناب الرحيب ذي الفناء المستطيب، متزايد الطلب، متحليا بحلية الأدب) (2)، أختار من توج بتاج البهاء (من أهل الهمم والضياء، مقتفيا لآثارهم العرفافية، ومقتبسا من ضياء أنوارهم النورانية) (3) إلى أن فزت بنظرة ممن حل رمزي وفك طلسم كنزي شمس سريرتي وبدر بصيرتي العارف بالله
__________
(1) وذكر له في الكشف من المؤلفات «تحفة الطالب المستهام في رؤية النبي عليه السلام».
(2) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب» ليست في الأصل.
(3) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب» ليست في الأصل.(5/144)
والدال على الله كعبة العارفين إمام السائرين الشيخ شمس الحق والدين محمد بن أحمد بن محمد الحلبي البسطامي، وأنشد:
غوث الورى غيث الندى نور الهدى ... بدر الدجى شمس الضحى بل أنور
الكلام على هاتين الزاويتين وما كان هناك من الآثار
الأولى 49567 زاوية سيدي محمد الأطعاني:
قال أبو ذر: هي بطرف حارة المشارقة من جهة الشمال، بناها الخواجا حسين بن مصطفى وجماعة، وكان الأطعاني أولا يذكر بجماعته في مسجد كان ملاصق الزاوية المذكورة، وفي فتنة تمر خرب بعض هذه الزاوية وسلمت قبتها فرممها الخواجا عبد الرحمن البلدي وعمر بها إيوانا ودخل نصف المسجد الذي كان يذكر فيه الشيخ أولا في هذا الإيوان ونصفه خارج الإيوان من جهة التربة.
وهذه الزاوية مختصة بالبسطامية، وأقام الذكر فيها الشيخ حسين البسطامي تلميذ سيدي عبد الله البسطامي شيخ والدي. والشيخ حسين توفي بمكة، ثم قام بعده ولده الشيخ الصالح سيدي أحمد وتوفي بمكة. (ثم قال): وهذه الزاوية نيرة وبها مساكن ولها منارة جددها الحاج أحمد بن القصار اهـ.
أقول: موضع هذه الزاوية قبلي المغفر المبني حديثا غربي جسر الناعورة، وتعرف الآن بجامع الأطعاني، ومحرر على بابه جامع المطعاني وهو غلط. وهو الآن عبارة عن قبلية كبيرة وقد كانت مشرفة على الخراب فرممت سنة 1283، وأمام القبلية صحن فيه مصطبة من الجهة الشرقية. والإيوان الذي ذكره أبو ذكر قد سد من جهة القبلة واتخذ كتّابا، والمنارة التي ذكرها أبو ذر لم تزل قائمة، وغربي الإيوان المذكور دار كانت من جملة صحن الجامع على ما يظهر ولا أدري متى اتخذت.
وقد كان داخل الزاوية تربة دفن فيها المترجم وغيره، وسيمر بك أسماء من دفن فيها.
وهذه التربة صارت خارج الزاوية من الجهة الشمالية، وقد درس معظم من دفن هناك، إلا أن قبر المترجم لم يزل باقيا ومحرر اسمه على لوح قبره وحوله عدة قبور لأهل المحلة المذكورة درس بعضها وبقي بعضها. والباقي لهذا الجامع من العقارات أربعة دور ودكانان، وهو الآن في تولية الشيخ عبد الوهاب طلس.(5/145)
الثانية 49568 الخانكاه الدورية:
هذه الخانكاه على شاطىء نهر قويق تجاه الناعورة، أنشاها الخواجا شمس الدين محمد ابن جمال الدين يوسف الشهير بالدوري عين التجار بحلب ووقفها على ولي الله الشيخ شمس الدين الأطعاني ولمن بعده بسندها بعده، ووقف عليها ولد واقفها الخواجا غرس الدين وقفا.
وهذه الزاوية لطيفة وهي مفروشة بالرخام، ولها مناظر على نهر قويق، وبها مربع وله باب من خارج الخانقاه وبه شبابيك من الحديد. انتهى.
والشيخ شمس الدين الأطعاني لبس من ولي الله عبد الله البسطامي المدفون بالقدس، ووالدي أيضا لبس منه بالقدس، وله كرامات وأحوال ظاهرة. وهؤلاء الطائفة البسطامية منسوبون إلى شيخ الطريقة أبي يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن علي البسطامي الزاهد المشهور.
(ثم قال): وبالقرب من هذه الزاوية بطرف المقبرة مسجد يسكنه الطائفة الأدهمية، وأول من سكنه الشيخ العابد إسحق العجمي، كان شكلا حسنا منقطعا عن الناس وهو مدفون بهذا المسجد. وجدد فيه الشيخ عبد الله العجمي الأدهمي حوشا ومطبخا وغرفة، وعلى بابه تجاهه قبو وبه بئر كان قديما وبنى عليه هذا القبو الحاج محمد الحريري سميسم.
أقول: قدمنا في الكلام على الزاوية السحلولية أن الخانكاه الدورية دخلت في التكية المولوية من جهة الجنوب ولا أثر لها الآن. غير أنه قد ترجح عندي بعد التأمل أنها كانت في الشاطىء الغربي من النهر والله أعلم.
494 - نعير بن حيار أمير آل فضل المتوفى سنة 808
نعير بنون ومهملة مصغر، واسمه محمد بن حيار، بمهملة مكسورة ثم تحتانية خفيفة، ابن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة شمس الدين أمير آل فضل بالشام، ويعرف بنعير.
ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري، ولما عاد الظاهر من الكرك رافق نعير منطاشا في الفتنة الشهيرة، وكان معه لما حاصر حلب، ثم راسل نعير نائب
حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم، فلما مات برقوق أعيد نعير إلى إمرته، ثم كان ممن استنجد به دمرداش لما قدم اللنكية فحضر بطائفة من العرب، فلما علم أنه لا طاقة له بهم برح إلى الشرق، فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية. ثم كان ممن حاصر دمرادش بحلب. ثم جرت بينه وبين الأمير جكم وقعة فكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة ثمان وقد نيف على السبعين.(5/146)
ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري، ولما عاد الظاهر من الكرك رافق نعير منطاشا في الفتنة الشهيرة، وكان معه لما حاصر حلب، ثم راسل نعير نائب
حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم، فلما مات برقوق أعيد نعير إلى إمرته، ثم كان ممن استنجد به دمرداش لما قدم اللنكية فحضر بطائفة من العرب، فلما علم أنه لا طاقة له بهم برح إلى الشرق، فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية. ثم كان ممن حاصر دمرادش بحلب. ثم جرت بينه وبين الأمير جكم وقعة فكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة ثمان وقد نيف على السبعين.
وكان شجاعا جوادا مهيبا إلا أنه كثير الغدر والفساد، وبموته انكسرت شوكة آل مهنا. وكان الظاهر خدعه ووعده حتى تسلم منطاش وغدر به ولم يف له الظاهر بما وعده بل جعل يعد ذلك عليه ذنبا. وولي بعده ولده العجل. ذكره شيخنا في إنبائه وهو في المقريزي مطول. اهـ.
495 - طاهر بن الحسن بن حبيب المتوفى سنة 808
طاهر بن الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب بن عمر بن شويخ الزين أبو العز بن البدر أبي محمد الحلبي الحنفي، ويعرف بابن حبيب.
ولد بعد الأربعين وسبعماية بقليل بحلب، وسمع من إبراهيم بن الشهاب محمود وغيره، وأجاز له من دمشق الشهاب أبو العباس المرداوي خاتمة أصحاب ابن عبد الدايم ومحمد ابن عمر السلاوي وغيرهما، ومن دمشق ابن القماح وغيره، واشتغل وحصل ولازم الشيخين أبا جعفر الغرناطي وابن جابر وغيرهما، وكتب الخط المنسوب، وبرع في الأدب وغيره، ونظم «تلخيص المفتاح» في المعاني والبيان (1) و «السراجية في فرائض الحنفية» و «محاسن الاصطلاح» للبلقيني، وشرح البردة (2) وخمسها، وذيل على تاريخ أبيه بطريقته. ودخل القاهرة ودمشق وأقام في كل منهما مدة وكتب في ديوان الإنشاء ببلده وبالقاهرة، بل ناب فيها عن كاتب السر، وتعين للوظيفة مرارا فلم يتهيأ فيما قاله العيني.
__________
(1) هو في ألفين وخمسمائة بيت كما في الكشف.
(2) سماه وشي البردة كما في الكشف. رأيت نسخة منه في مكتبة المدرسة الحلوية بحلب.(5/147)
وقال شيخنا في إنبائه إنه ولي عدة وظائف وإنه طارح الأدباء القدماء كفتح الدين ابن الشهيد بأن كتب له بيتين فأجابه بثلاثة وثلاثين بيتا، وطارح أيضا السراج عبد اللطيف الفيومي نزيل حلب، ونظم كثيرا، وأحسن ما نظم «محاسن الاصطلاح»، وليس نظمه بالمفلق ولا نثره، وله:
قلت له إذ ماس في أخضر ... وطرفه ألبابنا يسحر
لحظك ذا أو أبيض مرهف ... فقال هذا موتك الأحمر
وقال ابن خطيب الناصرية: كان ناظما بليغا فصيحا تام الفضيلة في صناعة الإنشاء بحيث إنه عين لكتابة سر مصر. قلت: ومن نظمه مضمنا:
أضحى يموّه وهو يعلم أنني ... كلف به ولذاك لم يتعطف
فغدوت أنشد والغرام يبرني ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف
وله لما قبض الظاهر برقوق على منطاش وقتله:
الملك الظاهر في عزّه ... أذلّ من ضلّ ومن طاشا
وردّ في قبضته طائعا ... نعيرا العاصي ومنطاشا
قال شيخنا: اجتمعت به وسمعت كلامه، وأظن أني سمعت عليه شيئا من الحديث ومن نظمه ولكن لم أظفر به إلى الآن. مات بالقاهرة في يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان رحمه الله وعفا عنه. وقد ذكره شيخنا في معجمه أيضا والمقريزي في عقوده اهـ.
وله من المؤلفات أيضا «مختصر المنار» في علم الأصول، وهو مطبوع في مصر سنة 1324مع ثلاثة متون في علم الأصول.
496 - دقماق المحمدي كافل حلب المتوفى سنة 808
قدمنا بعض أخباره في ذكر توليته على حلب سنة 804.
قال أبو ذر في الكلام على زاويته: كان من مماليك برقوق وكان معه بالكرك، وكان شكلا حسنا شجاعا كريما، وكان ممن فر في وقعة شقحب مع كمشبغا الكبير إلى حلب
فأقام بها، ثم أمره الظاهر فقدمه بحلب ثم نيابة ملطية، وولاه الناصر نيابة حماة، ثم أسر مع تيمور ومن بعدتنم ولاه نيابة صفد ثم حلب، وواقع دمرداش النائب قبله فانتصر عليه، وفي آخر الأمر رضي عليه الناصر وولاه نيابة حماه، ثم حاصره شيخ وجكم وقتل في شعبان سنة ثمان وثمانمائة.(5/148)
قال أبو ذر في الكلام على زاويته: كان من مماليك برقوق وكان معه بالكرك، وكان شكلا حسنا شجاعا كريما، وكان ممن فر في وقعة شقحب مع كمشبغا الكبير إلى حلب
فأقام بها، ثم أمره الظاهر فقدمه بحلب ثم نيابة ملطية، وولاه الناصر نيابة حماة، ثم أسر مع تيمور ومن بعدتنم ولاه نيابة صفد ثم حلب، وواقع دمرداش النائب قبله فانتصر عليه، وفي آخر الأمر رضي عليه الناصر وولاه نيابة حماه، ثم حاصره شيخ وجكم وقتل في شعبان سنة ثمان وثمانمائة.
الكلام على 49569 زاوية دقماق:
قال: هي خارج حلب من جهة الشمال، أنشأها كافل حلب دقماق، استأجر أرضها من أربابها وفوضها للشيخ إسحاق، وكان شيعيا لأنه مرة أحسن إليه وأخباه عنده في محنة حلت بدقماق المذكور. ووقف على هذه الزاوية وقفا بقرية المالكية من عمل عزاز. وهذه الزاوية مشتملة على قبة بها قبور، وخارج القبة حوش محيط بهذه القبة وبه بيوت. وكان أبو بكر دوادار السيفي بردبك لما ولى على هذه الزاوية بعد موت بابا علي قتلا ولد الشيخ إسحاق المذكور قد أسس خارج هذه الزاوية حوضا وبوابة ليبني به خانا، ولما عزل أستاذه عن كفالة حلب توجه معه إلى دمشق ولم يكمله. وإلى جانب هذه الزاوية تربة لبني النصيبي أنشأها القاضي زين الدين وأكملها ولده القاضي جلال الدين اهـ.
وفي الدر المنتخب: تربة الأمير دقماق نائب حلب قاطع الجسر إلى جهة الشمال بالقرب من أرض الشمسي لولو، وتربة القاضي زين الدين بن النصيبي وولده القاضي ضياء الدين وأولادهم ملاصقة لباب التربة الدقماقية. اهـ.
أقول: غربي الجسر المعروف بجسر الناعورة (1) تجاه منعطف النهر تربة واسعة الجهة الشمالية منها هي التربة الدقماقية، والجنوبية هي تربة بني النصيبي، بينهما جادة ضيقة، ولا أثر الآن للزاوية والحوش اللتين ذكرهما أبو ذر هناك ولا أدري متى درستا. وبعد سنة 1300بقليل وسعت الجادة هناك فأخذ لها من التربتين وبني لهما جداران وبقي الناس يدفنون فيهما الموتى، ومنذ نحو 25سنة بني في جانب التربة الجنوبية مغفر عرف بمغفر
__________
(1) ذكرنا في الجزء الثالث (ص 443) أن في جملة مقررات دائرة النافعة تعريض جسر الناعورة وجعله 20مترا وأنها ستباشر به عما قريب، وقد كان ذلك، فإنها في أوائل هذه السنة 1344باشرت في تعريضه ولا زال العمل قائما فيه وسيتم في شهر شعبان منها، إلا أن عرضه جعل 18مترا وخصص له عشرون ألف ورقة سورية تبلغ قيمتها 4آلاف ليرة عثمانية ذهبا.(5/149)
الكتّاب، وما وراءه من جهة الجنوب والغرب لم يزل تربة إلا أن الحكومة منعت في المدة الأخيرة الدفن هناك.
ومنذ عشر سنوات على عهد الحكومة العثمانية نسفت التربة الدقماقية ودرس ما كان هناك من القبور وبني في أواخرها بناية كبيرة لتكون مسكنا للولاة ارتفع فيها البناء إلى قرب السقوف، ثم تركت إلى سنة 1342، ففيها أكملت دائرة النافعة بناءها وطولها 25مترا وعرضها كذلك، وهي ذات طابقين وفيهما 18غرفة (1) وترك من جوانبها الأربعة فضاء واسع واتخذت الآن لقيادة الدرك، وبني في أول هذه التربة بالقرب من النهر بناية أخرى بينهما الجادة اتخذت للسكنى، ولم يبق هناك لهذه التربة أثر على سعتها.
497 - الأمير جكم المتغلب على حلب المتوفى سنة 809
ذكرت في أواخر الجزء الثالث خبر عصيان الأمير جكم وتغلبه على حلب وخبر قتله سنة 809، ثم ظفرت بترجمته وتفصيل تلك الحوادث في «المنهل الصافي» فأحببت ذكرها هنا لأهميتها. قال:
هو جكم بن عبد الله بن عوض الظاهري الأمير سيف الدين المتغلب على حلب الملقب بالملك العادل، كان من عتقاء الملك الظاهر برقوق ومن أعيان خاصكيته، ثم إمرة عشرة ثم طبلخاناه، ثم صار في دولة ابن أستاذه الملك الناصر فرج بن برقوق أمير ماية ومقدم ألف بالديار المصرية، ولا زال يترقى حتى صار دوادارا كبيرا، ثم حصل بينه وبين الأمير يشبك وقعة في مصر (بسطها في المنهل) انتصر فيها جكم وعظم في الدولة وهابته الأمراء، ثم حصل بين الملك الناصر فرج وبين الأمير جكم والأمير نوروز وقعة (بسطها في المنهل أيضا) انكسر فيها هذان وفرا في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد، ثم طلب جكم يستأذن الحضور فأذن له في ذلك، ولما أتى قيد وأرسل إلى الإسكندرية محبوسا، واستمر كذلك إلى أن أخذه الأمير دمرداش المحمدي نائب طرابلس لما ولي نيابة حلب ممسوكا معه إلى حلب، وكان وصول دمرداش إليها في رمضان سنة ست وثمانماية، واستمر جكم أيضا محبوسا عنده بدار العدل إلى أن توجه دمرداش من حلب في شهر ذي القعدة لقتال صاحب
__________
(1) أشرنا إلى ذلك في الجزء الثالث ص 442.(5/150)
الباز التركماني، فصحب جكم معه إلى قلعة القصير فحبسه بها ثم أخذه منها في عوده إلى حلب في يوم عرفة واعتقله بحلب مدة، ثم أطلقه وطيب خاطره، فلم يكن إلا أياما يسيرة هرب جكم إلى حماة ثم خرج منها إلى أنطاكية إلى صاحب الباز عدو دمرداش، وبلغ دمرداش خبره فجمع لقتالهما وخرج من حلب حتى وصل إلى أنطاكية، فتحصن جكم وابن صاحب الباز بأنطاكية فلم يقدر دمرداش عليها وعاد إلى حلب، ثم توجه جكم إلى طرابلس وملكها من نائبها الأمير شيخ السليماني وأقام بها مدة، ثم توجه إلى حلب فخرج دمرداش إليه وتقاتلا فانكسر دمرداش وفر ودخل جكم حلب من باب أنطاكية سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانماية، واستفحل أمره في حلب وخرج لقتال يغمور التركماني حتى عدى الفرات، ثم عاد إلى حلب وضرب الدهر ضرباته حتى خرج يشبك الشعباني هاربا من الديار المصرية إلى الشام ومعه جمع كبير، فتلقاه نائب دمشق الأمير شيخ المحمودي بالإكرام وأنزله بدمشق واتفقوا على كلمة واحدة، وأرسل الجميع إلى جكم يسألونه موافقتهم فأجاب، وخرج من حلب في رمضان وقدم دمشق واتفق رأي الجميع على قصد الديار المصرية (ثم ساق ما كان بين هؤلاء وبين الملك الناصر صاحب مصر من الأمور والوقائع التي انتهت بفرار جكم وشيخ وغيرهما من الأمراء في طائفة يسيرة ثم قال):
وبعد ذلك أرسل الملك الناصر إلى الأمير علان نائب حماة بنيابة حلب عوضا عن جكم وأخلع على بكتمر جلق بنيابة طرابلس، وأنعم بنيابة حماة على الأمير دقماق المحمدي، وتوجه الجميع إلى البلاد الشامية، فلما قاربوا دمشق خرج جكم وشيخ منها وافترقا ودخل نوروز دمشق.
فأما جكم فإنه توجه نحو طرابلس فدخلها، ثم خرج منها في أناس قلائل وقصد الصبيبة، وكان الأمير شيخ قد توجه إليها عند خروجه من دمشق، فداما فيها إلى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانماية فقصدا دمشق، فخرج نوروز لقتالهما فانكسر وتوجه هاربا نحو طرابلس، فأخذ جكم وشيخ دمشق ودخلا بمن معهما ثم خرجا في طلب نوروز بطرابلس، فخرج نوروز منها ومعه بكتمر جلق نائبها إلى الأمير دقماق نائب حماة وأرسلوا بطلب الأمير علان نائب حلب لقتال جكم وشيخ، فحضر وحضر أيضا جكم وشيخ وتقاتلوا أياما والسلطان يومئذ الملك المنصور عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق. وكان دمرداش إذ ذاك عند التركمان فجمع وأتى حلب فملكها في غيبة نائبها علان، وبلغ علان
فركب من فوره هو والأمير نوروز وتوجها إلى حلب وكبسوا الأمير دمرداش، ففر دمرداش هاربا بعد أن قتل كثير من جماعته، واستمر بحماة الأمير بكتمر جلق ونائبها الأمير دقماق وعجزوا عن ملاقاة جكم وشيخ، فانتهز جكم الفرصة وقاتلهم فانكسر دقماق وقبض عليه وقتل بين يدي جكم، وهرب بكتمر جلق إلى حلب وأخذ جكم وشيخ حماة. ففي أثناء ذلك ظهر الملك الناصر برقوق (وقد كان محبوسا في الكرك) وتسلطن ثانيا وخلع أخوه المنصور عبد العزيز وحبس.(5/151)
فأما جكم فإنه توجه نحو طرابلس فدخلها، ثم خرج منها في أناس قلائل وقصد الصبيبة، وكان الأمير شيخ قد توجه إليها عند خروجه من دمشق، فداما فيها إلى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانماية فقصدا دمشق، فخرج نوروز لقتالهما فانكسر وتوجه هاربا نحو طرابلس، فأخذ جكم وشيخ دمشق ودخلا بمن معهما ثم خرجا في طلب نوروز بطرابلس، فخرج نوروز منها ومعه بكتمر جلق نائبها إلى الأمير دقماق نائب حماة وأرسلوا بطلب الأمير علان نائب حلب لقتال جكم وشيخ، فحضر وحضر أيضا جكم وشيخ وتقاتلوا أياما والسلطان يومئذ الملك المنصور عبد العزيز بن الملك الظاهر برقوق. وكان دمرداش إذ ذاك عند التركمان فجمع وأتى حلب فملكها في غيبة نائبها علان، وبلغ علان
فركب من فوره هو والأمير نوروز وتوجها إلى حلب وكبسوا الأمير دمرداش، ففر دمرداش هاربا بعد أن قتل كثير من جماعته، واستمر بحماة الأمير بكتمر جلق ونائبها الأمير دقماق وعجزوا عن ملاقاة جكم وشيخ، فانتهز جكم الفرصة وقاتلهم فانكسر دقماق وقبض عليه وقتل بين يدي جكم، وهرب بكتمر جلق إلى حلب وأخذ جكم وشيخ حماة. ففي أثناء ذلك ظهر الملك الناصر برقوق (وقد كان محبوسا في الكرك) وتسلطن ثانيا وخلع أخوه المنصور عبد العزيز وحبس.
ولما بلغ الملك الناصر خبر جكم وشيخ أرسل إلى شيخ بنيابة دمشق، وإلى جكم بنيابة حلب وذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانمائة فدخل جكم إلى حلب ثم أضيف إليه نيابة طرابلس، وكان الأمير فارس بن صاحب الباز التركماني قد تغلب على أنطاكية وبغراس والقصير وبارين وصهيون واللاذقية وجبلة وعدة بلاد أخر وقويت شوكته بحيث إن عسكر حلب كان قد ضعفت من ملاقاته، فتوجه الأمير جكم وكسره ونهبه وقتل وأسر واستمر إلى أن حصره بأنطاكية، ولما كان بحصاره بلغه أن الأمير نعير بن حيار أمير العرب توجه لأخذ حلب حمية لابن صاحب الباز، فترك جكم حصار ابن صاحب الباز وتوجه إلى نعير فوافاه على قنسرين فقاتله وكسره بعد قتال شديد وقبض عليه وجهزه إلى حلب وكان آخر العهد به، ثم رجع جكم لحصار ابن صاحب الباز وقد تحصن بقلعة القصير فطال عليه الأمر فسأل الأمان ونزل من القلعة فقتل هو وولده وأخوه واستولى جكم على جميع القلاع.
وبلغ الناصر ذلك فاستوحش منه وعزله بالأمير دمرداش المحمدي فجمع دمرداش العساكر والنواب بالبلاد الشامية والتقى الجميع بين حمص والرستن فانكسر دمرداش وشيخ نائب الشام وولوا الأدبار إلى دمشق، وقبض جكم على علان وطولو من باشاة نائب صفد وقتلهما معا في شهر ذي الحجة سنة ثمان وثمانماية. وبلغ ذلك الملك الناصر فتجرد إلى البلاد الشامية لاستنقاذها من الأمير جكم، فلما سمع جكم بخروج الملك الناصر توجه إلى جهة الروم وتبعه الأمير نوروز الحافظي موافقة له، فدخل الملك الناصر حلب في خامس عشرين شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانماية وخرج منها عائدا في مستهل جمادى الآخرة من السنة بعد أن ولى الأمير جاركس القاسمي المصارع نيابة حلب فوليها يوما واحدا وخرج صحبة الملك الناصر خوفا من جكم.(5/152)
فلما سمع جكم بعود الملك الناصر عاد إلى حلب فدخلها في تاسع جمادى الآخرة من السنة، وأرسل جكم الأمير نوروز من تحت أمره إلى نيابة دمشق. واستمر جكم في حلب إلى يوم السبت تاسع شوال سنة تسع وثمانماية أمر بجمع أعيان أهل حلب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان فجمعوا في جامع حلب الأموي وحلفهم لنفسه وأظهر الدعوة له وخلع السلطان الملك فرج بن برقوق، واستمر إلى يوم الأحد عاشره لبس أبّهة السلطنة في دار العدل وركب بشعار السلطنة من دار العدل إلى القلعة وتلقب بالملك العادل أبي الفتح وكتب إلى المملكة الشامية بذلك، فرد عليه الجواب على يد رسلهم بالامتثال وقبل الأمير نوروز له الأرض وغيره.
ثم توجهوا نحو البيرة لما بلغه عصيان نائبها عليه الأمير كزل فملكها بالأمان وقتل نائبها، ثم توجه إلى آمد لقتال قرابلك، فلما وصل إلى ماردين نزل إليه صاحبها الملك الظاهر وتوجه معه إلى آمد، فلما وصل جكم إلى آمد تهيأ قرابلك لملاقاته وصاففه فلم يثبت قرابلك وانكسر أقبح كسرة وولت عساكره الأدبار ودخلوا البلد وقتل الأمير جكم إبراهيم بن قرابلك بيده. ثم اقتحم جكم في طائفة من عسكره ثم توسط بين بساتين آمد وكانوا قد أرسلوا المياه على أراضي آمد فوحلت الأرض بحيث يدخل فيها الفارس بفرسه (قلت:
وهذا مما شاهدناه في سنة ست وثلاثين وثمانماية لما توجه الملك الأشرف برسباي انتهى).
فدخل جكم بفرسه إلى تلك المياه وأخذه الرجم من كل جهة، ثم ضربه بعض التركمان بحجر في مقلاع وهو لا يعرفه فأصاب وجهه، فتجلد قليلا ثم سقط عن فرسه وتكاثرت التركمان على من معه وقتلوهم، ثم فطنوا بذهاب جكم فأخذت عساكره سيوف التركمان فما عفوا ولا كفوا، وطلب جكم بين القتلى حتى عرفوه فقطع قرابلك رأسه وبعث به إلى الملك الناصر فرج، وقتل في هذه الوقعة ممن كان مع جكم الأمير ناصر الدين بن شهري والملك الظاهر عيسى صاحب ماردين وحاجبه فياض وفر الأمير تمربغا المشطوب وكمشبغا العيساوي ووصلا حلب. وكانت قتلة جكم يوم الأربعاء خامس عشرين شهر ذي القعدة سنة تسع وثمانماية.
وكان جكم ملكا جليلا شجاعا مقداما مهابا جوادا وافر الحرمة كثير الدهاء حسن الرأي والتدبير، ذا قوة وجبروت وسطوة، وفيه ميل إلى العدل في الرعية، وهذا بخلاف المتغلبين على البلاد من الملوك حتى قيل في حقه: حكم جكم وما ظلم. وكان عفيفا عن
المنكرات والفروج. وكان يجتمع عنده في كل ليلة بقلعة حلب الفقهاء ويتذاكرون بين يديه في العلوم. وكان يحب المديح ويهش له وكان حريصا على حب الرياسة مغرما بذلك قديما وحديثا. وكان للطول أقرب، حنطي اللون أسود اللحية والحاجبين كثير الشعر في جسده، قليل الهزل كثير الوقار. وكان عارفا بطرق الرياسة والاستجلاب لخواطر الرعية.(5/153)
وكان جكم ملكا جليلا شجاعا مقداما مهابا جوادا وافر الحرمة كثير الدهاء حسن الرأي والتدبير، ذا قوة وجبروت وسطوة، وفيه ميل إلى العدل في الرعية، وهذا بخلاف المتغلبين على البلاد من الملوك حتى قيل في حقه: حكم جكم وما ظلم. وكان عفيفا عن
المنكرات والفروج. وكان يجتمع عنده في كل ليلة بقلعة حلب الفقهاء ويتذاكرون بين يديه في العلوم. وكان يحب المديح ويهش له وكان حريصا على حب الرياسة مغرما بذلك قديما وحديثا. وكان للطول أقرب، حنطي اللون أسود اللحية والحاجبين كثير الشعر في جسده، قليل الهزل كثير الوقار. وكان عارفا بطرق الرياسة والاستجلاب لخواطر الرعية.
حدثني بعد أعيان المماليك الظاهرية برقوق قال: كانت سفرته إلى آمد بسعادة الملك الناصر فرج، وإلا لو توجه جكم إلى القاهرة ما اختلف عليه أحد لحب الناس له اهـ.
498 - مسعود بن شعبان الحساني المتوفى بعد سنة 809
مسعود بن شعبان بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن مسعود بن علي بن محمد ابن عبيد بن هبة الله الشرف أبو عبد الله الحساني الطائي الحلبي الشافعي.
قال شيخنا في إنبائه: أصله من دير حسان، ونشأ فتفقه قليلا، ثم صار ينوب في أعمال البر عن القضاة، ثم ولي قضاء حلب عوضا عن ابن أبي الرضى، ثم عزل ثم أعيد، ثم عزل بابن مهاجر سنة تسعين وسبعمائة، ثم ولاه الشهاب الزهري قضاء حمص.
وكان جاهلا مقداما يعرف طرق السعي، وله دربة في الأحكام. واشتهر بأخذ المال من الخصوم، فحكى لي نائب الحكم جمال الدين بن العراقي الحلبي وكان خصيصا به أنه أوصاه أن لا يأخذ من أحد من الخصمين إلا من يتحقق أنه الغالب.
وسار مع كمشبغا لما توجه للظاهر عند خروجه من الكرك فلم يزل صحبة الظاهر إلى أن دخل القاهرة فرعى له ذلك، فلما استقرت قدمه في الملك ولاه قضاء دمشق بعد قضاء حمص، وكذا ولي في الفتنة أيضا قضاء دمشق وغيرها، وتنقل في الولايات إلى أن استقر بطرابلس ومات بها في رمضان سنة تسع.
قال العلاء ابن خطيب الناصرية بعد أن عزل ولكن لم يبلغه ذلك ظنا قال: وكان رئيسا كريما محتشما عنده مكارم أخلاق ومداراة للدولة ومحبة للعلماء، وأنشد عنه نظما لغيره اهـ.(5/154)
499 - طيبغا الشريفي المتوفى سنة 810
طيبغا، ويسمى عبد الله أيضا، الشريفي عتيق الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف بحلب.
سمع مع أولاده من الجمال ابن الشهاب محمود، وتعلم الخط معهم من الشيخ حسن ففاق في الخط الحسن بحيث كتب الناس عليه. واستقر في وظيفته تعليم الخط بالجامع الكبير، ثم أجلسه الكمال ابن العديم مع العدول، وفر في الكائنة العظمى إلى دمشق فأقام بها مدة وعلم الخط إلى أن مات في آخر سنة عشر (1). ذكره شيخنا في إنبائه تبعا لابن خطيب الناصرية، ونقل عنه أنه قال: كتب عليه بحلب وقرأت عليه الحديث بالقاهرة في سنة ثمان وثماني ماية اهـ.
500 - عمر بن إبراهيم بن العديم المتوفى سنة 811
عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله الكمال أبو حفص بن الكمال أبي إسحق بن ناصر الدين أبي عبد الله بن الكمال أبي حفص العقيلي الحلبي ثم المصري الحنفي، ويعرف بابن العديم وبابن أبي جرادة.
ولد سنة أربع وخمسين وسبعمائة، كما جزم به شيخنا في إنبائه. وأما في «رفع الإصر» فقال: في سنة إحدى وستين، وهو الذي في عقود المقريزي، بحلب ونشأ بها واشتغل وحصل طرفا من الفقه وأصوله، وسمع الحديث من ابن حبيب وأبيه، وولي قضاء العسكر ببلده، وكذا ناب في الحكم فيها عن أبيه، ثم استقل به في سنة أربع وتسعين وحصل أملاكا وثروة كبيرة. ودخل القاهرة غير مرة للاشتغال وغيره، ثم استوطنها لما طرق التتار البلاد الشامية وأسر مع من أسر وعوقب وأخذ منه مال واعتقل مع المعتقلين بقلعة حلب، ثم خلص مع بقية القضاة الذين كانوا بالقلعة، فتوجه القاضي كمال الدين إلى أريحا ثم منها إلى الديار المصرية فقدمها في شوال سنة ثلاث، وحضر مجلس الأمين الطرابلسي قاضيها، ثم سعى حتى استقر عوضه في القضاء في رجب سنة خمس وثمانمائة، وكذا نزع مشيخة الشيخونية من الشيخ زاده بحكم اختلال عقله لمرض أصابه مع وجود ولد له فاضل اسمه
__________
(1) في «الضوء اللامع» ذكر أنه مات في آخر سنة خمس عشرة.(5/155)
محمود، وكان ناب عن أبيه فيها، فما نهض لمواقعته، وهذا في سنة ثمان، وخالط الأمراء وداخل الدولة وكثر جاهه وعظم ماله، سيما ولم يكن يتحاشى عن جمع المال من أي وجه كان.
قال شيخنا في إنبائه: وكان كثير المروءة متواضعا بشوشا كثير الجرأة والإقدام والمبادرة إلى القيام في حظ نفسه محبا في جمع المال بكل طريق.
(وفي رفع الأصر): كان شهما فصيحا مقداما يعاب بأشياء ويحمد بأشياء كثيرة منها التعصب لمن يقصده والقيام مع من يلوذ به. قال: وقرأت بخط المقريزي: كان من شر القضاة جرأة وجمعا وخلة وبادرة ووثوبا على الدنيا وتهافتا على جمع المال من غير حله وتجاهرا بالربا، وأفرط في استبدال الأوقاف. وكان مفرطا في التواضع بحيث يمشي على قدميه من منزله إلى من يقصد من الأكابر. قال: وفي الجملة كان من رجال الدنيا (1).
قال غيره: من بيت رياسة وعلم وقضاء، أفتى ودرس وشارك في العربية والأصول والحديث، من رجال الدنيا دهاء ومكرا، خبيرا بالسعي في أموره، يقظا غير متوان في حاجته، كثير العصبية لمن يقصده، ماهرا في الحكم ذكيا.
قال ابن خطيب الناصرية: إنه باشر بحرمة وافرة وكلمة نافذة، وكان رئيسا كبيرا محترما ذا هيبة، وجيها عند الملوك. وأرخ مولده في سنة ستين أو إحدى وستين. مات في يوم السبت ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة بعد أن مرض شهرا ونصفا، ورغب قبل موته لولده ناصر الدين محمد وهو شاب عن مشيخة الشيخونية وقبلها المنصورية، وباشرها في حياته وأوصاه أن لا يفتر عن السعي في القضاء، فامتثل أمره واستقر بعده. وفيه يقول عثمان بن محمد الشغري الحنفي:
ابن العديم الذي في عينه عور ... وليس محمودة في الناس سيرته
أليس أن عليه ستر عورته ... لكن نزول القضا أعمى بصيرته
اهـ.
__________
(1) قال في المنهل الصافي في آخر ترجمته بعد ذكره بعض ما قاله شيخه المقريزي ما نصه: كلام المقريزي لا يسمع في ابن العديم لوجوه عديدة، منها لتعصبه لابن الطرابلسي، ومنها لواقعة حصلت لابنه ناصر في حقه وفي هذا كفاية اهـ.(5/156)
501 - محمد بن عبد الرحمن بن سحلول المتوفى سنة 812
محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن سحلول ناصر الدين أبو عبد الله ابن الشمس الحلبي الماضي والده، ويعرف بابن سحلول.
كان إنسانا حسنا رئيسا كبيرا عنده حشمة ومروءة وكرم أخلاق. تولى مشيخة خانكاه والده الذي كان ناظر الخاص بحلب، ثم مشيخة الشيوخ بحلب بعد موت السيد عماد الدين الهاشمي، فباشرها مدة وسمع على البرهان الحلبي بها وعلى أحمد بن عبد الكريم الأربعين المخرجة من مسلم وعلى ابن الحبال جزء المناديلي كلاهما في بعلبك. وسافر إلى القاهرة فحج ثم عاد فمات بعقبة أيلة في المحرم سنة اثنتي عشرة.
ذكره ابن خطيب الناصرية وكذا شيخنا في إنبائه وقال: إنه لما ولي مشيخة خانقاه والده كان أهل حلب يترددون إليه لرياسته وحشمته وسؤدده ومكارم أخلاقه بحيث كان مواظبا على إطعام من يرد عليه. وعظم جاهه لما استقل الجمال الأستادار بالتكلم في المملكة، فإنه كان قريبه من قبل أمه، فأم جمال الدين هي ابنة عبد الله وزير حلب عم الشمس أبي هذا، بل لما قدم القاهرة بالغ الجمال في إكرامه وجهزه حين كان ابنه أحمد أمير الركب معه إلى الحجاز في أبهة زائدة، فحج وعاد فمات بعقبة أيلة وسلم مما آل إليه أمر قريبه وآله اهـ.
502 - إلياس بن سعيد قاضي حلب المتوفى سنة 812
إلياس بن سعيد بن علي الفيرشهري الحنفي نزيل حلب، يلقب موفق الدين.
اشتغل في عدة فنون، وترقى إلى أن ولي قضاء حلب في سنة 788عوضا عن المحب ابن الشحنة، فباشر سنتين ثم عزل وأعيد ابن الشحنة، واستمر إلياس بطالا إلى أن مات في سنة 812اهـ. (الدرر الكامنة).
503 - فاطمة الحسينية المتوفاة سنة 813
فاطمة بنت أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن زيد
ابن جعفر بن أبي إبراهيم محمد، أم الحسن ابنة النقيب الشهاب ابن أبي العلاء (1) الحسينية الحلبية أخت نقيب الأشراف العز أحمد، وهي أسن.(5/157)
فاطمة بنت أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن زيد
ابن جعفر بن أبي إبراهيم محمد، أم الحسن ابنة النقيب الشهاب ابن أبي العلاء (1) الحسينية الحلبية أخت نقيب الأشراف العز أحمد، وهي أسن.
ولدت سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة أو التي بعدها، وسمعت الكثير على جدها لأمها الجمال إبراهيم ابن الشهاب محمود، وأجاز لها جماعة منهم المزي، وحدثت بحلب، سمع منها ابن خطيب الناصرية وقال في تاريخه: كانت عاقلة دينة، ماتت في يوم السبت من العشر الأول من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ودفنت بمشهد الحسين في سفح جبل جوشن عند أجدادها. وقد ذكرها شيخنا في معجمه باختصار وسمى جد والدها علي بن محمد ابن علي وقال: أجازت لي. وذكرها في موضع آخر على الصواب. وهي عند المقريزي في عقوده، ولكونه لم يعلم وقت موتها قال: ماتت بعد سنة اثنتين اهـ.
504 - محب الدين أبو الوليد محمد بن محمد بن محمد ابن الشحنة المتوفى سنة 815
صاحب «روض المناظر»
محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود بن الختلو المحب أبو الوليد الحلبي الحنفي، ويعرف كسلفه بابن الشحنة، وزاد المقريزي في نسبه محمدا رابعا غلطا.
ولد سنة تسع وأربعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها في كنف أبيه، فحفظ القرآن وكتبا، وأخذ عن شيوخ بلده والقادمين إليها. وارتحل في حياة أبيه لدمشق والقاهرة فأخذ عن مشايخها، وما علمت من شيوخه سوى السيد عبد الله فقد أثبته البرهان الحلبي، بل قال ولده إن ابن منصور والألفي أذنا له في الإفتاء والتدريس قبل أن يلتحي، وإنه بعد مضي سنة من وفاة والده ارتحل إلى القاهرة أيضا ونزل بالصر غتمشية واشتهرت فضائله بحيث عينه أكمل الدين وسراج الدين لقضاء بلده وأثنيا عليه، فولاه إياه الأشرف شعبان وذلك في سنة ثمان وسبعين عوضا عن الجمال إبراهيم بن العديم، ورجع إلى بلده على قضائها فلم تطل مدته في الولاية، ثم صرف عن قرب بالجمال المشار إليه، ثم أعيد واستمر إلى
__________
(1) في «الضوء اللامع»: الشهاب بن أبي المجد العلوية الحسينية.(5/158)
بعد كائنة الناصري مع الظاهر برقوق فعزله لما كان بحلب، وذلك في سنة ثلاث وتسعين بسبب صحبته للناصري، بل امتحنه بالمصادرة والسجن وما كفه عن قتله إلا الله على يد الجمال محمود الأستادار مع مساعدته على مقاصده، وكذا امتدحه بعدة مدائح بحيث اختص به، واستصحبه معه إلى القاهرة فأقام بها نحو ثلاث سنين ثم عاد إلى بلده فأقام بها بطالا ملازما للاشتغال والإشغال مع مساعدته على مقاصده والتصنيف، وعظمه جكم حين ولي نيابتها تعظيما بالغا وامتحن بسببه، فلما قدمها الناصر ولاه قضاءها في سنة تسع وثمانمائة واستمر، ثم لما اختلفت الدول حصلت له أنكاد من أجل أنه ولي عن شيخ (اسم الملك) لما كان يحارب الناصر قضاء دمشق، فلما قدمها الناصر سنة ثلاث عشرة قبض عليه وعلى جماعة من جهة شيخ منهم التباني وقيدهم، ثم شفع فيهم فأطلقوا وحضروا إلى مصر، فعني بصاحب الترجمة كاتب السر فتح الله حتى استقر في عدة وظائف كتدريس الجمالية بعد وفاة مدرسها محمود بن زاده، وعظمه الناصر بحيث إنه كما قال ولده: جلس في الموكب بحضرته مع كونه معزولا عن قضاء حلب فوق ناصر الدين بن العديم قاضي مصر، قال: حتى ضج ابن العديم من ذلك ولم يجد له ناصرا.
ثم إنه توجه مع الناصر إلى دمشق، فلما كان بينه وبين المؤيد شيخ علي اللجون ما كان وجاء الناصر إلى دمشق دخلها معه فولاه قضاء مصر في زمن حصاره لدمشق لكون قاضيها ناصر الدين بن العديم كان اتصل بالمؤيد زمن الحصار، ولكنه لم يباشر ولم يرسل لمصر نائبا، فلما انجلت القضية بقتل الناصر الذي كان ابن العديم هو الحاكم بقتله ونقم على المحب انتماءه إليه انقطع عن المجيء بدمشق، واستمر ابن العديم في توجهه إلى مصر قاضيها، وتقايض المحب مع الظهير ابن الآدمي (1) بوظائف لابن الآدمي بدمشق عن وظائف كانت حصلت للمحب بمصر كالجمالية، وأقام المحب بدمشق، فلما توجه نوروز بعد أن اقتسم هو وشيخ البلاد كان نوروز كثير التعظيم للمحب ولاه كما قال ولده جميع ما هو في قسمته من العريش إلى الفرات، قال: فاقتصر منه على بلده ووصل صحبته إليها، كل ذلك في سنة خمس عشرة، فلم تطل أيامه ومات عن قريب في يوم الجمعة ثاني ربيع الآخر فيها وصلي عليه بعد الجمعة تحت القلعة بتربة قراسنقر خارج باب المقام، وكانت
__________
(1) في «الضوء اللامع»: الصدر ابن الأدمي.(5/159)
جنازته حافلة، وممن حمل نعشه ملك الأمراء نوروز ومدحه الجمال عبد الله بن محمد زريق المعري بقصيدة بائية أولها:
لم أدر أن ظبى الألحاظ والهدب ... أمضى من الهند ويات (1) والقضب (هكذا)
وقد وصفه شيخنا في ترجمة أبيه من الدرر بالإمام العلامة، وفي إنبائه بالعلامة، بل ترجم له هو فيه وقال: إنه اشتغل قديما ونبغ وتميز في الفقه والأدب والفنون، وإنه لما رجع من القاهرة إلى حلب يعني قبل القرن أقام ملازما للاشتغال والتدريس ونشر العلم، لكنه مع وصفه له بكثرة الاستحضار وعلو الهمة والنظم الفائق والخط الرائق قال: إنه كثير الدعوى وفي تاريخه أوهام عديدة، ونحوه قوله في معجمه مع وصفه بمحبة السنة وأهلها: إنه عريض الدعوى، له نظم كثير متوسط. قال: ولما فتح اللنك حلب حضر عنده في طائفة من العلماء فسألهم عن القتلى من الطائفتين من هو منهم الشهيد فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فاستحسن كلامه وأحسن إليه.
وذكره ابن خطيب الناصرية فقال: شيخنا وشيخ الإسلام. كان إنسانا حسنا عاقلا دمث الأخلاق حلو النادرة عالي الهمة إماما وعالما فاضلا ذكيا له الأدب الجيد والنظم والنثر الفايقان واليد الطولى في جميع العلوم، قرأت عليه طرفا من المعاني والبيان، وحضرت عنده كثيرا، وكانت بيننا صحبة أكيدة. وصنف في الفقه والتفسير وعلوم شتى. وأورد قصيدة ابن زريق المشار إليها.
وقال البرهان الحلبي: من بيوت الحلبيين، مهر في الفقه والأدب والفرائض مع جودة الكتابة ولطف المحاضرة وحسن الشكالة يتوقد ذكاء وله تصانيف لطاف.
وقال المقريزي في عقوده: إنه أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة، وكان يحب الحديث وأهله، ولقد قام مقاما عجز أقرانه عنه وتعجب أهل زمانه منه، وساق جوابه لتيمور المتقدم وغيره، وكان المجلس له بحيث أوصى جماعته به وبالشرف الأنصاري وأصحابهما وفي إيراد ذلك طول.
__________
(1) الصواب: الهندوانيات، وبها يستقيم الوزن.(5/160)
وقال ولده: بدأ في التفسير وشرح الكشاف ولم يكملهما، وألف لأجلي في الفقه مختصرا في غاية القصر محتويا على ما لم تحتو عليه المطولات جعله ضوابط ومستثنيات، فعدم منه في بعض الأسفار، واختصر منظومة النسفي في ألف بيت مع زيادة مذهب أحمد، ونظم ألف بيت في عشرة علوم إلى غير ذلك في الفقه والأصول والتفسير وعامة العلوم، قال: وحاصل الأمر فيه أنه كان منفردا بالرياسة علما وعملا في بلده وعصره وغرة في جبهة دهره، ولي قضاء حلب ودمشق والقاهرة ثم قضاء الشام كله، وقدم حلب فقدرت وفاته بها، وسلم له في علومه الباهرة وبحوثه النيرة الظاهرة، وانتهى أمره إلى أن ترك التقليد بل كان يجتهد في مذهب إمامه ويخرج على أصوله وقواعده ويختار أقوالا يعمل بها، وأثنى على جميع نظمه. وذكر أن ممن أخذ عنه العز الحاضري والبدر ابن سلامة بحلب، وابن قاضي شهبة وابن الأذرعي بالشام، وابن الهمام وابن التنيسي وابن السقطي وابن عبد الله بمصر، وقرأت بخط آخرهم أنه قرأ عليه بالقاهرة حين قدمها سنة ثلاث عشرة ولزم دروسه إلى سفره من أواخر التي تليها صحبة العسكر، وقال: إن الناصر قربه واستصحبه معه فالله أعلم بذلك كله.
ومن تصانيفه أيضا «اختصار تاريخ المؤيد» صاحب حماة مع التذييل عليه إلى زمنه على طريقة الاختصار، و «سيرة نبوية»، و «الرحلة القسرية بالديار المصرية».
وقد أوردت في ترجمته من «ذيل قضاة مصر» فوائد كثيرة من نظمه ونثره ومطارحات وحكايات. ومن نظمه:
أسماء عشر رسول الله بشرهم ... بجنة الخلد عمن زانها وعمر
سعد سعيد علي عثمان طلحة أبو ... بكر ابن عوف ابن جراح الزبير عمر
وقوله أيضا:
كنت بخفض العيش في رفعة ... منتصب القامة ظلي ظليل
فاحدودب الظهر وها أضلعي ... تعدّ والأعين مني تسيل
اهـ. وذكر في الكشف من مؤلفاته «أوضح الدليل» و «الأبحاث فيما يحل به المطلقة بالثلاث».(5/161)
505 - تغري بردي باني جامع الموازيني المتوفى سنة 815
قال في المنهل الصافي: تغري بردي بن عبد الله بن يشبغا الأتابكي الظاهري نائب الشام.
قال القاضي علاء الدين بن خطيب الناصرية في تاريخه: تغري بردي الأمير الكبير سيف الدين نائب حلب ثم دمشق من عتقاء الملك الظاهر برقوق، قدم الديار المصرية، ثم لما جاء إلى حلب في سنة ست وتسعين وسبعمائة ولاه نيابتها في أواخر السنة المذكورة عوضا عن الأمير جلبان، فسار سيرة حسنة، وكان عنده تعقل وحياء وسكون، وبنى بحلب جامعا كان قد أسسه ابن طوفان بالقرب من الأسفريس فأكمل بناءه ووقف عليه قرية معرة عليا إلا يسيرا منها بعد أن اشتراها من بيت المال، وهي من عمل سرمين، ونصف سوقه التي بحلب تحت قلعتها وغير ذلك. ولما أكمل بناءه ولى خطابته قاضي القضاة كمال الدين أبا حفص عمر بن العديم الحنفي ورتب فيه مدرسا شافعيا وثمان طلبة شافعية ومدرسا حنفيا وثمان طلبة حنفية، كان أولا رتب من كل طائفة عشرة نفر ثم استقر بهم كل طائفة ثمانية، وولى تدريس الشافعية فيه شيخنا أبا الحسن الصرخدي والحنفية شيخا يقال له شمس الدين القرمي، ثم عزله وولى شيخنا أبا الحسن يوسف الملطي. وحضر شيخنا بعد صلاة الجمعة الدرس وحضر النائب المشار إليه والقضاة وأعيان العلماء، وكان الدرس في حديث النهي عن تلقي الركبان. ثم ولاني به تصدير حديث، وكان ولاني قبل ذلك به فقاهة ثم أضاف إليّ التكلم فيه وفي أوقافه رحمه الله تعالى.
وفي الجامع المشار إليه يقول الإمام الرئيس زين الدين أبو حفص عمر بن إبراهيم الرهاوي كاتب السر بحلب وكتبت على منبره:
منبر جامع محاسن فضل ... ذلك الجمع ماله من نظير
خص عزا بجمعة وخطاب ... عن رسول مبشر ونذير
قد بناه لله تغري بردي ... كي يجازى بجنة وحرير
ثم إن الأمير تغري بردي عزل عن نيابة حلب بالأمير أرغون شاه الإبراهيمي وتوجه إلى القاهرة مطلوبا فبقي هناك أميرا على مائة فارس، فلما توفي السلطان الملك الظاهر برقوق وجرى الخلف بين الأمراء المصريين على ما حكيناه في غير هذا الموضع هرب الأمير تغري
بردي من القاهرة إلى الشام إلى الأمير تنم نائبها وجرى له ما جرى واتفق أمر تمر لنك، ثم توجه إلى بلاده وولاه السلطان الملك الناصر فرج نيابة الشام في سنة ثلاث وثمانمائة، ثم عزل بالأمير علاء الدين أقبغا الهذباني وتوجه إلى حلب هاربا إلى الأمير دمرداش نائبها، ثم خرجا عن الطاعة وتوجها إلى التركمان، فركب الأمير تغري بردي في البحر وتوجه إلى الديار المصرية فأكرمه السلطان وولاه إمرة مائة فارس، ثم توجه إلى القدس بطالا فأقام به مدة، ثم توجه إلى القاهرة وولي بها إمرة مائة فارس، ثم استقر أتابك العساكر الإسلامية بالديار المصرية، ثم لما صالح السلطان الملك الناصر فرج الأمير شيخ بالكرك ولى تغري بردي المذكور نيابة دمشق وذلك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، واستمر بها حتى حصل له مرض في أثناء سنة أربع عشرة وتزايد به إلى أن مات في سنة خمس عشرة وثمانمائة في شهر المحرم. وكان رحمه الله أميرا كبيرا كثير الحياء والسكون حليما عاقلا مشارا إليه في الدول. انتهى كلام ابن خطيب الناصرية باختصار.(5/162)
منبر جامع محاسن فضل ... ذلك الجمع ماله من نظير
خص عزا بجمعة وخطاب ... عن رسول مبشر ونذير
قد بناه لله تغري بردي ... كي يجازى بجنة وحرير
ثم إن الأمير تغري بردي عزل عن نيابة حلب بالأمير أرغون شاه الإبراهيمي وتوجه إلى القاهرة مطلوبا فبقي هناك أميرا على مائة فارس، فلما توفي السلطان الملك الظاهر برقوق وجرى الخلف بين الأمراء المصريين على ما حكيناه في غير هذا الموضع هرب الأمير تغري
بردي من القاهرة إلى الشام إلى الأمير تنم نائبها وجرى له ما جرى واتفق أمر تمر لنك، ثم توجه إلى بلاده وولاه السلطان الملك الناصر فرج نيابة الشام في سنة ثلاث وثمانمائة، ثم عزل بالأمير علاء الدين أقبغا الهذباني وتوجه إلى حلب هاربا إلى الأمير دمرداش نائبها، ثم خرجا عن الطاعة وتوجها إلى التركمان، فركب الأمير تغري بردي في البحر وتوجه إلى الديار المصرية فأكرمه السلطان وولاه إمرة مائة فارس، ثم توجه إلى القدس بطالا فأقام به مدة، ثم توجه إلى القاهرة وولي بها إمرة مائة فارس، ثم استقر أتابك العساكر الإسلامية بالديار المصرية، ثم لما صالح السلطان الملك الناصر فرج الأمير شيخ بالكرك ولى تغري بردي المذكور نيابة دمشق وذلك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، واستمر بها حتى حصل له مرض في أثناء سنة أربع عشرة وتزايد به إلى أن مات في سنة خمس عشرة وثمانمائة في شهر المحرم. وكان رحمه الله أميرا كبيرا كثير الحياء والسكون حليما عاقلا مشارا إليه في الدول. انتهى كلام ابن خطيب الناصرية باختصار.
أقول: والمترجم والد يوسف بن تغري بردي مؤلف «المنهل الصافي». وبعد أن ذكر ما قدمناه أخذ في ترجمة والده وتنقلات أحواله في ست ورقات، ثم ذكر وفاته في التاريخ المتقدم.
وتقدم الكلام على جامعه في الجزء الثاني (في صحيفة 390) ثم رأيت في كنوز الذهب في الكلام على هذا الجامع أن تغري بردي ندب لعمارته مشدا يقال له ابن الزين فما عدل، وأقام له خطيبا قاضي المسلمين كمال الدين بن العديم، ثم صارت الخطابة لولده ناصر الدين ثم لشهاب الدين أخي كمال الدين فخطب ولده في حياته، ثم لما توفي في فصل سنة خمس وعشرين انتقلت إلى شيخنا شهاب الدين ابن الموازيني.
أقول: وبهذا ظهر سبب تسمية الجامع بالموازيني لا ما قلته ثمة.
وكتب أبو ذر على الهامش أن تغري بردي توفي سنة خمس عشرة وثمانماية، وكان متواضعا يعرف شيئا من العلم. وقال قبل ذلك: هذا الجامع في قبليته انحراف والحائط الغربي تهدم في تكلم شيخنا المؤرخ فجدده من مال الوقف، وكان يتردد إلى عمارته وجد في ذلك، وعلى بابه حوض للسبيل ومكتب للأيتام من إنشاء تغري بردي المذكور، ووقف على ذلك أوقافا مبرورة من جملتها في معرة عليا من عمل سرمين اهـ.(5/163)
506 - العجل بن نعير أمير آل فضل المتوفى سنة 816
العجل بن نعير بن حيار بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصية بن فضل بن بدر بن ربيعة أمير آل فضل بالشام والعراق.
نشأ في حجر أبيه، فلما جاوز العشرين خرج عن طاعته، ثم لما كان جكم بحلب وخرج لقتال ابن صاحب الباز إلى جهة أنطاكية توجه إليه العجل نجدة له وآل الأمر إلى أن انكسر نعير وجيء به إلى جكم، فلما رآه قال لابنه: انزل فقبل يد أبيك، فجاء ليفعل فأعرض عنه أبوه.
ثم إن جكم رسم على نعير وجهزه إلى حلب، واستمر العجل في خدمة جكم إلى أن توحش منه فهرب، ولم يزل يحارب ويقاتل إلى أن قتل على يد طوخ في ربيع الأول سنة ست عشرة، وحمل رأسه فعلق على باب قلعة حلب وسنه ثلاثون سنة، وبقتله انكسرت شوكة آل مهنا. ويقال إنه كان عفيفا عن الفروج. ترجمه ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا في إنبائه مطولا. وقيل اسمه يوسف بن محمد والله أعلم اهـ.
507 - عبد الرحمن بن المهاجر المتوفى سنة 817
عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الله بن المهاجر الزين الحلبي كاتب سرها، بل ولي نظر جيشها أيضا.
كان إنسانا حسنا لطيفا عنده حشمة وكياسة. قرأ البخاري على البرهان الحلبي، وكان يقرؤه على الناس بجامع باحسيتا ويعطي يوم ختمة القراء الذين يحضرون عليه من عنده. وولي مشيخة خانقاه الصالح ببلده بعد القاضي شمس الدين محمد.
مات في يوم السبت ثاني عشر شعبان سنة سبع عشرة بعد ارتفاع الطاعون ودفن بتربة دقماق وكانت جنازته حافلة. ذكره ابن خطيب الناصرية وتبعه شيخنا في إنبائه باختصار اهـ.
508 - الأمير طوخ نائب حلب المتوفى سنة 817
طوخ بن عبد الله الظاهري الأمير سيف الدين المعروف ببطيخ.(5/164)
هو من مماليك الملك الظاهر برقوق، ووقع له بعد موت أستاذه الظاهر برقوق أمور وحوادث إلى أن قتل الملك الناصر فرج وصار الأمير نوروز الحافظي نائب دمشق وحاكم البلاد الشامية، انضم طوخ المذكور إلى نوروز وولي نيابة حلب، فلما عصى نوروز الملك المؤيد وافقه طوخ ودام معه إلى أن ظفر المؤيد بنوروز وقبض عليه قبض على طوخ هذا أيضا وقتله أيضا ذبحا في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر سنة سبع عشرة وثمانماية بعد أن حوصر بقلعة دمشق مدة طويلة مع الأمير نوروز اهـ. (المنهل الصافي).
أقول: لم يذكر المترجم في السالنامة في جملة من ولي حلب، ولعل ولايته عليها كانت في أواخر سنة 812من قبل نوروز بعد أن اصطلح نوروز مع نائب الشام شيخ وتحالفا على العصيان على الملك الناصر واستوليا على البلاد الحلبية والشامية كما ذكرناه في الجزء الثاني من التاريخ في حوادث سنة 812.
509 - محمد بن عمر بن العديم المتوفى سنة 819
محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة ناصر الدين أبو غانم وأبو عبد الله بن الكمال أبي القاسم وأبي حفص ابن الكمال أبي إسحق العقيلي بالضم الحلبي ثم القاهري الحنفي، ويعرف كسلفه بابن العديم وبابن أبي جرادة.
ولد في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بحلب، وحفظ بها في صغره كتبا واشتغل على مشايخها كأبيه واستمع على مسندها عمر بن أيدغمش وغيره. وقدم القاهرة مع أبيه وهو شاب فشغله في فنون على غير واحد من الشيوخ كقارىء الهداية، وقرأ بنفسه على الزين العراقي قليلا من ألفيته. ومات أبوه بعد رغبته له عن تدريس المنصورية ثم الشيخونية تدريسا وتصوفا ومباشرته لذلك في حياته وأوصاه أن لا يترك بعده المنصب ولو وهب فيه جميع ما خلفه، فقبل الوصية وبذل حتى استقر فيه قبل استكماله عشرين سنة في ثالث المحرم سنة اثنتي عشرة بعد الأمين الطرابلسي. واستمر إلى أن سافر مع الناصر سنة قتله، فاتصل بالمؤيد حين حصره للناصر في دمشق فغضب منه الناصر فعزله وقرر أبا الوليد ابن الشحنة الحلبي، ولم يلبث أن قتل الناصر بحكم هذا قبل مباشرة المستقر ولا إرساله لمصر نائبا، فأعيد الحاكم، ثم صرف في جمادى الأولى سنة خمس عشرة بالصدر
الآدمي قبل دخول المؤيد القاهرة وقبل تسلطنه، وبذل حينئذ مالا حتى أعيدت إليه في رجبها مشيخة الشيخونية بعد صرف الأمين الطرابلسي.(5/165)
ولد في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بحلب، وحفظ بها في صغره كتبا واشتغل على مشايخها كأبيه واستمع على مسندها عمر بن أيدغمش وغيره. وقدم القاهرة مع أبيه وهو شاب فشغله في فنون على غير واحد من الشيوخ كقارىء الهداية، وقرأ بنفسه على الزين العراقي قليلا من ألفيته. ومات أبوه بعد رغبته له عن تدريس المنصورية ثم الشيخونية تدريسا وتصوفا ومباشرته لذلك في حياته وأوصاه أن لا يترك بعده المنصب ولو وهب فيه جميع ما خلفه، فقبل الوصية وبذل حتى استقر فيه قبل استكماله عشرين سنة في ثالث المحرم سنة اثنتي عشرة بعد الأمين الطرابلسي. واستمر إلى أن سافر مع الناصر سنة قتله، فاتصل بالمؤيد حين حصره للناصر في دمشق فغضب منه الناصر فعزله وقرر أبا الوليد ابن الشحنة الحلبي، ولم يلبث أن قتل الناصر بحكم هذا قبل مباشرة المستقر ولا إرساله لمصر نائبا، فأعيد الحاكم، ثم صرف في جمادى الأولى سنة خمس عشرة بالصدر
الآدمي قبل دخول المؤيد القاهرة وقبل تسلطنه، وبذل حينئذ مالا حتى أعيدت إليه في رجبها مشيخة الشيخونية بعد صرف الأمين الطرابلسي.
ثم سافر للحج مستخلفا في التدريس شيخه قارىء الهداية وفي التصوف الشهاب ابن سفري، فوثب عليهما الشرف التباني وانتزعها منهما، ثم أعيد إلى القضاء في رمضان التي تليها بعد موت ابن الآدمي واستمر حتى مات.
وكان خفيف اللحية يتوقد ذكاء، سمحا بأوقاف الحنفية متساهلا في شأنها إجازة وبيعا حتى كادت تخرب لو دام قليلا خربت كلها، كثير الوقيعة في العلماء، قليل المبالاة بأمر الدين، يكثر المظاهرة بالمعاصي لا سيما الربا، بل كان سيء المعاملة جدا أحمق أهوج متهورا محبا في المزاح والفكاهة مثريا ذا حشم ومماليك فصيحا باللغة التركية. وقد امتحن في الدولة الناصرية على يد الوزير سعد الدين البشيري وصودر مع كونه قاضيا. وبالجملة كان من سيئات الدهر.
مات قبل استكمال ثمان وعشرين سنة في ليلة السبت تاسع ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثمانمائة بعد أن كان ذعر من الطاعون التي وقع فيها ذعرا شديدا، فصار دأبه أن يستوصف ما يدفعه، ويستكثر من ذكر أدعية ورقى وأدوية، بل تمارض حتى لا يشهد ميتا ولا يدعى لجنازة خوفا من المقدر، فقدر الله سلامته من الطاعون وابتلاه بالقولنج الصفراوي بحيث اشتد به الخطب وكان سبب موته ودفن بالصحراء بالقرب من جامع (طشتمر حمص أخضر) عفا الله عنه وإيانا.
ذكره ابن تغري بردي وقال: إنه كان زوج أخته وإن المقريزي رماه بعظائم برىء منها والله أعلم بحاله منه كذا قال اهـ. (الضوء اللامع). من الجزء الموجود في مكتبة الأحمدية المحرر عليه «طبقات الحنفية» للسخاوي.
510 - خليل بن مقبل المتوفى في هذا العقد ظنا
خليل بن مقبل بن عبد الله العلقمي مولدا والحلبي منشا والحنفي مذهبا.
شرح مقدمة أبي الليث السمرقندي شرحا نافعا جيدا وفرغ من تبييضه قبل العصر
في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة بالقدس الشريف اهـ. (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل).(5/166)
شرح مقدمة أبي الليث السمرقندي شرحا نافعا جيدا وفرغ من تبييضه قبل العصر
في مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وسبعمائة بالقدس الشريف اهـ. (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل).
أقول: وله شرح على مصابيح السنة للبغوي ذكره في الكشف في الكلام على شروح المصابيح.
ولم أقف على تاريخ وفاته فوضعناه مع وفيات هذا العقد. وله أخ توفي سنة 879 كان مؤذنا ومحدثا في جامع حلب ستأتيك ترجمته في هذا التاريخ.
511 - عبد الله بن عصرون المتوفى سنة 821
عبد الله بن إبراهيم بن أحمد الجمال الحراني الأصل الحلبي الحنبلي.
كان يذكر أنه من ذرية الشرف ابن أبي عصرون (من رجال القرن السادس) وأنه شافعي الأصل، وولي قضاء الشغر قبل الفتنة شافعيا، وكذا كانت له وظائف في الشافعية بحلب، ثم تحول بعد مدة حنبليا وولي قضاء الحنابلة بحلب مرة بعد أخرى.
قال العلاء بن خطيب الناصرية: وكان حسن السيرة دينا عاقلا، ولي القضاء ثم صرف ثم أعيد مرارا، ثم صرف قبل موته بعشرة أشهر، ومات في شعبان سنة إحدى وعشرين.
ذكره شيخنا عن نحو من ست وستين سنة، ودفن بتربة الأذرعي والباريني خارج باب المقام من حلب. ذكره شيخنا في إنبائه باختصار اهـ.
512 - أحمد بن هلال الزنديق المتوفى سنة 923
أحمد بن هلال الشهاب الحسباني ثم الحلبي الصوفي، ويعرف بابن هلال.
قال شيخنا في إنبائه: قليلا عن القاضي (يعني أخذ قليلا عن) شمس الدين ابن الخراط وغيره، وكان مفرط الذكاء، وأخذ التصوف عن الشمس البلالي، ثم توغل في مذهب الوحدة ودعا إليه وصار كثير الشطح وجرت له وقايع. وكان أتباعه يبالغون في إطرائه ويقولون هو نقطة الدائرة إلى غير ذلك من مقالاتهم المستبشعة.
وذكره في «لسان الميزان» فقال: أحد زنادقة الوقت. ولد بعد السبعين بدمشق،
وقدم حلب على رأس القرن فقرأ على القاضي شرف الدين الأنصاري في مختصر ابن الحاجب الأصلي، ودرس في المنتقى لابن تيمية، وقرأ في أصول الدين. فلما كانت كائنة الططر وقع في أسر اللنكية وشج رأسه، ثم خلص منهم بعد مدة وبرح إلى القاهرة فأقام بها وأخذ عن بعض شيوخها وصحب البلالي مدة، ثم رجع إلى حلب فصحب الأطعاني، ثم انقطع فتردد إليه الناس وعقد الناموس وصار يدعي دعاوي عريضة، منها أنه مجتهد مطلق، ويطلق لسانه في أكابر الأئمة وأنه مطلع على الكائنات ولا يعتني بعبادة ولا مواظبة على الجماعات، ويدعي أنه يأخذ من الحضرة وأنه نقطة الدائرة، ونقل عن أتباعه كفريات صريحة. وسمع شخصا ينشد قصيدة نبوية فقال: هذه فيّ. وقال لأتباعه: إن أقصرتم بي عن درجة النبوة نقصتم منزلتي. وزعم أنه يجتمع بالأنبياء كلهم في اليقظة وأن الملائكة تخاطبه في اليقظة، وأنه عرج به إلى السموات، وأن موسى أعطي مقام التكليم ومحمدا مقام التكميل وهو أعطي المقامين معا إلى غير ذلك مما ذاع واشتهر. وكثر أتباعه وعظم بهم الخطب واشتدت الفتنة به، وقام عليه جماعة وتعصب له بعض الأكابر إلى أن مات في تاسع عشر شوال سنة ثلاث وعشرين. نقلت ترجمته من خط البرهان المحدث بحلب. قلت: وما تقدم عن إنبائه ذكره في سنة أربع وعشرين والأول أشبه. وسمعت المحب ابن الشحنة يحكي أنه أخذ عنه وأنه أيف (هكذا ولعله أصيب) في عقله وليس هذا ببعيد عن من يصدر منه الخرافات.(5/167)
وذكره في «لسان الميزان» فقال: أحد زنادقة الوقت. ولد بعد السبعين بدمشق،
وقدم حلب على رأس القرن فقرأ على القاضي شرف الدين الأنصاري في مختصر ابن الحاجب الأصلي، ودرس في المنتقى لابن تيمية، وقرأ في أصول الدين. فلما كانت كائنة الططر وقع في أسر اللنكية وشج رأسه، ثم خلص منهم بعد مدة وبرح إلى القاهرة فأقام بها وأخذ عن بعض شيوخها وصحب البلالي مدة، ثم رجع إلى حلب فصحب الأطعاني، ثم انقطع فتردد إليه الناس وعقد الناموس وصار يدعي دعاوي عريضة، منها أنه مجتهد مطلق، ويطلق لسانه في أكابر الأئمة وأنه مطلع على الكائنات ولا يعتني بعبادة ولا مواظبة على الجماعات، ويدعي أنه يأخذ من الحضرة وأنه نقطة الدائرة، ونقل عن أتباعه كفريات صريحة. وسمع شخصا ينشد قصيدة نبوية فقال: هذه فيّ. وقال لأتباعه: إن أقصرتم بي عن درجة النبوة نقصتم منزلتي. وزعم أنه يجتمع بالأنبياء كلهم في اليقظة وأن الملائكة تخاطبه في اليقظة، وأنه عرج به إلى السموات، وأن موسى أعطي مقام التكليم ومحمدا مقام التكميل وهو أعطي المقامين معا إلى غير ذلك مما ذاع واشتهر. وكثر أتباعه وعظم بهم الخطب واشتدت الفتنة به، وقام عليه جماعة وتعصب له بعض الأكابر إلى أن مات في تاسع عشر شوال سنة ثلاث وعشرين. نقلت ترجمته من خط البرهان المحدث بحلب. قلت: وما تقدم عن إنبائه ذكره في سنة أربع وعشرين والأول أشبه. وسمعت المحب ابن الشحنة يحكي أنه أخذ عنه وأنه أيف (هكذا ولعله أصيب) في عقله وليس هذا ببعيد عن من يصدر منه الخرافات.
وذكره ابن أبي عذيبة فقال: الشيخ الإمام الصالح الزاهد الورع العارف المحقق شهاب الدين. سئل الشيخ عمر بن حاتم العجلوني عن أمثل من رأت عيناه في الدنيا في العلم والعمل فقال: من الأموات ابن هلال ومن الأحياء ابن رسلان. سمع كثيرا وعمر. مات سنة إحدى وعشرين اهـ.
وذكره في الضوء قبل ذلك مرة ثانية وسماه أحمد بن عمر بن هلال وقال: اشتغل بحلب وقدم القاهرة فصحب البلالي، ثم رجع لبلده وكثر أتباعه ومعتقدوه، ولكن حفظت عنه شطحات. فمقته الفقهاء في إظهار طريق ابن عربي فلم يزد أتباعه في ذلك إلا محبة فيه وتعظيما له حتى كانوا يسمونه نقطة الدائرة. ومات سنة أربع وعشرين. ترجمه هكذا المقريزي في عقوده اهـ.(5/168)
513 - أحمد بن إبراهيم السرميني الفلكي المتوفى سنة 824
أحمد بن إبراهيم بن ملاعب شهاب الدين السرميني ثم الحلبي الفلكي، ويعرف بابن ملاعب.
وكان أستاذا ماهرا في علم الهيئة وحل الزيج وعمل التقاويم مبرزا فيه، انفرد بذلك بحلب في وقته بحيث كانوا يأخذون تقاويمه إلى البلاد النائية ويرسلون في طلبها، ولذا كانت سائر نوابها تقربه مع نسبته لرقة الدين وانحلال العقيدة وترك الصلاة وشرب الخمر بحيث لم يكن عليه أنس الدين. تحول من حلب خوفا من بعض الأمراء إلى صفد فسكنها وكانت منيته بها في سنة أربع وعشرين وقد جاوز الثمانين. ذكره ابن خطيب الناصرية مطولا وقال إنه اجتمع به مرارا. وحكى أنه قال لبعض الأمراء ممن سماه في محاربة: لا تركب الآن فليس هذا الوقت بجيد لك، فخالفه وركب فقتل في حكايات نحو ذلك وقعت له فيها إصابات كثيرة يحفظها الحلبيون. قال: وسمعته مرارا يقول: هذا الذي أقوله ظن وتجربة ولا قطع فيه. قال شيخنا في إنبائه: وسمعت القاضي ناصر الدين ابن البارزي يبالغ في إطرائه اهـ.
514 - محمد بن خليل الحاضري المتوفى سنة 824
محمد بن خليل بن هلال بن حسن العز أبو البقا ابن الصلاح الحاضري الحلبي الحنفي والد العز محمد والشهاب أحمد.
ولد في أحد الجماديين سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وعند المقريزي سنة ست، ونشأ فحفظ خمسة عشر كتابا في فنون، وأخذ عن حيدر والشمس بن الأقرب في آخرين كالجمال ابن العديم والشرف موسى الأنصاري والسراج الهندي، وأخذ النحو عن أبي عبد الله وأبي جعفر الأندلسيين، ورافق البرهان الحلبي والشرف الأنصاري في الأخذ عن مشايخهما كثيرا سماعا واشتغالا في الرحلة وغيرها، وسمع كل منهم بقرآءة الآخر قبل الثمانين وبعدها، فممن سمع عليه الظهير ابن العجمي وقريبة العز والجمال بن العديم والكمال بن النحاس وابن رباح وأبو البركات موسى بن فياض الحنبلي والبرهان بن بلبان الصابوني. وارتحل إلى دمشق فقرأ بها على ابن أميلة سنن أبي داود والترمذي في آخرين. ودخل القاهرة غير مرة فأخذ
عن المولى المنفلوطي وانتفع به والجمال الأسنوي وابن الملقن والجلال البتاني، ثم في مرة أخرى جمع القراءات السبع على الشمس العسقلاني وأذن له في الإقراء، وسمع مفرداته على الشيخ يعقوب. وقرأ على الزين العراقي علوم الحديث وأجاز له، وكذا علم الحديث عن الصدر الياسوفي والكمال ابن العجمي، وتكسب في بلده بالشهادة كأبيه، ثم ناب عن أبي الوليد ابن الشحنة مدة، ثم ولاه قاضيها الشافعي قضاء سرمين، ثم استقل بقضاء مذهبه في بلده سنة إحدى عشرة عوضا عن أبي الوليد المشار إليه بعناية دمرداش نائبها، ثم صرف بأبي الوليد في سنة خمس عشرة ولم يلبث أن مات فأعيد.(5/169)
ولد في أحد الجماديين سنة سبع وأربعين وسبعمائة، وعند المقريزي سنة ست، ونشأ فحفظ خمسة عشر كتابا في فنون، وأخذ عن حيدر والشمس بن الأقرب في آخرين كالجمال ابن العديم والشرف موسى الأنصاري والسراج الهندي، وأخذ النحو عن أبي عبد الله وأبي جعفر الأندلسيين، ورافق البرهان الحلبي والشرف الأنصاري في الأخذ عن مشايخهما كثيرا سماعا واشتغالا في الرحلة وغيرها، وسمع كل منهم بقرآءة الآخر قبل الثمانين وبعدها، فممن سمع عليه الظهير ابن العجمي وقريبة العز والجمال بن العديم والكمال بن النحاس وابن رباح وأبو البركات موسى بن فياض الحنبلي والبرهان بن بلبان الصابوني. وارتحل إلى دمشق فقرأ بها على ابن أميلة سنن أبي داود والترمذي في آخرين. ودخل القاهرة غير مرة فأخذ
عن المولى المنفلوطي وانتفع به والجمال الأسنوي وابن الملقن والجلال البتاني، ثم في مرة أخرى جمع القراءات السبع على الشمس العسقلاني وأذن له في الإقراء، وسمع مفرداته على الشيخ يعقوب. وقرأ على الزين العراقي علوم الحديث وأجاز له، وكذا علم الحديث عن الصدر الياسوفي والكمال ابن العجمي، وتكسب في بلده بالشهادة كأبيه، ثم ناب عن أبي الوليد ابن الشحنة مدة، ثم ولاه قاضيها الشافعي قضاء سرمين، ثم استقل بقضاء مذهبه في بلده سنة إحدى عشرة عوضا عن أبي الوليد المشار إليه بعناية دمرداش نائبها، ثم صرف بأبي الوليد في سنة خمس عشرة ولم يلبث أن مات فأعيد.
وكان محمود الطريقة مشكور السيرة، ولكنه عيب لما صدر منه في إعادة كنيسة سرمين، وقيل فيه بعض الأبيات، وتفرد في بلده وصار المشار له فيها، بل قال البرهان الحلبي: لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذي اجتمع فيه من العلم الغزير والتواضع الكثير والدين المتين والمحافظة على الجماعة والذكر والتلاوة والاشتغال بالعلم. زاد غيره: وكان المؤيد يحبه ويكرمه ويعظمه ويقطعه إقطاعا، فلما كانت سنة ثلاث وعشرين سأل الإعفاء وأن يكون ابنه العز عوضه لفالج عرض له فأجيب، وكذا قال غيره: كان حفظة علامة في فنون، مشارا له في فقه الحنفية ببلده مع كثرة التواضع والانبساط، رضي الخلق والديانة والصيانة، جميل الطريقة.
قال بعض الآخذين عنه ما ملخصه: كان إماما عالما بفنون من نحو وصرف وقراءات وفقه وحديث وغيرها سيما العربية متواضعا طارحا للتكليف، وضع شرحا على توضيح ابن هشام وشذوره، وحاشية على مغنيه، واختصر جلاء الأفهام لابن القيم، وشرح بعض المنار وهم بشرح الهداية فما اتفق.
مات بحلب في يوم السبت عاشر ربيع الأول سنة أربع وعشرين بعد أن أصيب كما سبق بفالج وتغير عقله يسيرا، وتقدم للصلاة عليه البرهان الحلبي ودفن خارج باب المقام بالقرب من تربة سودون قرب المدرسة الظاهرية، وكانت جنازته مشهودة.
قال شيخنا في إنبائه ومعجمه: وصلينا عليه صلاة الغائب بالجامع الأزهر في أواخر جمادى الأولى عقب صلاة الجمعة رحمه الله وإيانا.
وممن ترجمه ابن خطيب الناصرية والعز من شيوخه بل رفيقه في القضاء، وكذا ترجمه
ابن قاضي شهبة وآخرون كالمقريزي في عقوده وقال: إنه صار المشار إليه في فقه الحنفية مع الديانة والصيانة وجميل الطريقة رحمه الله تعالى وإيانا اهـ.(5/170)
وممن ترجمه ابن خطيب الناصرية والعز من شيوخه بل رفيقه في القضاء، وكذا ترجمه
ابن قاضي شهبة وآخرون كالمقريزي في عقوده وقال: إنه صار المشار إليه في فقه الحنفية مع الديانة والصيانة وجميل الطريقة رحمه الله تعالى وإيانا اهـ.
أقول: ومن مؤلفاته شرح على الفوائد الغياثية في المعاني والبيان لعضد الدين عبد الرحمن الإيجي المتوفى سنة 756. قال في الكشف لخصها من القسم الثالث من مفتاح العلوم كالتلخيص، لكنها أخصر منه، وهي كتاب مفيد معتبر، ثم ذكر شراحها. وهذا الشرح في مجلد لطيف في ثلاثين كراسة هو في خزانة المكتبة الخسروية بحلب محرر سنة 1001، قال ناسخه في آخره: نقلته من خط مؤلفه عز الدين أبي البقا محمد الحاضري الحلبي.
515 - عائشة ابنة التاج ابن عشاير المتوفاة سنة 824
عائشة ابنة التاج عبد الله بن الشهاب أحمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي حامد بن عشاير السلمي الحلبي.
ولدت بعد الستين وسبعماية، وسمعت من جدها الخطيب الشهاب أحمد وابن صديق، وأجاز لها في سنة سبع وستين الأحمدون ابن عبد الكريم البغلي وابن يوسف الخلاطي وابن النجم وحسن بن الهبل والبهاء بن خليل والموفق الحنبلي ومحمود المنبجي والحراوي وخلق.
وحدثت سمع منها الفضلاء كابن موسى والأبي. وذكرها شيخنا في معجمه وقال: أجازت في الاستدعاء الذي فيه رابعة انتهى.
ماتت في رمضان سنة أربع وعشرين بحلب اهـ.
516 - محمد بن محمد بن خليل الحاضري المتوفى سنة 825
محمد بن محمد بن خليل بن هلال العز بن العز بن الصلاح الحاضري الحلبي قاضيها الحنفي الماضي أبوه.
ذكره شيخنا في إنبائه وقال: قال البرهان الحلبي: ولي القضاء فسار سيرة جميلة.
ومات بالطاعون سنة خمس وعشرين رحمه الله اهـ.(5/171)
517 - صالح بن أحمد السفّاح المتوفى سنة 825
صالح بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عمر بن أحمد صلاح الدين بن الشهاب بن السفّاح الحلبي أخو عمر الآتي، وهما توأمان، سبط قاضيها الشرف الأنصاري.
ولد سنة خمس وتسعين وسبعماية، وأحضر على ابن أيدغمش، وسمع على ابن صديق، وقرأ شيئا في النحو. لما ولي أبوه كتابة السر استقر في توقيع الدست وناب عن أبيه.
وكان محتشما متوددا إلى الناس وافر العقل.
مات في الطاعون في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين قاله شيخنا في إنبائه اهـ.
518 - بدر الدين محمد بن أحمد الحسيني الإسحاقي المتوفى سنة 825
الرئيس الفاضل الشريف بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عز الدين أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر ابن أبي إبراهيم محمد الممدوح الحسيني الحلبي نقيب الأشراف بحلب وابن نقيبها وكاتب السر بها، وهو المذكور مع أسلافه فيمن مضى من رؤسائها.
كان إنسانا حسنا يستحضر طرفا من التاريخ يذاكر به.
ولي نقابة الأشراف بحلب بعد موت والده، ثم ولي كتابة سر حلب من قبل المؤيد في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. ولما جاء فصل الطاعون إلى حلب في سنة خمس وعشرين وثمانمائة كتب وصيته وتركها معه في جيبه، ولا يزال يذكر الموت وتحدثه نفسه بأنه يموت في الفصل إلى أن مرض أياما ثم انتقل إلى رحمة الله حادي عشر جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة ودفن بسفح جبل جوشن بحوش مشهد الحسين عند أجداده وله من العمر نيف وأربعون سنة.
519 - محمد بن موسى الأنصاري المتوفى سنة 825
ولي الدين أبو زرعة محمد بن شرف الدين موسى الأنصاري ابن محمد بن محمد بن أبي بكر بن جمعة الحلبي الأنصاري خطيب جامعها الأكبر.(5/172)
توفي تاسع رجب سنة خمس وعشرين وثمانمائة. وكان شابا حسنا حسن المحاضرة عليه سيما الأنصار. خطب بجامع حلب بعد والده، وترقى إلى قضاء الشافعية بها ولم يلها فاخترمته المنية. وقرأ على والدي كثيرا، وكان والدي يعظمه ويقدمه على أقرانه لنسبه وصحبة والده. واتفقت له محنة مع المؤيد فباع فيها بعض كتبه، وذاك أنه خطب بجامع حلب والمؤيد حاضر فذكر الظلم وحذر منه، فأخذ المؤيد في نفسه وقال: إياي عنى.
ولما توفي دفن عند والده وخلف ولدا صغيرا اسمه يوسف فغيره بموسى باسم جده.
ونشأ في حشمة ورياسة، وخطب مكان أبيه، توفي وهو شاب في سنه وانقرض هذا البيت المبارك اهـ. (كنوز الذهب والضوء اللامع).
520 - محمد بن علي الغزي المتوفى سنة 826
محمد بن علي بن أحمد بن أبي البركات الشمس الغزي ثم الحلبي، ويعرف بابن أبي البركات.
ولد سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بغزة وتعانى الاشتغال بالقراءات فمهر، واشتغل بدمشق في الفقه مدة، وقطن حلب وأقبل على التلاوة والإقراء فانتفع به الحلبيون واقرأ غالب أكابرهم، وأقرأ الفقراء بغير أجرة. وممن قرأ عليه ابن خطيب الناصرية وقال: إنه رجل دين خير صالح من أهل القرآن مديم لإقرائه بالجامع الكبير بحلب احتسابا بحيث وأقرأ عليه غالب أولادها وانتفعوا به، وله اشتغال مع ذلك في الفقه بدمشق وحلب ومداومة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تأخذه في القيام مع الحق لومة لائم، وكذا كان مداوما على التلاوة مع الشيخوخة وللناس فيه اعتقاد.
مات في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول سنة ست وعشرين وصلي عليه في يومه، تقدم الناس البرهان الحلبي. ذكره شيخنا في إنبائه باختصار وقال: المعروف بالبركات بدل ابن أبي البركات، وما علمت الصواب منهما اهـ.(5/173)
521 - علم الدين داود الكويز المتوفى سنة 826
علم الدين داود بن عبد الرحمن بن داود (أبو عبد الرحمن بن الزين) (1) الشوبكي (الكركي القاهري، ويعرف بابن الكويز تصغير كوز) (2).
مات سلخ رمضان سنة ست وعشرين وثمانمائة بعد أن طال مرضه، وكانت أمور المملكة في مدة مرضه لا تصدر إلا عن رأيه وتدبيره، وكان يجتمع بالسلطان خلوة. وأبوه عبد الرحمن خدم نائب الكرك حتى قرره في كتابة السر، ثم تحول إلى حلب فخدم كمشبغا الكبير وقدم معه القاهرة صاحب ديوانه. ونشأ علم الدين هذا ترفا صلفا مسعود الحركات، وصاهر ابن أبي الفرج، وكان أخوه خليل أسن منه، ثم اتصلا بشيخ نائب الشام قبل سلطنته فخدماه وهو ينوب في طرابلس ثم في دمشق ثم في حلب، ثم قدما معه إلى القاهرة فعظم شأنهما. وباشر علم الدين نظر الجيش بطرابلس ثم بدمشق وامتحن هو وأخوه في وقعة صرخد وصودر، ثم لما تسلطن شيخ تقرر في نظر الجيش، ثم اختص بالظاهر ططر وتقرر عنده كاتب السر.
وكان دينا يتعفف عن الفواحش ويلازم مجالس أهل الخير مع طول الصمت. ومن حسناته أنه لما كان بشقحب صحبة الظاهر راجعا إلى مصر استأذنه في زيارة القدس، فتوجه من طريق نابلس فشكى إليه أهل القدس والخليل ما أضربهم من أمر الجباية، وكانت للنيابة بالقدس ويحصل منها لفلاحي القرى إجحاف شديد، ويحصل للنائب ألوف دنانير ولمن يتولى استخراج ذلك ضعفه، فلما رجع استأذن السلطان في إبطال هذه المظلمة فأذن له، فكتب مراسيم وقرئت بالقدس والخليل فكثر الدعاء له بسبب ذلك.
آثاره في حلب:
قال أبو ذر في الكلام على درب الدلبة: وكان به حبس وبه شجرة دلب، وكان بهذا الدرب حمّام تسمى حمام العفيف، والآن به حمّامان أنشأهما علم الدين ابن الكويز.
وكان بهذا الدرب مسجد، قاله ابن شداد، والآن هناك مسجد معلق. ومن آثاره إنشاء الميضاة بالقرب من الحمّام المذكورة على الشارع اهـ.
__________
(1) ما بين قوسين إضافة من «الضوء اللامع» ليست في الأصل.
(2) ما بين قوسين إضافة من «الضوء اللامع» ليست في الأصل.(5/174)
522 - يوسف الحسفاوي المتوفى سنة 829
يوسف بن خالد بن أيوب الجمال الحسفاوي الحلبي الشافعي، وحسفايا من قرى حلب.
نشأ بحلب وحفظ القرآن، وتفقه بالشهاب بن أبي الرضى ولازمه وكان تربيته وقرأ عليه القراءات السبع، ثم سافر إلى ماردين فقرأ بها القراءات على الزين سريجا. وولي قضاء ملطية سنين ثم قضاء حلب مرة بعد مرة، وكذا ولي قضاء طرابلس أيضا عودا على بدء، وقضاء صفد وكتابة سرها، ودخل القاهرة.
وكان ذكيا فاضلا عارفا بالنحو والتفسير والفقه حسن الشكالة فايق الكتابة ذا نظم جيد. ومن أول قصيدة كتب بها لبعضهم:
أوجهك هذا أم سنا البدر لامع ... فقد أشرقت بالنور منك المطالع
حديثك للسمار خير فكاهة ... وذكرك بالمعروف والعرف شائع
مات بطرابلس في ثالث عشر المحرم سنة تسع وعشرين. ذكره ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا باختصار في إنبائه اهـ.
523 - يوسف السمرقندي المتوفى سنة 829
يوسف الجمال السمرقندي الحنفي.
ولي قضاء الحنفية بحلب بعد عزل الشمس بن أمين الدولة في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين، ومات في التي بعدها، قتل مسموما وأعيد المنفصل. وكان فاضلا مع إعجاب بنفسه ودعوى من غير زائد وصف. ذكره العيني اهـ.
524 - علي بن خليل بن قراجا الدلغادري المتوفى في نواحي سنة 830
علي بن خليل بن قراجا بن دلغادر الشهير بعلي باك التركماني الأرتقي الأمير علاء الدين أمير التركمان ببلد مرعش وما والاها وابن أميرهم.(5/175)
قدم حلب مرارا تارة طائعا وتارة مقاتلا، وكان أقام بها قديما مدة هو وأخوه محمد وأقطعهما السلطان الملك الظاهر إقطاع إمرة بحلب. ولما قتل الأمير جكم في أواخر سنة تسع وثمانمائة وخلت حلب عن نائب وكان ابن علي باك محبوسا بقلعة حلب حبسه فيها الأمير جكم ودخلت سنة عشر وثمانمائة جمع الأمير علي باك جمعا كثيرا من التركمان الأزقية والبياضية وغيرهم نحو خمسة آلاف نفر وقصد حلب، فوصل إلى دابق، وسير إليه أهل حلب يسألونه الرجوع عن حلب فطلب منهم ابنه. ثم جاء إلى حلب فنزل بالميدان الأخضر شمالي حلب، وخرج أهل حلب لقتاله فجرت بينهم وقعة انكسر أهل حلب ودخلوا البلد، وكان ذلك يوم الخميس سادس أو سابع عشر المحرم سنة عشر وثمانماية، واستمر يحاصر حلب. وكان بقلعة حلب جماعة عصوا ووافقوا علي باك. وجعل الحلبيون يقاتلون علي باك والتركمان خارج السور يقاتلون أهل القلعة ويرمون على الحلبيين.
واستمر علي باك بالتركمان يحاصرون حلب أياما فجهز أهل حلب إليه ابنه فلم يفد ذلك شيئا ولم يزده إلا بغيا، ونهب القرى التي حول البلد وأفسد في البر إفسادا كثيرا، ثم انتقل من الجهة الشمالية فنزل قبلي حلب على السعدي وما حوله، ثم جد هو وجماعته في الحصار واشتد أهل حلب لقتاله، هذا ولم يكن بحلب من الجند إذ ذاك إلا نحو عشرين فارسا، وحصل لأهل حلب ضيق عظيم وشدة، وقاتل أهل حلب أشد القتال بحيث إنهم كانوا يجرحون من التركمان كل يوم خلقا كثيرا وقتلوا منهم جماعة، وجرح من أهل حلب أيضا جماعة وقتل.
واستمر الحصار بحلب ثاني عشر صفر منها فانهزم التركمان وعلي باك عن حلب لما سمعوا أن الأمير نوروز الحافظي نائب دمشق وصل إلى حماة وكسر العجل بن نعير، وكان العجل إذ ذاك محاصر حماة ففرج الله بالأمير نوروز المذكور عن أهل حماة وأهل حلب وجفل علي باك والتركمان وانهزموا متوجهين نحو بلادهم، وكل ذلك بتدبير الله ولطفه بأهل حلب وببغي علي باك عليهم وردوا خاسرين خائبين {فَقُطِعَ دََابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ}.
وكان بعض أهل حلب رأى في المنام الشيخ سراج الدين البلقيني رحمه الله تعالى فسأله عن حال أهل حلب فقال: ليس عليهم بأس، ولكن رح إلى خادم السنة إبراهيم المحدث يعني شيخنا أبا إسحق وقل له تقرأ عمدة الأحكام ليفرج الله عن المسلمين، فقرأها شيخنا
المذكور في جمع من طلبة العلم وغيرهم بالمدرسة الشرفية يوم الجمعة بكرة النهار ودعا للمسلمين بالفرج، فاتفق أنه في آخر ذلك النهار جاء التركمان من ناحية قرنبيا وقاتلوا، فخرج إليهم جمع من أهل حلب فرسانا ومشاة فجرى بينهم معركة شديدة قبلي حارة السودان، فأذن الله بالنصر ورجوع الأعداء المجرمين على أعقابهم، ولم يقم لهم بعد ذلك راية بل هزمهم الله تعالى بعد يومين مغلولين.(5/176)
وكان بعض أهل حلب رأى في المنام الشيخ سراج الدين البلقيني رحمه الله تعالى فسأله عن حال أهل حلب فقال: ليس عليهم بأس، ولكن رح إلى خادم السنة إبراهيم المحدث يعني شيخنا أبا إسحق وقل له تقرأ عمدة الأحكام ليفرج الله عن المسلمين، فقرأها شيخنا
المذكور في جمع من طلبة العلم وغيرهم بالمدرسة الشرفية يوم الجمعة بكرة النهار ودعا للمسلمين بالفرج، فاتفق أنه في آخر ذلك النهار جاء التركمان من ناحية قرنبيا وقاتلوا، فخرج إليهم جمع من أهل حلب فرسانا ومشاة فجرى بينهم معركة شديدة قبلي حارة السودان، فأذن الله بالنصر ورجوع الأعداء المجرمين على أعقابهم، ولم يقم لهم بعد ذلك راية بل هزمهم الله تعالى بعد يومين مغلولين.
واستمر علي باك سائرا إلى بلاده، وتارة يطيع النواب ويجتمع بهم وتارة يخالفهم ويخرج عنهم.
ولما جاء الملك الظاهر ططر إلى حلب وكان إذ ذاك مدبر المماليك والسلطان المظفر أحمد وعمره نحو ثلاث سنين جاء علي باك إلى حلب إلى عند ططر في شعبان سنة أربع وعشرين وثمانماية فتلقاه يوم خروجه من حلب على عين مباركة، فترحب به ططر وأحسن إليه وأنعم عليه إنعاما زائدا وولاه نيابة عين تاب، فتوجه إليها واستمر في النيابة إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف برسباي فعزله عنها واستمر معزولا وهو بناحية مرعش، ثم طلبه السلطان الملك الأشرف إلى مصر فجاء إلى حلب ثم توجه منها إلى القاهرة.
زيادة بيان في حصار علي باك لحلب ثم خبر قتله في نواحي سنة 830
قال في كنوز الذهب: وفي سادس عشر المحرم سنة عشر (وثمانماية) حضر علي باك ابن خليل بن قراجا دي الغادر المقتول بحلب في التاريخ الآتي حلب ومعه أمراء من التركمان كابن كبك وكردي باك وغيرهما من العرب الكعبيين (1) كسندمر وابن سمح، واستمر ذلك والناس يقاتلونهم خارج السور. وكان نزولهم بالميدان الأخضر أياما ثم انتقلوا إلى السعدي، وفي غالب الأيام لما كانوا بالميدان الأخضر كانوا يأتون باب الفرج يقاتلون فيخرج إليهم العوام والعانيون يقاتلونهم ويستظهرون عليهم، ولما كانوا بالسعدي وما حوله كانوا يأتون كل يوم للقتال فتخرج إليهم العامة ومعهم العانيون وتارة أهل بانقوسا. واستمر ذلك إلى تاسع صفر فكسرهم الترك الذين بحلب وهو يوم الجمعة ومنها وهنوا.
__________
(1) في الأصل: الكعبيون.(5/177)
ثم قال بعد أوراق: في أول يوم من شوال سنة ست وعشرين وصل كافل حلب جارقطلو وكان شهما مع جنون. (إلى أن قال): واستقر جارقطلو في كفالة حلب إلى جمادى الأولى سنة ثلاثين، وهو الذي كتب إلى أهل عين تاب يعلمهم أن علي باك المتقدم ذكره إذا حصل عندهم يطالعونه بذلك، فحصل عندهم فأعلموه، فركب إلى عين تاب وخرج من حلب وحده من باب النيرب لئلا يشعر به أنه خرج إلى عين تاب، وتبعه شهاب الدين بن السفاح كاتب السر، وما زال راكبا، وأرسل شخصا من الطريق بين يديه وقال له: من وجدته في الطريق فأمسكه، فسار فإذا هو براكب فأمسكه فإذا هو نذير إلى عين تاب يعلمه بأن الكافل واصل، فوصل الكافل إلى عين تاب بكرة النهار فإذا هو بعلي باك قد سكر تلك الليلة وبات عند قينة وهو نائم، فأرسل إليه فأيقظه وأخبره بوصول الكافل، فنزل ومنديله في عنقه فأمسكه وجاء به إلى حلب، ثم أدعى عليه بأنه قتل ابن عمه. وفي غضون الدعوى سل علي باك سيف محمد الحاجب بحلب وهو الذي كان ماسكا بجنزيره ليقتل غريمه، فجذبه الحاجب بجنزيره فوقع إلى الأرض فضربه المدعي فقتله. ثم إنه غسل وكفن ودفن بالجبيل إلى جانب السور. انتهى.
وهنا كما ترى لم يذكر سنة قتله ولا ريب أنها كانت ما بين سنة 826إلى سنة 830.
525 - عبد الرحمن بن الشحنة المتوفى سنة 830
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود بن ختلو فتح الدين أبو البشرى الحلبي المالكي أخو علي والمحب محمد الحنفي الأسن والمحب الأكبر، ويعرف كسلفه بابن الشحنة.
ولد في سنة ثلاث وخمسين وسبعماية وسمع على الظهير ابن العجمي والكمال ابن حبيب وابن الصابوني، ومما سمعه عليه سنن الدمياطي، وأخذ عن أبيه وأخيه والزين (1) الهندي، وناب عن أخيه في قضاء الحنفية بحلب، وولي إفتاء دار العدل، ثم تحول بعد الفتنة العظمى مالكيا وولي قضاء المالكية ببلده نيفا وعشرين سنة، ولم يتهن بذلك بل حصل له نكد لاختلاف الدول. وقدم القاهرة غير مرة.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: والسراج الهندي.(5/178)
قال ابن خطيب الناصرية: رافقته في القضاء وكان إنسانا حسنا عنده حشمة ومروءة وعصبية، وهو صديقي وحبيبي، وله نظم قليل، فمنه:
يا سادتي رقّوا لرقّة نازح ... لفظته أيدي البعد عن أوطانه
والله ما جلتم بخاطر عبدكم ... إلا وفاض الدمع من أجفانه
وقوله:
لا تلوموا الغمام إن صب دمعا ... وتوالت لأجله الأنواء
فالليالي أكثرن فينا الرزايا ... فبكت رحمة علينا السماء
وأنشد من نظمه أيضا قصيدة نونية.
مات في ليلة السبت ثامن المحرم سنة ثلاثين بحلب ودفن بتربة أشقتمر خارج باب المقام.
وذكره شيخنا في إنبائه وساق له المقطوع الثاني قال: وهذا عنوان نظمه وقد سمعته هو وغيره من نظمه من ابن أخيه. وقال: إنه كان يستحضر الحكايات والنوادر وله نظم حسن. قال: وكان جل أمره العربية ولم يكن بذاك، كذا قال اهـ.
526 - محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 830
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد المحيوي أبو حامد الطوسي الغزالي الشافعي.
قدم من بلاده إلى حلب في رمضان سنة ثلاثين بعد دخوله الشام قديما، وسمع فيها من ابن أميلة وحدث عنه الآن بحلب. ووصفه حافظها البرهان والعلاء ابن خطيب الناصرية بالعلم والدين وأنه قال لهما: إن جده الثامن هو الغزالي. زاد ثانيهما: رأيت أتباعه وتلامذته يذكرون عنه عملا كبيرا وزهدا وورعا وأنه معظم في بلاده من بيت علم ودين. وأخبر بعض الطلبة عنه أنه حج مرارا منها مرة ماشيا على قدم التجريد. قال: وبلغني أنه رأى ملك الموت فسأله متى يموت فقال له: في العشر، فلم يدر أي عشر، فاتفق أنه مات في العشر الأخير من رمضان يوم السبت ثاني عشريه سنة ثلاثين المذكورة بحلب، وكانت جنازته مشهودة. وذكره شيخنا في إنبائه اهـ.(5/179)
527 - كمال الدين إبراهيم أبو إصبع المتوفى سنة 831
الرئيس كمال الدين إبراهيم أبو إصبع ناظر الجيش بحلب.
كان دينا كريما محبا للعلماء والفقراء ويؤثرهم. عمر زاوية بباحسيتا وتعرف بزاوية ناظر الجيش تجاه الجامع العمري. وسبب عمارته لهذه الزاوية جاء إليه الشيخ شمس الدين محمد بن جعفر بن صلاح الشهير بالمجرد البسطامي وذكر له أنه رأى رؤيا بأنه بيني هذا المكان فبناه في سنة خمس وعشرين وثمانماية وسكنه المجرد وذكر فيه. وتوفي كمال الدين سنة إحدى وثلاثين وثمانماية ودفن بالزاوية المذكورة، وتوفي المجرد ثالث عشرين ربيع الأول سنة تسع وأربعين اهـ.
أقول: تغلب الجيران على هذه الزاوية وأدخلوا نحو النصف الشمالي منها في الدار التي وراءها، وأبواب الحجر القديمة ظاهرة في جدارها. والنصف الثاني تغلب عليه بعض الناس أيضا فاتخذوه دارا وبنوا فيه بيوتا، وسبب ذلك إهمالها وإغلاق بابها. ومنذ ثلاث سنين بلغ ذلك دائرة الأوقاف فسعت في استنقاذها وهي الآن بيدها وفي عزمها أن تهدمها وتبني موضعها مخازن. وفي صحن الدار عدة قبور درس بعضها ولم يزل بعض الألواح باقيا ثمة.
528 - علي بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة 831
علي بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي العلاء أبو الحسن بن الكمال الحلبي الحنفي أخو المحب أبي الوليد وعبد الرحمن، ويعرف كسلفه بابن الشحنة.
ولد سنة ست وخمسين وسبعماية، وحفظ القرآن والمختار، وأخذ عن أبيه وأخيه المحب وناب عنه، واستقل بقضاء الغربيات العشرة من معاملات حلب. وكان فاضلا له نظم، من أحسنه ما أنشدنيه ابن أخيه المحب أبو الفضل عنه:
وقطّ كليث كامل الحسن صائد ... وفي عزمه واللون يشبه عنترا
يفوق على قط الزياد تفضلا ... وسميته من نشره المسك عنبرا
وقوله مما نفذ ابن أخيه وصيته بإلقائهما معه في قبره:
إلهي قد نزلت بضيق لحد ... بأوزار ثقال مع عيوب
وعفوك واسع وحماك حصن ... وأنت الله غفار الذنوب
قال: ومن العجيب كونه لم يكن يلحن مع عدم اشتغاله بالعربية، ولكنه كان يحكي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله في إصلاح لسانه فأطعمه حلوى عجمية فكان لا يخطىء بالعربية. مات في سنة إحدى وثلاثين اهـ.(5/180)
إلهي قد نزلت بضيق لحد ... بأوزار ثقال مع عيوب
وعفوك واسع وحماك حصن ... وأنت الله غفار الذنوب
قال: ومن العجيب كونه لم يكن يلحن مع عدم اشتغاله بالعربية، ولكنه كان يحكي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله في إصلاح لسانه فأطعمه حلوى عجمية فكان لا يخطىء بالعربية. مات في سنة إحدى وثلاثين اهـ.
529 - عبد الرحمن بن محمد التاذفي الحنبلي المتوفى بعد سنة 832
هو الجد الثاني للعلامة رضي الدين محمد الحنبلي صاحب «در الحبب».
وقد ترجمه في تاريخه هذا فقال: هو عبد الرحمن ابن الشيخ بدر الدين الحسن بن محمد ابن أحمد بن داود بن سليمان أقضى القضاة زين الدين أبو البشرى وأبو محمد الربعي التاذفي الحلبي الحنبلي، جدي الثاني لأبي.
قطن ببلدة حلب وتأهل فيها بزينب بنت الشهاب أحمد بن عبد الواحد بن علي بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن يوسف بن عبد الواحد السعدي العبادي الأنصاري الحنفي والدها، فولد منها جدي الجمال الحنبلي، وكان قد اقام بتاذف، وهي بالمثناة الفوقية والمعجمة المكسورة موضع على بريد من حلب بين الباب وبزاعا، لأنه بوادي بطنان الواقع بينهما، ويومئذ كان أخذه لمذهب الإمام أحمد رضي الله عن قاضي القضاة شرف الدين موسى بن أبي الجود فياض بن عبد العزيز بن فياض المقدسي النابلسي الحنبلي قاضي حلب لما اعتزل عن وظيفة القضاء وقطن بالباب مهاجرا عن حلب إليها لديانة كانت عنده كما أخبرني بذلك عمي الكمال الشافعي عن أبيه.
وكانت ولاية القاضي شرف الدين لقضاء حلب سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. قال ابن حجر في إنبائه: وهو أول حنبلي قضى بها استقلالا. مات سنة ثمان وسبعين وسبعماية بعد أن أعرض عن الحكم وانقطع للعبادة اهـ.
ثم ولي جدي القاضي زين الدين خلافة الحكم العزيز بالباب وأعمالها، فقد كان مأذونا له في نصب ذي مذهب يخالف مذهبه أيضا. وبقي حاكما بها على ما وجدته في بعض الوثايق الشرعية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثمانماية، وتوفي بعدها بقليل. فقد أخبرني من أثق به أن ولده جدي الجمال الحنبلي ولد سنة خمس وعشرين وثمانماية، ولما حج والده أخذه
معه صغيرا وحمله وطاف به ثم مات عنه وهو دون البلوغ. وفي تاريخ الشيخ أبي ذر أنه كان حاكما بالباب نيابة عن الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط الشافعي وأنه كان دينا خيرا عفيفا مع ما ذكره أيضا من أنه كان حنبليا تيميّا، بيانا لما هو الواقع، لا قدحا فيه، كيف وأن شأن الشيخ تقي الدين ابن تيميّة الحراني الحنبلي أجل من أن يقدح فيه أو في متبعيه، حتى إن العلاء البخاري لما قال بكفره وكفر من لقبه بشيخ الإسلام كتب الشمس محمد بن ناصر الدين كتابا (1) جمع فيه كلام من أثنى عليه من أصحاب المذاهب الأربعة ومن لقبه بشيخ الإسلام وبعث به إلى القاهرة ليكتب عليه علماؤها، فكتب عليه الحافظ ابن حجر ما فيه الثناء عليه إلى أن قال: ولو لم يكن من الدليل على إمامته إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين وأشار إلى أن جنازة الإمام كانت حافلة جدا، ولكن لو كان بدمشق من الخلايق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته. إلى أن قال: وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه بل هو معذور لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه اهـ.(5/181)
ثم ولي جدي القاضي زين الدين خلافة الحكم العزيز بالباب وأعمالها، فقد كان مأذونا له في نصب ذي مذهب يخالف مذهبه أيضا. وبقي حاكما بها على ما وجدته في بعض الوثايق الشرعية إلى سنة اثنتين وثلاثين وثمانماية، وتوفي بعدها بقليل. فقد أخبرني من أثق به أن ولده جدي الجمال الحنبلي ولد سنة خمس وعشرين وثمانماية، ولما حج والده أخذه
معه صغيرا وحمله وطاف به ثم مات عنه وهو دون البلوغ. وفي تاريخ الشيخ أبي ذر أنه كان حاكما بالباب نيابة عن الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن الخراط الشافعي وأنه كان دينا خيرا عفيفا مع ما ذكره أيضا من أنه كان حنبليا تيميّا، بيانا لما هو الواقع، لا قدحا فيه، كيف وأن شأن الشيخ تقي الدين ابن تيميّة الحراني الحنبلي أجل من أن يقدح فيه أو في متبعيه، حتى إن العلاء البخاري لما قال بكفره وكفر من لقبه بشيخ الإسلام كتب الشمس محمد بن ناصر الدين كتابا (1) جمع فيه كلام من أثنى عليه من أصحاب المذاهب الأربعة ومن لقبه بشيخ الإسلام وبعث به إلى القاهرة ليكتب عليه علماؤها، فكتب عليه الحافظ ابن حجر ما فيه الثناء عليه إلى أن قال: ولو لم يكن من الدليل على إمامته إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين وأشار إلى أن جنازة الإمام كانت حافلة جدا، ولكن لو كان بدمشق من الخلايق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته. إلى أن قال: وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه بل هو معذور لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه اهـ.
وكان من دأب القاضي زين الدين فيما بلغني وهو مقيم بتاذف أنه إذا كان يوم الخميس صلى الصبح وركب دابته وتوجه لزيارة من له من الأموات بها وعاد من يومه، فاتفق أنه تأخر مرة فأتى عليه الليل وهو في الطريق وكانت الليلة مقمرة، فإذا هو برجل قد خرج له من واد وأخذ يسايره شيئا فشيئا وصار بحيث كلما دنا منه جدي تباعد عنه وكلما تركه سايره على العادة، إلى أن أوصله مأمنه سالما.
وأما والده فقد بلغني ممن أثق به أنه كان نزيل بيرة الباب يعبد الله تعالى بها، وأنه كان يعرف فيها بالشيخ حسن الأرانبي لأرنبة كانت تأوي إليه في المغارة وتأنس به ولا تهرب
__________
(1) هو «الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام كافر» ومؤلفه هو حافظ الشام محمد ابن ناصر الدين المتوفى سنة 842، والكتاب مطبوع حديثا في مصر ومنه نسخة خطية في مكتبة الأحمدية بحلب ورقمها 759وهي منقولة عن نسخة المؤلف ومن كتب أبي ذر المحدث الحلبي المتوفى سنة 884وعليه خط المؤلف في عدة مواضع بإثبات سماع أبي ذر عليه.(5/182)
منه قدس الله روحه حتى تنزه الصيادون ببلد الباب عن صيد الأرانب من الجانب الذي كانت تأتيه منه الأرنبة أو كتب عليهم أن لا يصطادوا منه شيئا اهتماما بشأنه. وبلغني أنه كان له قبر يزار وأنه كان عند رأس قبره خشبة بها قنديل معلق يتولى إيقاده طائفة يعرفون بأولاد الأسود اهـ.
530 - قفجق بنة عبد الله بن عشاير المتوفاة سنة 833
قفجق بنة عبد الله بن أحمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي حامد بن عشائر السلمية الحلبية أخت فاطمة الماضية.
ولدت في سنة سبع وسبعين وسبعماية، وأجاز لها الصلاح بن أبي عمر وجويرية والجمال الباجي والصردي ورسلان الذهبي ومحمد بن عمر بن قاضي شهبة والحراوي والشمس العسقلاني المقري والمحب الصامت، وحدثت سمع منها الفضلاء كابن موسى والأبي في سنة خمس عشرة. وذكرها شيخنا في معجمه وسماها قفجاق وقال: أجازت في استدعاء رابعة. انتهى.
وماتت في شوال سنة ثلاث وثلاثين اهـ.
531 - محمد بن عمر بن أمين الدولة المتوفى سنة 833
محمد بن عمر بن عبد الوهاب الشمس الرعباني الحلبي الحنفي القاضي، ويعرف بابن أمين الدولة.
ذكره ابن خطيب الناصرية وقال: إنه اشتغل في الفقه على الجمال يوسف الملطي وناب عن الكمال ابن العديم فمن بعده، ثم استقل بالقضاء فدام سنين وحمدت سيرته في ذلك كله.
وكان جيدا عاقلا متدينا مزجى البضاعة في العلم. مات بالطاعون في يوم الخميس ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وثلاثين ودفن خارج باب المقام بالقرب من العز الحاضري.
وذكره شيخنا في إنبائه باختصار وسمى جده عبد العزيز اهـ.(5/183)
532 - أحمد بن صالح السفّاح باني جامع السفّاحية في المحلة المعروفة به المتوفى سنة 835
أحمد بن صالح بن أحمد بن عمر، واختلف فيمن فوقه، ففي ثبت البرهان الحلبي يوسف بن أبي السفاح وقيل أحمد، الشهاب أبو العباس بن صلاح الدين أبي البقا الحلبي الشافعي والد عمر وصالح الآتيين وأخو ناصر الدين محمد، ويعرف بابن السفاح لكون أبيه ابن أخت قاضي حلب النجم عبد الوهاب والزين عمر ابني أبي السفاح. ولد سنة اثنتين وسبعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن وصلى به وغيره [معطوف على القرآن] وسمع من الكمال بن حبيب سنن ابن ماجه وغيرها وعلى الشهاب بن المرحل وغيره، واشتغل يسيرا وتعانى ببلده الكتابة في التوقيع إلى أن مهر فيه. ثم ولي نظر الجيش بها بعد الفتنة التيمرية، ثم عزل وسافر إلى القاهرة فاستقر موقع الأمير يشبك أتابك العساكر بعد أخيه ناصر الدين، ثم ولي كتابة السر بصفد ثم بحلب مرة بعد مرة وباشرها مباشرة حسنة، ثم قدم القاهرة واستقر في توقيع الأشرف قبل سلطنته، فلما تسلطن استقر كاتب السر ابن الكويز في كتابة السر ببلده إرادة للراحة منه، فتوجه إليها بعد أن كان يباشر توقيع الدست مدة، فلما مات الشريف شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن عدنان الحسيني كاتب السر وأخوه العماد أبو بكر استدعى به الأشرف فاستقر به في كتابة السر بمصر وذلك في رمضان سنة ثلاث وثلاثين، واستقر بولده عمر عوضه في حلب، فباشر الشهاب الوظيفة بدون دربة وسياسة لكونه لم يكن بالفاضل ولا في الإنشاء مع سوء خط بحيث إنه أرسل مرة من حلب وهو كاتب سرها كتابا مطالعة للأشرف برسباي فلم يحسن البدر ابن مزهر كاتب سر مصر إذ ذاك قراءتها لضعف خطها وركاكة ألفاظها ولا فهم المراد منها، فجعلها في طي كتاب يتضمن إنا قد عجزنا عن فهم ما في كتابك، فالمخدوم ينقل خطواته إلينا ليقرأه على السلطان، وكان ذلك سببا لغرامته جملة. وكذا مع طيش وخفة وسوء مزاج بحيث إنه كثيرا ما كان يكلم نفسه، ومع ذلك فاستمر فيها حتى مات في ليلة الأربعاء رابع عشر رمضان سنة خمس وثلاثين بعد توعكه خمسة أيام، وصلى عليه السلطان والقضاة والأمراء والأعيان في مصلى المؤمني ودفن بالقرافة الصغرى. واستقر عوضه الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخات.(5/184)
قال شيخنا في إنبائه: وكان قليل الشر غير مهاب ضعيف التصرف قليل العلم جدا، ولذا كان السلطان يتمقته في طول ولايته مع استمرار خدمته له ببدنه وماله، ويقال إنه أزعجه بشيء هدده به فضعف قلبه من الرعب وكان ذلك سبب موته.
وقال في معجمه: وكانت قد انتهت إليه رياسة الحلبيين بها.
وقال العلاء ابن خطيب الناصرية: كان أخي من الرضاعة وصديقي، وفيه حشمة ومروءة وعصبية وقيام في حاجة من يقصده مع دين وميل إلى أهل العلم والخير وإحسان إليهم. قال: وبنى بحلب مدرسة ورتب فيها مدرسا وخطيبا على مذهب الشافعي.
وقال العيني: ليس به بأس، من بيت مشهور بحلب، ولكنه لم يكن من أهل العلم وبه بعض وسوسة. وقد سها شيخنا حيث سمى جده محمد بن محمد بن أبي السفاح، وأما في معجمه فلم يزد على اسم أبيه. وممن أخذ عنه ثلاثيات ابن ماجه وغيرها المحب ابن الشحنة.
وأثنى التقي ابن قاضي شهبة عليه فقال: إنه باشر جيدا، وكانت وطأته خفيفة على الناس بالنسبة إلى من تقدمه. واختصر المقريزي في عقوده ترجمته وأرخه في تاسع عشر رمضان عفا الله عنه اهـ.
المكتوب على باب الجامع:
بسم الله. أنشأ هذا المكان المبارك واقفه جامعا ومدرسة وشرط إمامها وخطيبها شافعي المذهب الفقير إلى الله تعالى أحمد بن السفاح الشافعي في رجب الفرد سنة 828في أيام الملك الأشرف أبي نصر الدقماقي اهـ.
وقال في التاريخ المنسوب لابن الشحنة: المدرسة السفاحية بناها القاضي شهاب الدين سبط بني السفاح ووقفها على الشافعية وشرط أن لا يكون لحنفي فيها حظ إلا في الصلاة، ثم لم تبرح بعد وفاته مدرسها شافعيا إلى أن قرر في تدريسها الشيخ شرف الدين أبو بكر قاضي قضاة الحنفية اهـ.
الكلام على 49570 جامع السفّاحية:
قال أبو ذر: بناه المقر الأشرف أبو العباس أحمد سبط بني السفّاح، وترجمته مذكورة
مع أقاربه، أنشأه مدرسة وجامعا بلا منبر بل بكرسي يحمل ويوضع، أخذ شكله من كرسي النجاري بالجامع الكبير، وليس له سدة بل تخت من خشب موضوع للمؤذنين. وكان في محله معصرة معدة للسيرج فنفضها وجعلها قبالة الجامع المذكور، وأسس هذا الجامع وبلغ بأساس المئذنة إلى الماء، فنبع عليهم فعجزوا عن إزالة الماء، فطرحوا في الأساس جرزونا وحواريق من أشجار التوت، ثم بنى فوق ذلك. والباني أولا هو مصطفى، ثم عدل عنه إلى المعلم محمد شقير ونحاته شخص مصري يقال له محمد الفيل، ونقل إليها الأحجار والرخام الأسود والأصفر، وأخذ بوابة كانت قبال المدرسة الزجاجية فجعلها بوابة هذا الجامع. وجد واجتهد في عمارته وحصل له في أول يوم وفي أول حجر وضع بعد الأساس نكاية عظيمة من ابن الرزاز الحنبلي فإنه صار ينشد:(5/185)
قال أبو ذر: بناه المقر الأشرف أبو العباس أحمد سبط بني السفّاح، وترجمته مذكورة
مع أقاربه، أنشأه مدرسة وجامعا بلا منبر بل بكرسي يحمل ويوضع، أخذ شكله من كرسي النجاري بالجامع الكبير، وليس له سدة بل تخت من خشب موضوع للمؤذنين. وكان في محله معصرة معدة للسيرج فنفضها وجعلها قبالة الجامع المذكور، وأسس هذا الجامع وبلغ بأساس المئذنة إلى الماء، فنبع عليهم فعجزوا عن إزالة الماء، فطرحوا في الأساس جرزونا وحواريق من أشجار التوت، ثم بنى فوق ذلك. والباني أولا هو مصطفى، ثم عدل عنه إلى المعلم محمد شقير ونحاته شخص مصري يقال له محمد الفيل، ونقل إليها الأحجار والرخام الأسود والأصفر، وأخذ بوابة كانت قبال المدرسة الزجاجية فجعلها بوابة هذا الجامع. وجد واجتهد في عمارته وحصل له في أول يوم وفي أول حجر وضع بعد الأساس نكاية عظيمة من ابن الرزاز الحنبلي فإنه صار ينشد:
كمطعمة الأيتام من كدّ فرجها ... لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
والله يعلم المفسد من المصلح.
ومحرابها وحائطها القبلي وقناطرها من الرخام الأسود والأصفر، وأبوابها من المنجور في غاية الحسن، وصانع ذلك هو الحاج أحمد بن الفقيه بترتيب الحاج عبد الله الخشاب وكان من أهل الخير، إلا باب الشباك الذي عند قبر ولد الواقف فإنه من صنعة شخص أعجمي حضر إلى حلب فادعى معرفة الصنعة فاستعمله القاضي شهاب الدين في هذا الباب وفي حاجبه فكلفه عليه كلفة زائدة عن حده، فأصرفه واستعمل الحاج أحمد المذكور، وكان يقول لو عملت هذا الباب من ذهب ما كلفت عليه هذا القدر. ورخام صحنها في غاية الجودة، وتأنق القاضي شهاب الدين المذكور في بنائها وجعل له فيها خلوة لينقطع عن المباشرات فيها. وكان مغرما بهذا الجامع مكثرا لذكره، وعمل لنفسه جبة من الصوف الأسود ليلبسها عند جلوته في الخلوة، واقتطع من ملكه وشرى أملاكا فوقفها على هذا الجامع، وشرى كتبا نفيسة ووقفها عليه، ورتب خطيبا فخطب بهذا الجامع، وقد خطب به الشيخ عمر الأعزازي وهو من أهل الخير والصلاح، وخطب به شيخنا محمد الأعزازي وسيأتي تاريخ وفاته مع ترجمته، ورتب مدرسا فدرس بها الشيخ علي الكردي تلميذ والدي وهو من أهل الفضل، وكان والدي يميل إليه ويحبه، ودرس بها الشيخ العلامة قاضي المسلمين أبو بكر بن إسحق الحنفي والشيخ شمس الدين أمير حاج المعري أحضره القاضي شهاب الدين من القاهرة وكان صوفيا منقطعا عن الناس عارفا بالقراءات، وأول إجلاس
عمله بالجامع المذكور حضر معه شيخنا المؤرخ وتكلم على أول سورة فاطر، ودرس بها الشيخ العالم الصالح الشيخ عبيد وستأتي ترجمته، ثم لما آل الأمر والكلام على هذا الجامع لولده الزيني عمر كشط على الكتب من الوقف واستأصلها بيعا وآجر وقفها وشرط في كتاب وقفها محدثا يقرأ البخاري والسيرة النبوية وأن يصرف لشخص كل شهر مبلغ ليكنس الشارع الشرقي ويرشه لئلا يدخل الغبار إلى مدرسته.(5/186)
ومحرابها وحائطها القبلي وقناطرها من الرخام الأسود والأصفر، وأبوابها من المنجور في غاية الحسن، وصانع ذلك هو الحاج أحمد بن الفقيه بترتيب الحاج عبد الله الخشاب وكان من أهل الخير، إلا باب الشباك الذي عند قبر ولد الواقف فإنه من صنعة شخص أعجمي حضر إلى حلب فادعى معرفة الصنعة فاستعمله القاضي شهاب الدين في هذا الباب وفي حاجبه فكلفه عليه كلفة زائدة عن حده، فأصرفه واستعمل الحاج أحمد المذكور، وكان يقول لو عملت هذا الباب من ذهب ما كلفت عليه هذا القدر. ورخام صحنها في غاية الجودة، وتأنق القاضي شهاب الدين المذكور في بنائها وجعل له فيها خلوة لينقطع عن المباشرات فيها. وكان مغرما بهذا الجامع مكثرا لذكره، وعمل لنفسه جبة من الصوف الأسود ليلبسها عند جلوته في الخلوة، واقتطع من ملكه وشرى أملاكا فوقفها على هذا الجامع، وشرى كتبا نفيسة ووقفها عليه، ورتب خطيبا فخطب بهذا الجامع، وقد خطب به الشيخ عمر الأعزازي وهو من أهل الخير والصلاح، وخطب به شيخنا محمد الأعزازي وسيأتي تاريخ وفاته مع ترجمته، ورتب مدرسا فدرس بها الشيخ علي الكردي تلميذ والدي وهو من أهل الفضل، وكان والدي يميل إليه ويحبه، ودرس بها الشيخ العلامة قاضي المسلمين أبو بكر بن إسحق الحنفي والشيخ شمس الدين أمير حاج المعري أحضره القاضي شهاب الدين من القاهرة وكان صوفيا منقطعا عن الناس عارفا بالقراءات، وأول إجلاس
عمله بالجامع المذكور حضر معه شيخنا المؤرخ وتكلم على أول سورة فاطر، ودرس بها الشيخ العالم الصالح الشيخ عبيد وستأتي ترجمته، ثم لما آل الأمر والكلام على هذا الجامع لولده الزيني عمر كشط على الكتب من الوقف واستأصلها بيعا وآجر وقفها وشرط في كتاب وقفها محدثا يقرأ البخاري والسيرة النبوية وأن يصرف لشخص كل شهر مبلغ ليكنس الشارع الشرقي ويرشه لئلا يدخل الغبار إلى مدرسته.
وجدد بها ولده الزيني عمر بعده شيئا من الأبواب المنجورة ووقف واقفها لها ربعة تفرق يوم الجمعة ورتب لها مؤذنين للأوقات الخمس وإماما وقراء سبع في كل يوم طرفي النهار ويوم الجمعة قبل الصلاة وبعدها وقارىء كرسي وغير ذلك من خبز ومشتغلين.
انتهى. وقد أقام القاضي شهاب الدين القاضي كمال الدين ابن الخطيب يكتب مصروف عمارة المدرسة، فلما وصل إلى صرف خمسة آلاف أفلوري (1) أمره بالإمساك عن الحساب وأن لا يرفع إليه حساب بعد اليوم. والصورة النحاس التي معلقة بها وقف المدرسة الصلاحية أخذها ووضعها في هذه المدرسة (2). وابتدىء في عمارتها في أواخر سنة إحدى وعشرين وتمت في أوائل سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. وتوفي واقفها رحمه الله تعالى بالقاهرة ثالث عشر رمضان سنة خمس وثلاثين ودفن بالقرافة عند أخيه ناصر الدين وترجمته مستوفاة عند أقاربه اهـ.
أقول: لم يزل باب هذا الجامع باقيا من عهد الواقف وكذا منارته البديعة التي هي فوق الباب، وقد كان موقف المؤذنين فيها متهدما ولعله كان ذلك في زلزلة سنة 1237، وقد رممت سنة 1344. وهذه المنارة أخذت بالمصور الشمسي كثيرا قبل بناء ما تهدم منها، وقبليته ليست واسعة، ومنبرها الآن من خشب ولا سدة هناك، وفي الجهة الشرقية من القبلية ساحة مبلطة فيها ثلاثة قبور أحدها مما يلي القبلة قبر الناصري ناصر الدين محمد ابن السفاح، والثاني قبر صالح بن السفاح المتوفى سنة 946، والثالث قبر القاضي أبي بكر أحمد بن السفاح المتوفى سنة 923، والشباك الكبير المطل على الجادة من الجهة الشرقية لم يزل باقيا غير أنه لا أثر للنجارة التي ذكرها أبو ذر في الأبواب والشباك، والموجود أبواب وشبابيك اعتيادية لا زخرفة فيها.
__________
(1) نوع من النقود. قال أحمد تيمور باشا في فهرست كنوز الذهب: الفرينو كان بمصر والشام يقال له فيروني وذلك من نحو قرن.
(2) لا أثر لها الآن.(5/187)
ذكر ما كان حول هذا الجامع من الآثار:
قال أبو ذر: درب بني السفاح به آدرهم ومدرستهم وغربي دورهم مسجد من إنشائهم كان يقرىء به شمس الدين محمد الغزي من أول النهار إلى الظهر، وهو مسجد نير خرب الآن، ومن جملة أوقافه طاحون الجديد اهـ.
مدرسة أقجا:
قال أبو ذر: مدرسة أنشأها أقجا خازندار يشبك بالقرب من السفاحية وعمل لها بابين أحدهما تجاه السفاحية والآخر في الدرب الآخذ إلى ناحية القلعة، وله على هذا الباب حوض ماء. ودرس بها القاضي أبو بكر بن إسحق الحنفي، وتقطعت عمارة هذه المدرسة لأنه بناها على غير أساس كعادته فخرب غالبها. وبنى به إلى جانب الحوض الذي أنشأه في درب الحدادية زاوية ولم يكملها، ثم اتخذها دارا. وكان أقجا المذكور لا عقل له، ولما حصر الأشرف آمد كان متكلما على آلة الحصار. وهم السلطان ببناء حسن ليشرف على آمد في الحصار فشرع أقجا في العمارة، فلما رأى السلطان ما فعل قال له: هذا لا يكون على هذه الصورة، فأجاب السلطان: إن الله أعطاك السلطنة لا الهندسة، فهم السلطان بقتله ففر إلى العجم ثم اتصل إلى مكة وجاء إلى حلب بعد موت الأشرف اهـ.
أقول: لا أثر لهذه المدرسة الآن، ويظهر أنها كانت موضع مدفن كوهر ملك شاه بنت عائشة السلطانة من آل عثمان.
خانقاه بنت صاحب شيزر:
هذه الخانكاه أنشأتها بنت صاحب شيزر سابق الدين عثمان قبالة دورهم.
قلت: هي برأس درب الأتابكية من جهة الشمال بالقرب من آدر بني الشحنة اهـ.
(أي قبلي الخان المعروف بخان الفرايين من جهة الشرق ولا أثر لها الآن).
533 - عبد الله بن أحمد الأذرعي المتوفى سنة 835
عبد الله بن أحمد بن حمدان بن أحمد الجلال ابن الشهاب الأذرعي الحلبي الشافعي أخو عبد الرحمن.(5/188)
أخذ عن أبيه وغيره. وقدم دمشق قبل الفتنة فقطنها. وكان فقيها جيد البحث خيرا منجمعا عن الناس، وعنده غالب مصنفات أبيه فلا يبخل بإعارتها. مات ثالث عشري رمضان سنة خمس وثلاثين. وله ذكر في البرهان البيجوري اهـ.
وستأتيك ترجمة أخيه عبد الرحمن المتوفى سنة 838بدمنهور من أعمال مصر.
534 - أحمد بن محمود قاضي حلب الحنبلي المتوفى سنة 836
أحمد بن محمود بن محمد قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس الشهير بابن خازوق قاضي حلب. توفي بها مسموما في أواخر سنة ست وثلاثين وثمانمائة اهـ (الدر المنضد).
(ذكر من لم تؤرخ وفاته)
535 - محمد بن عبد الأحد
قال: ومن القضاة الحنابلة بحلب الشيخ العلامة قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الأحد. كان متوليا بها قبل تلميذه القاضي شهاب الدين بن خازوق المتقدم ذكره.
536 - أحمد بن أبي الجود
وقاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ العلامة تقي الدين أبي الجود أبي بكر البكري القادري، وليها بعد القاضي شهاب الدين ابن خازوق، وكان متوليا في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، ثم عزل وتوفي.
537 - سالم الحموي
ووليها بعد عزله قاضي القضاة مجد الدين سالم الحموي وتوفي قتلا في سنة نيف وخمسين وثمانماية اهـ.
538 - محمد بن أحمد بن شفليش (1) المتوفى سنة 837
محمد بن أحمد الشمس العزازي الأصل الحلبي، ويعرف بابن شفليش (2).
قرأ القرآن واشتغل بالعلم وطلب الحديث بنفسه، ورحل وحصل بحيث اشتهر به في حلب مع المشاركة في غيره وكونه خيرا دينا يكتسب بالمتجر، حتى مات في ليلة الخميس
__________
(1) في «الضوء اللامع»: سفليس.
(2) في «الضوء اللامع»: سفليس.(5/189)
تاسع عشر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين. وقد لقيه البقاعي هناك وكتب عنه قوله: قال حسان بن ثابت يرثي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ... بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ... فآثر أن تبقى فريدا بلا مثل
وذكره قبل ذلك بقليل مرة ثانية وقال: إنه بمعجمتين الأولى مفتوحة بعدها فاء ساكنة ثم لام وياء، الشمس العزازي الحلبي. رافق الشمس السلامي وابن فهد في السماع على البرهان الحلبي وابن ناصر الدين وأبي جعفر وآخرين. ذكره شيخنا في إنبائه وقال: كان أحد فقهاء حلب، اشتغل كثيرا وفضل. وسمعت من نظمه بحلب وكتب عني كثيرا.
مات في جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين اهـ.
539 - محمد بن أبي بكر المارديني المتوفى سنة 837
محمد بن أبي بكر بن محمد بن عثمان بن أحمد بن عمر بن سلامة البدر المارديني ثم الحلبي الحنفي، عالم حلب وأخوه حسن الماضي، وقد يختصر من نسبه فيقال ابن أبي بكر بن سلامة، ومرة ابن أبي بكر محمد بن سلامة.
ولد في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وقال شيخنا: إنه أخبره أنه في سنة خمس وخمسين، ونشأ ببلاده. وكان أبوه فيما أخبر عالما مفتنا يتكسب من عمل يده في التجارة، فحفظ ابنه عدة مختصرات ولقي الأكابر فأخذ عنهم كسريجا والحسام بن شريف التبريزي وأحمد بن الجندي وآخرين، فقد قرأت بخطه وشيوخي كثيرون، إلى أن مهر وظهرت فضائله بحيث شغل الطلبة. ثم تنافر مع قاضي ماردين الصدر أبي الطاهر السمرقندي بعد صحبته معه، فارتحل قبل الفتنة التيمورية إلى حلب واختص بأبي الوليد ابن الشحنة ولازمه حتى أخذ عنه جانبا (1) من الكشاف وغيره، ثم رجع إلى بلاده وتكرر قدومه لحلب إلى أن قطنها من سنة عشر وثمانمائة ونزل في عدة مدارس، بل درس بالجاولية وبها كان مسكنه وبالحدادية، وتصدى للإقراء فانتفع به الفضلاء.
__________
(1) عبارة أبي ذر: غالب الكشاف والمطول للتفتازاني مرتين وغير ذلك.(5/190)
وكان كما قاله ابن خطيب الناصرية فقيها فاضلا مستحضرا لمحفوظاته في العلوم، لكنه كان يكثر الوقيعة في الناس واغتيابهم وربما يمقت لأجل ذلك. وقال غيره: إنه كان إماما عالما علامة أديبا بارعا مفننا حامل لواء مذهب الحنفية بحلب من غير منازع مع القدم الراسخة في بقية العلوم والنظم الرايق والنثر الفايق والقدرة الزائدة على التعبير عما في نفسه. وقد أعطى شيخنا بعض تصانيفه له ليقرظها له عند حلوله بحلب (أقول: كان مجيء الحافظ ابن حجر العسقلاني شيخ الحافظ السخاوي إلى حلب سنة 836) فعاجله التوجه إلى آمد، فأرسل إليه بقصيدة وافق وصولها يوم رحيله من البيرة إلى حلب وأجابه عنها حسبما أثبتها في الجواهر. وذكره في إنبائه وقال: إنه لما غلب قرايلك على ماردين نقله إلى آمد فأقام بها مدة ثم أفرج عنه فرجع إلى حلب. قال: وحصل له فالج قبل موته بنحو عشر سنين فانقطع ثم خف عنه لكنه صار ثقيل الحركة. قال: وكان حسن النظم والمذاكرة فقيها فاضلا صاحب فنون في العربية والمعاني والبيان. وقد مدحني بقصيدة رائية وأجبته عنها (1). ومات بعده في صفر. زاد غيره بعد عصر يوم الاثنين سادس عشريه سنة سبع وثلاثين وله اثنان وثمانون سنة ولم يخلف بعده بحلب مثله. وقد ذكرت له ترجمة حسنة في معجمي. قلت: ما وقفت عليه، نعم رأيته علق عنه في فوائد رحلته من فوائده شيئا وافتتحه بقوله: أفادني فلان اهـ.
أقول: رأيت من مؤلفاته «مختصر موضوعات ابن الجوزي» بخط أبي ذر ابن البرهان المحدث في المكتبة البخشية في التكية الإخلاصية بحلب.
قال أبو ذر في ترجمته: وكتب إلى والدي سنة ثلاث عشرة وقد ولد له مولود:
__________
(1) مطلعها كما في تاريخ أبي ذر:
لبدر سنا علياك أبهى من البدر ... وطلعتك الغراء أبهى من الدر
قال أبو ذر: وأجابه شيخنا الحافظ ابن حجر بقصيدة مطلعها:
بدت في سماء الحسن تزهر كالدر ... منورة تروي الحديث عن الزهري
ومن جملتها:
تفاءلت إذ وافت من ابن سلامة ... غداة رحيلي بالسلامة والنصر
وقد سمعت هذه القصيدة على شيخنا الناظم بمنزل شيخنا المذيل يوم الاثنين خامس شوال سنة ست وثلاثين وثمانماية، وساقها بتمامها.(5/191)
يا سيدا بعلومه ساد الورى ... وسمى الأئمة رفعة وبهاء
هنئت بالولد العزيز ممتعا ... بحياته متسربلا نعماء
وبقيت في عيش رغيد طيب ... حتى ترى أبناءه آباء (1)
قلت: لو قال أحفاده لكان أبلغ. وقد مدح البحتري المتوكل لما ولد له المعتز فقال:
وبقيت حتى تستضىء برأيه ... وترى الكهول الشيب من أولاده
وتوفي للشيخ بدر الدين ولد بماردين يقال له سيف الدين فأنشد:
يعز عليّ يا ولدي وعيني ... ويا من فاق بالفضل النبيه
بأن ألج الديار ولست فيها ... وأن أطأ التراب وأنت فيه
وللشيخ بدر الدين أخت يقال لها دنيا ولها شعر رقيق، فمنه في الشقيق:
مدورة على غصن دقيق ... يحاكي لونها لون العقيق
كأن جماجم السودان فيها ... يحير حسنها حادي الطريق
وله مؤلفات منها تفسير الفاتحة وقد كتب له عليه شيخنا العلامة شهاب الدين الباعوني نظما ونثرا، وله مؤلف في صنعة الحديث انتزعه من كلام الطيبي. ومن قصائده الطنانة ما كتب به إلى المقر الأشرف الشهابي ابن السفاح من قصيدة:
يقبل الأرض محروم بلا سبب ... سوى الفضائل والعلم الذي اكتسبا
ولو درى أن كسب العلم منقصة ... ما جدّ في حفظه يوما ولا طلبا
ولو قضى العمر في لهو وفي لعب ... لكان في عالم الجهال قد نحبا
فمن لأرض بها الجهال قد رأسوا ... واستوعبوا الوقف مسروقا ومنتهبا
وخولوا صبية التدليس واعجبا ... وظيفة الدرس أضحت بينهم لعبا
يا للرجال فهل للوقف من رجل ... يقوم منتصرا لله محتسبا
ويخلص القصد في سر وفي علن ... وينقذ الناس من قال قد اضطربا
كم روّج الطاهر المعمور من رجل ... على الغبي وأخفى الباطل الخربا
__________
(1) في الأصل: أبناء. ولعل الصواب ما أثبتناه كما يقتضيه المعنى.(5/192)
لكن لذي النقد ما يخفى على فطن ... لا سيما الصارم البتار إن دربا
أعني شهاب الدنا والدين ناظرنا ... نجل الأكابر والسادات والنجبا
ومن إذا يمم الراجون ساحته ... أضحى لهم جبرئيل المرتجى سببا
ولما سكن الشيخ بدر الدين في المسجد المعلق إنشاء شهاب الدين بن عشائر (وراء الجامع) كان جميع ما يحتاج إليه يأخذه من بيت شيخنا المذيل. ثم ذكر وفاته كما تقدم ثم قال: ودفن بجبانة خارج باب الفرج اهـ.
540 - عبد الرحمن الأذرعي المتوفى سنة 838
عبد الرحمن بن أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف بن جابر التاج ابن فقيه حلب الشهاب الأذرعي الحلبي الدمنهوري الشافعي.
ولد في مستهل المحرم سنة تسع وخمسين وسبعمائة بحلب، ونشأ فحفظ القرآن والمنهاج واشتغل في الفقه وغيره وتميز، وسمع بها على البدر حسن بن حبيب ومحمد بن علي بن أبي سالم، وبدمشق على أبيه وأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن عوض والبدر أبي بكر محمد بن قليج بن كيكلدي، وبنابلس على البرهان إبراهيم بن عبد الله الزيتاوي، سمع عليه جزءا فيه غرائب السنن لابن ماجه انتقاء الذهبي، وبالقاهرة على الشرف محمد ابن يونس بن أحمد بن غنوم وغيره. وأجاز له الخلاطي وابن النجم وابن الدسوقي (1) والشهاب أحمد بن عبد الكريم البعلي وزغلش وابن أميلة والمنبجي وابن نباتة وابن قاضي الجبل وآخرون.
وقدم القاهرة بعد أن درس في الأسدية بحلب فأقام بها مدة، وولي قضاء دمنهور الوحشي زمنا.
وكان فاضلا كيسا مشاركا في علوم مستحضرا لأشياء حسنة، كتب الخط الحسن وقال الشعر الجيد، وحدث سمع منه الفضلاء، وارتحل إليه صاحبنا ابن فهد وغيره ولينه
__________
(1) في «الضوء اللامع»: السوقي.(5/193)
شيخنا وصمم الولي ابن العراقي على عدم استنابته. ومات في يوم الثلاثاء عشرين رمضان سنة ثمان وثلاثين بدمنهور.
وروى عنه المقريزي في عقوده وغيرها أن أباه قال له إنه رأى في منامه رجلا وقف أمامه وأنشده:
كيف نرجو استجابه لدعاء ... قد سددنا طريقه بالذنوب
قال: فأنشده ارتجالا:
كيف لا يستجيب ربي دعائي ... وهو سبحانه دعاني إليه
مع رجائي لفضله وابتهالي ... واتكالي في كل خطب عليه
اهـ.
وترجمه علي باشا مبارك في خطط مصر في الكلام على دمنهور ومنه نقلنا هذين البيتين على هذه الصورة، ففي الضوء ذكر الشطرة الأولى مع الرابعة لا غير.
541 - عبد الملك البابي المتوفى سنة 839
عبد الملك بن علي بن أبي المنى، بضم الميم ثم نون، ابن عبد الملك بن عبد الله بن عبد الباقي بن عبد الله بن أبي المنى الجمال أو الزين البابي بموحدتين الحلبي الشافعي الضرير، ويعرف بعبيد بالتصغير، وربما يقال له المكفوف.
ولد في حدود سنة ست وستين وسبعماية بالباب، وقدم منها وهو صغير، فحفظ القرآن والمنهاج وألفية ابن مالك وتلا بالسبع على الشيخ (1) (2) وتخرج بالعز الحاضري وعنه أخذ في فن العربية المغني وغيره، وكذا قيل إنه أخذ عن المحب أبي الوليد بن الشحنة شيئا، وتفقه بالشرف الأنصاري وبالشمس النابلسي، وسمع على الشرف أبي بكر الحراني وابن صديق، وناب في الخطابة والإمامة بالجامع الكبير بحلب وجلس فيه للإقراء قاصدا وجه الله بذلك فانتفع به الناس وصار شيخ الإقراء بها، وكذا حدث باليسير سمع منه
__________
(1) والعبارة في بغية الوعاة هكذا: وتلا بالسبع على العز الحاضري وتخرج به وأخذ عنه النحو وغيره.
(2) في «الضوء اللامع» على الشيخ بيرو.(5/194)
الفضلاء، وصنف في الفقه مختصرا التزم جمعه مما ليس في الروضة وأصلها والمنهاج.
وكان إماما عالما بالقراءات والعربية متقدما فيهما فاضلا بارعا خيرا دينا صالحا منجمعا عن الناس قليل الرغبة في مخالطتهم عفيفا عما بأيديهم لا يقبل من أحد شيئا. ومن لطائفه أنه لم يكن يفرق بين الحلو والمر.
وقد ترجمه شيخنا في إنبائه وقال: إنه لم يكن صيتا. وأثنى عليه ابن خطيب الناصرية وقال إنه رفيقه في الطلب على المشايخ، وصار إماما في النحو والقراءات وغيرها مع الدين والمداومة على الاشتغال والأشغال بحيث انتفع به جماعة من الأولاد وغيرهم.
مات في يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين عن سبعين سنة، وكانت جنازته حافلة جدا، تقدم الناس البرهان الحلبي بعد صلاة الجمعة بالجامع الكبير ودفن بمقبرة الصالحين خارج باب المقام رحمه الله وإيانا اهـ.
أقول: ومن مؤلفاته «نزهة الناظرين» كتاب حسن في الأخلاق مطبوع في مصر غير مرة في مجلد واحد وهو متداول بين الوعاظ: وقد شرحه مفتي حلب الشيخ أحمد الزويتيني المتوفى سنة 1316أطلعني عليه ولده الشيخ مصطفى وهو جدير بالطبع.
542 - إبراهيم بن حطب المتوفى في حدود 840
إبراهيم بن الحسن بن فرح بن سعد كمال الدين الحلبي الشافعي الموقع بالدست، ويعرف بابن الحطب بفتح المهملتين.
ولد سنة أربع وسبعين وسبعماية، وسمع على الشهاب بن المرحل السنن للدار قطني، وكتب على استدعاء لابن شيخنا وغيره بعد الثلاثين. وما علمت من شأنه زيادة على ما أثبته ولا متى مات، وأجوز أن يكون ابن فهد والبقاعي رأياه أو أحدهما. ثم رأيت ثانيهما ذكره وقال إنه مات في حدود سنة أربعين اهـ.
543 - أحمد ابن النحريري المالكي المتوفى سنة 840
أحمد بن عبد الله الشهابي النحريري المالكي آخرا.(5/195)
ناب في القضاء بدمشق، ثم ولي قضاء حماة ثم حلب، ومات بها في شعبان سنة أربعين.
أرخه ابن اللبودي اهـ.
544 - أحمد بن عمر كاتب الخزانة المتوفى سنة 840
أحمد بن عمر بن يوسف بن عبد العزيز الشهاب بن الزين الحلبي الشافعي الموقع والد النجم عمر والمحب محمد الآتيين، وكان يعرف قديما بابن كاتب الخزانة.
ولد في خامس شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعماية بحلب، ولازم العز الحاضري حتى قرأ عليه «التوضيح» لابن هشام، واستمر على العمل فيه حتى صار تام الفضيلة في العربية جدا مع الفضيلة أيضا في المعاني والبيان والعروض. وسمع على البرهان الحلبي والطبقة، وأجاز له ابن خلدون والسيد النسابة الكبير وعبد الكريم الحلبي وآخرون. وباشر التوقيع والنقابة عند كاتب السر ببلده سنين، بل عين لها، وولي كتابة الخزانة. كل ذلك مع التعبد والقيام والمثابرة على الجماعات والاتصاف بالعقل والرياسة والحشمة والتودد ومراعاة أرباب الدولة والطريقة الحسنة والمحاسن الجمة.
أخذ عنه ابن فهد وغيره.
مات في ليلة الأربعاء عاشر المحرم سنة أربعين وصلي عليه بالجامع الأعظم ثم صلى عليه بباب دار العدل نائب حلب تغري ورمش ودفن بتربته خارج باب المقام. ذكره ابن خطيب الناصرية بأنقص من هذا واصفا له بالفضيلة والدين والعقل والطريقة الحسنة اهـ.
545 - آقبغا العديمي المتوفى سنة 840
آقبغا سيف الدين العديمي الحلبي الحنفي فتى الكمال عمر بن العديم.
ولد في حدود سنة ثمانين وسبعمائة. وسمع بحلب على ابن صديق بعض الصحيح وحدث، سمع منه الفضلاء.
وكان دينا خيرا ملازما للخير مع العقل والسكون والتقنع بأوقاف وإقطاع من سيده.
مات في حدود سنة أربعين اهـ.(5/196)
546 - الحسن بن أحمد الحصوني المتوفى سنة 840
الحسن بن أحمد بن صدقة بن محمد بن عين الدولة البدر الشكري الحصوني الحلبي الشافعي.
ولد في أوائل سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وحفظ القرآن والجامع الصغير وحله حلا حسنا. ومن شيوخه في الفقه الشهاب الأذرعي والزين ابن الكركي، وفي النحو أبو جعفر الغرناطي والسراج الغنوي (1) والسيد الأخلاطي ومحمد الكازروني، وعنه أخذ المنطق، وعن الغنوي والسجزي (2) الأصول. وقد أعرض بأخرة عن الاشتعال مع فقهه، وناب في القضاء عن الجمال الحسفاوي.
وله نظم حسن لكن ربما يدعي الشيء منه ويكون جميعه أو بعضه لغيره، أو يأخذ معناه ثم يحوله لبحر آخر. وهو كثير المجون محب للخلاعة واللهو عارف بعض الآلات المطربة. وقد كتب عنه صاحبنا النجم ابن فهد قصيدة رائية في شيخنا أودعتها الجواهر، وكذا كتب عنه في مدحه غيرها. ومات قريب الأربعين ظنا اهـ.
547 - عبد الرحمن المعري المتوفى سنة 840
عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن معالي بن إبراهيم الزين بن العلاء المعري ثم الحلبي الشافعي والد النور علي الآتي، ويلقب بابن البارد.
كان والده في خدمة الشرف الأنصاري الحلبي، ثم ترقى حتى صار نقيبا ثانيا أو ثالثا، وولد له هذا سنة ثلاثين وسبعمائة بحلب فنشأ بها غير محمود السيرة فيما قيل. وسمع على الشهاب ابن المرحل بعض مسلم والنسائي وحدث وكتب الخط الحسن، وكان قد شهد في الجرائد. ثم ولي كتابة السر بحلب أيام ططر وكان خدمه حال إقامته بها ثم خمل بعده وكاد أن يعود لحاله الأول، واستمر خاملا حتى مات بعد الأربعين. وقد هجاه الشمس ابن عبد الأحد وغيره اهـ.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: الفوّي.
(2) في «الضوء اللامع»: الفوّي والسحري.(5/197)
548 - حسين بن علي بن البرهان المتوفى سنة 840
حسين بن علي بن أحمد بن البرهان إبراهيم الحلبي الحنفي الشاهد تحت القلعة منها، ويعرف بابن البرهان.
ولد في سنة سبعين بحلب ونشأ بها فحفظ القرآن وكتبا، واشتغل وفضل وسمع على ابن صديق بعض الصحيح، وتكسب بالشهادة بل درس بالسيفية بحلب وقتا ثم عزل عنه وحدث، سمع منه الفضلاء.
وكان من بيت علم وخير لكنه يذكر بلين وتساهل. مات في حدود سنة أربعين بحلب اهـ.
549 - عبد الرحمن الكركي المتوفى سنة 840
عبد الرحمن بن عمر بن محمود بن محمد التاج بن الزين المدلجي الكركي الأصل الحلبي الشافعي، ويعرف بابن الكركي.
ولد سنة إحدى وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها واشتغل على أبيه يسيرا، وسمع على ابن صديق وابن أيدغمش وحدث، سمع منه الطلبة. وولي قضاء حلب مدة وتدريس العصرونية والسلطانية وغيرهما.
وذكره شيخنا في إنبائه فقال: إنه ولي قضاء حلب مدة ثم ترك واستمر بيده جهات قليلة يتبلغ منها. وقد سكن القاهرة مدة وناب عني، ثم حج ورجع إلى بلده ولقيته هناك حين توجهي صحبة السلطان وأجاز لأولادي.
وقال غيره: إنه كان ذا دهاء وخديعة وأوصاف غير مرضية فالله أعلم. مات في رمضان سنة أربعين رحمه الله وعفا عنه اهـ.
550 - محمد بن محمد الصرخدي المتوفى في حدود سنة 840
محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن علي ناصر الدين بن البدر الصرخدي الأصل الحلبي الباحسيتي بموحدة ثم حاء وسين مهملتين مكسورتين ثم تحتانية ففوقانية نسبة لباحسيتا خطة بحلب.(5/198)
كان عدلا بها. ولد تقريبا سنة ست وخمسين وسبعمائة، وسمع من الظهير محمد بن عبد الكريم بن العجمي بعض ابن ماجه وحدث.
وكان خيرا دينا عدلا منجمعا عن الناس له طلب وبيده إمامة. مات قبل سنة أربعين بحلب رحمه الله اهـ.
551 - المحدث الكبير إبراهيم بن محمد بن خليل (المشهور بالبرهان الحلبي المتوفى سنة 841)
إبراهيم بن محمد بن خليل البرهان أبو الوفا الطرابلسي الأصل طرابلس الشام الحلبي المولد والدار الشافعي، سبط ابن العجمي لكون أمه ابنة عمر بن محمد ابن الموفق أحمد بن هاشم بن أبي حامد عبد الله ابن العجمي الحلبي، ويعرف البرهان بالقوف لقبه به بعض أعدائه وكان يغضب منه، وبالمحدث وكثيرا ما كان يثبته بخطه.
ولد في ثاني عشري رجب سنة ثلاث وخمسين وسبعماية بالجلّوم (بفتح الجيم وتشديد اللام المضمومة) بقرب فرن عميرة (بفتح العين)، ومات أبوه وهو صغير جدا فكفلته أمه وانتقلت به إلى دمشق فحفظ به بعض القرآن، ثم رجعت به إلى حلب فنشأ بها، وأدخلته مكتب الأيتام لناصر الدين الطوشي تجاه الشاذبختية الحنفية بسوق النشاب فأكمل به حفظه وصلى به على العادة التراويح في رمضان بخانقاه جده لأمه الشمس أبي بكر أحمد ابن العجمي والد والدة الموفق أحمد المذكور في نسبها برأس درب البازيار وتلا به عدة ختمات تجويدا على الحسن السايس المصري، ولقالون إلى آخر نوح على الشهاب بن أبي الرضى، ولأبي عمرو ختمتين على عبد الأحد بن محمد بن عبد الأحد الحراني الأصل الحلبي، ولعاصم إلى آخر سورة فاطر عليه، ولأبي عمرو إلى براءة فقط على الماجدي وقطعة من أوله لكل من أبي عمرو ونافع وابن كثير وابن عامر على أبي الحسن محمد بن محمد بن محمد ابن ميمون القضاعي الأندلسي.
وأخذ في الفقه عن الكمال عمر بن إبراهيم بن العجمي، والعلاء علي بن حسن بن خميس البابي، والنور محمود بن علي الحراني والده ابن العطار وولده التقي محمد، والشمس محمد بن أحمد بن إبراهيم الصفدي نزيل القاهرة ويعرف بشيخ الوضوء والشهاب ابن أبي
الرضى، والأذرعي، وأحمد بن محمد بن جمعة بن الحنبلي، والشرف الأنصاري، والسراجين البلقيني وابن الملقن، وبعض هؤلاء في الأخذ عنه أكثر من بعض.(5/199)
وأخذ في الفقه عن الكمال عمر بن إبراهيم بن العجمي، والعلاء علي بن حسن بن خميس البابي، والنور محمود بن علي الحراني والده ابن العطار وولده التقي محمد، والشمس محمد بن أحمد بن إبراهيم الصفدي نزيل القاهرة ويعرف بشيخ الوضوء والشهاب ابن أبي
الرضى، والأذرعي، وأحمد بن محمد بن جمعة بن الحنبلي، والشرف الأنصاري، والسراجين البلقيني وابن الملقن، وبعض هؤلاء في الأخذ عنه أكثر من بعض.
والنحو عن أبي عبد الله بن جابر الأندلسي ورفيقه أبي جعفر، والكمال إبراهيم بن عمر الخابوري، والزين عمر بن أحمد بن عبد الله بن المهاجر وأخيه الشمس محمد، والعز محمد بن خليل الحاضري، والكمال بن العجمي، والزين أبي بكر بن عبد الله بن مقبل التاجر، وأخذه أيضا عنهم متفاوت.
واللغة عن المجد الفيروز آبادي صاحب القاموس. وطرفا من البديع عن الأستاذ أبي عبد الله الأندلسي. ومن الصرف عن الجمال يوسف الملطي الحنفي. وجود الكتابة على جماعة أكتبهم البدر حسن البغدادي الناسخ.
ولبس خرقة التصوف من شيخ الشيوخ النجم عبد اللطيف بن محمد بن موسى الحلبي، ومصطفى وأحمد القريعة، وجلال الدين عبد الله البسطامي المقدسي، والسراح بن المللقن.
واجتمع بالشيخ الشهير الشمس محمد بن أحمد بن عبد الرحمن القرمي وسمع كلامه.
وفنون الحديث عن الصدر الياسوفي والزين العراقي وبه انتفع، فإنه قرأ عليه ألفيته وشرحها ونكته على ابن الصلاح مع البحث في جميعها وغيرها من تصانيفه وغيرها وتخرج به، بل أشار له أن يخرج ولده الولي أبا زرعة وأذن له في الإقراء والكتابة على الحديث، وعلى البلقيني قطعة من شرح الترمذي له ومن دروسه في الموطأ ومختصر مسلم وغيرها من متعلقات الحديث، وعن ابن الملقن قطعة ابن دقيق العيد وكتب عنه شرحه على البخاري في مجلدين بخطه الدقيق الذي لم يحسن عند مصنفه لكونه كتب في عشرين مجلدا، وأذن له كل منهما. وكذا أخذ علم الحديث عن الكمال ابن العجمي والشرف الحسن بن حبيب، وكان طلبه للحديث بنفسه بعد كبره، فإنه كتب الحديث في جمادى الثانية سنة سبعين وأقدم سماع له في سنة تسع وستين، وعني بهذا الشأن أتم عناية فسمع الكثير ببلده على شيوخها كالأذرعي والكمال ابن العجمي وقريبه الظهير والكمال ابن حبيب وأخويه البدر والشرف والكمالين ابن العديم وابن أمين الدولة والشهاب ابن المرحل وابن صديق وقريب من سبعين شيخا أتى على غالب مروياتهم.
وارتحل إلى الديار المصرية مرتين الأولى في سنة ثمانين والثانية في سنة ست وثمانين،
فسمع بالقاهرة ومصر والإسكندرية ودمياط وتنيس وبيت المقدس والخليل وغزة والرملة ونابلس وحماة وحمص وطرابلس وبعلبك ودمشق، وأدرك بها الصلاح بن أبي عمر خاتمة أصحاب الفخر ولم يسمع من أحد من أصحابه سواه، وسمع بها من المحب الصامت وأبي الهول وابن عوض والشمس بن قاضي شهبة وعدة نحو الأربعين. وشيوخه بالقاهرة الجمال الباجي والبدر بن حسب الله وابن ظافر والحروي والتقي بن حاتم والتنوخي وجويرية الهكارية وقريب من نحو أربعين أيضا، وبمصر الصلاح محمد بن محمد بن عمر البلبيسي وغيره، وبالإسكندرية البهاء عبد الله بن الدماميني والمحيوي القروي ومحمد بن محمد بن يفتح الله [هكذا ولعله فتح الله] وآخرون، وبدمياط أحمد القطان، وبتنيس بالقرب من جامعها الذي خرب بعض رواقاته قرأ عليه بإجازته العامة من الحجاز، وببيت المقدس الشمس محمد بن حامد بن أحمد والبدر محمود بن علي بن هلال العجلوني والجلال عبد المنعم بن أحمد بن محمد الأنصاري ومحمد بن سليمان بن الحسن بن موسى بن غانم وغيرهم، وبالخليل نزيله عمر بن النجم بن يعقوب البغدادي المعروف بالمحرد، وبغزة قاضيها العلاء علي بن خلف بن كامل أخو صاحب ميدان الفرسان الشمس الغزي تلميذه، وبالرملة بعضهم، وبنابلس الشمس محمد وإبراهيم وشهود بنو عبد القادر بن عثمان وغيرهم، وبحماة أبو عمر أحمد بن علي بن عبد الله العداس والشرف بن البدر (1) محمد بن حسن بن مسعود وجماعة، وبحمص الجمال إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن فرعون وعثمان بن عبد الله بن النعمان الجزار، وبطرابلس الشهاب المسلك أحمد بن عبد الله الرواقي الحموي، وببعلبك الشمس محمد بن علي بن أحمد بن البونانية والعماد إسماعيل بن محمد بن بردوس (2) (لعله فردوس) وآخرون. وأجاز له قبل رحلته ابن أميلة وأبو علي بن الهبل وغيرهما.(5/200)
وارتحل إلى الديار المصرية مرتين الأولى في سنة ثمانين والثانية في سنة ست وثمانين،
فسمع بالقاهرة ومصر والإسكندرية ودمياط وتنيس وبيت المقدس والخليل وغزة والرملة ونابلس وحماة وحمص وطرابلس وبعلبك ودمشق، وأدرك بها الصلاح بن أبي عمر خاتمة أصحاب الفخر ولم يسمع من أحد من أصحابه سواه، وسمع بها من المحب الصامت وأبي الهول وابن عوض والشمس بن قاضي شهبة وعدة نحو الأربعين. وشيوخه بالقاهرة الجمال الباجي والبدر بن حسب الله وابن ظافر والحروي والتقي بن حاتم والتنوخي وجويرية الهكارية وقريب من نحو أربعين أيضا، وبمصر الصلاح محمد بن محمد بن عمر البلبيسي وغيره، وبالإسكندرية البهاء عبد الله بن الدماميني والمحيوي القروي ومحمد بن محمد بن يفتح الله [هكذا ولعله فتح الله] وآخرون، وبدمياط أحمد القطان، وبتنيس بالقرب من جامعها الذي خرب بعض رواقاته قرأ عليه بإجازته العامة من الحجاز، وببيت المقدس الشمس محمد بن حامد بن أحمد والبدر محمود بن علي بن هلال العجلوني والجلال عبد المنعم بن أحمد بن محمد الأنصاري ومحمد بن سليمان بن الحسن بن موسى بن غانم وغيرهم، وبالخليل نزيله عمر بن النجم بن يعقوب البغدادي المعروف بالمحرد، وبغزة قاضيها العلاء علي بن خلف بن كامل أخو صاحب ميدان الفرسان الشمس الغزي تلميذه، وبالرملة بعضهم، وبنابلس الشمس محمد وإبراهيم وشهود بنو عبد القادر بن عثمان وغيرهم، وبحماة أبو عمر أحمد بن علي بن عبد الله العداس والشرف بن البدر (1) محمد بن حسن بن مسعود وجماعة، وبحمص الجمال إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن فرعون وعثمان بن عبد الله بن النعمان الجزار، وبطرابلس الشهاب المسلك أحمد بن عبد الله الرواقي الحموي، وببعلبك الشمس محمد بن علي بن أحمد بن البونانية والعماد إسماعيل بن محمد بن بردوس (2) (لعله فردوس) وآخرون. وأجاز له قبل رحلته ابن أميلة وأبو علي بن الهبل وغيرهما.
وقرأت بخطه: مشايخي في الحديث نحو المائتين، ومن رويت عنه شيئا من الشعر دون الحديث بضع وثلاثون، وفي العلوم غير الحديث نحو الثلاثين. وقد جمع الكل من شيوخ الإجازة أيضا صاحبنا النجم بن فهد الهاشمي في مجلد ضخم بين فيه أسانيده وتراجم شيوخه وانتفع بثبت الشيخ في ذلك وفرح الشيخ به لكونه كان أولا في تعب بالكشف من الثبت،
__________
(1) في «الضوء اللامع»: وشرف ابنة البدر.
(2) في «الضوء اللامع»: بردس.(5/201)
وكذا جميع التراجم وألم بالمسموع شيخنا، لكن ما أظن صاحب الترجمة وقف عليها ولو علم بالذي قبله ما عملها.
وحج في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وكانت الوقفة الجمعة ولم يحج سواها، وزار المدينة المنورة، وكذا زار بيت المقدس أربع مرات.
ولما هجم تيمور لنك على حلب طلع بكتبه إلى القلعة، فلما دخلوا البلد وسلبوا الناس كان فيمن سلب حتى لم يبق عليه شيء، بل وأسر أيضا وبقي معهم إلى أن رحلوا إلى دمشق فأطلق ورجع إلى بلده فلم يجد أحدا من أهله وأولاده، قال: فبقيت قليلا ثم خرجت إلى القرى التي حول حلب مع جماعة، فلم أزل هناك إلى أن رجع الطغاة لجهة بلادهم فدخلت بيتي فعادت إليّ أمتي نرجس وذكرت أنها هربت منهم من الرها وبقيت زوجتي وأولادي منها، وصعدت حينئذ القلعة وذلك في خامس عشري شعبان فوجدت أكثر كتبي فأخذتها ورجعت.
واجتهد الشيخ رحمه الله في هذا الفن اجتهادا كبيرا وكتب بخطه الحسن الكثير، فمن ذلك كما تقدم شرح البخاري لابن الملقن، بل فقد منه نصفه في الفتنة فأعاد كتابته أيضا وعدة مجاميع، وسمع العالي والنازل، وقرأ البخاري أكثر من ستين مرة ومسلما نحو العشرين سوى قراءته لهما في الطلب أو قراءتهما من غيره عليه.
واشتغل بالتصنيف فكتب تعليقا لطيفا على السنن لابن ماجه وشرحا مختصرا على البخاري سماه «التلقيح لفهم قارىء الصحيح» وهو بخطه في مجلدين وبخط غيره في أربعة، وفيه فوائد حسنة، وقد التقط منه شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) حين كان بحلب ما ظن أنه ليس عنده لكون شرحه لم يكن معه سوى كراريس يسيرة وأفاد فيه أشياء، والذي كتبه منه ما يحتاج إلى مراجعته قبل إثباته، ومنه ما لعله يلحقه، ومنه ما يدخل في القطعة التي كانت بقيت على شيخنا من شرحه (المسمى بفتح الباري على صحيح البخاري).
هذا مع كون المقدمة التي لشيخنا من جملة أصول البرهان، فإنني قرأت في خطبة شرحه:
ثم اعلم أن ما فيه عن حافظ عصري أو عن بعض حفاظ العصر أو نحوها بين العبارتين فهو من قول حافظ هذا العصر العلامة قاضي المسلمين حافظ العصر شهاب الدين ابن حجر من كتابه الذي هو كالمدخل إلى شرح البخاري له أعان الله على إكمال الشرح انتهى.
بل لصاحب الترجمة على البخاري عدة إملاءات كتبها عنه جماعة من طلبته، و «المقتفى (1)
في ضبط ألفاظ الشفا» في مجلد بيض فيه كثيرا، و «نور النبراس (2) على سيرة ابن سيد الناس» في مجلدين، وحواش على كل من صحيح مسلم والسنن لأبي داوود لكنها ذهبت في الفتنة، وكتب ثلاثة وهي «التجويد» و «الكاشف» و «تلخيص المستدرك»، وكذا ذيل على الميزان (للذهبي) وسماه، «بلّ الهميان في معيار الميزان» يشتمل على تحرير بعض تراجمه وزيادات عليه وهو في مجلدة لطيفة، لكنه كما قال شيخنا لم يمعن النظر فيه، و «المراسيل» للعلائي و «اليسير على ألفية العراقي» وشرحها، بل وزاد في المتن أبياتا غير مستغنى عنها، وله «نهاية السول في رواة الستة الأصول» في مجلد ضخم، و «الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث» مجلد لطيف، و «التبيين لأسماء المدلسين» في كراسين (3)، و «تذكرة الطالب المعلم فيمن يقال إنه مخضرم» (4) كذلك، و «الاغتباط بمن رمي بالاختلاط» (5)، و «تلخيص المبهمات» لابن بشكوال وغير ذلك. وله ثبت كثير الفوائد طالعته وفيه إلمام بتراجم شيوخه ونحو ذلك، بل ورأيته ترجم جماعة ممن قرأ ورحل إليه كشيخنا (6) وهي حافلة، وابن ناصر الدين (7) وطائفة.(5/202)
ثم اعلم أن ما فيه عن حافظ عصري أو عن بعض حفاظ العصر أو نحوها بين العبارتين فهو من قول حافظ هذا العصر العلامة قاضي المسلمين حافظ العصر شهاب الدين ابن حجر من كتابه الذي هو كالمدخل إلى شرح البخاري له أعان الله على إكمال الشرح انتهى.
بل لصاحب الترجمة على البخاري عدة إملاءات كتبها عنه جماعة من طلبته، و «المقتفى (1)
في ضبط ألفاظ الشفا» في مجلد بيض فيه كثيرا، و «نور النبراس (2) على سيرة ابن سيد الناس» في مجلدين، وحواش على كل من صحيح مسلم والسنن لأبي داوود لكنها ذهبت في الفتنة، وكتب ثلاثة وهي «التجويد» و «الكاشف» و «تلخيص المستدرك»، وكذا ذيل على الميزان (للذهبي) وسماه، «بلّ الهميان في معيار الميزان» يشتمل على تحرير بعض تراجمه وزيادات عليه وهو في مجلدة لطيفة، لكنه كما قال شيخنا لم يمعن النظر فيه، و «المراسيل» للعلائي و «اليسير على ألفية العراقي» وشرحها، بل وزاد في المتن أبياتا غير مستغنى عنها، وله «نهاية السول في رواة الستة الأصول» في مجلد ضخم، و «الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث» مجلد لطيف، و «التبيين لأسماء المدلسين» في كراسين (3)، و «تذكرة الطالب المعلم فيمن يقال إنه مخضرم» (4) كذلك، و «الاغتباط بمن رمي بالاختلاط» (5)، و «تلخيص المبهمات» لابن بشكوال وغير ذلك. وله ثبت كثير الفوائد طالعته وفيه إلمام بتراجم شيوخه ونحو ذلك، بل ورأيته ترجم جماعة ممن قرأ ورحل إليه كشيخنا (6) وهي حافلة، وابن ناصر الدين (7) وطائفة.
__________
(1) موجود بخطه في المكتبة الأحمدية بحلب ورقمه 181قال في آخره: فرغ من تعليقه يوم الاثنين في عشرين شوال في سنة سبع وتسعين وسبعمائة بالشرفية بحلب وابتدأ فيه بعد نصف شعبان من السنة إبراهيم بن محمد بن خليل سبط بن العجمي ولله الحمد والمنة وصلى الله على نبي الرحمة وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومنه نسختان في مكتبة قاضيعسكر محمد مراد ورقمها 453و 457، ونسخة في مكتبة فيض الله أفندي ورقمها 194، وفي السلطانية بمصر.
(2) موجودة في المكتبة البهائية بحلب في ثلاثة مجلدات، ويوجد مجلدان في السلطانية بمصر وهما الأول والثاني وصل فيهما إلى غزوة الحديبية. ونسخة في برلين ونسخة في باريس.
(3) قال في كشف الظنون في الكلام على أسماء المدلسين: وممن صنف فيه الحافظ البرهان الحلبي وزاد عليه قليلا قال: وجميع ما في كتاب العلائي من الأسماء (68) وزاد عليه ابن العراقي (13) وزاد عليه البرهان الحلبي (32) نفسا. أقول: وهو في 12ورقة.
(4) هو في 7أوراق.
(5) هو في 15ورقة وهذه الثلاثة في التكية الإخلاصية بحلب في مجموع بخط عمر بن محمد النصيبي الحلبي محرر سنة 832وعليها خط المؤلف.
(6) هو الحافظ ابن حجر.
(7) هو حافظ الشام محمد بن ناصر الدين المتوفى سنة 842.(5/203)
وكان إماما علامة حافظا خيرا دينا ورعا متواضعا وافر العقل حسن الأخلاق متخلقا بجميل الصفات جميل العشرة محبا للحديث وأهله كثير النصح والمحبة لأصحابه ساكنا منجمعا عن الناس متعففا عن التردد لبني الدنيا قانعا باليسير طارحا للتكلف رأسا في العبادة والزهد والورع مديم الصيام والقيام سهلا في التحدث كثير الإنصاف والبشر لمن يقصده للأخذ عنه خصوصا الغرباء، مواظبا على الأشغال والاشتغال والإقبال على القراءة بنفسه، حافظا لكتاب الله تعالى كثير التلاوة له صبورا على الإسماع، ربما أسمع اليوم الكامل من غير ملل ولا ضجر. عرض عليه قضاء الشافعية ببلده فامتنع وأصر على الامتناع فصار بعد كل واحد من قاضيها الشافعي والحنفي من تلامذته الملازمين بمجلسه والمنتمين لناحيته.
واتفق أنه في بعض الأوقات حوصرت حلب فرأى بعض أهلها في المنام السراج البلقيني فقال له: ليس على أهل حلب بأس، ولكن رح إلى خادم السنة إبراهيم المحدث وقل له يقرأ عمدة الأحكام ليفرج الله عن المسلمين، فاستيقظ فأعلم الشيخ فبادر إلى قرائتها في جمع من طلبة العلم وغيرهم بالشرفية يوم الجمعة بكرة النهار ودعا للمسلمين بالفرج، فاتفق أنه في آخر ذلك النهار نصر الله أهل حلب.
وقد حدث بالكثير وأخذ عنه الأئمة طبقة بعد طبقة وألحق الأصاغر بالأكابر وصار شيخ الحديث بالبلاد الحلبية بلا مدافع. وممن أخذ عنه من الأكابر الحافظ الجمال بن موسى المراكشي ووصفه بالإمام العلامة المحدث الحافظ شيخ مدينة حلب بلا نزاع، وكان معه في السماع عليه الموفق الآبي وغيره والعلامة العلاء ابن خطيب الناصرية وأكثر الرواية عنه في ذيله لتاريخ حلب، وقال في ترجمته فيه: هو شيخي عليه قرأت هذا الفن وبه انتفعت وبهديه اقتديت وبسلوكه تأدبت وعليه استفدت. قال: وهو شيخ إمام عالم عامل حافظ ورع مفيد زاهد على طريق السلف الصالح، ليس مقبلا إلا على شأنه من الاشتغال والأشغال والإفادة لا يتردد إلى أحد، وأهل حلب يعظمونه ويترددون إليه ويعتقدون بركته، وغالب رؤسائها تلامذته. قال: ورحل إليه الطلبة واشتغل عليه كثير من الناس وانفرد بأشياء وصار رحلة الإفاق، وحافظ الشام (لعله وممن رحل إليه حافظ الشام) الشمس ابن ناصر الدين، وكانت رحلته إليه في أول سنة سبع وثلاثين وأثنى عليه، ولما سافر شيخنا في سنة ست وثلاثين صحبة الركاب الأشرفي إلى آمد أضمر في نفسه لقيه والأخذ عنه لاستباحته القصر وسائر الرخص ولكونه لم يدخل حلب في الطلب، ثم أبرز ذلك في الخارج وقرأ
عليه بنفسه كتابا لم يقرأه قبلها وهو مشيخة الفخر ابن البخاري، هذا مع أنه لم يكن حينئذ منفردا بالكتاب المذكور، بل كان بالشام غير واحد ممن سمعه على الصلاح بن أبي عمر أيضا فكان في ذلك أعظم منقبة لكل منهما، وقد كان يمكن شيخنا أن يأمر أحدا من الطلبة بقراءتها كما فعل في غيرها، فقد سمع عليه بقراءة غيره أشياء وحدث هو وإياه معا بمسند الشافعي، والمحدث الفاضل ترجمه شيخنا حينئذ بقوله: وله الآن بضع وستون سنة يسمع الحديث ويقرؤه مع الدين والتواضع واطراح التكلف وعدم الالتفات إلى بني الدنيا. قال: ومصنفاته ممتعة محررة دالة على تتبع زائد وإتقان. قال: وهو قليل المباحث فيها كثير النقل. وقال في مقدمة المشيخة التي جمعها له: أما بعد فقد وقفت على ثبت الشيخ الإمام العلامة الحافظ المسند شيخ السنة النبوية برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي لما قدمت حلب في شهور سنة ست وثلاثين، فرأيته يشتمل على مسموعاته ومستجازاته وما تحمله في بلاده وفي رحلاته وبيان ذلك مفصلا، وسألته هل جمع لنفسه معجما أو مشيخة فاعتذر بالشغل بغيره وأنه يقنع بالثبت المذكور إذا أراد الكشف عن شيء من مسموعاته وأن الحروف لم تكمل عنده، فلما رجعت إلى القاهرة راجعت ما علقته من الثبت المذكور وأحببت أن أخرج له مشيخة أذكر فيها أحوال الشيوخ المذكورين ومروياتهم ليستفيدها الرحالة فإنه اليوم أحق الناس بالرحلة إليه لعلو سنده حسا ومعنى معرفته بالعلوم فنا فنا أثابه الحسنى آمين. وفهرس المشيخة بخطه بما نصه: جزء فيه تراجم مشايخ شيخ الحفاظ برهان الدين، ثم عزم على إرسال نسخة بها إليه وكتب بظاهرها ما نصه: المسؤول من فضل سيدنا وشيخنا الشيخ برهان الدين ومن فضل ولده الإمام موفق الدين (هو أبو ذر وستأتي ترجمته) الوقوف على هذه الكراريس وتأمل التراجم المذكورة فيها وسد ما أمكن من البياض لإلحاق ما وقف على مسطرها من معرفة أحوال من بيض على ترجمته وإعادة هذه الكراريس بعد الفراغ من هذا الغرض إلى الفقير مسطرها صحبة من يوثق به إن شاء الله. وكذا سيأتي في ترجمة ولده (يعني الموفق أباذر) وصف شيخنا لصاحب الترجمة بشيخنا الإمام العلامة الحافظ الذي اشتهر بالرعاية في الإمامة حتى صار هذا الوصف له علامة أمتع الله المسلمين ببقائه.(5/204)
وقد حدث بالكثير وأخذ عنه الأئمة طبقة بعد طبقة وألحق الأصاغر بالأكابر وصار شيخ الحديث بالبلاد الحلبية بلا مدافع. وممن أخذ عنه من الأكابر الحافظ الجمال بن موسى المراكشي ووصفه بالإمام العلامة المحدث الحافظ شيخ مدينة حلب بلا نزاع، وكان معه في السماع عليه الموفق الآبي وغيره والعلامة العلاء ابن خطيب الناصرية وأكثر الرواية عنه في ذيله لتاريخ حلب، وقال في ترجمته فيه: هو شيخي عليه قرأت هذا الفن وبه انتفعت وبهديه اقتديت وبسلوكه تأدبت وعليه استفدت. قال: وهو شيخ إمام عالم عامل حافظ ورع مفيد زاهد على طريق السلف الصالح، ليس مقبلا إلا على شأنه من الاشتغال والأشغال والإفادة لا يتردد إلى أحد، وأهل حلب يعظمونه ويترددون إليه ويعتقدون بركته، وغالب رؤسائها تلامذته. قال: ورحل إليه الطلبة واشتغل عليه كثير من الناس وانفرد بأشياء وصار رحلة الإفاق، وحافظ الشام (لعله وممن رحل إليه حافظ الشام) الشمس ابن ناصر الدين، وكانت رحلته إليه في أول سنة سبع وثلاثين وأثنى عليه، ولما سافر شيخنا في سنة ست وثلاثين صحبة الركاب الأشرفي إلى آمد أضمر في نفسه لقيه والأخذ عنه لاستباحته القصر وسائر الرخص ولكونه لم يدخل حلب في الطلب، ثم أبرز ذلك في الخارج وقرأ
عليه بنفسه كتابا لم يقرأه قبلها وهو مشيخة الفخر ابن البخاري، هذا مع أنه لم يكن حينئذ منفردا بالكتاب المذكور، بل كان بالشام غير واحد ممن سمعه على الصلاح بن أبي عمر أيضا فكان في ذلك أعظم منقبة لكل منهما، وقد كان يمكن شيخنا أن يأمر أحدا من الطلبة بقراءتها كما فعل في غيرها، فقد سمع عليه بقراءة غيره أشياء وحدث هو وإياه معا بمسند الشافعي، والمحدث الفاضل ترجمه شيخنا حينئذ بقوله: وله الآن بضع وستون سنة يسمع الحديث ويقرؤه مع الدين والتواضع واطراح التكلف وعدم الالتفات إلى بني الدنيا. قال: ومصنفاته ممتعة محررة دالة على تتبع زائد وإتقان. قال: وهو قليل المباحث فيها كثير النقل. وقال في مقدمة المشيخة التي جمعها له: أما بعد فقد وقفت على ثبت الشيخ الإمام العلامة الحافظ المسند شيخ السنة النبوية برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي لما قدمت حلب في شهور سنة ست وثلاثين، فرأيته يشتمل على مسموعاته ومستجازاته وما تحمله في بلاده وفي رحلاته وبيان ذلك مفصلا، وسألته هل جمع لنفسه معجما أو مشيخة فاعتذر بالشغل بغيره وأنه يقنع بالثبت المذكور إذا أراد الكشف عن شيء من مسموعاته وأن الحروف لم تكمل عنده، فلما رجعت إلى القاهرة راجعت ما علقته من الثبت المذكور وأحببت أن أخرج له مشيخة أذكر فيها أحوال الشيوخ المذكورين ومروياتهم ليستفيدها الرحالة فإنه اليوم أحق الناس بالرحلة إليه لعلو سنده حسا ومعنى معرفته بالعلوم فنا فنا أثابه الحسنى آمين. وفهرس المشيخة بخطه بما نصه: جزء فيه تراجم مشايخ شيخ الحفاظ برهان الدين، ثم عزم على إرسال نسخة بها إليه وكتب بظاهرها ما نصه: المسؤول من فضل سيدنا وشيخنا الشيخ برهان الدين ومن فضل ولده الإمام موفق الدين (هو أبو ذر وستأتي ترجمته) الوقوف على هذه الكراريس وتأمل التراجم المذكورة فيها وسد ما أمكن من البياض لإلحاق ما وقف على مسطرها من معرفة أحوال من بيض على ترجمته وإعادة هذه الكراريس بعد الفراغ من هذا الغرض إلى الفقير مسطرها صحبة من يوثق به إن شاء الله. وكذا سيأتي في ترجمة ولده (يعني الموفق أباذر) وصف شيخنا لصاحب الترجمة بشيخنا الإمام العلامة الحافظ الذي اشتهر بالرعاية في الإمامة حتى صار هذا الوصف له علامة أمتع الله المسلمين ببقائه.
وسئل (أي الحافظ ابن حجر) عنه وعن حافظ دمشق الشمس ابن ناصر الدين فقال:
البرهان نظره قاصر على كتبه والشمس يجول (1). وكان ذكره قبل ذلك في القسم الثاني من معجمه فقال: المحدث الفاضل الرحال، جمع وصنف مع حسن السيرة والتخلق بجميل الأخلاق والعفة والانجماع والإقبال على القراءة بنفسه ودوام الإسماع والاشتغال، وهو الآن شيخ البلاد الحلبية غير مدافع، أجاز لأولادي وبيننا مكاتبات ومودة حفظه الله تعالى.(5/205)
وسئل (أي الحافظ ابن حجر) عنه وعن حافظ دمشق الشمس ابن ناصر الدين فقال:
البرهان نظره قاصر على كتبه والشمس يجول (1). وكان ذكره قبل ذلك في القسم الثاني من معجمه فقال: المحدث الفاضل الرحال، جمع وصنف مع حسن السيرة والتخلق بجميل الأخلاق والعفة والانجماع والإقبال على القراءة بنفسه ودوام الإسماع والاشتغال، وهو الآن شيخ البلاد الحلبية غير مدافع، أجاز لأولادي وبيننا مكاتبات ومودة حفظه الله تعالى.
قال:
ثم اجتمعت به في قدومي إلى حلب في رمضان سنة ست وثلاثين صحبة الأشرف وسمعت منه المسلسل بالأولية بسماعه من جماعة شيوخنا ومن شيخين له لم ألقهما، ثم سمعت من لفظه المسلسل بالأولية تخريج ابن الصلاح سوى الكلام. انتهى وبلغني أن شيخنا كتب له المسلسل بخطه عن شيوخه الذين سمعه منهم وأدخل فيهم شيخا رام اختباره فيه هل يفطن له أم لا، فتنبه البرهان لذلك بل ونبه على أنه من امتحان المحدثين، هذا مع قوله لبعض خواصه إن هذا الرجل يعني شيخنا لا يلقاني إلا وقد صرت نصف راجل، إشارة إلى أنه كان عرض له قبل ذلك الفالج وأنسي كل شيء حتى الفاتحة. قال: ثم عوفيت وصار يتراجع إليّ حفظي كالطفل شيئا فشيئا، وهو ممن حضر مجلس إملاء شيخنا بحلب وعظمه جدا كما أثبته في ترجمته واستفاد منه كثيرا. وأما شيخنا فقد سمعته يقول: لم أستفد من البرهان غير كون أبي عمير بن أبي طلحة اسمه حفص، فإنه أعلمني بذلك، واستحضر كتاب «فاضلات النساء» لابن الجوزي لكون التسمية فيه ولم أكن وقفت عليه.
وممن ترجم الشيخ أيضا الفاسي في ذيل التقييد وقال: محدث حلب، والتقي المقريزي في تاريخه لكن باختصار وقال: إنه صار شيخ البلاد الحلبية بغير مدافع مع تدين وانجماع وسيرة حميدة.
وقال البقاعي: إنه كان على طريقة السلف في التوسط في العيش وفي الانقطاع عن الناس لا سيما أهل الدنيا عالما بغريب الحديث شديد الاطلاع على المتون بارعا في معرفة العلل، إذا حفظ شيئا لا يكاد يخرج من ذهنه، ما نازع أحدا بحضرته في شيء وكشف عنه إلا ظهر الصواب ما قاله أو كان ما قاله أحد ما قيل في ذلك. وهو كثير التواضع مع الطلبة والنصح لهم، وحاله مقتصد في غالب أمره. قلت: وفيها مجازفات كثيرة كقوله
__________
(1) في «الضوء اللامع»: يحوش.(5/206)
شديد الاطلاع على المتون بارعا في معرفة العلل، ولكنه معذور فهو عار منها.
ولما دخل التقي الحصني حلب بلغني أنه لم يتوجه لزيارته لكونه كان ينكر مشافهته على لابسي الأثواب النفيسة على الهيئة المبتدعة وعلى المتقشفين، ولا يعدو حال الناس ذلك، فتحامى قصده، فما وسع الشيخ إلا المجيء إليه فوجده نائما بالمدرسة الشرفية، فجلس حتى انتبه ثم سلم عليه فقال له: لعلك التقي الحصني، فقال: أنا أبو بكر، ثم سأله عن شيوخه فسماهم له فقال له: إن شيوخك الذين سميتهم هم عبيد ابن تيميّة أو عبيد من أخذ عنه، فما بالك أنت تحط عليه؟ فما وسع التقي إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر أن يرد عليه.
ولم يزل على جلالته وعلو مكانته حتى مات مطعونا في يوم الاثنين سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين (أي وثمانماية) بحلب ولم يغب له عقل بل مات وهو يتلو، وصلي عليه بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بالجبيل عند أقاربه، وكانت جنازته مشهودة، ولم يتأخر هناك في الحديث مثله رحمه الله وإيانا اهـ.
أقول: تقدم الكلام على مدرسة بني العجمي في محلة الجبيل وأن في شرقي قبليتها بيتا كبيرا فيه ثمانية قبور مسنمة لا حجارة عليها ولا كتابة، ولذا لم نعلم صاحب كل قبر، والمترجم رحمه الله مدفون في أحدها.
وقد كان يدرس الحديث أيضا في جامع منكلي بغا المعروف بجامع الرومي في محلة باب قنسرين، ذكر ذلك ولده أبو ذر في كنوز الذهب في الكلام على هذا الجامع. وبهذه المناسبة نذكر هنا كلامه عليه ويكون ذلك تتمة لكلامنا على هذا الجامع في الجزء الثاني في (صحيفة 359) قال:
الكلام على جامع منكلي بغا الشمسي (جامع الرومي):
قال في كنوز الذهب: منكلي بغا الشمسي ولي نيابة حلب عوضا عن قطلوبغا الأحمدي في سنة ثلاث وستين وسبعماية، ثم وليها ثانيا وفي هذه التولية أنشأ هذا الجامع وباشر منعوتا بأحسن الأوصاف حاملا ألوية العدل والإنصاف إلى أن نقل إلى نيابة دمشق بعد سنة كاملة.
وهذا الجامع لطيف حسن العمارة ظاهر النورانية يشرح الصدر ويذهب الغم ويفرج الكرب، ومحرابه في غاية الجودة من الرخام الملون والفسيفساء، وهو معتدل على القبلة
من غير انحراف. ومنبره نهاية في الحسن من الرخام الأبيض والفصوص الملونة، وكذلك سدته من الرخام الأبيض، جيد في بابه، وحائطه فيه وزرة من الرخام الملون السماقي والأبيض وغير ذلك. ومنارته حسنة على هيئة لطيفة مدورة في غاية الإحكام. وكان أولا قبل أن يبنى محلته يباع فيها الخمر ويقال لها محلة الأرمن، فقيض الله سبحانه وتعالى هذا الرجل فأزال المناكر وأسس هذا الجامع بالعدل والإنصاف كما قال الشاعر:(5/207)
وهذا الجامع لطيف حسن العمارة ظاهر النورانية يشرح الصدر ويذهب الغم ويفرج الكرب، ومحرابه في غاية الجودة من الرخام الملون والفسيفساء، وهو معتدل على القبلة
من غير انحراف. ومنبره نهاية في الحسن من الرخام الأبيض والفصوص الملونة، وكذلك سدته من الرخام الأبيض، جيد في بابه، وحائطه فيه وزرة من الرخام الملون السماقي والأبيض وغير ذلك. ومنارته حسنة على هيئة لطيفة مدورة في غاية الإحكام. وكان أولا قبل أن يبنى محلته يباع فيها الخمر ويقال لها محلة الأرمن، فقيض الله سبحانه وتعالى هذا الرجل فأزال المناكر وأسس هذا الجامع بالعدل والإنصاف كما قال الشاعر:
وإذا تأملت البقاع وجدتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد
وأصرف عليه من وجه حل. ثم بلغ مشد العمارة أن الصيرفي كان يقطع من كل فاعل حبة، فأهانه وقال: لو درى بك النائب لأهانك. وكان الفاعل ينام ولا يكلف ويأمره بالصلاة، وأقام لعمارته ابن المهمندار فقام قياما حسنا وعمره وثمر وقفه وزاد ريعه وشرى له حصصا.
وقد وقف منكلي بغا كتبا نفيسة لهذا الجامع ومنها «التفسير» للقرطبي و «التبصرة» لابن الجوزي و «مجمع الأحباب» للحسيني وغير ذلك من الكتب النفايس، وقد ذهب نصف مجمع الأحباب وكان كله في مجلدين فذهب مجلد، وهو كتاب جليل ترجم فيه الأولياء والعلماء وتكلم فيه على طريق الصوفية. ووضع الكتب في خزائن بالجامع المذكور، وهذه الخزائن متقنة محكمة فيها الصنائع العظيمة على طريق النجارين، وبلغني أن الشيخ فريكا وهو من الصالحين كان نجار ذلك (1).
وفي تاسع عشر المحرم سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة شرع في نقض الحائط الغربي من هذا الجامع وبعض القبو الملاصق له لأنه انشق قديما وأراد الحاج عمر الجابي لوقفه أن يبني فيه قناطر وأن يضعها على الصفوية، وهي تربة للصفوي وعليها وقف في طاحون الدوير وبها قبر، وكان هناك قراء لهم معلوم مرتب من ريع الوقف، واشترى لذلك أحجارا عظيمة ورأيت بعضها على باب الجامع فلم يتفق ذلك، وكان قد اجتمع مال من ريع الجامع وهو مدخر بالجامع المذكور، فتقاسم المباشرون المال ولم يبنوا شيئا من الجامع، فزاد التقطع في السنة المذكورة لما أحدثوا قناة حمّام المالحة في أساسه، فذهب أهل المحلة إلى كافل حلب
__________
(1) لا خزائن الآن هناك ولا كتب وقد رأيت منها تفسير القرطبي في بعض البيوت في 15مجلدا وهو نسخة نفيسة جدا.(5/208)
تنم وأحضروه إلى الجامع فرأى حاله وما آل، فرق عليه. وكان الخواجا شهاب الدين أحمد الملطي عين التجار بحلب إذ ذاك قد تكلم معه في عمارته فقال: أخاف من عمارته أن يتوصل أحد من الحكام إلى أخذ شيء من مالي، ودلهم على التكلم مع الكافل في ذلك، فتكلموا مع الكافل وعرفوه أن ريعه لا يفي بعمارته، فقال له الكافل: أنا أتبرع بعمارته، فقال له الجماعة: بل نترامى على الملطي ونسأله أن يعمره، فقال لهم: افعلوا ما بدا لكم، فذهبوا إلى الملطى وأعلموه بذلك فأخرج خمسمائة أفلوري متبرعا بها في عمارته، وتبرع ابن الشحنة محب الدين العلامة بالكلس من ماله، فأرسل كافل حلب إلى القاهرة وأحضر صناعا لبناء ذلك فحضروا ومعهم مهندس، وكان قليل الكلام، ومعلم يقال له
وشيّال، وكان الشيّال طويلا له قدرة على حمل الحجارة العظيمة، فشرعوا في النقض كما تقدم، فنقضوا حتى بلغوا الأساس، ووضع في الأساس أعمدة. وتمت عمارة ذلك في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة المذكورة، فقال علي بن الرحال: إن هذا البناء يتشقق ثانيا، فحدث في القبو بعض تشقق، وقد تشقق الحائط الشمالي مع قبوه في سنة ثلاث وسبعين. وكان الحاج محمد بن صفا (1) (المدفون بالصفوية) رحمه الله رجلا خيرا تبرع بجملة من ماله لما فرغت دراهم الملطي فصرفت في عمارة الحائط المذكور، ولم يقطع للمستحقين الدرهم الفرد.
ولما ولي الكلام على الجامع خشقدم دوادار قانباي الحمزاوي رحمهم الله تعالى قام بعمارته أحسن قيام ورخم قبيلته بالحجارة الحندراتية وبيضه متبرعا بذلك كله من ماله فزاد حسنه، ثم لما ذهب مع أستاذه إلى كفالة دمشق أرسل له مصابيح من دمشق فعلقت فيه وهي مذهبة. ثم لما تكلم عليه يوسف خازندار جانم شرى له بسطا كثيرة من ماله ففرشت بالجامع المذكور مضافة إلى البساط الكبير الذي وقفه الأمير صارم الدين إبراهيم ابن منجك، وكان قد قدم حلب في بعض التجاريد. ووقف عليه الحاج عمر بن صفا بساطا كبيرا، وكذلك أحمد بن الديوان الأستادار.
__________
(1) قال في الكلام على الترب: التربة الصفوية بحضرة منكلي بغا من الغرب بينهما شارع، وهي بناء محكم وبها فرش من الرخام وفيها قبور وقراء يقرؤون القرآن، ومن وقفها حصة برحا الدوير على نهر قويق. اهـ.
أقول: لا زال هناك قبر عن يمين الباب وله شباك على الجادة وهناك قبلية اتخذت كتّابا ولا وقف للتربة الآن والمكان جميعه في حاجة إلى الترميم.(5/209)
وكان هذا الجامع يحضر إليه الناس من البلاد الشاسعة وأطراف البلد للنظر إلى محاسنه والاجتماع بمحدثه والدي وقراءة الحديث فيه بشرط الواقف أن يكون المتكلم على الجامع واحدا، وفرض ذلك لابن حبيب، ثم انتقلت إلى الحراني قاضي حلب الحنبلي، ويأتون أيضا إلى سماع مؤذنه جمال الدين يوسف الكشكاوي وكان خيرا دينا صيتا يحفظ القرآن وانقطع صوته ثم عاد، وربما كان يتزعزع في بعض الأحوال. وكذلك لسماع مؤذنه شمس الدين التيزيني وللصلاة خلف إمامه الشيخ إسرافيل وكان عبدا صالحا صيتا، وسمي بذلك لحسن صوته، وكان الرؤساء من أهل المحلة يجلسون على بابه فلا يستطيع أحد المرور لحشمتهم وحياء منهم، ومن جملتهم ابن الافتخاري ووقف صطلا كبيرا من نحاس ليعلق على باب الجامع للشرب منه.
وفي هذا الجامع في قبليته من جهة الشرق إيوانان أحدهما فيه باب صغير مسدود الآن كان يدخل منه منكلي بغا للصلاة يوم الجمعة لئلا يتخطى رقاب الناس اهـ.
أقول: ذكرت في الجزء الثاني في الكلام على هذا الجامع أني لم أقف على سبب تسميته بجامع الرومي. ثم وقفت على ذلك في تاريخ أبي ذر في كلامه على جامع دباغة العتيقة الواقع بين محلة سويقة علي ومحلة سويقة الحجارين فقد قال ثم: هذا الجامع (أي جامع الدباغة) يقال له جامع الرومي. (ثم قال): وهذا الرومي الذي ينسب إليه هذا الجامع أخبرني بعض المشايخ أنه كان تاجرا وأنه سافر ورفقته معه فوقع عليهم برد ببعض البوادي فقتل دوابهم وأهلكهم، فسلم هذا الرجل المذكور فجمع ما كان مع رفاقه من المال ودخل حلب وبنى حمّاما بالقرب من باب قنسرين وهي الآن بعضها وقف على جامع منكلي بغا اهـ.
أقول: ويغلب على الظن أن هذا الرومي عمر في هذا الجامع ورممه، فلوقفه بعض هذه الحمّام وتعميره فيه نسب الجامع إليه وصار يعرف من ذلك الحين بجامع الرومي اهـ.
قال في الدر المنتخب: حمّام الرومي بالقرب من جامع منكلي بغا اهـ. أقول: لا أثر لها الآن.
تتمة الكلام على جامع دباغة العتيقة:
هذا الجامع الذي قال أبو ذر عنه إنه يقال له جامع الرومي لا يعرف بهذا الاسم، وشهرته الآن بجامع دباغة العتيقة.(5/210)
قال أبو ذر: هذا الجامع له منارة عظيمة، وهو جامع له صحن لطيف وقبليته غربي الصحن مقبوة بالأحجار (1) وبنى إلى جانبه موسى الصيرفي المهاجر إلى دين الإسلام، حسن إسلامه وحج إلى بيت الله الحرام سنة سبع وثلاثين، وكان رفيقنا في الحج، تربة ومسجدا وجعل بينهما بابا، وجعل في مسجده بركة ماء وسقف مسجده بالأخشاب، وليس فيما عمره طائل إنما هو من اللبن والحوارة، ودفن أولاده في جانب هذا المسجد اهـ.
أقول: ليس في هذا الجامع شيء من الزخرفة إنما بناؤه في غاية الإحكام. وفي وسط القبلية قاعدة عظيمة يبلغ طولها سبعة أذرع ونصف وعرضها أزيد من ذراعين وعليها ارتكز بناء الجامع. ومنارته مربعة الشكل على نسق المنارة التي في جامع باب أنطاكية درجاتها 74ويبلغ ارتفاعها 22ذراعا وعرضها 4أذرع. وكان غربي الصحن عدة قبور درست منذ نحو ستين عاما واتخذ موضعها مزرعة غرس فيها بعض الأشجار. وفي طرف الصحن من الجهة الشرقية قبران، وهناك أيضا قبر آخر كتب على لوحه سنه 887يغلب على الظن أنه قبر موسى الصيرفي المتقدم ذكره. والبركة التي ذكرها أبو ذر كانت صغيرة وسعت سنة 1316من وصية الحاج صالح الموقع.
552 - محمد بن عبد الأحد المخزومي المتوفى سنة 841
محمد بن عبد الأحد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن مكي بن يوسف بن محمد الشمس أبو الفضائل ابن القاضي الزين أبي المحاسن المخزومي الخالدي نسبا العلوي الحسيني سبط
الحراني الأصل، الحلبي ثم المصري، ويعرف باسم أبيه وبابن الشريفة.
ولد فيما قال ليلة الجمعة سادس شوال سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن وتفقه بأبيه فبحث عليه نصف المقنع ثم أكمله إلا قليلا في القاهرة على الشمس الشامي، وكذا أخذ ألفية ابن عبد المعطي بحثا عن أبيه وكثيرا من ألفية ابن مالك عن يحيى العجيسي، وبحث في أصول الدين على الشمس ابن الشماع الحلبي، وفضل ونظم الشعر وكتب في توقيع الدست بحلب والقاهرة. وسافر مع امرأة نوروز الحافظي فماتت في اللجون، فلما لقيه زوجها أحسن إليه وضمه إلى بعض أمراء حماة، فمكث عنده وانضم
__________
(1) لا أثر لهذا الصحن الآن فإن أمام القبلية من شرقيها ساحة واسعة.(5/211)
إلى بيت ابن السفاح. وتنقل حتى ولي كتابة سر البحيرة ثم غزة وكذا نظر جيشها. وله أحوال في العشق مشهورة وتهتكات فيه وحظوة عند النساء. وجمع كتابا في تراجم أحرار العشاق سماه «صبوة الشريف الظريف» ومنتخبا من شعره ومراسلات بينه وبين بعض المعاشق سماه «الإشارة إلى باب الستارة»، وكذا نظم «العمدة» لابن قدامة في أرجوزة، وامتدح الكمال ابن البارزي وغيره ولقيه البقاعي فكتب عنه ما أسلفته في ترجمة أبيه.
ومات بصفد وهو كاتب سرها في شعبان سنة إحدى وأربعين اهـ.
553 - محمد الحاضري المتوفى سنة 841
ولي الدين محمد الحاضري أخو الذي قبله.
ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن والشاطبية وألفية ابن معطي والفوائد الغياثية والهداية في المذهب، واشتغل على أبيه وناب عنه، وجمع على الشهاب ابن المرحل ونسيبه الشرف الحراني وابن أيدغمش وابن صديق في آخرين. وأجاز له الشمس العسقلاني ومحمد بن محمد بن عمر بن عوض وابن الطباخ (1) وغيرهم.
وحدث سمع منه الفضلاء. وكان خيرا منجمعا عن الناس متمولا. مات في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين اهـ.
قال أبو ذر في كنوز الذهب: في سنة أربعين وثمانماية كان ابتداء الطاعون العظيم بحلب، واستمر يظهر مرة ويخفى أخرى إلى سنة إحدى وأربعين وثمانماية فظهر وانتشر وفشا ومات فيه خلق كثير، وفيه توفي الشيخ ولي الدين محمد بن العلاء عز الدين الحاضري. وكانت وفاته بالحلاوية ودفن عند والده. وكان إنسانا حسنا دينا خيرا منقطعا عن الناس وفيه بر وإحسان، يحفظ كتبا كثيرة على قاعدة مذهبه وفي النحو، وقرأ صحيح البخاري عن والده بجامع دمرداش.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن إبراهيم الخياط الشهير بابن الطباخ. قال في الدرر الكامنة: سمع من إبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي وأبي بكر أحمد بن محمد بن العجمي وغيرهما وحدث أخذ عنه ابن عشاير وغيره ومات بعد السبعين (وسبعماية).(5/212)
554 - أحمد بن الحسن الهلالي باني الزاوية البهادرية المتوفى سنة 841
قال أبو ذر: هو الشيخ المسلّك شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الحسن بن سعيد الهلالي الشافعي نزيل حلب والده.
وهذا الرجل كان فقيرا من المال فلزم الشيخ ناصر الدين بن بهادر، وكان الشيخ ناصر الدين صالحا زاهدا منقطعا عن الناس. وتوفي ثاني عشر جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة ودفن خارج باب المقام في التربة التي اندفن فيها السفيري لأنه كان من تلامذته.
ثم لزم الشيخ شهاب الدين المذكور والدي وقرأ عليه كثيرا، وكان يخدم والدي ويشتري حوائجه بنفسه. ثم إنه خدم بعض الأمراء فأثرى وكثر جاهه وهو مع ذلك يتردد إلى والدي كعادته ويقضي حوائجه كما كان أولا. وحج من حلب حجة مصروفها كثير، وتزوج امرأة فأولدها ولدين، ثم إنه ترفع عنها ففارقها وتزوج ببنت المنقاري. وأنشأ زاوية بالقرب من جامع الصروي بالبياضة، ولما بني هذا المكان كتب مسودة وقفه بيده ثم أشهدني عليه به فكتبت له نسخة. ولم يزل متضعفا في بدنه بعد أن أثرى. ورحل إلى القاهرة في حال الطلب وقرأ على شيخنا الحافظ بن حجر.
ثم لما قدم شيخنا حلب صحبة الأشرف تزوج بمطلقة شهاب الدين ولم يعلم بذلك، فجاء شهاب الدين المذكور مسلما على شيخنا ومعه ولده من المرأة التي تزوجها شيخنا وكنت واقفا عند شيخنا ومع شهاب الدين برنية فيها زنجبيل يهديها لشيخنا، ودخل ابنه إلى أمه فأنكر الشيخ دخول الصبي إلى بيته، فسألني فأخبرته بحقيقة الأمر، فاستحى شيخنا منه. ثم إن شيخنا لما سافر من حلب طلقها وندم على طلاقها في الطريق، فكتب إلي كتابا ومن جملته:
وأشاع عني عاذلي ... أني سلوت وما صدق
ومن جملته:
رحلت وخلفت الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا
أعلل نفسي بالحديث تشاغلا ... نهاري وفي ليلي أحن إلى ليلى
وكان اسمها ليلى وأمرني في الكتاب بالتكلم معها في مراجعتها، فتكلمت وراجعتها إليه
وسفرتها إليه ودامت عنده بالقاهرة، ثم استأذنته بالتوجه إلى حلب لتزور ولديها فأرسلها وصحبتها الشيخ شمس الدين قمر تلميذه. وكتب إليّ كتابا يقول لي فيه: خيّرها بين الإقامة والرجوع إليّ، فخيّرتها فاختارت الشيخ فجهزتها ودامت عنده حتى مات. وهذه الزاوية لطيفة لها بابان إلى مسكنه، وكان يجمع الفقراء عنده ويذكر بهم، واتخذ لها بسطا لمن يبيت بها، ووقف عليها وقفا بباب النيرب حوانيت وقاسارية. وتوفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وثمانماية ودفن عند شيخه اهـ.(5/213)
رحلت وخلفت الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا
أعلل نفسي بالحديث تشاغلا ... نهاري وفي ليلي أحن إلى ليلى
وكان اسمها ليلى وأمرني في الكتاب بالتكلم معها في مراجعتها، فتكلمت وراجعتها إليه
وسفرتها إليه ودامت عنده بالقاهرة، ثم استأذنته بالتوجه إلى حلب لتزور ولديها فأرسلها وصحبتها الشيخ شمس الدين قمر تلميذه. وكتب إليّ كتابا يقول لي فيه: خيّرها بين الإقامة والرجوع إليّ، فخيّرتها فاختارت الشيخ فجهزتها ودامت عنده حتى مات. وهذه الزاوية لطيفة لها بابان إلى مسكنه، وكان يجمع الفقراء عنده ويذكر بهم، واتخذ لها بسطا لمن يبيت بها، ووقف عليها وقفا بباب النيرب حوانيت وقاسارية. وتوفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وثمانماية ودفن عند شيخه اهـ.
أقول: هذه الزاوية في محلة البياضة ملاصقة لجامع الصروي من جهة القبلة حتى إن نوافذ القبلة على طولها مطلة عليها، وهي في أول الزقاق المعروف بزقاق قصطل الطويل عن يسار الداخل إليه وقد جعلت دارا ووقفت وتعرف بوقف مفتي الشافعية. وباب هذه الدار على هيئة أبواب الزوايا والمدارس لا على هيئة أبواب الدور، وما رأيته داخلها من الأحجار الكبيرة والعواميد المكسرة التي في أرضها يدل على ذلك.
555 - محمد بن ناهض المتوفى سنة 841
محمد بن ناهض بن محمد بن حسن بن أبي الحسن الشمس الجهني الكردي الأصل الحلبي نزيل القاهرة.
ولد تقريبا بحلب في سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وتولع بالأدب فأبلغ نظما ونثرا.
وسكن القاهرة مدة ونزل في صوفية الجمالية ومدح أعيانها، بل عمل سيرة المؤيد شيخ فأجاد ما شاء، وقرظها له خلق في سنة تسع عشرة. ومن نظمه:
يا رب إني ضعيف ... وفيك أحسنت ظني
فلا تخيّب رجائي ... وعافني واعف عني
وقد ذكره ابن فهد في معجمه وبيض له، وكذا جرده البقاعي، وهو في عقود المقريزي وقال: إنه سكن القاهرة زمانا ومدح الأعيان وتعيش ببيع الفقاع بدمشق، ثم ترك وأقام مدة يستجدي بمدحه الناس حتى مات بالقاهرة في حادي عشر شعبان سنة إحدى وأربعين، وكان عنده فوايد. وكتبت عنه من نظمه:
كم دولة بفنون الظلم قد فنيت ... وراح آثارهم في عكسهم ومحوا
وجاء من بعدهم من يفرحون بها ... وقال سبحانه حتى إذا فرحوا
وكذا كتب عنه الولوي عبد الله بن أبي البقا القاضي شعرا اهـ.(5/214)
كم دولة بفنون الظلم قد فنيت ... وراح آثارهم في عكسهم ومحوا
وجاء من بعدهم من يفرحون بها ... وقال سبحانه حتى إذا فرحوا
وكذا كتب عنه الولوي عبد الله بن أبي البقا القاضي شعرا اهـ.
556 - فاطمة بنت الأنصاري المتوفاة سنة 842
فاطمة بنت عمر ابنة الشرف موسى بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن جمعة بن أبي بكر بن محمد بن حسن الأنصاري الحلبي، ويعرف والدها بابن الحنبلي.
أحضرت في الخامسة سنة سبع وثمانين على الشرف أبي بكر الحراني وابن المرحل وعمر ابن أيدغمش، وأجاز لها الشمس العسقلاني المقري ومحمد بن محمد ابن الطباخ ومحمد ابن محمد بن عوض وآخرون. وكانت أصيلة، تزوجها الشهاب أحمد بن السفاح وولدت له عمر وغيره. وماتت في رجب سنة اثنتين وأربعين بحلب اهـ.
557 - القاضي علاء الدين علي ابن خطيب الناصرية المؤرخ المتوفى سنة 843
علي بن محمد بن سعد بن محمد بن علي بن عثمان بن إسمعيل بن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب بن علي بن هبة الله بن ناجية العلاء أبو الحسن ابن خطيب الناصرية الشمس الطائي الجبريني نسبة لبيت جبرين الفستق ظاهر حلب من شرقيها، ثم الحلبي الشافعي سبط العالم المدرس الزين علي ابن العلامة قاضي قضاة حلب الفخر أبي عمر وعثمان بن علي بن عثمان الطائي بن الخطيب، بل والزين هذا ابن عم جده لأبيه، ويعرف العلاء بابن خطيب الناصرية.
ولد في سنة أربع وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن وكتبا منها المنهاج الفرعي والأربعين المخرجة من مسند الشافعي الملقب سلاسل الذهب من رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وألفية الحديث للعراقي وألفية النحو لابن معطي، وانتفع من حفظها بوالده الآتي، وفي القراءات بالفقيه الشمس محمد بن علي بن أحمد بن أبي البركات المعري ثم الحلبي، فإنه قرأ عليه وهو صغير جدا بعض القرآن ثم أكمله على غيره، وعرض الأولين في سنة تسع وثمانين على جماعة منهم الجمال عبد الله بن محمد بن إبراهيم
ابن محمد النحريري المالكي، والمنهاج وحده فيها أيضا على الشمس أبي عبد الله محمد بن نجم بن محمد ابن النجار الحلبي الحنفي وكتب له خطه بذلك، وفي سنة ثلاث (1) وتسعين على السراج البلقيني بحلب، والألفيتين على جماعة منهم الشمس محمد بن مبارك عثمان البشناقي الحلبي الحنفي، وأجازا له، بل استجاز له أبوه من شيوخ القاهرة حين دخلها في سنة ثلاث وثمانمائة الزين العراقي وكتب خطه بذلك واستصحب معه ولده قبل ذلك سنة خمس وثمانين إلى بيت المقدس فزار الشيخ عبد الله بن خليل البسطامي وأضافهما ودعا لهما، وجوّد العلاء القرآن على أحمد الحموي المقري وبعضه على محمد اليمني المقري نزيل حلب وأحمد بن محمد بن أحمد بن الشويش الجبريني الحلبي أحد من برع في القراءات وفي حل الشاطبية.(5/215)
ولد في سنة أربع وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن وكتبا منها المنهاج الفرعي والأربعين المخرجة من مسند الشافعي الملقب سلاسل الذهب من رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وألفية الحديث للعراقي وألفية النحو لابن معطي، وانتفع من حفظها بوالده الآتي، وفي القراءات بالفقيه الشمس محمد بن علي بن أحمد بن أبي البركات المعري ثم الحلبي، فإنه قرأ عليه وهو صغير جدا بعض القرآن ثم أكمله على غيره، وعرض الأولين في سنة تسع وثمانين على جماعة منهم الجمال عبد الله بن محمد بن إبراهيم
ابن محمد النحريري المالكي، والمنهاج وحده فيها أيضا على الشمس أبي عبد الله محمد بن نجم بن محمد ابن النجار الحلبي الحنفي وكتب له خطه بذلك، وفي سنة ثلاث (1) وتسعين على السراج البلقيني بحلب، والألفيتين على جماعة منهم الشمس محمد بن مبارك عثمان البشناقي الحلبي الحنفي، وأجازا له، بل استجاز له أبوه من شيوخ القاهرة حين دخلها في سنة ثلاث وثمانمائة الزين العراقي وكتب خطه بذلك واستصحب معه ولده قبل ذلك سنة خمس وثمانين إلى بيت المقدس فزار الشيخ عبد الله بن خليل البسطامي وأضافهما ودعا لهما، وجوّد العلاء القرآن على أحمد الحموي المقري وبعضه على محمد اليمني المقري نزيل حلب وأحمد بن محمد بن أحمد بن الشويش الجبريني الحلبي أحد من برع في القراءات وفي حل الشاطبية.
ومن شيوخه في العلم التاج تاج بن محمد الأصفهندي العجمي قرأ عليه في الفقه والنحو وكثر اجتماعه به. وقرأ فيهما أيضا على الشمس محمد بن سليمان بن عبد الله الحموي ابن الخراط، وكذا سمع دروسه فيهما أيضا وفي الأصول ولازمه مدة.
وقرأ في الفقه وغيره كالعربية على الجمال يوسف ابن خطيب المنصورية بحلب وبحماة وطرابلس وحضر دروسه في التفسير، وهو أول من أذن له في الإفتاء وكتب له خطه بذلك، وهو ممن أخذ العربية على السري المالكي وحضر دروس السراج البلقيني في سنة ثلاث وتسعين ثم في سنة ست وتسعين حين قدم عليهم حلب فيهما. وقرأ غالب المنهاج بحثا على الزين أبي حفص عمر بن محمود بن محمد الكركي، ويقال إن البرهان الحلبي كان يلومه في أخذه عنه ويقول له: إنك أفضل منه. وأخذ في الفقه أيضا مدة عن الشمس أبي عبد الله محمد بن علي بن يعقوب النابلسي نزيل حلب، وقرأ على الشرف الداديخي وكان يخالفه في أشياء يكون الظفر فيها بالمنقول مع صاحب الترجمة.
وقرأ طرفا من النحو أيضا على الشمس أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن سليمان المعري الحلبي الشافعي المعروف بابن الركن والعز أبي البقاء محمد بن خليل الحاضري الحنفي، بل وسمع عليه أيضا الحديث وكان رفيقه في القضاء بحلب سنين. وطرفا من الفرايض على الشمس محمد بن إسمعيل بن الحسن بن خميس البابي والسراج عبد اللطيف
__________
(1) في «الضوء اللامع»: سنة ست وتسعين.(5/216)
ابن أحمد الفوي بحلب، بل قرأ عليه تخميسه للبردة وكتب عنه من نظمه أشياء وقطعة من مختصر ابن الحاجب الأصلي. وجانبا من الفقه على العلاء أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى التميمي الصرخدي نزيل حلب وانتفع به كثيرا، وكذا بالشمس البابي الكبير. وطرفا من المعاني والبيان على المحب أبي الوليد بن الشحنة وحضر عنده كثيرا وكتب عنه من نظمه ونثره.
ومن شيوخه أيضا القاضي الشرف أبو البركات موسى الأنصاري الحلبي قاضيها الشافعي. وأخذ الحديث عن الولي العراقي والبرهان الحلبي ولازمه كثيرا وبه تخرج وعليه انتفع، وكذا أخذ قديما وحديثا. وأحضر في الخامسة على البدر ابن حبيب وسمع على الشهاب ابن المرحل والشرف أبي بكر الحراني وابن صديق والعز أبي جعفر الحسيني وأبي الحسن علي بن إبراهيم بن يعقوب بن صقر والشهاب أبي جعفر أحمد وأم الحسن فاطمة ابنة الشهاب الحسيني الإسحاقي وجماعة من أهلها والقادمين عليها، وكان من القادمين الغياث محمد بن محمد بن عبد الله العاقولي سمع من لفظه حديث (إنما الأعمال بالنيات) والكلام على فوائده وأحكامه وأنشده شيئا من شعره وأجاز له وذلك في سنة ست وتسعين، والبدر بن أبي البقا السبكي اجتمع به وصحبه، وقرأ على الجمال يوسف بن موسى الملطي السيرة النبوية والدر المنظوم من كلام المصطفى المعصوم كلاهما لمغلطاي بقراءته لهما على مؤلفهما.
وارتحل إلى القاهرة فقرأ بدمشق في ربيع الأول سنة ثمان وثمانماية المسلسل على الجمال ابن الشرائحي وسمع منه ومن عائشة بنة عبد الهادي وطيبغا الشريفي وأحمد بن عبد الله ابن الفخر البعلي وحضر دروس جماعة كالجمال الطيماني. قال ابن قاضي شهبة: حضر عنده وأنا أقرأ عليه في الحاوي وكان يستحضر كثيرا. وبالقاهرة من القطب عبد الكريم حفيد الحافظ القطب والحلبي والتقي الدجوي والشريف النسابة الكبير في آخرين كشيخنا علق عنه كثيرا من كتابه تعليق التعليق، ثم سمع من بعد ذلك أشياء. وكالشرف ابن الكويك والجلال البلقيني سمع عليه البعض من سنن النسائي الصغرى، بل قرأ عليه بحلب البعض من مبهماته، وأخذ عن النور بن سيف الأبياري اللغوي قرأ عليه جزءا من تصنيف شيخه العنابي اسمه الوافر في فعل التعدي والقاصر بقراءئه له على مؤلفه، وذكر العلاء لشيخه حين قراءته عليه له أن مؤلفه فاته الكثير من الأفعال التي تستعمل لازمة ومتعدية فاستحسن
الشيخ ذلك وبالغ في تعظيمه ووصفه بخطه بالعلامة وحلف إنه لم يكتبها لأحد قبله. وكذا اجتمع في القاهرة بالشمس بن الديري وكتب عنه في آخرين منهم الأديب الشمس أبو الفضل محمد بن علي بن أبي بكر المصري كتب عنه في ربيع الأول سنة تسع شيئا من نظمه.(5/217)
وارتحل إلى القاهرة فقرأ بدمشق في ربيع الأول سنة ثمان وثمانماية المسلسل على الجمال ابن الشرائحي وسمع منه ومن عائشة بنة عبد الهادي وطيبغا الشريفي وأحمد بن عبد الله ابن الفخر البعلي وحضر دروس جماعة كالجمال الطيماني. قال ابن قاضي شهبة: حضر عنده وأنا أقرأ عليه في الحاوي وكان يستحضر كثيرا. وبالقاهرة من القطب عبد الكريم حفيد الحافظ القطب والحلبي والتقي الدجوي والشريف النسابة الكبير في آخرين كشيخنا علق عنه كثيرا من كتابه تعليق التعليق، ثم سمع من بعد ذلك أشياء. وكالشرف ابن الكويك والجلال البلقيني سمع عليه البعض من سنن النسائي الصغرى، بل قرأ عليه بحلب البعض من مبهماته، وأخذ عن النور بن سيف الأبياري اللغوي قرأ عليه جزءا من تصنيف شيخه العنابي اسمه الوافر في فعل التعدي والقاصر بقراءئه له على مؤلفه، وذكر العلاء لشيخه حين قراءته عليه له أن مؤلفه فاته الكثير من الأفعال التي تستعمل لازمة ومتعدية فاستحسن
الشيخ ذلك وبالغ في تعظيمه ووصفه بخطه بالعلامة وحلف إنه لم يكتبها لأحد قبله. وكذا اجتمع في القاهرة بالشمس بن الديري وكتب عنه في آخرين منهم الأديب الشمس أبو الفضل محمد بن علي بن أبي بكر المصري كتب عنه في ربيع الأول سنة تسع شيئا من نظمه.
وكذا سمع دروس البيجوري والولي العراقي. وسافر من القاهرة في هذا الشهر وكتب فيه بقاقون عن ناصر الدين بن البارزي القاضي شيئا من نظمه أيضا. وببعلبك عن التاج ابن بردس وغيره. وبطرابلس عن الشرف مسعود بن شعبان الطائي الحلبي الشافعي كتب عنه شيئا من شعر غيره، وكذا كتب فيها في رجب سنة أربع وثمانمائة عن البدر محمد بن موسى ابن محمد بن الشهاب محمود شيئا من نظمه، وكتب لكاتب سرها الجمال عبد الكافي ابن محمد بن أحمد بن فضل الله يستجيزه:
أسيدنا شيخ العلوم ومن غدت ... فواضله أندى من الغيث والبحر
أجب وأجز عبدا ببابك لم يزل ... بأمداحكم رطب اللسان مدى الدهر
فأجابه بقوله:
أيا سيدا ما زال في الفضل واحدا ... جبرت كسيرا بالسؤال بلا نكر
نعم إذ بدأت العبد أنت مقدم ... وفضلك أضحى بالتقدم لي جبري
ثم لقيه بطرابلس وسمع عنه من نظمه شفاها.
وتكرر قدومه بعد ذلك القاهرة، وآخر قدماته في أوائل ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، فإنه كان صرف فأعيد، وتوجه معنا في حادي عشر شعبان منها فدخل بلده في أوائل شوال موعوكا ولم يلبث أن مات. وقبل ذلك دخلها في شوال سنة أربع وعشرين بعد أن زار بيت المقدس، وحينئذ ولي قضاء طرابلس كما سيأتي. وقبل ذلك في سنة ست عشرة وولي فيها قضاء حلب كما سيأتي.
وحج ثلاث مرات أولها في سنة ست عشرة واجتمع بالجمال بن ظهيرة وسمع خطبته لكنه لم يسمع عليه ولا على غيره هناك شيئا للاشتغال بالمناسك، وثانيها في سنة ست وعشرين.
وكان إماما علامة محققا بارعا في الفقه كثير الاستحضار له، إماما في الحديث مشاركا في الأصول مشاركة جيدة، وكذا في العربية وغيرها، مستحضرا للتاريخ لا سيما السيرة
النبوية فيكاد يحفظ مؤلف ابن سيد الناس فيها، كل ذلك مع الإتقان والثقة وحسن المحاضرة وجودة المذاكرة والرياسة والحشمة والوجاهة والثروة مع صمم يسير اشتهر ذكره وبعد صيته، وصار مرجع الشافعية في قطره.(5/218)
وكان إماما علامة محققا بارعا في الفقه كثير الاستحضار له، إماما في الحديث مشاركا في الأصول مشاركة جيدة، وكذا في العربية وغيرها، مستحضرا للتاريخ لا سيما السيرة
النبوية فيكاد يحفظ مؤلف ابن سيد الناس فيها، كل ذلك مع الإتقان والثقة وحسن المحاضرة وجودة المذاكرة والرياسة والحشمة والوجاهة والثروة مع صمم يسير اشتهر ذكره وبعد صيته، وصار مرجع الشافعية في قطره.
وقد ذكر اعتناؤه بأخبار بلده وتراجم أعيانها بحيث جمع لها تاريخا حافلا ذيل به على تاريخ الكمال ابن العديم وأكثر فيه الاستمداد من شيخنا، وقد طالعه شيخنا من المسودة في حلب ثم من نسخة كتبت للكمال ابن البارزي وبين بهوامشها عدة استدراكات، وكذا طالعته من هذه النسخة أيضا غير مرة ونبهت على مواضع أيضا مهمة. وهو نظيف اللسان والقلم في التراجم لكن فاته ما هو على شروطه خلق.
وله غيره من التصانيف «كالطيبة الرائحة في تفسير الفاتحة» انتزعه من تفسير البغوي بزيادات، و «سيرة المؤيد» و «شرح حديث أم زرع» وهو حافل، وكذا كتب على الأنوار للأردبيلي كتابة متقنة جامعة فيها شرح المهذب للنووي وأشياء غيرها.
وولي قضاء بلده غير مرة أولها سنة ست عشرة، وبعد ذلك سأله الظاهر ططر شفاها بحضرة الولي العراقي قاضي الشافعية إذ ذاك في ولاية قضاء طرابلس فامتنع فألح عليه وكرره حتى قبل. وسافر من القاهرة إلى جهة طرابلس فوصلها في يوم عرفة سنة أربع وعشرين، وكان فيها في السنة التي بعدها أيضا، وحمدت سيرته في البلدين.
وولي الخطابة في الجامع الكبير ببلده مع إمامته، ودرس قديما وأفتى، واستقر به يشبك المؤيدي نائب حلب في تدريس مسجده الذي بناه بالقرب من الشاذبختية بحلب بعد العشرين فدرس فيه بحضرته وبحضرة الفقهاء، وعمل لهم الواقف سماطا مليحا. وحدث ببلده وبالقاهرة وغيرهما. أخذ عنه الأئمة، وكانت دروسه حافلة بحيث كان شيخه البرهان الحلبي يقول: هي دروس اجتهاد لم أسمع شبهها إلا من شيخنا البلقيني. وكان شيخنا العلاء القلقشندي يقول: ما قدم علينا من الغرباء مثله.
ولم يزل يدرس ويفتي ويصنف حتى مات ببلده في يوم الخميس منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين بعد عوده من القاهرة بيسير، ومن أرخه شوال فقد سها، ولم يخلف بعده بها في الشافعية مثله. وخلف مالا جما رحمه الله وإيانا.
وقد ذكره شيخي في معجمه وقال: سمعت من فوائده وعلق عني كثيرا من كتابي
«تعليق التعليق» في سنة ثمان وثمانمائة، ولما دخلت حلب مع الأشرف أنزلني في منزله وحضر معي عدة مجالس الإملاء، وحدثت أنا وهو بجزء حديثي في قرية جبرين ظاهر حلب. وله عناية كبيرة بأخبار بلده وتراجم علمائها كثير المذاكرة والاستحضار للسيرة النبوية ولكثير من الخلافيات، انفرد برياسة المملكة الحلبية غير مدافع. وذكره في إنبائه باختصار.(5/219)
وقد ذكره شيخي في معجمه وقال: سمعت من فوائده وعلق عني كثيرا من كتابي
«تعليق التعليق» في سنة ثمان وثمانمائة، ولما دخلت حلب مع الأشرف أنزلني في منزله وحضر معي عدة مجالس الإملاء، وحدثت أنا وهو بجزء حديثي في قرية جبرين ظاهر حلب. وله عناية كبيرة بأخبار بلده وتراجم علمائها كثير المذاكرة والاستحضار للسيرة النبوية ولكثير من الخلافيات، انفرد برياسة المملكة الحلبية غير مدافع. وذكره في إنبائه باختصار.
وأثبت غيره في شيوخه الذين تفقه عليهم بالقاهرة ابن الملقن وهو غلط، فلم يدخل القاهرة إلا بعد موته، واجتماعه بالبلقيني إنما كان بحلب.
وقال ابن قاضي شهبة: كان يحفظ مواضيع كثيرة من العلوم، فإذا جلس عنده أحد يذاكره بها فإن نقله إلى غيرها أظهر الصمم وعدم السماع ونقد عليه ذلك. وقد عرض عليه قضاء الشام في الدولة الأشرفية والأيام الظاهرية فلم يقبل إلا على بلده والإقامة بها.
وقال المقريزي في عقوده: إنه صار رئيس حلب على الإطلاق، قدم القاهرة غير مرة وظهر من فضائله وكثرة استحضاره وتفننه ما عظم به قدره، قال: ولم يخلف ببلاد الشام بعده مثله رحمه الله اهـ (كلام السخاوي).
وترجمه تلميذه الشيخ الإمام أبو ذر في تاريخه كنوز الذهب ترجمة حافلة أيضا، ونحن نقتطف منها ما لا ذكر له هنا وفيها تفصيل لما أجمله السخاوي في ضوئه. (قال في حوادث سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة): وفي أواخرها عزل شيخنا المذيل قاضي المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد عن قضاء حلب، وسبب عزله أن السلطان الظاهر جقمق قدم إلى حلب صحبة الأشرف فأرسل إليه يطلب منه من مال الأيتام قرضا خمسمائة أشرفي، فاعتذر شيخنا بأنه لا مال للأيتام تحت يدي، وكان صادقا فحقد عليه بسبب ذلك وأضمر له سوءا. ثم لما خرج تغري ورمش عن الطاعة وكانت العادة أن القضاة يغيبون ولا يحضرون إلى الخارج عن الطاعة فأراد شيخنا أن يفعل ذلك فجاء إليه بعض الناس وأشار عليه بأن لا يفعل، وكان غير مصيب في رأيه، فأقام شيخنا بحلب ولم يختف، فبلغ ذلك السلطان فحرك ما كان كامنا عنده، فلما ظفر بمقصوده وقتل تغري ورمش بادر إلى عزله وولى شيخنا القاضي زين الدين أبا حفص عمر بن المبارك الخرزي وأرسل توقيعه إلى حماة، فلزم شيخنا بيته وانكف عن الأحكام وأظهر السرور والفرح وقال:
أنا كنت في ضيق لأنني كنت مشتغلا عن العلم بالأحكام. فلما وصل توقيع ابن الخرزي بالقضاء فرح فرحا زائدا. وأنشدني القاضي عماد الدين قاضي سرمين في عزله:(5/220)
وترجمه تلميذه الشيخ الإمام أبو ذر في تاريخه كنوز الذهب ترجمة حافلة أيضا، ونحن نقتطف منها ما لا ذكر له هنا وفيها تفصيل لما أجمله السخاوي في ضوئه. (قال في حوادث سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة): وفي أواخرها عزل شيخنا المذيل قاضي المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد عن قضاء حلب، وسبب عزله أن السلطان الظاهر جقمق قدم إلى حلب صحبة الأشرف فأرسل إليه يطلب منه من مال الأيتام قرضا خمسمائة أشرفي، فاعتذر شيخنا بأنه لا مال للأيتام تحت يدي، وكان صادقا فحقد عليه بسبب ذلك وأضمر له سوءا. ثم لما خرج تغري ورمش عن الطاعة وكانت العادة أن القضاة يغيبون ولا يحضرون إلى الخارج عن الطاعة فأراد شيخنا أن يفعل ذلك فجاء إليه بعض الناس وأشار عليه بأن لا يفعل، وكان غير مصيب في رأيه، فأقام شيخنا بحلب ولم يختف، فبلغ ذلك السلطان فحرك ما كان كامنا عنده، فلما ظفر بمقصوده وقتل تغري ورمش بادر إلى عزله وولى شيخنا القاضي زين الدين أبا حفص عمر بن المبارك الخرزي وأرسل توقيعه إلى حماة، فلزم شيخنا بيته وانكف عن الأحكام وأظهر السرور والفرح وقال:
أنا كنت في ضيق لأنني كنت مشتغلا عن العلم بالأحكام. فلما وصل توقيع ابن الخرزي بالقضاء فرح فرحا زائدا. وأنشدني القاضي عماد الدين قاضي سرمين في عزله:
إني وإن فهمت في الدنيا بحبكم ... وبت من كل واش غير محترز
فالرب يعلم في سري وفي علني ... أني عن الدر لا أعتاض بالخرزي
ومدحه الشيخ خاطر فقال:
يا سيدا نال في العلياء منزلة ... سمت على فلك العلياء عن زحل
لا تطلبنّ المعالي يا ابن بجدتها ... فأنت من قبل تطلاب العلاء علي
وله فيه:
أقول لأقوام رووا جود حاتم ... وفضل ابن إدريس وقوم تقدموا
لئن شرعا للفضل والجود مذهبا ... فبابن خطيب الناصرية تختم
وله:
لئن فخرت بالسبق طيء بحاتم ... وطالت به في الملتين كرامها
فبابن خطيب الناصرية أصبحت ... على هامة الجوزاء تبنى خيامها
وما ضر خير المرسلين جميعهم ... إذا سبقته الرسل وهو ختامها
ثم حضر ابن الخرزي إلى حلب بسرعة في أثناء شهر صفر من سنة ثلاث وأربعين ولبس تشريفه وسكن ببيت ابن سلار بالجلّوم، فبلغ ذلك شيخنا فهم بالسلام عليه وأن يرسل له شيئا من الهدية، فجاء إليه من أشار عليه أولا بما تقدم ومنعه من ذلك، فأقام القاضي الجديد بحلب وأقام شيخنا ملازما بيته للأشغال والاشتغال. وكان مكبا على ذلك محبا للعلم وأهله وأذكر لك صفة اشتغاله، كان يخرج من بيته إلى بيت الكتب من ثلث الليل الأخير فيطالع إلى صلاة الصبح، ثم يصلي الصبح ثم يشتغل حتى يضحي النهار، فيفتح عليه الباب للقضاء بين الناس فتدخل عليه الفتاوي والأوراق فيكتب على الفتاوي والأوراق، فإذا فرغ من ذلك أقبل على المطالعة، فإن جاء أحد يحدثه يجده يطالع فلا يتكلم معه إلا كلمة أو كلمتين، ثم يقبل على المطالعة فإذا قرب الظهر أغلق الباب وأقبل على المطالعة حتى يدخل وقت العصر، فيصلي العصر ثم يجيء إلى المدرسة الشرفية إلى عند
والدي رحمهما الله تعالى فيذكر له ما أشكل، فيتذاكر معه إلى قريب المغرب، ثم يذهب إلى بيته ثم يدخل إلى حريمه.(5/221)
لئن فخرت بالسبق طيء بحاتم ... وطالت به في الملتين كرامها
فبابن خطيب الناصرية أصبحت ... على هامة الجوزاء تبنى خيامها
وما ضر خير المرسلين جميعهم ... إذا سبقته الرسل وهو ختامها
ثم حضر ابن الخرزي إلى حلب بسرعة في أثناء شهر صفر من سنة ثلاث وأربعين ولبس تشريفه وسكن ببيت ابن سلار بالجلّوم، فبلغ ذلك شيخنا فهم بالسلام عليه وأن يرسل له شيئا من الهدية، فجاء إليه من أشار عليه أولا بما تقدم ومنعه من ذلك، فأقام القاضي الجديد بحلب وأقام شيخنا ملازما بيته للأشغال والاشتغال. وكان مكبا على ذلك محبا للعلم وأهله وأذكر لك صفة اشتغاله، كان يخرج من بيته إلى بيت الكتب من ثلث الليل الأخير فيطالع إلى صلاة الصبح، ثم يصلي الصبح ثم يشتغل حتى يضحي النهار، فيفتح عليه الباب للقضاء بين الناس فتدخل عليه الفتاوي والأوراق فيكتب على الفتاوي والأوراق، فإذا فرغ من ذلك أقبل على المطالعة، فإن جاء أحد يحدثه يجده يطالع فلا يتكلم معه إلا كلمة أو كلمتين، ثم يقبل على المطالعة فإذا قرب الظهر أغلق الباب وأقبل على المطالعة حتى يدخل وقت العصر، فيصلي العصر ثم يجيء إلى المدرسة الشرفية إلى عند
والدي رحمهما الله تعالى فيذكر له ما أشكل، فيتذاكر معه إلى قريب المغرب، ثم يذهب إلى بيته ثم يدخل إلى حريمه.
فلما أقام شيخنا في بيته على الصفة المذكورة جاء إليه من جاء إليه أولا وثانيا وقال له: الرأي في ذهابك إلى مصر ليزيل ما في خاطر السلطان منك، وإن أنت أقمت يقول السلطان: هذا عزلته فما التفت إليّ ويتأثر منك ويحصل شر عظيم. فما زال به حتى حركه للسفر إلى القاهرة، فاتم بذلك وسافر من حلب إلى القاهرة فدخلها رابع عشر ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين كما قاله شيخنا شيخ الإسلام أبو الفضل (الحافظ بن حجر) ونزل ببيت صديقه القاضي شرف الدين المشار إليه، وخرج وسلم على السلطان، فأرسل له ألف دينار، فقال السلطان: هذا يرشى على القضاء، فبلغ ذلك شيخنا فخرج إليه وقال له: هذا قدمته لمولانا السلطان لا على سبيل الرشوة، بل كنت نذرت إن مكن الله السلطان ممن خرج عن طاعته يكون عندي لبيت مال المسلمين ألف دينار، ففرح السلطان بذلك ظاهرا. ولما سافر من حلب قال القاضي ابن الخرزي: استعجل القاضي علاء الدين في ذهابه إلى القاهرة فإن السلطان لا يوليه هذه الأيام، فكان ما قال.
فأقام شيخنا بالقاهرة والناس يأتون إليه من كل فج ويتكلمون معه في العلوم الشرعية وهو يتكلم معهم، فكل أحد أثنى على فضله وعلمه، فقدم للقاهرة خطط نائب القلعة بحلب، وكان له يد عند السلطان لأنه هو الذي أمسك القلعة له وحفظها عليه ولم يمكن تغري ورمش من أخذها، ففرح السلطان به وخلع عليه وأعاده إلى ولايته، فلما خلع عليه خلعة السفر استعرض حوائجه فقال: أريد أن تولي قاضي حلب القضاء وأن آخذه معي، فأجاب إلى ذلك وخلع عليه وأعاده إلى وظيفته، فسافر إلى حلب وكان ذلك في أثناء شعبان قاله شيخنا أبو الفضل (ابن حجر)، وسافر ابن الخرزي الى حماة وكان ذلك في الشتاء، فمرض شيخنا المذيل في الطريق ووصل إلى حلب وهو متوعك في أواخر رمضان، ثم ثقل في المرض ودخل عليه طبيبه وهو سليمان الحكيم فقال له: ما وجعي؟
قال: ذات الجنب، فشق عليه ذلك لأنه يعلم أنه من الأمراض المخوفة، وصار يكرر:
ذات الجنب ذات الجنب، فقال له بعض الحاضرين: قتلته، فتزايد به الألم إلى أن مات ليلة عاشر ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وصلي عليه عند باب دار العدل ثم عند جامع دمرداش ثم عند جامع الطواشي ثم خارج باب المقام، ودفن في تربة أعدها لنفسه خارج
باب المقام رحمه الله تعالى.(5/222)
ذات الجنب ذات الجنب، فقال له بعض الحاضرين: قتلته، فتزايد به الألم إلى أن مات ليلة عاشر ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وصلي عليه عند باب دار العدل ثم عند جامع دمرداش ثم عند جامع الطواشي ثم خارج باب المقام، ودفن في تربة أعدها لنفسه خارج
باب المقام رحمه الله تعالى.
(ثم قال): ولازم والدي وقرأ عليه بعد التسعين وسبعماية وناظر مشايخه وباحثهم واعترفوا بفضله وحفظ سيرة ابن سيد الناس وكتبها بخطه.
أخبرني أنه أرق ليلة فتذكر أن بعض الخلفاء أرق وكان قد طفىء سراجه، فأمر بتحويل فراشه فإذا حية تحته، قال: فحولت مخدتي فإذا أنا بحية تحت مخدتي.
ثم لازمته بعد الثلاثين وكتبت حكمه، ثم أقلعت عن ذلك وانقطعت للاشتغال وحضرت دروسه بالمدارس والجامع. وكان يقرأ عليه بالجامع التمهيد لابن عبد البر ومنهاج البيضاوي. وقال لي يوما: تتفكه قبل أن تتغدى، فقلت له: ما معنى هذا؟ فقال: طالع الروضة والشرح فإنها بمنزلة الخبز واللحم، وأما شروح المنهاج فإنما هي بمنزلة الفاكهة.
وكان يطالع الشرح الكبير للرافعي والروضة ويكثر مطالعتهما بحيث إنه يحفظ منهما الورقة والورقتين وينقلهما بالحرف، ويحفظ شرح مسلم وقرأ غالبه على والدي.
وكان عالما بالفقه والأصول، وكان اشتغل به آخرا، وينزل الفروع على الأصول، وحفظ كتاب التمهيد للأسنوي في ذلك. وقيل له مرة وهو في السفر: المطلق والمقيد ما يقول فيهما؟ فأخذ يذكر هذه المسألة وما بني عليها من الفروع حتى عجب الحاضرون من ذلك. وكان يحفظ التوضيح لابن هشام.
وكان حليما عفيفا نزها يغضي عن عورات، لا يتكلم في أحد إلا بخير، نظيف اللسان، ويتصامم قصدا عما يكره. وافتقده أهل حلب. ورثاه شيخنا قاضي المسلمين محب الدين أبو الفضل بن الشحنة بقصيدة وأنشدني إياها:
ناحت على سلطانها العلماء ... وبكت لفقد علائها الشهباء
وأنهد ركن أيّ ركن شامخ ... للمسلمين ويتّم الفقهاء
ومنها:
من للمدارس بعده علامة ... من للفتاوي إن بغي إفتاء
جلّ المصاب به وعمّ فموته ... قسما مصاب ليس عنه عزاء
الله أكبر يا لها من ثلمة ... في دين أحمد ما لها إرفاء
يا شيخ الاسلام ارتحلت برغمنا ... فانسر قوم ما هم أكفاء
وقال في ختامها:(5/223)
من للمدارس بعده علامة ... من للفتاوي إن بغي إفتاء
جلّ المصاب به وعمّ فموته ... قسما مصاب ليس عنه عزاء
الله أكبر يا لها من ثلمة ... في دين أحمد ما لها إرفاء
يا شيخ الاسلام ارتحلت برغمنا ... فانسر قوم ما هم أكفاء
وقال في ختامها:
يا ابن الخطيب سقى ثراك بوابل ... من رحمة لا تنقضي سحّاء
وأثاب فيك المسلمين مصابهم ... فاليوم حقا ماتت الآباء
وأنشدها شمس الدين بن أنشا على قبره بصوت حسن فأبكى الناس.
وصنف تصانيف منها «الطيبة الرائحة» في تفسير الفاتحة و «ضوء البصيرة في شرح حديث بريرة» و «الدر المنتخب في تاريخ حلب» وشرح قطعة من الأنوار في الفقه وغير ذلك اهـ.
باختصار كثير ولو ذكرتها بتمامها لطال الكلام، وقد تكلمت على تاريخه في المقدمة.
558 - أبو بكر بن محمد الطولوني المتوفى سنة 843
الشيخ الإمام العالم القدوة تقي الدين أبو الصدق أبو بكر بن الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين عبد الله الحلبي الطولوني البسطامي الشافعي شيخ المدرسة الطولونية بالقدس الشريف.
ولد في يوم الاثنين ثامن ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. كان من أهل العلم والعمل ومن أعيان المشايخ، قدم إلى القدس في سنة أربع عشرة وولي مشيخة الطولونية فأحياها بالذكر والعبادة والتلاوة، وتردد أهل الخير إليه، وكان خطه في غاية الحسن، بلغ من العمر فوق خمس وتسعين سنة. توفي بالقدس الشريف في التاسع عشر من رمضان سنة ثلاث وأربعين وثمانماية ودفن بحوش البسطامية بماملا رحمه الله. وعند رأسه بلاطة مكتوب عليها من نظمه وكانت له عنده مدة بالطولونية في حياته جهزها لذلك:
رحم الله فقيرا ... زار قبري وقرا لي
سورة السبع المثاني ... بخشوع ودعا لي
ومكتوب أيضا على قبره من نظمه:
من زار قبري فليكن عالما ... أن الذي لاقيت يلقاه
فيرحم الله فتى زارني ... وقال لي يرحمك الله
وله نظم غير ذلك. ومحاسنه ومناقبه كثيرة. وقد كان من أجلاء المشايخ الأخيار رحمه الله اهـ. (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل).(5/224)
من زار قبري فليكن عالما ... أن الذي لاقيت يلقاه
فيرحم الله فتى زارني ... وقال لي يرحمك الله
وله نظم غير ذلك. ومحاسنه ومناقبه كثيرة. وقد كان من أجلاء المشايخ الأخيار رحمه الله اهـ. (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل).
559 - شمس الدين محمد بن سحلول المتوفى سنة 844
هو شمس الدين محمد بن الشيخ ناصر الدين محمد بن سحلول شيخ الشيوخ بحلب.
كان شكلا حسنا ظريف الشمائل يلبس الثياب الفاخرة وتليق به، وكان كريم الأخلاق يعطي الفقراء ويطعمهم ويوثرهم، وآثرني عند وفاته بتدريس الخانقاه وأعطاني كتاب الوقف، وكان يحبني ويعظمني، ثم إني أعطيت الكتاب لابن أخيه شمس الدين. وولي شيخ الشيوخ بعده الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي الهاشمي.
وكانت وفاته سلخ جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وثمانماية ودفن خارج الخانقاه السحلولية اهـ. (أبو ذر).
560 - محمد بن تاج الدين بن عشاير المتوفى سنة 844
بدر الدين محمد بن تاج الدين بن عشاير الحلبي الشافعي.
كان شيخا مسنا يكرمه الناس لأجل أسلافه، وهو عار عن العلم، وفي يده وقف أسلافه. وفي محنة تيمور رآه حسين بن مصطفى وحسين في أيدي التتار فدلهم عليه فأخذوه وعذبوه، فجاء بهم إلى الشرفية إلى بيتهم الذي هو لهم بشرط الواقف وهو على يسار الداخل إلى المدرسة وله دفينة بالبيت، فأخرج ذهبا يقرب من ألف دينار فأخذوه.
وكانت وفاته سابع شوال سنة أربع وأربعين وثمانماية اهـ. (أبو ذر).
561 - أبو بكر الحيشي البسطامي المتوفى سنة 846
أبو بكر بن نصر بن عمر بن هلال الشرف الطائي، كان يسوق نسبه لعمرو بن معدي
كرب بن زيد الخير الحيشي الحلبي البسطامي الشافعي الماضي حفيده أبو بكر ابن محمد وابنه المعروف بالحيشي.(5/225)
أبو بكر بن نصر بن عمر بن هلال الشرف الطائي، كان يسوق نسبه لعمرو بن معدي
كرب بن زيد الخير الحيشي الحلبي البسطامي الشافعي الماضي حفيده أبو بكر ابن محمد وابنه المعروف بالحيشي.
ولد بقرية حيش من عمل حماة بالقرب من المعرة، وفارقها وهو ابن عشر، فنزل المعرة واشتغل بها على شيوخها، وكانت له فيها زاوية وأتباع، ثم تحول منها في سنة ست عشرة وثمانمائة إلى حلب فقطنها بدار القرآن العشائرية للخطيب العلاء بن عشائر حتى مات.
ومن شيوخه في التصوف الجلال عبد الله البسطامي ومحمد القرمي، وكذا أخذ عن الشهاب ابن الناصح في آخرين. أخذ عنه جماعة منهم صاحبنا البرهان القادري ومواخيه الزين قاسم الحيشي.
وكان عالما زاهدا ورعا متعبدا بالتلاوة والمطالعة مداوما على الطهارة الكاملة سليم الصدر كريما مقصودا بالزيارة وذا مروءة وتودد وقيام بمصالح الناس، مع جمال الصورة وحسن الشمائل، وللناس فيها اعتقاد ووجاهته في ناحيته متزايدة، وأتباعه كثيرون بحيث كان له في حلب ونواحيها خمس عشرة زاوية مشحونة بالفقراء البسطامية، بل انتهت إليه سيادة البسطامية بالمملكة الشامية بدون مشارك، أخبرني بأكثره وبأزيد منه حفيده وكتبه لي بخطه وقال لي: إن شيخه أبا ذر قال له إن والده قال له: لازم صحبته تسعد، فإن نظره ما وقع على أحد إلا وأفلح، وما رأيت في عصري نظيره وما حصل إليّ الخير إلا بصحبته.
قال أبو ذر: وما كان أبي يبدأ في قراءة البخاري حتى يستأذنه تبركا. وأول سنة قرأت أنا الحديث بجامع حلب عرض لي في صوتي شيء بحيث ما كدت أنطق وعجز والدي عن مداواتي إلى أن دخلت عليه يوما أطلب بركته، فوجدته يأكل كشكا بزيت فأمرني بالأكل معه فلم تمكني مخالفته، وكان الشفاء فيه، وأعلمت والدي بذلك فقال: أو ما علمت أن طعامه شفاء، والله ما أشك في كراماته. ولما ورد التقي الحصني حلب زاره في زاويته وقال:
ما رأيت مثله. وكذا قيل إن شيخنا زاره وتأدب معه جدا والتمس دعاءه.
وقال ابن الشماع: طفت بلاد مصر والشام والحجاز فما وقع بصري على نظيره.
وقال ابن خطيب الناصرية: إنه ما رأى مثل نفسه. ولم يزل على وجاهته حتى مات بعد تعلل بالفالج مدة في ليلة الجمعة تاسع عشر رجب سنة ست وأربعين وقد قارب التسعين رحمه الله ونفعنا به اهـ.(5/226)
562 - أحمد بن العديم المتوفى سنة 847
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى شهاب الدين بن جمال الدين بن ناصر الدين بن كمال الدين بن عز الدين أبي البركات ابن الصاحب محيي الدين أبي عبد الله بن نجم الدين بن جلال الدين أبي الفضل بن مجد الدين أبي غانم بن جمال الدين بن نجم الدين العقيلي (بالضم) الحلبي الحنفي أخو الكمال بن العديم قاضي مصر، ويعرف بابن العديم وبابن أبي جرادة.
ولد في ثالث عشر صفر سنة أربع وستين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فسمع من أبيه والكمال محمد بن عمر بن حبيب والشرف أبي بكر الحراني والبدر محمد بن علي بن أبي سالم بن إسماعيل الحلبي وابن صديق وآخرين. وأجاز له محمود المنبجي وابن الهبل وابن السيوفي وابن أميلة وابن النجم زغلش وابن قاضي الجبل وموسى بن فياض وغير واحد.
وكان يذكر أنه كتب توقيعه بقضاء بلده بعد الفتنة لجميع من أوردته من آبائه إلا محمدا الثاني ولكنه لم يباشر، وقول شيخنا في معجمه إنه ولي قضاءها لا ينافيه. وكذا ولي عدة مدارس وحمدت سيرته. وكان محافظا على الجماعة والأذكار، ولم يكن تام الفضيلة مع اشتغاله في صغره. وقد حدث سمع منه الأئمة وأخذ عنه غير واحد من أصحابنا، بل كان شيخنا ممن سمع عليه في سنة ست وثلاثين عشرة الحداد وغيرها وأورده في معجمه وقال: إنه أجاز لابنته رابعة ومن معها. وأثنى عليه البرهان الحلبي. وذكره المقريزي باختصار جدا وقال: إنه مات بعد سنة ست وثلاثين. قلت: مات في ليلة الأربعاء منتصف شوال سنة سبع وأربعين رحمه الله.
563 - إبراهيم بن علي الدمياطي المتوفى سنة 847
إبراهيم بن علي بن ناصر برهان الدين الدمياطي الحلبي الشافعي.
ولد في أوائل سنة خمس وستين، ونشأ بالقاهرة، ثم سكن حلب حين قارب البلوغ، لازم بني السفاح والقاضي شرف الدين الأنصاري والكمال بن العديم. وسمع الحديث من الشرف الحراني وابن صديق وغيرهما. ومن مسموعه على الأول العلم لأبي خيثمة.
واشتغل على الشمس الغزي وغيره. وولي قضاء العسكر بحلب. وحدث سمع منه
الفضلاء، بل كتب عنه شيخنا في فوائد رحلته الأخيرة.(5/227)
واشتغل على الشمس الغزي وغيره. وولي قضاء العسكر بحلب. وحدث سمع منه
الفضلاء، بل كتب عنه شيخنا في فوائد رحلته الأخيرة.
وكان خيرا دينا عاقلا رئيسا عديم الأذى حتى لعدوه كثير القيام مع الغرباء والعصبية للعلماء ونحوهم. ومن الغريب أنه مشى من جبرين إلى حلب على رجل واحدة.
مات في يوم الخميس ثالث عشري المحرم سنة سبع وأربعين ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة رحمه الله اهـ.
564 - علاء الدين أبو الحسن علي سبط ابن الوردي المتوفى سنة 848
هو الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي سبط ابن الوردي.
كان أعمى حصل له ذلك وهو كبير. وبينه وبين شيخنا المؤرخ ما بين الأقران.
وكان فقيها أصوليا من أذكياء العالم. درس بالصاحبية وانتفع الناس به، ويستحضر كثيرا من التاريخ وأخبار حلب. ومجالسته حسنة وله عقل ينتفع برأيه. وكنت إذا قرأت البخاري بالجامع يحضر عندي، وكذا إذا قرأته ببيت القاضي الحنفي ابن الشحنة يحضر عندي يسمع قراءتي. وكان يدرس البهجة لجده. وكان أولا يميل إلى التاج ابن الكركي ثم رجع عن ذلك ولازم والدي كثيرا.
وكانت وفاته سادس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وثمانماية ودفن بمقابر الصالحين اهـ. (أبو ذر).
565 - إبراهيم بن حمزة الجعفري المتوفى سنة 849
إبراهيم بن حمزة بن أبي بكر بن يحيى بن أحمد بن خضر بن فياض بن سوار بن هشام ابن مدركة السيد برهان الدين بن عز الدين الهاشمي الجعفري الحلبي الحنفي، سقت نسبه إلى انتهائه في معجمي.
كان أبوه ممن يلي نظر الجامع والديوان وغيرهما، ويذكر بالكرم والرياسة، فولد له صاحب الترجمة في العشر الأول من رمضان سنة سبع وسبعين بحلب ونشأ بها فيما قيل غير مرضي الطريقة. وسمع بها على ابن صديق، ختم الصحيح وأوله كلام الرب مع جبريل
قال (أنا) الحجار وحدث بذلك. سمعه منه الفضلاء. وولي ببلده نظر الجيش ووكالة بيت المال وعمالة أوقاف الحنفية. ومات يوم الأحد سابع عشر المحرم سنة تسع وأربعين اهـ.(5/228)
كان أبوه ممن يلي نظر الجامع والديوان وغيرهما، ويذكر بالكرم والرياسة، فولد له صاحب الترجمة في العشر الأول من رمضان سنة سبع وسبعين بحلب ونشأ بها فيما قيل غير مرضي الطريقة. وسمع بها على ابن صديق، ختم الصحيح وأوله كلام الرب مع جبريل
قال (أنا) الحجار وحدث بذلك. سمعه منه الفضلاء. وولي ببلده نظر الجيش ووكالة بيت المال وعمالة أوقاف الحنفية. ومات يوم الأحد سابع عشر المحرم سنة تسع وأربعين اهـ.
أقول: أما السيد حمزة والد المترجم فإني لم أقف له على ترجمة، وهي في الجزء الأول من الدر المنتخب وهو مما لم يصل إليّ، واسمه منقوش على جدار الجامع في الرواق الشمالي بجانب الحنفيات، وقد قدمنا ذلك في الكلام على ولاية تغري بردي. وقد ذكره أبو ذر في كلامه على الجامع غير مرة، ومما قاله: واعلم أن القناديل التي بالجامع كانت في أيام تكلم السيد حمزة تزيد على الألف وذلك عقب محنة تيمر، والأسواق خراب، وريع الجامع إذ ذاك قليل، وكان الناس يقولون إنه أخرب الجامع.
وقال في كلامه على دار الحديث الآتية: وكان السيد حمزة المذكور مشارا إليه بحلب قبل فتنة تيمر وبعدها بواسطة بني العديم وله ترجمة في تاريخ شيخنا (ابن الخطيب) اهـ.
فتكون وفاته في أوائل هذا القرن.
الكلام على دار الحديث بالسهلية:
قال أبو ذر: ومنها (أي من دور الحديث) دار بالسهلية بالقرب من سويقة حاتم، أوصى محمد بن السيد حمزة كاتب بكلمش أن تجعل قاعته الملاصقة للخانقاه الزينية دار حديث، فلما توفي جعل والده السيد حمزة عوض قاعته المدرسة المعروفة به الآن خارج درب الزينية دار حديث، وقام بعمارتها والده بعده أتم قيام وأكمل عمارتها، ولها شباك على الطريق واسع جدا وتحته حوض ماء، ولهذه الدار وقف مبرور وشرط واقفها أن يكون والدي محدثها اهـ.
أقول: هذه الدار في وسط الزقاق المعروف الآن بزقاق فرن جقجوقة بالقرب من الخانكاه الزينية، ولم تزل عامرة، والشباك الذي ذكره لم يزل باقيا وقد كتب فوقه:
(1) البسملة إنما يعمر مساجد الله إلى قوله ولم يخش إلا الله
(2) أنشأ هذا المسجد المبارك العبد الفقير إلى الله حمزة الجعفري عن نفسه وولده العبد الشهيد محمد وجعله مسجدا لله تعالى ودارا للقرآن العظيم والحديث النبوي(5/229)
(3) عليه أفضل الصلاة والتسليم ومدرسة للعلم على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه سلمه الله وغفر لهما بتاريخ جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعماية اهـ.
ومكتوب على حجرة كبيرة تحت الشباك لكن الحجرة مقلوبة:
(1) أنشأ السبيل المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى حمزة بني الجعفري في دولة مولانا السلطان الملك الظاهر برقوق أعز الله تعالى أنصاره
(2) غفر الله له ولوالديه ولكافة المسلمين.
وكتب على بابها: (جددت هذه الزاوية بفضل المتعالي على يد محمد بن الشيخ حسين الكيالي سنة 1297). وهي الآن تحت يد دائرة الأوقاف ولها من الواردات بدل أعشار القرى الموقوفة. وبابها الآن مغلق لا صلاة فيها ولا تدريس وهي في حاجة إلى الترميم.
566 - إسماعيل بن الحسين بن الزيرتاح كان حيا سنة 849
إسماعيل بن الحسين بن الزيرتاح المعروف بجده.
ولد في حدود سنة تسعين وسبعماية، واشتغل في الفقه وسمع من جماعة، وصار يلي قضاء بلاد من حلب كأريحا وسرمين من عمل قنسرين. وله نظم حسن مع خير وتودد وإحسان للواردين. ومن نظمه:
أفديه من ظالم الجفون رشا ... ليسأل (1) في الحب عن متيمه (هكذا)
يحيي إذا ما سقى قتيل هوى ... سمعت هذا الحديث من فمه
لقيه ابن أبي عذيبة في سنة تسع وأربعين وقال: كنت آنس بصحبته. وذكره النجم ابن فهد في معجمه فقال: ابن الحسين بن سالم بن أبي الفضل بن يحيى بن يعقوب ابن سلامة العماد أبو العز الخزرجي الفوعي ثم السرميني الشافعي ويعرف بابن الزيرتاح، ولد في الربيعين سنة ثلاث وثمانين وسبعماية، واشتغل بالفقه والنحو على أبيه، وفي النحو فقط على السراج النحوي، وولي قضاء بلدة سرمين من أعمال حلب، وينظم الشعر الحسن ومدح رؤساء حلب بقصائد بديعة مع كرم وشجاعة.
__________
(1) الصواب: يسأل.(5/230)
567 - محمد بن خليل المعروف بابن القباقيبي المتوفى سنة 849
محمد بن خليل بن أبي بكر بن محمد الشمس أبو عبد الله الحلبي المقدسي الشافعي المقري والد إبراهيم، ويعرف بابن القباقيبي.
ولد تقريبا سنة سبع وسبعين وسبعماية بحلب، ونشأ بها فحفظ القرآن وكتبا، وقدم القاهرة بعد القرن سنة ثلاث فأخذ القراءات على الفخر البلبيسي إمام الأزهر قرأ عليه ختمة للأربعة عشر والسبع فقط عن كل من بيّن وبيعقوب الجوشن في آخرين كأبي القاصح والمشبب، وكذا تلا على العز الحاضري والشرف الداديخي وآخرين بها من بيرو وغيره.
وكان ممن شهد في إجازته أبو بكر الموصلي وابن الهايم والشمس القلقشندي، وقرأ ألفية العراقي عن ظهر قلب على ناظمها، بل سمعها عليه بحثا، وسمع فيما قيل عن البلقيني والهيثمي والدميري والطنبدي والفارسكوري، وقرأ على العلاء الصرخدي والشمس ابن الركن وقدم غزة فقطنها وقتا ثم تحول منها إلى بيت المقدس بإشارة الشهاب ابن رسلان سيما، وقد قرر في قراءة مصحف الظاهر وغير ذلك وتصدى للإقراء فانتفع به الناس. وممن أخذ عنه ابن عمران. واستمر إلى أن مات بعد أن كف بصره بنحو سنة في عصر يوم الجمعة العشرين من رجب سنة تسع وأربعين ودفن الغد بماملا عند أبي عبد الله القرشي ولم يخلف بعده من فنه مثله، وكاد بعض جماعته أن يرجحه على ابن الجزري وجزم بأنه أفصح منه بكثير.
ومن نظمه مضمنا:
صاد قلبي صاد عيني رشأ ... مال عن طرق الهوى من فيه لام
لامني العذال في حبي له ... لا أراني الله في خدّيه لام
وكان إماما فاضلا متقنا متقدما في القراءات جيد الأداء لها ناظما ناثرا مشاركا في الفضائل. وصنف في القراءات الأربع عشرة مجمع السرور ومطلع الشمس والبدور (1) نظما كالطيبة (2) ووضحه بمفتاح الكنوز وإيضاح الرموز، ونظم القراءات الثلاث الزائدة على
__________
(1) في «هدية العارفين»: مجمع السرور والحبور ومطلع الشموس والبدور.
(2) منه نسخة في الأحمدية بحلب وهي بخط أحمد بن محمد السخاوي المالكي محررة سنة 814فتكون محررة في حياة المؤلف.(5/231)
العشر، وخمس البردة وبانت سعاد، وعمل بديعية عارض بها الصفي الحلي وغير ذلك كنظمه المصطلح لابن القاصح في نحو أربعة آلاف بيت رحمه الله اهـ.
وترجمه في الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل بنحو ما تقدم قال: وكتب لناظر الحرمين قصة بصرف معلومه من نظمه أولها:
يا ناظر الحرمين أنت وعدتني ... بالخير يا من وعده لا يخلف
تالله لم أبرح ببابك واقفا ... حتى تقرر لي وتكتب يصرف
قال في الكشف في الكلام على كتاب الإرشاد في فروع الشافعية: ونظمه برهان الدين أبو إبراهيم محمد بن القباقيبي وذكر من مؤلفاته الأسئلة في البسملة وشرحا على ألفية ابن مالك وألفية في المعاني والبيان وشرحا لها وشرحا على جمع الجوامع للسبكي في أصول الفقه وخمس البردة وسماه «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» وشرح التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير في أصول الحديث للإمام النووي.
568 - إبراهيم بن رضوان المتوفى سنة 850
إبراهيم بن رضوان الشيخ برهان الدين الحلبي الشافعي نزيل القاهرة، ويعرف بأبيه.
كان ممن اشتغل بالفقه ومهر وتميز وتنزل في المدارس ببلده وولي بها بعض المدارس، وناب في الحكم واختص بالناصري ولد السلطان لما أقام مع والده بحلب في آخر دولة الأشرف، ثم لما وفد عليه القاهرة لازمه أيضا حتى استقر به إماما وقررت له عدة وظائف، ولا زال في نمو وسعادة، ندبه أبوه في الرسلية إلى حلب في بعض المهمات، ثم كان ممن مرضه حتى مات. وانخفض جانبه بحيث استعاد منه بعض التداريس من كان انتزعه منه، وتوجه للحج بعد فسقط عن الجمل وانكسر منه شيء وتداوى حتى برىء، فقدر أنه سقط في رجوعه أيضا ودخل القاهرة مع الركب وهو سالم، فلم يلبث إلى أن مات قبل انقضاء المحرم سنة خمسين. ذكره شيخنا قال: وكان ينسب إلى شيء يستقبح ذكره والله أعلم بسريرته اهـ.(5/232)
569 - محمد بن عبد الله بن عشاير المتوفى سنة 850
محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي حامد بن عشاير البدر ابن التاج ابن الشهاب ابن الشرف ابن الزين السلمي الحلبي الشافعي قريب الحافظ ناصر الدين محمد بن علي بن محمد بن هاشم، ويعرف كسلفه بابن عشاير.
ولد في المحرم سنة ستين وسبعمائة بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن واشتغل يسيرا ولم يتميز لكنه كتب الخط الحسن. وسمع على الظهير محمد بن عبد الكريم ابن العجمي سنن ابن ماجه وعلى جده والكمال ابن حبيب وعمر بن إبراهيم بن العجمي والشهاب بن المرحل والشرف أبي بكر الحراني وناصر الدين بن الطباخ والأستاذ أبي جعفر الرعيني وابن صديق وآخرين. وأجاز له في سنة سبع وستين فما بعدها ابن الهبل وابن أميلة والصلاح بن أبي عمر والشهاب بن النجم وأحمد بن محمد بن زغلش ومحمد بن إبراهيم النقبي ومحمد بن أبي بكر السوقي ومحمود المنبجي وأحمد بن عبد الكريم البعلي وأحمد بن يوسف الخلاطي ومحمد بن المحب عبد الله بن محمد بن عبد الحميد القدسي والشمس ابن نباتة والبهاء بن خليل والموفق الحنبلي وخلق، وحدث سمع منه الفضلاء. وكان من بيت رياسة وحشمة وكرم ومروءة تامة منجمعا عن الناس لقلة علمه. مات قبل سنة خمسين اهـ.
570 - عائشة البابية ابنة أخت البرهان المتوفاة سنة 850
عائشة بنة إبراهيم بن عبد الله أم عبد الله الحمامي الدمشقية الحلبية ثم البابية ابنة أخت البرهان الحلبي لأمه.
ولدت قبل سنة سبعين وسبعمائة ظنا، وأجاز لها في سنة ست وسبعين فما بعدها ابن أميلة والصلاح ابن أبي عمر وابن الهبل والمحب الصامت وغيرهم. وكانت خيرة دينة محافظة على الصلوات في أوقاتها. أخذ عنها بعض أصحابنا. وماتت بعد سنة خمسين ظنا رحمها الله اهـ.
571 - علي بن عبد العزيز الرومي المتوفى في هذا العقد ظنا
علي بن عبد العزيز بن يوسف العلاء الرومي الحلبي نزيل بانقوسا منها، ولذا يقال
له البانقوسي الحنفي، ويعرف باليتيم بالتصغير والعقيل وابن فاقرة بفاء ثم قاف مكسورة كعامرة.(5/233)
علي بن عبد العزيز بن يوسف العلاء الرومي الحلبي نزيل بانقوسا منها، ولذا يقال
له البانقوسي الحنفي، ويعرف باليتيم بالتصغير والعقيل وابن فاقرة بفاء ثم قاف مكسورة كعامرة.
ولد في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وسمع على ابن صديق وغيره، بل قرأ على الشمس البسقامي نسبة لمعتق أمه في الفقه وغيره ولازمه وبه انتفع، وكذا أكثر عن البرهان الحلبي وكتب بخطه الصحيحين. وولي الإمامة والخطابة بجامع العلاء الأستدار ببانقوسا ظاهر حلب. وكان خيرا مديما للتلاوة والعبادة والقيام بربع القرآن كل ليلة غالبا والصوم منعزلا عن الناس متعففا عن وظائف الفقهاء سيما الخير عليه ظاهرة. مات قبل سنة خمسين رحمه الله اهـ.
572 - محمد بن حسن بن أمير حاج المتوفى في هذا العقد ظنا
محمد بن حسن بن علي بن سليمان بن عمر بن محمد الشمس الحلبي الحنفي الآتي ولده وحفيده المسمى كل منهم محمد، ويعرف بالموقت وبابن أمير حاج.
كان فاضلا في فنون من العلم مدرسا بالجردكية بارعا في الوقت، ولذا باشره بجامع بلده الكبير، وانتقلت وظيفة التوقيت والتدريس بعده لولده اهـ.
573 - أحمد بن رضوان المتوفى سنة 851
أحمد بن عمر بن رضوان بن عمر بن يوسف بن محمد الشهاب بن الزين الحلبي، ويعرف بابن رضوان.
ولد في حدود سنة خمس وثمانين وسبعماية، وحفظ القرآن وسمع من ابن صديق الصحيح (أنا) به الحجار، وحدث وسمع منه الفضلاء، وقدم القاهرة فلقيته بها وأخذت عنه شيئا. وكان خيرا ذا مروءة ومحافظة على التلاوة عدلا مرضيا محمود السيرة. مات في ليلة الجمعة منتصف رجب سنة إحدى وخمسين وصلي عليه بعد الجمعة بجامع المهمندار ودفن بالجبيل التحتاني اهـ.
وذكره أبو ذر في وفيات هذه السنة وقال: إنه خطب بجامع المهمندار.(5/234)
574 - يوسف بن يعقوب الكردي المتوفى سنة 852
يوسف بن يعقوب بن شرف بن حسام بن محمد بن حجي بن محمد بن عمر الكردي ثم الحلبي الشافعي.
ولد في سلخ سنة ثمانمائة واشتغل ببلاده، ثم قدم حلب فأقرأ الطلبة وأفتى. وكان فاضلا خيرا، أجاز في سنة إحدى وخمسين ومات بعد ذلك اهـ.
وذكره أبو ذر فيمن توفي سنة 852فقال: في يوم عيد الفطر توفي الشيخ أبو بكر الكردي الشافعي، قدم حلب وسكن بحارة التركمان وأقرأ أولاد الناس بكتب ابن الزين، ولازم والدي وقرأ عليه كثيرا وحفظ قطعة من الحاوي الصغير. وكان فرضيا ويعرف النحو والقراءات متعففا قليل الكلام مواظبا على تلاوة القرآن، ودرس بجامع حلب نيابة عن أولاد الشيخ علي ابن الوردي اهـ.
575 - محمد بن علي بن مهنا المتوفى سنة 852
محمد بن علي بن عمر بن علي بن مهنا بن أحمد الشمس أبو عبد الله بن العلاء الحلبي الحنفي أخو محمود الآتي، ويعرف بابن الصفدي.
ولد في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة سنة خمس وسبعين وسبعمائة بحلب، ونشأ بها فحفظ القرآن وكتبا منها المختار في الفقه ومختصر ابن الحاجب الأصلي، ولازم الجمال الملطي في الفقه وأصوله وغيرهما، وأخذ المعاني والبيان وغيرهما عن الشمس الزاهدي العينتابي الحنفي، والمختصر وكافية ابن الحاجب وشروحها مع المفصل أصلها عن التاج الأصفهيدي الشافعي، بل سمع عليه شرحه لألفية ابن مالك بحثا، وقرأ على الشمس البسقامي الحنفي المصابيح وسمع عليه البخاري والمشارق، وكذا سمع قبل ذلك البخاري والشفا في سنة إحدى وثمانين على الجمال إبراهيم بن العديم والشاطبية على الشهاب بن المرحل. ونشأ فقيرا فتكسب بالشهادة إلى أن تفنن وفاق الأقران. وسافر في سنة ثمانمائة إلى القاهرة مع شيخه الملطي اصطحبه معه وأوصاه بالجلوس بقربه ليذكره بالمنقول فيما لعله يقع التكلم فيه، وناهيك بهذا جلالة، وقرأ حينئذ على ابن الملقن في البخاري، وحضر دروس السيف الصيرامي والد النظام، وتزوج حينئذ بامرأة من بيت الكلستاني وساعدها في تحصيل ميراث
لها ثم وهبته له بعد، وكان يحكى أنه كان سبب ثروته. وولي إذ ذاك في زمن الظاهر برقوق قضاء طرابلس بتعيين شيخه الملطي له، ولهذا كان يقول: ما بالممالك الآن قاض من أيام برقوق غيري. وأقام فيه مدة ثم صرف في ربيع الآخر سنة ست وثمانمائة بالتاج ابن الحافظ الحلبي، ولم يلبث أن أعيد قبل مباشرة التاج، وشكرت سيرته. ثم انتقل في رجب سنة اثنتين وثلاثين لقضاء الشام عوضا عن الشهاب ابن الكشك وعزل منه مرارا منها في سنة ست وأربعين بحميد الدين النعماني، وعرض عليه مرة في قضاء حلب فأبى، واتفق في مرور الأشرف لآمد أنه كان معزولا فانتزع له الخاتونية أو القصاعين تدريسا ونظرا من ابن السكشك، وكذا باشر الصادرية والنورية، وامتحن في سنة أربع وأربعين ووجه إلى القدس بطالا، وكذا حصلت له كائنة أخرى خلص منها بالبذل.(5/235)
ولد في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة سنة خمس وسبعين وسبعمائة بحلب، ونشأ بها فحفظ القرآن وكتبا منها المختار في الفقه ومختصر ابن الحاجب الأصلي، ولازم الجمال الملطي في الفقه وأصوله وغيرهما، وأخذ المعاني والبيان وغيرهما عن الشمس الزاهدي العينتابي الحنفي، والمختصر وكافية ابن الحاجب وشروحها مع المفصل أصلها عن التاج الأصفهيدي الشافعي، بل سمع عليه شرحه لألفية ابن مالك بحثا، وقرأ على الشمس البسقامي الحنفي المصابيح وسمع عليه البخاري والمشارق، وكذا سمع قبل ذلك البخاري والشفا في سنة إحدى وثمانين على الجمال إبراهيم بن العديم والشاطبية على الشهاب بن المرحل. ونشأ فقيرا فتكسب بالشهادة إلى أن تفنن وفاق الأقران. وسافر في سنة ثمانمائة إلى القاهرة مع شيخه الملطي اصطحبه معه وأوصاه بالجلوس بقربه ليذكره بالمنقول فيما لعله يقع التكلم فيه، وناهيك بهذا جلالة، وقرأ حينئذ على ابن الملقن في البخاري، وحضر دروس السيف الصيرامي والد النظام، وتزوج حينئذ بامرأة من بيت الكلستاني وساعدها في تحصيل ميراث
لها ثم وهبته له بعد، وكان يحكى أنه كان سبب ثروته. وولي إذ ذاك في زمن الظاهر برقوق قضاء طرابلس بتعيين شيخه الملطي له، ولهذا كان يقول: ما بالممالك الآن قاض من أيام برقوق غيري. وأقام فيه مدة ثم صرف في ربيع الآخر سنة ست وثمانمائة بالتاج ابن الحافظ الحلبي، ولم يلبث أن أعيد قبل مباشرة التاج، وشكرت سيرته. ثم انتقل في رجب سنة اثنتين وثلاثين لقضاء الشام عوضا عن الشهاب ابن الكشك وعزل منه مرارا منها في سنة ست وأربعين بحميد الدين النعماني، وعرض عليه مرة في قضاء حلب فأبى، واتفق في مرور الأشرف لآمد أنه كان معزولا فانتزع له الخاتونية أو القصاعين تدريسا ونظرا من ابن السكشك، وكذا باشر الصادرية والنورية، وامتحن في سنة أربع وأربعين ووجه إلى القدس بطالا، وكذا حصلت له كائنة أخرى خلص منها بالبذل.
وكان إماما عالما أصوليا ماهرا بذلك مشاركا في الفنون مع الخير والعفة والسيرة الحميدة في قضائه وحسن العشرة وخفة الروح. وصفه شيخنا في حوادث سنة أربع وأربعين في إنبائه بأنه من أهل العلم لا ينكر عليه العمل بما يرجح عنده. ونقل غيره عن العز القدسي أنه وصفه بمزيد الحفظ وقصوره في التحقيق. وقد حج وقدم القاهرة سوى ما تقدم غير مرة وحدث قديما بالموطأ، ثم بان أن لا رواية له فيه وأن الغلط من البقاعي وهو قارئه، ثم نقل عنه أنه قال له إن والده أحضره وهو مرضع على الكمال بن حبيب وكان يقري أولاد ابن حبيب وأن ثبته بذلك وبغيره ضاع منه في الفتنة وتأخر منه ورقة واحدة فيها حضوره للشفا على الكمال ولصحيحه بآخرها انتهى. وهذا لا يمنع بطلان سماعه للموطأ على ابن حبيب، فقد بيّن البرهان الحلبي الحافظ بطلانه. وكذا حدث ببيت المقدس، ولقيته بالقاهرة فأخذت عنه أشياء.
مات في يوم السبت ثاني عشري رجب سنة اثنتين وخمسين بدمشق معزولا ودفن بمقبرة باب الفراديس بطرفها الشمالي رحمه الله وإيانا اهـ.
576 - محمد بن إبراهيم الكتبي المتوفى سنة 852
هو الشيخ أبو العباس محمد بن الشيخ إبراهيم الكتبي.
كان عارفا أستاذا في تجليد الكتب وتضرب الأمثال بصنعته، وعمل قيامة جامع حلب
وخدمه كثيرا بتقوى. وكانت وفاته ثالث عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانماية وافتقده أهل حلب لأنه لم يكن أحد مثله في صنعته وإتقانه اهـ. (أبو ذر).(5/236)
كان عارفا أستاذا في تجليد الكتب وتضرب الأمثال بصنعته، وعمل قيامة جامع حلب
وخدمه كثيرا بتقوى. وكانت وفاته ثالث عشري جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانماية وافتقده أهل حلب لأنه لم يكن أحد مثله في صنعته وإتقانه اهـ. (أبو ذر).
577 - الشيخ محمد بن أبي بكر الشهير بالمعصراني المتوفى سنة 852
الشيخ محمد بن أبي بكر الشهير بالمعصراني الجبريني الأصل.
وكان شاهدا في مبدأ أمره بباب النيرب، وقرأ شيئا من الفقه على الشيخ علاء الدين ابن الوردي وقرأ عليّ شيئا من البخاري، ثم إنه صحب ابن القاصد الصوفي ولزمه وترك طريق الفقهاء ولبس زي الفقراء وانقطع إلى الله تعالى. وكان مجاورا عند قبر سيدي يحيى خارج قرية النيرب وعند قبر الشيخ يوسف. ولزم مدرسة أشقتمر، ثم حج ورجع فسكن المدرسة العلمية داخل باب النيرب، وصار له أتباع يعظمونه. وكان كثير الرياضة حسن السمت مليح الشكل نير الوجه. وهو الذي قام في عمارة جامع التوبة خارج باب النيرب، وكان الخمر يباع في مكانه، وكلم كافل حلب تنم في إزالة المنكرات بكلام خشن، فورد مرسوم السلطان بعد ذلك بإزالة المنكرات فعظم قدره. وتوفي بالعلمية. ورأيت أكابر الفقراء يتبركون به عند الموت، وكانت وفاته يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وثمانماية ودفن خارج الجامع الذي بناه اهـ. (كنوز الذهب).
الكلام على جامع التوبة خارج باب النيرب:
قال أبو ذر: كانت محلته يباع فيها المنكرات وتقف فيها القينات وتسمى بحارة السودان، فقام في عمارته جامعا الشيخ محمد المعصراني الآتي في الحوادث وكلم كافل حلب تنم بكلام خشن فتم مقصوده، وقام الناس معه بصفاء نية وأسسه في حياته وتمم بعد وفاته، فجاء جامعا حسنا نيرا كثير المياه أجرى إليه الماء من القناة وأصرف عليه جملة الأمير أسلماس التركماني وكذلك غيره، وتساعد أهل الخير فيه بأموالهم وأنفسهم وعمر له منارة ورخم أرضه، وهو إلى الآن في زيادة ونمو ببركة من أسسه، ووقف أهل الخير عليه أوقافا.
أقول: إن باب الجامع لا زال باقيا من عهد الواقف، غير أنه لم يكتب عليه سوى
(جامع التوبة) وهي كتابة حديثة. ومحراب القبلية من الحجر الهرقلي الأصفر جدد سنة 1180، وفي شرقيها ست حجر لخلوة الذاكرين، وفي غربيها في جدار القبلية باب كتب عليه:(5/237)
أقول: إن باب الجامع لا زال باقيا من عهد الواقف، غير أنه لم يكتب عليه سوى
(جامع التوبة) وهي كتابة حديثة. ومحراب القبلية من الحجر الهرقلي الأصفر جدد سنة 1180، وفي شرقيها ست حجر لخلوة الذاكرين، وفي غربيها في جدار القبلية باب كتب عليه:
(1) البسملة. أنشأ هذا الجامع المبارك الفقير إلى الله تعالى
(2) محمد بن الحاج أبي بكر المعصراني الجبريني في أيام مولانا السلطان الملك الظاهر جقمق عز
(3) نصره وذلك في شهر شوال سنة إحدى وخمسين وثمانماية.
ووراء هذا الباب تربة مكشوفة محاطة بجدران قصيرة وفيها عدة قبور وفي وسطها قبر المترجم واسمه محرر عليه، وهناك في طرف المدفن قبر عليه أحجار قديمة يظهر من النقوش التي عليه أنه قبر أحد الأمراء وبعضه مطمور في الأرض، لذا لم يظهر لي إن كان عليه كتابة أولا.
ومكتوب على جدار القبلية تجاه الصحن:
لم تزل رحمة الإله على من ... بالتقى يعمر المساجد فضلا
إذ به جامع الفضائل لما ... شاده مخلصا تسامى محلا
قلت لما حبى المسرة أرخ ... عمل صالح له الخير دلا 1180
وفي نواحي سنة 1300فرش صحنه الواسع بالرخام الأبيض والأسود، وفي وسط هذا الصحن حوض كبير في غربيه مصطبة، وشمالي الصحن قبلية واسعة تدعى الحجازية وقد جددت سنة 1311. وكان هناك قصطل ماء فأبطل واتخذ عوضه حوض كبير.
وهو الآن تحت يد دائرة الأوقاف، له من الأوقاف بستان ونصف وثلاث عشرة دارا ونصف مصبغة.
578 - نفيس جمال الدين المتوفى سنة 854
نفيس جمال الدين أبو المحاسن ابن الزيني بن عبد الصمد أحد أعيان الخواجكية في وقته بمدينة حلب.(5/238)
أنشأ جامعا عرف بالنفيسية والدامغانية والبيازيدية، وأنشأ داخله تربة لنفسه ودفن بها، وشرط له في وقفه كثيرا من الخيرات، وكانت وفاته سنة 854. ثم في سنة 920 وقف ابن ابنه محمد بن ناصر الدين وقفا حافلا شرطه بعد انقضاء ذريته على تربة جده.
ثم إن مستدام بك أحد عتقاء السلطان قانصوه الغوري وقف وقفا جسيما شرط فيه عدة خيرات لهذا الجامع وغيره وقف مدارا ظاهر باب النيرب وآخر تحت القلعة وستة عشر قيراطا من طاحون أرتاح من العمق ونصف جنينة زقاق المسك بحلب وغير ذلك.
ومن جملة شروط وقفه 100دينار لإطعام الصائمين الفقراء في رمضان، و 50لما يترتب على فقراء أغلبك من العوارض السلطانية، و 50لما يترتب على فقراء محلة الجبيلة، و 100لكسوة العاجزين والأرامل في العيدين. وشرط التولية بعده على ذريته وبانقراضهم يلحق وقفه بوقف المرحوم السلطان الغوري بحلب الموقوف على الحرمين وبيت المقدس والخليل إلخ.
ومن جملة شرط وقفه إعطاء 25دينارا لأربعة قراء في جامع النفيسية الذي جدده وعمل فيه مدرسة ثم أوقف خمسة آلاف دينار علاوة على خمسة عشر ألف دينار كان أوقفها قبلا وشرط أن يصرف من غلة وقفه وربح الدنانير في كل سنة 62دينارا لعشرة قراء علاوة على العشرين قارئا الذين شرطهم في جامعه قبلا وأن يصرف في يوم 10عثمانيات لواعظ في جامعة يوم الجمعة إلى غير ذلك من الخيرات.
الكلام على هذا الجامع الآن المعروف بالمستدامية:
أقول: ذكرت في الجز الرابع (ص 354) في الكلام على الخانكاه الدامغانية أني لم أعرف مكانها، ثم ظفرت بأوراق عند السيد علي منصور الكيالي ترجم فيها جمال الدين نفيس وذكر شرط وقف مستدام بك على الجامع الذي جدده وغير ذلك وهي ما ذكرنا خلاصته أعلاه، ومنها تبين أن جامع المستدامية الواقع في المحلة التي صارت تعرف به كان يعرف بجامع ابن نفيس، وقبل ذلك كان يعرف بالخانكاه الدامغانية. ومكتوب فوق شباك تربة ابن نفيس المترجم:
(1) البسملة. مما تبرع بإنشائه العبد الفقير الراجي عفو ربه(5/239)
(2) القدير الشيخ جمال الدين ابن المرحوم الحاج بهاء الدين ابن نفيس ابن المرحوم الحاج عبد الصمد
(3) ابن المرحوم الحاج عبد القادر الشرواني تغمدهم الله برحمته وأسكنهم عالي جنته
(4) بتاريخ أربعة وخمسين وثمانمائة من الهجرة النبوية اهـ.
وداخل هذه القبة ضريحان قبر المترجم وقبر حفيده محمد المتوفى سنة 963، وشرقيها حجرة متهدمة داخلها عدة قبور منها قديمة ومنها حديثة. وقبلية هذا الجامع صغيرة جددت من قبل دائرة الأوقاف سنة 1319. وفي شرقي الصحن وغربيه ست حجر للطلبة لكنها خالية منهم ومدرسه الآن الشيخ راجي مكناس.
ومن آثار ابن نفيس الحمّام المعروفة بحمام ابن نفيس في محلة البياضة أمام جامع الصروي وهي مما وقفه على هذا الجامع، وقد اطلعت على وقفية الواقف وهي طويلة الذيل عند بني الموقع وهم من جملة المستحقين في هذا الوقف.
579 - عبد الرزاق بن محمد الشرواني المتوفى سنة 855
هو الشيخ الإمام العلامة عبد الرزاق بن محمد الشرواني نزيل حلب.
قرأ على الشيخ علاء الدين البخاري، وقدم حلب ونزل خارج باب الخندق بالوج فقرأ عليه الشيخ شمس الدين السلامي وغيره شرح العقايد، ثم نزل بالمدرسة الرواحية ولازم وصار لا يخرج إلا للصلاة بالجامع الأموي. وقرأ عليه الشيخ شمس الدين بن أمير حاج وبه انتفع وسيدي عمر وسيدي أبو بكر ابنا النصيبي وغيرهم.
وكانت أوقاته معمورة بالأشغال والاشتغال وقراءة القرآن، وكان منقطعا متعففا عن الفقهاء، رتب له القاضي جمال الدين الباعوني كل شهر ثلاثين درهما من العصرونية فلم يقبل، وكان قليل الكلام فقيرا جدا يخرج إلى الصلاة في الجامع الأوقات الخمس في شدة البرد وعليه دراعة بيضاء. وكان ينسب إلى معرفة كلام ابن عربي.
توفي في رمضان سنة خمس وخمسين وثمانماية ودفن بالقرب من مقام سيدنا الخليل خارج حلب، وكان متقنعا باليسير. ويعجبني قول الداوودي راوي البخاري:(5/240)
كان في الإجتماع من قبل نور ... فمضى النور وادلهمّ الظلام
فسد الناس والزمان جميعا ... فعلى الناس والزمان السلام
وله:
إن رمت عيشا طيبا ... صفوا بلا منازع
فاقنع بما أوتيته ... فالعيش عيش القانع
اهـ (أبو ذر).
580 - أبو بكر الأشقر البسطامي المتوفى سنة 855
هو الشيخ الصالح شرف الدين أبو بكر الأشقر البسطامي الشافعي الحيشي.
نشأ تحت كنف الشيخ أبي بكر الحيشي فحصل له الخير، وكان يحبه ويحضه على الاشتغال بالعلم فاشتغل بالنحو والقراءات، أما النحو فقرأه على شهاب الدين بن زين الدين الموقع، قرأ عليه فصول ابن معطي، وانتهى إليه علم القراءات بعد موت الشيخ عبيد وأقرانه، وحفظ البهجة لابن الوردي وقرأها على الشيخ علاء الدين ابن الوردي، وحفظ منهاج البيضاوي وتلخيص المفتاح ودأب، وكان دينا. توفي خامس ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانماية ودفن بتربة الشيخ الأطعاني في (محلة المشارقة) وكانت جنازته حافلة اهـ (أبو ذر).
581 - الأمير ناصر الدين ابن التقا المتوفى سنة 855
الأمير ناصر الدين بن الحاج إبراهيم ابن التقا البابي.
توفي بالقاهرة في شهر رمضان في الخامس والعشرين منه سنة خمس وخمسين وثمانماية.
آثاره:
قال أبو ذر: مدرسة ابن التقا: هذه المدرسة بالقرب من سويقة علي، أوصى الأمير ناصر الدين ابن التقا أن يصرف من ماله في بناء مكتب للأيتام وعدتهم عشرة ومسجد وأن يرتب فيه قارئا يقرأ البخاري وثلاثة يتلون كتاب الله في نهار الاثنين والخميس، ولما
مات قام صهره الحاج عمر التادفي في عمارة ذلك، وشرع في عمارتها سنة ست وخمسين فجاءت بناء حسنا مصروفها يزيد على ثلاثة آلاف دينار اهـ.(5/241)
قال أبو ذر: مدرسة ابن التقا: هذه المدرسة بالقرب من سويقة علي، أوصى الأمير ناصر الدين ابن التقا أن يصرف من ماله في بناء مكتب للأيتام وعدتهم عشرة ومسجد وأن يرتب فيه قارئا يقرأ البخاري وثلاثة يتلون كتاب الله في نهار الاثنين والخميس، ولما
مات قام صهره الحاج عمر التادفي في عمارة ذلك، وشرع في عمارتها سنة ست وخمسين فجاءت بناء حسنا مصروفها يزيد على ثلاثة آلاف دينار اهـ.
وابن التقا كان أبوه ذا مال وكان صديقا لوالدي وعنده مباسطة ومفاكهة حسنة، ونشأ له هذا الولد فعاداه أهل بلده فانتقل إلى حلب وباشر عند النواب، واشترى بيتا من بني المهمندار وأضاف إليه بيوتا، وصار ذا وجاهة عند الحكام وينسب إلى عقل، وكان يتكلم خيرا بدار العدل ويدافع عن بلده، فتوفي عن أولاد من جملتهم شهاب الدين أحمد، فأوصى أحمد عند موته بشراء وقف للمدرسة مضاف لوقف والده وأن يرتب للمدرسة مدرس شافعي، فلم يقوموا بذلك وقالوا إن عليه دينا وإن تركته لا تفي بالديون اهـ (أبو ذر).
أقول: لم أعرف مكان هذه المدرسة، وانظر ما آل إليه أمرها في ترجمة حفيده محمد المتوفى سنة 958.
582 - عماد الدين إسماعيل بن التيرباج المتوفى سنة 855
عماد الدين إسماعيل بن التيرباج الشافعي.
هذا الرجل ولي الحكم بأريحا وسرمين والفوعة، ونظم الشعر، وقال لي شيخنا أبو الفضل بن حجر لما أوقفته على نظمه: هذا أصلح نظم أهل العصر. ومن شعره:
ألا ذاب كل الليل في مقلة الفجر ... وريق الندى قد راق في مبسم الزهر
وأسفرت الكثبان عن رائق الحلى ... وماست غصون البان في الحلل الخضر
وهي طويلة. ومن شعره:
لما قرفت من البلاد ... أردت أن أتفوّعا
وكان حسن الشكالة والمحاضرة والمجالسة والمفاكهة وله تاريخ وقفت عليه، وفي أوله قيل إن أبا بكر يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في النسب في مرة بن كعب انتهى.
فأقول: وهذا بلا خلاف بين أهل النسب وأنه ابن عمه، لكن المؤرخ صاحب الترجمة من أهل الفوعة. وله ديوان قطعه في حال حياته، وسألته عن سبب ذلك فقال لي: كان
الشخص قديما إذا نظم القصيدة ومدح بها أحدا أجرى عليه وأعطاه الجوائز السنية، وأنا الآن أنظم القصيدة وأرسل مع الخدم العسل وغيره حتى تقبل، ففي حال حياتي أبذل مالي وبعدي يقال ما أكثر ما سأل بقصائده. وكان يقول: أنا من الخزرج ويكتب ذلك بخطه، وينسب إلى تشيع، وكان كريم النفس جدا يجود على أصحابه ويفضل عليهم ويحسن إلى الغرباء، وحمدت سيرته في ولايته، وله المدائح الغرر في رؤساء حلب، ومن ذلك ما امتدح به القاضي الحنفي ابن الشحنة في سنة خمسين لما قدم من القاهرة وأنشدنيها:(5/242)
فأقول: وهذا بلا خلاف بين أهل النسب وأنه ابن عمه، لكن المؤرخ صاحب الترجمة من أهل الفوعة. وله ديوان قطعه في حال حياته، وسألته عن سبب ذلك فقال لي: كان
الشخص قديما إذا نظم القصيدة ومدح بها أحدا أجرى عليه وأعطاه الجوائز السنية، وأنا الآن أنظم القصيدة وأرسل مع الخدم العسل وغيره حتى تقبل، ففي حال حياتي أبذل مالي وبعدي يقال ما أكثر ما سأل بقصائده. وكان يقول: أنا من الخزرج ويكتب ذلك بخطه، وينسب إلى تشيع، وكان كريم النفس جدا يجود على أصحابه ويفضل عليهم ويحسن إلى الغرباء، وحمدت سيرته في ولايته، وله المدائح الغرر في رؤساء حلب، ومن ذلك ما امتدح به القاضي الحنفي ابن الشحنة في سنة خمسين لما قدم من القاهرة وأنشدنيها:
صدور أيامنا بك انشرحت ... وأنفس المكرمات قد شرحت
والدهر كم قد شكا تغيّره ... بعدك واليوم حاله صلحت
أشرف عيد نهار مقدمكم ... فيه العدى بالعيون قد ذبحت
كانت نفوس الأنام قد سكرت ... غما فمنها وقد دنوت صحت
أطلعت شمس الفخار مشرقة ... من بعد ما للغروب قد جنحت
وهي طويلة أوردها أبو ذر بتمامها وختمها بقوله:
بقيت ما ماست الغصون وما ... سرى من البان نسمة نفحت
وكانت وفاته تاسع عشر رجب سنة خمس وخمسين وثمانماية ودفن بمصلى العيد خارج سرمين اهـ. (أبو ذر).
583 - قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني المتوفى سنة 855
محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العلامة، فريد عصره ووحيد دهره، عمدة المؤرخين مقصد الطالبين، قاضي القضاة بدر الدين أبو محمود وأبو الثناء ابن القاضي شهاب الدين ابن القاضي شرف الدين العينتابي الأصل والمولد والمنشأ، المصري الدار والوفاة، الحنفي قاضي قضاة الديار المصرية وعالمها ومؤرخها.
سألته عن مولده فكتب إلي بخطه رحمه الله: مولدي في السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وسبعمائة في درب كيكن انتهى.
قلت: ونشأ بعينتاب، وحفظ القرآن الكريم وتفقه على والده وغيره. وكان أبوه قاضي عينتاب وتوفي بها في شهر رجب سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ورحل ولده صاحب
الترجمة إلى حلب وتفقه بها، وأخذ عن العلامة جمال الدين يوسف بن موسى الملطي الحنفي وغيره.(5/243)
قلت: ونشأ بعينتاب، وحفظ القرآن الكريم وتفقه على والده وغيره. وكان أبوه قاضي عينتاب وتوفي بها في شهر رجب سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ورحل ولده صاحب
الترجمة إلى حلب وتفقه بها، وأخذ عن العلامة جمال الدين يوسف بن موسى الملطي الحنفي وغيره.
ثم قدم لزيارة بيت المقدس فلقي به العلامة علاء الدين أحمد بن محمد السيرامي الحنفي شيخ المدرسة الظاهرية برقوق، وكان العلاء أيضا توجه لزيارة بيت المقدس فاستقدمه معه إلى القاهرة في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ونزله في جملة الصوفية بالمدرسة الظاهرية ثم قرره خادما بها في أول شهر رمضان منها، فباشر المذكور الخدامة حتى توفي العلامة علاء الدين السيرامي في سنة تسعين وسبعمائة، وقد انتفع به صاحب الترجمة وأخذ عنه علوما كثيرة في مدة ملازمته له، ولما مات العلاء السيرامي أخرجه الأمير جاركس الخليلي (الأمير أخور) من الخدامة وأمر بنفيه لما أنهوه عنه الحسدة من الفقهاء حتى شفع فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، فأعفي من النفي وأقام بالقاهرة ملازما للاشتغال، وتردد للأكابر من الأمراء مثل الأمير جكم بن عوض والأمير قلمطاي الدوادار قبله وتغري بردي القردمي وغيرهم حتى توفي الملك الظاهر برقوق في شوال سنة إحدى وثمانمائة فولي بعد ذلك حسبة القاهرة في يوم الاثنين مستهل ذي الحجة سنة إحدى وثمانمائة عوضا عن الشيخ تقي الدين المقريزي، فلم تطل مدته وصرف أيضا بالشيخ تقي الدين المقريزي في سنة اثنتين وثمانمائة.
قلت: وولاياته لحسبة القاهرة يطول الشرح فيها لأنه وليها غير مرة آخرها في سنة ست وأربعين وثمانمائة عوضا عن يار علي الطويل الخراساني. انتهى.
ثم ولي المذكور في الدولة الناصرية عدة تداريس ووظائف دينية واشتهر اسمه وأفتى ودرس وأكب على الاشتغال والتصنيف إلى أن ولي في الدولة المؤيدية [شيخ] نظر الأحباس، وصار من أعيان فقهاء الحنفية، وأرخ وكتب وجمع وصنف وبرع في علوم كثيرة كالفقه واللغة والنحو والتصريف والتاريخ، وشارك في الحديث، وسمع الكثير في مبدأ أمره وقرأ بنفسه، وسمع التفسير والحديث والعربية.
فمن التفسير تفسير الزمخشري وتفسير النسفي وتفسير السمرقندي.
ومن الحديث الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وسنن البيهقي والدارقطني ومسند عيد ابن حميد والمعاجم الثلاثة للطبراني وغير ذلك.(5/244)
ومن العربية المفصّل للزمخشري والألفية لابن مالك في النحو وغيرهما.
وتصدر للإقراء سنين واستمر على ذلك إلى أن طلبه الملك الأشرف برسباي وخلع عليه باستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية في يوم الخميس سابع عشرين شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة بعد عزل قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني وخلع على التفهني بمشيخة خانقاه شيخو بعد موت شيخ الإسلام سراج الدين عمر قاري الهداية، فباشر المذكور وظيفة القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة لقربه من الملك ولخصوصيته به ولكونه ولي القضاء من غير سعي.
وكان ينادم الملك الأشرف ويبيت عنده في بعض الأحيان، وكان يعجب الأشرف قراءته في التاريخ كونه كان يقرأ باللغة العربية ثم يفسر ما قرأه باللغة التركية وكان فصيحا في اللغتين. وكان الملك الأشرف يسأله عن دينه وعما يحتاج إليه من العبادات وغيرها فكان العيني يجيبه بعبارة تقرب من فهمه ويحسن له الأفعال الحسنة، حتى لقد سمعت الأشرف في بعض الأحيان يقول: لولا العينتابي ما كنا مسلمين اهـ.
واستمر في القضاء إلى أن صرف وأعيد التفهني في يوم الخميس سادس عشرين صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. وفي اليوم المذكور أيضا صرف قاضي القضاة شهاب الدين ابن حجر بقاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، فلزم المذكور داره أياما يسيرة وطلبه السلطان إلى عنده وصار يقرأ له على عادته. ثم ولاه حسبة القاهرة في شهر ربيع الآخر من السنة عوضا عن الأمير إينال الشمشاني، وكان الشمشاني ولي الحسبة عنه فباشر الحسبة إلى أن أعيد إلى القضاء في سابع عشرين جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثمانمائة عوضا عن التفهني بحكم طول مرض موته، فباشر القضاء والحسبة والأحباس معا مدة طويلة إلى أن صرف عن الحسبة بالأمير صلاح الدين محمد بن حسن بن نصر الله.
واستمر في القضاء ونظر الأحباس إلى أن توفي الملك الأشرف برسباي في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وتسلطن ولده الملك العزيز يوسف وصار الأتابك جقمق العلائي مدبر مملكته، عزله جقمق المذكور عن القضاء بشيخ الإسلام سعد الدين سعد ابن محمد الديري في يوم الاثنين ثالث عشر المحرم من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فلزم المذكور داره مكبا على الأشغال والتصنيف إلى أن ولاه الملك الظاهر جقمق حسبة القاهرة
مرتين لم تطل مدته فيها، الأولى عن الأمير تنم بن عبد الرزاق المؤيدي والثانية عن يار علي الطويل.(5/245)
واستمر في القضاء ونظر الأحباس إلى أن توفي الملك الأشرف برسباي في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وتسلطن ولده الملك العزيز يوسف وصار الأتابك جقمق العلائي مدبر مملكته، عزله جقمق المذكور عن القضاء بشيخ الإسلام سعد الدين سعد ابن محمد الديري في يوم الاثنين ثالث عشر المحرم من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فلزم المذكور داره مكبا على الأشغال والتصنيف إلى أن ولاه الملك الظاهر جقمق حسبة القاهرة
مرتين لم تطل مدته فيها، الأولى عن الأمير تنم بن عبد الرزاق المؤيدي والثانية عن يار علي الطويل.
ثم ركدت ريحه وتضعف عن الحركة لكبر سنه واستمر مقيما بداره إلى أن أخرجت عنه الأحباس لعلاء الدين علي بن محمد بن أقبرس أحد نواب الحكم الشافعي وندماء الملك الظاهر جقمق في سنة ثلاث وخمسين، فعظم عليه ذلك لقلة موجوده، وصار يبيع من أملاكه وكتبه إلى أن توفي ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وصلي عليه بالغد في الجامع الأزهر ودفن بمدرسته بجوار داره رحمه الله. وكانت جنازته مشهودة، وكثر أسف الناس عليه.
وكان بارعا في عدة علوم مفننا عالما بالفقه والأصول والنحو والتصريف واللغة مشاركا في غيرهم مشاركة حسنة، أعجوبة في التاريخ، حلو المحاضرة، محظوظا عند الملوك إلا الملك الظاهر جقمق، كثير الاطلاع واسع الباع في المعقول والمنقول لا يستنقصه متغرض، قل أن يذكر علم إلا ويشارك فيه مشاركة جيدة. ومصنفاته كثيرة الفوائد أخذت عنه واستفدت منه ولي منه إجازة بجميع مروياته وتصانيفه.
وكان شيخا أسمر اللون قصيرا مسترسل اللحية فصيحا باللغة التركية لكلامه في التاريخ وغيره طلاوة. وكان جيد الخط سريع الكتابة، قيل إنه كتب كتاب القدوري في الفقه في ليلة واحدة في مبادي أمره. وكانت مسوداته مبيضات. وله نظم ونثر ليس بقدر علمه، ومن مصنفاته شرح البخاري في مجلدات كثيرة نحو العشرين مجلدا، وشرح الهداية في الفقه، وشرح الكنز في الفقه، وشرح مجمع البحرين في الفقه أيضا، وشرح تحفة الملوك وشرح الكلم الطيب لابن تيميّة، وشرح قطعة من سنن أبي داود، وقطعة كبيرة من سيرة ابن هشام، وشرح العوامل، وشرح الجاربردي، وكتاب في المواعظ والرقائق في ثماني مجلدات، ومعجم مشائخه في مجلد، ومختصر في الفتاوي الظهيرية، ومختصر المحيط، وشرح التسهيل لابن مالك مطولا ومختصرا، وشرح شواهد الألفية لابن مالك وهو كتاب نفيس احتاج إليه صديقه وعدوه وانتفع بهذا الكتاب غالب علماء عصره، وشرح معاني الآثار للطحاوي في اثنتي عشرة مجلدة، وكتاب طبقات الشعراء، وحواشي على شرح الألفية لابن مالك، وكتاب طبقات الحنفية، والتاريخ الكبير على السنين في عشرين
مجلدا (1) واختصره في ثلاث مجلدات، والتاريخ الصغير في ثماني مجلدات وعدة تواريخ أخر، وحواشي على شرح السيد عبد الله، وشرح عروض ابن الحاجب، وشرح الساورية في العروض، واختصر تاريخ ابن خلكان، وعدة تصانيف لم يحضرني الآن ذكرها. وفي الجملة كان من أوعية العلم وممن رأى تلك العلماء الأعلام وأخذ عنهم رحمه الله تعالى اهـ. (المنهل الصافي).(5/246)
وكان شيخا أسمر اللون قصيرا مسترسل اللحية فصيحا باللغة التركية لكلامه في التاريخ وغيره طلاوة. وكان جيد الخط سريع الكتابة، قيل إنه كتب كتاب القدوري في الفقه في ليلة واحدة في مبادي أمره. وكانت مسوداته مبيضات. وله نظم ونثر ليس بقدر علمه، ومن مصنفاته شرح البخاري في مجلدات كثيرة نحو العشرين مجلدا، وشرح الهداية في الفقه، وشرح الكنز في الفقه، وشرح مجمع البحرين في الفقه أيضا، وشرح تحفة الملوك وشرح الكلم الطيب لابن تيميّة، وشرح قطعة من سنن أبي داود، وقطعة كبيرة من سيرة ابن هشام، وشرح العوامل، وشرح الجاربردي، وكتاب في المواعظ والرقائق في ثماني مجلدات، ومعجم مشائخه في مجلد، ومختصر في الفتاوي الظهيرية، ومختصر المحيط، وشرح التسهيل لابن مالك مطولا ومختصرا، وشرح شواهد الألفية لابن مالك وهو كتاب نفيس احتاج إليه صديقه وعدوه وانتفع بهذا الكتاب غالب علماء عصره، وشرح معاني الآثار للطحاوي في اثنتي عشرة مجلدة، وكتاب طبقات الشعراء، وحواشي على شرح الألفية لابن مالك، وكتاب طبقات الحنفية، والتاريخ الكبير على السنين في عشرين
مجلدا (1) واختصره في ثلاث مجلدات، والتاريخ الصغير في ثماني مجلدات وعدة تواريخ أخر، وحواشي على شرح السيد عبد الله، وشرح عروض ابن الحاجب، وشرح الساورية في العروض، واختصر تاريخ ابن خلكان، وعدة تصانيف لم يحضرني الآن ذكرها. وفي الجملة كان من أوعية العلم وممن رأى تلك العلماء الأعلام وأخذ عنهم رحمه الله تعالى اهـ. (المنهل الصافي).
أقول: طبع من مؤلفاته شرحه على البخاري في الآستانة في 11مجلدا ضخما، وشرحه على الكنز، وشرح شواهد الألفية المسمى بالمقاصد النحوية طبع هذان في مصر.
584 - أحمد بن أحمد بن أغلبك المتوفى سنة 855
أحمد بن أحمد بن أوغلبك بضم المعجمة وإسكان اللام وفتح الموحدة وآخره كاف ابن عبد الله شهاب الدين ابن الأمير شهاب الدين الجندي الحلبي أحد أجنادها المعتبرين.
ولد بها في أواخر سنة أربع وثمانين وسبعماية، وبخط بعضهم تسع وخمسين وأظنه غلطا. وكان والده ممن تولى الحجوبية والأستادارية وغيرها بحلب، فنشأ هذا وسمع على ابن صديق في البخاري، وولي نظر جامع ألطنبغا.
وأثنى عليه البرهان الحلبي بالمحافظة على وظائف العبادة وحسن السيرة والحذق في فنه.
أخذ عنه بعض الطلبة. ومات في حدود سنة خمسين ظنا اهـ.
وترجمه أبو ذر بنحو ما تقدم وقال: توفي سنة خمس وخمسين وثمانماية ودفن خارج باب المقام في تربته اهـ.
585 - الحسن بن سلامة المتوفى سنة 856
الحسن بن أبي بكر بن محمد بن عثمان بن أحمد بن عمر بن سلامة البدر أبو محمد المارديني ثم الحلبي الحنفي أخو البدر محمد الآتي، ويعرف بابن سلامة.
__________
(1) اسمه «عقود الجمان في تاريخ أهل الزمان». قال أحمد تيمور باشا في مقالته نوادر المخطوطات: منه نسخة في أربعة وعشرين جزءا في مكتبة ولي الدين بالآستانة، وفي السلطانية بالقاهرة ستة أجزاء.(5/247)
ولد سنة سبعين وسبعماية بماردين، وكان أبوه مدرسها فانتقل ولده هذا إلى حلب فقطنها.
وحج وجاور فسمع هناك على ابن صديق الصحيح وعلى الجمال ابن ظهيرة، واشتغل كثيرا على أخيه بل شاركه في الطلب وحفظ الكنز والمنار وعمدة النسفي والحاجبية. وساح ثم أقام وتكسب بالشهادة مع النساخة، وأم في الثانية بجامع حلب ونزل له أخوه عند موته عن تدريس الحدادية، وحدث سمع منه الفضلاء. مات بحلب بعد أن أهرم بعد سنة خمسين ظنا اهـ.
وترجمه الشيخ أبو ذر في وفيات سنة 856فقال: هو الشيخ العدل بدر الدين الحسن ابن سلامة الحنفي، قرأ على الشيخ أحمد الآمدي السعدي والشيخ حسام الدين صاحب البحار، وعرض على القاضي برهان الدين ابن جماعة الكنز والمنار والعمدة في أصول الدين والحاجبية وتصريف العزي والأندلسية في العروض وإيساغوجي في المنطق وذلك بدمشق.
وسافر من ماردين إلى حلب ثم إلى حماة ثم إلى دمشق ثم إلى القدس فاجتمع بولي الله العارف عبد الله البسطامي، ثم رجع إلى ماردين فجاء تيمور فراح إلى بلد الروم إلى سيواس فاجتمع بصاحبها القاضي برهان الدين. وأنشدني من شعره:
رويدك حادي العيس أعتب مطيّتي ... من السير في أوصاف خير البريّة
بروحي بازيّ تنزّل نحونا ... ليصطادنا من حضرة الأحديّة
ثم سافر إلى بورسة وخرج مع الغازين إلى أسرانبا من بلاد الفرنج فحضر الغزو وحضر حصار القسطنطينية والغلطة، ثم رجع إلى سراينك من الروم فأقام ثلاث سنين، ثم رجع إلى بلده، ثم خرج منها إلى مصر ثم إلى الحجاز فاجتمع بابن صديق فسمع عليه البخاري وبابن ظهيرة الشيخ جمال الدين رفيق والدي فسمع عليه صحيح مسلم، وجاور سنة واجتمع بالشيخ أبي بكر الجبرتي، ثم قدم حلب وسكن بالرواحية وتكسب بالشهادة.
ومولده سنة سبعين وسبعمائة كما رأيته بخطه.
وكان دينا خيرا كريم النفس يوثر الفقراء ويحبهم ويميل للأيتام ويحسن إليهم ويربيهم، وفيه سذاجة، وصلى إماما بمحراب الحنفية بجامع حلب بعد وفاة أخيه، وكانت وفاته في المحرم سنة ست وخمسين وثمانمائة اهـ (أبو ذر).(5/248)
586 - محمد بن عمر سراج الدين المتوفى سنة 856
محمد بن عمر الملقب بسراج الدين.
قال في «الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية»: كان رحمه الله تعالى من نواحي حلب، ولما أغار تيمور خان على البلاد الحلبية أخذه معه إلى ما وراء النهر وقرأ هناك على علمائها، ثم أتى بلاد الروم في زمن السلطان مراد خان وأكرمه السلطان ونصبه معلما لابنه السلطان محمد خان، ثم أعطاه مدرسة بأدرنة وتلك المدرسة مشتهرة بالانتساب إليه إلى الآن (أي أنها تسمت بالمدرسة الحلبية وكثير من رجال الشقائق تولوا التدريس فيها) ودرّس فأفاد وصنف فأجاد، وكان سريع الكتابة، وسمعت بعض أحفاده أنه قال: أكثر الكتب التي عندنا بخط جدي. وله حواش على الشرح المتوسط للكافية (1) وحواش على شرح الطوالع للسيد العبري. توفي رحمه الله تعالى وهو مدرس بالمدرسة المزبورة في أوائل سلطنة السلطان محمد خان (أي في سنة 856أو 857) روّح الله روحه ونوّر ضريحه. اهـ.
أقول: ولسراج الدين المذكور ولد اسمه عبد الرحمن ولهذا ولد اسمه محمد وقد فضلا أيضا وهما من رجال الشقائق اهـ.
587 - محمد بن عمر الغزولي المتولى سنة 857
محمد بن عمر الشمس الغزولي الحلبي الشافعي ويعرف بابن العطار ولكنه بالغزولي أشهر، ممن أخذ عن عبيد البابي وكتب غالب تصانيفه وقرأها عليه وخلفه في حلقته بالجامع احتسابا بحيث انتفع به غالب الحلبيين كالسلامي وابني أبي النصيبي، كل ذلك مع اشتغاله بسوق العبي وتنزيله في بعض الجهات. مات فيما بين الستين والخمسين رحمه الله اهـ.
ثم رأيت له ترجمة في كنوز الذهب ذكره فيمن توفي من الأعيان في سنة سبع وخمسين وثمانمائة في ثالث جمادى الأولى، قال: كان يتجر بسوق الغزل ويدرس أول النهار وآخره، واجتمعت عليه الطلبة، وكان يعرف منهاج النووي. وهو قليل الكلام منقطع عن الناس، ومولده قبل محنة تيمور، ولا يتأنق في المأكل والملبس وهو من عباد الله الصالحين، وله
__________
(1) يوجد نسخة منه في مكتبة لا له لي في الآستانة.(5/249)
مال عريض. وكان ينظر على ما يقريه من المنهاج ويحفظه وينقله، ثم بعد ساعة ينساه كأن لم يكن، ودرس منهاج البيضاوي في آخر عمره اهـ.
588 - محمد بن عمر بن النصيبي المتوفى سنة 857
محمد بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر (1) بن هبة الله ابن عبد القادر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف بن محمد الضيا بن الزين ابن الشرف بن التاج أبي المكارم بن الكمال أبي العباس بن الزين أبي عبد الله القرشي الأموي الحلبي الشافعي والد عمر وأبي بكر، ويعرف كسلفه بابن النصيبي نسبة لبلد نصيبين جزيرة ابن عمر، من بيت كبير معروف بالرياسة والجلالة يقال إنهم من ذرية عمر بن عبد العزيز.
ولد كما قرأته بخطه في أواخر سنة إحدى وثمانين وسبعماية بحلب ونشأ بها فحفظ القرآن وصلى به في جامعها الأموي، والمنهاج وألفية النحو وعرضها على ابن خطيب المنصورية قبل الفتنة. واشتغل قليلا ولازم البرهان الحافظ وحج معه في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وكانت الوقفة الجمعة. وسمع على ابن المرحل وابن صديق والسيد العز الإسحاقي ومحمد ابن محمد بن محمد بن الطباخ وغيرهم. وولي ببلده توقيع الدست وقضاء العسكر، بل وتدريس السيفية والإعادة بالظاهرية وناب في كتابة سرها، بل عرضت عليه مرة استقلالا فامتنع، كل ذلك مع دماثة الأخلاق والثروة والعقل والحشمة والرياسة. وقد حدث سمع منه الفضلاء. وقدم القاهرة فقرأت عليه بعض الأجزاء، ورجع في محفة لكونه كان متوعكا فأقام ببلده حتى مات في ذي القعدة سنة سبع وخمسين ودفن بحوش بالقرب من الدقماقية.
وكتب لشيخنا حين كان بحلب من قوله:
العبد طولب بالجواب عن الذي ... لم يخف عنكم عن سؤال السائل
فانعم به لا زلت تنعم مفضلا ... بفوائد وعوائد وفواضل
وترجمه الحافظ أبو ذر في كنوز الذهب، ومما قاله في ترجمته: أنه كتب في ديوان الإنشاء، وقرأت عليه قطعة من الاستيعاب بسند والدي عن السيد عز الدين نقيب
__________
(1) في الأصل: عبد القادر، ولعل ما أثبتناه نقلا عن الضوء اللامع هو الصواب.(5/250)
الأشراف، واختصر تاريخ ابن خلكان، وله معرفة بأنساب أقاربه، واعتنى بذلك وجمعهم في كراريس.
وكان رئيسا صدرا محتشما كريم النفس والأخلاق حسن المحاضرة والمفاكهة لا تمل مجالسته كبير الرياسة غزير السياسة ولا ينزل من مضارب الرياسة إلا في خباء مروءة، يود من لا يعرفه ويسعف قاصده ولا يعنفه. ولم يزل على حالته إلى أن مضى إلى حال سبيله، وأنجب ولداه العلامتان زين الدين وشرف الدين، وكان هو وهما أعيان عصرهم وشامة حلب بل شامهم.
إذا ركبوا زانوا المواكب هيبة ... وإن جلسوا كانوا صدور المجالس
وهم من بيت سعادة وحشمة، وسيادة ونعمة، وفتوى وفتوة، ومكارم للناس مرجوة.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسرى بها الساري
ولما بلغت وفاته المحبي ابن الشحنة حزن عليه حزنا عظيما وكتب إلى صهره القاضي زين الدين من قصيدة يرثيه بها:
لقد ضحكت رياض الأرض لما ... بكت من فوقها سحب السماء
وقد فقد الضياء فصار ليلا ... نهار العز من فقد الضياء
وقلت مضمّنا:
ابن النصيبيّ الضياء له الورى ... عدموا وحزنهم عليه طويل
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
وكان قد أصابه الفالج قبل ذلك وداواه معين الدين العجمي اهـ.
ورأيت مجموعة فيها عدة رسائل في المكتبة الموقوفة على التكية الإخلاصية في حلب معظمها بخط المترجم منها التبيين لأسماء المدلسين، وتذكرة الطالب المعلم بمن يقال إنه مخضرم، والاغتباط بمن رمي بالاختلاط، والرسائل الثلاثة للحافظ الكبير البرهان إبراهيم الحلبي وقد تقدمت ترجمته.(5/251)
589 - محمد بن أحمد العجمي المتوفى سنة 857
محمد بن أحمد بن عمر بن الضيا محمد بن عثمان بن عبيد الله بن عمر ابن الشهيد أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن محمد الشهاب أبو جعفر بن الشهاب أبي العباس بن أبي القاسم القرشي الأموي الحلبي الشافعي، ويعرف بابن العجمي.
ولد في العشر الأول من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فسمع على الشهاب ابن المرحل والشرف أبي بكر الحراني وأبي حفص بن عمر أيدغمش وخليل بن محمود الشهابي وأبي جعفر الأندلسي والعز الحسيني وابن صديق في آخرين، وبدمشق على عائشة ابنة ابن عبد الهادي، وبالقاهرة على البلقيني وغيره. أجاز له الصلاح ابن أبي عمر وجويرية الهكارية والحراوي وخلق. وكان قد تفقه بالزين ابن الكركي والشرف الداديخي. وولي قضاء حلب عقب الفتنة في إمرة دمرداش فسار فيه أحسن سيرة، ثم عزل نفسه بعد أربعة أشهر لكون نائبها طلب منه القرض من الأوقاف أو من مال الأيتام ولم ينفك عن النيابة عمن يليه، وكذا باشر نظر عدة مدارس وتدريسها كمدرسة جده الشرفية والزجاجية والسيفية والظاهرية وحدث. كتب عنه شيخنا وأورده في معجمه وقال: أجاز لأولادي، ثم سمعت عليه بحلب أشياء ذكرتها في فوائد الرحلة انتهى. وممن سمع منه من أصحابنا ابن فهد ومن شيوخنا الأبي مع أبي موسى في سنة خمس عشرة وأجاز له.
وكان من رؤساء بلده وأصلائها لطيف المحاضرة حريصا على ملازمة البرهان الحلبي حتى إنه حج هو وإياه في سنة ثلاث عشرة، ثم حج بمفرده بعد ذلك. وكتب عن البرهان شرحه للبخاري وغيره من تصانيفه وسمع عليه غالب الكتب الستة، ذا شكالة حسنة، رأى الناس وتأدب بهم لكن مع الإمساك وحدة الخلق.
مات في بكرة يوم الأربعاء منتصف رمضان سنة سبع وخمسين وصلي عليه بجامع الكبير ودفن بالمدرسة الكاملية بالجبيل الصغير وهو في عقود المقريزي وبيض له رحمه الله وإيانا اهـ.
وترجمه أبو ذر في كنوز الذهب، ومما قاله في ترجمته: نشأ يتيما في حجر عمه شمس الدين، وقرأ على والدي كثيرا، وكان يتأدب بآدابه، وحج معه سنة ثلاث عشرة ولازمه
إلى أن مات والدي، وبعد تيمور ولي قضاء حلب.(5/252)
وترجمه أبو ذر في كنوز الذهب، ومما قاله في ترجمته: نشأ يتيما في حجر عمه شمس الدين، وقرأ على والدي كثيرا، وكان يتأدب بآدابه، وحج معه سنة ثلاث عشرة ولازمه
إلى أن مات والدي، وبعد تيمور ولي قضاء حلب.
وكان شكلا حسنا لا يتكلم إلا بخير ويأكل من أوقاف أسلافه. وكتب شرح والدي على البخاري وكتب كثيرا من الفقه وغيره، وآل إليه تدريس الزجاجية والشرفية والظاهرية ومشيخة الشمسية ونظر الجميع. وكانت أوقاف بني العجمي منتظمة في أيامه، وعمر شمالية الشرفية وغيرها. وكان يلبس الثياب الفاخرة وأثرى، ولما توفي خلف مالا جزيلا وكتبا كثيرة وملبوسا سنيا فاخرا جما ودفن عند أسلافه بالجبيل [أي بالمدرسة الكاملية مدرسة بني العجمي المعروفة الآن بجامع أبي ذر].
590 - عمر بن أحمد العباسي المتوفى سنة 858
عمر بن أحمد بن يوسف العباسي الحلبي الحنفي ويعرف بالشريف النشابي جريا على مصطلح تلك النواحي في عدم تخصيص الشرف ببني فاطمة بل يطلقونه لبني العباس بل وفي سائر بني هاشم.
ولد في رجب سنة تسع وسبعين وسبعماية في البياضة من محال حلب، وقرأ بها القرآن على الشمس الغزي، وسمع وهو ابن سبع عشرة سنة البخاري بقراءة البرهان الحلبي بجامع حلب على بعض الشيوخ، وتعلم بحلب صنعة النشاب فبرع فيها، وتردد إلى الشام، ثم قدم القاهرة فلازم ألطنبغا المعلم المعروف بمملوك النائب، وكان كل منهما يعرف من صنعة النشاب ما لا يعرف الآخر، فضم السيد ما عند ألطنبغا إلى ما عنده فصار أوحد أهل زمانه والمرجع إليه فيه عند الملوك ومن سواهم، ثم رجع إلى دمشق فتزوج بها واشتغل في فقه الحنفية على الزين الأعزازي ولازم الشيخ عبد الرحمن الكردي الشافعي فانتفع بمواعيده ودينه وخيره، ثم رجع إلى القاهرة في نحو سنة عشرين فقطنها ولازم السراج قاري الهداية وارتزق من صنعة النشاب وكان المقدم فيها عند المؤيد فمن بعده ومن الملوك إلى أثناء أيام الظاهر، وممن زعم أنه انتفع به في ذلك البقاعي وترجمه وكتب عنه عجائب وقال: إنه كان مع ذلك خيرا حسن العشرة سخيا كثير التلاوة مواظبا على العبادة متواضعا.
مات في ليلة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ودفن خارج باب النصر رحمه الله اهـ.(5/253)
591 - سالم بن سلامة المتوفى سنة 858
سالم بن سلامة بن سليمان مجد الدين الحموي الحنبلي.
ولي قضاء حلب فلم تحمد سيرته بحيث قتل فيها ابن قاضي عينتاب خنقا بغير مسوغ معتمد وحبس لذلك بقلعة حلب إلى أن خنق على باب محبسه في سنة ثمان وخمسين. وكان فيما قيل ذا مشاركة ومذاكرة بالشعر مع معرفة بالأحكام في الجملة، ولكنه كان متهورا حاد الخلق محبا في القضاء عفا الله عنه اهـ.
592 - أقبردي الظاهري المتوفى سنة 859
أقبردي الساقي الظاهري جقمق، اشتراه في سلطنته ونزله في الطباق جلبانه السالف بناي الجركسي حتى جعله خاصكيا ثم ساقيا، كل ذلك في أقرب مدة. ثم ندب لأمر بحلب يتعلق بالسلطنة، فلما وصلها بعث إليه خلعة بنيابة قلعتها مع صغر سنه، ثم نقله إلى أتابكيتها بعد سودون القرماني. وقدم القاهرة بعد يسير فأقام بها مدة ثم رجع إلى حلب بعد إلباسه خلعة ثم نقل منها إلى نيابة ملطية ومات بها في ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وحمل منها إلى حلب فدفن بتربته التي أنشأها بها وسنه نحو الثلاثين. وكان عفيفا عاقلا ساكنا اهـ.
قال أبو ذر في حوادث سنة 860: وفي يوم الجمعة ثاني المحرم وصلت جنازة أقبردي نائب ملطية إلى حلب ودفن خارج باب المقام في تربته التي أنشأها. وأقبردي المذكور ولي نيابة قلعة حلب في أيام الظاهر جقمق وباشر بحشمة زائدة وعقل راجح، وكان دينا كأستاذه لا يعرف شيئا عن الفواحش.
وحج من حلب في سنة سبع وخمسين حجة عظيمة ودافع عن الحاج العرب وأحسن إليهم. وتوفي الظاهر جقمق وبلغه الخبر فجاء على الهجن إلى حلب وصعد القلعة وحفظها على ولده المنصور. ووجد شيخنا أبا الفضل ابن الشحنة في شدة عظيمة وكان بينهما وحشة وأخرب له حانوتا تجاه باب القلعة ونقل ترابه وحجارته إلى القلعة، فلما وجده كذلك أحسن إليه ورق عليه وأظهر له أنه إنما خاصمه لأجل الدين، فإن أهل العلم يحب أن يكون فعلهم كقولهم رحمه الله تعالى اهـ.(5/254)
593 - أحمد بن محمد العز الحاضري المتوفى سنة 860
أحمد بن محمد بن خليل بن هلال بن حسن الشهاب ابن العز الحاضري الحلبي الحنفي الآتي أبوه.
ولد في سادس شوال سنة أربع وثمانين وسبعمائة بحلب. وسمع بها على الشهاب بن المرحل إلى الطلاق من النسائي، وأجاز له الشمس العسقلاني المقري ومحمد بن محمد بن عمر بن عوض وغيرهما. وحدث سمع منه الفضلاء. لقيته بحلب وقد شاخ وكف فقرأت عليه أول النسائي جزءا.
وكان خيرا كثير المحافظة على التلاوة الحسنة وشهود الجماعات مداوما على السبع في الجامع الكبير نحو أربعين سنة حسن المعرفة بالتعبير مشهورا به، صنف به «حاوي العبير في علم التعبير». وحفظ في صغره المختار واشتغل على أبيه وغيره، ولم يل القضاء كإخوته ولذا كان البرهان الحلبي يقدمه، بل أقام مدة يتكسب من صناعة الحرير وهي عقد الأزرار، فلما كف تعطل. مات في حدود سنة ستين ظنا اهـ.
594 - محمد بن حسن التاذفي المتوفى سنة 860
محمد بن حسن بن إبراهيم بن عبد المجيد بن محمد بن يوسف الشمسي التاذفي الأصل الحلبي الشافعي.
ولد في رمضان سنة ست وتسعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها فقرأ القرآن عن منصور وغيره، وتفقه بعبيد بن علي البابي ومحمد الأعزازي وغيرهما، وسمع على ابن صديق، بل قرأ بنفسه على البرهان الحلبي وغيره، وتكسب في حانوت بالسقطيّة (1). وقرأ البخاري وغيره على العامة. لقيته بحلب فقرأت عليه ثلاثيات الصحيح.
وكان خيرا متعبدا متواضعا متوددا ساكنا حسن السمت راغبا في الخير. مات ظنا قريب الستين رحمه الله اهـ.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: بالبسطيين. وليس في حلب مكان يعرف بهذا الاسم.(5/255)
595 - محمد بن أمين الدولة المتوفى سنة 861
محمد بن محمد بن عمر بن عبد الوهاب بن عبد العزيز ناصر الدين بن الشمس أبي عبد الله بن النجم الحلبي الحنفي، ويعرف بابن أمين الدولة.
ولد في ربيع الأول سنة تسع وتسعين بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن على الشمس الغزي وسعد الدين السعيد وغيرهما، وحفظ المختار وتصريف العزي والجمل الجرجانية، وأخذ في الفقه عن أبيه والبدر بن سلامة والعز الحاضري وآخرين، وسمع الصحيح على ابن صديق، وأجاز له عائشة ابنة ابن عبد الهادي وعبد الكريم بن محمد بن القطب الحلبي والبدر النسابة الكبير وابن خلدون وآخرون. وناب في القضاء عن والده وباكير وغيرهما، بل باشر تدريس المقدمية، وحدث سمع منه الفضلاء. قرأت عليه بحلب المائة انتقاء ابن تيميّة من البخاري.
وكان عاقلا كريما جيدا سيوسا من بيت حشمة ورياسة وثروة وأوقاف. مات في حدود الستين رحمه الله اهـ.
قال أبو ذر: وفي يوم الأحد تاسع ذي القعدة كانت وفاة شمس الدين محمد بن أمين الدولة الحنفي قاضي أنطاكية بحلب ودفن عند والده في تربة عز الدين الحاضري. وكان حسن المعاشرة كريم الأخلاق، وولي نيابة الحكم بحلب وقضاء أنطاكية وباشر بعفة وأثنى على كرمه وحسن أخلاقه اهـ.
596 - فاطمة بنت عشائر المتوفاة في هذا العقد ظنا
فاطمة بنة عبد الله بن أحمد بن محمد بن عشائر الحلبي.
ولدت سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وأجاز لها الصلاح ابن أبي عمر وغيره. ذكرها التقي ابن فهد في معجمه وبيض اهـ.
597 - محمد بن أحمد بن نبهان المتوفى سنة 861
محمد بن أحمد بن علوان بن نبهان بن عمر بن نبهان بن عباد ناصر الدين بن الشهاب
الجبريني الناصري الحلبي، ويعرف بابن نبهان. ولد في سنة خمس وتسعين وسبعمائة تقريبا ومات ظنا بعد سنة خمسين اهـ.(5/256)
محمد بن أحمد بن علوان بن نبهان بن عمر بن نبهان بن عباد ناصر الدين بن الشهاب
الجبريني الناصري الحلبي، ويعرف بابن نبهان. ولد في سنة خمس وتسعين وسبعمائة تقريبا ومات ظنا بعد سنة خمسين اهـ.
وقال أبو ذر في حوادث سنة 861: وفي رابع عشر رجب توفي الشيخ محمد ابن الشيخ أبي بكر ابن الشيخ نبهان بقرية جبرين ودفن بكرة النهار عند أسلافه، وخرج أهل حلب للصلاة عليه وتبركا بأسلافه. وأجلس ولده الشيخ أحمد مكانه وهذا لم يكن على طريقة أسلافه ولا سالكا سبيلهم. وكان يحب الصيد ويميل إليه ويحمل الطيور على يده بحضرة الكافل ودواداره، وكان أهل حلب يعيبون ذلك عليه. وخرج مرة إلى الصيد فأخذته العرب وأنزلوه عن فرسه وربطوه في رقبته وجرروه، فاستغاث بسيدي نبهان فوقع بينهم عداوة فأطلقوه اهـ.
598 - الشريفة حليمة المتوفاة سنة 861
قال أبو ذر في حوادث سنة 861: وفي الليلة المسفر صباحها عن نهار الأحد حادي عشر المحرم توفيت الشيخة المسندة حليمة بنت السيد عز الدين الإسحاقي نقيب الأشراف وصلي عليها بجامع حلب ودفنت بالمشهد بسفح الجبل عند أسلافها اهـ.
599 - محمد بن أبي بكر بن نبهان المتوفى سنة 861
محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي بن محمد بن نبهان بن عمر بن نبهان بن علوان ابن غبار، الشمس أبو عبد الله وأبو نبهان بن الشرف بن الشمس أبي عبد الله بن العلاء أبي الحسن ابن الإمام القدوة الشمس أبي عبد الله الجبريني بجيم مكسورة ثم موحدة ساكنة، قرية بظاهر حلب، الحلبي.
ولد في سنة خمس وثمانمائة بجبرين، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في كنف أخيه، وتعلم الكتابة والرمي والفروسية. وأجاز له باستدعاء ابن خطيب الناصرية لصداقته مع أبيه في سنة ثمان أحمد بن عبد القادر البعلي والبدر حسن النسابة وعائشة ابنة ابن عبد الهادي والمولوي ابن خلدون والشرف ابن الكويك وآخرون. واستقر في مشيخة زاوية جبرين بعد أخيه. ودخل القاهرة وزار بيت المقدس ولقيته بالزاوية المشار إليها فقرأت عليها شيئا.(5/257)
وكان شيخا متواضعا مكرما للوافدين ذا شجاعة وهمة ومروءة من بيت مشيخة وجلالة. مات بعد سنة ستين رحمه الله.
أقول: كانت وفاته سابع عشر شوال سنة 861ذكره أبو ذر في حوادث هذه السنة.
600 - أحمد بن محمد الموازيني المتوفى سنة 862
أحمد بن محمد بن عيسى بن يوسف بن أحمد بن محمد الشهاب الحلبي الحنفي، ويعرف بابن الموازيني.
ولد سنة ثمانين وسبعمائة، وسمع، ختم الصحيح على ابن صدّيق، وحدث سمع منه الفضلاء، وأجاز لي. وكان قد طلب وفضل. وولي نظر الجامع الكبير والخطابة مع الإمامة بجامع تغري بردي وقتا، وجلس يتكسب بالشهادة في باب الحلاوية من حلب. وكتب الحكم عن العز الحاضري، كل ذلك مع عدة من أرباب الأصوات المطربة وأهل الخير.
وكذا كان والده من المؤذنين المعروفين بالخير.
مات في حدود سنة اثنتين وستين رحمه الله. اهـ.
601 - عبد الواحد بن صدقة المتوفى سنة 862
عبد الواحد بن صدقة بن الشرف أبي بكر بن محمد بن يوسف بن عبد العزيز الزين الحراني الأصل الحلبي الشافعي حفيد مسند حلب.
ولد بها في ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وسبعماية ونشأ بها، فسمع على جده المذكور والشهاب ابن المرحل، ومما سمع عليه سنن الدارقطني إلا اليسير جدا، وعلى جده مسلسلات التيمي، وحدث سمع منه الأئمة. قرأت عليه الدارقطني وغيره بحلب.
وكان خيرا حريصا على الجماعات محبا في الحديث وأهله صبورا على الإسماع يرتزق من وقف جده. أثنى عليه شيخنا بقوله كما رأيته بخطه: رجل جيد وفيّ منقطع بمنزله.
مات سنة اثنتين وستين رحمه الله اهـ.(5/258)
602 - علي بن محمد الهاشمي المتوفى سنة 862
علي بن محمد بن أحمد بن محمد العلاء أبو الحسن ابن العماد ابن الشهاب الهاشمي العلوي الحلبي الحنفي.
ولد سنة إحدى وثمانين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن والمختار في الفقه، وسمع الصحيح على ابن صديق بحلب والتساعيات الأربعين للقطب الحلبي على حفيده القطب عبد الكريم بن محمد بالقاهرة، واشتغل يسيرا، وولي كأبيه مشيخة الشيوخ بحلب ولقيته بها وقد عرض له فالج نحو ثمانية أشهر لكن مع صحة عقله وسمعه وبصره فقرأت عليه شيئا.
وكان دينا خيرا عاقلا حسن العشرة مع حدة في خلقه رئيسا حشما من بيت مشهور بالرياسة والحشمة، ممن صحب الظاهر ططر والأشرف برسباي لكن مع تقلله من الاجتماع بهما لكونه قليل التردد إلى الناس مع كثرة مواظبته لزيارة البرهان الحافظ والتردد إليه. مات رابع عشر المحرم سنة اثنتين وستين وصلي عليه من الغد بجامع حلب ودفن بتربة أسلافه خارج باب المقام رحمه الله وإيانا اهـ.
أقول: إن المترجم على ما يظهر من أحفاد افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي الحنفي المتوفى سنة 616وقد تقدمت ترجمته.
603 - أبو بكر النصيبي المتوفى سنة 863
أبو بكر بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن أحمد الشرف بن الضيا ابن النصيبي الحلبي الشافعي الماضي أبوه وأخوه عمر.
ولد في صفر سنة أربع وعشرين وثمانماية ونشأ بها، فحفظ القرآن عند الشيخ عبيد البابي وصلى به في الجامع الكبير على العادة والمنهاجين الفرعي والأصلي والكافية والتلخيص وعرض على البرهان الحلبي، بل كان هو الذي يصحح له قبل حفظه، وابن خطيب الناصرية والزين بن الخرزي والحمصي وآخرين. واشتغل ببلده وفضل ونظم ونثر. ومن شيوخه في القاهرة ابن الهمام، بل أخذ عن شيخنا والبرهان الحلبي وآخرين، وسمع معنا بحلب في سنة تسع وخمسين على ابن مقبل وحليمة بنة الشهاب الحسيني وغيرهما، ودرس
بالعصرونية والظاهرية والسيفية، تلقى الأولى عن الجمال الباعوني والثانية عن أبي جعفر ابن الضيا والثالثة عن والده. وناب في القضاء عن ابن خطيب الناصرية فمن بعده وفي كتابة السر، بل استقل بها مدة، وكذا ولي وكالة بيت المال وإفتاء دار العدل ثم تركهما، كل هذا ببلده. مات بها شهيدا بالطاعون في رمضان سنة ثلاث وستين رحمه الله.(5/259)
ولد في صفر سنة أربع وعشرين وثمانماية ونشأ بها، فحفظ القرآن عند الشيخ عبيد البابي وصلى به في الجامع الكبير على العادة والمنهاجين الفرعي والأصلي والكافية والتلخيص وعرض على البرهان الحلبي، بل كان هو الذي يصحح له قبل حفظه، وابن خطيب الناصرية والزين بن الخرزي والحمصي وآخرين. واشتغل ببلده وفضل ونظم ونثر. ومن شيوخه في القاهرة ابن الهمام، بل أخذ عن شيخنا والبرهان الحلبي وآخرين، وسمع معنا بحلب في سنة تسع وخمسين على ابن مقبل وحليمة بنة الشهاب الحسيني وغيرهما، ودرس
بالعصرونية والظاهرية والسيفية، تلقى الأولى عن الجمال الباعوني والثانية عن أبي جعفر ابن الضيا والثالثة عن والده. وناب في القضاء عن ابن خطيب الناصرية فمن بعده وفي كتابة السر، بل استقل بها مدة، وكذا ولي وكالة بيت المال وإفتاء دار العدل ثم تركهما، كل هذا ببلده. مات بها شهيدا بالطاعون في رمضان سنة ثلاث وستين رحمه الله.
604 - علي العجمي الهزازي المتوفى سنة 863
علي السيد علاء الدين العجمي الهزازي.
كان من نوادر الزمان، يعظ الناس بجامع الزكي ويفسر القرآن والتوراة والإنجيل بالعربي، حتى إن يهوديا سمعه من خارج الجامع من الشباك فأسلم. وسلط عليه بعض الحساد من ينشد له القصيدة البكرية في كل ميعاد ويخاطبه بقوله فيها بحق رسول حب أبا بكر، فلم يزل الشيخ يترضى عنه كلما ذكره إلى أن قال يوما للحاضرين: من أحب الله ورسوله فليكرم المادح لطفا منه وحلما، فلم يبق أحد إلا أكرمه، ثم قال الشيخ:
اسمعوا مني وانقلوا عني: شريف حق ما يكون سني، فبلّغ الناس هذا المقال عنه للشيخ شمس الدين بن الشماع الأيوبي الحموي ثم الحلبي فلم يعترض عليه بل لام المعترض عليه، وكان هو الذي حضر غسله ودفنه لما مات سنة ثلاث وستين وثمانماية، هذا ما بلغني عنه مما العهدة فيه على القائل.
والذي وجدته في تاريخ الشيخ أبي ذر أنه كان قدم حلب ونزل خارج باب النصر وعقد مجلس الوعظ بجامع الزكي وانعكف الناس عليه وأكبوا على خدمته كعادة أهل حلب مع الغرباء يميلون إليهم ولا يميلون إلى أهل بلدهم، وأنه كان لا يلتفت إلى أموال الناس، وأن العامة تنسب إليه علما كثيرا وليس الأمر كذلك، وأن الظاهر أنه كان فيه جذبة، وأنه كان خيرا دينا، إلى أن ذكر أنه دفن بالقرب من الهزازة في تربة القطب ابن العجمي وأن الشيخ شمس الدين محمد ابن الشماع كان يعتقده اهـ (در الحبب).
605 - شمس الدين محمد بن محمد الشماع الأيوبي الحموي ثم الحلبي المتوفى سنة 863
محمد بن محمد بن علي الشمس (أي شمس الدين) المجاهدي الأيوبي، لكونه من ذرية
الصلاح يوسف بن أيوب، الحموي ثم الحلبي الشافعي الصوفي المعروف بابن الشماع.(5/260)
محمد بن محمد بن علي الشمس (أي شمس الدين) المجاهدي الأيوبي، لكونه من ذرية
الصلاح يوسف بن أيوب، الحموي ثم الحلبي الشافعي الصوفي المعروف بابن الشماع.
ولد في مستهل سنة إحدى وسبعين وسبعمائة بحماة، ثم انتقل منها إلى مصر فأخذ الفقه والأصول والعربية والمنطق عن عدة جماعة بها، وأخذ طريق القوم عن البرهان ابن البقال بها، وقال إنه أخذه بتبريز في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة عن الجمال عبد الله العجمي شيخ الشهاب ابن الناصح الذي قيل إنه عمّر ماية وستة وثمانين سنة وإن أول شيء أدخل جوفه ريق الشيخ عبد القادر الكيلاني حيث حنكه وألبسه لما أتت به أمه إليه. قال السخاوي: وذلك بعيد عن الصحة. وقال: وكذا صحب الزين الخافي وغيره من شيوخ الوقت، واستوطن حلب متصديا لتربية المريدين وإرشاد القاصدين. قال: ولقد لقيته بها.
قال: وكان إماما علامة فصيحا طلق اللسان رائق النظم والنثر بديع الذكاء حسن الأخلاق والمعاشرة والشكالة والبزة ممتع المحاضرة سريع الجواب مجيدا لما يتكلم فيه مثريا ذا مال طائل منعزلا عن الناس ببيته الذي أنشأه بحلب متعففا عن وظائف الفقهاء وما أشبهها ذا يد طولى في علم الكلام والفلك والحروف والتصوف، ولكنه ينسب إلى مقالة ابن عربي، ولذا كان البلاطنسي (1) يقع فيه. قال: ورأيت بخطه ما يدل على التبري من ذلك.
وقد حج غير مرة وجاور بمكة، ودخل الهند وساح ورابط ببعض الثغور وقتا، وعمل كتابا في مصطلح الصوفية سماه «منشأ الأغاليط في اصطلاح الصوفية»، وأفرد رحلته في مجلد وعقيدته بالتأليف وتبرأ فيها من كل ما يخالف السنة والجماعة. ولم يزل على جلالته إلى أن وقع بحلب فناء عظيم توفي فيه غالب من عنده، فأسف وتوجه إلى مكة عازما على المجاورة بها.
ولقيه السيد العلاء أبو عفيف الدين بالشام وهو متوعك فقال له: قد كنت عزمت على المجاورة بمكة والآن وقع في خاطري مزيد الرغبة في المجاورة بالمدينة النبوية. وكان كذلك، فإنه استمر في توعكه إلى يوم دخوله، وذلك في يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثمانماية فمات ودفن بالبقيع. ورثاه زوج ابنته الفاضل جلال الدين ابن النصيبي بقصيدة مطلعها:
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن خليل البلاطنسي (863798هـ). اقتدى بشيخه العلاء البخاري في تقبيح ابن عربي ومن نحا نحوه. والبلاطنسي: نسبة إلى بلاطنس: حصن منيع بسواحل الشام مقابل اللاذقية.(5/261)
أخفاك يا شمس العلوم كسوف ... من بعد فقدك ناظري مكفوف
قال السخاوي: وكان ذكيا فصيحا، عمل مواعيد بحلب من كلام الغزالي بفصاحة، وهرع الناس إليه، وعمل له مقصورة من خشب بجامع حلب في آخر الشمالية ثم نقضها وأخذ خشبها. قال: وعمل في داره حمّاما والغالب ما بنى أحد في بيته حمّاما وأنجح.
ومما بلغني (القائل صاحب در الحبب) أنه ألف كتابا في الصنعة سماه «الرسالة الحلبية» وأن سلطان زماننا طلبه ونسبه إلى عمل الزغل من الدرهم والدينار فقال: إنما أنت الذي تعمله. ثم دعا بشيء من دراهمه ودنانيره وأدخله الروباص فأخرج غشه، ثم سبك شيئا من النحاس وألقى عليه أكسيرا يسيرا فعاد فضة، ثم ألقى عليه آخر فعاد ذهبا، فعلم ديانته وأمر أن يكون ناظرا على دار الضرب بحلب. وبيته الذي ذكر السخاوي أنه أنشأه بها هو البيت الكائن بباحسيتا وراء القسطل المشهور بقسطل الشماع وإنما هو قسطل ابن الشماع اهـ (در الحبب).
أقول: قال السخاوي في ضوئه: لقيته بحلب فكتبت عنه من نظمه قوله:
صرفت عن الكثرات وجه توجهي ... إلى وحدة الوجه الكريم الممجّد
فما خاب مصروف إلى الحق وجهه ... وقد خاب من أضحى من الخلق يجتدي
وقوله:
لو كنت أعلم أن وصلك ممكن ... بتلاف روحي أو ذهاب وجودي
لمحوت سطري من صحيفة عالمي ... وهجرت كوني في وصال شهودي
أقول: في وسط السوق من محلة بحسيتا مسجد يعرف بمسجد الشماع يغلب على الظن أنه من آثار المترجم، وله صحن صغير وقبلية كذلك، وكان متوهنا فرمم سنة 1303 بأمر الوالي جميل باشا وأعيد بناء قبته من حجر كما كانت، وأخرج من صحنه خمس دكاكين أضيفت إلى وقفه.
606 - سودون الأبو بكري المتوفى سنة 865
سودون الأبو بكري المؤيد، شيخ كان من صغار عتقاه [أي عتقاء الملك المؤيد شيخ]
ثم صار بعده بالبلاد الشامية وخدم بأبواب الأمراء إلى أن صار في أيام الظاهر جقمق من أمراء حلب ثم حاجب الحجاب ثم أتابكا، كل ذلك بها، ثم نقل لنيابة حماة، ثم عزل وتعطل سنين، ثم صار من مقدمي دمشق، ثم عاد إلى أتابكية حلب حتى مات بها في أواخر رمضان سنة خمس وستين وقد قارب الستين. وكان عاقلا ساكنا حشما وقورا متواضعا كثير الأدب والحياء، رحمه الله اهـ.(5/262)
سودون الأبو بكري المؤيد، شيخ كان من صغار عتقاه [أي عتقاء الملك المؤيد شيخ]
ثم صار بعده بالبلاد الشامية وخدم بأبواب الأمراء إلى أن صار في أيام الظاهر جقمق من أمراء حلب ثم حاجب الحجاب ثم أتابكا، كل ذلك بها، ثم نقل لنيابة حماة، ثم عزل وتعطل سنين، ثم صار من مقدمي دمشق، ثم عاد إلى أتابكية حلب حتى مات بها في أواخر رمضان سنة خمس وستين وقد قارب الستين. وكان عاقلا ساكنا حشما وقورا متواضعا كثير الأدب والحياء، رحمه الله اهـ.
607 - عمر بن أحمد السفاح المتوفى سنة 866
عمر بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عمر بن يوسف أو أحمد الزين بن الشهاب بن الصلاح أبي اليسر الحلبي الشافعي الماضي أبوه وأخوه صالح، ويعرف كل منهم بابن السفاح، سبط الشرف موسى بن محمد الأنصاري. ولد في ذي الحجة سنة خمس وتسعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن عند الشمس الغزي والأعزازي وغيرهما، وحفظ التنبيه وألفية ابن مالك وغيرهما، وعرض على جماعة وأحضر في الثانية على عمر بن أيدغمش، بل سمع على ابن صديق، وبالقاهرة على الشرف بن الكويك في آخرين. وحج مرارا وزار بيت المقدس ودخل القاهرة قديما وحديثا غير مرة واشتغل بالمباشرات من سنة ثلاث وثلاثين أو قبلها بقليل، وتنقل في الوظائف لكتابة السر ونظر الجيش وغيرهما ببلده ونظر الجيش بالشام. ولم يشتغل في العلم إلا قليلا وكذا كان عاريا منه. ووصفه بعض أصحابنا بالمروءة التامة والشهامة والعقل والكرم.
وقال شيخنا في ترجمة أبيه في معجمه: وكانت قد انتهت إليه رياسة الحلبيين بها ولأولاده انتهى.
وقد حدث سمع منه الفضلاء، بل سمع منه شيخنا في سنة ست وثلاثين حديثا وكفاه فخرا بهذا، وأما أنا فقرأت عليه بالقاهرة وبحلب أشياء. ولاشتغاله بالديون والخمول بسبب توالي جره الأموال إلى أرباب الدولة تغير كثير من أوصافه، وكان في أول أمره بزي الجند، فلما استقر في المباشرات دوّر عمامته. ومات في رمضان سنة ست وستين عفا الله عنه وإيانا اهـ.(5/263)
608 - محمد بن محمد ابن أمير حاج المتوفى سنة 868
محمد بن محمد بن الحسن بن علي بن سليمان بن عمر بن محمد الشمس الحلبي الحنفي الماضي أبوه والآتي ابنه الشمس محمد، ويعرف بابن أمير حاج وبابن الموقت.
ولد سنة إحدى وتسعين وسبعماية، وقيل في التي بعدها والأول أولى، بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن عند جماعة منهم الشمسان الغزي والجسمسي نسبة لقرية من أعمال حلب، وسمع بعض الصحيح على ابن صديق، وقرأ المختار على البدر ابن سلامة والعز الحاضري وغيرهما، وتعانى الميقات وباشر ذلك بالجامع الكبير بحلب، ونزل طالبا بالحلاوية، بل استقر بعد أبيه في تدريس الجردكية ثم نزل عنها وباشر التوقيع عند قضاة حلب، ثم صار جابيا في الأسواق. وحج وزار بيت المقدس وحدث سمع منه الفضلاء. ولقيته بحلب فقرأت عليه الماية لابن تيمية. وكان صالحا راغبا في الانجماع على الناس. مات في شوال سنة ثمان وستين بحلب رحمه الله وإيانا اهـ.
609 - محمد بن مقبل المتوفى سنة 870
محمد بن الحاج مقبل بن عبد الله الشمس أبو عبد الله الحلبي القيم بجامعها والمؤذن به أيضا، ويعرف بشقير.
كان والده عتيق ابن زكريا البصروي التاجر بدمشق صرفيا فولد ابنه في سنة تسع وسبعين وسبعماية بحلب ونشأ بها، فسمع على الشهاب بن المرحل ثلاثيات مسند عبد وموافقاته بسماعه لها على التقي عمر بن إبراهيم بن يحيى الزبيدي (أنا) بها ابن اللتي وأجاز له في استدعاء البرهان الحلبي ست وثمانون نفسا منهم الصلاح ابن أبي عمر خاتمة أصحاب الفخر ابن البخاري، وحدث سمع منه الفضلاء. ولقيته بحلب بعد أن صار على طريقة حسنة وسيرة مرضية فأخذت عنه الكثير. وعمر بحيث تفرد عن أكثر شيوخه واستمر منفردا مدة حتى مات في رجب سنة سبعين ونزل الناس بموته درجة. وقد ترجمه شيخنا بقوله:
قيم الجامع والمؤذن به، رحمه الله اهـ.
أقول: أخذ عن المترجم علماء لا يحصون من الشهباء وغيرها، منهم مترجمه الحافظ السخاوي كما رأيت، وممن أخذ عنه الشيخ بدر الدين حسن بن أحمد الكبيسي أحد رجال
در الحبب، وقد وصف الحنبلي المترجم ثمة بمسند الدنيا.(5/264)
أقول: أخذ عن المترجم علماء لا يحصون من الشهباء وغيرها، منهم مترجمه الحافظ السخاوي كما رأيت، وممن أخذ عنه الشيخ بدر الدين حسن بن أحمد الكبيسي أحد رجال
در الحبب، وقد وصف الحنبلي المترجم ثمة بمسند الدنيا.
610 - أحمد بن عبد الرحمن السفيري صاحب المزار المشهور المتوفى سنة 871
أحمد بن عبد الرحمن الشيخ شهاب الدين السفيري ثم الحلبي الشافعي صاحب المزار المشهور خارج باب المقام.
أخذ عن الشيخ ناصر الدين بن بهادر، فلما مات اجتمع الفقراء عليه وعكفوا وسكن التربة العلمية داخل باب النيرب، وكانت فيه سذاجة وله تعبد على ما في تاريخ الشيخ أبي ذر، وقال لي حفيد الشمس محمد الشافعي: كان سليم الصدر منكفا عن الناس له بقرات يربيها للدر وغيره. قال: ومرت به جماعة ذات يوم فحصل بينه وبينهم الازدحام فقال له أحدهم: يا بقّار، كأنه يقصد بذلك استهجانه كما هي طريقة العوام في تقبيح الكلام، فقال الشيخ: سبحان الله من أعلمك أن عندي بقرات، ولم يحمله على قصد الاستهجان لسلامة صدره. قيل وكان عرضيا، ولم يكن من السفيرة وإنما كان خطيبا بها فنسب إليها، حتى كان يقول: ما اكتسبنا من السفيرة إلا الاسم. وكان يعرف على ما في التاريخ المذكور بابن الدلال. توفي سنة إحدى وسبعين وثمانمائة وتبرع الناس كما قال الشيخ أبو ذر بالعمارة عليه اهـ. (در الحبب).
أقول: هو مدفون خارج باب النيرب بالتربة المشهورة الآن باسمه وهي تربة السفيرة (1)، ولم تزل قبته باقية إلى زمننا هذا.
611 - محمد بن عثمان المارديني المتوفى سنة 871
محمد بن الفخر عثمان بن علي الشمس المارديني ثم الحلبي الشافعي الأبّار، وهي حرفته، والد عبد القادر. ذكر لي أن أباه حفظ الحاوي بعد التنبيه وغيرهما، وتفقه وأخذ في العربية وغيرهما عن البدر ابن سلامة وأخيه شهاب الدين، وسمع على البرهان الحلبي، وكتب
__________
(1) المعروف أنها تربة السفيري.(5/265)
على المنهاج شرحا في أربعة عشر مجلدا بقي منه مجلد وعلى الورقات في الأصول، بل عمل على البخاري حاشية في ثلاث مجلدات. وكان صالحا خيرا سليم الصدر. مات في رجوعه من الحج ببدر وحمل إلى القارعة فدفن بها في سنة إحدى وسبعين وقد جاوز الخمسين رحمه الله اهـ.
612 - هاجر ابنة ابن خطيب الناصرية المتوفاة سنة 871
هاجر بنة العلاء علي بن محمد بن سعد بن محمد الحلبية ابنة ابن خطيب الناصرية.
أجاز لها جماعة منهم عائشة ابنة ابن عبد الهادي. وحدثت بأخرة سمع منها العز ابن فهد وغيره بعد السبعين، أجازت لنا اهـ.
613 - الشهاب أحمد بن أبي بكر المرعشي المتوفى سنة 872
أحمد بن أبي بكر بن صالح بن عمر الشهاب أبو الفضائل شيخ الإسلام المرعشي ثم الحلبي الحنفي.
ولد سنة ست وثمانين وسبعماية، ثم قطن حلب وبحث «الكشاف»، و «شرح المفتاح» على الزين عمر البلخي، و «المغني في الأصول» وغيره على البدر بن سلامة، مع قراءة الصحيحين عليه، وتقدم في الفقه وأصوله والعربية، وأذن له غير واحد بالإفتاء وصار عالم حلب.
وقدم القاهرة وعرض عليه الظاهر جقمق قضاءها فتنزه عنه مع تقلله.
وصنف كنوز الفقه ونظم عمدة النسفي وزاد عليه أشياء، وكذا نظم الكنز وخمس البردة، كذا قال السخاوي في ضوئه.
وقد ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه فقال: كان عارفا بالفقه والأصول واللغة والنحو ويطالع الصحاح كثيرا، وله نظم يابس. قال: وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، ولبس الخرقة من سيدي الخواجة علي بن الخواجة صدر الدين الأردبيلي، وقرأ على والدي يسيرا، إلى أن قال: وفي الجملة كان على حلب به جمال، وذاك بعد أن ذكر قصته مع
المحب أبي الفضل بن الشحنة في الحصة التي كانت بيده بكلّز من قبل السلطان جقمق لما أغرى به جماعته وهو بالقاهرة عند السلطان حتى قالوا: إنه يحب ابن عربي ويدرس كتبه، فأخرجها عنه وأعطاها لابن الشحنة، فسافر الشهاب إلى القاهرة لبراءة ساحته فصادف ابن الشحنة في الطريق. قال الشيخ أبو ذر: وكان ساذجا. فقال له ابن الشحنة: لأي شيء تذهب قد أخبرنا السلطان ببراءتك، فرجع من طريقه.(5/266)
وقد ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه فقال: كان عارفا بالفقه والأصول واللغة والنحو ويطالع الصحاح كثيرا، وله نظم يابس. قال: وكان له ميل إلى محيي الدين بن عربي، ولبس الخرقة من سيدي الخواجة علي بن الخواجة صدر الدين الأردبيلي، وقرأ على والدي يسيرا، إلى أن قال: وفي الجملة كان على حلب به جمال، وذاك بعد أن ذكر قصته مع
المحب أبي الفضل بن الشحنة في الحصة التي كانت بيده بكلّز من قبل السلطان جقمق لما أغرى به جماعته وهو بالقاهرة عند السلطان حتى قالوا: إنه يحب ابن عربي ويدرس كتبه، فأخرجها عنه وأعطاها لابن الشحنة، فسافر الشهاب إلى القاهرة لبراءة ساحته فصادف ابن الشحنة في الطريق. قال الشيخ أبو ذر: وكان ساذجا. فقال له ابن الشحنة: لأي شيء تذهب قد أخبرنا السلطان ببراءتك، فرجع من طريقه.
ومن مدائحه ما أنشده السخاوي لبعضهم:
عن العلماء يسألني خليلي ... ألا قل لي فمن أهدى وأرشد
ومن أحمدهم قولا وفضلا ... فقلت المرعشيّ الشيخ أحمد
وقد كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة بحلب بالتربة الكائنة بدرب الأبيض اهـ.
وقال في المنهل الصافي: مولده بمرعش ودام بها إلى سنة أربع وثمانماية، فرحل منها إلى عينتاب وتفقه بها على جماعة من الشيوخ منهم البارع عيسى العالم المشهور، ثم انتقل منها سنة ست عشرة وثمانماية إلى حلب بعد أن أذن له بالإفتاء والتدريس.
وقرأ بحلب على الزين البلخي ومحمد بن سلامة، وتصدر للإفتاء والتدريس سنة عشرين وانتفع به الطلبة وتفقه به جماعة من أعيان فقهاء حلب. وعرض عليه الملك الظاهر جقمق وظيفة القضاء بحلب فامتنع من ذلك تنزها وتعففا على أنه في ضيق عيش. وهو الآن فقيه حلب وعالمها ومفتيها بل عالم سائر البلاد الحلبية. ولما سافرت إلى حلب في سنة ست وثلاثين وثمانماية لم يتفق لي الاجتماع به، ولكن الآن بيني وبينه صحبة ومكاتبات، وأجاز لي جميع مروياته ومصنفاته وماله من نظم ونثر. اهـ ملخصا.
أقول: والمترجم أول من تولى التدريس في المدرسة الدلغادرية التي بناها الأمير ناصر الدين باك محمد بن دلغادر ظاهر البلد من شماليه على كتف الخندق ووقفها على الحنفية.
ذكره في الدر المنتخب في الباب الحادي والعشرين. ولا أعلم مكان هذه المدرسة ويغلب على الظن أنها دثرت.
بقية آثار ناصر الدين بك الدلغادري:
قال أبو ذر في الكلام على مكاتب الأيتام: مكتب الأمير ناصر الدين دي الغادر بالقرب
من المصبغة، وكان بوابة لقاعات معين الدين بن العجمي فاشتراها وكلاء ناصر الدين من ورثة معين الدين وجعله مكتبا وتحته حوض ماء وله أوقاف. ولناصر الدين المذكور مدرسة للحنفية خارج باب النصر على الخندق (هي المتقدمة) وبها قراء يقرؤون القرآن، ولها أوقاف بحلب تولى شراءها له شيخنا المؤرخ اهـ.(5/267)
قال أبو ذر في الكلام على مكاتب الأيتام: مكتب الأمير ناصر الدين دي الغادر بالقرب
من المصبغة، وكان بوابة لقاعات معين الدين بن العجمي فاشتراها وكلاء ناصر الدين من ورثة معين الدين وجعله مكتبا وتحته حوض ماء وله أوقاف. ولناصر الدين المذكور مدرسة للحنفية خارج باب النصر على الخندق (هي المتقدمة) وبها قراء يقرؤون القرآن، ولها أوقاف بحلب تولى شراءها له شيخنا المؤرخ اهـ.
أقول: لم أقف على ترجمة للأمير ناصر الدين ولا على تاريخ وفاته (1) إلا على ما تقدم في ترجمة أخيه علي بن خليل المتوفى سنة 830حيث قال ثمة: إن الأمير علي قدم حلب مرارا تارة طائعا وتارة مقاتلا، وكان أقام بها قديما مدة هو وأخوه محمد وأقطعهما السلطان الملك الظاهر إقطاع إمرة بحلب.
لذا ذكرت آثاره في ترجمة الإمام المرعشي. أما المكتب والحوض فلا زالا باقيين وهما أمام الزقاق الذي به المدرسة الصاحبية في سوق السويقة، والمكتب راكب على قبو فوق السوق تصعد إليه من باب بجانب الحوض الذي ذكره، وقد كان مهجورا وربما وضع فيه بعض أهل السوق أمتعتهم، وفي الآونة الأخيرة اتخذه بعض معلمي الحساب مكتبا لتعليم مسك الدفاتر التجارية.
614 - عمر بن محمد النصيبي المتوفى سنة 873
عمر بن الضياء محمد بن عمر بن أبي بكر بن أحمد الزين النصيبي الحلبي الشافعي زوج ابنة المحب ابن الشحنة ووالد الجلال أبي بكر محمد الآتي وأخو أبي بكر.
ولد سنة ثلاث وعشرين وثمانماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن عند الشيخ عبيد وصلى به هو وأخوه في عام واحد والمنهاج وجمع الجوامع وألفية الحديث والنحو وعرض على البرهان الحلبي، بل هو الذي كان يصحح عليه وكرر حسنا في وصف عرضه وصحح على ثانيهما، وكذا عرض على ابن خطيب الناصرية وأبي جعفر ابن الضيا والشمس الغزولي في آخرين، وأخذ عن الأخير في الفقه وعن عبد الرزاق الشرواني فيه وفي أصوله وفي العربية وغيرها، اشتغل، وقدم القاهرة فأخذ بها عن المحلي شرحه «لجمع الجوامع» وعن إمام
__________
(1) هو ناصر الدين محمد بن خليل بن قراجا بن دلغادر. كانت وفاته في عام ستة وأربعين وثمانمئة. يراجع: تاريخ الدول الإسلامية لستانلي لين بول ص 431، وتاريخ القرماني ص 340.(5/268)
الكاملية، ودرس بالظاهرية والسيفية تلقاهما عن أخيه وأعاد بالعصرونية، وجمع وسمع على التقي بن فهد، وناب في القضاء. مات ببلده في يوم عيد النحر سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة اهـ.
ورأيت بخطه مجموعا كبيرا فيه رسائل كثيرة من جملتها ثلاث رسائل من تأليف البرهان الحلبي المتوفى سنة 841، وقد ذكرت ذلك في ترجمته وهو في المكتبة البخشية في التكية الإخلاصية بحلب.
615 - محمد بن أبي بكر الحيشي المتوفى سنة 875
محمد بن أبي بكر بن نصر بن عمر بن هلال الشمس أبو عبد الله الطائي الحيشي الأصل المعري ثم الحلبي الشافعي البسطامي (1) الآتي أبوه ووالده معا في الكنى، والماضي أخوه عبد الله، ويعرف بابن الحيشي.
ولد سنة تسع وتسعين وسبعمائة بمعرة النعمان ونشأ بها في كنف أبيه وتحول معه إلى حلب وبه تسلك وعليه تهذب. وكذا صحب الزين عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود وأخذ القراءات عن عبد الصمد العجمي نزيل حلب، والحديث عن البرهان الحلبي وشيخنا لما قدمها عليهم، وخلف والده في المشيخة بدار القرآن العشائرية. وكان معمور الأوقات بالتلاوة والذكر والمطالعة مع الزهد والانجماع عن بني الدنيا وتقنع باليسير، وللناس فيه مزيد اعتقاد بحيث يقصد بالزيارة والإرفاد بما يكون عونا على سماطه، وقل أن ترد له رسالة.
مات في يوم الثلاثا تاسع ذي القعدة سنة خمس وسبعين ودفن عند أبيه بتربة الناعورة بحلب رحمه الله، أفادنيها ولده اهـ.
616 - بلال الحبشي المتوفى سنة 876
بلال الحبشي العمادي الحلبي الحنبلي فتى العماد إسماعيل بن خليل الأعزازي ثم الحلبي.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: البساطي. وفي ترجمة والده: البسطامي.(5/269)
ولد في حدود سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وسمع على ابن صديق غالب الصحيح وحدث به، سمعه عليه الفضلاء، سمعت عليه الثلاثيات وغيرها. وكان ساكنا متفننا بالكتابة على طريقة العجم بحيث لم تكن تعجبه كتابة غيره من الموجودين. تعانى علم الحرف واشتغل بالكيمياء مع إلمامه بالتصوف ومحبته في الفقراء والخلوة. وأقرأ في ابتداء أمره مماليك الناصر فرج، ولذا كان ماهرا باللسان التركي، ثم ولي النقابة لقاضي الحنابلة بحلب ثم لقاضي الشافعية أيضا ثم أعرض عن ذلك كله، وقطن القاهرة وصحب جمعا من الأكابر وانتفع به جماعة من المماليك في الكتابة. وتردد للجمالي ناظر الخاص ثم الأتابك أزبك الظاهري، وتقدم في السن وشاخ.
مات في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وشهد الأتابك وغيره من الأمراء الصلاة عليه بجامع الأزهر، عفا الله عنه اهـ.
617 - محمد بن علي التيزيني المتوفى سنة 876
محمد بن علي بن عبد الصمد بن يوسف بن أحمد الشمس أبو المعالي بن العلا أبي الحسن ابن الزين أبي الجود التيزيني الحلبي الشافعي.
ولد في رجب أو شعبان سنة سبع وثمانماية في مدينة تيزين من أعمال حلب، وانتقل به أبوه إلى حلب فحفظ القرآن والمنهاج والرحبية في الفرائض والملحة واللمع لابن جني، وبحث بعض المنهاج والملحة على عبيد وجود عليه القرآن، وكذا بحث بعض المنهاج على الشمس النووي وأخذ عنه صناعة الشروط، وكان متقدما فيها، وبحث في الرحبية وعروض الحلي وبعض اللمع والملحة على البدر ابن سلامة ثم ارتحل إلى حماة بعد سنة ثلاثين، وبحث على الزين ابن الخرزي بعض المنهاج وجميع اللمع وعلى العلاء ابن بيور في الفقه والنحو، ثم إلى دمشق فبحث على محمد الزرعي عرف بالنووي وعبد الرحمن اليمني في الفقه والنحو، وبحث بسرمين على العلاء ابن كامل الفركاحية في الفرائض وبديعية العز الموصلي وابن حجة. وحج في سنة ثلاث وعشرين، وولي قضاء تيزين وغيرها من أعمال حلب، وحصلت له كائنة مع ابن الشحنة في سنة خمسين قال البقاعي: إنه نكبه فيها وأدخل عليه الخمر إلى بيته من جهة ريبة وزين لحجاب حلب حتى أوقع به وسجنه، ثم قدم القاهرة ليشكوه فكسرت رجله في العريش بحيث كان دخوله لها على أسوأ حال، فلما عوفي سعى
في ذلك فلم ينجع واستمر مقيما بالقاهرة خوفا من الحاجب فما لبث أن مات في آخرها وكفاه الله أمره، وناب فيها في القضاء وتنقل بالمجالس وتناوب مع البدر الأمير في مجلس باب اللوق، فقيل للبدر: كأنك غفلت عن ذكر الله يوم سلط هذا على مشاركيك لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1).(5/270)
ولد في رجب أو شعبان سنة سبع وثمانماية في مدينة تيزين من أعمال حلب، وانتقل به أبوه إلى حلب فحفظ القرآن والمنهاج والرحبية في الفرائض والملحة واللمع لابن جني، وبحث بعض المنهاج والملحة على عبيد وجود عليه القرآن، وكذا بحث بعض المنهاج على الشمس النووي وأخذ عنه صناعة الشروط، وكان متقدما فيها، وبحث في الرحبية وعروض الحلي وبعض اللمع والملحة على البدر ابن سلامة ثم ارتحل إلى حماة بعد سنة ثلاثين، وبحث على الزين ابن الخرزي بعض المنهاج وجميع اللمع وعلى العلاء ابن بيور في الفقه والنحو، ثم إلى دمشق فبحث على محمد الزرعي عرف بالنووي وعبد الرحمن اليمني في الفقه والنحو، وبحث بسرمين على العلاء ابن كامل الفركاحية في الفرائض وبديعية العز الموصلي وابن حجة. وحج في سنة ثلاث وعشرين، وولي قضاء تيزين وغيرها من أعمال حلب، وحصلت له كائنة مع ابن الشحنة في سنة خمسين قال البقاعي: إنه نكبه فيها وأدخل عليه الخمر إلى بيته من جهة ريبة وزين لحجاب حلب حتى أوقع به وسجنه، ثم قدم القاهرة ليشكوه فكسرت رجله في العريش بحيث كان دخوله لها على أسوأ حال، فلما عوفي سعى
في ذلك فلم ينجع واستمر مقيما بالقاهرة خوفا من الحاجب فما لبث أن مات في آخرها وكفاه الله أمره، وناب فيها في القضاء وتنقل بالمجالس وتناوب مع البدر الأمير في مجلس باب اللوق، فقيل للبدر: كأنك غفلت عن ذكر الله يوم سلط هذا على مشاركيك لقوله تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1).
وكان ناظما مشاركا في طرف من العربية حافظا لكثير من القصائد المطولة والأشعار اللطيفة مؤديا لذلك بفصاحة وصوت جهوري ممن يدارى ويتقى، وأكثر من التردد لجماعة من أعيان الوقت كالمستجدي منهم، وكان من عادته أنه إذا أراد إخصام أحد قال: سأنطحه نطحة أهلكه بها كما نطحت فلانا وفلانا. وكنت ممن سمع منه الكثير. ومات في جمادى الأولى سنة ست وسبعين.
وقد كتب عنه البقاعي من نظمه وقال: مما يعد في مجازفاته أنه رجل حسن فصيح مفوه غير أنه مكثار ممل مشكور السيرة في تحمل الشهادة عفيف متعفف مترفع عن الدنايا.
ومن نظمه:
الصبر أنفع إذ لا ينفع الجزع ... يا نفس صبرا لعل الضيق يتسع
إن حل بالمرء بؤس ليس يدفعه ... شكوى ولا قلق باد ولا هلع
والدهر من شأنه تغيير حالته ... وبعض حادثه بالبعض يندفع
إني بمصر غريب لست مستندا ... إلا إلى من به الإسلام مرتفع
قاضي القضاة شهاب الدين أحمد من ... فيه المحامد والأفضال تجتمع
في أبيات. اهـ.
618 - محمد بن محمد بن أمير حاج المتوفى سنة 879
محمد بن محمد بن محمد بن حسن بن علي بن سليمان بن عمر بن محمد الشمس الحلبي الماضي أبوه وجده، ويعرف بابن أمير حاج وبابن الموقت.
ولد في ثامن عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وثمانماية بحلب ونشأ بها، فحفظ
__________
(1) الزخرف / 36.(5/271)
القرآن عند إبراهيم الكفرناوي وغيره وأربعين النووي والمختار ومقدمة أبي الليث وتصريف العزي والجرجانية وبعض الأخسيكثي، وعرض على ابن خطيب الناصرية والبرهان الحافظ والشهاب ابن الرسام وغيرهم من أهل بلده، وتفقه بالعلاء الملطي، وأخذ النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق عن الزين عبد الرزاق أحد تلامذة العلاء البخاري. وارتحل إلى حماة فسمع بها على ابن الأشقر، ثم إلى القاهرة فسمع بها على شيخنا بقراءتي وقراءة غيري وأخذ عنه جملة من شرح ألفية العراقي وغيرها، وكذا لازم ابن الهمام في الفقه والأصلين في غيرها في هذا القدمة وغيرها، وبرع في فنون، وأذن له ابن الهمام وغيره، وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة، وأفتى وشرح منية المصلي (1) وتحرير شيخه ابن الهمام (2)
والعوامل، وعمل منسكا سماه «داعي منازل البيان لجامع النسكين بالقرآن»، وفسر سورة والعصر وسماه «ذخيرة القصر في تفسير سورة والعصر» وغير ذلك. وقد سمعت أبحاثه وفوائده وسمع مني بعض القول البديع وتناوله مني.
وكان فاضلا متفننا ديّنا قوي النفس محبا في الرياسة والفخر، وبلغني أنه أرسل لشيخه ابن الهمام بأشياء كتبها على شرحه للهداية ليقف عليها ويبين صوابها من خطئها، فكتب إليه جميع ما كتبه الولد من أول الكراس إلى هنا لم يلق بخاطري منه شيء، وقد وصلت الكتابة إلى الوكالة ورأيت أحرفا منها، إلى أن قال: كلام طويل وحاصل قليل، إما لا يعتد به وإما مستفاد من الكتاب، فإن كانت عندك فائدة فاحفظها على من عندك من البلد ويرزق الكتاب أهله، وقد كره صنيعك هذا كثير من طلبة العلم النحارير. على أنه لما ذكر في شرحه المشار إليه مسألة لو قال لست بابن فلان يعني جده لا يحد لصدقه قال:
ومن بعض أصحابنا ابن أمير حاج فأمير حاج جده.
__________
(1) هو المشهور الآن بشرح الحلبي الكبير. وشرحها للشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة 956هو المشهور بشرح الحلبي الصغير، وهذا مطبوع متداول خصوصا في الديار الرومية. ومن مؤلفاته شرح المختار في فروع الفقه، قال في الكشف: ذكره في شرحه للمنية.
(2) هو في علم الأصول وهو شرح ممزوج سماه بالتقرير والتحبير. قال في كشف الظنون: ذكر فيه أن المصنف قد حرر من مقاصد هذا العلم ما لم يحرره كثير مع جمعه بين اصطلاحي الحنفية والشافعية إلخ. أقول: قد طبع هذا الشرح الجليل في المطبعة الأميرية ببولاق مصر سنة 1317وهو في ثلاث مجلدات قال في آخره:
وكان نجازه في يوم الخميس خامس شهر جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وثمانماية. ويوجد نسختان خطيتان في الآستانة في مكتبة الحاج سليم آغا ورقمها 259ونسخة في مكتبة قره جلبي زاده ورقمها 58ونسخة في مكتبة نور عثمانية.(5/272)
وحج غير مرة منها في موسم سنة سبع وسبعين وجاور بمكة إلى التي تليها وأقرأ هناك يسيرا وأفتى، ثم سافر منها إلى بيت المقدس فأقام به نحو شهرين وما سلم من معاند في كليهما بحيث رجع عما كان أضمره من الإقامة بأحدهما، ورأى أنه رعاية جانبه في بلده أكثر، فعاد إليها ولم يلبث أن مات في ليلة الجمعة في التاسع والعشرين من رجب سنة تسع وسبعين بعد تعلله زيادة على خمسين يوما، وماتت أم أولاده قبله بأربعين يوما، وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى وإيانا اهـ.
619 - علي بن عبد الرحمن ابن البارد المعري المتوفى سنة 880
علي بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن معالي بن إبراهيم نور الدين ابن الزين ابن العلاء المعري الأصلي الحلبي الشافعي، ويلقب أبوه فيما بلغني بابن البارد.
كان نقيب المحب ابن الشحنة وفي خدمته مع عقل وفهم وحذق في المباشرة ونحوها، ثم تنافرا وولي قضاء الشافعية بحلب وكتابة سرها ونظر جيشها، ومات في شوال سنة ثمانين وأظنه جاوز الخمسين رحمه الله اهـ.
الكلام على تربته:
قال أبو ذر في الكلام على الترب: تربة القاضي الرئيس نور الدين ابن المعري شرقي تربة سودي [خارج باب المقام] أنشأها في سنة ثلاث وسبعين وثمانماية، وهي مشتملة على قبة وشبابيك من الحجارة الرخام الصفر والسود، وجعل داخل هذه التربة فسقيتين للموتى إحداهما للذكور والأخرى للإناث.
الكلام على تربة سودي التي أشار إليها:
وقال قبل ذلك: تربة سودي هي بالقرب من الظاهرية، وهي مشتملة على قبة من الحجر الهرقلي وحوش به بيوت، أنشأها سودي كافل حلب الذي أجرى نهرها لما انقطع ووقف على هذه التربة وقفا بسوق الحرير القديم وهو الآن سوق النحاسين قبلي الجامع الأعظم اهـ.
أقول: لا زال هذا السوق يعرف بسوق النحاسين، حتى إن الخان الذي هناك يسمى
خان النحاسين، والحمّام التي أمامه التي كانت تعرف بحمّام الست التابعة لوقف المدرسة الخسروية تعرف أيضا بحمّام النحاسين. وأما سودي كافل حلب فقد كانت وفاته سنة 714وقد تقدم ذلك في الجزء الثاني في حوادث هذه السنة.(5/273)
أقول: لا زال هذا السوق يعرف بسوق النحاسين، حتى إن الخان الذي هناك يسمى
خان النحاسين، والحمّام التي أمامه التي كانت تعرف بحمّام الست التابعة لوقف المدرسة الخسروية تعرف أيضا بحمّام النحاسين. وأما سودي كافل حلب فقد كانت وفاته سنة 714وقد تقدم ذلك في الجزء الثاني في حوادث هذه السنة.
620 - عمر بن أحمد الموقع المتوفى سنة 880
عمر بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي النجم ابن الشهاب ابن الزين الحلبي الشافعي الموقع نزيل القاهرة، والماضي أبوه والآتي أخوه المحب محمد الأسن، ويعرف بنجم الدين الحلبي الموقع.
ولد سنة بضع وعشرين وثمانمائة بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن واشتغل يسيرا في العربية وغيرها، وكتب المنسوب، وسمع بقراءة شيخنا على البرهان الحلبي في مشيخة الفخر وبقراءة غيره غير ذلك، وقدم القاهرة وسمع بها ومعه ولده عز الدين وهو في الخامسة، ختم البخاري بالظاهرية القديمة وكتب التوقيع بباب الدوادار الثاني بردبك الأشرفي وغيره، وحمد الناس عقله وأدبه وسكونه. مات بحلب وكان توجه إليها في مصالحه في ربيع الأول سنة ثمانين اهـ.
621 - أحمد بن أبي بكر بن سراج المتوفى سنة 881
أحمد بن أبي بكر بن سراج أقضى القضاة شهاب الدين البابي الشافعي المشهور بابن سراج وبقاضي الباب. ولي قضاءها بعد وفاة جدي الزين عبد الرحمن الحنبلي.
وكان شاعرا ظريفا ومحاضرا لطيفا غير أن هجوه أحكم من مدحه. ومن شعره:
إني رأيت حبيبي ... قد جاء بالياسمين
نحوي فقلت لنفسي ... يا نفس بالياس ميني
والياس ههنا ينبغي أن لا يقرأ بالهمزة بل بالألف ليتحقق أمر التجنيس معه.
ومنه ما وجدته بخط قاضي القضاة ضياء الدين الحنبلي المشهور بابن السيد منصور، قال: أنشدني القاضي سراج الدين بن سراج لنفسه بمكتب العدل برأس سوق الصابون:
تغيرت حالتي لما هويت بيطار ... وحين رأى الحب في قلبي علم بي طار
غنى وخلا فؤادي يشتعل في نار ... لابد ما يفرك السنبك وآخذ ثار
وأنشد له:(5/274)
ومنه ما وجدته بخط قاضي القضاة ضياء الدين الحنبلي المشهور بابن السيد منصور، قال: أنشدني القاضي سراج الدين بن سراج لنفسه بمكتب العدل برأس سوق الصابون:
تغيرت حالتي لما هويت بيطار ... وحين رأى الحب في قلبي علم بي طار
غنى وخلا فؤادي يشتعل في نار ... لابد ما يفرك السنبك وآخذ ثار
وأنشد له:
ولم أنس لما زار بالليل هاجري ... وواصلني بعد البعاد وشينه
ونور محياه محا ظلمة الدجى ... (كأن الثريا علقت في جبينه)
وفي هذا كما ترى تلاعب في النقل من التأنيث إلى التذكير بالمصراع الأول من قول بعضهم:
كأن الثريا علقت في جبينها ... وباقي نجوم الليل في جيدها عقد
ووقف على باب دار الفخري عثمان بن أغلبك وطرقه فقيل: من بالباب؟ فقال:
قاضيه.
توفي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة أو بعدها رحمه الله تعالى. اهـ (در الحبب).
622 - أحمد بن محمد بن طنبل المتوفى سنة 881
أحمد بن محمد بن محمد بن طنبل بمهملة وموحدة مضمومتين بينها نون، الشيخ شهاب الدين الشغري ثم الحلبي الشافعي الرفاعي أحد العدول بمكتب سوق الهوى بحلب في الدولة الجركسية.
كان مع هذا يدرس بجامع البدري المشهور بجامع الفوعي خارج باب أنطاكية ويخطب ويؤم به وينظر به وينظر في مصالحه بالتولية عليه. وبلغ من فرط ذكائه أن وضع تأليفا جمع فيه خمس رسائل في خمسة علوم ووازى به كتاب «عنوان الشرف» لابن المقري الذي زعم بعضهم قبل أن يوضع هذا الكتاب أنه لو حلف حالف أنه لم يؤلف ولا يؤلف مثله فيما يأتي لم يحنث. توفي كما أخبرني ولد أخيه المعمر الشيخ محمد سكيكر بدمشق سنة إحدى وثمانين وثمانماية ودفن بالقرب من ضريح بلال الحبشي رضي الله عنه اهـ.
(در الحبب).
أقول: الرسائل التي ذكرها لم أطلع على شيء منها في المكاتب لا في حلب ولا في
غيرها، أما كتاب «عنوان الشرف» فقد طبع في حلب سنة 1294في المطبعة العزيزية التي كانت أسست في حلب حول سنة 1290وعطلت بعد سنة 1302بقليل على نفقة أحمد أفندي بيازيد أحد التجار وقتئذ، وهو في 113صحيفة وعندي منه نسخة، ثم طبع بعد ذلك في مصر، ويغلب على الظن أنه طبع ثمة على النسخة التي طبعت في حلب.(5/275)
أقول: الرسائل التي ذكرها لم أطلع على شيء منها في المكاتب لا في حلب ولا في
غيرها، أما كتاب «عنوان الشرف» فقد طبع في حلب سنة 1294في المطبعة العزيزية التي كانت أسست في حلب حول سنة 1290وعطلت بعد سنة 1302بقليل على نفقة أحمد أفندي بيازيد أحد التجار وقتئذ، وهو في 113صحيفة وعندي منه نسخة، ثم طبع بعد ذلك في مصر، ويغلب على الظن أنه طبع ثمة على النسخة التي طبعت في حلب.
ويحتاج واضع مثل هذا الكتاب إلى ذهن ثاقب وفكرة وقادة، ويدلك على مهارة تامة، لكنه من حيث الاستفادة قليل الجدوى يعد في بابه نوعا من التفكه، ونزيدك علما عن هذا الكتاب بما ذكره في كشف الظنون عنه حيث قال:
«عنوان الشرف الوافي في الفقه والنحو والتاريخ والعروض والقوافي»
لشرف الدين إسماعيل بن أبي بكر اليمني المقري المتوفى سنة 837، وهو كتاب بديع الوصف في مجلد صغير، أوله: الحمد لله ولي الحمد ومستحقه. وذكر السخاوي أن سبب تأليفه أنه كان يطمع في قضاء الأقضية بعد المجد الفيروز بادي صاحب القاموس ويتحامل عليه بحيث إن المجد عمل للسلطان الأشرف صاحب اليمن كتابا أول كل سطر منه ألف، فاستعظمه السلطان فعمل الشرف هذا كتابه هذا والتزم أن يخرج من أوله وآخره ووسطه علوم غير الفقه الذي وضع الكتاب له، لكنه لم يتم في حياة الأشرف فقدمه لولده الناصر فوقع عنده وعند سائر علماء عصره ببلده موقعا عجيبا. وهو مشتمل مع الفقه على نحو وتاريخ وعروض وقوافي. وفي المنهل لم يسبق إلى مثله يحتوي على فنون خمسة من العلوم، فأول السطور بالحمرة عروض، وما هو بعده بالحمرة أيضا تاريخ دولة بني رسول، وما هو بين التاريخ وأواخر السطور بالحمرة نحو، وأواخر السطور قوافي. ثم ساق في الكشف من ألف على هذا النمط بعد ذلك.
623 - أنس ابن الحافظ البرهان إبراهيم المتوفى سنة 881
أنس بن إبراهيم بن محمد بن خليل ناصر الدين أبو حمزة ابن الحافظ البرهان أبي الوفا الحلبي أخو أبي ذر أحمد (الآتي قريبا).
ولد في صفر سنة ثلاث عشرة وثمانماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن والمنهاج الفرعي والأصلي وألفية الحديث والنحو وعرض واشتغل يسيرا، وسمع على أبيه وشيخنا وآخرين،
وأجازت له عائشة ابنة ابن عبد الهادي، والشهاب أحمد بن حجي وآخرون. وقرأ في الجامع على الكرسي في حياة أبيه يسيرا. ولقيته بحلب فأجاز لنا. وقد حج ودخل القاهرة للتجارة غير مرة وجلس مع الشهود وحدث بأخرة وحسن حاله قبل موته. مات في أوائل الطاعون سنة إحدى وثمانين أو أول التي قبلها اهـ.(5/276)
ولد في صفر سنة ثلاث عشرة وثمانماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن والمنهاج الفرعي والأصلي وألفية الحديث والنحو وعرض واشتغل يسيرا، وسمع على أبيه وشيخنا وآخرين،
وأجازت له عائشة ابنة ابن عبد الهادي، والشهاب أحمد بن حجي وآخرون. وقرأ في الجامع على الكرسي في حياة أبيه يسيرا. ولقيته بحلب فأجاز لنا. وقد حج ودخل القاهرة للتجارة غير مرة وجلس مع الشهود وحدث بأخرة وحسن حاله قبل موته. مات في أوائل الطاعون سنة إحدى وثمانين أو أول التي قبلها اهـ.
624 - القاضي محمد بن محمود بن خليل بن آجا المتوفى سنة 881
محمد بن محمود بن خليل الشمس أبو عبد الله القونوي الأصل الحلبي الحنفي المعروف بابن آجا، وهو كما قال السخاوي لقب أبيه.
ولد كما قال في سنة عشرين وثمانماية، فحفظ القرآن وكتبا علمية، وسمع على البرهان الحلبي والشهاب بن حجر القاهري، وحدث بالشفا، وترجم فتوح الشام للواقدي بالتركي نظما في اثني عشر ألف بيت. قال: وذكر لي ولده أنه سود طبقات الحنفية في ثلاث مجلدات، وخالق الناس بالجميل. واستقر في قضاء العسكر عوضا عن النجم القرافي، وقصد بالشفاعات في أواخر عمره وحمدت الناس أمره فيها. مات بحلب سنة إحدى وثمانين وثمانماية. وكذا ذكر الشيخ أبو ذر المحدث في تاريخه أنه توفي في السنة المذكورة وأنه بعد أن صلي عليه جاؤوا به إلى تربة خاله الشهاب المرعشي ووضعوه في مغارة هناك وسدوا بابها لينقل إلى التربة التي أوصى بعمارتها خارج باب القناة بالدرب الأبيض. قال: وكان فاضلا له إلمام بصنعة الحديث. قرأ على خاله الشيخ شهاب الدين أحمد المرعشي وغيره. وكان فقيرا صحب الأتراك وأثرى من جهتهم، وجدد بيتا بحلب كان وقفا على تربة خارج باب المقام فاستبد له ثم عمر فيه عمارات كثيرة. وولي قضاء العسكر بالقاهرة. هذا كلامه، وصحيح أنه أثرى ولم يدع للفقر أثرا فقد حكي لي عن جدي الجمال الحنبلي أنه لما مات القاضي شمس الدين بن آجا ترك أربعين ألف دينار سوى ماله من الأوقاف الطويلة الذيل، وأما أنه كان قاضي العسكر في تلك الدولة فنعم إلا أنه لم يكن لقاضي العسكر في دولة الجراكسة أن يعرض مناصب القضاة والمدرسين على السلطان ليعطيها من يستحقها من المعروض لهم كما في الدولة العثمانية، وإنما يجري الأحكام الشرعية بين العسكر متى توجه إلى جهة وتوجه معهم، ولهذا لم يختص قاضي العسكر بتخت السلطنة في تلك الدولة بل كان بحلب أيضا قاضي عسكر، بل رأيت في تاريخ جد
والدي لأمه المحب أبي الفضل ابن الشحنة أنه كان يحضر بدار العدل يوم الموكب قاضي العسكر كما يحضر القضاة وقضاة القضاة وهو مثل الديوان السلطاني في الدولة العثمانية اهـ. (در الحبب).(5/277)
ولد كما قال في سنة عشرين وثمانماية، فحفظ القرآن وكتبا علمية، وسمع على البرهان الحلبي والشهاب بن حجر القاهري، وحدث بالشفا، وترجم فتوح الشام للواقدي بالتركي نظما في اثني عشر ألف بيت. قال: وذكر لي ولده أنه سود طبقات الحنفية في ثلاث مجلدات، وخالق الناس بالجميل. واستقر في قضاء العسكر عوضا عن النجم القرافي، وقصد بالشفاعات في أواخر عمره وحمدت الناس أمره فيها. مات بحلب سنة إحدى وثمانين وثمانماية. وكذا ذكر الشيخ أبو ذر المحدث في تاريخه أنه توفي في السنة المذكورة وأنه بعد أن صلي عليه جاؤوا به إلى تربة خاله الشهاب المرعشي ووضعوه في مغارة هناك وسدوا بابها لينقل إلى التربة التي أوصى بعمارتها خارج باب القناة بالدرب الأبيض. قال: وكان فاضلا له إلمام بصنعة الحديث. قرأ على خاله الشيخ شهاب الدين أحمد المرعشي وغيره. وكان فقيرا صحب الأتراك وأثرى من جهتهم، وجدد بيتا بحلب كان وقفا على تربة خارج باب المقام فاستبد له ثم عمر فيه عمارات كثيرة. وولي قضاء العسكر بالقاهرة. هذا كلامه، وصحيح أنه أثرى ولم يدع للفقر أثرا فقد حكي لي عن جدي الجمال الحنبلي أنه لما مات القاضي شمس الدين بن آجا ترك أربعين ألف دينار سوى ماله من الأوقاف الطويلة الذيل، وأما أنه كان قاضي العسكر في تلك الدولة فنعم إلا أنه لم يكن لقاضي العسكر في دولة الجراكسة أن يعرض مناصب القضاة والمدرسين على السلطان ليعطيها من يستحقها من المعروض لهم كما في الدولة العثمانية، وإنما يجري الأحكام الشرعية بين العسكر متى توجه إلى جهة وتوجه معهم، ولهذا لم يختص قاضي العسكر بتخت السلطنة في تلك الدولة بل كان بحلب أيضا قاضي عسكر، بل رأيت في تاريخ جد
والدي لأمه المحب أبي الفضل ابن الشحنة أنه كان يحضر بدار العدل يوم الموكب قاضي العسكر كما يحضر القضاة وقضاة القضاة وهو مثل الديوان السلطاني في الدولة العثمانية اهـ. (در الحبب).
أقول: كان المترجم ممن رافق الأمير يشبك الدوادار حين مجيئه بالعساكر المصرية لهذه البلاد لمحاربة شاه سوار الخارج على المصريين في عينتاب ومرعش سنة 875وألف في ذلك رحلة في 130صحيفة ذكر فيها ما جرى من الحوادث مع الأمير المذكور من حين خروجه من مصر إلى حين عودته إليها، وقد أرسل إلينا هذه الرحلة سعادة أحمد تيمور باشا المصري حفظه الله وذكرنا ذلك في الجزء الثالث في صحيفة (61) ثم أرسلها إلى المجمع العلمي العربي بدمشق فنشر في الجزء السابع من المجلد الخامس خلاصة ما تضمنته هذه الرحلة.
625 - لسان الدين أحمد بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة 882
أحمد بن محمد بن محمد قاضي القضاة لسان الدين أبو الوليد ابن الشحنة قاضي الحنفية بحلب وخطيب جامعها الأموي خال والدي.
لازم جده المحب أبا الفضل في تحصيل العلم وهو قاضي الحنفية بالديار المصرية ودون بخطه النير الحسن جانبا من الفتاوي التي كانت ترفع أسئلتها إلى جده، وألف خطبا فائقة وكتابا سماه «لسان الحكام في معرفة الأحكام» ألفه حين تولى القضاء بحلب وأراد أن يجعله منظوما على ثلاثين فصلا فلم يتفق له سوى تأليف عشرين فصلا وبعض الفصل الحادي والعشرين.
وكان دينا صالحا ذا خشوع وتضرع وبكاء ورقة قلب، وذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه فقال: كان فاضلا شابا حسن الشكالة فصيح العبارة، ولي القضاء فباشره بعفة زائدة وحرمة وافرة وانطلاق وجه وانبساط للناس وتلطف بهم، وخطب بجامع حلب خطبا بليغة من إنشائه فروّع النفوس ومال الناس إليه وحمدوا سيرته وأخلاقه الحسنة، وولي نيابة كتابة الإنشاء بالقاهرة عن جده فحمدت سيرته وشكرت أفعاله. قال: وكان مكبا على الاشتغال بالعلم ذكيا يحفظ كتبا على قاعدة مذهبه إلى أن أرخ وفاته لسنة اثنتين وثمانين.
وقد أخبرني الثقة أنه لما كان في حالة النزع دخل وقت العشاء فسمع المؤذن فطلب
الوضوء فتوفي من ساعته رحمه الله تعالى. وفيه يقول الشاعر المشهور بالخطيب:(5/278)
وقد أخبرني الثقة أنه لما كان في حالة النزع دخل وقت العشاء فسمع المؤذن فطلب
الوضوء فتوفي من ساعته رحمه الله تعالى. وفيه يقول الشاعر المشهور بالخطيب:
متى لي أن أحظى بقرب الأحبة ... ويسعدني دهري بساعة خلوة
فاشكو إليه البعد والصد والجفا ... وأبدي لهم همي وذلي ولوعتي
إلى أن قال:
وقد هيج الطاعون في الناس علة ... مضت فيه أرباب الصفا والمحبة
فمنهم لسان الدين قاضي القضاة من ... هو الركن في الإسلام بالحنفية
لقد شاع في كل الأماكن ذكره ... بحسن ثناء مع حياء وعفة
ورثاه محمد بن عبد الله الأزهري بقصيدة مطلعها:
لهفي على ركن من الأركان ... قاضي القضاة سيد الأعيان
وهو لسان الدين مولانا الذي ... ما مثله في سالف الأزمان
أبكيه درا مستحيلا لونه ... حتى يصير الدر كالمرجان
أوردها الرضي الحنبلي بتمامها في تاريخه اقتصرنا منها على ما ذكرناه.
أما كتابة لسان الحكام فقد أكمله من بعده برهان الدين إبراهيم الخالقي العدوي الحنفي إلى الثلاثين فصلا وسماه «غاية المرام في تتمة لسان الحكام» فرغ من تأليفه سنة 1015، والكتاب مع تتمته طبع في مصر سنة 1310طبعه الشيخ أحمد البابي الحلبي الكتبي المشهور على هامش كتاب «معين الحكام» وأظن أنه طبع غير مرة في مصر وهو مشهور متداول، أما متمم الكتاب فإني لم أقف على ترجمته.
626 - عبد العزيز بن العديم المتوفى سنة 882
عبد العزيز بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله العز أبو البركات بن عضد الدين بن الجمال العقيلي بالضم الحلبي الحنفي والد الكمال عمر الآتي، ويعرف كسلفه بابن العديم بفتح أوله وكسر ثانية وبابن أبي جرادة.
ولد في أحد الربيعين سنة إحدى عشرة وثمانمائة بالقاهرة ونشأ بها، فقرأ القرآن والعمدة
وألفية الحديث والنحو والمختار والمنظومة والأخسيكثي في الأصول وعرض على جماعة، وأجاز له الولي العراقي والشمس البرماوي في آخرين منهم من أئمة الأدب البدر البشتكي والزين ابن الخراط، بل سمع على الشمسين الشامي وابن الجزري والشهب شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) والمتبولي والواسطي وغيرهم. وببيت المقدس على الشمس ابن المصري وبحلب الكثير على البرهان الحلبي. واشتغل في الفقه على قاري الهداية والسعد ابن الديري والزين قاسم وجماعة، وفي العربية على الشمني والشمس الرومي والمراغي وغيرهم، وفي فن البديع والعروض على النواجي.(5/279)
ولد في أحد الربيعين سنة إحدى عشرة وثمانمائة بالقاهرة ونشأ بها، فقرأ القرآن والعمدة
وألفية الحديث والنحو والمختار والمنظومة والأخسيكثي في الأصول وعرض على جماعة، وأجاز له الولي العراقي والشمس البرماوي في آخرين منهم من أئمة الأدب البدر البشتكي والزين ابن الخراط، بل سمع على الشمسين الشامي وابن الجزري والشهب شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) والمتبولي والواسطي وغيرهم. وببيت المقدس على الشمس ابن المصري وبحلب الكثير على البرهان الحلبي. واشتغل في الفقه على قاري الهداية والسعد ابن الديري والزين قاسم وجماعة، وفي العربية على الشمني والشمس الرومي والمراغي وغيرهم، وفي فن البديع والعروض على النواجي.
واستوطن حلب من سنة 34وكان يتردد منها إلى القاهرة، ثم أعرض عن ذلك ولزم الإقامة بها. وحج وزار بيت المقدس. وباشر تدريس الحلاوية ويقال إنها هناك كالشيخونية بالقاهرة مع نصف نظرها ونظر الشاذبختية والخانقاه المقدمية الصوفية مع مشيختها، وناب في قضاء سرمين ثم أقلع عن ذلك. وقد لقيته بحلب وسمع معي على جماعة وحدث باليسير.
وكان إنسانا حسنا متواضعا لطيف العشرة كريم النفس مع رياسة وحشمة وأصالة وفضيلة في الجملة ولكنه لفن الأدب أقرب، ومما سمعته ينشد قوله:
يا كاتب السريا ابن الأكرمين ومن ... شاعت مناقبه في العرب والعجم
وممن كتب عنه من نظمه البقاعي. وأثكل ولده المشار إليه فصبر وولي قضاء بلده في سنة وفاته حين كان السلطان هناك لشعوره ببذل مال هذا بعد عرضه عليه قديما فأبى، فلم يلبث أن مات في عشرين ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين رحمه الله اهـ.
وله في در الحبب ترجمة موجزة قال فيها: إنه دفن بالجبيل بحلب كما وجدته بخط ابن السيد منصور الحنبلي، ولم يتول أحد قضاء الحنفية بها منذ مات إلى أن وليه القاضي شهاب الدين أحمد بن الحلّاوي الحنفي عن بذل كثير سنة أربع وثمانين اهـ.
وله ولد اسمه عمر اشتغل وتفقه بابن أمير حاج وأخذ عن أبي ذر وغيره، وسمع ببلده على جماعة، وتميز وبرع ونظم وفاق وجمع ديوانا سماه «بدور الكمال». مات في سنة كان الأتابك والدوادار بحلب في حياة أبويه ولم يكمل الثلاثين رحمه الله.(5/280)
627 - محمد بن علي الحارس المتوفى سنة 882
محمد بن علي الحلبي الواعظ، ويعرف بابن الحارس لكون أبيه كان حارسا في بعض أسواق حلب وربما كان يتعاطى خدمة البرهان الحلبي.
طاف البلاد في عمل المواليد المشتملة على الأكاذيب بحيث ظهرت بذلك صحة فراسة شيخنا، فإنه أقامه من بين يديه كما سبقت حكايته في الجواهر، ومع ذلك فكانت له وجاهة بين العوام. ولما اشتد الخطب بسوار ورام نائب حلب برديك البشمقدار إلزام أهل حلب بمال يستخدم به جيشا أو رجالا قام في منع ذلك بالغوغاء ونحوهم بحيث كبروا على المنارات وعلى أبواب الجوامع وتوارى كل من أبي ذر وابن أمير حاج خشية من نسبة ذلك لهما وما وسع النائب إلا السكوت، ثم أعمل حيلة في مسك المشار إليه والناس محرمون بصلاة الصبح وجيء به فأمر بضربه بين يديه بالمقارع وأظهر حنقا زائدا، ثم حمل إلى بيته، وانزعج الظاهر خشقدم حين بلغه ذلك لكراهته في النائب لا لمحبته المضروب. وعاش حتى مات بحلب في أواخر صفر سنة اثنتين وثمانين ودفن بالسنيبلة ظاهر باب أنطاكية وقد قارب الستين. وكان ذكيا جريئا مقداما وربما أفتى العوام ببعض المعضلات عفا الله عنه اهـ.
628 - علي بن أبي بكر بن مفلح المتوفى سنة 882
علي بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج العلاء حفيد التقي أبي عبد الله ابن الشمس صاحب الفروع المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي والد الصدر عبد المنعم وقريب إبراهيم بن محمد ابن الشرف عبد الله الماضيين وابن أخي النظام عمر آلاتي، ويعرف كسلفه بابن مفلح.
ولد سنة خمس عشرة وثمانماية بصالحية دمشق ونشأ بها، فقرأ القرآن عند الشمس ابن كاتب الغيبة وسالم وغيرهما، وحفظ «المقنع» و «الملحة» وغيرهما، وعرض على عم والده الشرف عبد الله بن مفلح والعز البغدادي المقدسي، وعن الشرف المذكور وغيره أخذ الفقه، بل وسمع عليه في الحديث، وأجاز له ابن المحب الأعرج والتاج ابن بردس وغيرهما. وناب في القضاء بدمشق عن عمه وبالقاهرة عن البدر البغدادي، ثم استقل بقضاء حلب وتكرر له ولايتها، وكذا ولي كتابة السر بالشام في أول سنة ثلاث وستين عوضا
عن الخيضري، ثم انفصل عنها بعد سنتين به وولي قضاءها مرة بعد أخرى ثم نظر الجيش بحلب.(5/281)
ولد سنة خمس عشرة وثمانماية بصالحية دمشق ونشأ بها، فقرأ القرآن عند الشمس ابن كاتب الغيبة وسالم وغيرهما، وحفظ «المقنع» و «الملحة» وغيرهما، وعرض على عم والده الشرف عبد الله بن مفلح والعز البغدادي المقدسي، وعن الشرف المذكور وغيره أخذ الفقه، بل وسمع عليه في الحديث، وأجاز له ابن المحب الأعرج والتاج ابن بردس وغيرهما. وناب في القضاء بدمشق عن عمه وبالقاهرة عن البدر البغدادي، ثم استقل بقضاء حلب وتكرر له ولايتها، وكذا ولي كتابة السر بالشام في أول سنة ثلاث وستين عوضا
عن الخيضري، ثم انفصل عنها بعد سنتين به وولي قضاءها مرة بعد أخرى ثم نظر الجيش بحلب.
وحج وزار بيت المقدس مرارا. لقيته بحلب وغيرها وحمدت لقيه وإحسانه.
وكان إنسانا حسنا متواضعا كريما متوددا خبيرا بالأحكام ذا إلمام بطريق الوعظ وكذا بالعلم في الجملة. أقام بحلب منفصلا عن القضاء وغيره نحو ثلاث سنين حتى مات شهيدا بالبطن بل وبالطاعون بعد إقامته نحو خمسين يوما متعللا عشية ليلة السبت عاشر صفر سنة اثنتين وثمانين وصلي عليه من الغد بالجامع الكبير في محفل تقدمهم أبو ذر ابن البرهان بوصية منه، ودفن ظاهر باب المقام رحمه الله وإيانا اهـ.
وله ترجمة في در الحبب إلا أنه ذكر وفاته سنة 881، وكذا في الدر المنضد لكنها موجزة.
629 - أحمد أبو ذر المؤرخ ابن الحافظ الكبير البرهان المتوفى سنة 884
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خليل الشيخ موفق الدين أبو ذر ابن الحافظ البرهان أبي الوفا، الطرابلسي الأصل ثم الحلبي المولد والدار، الشافعي، والد أبي بكر الآتي وهو بكنيته أشهر.
ولد في ليلة الجمعة تاسع صفر سنة ثمان عشرة وثمانماية بحلب ونشأ بها، فحفظ القرآن وجوده على أبيه والمنهاجين الفرعي والأصلي وألفيتي الحديث والنحو، وعرض على العلاء ابن خطيب الناصرية فمن دونه من طلبة أبيه، وتفقه بالعلاءين المذكور وابن مكتوب الرحبي والشمس السلامي وبه انتفع فيه وفي العربية وآخرين، وكذا أخذ العربية عن ابن الأعزازي والشمس الملطي والزين الخرزي وجماعة، والعروض عن صدقة، وعلوم الحديث عن والده وشيخنا وسمع عليهما وعلى غيرهما من شيوخ بلده والقادمين إليها. ودخل الشام في توجهه للحج فسمع بها على ابن ناصر الدين وابن الطحان وابن الفخر المصري وعائشة ابنة ابن الشرايحي ولم يكثر بل جل سماعه على أبيه. وأجاز له جماعة باستدعاء صاحب ابن فهد.
وتعانى في ابتدائه فنون الأدب فبرع فيها وجمع فيها تصانيف نظما ونثرا، ثم أذهبها حسبما أخبرني به عن آخرها. ومن ذلك: «عروس الأفراح فيما يقال في الراح»، و «عقد
الدرر واللآل فيما يقال في السلسال»، و «ستر الحال فيما قيل في الخال»، و «الهلال المستنير في العذار المستدير»، و «البدر إذا استنار فيما قيل في العذار».(5/282)
وتعانى في ابتدائه فنون الأدب فبرع فيها وجمع فيها تصانيف نظما ونثرا، ثم أذهبها حسبما أخبرني به عن آخرها. ومن ذلك: «عروس الأفراح فيما يقال في الراح»، و «عقد
الدرر واللآل فيما يقال في السلسال»، و «ستر الحال فيما قيل في الخال»، و «الهلال المستنير في العذار المستدير»، و «البدر إذا استنار فيما قيل في العذار».
وكذا تعانى الشروط ومهر فيها أيضا بحيث كتب التوقيع بباب ابن خطيب الناصرية، ثم أعرض عنها أيضا ولزم الاعتناء بالحديث والفقه وأفرد مبهمات البخاري (1) وكذا إعرابه، بل جمع عليه تعليقا لطيفا لخصه من الكرماني والبرماوي وشيخنا وآخر أخصر منه. وله «التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح»، و «مبهمات مسلم»، و «قرة العين في فضل الشيخين والصهرين والسبطين» (2)، و «شرح الشفا والمصابيح» لكنه لم يكمل، و «الذيل على تاريخ ابن خطيب الناصرية» وغير ذلك.
وأدمن قراءة الصحيحين والشفا خصوصا بعد وفاة والده وصار متقدما في لغاتها ومبهماتها وضبط رجالها لا يشذ عنه من ذلك إلا النادر.
ولما كان شيخنا بحلب لازمه واغتبط به وأحبه لذكائه وخفة روحه حتى إنه كتب عنه من نظمه [مواليا]:
الطرف أحور حوى رقى غنج نعاس ... وقد قدّ القنا أهيف نضر مياس
ريقتك ماء الحيا يا عاطر الأنفاس ... عذارك الخضر يا زين وأنت الياس
وصدر شيخي كتابته لذلك بقوله: وكان قد ولع بنظم المواليا، ووصفه بالإمام موفق الدين ومرة بالفاضل البارع المحدث الأصيل الباهر الذي ضاهى كنيته في صدق اللهجة، الماهر الذي ناجى سميه ففداه بالمهجة، الأخير الذي فاق الأول في البصارة والنضارة والبهجة، أمتع الله المسلمين ببقائه. وأذن له في تدريس الحديث وأفاد به في حياة والده.
وراسله بذلك بعد وفاته فقال: وما التمسه أبقاه الله تعالى وأدام النفع به كما نفع بأبيه، وبلغه من خيري الدنيا والآخرة ما يرتجيه من الإذن له بالتدريس في الحديث النبوي، فقد حصلت بغيته وحققت طلبته، وأذنت له أن يقرىء علوم الحديث مما عرفه ودريه من شرح الألفية لشيخنا حافظ الوقت أبي الفضل ومما تلقفه من فوائد والده الحافظ برهان الدين
__________
(1) اسمه «التوضيح لمبهمات الجامع الصحيح» منه نسخة في المولوية وأخرى في الأحمدية بحلب.
(2) قال في الكشف: أوله: الحمد لله الذي طهر قلوب أهل السنة من الأدناس الخ. رتبه على ثلاثة عشر فصلا آخره في ذم الروافض اهـ.(5/283)
تغمده الله تعالى برحمته ومن غير ذلك مما حصله بالمطالعة واستفاده بالمراجعة، وكذا غير الشرح المذكور من سائر علوم الحديث وأن يدرس في معاني الحديث كل كتاب قرىء لديه وتقييد ما يعلمه من ذلك إذا قرأه هو وسمع عليه، وأسأله أن لا ينساني من صالح دعواته في مجالس الحديث النبوي إلى آخر كلامه.
وقد لقيته بحلب وسمع بقراءتي وسمعت بقراءته، بل كتبت عنه من نظمه سوى ما تقدم ما أثبته في موضع آخر، وزاد اغتباطه بي وبالغ في الإطراء لفظا وخطا. وكانت كتبه بعد ذلك ترد عليّ بالاستمرار على المحبة وفي بعضها الوصف لشيخنا.
وكان خيرا شهما مبجلا في ناحيته منعزلا عن بني الدنيا قانعا باليسير محبا للانجماع كثير التواضع والاستئناس بالغرباء والإكرام لهم، شديد التخيل طارحا للتكلف ذا فضيلة تامة وذكاء مفرط واستحضار جيد خصوصا لمحافيظه وحرص على صون كتب والده قبل أن يمكن أحدا منها، بل حسم المادة في ذلك عن كل أحد حتى لا يتوهم بعض أهل بلده اختصاصه بذلك، وربما أراها بعض من يثق به بحضرته ومسه مزيد الأذى من بعض طلبة والده وصرح فيه بما لا يليق ولم يرع حق أبيه، ولكن لم يؤثر ذلك في وجاهته.
قال البقاعي: وله حافظة عظيمة وملكة في تنميق الكلام وتأديته على الوجه المستظرف قوية، مع جودة الذهن وسرعة الجواب والقدرة على استخراج ما في ضميره، يذاكر بكثير من المبهمات وغريب الحديث. قال: وبيننا مودة وصداقة، وقد تولع بنظم الفنون حتى برع في المواليا وأنشدني من نظمه كثيرا، وساق منه شيئا. ووصفه في مواضع أخر بالأديب البارع المفنن، وقد تصدى للتحديث والإقراء وانتفع به جماعة من أهل بلده والقادمين عليها، بل وكتب مع القدماء في الاستدعاءات من حياة أبيه وهلم جرا.
وترجمه ابن فهد وغيره من أصحابنا، وكذا وصفه ابن أبي عذيبة في أبيه بالإمام العلامة وسمى بعض تصانيفه.
مات في يوم الخميس خامس عشري ذي القعدة سنة أربع وثمانين بعد أن اختلط يسيرا وحجب عن الناس ودفن عند أبيه.
قال البقاعي: إنه مرض في آخر سنة اثنتين وثمانين ثم عوفي من المرض وحصل له اختلاط
وفقد بصره، واستمر به ذلك إلى أثناء سنة أربع وثمانين، ثم عوفي منه ورجع إليه بصره ثم مات. قلت: ولم يخلف بعده هناك مثله رحمه الله وإيانا اهـ.(5/284)
قال البقاعي: إنه مرض في آخر سنة اثنتين وثمانين ثم عوفي من المرض وحصل له اختلاط
وفقد بصره، واستمر به ذلك إلى أثناء سنة أربع وثمانين، ثم عوفي منه ورجع إليه بصره ثم مات. قلت: ولم يخلف بعده هناك مثله رحمه الله وإيانا اهـ.
قال المترجم في تاريخه كنوز الذهب في الكلام على زاوية الأطعاني الكائنة في محلة المشارقة: وقد لبست خرقة التصوف في هذه الزاوية من الشيخ الصالح القدوة المسلّك عبد الرحمن ابن الشيخ الصالح أبي بكر بن داود الشامي. قدم حلب ونزل بالعشائرية.
ونزل الشيخ أبو بكر الحيشي عن مكانه وأجلسه مكانه. وكان حنبلي المذهب وأقام حلقة الذكر والأوراد التي تلقنها من أبيه بحلب. وله مؤلفات منها على كتاب حياة الحيوان وهو مفيد زاد عليه المنامات، ومنها «تحفة العباد بأدلة الأوراد» (1). أخبرني أن مولده سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. وهذه الزاوية نيرة وبها مساكن ولها منارة جددها الحاج أحمد ابن القصار اهـ.
وله ترجمة في در الحبب اقتبسها مما هنا وقال في آخرها: وأنشد له السيوطي في «نظم العقيان في أعيان الأعيان» مواليا:
عارضك والخال ذا مسكي وذا ندّي ... واللحظ والقد ذا خطّي وذا هندي
والشعر والفرق ذا وصلي وذا صدّي ... والخد والثغر ذا حرّي وذا بردي
وأنشد له:
عني تسليت وأسباب الجفا سلّيت ... متى تخليت في قلبي غصص خلّيت
قتلي استحليت قيد الهجر ما حلّيت ... والقلب حليت مرّي بالوصال حلّيت
ومما أخبرني به الشيخ المعمر محمد بن أينبك قيم جامع حلب الأموي عن جده أينبك المشهور هو به أنه رأى في منامه عمودا أخضر ممتدا إلى جهة السماء صاعدا من بيت الشيخ أبي ذر، فأتى الشيخ وقص عليه ما رأى فقال له: الوقت قريب، فما مضى قليل من الأيام إلا وتوفي إلى رحمه الله تعالى. قال: ولما أوصى ولده الشيخ أبو بكر أن يدفن في قبره كشفوا عنه فإذا كفنه بحاله. اهـ.
__________
(1) هذا الكتاب في مجلد ضخم وهو موجود في مكتبة الشيخ أحمد الصديق رحمه الله الموضوعة في مدرسته في جملة كتبه الموقوفة على هذه المدرسة.(5/285)
أقول: تكلمت على تاريخه «كنوز الذهب» في المقدمة، في الصحيفة (43) وقد أتيت على معظم ما فيه مما له علاقة بتاريخ الشهباء وأثبته في محله ولم أترك منه إلا قليلا مما قلت أهميته والحمد لله على توفيقه.
630 - عبد الكريم الخافي دفين جامع الكريمية المتوفى سنة 884
عبد الكريم بن عبد الله الخافي الحنفي صاحب الزاوية المشهورة داخل باب قنسرين بحلب.
توفي كما ذكره ابن السيد منصور فيما وجدته بخطه في جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وثمانماية ودفن بزاويته وقد نيف على المائة. وكان عتيقا لأمير أفندي البخاري ذا سياحة وولاية وكرامة، وإنما قيل له الخافي لاجتماعه بالشيخ العارف صاحب المعارف زين الدين الخافي المشهور بالخوافي أيضا عند وصوله في سياحته إلى بلاده، وإن كان قد ورد من بلاده إلى بلاد العرب ودخل مصر حتى كتب إليه الحافظ ابن حجر:
قدمت لمصر يا زين المعالي ... فوافتها الأماني والعوافي
وما سرت القوافل منذ دهر ... بمثل سرى القوادم بالخوافي
فأجابه الشيخ يقول:
أيا من فاق أهل العصر فضلا ... وعلما بالحديث بلا خلاف
تقدس سرك الصافي فأحيا ... من الآثار مندرس المطاف
سألت الله أن يبقيك حتى ... تفيض على القوادم والخوافي
ومن كرامات الشيخ عبد الكريم رضي الله عنه أنه كان إذا شكا إليه أحد من حمّى الغب أخذ من نخلة أدركتها أنا بزاويته سعفا وكتب عليها شيئا وأعطاه إياها، فإذا علقها عليه برىء بإذن الله تعالى، ثم صار يعطي من غير كتابة شيء فيحصل البرء، بإذن الله عز وجل. وقد كان عند والدي سعفة منه نستشفي ببركتها نحن ومن طلبها فيحصل الشفاء بإذن الله جل جلاله. ومما حكي عنه أنه عاد مريضا فشكا إليه من ألم في دماغه، فصاح به وقال له: ما هذا أردت بسؤالي آنفا كيف أنت، إنما سؤالي عن حالك في الصلاة مع
حلول المرض بك، لقد لسعتني حية وقتا من الأوقات فكان سمها كلما آلمني توضأت وصليت إلى أن ذهب عني ضررها بإذن الله اهـ (در الحبب).(5/286)
أيا من فاق أهل العصر فضلا ... وعلما بالحديث بلا خلاف
تقدس سرك الصافي فأحيا ... من الآثار مندرس المطاف
سألت الله أن يبقيك حتى ... تفيض على القوادم والخوافي
ومن كرامات الشيخ عبد الكريم رضي الله عنه أنه كان إذا شكا إليه أحد من حمّى الغب أخذ من نخلة أدركتها أنا بزاويته سعفا وكتب عليها شيئا وأعطاه إياها، فإذا علقها عليه برىء بإذن الله تعالى، ثم صار يعطي من غير كتابة شيء فيحصل البرء، بإذن الله عز وجل. وقد كان عند والدي سعفة منه نستشفي ببركتها نحن ومن طلبها فيحصل الشفاء بإذن الله جل جلاله. ومما حكي عنه أنه عاد مريضا فشكا إليه من ألم في دماغه، فصاح به وقال له: ما هذا أردت بسؤالي آنفا كيف أنت، إنما سؤالي عن حالك في الصلاة مع
حلول المرض بك، لقد لسعتني حية وقتا من الأوقات فكان سمها كلما آلمني توضأت وصليت إلى أن ذهب عني ضررها بإذن الله اهـ (در الحبب).
أقول: إن الزاوية التي ذكرها تعرف الآن بجامع الكريمية نسبة إلى الشيخ عبد الكريم المذكور وقبره لا زال موجودا في حجرة شرقي القبلية لها شباك مطل على الرواق الذي في الجامع في الجهة الشرقية منه ومكتوب عليه:
(1) أنشأ هذا المكان المبارك بعون الله وحسن توفيقه العبد الفقير إلى الله تعالى الراجي عفو ربه
(2) فضله العميم السالك المنهج القويم ابن والخير الشيخ عبد الكريم بن عبد العزيز ابن عبد الله.
(3) الحنفي مذهبا الخوافي مقتدا متعنا الله ببركته ونفعنا والمسلمين بصالح أدعيته وذلك في سنة خمس وخمسين وثمانماية اهـ.
وهذا الجامع يعرف قديما بمسجد المحصّب، وقد تكلم أبو ذر في تاريخه عليه فقال:
الكلام على مسجد المحصّب المعروف الآن بجامع الكريمية:
تقدم بعض الكلام عليه ونستوفي هنا فنقول: لما نزل الشيخ عبد الكريم الصوفي فيه بعد نزوله بالرواحية عند الشيخ عبد الرزاق الشرواني الشافعي، وستأتي ترجمته، اجتمع عليه الناس وكثر أتباعه وتلامذته ومعتقدوه أخذ في توسعة هذا الجامع فنقض الحوانيت التي كانت إلى جانبه من جهة الغرب وتوصل إلى ذلك بطريق شرعي وجد في عمارته ووسعه من شرقيته أيضا وأقام فيه الجمعة وصار يخطب فيه على الكرسي إلى أن جدد له جانبك كافل حلب منبرا وجدد له الشيخ بابا ثانيا قبلي بابه القديم وشبابيك من جهة الغرب وبيت خلاء داخله ورتب له خطيبا وإماما ومؤذنين وقارئا للحديث ولإحياء علوم الدين والمصابيح وغير ذلك. وهذا المسجد من جملة ما كتب على بابه: بتولي عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن العجمي الشافعي في سنة أربع وخمسين وستماية، وعلى منارته: جدد هذه المأذنة القاضي بهاء الدين علي بن محمد بن أبي سوادة موقع الدست بحلب وناظر المكان في سنة إحدى وسبعين وسبعماية انتهى.(5/287)
أقول: إن بابه القديم لا زال موجودا وقد ذكرنا في ترجمة الشيخ عبد الرحيم العجمي المتوفى سنة 670ما هو مكتوب عليه، إلا أن هذا الباب مغلق الآن لا يفتح إلا في بعض الأحيان والناس يدخلون من بابه الجديد. وكان جدار القبلية مما يلي صحن الجامع متوهنا فاهتم في تجديده المرحوم جميل باشا وذلك سنة 1302ورمم القبلية وبلط صحن الجامع ووسع الحوض إلى غير ذلك من الإصلاحات فعاد إلى الجامع رونقه، وكذلك رمم الدكاكين التي في طرفه الغربي وهي من وقفه.
الكلام على القدم التي في هذا الجامع:
في الجدار القبلي من هذا الجامع قطعة من الحجر الأصفر فيها أثر قدم، والمشهور بين الناس أن هذه القدم هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم أثرت في هذا الحجر، ويزعمون أن الشيخ عبد الكريم المذكور كان رأى في منامه أن سيمر غدا من أمام الجامع رجل أعجمي أشقر اللون وهو قادم من بلاد الحجاز ومعه جمل، وأن على هذا الجمل خرجا فيه حجر وفي هذا الحجر أثر قدمه صلى الله عليه وسلم، فاقبض على العجمي وخذ منه هذا الحجر.
ويزعمون أنه بعد ما استيقظ عاد إلى النوم مرة ثانية فرأى تلك الرؤيا، ثم استيقظ وعاد إلى النوم فرأى ذلك، فعندها تحقق لديه صحة هذا الأمر، فلما أصبح الصباح قعد أمام الجامع فمر به الرجل ومعه الجمل، ففعل ما أمر به وأخذ الحجر منه ووضعه في الجدار القبلي.
والناس إلى زمننا هذا يتبركون بهذا الحجر ويتمسحون به بعد أن يضعوا يدهم عليه يمسحون أعينهم ووجوههم. ومن تكون قليلة الحليب تأتي يوم الجمعة قبل الصلاة ومعها إناء ماء فيصب الخادم هذا الماء على الحجر ويتناوله بإناء آخر ثم يفرغه في الإناء الذي مع المرأة، فتذهب المرأة وتشرب منه على نية أن يكثر لبنها.
والذي يترجح عندنا أن تلك الحكاية مختلقة لا أصل لها، وبعيد أن تكون هذه القدم قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم وذلك لعدة أمور:
أولا: إنك إذا تأملت هذه الحجرة تجدها من الحجر الأصفر المسمى بالهرقلي الذي كان يستحضر إلى حلب من مسافة ثلاث ساعات وقد ترك لبعد مسافته وكلفته، وفي البيوت القديمة في حلب والجوامع والمدارس تجد منه كثيرا.(5/288)
ثانيا: لو كان ذلك صحيحا لذكره العلامة الحنبلي في ترجمة الشيخ عبد الكريم المذكور، ويستبعد العقل أن يذكر بعض كرامات الشيخ وأحواله التي تقدمت ويغفل عن ذكر هذا الأثر العظيم، ومن يذكر في تاريخه في ترجمة عمر بن أبي اللطف الحصكفي القدسي حكاية قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم حينما مر بحلب ومعه قطعة وزنها 11قيراطا منه آخذا لها إلى دار الخلافة إلى السلطان سليمان لا يمكن أن يغفل عن ذكر هذه القدم وحكايتها.
ثالثا: لو كان صح ذلك لما أبقاه في هذا المكان سلاطين آل عثمان بل كانوا يأمرون بنقله إلى إستانبول ووضعه في متاحفها كما فعلوا في أثر القدم الذي وجد في قلعة بصرى من أعمال الشام كما ذكر ذلك جودت باشا في تاريخه [الجزء الثالث في صحيفة 92] قال ما معناه:
كان وجد في قلعة بصرى المعروفة بالشام القديمة في بلاد حوران أثر قدم الحضرة النبوية وذلك أثناء ولاية الوزير محمد باشا العظم، فاقتلعه من مكانه ووضعه في دار أسعد باشا [في الشام]، ثم إن درويش باشا استأذن من الآستانة في وضع هذا الحجر في مرقد نبي الله يحيى عليه السلام في الجامع الأموي، فاستحسن سلطان ذلك الوقت أن مثل هذه الآثار السنية المباركة ينبغي أن تكون في دار الخلافة للتبرك بها ولتكون وسيلة لليمن والسعادة، فأصدر أمره العالي لوالي الشام بإرسال ذلك الأثر إلى دار السعادة، وحينما وصل إليها خامس رجب من هذه السنة [سنة 1198] احتفل به احتفالا عظيما ووضع في تربة السلطان عبد الحميد الأول التي بجوار سراي [بقجة قبو].
ثم قال: المروي والمشهور لدى أهالي تلك الجهات أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفره لقصد التجارة إلى بلاد الشام وذلك قبل البعثة نزل في المكان الذي فيه ذلك الحجر، وهو أول حجر وضع عليه رجله الشريف حينما نزل، فأثر فيه قدمه الشريف. ثم قال جودت باشا: إنني استحصالا لكيفية تأثير قدمه الشريف في الحجر تتبعت كتب المغازي والسير والسيرة الحلبية وكتب الحديث والأثر فلم أجد ذكرا لهذه القصة إلا ما ذكره الإمام السبكي في قصيدته التائية من قوله:
وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ... يؤثر في رمل ببطحاء مكة
وما ذكره الإمام السيوطي في كتابه الخصائص الصغرى من قوله [ولا وطىء على
حجر إلا وقد أثر فيه]. وإني وإن لم أجد رواية صحيحة في هذا الحادثة فإن جلب هذا الأثر المبارك إلى الآستانة والتبرك به هو بلا شبهة يستوجب اليمن والخير اهـ.(5/289)
وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ... يؤثر في رمل ببطحاء مكة
وما ذكره الإمام السيوطي في كتابه الخصائص الصغرى من قوله [ولا وطىء على
حجر إلا وقد أثر فيه]. وإني وإن لم أجد رواية صحيحة في هذا الحادثة فإن جلب هذا الأثر المبارك إلى الآستانة والتبرك به هو بلا شبهة يستوجب اليمن والخير اهـ.
رابعا: لو كان لهذه القصة أصل لذكرها أبو ذر المترجم قبل هذا وأبو الفضل ابن الشحنة الآتي قريبا في تاريخيهما، وكل منهما قد عقد بابا مستقلا للآثار والمزارات والطلسمات التي في حلب ومضافاتها، وهما كما رأيت من معاصري الشيخ عبد الكريم الخوافي، فيستبعد كل البعد ألا يذكرا هذه القصة وهذا القدم على أهميتها، فلا ريب أن القصة مختلقة والقدم صناعية، ولم أعثر على تاريخ وضعها في هذا الجدار.
631 - عثمان بن أحمد بن أغلبك المتوفى سنة 885
عثمان بن أحمد بن أحمد بن أغلبك المقر العالي الأميري الفخري ابن الجناب الأميري الشهابي المشهور بابن أغلبك الحلبي الحنفي.
كان من علماء الأمراء وأمراء العلماء، اشتغل بالقاهرة على الزين قاسم بن قطلوبغا الحنفي وأجاز له رواية شرحه على فرايض المجمع ورواية شرح النخبة لشيخه الحافظ ابن حجر وجميع ما يجوز روايته بشرطه، ولو لم يكن له من الشيوخ إلا هذا لكفى، وصار داودار السلطان بحلب وكان بيده على الدوادارية إقطاع مائة فارس. وولي كفالة قلعة المسلمين المعروفة الآن بقلعة الروم، ودخل متوليا كفالتها في رمضان سنة أربع وثمانين وثمانمائة، وتلقاه القضاة والأمراء ووكيل السلطان بحلب الخواجا محمد ابن الصوا، ولكن لم يخلع عليه أزدمر الأشرفي كافل حلب فيما وجدته بخط ابن السيد منصور الحنبلي.
وأنشأ بحلب جامعه المشهور وقرر البدر الحسن السيوفي في عدة وظايف فيه، وحماّمين صغرى هي بجوار داره وجامعه وكبرى وهي بالقرب من ساحة ألطنبغا. ووقف وقفا طويل الذيل بحلب ونواحيها على نفسه مدة حياته على من هو مذكور في كتاب وقفه ثم على ذريته على مقتضى شرطه فيه. ثم توفي سنة خمس وثمانين ودفن بتربته خارج باب المقام بحلب اهـ. (در الحبب).
وترجمه السخاوي في ضوئه فقال: هو عثمان بن أحمد بن سليمان [هناك سمى جده أحمد] ابن أغلبك فخر الدين أحد أعيان أمراء حلب المتفقهة، نشأ بها وولي حجوبيتها
الثانية، ثم ترقى لنيابة قلعة المسلمين المعروفة بقلعة الروم مرة بعد مرة، وولي بينهما دوادارية السلطان بحلب وقبلها بعد وفاة النور المعري كتابة سرها ونظر جيشها. وقدم القاهرة فاستعفى عنهما. وأثكل وهو بها ولدا نجيبا اسمه أحمد في طاعون سنة إحدى وثمانين ابن عشرين سنة وترك له طفلا ولد في غيبته عن حلب هو الآن حي، واستقر في الدوادارية المشار إليها، ثم عاد إلى نيابة القلعة المذكورة ومات بها في سنة خمس وثمانين وقد جاوز الخمسين ونقل منها إلى تربته التي أنشأها خارج باب المقام من حلب فدفن بها، وأسند وصيته للأتابك.(5/290)
وترجمه السخاوي في ضوئه فقال: هو عثمان بن أحمد بن سليمان [هناك سمى جده أحمد] ابن أغلبك فخر الدين أحد أعيان أمراء حلب المتفقهة، نشأ بها وولي حجوبيتها
الثانية، ثم ترقى لنيابة قلعة المسلمين المعروفة بقلعة الروم مرة بعد مرة، وولي بينهما دوادارية السلطان بحلب وقبلها بعد وفاة النور المعري كتابة سرها ونظر جيشها. وقدم القاهرة فاستعفى عنهما. وأثكل وهو بها ولدا نجيبا اسمه أحمد في طاعون سنة إحدى وثمانين ابن عشرين سنة وترك له طفلا ولد في غيبته عن حلب هو الآن حي، واستقر في الدوادارية المشار إليها، ثم عاد إلى نيابة القلعة المذكورة ومات بها في سنة خمس وثمانين وقد جاوز الخمسين ونقل منها إلى تربته التي أنشأها خارج باب المقام من حلب فدفن بها، وأسند وصيته للأتابك.
وكان يذكر بنظم ونثر وكتابة فائقة ومذاكرة بوقايع وتاريخ ونحو ذلك مع أوصاف ذميمة سيئة عفا الله عنه اهـ.
الكلام على 49571 تربة أغلبك:
من الآثار القديمة الهامة تربة أغلبك خارج باب المقام بالقرب من التربة المهمازية المعروفة الآن بجامع المقامات، ولم يبق منها سوى القبة، وحولها من أطرافها دور حقيرة، والجدار الغربي من هذه القبة حسن البناء وحجارته في منتهى الزخرفة أبدع فيه صانعه ما شاء أن يبدع وتخاله حجرا واحدا، وقد مضت عليه هذه القرون ومحاسنه لا تزال ظاهرة تستلفت الأنظار، وهو معرب بلسان الحال عما وصل إليه فن البناء من الرقي في ذلك العصر، ومع هذا فقد داخل بعض أحجاره التشعث. وفي هذا الجدار شباكان كتب عليهما:
(1) البسملة أنشأ هذه التربة المباركة المقر الفخري
(2) عثمان بن أغلبك الحنفي أعانه الله ونصر به ووقفها
(3) مدفنا له ولذريته وأقاربه وأرواحهم وعتقائهم
(4) وذريتهم وكان الفراغ سنة إحدى وثمانين وثمانمائة اهـ.
وتقدم أنه دفن في هذه التربة لكن لا أثر لقبره ثمة.
أقول: تقدم في حوادث سنة 878نقلا عن ابن إياس أن نائب حلب قبض عليه مع جماعة آخرين لنسبتهم للمواطأة مع حسن الطويل ملك العراق وأمر بشنقهم، ويظهر أن ذلك لم يتم وتخلص المترجم وبقي حيا وتولى بعض المناصب إلى أن توفي في التاريخ المتقدم.(5/291)
الكلام على جامعه المعروف بجامع باب الأحمر:
قال أبو ذر: هذا الجامع برأس البياضة أنشأه في أيامنا الأمير فخر الدين عثمان ابن شيخنا الأمير شهاب الدين ابن أغلبك وجعله جامعا تقام فيه الجمعة ومدرسة للحنفية، وجعل فيه محدثا ومدرسا حنفيا ورتب له إماما وخطيبا ومؤذنين وقراء سبع وغير ذلك، وجعل له منارة قصيرة، ووقف عليه شيئا من أملاكه، وشرط أن يكون المحدث والخطيب العلامة الشيخ شمس الدين ابن السلامي الشافعي، وأن يكون المدرس العلامة الشيخ شمس الدين ابن أمير حاج الحنفي. ومنبر هذا الجامع من المنجور فيه صنعة مليحة وتركيب حسن اهـ.
أقول: المحلة التي فيها هذا الجامع تعرف في دفاتر الحكومة بمحلة أغلبك وعند الناس بمحلة باب الأحمر، وللجامع قبلية صغيرة حسنة البناء. وفي سنة 1316اهتم بأمر هذا الجامع الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب فسعى بترميمه من ريع وقفه الذي هو تحت يد دائرة الأوقاف، فرمم القبلية وبلط أرضها وصحن الجامع وعمر في شرقيه قبلية ثانية صغيرة جعل فيها قصطلا صغيرا يتوضأ منه المصلون، وجعل بين القبليتين مدخلا ونقش في جدار هذه القبلية أبياتا من نظم محمود أفندي الحكيم (1) رئيس محكمة استئناف الحقوق الآن وهي:
أخلص لربك يا مصلي نية ... والجأ إليه وعن سواه تجرد
واذكر وقوفك في حظيرة قدسه ... واخشع له سبحانه وتهجد
وإليك إن رمت الصلاة مؤرخا ... قبلية عملت بسعي محمد 1316
عمرت بسعي الفقير محمد العبيسي الرفاعي سنة 1316.
وعمر أيضا درجين في الجهة الشمالية من صحن المسجد واحد يصعد منه إلى سطح القبلية الشرقية وآخر إلى حجرة بنيت بجانب مدخل الجامع. ومنذ عشر سنوات وقف حسن دبابو من أهالي هذه المحلة دكانا في سوق الذراع على هذا الجامع، ووقف عليه أيضا السيد عبد الرحمن الموقت من أهل هذه المحلة ربعة وعين مدرسا ووقف لذلك وقفا، إلا أنه لقلة ريع هذا الوقف لا يصرف منه إلا لقراء الربعة وعددهم خمسة عشر قارئا وهم يقرؤون في صباح كل يوم جزءا.
__________
(1) نبّه المؤلف في حاشية ترجمة الشيخ محمد العبيسي الحموي في الجزء السابع إلى أنه لدى التحقيق تبين أن الأبيات المذكورة هنا هي للسيد مسعود أفندي الكواكبي.(5/292)
ومنارة الجامع صغيرة لها قبة، وبابه لم يزل باقيا من عهد الواقف وعلى قنطرته حجرة مكتوبة من ذلك الحين محي الكثير مما كتب عليها، لكن اسم الواقف وهو [عثمان بن أغلبك الحنفي] لم يزل باديا للعيان.
632 - محمد بن حسن الباعوري المتوفى سنة 885
محمد بن حسن بن شعبان بن أبي بكر الباعوري، قرية من أعمال الموصل، ثم الحصني نزيل حلب، ويعرف بابن الصوّة بمهملة مفتوحة ثم واو ثقيلة.
أقام بالحصن وخدم ملكها العادل خلفا الأيوبي، ثم قدم القاهرة وحج منها مع الشمس ابن الزمر (1)، وصحب الأشرف قايتباي قبل السلطنة، فلما تسلطن تكلم عنه في كثير من الأمور السلطانية بحلب، وترقى إلى أن صارت أمور المملكة الحلبية بل وكثير من غيرها معذوقا به مع عاميته، فلما كان الدوادار الكبير هناك وعزم على المسير إلى البلاد الشرقية أشار عليه بالترك لما رأى المصلحة فيه وكاتب السلطان من علمه بذلك، فراسله بالتوقف فيما قيل، فحقد عليه حينئذ ودبر له أن جعل له استيفاء ما فرضه على الدور الحلبية مما قيل إنه المحسن فعله له، وكان ذلك سببا لإثارة الفتنة واجتماع الجم الغفير والغوغاء في باكر عشري رجب سنة خمس وثمانين عند داره ورجمها مع كونه ليس بها يومئذ. وبلغ ذلك النائب فركب هو وغيره لردهم، ثم لم يلبث أن ركب هو بعد عصر اليوم المشار إليه من الميدان إلى تحت القلعة فخرجوا عليه ففر منهم فلحقوه فأدركوه بالكلّاسة فقتلوه وحملوه لتحت القلعة فحرقوه. ويقال إنه كان شهما بطلا شجاعا مقداما ذا مروءة وعصبية وإنه جاوز السبعين، وتألم السلطان لقتله، وبالجملة فغير مأسوف عليه اهـ.
633 - يوسف بن أحمد الشغري المتوفى سنة 885
يوسف بن أحمد بن داود العيني نسبة لعين البندق من أعمال الشغر ثم الشغري الشافعي نزيل حلب، ويقال له الشغري لكونه نشأ بها، وإلا فمولده بالعين، وهو غير الشهاب الشغري نزيل حلب أيضا، وصاحب الترجمة أفضلهما.
__________
(1) في «الضوء اللامع»: ابن الزمن.(5/293)
ورأيت له نظم تصريف العزي مع شرحه وشرح النظم، وكذا نظم المنهاج الأصلي وقطعة من المنهاج الفرعي وشرح البهجة في ثمان مجلدات، وكان خيرا. مات في سنة خمس وثمانين فيما بلغني رحمه الله اهـ.
634 - محمد بن إسماعيل الأثروني المتوفى سنة 886
محمد بن إسماعيل الشمس الأثروني ثم الحلبي الشافعي.
ولد بقرية الأثرون من عمل الشغر، وارتحل لحلب فنزل بها عند الشرف أبي بكر الحيشي بدار القرآن العشائرية ولازمه، وأخذ الفقه وأصوله عن عبد الملك البابي ثم عن محمد الغزولي. وأجاز له شيخنا وغيره. وناب عن القاضي ابن الخازوق الحنبلي في الإمامة بمقصورة الحنابلة من الجامع الكبير بحلب، ثم استقل بها مع قراءة الحديث بالجامع وملازمة الإقراء بالدار المشار إليها للمنهاجين والكافية إلى سنة أربع وستين فتأهل بابنة الشهاب الأنطاكي عين عدول حلب، وانتقل حينئذ عنها واستقر إماما عند الشيخ الصالح عبد الكريم بمدرسته إلى أن مات في أوائل سنة ست وثمانين. وكان كثير التلاوة والعبادة كارها للغيبة لا يمكن جليسه منها رحمه الله اهـ.
635 - أبو بكر الحسفاوي المتوفى سنة 887
أبو بكر بن يوسف بن خالد بن أيوب بن محمد الشرف ابن قاضي القضاة الجمال الربعي الحسفاوي الحلبي الشافعي عم العز أبي البقا محمد بن إبراهيم بن يوسف قاضي القضاة.
ولد بعد سنة عشر وثمانمائة، وسمع البرهان الحلبي وشيخنا والشهاب ابن زين الدين وغيرهم، واشتغل قليلا، وناب في القضاء عن الشهاب الزهري، واستقل بسرمين نحوا من ثلاثين سنة، فلما أعيد ابن أخيه العز لقضاء حلب أرسل إليه من القاهرة يستخلفه.
ومات في سنة سبع وثمانين عفا الله عنه.
636 - أحمد بن أبي بكر البابي المتوفى سنة 887
أحمد بن أبي بكر بن علي بن سراج شهاب الدين البابي الأصل الحلبي الشافعي.(5/294)
تفقه بعبيد بن أبي المنى، وتخرج في الكتابة بابن المجروح، وناب عن ابن خطيب الناصرية فمن بعده بالباب إلى أن انفصل عنه، وحينئذ أنشد:
عاد يتمونا بلا ذنب ولا سبب ... وقد غدرتم كما الحيات تنساب
لأرحلن إلى أرض أعيش بها ... لا الناس أنتم ولا الدنيا هي الباب
وتكسب بالشهادة، بل وقع للسيد تاج عبد الوهاب حين قضائه بحلب، وتردد للقاهرة غير مرة وأخذ عن شيخنا فيما قيل، وكتب عن بعض الطلبة من نظمه وغيره، ونظمه في الهجاء أكثر. مات في عيد الأضحى سنة سبع وثمانين بحلب وقد جاوز الستين اهـ.
637 - أحمد بن القاضي أبي جعفر المتوفى سنة 887وأخته عائشة
أحمد ابن القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد بن عمر بن الضياء محمد بن عثمان الشهاب القرشي الأموي الحلبي الشافعي أخو علي الآتي، ويعرف كسلفه بابن العجمي وهو بابن أبي جعفر.
ولد بعيد الأربعين وثمانماية، وقرأ القرآن والمنهاج وغيره وعرض واشتغل يسيرا، وسمع معي اليسير ببلده على أخته عائشة وغيرها، وصاهر أبا ذر ابن البرهان الحلبي على ابنته عائشة، وما سلك الطريق المرضي بحيث أملق جدا. ومات بالإسكندرية بعد أن عمل حارسا ببعض حمّاماتها في أواخر سنة سبع وثمانين أو أوائل التي بعدها اهـ.
وذكر في الضوء أخته عائشة مع النساء، لكنه لم يذكر تاريخ وفاتها، فلذا نحن نذكرها هنا مع أخيها، ويغلب على الظن أنها ماتت في عقد السبعين. قال:
638 - عائشة ابنة القاضي أبي جعفر
عائشة بنة الشهاب أبي جعفر محمد بن أحمد بن عمر بن الضياء محمد بن عثمان، أم عمر القرشي الأموي الحلبي الشافعي ابنة ابن العجمي الماضي أبوها وزوجها العز عبد العزيز ابن العديم وولدهما.(5/295)
ولدت في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثمانماية، وأجاز لها عائشة بنة محمد بن عبد الهادي والشهاب ابن حجر، وحدثت، سمع منها الطلبة. قرأت عليها بحلب. وهي من بيت رياسة وفخر بها، ماتت في [بياض]. اهـ.
639 - محمد بن أحمد البابي المتوفى سنة 887
محمد بن أحمد بن حسن بن علي الشمس البابي ثم الحلبي الشافعي.
ولد بالباب، ثم قدم حلب في سنة ست وثلاثين فنزل الحلاوية النورية وسمع فيما قال على البرهان الحلبي، ثم أخذ عن ولده أبي ذر والفقه عن يوسف الكردي والقراءات عن عبيد بن أبي المنى والتقي أبي بكر البابلي ابن الحيشي، وبمكة حين جاور فيها سنة اثنتين وأربعين عن الزين ابن عياش وسمع عليه الحديث. وتزوج في سنة ثلاث وأربعين ابنة الشمس محمد الحيشي وسكن عنده ولازمه. وأجاز له شيخنا وكتب بخطه أشياء كالصحيحين والدميري لنفسه ولغيره. وناب عن العز النحريري المالكي في الإمامة بمقصورة الحجازية من جامع حلب، ثم عن بني الشحنة بمحرابه الكبير. مات بحلب في مستهل رجب سنة سبع وثمانين بعد تمرضه بفالج قليلا ودفن بالناعورة بزاوية الأطعاني وصلينا عليه بمكة صلاة الغائب. وكان كثير العبادة والتلاوة يقرأ في كل يوم غالبا ختما رحمه الله اهـ.
640 - عبد الله ابن الحافظ البرهان المحدث المتوفى سنة 889
عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن خليل الجمال أبو حامد وأبو غانم ابن الحافظ البرهان أبي الوفا الحلبي أخو أنس وأبي ذر الماضيين. سمع على أبيه وشيخنا وآخرين، ومما سمعه على أبيه جزء الجعفي، ثم سمع معنا بحلب في سنة تسع وخمسين على ابن مقبل وعبد الواحد ابن صدقة وحليمة بنة الشهاب الحسيني وشيخ الشيوخ التقي العلاء القاسمي ومحمد بن أبي بكر شيخ قرية جبرين في آخرين. وقدم القاهرة بعد سنة إحدى وستين فسمع على العلم البلقيني جزء الجمعة وعلى المحلي والتقي النسابة في آخرين، وكذا سمع بالشام وغيرها، وحدث سمع منه بعض الطلبة وجلس شاهدا. ومسه بعض مكروه افتياتا من بعض طلبة أبيه. وكان متميزا في الرمي وصنف فيه، وله اعتناء بطريق الفقراء بحيث استقر في مشيخة
الشيوخ بعد محمد بيرق الرفاعي مع دين وعدم عينه (لعله غيبة). مات في أواخر سنة تسع وثمانين وخلف أولادا اهـ.(5/296)
عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن خليل الجمال أبو حامد وأبو غانم ابن الحافظ البرهان أبي الوفا الحلبي أخو أنس وأبي ذر الماضيين. سمع على أبيه وشيخنا وآخرين، ومما سمعه على أبيه جزء الجعفي، ثم سمع معنا بحلب في سنة تسع وخمسين على ابن مقبل وعبد الواحد ابن صدقة وحليمة بنة الشهاب الحسيني وشيخ الشيوخ التقي العلاء القاسمي ومحمد بن أبي بكر شيخ قرية جبرين في آخرين. وقدم القاهرة بعد سنة إحدى وستين فسمع على العلم البلقيني جزء الجمعة وعلى المحلي والتقي النسابة في آخرين، وكذا سمع بالشام وغيرها، وحدث سمع منه بعض الطلبة وجلس شاهدا. ومسه بعض مكروه افتياتا من بعض طلبة أبيه. وكان متميزا في الرمي وصنف فيه، وله اعتناء بطريق الفقراء بحيث استقر في مشيخة
الشيوخ بعد محمد بيرق الرفاعي مع دين وعدم عينه (لعله غيبة). مات في أواخر سنة تسع وثمانين وخلف أولادا اهـ.
641 - أبو بكر الباحسيتي المتوفى سنة 890
أبو بكر بن أحمد بن إبراهيم التقي ابن الشهاب أبي العباس ابن البرهان الباحسيتي، وباحسيتا حارة منها بحذاء باب الفرج، المصري الأصل البسطامي الشافعي ويعرف هناك بابن المصري.
ولد في أول سنة إحدى عشرة وثمانماية أو آخر التي قبلها بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن على عبيد البابي وبه تفقه، وكذا اشتغل على الزين عبد الرزاق العجمي وجنيد الكردي، ولازم البرهان الحلبي حتى سمع منه الكثير من المطولات كالصحيحين وغيرهما، بل قرأ عليه ألفية الحديث وغيرها، وأخذ طريق القوم عن أبي بكر الحيشي البسطامي وفضل أحد المنسوبين لسيدي عبد القادر، بل ارتحل فسمع على الشهاب ابن الرسام بحماة، وقرأ على ابن ناصر الدين بدمشق صحيح البخاري في سنة إحدى وأربعين، وعلى شيخنا بالقاهرة قطعة كبيرة من أول صحيح مسلم ووصفه بالشيخ الفاضل البارع المفنن والذي قبله بالشيخ العالم الفاضل المقري المجود المحدث البارع الخطيب، وسمع أيضا من الجمال أحمد بن الفخر أحمد بن عبد العزيز الهمامي.
وقدم بعد دهر القاهرة فلازم الحضور عندي في الإملاء وسمع دروسا كثيرة من شرح ألفية العراقي، بل قرأ مشيخة ابن شاذان عليّ ثم على الشهاب الشاوي، وأخذ عن الزكي المناوي المسلسل وبعض سنن أبي داود، واستجاز عليا حفيد يوسف العجمي وغيره.
ثم قدم مرة أخرى فكتب القول البديع من تصانيفي وما عملته في ختم البخاري وسمعهما من لفظي ولازمني حتى سافر في أوائل سنة اثنتين وثمانين، وحج مرارا وزار بيت المقدس والخليل وأقام بها يسيرا ودخل الروم وغيرها، وتكلم على الناس فأجاد وخطب ووعظ.
وهو خير نير فاضل مستحضر لأشياء جيدة من متون ومهمات وغير ذلك مع أنسه بالعربية. وآخر ما لقيته في سنة خمس وثمانين أو التي بعدها بمكة، ثم بلغتني وفاته في سنة تسعين أو التي تليها على ما يحرر وخلف ولدا سيىء السيرة اهـ.(5/297)
642 - قاضي القضاة أبو الفضل محمد بن محمد ابن الشحنة المتوفى سنة 890
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشهاب غازي بن أيوب بن حسام الدين محمود شحنة حلب ابن الختلو بن عبد الله المحب أبو الفضل ابن المحب أبي الوليد ابن الكمال أبي الفضل ابن الشمس أبي عبد الله الثقفي الحلبي الحنفي، ويعرف كسلفه بابن الشحنة.
ولد كما حققته في رجب سنة أربع وثمانماية، وأمه واسمها ميّ من ذرية موسى الذي كان حاجب حلب وبنى بها مدرسة، ثم ولي نيابة البيرة وقلعة الروم، ومات بالبيرة في سنة خمسين وسبعماية.
وكان مولد المحب بحلب ونشأ بها، فقرأ القرآن عند الشمس الغزي، وسافر مع والده إلى مصر قبل استكماله عشر سنين فقرأ في اجتيازه بدمشق عند البابي، وفي القاهرة عند البرديني وكتب على ابن التاج وعبد الله الشريفي يسيرا، ثم عاد إلى حلب فأكمل بها القرآن عند العلاء الكلزي، وحفظ في أصول الدين «عمدة النسفي» وغيرها، وفي «القراءات الطيبة» لابن الجزري، وفي علوم الحديث والسيرة «ألفيتي العراقي»، وفي الفقه «المختار» ثم «الوقاية»، وفي الفرائض «الياسمينية» (1)، وفي أصول الفقه المنار، وفي النحو «الملحة والألفية والشذور» وبعض «توضيح ابن هشام» و «ألفية ابن معطي»، وفي المنطق «تجريد الشمسية»، وفي المعاني والبيان «التلخيص» إلى غيرها من مناظم أبيه وغيرها حسبما قاله لي بزيادات وأنه كان آية في سرعة الحفظ بحيث إنه حفظ ألفية الحديث في عشرة أيام، ورام فعل ذلك في ألفية النحو فقرأ نصفها في نصف المدة وما تيسر له في النصف الثاني ذلك، وعرض بعض محافيظه على عمه أبي اليسر والعز الحاضري والبدر ابن سلامة وكتب له فيما قاله لي:
سمح الزمان بمثله فاعجب له ... إن الزمان بمثله لشحيح
فالأصل ذاك والخلال حميدة ... والذهن صاف واللسان فصيح
__________
(1) أشارت حاشية طبعة «الضوء اللامع» إلى أن الياسمينية في علم الجبر والمقابلة لا الفرائض كما جاء في حاشية الأصل.(5/298)
وأخذ عن الآخيرين في الفقه وعظم انتفاعه بثانيهما، وقرأ عليه في أصلي الديانة والفقه وفي المنطق تجريد الشمسية، كما أخذه عن مؤلفه أحمد الجندي واشتدت عنايته بملازمته، وعنهما أخذ العربية وكذا عن عمه وآخرين كالشهاب ابن هلال قرأ عليه الحاجبية. قال:
وكان يتوقد ذكاء غير أنه كان ممتحنا بابن عربي، وكذا ما مات حتى اختل عقله. ولازم البرهان حافظ بلده في فنون الحديث وحمل عليه أشياء بقراءته وقراءة غيره وتخرج به قليلا وضبط عنه فوائد وقال: إنه كان يصرفه عن الاشتغال بالمنطق ويقول: كان جدك الكمال يلوم ولده والدك على توسعه فيه. وصاهر العلاء ابن خطيب الناصرية فانتفع به وكتب عنه أشياء، وكذا أخذ القليل عن شيخنا حين قدومه عليهم في سفرة آمد بعد أن كان راسله سنة ثمان وعشرين يستدعي منه الإجازة قائلا في استدعائه:
وإن عاقت الأيام عن لثم تربكم ... وضنّ زماني أن أفوز بطائل
كتبت إليكم مستجيزا لعلني ... أبلّ اشتياقي منكم بالرسائل
وفي هذه السنة أجاز له من بعلبك البرهان ابن المرحل، ومن القاهرة الشهاب الواسطي والشهاب المعروف بالشهاب التائب. وسمع ببلده من الشهابين أبي جعفر ابن العجمي وابن السفاح وأبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الشاهد وست العرب ابنة إبراهيم بن محمد بن أبي جرداة، وأخذ بحماة حين توجه لملاقاة عمه إذ حج عن النور محمود ابن خطيب الدهشة. وأول ما دخل القاهرة مستقلا بنفسه في سنة أربع وثلاثين، ولقي بدمشق حينئذ العلاء بن سلام والشهاب بن الحبال وتذاكرا معه وسأله عن المراد في وصف الرجل بالذكر في قوله صلى الله عليه وسلم (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) فأجاب بأنه ورد في بعض الأحاديث لفظ الرجل والمراد به الأنثى فالتأكيد لدفع التوهم فلينظر، والعلاء البخاري وسمع مذاكرته مع ابن خطيب الناصرية. وبالقاهرة التقى المقريزي بل قال إنه جاءه صحبة شيخنا للسلام عليه وإنه اتفقت نادرة بديعة الاتفاق وهي أن المحب سأل من شيخنا عن رفيقه لكونه لم يكن يعرف شخصه، فأعلمه بأنه المقريزي وأظهر التعجب من ذلك لكونه فيما سلف عند إشاعة مجيء والده التمس من المقريزي لعدم سبق معرفته به استصحابه معه للسلام ففعل، وجاءه ليتوجها فلم يجده فانتظره حتى جاء، ثم توجها فسأله الوالد عني، واتفق الآن مثل ذلك فإني توجهت للتقي فقيل لي إنه بالحمّام، فانتظرته ثم جئنا فسلمنا فسألتم مني عنه فتقارضنا والله أعلم.(5/299)
ولم يستكثر من لقاء الشيوخ بل ولا من المسموع واكتفى بشيخه البرهان مع ما قدمته، نعم هو مثبت في استدعاء النجم ابن فهد الذي أجاز فيه خلقا من أماكن شتى، وكذا لم يتيسر له الاشتغال بالعروض مع أنه إذا سئل النظم من أي بحر منه يفعل حسبما قاله وأن عمه العلاء سأله وهو ابن اثنتي عشرة سنة أو نحوها: أتحسن الوزن؟ فقال له: نعم، فقال: فعارض لي قول الشاعر:
أمط اللثام عن العذار السابل ... ليقوم عذري فيك بين عواذلي
فقال بديهة:
اكشف لثامك عن عذارك قاتلي ... لتموت غما إن رأتك عواذلي
قال: فاستحسن العم ذلك.
وسمع من لفظ الزين قاسم جامع مسانيد أبي حنيفة للخوارزمي، وكان يستمد منه ومن البدر ابن عبيد الله حين كان ولده الصغير يقرأ على كل منهما بحضرته، كما أنه كان يستمد من كاتبه بالمشافهة والمراسلة ونحوها حين كان يتردد إليه، بل ربما سمع بعض تصانيفه بقراءة ابنه أو سبطه عليه بحضرته.
وأول ما ولي من الوظائف اشتراكه مع أخيه عبد اللطيف في تدريس الأشقتمرية والجردكية والحلاوية والشاذبختية برغبة أبيهما لهما عنها قبل موته، ثم استقل في سنة عشرين بالأولى وعمل فيها أجملا سادسة له [هكذا] شيخه (1) البدر بن سلامة، وأنشد البدر حينئذ مشافها له:
أقسمت إن جدّ وطال المدى ... روى الورى من بحره الزاخر
فقل لمن بالسبق قد فضّلوا ... كم ترك الأول للآخر
وقضاء العسكر ببلده برغبة التاج ابن الحافظ وإمضاء المؤيد إذ حل ركابه بحلب فيها، ثم بتدريس الشاذبختية بعد ولد قاضي حلب يوسف الكوفي، ثم قضاء الحنفية ببلده في سنة ست وثلاثين ولاه إياه الأشرف إذ حل ركابه فيها، وكانت الوظيفة كما قال شيخنا
__________
(1) في «الضوء اللامع»: وعمل فيها أجلاسا رتبه له شيخه.(5/300)
إذ ذاك شاغرة منذ تحول باكير إلى القاهرة بعد إشارة شيخه البرهان عليه بالدخول فيه بقصده الجميل ثم كتابة سرها ونظر جواليها عوضا عن الزين ابن الرسام في يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ثمان وأربعين بالبذل مع عناية صهره الولوي السقطي وكان قد تزوج ابنته بعد موت ابنة ابن خطيب الناصرية، بل استقر أيضا في نظر جيشها وقلعتها والجامع الكبير النوري، وكذا في تدريس الجاولية والحدادية والتصدير بالجامع وخطابته مما تلقى بعضه عن صهره الأول وما يفوق الوصف بحيث صارت أمور المملكة الحلبية كلها معذوقة به ولاية وإشارة، وعظمت رياسته وتزايدت وضخمت واشتهرت كثرة جهاته وكفاته بما يناسبها من صفاته، فانطلقت الألسن بذكره وانجر الكلام لما لا خير (1) في إشاعته ونشره ولم ينهض أحد لمقاومته ولا التجري على مزاحمته، خصوصا مع تمكن صهره من الظاهر وانقياد العظماء لبأسه القاهر. فلما انخفضت كلمته وزالت طلاقته وبهجته تسوّروا لجانبه وكاد أن يدفع عن جل مآربه، فبادر قصدا للخلاص من الضير إلى الانتماء للنحاس المدعو أبو الخير، في أيام علوه وعزه لينتفع بإشارته ورمزه، فلم يلبث أن انقلب على النحاس الدست ورمي من جميع الناس بالمقت، كما هي سنة الله بالجبابرة ومنة الله على الطائفة التي بالحق قاهرة، وظهر أن الجمال وكان صنيعته قد تأثر حيث انجمع عن مساعدته، بل ما خفي أكثر. ويقال إن الأمير قاسم هو الكافل بإلفاته عنه والقائم.
وتوالت المحن بصاحب الترجمة، وربما ساعده البدر قاضي الحنابلة بماله من السلطنة ونفوذ الكلمة، واستمر في المكابدة ومزيد المناهدة، مما أضربت عن إيراده ببسيط العبارة واكتفيت بما رمزت به في هذه الإشارة، خوفا من غائلة متساهلي المؤرخين في الإقدام على إثبات ما قد لا يوافق الواقع بيقين، واختلاف الأغراض في الحوادث والأعراض، سيما وقد رأيت المحب صار يتتبع الكثير مما أثبته بعضهم فيه بالكشط بدون ملاحظة لاستمرار التئام الذي له المؤرخ خط، وربما أثبت غير اسمه أصلا لكونه يرى أنه ليس لذلك أهلا، ولكن رأيت العيني قال حين استقرار المحب في جملة وظائف: إنه استقر فيها بعد حمله من الأموال الجزيلة والهدايا الجليلة ما يطول شرحه، وعز ذلك على أهل بلده. قال: ولم يتفق قط مثل هذا في حلب، ولكن بالرشا يصل المرء في هذه الأزمان إلى ما يشا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي).
__________
(1) في الأصل: بالأخير، وهو تصحيف.(5/301)
وقال البقاعي في ترجمة التيزيني: وحصلت له كائنة مع ابن الشحنة في سنة خمسين بغته فيها وأدخل عليه الخمر إلى بيته من جهة ربيبه وزيّن لحاجب حلب حتى أوقع به وسجنه، وله من هذا النمط بل وأفحش منه مما يتحاكاه أهل بلده الكثير. ولما ملوا منه وجه سعيه إلى رسوخ قدمه في الديار المصرية ليكون مرعيا في نفسه وجماعته وجهاته التي تفوق الوصف، فاجتهد حتى ولي كتابة سرها في ذي القعدة سنة سبع وخمسين عوضا عن ابن الأشقر ببذل كثير جدا فلم يتهن بمباشرتها مع عظيم المملكة الجمال بل صار معه كآحاد الموقعين، ومع ذلك فلم يستكمل فيها سنة بل أعيد صاحبها بعد ثمانية أشهر وأيام، ودام هذا بالقاهرة مكروبا متعوبا مرعوبا مشغول الخاطر لما استدانه فيما لم يظفر منه بطائل إلى أن وجه لبيت المقدس في أواخر ذي القعدة من التي تليها بعد أن زود من أفضال الجمال بما يرتفق به، فوصله في سابع ذي الحجة فأقام به، ولقيته هناك على طريقة حسنة من العبادة والتلاوة والاشتغال والإشغال بحيث أخبرني أنه يختم القرآن كل يوم وأنه جوده بحضرة الشمس ابن عمران شيخ القراء بتلك الناحية، وأنه كان يكتب في كل يوم كراسة فالله أعلم. ولكن رأيته هناك أحضر بعض مماليكه وأشهد عليه أنه إن أقام بالقاهرة أو حلب أو غيرها من البلاد الشامية أو صاحب أحدا من أعدائه أو صادقه أو نحو ذلك يكون مشركا بالله عز وجل ونحو هذا، فكربت لذلك وما استطعت الجلوس بل انصرفت. ويقال إنه في مملكة ابن عثمان.
واستمر المحب مقيما في القدس إلى أحد الجماديين سنة اثنتين وستين فأذن له في العود للمملكة الحلبية بعد سعي شديد أو في الرجوع لمصر، فاختار بلده فأقام بها دون وظيفة لرغبته عن قضاء الحنفية فيها لابنه الكبير الأثير من مدة، وأضيف حينئذ قضاء الشافعية بها لحفيده الجلال أبي البقا محمد لمزيد تضررهم بمن كان يكون فيه كالشهاب الزهري ونحوه مما أظن تسليطهم عليه انتقاما من الله عز وجل بما عمله هو مع البرهان السوبيني ذاك العبد الصالح حسبما سمعته يتبجح بحكايته غير مرة، فلم يزل مقيما بها إلى أن ورد الخبر بموت الجمال فبادر لقدوم القاهرة فوصلها في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من التي تليها، فأعيد إلى كتابة السر أيضا ببذل يفوق الوصف بعد صرف المحب ابن الأشقر، واستقر بحفيده لسان الدين أحمد في نيابتها، ولم يلبث أن مات ابن الأشقر وباشر حينئذ مباشرة حسنة على الموضع بأبهة وضخامة وبشاشة وسار مع الناس سيرة مرضية بلين ورفق وتواضع ومداراة وأنزل الناس منازلهم وصرف الأمور تصريفا حسنا وأقبل عليه الأشرف إينال إقبالا
حسنا، ثم كان هو المنشىء لعهده في مرض موته لولده أحمد الملقب بالمؤيد إذ بويع فأبلغ حسبما أوردته في ترجمته من الذيل وغيره، ولم يعدم مع ذلك من كلام كثير بحيث خاض الناس في تطيره من النور الأنبابي والبرهان الرقي ورغبته في زوالهما بما لم أثبته، واستمر إلى أن استقر في قضاء الحنفية بعد ابن الديري وظن جمعه له مع كتابة السر وإذعانهم لما أظهر التعفف باشتراطه، فخاب رجاؤه حيث انفصل عنها بأخي المنفصل، وناكده في القضاء أتم مناكدة وظهرت بركة المنفصل فيهما معا لانفصال الأخ ثم القاضي قبل استكمال عشرة أشهر، ومات المستقر عوضه بعد خمسة أشهر فأعيد وألزم بالحج، فسافر وهو متلبس بالقضاء مظهرا التكلف لذلك وأمير ركب الأول حينئذ الشرف يحيى بن يشبك الفقيه زوج ابنته، وعاد فدام في القضاء حتى صرف ثم أعيد ثم صرف ولم يتول بعدها، نعم استقر في مشيخة الشيخونية تصوفا وتدريسا مضافا لما كان استقر فيه في أثناء ولايته القضاء من تدريس الحديث بالمؤيدية.(5/302)
واستمر المحب مقيما في القدس إلى أحد الجماديين سنة اثنتين وستين فأذن له في العود للمملكة الحلبية بعد سعي شديد أو في الرجوع لمصر، فاختار بلده فأقام بها دون وظيفة لرغبته عن قضاء الحنفية فيها لابنه الكبير الأثير من مدة، وأضيف حينئذ قضاء الشافعية بها لحفيده الجلال أبي البقا محمد لمزيد تضررهم بمن كان يكون فيه كالشهاب الزهري ونحوه مما أظن تسليطهم عليه انتقاما من الله عز وجل بما عمله هو مع البرهان السوبيني ذاك العبد الصالح حسبما سمعته يتبجح بحكايته غير مرة، فلم يزل مقيما بها إلى أن ورد الخبر بموت الجمال فبادر لقدوم القاهرة فوصلها في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى من التي تليها، فأعيد إلى كتابة السر أيضا ببذل يفوق الوصف بعد صرف المحب ابن الأشقر، واستقر بحفيده لسان الدين أحمد في نيابتها، ولم يلبث أن مات ابن الأشقر وباشر حينئذ مباشرة حسنة على الموضع بأبهة وضخامة وبشاشة وسار مع الناس سيرة مرضية بلين ورفق وتواضع ومداراة وأنزل الناس منازلهم وصرف الأمور تصريفا حسنا وأقبل عليه الأشرف إينال إقبالا
حسنا، ثم كان هو المنشىء لعهده في مرض موته لولده أحمد الملقب بالمؤيد إذ بويع فأبلغ حسبما أوردته في ترجمته من الذيل وغيره، ولم يعدم مع ذلك من كلام كثير بحيث خاض الناس في تطيره من النور الأنبابي والبرهان الرقي ورغبته في زوالهما بما لم أثبته، واستمر إلى أن استقر في قضاء الحنفية بعد ابن الديري وظن جمعه له مع كتابة السر وإذعانهم لما أظهر التعفف باشتراطه، فخاب رجاؤه حيث انفصل عنها بأخي المنفصل، وناكده في القضاء أتم مناكدة وظهرت بركة المنفصل فيهما معا لانفصال الأخ ثم القاضي قبل استكمال عشرة أشهر، ومات المستقر عوضه بعد خمسة أشهر فأعيد وألزم بالحج، فسافر وهو متلبس بالقضاء مظهرا التكلف لذلك وأمير ركب الأول حينئذ الشرف يحيى بن يشبك الفقيه زوج ابنته، وعاد فدام في القضاء حتى صرف ثم أعيد ثم صرف ولم يتول بعدها، نعم استقر في مشيخة الشيخونية تصوفا وتدريسا مضافا لما كان استقر فيه في أثناء ولايته القضاء من تدريس الحديث بالمؤيدية.
ورام حوز جهات كثيرة في الديار المصرية كما فعل في المملكة الحلبية فما قدر، فإنه استنزل لنفسه عن تصوف بالأشرفية برسباي ولولده الصغير عن إعادة بالصر غتمشية لمناكدة ابن الأقصرائي في مشيختيهما، وزوج الابن أيضا بابنة العضدي الصيرامي ليتوصل بها لمشيخة البرقوقية بعد أن رام تزويجه بابنة البدر ابن الصواف ليحوز أمواله وغيرها، وأكثر من التسليط على خازن المحمودية لينزل له عنها فما سمح عن عزل نفسه عن النيابة لينقطع حكمه فيه. وقال لي من خير: وتلطف حين كان كاتب السر بالبدر ابن شيخنا ورغبة في الوقوف به إلى السلطان ليعيد له مشيخة البيبرسية ويستردها من ابن القاياتي بشرط رغبته له عنها بعد العود، فامتنع وأبرز بعد موت ابن عبيد الله نزولا منه بسائر ما معه من تدريس ومشيخة وغير ذلك فلم يصل لشيء مما ذكر، بل دندن بالأمين الأقصرائي لتخرج وظائفه عنه في حياته حتى ظفر بإجازة بخطه زعم أن فيها ما يدل على اختلاله وصار يقول: قد أخرجت الشيخونية عن فلان حين بلغ لنحو هذا الحد ويأبى الله إلا ما أراد {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ} (1). وتوسع في التلفت للوظائف ولو لم تكن جليلة حتى إنه سعى فيما كان باسم البدر الهيتي من تصرفات وأطلاب ونحوها مع كونه ترك أبا شيخا كبيرا من قضاة الشرع، واستكتب ناظر البيبرسية والسعيدية على وظائف الشهاب
__________
(1) النور: 40.(5/303)
الحجازي فيهما في مرض كان يتوقع موته فيه، ثم نزل عنهما بخمسين دينارا وناله الشهاب لذلك كثيرا، وما كان بأسرع من عافيته وبقائه بعد ذلك نحو سنتين.
وكثيرا ما كان يجتهد في السعي فيما لم يستحقه ثم يرغب عنه لمن ليست فيه أهلية كما فعل في تدريس الحديث بالحسينية. وأما أخذه المرتبات في أوقاف الصدقات ونحوها كالسيفي والمخاصمة على أخذه قبل المستحقين فأمر واضح، وكذا الاستنابة عن القضاة الشافعية في كثير من البلاد كالشرقية والمنية وغيرها من القليوبية ونحو ذلك وتعاطيه من النواب عنه فيها ما يحاققهم عليه ويتلفت فيه إلى الزيادة بحيث يضج النواب ويسعون في إخراجها عنه، فأخرجت الشرقية للنور البلبيسي والمنية لابن قمر ففوق الوصف، وتوسع في إتلاف كثير من أموال الناس بعد إرغابه حتى إقراضه منهم بأعلى الربح عند المطالبة يبدو منه من الإهانة له ما لم يكن لواحد منهم في حساب. ومن ذلك فعله مع ابني أبي شريف وابن حرمي وابن الطناني وابن المرجوشي وابن بنت الحلاوي ومن لا أحضرهم سيما من أهل البلاد، والأمر في كل ما أشرت إليه أشهر من أن يذكر، ولو أطعت القلم في هذا المهيع لامتلأت الكراريس. وبالجملة فهو فصيح العبارة، غاية في الذكاء وصفاء القريحة، بديع النظم والنثر سريعهما، متقدم في الكشف عن اللغة وسائر فنون الأدب، محب في الحديث وأهله إلا حين وجود هوى غير متوقف فيما يقوله حينئذ، شديد الإنكار على ابن عربي ومن نحا نحوه، نهاية في حلاوة المنطق وحسن العشرة والصحبة واستجلاب الخواطر، مائل إلى النكتة اللطيفة والنادرة، راغب في الكمالات الدنيوية وأنواع الشرف والفخار، منصرف الهمة فيما يتوصل به لذلك، عظيم العناية في تحصيل الكتب ولو بالغصب والجحد حتى كان سببا في منع ابن شيخه البرهان إعارة كتب أبيه أصلا إلا في النادر خوفا منه كما صرح لي به، وصار هو يذكره بالقبيح من أجل هذا، ولقد توسل بي عنده القاضي علم الدين في رد ما استعاره منه وخازن المحمودية وغيرهما مع ضياع شيء كثير لي عنده وعند أصغر ابنيه إلى الآن، وكذا أخذ للسنباطي أشياء وجحد بعضها، هذا وهو لا يهتدي للكشف من كثير منها ولا يعير منها إلا لمن له شوكة. بهي المنظر حسن الشكالة والشيبة ذو نفس أبية وهمة علية ورياسة وكياسة وتهجد فيما حكى لي وصبر على المحن والرزايا وقوة جاش ومبالغة في البذل ليتوصل به إلى أغراضه الدنيوية بحيث يأتي ذلك على ما يتحصل له من جهاته التي سمعته يقول إنها سبعة آلاف دينار في كل سنة، يستدين
بالفوائد الجزيلة ثم يثقل عليه الوفاء كما أشرت إليه قريبا، ولا يزال لذلك يتشكى حتى إن العلم ابن الجيعان يكثر تفقده له بالمبرات مع كونه رام مناطحة العلم فخذل، وكذا أسعفه الدوادار الكبير مرة بعد أخرى. وأما الزين ابن هرمز فلم يزل يتفقده حتى بالطعام مع مزيد جنايته عليه حتى مواجهة ومشافهة، على أن العز الحنبلي لم يكن يقبل منه شكواه ولا دعواه ويقول بل هو كثير الأموال. ورغبة في الانتقام ممن يفهم عنه مناوأة أو معارضة ما بحيث لا يتخلف عن ذلك إلا عند العجز ويصرح بما معناه اثبت إلى أن تجد مجالا فدق وبت. ويحكى عنه في الاحتيال على الإتلاف مالا أثبته، ومنه ما حكاه لي الزين قاسم أنه دس عليه من وضع في زيره شيئا بحيث خرج على بدنه ما كاد أن يصل إلى حد الجذام ونحوه. كثير التأنق في ملبسه ومسكنه وسائر تمتعاته، وهو بالمباشرين أشبه منه بالعلماء كما صرح به له غير مرة الكافياجي (شيخ الجلال السيوطي) بل والعز الحنبلي ولم يكن يقيم له وزنا في العلم كما سمعته أنا وغيري منه. وما وجد بخطه في المائة التاسعة له من ترجمته له فيما قلدني فيه قبل أن أخبره بما قلدت فيه بعضهم على ما يشهد به خطه الذي عندي.(5/304)
وكثيرا ما كان يجتهد في السعي فيما لم يستحقه ثم يرغب عنه لمن ليست فيه أهلية كما فعل في تدريس الحديث بالحسينية. وأما أخذه المرتبات في أوقاف الصدقات ونحوها كالسيفي والمخاصمة على أخذه قبل المستحقين فأمر واضح، وكذا الاستنابة عن القضاة الشافعية في كثير من البلاد كالشرقية والمنية وغيرها من القليوبية ونحو ذلك وتعاطيه من النواب عنه فيها ما يحاققهم عليه ويتلفت فيه إلى الزيادة بحيث يضج النواب ويسعون في إخراجها عنه، فأخرجت الشرقية للنور البلبيسي والمنية لابن قمر ففوق الوصف، وتوسع في إتلاف كثير من أموال الناس بعد إرغابه حتى إقراضه منهم بأعلى الربح عند المطالبة يبدو منه من الإهانة له ما لم يكن لواحد منهم في حساب. ومن ذلك فعله مع ابني أبي شريف وابن حرمي وابن الطناني وابن المرجوشي وابن بنت الحلاوي ومن لا أحضرهم سيما من أهل البلاد، والأمر في كل ما أشرت إليه أشهر من أن يذكر، ولو أطعت القلم في هذا المهيع لامتلأت الكراريس. وبالجملة فهو فصيح العبارة، غاية في الذكاء وصفاء القريحة، بديع النظم والنثر سريعهما، متقدم في الكشف عن اللغة وسائر فنون الأدب، محب في الحديث وأهله إلا حين وجود هوى غير متوقف فيما يقوله حينئذ، شديد الإنكار على ابن عربي ومن نحا نحوه، نهاية في حلاوة المنطق وحسن العشرة والصحبة واستجلاب الخواطر، مائل إلى النكتة اللطيفة والنادرة، راغب في الكمالات الدنيوية وأنواع الشرف والفخار، منصرف الهمة فيما يتوصل به لذلك، عظيم العناية في تحصيل الكتب ولو بالغصب والجحد حتى كان سببا في منع ابن شيخه البرهان إعارة كتب أبيه أصلا إلا في النادر خوفا منه كما صرح لي به، وصار هو يذكره بالقبيح من أجل هذا، ولقد توسل بي عنده القاضي علم الدين في رد ما استعاره منه وخازن المحمودية وغيرهما مع ضياع شيء كثير لي عنده وعند أصغر ابنيه إلى الآن، وكذا أخذ للسنباطي أشياء وجحد بعضها، هذا وهو لا يهتدي للكشف من كثير منها ولا يعير منها إلا لمن له شوكة. بهي المنظر حسن الشكالة والشيبة ذو نفس أبية وهمة علية ورياسة وكياسة وتهجد فيما حكى لي وصبر على المحن والرزايا وقوة جاش ومبالغة في البذل ليتوصل به إلى أغراضه الدنيوية بحيث يأتي ذلك على ما يتحصل له من جهاته التي سمعته يقول إنها سبعة آلاف دينار في كل سنة، يستدين
بالفوائد الجزيلة ثم يثقل عليه الوفاء كما أشرت إليه قريبا، ولا يزال لذلك يتشكى حتى إن العلم ابن الجيعان يكثر تفقده له بالمبرات مع كونه رام مناطحة العلم فخذل، وكذا أسعفه الدوادار الكبير مرة بعد أخرى. وأما الزين ابن هرمز فلم يزل يتفقده حتى بالطعام مع مزيد جنايته عليه حتى مواجهة ومشافهة، على أن العز الحنبلي لم يكن يقبل منه شكواه ولا دعواه ويقول بل هو كثير الأموال. ورغبة في الانتقام ممن يفهم عنه مناوأة أو معارضة ما بحيث لا يتخلف عن ذلك إلا عند العجز ويصرح بما معناه اثبت إلى أن تجد مجالا فدق وبت. ويحكى عنه في الاحتيال على الإتلاف مالا أثبته، ومنه ما حكاه لي الزين قاسم أنه دس عليه من وضع في زيره شيئا بحيث خرج على بدنه ما كاد أن يصل إلى حد الجذام ونحوه. كثير التأنق في ملبسه ومسكنه وسائر تمتعاته، وهو بالمباشرين أشبه منه بالعلماء كما صرح به له غير مرة الكافياجي (شيخ الجلال السيوطي) بل والعز الحنبلي ولم يكن يقيم له وزنا في العلم كما سمعته أنا وغيري منه. وما وجد بخطه في المائة التاسعة له من ترجمته له فيما قلدني فيه قبل أن أخبره بما قلدت فيه بعضهم على ما يشهد به خطه الذي عندي.
وقال له المناوي: كيف يدعي العلم من هو مستغرق في تمتعاته وتفكهاته ويبيت في لحف النساء ليله بتمامه، العلم له أهل.
والكلام فيه كثير جدا لا أقدر على حكايته، وعلى كل حال فمجموعه حسن الظاهر، ولهذا كان شيخنا يميل إليه خصوصا مع رغبته في تحصيل تصانيفه، وكذا لم أزل أسمع من صاحب الترجمة الهمار (هكذا ولعله الهماز) (1) محبته ولكن مع إدراج أشياء تلمح فيها بشيء، ثم رأيته ترجمه في مقدمة شرحه للهداية بقوله: وكان كثير التبكيت في تاريخه على مشايخه وأحبابه وأصحابه سيما الحنفية فإنه يظهر من زلاتهم ونقائصهم التي لا يعرى عنها غالب الناس ما يقدر عليه، ويغفل عن ذكر محاسنهم وفضائلهم إلا ما ألجأته الضرورة إليه، فهو سالك في حقهم ما سلكه الذهبي في حقهم وحق الشافعية حتى قال السبكي:
إنه لا ينبغي أن يؤخذ من كلامه ترجمة شافعي ولا حنبلي، وكذا يقول في شيخنا رحمه الله إنه لا ينبغي أن يؤخذ من كلامه ترجمة حنفي متقدم ولا متأخر، وكل هذا ليس بجيد، ولقد جرح هذا الكلام لما وقفت عليه قلبي، وما حمله عليه إلا ما قاله في أبيه، وشيخنا
__________
(1) في الضوء اللامع: إظهار.(5/305)
هو العمدة في كل ما يبينه من مدح وقدح، وهو في الدرجة التي رفعه الله إليها في الاقتداء والاتباع والخروج عن ذلك خدش في الإجماع.
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام (1)
ولو أعرض عن هذا وكذا عما أشنع منه في حق غير واحد كالذهبي مؤرخ الإسلام ومن قبله الخطيب الذي الناس بعده في هذا الشأن عيال على كتبه، وكالحنابلة حيث قال فيما سمعته منه: في كتب أصحابنا أنه تعقد عليه الجزية في ألفاظ كثر دعاء العز الحنبلي عليه بسببها بل سأل فيه من يتوسم استجابة دعائه، وزاد صاحب الترجمة حتى دندن بالبخاري إلى غيرهم مما أتألم من حكايته فضلا عن إيراده بعبارته لكان كالواجب ولسلم من المعاطب، وطالما خاض في كثير من أنساب الناس وكونهم غير عريقين في الإسلام، وهذا لو كان صحيحا كان ذكره قبيحا.
وقد صار ابنه الصغير مع أحواله الظاهرة وخصاله المتنافرة المتكاثرة يقتفي أثر والده في ذلك ويتكلم في الكبار والصغار بكلام قبيح بعضه عندي بخطه. وفي سنة تسع وتسعين نسب إليه وصف البلقيني الكبير وولده بالعامية، فاستفتى حفيده الناس في ذلك فاتفقوا على استحقاقه التعزير البليغ، وصرح بعضهم بالنفي وعدم القبول منه لتوجيه ذلك بكون من لم يكن مجتهدا هو عامي نسأل الله السلامة.
وقد امتدحه للتعرض لنائله فحول الشعراء كالنواجي، وسمعته يقول له في ولايته الأولى لكتابة السر مما سلك في مسلك غالب الشعراء: والله لم يلها بعد القاضي الفاضل مثلك وابن أبي السعود. وكان مغتبطا بكثرة محاضرته مرتبطا بفنائه وساحته ومن يليهم كالبرهانين المليحي والبقاعي، واضطرب أمره فيه كعادته في السخط والرضى، فمرة قال إنه أعظم رؤوس السنّة، ومرة قال: كل شيء رضينا به وسكتنا عنه إلا التعرض للبخاري، ومرة قال ما سلف في فعله مع التيزيني، ومرة قال حسبما قرأته بخطه مما وقف عليه المحب:
إن كان نجل شحنة في نحسه ... قد جاء بالثقيل والخفيف
فإنه المظنون فيه إذ أتى ... إنذار خير الخلق من ثقيف
__________
(1) البيت للجيم بن صعب، وحذام امرأته.(5/306)
وغيره فقال:
إن كان نجل شحنة في قوله ... كذب ومنه الوعد في تخليف
فإنه المظنون فيه إذ أتى ... إنذارنا من كاذبي ثقيف
وقال أيضا:
لا بدع لابن شحنة إن فاق في ... كذب وبهتان له منيف
فإن خير الخلق قد أنذرنا ... من كاذب يكون في ثقيف
وقال أيضا:
لا بدع إن كان المحب وفى (1) ... بكذبه والصدق في تطفيف
إلى غير هذا مما أردت به إظهار تناقض قائله مع جر الأذى للمحب من قبله مرارا.
ولكن الجزاء من جنس العمل، فطالما نال من الزين قاسم بحيث انتصر له في بعض الأوقات العز الحنبلي مع ما له عليه من حق المشيخة وغيرها، بل قيل إنه دس عليه كما تقدم ونحوه ما اتفق له مع ابن عبيد الله مع مزيد انتفاعه بسعيه ومع تحصيله، ومع الأمشاطي مع مزيد ترقيع خلله ودفع علله عند الأمراء وغيرهم من ذوي الحل والعقد، ومع ابن قمر مع تحصيله له نفائس الكتب وتقديمه له فيها على نفسه، ومع أبي ذر ابن شيخه مع ما لأبيه عليه من الحقوق، ومع ابن أبي شريف مع قيامه على والده حتى أقرضه مبلغا لم يصل إلى كماله، ومع الزين ابن الكويز والعز الفيومي وغيرهم ممن تطول الترجمة بهم، حتى وصل إلى الزين مزهر الذي لولاه لأخرجوه من الديار المصرية على عوائدهم في أسوأ حال، فإنه شافهه وقد حضر عنده لجنازة بما لا أحب إثباته.
وأما كاتبه فقد كان المناوي يتعجب من مساعدته له في الأمور التي كان يقصده بالتخجيل فيها ويصرح بذلك لبعض أخصائه، وربما وصفه بأنه شيخه. ونحوه قول ابن أقبرش مشافهة: رأيتك عند ابن الشحنة كثيرا، فهل تشحن منه أو يشحن منك إلى غير هذا مما بسط، ومبالغته في الثناء والمحبة والتعظيم والوصف بأعلى الأوصاف في محل آخر مع ضده.
__________
(1) لعل الصواب: قد وفى.(5/307)
وقد حدث ودرس في الفقه والأصلين والحديث وغيرها، وأفتى وناظر وصنف ومن تصانيفه شرح الهداية كتب منه إلى آخر فصل الغسل في خمس مجلدات أو أقل ثم فتر عزمه عنه (1)، ومنها مما تضمنته مقدمة عدة مختصرات في أصول الكلام وأصول الفقه وعلوم الحديث وسماه «المنجد المغيث في علم الحديث»، و «المناقب النعمانية»، ومنها مما هو مفرد بالتأليف كالكلام على تارك الصلاة، وسيرة نبوية، واختصار المنار وسماه «تنوير المنار» واختصار النشر في القراءات لابن الجزري والجمع من العمدة (2) ويقول العبد في قصيدة بزيادات مفيدة، واستيعاب الكلام على شرح العقائد ولكنه لم يكمل، وكذا الكلام على التلخيص، وشرح مائة الفرائض من ألفية أبيه، وترتيب مبهمات ابن بشكوال على أسماء الصحابة وقال إن شيخه البرهان أشار عليه به وإنه كان في سنة ست وعشرين، وطبقات الحنفية في مجلدات، وغير ذلك من نظم ونثر (3).
وخرجت له أربعين حديثا عن شيوخ فيهم من روى عنه سمعها عليه مع غيرها من مرويات، بل وقطعة من القاموس للمقابلة الفضلاء، وكذا قرأ عليه أخي بعض الأجزاء ومجالس من تفسير ابن كثير. وكان ابتداء لقيي له في سنة اثنتين وخمسين. وكتب عنه من أصحابنا النجم ابن فهد وأورده في معجمه، وقرأ عليه الجمال حسين الفتحي وآخرون.
ولزم بعد عزله الأخير من القضاء وذلك في يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى سنة سبع وسبعين منزله غالبا، وربما طولب بشيء من الديون وقد يشتكي إلى أن استقر في الشيخونية وذلك في يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين فصار يركب لمباشرتها تدريسا وتصوفا. ثم تزايد ضعف حركته فاستخلف ولده فيها وفي المؤيدية وتوالت عليه الأمراض بحيث انقطع عن الجمعة واستمر على ذلك مدة طويلة بما يقرب من الاختلاط، إلى أن مات في يوم الأربعاء سادس عشر المحرم سنة تسعين وصلي عليه
__________
(1) سماه «نهاية النهاية» كما في الكشف، توجد مسودته في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب والجزء الأول في مكتبة داماد إبراهيم باشا ورقمه 586.
(2) في الضوء اللامع: والجمع بين العمدة.
(3) وذكر له في الكشف من المؤلفات منظومة في الصلاة الوسطى في خمسة أبيات جمع فيها الأقوال، وهي قصيدة عينية ثم شرحها وجعله كتابا. وقال في الكلام على منظومة النسفي في الخلاف: اختصر النظم أبو الوليد ابن الشحنة الحلبي المتوفى سنة 890مع زيادة مذهب الإمام محمد.(5/308)
من يومه برحبة مصلى باب النصر في مشهد متوسط ثم دفن في تربة في نواحي تربة الظاهر برقوق وذمته مشغولة بما يفوق الوصف. وقد بسطت ترجمته في الذيل على القضاء وغيره بما يضيق المحل عنه رحمه الله وإيانا وعفا وأرضى عنه أخصامه.
ومما كتبته عنه قصيدة نظمها وهو بالقدس أولها:
قلب المحب بداء البين مشغول ... كما حشاه بنار البعد مشعول
وطرفه الليل ساه ساهر زرب ... فدمعه فوق صحن الخلد مسبول
وله مما يقرأ على قافيتين:
قلت له لما وفى موعدي ... وما لقلبي لسواه نفاق
وجاد بالوصل على وجهه ... حبي سما كل حبيب وفاق
وترجمة الحنبلي في «در الحبب» وهو جد والده لأمه، كما ذكره في ترجمة شمس الدين ابن آجا المتقدمة فقال بعد سرد نسبه: والشحنة كما قال ابن حجر في إنبائه هو جده محمود الأول وليس مراده به ولد غازي على إرادة الأول في العبارة عند سرد رجال النسب بل ولد ختلو الأول في الوجود، فقد ذكر صاحب الترجمة في شرحه على المائة الفرضية التي لوالده أن الشحنة صفة لجد جد جد والده فاشتهر أولاده بها.
قال: والشحنة في اللغة عبارة عن النائب الكافي، ومنه استعير لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه شحنة النجف، وفي البلد من فيه الكفاية لضبطها من جهة السلطان، إلى أن نقل عن الصاحب كمال الدين بن العديم أنه قال في ترجمته: الأمير حسام الدين شحنة حلب، كان في شبابه ينوب في الشحنكية بحلب، ثم استقل بها في أيام الملك الصالح إسماعيل ابن زنكي، وبعده، وبنى مدرسة لأبي حنيفة (1) وإلى جانبها مسجدا لله تعالى ووقف وقفا على الصدقة وفكاك الأسرى. وعلت سنه حتى قبل إنه جاوز المائة، وقد ناوله كاتبه كتابا كتب عنه ليعلم عليه فتناوله ويده ترتعش، فأنشد لبعضهم (2) حيث قال:
__________
(1) هي تحت القلعة في الجهة الغربية منها وقد تقدم الكلام عليها في الجزء الرابع [ص 374] وقلت ثمة إني لم أقف له على ترجمة، ثم وجدتها هنا لكنه لم يذكر تاريخ وفاته وهي في نواحي سنة 630.
(2) هو أسامة بن مرشد صاحب شيرز. انظر ترجمته في الرابع [ص 261].(5/309)
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وقل لمن يتمنى طول مدته ... هذي عواقب طول الدهر والمدد
هذا ما نقله قاضي القضاة المترجم له عن الكمال بن العديم في الشرح المذكور.
وبما علمت من معنى الشحنة ظهر أن الشحنة في عرف هذا الزمان الذي نحن فيه إنما يطلق على من يرسل من آحاد الناس إلى ضيعة لضبط غلة تكون فيها أخذا من الشحنة بذلك المعنى، ولمثل هذا تسمى حرفته هذه شحنكية. وتبين أيضا أن بني الشحنة لا ينتسبون إلى من هو شحنة بهذا المعنى وإن قال بعض الشعراء حيث قال:
قل للذين قايسوا شهباءهم ... بجلّق وقد غدت كالجنة
لو لم تكن شهباؤكم كجنة ... ما جعلت من تحت أمر الشحنة
وقرأت بخط الشيخ أبي ذر في تاريخه ما نصه: قال ابن الجوزي: الشحنة بكسر الشين والعامة تفتحها وهي غلط، قال شيخنا: وهو اسم للمرابط من الجند في البلد من أولياء السلطان لضبط أهله وليس باسم الأمير والقائد كما يذهب إليه العامة، والنسبة إليه شحني وشحنية، ولا تقل شحنكية، وهذه الكلمة غريبة صحيحة واشتقاقها من شحنة البلد بالجند إذا تولى به. انتهى.
ولد صاحب الترجمة بحلب سنة أربع وثمانماية فأنشد والده لما بشر به قائلا:
بشرتني بغلام ... حسن الوجه وسيم
قلت عزّي لا تهنّي ... ولد الشيخ يتيم
وقرأت بخط ابن السيد منصور مما وجدته ملحقا بتاريخ شيخه الشيخ أبي ذر ما نصه:
ورأيت في بعض المجاميع أن في (تاريخ إربل) (1) في ترجمة يحيى بن سعيد الدهان أنه لما بشر به أبوه وقد أيس قال:
قيل لي جاءك نسل ... ولد شهم وسيم
قلت عزّوه بفقدي ... ولد الشيخ يتيم
__________
(1) هو «نباهة البلد الخامل بمن ورده من الأماثل» لأبي البركات مبارك بن أحمد المتوفى سنة 637هـ.(5/310)
ثم ذكر الرضي الحنبلي تاريخه «نزهة النواظر في روض المناظر» وتكلم عليه وقد ذكرنا ذلك في المقدمة. ثم قال: وكانت وفاته بالقاهرة سنة تسعين وثمانماية بعد ما كان الأشرف قايتباي قد نفاه إلى القدس في سنة سبع وسبعين وثمانماية، فكتب إليه من شعره يقول هذه الأبيات:
يا مالكا هو في سلطانه قدم ... ومن على كل سلطان له قدم
لله في الناس قوم يرحمون وهم ... خدام علم لهم في درسه قدم
ومعشر من ذوي الهيئات عثرتهم ... تقال بالنص إذ زلت به قدم
فكيف من جميع الوصفان فيه وقد ... رماه بالإفك أعداء له قدم
قال: ومن شعره:
سلوا عن مخبات الرجال قلوبكم ... فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا
ولا تسألوا عنها العيون فربما ... تشير إلى ما لم يكن داخل الحشا
أقول: أستفيد من كلام السخاوي أن المترجم كان منهمكا في الدنيا متهافتا عليها جماعة للمال وذا ثروة طائلة وأملاك واسعة، إلا أنه لم يذكر ما وقفه من أملاكه على ذريته وفي سبيل الخيرات، وقد عثرت على وقفيته على نفس النسخة المحررة في زمنه وقد أبقتها أيدي الزمان إلى الآن، وجدتها عند بني الموقع وهي محررة سنة 854، ثم زاد في هذا الوقف سنة 877، ولو ذكرنا جميع ما وقفه لطال الشرح لأنه شيء كثير في أماكن متعددة داخل الشهباء وخارجها، وفي معاملاتها مما يبلغ الآن الألوف من الدنانير، ولكنا نقتصر على ما كان موجودا تحت القلعة وفي المكان المعروف بسوق الجمعة ليعلم ما كان هناك من العمران.
قال ما خلاصته أنه وقف جميع الدار الكبرى المشتملة على ما هو معروف بسكنه وسكن والده وما أضافه إلى ذلك الواقف من الدور والأحواش والقاعات والجنينة والبحرة والإصطبلات ذلك جميعه بحلب تجاه قلعتها ومما اشتملت عليه الدار الكبرى المذكورة أعلاه قاعة كبرى وقاعتان صغيرتان ومطبخ وحوش وإصطبل وحوش به مربع كبير وجنينة بها بحرة كبيرة وإيوان به قبب وغير ذلك، حد ذلك جميعه من القبلة المدرسة الأتابكية، ومن الشرق الطريق السالك والمسجد المعروف بمسجد عنبر، ومن الغرب درب يعرف بالملك
الحافظ قديما وجميع الدار الملاصقة للقاعة المذكورة من جهة الشمال والغرب، ومن الشرق درب الملك الحافظ، ومن الشمال بيت ابن كرجي، ومن الغرب بيد الخطاي وشاهين السيفي قانيباي الحمزاوي، وجميع الحمّام الذي أنشأه الواقف بالحضرة المذكورة ملاصقة لبحرة والده وجميع الحوش الملاصق للحمّام والبحرة المذكورة، حد ذلك من القبلة حوش لطيفة من إنشاء والد الواقف وإلى جانبه المدرسة الأسدية المذكورة وتمام ذلك المدرسة الأسدية وحوش لطيف داخل في الوقف ملاصق للحوش الذي به المربع الكبير المختص بالقاعة الكبيرة.(5/311)
قال ما خلاصته أنه وقف جميع الدار الكبرى المشتملة على ما هو معروف بسكنه وسكن والده وما أضافه إلى ذلك الواقف من الدور والأحواش والقاعات والجنينة والبحرة والإصطبلات ذلك جميعه بحلب تجاه قلعتها ومما اشتملت عليه الدار الكبرى المذكورة أعلاه قاعة كبرى وقاعتان صغيرتان ومطبخ وحوش وإصطبل وحوش به مربع كبير وجنينة بها بحرة كبيرة وإيوان به قبب وغير ذلك، حد ذلك جميعه من القبلة المدرسة الأتابكية، ومن الشرق الطريق السالك والمسجد المعروف بمسجد عنبر، ومن الغرب درب يعرف بالملك
الحافظ قديما وجميع الدار الملاصقة للقاعة المذكورة من جهة الشمال والغرب، ومن الشرق درب الملك الحافظ، ومن الشمال بيت ابن كرجي، ومن الغرب بيد الخطاي وشاهين السيفي قانيباي الحمزاوي، وجميع الحمّام الذي أنشأه الواقف بالحضرة المذكورة ملاصقة لبحرة والده وجميع الحوش الملاصق للحمّام والبحرة المذكورة، حد ذلك من القبلة حوش لطيفة من إنشاء والد الواقف وإلى جانبه المدرسة الأسدية المذكورة وتمام ذلك المدرسة الأسدية وحوش لطيف داخل في الوقف ملاصق للحوش الذي به المربع الكبير المختص بالقاعة الكبيرة.
أقول: إن هذه الأماكن قد دخلت في بناء المدرسة الخسروية وقد ذكرنا ذلك في الكلام عليها في الجزء الثالث في (ص 157).
ومما وقفه جميع السوقين العامرين الكائنين تحت القلعة الملاصق القبلي منها لسوق تغري ويرمش نائب حلب (بالقرب من جامع الأطروش) والشمالي لظهور حوانيته التي توجه شرقا إلى سوق تحت القلعة. ثم ساق بقية حدود هذين السوقين، ومما وقفه جميع الخان العامر الذي أنشأه الواقف (1) داخل باب قنسرين تجاه دار الشفا وستة قراريط ونصف قيراط من الطاحون المعروف بطاحون عريبة، ومما وقفه جميع الحصة الشائعة وقدرها قيراطان من أصل 24قيراطا هي جميع القرية وأراضيها المعروفة بإدلب الكبرى من الغربيات مضافات حلب حدها من القبلة أراضي قرية إدلب الصغرى ومن الشرق أراضي قريتي بطما وبهوذا.
الكلام على درب المرمى تحت القلعة:
تتمة للفائدة نذكر درب المرمى وهو من الدروب التي كانت تحت القلعة.
(قال أبو ذر): هو الدرب الآخذ من حمّام الذهب (التي لم تزل موجودة إلى الآن) إلى ناحية القلعة، وقد بلطه الظاهر غازي، ويعرف الآن بزقاق المبلّط، ببلاط أسود وغرم عليه أموالا عظيمة، وبأوله حمّام الذهب وهي وقف على الفقراء. وهذا الوقف منسوب إلى إيدغدي ومعه حصص في قرى منها حصة بقرية كفر كرمين إلى جانب
__________
(1) قدمنا في الجزء الرابع [ص 229] أنه من بناء القاضي كمال الدين المعري، فيظهر أنه لم يكمل واشتراه المترجم وأكمله ووقفه.(5/312)
الأثارب. ثم ذكر أبو ذر ما آل إليه أمر هذا الوقف. وهذه الحمّام في حوزة دائرة الأوقاف الآن.
643 - أبو البقا محمد بن الشحنة المتوفى سنة 892
محمد بن محمد بن محمد قاضي القضاة جلال الدين أبو البقا ابن قاضي القضاة أثير الدين ابن قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل ابن الشحنة الشافعي.
ولد بحلب في مستهل ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانماية وبها نشأ، وحفظ المنهاج وبحثه وكتب الخط الحسن.
وكان جده ينسب إلى العقل والحشمة والمعرفة ومعاشرة الناس.
وخطب بحلب استقلالا خطبا بليغة وصلى بجامعها الكبير التراويح بالقرآن كله.
قال الشيخ أبو ذر المحدث: وكانت ليلة الختم ليلة عظيمة مشهودة لم ير في حلب مثلها، ومشى الأمراء والفقهاء وأرباب الوظائف في خدمته، وكان فيها من الشمع والفوانيس مالا يحصى كثرة. قال: وفي جمادى الأولى في سنة اثنتين وستين وثمانمائة ولي القضاء عن التاج الكركي، انتهى كلامه.
ثم بلغني أنه استقر في قضاء الشافعية بحلب أيضا في حادي عشر رجب سنة أربع وثمانين عوضا عن العز الحسفاوي بعد أن رفع العز إلى قلعتها، فكان رفع العز في رفع العز، فباشر منصبه هذا بجلالة وشهامة وأبهة زائدة، وأقبلت عليه الدنيا إقبالا زائدا، وكان أول قاض شافعي من بنى الشحنة، وكان له من قايتباي الأشرفي منزلة بحيث لم يأخذ منه مدة ولايته ما كان يأخذه من قضاء الشافعية عادة إلى أن أخذ في المصادرات، فطلب جدي الجمال الحنبلي إلى القاهرة بنية المصادرة أولا، فبعث جدي للجلال رسولا يطلب منه كتابا على لسانه لبعض أركان الدولة بمساعدة جدي عند قايتباي، فطلب منه فأجابه جوابا واهيا لما كان عنده من نوع بغض لجدي مع كون جدي زوج أخته، ثم لما خرج الرسول غير بالغ منه السول قال للحاضرين: إذا كان للإنسان عدو وقد رآه غرق في الأرض إلى نصفه فليحذره، وكذا إلى كتفه فإذا رآه غرق إلى عنقه فليطأه برجله ليغرق جميعه. فورد بعض الحاضرين على جدي وأخبره بما قال فلم يعد إلى طلب الكتاب منه، وتوجه إلى القاهرة
فكان في اعتقال المصادرة، وإذا بالجلال قد طلب إليها كما طلب جدي إليها، وإذا به قد دخل على قايتباي فابتدره قائلا: مرحبا بخليفة بلاد الشمال، فخرج من عنده وهو مقطوع الظهر فما وصل إلى منزله إلا وطلب منه قدر جمّ من المال، فدفعه فطلب منه قدر آخر، فلم يلبث قليلا أن مات يوم الجمعة عاشر شوال سنة اثنتين وتسعين وثمانماية. فبلغ جدي ذلك فأسف عليه مع ما كان صدر منه. وخرج من محل الاعتقال بالإذن لزيارة قبره متذكرا قصة من غرق في الأرض وأنشد متمثلا:(5/313)
ثم بلغني أنه استقر في قضاء الشافعية بحلب أيضا في حادي عشر رجب سنة أربع وثمانين عوضا عن العز الحسفاوي بعد أن رفع العز إلى قلعتها، فكان رفع العز في رفع العز، فباشر منصبه هذا بجلالة وشهامة وأبهة زائدة، وأقبلت عليه الدنيا إقبالا زائدا، وكان أول قاض شافعي من بنى الشحنة، وكان له من قايتباي الأشرفي منزلة بحيث لم يأخذ منه مدة ولايته ما كان يأخذه من قضاء الشافعية عادة إلى أن أخذ في المصادرات، فطلب جدي الجمال الحنبلي إلى القاهرة بنية المصادرة أولا، فبعث جدي للجلال رسولا يطلب منه كتابا على لسانه لبعض أركان الدولة بمساعدة جدي عند قايتباي، فطلب منه فأجابه جوابا واهيا لما كان عنده من نوع بغض لجدي مع كون جدي زوج أخته، ثم لما خرج الرسول غير بالغ منه السول قال للحاضرين: إذا كان للإنسان عدو وقد رآه غرق في الأرض إلى نصفه فليحذره، وكذا إلى كتفه فإذا رآه غرق إلى عنقه فليطأه برجله ليغرق جميعه. فورد بعض الحاضرين على جدي وأخبره بما قال فلم يعد إلى طلب الكتاب منه، وتوجه إلى القاهرة
فكان في اعتقال المصادرة، وإذا بالجلال قد طلب إليها كما طلب جدي إليها، وإذا به قد دخل على قايتباي فابتدره قائلا: مرحبا بخليفة بلاد الشمال، فخرج من عنده وهو مقطوع الظهر فما وصل إلى منزله إلا وطلب منه قدر جمّ من المال، فدفعه فطلب منه قدر آخر، فلم يلبث قليلا أن مات يوم الجمعة عاشر شوال سنة اثنتين وتسعين وثمانماية. فبلغ جدي ذلك فأسف عليه مع ما كان صدر منه. وخرج من محل الاعتقال بالإذن لزيارة قبره متذكرا قصة من غرق في الأرض وأنشد متمثلا:
لئن أخليت فيك اليوم أنسي ... فما أنا فيك من أسف خليّ
عصاني الصبر بعدك وهو طوعي ... وطاوع بعدك الدمع العصيّ
وكان القاضي جلال الدين ممن أجاز له ذو السند العالي الشيخ محمد بن مقبل ابن عبد الله المؤذن بالجامع الكبير بحلب باستدعاء الشيخ أبي ذر بن الحافظ برهان الدين الحلبي.
وقال السخاوي في الضوء في ترجمته: نشأ حنفيا فحوله جده عن مذهبهم وأضافه للمذهب الشافعي ليكون قاضي حلب ويستريح من مناكدة قضاة الشافعية لهم، فأجيب واستقر بالقضاء بها سنة 62إلى أن قال: وقدم القاهرة قبل ذلك وبعده مرارا إلى أن كانت منيته بها سنة 92ودفن بتربة جده. وهو من سمع مني الحديث في بيت المقدس حين كان مع جده فيه على الجمال ابن جماعة والتقي القلقشندي وغيرهما.
644 - إبراهيم بن الحسن الرهاوي المحدث المتوفى سنة 894
إبراهيم بن الحسن بن عبد الله الرهاوي ثم الحلبي الشافعي المعروف بالشيخ برهان الدين الرهاوي.
ولد بالرها سنة خمس وثمانماية، وقدم حلب فسمع بها على حافظها البرهان سبط ابن العجمي والحافظ ابن حجر حين قدم حلب وصار موقعا بباب قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية ثم بباب قاضي القضاة المحب أبي الفضل ابن الشحنة، وناب في الحكم عن حفيده قاضي القضاة جلال الدين أبي البقاء الشافعي، ثم أعرض عن النيابة ولزم صنعة الشهادة وكان بارعا فيها، وحدث بحلب حتى سمع منه والدي وشقيقاه وجدتي أمامة وعمتي فاطمة. توفي في الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين اهـ. (در الحبب).(5/314)
645 - إبراهيم السرميني كان حيا سنة 895
إبراهيم بن حسين بن محمد بن حبيب البرهان ابن البدر السرميني الأصل الحلبي المولد والدار الشافعي، ويعرف كسلفه بابن الحلبي.
مولده سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة بحلب، ونشأ بها فحفظ القرآن وجوده في بلده على محمد بن علي المعرتمصريني نزيل حلب ويعرف بابن الدهن، بل قرأ لعاصم وابن كثير على عمر الدركوشي الحلبي الضرير، وبالقاهرة لأبي عمرو على عبد القادر المنهاجي الأزهري الشافعي، وللسبع أفرادا على الزين جعفر السنهوري، وحفظ جل الشاطبية ومن المنهاج إلى الفرائض، وأخذ الفقه هناك عن البدر حسن السيوفي وعبد القادر بن الأبار وغيرهما، وعن أولهما قرأ في العربية، ثم قرأ فيها وفي الصرف على الشمس الدلجي الأزهري الشافعي، وقرأ الورقات في أصول الفقه على الشهاب أحمد المسيري المحلي وحضر عند غيرهم قليلا.
وقدم القاهرة غير ما مرة مع أبيه ثم مستقلا في التجارة، وسمع الحديث على جماعة بملاحظة فقيهه عمر التتائي، بل قرأ على الديمي البخاري وعليّ صحيح مسلم ولازمني في غير ذلك سنة خمس وتسعين وثمانمائة اهـ.
أقول: يظهر أن وفاته في أوائل القرن العاشر، ولم يترجمه في در الحبب.
646 - يوسف الجمال ابن النحريري المتوفى سنة 896
يوسف الجمال [أي جمال الدين] ابن النحريري الحلبي قاضيها المالكي، ممن كان يتناوب في السعي فيه هو وابن جنغل إلى أن وافقه ذاك على تقرير قدر يومي يدفعه له بشرط إعراضه عن السعي وترك المنصب له، واستمر حتى مات مقلا في أواخر سنة ست وتسعين مصروفا. وكان يكثر القدوم إلى القاهرة، وربما يتردد إليّ، وكان مزري الهيئة مشاركا من بيت اهـ.
الكلام على جامع التوبة داخل باب الفرج:
قال أبو ذر: هذا الجامع كان برجا في قرنة سور حلب بين بابي النصر والفرج، كان يذبح فيه أغنام البلد، وكان يتأذى الناس من رائحته إذ هو غربي البلد، فسعى العلامة
القاضي جمال الدين النحريري المالكي في فصل القضاة في إزالة المذبح منه وجعله جامعا تقام فيه الجمعة، وعمر له مئذنة على السور فجزاه الله خيرا.(5/315)
قال أبو ذر: هذا الجامع كان برجا في قرنة سور حلب بين بابي النصر والفرج، كان يذبح فيه أغنام البلد، وكان يتأذى الناس من رائحته إذ هو غربي البلد، فسعى العلامة
القاضي جمال الدين النحريري المالكي في فصل القضاة في إزالة المذبح منه وجعله جامعا تقام فيه الجمعة، وعمر له مئذنة على السور فجزاه الله خيرا.
أقول: قرنة سور حلب التي هنا كانت واقعة أمام مدفن السهروردي الذي اتخذ الآن دائرة للبرق والبريد، وقد أزيلت في نواحي سنة 1318حينما فتحت الجادة هناك المعروفة بالخندق وأولها من هذه القرنة وتنتهي إلى تربة الجبيلة. وأما الجامع الذي ذكره أبو ذر فدثر قبل ذلك ولا أعلم متى كان ذلك.
647 - عبد الرحمن العمادي المتوفى سنة 897
عبد الرحمن بن محمد الشيخ زين الدين العمادي الشافعي والد شيخنا.
كان أحد المعيدين الأربعة بعصرونية حلب كما كانت سكناه بها، وأما تدريسها فإنما كان في زمنه لقاضي الشافعية بحلب دونه. وكان عالما عاملا اشتغل بالعلم بالديار المصرية وكذا بالرومية، فقد أخبرت أنه قرأ العقليات بها بمدينة بروسة وغزا بها غزوتين في دولة السلطان بايزيد بن عثمان. وكان من أصدقاء جدي الجمال الحنبلي فيما أخبرني البرهانان ولده ووالدي. توفي سنة سبع وتسعين وثمانماية ودفن بمقابر الصالحين بحلب اهـ (در الحبب).
648 - الشيخ محمد أبو يحيى الكواكبي المتوفى سنة 897
محمد بن إبراهيم الرحبي الأصل ثم البيري ثم الحلبي الأردبيلي الحنفي المشهور بالكواكبي لأنه كان في مبدأ أمره حدادا يعمل المسامير الكواكبية، ثم فتح الله عليه فسلك طريق الصوفية وحصلت له شهرة زائدة حتى كانت الأمراء تأتي إلى بابه، وربما رأوه في خلال الذكر فلم يجسروا عليه ووقفوا وهو لا يهتز لهم حتى يتم ذكره، وربما كان يسير في طرقات حلب فيهتم الناس بتعظيمه وتقبيل يديه ومعه شخص من مريديه يقول: هذا صاحب الوقت.
وكان يسندون إليه الإنفاق من الغيب. [حكى] لنا شيخ شيوخ حلب الموفق بن أبي ذر المحدث أن واحدا من مريديه حكى لجده الشيخ أبي ذر أنه كان لجدي أثنا عشر درهما في كل يوم والذي ينفقه نحو الخمسين.(5/316)
قيل: دخل على صاحب الترجمة أعجمي فرآه وعليه لباس لطيف فقال له الأعجمي:
الدنيا والآخرة ضرتان لا يجتمعان، فقال له: نعم إلا أن إحداهما أخذناها بالحلال والأخرى هي لنا في الأعقاب.
ولما كانت وقعة عسكر قايتباي وبايزيد بن عثمان على آذنة لم يخرج من حجرته ذلك اليوم على خلاف العادة، فضبطوا ذلك اليوم فإذا هو يوم الوقعة. وكان قد شهدها من مريديه عشرة رجال منهم الشيخ محمد الخاتوني بواسطة أنه سئل في إرسال بعض مريديه مع الجيش تبركا بهم، قيل: وكان الخاتوني أدناهم مرتبة. قيل: وكان صاحب الترجمة ذا حواجب عريضة مهابا، مات سنة سبع وتسعين وثمانماية ودفن بجوار الجامع المعروف الآن بجامع الكواكبي بمحلة الجلّوم وعمرت عليه قبة من مال سيباي الجركسي كافلها.
وكان يقول: سيظهر من أهل طريقنا واحد على خلاف طريق أهل السنة والجماعة، فكان ذلك هو شاه إسماعيل الأردبيلي صاحب تبريز.
وكان أخذه للطريق عن الشيخ باكير المدفون ببيت المقدس عن الشيخ إبراهيم السبتي عن خوجه علي صاحب المزار المشهور ببيت المقدس عن أخيه خوجه صدر الدين الأردبيلي بسنده المشهور. وخوجه صدر الدين هذا هو جد شاه إسماعيل المذكور وجد الشيخ جنيد ابن سيدي علي بن خوجه صدر الدين المذكور، وجنيد هذا هو الذي سكن كلّز من معاملة حلب وبنى بها مسجدا وحمّاما، وكان للناس فيه اعتقاد عظيم بسبب أبيه وجده، وكانوا يأتونه من الروم والعجم وسائر البلاد، وكان على طريق الملوك لا على طريق القوم كما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه إلى أن سكن جبل موسى عند أنطاكية هو وجماعته.
ونسب إليه أنه شعاشعي نسبة إلى محمد الذي ظهر بالجزاير وقتل الناس وحملهم على الرفض ونكاح المحارم وعرف بالشعشاع، فعند ذلك ذهب الناس إليه وخرجوا إلى الجبل فاقتتل الفريقان فأسفرت الوقعة على قتلى منهما، فتسحب إلى بلاد العجم ثم خرج على بعض ملوكها فقتله. قال الشيخ أبو ذر: وبعض أصحابه يدعي حياته اهـ. (در الحبب).
أقول: قدمنا ذكر حادثة الشيخ جنيد في أوائل الجزء الثالث في حوادث سنة 861.
وقال الشيخ أحمد الحموي العلواني في تائيته وشرحها المسمى «أعذب المشارب في
السلوك والمناقب» الذي فرغ من تأليفه سنة عشر وألف:(5/317)
وقال الشيخ أحمد الحموي العلواني في تائيته وشرحها المسمى «أعذب المشارب في
السلوك والمناقب» الذي فرغ من تأليفه سنة عشر وألف:
وكان على دين المحبة والتقى ... محمد المشهور في حسن عزلة
كواكبه سارت على فلك ذكره ... إليه تدلى الذكر من جد طينة
وذاك أبو يحيى الذي عاش طيبا ... ومات على منوال أهل المحبة
الشيخ محمد الذي جده الكواكبي كان رجلا صالحا تقيا محبا العزلة والتفرد، وكان له قلب طيب لا يفتر عن ذكر الله تعالى، فقلوبنا دائمة الذكر ولو كنا سكوتا بالألسنة.
وقال لي: قد مضت لناأوقات طيبة وصبيحات بذكر الله تلذذ القلب، ولكن الهمم تقاصرت، ولو عاملنا الفقراء بالطريق لفروا بالكلية. وكنت أسمع منه أخبارا وحكما وتربية تبرز منه وعليها كسوة حال، فكنت أستدل بها على صحة قلبه رضي الله تعالى عنه ونفعنا ببركاته. ولو لم يكن من فضله إلا انقطاعه واختلاؤه مع الله لا ضرر ولا ضرار لكفاه.
وكنت أرى منه أنه كان يكره المنكر ويثقل عليه الأمر المخالف للأدب والشريعة. وكان لا يشرب القهوة، وكان يحكي لي عن رجل أنه رأى في المنام أن شرب القهوة يفرغ في أفواههم القطران المغلي، وهذا يحمل على مزج شربها بمنكر كمن يشربها في بيوت القهوات من أيدي المرد مع التجاهر بالكلام المنكر وبذل الدراهم للمرد جهارا من غير مبالاة بدين الله بل يفتخرون بذلك، فلقرنها بهذه الأفعال رأى من رأى ما رأى، وإلا فعينها حل وشربها مباح، فإن الأعيان إنما تحرم لإسكارها أو لضررها أو لنجاستها أو لكرامتها، والقهوة ليست مسكرة ولا مضرة لا في البدن ولا في العقل ولا نجسة ولا مكرمة كالآدمي فإنه إنما حرم تناول لحمه لكرامته، فالشيخ رضي الله عنه كان تركه لشربها من باب الورع ومجاهدة النفس عن ملذوذات الدنيا، وهذا حال أهل الله تعالى.
وكنت أسمع منه أخبارا في فضل زيارة الأخوان والمتحابين في الله تعالى، ولا شك في أن زيارة الأخوان وأهل الفضل والتحابب في الله من السنة.
(ثم قال): ورأيت في إجازة رتبها الشيخ شهاب الدين [بن مهنا المذكور في الترجمة] أن الطريقة الكواكبية متصلة بالشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه، ولكن جرت العادة أن الطريق إذا ظهر فيه شيخ له قوة وإذن من الله نسب ذلك الطريق إليه، فلقوّة الشيخ أبي يحيى الكواكبي نسب الطريق إليه فصار يقال الطريقة الكواكبية، ومن فضل
هذا الشيخ الذرية الطيبة ونشر طريقه في حلب، فإن غالب أهلها على حب طريقه فالحمد لله على فضله المنشور في عباده. انتهى.(5/318)
(ثم قال): ورأيت في إجازة رتبها الشيخ شهاب الدين [بن مهنا المذكور في الترجمة] أن الطريقة الكواكبية متصلة بالشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه، ولكن جرت العادة أن الطريق إذا ظهر فيه شيخ له قوة وإذن من الله نسب ذلك الطريق إليه، فلقوّة الشيخ أبي يحيى الكواكبي نسب الطريق إليه فصار يقال الطريقة الكواكبية، ومن فضل
هذا الشيخ الذرية الطيبة ونشر طريقه في حلب، فإن غالب أهلها على حب طريقه فالحمد لله على فضله المنشور في عباده. انتهى.
أقول: إن المترجم لا زال قبره موجودا في الجامع وفوقه القبة التي تقدم ذكرها وقد عرف بجامع أبي يحيى الكواكبي، وهو جد بني الكواكبي العائلة المشهورة بحلب، وقبورهم في صحن هذا الجامع لكن درس بعضها. وهذا الجامع كما قال أبو ذر يعرف قديما بمسجد ضبيان، قاله ابن شداد، وكذا رأيت مكتوبا على بابه: عمر هذا المسجد الحاج ضبيان ابن بدران في سنة ثمان وعشرين وستماية. انتهى. وفي أيامنا جدد في هذا المسجد منبر وسدة وأقيمت فيه الجمعة. وله على بابه منارة قصيرة بعمارة واقفه، ثم لما قدمت العساكر المنصورة حلب جدد له نائب صفد منارة ووسع فيه الشيخ محمد الحمصي مؤدب الأيتام زيادة كثيرة وصهريجا بجمع الماء العذب.
649 - علي بن عمر بن جنغل المتوفى سنة 897
علي بن عمر بن علي قاضي القضاة نور الدين ابن الفاضل أبي حفص زين الدين ابن جنغل، بضم الجيم والمعجمة وسكون النون بينهما، الحلبي المالكي آخرا الحنفي أولا كما كان والده.
كان ذا ثروة زائدة ودنيا عريضة بواسطة زوجته أخت الخواجا عبد القادر البغدادي الحريمي تاجر الخاص الشريف السلطاني الظاهري برسباي الذي كتبت له في دولته مسامحة بعام ثمان وتسعين وسبعماية متضمنة لمسامحته مما يجب عليه من الحقوق الديوانية والطرقات المصرية والبلاد الشامية، وأن لا يطالب بحق من الحقوق ولا بمقرر من المقررات صادرا وواردا. وقد أوقفني قاضي القضاة عفيف الدين ولد قاضي القضاة نور الدين على المسامحة المذكورة ملمعة بالذهب والمداد الأسود، وأخبرني أن جانبا من دورهم هذه المجاورة لخان أبرك بحلب كان دور الخواجا عبد القادر المذكور انتقلت إلى والده القاضي نور الدين من بعده. وأوقفني على توقيع والده بقضاء المالكية بحلب من قبل السلطان إينال فإذا صدره بعد البسملة: الحمد لله الذي جعل نور هذا الدين عليا وأيد شريعته المطهرة بمن رقي بعلمه سموّا وأصبح للوصيّ سميّا، وتاريخه سنة ثلاث وستين وثمانماية.
توفي قاضي القضاة نور الدين سنة سبع وتسعين وثمانماية ودفن بإيوان تربته الكائنة
وراء بستانه وعمارته العظمى المشرفة على ناعورة الزاوية الخضيرية بحلب اهـ. (در الحبب).(5/319)
توفي قاضي القضاة نور الدين سنة سبع وتسعين وثمانماية ودفن بإيوان تربته الكائنة
وراء بستانه وعمارته العظمى المشرفة على ناعورة الزاوية الخضيرية بحلب اهـ. (در الحبب).
وترجمه الحافظ السخاوي في ضوئه ترجمة مختصرة، ومما قاله: كان أبوه تاجرا فنشأ هذا شافعيا، ثم ساعده أبوه وبذل عنه حتى عمل قضاء المالكية وصرف به الجمال يوسف ابن النحريري وصار القضاء بينهما نوبا فتارة هذا وتارة ذاك، إلى أن حصل الاتفاق بينهما على ترك السعي على صاحب الترجمة ويلتزم به بخمس مخلفات أو نحوها في كل يوم، ووفى له بها حتى مات في أثناء سنة ست وتسعين [تقدمت ترجمته قريبا] ولم يعش هذا بعده سوى نحو أربعة أشهر ومات في صفر سنة سبع وتسعين واستقر ابنه الشمس محمد في القضاء ببذل فيه وفي المصالحة عن تركة أبيه اهـ.
650 - إسكندر بن أبجق المتوفى سنة 897
إسكندر بن محمد بن محمد الخواجه زين الدين التركماني الحلبي المشهور بابن أبجق.
كان من التجار المعتبرين والرؤساء المعمرين حتى تأهل ببنت القاضي شمس الدين بن آجا أحد قضاة العسكر بالقاهرة المعزية في الدولة الجركسية على ما سنوضحه في ترجمته، ثم ماتت فتأهل ببنته الأخرى، وملك دارا لطيفة بزقاق الملك الزاهر في قفا داره. وكان من الثروة الزائدة بمكان لما إنه كان قد دخل الهند بعد ما حج ففاض ماله ولم تخب آماله.
وأنشأ عمارة حسنة بالجبيل الصغير تشتمل على مسجد وتربة لدفنه ودفن موتاه من أولاده ونسله وعقبه وذوي أرحامه وزوجاته وعتقائه وأرقائه حسبما وجدته في كتاب وقفه رأي عين، وبها دفن في طاعون سنة سبع وتسعين وثمانماية.
آثاره في حلب:
وهو الذي جدد سقف قبلية جامع الناصرية، وتلاه ولده الجمال يوسف قاضي الحنفية بحلب فجدد ربعة شرقية (1) وقفها وصار يحسن لمن يفرقها فيه إلى أن وقفت الآن على فقير
__________
(1) في الأصل: شريف، ولعل الصواب ما أثبتناه نقلا عن مطبوعة در الحبب.(5/320)
يفرقها به سدس القاسارية التي تدخل إليها من وسط سوق داخل باب النصر بحلب على شرط ذكره في كتاب وقفه اهـ. (در الحبب).
651 - أثير الدين محمد بن محمد بن الشحنة المتوفى 898
محمد بن محمد بن محمد ابن قاضي القضاة أثير الدين أبو اليمن بن المحب أبي الفضل ابن المحب أبي الوليد الحلبي الحنفي المشهور بابن الشحنة، سبط قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية، الطائي الشافعي.
ولد في صفر سنة أربع وعشرين وثمانماية، وتوفي في سنة ثمان وتسعين وثمانماية. ولي قضاء حلب وكتابة السر ونظر الجيش بها، وحدث بها بالمدرسة السلطانية تجاه قلعتها، وكان يحضر مجلسه الأكابر، ولو لم يكن منهم حاضر إلا الشيخ قل درويش الخوارزمي لكفى، فإنه على فضائله كان يجلس بين يديه هناك لما له من السند العالي والمجد والمعالي والشمس محمد بن البيلوني.
وضبط الأفواه بمجلس الحديث إذ ذاك. قيل وكانت له الحشمة الزائدة ولو لبس أدنى الملبس، وكان مغرما بالتزوج والتسري كثير الأولاد من الذكور والإناث. اهـ. (در الحبب).
وترجمه في الضوء اللامع ومما قاله: حفظ العمدة والوقاية والمنار والملحة وعرض بعضها على البرهان الحلبي، بل سمع عليه أشياء، وكذا قرأ على البدر ابن سلامة بعض محفوظاته، وأخذ عن أبيه، وناب عنه في القضاء ببلده من سنة تسع وثلاثين وعن جده لأمه في خطابة الجامع الكبير بها أيضا، ثم استقل بالقضاء في عاشر المحرم سنة ست وخمسين إلى أن تركه لولده لسان الدين نصر وباشر نظر جيشها وقلعتها ومن التداريس بعضها، وقدم الديار المصرية على أبيه غير مرة وحج معه، وكثرت مخالطتي له فيها بل وفي بلده وسمعت خطبته بها. وهو حسن الشكالة جيد التصور كثير التودد خير من أخيه عبد البر ولكن ذاك أفضل في الجملة مع سكون هذا وتواضعه وأدبه. مات في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين بحلب.
اهـ.(5/321)
653 - الشيخ عثمان الكردي المتوفى سنة 898
عثمان بن سليمان بن إبراهيم بن سليمان بن خليل شيخ الإسلام فخر الدين الجزري ثم الحلبي الشافعي المشهور بالشيخ عثمان الكردي أحد سكان محلة المشارقة بحلب.
أفتى ودرس وكان من العلماء العاملين، سليم الفطرة نير الشيبة مراعيا للسنة في إرخاء العذبة عظيم الهمة في إراقة الخمور. قال السخاوي: مات فجأة سنة ثمان وتسعين وثمانماية.
اهـ (در الحبب).
653 - شيخ الشيوخ الشريف محمد الهاشمي المتوفى سنة 899
محمد بن علي الشريف الحسيب النسيب عز الدين أبو عبد الله الهاشمي الحلبي الشافعي شيخ الشيوخ بحلب.
توفي سنة تسع وتسعين وثمانماية، وبحكم وفاته أخذ جدي الجمال الحنبلي عنه مشيخة الشيوخ مضافة إلى ما بيده من وظيفة القضاء وغيرها. وكان من كبراء حلب ورؤسائها كأبيه شيخ الشيوخ علاء الدين علي ابن شيخ الشيوخ عماد الدين محمد ابن النقيب شهاب الدين أحمد الهاشمي الحلبي الحنفي أحد شيوخ أبي ذر ابن الحافظ برهان الدين الحلبي بالإجازة حسبما وجدته في ثبت له بخط العلامة محمد المدعو عمر بن محمد بن فهد الهاشمي المكي وغيره يتضمن ذكر وفاته في سنة اثنتين وستين وثمانماية ودفنه في تربة أسلافه خارج باب المقام. وكان يدعي أنه من نسل الحسن بن علي لا من نسل العباس. قال الشيخ أبو ذر:
وقد قلت مرة بحضرته: السيد عباسي فاغتاظ من ذلك وقال: أنا حسني. اهـ. (در الحبب).
654 - محمد بن إبراهيم السلامي المتوفى سنة 899
محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن يونس، الشمس أبو عبد الله السلامي البيري الأصل الحلبي الشافعي.
ولد تقريبا سنة إحدى عشرة وثمانماية بالبيرة، وقرأ بها القرآن على عمه. وقدم حلب
فحفظ المنهاج الفرعي والألفيتين وغيرهما، وعرض على جماعة، ولازم البرهان الحلبي فأكثر عنه، وكذا أخذ عن شيخنا النخبة وشرحها والأربعين وغير ذلك، بل قرأ عليهما مجتمعين مسند الشافعي في آخرين، وأجاز له الشرف عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي القاضي وعائشة ابنة ابن الشرائحي وخلق. وتفقه بعبد الملك بن أبي المنى وابن خطيب الناصرية، وأخذ العربية والأصلين وغيرهما عن جماعة، وكتب المنسوب على ابن مجروح، وكتب التوقيع عند ابن خطيب الناصرية، بل ناب في القضاء عنه بالبيرة ثم بحلب عن التاج عبد الوهاب الحسيني الدمشقي. وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة. وحج وزار بيت المقدس.(5/322)
ولد تقريبا سنة إحدى عشرة وثمانماية بالبيرة، وقرأ بها القرآن على عمه. وقدم حلب
فحفظ المنهاج الفرعي والألفيتين وغيرهما، وعرض على جماعة، ولازم البرهان الحلبي فأكثر عنه، وكذا أخذ عن شيخنا النخبة وشرحها والأربعين وغير ذلك، بل قرأ عليهما مجتمعين مسند الشافعي في آخرين، وأجاز له الشرف عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي القاضي وعائشة ابنة ابن الشرائحي وخلق. وتفقه بعبد الملك بن أبي المنى وابن خطيب الناصرية، وأخذ العربية والأصلين وغيرهما عن جماعة، وكتب المنسوب على ابن مجروح، وكتب التوقيع عند ابن خطيب الناصرية، بل ناب في القضاء عنه بالبيرة ثم بحلب عن التاج عبد الوهاب الحسيني الدمشقي. وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة. وحج وزار بيت المقدس.
وقدم القاهرة فأقام بها مدة وتكرر اجتماعي معه بها.
وكان فقيها فاضلا مفننا دينا متواضعا حسن الخط لطيف العشرة، كتب على الرحبية شرحا ونسخ بخطه الكثير بالأجرة وغيرها. وممن أخذ عنه أبو ذر ابن شيخه.
مات في ربيع الأول سنة تسع وتسعين ولم يخلف في الشافعية بحلب مثله رحمه الله.
655 - القاضي كمال الدين محمد بن محمود المعري المتوفى أواخر هذا القرن ظنا
محمد بن محمود المقر الكمالي كمال الدين الشافعي الشهير بابن المعري، كاتب السر وناظر الجيش بحلب في دولة السلطان قايتباي.
اتفق لجدي الجمال الحنبلي معه أن تلاقيا ذات مرة في الطريق فسلم جدي عليه فلم يرد عليه السلام، فسأله: ما الموجب لترك هذا الواجب؟ فقال: سعيك في كلتا وظيفتي، فأوضح له أنه لم يسع فلم يصغ وفارقه، وأرسل من ساعته إلى السلطان قايتباي وكان صديقه من قبل السلطنة يسأله في كلتيهما، فبعث له خفية مرسوما شريفا بتقريره فيهما وأواصاه أن لا يظهره حتى يرسل إليه ما يعتمد عليه، فما مضت مدة يسيرة إلا وقدم بنفسه إلى حلب حين نزل إلى المملكة الشامية سنة اثنتين وثمانين وثمانماية فحاسب المقر الكمالي فخرج عليه ستة آلاف دينار، فألبس جدي خلعة الوظيفتين (وفوض إليه تخليصها منه، فبقي عليه منها بقية، فأخذها من جدي وكيل السلطان بطريق العدوان، فرفع أمره إلى الأبواب الشريفة، فورد مرسوم شريف لكافل حلب بأخذ البقية ليأخذها
جدي عوضا عما أخذ منه، فعزل بعد قليل من الوظيفتين) (1). وفاته أخذهما، ولما أظهر السلطان قايتباي لجدي أنه قرره في الوظيفتين من قبل أن يلبسه الخلعة أرسل جدي إلى المقر الكمال إبراهيم بن شمس الجمالي من ساعته، فإذا هو في محل ولايته ودواته مفتوحة بين يديه، فصعد إليها وأغلقها بعنف وشدة قائلا له: لقد عزلتم، ونزل في الحال ذاهبا عنه. اهـ. (در الحبب).(5/323)
اتفق لجدي الجمال الحنبلي معه أن تلاقيا ذات مرة في الطريق فسلم جدي عليه فلم يرد عليه السلام، فسأله: ما الموجب لترك هذا الواجب؟ فقال: سعيك في كلتا وظيفتي، فأوضح له أنه لم يسع فلم يصغ وفارقه، وأرسل من ساعته إلى السلطان قايتباي وكان صديقه من قبل السلطنة يسأله في كلتيهما، فبعث له خفية مرسوما شريفا بتقريره فيهما وأواصاه أن لا يظهره حتى يرسل إليه ما يعتمد عليه، فما مضت مدة يسيرة إلا وقدم بنفسه إلى حلب حين نزل إلى المملكة الشامية سنة اثنتين وثمانين وثمانماية فحاسب المقر الكمالي فخرج عليه ستة آلاف دينار، فألبس جدي خلعة الوظيفتين (وفوض إليه تخليصها منه، فبقي عليه منها بقية، فأخذها من جدي وكيل السلطان بطريق العدوان، فرفع أمره إلى الأبواب الشريفة، فورد مرسوم شريف لكافل حلب بأخذ البقية ليأخذها
جدي عوضا عما أخذ منه، فعزل بعد قليل من الوظيفتين) (1). وفاته أخذهما، ولما أظهر السلطان قايتباي لجدي أنه قرره في الوظيفتين من قبل أن يلبسه الخلعة أرسل جدي إلى المقر الكمال إبراهيم بن شمس الجمالي من ساعته، فإذا هو في محل ولايته ودواته مفتوحة بين يديه، فصعد إليها وأغلقها بعنف وشدة قائلا له: لقد عزلتم، ونزل في الحال ذاهبا عنه. اهـ. (در الحبب).
656 - حفصة ابنة ابن خطيب الناصرية المتوفاة في هذا العقد ظنا
حفصة ابنة العلاء علي بن محمد بن سعد بن محمد الطائية الحلبية المعروف أبوها كما مضى بابن خطيب الناصرية.
ولدت سنة عشر وثمانماية تقريبا. ذكرها البقاعي مجردا اهـ.
ولم يذكر السخاوي تاريخ وفاتها فوضعتها في هذا العقد.
657 - محمد بن محمد بن خنفس المتوفى أواخر هذا القرن ظنا
محمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الواحد الشيخ شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي المشهور بخنفس ابن ابن خال جدي الجمال الحنبلي.
كان فقيها عظيما من جملة تلامذة ابن أمير حاج الحنفي يتعاطى صنعة الشهادة بمكتب العدول بسوق يشبك، ووقّع لدى قضاتها ولم يشهد على امرأة قط. وكان دينا خيرا.
وكان يكتب على الفتوى وينسخ بخطه الكتب لنفسه، إلا أن قاضي الباب ابن سراج عبث به فأنشد فيه:
الله مد لمدتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجيبا
الخنفسا ولد القضاة موقعا ... والتيس أضحى عاملا وخطيبا
أراد بالتيس تاج الدين ابن المعزاية الحراني لما كان بينه وبينه من المهاجاة.
__________
(1) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب».(5/324)
واتفق له ذات يوم أنه حضر بمجلس قاض لأداء شهادة فجرى هناك ذكر رجل حقير ارتكب أمرا حقيرا فظنه أمرا عظيما، فقال بعض الحاضرين بنية ضرب المثل: بالت البغلة، عامت الزبلة، ركبت الخنفسا، فتغير مزاجه في الحال واعتقد أن ذلك في حقه إلى أن أزالوا ما في خاطره اهـ. (در الحبب).
658 - محمد بن السيد منصور المتوفى في هذا العقد ظنا
محمد بن محمد بن علي بن هاشم بن مرهف بن محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين ابن عبد الله بن أحمد المعالم ابن الحسين المقدم بالكوفة ابن حسن الكبير ابن عيسى بن عبد الله بن موسى الكاظم السيد الشريف قاضي القضاة رضي الدين أبو بكر وأبو جعفر الموسوي الحسيني الحلبي الحنبلي المشهور بابن السيد منصور المرفوع نسبه إلى موسى الكاظم رضي الله عنه، هكذا قال على حسب ما وجدته بخطه في مجموع وإن لم يكن فيه اسم منصور، لأن هذا الاسم كان لقبا لأبيه محمد وكان نشاويا وبه كانت شهرته في الوثايق الشرعية المكتتبة بمحكمته وغيرها.
كان القاضي رضي الدين في مبتدأ أمره يتعانى الأدب وينظم الشعر ويجلس بمركز العدول بسوق الصابون، ثم أخذ في تحصيل العلم والحديث عن جماعة من الحلبيين منهم البرهان ابن الضعيف الشافعي والعلاء بن مفلح الحنبلي قاضي حلب والشمس السلامي، ثم رحل القاضي رضي الدين إلى القاهرة فكان ممن أخذ عنه الحديث وغيره قراءة وسماعا في سنة سبع وثمانين وثمانماية المحب أبو الفضل ابن الشحنة بمشاركة صهره الحافظ جمال الدين بن شاهين الكركي سبط الحافظ الناقد ابن حجر وولده القاضي أثير الدين وسبط ولده هذا عمي النظام الحنبلي. ثم تنفس له الدهر فرأس وخالط أركان الدولة، وحدثته نفسه بتولي المناصب السنية والمناصبة فيها والمزاحمة عليها كما زاحم أرباب التصانيف، فشرع في كتاب سماه «التراجم المحررة المزادة على التذكرة» ولم يتمه لم يكتب منه إلا اليسير على ما وجدته بخطه، وهو الذي قصد أن يضمنه تراجم ظفر بها ما لم يذكره البرهان الحلبي في كتابه «تذكرة الطالب المعلم عمن يقال إنه مخضرم». ثم ولي عن جدي الجمال الحنبلي كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة الحلبية سنة تسعين، وبعث من القاهرة إلى شيخه الجلال النصيبي يستنيبه في مناصبه إلى أن يحضر، فأساء الأدب معه إذ ترفع عليه، فصمم على
بيع بيته بحلب ورحل إلى حماة ورأى أن لا يكون بحلب وذاك بها، إلى أن آل البيت إلى حفيده البدر حسن وعاد الماء إلى مجراه. ثم أضيف إلى القاضي رضي الدين قضاء الحنابلة بحلب سنة ثمانماية وإحدى وتسعين فجعل توقيعه (الحمد لله مظهر الحق). ثم عزل بجدي سنة خمس وتسعين. وكان قد تجمع عليه للخزائن الشريفة بسبب كتابة السر ونظر الجيش مال، فامتحن بالاعتقال بحلب.(5/325)
كان القاضي رضي الدين في مبتدأ أمره يتعانى الأدب وينظم الشعر ويجلس بمركز العدول بسوق الصابون، ثم أخذ في تحصيل العلم والحديث عن جماعة من الحلبيين منهم البرهان ابن الضعيف الشافعي والعلاء بن مفلح الحنبلي قاضي حلب والشمس السلامي، ثم رحل القاضي رضي الدين إلى القاهرة فكان ممن أخذ عنه الحديث وغيره قراءة وسماعا في سنة سبع وثمانين وثمانماية المحب أبو الفضل ابن الشحنة بمشاركة صهره الحافظ جمال الدين بن شاهين الكركي سبط الحافظ الناقد ابن حجر وولده القاضي أثير الدين وسبط ولده هذا عمي النظام الحنبلي. ثم تنفس له الدهر فرأس وخالط أركان الدولة، وحدثته نفسه بتولي المناصب السنية والمناصبة فيها والمزاحمة عليها كما زاحم أرباب التصانيف، فشرع في كتاب سماه «التراجم المحررة المزادة على التذكرة» ولم يتمه لم يكتب منه إلا اليسير على ما وجدته بخطه، وهو الذي قصد أن يضمنه تراجم ظفر بها ما لم يذكره البرهان الحلبي في كتابه «تذكرة الطالب المعلم عمن يقال إنه مخضرم». ثم ولي عن جدي الجمال الحنبلي كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة الحلبية سنة تسعين، وبعث من القاهرة إلى شيخه الجلال النصيبي يستنيبه في مناصبه إلى أن يحضر، فأساء الأدب معه إذ ترفع عليه، فصمم على
بيع بيته بحلب ورحل إلى حماة ورأى أن لا يكون بحلب وذاك بها، إلى أن آل البيت إلى حفيده البدر حسن وعاد الماء إلى مجراه. ثم أضيف إلى القاضي رضي الدين قضاء الحنابلة بحلب سنة ثمانماية وإحدى وتسعين فجعل توقيعه (الحمد لله مظهر الحق). ثم عزل بجدي سنة خمس وتسعين. وكان قد تجمع عليه للخزائن الشريفة بسبب كتابة السر ونظر الجيش مال، فامتحن بالاعتقال بحلب.
ومن شعره ما ضمنه مصراعا للشريف الرضي الموسوي:
إن المكارم والأخلاق ترفعني ... إلى العلا أتخطى كل مختدم
جدي النبي وأمي بنته وأبي ... وصيه وجدودي خيرة الأمم
وقوله في مطلع مدح:
قسما بنار في الحشا تتسعر ... وأسى يزيد ومهجة تتفطر
وصبابة لا منتهى لأقلها ... وجوى يفيض ومقلة تتقطر
إني على عهد المحبة ثابت ... تتغير الدنيا ولا أتغير
لا أنقض الود الذي أبرمته ... حاشا لمثلي في هواكم يغدر
أنا حبكم قد حل بين جوانحي ... فلذا السلو بخاطري لا يخطر
إلى أن قال:
ولرب دهر قد تناعس وانثنى ... وغدت سهام خطوبه لي توتر
أمضى صوارمه لنحري عامدا ... فكأنه شرر لحربي ينظر
وأراه للحرمان مبتسما ولي ... يفتر عن أنيابه ويكشر
ثم قال:
هذي أسايا الدهر يخفض كاملا ... والنذل فيها لا يزال يصدّر
جار الأعادي في المظالم وافتروا ... وأتوا ببغي زائد وتكبروا
ثم قال:
إن أبرموا سوءا فربي حسبنا ... هو ملجأي إن أضرموا أو أضمروا
إن أجمعوا الخذلان لست بواجم ... إن كان شمس الدين لي قد ينصر
اهـ. (در الحبب).(5/326)
إن أبرموا سوءا فربي حسبنا ... هو ملجأي إن أضرموا أو أضمروا
إن أجمعوا الخذلان لست بواجم ... إن كان شمس الدين لي قد ينصر
اهـ. (در الحبب).
659 - يوسف بن عبد الرحمن الحنبلي المتوفى سنة 900
يوسف بن عبد الرحمن بن الحسن قاضي القضاة زين الدين أبي البشرى عبد الرحمن التادفي الحلبي الحنبلي جدي سبط الشهاب أحمد بن عبد الواحد بن علي بن محمد بن يوسف ابن محمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي.
ولد كما أخبرني من أثق به عنه سنة خمس وعشرين وثمانمائة.
وكان من خبره أن والده توفي عنه صغيرا فنشأ تحت كنف خاله، وحفظ القرآن العظيم وجود الخط وأخذ عن أخواله الأنصاريين صنعة التوريق ومعرفة الشروط لأنهم كانوا عدولا بحلب فضلاء عارفين بشروط الوثايق الشرعية، ولازم بها محاكم قضاة القضاة الأجلاء المتقدمين بمشيخة الإسلام من ذوي المذاهب الأربعة كالمحب أبي الفضل محمد بن الشحنة الحنفي والبرهان إبراهيم السوبيني الشافعي وكان كما قال السخاوي من أوعية العلم مطرح التكلف على طريق السلف محمود السيرة والعز النحريري المالكي وقاضي الحنابلة سالم ابن سلامة الحموي، حتى قال السخاوي: إنه حنبله ووقع بين يديه بل ناب عنه، وهذا منه مشعر بأنه لم يكن حنبليا، وليس ببعيد لما أنه نشأ بين أظهر أخواله، وإنما كانوا مقلدين أبا حنيفة رضي الله عنه.
ونسخ بخطه كثيرا من المبسوطات كالبخاري وغيره، وقابل وصحح وطالع وتصفح، وكثيرا ما أفتى لمن له استفتى. واتفق له في مقابلة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للترمذي على نسخة البرهان الحلبي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، ووقف على قواعد ابن رجب في مذهب الحنابلة فإذا هو كتاب يفتقر إلى التهذيب وحسن الترتيب فهذبه تهذيبا ورتبه ترتيبا عجيبا وعرض ما وضعه وهو يومئذ بالقاهرة على الإمامين الجليلين الحنبليين الشهاب أحمد الشيشني والبدر محمد السعدي، فقرظا له تقريظا حسنا، وناهيك بالمثنّى
بذكره عالما، فقد خضع له شيخ حنابلة الشام العلاء المرداوي وأذعن له إذ أخطأ في أشياء كائنة في تصانيفه.(5/327)
ونسخ بخطه كثيرا من المبسوطات كالبخاري وغيره، وقابل وصحح وطالع وتصفح، وكثيرا ما أفتى لمن له استفتى. واتفق له في مقابلة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للترمذي على نسخة البرهان الحلبي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، ووقف على قواعد ابن رجب في مذهب الحنابلة فإذا هو كتاب يفتقر إلى التهذيب وحسن الترتيب فهذبه تهذيبا ورتبه ترتيبا عجيبا وعرض ما وضعه وهو يومئذ بالقاهرة على الإمامين الجليلين الحنبليين الشهاب أحمد الشيشني والبدر محمد السعدي، فقرظا له تقريظا حسنا، وناهيك بالمثنّى
بذكره عالما، فقد خضع له شيخ حنابلة الشام العلاء المرداوي وأذعن له إذ أخطأ في أشياء كائنة في تصانيفه.
وولي جدي قضاء الركب الحجازي. وفي ثالث عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين وثمانماية ولاه العز النحريري الحكم بمدينة ديركوش وأعمالها، ثم ولاه السوبيني وظيفة الحكم والقضاء بمدينتي كلّس والراوندان سنة خمسين وثمانماية، وفيها أذن له أمير المؤمنين المستكفي بالله العباسي في العقود الحكمية بحلب وأعمالها وفي الفسوخ على قاعدة مذهبه وكتب له خطه بالإذن على هامش قصة رفعها إليه. وفي ثالث ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وثمانماية ولاه الأثير ابن الشحنة الحنفي خلافة الحكم بمدينة الباب، وكان كل قاض مأذونا له في نصب من يحكم في الوقايع على قاعدة مذهبه حيث لا خلاف بين الناصب والمنصوب.
ثم تولى قضاء حلب في حدود الستين على ما ذكره قاضي القضاة مجير الدين المقدسي الحنبلي في تاريخه المسمى «بالتاريخ المعتبر في أنباء من عبر» حيث قال في ترجمته: وكان من أهل الفضل حسن الشكل وخطه حسن وله مروءة وشهامة، وكانت ولايته لمنصب القضاء بحلب في دولة الملك الأشرف إينال في حدود الستين وثمانماية عوضا عن قاضي القضاة علاء الدين مفلح رحمه الله تعالى. انتهى.
وذكر في موضع آخر في تاريخه هذا أن العزل والولاية وقعا لجدي به مرات، ويعضد ما ذكر تصريح الشيخ أبي ذر في تاريخه بوقوع ولاية جدي به في صفر سنة ستين وثمانماية، فلما كانت دولة الملك الظاهر خشقدم كتبت إليه مكاتبة من قبله مؤرخة في ربيع الأول سنة ثمان وستين وثمانماية تتضمن إعلامه بأن المقر الزيني بن مزهر الأنصاري الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية فاوض مسامعه الشريفة في أمره وتزايد شكره فيه وثناؤه عليه وأنه قرره على ما بيده من قضاء الحنابلة بحلب، وبعث له خلعة أمر كافلها في مثال (1) كتبه إليه بأن يلبسه إياها بدار العدل، ثم عزل عنه ثم ولاه إياه سنة إحدى وسبعين وثمانماية وكتب له توقيع، وهو المسمى الآن بالبراءة، متوج بما نصه:
الحمد لله الذي أعاد لمنصب الشريعة المطهرة الحاكم الذي تحلى من العلوم بحلل الجمال،
__________
(1) في الأصل: كتاب، وفي «در الحبب»: مثال. والمثال: هو الأمر العادي أو القرار الذي يصدره السلطان لإنهاء أي خبر، بالإضافة إلى دلالته عن معنى الوثيقة الإقطاعية.(5/328)
ونصب لرفع مناره من العلماء من إذا تكلم في الأحكام أزال اللبس والإشكال، وكان مسددا في الأقوال والأفعال. ثم كتب له توقيع ثان في السنة الثانية متوج بما نصه: الحمد لله الذي أعلى منار الشرع وزانه بجماله، وجلا دجاه بمن تحسده البدور في الأفق ليالي التمام على كماله، وشيد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيأت الأحكام تحت ظلاله.
ثم لما نزل الملك الأشرف قايتباي إلى المملكة الشامية سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة أنعم عليه باستقراره في كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة مضافة إلى منصب القضاء كما أفاد ذلك القاضي مجير الدين في تاريخه. ثم قرر الرضي بن السيد منصور الحنبلي (المترجم قبل هذا) في الوظايف الثلاث في أواسط سنة تسعين وثمانماية، وبرز أمره برفع جدي إلى القلعة الحلبية، وطلب خمسة آلاف دينار منه لأن أيامه كانت أيام مصادرات، فرفع إلى مقام الخليل عليه السلام فبقي بها ستة أشهر يختم في كل يومين منها ختمة، وبعث إلى صديقه (قانصوه خمسماية) يستنهضه في رفع هذه المحنة، فسأل المقام الشريف في ذلك فسمح بإطلاقه من القلعة ولم يسامح عن الخمسة آلاف دينار بخمسمائة، بل طلبه إلى القاهرة وطالبه بها في صورة أنها باقية عليه من متحصل الوظايف وقال له: أين مالي؟ فقال له: في خزائن مولانا، فلما رآه قد أغلظ عليه بالقول عزله عن قضاء الحنابلة أيضا وسجنه، فبقي بالسجن نحو ثلاث سنين يتعاطى فيها التلاوة والأوراد والتسبيح والتأليف، وكتب له وهو بالسجن وصية خالية عن حرف الألف تعرضنا لذكر بعضها في كتابنا المسمى «بحدائق أحداق الأزهار ومصابيح أنوار الأنوار» وقصيدة أغلظ فيها القول أيضا موميا فيها إلى الرضي بن السيد منصور الحنبلي. (قائلا في مطلعها (1):
قل للذي عم الخلائق بأسه ... يا أيها الملك العظيم الأشرف
انظر لخلق الله نظرة رحمة ... في آخر العمر الذي لا يخلف
واستر عوار الملك يا من عزمه ... هدّ الجبال وعقله لا يوصف
في مثل هذا الوقت تنصب صبية ... لم يعرفوا والله أن يتصرفوا
وتعود أحوال البلاد قطيعة ... والناس فوضى ما لهم من ينصف
__________
(1) أثبتنا ما بين قوسين عن «در الحبب».(5/329)
حلب تريد لها رجالا كمّلا ... ليدبروا أمر العباد وينصفوا
وإذا بغى باغ تولوا قمعه ... بسديد رأي صائب وتألفوا
واستجلبوا الدعوات من صلحائهم ... لملوكهم وتضرعوا وتلهفوا)
وكتب للمقر الزيني أبي بكر بن مزهر الشافعي يطلب منه إسعافه قصة خالية عن حرف الألف خطا ورفعها إليه على يد عمي القاضي نظام الدين يحيى، إلا أنه لم يكتب له هذه إلا وهو في ترسيم خاصكي بعد آخر (هكذا) إلى أن آل أمره إلى السجن فرفع وهو فيه إلى الأشرف قايتباي نظير هذه القصة كما علمت. ثم ألف له وهو فيه أيضا كتابة الموسوم «بمفاتيح الكنوز الثنية المشتملة على الأدعية المروية الجالبة للخيرات الدنيوية والأخروية المهداة إلى الخزائن الأشرفية» ورفعه إليه يوم الموكب على يد إبراهيم بن شمس الجمالي فقال له: قل للقاضي جمال الدين يرسل لنا من كنوزه، فقال في جوابه بديهة. كيف وقد صارت مفاتيحها بيد مولانا السلطان، فأعجبه الجواب ففرج عن جدي وجبر قلبه وولاه قضاء الحنابلة بحلب كما كان سنة خمس وتسعين.
قال السخاوي: وكذا ولي نظر القلعة والجوالي، وطلب مرة أخرى في أيام سلطنته إلى الأبواب الشريفة لشكاية بعض الحلبيين عليه بأنه حكم بصحة بيع وقف عامر آل ريعه إليه، فسأله قاضي الجنابلة بالديار المصرية بدر الدين السعدي: على أي نقل مسوغ لهذا البيع اعتمدت؟ فسكت طويلا، فأعاد عليه سؤاله فأطال سكوته ثانيا، فكرر السؤال ثالثا فأخذ يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر المرة بعد المرة، إلى أن قال: اعتمادي على نقل في الكتاب الفلاني وكان النقل من خبايا زواياه، فأنكر عليه قوله وشدد عليه في السؤال رابع مرة إلى أن ظهر النقل حيث لا يعهد ذكره فيه، فظهر أن الحق بيده، فأثنى عليه قاضي القضاة السعدي، وبلغ ذلك السلطان قايتباي فأذن له إذنا خاصا في إجراء الأحكام الشرعية بالقاهرة بين طائفتين من الحلبيين كانوا قد توجهوا إليها في دعاوي مشكلة تتعلق بأوقافهم من جهة الاستحقاق والحجب عنه، فكان قضاتها يعجزون عن فصلها لعدم خبرتهم بأنساب أهلها، فحكم بينهم بالأمر السلطاني، وعاد إلى حلب وهو على وظيفته بل وظائفه.
وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة ولي مشيخة الشيوخ بحلب مضافة إلى منصب القضاء وما معه بعد أن اجتمع بدار العدل بهما، وكافلها يومئذ السيفي أزدمر، وجماعة من قضاة
القضاة ومشايخ الإسلام وجم غفير من الفقراء القادرية والرفاعية وغيرهم، ورضوا به أن يكون شيخ شيوخ حلب، فألبسه الخلعة كافلها، فذهب بها إلى منزله وهم معه في يوم مشهود مد لهم فيه السماط على جاري العادة، وكانت خرقته قادرية ألبسه إياها السيد الشريف عبد الرزاق الحموي الكيلاني وأجاز له أن يجلس على سجادة المشيخة وأن يأخذ عهد التوبة على كل طالب وراغب وأن يتصرف مع سائر طوائف الفقراء تصرفا عاما مقيدا بالكتاب والسنة، وكتب له درجا حافلا بالإجازة مؤرخا بشهر صفر الخير من السنة المذكورة مرقوما في صدره بعد البسملة: الحمد لله الذي نره مكنون سر جماله المصون عن الحلول، وقدس لطيف ألطاف نور كماله عن الغياب والأفول.(5/330)
وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة ولي مشيخة الشيوخ بحلب مضافة إلى منصب القضاء وما معه بعد أن اجتمع بدار العدل بهما، وكافلها يومئذ السيفي أزدمر، وجماعة من قضاة
القضاة ومشايخ الإسلام وجم غفير من الفقراء القادرية والرفاعية وغيرهم، ورضوا به أن يكون شيخ شيوخ حلب، فألبسه الخلعة كافلها، فذهب بها إلى منزله وهم معه في يوم مشهود مد لهم فيه السماط على جاري العادة، وكانت خرقته قادرية ألبسه إياها السيد الشريف عبد الرزاق الحموي الكيلاني وأجاز له أن يجلس على سجادة المشيخة وأن يأخذ عهد التوبة على كل طالب وراغب وأن يتصرف مع سائر طوائف الفقراء تصرفا عاما مقيدا بالكتاب والسنة، وكتب له درجا حافلا بالإجازة مؤرخا بشهر صفر الخير من السنة المذكورة مرقوما في صدره بعد البسملة: الحمد لله الذي نره مكنون سر جماله المصون عن الحلول، وقدس لطيف ألطاف نور كماله عن الغياب والأفول.
وفي أواخر عمره منع الموقعين ببابه أن يترجموا له في الوثايق الشرعية الترجمة المبسوطة، التي كادت تكون بمجاوزة الحد منوطة، وأمرهم أن لا يترجموا له بأكثر من قاضي المسلمين تالي كلام رب العالمين خادم سنة سيد المرسلين محب الفقراء والمساكين.
وعند ما قرب أوان وفاته رأى في منامه كأنه سقط في حفرة دولاب ووضعت عليه اللبنات كما في القبر، فأصبح محموما وهو يخبر أن تلك الحفرة ما هي إلا القبر وأنه يموت بتلك الحمى، وكان الأمر كما قال، ولم يزل عند الاحتضار يذكر الله تعالى إلى أن خفي صوته شيئا فشيئا وفارق الدنيا. وكانت وفاته في المحرم سنة تسعمائة ودفن بتربته التي أنشأها خارج باب المقام، واختلق عليه بعض الحساد أنه سماها إرم ذات العماد، ورفع ذلك إلى مسامع السلطان قايتباي حتى كانت منه المصادرة لتوهم أن له الأموال الكثيرة الوافرة.
وقد بلغني أنه كان مع ما له من الفضائل العلمية والمآثر العملية لسنا جهوري الصوت حسن التلاوة حسن النية معمور الطوية معتقدا لسان المجالس وترجمان المحافل مقدام كل خطب، حلّال كل أمر صعب، منور الشيبة ووافر الهيبة، مخفوض الجناح ومائلا إلى أرباب أهل الصلاح، يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم كما هو الأحق. ونظم ونثر ورفع إليه الكثير من أشعار الأدباء وقصائد النجباء. وممن نطق بمدحه وأشار إلى علو صرحه قاضي القضاة الجلال النصيبي الشافعي. قيل وممن مدحه شيخنا العلاء الموصلي والشهاب أحمد ابن الكاتب الحنفي وعلي السروي الأزهري. ثم مع ما قيل فيه من المدح لم يكن سالما من القدح، وذلك أن السخاوي ذكر في تاريخه أنه تزوج امرأة يقال لها الصفيرا ثم فارقها
وتزوج بابنة الشمس الأنصاري وهي سمراء اللون أمها أمة سوداء، فقال قاضي الباب الشهاب ابن السراج فيه:(5/331)
وقد بلغني أنه كان مع ما له من الفضائل العلمية والمآثر العملية لسنا جهوري الصوت حسن التلاوة حسن النية معمور الطوية معتقدا لسان المجالس وترجمان المحافل مقدام كل خطب، حلّال كل أمر صعب، منور الشيبة ووافر الهيبة، مخفوض الجناح ومائلا إلى أرباب أهل الصلاح، يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم كما هو الأحق. ونظم ونثر ورفع إليه الكثير من أشعار الأدباء وقصائد النجباء. وممن نطق بمدحه وأشار إلى علو صرحه قاضي القضاة الجلال النصيبي الشافعي. قيل وممن مدحه شيخنا العلاء الموصلي والشهاب أحمد ابن الكاتب الحنفي وعلي السروي الأزهري. ثم مع ما قيل فيه من المدح لم يكن سالما من القدح، وذلك أن السخاوي ذكر في تاريخه أنه تزوج امرأة يقال لها الصفيرا ثم فارقها
وتزوج بابنة الشمس الأنصاري وهي سمراء اللون أمها أمة سوداء، فقال قاضي الباب الشهاب ابن السراج فيه:
ولرب قاض أحمر من كعبه ... ما كان قط له يد بيضاء
لعبت به الصفراء أول عمره ... والآن قد لعبت به السوداء
قلت: وهجاء قاضي الباب إنما صدر منه في حقه بواسطة أنهما كانا يتناوبان قضاء الباب عزلا وتولية، وعدو المرء من يعمل بعمله فلا يقبل منه ما كان صدر عنه.
وهذا قاضي القضاة شيخ الإسلام العز محمد بن خليل بن هلال الحاضري الحلبي الحنفي والد العز محمد الذي كان تولى قضاء سرمين قد أثنى عليه وهو رفيقه في الأخذ عن مشايخ عدة كثيرا سماعا واشتغالا في الرحلة وغيرها، منهم الحافظ برهان الدين الحلبي فقال:
لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذي اجتمع فيه من العلم الغزير والتواضع الكثير والدين المتين والذكر والتلاوة. ثم كان قدح المحب أبي الفضل ابن الشحنة فيه لاشتغاله بقضاء حلب بعد أبيه. قال في «اقتطاف الأزاهر في ذيل روض المناظر»: وكان حسن الذات والأدوات مطرحا للتكليف لا يعاب بشيء سوى التصون وشراء حاجته بنفسه ومراعاته للدولة، وعدم مخالفة ولده عز الدين أبي المحامد وأنه أغراه على الإذن للفرنج المقيمين بسرمين بإعادة الكنيسة بها والحكم بذلك بخدمة له ولولده عادت عليها نقمة، فإن ذلك فتح عليهما بابا واسعا في أعراضهما اهـ. (در الحبب).
هذا ما ترجمه به حفيده الرضي الحنبلي، وإذا تأملت في حواشي كلامه تجد أنه لم يكن في الاستقامة والصيانة في الدرجة التي ذكرها حفيده الرضي.
وله ترجمة موجزة في ضوء السخاوي تؤيد ما قلناه، فقد قال: إنه اختص بسالم بن سلامة بن سلمان الحموي قاضي الحنابلة بحلب فحنبله ووقع بين يديه بل وناب عنه، وامتحن بالضرب والإشهار من الشهاب الزهري لشهادة شهدها للمحب ابن الشحنة، ثم لما قتل مخدومه سالم رام من العلاء بن مفلح الاستنابة فامتنع لقرب عهده مما تقدم، فانتمى للزين عمر بن السفاح فساعده عند الجمالي ناظر الخاص بحيث إن العلاء لما انتقل لقضاء دمشق استقر عوضه في حلب ببذل معجز وتقرير سنوي، وتكرر صرفه عنه إلى أن ولاه الأشرف قايتباي كتابة سرها ونظر الجيش أيضا عوضا عن الكمال المعري حين
حبسه بالقلعة مضافا للقضاء، ثم صرف عن الثلاثة بالسيد ابن أبي منصور بسفارة الخيضري مع مال بذله وتقرير أيضا، وطلب هذا إلى القاهرة فنقم عليه أنه باطن في قتل ابن الصوة وحبس بالمقشرة بحجة ما تأخر عليه من المال الملتزم به، فدام بها نحو خمس سنين إلى أن أطلق بعناية يشبك الجمالي وأعيد للقضاء في سنة خمس وتسعين. (ثم قال): وذكر بفضل، بل قيل إنه صنف مما فرضه له السعدي قاضي مصر، وهو حسن الشكالة والكتابة فصيح العبارة مصاهر لبيت ابن الشحنة اهـ.(5/332)
وله ترجمة موجزة في ضوء السخاوي تؤيد ما قلناه، فقد قال: إنه اختص بسالم بن سلامة بن سلمان الحموي قاضي الحنابلة بحلب فحنبله ووقع بين يديه بل وناب عنه، وامتحن بالضرب والإشهار من الشهاب الزهري لشهادة شهدها للمحب ابن الشحنة، ثم لما قتل مخدومه سالم رام من العلاء بن مفلح الاستنابة فامتنع لقرب عهده مما تقدم، فانتمى للزين عمر بن السفاح فساعده عند الجمالي ناظر الخاص بحيث إن العلاء لما انتقل لقضاء دمشق استقر عوضه في حلب ببذل معجز وتقرير سنوي، وتكرر صرفه عنه إلى أن ولاه الأشرف قايتباي كتابة سرها ونظر الجيش أيضا عوضا عن الكمال المعري حين
حبسه بالقلعة مضافا للقضاء، ثم صرف عن الثلاثة بالسيد ابن أبي منصور بسفارة الخيضري مع مال بذله وتقرير أيضا، وطلب هذا إلى القاهرة فنقم عليه أنه باطن في قتل ابن الصوة وحبس بالمقشرة بحجة ما تأخر عليه من المال الملتزم به، فدام بها نحو خمس سنين إلى أن أطلق بعناية يشبك الجمالي وأعيد للقضاء في سنة خمس وتسعين. (ثم قال): وذكر بفضل، بل قيل إنه صنف مما فرضه له السعدي قاضي مصر، وهو حسن الشكالة والكتابة فصيح العبارة مصاهر لبيت ابن الشحنة اهـ.(5/333)
(أعيان القرن العاشر)
660 - علي علاء الدين العربي المتوفى سنة 901 (1)
المولى علي علاء الدين العربي. قال في «الشقايق النعمانية»: كان أصله من نواحي حلب، قرأ أولا على علماء حلب، ثم قدم بلاد الروم وقرأ على المولى الكوراني وهو مدرس بمدينة بروسة، ثم وصل إلى خدمة المولى خضر بك ابن جلال الدين وحصل عنده علوما كثيرة، ثم إنه صار معيدا له بأدرنة بمدرسة دار الحديث وصنف هناك حواشي شرح العقائد، ثم صار مدرسا بمدرسة السلطان مراد خان بن أورخان الغازي بمدينة بروسة، واتفق أن جاء الشيخ علاء الدين من رؤساء الطائفة الخلوتية فذهب يوما إلى دار المولى العربي ودق بابه فخرج وسلم هو عليه ثم أدخله بيت مطالعته وأحضر له الطعام وتحدث معه في فن التصوف، فانجذب إليه المولى العربي انجذابا شديدا حتى اختار صحبته على التدريس وأكمل عنده الطريقة الصوفية حتى أجازه في الإرشاد. ولما اجتمع الناس على الشيخ علاء الدين المذكور لقوة جذبته حصل منه الخوف للسلطان محمد خان، فنفاه من البلد. وأراد المولى علاء الدين أن يجادل عنه ويجيب لخصمائه فنفوه معه إلى بلدة مغنيسا وكان أميرها وقتئذ السلطان مصطفى ابن السلطان محمد خان، فصاحب هو مع المولى علاء الدين العربي المزبور وأخيه محبة عظيمة فشفع له إلى أبيه، فأعطاه أبوه مدرسة ببلدة مغنيسا فاشتغل هناك بالعلم غاية الاشتغال، واشتغل أيضا بطريقة التصوف فجمع بين رياستي العلم والعمل. يحكى عنه أنه سكن فوق جبل هناك في أيام الصيف، فزاره يوما واحد من أئمة بعض القرى فقال المولى المذكور: إني أجد منك رائحة النجاسة، ففتش الإمام ثيابه فلم يجد شيئا، فلما أراد أن يجلس سقط من حضنه رسالة وهي واردات الشيخ بدر الدين ابن
__________
(1) تنبيه: ما نذكره في هذا القرن بدون عزو فهو منقول عن «در الحبب» للرضي الحنبلي.(5/334)
قاضي سماوة (1)، فنظر فيها المولى المذكور فوجد فيها ما يخالف الإجماع، وقال المولى: كأن الريح المذكور لهذه الرسالة، فأمره بإحراقها، فخالفه الإمام ولم يرض بذلك، وقال له المولى المذكور: عليك بإحراقها ولا يحصل لك منها الخير، وبينما هما في ذلك الكلام ظهر من بعيد أثر النار، فنظر الإمام وقال: إنها في قريتي، ثم نظر بعد ذلك وتأمل وقال: أوّه إنها في بيتي، فتوجه الإمام إلى بيته نادما على مخالفته.
وروي أنه كان لبعض أبنائه ولد فمرض في بعض الأيام مرضا شديدا حتى قرب من الموت، فذهب والده إلى بيت المولى المذكور وهو في الخلوة الأربعينية فتضرع بأن يذهب إلى المريض ويدعو له، فلم يرض بذلك، ثم أبرم عليه غاية الإبرام فخرج من الخلوة ودخل على المريض وهو في آخر رمق من الحياة، فمكث ساعة مراقبا ثم دعا له بالشفاء، فاستجاب الله دعوته حتى قام المريض من فراشه، فأخذ المولى المذكور بيده فأخرجه من البيت كأن لم يمسه مرض أصلا، وعاش ذلك الولد بعد وفاة المولى المذكور مدة كبيرة.
ثم صار المولى العربي مدرسا بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنة ثم بإحدى المدارس الثمان، وكان في كل جمعة يعقد في الجامع مجلس الذكر مع المريدين له.
وكثيرا ما يغلب عليه الحال في ذلك المجلس ويغيب عن نفسه، ولهذا كان لا يقدر على الدرس يوم السبت ويدرس بدله يوم الاثنين. ثم عين له السلطان محمد خان في آخر سلطنته كل يوم ثمانين درهما، فلما جلس السلطان بايزيد خان على سرير السلطنة غيّر ذلك وعيّن له خمسين درهما، وكان ذلك رغما من جانب بعض الوزراء، فتردد في القبول فنصحوا له فقبل ثم جعلوا له ثمانين درهما.
ثم صار مفتيا بقسطنطينية وعين له كل يوم مائة درهم، مات وهو مفت بها سنة إحدى وتسعمائة.
وكان رحمه الله تعالى عالما بالعلوم العقلية والشرعية سيما بالحديث والتفسير وعلم أصول الفقه، وكان كتاب التلويح في حفظه ويدرس منه كل يوم ورقتين. قال المولى الوالد:
كنت في خدمته مقدار سنتين وقرأت عليه كتاب التلويح من الركن الأول إلى آخر الكتاب،
__________
(1) في «الشقائق النعمانية»: سمادنة. وفي طبعة إستانبول للشقائق: سماوند.(5/335)
وكان يمتحن الطلاب في المواضع المشكلة ويصرح بالاستحسان لمن أصاب. قال: وكان رجلا طويلا عظيم اللحية قوي المزاج حتى إنه كان يجلس عند الدرس مكشوف الرأس في أيام الشتاء، وكان له ذكر قلبي كنا نسمعه من بعيد، وربما يغلب صوت الذكر من قلبه على صوته في أثناء تقرير المسألة ويمكث ساعة حتى يدفع صوت قلبه ثم يشرع في تقرير كلامه.
وكان يجامع كل ليلة مع جواريه ويغتسل في بيته في أيام الشتاء ثم يصلي مائة ركعة، ثم ينام ساعة، ثم يقوم للتهجد، ثم يطالع إلى الصبح. وقد ولد من صلبه سبع وستون نفسا وخلف منهم خمسة عشر أو نحو ذلك. وكان لا يدخل الحمّام أصلا استحياء من ذلك. ولما مرض مرض الموت عاده الوزراء الأربعة ومعهم طبيب، فأمر له الطبيب بالاستحمام فلم يرض بذلك، فأجلسه الوزراء جبرا على سرير فقبض كل واحد منهم طرفا منه وذهبوا به إلى الحمّام.
وله حواش على المقدمات الأربع قرأها والدي عليه غير بعضا من المواضع منها. اهـ.
أقول: وقد ذكر طاشكبري ولدين من أولاد المترجم وهما عبد الرحيم ذكره في الشقايق وقال: إنه توفي سنة 923في الآستانة، وعبد الباقي ذكره في العقد المنظوم وقال: إنه توفي سنة 971في الآستانة أيضا وكلاهما عالمان فاضلان.
661 - حسن الكبيسي المتوفى سنة 901
حسن بن أحمد الشيخ بدر الدين الكبيسي ثم الحلبي.
كان معتقدا عند الناس كثير المحبة للعلماء والصلحاء عظيم الميل إلى مجالس العلم والعظة والذكر، ومن المجالس التي حضرها مجلس سمع فيه التقي أبو بكر بن محمد بن الحيشي ثلاثة أحاديث من أول باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم من الشمائل على الرّحلة مسند الدنيا الشيخ محمد بن مقبل بن عبد الله المؤذن بالجامع الأموي بحلب وأجاز لهما، وإن كان التقي قد استوعب الكتاب سماعا عليه على ما مر في ترجمته.
واتفق لوالدي والكمال النبهاني معه أنهما ترددا في الرواح إلى مكان وتحيرا أيتوجهان إليه أم لا،؟ فبينما هما داخلان إلى الجامع المذكور إذا هو بين أيديهما وهو يقول: السلام
عليكما أروح أو ما أروح؟ فقالا له: ونحن أيضا نروح أو ما نروح؟ فقال: روحوا، فقالا له أيضا: وأنت رح.(5/336)
واتفق لوالدي والكمال النبهاني معه أنهما ترددا في الرواح إلى مكان وتحيرا أيتوجهان إليه أم لا،؟ فبينما هما داخلان إلى الجامع المذكور إذا هو بين أيديهما وهو يقول: السلام
عليكما أروح أو ما أروح؟ فقالا له: ونحن أيضا نروح أو ما نروح؟ فقال: روحوا، فقالا له أيضا: وأنت رح.
قيل: ولم يضبط عنه أنه حلف يوما على نفي ولا إثبات. وأثنى عليه الزين الشماع في عيون الأخبار فقال: لم تر عيني من هو في مجموعه في شدة ضبطه للسانه وتمسكه بالشريعة اهـ.
وبلغني أنه لما قربت وفاته أوصى أن يكفن في شاش كان على رأسه، فكفن فيه بعد أن تبرع له معتقدوه بأكفان كثيرة. مات في سنة إحدى أو بعدها.
662 - يوسف بن قرقماس الحمزاوي المتوفى سنة 902
يوسف بن قرقماس السيفي قانيباي (1) الحمزاوي، الأمير الكبير الجمالي جمال الدين أبو المحاسن الحلبي الحنفي.
كان والده من مماليك قانيباي الحمزاوي كافل حلب، فمات عنه وهو صغير، فربته زوجة سيده الكافلي إلى أن كبر وكثر ماله واتسعت أملاكه وحصلت له حظوة زائدة عند قانصوه اليحياوي، وكان من أقرانه بالسلطنة لما أن الجمالي كان من الأساتذة المهرة في العلوم الفلكية وكذا الحسابية وغيرها، فبرز أمر قايتباي أن يكون أمير الركب الحجازي بحلب وكان بها في دولته أميرا له، فامتثل أمره ولم يدفع إليه شيئا من الخزاين الشريفة أسوة من كان قبله من أمراء الحج بها، فصرف من ماله جميع ما كانت تفتقر إليه إمارة الحاج في تلك السنة، ثم برز أمره بذلك في السنة الثانية ثم في الثالثة والجمالي يتمثل أمره ويصرف من خالص ماله إلى أن آلت به إلى رثاثة حاله، وكان ما كان مصادرة له أجر فيها، وقد يؤجر المرء على رغم أنفه.
ثم لما توفي السلطان قايتباي ذهب إلى القاهرة وبقي بها إلى أن توفي في سنة اثنتين أو بعدها وتسعمائة.
وقانيباي الحمزاوي كافل حلب هو الذي صار من بعد كافل دمشق ومات بها سنة
__________
(1) في الأصل وفي «در الحبب»: قايتباي الحمزاوي. والصواب ما أثبتناه.(5/337)
ثلاث وستين وثمانمائة بعد ما جدد بها هو وزوجته شعيل مئذنة العروس ليالي الجمع إلى أن أبطلها المحدث برهان الدين الناجي الشافعي على ما ذكره صاحب «حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران» اهـ.
663 - عبد الباسط ابن الشحنة المتوفى سنة 903
عبد الباسط بن محمد بن محمد، الزكي الفاضل أبو الفضل محب الدين ابن قاضي القضاة أثير الدين ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام محب الدين أبي الفضل ابن الشحنة الحنفي.
ولد بالقاهرة سنة سبع وسبعين وثمانماية، وسمع بها الحديث على جده هذا والجمال ابن شاهين سبط الحافظ ابن حجر وعلى والده وأجازوا له. ثم قدم حلب مع والده فاشتغل بالعربية والمنطق على العلاء قل درويش وغيره، ونزل له والده عن وظايف تكون له فيها كل يوم نحو ماية وخمسين درهما منها الخطابة بالجامع الأموي بحلب ونظر الكلتاوية ونصف نظر البيمارستان النوري، ثم طلب الزيادة في الدنيا لما كان عنده من السخاء وحب الرياسة، فرحل إلى القاهرة في دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قايتباي فاعتنى به وولاه نظر الجوالي بدمشق عن محب الدين الأسلمي مباشر قانصوه اليحياوي كافل حلب قديما وهو الذي كان سامريا فأسلم بالإكراه وصار يدعي الصلاح ودوام الصيام ذريعة إلى أن لا يأكل من أكل المسلمين لو سألوه فيه ويتقيأ ما ألزم بأكله منه مدعيا فساد معدته. ثم لم يزل المقر المحبي بدمشق إلى أن توفي بها قريبا من سنة ثلاث وتسعماية ودفن بمقبرة أويس القرني رضي الله عنه في قبر القاضي عبد الرزاق الحلبي المشهور بالكلزي لاهتمام أمه لقرابة بينها وبين بني الشحنة بتنزيله فيه.
ولما رحل إلى القاهرة قيل إنه دخل في طريقه إلى ولي الله تعالى الشيخ محمد الجلجولي الرملي فألبسه طاقيته وكان إذا لبسها أحد مات في سنته، فكان أمر المقر المحبي هكذا.
وكما قيل لي كان ذا شكل بهي وذكاء مفرط وهمة عالية وشهامة زائدة وميل كلي إلى الاجتماع بالإخوان وبسط اليد للخلان، لا سيما ابن أخته والدي طالما كان له به الاتحاد الزايد والمخالطة السارة في أوقات المذاكرة والمحاضرة والمباحثة والمحادثة وقدح الأفكار في
قرض الأشعار. ومن شعره القصيدة التي كتب بها إليه بعد توجهه إلى القاهرة وقال في صدرها:(5/338)
وكما قيل لي كان ذا شكل بهي وذكاء مفرط وهمة عالية وشهامة زائدة وميل كلي إلى الاجتماع بالإخوان وبسط اليد للخلان، لا سيما ابن أخته والدي طالما كان له به الاتحاد الزايد والمخالطة السارة في أوقات المذاكرة والمحاضرة والمباحثة والمحادثة وقدح الأفكار في
قرض الأشعار. ومن شعره القصيدة التي كتب بها إليه بعد توجهه إلى القاهرة وقال في صدرها:
إلى حلب واطول شوقي وحسرتي ... هي الورد في نومي وقومي وسرحتي
ففي مائها الشافي شفاء تولّعي ... ولطف هواها زاد وجدي ولوعتي
محاسنها أضحت كنار توقدت ... على علم ليلا بريح مهبة
وكيف ولا والحال أن أحبتي ... وأهلي بها أضحوا عليهم تحيتي
لبعدهم قد صار عيشي منغصا ... وجسمي براه البين بري الخلالة
إلى أن قال:
جرى القلم الجاري عليّ ببعدهم ... وجاز زماني في شتاتي وفرقتي
وأصبحت صبا في هواهم متيما ... أكابد أنواع الجفا والقطيعة
فجسمي معتل ونومي ناقص ... كحظي أحبابي فجودوا بزورة
664 - علي بن محمد الأنصاري المتوفى بعد 900
علي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن علي بن محمد بن يوسف بن محمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد، القاضي علاء الدين ابن الشيخ شمس الدين المشهور بالدبل، بفتح الموحدة، الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي، والد سعد المتقدم ذكره.
تولى قضاء كلز في الدولة الجركسية، واتفقت له بها حادثة في سنة أربع وثمانين وثمانمائة هي أن الكيخيا بها عمر بن ككجا والد الشيخ محمد الآتي ذكره كان قد وقع بينه وبينه خصومة آلت إلى أن ضربه على رأسه، فحضر إلى حلب شاكيا عليه، فبعث على إثره كتابا بما تمج الأسماع ذكره لبعض أركان الدولة، ثم اتفق حضور جدي الجمال الحنبلي وقاضي الحنفية بحلب الشهاب ابن الحلاوي بمجلس حاجب الحجاب بحلب ومعهما القاضي علاء الدين، فلما استقروا به طلب السكر فسقاهم، ثم استدعى الكيخيا، فلما حضر قام له وتكلف القاضيان القيام فطلب صاحب المجلس الصلح، فقال له جدي: ما كان الأمل منك يا أمير أن نفعل هذا وتكون سببا لإهانة هذه الطائفة، هذا الرجل جزاؤه أن
يضرب ويشهر ويهان حق الإهانة. ثم نفر من عنده القاضيان فتوجها إلى قاضي الشافعية العز ابن الحسفاوي وعرفاه بما جرى، فأمرهما بالامتناع من الحكم فامتنعوا هم وقاضي المالكية عنه، وأرسل هو إلى مكاتب العدول بحلب يأمرهم بالكف عن الجلوس بها ففعلوا إلى أن سعى الفخر عثمان الكردي في الصلح بين القضاة وحاجب الحجاب، وكان كرديا لا جركسيا، فامتنع الشافعي وصمم على ضرب الكيخيا وإشهاره في شوارع حلب إلى أن أوقع الصلح بدار العدل بحضرة القضاة، إلا الشافعي فإنه تكرر الإرسال وراءه فلم يحضر، وإنما أرسل نائبه اهتماما منه بشأن الشريعة وقضاتها.(5/339)
تولى قضاء كلز في الدولة الجركسية، واتفقت له بها حادثة في سنة أربع وثمانين وثمانمائة هي أن الكيخيا بها عمر بن ككجا والد الشيخ محمد الآتي ذكره كان قد وقع بينه وبينه خصومة آلت إلى أن ضربه على رأسه، فحضر إلى حلب شاكيا عليه، فبعث على إثره كتابا بما تمج الأسماع ذكره لبعض أركان الدولة، ثم اتفق حضور جدي الجمال الحنبلي وقاضي الحنفية بحلب الشهاب ابن الحلاوي بمجلس حاجب الحجاب بحلب ومعهما القاضي علاء الدين، فلما استقروا به طلب السكر فسقاهم، ثم استدعى الكيخيا، فلما حضر قام له وتكلف القاضيان القيام فطلب صاحب المجلس الصلح، فقال له جدي: ما كان الأمل منك يا أمير أن نفعل هذا وتكون سببا لإهانة هذه الطائفة، هذا الرجل جزاؤه أن
يضرب ويشهر ويهان حق الإهانة. ثم نفر من عنده القاضيان فتوجها إلى قاضي الشافعية العز ابن الحسفاوي وعرفاه بما جرى، فأمرهما بالامتناع من الحكم فامتنعوا هم وقاضي المالكية عنه، وأرسل هو إلى مكاتب العدول بحلب يأمرهم بالكف عن الجلوس بها ففعلوا إلى أن سعى الفخر عثمان الكردي في الصلح بين القضاة وحاجب الحجاب، وكان كرديا لا جركسيا، فامتنع الشافعي وصمم على ضرب الكيخيا وإشهاره في شوارع حلب إلى أن أوقع الصلح بدار العدل بحضرة القضاة، إلا الشافعي فإنه تكرر الإرسال وراءه فلم يحضر، وإنما أرسل نائبه اهتماما منه بشأن الشريعة وقضاتها.
وكان القاضي علاء الدين مزّاحا خفيف الروح فارسا له دربة حسنة في حلبة السباق.
توفي بمنزل عمي الكمال الشافعي بعد سنة تسعمائة.
665 - محمد بن عثمان الدغيم المتوفى سنة 905
محمد بن عثمان بن إسماعيل قاضي القضاة شمس الدين بن الدغيم البابي الحلبي الشافعي قاضي الشافعية بحلب وكاتب سرها وناظر جيشها.
توفي سنة خمس وتسعماية. وكان رحمه الله ذكيا فقيها متمولا، سعى في دولة الأشرف قايتباي بمال كثير في أن يتولى قضاء الحنابلة بحلب فلم يسمع له، وصار السلطان يقول له: متى وضعت في زير الصباغ فصرت أو خرجت حنبليا، فبقي على شافعيته. ولما ولي قضاء الشافعية بحلب استناب عمي الكمال الشافعي وقرب إليه حتى زوجه ابنته.
666 - حسن الطحينة المتوفى سنة 907
حسن الحلبي الشافعي المشهور بالطحينة.
كان من فقهاء الشيخ عبد القادر الأبار، ثم صار من مريدي الشيخ موسى الأريحاوي، وانقطع بالجامع الكبير بحلب بالرواق المعروف يومئذ بمصطبة الطحينة قريبا من أربعين سنة بحيث لا يتغير من مكانه صيفا ولا شتاء، وله هناك ستارة يرخيها ويسميها البشخاناه.
وصار الناس يهرعون إليه بالأموال وغيرها وهو يصرف ذلك في وجوه الخير من عمل بعض الركايا وإصلاح كثير من الطرقات بإزالة ما فيها من الخروقات وغيرها. وكان إذا وقف
طائر على قبة بركة جامع حلب قال: إن هذا رسولي أتاني يخبر بكذا، ويكره سماع اليراع وينفر إذا سمعه في مقام السماع، وإذا اجتمعت عنده مآكل متنوعة خلط بعضها ببعض ولو مع المنافرة بينها، فقيل له ذلك فقال: إن الكل يجري في مجرى واحد. وربما نسبت إليه مكاشفات ومع هذا فقد كان متهما بمحبة النظر إلى الغلمان.(5/340)
وصار الناس يهرعون إليه بالأموال وغيرها وهو يصرف ذلك في وجوه الخير من عمل بعض الركايا وإصلاح كثير من الطرقات بإزالة ما فيها من الخروقات وغيرها. وكان إذا وقف
طائر على قبة بركة جامع حلب قال: إن هذا رسولي أتاني يخبر بكذا، ويكره سماع اليراع وينفر إذا سمعه في مقام السماع، وإذا اجتمعت عنده مآكل متنوعة خلط بعضها ببعض ولو مع المنافرة بينها، فقيل له ذلك فقال: إن الكل يجري في مجرى واحد. وربما نسبت إليه مكاشفات ومع هذا فقد كان متهما بمحبة النظر إلى الغلمان.
ولما قرب من الموت أوصى أن يدفن عند رجل رجل من أولياء الله تعالى مدفون بقبور الصالحين يعرف بالجمال كان من شأنه البلاهة واختلاط العقل في نظر الناس، إلا أنه اتبع ذات يوم مع نسبته إلى ترك الصلاة فإذا هو قد وصل إلى عين مباركة فنزع ما كان عليه من لباس قبيح مشكوك في طهارته ولبس ثوبا آخر وهو غائب عن أعين الناس، فصلى.
ومما دل على سذاجة الشيخ حسن أو ظرافته ما أخبرني به الشهاب أحمد ابن الشيخ حسين البيري أنه أرسل إلى أبيه يطلب منه أن يعوده لمرض حل به ويحضر معه فلانا البيطار، قال: فعجب والدي من ذلك لتجرد الشيخ حسن عن الخيل والبغال، قال: فعاده والدي والبيطار معه فذكر له أن ظهره يؤلمه وأن طبعي من طبع الحمير ولا يعرف طبعها إلا البيطار، فوصف له ذلك البيطار ما يليق من الدواء وفارقه. وكانت وفاته سنة سبع أو ثمان.
667 - خليل الله اليزدي المتوفى سنة 908
خليل الله بن نور الله اليزدي الشافعي تلميذ ملا علي القوشجي.
حل بحلب فأكب على القراءة عليه جماعة منهم الشمس السفيري، وكتب على الفتوى وكان يختمها بخاتم له على طريقة الأعاجم ويخطىء البدر السيوفي في فتاواه وهو مصيب.
قيل: وكان يفتي من الرافعي الكبير بقوة المطالعة، وكانت له مواعيد حسنة تجاه محراب الحنابلة بالجامع الأعظم بحلب، وألف بها (رسالة في المحبة) على أسلوب الصوفية يستشهد فيها بأبيات من تائية ابن الفارض ذاكرا في ديباجتها أنه لما سئل عن (تنوير مصباح المحبة) وإيضاحها بتعريف يفهمه الصغير والكبير ولا يخالفه الألمعي النحرير، فعلى قدر قدر السائل أتاه بجمرة من نيران آنس بها من جانب طور العشق والحيرة، واقعة في قلب الشجرة المتعلقة بهبوب رياح الهوى في بيداء الفكرة والغيرة.
ووضع رسالة أخرى بين فيها نكتة التثنية في قوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ} (1) مع الأفراد في قوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2) وكذا نكتة الجمع في قوله تعالى {بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (3). ورسالة أخرى سماها «رسالة الفتوح في بيان ماهية النفس والروح» جعلها تحفة مهداة لدولتباي الجركسي كافل حلب، وكأنه قصد استرفاده بها ولوح بذكر الفتوح في اسمها إلى الغرض من رسمها. وقد وقفت أنا على هذه الرسالة فإذا بها حكاية اتفاق الفلاسفة والغزالي وكثير من متأخري المتكلمين على أن النفس الناطقة مجردة وهي غير الروح، وحكاية أن كثيرا من المتكلمين ذهبوا إلى أنها مادية وهي عين الروح، ونقل فوائد عن الرازي منها أن الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا مغاير للشيء الذي يشير إليه كل واحد إلى غيره بقوله أنت، قال الرازي: وذلك لأني إذا أشرت إلى تفسير قولي أنا فالمشار إليه ليس هو البدن ولا جزءا من أجزاء البدن، لأني حال ما أكون شديد الاهتمام بتحصيل إدراك أو بتحصيل فعل فإني أقول: أنا فعلت كذا، وعندما أقول هذا يكون المشار إليه بقولي أنا حاصلا في ذهني لا محالة مع أني في تلك الساعة أكون غافلا عن بدني وعن جميع أجزاء البدن، وأما الذي أشير إليه بقولي أنت فليس إلا هذا البدن، لأن المشار إليه بقولي أنت ليس إلا ما أدركه ببصري، وما ذاك إلا هذا الجسم المخصوص. هذا كلامه فيما نقله عنه، وهو غريب في الفرق بينهما، إذا قد ينسب إليها شيء واحد مما لا تليق نسبته إلى ذلك الجسم المخصوص أو مما يليق، فيكون الحكم بأن أحدهما هو دون الآخر تحكما لا يعتد به.(5/341)
ووضع رسالة أخرى بين فيها نكتة التثنية في قوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ} (1) مع الأفراد في قوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2) وكذا نكتة الجمع في قوله تعالى {بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} (3). ورسالة أخرى سماها «رسالة الفتوح في بيان ماهية النفس والروح» جعلها تحفة مهداة لدولتباي الجركسي كافل حلب، وكأنه قصد استرفاده بها ولوح بذكر الفتوح في اسمها إلى الغرض من رسمها. وقد وقفت أنا على هذه الرسالة فإذا بها حكاية اتفاق الفلاسفة والغزالي وكثير من متأخري المتكلمين على أن النفس الناطقة مجردة وهي غير الروح، وحكاية أن كثيرا من المتكلمين ذهبوا إلى أنها مادية وهي عين الروح، ونقل فوائد عن الرازي منها أن الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا مغاير للشيء الذي يشير إليه كل واحد إلى غيره بقوله أنت، قال الرازي: وذلك لأني إذا أشرت إلى تفسير قولي أنا فالمشار إليه ليس هو البدن ولا جزءا من أجزاء البدن، لأني حال ما أكون شديد الاهتمام بتحصيل إدراك أو بتحصيل فعل فإني أقول: أنا فعلت كذا، وعندما أقول هذا يكون المشار إليه بقولي أنا حاصلا في ذهني لا محالة مع أني في تلك الساعة أكون غافلا عن بدني وعن جميع أجزاء البدن، وأما الذي أشير إليه بقولي أنت فليس إلا هذا البدن، لأن المشار إليه بقولي أنت ليس إلا ما أدركه ببصري، وما ذاك إلا هذا الجسم المخصوص. هذا كلامه فيما نقله عنه، وهو غريب في الفرق بينهما، إذا قد ينسب إليها شيء واحد مما لا تليق نسبته إلى ذلك الجسم المخصوص أو مما يليق، فيكون الحكم بأن أحدهما هو دون الآخر تحكما لا يعتد به.
وكانت وفاته سنة ثمان وكافل حلب برسباي الجركسي، فحمل سريره ودفن بتربة السفيري خارج باب المقام، وتأسف لفقده لدى أفول شمسه في مغرب رمسه جمع من الفضلاء وعدة من النبلاء، وإن كان البدر قد نفاه عن جلالة القدر لما تناظرا فقال له البدر في آخر الأمر: أنت لا تعلم جواب من قال لك نصر أي صيغة، وحلف للحاضرين بالطلقات الثلاث إنه لا يعلم ذلك لما كان مسرجا، فقال له ملا خليل الله: سبحان الله أنت تريد أن أعود إلى بطن أمي، وقام عنه، ثم صار يتتبع خطأ البدر ويخطيه كما مر.
__________
(1) الرحمن: 17.
(2) المزمل: 9.
(3) المعارج: 40.(5/342)
668 - عبد الرحمن الفلكي الجلّومي المتوفى سنة 910
عبد الرحمن بن الزين عبد اللطيف الحلبي الجلّومي المشهور بابن الفلكي. كان من أرباب الأقاطيع والأملاك والثروة الزائدة، وتولى في دولة السلطان الغوري وظيفة الحجوبية بطرابلس، ثم عزل منها فعاد إلى حلب، فأوحى بعض أعدائه إلى السلطان أنه ظلم وأفحش في ظلمه وصار يضرب الفلاح فيستجير بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول له: أضربك إلى أن يخلصك مني محمد، فطلبه السلطان ووضعه بالعرقانة وهي سجن مظلم جدا بالقاهرة وتركه بها تسع سنين لا يحلق له فيها شعرا ولا يقلم ظفرا، حتى اختل بصره وطال شعره وظفره فوق الحد في هذه المدة الطولى، ثم هون الإله جل جلاله فدخلت أخته جهة الجمال يوسف بن أبي إصبع إلى خوند جهة السلطان وسألتها في أن تشفع فيه عنده ففعلت، فخرج من السجن وعاد إلى حلب وهو فقير الحال بالنسبة إلى ما كان عليه، ومع ذلك لم يفتر عن تعاطي العمارة بآدره بالجلّوم لمزيد شغفه بالعمارة كأنما لم يعزل عن الإمارة، إلى أن توفي بها في عشر سنين وتسعمائة.
وكان حلو الكلام حسن الملتقى اقتصر في آخر عمره على صحبة المقر الصلاحي ابن السفاح ومؤانسته.
669 - سليمان بن نذر الكواكبي المتوفى سنة 911
سليمان بن نذر، بالنون والذال المعجمة، العيني ثم الحلبي الحنفي خليفة الشيخ محمد الكواكبي الأردبيلي الطريقة.
كان من الصلحاء العباد والورعين الزهاد. قيل إنه قدم إلى شيخه هذا أول قدومه زائرا، فامتحنه بأن أمره ببيع ماله في قريته من أغنام وخيول وأثاث ويأتيه بما جمعه من المال، فامتثل أمره وأتاه به فأخذه وخبأه في الحقيقة له عنده، فلم يكترث له، فما شعر إلا وقد أصابت أهل قريته جائحة قتل ونهب مال، فأخبر الشيخ بما وقع، فعند ذلك أخرج له الشيخ جميع ما له بكماله وأذن له أن يعود إلى مأمنه، فقوي اعتقاده في الشيخ فصار من مريديه ثم من خلفائه.(5/343)
وكان يقول: مثلي ومثل سليمان كمثل بئرين كان بينهما حائط فزال الحائط واختلط الماءان، إلى أن توفي سنة إحدى عشرة ودفن بمقابر الصالحين بحلب وقبره بها معروف يزار.
670 - عبد القادر بن شمس الطبيب سنة 911
عبد القادر بن محمد بن محمد بن سليمان الرئيس الحاذق زين الدين ابن الرئيس ابن الرئيس ابن الرئيس علم الدين الحلبي الشراباتي المتطبب أبا عن جد المعروف بابن شمس.
كان طبيبا ماهرا. وكانت وفاته بالاستسقاء سنة إحدى عشرة، ودفن بمقابر الأنصاريين بالقرب من القيمرية بوصية منه لأنه كان كجدي الجمال الحنبلي سبط الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الواحد بن علي الأنصاري السعدي العبادي.
671 - عمر بن محمد بن عمر النصيبي المتوفى سنة 912
عمر بن محمد بن عمر أقضى القضاة زين الدين أبو حفص ابن قاضي القضاة جلال الدين أبي بكر الحلبي الشافعي المشهور بابن النصيبي سبط الشيخ الإمام الشمس محمد ابن الشماع الأيوبي الماضي ذكره، بل أحد أصايل الحلبيين.
كان شابا لطيفا، ناب عن والده في قضاء حلب فصارت إليه مقاليده، ثم أصيب بموته سنة اثنتي عشرة فدفنه حيث يسكن داخل المدرسة الشرفية، وكان مقال والده يوم أصيب فيه: يا عمر يا عمر، فرثاه بقوله بعضهم:
عمرت مكانا في حياتك سالما ... وعمّرته من بعد موتك يا عمر
وعمّرت بالأحزان للأهل أربعا ... ولكن ربع الصبر من بعدك اندثر
وفارقت أهليك الذين تركتهم ... يحنّ عليهم كل صلد من الحجر
وأنحلت أجسادا وأبكيت أعينا ... وفتت أكبادا وأورثتها شرر
وما كنت أدري أن بدر السما أخ ... لطلعتك الغراء حتى جرى القدر
فمذ غبت غابت عن أهاليك شمسهم ... وليلهم قد دام والصبح ما سفر
فيرحمك الرحمن ما دمت ميتا ... صباحا وفي وقت المساء وفي السحر
ويمنح خيرا من تركت معوضا ... ويلهمهم صبرا ويافوز من صبر(5/344)
عمرت مكانا في حياتك سالما ... وعمّرته من بعد موتك يا عمر
وعمّرت بالأحزان للأهل أربعا ... ولكن ربع الصبر من بعدك اندثر
وفارقت أهليك الذين تركتهم ... يحنّ عليهم كل صلد من الحجر
وأنحلت أجسادا وأبكيت أعينا ... وفتت أكبادا وأورثتها شرر
وما كنت أدري أن بدر السما أخ ... لطلعتك الغراء حتى جرى القدر
فمذ غبت غابت عن أهاليك شمسهم ... وليلهم قد دام والصبح ما سفر
فيرحمك الرحمن ما دمت ميتا ... صباحا وفي وقت المساء وفي السحر
ويمنح خيرا من تركت معوضا ... ويلهمهم صبرا ويافوز من صبر
672 - أحمد بن أحمد الشهاب الحاضري المتوفى سنة 913
أحمد بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد بن عز الدين محمد بن خليل، الشيخ شهاب الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.
تفقه على الشمس ابن أمير حاج الحلبي الحنفي، ووعظ الناس بجامع حلب الوعظ النافع وأفتى، وكان دينا خيرا يكاد يغيب عن نفسه في وعظه من فرط خشوعه، وله استحضار للحديث، تلمذ له شيخ شيوخ حلب الموفق ابن أبي ذر المحدث وأخبرني أنه كان يتمثل بقول القائل:
وكان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
توفي سنة ثلاث عشرة وتسعمائة بحلب.
قال صاحب «عيون الأخبار»: وكان يعظ الناس بالجامع الكبير ويجلس غالبا بمكتب العدول بباب الجامع الشرقي، وكان لا يخلو من سذاجة، وتأسف كثير من الناس على فقده رحمه الله تعالى وإيانا. وجده العز الثاني هو قاضي الحنفية بحلب الذي كان رفيقه في الأخذ عن مشايخه الحافظ برهان الدين إبراهيم الحلبي سبط ابن العجمي.
673 - أحمد بن منصور الأنطاكي المتوفى سنة 914
أحمد بن محمد بن علي بن منصور الشيخ شهاب الدين الأنطاكي الشافعي السهروردي المعروف بابن منصور.
كان موقعا عند جانم المكحل كافل حلب وكذا عند كافلها دولة باي، وهو الذي أوحي إليه أنه سيعطى الحكم في بلدة ذات أشجار وأنهار، وأنه ظهر له ذلك من الزايرجه السبتية لما أنه كان يدعي حلها، فما مضت مدة إلا وقد أعطي كفالة دمشق، فقوي قربه منه. وكان من ملازمي الشيخ شمس الدين محمد الأيوبي الحموي ثم الحلبي المعروف بابن
الشماع، وعنه كان يدعي حلها، وكان هو والغرس خليل ابن اللنكي الحنفي يتناوبان قضاء أنطاكية ولاية وعزلا.(5/345)
كان موقعا عند جانم المكحل كافل حلب وكذا عند كافلها دولة باي، وهو الذي أوحي إليه أنه سيعطى الحكم في بلدة ذات أشجار وأنهار، وأنه ظهر له ذلك من الزايرجه السبتية لما أنه كان يدعي حلها، فما مضت مدة إلا وقد أعطي كفالة دمشق، فقوي قربه منه. وكان من ملازمي الشيخ شمس الدين محمد الأيوبي الحموي ثم الحلبي المعروف بابن
الشماع، وعنه كان يدعي حلها، وكان هو والغرس خليل ابن اللنكي الحنفي يتناوبان قضاء أنطاكية ولاية وعزلا.
وكان له نظم ونثر واشتغال بأمر الأوفاق والحروف. ومن شعره كما وجدته بخط ولده الشيخ شرف الدين في ثبت الزين الشماع قوله:
يا من تلون بالوداد أما ترى ... ورق الغصون إذا تلون يسقط
ولعله فاز بالمواردة وإلا فقد بلغني أن هذا البيت للشاب الظريف محمد بن عفيف وأن قبله:
حتام في حق الصديق تفرّط ... ترضى بلا سبب عليه وتسخط
ومن شعره:
طاب الزمان وحلّت شمسه الحملا ... وخفّ ثقل الشتا عمن له حملا
وله:
قلت لساق حسن ... أنا عليك وارد
لا تسقني ثلاثة ... فالقصد منك واحد
وكان يخطب الخطب الحسنة من إنشائه ليس إلا. وتوفي بالقاهرة كما أخبرني عنه الزيني سنة أربع عشرة أو خمس عشرة وتسعماية.
674 - عبد القادر الأبّار المتوفى سنة 914
عبد القادر بن محمد بن عثمان الشيخ محيي الدين ابن الشيخ الفقيه المفتي شمس الدين المارديني الأصل الحلبي المولد والدار الشافعي المشهور بالأبّار لأنه كان يصنع الإبر في حانوت له.
كان فقيه حلب ومفتيها، وكان شيخ بعض شيوخنا كالبرهان العمادي والزين الشماع.
توفي في ذي القعدة سنة أربع عشرة. وكان يقول كما أخبرني عنه بعض أحفاده: نحن من بيت بماردين مشهور ببيت رسول، وجدّنا الشيخ رسلان الدمشقي رضي الله عنه، غير
أني لا أحب بيان ذلك خوفا من أن أنسب إلى تحميل نسبي على الغير وأن يقدح فيّ بذلك.(5/346)
توفي في ذي القعدة سنة أربع عشرة. وكان يقول كما أخبرني عنه بعض أحفاده: نحن من بيت بماردين مشهور ببيت رسول، وجدّنا الشيخ رسلان الدمشقي رضي الله عنه، غير
أني لا أحب بيان ذلك خوفا من أن أنسب إلى تحميل نسبي على الغير وأن يقدح فيّ بذلك.
وله في ضوء السخاوي ترجمة حسنة ساقها شيخنا الزين الشماع في القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي إلى أن زاد فقال: كان مع براعته في الفقه حسن العبارة شديد التحري في الطهارة طارحا للتكليف ظاهر التقشف حسن المحادثة حلو المذاكرة طلق الوجه كثير البشر مقبول الظاهر، وهو علامة على استقامة السر، لا تكاد تمل من محادثته ولا تسأم من مصاحبته، اتفق على محبته والثناء عليه الكثير من العوام والخواص، وعلى أقواله وأفعاله علامة أهل الصدق والإخلاص، هذا ما زاده.
وحكى لي الحاج محمد الهويدي القصاب، وكان يحضر مجلس وعظة، أنه وعظ يوما بالقرب من المحراب الأعظم بالجامع الأموي بحلب فحصل له في نفسه عجب لجلالة ذلك المجلس، فلما نزل عن الكرسي صافحه رجل وهو يقول له: غيرك يعمل أحسن مما عملت في هذا المجلس، قال: فمرض الشيخ من أجل مقالته خمسة عشر يوما. وقيل لي إنه ترفع عليه بعض الجهلة في عقد مجلس صار بدار العدل بحلب فجلس في مكان أرفع من مكانه، فلامه بعض المخاديم على ذلك وقال له: لم تركته يجلس فوقك، فقال: والله يا أخي لو جلس فوقي لرضّني رضّا.
أقول: وترجمه الغزي في «الكواكب السائرة» بنحو ما هنا وزاد قوله: وممن أخذ عنه الفقه الجوجري المصري، سمع عليه معظم التنبيه وأجازه به وبغيره وأذن له بالإفتاء والتدريس بعد أن أثنى عليه كثيرا وأنشده لنفسه ملمحا مضمنا:
كانت مسائلة الركبان تخبرنا ... عن علمكم ثم عنكم أحسن الخبر
ثم التقينا وشاهدنا العجائب من ... غزير علم حمته دقة النظر
فقلت حينئذ والله ما سمعت ... أذناي أحسن مما قد رأى بصري
والمشهور أن الشيخ أرسلان الدمشقي لم يعقب كما أجاب بذلك الحافظ برهان الدين الناجي حين سئل عن ذلك، وألف في ذلك مؤلفا لطيفا اهـ.
675 - خليل بن محمد القلعي المتوفى في هذا العقد ظنا
خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن خليل بن فضل الله الأميري الكبيري، غرس
الدين الحلبي القلعي المعروف بابن الأقتابي.(5/347)
خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن خليل بن فضل الله الأميري الكبيري، غرس
الدين الحلبي القلعي المعروف بابن الأقتابي.
كان متولي الحجر وآغا سائر البحرية بالقلعة الحلبية في آخر الدولة الجركسية، وذلك أنه كان بها أكثر من مائة بحري يفترقون خمس طوايف لكل طائفة منهم آغا يجلس بهم على بابها ثلاثة أيام ثم يعود إليها غيره بمن معه ثم وثم، وكان الأمير غرس الدين آغا الخمسة، بل كان أيضا أمير عشرة، حتى كان يلبس الكلفتة في المواكب، وكان من شأن من كان متولي الحجر بالقلعة أن يكون مفاتيح أبوابها عنده إذا مات كافلها المسمى يومئذ بنائب القلعة أو عزل إلى أن يتسلمها كافلها الجديد. وكان الأمير غرس الدين لديانته واستقامته معتقدا للسلطان قايتباي حتى كان يترقب حضوره بين يديه، فكان يسافر إليه المرة بعد الأخرى، وكذا كان معتقدا للسلطان الغوري ومعظما عنده لما له فوق الديانة من الأصالة والعراقة على ما أخبرني به الشيخ عبد الكريم القلعي إمام جامع حلب من أنه كان من ذرية نور الدين الشهيد رحمه الله، وكان ممن ابتلي في شيخوخته بحب زوجته مع بغضها إياه لكبر سنه، فماتت قبله ولم تظفر بشاب بعده كشيخ الإسلام البدر السيوفي عالم حلب، فإنه تزوج مع علو سنة فعلق بحب زوجته وأبغضته ولم تزل له قبلة إلى أن توفيت قبله (1).
وقد أدركت أن الأمير الغرسي وهو شيخ كبير فان له أبهة وحشمة زائدة وشيبة مقبولة نيرة.
676 - أبو بكر الدليواتي المتوفى بعد 915
أبو بكر المصري الأصل ثم الحلبي الصوفي المشهور بالدليواتي صاحب المزار المشهور.
كان فيما نقل عنه يمر على باب بعض الحمّامات التي فيها النساء فيكف بصره وليس على بابها أحد منهن، فقيل له في ذلك فقال: إني إذا مررت كشفهن الله تعالى فأراهن.
قيل: وكان يعرف الكيمياء وله عند السلطان قايتباي مكان حتى أنعم عليه ببعض جوالي طرابلس وبعشر بزمده.
__________
(1) بعدها في «در الحبب»، تحقيق محمود حمد الفاخوري ويحيى زكريا عبارة، ط وزارة الثقافة، دمشق 1974:
ولم تذق من فم شاب قبلة.(5/348)
وكان يميل إلى جدي الجمال الحنبلي وجدي يميل إليه ويساعده في مهماته كما أخبرني بذلك والدي، وربما عاد يوم الموكب إلى منزله ودخل في طريقه إليه وتبرك به.
قال لي حفيده الشيخ علاء الدين: وكانت خرقته قادرية أدربيلية، وكان رفيقا للشيخ محمد الكواكبي في أخذ الطريق عن الشيخ باكير عن الشيخ إبراهيم السبتي عن خوجه علي صاحب المزار المشهور ببيت المقدس عن أخيه خوجه صدر الدين الأردبيلي بسنده المشهور.
توفي بعد سنة خمس عشرة ودفن شرقي القبلية التي كانت مسجدا لله تعالى داثرا، فسعى في تجديده بعد أن كان لدثوره مرمى لكناسات الناس، فلما توفي دفنوه بجانب منه.
قال لي حفيده: ولما قرب والدي من الموت أوصى أن يدفن بمقابر الصالحين إذ لم يستحل أن يدفن بجنب والده، فصمم أتباعه وأنا إذ ذاك مسافر على دفنه بجنبه، وأما أنا فكذلك لا أرضى إلا بما عليه والدي، فإن الدنيا لا تغني عن الأخرى. قال: وأما قصة المرور على بعض الحمّامات وكذا قصة أن جدي كان يدلي دلوه فيخرج له في دلوه ذهب فمن الأكاذيب عليه، إنما كان طريقه الماء والمحراب ومجاهدة النفس والقيام لله تعالى. قال:
وذلك مثلما جرى له مع الشيخ إبراهيم بن معبد البابي إذ كان يتعاطى الدفوف والمواصيل في السماعات، فأنكر جدي عليه، فتعصب معه على جدي جماعة بحلب وقصدوا تعزيره، فانقاد إلى قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي فساعده عليهم وأخبرهم أن طريقته لا تقتضي إباحة ذلك وإن كانت طريقتكم تقتضيها فما لكم وله اهـ.
أقول: إن المسجد الذي دفن به المترجم عرف به وهو في محلة الفرافرة، وسيأتي ذكره في ترجمة محمد أسعد باشا الجابري المتوفى سنة 1334إن شاء الله تعالى.
677 - الشريف أحمد بن عبد الله الإسحاقي المتوفى سنة 915
أحمد بن عبد الله بن حمزة بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن زهرة ابن الحسن بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة القاضي شهاب الدين أبي القاضي صفي الدين الحسيني الإسحاقي الشافعي، أحد بني زهرة الحسينيين بحلب، جدي والد والدتي.
كان جوادا فياضا مقداما لدى الحكام منطيقا إذا أخذ في الكلام، وولي قضاء الفوعة
مع نسبة أهلها إلى التشيع طمعا منه في دنياهم ظنا أنهم يوالونه إذا هو في الظاهر والاهم وأنهم يعظمونه على العادة في تعظيمهم لأهل السيادة، فاطلعوا على أنه من أهل السنة والجماعة، فخرجوا بالحط عليه عن ربقة الإطاعة، فعاد منها إلى حلب ولم يوجه إلى قضائها الطلب، ورأى أن لا تهلكه فوعة الفوعة وأن يكون شرور أهلها عنه مرفوعة، وصار ديوانا بحلب عند وكلاء السلطان بها إلى أن مات تقريبا سنة خمس عشرة ودفن وراء مشهد الحسين رضي الله عنه بحلب بسفح الجبل بمقبرة جده السيد الشريف أبي المكارم حمزة، وهو حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحق (1) المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وزهرة هذا لا زهرة السابق ذكره هو الذي ينسب إليه بنو زهرة أحد بيوتات حلب المذكورين في تاريخ الشيخ أبي ذر.(5/349)
كان جوادا فياضا مقداما لدى الحكام منطيقا إذا أخذ في الكلام، وولي قضاء الفوعة
مع نسبة أهلها إلى التشيع طمعا منه في دنياهم ظنا أنهم يوالونه إذا هو في الظاهر والاهم وأنهم يعظمونه على العادة في تعظيمهم لأهل السيادة، فاطلعوا على أنه من أهل السنة والجماعة، فخرجوا بالحط عليه عن ربقة الإطاعة، فعاد منها إلى حلب ولم يوجه إلى قضائها الطلب، ورأى أن لا تهلكه فوعة الفوعة وأن يكون شرور أهلها عنه مرفوعة، وصار ديوانا بحلب عند وكلاء السلطان بها إلى أن مات تقريبا سنة خمس عشرة ودفن وراء مشهد الحسين رضي الله عنه بحلب بسفح الجبل بمقبرة جده السيد الشريف أبي المكارم حمزة، وهو حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحق (1) المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وزهرة هذا لا زهرة السابق ذكره هو الذي ينسب إليه بنو زهرة أحد بيوتات حلب المذكورين في تاريخ الشيخ أبي ذر.
قال: وكان من أكابر الأشراف وذوي الرأي والوجاهة مقدما ببلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه. قال: وهو بإسكان الهاء خلافا للنجم المعروف فإنه بفتحها كما قال صاحب الجمهرة، إلى أن عد من هذا البيت جماعة كانوا نقباء حلب وتعرض لتشيع واحد منهم هو نقيبها ورئيسها وعالمها الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة أبي هذا البيت، وأفاد أن بني زهرة عند الذهبي طائفة أخرى شيعة بحلب كانوا بيت علم ونظم ونثر وكتابة ورئاسة ومكارم أخلاق وحشمة وأنهم انقرضوا، وأفاد أيضا أن الإمام الكبير أبا إبراهيم محمدا الممدوح أول من كان قدم حلب من الأشراف من أولاد إسحق المؤتمن وهل كان شيعيا أم لا. ذكر جد والدي لأمه المحب أبو الفضل بن الشحنة ومن خطه نقلت عن الحافظ برهان الدين الحلبي قال: قال لي والدي: كانت أهل حلب كلهم أهل سنة وكلهم حنفية لا يعرفون غير ذلك، حتى قدم شخص من العراق فظهر فيهم التشيع وظهر مذهب الشافعي، لأنهم كانوا يتسترون بمذهبه. قال: فلم أسأله عن القادم، ثم ذكر لي مرة ثانية ثم ثالثة ثم قال لي: مالك لا تسألني عن القادم المذكور؟ قال: فقلت: من هو؟ قال:
__________
(1) قوله الحسين بن إسحق رأيت في الكتاب الموسوم «بصحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار» للسيد الشريف عبد الله محمد سراج الدين الرفاعي ما نصه: ومنهم (أي ومن ذرية الحسين بن إسحق) الشريف أبو إبراهيم محمد الحراني ممدوح أبي العلاء المعري ابن أحمد الحجازي بن محمد بن الحسين بن إسحق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق وعقب الشريف محمد الحراني من رجلين جعفر نقيب حلب ومحمد ولهم بقية بحلب وحران والخابور، وهم بيت فضل وإمارة وملك وعلم ومجد وسيادة اهـ.(5/350)
الشريف أبو إبراهيم الممدوح انتهى. هذا ما بلغني، ثم بلغني أن السيد عز الدين أبا المكارم حمزة قد أثبت في وثيقة بالطريق الشرعي أن ذريته من الذكور قد انقرضوا، فعلى هذا لا يكون جدنا القاضي شهاب الدين من ذرية المذكور وإن كان من بني زهرة، وذلك بأن يكون من ذرية عمه الذي هو الحسن المتقدم ذكر تشيع ابن ابنه أو من ذرية أخ له.
678 - أحمد بن محمد الشهير بابن أمير غفلة المتوفى سنة 915
أحمد بن محمد بن عثمان الشهاب ابن الفخر أبو العباس الشهير بابن أمير غفلة، وكذا بابن قريمزان الحلبي الحنفي.
كان عالما عاملا منور الشكل حسن السمت فقيها فرضيا حيسوبا، تلمذ للعلامة الفرضي الحيسوب جمال الدين أبي النجا يوسف الأسعردي ثم الحلبي، وعلق على نزهة الحساب تعليقا حسنا حمله على وضعه شيخنا العلاء الموصلي كما نبه على ذلك في ديباجته.
ولم يزل على ديانته يتعاطى صنعة التجارة إلى أن مات سنة خمس عشرة رحمه الله.
679 - موسى بن أحمد النحلاوي الريحاوي المتوفى سنة 915
موسى بن أحمد النحلاوي أصلا الحلبي دارا الأردبيلي خرقة الشافعي المشهور بالشيخ موسى الريحاوي لسكناه بأريحا قديما.
حكى أنه لما قدم الشيخ باكير والشيخ داود الصوفيان الأردبيليان إلى أرض الشام كان قدوم الأول (لتربية الشيخ محمد الكواكبي البيري ثم الحلبي، وقدوم الثاني) (1) لتربية الشيخ موسى هذا، وكان الشيخ داود يقف وهو ببعض القرى متوجها إلى قرية الشيخ موسى قائلا: إني لأجد ريح يوسف، ثم لما اجتمع بالشيخ اطلع الشيخ على أنه أخذ في الكتابة والقراءة وأن مؤدب الأطفال قد شرع في كتابة الحروف الهجائية له، فنهاه عما كان بصدده وأدخله الخلوة الأربعينية، ثم استفسره عما رآه بها فأخبره أنه رأى أنه لابس (درعا من الورق لا كتابة عليه، فأمره بالمقام بها، إلى أن كان اليوم السابع والثلاثون. فسأله عما رآه، فأخبره أنه رأى أنه لابس درعا) (2) مكتوبا وأنه قرأ جميع ما فيه، فأمره بقراءة
__________
(1) ما بين قوسين ساقط في الأصل.
(2) ما بين قوسين ساقط في الأصل.(5/351)
المصحف فقرأه بإذن الله تعالى، ثم أمره أن يطالع كتاب قمع النفوس. ولم يزل يزوره بنية التربية حتى اعتقده أهل قريته وكثير من أهل القرى وصار له سماط وبساط، ثم أقام بحلب يدرس الفقه، وكان راسخ القدم فيه، وكان ممن انتفع به عمي القاضي كمال الدين الشافعي، ثم كانت وفاته بها في آخر ذي الحجة سنة خمس عشرة أو أوائل المحرم سنة ست عشرة وتسعماية ودفن بالقرب من التربة الخشابية (1) داخل باب قنسرين بعد مكاشفة بوفاته حصلت من الشيخ محمد الخراساني النجمي، فإنه عزم ذات يوم على زيارة الشيخ موسى، فبينما هو في الطريق إذ سأل سائل عن محل توجهه فأخبره أنه بصدد زيارة الشيخ لقرب مضيه إلى عالم البرزخ، فلما زاره حصل بينهما من البسط ما الله أعلم به بعد أن كان الشيخ موسى من المنكرين عليه قبل اجتماعه به، ثم كان مرضه داعيا له، رحمنا الله تعالى وإياه.
وستأتي ترجمة ولده يحيى المتوفى سنة 953وولد ولده موسى واقف الوقف على ذريته ومصالح زاوية جده هذا الكائنة في محلة باب قنسرين.
680 - حسين بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة 916
حسين بن محمد بن محمد قاضي القضاة أبو الطيب عفيف الدين ابن قاضي القضاة أبي اليمن أثير الدين ابن قاضي القضاة أبي الفضل محب الدين ابن الشحنة الشافعي خال والدي.
ولد على ما وجدته بخط والده سنة ثمان وخمسين وثمانمائة، وولي قضاء حلب وكتابة السر بعد أن حصل بالقاهرة طرفا من العلم وأجيز بصحيح البخاري بها قراءة سنة سبع وسبعين عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد القادر بن محمد بن طريف الشاوي بالشين المعجمة المصري الحنفي الصوفي، وهو خاتمة من يروي عن أبي المجد الخطيب الدمشقي، ومن شيوخه بحلب العلم المشهور ملا علي الشهير بقل درويش الخوارزمي قرأ عليه بها شرح جمع الجوامع للمحلي عن أخيه في نسخة كتبها بيده، ولما أكمل قراءتها عليه أثنى
__________
(1) أي في الزاوية المعروفة به إلى الآن لكن لا أثر لقبره الآن ولعله كان في حجرة هناك.(5/352)
عليه بخطه في ذيلها بأنه قرأ عليه قراءة بحث وتحقيق ومناظرة وتدقيق مع تحليل التركيبات والمباني وتفاسير الألفاظ وتحقيقات المعاني، إلى أن أثنى عليه بأنه أفاد واستفاد وزاد واستزاد وكرر النظر وأجاد، وأنه سريع الفهم سريع الانتقال بليغ الحكم قوي الجدال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وكانت وفاته سنة ست عشرة رحمه الله تعالى ورحمنا.
681 - محمد المغربي الديّوني المتوفى سنة 916
محمد المغربي المالكي المشهور بالديّوني أمين المصبنة المهدية بحلب.
كان عنده علم وله أبهة، وكان بعض تجار الصابون قد اتهمه بخيانة فاستعان عليه بأبرك الجركسي نائب القلعة، فضرب ضربا مبرحا ليقر فمات من الضرب مظلوما سنة ست عشرة وتسعماية، واضطربت المغاربة لأجل ذلك حتى كادوا لا يدفونه حتى يأخذوا بثأره.
682 - أحمد الكردي الشافعي المتوفى سنة 917
أحمد الشيخ شهاب الدين الكردي الشافعي مذهبا الأحمدي خرقة، القواس.
كان يعمل القسي وينقشها ويذهبها بالمدرسة الشرفية بحلب في حجرة من حجرها مع ما كان عنده من الفضائل العلمية لاشتغاله فيها على عمه الفخر عثمان الآتي ذكره ومن حسن الخط حتى أخذ عنه جماعة الخط الحسن منهم والدي، وكان له مزيد اعتناء بشرح بديعية ابن حجة، وانتصار له على مخالفيه فيه وإقامة حجة. توفي سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، وكان سبب وفاته أن صعد ذات يوم إلى حجرة له أخرى فوقانية لكنسها فرمى من كناستها شيئا من شباكها فسقط على رأسه فلم تسمع منه كلمة سوى قوله الله، وبقي على ذلك أياما إلى أن توفي رحمنا الله تعالى وإياه.
683 - محمد بن عبد الله النبهاني المتوفى سنة 919
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الشيخ كمال الدين ابن الشيخ جمال الدين الشيحي النبهاني الحلبي الشافعي.(5/353)
كان شيخا صالحا مطرحا للتكليف يعتاد دون غيره من أبناء جنسه استعمال الشد (1)
الوبر في عنقه. وكان يقرأ الحديث على الكرسي الموضوع بشمالية جامع حلب، فإذا رأى شيخنا الموصلي يدرس تحته قرأه تحت الكرسي بمجلس درسه تأدبا معه. وكانت له المنامات الصادقة فيما أخبرني به والدي، فقد كان يحب والدي ويحبه والدي وبينهما الصداقة التامة.
وكانت له العناية برمي النشاب في أيام الشباب، توفي سنة تسع عشرة أو سنة عشرين وتسعمائة.
وكان أبوه أحد المعدودين بمكتب سوق الصابون بحلب، وكان واحد من أجداده فيما بلغني معدودا من أرباب الأحوال وعتيقا لقدوة البلاد الحلبية الشيخ العابد محمد بن نبهان الحلبي الجبريني الذي كانت إقامته بجبرين وله بها الزاوية المشهورة وفيها مزاره لوفاته بها سنة أربع وأربعين وسبعمائة. وفيه يقول ابن الوردي كما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه:
وكنت إذا قابلت جبرين زائرا ... يكون لقلبي بالمقابلة الجبر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خرّ من بينها البدر
684 - محمد العريان المجذوب المتوفى سنة 919
محمد العريان مجذوب معتقد. كان سبب جذبته أنه كان في بداية أمره مسرفا على نفسه، فشرب ذات يوم خمرا وجرح إنسانا، فلما جرى دمه هاله ذلك الأمر المحظور الذي ارتكبه كأنه ندم على ما فرط منه وما اجترأ عليه، فاضطرب عقله وصار يختلط بطائفة المؤذنين بجامع الزكي بحلب ويعمل أعمالهم، ثم تجرد عن الملبس وأوى إلى قبة من اللبن بين الكروم مجاورة لقبة بها مدفن الولي المعروف بالشيخ بولاد، وهو عريان لا يستر سوى عورته الغليظة، وبين يديه كلاب كثيرة يمنعون من ينوي زيارته إلا بإشارة منه، وإذا أهدى له زائر شيئا من الأكل بادر إلى إطعامهم منه، وربما منع الناس من الوصول إليه بالحجارة. وكان لا يزال نظيفا وربما وجد عليه آثار الغزاة من جروح وغيرها.
وكان خير بك كافل حلب يعتقده لما أنه قدم يوما والناس محتاجون إلى المطر قدوما
__________
(1) في بعض النسخ المخطوطة من در الحبب: المشد.(5/354)
خرق فيه عادته من الإقامة بمكانه ذلك وقال له: مالك لا تنادي بالاستمطار؟ فسأله الدعاء ونادى بالاستمطار، فدعوا فأمطروا. واتفق له أنه زاره يوما ومعه الأمير حسين الميداني، فأحضر وعاء فيه دجاج وغيره لضيافة كافل حلب المذكور، فسأل الشيخ وهو في داخل قبته في الأكل معهم، فخرج وأخذ يلقم لكل كلب دجاجة، ثم إنه ألقى الوعاء على وجهه ونادى الكلاب قائلا: إنه لا يصلح طعام الكلاب إلا للكلاب.
ولما قدم من القاهرة الأمير علان الدوادار الثاني الذي جاء من قبل الأشرف قانصوه الغوري إلى سلطان المملكة الرومية ونوى السفر من حلب أشار عليه كافلها بزيارته فزاره صحبة الكافل، فلما تمم دعاءه قال: روح من هنا، وأشار إلى جانب الروم، فلما عاد متوجها إلى القاهرة أعاد زيارته فقال له: روح من هنا، وأشار إلى جانب القاهرة بعد أن أمسك الشيخ لحيته في المرة الأولى فصبر عليه ولم يكترث له. وكانت وفاته ودفنه بالقبة المذكورة سنة تسع عشرة وتسعمائة.
685 - محمد التركماني المشهور بمنلادراز المتوفى سنة 920
محمد التركماني الحنفي المشهور بمنلادراز وبمنلاسيدي بفتح السين وسكون المثناة التحتية.
كان من أكابر تلامذة الجلال الدوّاني وممن قطن حلب فقرأ عليه جماعة وهو في حجرة بالمدرسة الجاولية. توفي سنة عشرين وتسعمائة. قال تلميذه الشمس بن بلال: ولما مات رأيته في المنام فسألته: ما فعل الله بك؟ فقال: عاتبني عتابا كثيرا ثم غفر لي بما في صدري من العلم أو كلاما يشبهه.
686 - محمد بن إبراهيم العرضي المتوفى سنة 920
محمد بن إبراهيم بن محمود القاضي شمس الدين العرضي الأصل الحلبي النقيب الشافعي.
لازم العلاء الشرابي وصارت له فضيلة علمية إلى أن وقع بينه وبين البدر السيوفي شنآن
في مسألة (ليس في الإمكان أبدع مما كان). فاستطال على البدر بجاه سيباي كافل حلب لما كان إمامه. فأرضى عليه العوام البدر حتى نفّره من مخالطتهم وضيق حضيرته لأخذهم في عرضه، فاضطر إلى أن طلب من عمي الكمال الشافعي أن يستنيبه في القضاء ليرد أفواه الناس عنه، ففعل وأصلح بينه وبين البدر، ولم يزل نائبه إلى أن مات بغزة سنة عشرين وتسعماية.(5/355)
لازم العلاء الشرابي وصارت له فضيلة علمية إلى أن وقع بينه وبين البدر السيوفي شنآن
في مسألة (ليس في الإمكان أبدع مما كان). فاستطال على البدر بجاه سيباي كافل حلب لما كان إمامه. فأرضى عليه العوام البدر حتى نفّره من مخالطتهم وضيق حضيرته لأخذهم في عرضه، فاضطر إلى أن طلب من عمي الكمال الشافعي أن يستنيبه في القضاء ليرد أفواه الناس عنه، ففعل وأصلح بينه وبين البدر، ولم يزل نائبه إلى أن مات بغزة سنة عشرين وتسعماية.
وكان ممن قرأ صحيح البخاري على الكمال بن الناسخ الطرابلسي المالكي تلميذ البرهان المحدث الحلبي لما قدم إلى حلب، فاهتم بعض الحلبيين بالسماع عليه لعلو سنده، وقرأ على المحيوي عبد القادر الأبار وغيره، وصار إمام خير بك كافل حلب.
687 - إبراهيم بن عثمان شيخ سوق الظاهرية المتوفى سنة 921
إبراهيم بن عثمان بن إبراهيم بن موسى الأصيل برهان الدين ابن الشيخ الإمام برهان الدين بن شرف الدين التركماني الأصل الحلبي المشهور بشيخ سوق الظاهرية.
كان شيخ سوق الظاهرية بحلب وأحد أعيان التجار بها، كثير المال سابغ النوال سخيا نخيا متنزها مترفها في المآكل والمشارب والمناكح، تتنوع في منزله الأطعمة الغريبة والحلويات العجيبة. ومما حكي عنه أنه كان في زمان الشباب مولعا برماية النشاب حتى إنه التزم فيها ألطف مخاطرة ووفى بها توفية عجيبة ظاهرة. وكان قد أنشأ له عمارة لطيفة بجوار زاوية الشيخ بيرام بالدرب الأبيض وجعل له بها مدفنا وجنينة، فصار يخرج إلى جنينته ويتنزه بها ويدعو إليها عدة من الأكابر كالخواجا سعد الله الملطي وأضرابه بحيث لا يدع أحدا منهم يبعث إليه شيئا من المستظرفات ولا غيرها ليثقل عليه مجيئه إليه، وكان ينصب له بها كرسي فيجلس عليه والطباخ ومن يتعاطون ما يأمرهم به في أمر الأطعمة والحلويات وغيرها، فإذا أنّق ما أنّق عاد إلى مجلس أخوانه وخلانه.
وكان خير بك الجركسي كافل حلب يحبه ويعظمه ويتشهى عليه الملاذ فيصنعها له ويرسلها إليه أو يرسلها إليه من غير طلب. ولما نزل بأرض حلب مراد خان ابن أخت السلطان حسن بك هاربا من شاه إسماعيل الصوفي بعث خير بك إلى الشيخ إبراهيم يستنهضه في عمل نفائس المآكل له، وخرج خير بك إليه بجميع مماليكه وكانوا يناهزون الألف
بلبوسهم وسلاحهم وما معهم من رماحهم ونزل إليه فسلم عليه وجلس معه، فحضرت مآكل الشيخ إبراهيم على رؤوس الحمالين في أربعين زوجا من المطابق النحاس كل زوج أربعة، وكانت بحلب مصطبة حمالي الأقفص فبطلت، ثم حضرت مآكل أخرى من تاجر آخر حلبي يعرف بابن الأسود، فمد السماط وأكل الفريقان والمآكل تنادي هل من آكل.(5/356)
وكان خير بك الجركسي كافل حلب يحبه ويعظمه ويتشهى عليه الملاذ فيصنعها له ويرسلها إليه أو يرسلها إليه من غير طلب. ولما نزل بأرض حلب مراد خان ابن أخت السلطان حسن بك هاربا من شاه إسماعيل الصوفي بعث خير بك إلى الشيخ إبراهيم يستنهضه في عمل نفائس المآكل له، وخرج خير بك إليه بجميع مماليكه وكانوا يناهزون الألف
بلبوسهم وسلاحهم وما معهم من رماحهم ونزل إليه فسلم عليه وجلس معه، فحضرت مآكل الشيخ إبراهيم على رؤوس الحمالين في أربعين زوجا من المطابق النحاس كل زوج أربعة، وكانت بحلب مصطبة حمالي الأقفص فبطلت، ثم حضرت مآكل أخرى من تاجر آخر حلبي يعرف بابن الأسود، فمد السماط وأكل الفريقان والمآكل تنادي هل من آكل.
ولما مرض الشيخ إبراهيم عاده خير بك مرات وكان يقول له: أبي، فلما توفي حضر جنازته وحمل سريره ثلاث مرات ومشى معه إلى تربته. وكانت وفاته بين سنة عشرين وسنة اثنتين وعشرين.
688 - القاضي سري الدين أحمد بن محمد النحريري المالكي المتوفى سنة 921
أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله قاضي القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين ابن قاضي القضاة جمال الدين، النحريري الأصل الحلبي المالكي هو وأبوه وجداه.
وجده الجمالي هو الذي كان قد قام مع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن أبي الرضى الشافعي وهما قاضيا حلب على الملك الظاهر برقوق الجركسي لما خرج عليه يلبغا الناصري وسجنه، وصار ابن أبي الرضى يفتي بأنه من المفسدين العصاة الخارجين، فإن سلطنته ما صادفت محلا إلى أن خرج من السجن وتسلطن ثانيا فقتله، ثم جاء مرسومه بإمساك الجمال فأحس به فهرب إلى بغداد، ثم كان بتبريز، ثم تحول إلى حصن كيفا فأكرمه صاحبها فأقام عنده، ثم حج، ثم رجع قاصدا إليه فمات بسرمين من أعمال حلب سنة سبع وثمانمائة.
وكان كما قال ابن خطيب الناصرية من أعيان الحلبيين، إماما فاضلا فقيها يحب العلم وأهله.
وأما ابن أبي الرضى فسبقه بالوفاة سنة إحدى وتسعين، وأما القاضي سري الدين فإنه كان ذا هيئة حسنة وشيبة منورة وحشمة زائدة، غير أنه حصل له خرف فكانوا يقربون له أن يتزوج بفلانة بنت فلان الفلاني فيقول: نعم أتزوجها قاطعا بذلك، ثم يحسنون له
بأخرى فيقول: نعم هذه هي اللائقة، ثم يذكرون له ثالثة ويرجحونها على الأوليين فتراه يستصوب رأيهم فيها ولا يعدل عما هم عليه، ثم يقبحون شأنها فيعدل عنها. وكان والدي يعظمه جدا لما أن جدي الجمال الحنبلي كان ممن يتعاطى بمحكمة والده صنعة التوقيع والتوريق، ولما أنه كان من ذوي البيوت، بل كان أيضا قاضي المالكية بطرابلس في الدولة الجركسية إلى أن عزل نفسه من قضائها، ثم عاد إلى حلب وبقي بها إلى أن مات سنة إحدى وعشرين.(5/357)
وأما ابن أبي الرضى فسبقه بالوفاة سنة إحدى وتسعين، وأما القاضي سري الدين فإنه كان ذا هيئة حسنة وشيبة منورة وحشمة زائدة، غير أنه حصل له خرف فكانوا يقربون له أن يتزوج بفلانة بنت فلان الفلاني فيقول: نعم أتزوجها قاطعا بذلك، ثم يحسنون له
بأخرى فيقول: نعم هذه هي اللائقة، ثم يذكرون له ثالثة ويرجحونها على الأوليين فتراه يستصوب رأيهم فيها ولا يعدل عما هم عليه، ثم يقبحون شأنها فيعدل عنها. وكان والدي يعظمه جدا لما أن جدي الجمال الحنبلي كان ممن يتعاطى بمحكمة والده صنعة التوقيع والتوريق، ولما أنه كان من ذوي البيوت، بل كان أيضا قاضي المالكية بطرابلس في الدولة الجركسية إلى أن عزل نفسه من قضائها، ثم عاد إلى حلب وبقي بها إلى أن مات سنة إحدى وعشرين.
689 - عبد البر ابن الشحنة المتوفى سنة 921
عبد البر بن محمد بن محمد قاضي القضاة أبو البركات سري الدين ابن قاضي القضاة أبي الفضل محب الدين ابن قاضي القضاة أبي الوليد محب الدين الحلبي ثم القاهري الحنفي المشهور بابن الشحنة سبط قاضي القضاة ولي الدين محمد السفطي قاضي الشافعية بالديار المصرية في الدولة الجركسية.
ولد بحلب سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، ثم انتقل منها إلى القاهرة فاشتغل بها في علوم شتى على شيوخ متعددة ذكرهم السخاوي في ضوئه في ترجمة له حافلة، ودرس وأفتى وتولى قضاء حلب، ثم تولى قضاء القاهرة وصار جليس السلطان الغوري وسميره، ونظم ونثر وألف كتبا كثيرة منها «شرح الوهبانية في فقه الحنفية» ومنها «شرح الماية البديعية والعشرين» التي نظمها جده أبو الوليد في عشرة علوم، ومنها كتاب له لطيف في حوض دون ثلاثة أذرع هل يجوز فيه الوضوء أولا، وهل يصير مستعملا بالتوضي فيه أو لا أفاد فيه أن المفتى به في الماء المستعمل قول محمد أنه طاهر غير طهور وأن المتقاطر من الوضوء طاهر قليل لاقى طهورا أكثر منه فلا يسلبه الطهورية، وجوز فيه الاغتراف منه والتوضي خارجه لا فيه، وأثبت فيه أن إدخال اليد في الحوض الصغير بقصد التوضي فيه سالب عن الماء الطهورية لارتفاع الحدث والتقرب بإدخال اليد ونزعها باتفاق علمائنا الأربعة رضي الله عنهم، وأنه إذا تجرد عن هذا القصد لم يؤثر وأن أبا حنيفة وصاحبيه متفقون على تأثير المستعمل في الطهور وسلبه عنه الطهورية إذا وقع فيه وإن كان أقل منه، ومنها «الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية» وهو كتاب جمع فيه إلى ألغاز ابن العز الحنفي ألغازا
ابتكرها وأخرى نقلها من كتب علمائنا الحنفية فذكرها مع إضافة شيء قليل من كتب الشافعية، وكثيرا ما أودعه أجوبة نظما عن أسئلة أوردها ابن العز في كتابه منظومة، وربما نظم بعض الأسئلة كما قال:(5/358)
ولد بحلب سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، ثم انتقل منها إلى القاهرة فاشتغل بها في علوم شتى على شيوخ متعددة ذكرهم السخاوي في ضوئه في ترجمة له حافلة، ودرس وأفتى وتولى قضاء حلب، ثم تولى قضاء القاهرة وصار جليس السلطان الغوري وسميره، ونظم ونثر وألف كتبا كثيرة منها «شرح الوهبانية في فقه الحنفية» ومنها «شرح الماية البديعية والعشرين» التي نظمها جده أبو الوليد في عشرة علوم، ومنها كتاب له لطيف في حوض دون ثلاثة أذرع هل يجوز فيه الوضوء أولا، وهل يصير مستعملا بالتوضي فيه أو لا أفاد فيه أن المفتى به في الماء المستعمل قول محمد أنه طاهر غير طهور وأن المتقاطر من الوضوء طاهر قليل لاقى طهورا أكثر منه فلا يسلبه الطهورية، وجوز فيه الاغتراف منه والتوضي خارجه لا فيه، وأثبت فيه أن إدخال اليد في الحوض الصغير بقصد التوضي فيه سالب عن الماء الطهورية لارتفاع الحدث والتقرب بإدخال اليد ونزعها باتفاق علمائنا الأربعة رضي الله عنهم، وأنه إذا تجرد عن هذا القصد لم يؤثر وأن أبا حنيفة وصاحبيه متفقون على تأثير المستعمل في الطهور وسلبه عنه الطهورية إذا وقع فيه وإن كان أقل منه، ومنها «الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية» وهو كتاب جمع فيه إلى ألغاز ابن العز الحنفي ألغازا
ابتكرها وأخرى نقلها من كتب علمائنا الحنفية فذكرها مع إضافة شيء قليل من كتب الشافعية، وكثيرا ما أودعه أجوبة نظما عن أسئلة أوردها ابن العز في كتابه منظومة، وربما نظم بعض الأسئلة كما قال:
أيا علماء الشرع يا من بفضلهم ... يضيء لنا وجه الزمان ويزهر
أبينوا لنا عن سارق لدارهم ... من الحرز عن ألف تزيد وتكثر
وقد ثبتت في الشرع سرقته لها ... ولا شبهة في أخذه المال تظهر
ولا ذاك مال للزكاة مميّز ... ولا مال ذي غصب ولا جهل يذكر
ويوصف بالتكليف هذا وأخذه ... لها دفعة قد كان والقطع يهدر
وفي جوابه قلت:
ألا خذ جوابا وجهه لك مسفر ... وأسراره تبدو لديك وتظهر
لئن كان هذا سارقا مال غيره ... ولا شبهة في الأخذ فالقطع يهدر
بناء على أن اثنتين وواحدا ... أقيموا شهودا عند ما صار ينكر
وبانت لدى تلك الشهادة شبهة ... بها الحد أضحى بعد لا يتقرر
فخذه جوابا هينا لينا حكت ... معانيه حتى إنما هي سكّر
ونظم أبياتا ذكر فيها البكائين من الصحابة رضي الله عنهم في غزوة تبوك الذين نزلت فيهم {وَلََا عَلَى الَّذِينَ إِذََا مََا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لََا أَجِدُ مََا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} (1) الآية وبين فيها اختلاف المفسرين وأهل السير فيهم، ثم شرحها في رسالة لطيفة.
وكان بليغا منطقيا مهيبا شهما سخيا متوسعا في لذات الدنيا لا يمسك في يده الدرهم الفرد ولا ما فوقه، ومن شأنه الافتخار وعد المناقب الكبار كما قال في صدر قصيدة:
أضار وها مناقبي الكبار ... وبي والله للدنيا الفخار
علا في سؤدد وعلوم شرع ... لها في سائر الدنيا انتشار
ومجد شامخ في بيت علم ... مفاخرهم بها الركبان ساروا
__________
(1) التوبة: 92.(5/359)
وهمة لوذع شهم تسامى ... بفرق الفرقدين لها قرار
وفكر صائب في كل فن ... إلى تحقيقه أبدا يصار
إلى أن قال:
سموت لمنصب الإفتاء طفلا ... وكان له إلى قربي ابتدار
وكم قررت في الكشاف درسا ... عظيما قبل ما دار العذار
في أبيات أخرى. ومع ذلك لم يسلم من هجو السلموني إياه وأخذه في أذاه إلى أن قابله على هجوه وآذاه. توفي بالقاهرة سنة إحدى وعشرين.
690 - محمد بن عمر بن النصيبي المتوفى سنة 921
محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن عبد القاهر بن هبة الله الحلبي أبو بكر الزين أبي جعفر (1) ابن الضيا بن النصيبي الشافعي سبط المحب أبي الفضل ابن الشحنة الحنفي.
قال السخاوي في «الضوء اللامع»: ولد في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بحلب، وقدم القاهرة وقرأ على جده لأمه في سنة ست وسبعين وغيرها، وكان قد حفظ القرآن وصلى به بالجامع الكبير وهو ابن ثمان سنين، والمنهاجين والألفيتين ثم جمع الجوامع على الجمال الباعوني وأخيه البرهان والبدر ابن قاضي شهبة والنجم بن قاضي عجلون، وأخذ الفقه عن أبي ذر وفيه وفي أصوله، والنحو عن السلامي ووالده الزيني عمر، وبالقاهرة عن الفخر المقسي في تقسيمين والجوجري. وقرأ على العبادي في الفقه وعلى الشمني في شرح نظم أبيه المتفحية والقليل من شرح الألفية لابن أم قاسم، وكذا أخذ في النحو وحضر عند جده المحب في دروسه وغيرها كثيرا، وأخذ عني بقراءته في الجواهر وفي غيرها. وجمع أشياء منها تعليق على المنهاج سماه «الإبهاج» في أربع مجلدات قرظه له الكمال ابن أبي شريف، وهو ممن قرأ عليه الفقه وحاشيته على المحلي والبيضاوي وبالغ في تعظيمه.
__________
(1) في مطبوعة در الحبب: أبو بكر بن الزين أبي حفص(5/360)
وبرع وتميز ونظم ونثر مع ظرف ولطف ومحاسن جمة، ولكنه بواسطة خلطته لخاله عبد البر بن الشحنة الحنفي باع كتبه وموجوده وركبه الدين مرة بعد أخرى ثم انتظم حاله.
وناب في القضاء في القاهرة ودمشق وبلده وحسن حاله، وكان بالقاهرة في سنة خمس وتسعين وثمانماية وزارني حينئذ. انتهى ما ذكره السخاوي.
توفي ليلة السبت تاسع عشري رجب سنة إحدى وعشرين وتسعمائة. وكان ذا فطنة وحافظة ورفاهية وجد في أمر الطهارة، حتى نقل أنه كان يجعل غداه من الحلاوة السكرية أحيانا كثيرة، فإذا دخل الحمّام فرش له في داخلها طنفسة صغيرة.
وولي قضاء حماة ثم قضاء حلب استقلالا، وناط قضاء حلب بولده أقضى القضاة زين الدين عمر إلى أن أصيب بموته وعزل عن قضائها بعمي الكمال الشافعي، ولما ولي قضاء حماة أنشده وقد قدم حلب بعض أحبابه حيث قال:
حماة مذ صرت بها قاضيا ... استبشر الداني مع القاصي
وكل من فيها أتى طائعا ... إليك وانقاد لك العاصي
وبلغني أنه اختصر جمع الجوامع في الأصول، وأنه كتب كتابا كبيرا في غير مجلد جمع فيه من النوادر والأشعار ما لا يحصى كثرة.
وكان لهجا بتواريخ الناس وطريق أهل الأدب لا يمل محاضره من محاضرته ولا يمل في استطالة معاشرته.
وفي نسخة در الحبب التي في الحلوية زيادة على ما هنا، منها: وللقاضي جلال الدين مضمنا:
بروحي من الأتراك ظبيا مهفهفا ... إذا مارنا كنت المصاب بعينه
أتى زائرا ليلا فأشرق وجهه ... كأن الثريا علقت في جبينه
وله تخميس الأبيات المشهورة للشاب الظريف محمد بن العفيف حيث قال:
غبتم فطرفي من الهجران ما غمضا ... ولم أجد عنكم لي في الهوى عوضا
فيا عذولا بعبء اللوم قد نهضا ... للعاشقين بأحكام الغرام رضى
فلا تكن يا فتى بالعذر معترضا
أنا الوفي بعهد ليس ينتقض ... وإن هم نقضوا غزلي وإن رفضوا
فقلت لما لقتلي بالأسى فرضوا ... روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا
عهد الوفيّ الذي للعهد ما نقضا
أحبابنا ليس لي عن عطفكم بدل ... وعن غرامي ووجدي لست أنتقل
يا سائلي عن أحبائي وقد رحلوا ... قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا
فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
قد حمّلوه غراما فوق ما يسع ... وعذبوا قلبه هجرا وما انتفعوا
دعي أجاب توالى سهده هجعوا ... رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا
فسام صبرا فأعيا نيله فقضى(5/361)
غبتم فطرفي من الهجران ما غمضا ... ولم أجد عنكم لي في الهوى عوضا
فيا عذولا بعبء اللوم قد نهضا ... للعاشقين بأحكام الغرام رضى
فلا تكن يا فتى بالعذر معترضا
أنا الوفي بعهد ليس ينتقض ... وإن هم نقضوا غزلي وإن رفضوا
فقلت لما لقتلي بالأسى فرضوا ... روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا
عهد الوفيّ الذي للعهد ما نقضا
أحبابنا ليس لي عن عطفكم بدل ... وعن غرامي ووجدي لست أنتقل
يا سائلي عن أحبائي وقد رحلوا ... قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا
فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
قد حمّلوه غراما فوق ما يسع ... وعذبوا قلبه هجرا وما انتفعوا
دعي أجاب توالى سهده هجعوا ... رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا
فسام صبرا فأعيا نيله فقضى
691 - عز الدين الصابوني المتوفى سنة 922
عز الدين الصابوني الحنفي المعروف فيما يقال بابن عبد الغني وأنه كان ابن عم التقوي أبي بكر المعروف بابن الموازيني الماضي ذكره.
كان خطيبا جيدا خطب كثيرا بجامع تغري بردي بحلب، ولما حل ركاب السلطان سليم بن عثمان بها سنة اثنتين وعشرين صلى الجمعة مرة بجامع الأطروش فكان هو الخطيب يومئذ، وكان يصعد المنبر مع ما في قدميه من الانحناء والاعوجاج إلى طرف الداخل على وجه كان لا يتردد في الشوارع إلا راكبا على بغلة لعسر السير بهما عليه.
وما حصلت له الحظوة إلا في السنة المذكورة بخطبته المذكورة والسلطان المشار إليه حاضر الخطبة إلا ودعاه داعي المنون فتوفي إلى رحمة الله تعالى في تلك السنة.
692 - حسين بن حسن البيري المتوفى سنة 922
حسين بن حسن بن عمر، الشيخ حسام الدين البيري ثم الحلبي الشافعي الصوفي.
ولد ببيرة الفرات ونشأ بها، ثم انتقل إلى حلب وجاور بجامع الطواشي ثم بالألجهية، ونزل عنده بها العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الآمدي المعروف بشمس، وأجاز له. وفي سنة أربع تولى النظر والمشيخة بمقام السلطان إبراهيم بن أدهم رضي الله
عنه في دولة العادل قانصوه خال الناصر محمد بن قايتباي. وفي سنة اثنتين وعشرين توفي إلى رحمة الله تعالى. وكان له ذوق ونظم ونثر وإلمام بالفارسية والتركية. قال لي ولده الشهاب أحمد: وله رسالة في القطب والإمام، قال: ونقل شيئا من كلام منطق الطير في التركية إلى العربية وشيئا من المثنوي من الفارسية إلى العربية، ثم أنشدني من التعريب الأول قوله:(5/362)
ولد ببيرة الفرات ونشأ بها، ثم انتقل إلى حلب وجاور بجامع الطواشي ثم بالألجهية، ونزل عنده بها العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الآمدي المعروف بشمس، وأجاز له. وفي سنة أربع تولى النظر والمشيخة بمقام السلطان إبراهيم بن أدهم رضي الله
عنه في دولة العادل قانصوه خال الناصر محمد بن قايتباي. وفي سنة اثنتين وعشرين توفي إلى رحمة الله تعالى. وكان له ذوق ونظم ونثر وإلمام بالفارسية والتركية. قال لي ولده الشهاب أحمد: وله رسالة في القطب والإمام، قال: ونقل شيئا من كلام منطق الطير في التركية إلى العربية وشيئا من المثنوي من الفارسية إلى العربية، ثم أنشدني من التعريب الأول قوله:
اسمعوا يا سادتي صوت اليراع ... كيف يحكي من شكايات الوداع
مع أنني سمعت أنه تعريب رجل أصفهاني، وقوله:
ما ترى قط حريصا قد شبع ... ما حوى الدر الصدف حتى قنع
هكذا أنشدنيه بإسكان آخر صدف للضرورة، وأنشدني له:
بقايا حظوظ النفس في الطبع أحكمت ... كذلك أوصاف الأمور الذميمة
تحيرت في هذين والعمر قد مضى ... إلهي عاملنا بحسن المشيئة
وأنشدني له الشيخ قاسم ابن الجبريني:
من البطون بسر اللطف رباني ... إلى الظهور وذاك اللطف رباني
وقد بنى في وجودي والبناء بما ... لو خلته قلت واشواقا إلى الباني
الله أكرمني الله أوهبني ... الله أمنحني الله أعطاني
أنساني الغير بالإحسان واعجبا ... فكيف أنسى لمن للغير أنساني
إنسان عيني مغمور بحكمته ... واحيرتي كيف ما أدركت إنساني
ما ثم في الكون معبود سواه يرى ... ولا له أبدا في ملكه ثاني
في طي أسمائه الحسنى له حكم ... إذا نشرت ترى القاصي بها داني
ومما وقع له أنه اجتمع يوما بالشيخ محمد الخراساني النجمي في مجلس خير بك كافل حلب وكان ينكر على الشيخ استعمال الدف واليراع في مجالس السماع، فقال له: ماذا يقول اليراع؟ فقال له الشيخ: اسكت، أنت اليراع، وكأنه أراد أنه مثله في خلو الباطن وأنه جماد مثله، فلم يفهم إلا أنه جعله إياه حقيقة فأراد أن يؤذن الناس بأنه تكلم بكلام لا صحة له لينكروا عليه، فلم يجسر أحد أن يصل إليه إلى أن وقع الإصلاح بينهما. قيل
وكانت له جرأة على بلديه الشيخ محمد الكواكبي الصوفي.(5/363)
من البطون بسر اللطف رباني ... إلى الظهور وذاك اللطف رباني
وقد بنى في وجودي والبناء بما ... لو خلته قلت واشواقا إلى الباني
الله أكرمني الله أوهبني ... الله أمنحني الله أعطاني
أنساني الغير بالإحسان واعجبا ... فكيف أنسى لمن للغير أنساني
إنسان عيني مغمور بحكمته ... واحيرتي كيف ما أدركت إنساني
ما ثم في الكون معبود سواه يرى ... ولا له أبدا في ملكه ثاني
في طي أسمائه الحسنى له حكم ... إذا نشرت ترى القاصي بها داني
ومما وقع له أنه اجتمع يوما بالشيخ محمد الخراساني النجمي في مجلس خير بك كافل حلب وكان ينكر على الشيخ استعمال الدف واليراع في مجالس السماع، فقال له: ماذا يقول اليراع؟ فقال له الشيخ: اسكت، أنت اليراع، وكأنه أراد أنه مثله في خلو الباطن وأنه جماد مثله، فلم يفهم إلا أنه جعله إياه حقيقة فأراد أن يؤذن الناس بأنه تكلم بكلام لا صحة له لينكروا عليه، فلم يجسر أحد أن يصل إليه إلى أن وقع الإصلاح بينهما. قيل
وكانت له جرأة على بلديه الشيخ محمد الكواكبي الصوفي.
693 - صالح بن أحمد الحاضري المتوفى سنة 922
صالح بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد الصغير ابن شيخ الإسلام عز الدين محمد الكبير ابن خليل أقضى القضاة صلاح الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.
ناب في القضاء بحلب عن قاضي القضاة جمال الدين يوسف سبط ابن آجا الحنفي، وكان توقيعه الحمد لله رب العالمين. ومات سنة اثنتين وعشرين.
694 - علي بن سعيد الملطي المتوفى سنة 922
علي بن سعيد الملطي.
كان متمولا من أهل الخير، أنشأ تتمة لجامع الصروي بمحلة البياضة بحلب وجعل بها إماما ومدرسا وطلبة ذوي حجرات، وجعل المدرس بها شيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي ووقف عليها أوقافا جيدة وأحدث له بها مدفنا (1)، وكان شيخ محلة البياضة أولا، ثم كان من أجناد الحلقة الحلبية.
وذكر الشيخ خليل الصيرفي أنه كان بيده أقاطيع سلطانية، فلما جاء أقبردي الدوادار محاصرا حلب وعمل مكحلة عظيمة ليرمي بها على سورها الكائن بالجبيل عمد كافلها جان بلاط إلى أحجار وأخشاب ودفوف كان أخذها الأمير علي لمدرسته، فأخذها وبنى الحجارة وراء السور المذكور وجعل الأخشاب والدفوف تساتير عليه، فلما انشقت المكحلة بإذن الله تعالى وعاد آقبردي خائبا ثم كان جان بلاط ممن تسلطن بعد وفاة السلطان قايتباي ذهب إليه الأمير علي وطلب منه شراء شيء من أقاطيعه من وكيل بيت المال لينفقه على مدرسته، فتذكر ما كان فعله في آلات عمارة المدرسة فقال له: قد كنت عون المسلمين بما أخذناه
__________
(1) في وسط الجامع من الجهة الشرقية إيوان صغير فيه أربعة قبور أحدها قبر المترجم كتب عليه: هذه تربة منشىء هذا الجامع العبد الفقير إلى الله تعالى علي العلائي بن النجمي ابن سعيد بن يمن الملطي. توفي إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة من شهر شعبان المكرم سنة اثنتين وعشرين وتسعماية من الهجرة.(5/364)
من الآلات التي كانت لمدرستك، والآن قد جعلنا ما بيدك من الأقاطيع لك لتنفقه عليها، فلما عاد وقف عليها ما سمح له به.
ولما دخل السلطان سليم شاه حلب ومر بالبياضة وذلك في سنة اثنتين وعشرين جلس الأمير علي في أحد شبابيك مدرسته ليراه ويرى عسكره، فلم يتم اليوم الثاني إلا وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى.
695 - أبو بكر بن أحمد بن السفّاح المتوفى سنة 922
أبو بكر بن أحمد بن عمر بن صالح القاضي تقي الدين ابن الجناب الشهابي ابن القاضي زين الدين المعروف بابن أبي السفاح وبابن السفاح المرداسي الحلبي الشافعي كاتب سر حلب وناظر جيشها في آخر الدولة الجركسية.
ولي كلتا الوظيفتين أسوة جده عمر وغيره من الأجداد. وكانت له شهامة ورئاسة وسخاء وسكينة على صمم عنده ونقرس كان يعتريه.
مات مقتولا سنة اثنتين وعشرين ودفن بمقبرة جده بالسفّاحية.
وكان السبب في قتله أنه لما نزل السلطان سليم شاه بن عثمان على حلب تعرض لجماله طائفة من قبيلة زغب فسرقوا منها شرذمة وساقوها ولم ينتطح فيها عنزان، ثم إن السلطان أبرز أمره لقراجا باشا أول من كفل حلب في دولته ولعبد الكريم جلبي دفتر دارها بأن يتتبعوا السراق، واتفق أن مدلجا أمير الشام نزل عنده بحلب ومعه فرقة من زغب لم يكونوا من السراق إلا أنهم خافوا على أنفسهم من سطوة السلطان فأرسلوا إلى كافل حلب يطلبون منه الأمان على لسان القاضي تقي الدين بمساعدة مدلج، فأمنهم فدخلوا حلب بأمانة ومشوا في رد الجمال وطلب الأمان للباقين، فالتزم القاضي تقي الدين برد الباقين من قبيلتهم ورد ما سرقوه بعد التوجه إليهم متبرعا بالقول. ثم أبدى لعمي قاضي القضاة الكمالي الشافعي ما وقع من التزامه إليهم وهو منشرح الصدر ظنا منه أنه يفي بما وعد به وينال في مقابلته رفعة من قبل السلطان، فأشار عليه بترك ذلك خوفا عليه من القتل، فندم على ما صدر منه، فعاد إلى كافل حلب ودفتر دارها فطلب منهما أن يعفى من هذه الورطة فلم يقبل منه، فأرسل معه سرية فتوجه إليهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة ثم جيء به من المفازة بعد
هرب القاتلين ودفن بحلب. قيل وكان إذ توجه إليهم على فرس لا يجارى إلا أن المنية حضرت فلم يقدر على سوقها لنقرس اعتراه إذ ذاك رحمه الله تعالى.(5/365)
وكان السبب في قتله أنه لما نزل السلطان سليم شاه بن عثمان على حلب تعرض لجماله طائفة من قبيلة زغب فسرقوا منها شرذمة وساقوها ولم ينتطح فيها عنزان، ثم إن السلطان أبرز أمره لقراجا باشا أول من كفل حلب في دولته ولعبد الكريم جلبي دفتر دارها بأن يتتبعوا السراق، واتفق أن مدلجا أمير الشام نزل عنده بحلب ومعه فرقة من زغب لم يكونوا من السراق إلا أنهم خافوا على أنفسهم من سطوة السلطان فأرسلوا إلى كافل حلب يطلبون منه الأمان على لسان القاضي تقي الدين بمساعدة مدلج، فأمنهم فدخلوا حلب بأمانة ومشوا في رد الجمال وطلب الأمان للباقين، فالتزم القاضي تقي الدين برد الباقين من قبيلتهم ورد ما سرقوه بعد التوجه إليهم متبرعا بالقول. ثم أبدى لعمي قاضي القضاة الكمالي الشافعي ما وقع من التزامه إليهم وهو منشرح الصدر ظنا منه أنه يفي بما وعد به وينال في مقابلته رفعة من قبل السلطان، فأشار عليه بترك ذلك خوفا عليه من القتل، فندم على ما صدر منه، فعاد إلى كافل حلب ودفتر دارها فطلب منهما أن يعفى من هذه الورطة فلم يقبل منه، فأرسل معه سرية فتوجه إليهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة ثم جيء به من المفازة بعد
هرب القاتلين ودفن بحلب. قيل وكان إذ توجه إليهم على فرس لا يجارى إلا أن المنية حضرت فلم يقدر على سوقها لنقرس اعتراه إذ ذاك رحمه الله تعالى.
وكان يقول لخير بك كافل حلب: أنا ملك القضاة كما أنك ملك الأمراء.
وجده أحمد هو الذي ذكره ابن خطيب الناصرية في تاريخه وقال: كان أخي من الرضاعة، وبنى مدرسة ورتب مدرسا وخطيبا على مذهب الشافعي. وجده عمر هو الذي (ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه فقال:) (1) باع وقف مدرسة أبيه بحلب انتهى.
وقرأت بخط قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل بن الشحنة في تاريخه أن هذه المدرسة وتسمى بالسفاحية بناها القاضي شهاب الدين سبط بني السفاح فلم يجعل بانيها من بني السفاح، قال: ووقفها على الشافعية وشرط أن لا يكون لحنفي فيها حظ إلا في الصلاة انتهى.
وبالجملة فقد كان القاضي تقي الدين من بيت كبير بحلب ينتسبون إلى صالح بن مرداس الكلابي الذي ملك حلب سنة أربع عشرة وأربعمائة وكانت له وقائع ذكرها المؤرخون في محلها، وهذا البيت يقال لهم تارة بيت أبي السفاح وأخرى بيت السفاح.
قال الشيخ أبو ذر: وهم رؤساء ولهم كرم وإحسان زائد على أهل حلب. ثم أنشد فيهم لابن الخراط:
لا تلمني على هوى حلب الشه ... با فشوقي لربعها الفياح
جاد دمعي أبو عيوني بسيح ... فعيوني بها بنو السفاح
696 - السلطان قانصوه الغوري المتوفى سنة 922
قانصوه السلطان الغوري ابن عبد الله الجركسي الملك الأشرف صاحب تخت مصر المشهور بالغوري نسبة إلى طبقة الغور بفتح المعجمة إحدى الطبقات التي كانت بمصر مدة لتعليم المؤدبين مماليك السلطان، أي سلطان كان، القرآن العظيم. إلا أنه كان قبل أن يتسلطن حاجب الحجاب بحلب، فلما مات قايتباي سنة إحدى وتسعماية وتسلطن بعده
__________
(1) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب»: ليست في الأصل.(5/366)
من السلاطين عدة في قليل من المدة من ولده وغيره وقتل منهم من قتل وبقي منهم من بقي عصى إينال نائب حلب وهو كافلها إذ لم يكن من جملة محبي من تسلطن إذ ذاك، فورد مرسوم شريف من قبل من تسلطن إذ ذاك بأن يرمى على إينال وهو بدار العدل من القلعة المنصورة بالمكاحل ويقبض عليه ويرفع إلى القلعة، ففعلوا بعد أن كتب عليه جماعة من الطائعين منهم الغوري طلبا للقبض عليه. ثم ورد الخبر بسلطنة من كان إينال من محبيه، فأطلق، فلما أطلق أخذ في قتل جماعة ممن ركبوا عليه وقصد قتل الغوري، فأحس به، وكان حسين بن الميداني صاحبه فاحتال له وأخرجه من باب النصر ليلا وخرج معه وكان من أبطال الرجال، فتوجه الغوري إلى حماة واختفى بها في بيت يهودي إلى أن قتلوا السلطان الآخر الذي كان يخشاه، فتوجه إلى مصر فصار بها أميرا كبيرا ليس بعد السلطان في المرتبة أعلى منه، ويعرف في اصطلاح الدولة الجركسية بأمير كبير، فصار بعض المحدثين والرمالين يهنيه بالسلطنة، فخرج إلى الصعيد، وكان من عادة صاحب هذا المنصب أن يخرج إليه، فقتلوا سلطانه في غيبته وأبرموا عليه في الجلوس على التخت، فتحاشى خشية أن يقتلوه كما قتلوا غيره فقالوا سرا: اجلس إلى أن نستقر على من تختاره للسلطنة منا، فعقدت له البيعة وجلس على التخت، فأبى الله إلا أن يثبت في السلطنة، فأخذ يتبع القرانصة وذوي الشوكة والقوة من أمراء الجراكسة فيقتلهم شيئا فشيئا ومن بعد منهم عنه كخير بك كافل حلب صار يخشى أن يدس إليه سما فيقتله به.
ثم فشا ظلمه بمصر وصار شيخ مشايخ الإسلام قاضي الشافعية بالديار المصرية زكريا الأنصاري يعرض بظلمه في الخطبة إذ كان يخطب والسلطان يستمع تحت منبره المرة بعد الأخرى ولا يبالي منه، ثم حصل الإيذاء البالغ لشيخ الإسلام برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف الشافعي، وقد كان إذ ذاك عالم مصر ومدار الفتوى بها عليه بسبب الرجل الذي رمي بالزنا وأقربه بالتهديد والضرب، ثم أنكر، ثم أفتى بعصمة روحه وعدم رجمه، فغضب عليه بسبب ذلك وعزله من مشيخة مدرسته التي جددها بالقاهرة وصلب الرجل على باب شيخ الإسلام حتى جزع الناس له واستعظموا هذا الأمر الشنيع مع مثله، واستمر في منزله لا يخرج عنه والناس تقصده في أنواع العلوم إلى أن أخذ الله الغوري أخذا وبيلا وتوفي الشيخ بعده ولم يبرح في حال سلطنته في رفاهية من العيش وبلوغ الآمال من المأكل والمشرب والمنكح والمسمع والمحاضرة والمسامرة مع من كان جليسه وأنيسه قاضي القضاة عبد البر
ابن الشحنة الحنفي مغتبطا بما هو عليه من كونه سلطان الحرمين الشريفين فما دونهما من سائر الأقطار الحجازية وسائر الممالك الإسلامية من المصرية والشامية آمنا ممن يخادعه أو ينازعه في مملكته جليل القدر عظيم الشان، لولا ما شاع بها من المظالم وتمسك بلواء ظلمه كل ظالم. وأولا قرب إليه شخصا عجميا كان يهوى عبدا حبشيا له، فكان يصنع له المعاجين التي بها الكيفية المطربة فيستعملها ولا يبالي بإخلالها بحسن التدبير الذي هو من لوازم الملك، بل ربما قيل إنه كان يستعمل الحشيشة. وكان العجمي ينسج المودة في الباطن بينه وبين شاه إسماعيل الصوفي صاحب تبريز لاحتياجه إلى ذلك بواسطة أنه كان قد أرهب الغوري في سنة سبع عشرة وتسعمائة إرهابا قصته أنه كان قد قتل صاحب هراة وولده قنبر خان فبعث برأس الأب إلى ملك الروم وبرأس الابن إلى الغوري وكتب للأول رسالة مطلعها هذه الأبيات حيث قال:(5/367)
ثم فشا ظلمه بمصر وصار شيخ مشايخ الإسلام قاضي الشافعية بالديار المصرية زكريا الأنصاري يعرض بظلمه في الخطبة إذ كان يخطب والسلطان يستمع تحت منبره المرة بعد الأخرى ولا يبالي منه، ثم حصل الإيذاء البالغ لشيخ الإسلام برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف الشافعي، وقد كان إذ ذاك عالم مصر ومدار الفتوى بها عليه بسبب الرجل الذي رمي بالزنا وأقربه بالتهديد والضرب، ثم أنكر، ثم أفتى بعصمة روحه وعدم رجمه، فغضب عليه بسبب ذلك وعزله من مشيخة مدرسته التي جددها بالقاهرة وصلب الرجل على باب شيخ الإسلام حتى جزع الناس له واستعظموا هذا الأمر الشنيع مع مثله، واستمر في منزله لا يخرج عنه والناس تقصده في أنواع العلوم إلى أن أخذ الله الغوري أخذا وبيلا وتوفي الشيخ بعده ولم يبرح في حال سلطنته في رفاهية من العيش وبلوغ الآمال من المأكل والمشرب والمنكح والمسمع والمحاضرة والمسامرة مع من كان جليسه وأنيسه قاضي القضاة عبد البر
ابن الشحنة الحنفي مغتبطا بما هو عليه من كونه سلطان الحرمين الشريفين فما دونهما من سائر الأقطار الحجازية وسائر الممالك الإسلامية من المصرية والشامية آمنا ممن يخادعه أو ينازعه في مملكته جليل القدر عظيم الشان، لولا ما شاع بها من المظالم وتمسك بلواء ظلمه كل ظالم. وأولا قرب إليه شخصا عجميا كان يهوى عبدا حبشيا له، فكان يصنع له المعاجين التي بها الكيفية المطربة فيستعملها ولا يبالي بإخلالها بحسن التدبير الذي هو من لوازم الملك، بل ربما قيل إنه كان يستعمل الحشيشة. وكان العجمي ينسج المودة في الباطن بينه وبين شاه إسماعيل الصوفي صاحب تبريز لاحتياجه إلى ذلك بواسطة أنه كان قد أرهب الغوري في سنة سبع عشرة وتسعمائة إرهابا قصته أنه كان قد قتل صاحب هراة وولده قنبر خان فبعث برأس الأب إلى ملك الروم وبرأس الابن إلى الغوري وكتب للأول رسالة مطلعها هذه الأبيات حيث قال:
نحن أناس قد غدا شأننا ... حب علي بن أبي طالب
يعيبنا الناس على حبه ... فلعنة الله على العايب
وكتب للثاني رسالة مطلعها هذه الأبيات حيث قال:
السيف والخنجر ريحاننا ... أف على النرجس والآس
وشربنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الراس
فرد عليه الأول بهذين البيتين حيث قال:
ما عيبكم هذا ولكنكم ... بغض الذي لقب بالصاحب
وكذبكم عنه وعن بنته ... فلعنة الله على الكاذب
ورد عليه الثاني بمقاطيع منها هذه الأبيات حيث قال:
السيف والخنجر قد قصّرا ... عن عزمنا في شدة الباس
لو لم يمازج حلمنا بأسنا ... أفنى سلطاننا سائر الناس (1)
__________
(1) عجز البيت مكسور، ولعل الصواب: أفنى سطانا، والسطا بمعنى السطوة والسلطان، ولم تذكرها المعاجم على أنها وردت في أشعار العهد العثماني.(5/368)
وهذان البيتان للشيخ برهان الدين ابن أبي شريف وهما أحسن ما قيل في الرد.
ولما أن بادره قديما ملك الروم السلطان سليم شاه وكسر عسكره وفر هو منه فدخل تبريز قهرا عليه، وكان معه الشيخ شمس الدين الواعظ المشهور بمنلا عرب الآتي ذكره، فوعظ بها الناس وأفصح بأعلى لسان على مذمة الشيعة، ثم عاد إلى تخته.
ثم صمم عزمه كرة أخرى فخرج من القسطنطينية لمبارزته، فبلغ الغوري ذلك فهم بالنزول إلى حلب قصدا منه في الظاهر إلى الإصلاح بينهما وفي الباطن إلى إعانة شاه إسماعيل عليه خوفا منه على ملكه من السلطان سليم شاه، فوصلت أوائل عسكره إلى حلب في أوائل سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، ثم لم تزل تتوارد شيئا فشيئا إلى أن وصل هو بخواصه وباقي عسكره فدخل حلب يوم الخميس عاشر شهر جمادى الآخرة من السنة المذكورة من باب المقام متوجها إلى الميدان الأخضر في موكب عظيم وأبهة زائدة ومعه جم غفير من الأمراء ومقدمي الألوف وعدتهم كما سمعنا ستة عشر مقدم ألف وصحبته القضاة الأربعة والخليفة المتوكل على الله العباسي وجماعة من مشايخ الصوفية ذوي الأتباع بما معهم من الأعلام وخير بك كافل حلب بجواره القبة والطير، فنزل بالميدان المذكور. ثم حضرت إليه وهو بحلب كفّال مملكته بعساكرها.
والعجب أنه منذ خرج من التخت لم يشك أحد ممن يشتكي إليه (1) من ظلم كفّاله، بل ضرب من شكا إليه من ظلم بذاق كافل حمص ورد من شكا إليه من ظلم سيباي كافل دمشق، وكان من ظلمه أنه أحضر رجلا وامرأته فقال: بلغني أنك زنيت بها، فقال له:
من يدعي عليّ؟ فقال: أنا، فقال: إنها بكر وهي زوجتي، فقال: لا أعرف ذلك، وأخذ ماله. وكان اللائق به أن ينشر معدلته ويطوي مظلمته ويجلب إلى حبه القلوب ويأخذ فيما هو عند الرعية أمر مرغوب.
وكان السلطان سليم شاه قد عجب من أخذه في النزول إلى حلب إذ لم يبد له عنده سبب، فأرسل إليه قاضي عسكره زيرك زاده وقراجا باشا بهدية ليكشفوا له حقيقة أمره، فما استقر هو في حلب إلا وقد وردا ووفدا عليه فأكرم مثواهما، ثم إنهما اجتمعا به وحده فألانا له القول مخادعة، فظن أنه على شيء تم به وبالخليفة، فطلب الصلح بين مرسلهما
__________
(1) في مطبوعة در الحبب: لم يشك أحدا ممن شكا إليه(5/369)
وبين شاه إسمعيل، فضمنا له ذلك وهو لم يدر ما هنالك، ثم جهل فبعث مع رسول خفية إلى شاه إسماعيل كتابا يتضمن إني معينك عليه وممسك قطري حذرا من أن يغزو (1) إليه، فظفر السلطان سليم شاه بكتابه بعد أن رد إليه رسوليه ردا جميلا، فهم بمبارزته، وصار الغوري بعد ردا في اضطراب هو وجميع عسكره، فأرسل كرتباي لكشف الأخبار فعاد هاربا يخبر ببلوغ السلطان سليم شاه إلى حد المملكة الغورية وتسليمه بالأمان مثل عينتاب والبيرة وملطية وغيرها، فنادى بالرحيل لمبارزته. ورحل في النصف الأخير من رجب من السنة المذكورة إلى مرج دابق وصحب معه أيضا قضاة حلب إلّا عمّي الكمال الشافعي فإنه تمارض فتخلف بها، وصحب معه جماعة من الصوفية منهم الخاتوني ومعهم الربعات والأعلام ومظهرا أنه بصدد الإصلاح بين السلاطين، وصار الذباب يعلو ظهور عسكره عن كثرة زائدة يوم رحيل عسكره عن حلب حتى تفطن له الناس وتطيروا من ذلك حتى كان ما كان من انكسارهم. فلما وصل بمن معه إلى المرج مشرفا على الهرج والمرج عرض عليه عسكره فاستقله واشتدت مخافته، ثم وقعت به مكيدة هي أنه ربط في ليلة من الليالي سطل أو جرص من النحاس في ذنب فرس وأطلق عليهم راكضا وهم نيام فأفزعهم بحيث ظنوا إلمام عدوهم بهم، فعند ذلك طلب وضوءا فتوضأ وفرسا فأحضر له فاستصعب عليه فبدله بغيره فركبه وسار إلى أن التقي الجيشان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وارتفعت أدخنة المكاحل الرومية في سائر الأقطار، فأمر بضرب خيمة ليقضي بها الحاجة فمنعوه، فأمر برفع المصاحف على رؤوس الرجال وجعل يعض على إصبعه إلى أن اضطرب فرسه من هول المكاحل فلاقى قربوس السرج أنثييه وكان بهما قيل فسقط مغشيا عليه فنقله بعض خواصه إلى مكان عزلة فمات به فتركه فيه ولم يظهر خبره. وقيل إنه سقط ميتا موت الفجأة، فتمزق عسكره وتفرق ووقع به السفك والفتك وذلك في الخامس والعشرين من الشهر المذكور.
ثم دخل حلب من بقي من عسكره في اليوم الثاني فما بعده ليلا ونهارا، ووقع الرأي بعد وصول خير بك ودخوله دار العدل على توجهه وتوجه من بقي إلى الشام، فتوجهوا وتحقق أوباش الناس وفاة سلطانهم فأوقعوا النهب فيمن تخلف عن التوجه إلى الشام، ودخلوا
__________
(1) في «در الحبب»: يفر.(5/370)
دار العدل فنهبوها وقتلوا من قتلوا، وكان ممن فقد من عسكر الغوري كافل دمشق وكافل طرابلس وكافل حمص في خلايق لا يحصون عددا.
ثم في نهار الجمعة سلخ الشهر المذكور نزل السلطان سليم بمخيم الغوري بعد أن غارت مياه قناته كما تنكس صدر قناته، ثم صلى بجامعها الأعظم بعد أن نادى بالأمان وتسلم قلعتها بالأمان اهـ. وتقدم في الجزء الثالث تفصيل هذه الوقائع.
697 - محمد بن الحسين الداديخي المتوفى سنة 923
محمد بن الحسين الداديخي ثم الحلبي الشافعي، أحد شيوخ حلب في علم القراءة أخذه عن مغربي كان بقرية داديخ ثم برغ فيه وفي غيره، وممن أخذ عنه البازلي بحماة ثم البدر السيوفي بحلب وهما أجل شيوخه. ثم كان يشغل الطلبة في فنه بجامع عبيس مع تأديب الأطفال به. توفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.
698 - إبراهيم بن علي بن الخواجه قاسم المتوفى سنة 923
إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن قاسم الحلبي المعروف بابن الخواجه قاسم.
توفي سنة ثلاث وعشرين. وكان أحد أعيان التجار بحلب، وكانت له أوقاف جليلة من قرى وحوانيت وغيرها ودنيا واسعة وشهامة زائدة ومكانة عند أرباب الدولة، حتى كان بعض كفال حلب يأتي إلى منزله وإلى جنينته الكائنة بمحلته محلة المشارقة وهي التي كان إليها سرداب من داره برسم حريمه لأن كان متزوجا بإحدى قرائب الأميري الكبيري الكافي الفخري عثمان بن أغلبك. وكان خلائق شتى يأكلون من خيره إلى أن انحل عقده وانفصم عقده فباع كثيرا من الأوقاف الجارية عليه ولم يبق معه الدرهم الفرد، حتى أدركته وعليه صوف أسود كستموني وهو في حيرة من نفسه.
قيل: وكان السلطان جقمق الجركسي مملوكا لأحد أجداده قبل أن يتسلطن، فلما تسلطن أقبلت عليه الدنيا بواسطته وسأله في رفع مكس الزيت بحلب فرفعه حتى نقش رفعه بجدار الجامع الكبير بها أسوة مظالم أخرى كانت قد رفعت بحلب، فنقش رفعها به.(5/371)
قيل: وكان السلطان جقمق الجركسي مملوكا لأحد أجداده قبل أن يتسلطن، فلما تسلطن أقبلت عليه الدنيا بواسطته وسأله في رفع مكس الزيت بحلب فرفعه حتى نقش رفعه بجدار الجامع الكبير بها أسوة مظالم أخرى كانت قد رفعت بحلب، فنقش رفعها به.
699 - أبو بكر بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة 923
أبو بكر بن عبد البر بن محمد أقضى القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل بن الشحنة الحلبي الأصل المصري المولد الحنفي.
قدم حلب في ركاب السلطان الغوري سنة اثنتين وعشرين. وكانت تغلب عليه طريقة أمراء الجراكسية في اقتناء جياد الخيل والإلمام بالصيد واللعب بالرمح ونحوه، بل كان يتكلم باللسان الجركسي كواحد منهم، وتراه على ظهر فرسه كأنه الألف مع ما عنده من الشهامة وأبهة طول القامة والبقاء على أسلوب سلفه في الملبس والعمامة.
مات شهيدا كأخيه قاضي القضاة حسام الدين محمود فيمن قتلهم السلطان طومان باي سنة ثلاث وعشرين ممن أرسلهم إليه السلطان سليم بالأمان إذ كان طلب منه الأمان فبغى وقتلهم إلا من سلم منهم.
700 - عبد الله الإربلي البويضاتي المتوفى سنة 923
عبد الله بن محمود الإربلي ثم الحلبي البويضاتي.
توفي سنة ثلاث وعشرين.
وكانت له حانوت بسويقة علي يقلو بها البيض والباذنجان في أوله ويصطنع الحموضات والملوحات بها ويقصده كثير من العوام ليأكلوا عنده وينبسطوا بما عنده من النوادر والحكايات والهزليات المضحكة والمقاطيع الموردة بحسب اختلاف مشارب الواردين إليه والوافدين عليه، وكان له أخ يشبهه في المضحكات القولية حتى اتفق له أنه لما دخل السلطان الغوري حلب وقعت الفتنة بين فرقتي حوّ وحاس وهما فرقتان متعاديتان من أوباش المصريين كقيس ويمن ومثلهما ما كان بحلب في دولة الجراكسة من قيس وجناب، فإذا واحد من أحد الفريقين سكران وارد من حارة اليهود وقف على رأسه وهو بالسويقة المذكورة المجاورة للحارة المذكورة وقال له: أنت من حوّ أو من حاس؟ فخشي أن يوقع به فعلا يؤذيه إذ قال: أنا من حوّ لاحتمال أنه من حاس أو قال: أنا من حاس لاحتمال أنه من حوّ، فقال له: يا أخي، إني عن قريب كنت يهوديا وأسلمت، وإلى الآن ما دخلت في حوّ ولا حاس، فمن أي فرقة أكون؟ فقال له: كن من فرقة كذا، وخلى سبيله.(5/372)
701 - محمد بن يوسف بن الأقرب المتوفى سنة 923
محمد بن يوسف بن علي بن الشيخ المعدل شمس الدين المقري المصري الأصل الحلبي الدار الحنفي المعروف بابن الأقرب، وربما قيل له ابن عقرب على وجه التحريف والصحيح الأول لما أنه كان ابن زوجة الشيخ المعدل شهاب الدين أحمد بن الأقرب الموقع بمحكمة العلاء بن جنغل المالكي الحلبي وولده العفيف في أوائل ولايته وأحد المنتسبين إلى العلامة الشروطي محمد بن عثمان بن عبد المؤمن بن الأقرب الحلبي صاحب الكتاب المشهور في الشروط.
كان الشيخ شمس الدين في بداية أمره يتعاطى التجارة، فاستدان منه القاضي كمال الدين ابن المعري الحلبي حمل ثياب موصلية ليستعين به على ولاية كتابة سر حلب وهو بالقاهرة فلما تولاها من قبل السلطان وتعين عليه ألا يقيم بالقاهرة بعد أن تولاها كما هو العادة قيل للسلطان إنه أقام ببولاق، فعزله بنفيه إلى الإسكندرية، فاستمر بها إلى أن مات فيما ذكره، فتضعضع حال الشيخ شمس الدين فأخذ في صنعة الشهادة والتوقيع فوقع بمحكمة جدي الجمال وعمي النظام الحنبليين.
وكان خطيبا بالجامع الأموي بحلب نيابة. توفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.
وقد أنشدني ولد عمي القاضوي الجلالي جلال الدين قال: أنشدني الشيخ شمس الدين موقع والدي لبعضهم في ذم التزويج حيث قال:
رب ذئب أمسكوه ... وتمادوا في عقابه
ثم قالوا زوجوه ... وذروه في عذابه
706 - محمد (1) بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة 923
محمد بن عبد البر بن محمد قاضي القضاة حسام الدين ابن قاضي القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل ابن الشحنة الحلبي الأصل القاهري المولد الحنفي.
ولي قضاء حلب، ثم كان آخر قضاة الحنفية بالقاهرة المعزية في الدولة الجركسية
__________
(1) في «در الحبب»: محمود.(5/373)
الغورية، ثم قتل شهيدا في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بواسطة أنه لما هرب السلطان طومان باي المنتصب بعد السلطان الغوري إلى الصعيد بعد وقعتين كانتا بينه وبين المقام الشريف السليمي وطلب الأمان منه أجابه فأرسل إليه الأمان قاضي القضاة حسام الدين وبعض رفقائه في القضاء، فبغى عليه وقتله وغيره ممن كان معه إلا من سلم.
703 - يونس بن يوسف الهمداني المتوفى سنة 923
يونس بن يوسف ابن الشيخ إدريس الحلبي ثم الدمشقي الشافعي الصوفي الهمداني شرف الدين.
لبس الخرقة الهمدانية وتلقن الذكر من السيد عبد الله التستري الصوفي الهمداني وصار له أتباع كثيرون يتداولون الأوراد الفتحية بالمدرسة الرواحية بحلب بعد وفاته كما كان قبلها، وبقي تداولها إلى وفاة مريده الشيخ محمد بن مغلباي في آخرين من مريديه ثم كان تركها.
وكان السبب في كثرة مريديه مزيد ظلم بحلب أفضى إلى أن كثيرا من المتهمين والدعار اتبعه، وصار إذا صدر منه فساد وقبض عليه كافل حلب استشفع به، فساء ذلك كافل حلب فبلغه فلم يسعه المكث بها، فهاجر منها إلى دمشق.
وهو ممن ذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في معجم الشعراء فقال: أخبرني أن مولده سنة سبع وستين وثمانمائة بمدينة حلب وأنه اشتغل عليه جماعة في عدة علوم، وتوجه إلى مكة ثلاث مرات حج وجاور في حدود الثمانين وسمع بها الحديث على شيخنا الحافظ السخاوي والإمام محب الدين الطبري، وقرأ على ولده الإمام أبي السعادات في النحو.
ثم سكن دمشق واجتمعت به فيها في سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، إلى أن رآه ساكنا في دار الحديث. ثم قال: بلغني أنه مات في يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بدمشق ودفن بها. انتهى.
وقد بلغني أن شخصا كان يدعى أحمد الصباغ أحاله رجل على يهودي بمال، فأنكر اليهودي الحوالة، فأراد أحمد ابن الشيخ شرف الدين المساعدة فبعث إلى جدي قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي شرذمة من مريديه يذكرون له أن لأحمد بينة، ثم حضر أحمد وادعى فأنكر اليهودي فطلبت منه البينة فقال: لا بينة لي، والشرذمة المذكورة حاضرة في مجلس
الدعوى، فلما لم يطابق قوله قولها أخذت تقول: هذا اليهودي يصدق والمسلم يكذب، فأغلظ جدي عليها القول قائلا: متى تحصرمتم حتى تتزبزبوا (1)، فمضوا وأخبروا شيخهم، فكتب إلى جدي رقعة أغلظ فيها القول عليه على قصور في ألفاظه، فأجابه بما حاصله بعد الحمد لله: أما بعد فإني أطالع مسامعكم المباركة بورود رقعتكم على الفقير مشتملة على ألفاظ منمقة وحشمة زائدة وإرشاد كامل ونصح بالغ كما هو مثبت في لوح قلبكم، وأشرتم إلى أنكم أردتم أن يحمل منكم سلام إلى حضرة العبد الضعيف فأقمتم مجرد الإرادة مقام السلام، ثم ثنيتم بقولكم: وعامة فحول الرجال وخاصتهم إذا خرجوا بشيء لله قولا كان أو فعلا لا يخلطوه بشيء يناقضه، وهذه شيمة فتيان سادة الصوفية الذين استحقوا مراتب الإرشاد علما وعملا، فهذا تحصيل حاصل، وأما قولكم: إن الفقير (2) عظّم فقراءكم المرسلين إليه في بداية الأمر غاية التعظيم، ثم قولكم: ثم أردفتم المجلس بالألفاظ التي ما وردت لا عن أهل الشريعة ولا عن أهل الطريق وهي في غاية القبح من مثلكم عند ذوي البصائر حيث نسبتم إلى الشيخوخة وما سمعها من أطفال الطريق، فالجواب أن الفقراء لما لم يطابق قولهم الصدق ثم شرعوا يقولون ما قالوا عرفهم الفقير أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه وأغلظ لهم القول لما عرّجوا عن الطريق، ثم نموا عندكم ما أرادوا وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع، ثم إنكم قلتم: ما سمعتم قضية التحصرم والتزبزب (3)، فقد قال الناس أبلغ من ذلك وهو:(5/374)
وقد بلغني أن شخصا كان يدعى أحمد الصباغ أحاله رجل على يهودي بمال، فأنكر اليهودي الحوالة، فأراد أحمد ابن الشيخ شرف الدين المساعدة فبعث إلى جدي قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي شرذمة من مريديه يذكرون له أن لأحمد بينة، ثم حضر أحمد وادعى فأنكر اليهودي فطلبت منه البينة فقال: لا بينة لي، والشرذمة المذكورة حاضرة في مجلس
الدعوى، فلما لم يطابق قوله قولها أخذت تقول: هذا اليهودي يصدق والمسلم يكذب، فأغلظ جدي عليها القول قائلا: متى تحصرمتم حتى تتزبزبوا (1)، فمضوا وأخبروا شيخهم، فكتب إلى جدي رقعة أغلظ فيها القول عليه على قصور في ألفاظه، فأجابه بما حاصله بعد الحمد لله: أما بعد فإني أطالع مسامعكم المباركة بورود رقعتكم على الفقير مشتملة على ألفاظ منمقة وحشمة زائدة وإرشاد كامل ونصح بالغ كما هو مثبت في لوح قلبكم، وأشرتم إلى أنكم أردتم أن يحمل منكم سلام إلى حضرة العبد الضعيف فأقمتم مجرد الإرادة مقام السلام، ثم ثنيتم بقولكم: وعامة فحول الرجال وخاصتهم إذا خرجوا بشيء لله قولا كان أو فعلا لا يخلطوه بشيء يناقضه، وهذه شيمة فتيان سادة الصوفية الذين استحقوا مراتب الإرشاد علما وعملا، فهذا تحصيل حاصل، وأما قولكم: إن الفقير (2) عظّم فقراءكم المرسلين إليه في بداية الأمر غاية التعظيم، ثم قولكم: ثم أردفتم المجلس بالألفاظ التي ما وردت لا عن أهل الشريعة ولا عن أهل الطريق وهي في غاية القبح من مثلكم عند ذوي البصائر حيث نسبتم إلى الشيخوخة وما سمعها من أطفال الطريق، فالجواب أن الفقراء لما لم يطابق قولهم الصدق ثم شرعوا يقولون ما قالوا عرفهم الفقير أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه وأغلظ لهم القول لما عرّجوا عن الطريق، ثم نموا عندكم ما أرادوا وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع، ثم إنكم قلتم: ما سمعتم قضية التحصرم والتزبزب (3)، فقد قال الناس أبلغ من ذلك وهو:
أعاذك الله من شيوخ ... تمشيخوا قبل أن يشيخوا
وأحدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخوخ
إلى غير ذلك. والله يعلم المفسد من المصلح.
704 - رمضان بن خضر (4) المتوفى ما بين 927922
رمضان بن خضر بن محمد بن عبد الله أبو الفتح فتح الدين المنوفي الشافعي نزيل حلب.
__________
(1) في در الحبب: تتزببوا.
(2) في الأصل: وأما الفقير، وهو خطأ.
(3) في در الحبب: التزبب.
(4) في در الحبب: نصر.(5/375)
تعاطى صنعة الشهادة وجلس بمركز العدول داخل باب النصر بها، وكان لفرط ديانته لا يشهد على امرأة، وربما كتب بخطه في الوثايق فتح الله رمضان، وكان فتح الله لقبه.
ومما اتفق له أن واحدا من رفقائه في الشهادة دس عليه في بعض الوثائق أن صحف كلمة فتح بقبح بقاف وموحدة وحاء مفتوحات ورفع الجلالة، فلما رفع الوثيقة إلى القاضي الذي قصدا أن يؤديا عنده الشهادة نظر فإذا فيها ما فيها، فقال له: ما هذا الذي كتبت بخطك؟ فلما رآه اضطرب اضطرابا شديدا وعلم أن ذلك من رفيقه بطريق العبث به، فأخذ في القدح فيه حتى أضحك الحاضرين.
وكان مشهورا بالميل إلى العظيم من كل شيء، فكانت عمامته عظمى وأكمامه في غاية الاتساع وجبته المصقولة في نهاية الصقالة وقبقابه في غاية الارتفاع، وله دواة تناهز برنية صغيرة وقلم من القصب الفارسي وخط غليظ، وكان له السخاء الزائد حتى كان يستعمل له عند الخباز رغفانا كبارا ولا يقنع بالرغفان المعتادة. ثم افتقر عند اضمحلال الدولة الجركسية لبطلان مكاتب العدول بحلب في الدولة الرومية وصار يلبس الكينك (1) في آخر عمره ويقنع بما له من معلوم الخطابة بالمدرسة السلطانية تجاه قلعة حلب، إلى أن توفاه الله تعالى بين سنة اثنتين وعشرين وسبع وعشرين.
705 - أحمد بن علي المشهور بابن الصوا المتوفى سنة 924
أحمد بن علي بن إبراهيم الشيخ شهاب الدين ابن علاء الدين الباعوزي الأصل من باعوزا، قرية من قرى الموصل، الحلبي المولد والدار الشافعي المعروف بابن الصوا الأديب الشاعر المشهور أبوه بالصّغيّر (بالتصغير) ابن أخي خوجه شمس الدين محمد بن الصوا وكيل السلطان بحلب الذي أحرقه أهلها.
كان يتردد إلى شيخنا العلاء الموصلي ويناشده الأشعار ويعرض عليه بعض ما نظمه، فأنشده ذات يوم أبياتا التزم فيها واوين في صدر كل مصراع وعجزه قائلا في مطلعها:
وواد به الغيد الحسان قد استووا ... وورد ظباء الحي في ظله ثووا
ووافوا به من مهجتي في الهوى حووا ... وولوا وعن عهد المحبين ما لووا
__________
(1) الكينك: كلمة تركية معناها: القميص الداخلي.(5/376)
فناقشه في إعادة ضمير من يعقل وهو الواو إلى ما لا يعقل أعني ظباء الحي فلم يهتد إلى الجواب بأن المراد بظباء الحي الأحباب، ولئن سلم أن المراد ظباء الصحراء فهذا من باب تنزيل ما لا يعقل منزلة من يعقل لشبه بينهما.
ومن عجيب نظمه قوله في جارية سوداء أمجرية وكان يهوى الجواري الحبش:
هويتها أمجرية قدّ ... أضنت فؤادي ولم تواصل
كأنها البدر في الدياجي ... أو هي كالشمس في الأصائل
وأنشدني له ولده الشيخ جمال الدين يوسف في نواعير حماة:
تفرج في نواعير وماء ... على واد به خضر المروج
كأفلاك تدور على سماء ... وأنجمها تخر من البروج
وأنشدني الشيخ شهاب الدين وقد ذكروا شعراء دمشق وما لها من زهر ونهر، ومحاسن حلب وما بها من عوجات السعدي وغيرها:
لقد سبقت شهباؤنا كل سابق ... إلى الحسن وامتازت على الزهر بالوردى
وفيها لنا باب الجنان وحورها ... بفردوسها يرتعن في فلك السعدي
ومن شعره:
وعيشك ما الدنيا سوى ستر عورة ... وبيت بها يأويك أو سد جوعة
فلا تتعبن النفس فيها لأجلها ... فتوقعها في هلكة بعد هلكة
ومن شعره مع التضمين ما وجده ابن السيد منصور منقولا عنه:
بروحي تيّاه إذا رمت لثمه ... فخلت جنىّ الورد في غير حينه
يخيّل من فرط الحياء لناظري ... كأن الثريا علّقت في جبينه
وقد اجتمع به شيخنا جار الله بن فهد المكي في رحلته إلى حلب في سنة اثنتين وعشرين وذكره في معجم الشعراء الذين سمع منهم الشعر وأنشد له:
روحي الفداء لذي لحاظ قد غدت ... بسوادها البيض الصحاح مراضا
كالغصن قدا والنسيم لطافة ... والياسمين ترافة وبياضا
وكانت وفاته بالحريق في داره سنة أربع وعشرين.(5/377)
روحي الفداء لذي لحاظ قد غدت ... بسوادها البيض الصحاح مراضا
كالغصن قدا والنسيم لطافة ... والياسمين ترافة وبياضا
وكانت وفاته بالحريق في داره سنة أربع وعشرين.
706 - محمد بن أبي بكر الحيشي المتوفى سنة 924
محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن نصر بن عمر بن هلال الشيخ قوام الدين أبو يزيد الحيشي الأصل الحلبي الشافعي الماضي ذكر أبيه.
توفي في حياة أبيه في شوال سنة أربع وعشرين وتسعمائة، وهو الذي صلى عليه إماما بالجامع الأعظم في مشهد عظيم، ثم كان الخروج بجنازته من باب الجنان لدفنه بتربة أسلافه المشهورة بالأطعانية ودفن بجوار الشيخ محمد الأطعاني.
وكان عالما فاضلا مناظرا له حدة في مناظرته ذا ذكاء وحفظ عجيب.
درس بالجامع الأعظم عند محرابه الأعظم، وربما كنت أحضر درسه. وكان قديما يعظ الناس بصحنه تارة بغربي الصحن وأخرى بشرقيه ويوضع له إذ ذاك علمان بجانب كرسيه كما كانا يوضعان للشمس المقدسي الواعظ حين يعظ بصحنه أيضا.
قال لي شيخ الشيوخ الموفق بن أبي ذر: وكان يأتي في مواعيده بنوادر الفوائد، ولو عاش كانت له الحظوة التامة بحلب لما كان له من الحفظ والذكاء المفرط. قال: ومن عجيب شأنه أنه سرد يوما النسب فأورده طردا وعكسا.
وكان رحمه الله تعالى صوفيا بسطاميا كأبيه يلف على رأسه المئزر مع إرخاء العذبة مراعيا للسنة فيها.
وذكر السخاوي في «ضوئه» أنه حفظ الشاطبية وعرضها بحلب سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة، وسافر مع أبويه إلى بيت المقدس وعرض أماكن منها، ومن الرائية على إمام الأقصى عبد الكريم بن أبي الوفا في سنة خمس وثمانين وثمانمائة، ثم جاور بمكة سنتين واشتغل بها.
قال: وسمع مع أبيه عليّ ومني أشياء.
زاد الزين الشماع في «قبسه» فقال: وقد ترقى واشتغل بعد عوده من مكة بحلب على عالمها الشيخ بدر الدين حسن السيوفي فبحث عليه الإرشاد لابن المقري بقراءته، وسمعت بعض الدروس منه بجامعها الأعظم وقرأ الميعاد به. وكان يجتمع عنده كثير من
العوام والنساء، ثم رغب بأخرة عن ذلك بل عن حضور الجامع في الغالب ولزم الانجماع تارة بمنزلة وتارة تحت منارة الجامع وأعرض عن لبس الثياب الجميلة التي كنا نشاهدها من عادته بالنسبة إليه. انتهى.(5/378)
زاد الزين الشماع في «قبسه» فقال: وقد ترقى واشتغل بعد عوده من مكة بحلب على عالمها الشيخ بدر الدين حسن السيوفي فبحث عليه الإرشاد لابن المقري بقراءته، وسمعت بعض الدروس منه بجامعها الأعظم وقرأ الميعاد به. وكان يجتمع عنده كثير من
العوام والنساء، ثم رغب بأخرة عن ذلك بل عن حضور الجامع في الغالب ولزم الانجماع تارة بمنزلة وتارة تحت منارة الجامع وأعرض عن لبس الثياب الجميلة التي كنا نشاهدها من عادته بالنسبة إليه. انتهى.
وكانت شهرته الشيخ قوام الدين بكنيته دون اسمه ولقبه.
707 - البدر حسن السيوفي المتوفى سنة 925
حسن بن علي بن يوسف الإربلي الأصل الحصكفي الحلبي الشافعي الشيخ بدر الدين خاتمة الشافعية المعروف بابن السيوفي.
ذكره السخاوي في الضوء اللامع فقال: ولد تقريبا في سنة خمسين وثمانمائة بحصن كيفا، وقرأت بخطه أنه قرأ كتاب الشاطبية والقراءات بمضمونها على شيخ القراء أبي محمد سليمان بن أبي بكر بن المبارك شاه الهروي، وهو على الجلال أبي عبد الله يوسف بن رمضان ابن الخضر الهروي، وهو على ابن الجزري، وللأربعة عشر على الزين جعفر السنهوري بالقاهرة، فإنه قدمها ولكن قال شيخه إنه لم يقرأ عليه إلا ثمن حزب أو دونه. وأخذ حينئذ على الشمس الجوجري في الفقه وغيره يسيرا، وعن الخضيري رواية، وكذا قرأ بعض السبع على أبي الحسن الجبرتي نزيل سطح الأزهر، والشاطبية على الشمس السلامي الحلبي بها، وعنه أخذ الفقه والحديث فقط عن أبي ذر، وأصول الدين والمنطق والمعاني والبيان عن الشيخ علي قل درويش، وأخذ أيضا عن الكمال بن أبي شريف وكذا عن البقاعي ظنا. وتميز وأقرأ الطلبة وربما أفتى، وتنافس في مباحثة مع عبد النبي العربي حين قدم عليهم حلب. انتهى كلامه بحروفه.
قال الزين الشماع في قبسه: وهذه الترجمة لم يف بها صاحب الأصل للمترجم حقه بل سكت عن الكثير مما قرأه وسمعه، ولعل ذلك لعدم اجتماعه به أو لقلة مخالطته، والظاهر أنه لم يسمع كلامه الرائق، ولم يشهد بحثه الفائق، ولم يقف على تحقيقه ونظمه ونثره، أو لعل ذلك حصل من قبل صاحب الترجمة، فقد كان رحمه الله تعالى في بعض الأحيان يخفض قدر من ذكر عنده ولا يرفعه، فلذلك وقع ما وقع في ترجمته من الانتقاد والإجحاف والخلل. وقد شاع في الطروس أن المجازاة من جنس العمل وإلا فهو شيخ بلدتنا الشهباء
على الإطلاق، ولم نر بها من يجاريه في مجموعه من القاطنين والواردين في حلبة السباق.(5/379)
قال الزين الشماع في قبسه: وهذه الترجمة لم يف بها صاحب الأصل للمترجم حقه بل سكت عن الكثير مما قرأه وسمعه، ولعل ذلك لعدم اجتماعه به أو لقلة مخالطته، والظاهر أنه لم يسمع كلامه الرائق، ولم يشهد بحثه الفائق، ولم يقف على تحقيقه ونظمه ونثره، أو لعل ذلك حصل من قبل صاحب الترجمة، فقد كان رحمه الله تعالى في بعض الأحيان يخفض قدر من ذكر عنده ولا يرفعه، فلذلك وقع ما وقع في ترجمته من الانتقاد والإجحاف والخلل. وقد شاع في الطروس أن المجازاة من جنس العمل وإلا فهو شيخ بلدتنا الشهباء
على الإطلاق، ولم نر بها من يجاريه في مجموعه من القاطنين والواردين في حلبة السباق.
قرأ الحديث بحلب وغيرها من البلاد كدمشق والقاهرة ومكة، وقد سمعت ذلك من لفظه غير مرة، وقد أملى جملة ما قرأه وسمعه وألفه بلفظه العذب الشهي على صاحبه المحدث المفيد محب الدين جار الله ولد شيخنا العز بن فهد الهاشمي المكي، فمنه كما شاهدته أثبته في معجمه فسح الله في مدته ونفع به، وأن شيخنا صاحب الترجمة أخبره أنه ولد في سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمدينة حلب ونشأ بها وحفظ القرآن العظيم والمنهاج للنووي والإرشاد لابن المقري كلاهما في الفقه، وألفية العراقي في الحديث، والسيرة النبوية ومنهاج البيضاوي في أصول الفقه، والشاطبية في القرآن، وكافية ابن الحجاب وألفية ابن مالك كلاهما في النحو، والطوالع للبيضاوي في الأصول، والشمسية في المنطق، وتصريف العزي في الصرف. واشتغل بالعلوم على جماعة فأخذ القراءات عن الشيخ جعفر السنهوري والشيخ علي الجبرتي والشيخ سليمان الهروي، والفقه عن الشمس السلامي، وسمع بعض الإرشاد على الشمس الجوجري، وبعض الحاوي على الكمال ابن أبي شريف، وأخذ عن الشيخ علي قل درويش شرح المواقف وشرح العضد في أصول الفقه وشرح الطوالع وشرح المقاصد، وأخذ عن مولانا زاده الجرخي السمرقندي التفسير للقاضي البيضاوي، وعن الشيخ ابن السلامي ألفيتي ابن مالك وابن معطي، وعن الشيخ أبي ذر إعرابه للمنهاج، وعن الشيخ نصر الله الكافية لابن الحاجب.
وسمع الحديث عن الشيخ أبي ذر فقرأ عليه صحيح البخاري ومسلم والشفا للقاضي عياض وغير ذلك، وقرأ على الشيخ ابن السلامي الصحيحين وشرح ألفية العراقي.
وحج في سنة ست وستين وثمانمائة وأخذ بمكة عن التقي بن فهد وعن البرهان البقاعي سنة إحدى وثمانين، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن خليل الأذرعي سنة سبع وستين فسمع عليه بعض تأليفه: «بشارة المحبوب بتكفير الذنوب» وأجازه جماعة بالإفتاء والتدريس. ثم قال صاحبنا: وانتفع الناس بدروسه وإفادته وصار شيخ بلده مع التحقيق والديانة والإعجاب بنفسه وكثرة الدعوى والمشاححة لطلبة العلم في الألفاظ والفتيا. انتهى ما نقلته من قبس شيخنا (الزين الشماع).
وما ذكره من أن البدر السيوفي كان يخفض في بعض الأحيان قدر من ذكر عنده فصحيح، حتى إنه كان يتعرض إلى الشيخ جبريل والشيخ إبراهيم العمادي وغيرهما من
علماء الأكراد فيقول: اكردوهم إلى الجبال، وذلك أن الناس اختلفوا في الأكراد فمنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر، ومنهم من ألحقهم ببعض إماء سليمان بن داود عليهما السلام حين سلب الملك ووقع على إمائه المنافقات بعض الشياطين دون المؤمنات منهن، فلما رد الله عليه ملكه ووضعت تلك الإماء الحوامل قال: اكردوهم إلى الجبال والأودية، فرمتهم أمهاتهم وتناكحوا وتناسلوا، فذلك بدء الأكراد كما أشار إلى ذلك الشيخ أبو ذر في تاريخه.(5/380)
وما ذكره من أن البدر السيوفي كان يخفض في بعض الأحيان قدر من ذكر عنده فصحيح، حتى إنه كان يتعرض إلى الشيخ جبريل والشيخ إبراهيم العمادي وغيرهما من
علماء الأكراد فيقول: اكردوهم إلى الجبال، وذلك أن الناس اختلفوا في الأكراد فمنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر، ومنهم من ألحقهم ببعض إماء سليمان بن داود عليهما السلام حين سلب الملك ووقع على إمائه المنافقات بعض الشياطين دون المؤمنات منهن، فلما رد الله عليه ملكه ووضعت تلك الإماء الحوامل قال: اكردوهم إلى الجبال والأودية، فرمتهم أمهاتهم وتناكحوا وتناسلوا، فذلك بدء الأكراد كما أشار إلى ذلك الشيخ أبو ذر في تاريخه.
وكان يقول للشيخ إبراهيم الصيرفي: أنت بهيم ما أنت إبراهيم. وبقي على شيخنا من شيوخ البلد آخرون.
ومن مقروءاته بقية أخرى، فقد قرأ البدر على شاه الهروي العروضي كتاب القسطاس للزمخشري أنهاه قراءة عليه بحلب حسبما وجدته بخطه في ذيل نسخته بهذا الكتاب، وقرأ على الكمال ابن أبي شريف حاشيته على شرح العقائد وأجازه بها إجازة حسنة ووقفت عليها، وقرأ عليه شيئا من شرحه على الكتاب المسمى بالمسايرة للإمام ابن الهمام وذلك ببيت المقدس حسبما وجدته بخط البدر كذلك على هامش نسخة بالشرح المذكور بخط شيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي، وقرأ عليه شيئا من حاشيته على المحلي الأصلي، وكان قد كتب على هوامش نسخته أنظارا على الكمال وذهل عنها، فلما دفع إليه نسخته ليكتب له عليها الإحازة تذكرها فتكدر حياء من شيخه، فاتفق أن الشيخ اطلع عليها وردها عن آخرها وأجازه من غير اكتراث ولا تغير خاطر منه رضي الله عنه.
ووقفت على مكاتبة كان أرسلها عند عوده من الحج، ومن مضمونها أنه كتب من أجزاء الحديث بالشام وبمكة أجزاء كثيرة قرأ أكثرها على المشايخ ذوي الأسانيد العالية، وأنه قرأ ألفية العراقي على زاهد دمشق وإمام جامعها الأموي حفظا بقراءته لها على المؤلف رحمه الله تعالى.
وله من مشاهير الشيوخ ملا عبد الرحمن الجامي وناهيك به، فقد وجدت على هامش شرح الشافعي للرضي حيث قال: يجيء التصغير للتعظيم فيكون من باب الكناية يكنى بالتصغير عن بلوغ الغاية في العظم، لأن الشيء إذا جاوز حده جانس ضده ما نصه:
أقول: ومن هذا قول شيخنا ملا عبد الرحمن الجامي رحمه الله في مدح ملك التجار:
نزاعي إلى لقياك جاوز حده ... بحيث أخاف الانقلاب إلى الضد
وقد أدركت البدر وحضرت بعض مجالسه وسمعت بعض مواعيده الحديثية المشتملة على استعمال أنواع العلوم واستعمال الأنغام بصوته الحسن الجهوري ولم تقدر لي القراءة عليه، غير أني حضرت مع والدي بين يديه وسمعنا من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وأجاز لنا أن نرويه عنه وجميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه.(5/381)
أقول: ومن هذا قول شيخنا ملا عبد الرحمن الجامي رحمه الله في مدح ملك التجار:
نزاعي إلى لقياك جاوز حده ... بحيث أخاف الانقلاب إلى الضد
وقد أدركت البدر وحضرت بعض مجالسه وسمعت بعض مواعيده الحديثية المشتملة على استعمال أنواع العلوم واستعمال الأنغام بصوته الحسن الجهوري ولم تقدر لي القراءة عليه، غير أني حضرت مع والدي بين يديه وسمعنا من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وأجاز لنا أن نرويه عنه وجميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه.
وكان البدر طويل القامة نير الشيبة مهابا من رآه لا يشك في أنه من كبار العلماء وعظام النبلاء، غير أنه فيما بلغني أنه كان يخضب لحيته بالسواد قديما، فاتفق أنه وقع بينه وبين أركماس الجركسي كافل حلب شنآن بواسطة أنه أفتى لرجل بحل تزوج ابنة أخيه من الزنا على قاعدة مذهبه بعد هدية حافلة أهداها إليه، فتزوجها وكانت فتواه على خلاف مراد أركماس، فتوعده بالقتل إن دخل دار العدل. ثم إن أركماس عمل ذات يوم مأدبة أحضر فيها الخاص والعام من أهل حلب، فحضر فيها الشيخ بنفسه من غير أن يدعوه إليها فقال له أركماس في الملأ العام: شفعني يا شيخ في لحيتك أو ما شاكل هذا الكلام، فخجل منه، فأخذ جدي الجمال الحنبلي يسوق شيئا من كتاب الشيب والخضاب لابن الجوزي مما يقتضي مشروعية الخضاب، ولم يكن الشيخ وقف على هذا المؤلف، فطلبه من جدي فأرسله إليه وانتسجت بينهم المودة الزائدة من يومئذ، ثم كان تركه للخضاب من بعد ذلك الخطاب.
وكانت وفاته رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة خمس وعشرين عن نائبة ألمت به بغير حق من قبل زين العابدين ابن الفناري قاضي حلب كما يأتي في ترجمته.
وكان له إذ صلي عليه بالجامع الكبير مشهد عظيم ودفن بمقابر الحجاج ووضع تحت رأسه طاقية الشيخ الصالح الورع المنعقد علاء الدين علي بن يوسف بن صبر الدين الجبرتي التي وهبها له بوصية منه، وكان الشيخ علاء الدين من أكابر المعتقدين بالقاهرة، توفي بها في ذي القعدة سنة تسعمائة، ومن خطه المبارك نقلت أن جده صبر الدين هكذا بالباء وإن تعارف الناس بصدر الدين بالدال، ولما مضى عليه وهو بقبره عشرة أشهر واثنا عشر يوما رآه أحد ولديه في المنام وهو يشكو من سقوط لبن القبر على ضلعه فتوجه إليه ولده والحاج أبو بكر الحجار المعروف بابن الحصينة فنظرا فإذا هو قد سقط عليه ما ذكر.
قال الحاج أبو بكر وهو صادق فيما يقول: فكشفت عليه فوجدته لم يتغير ولا ظهرت له رائحة كريهة وإنما تقطع الكفن من عند كتفه قليلا.(5/382)
وكان له إذ صلي عليه بالجامع الكبير مشهد عظيم ودفن بمقابر الحجاج ووضع تحت رأسه طاقية الشيخ الصالح الورع المنعقد علاء الدين علي بن يوسف بن صبر الدين الجبرتي التي وهبها له بوصية منه، وكان الشيخ علاء الدين من أكابر المعتقدين بالقاهرة، توفي بها في ذي القعدة سنة تسعمائة، ومن خطه المبارك نقلت أن جده صبر الدين هكذا بالباء وإن تعارف الناس بصدر الدين بالدال، ولما مضى عليه وهو بقبره عشرة أشهر واثنا عشر يوما رآه أحد ولديه في المنام وهو يشكو من سقوط لبن القبر على ضلعه فتوجه إليه ولده والحاج أبو بكر الحجار المعروف بابن الحصينة فنظرا فإذا هو قد سقط عليه ما ذكر.
قال الحاج أبو بكر وهو صادق فيما يقول: فكشفت عليه فوجدته لم يتغير ولا ظهرت له رائحة كريهة وإنما تقطع الكفن من عند كتفه قليلا.
ومن شعره في مؤذن اسمه قاسم لم يكن حسن الصوت:
إذا ما صاح قاسم في المنار ... بصوت منكر شبه الحمار
فكم سبّابة في وسط أذن ... وكم سبّابة في كل دار
وكان قد قدم مرة من دمشق فأنشده شيخنا العلاء الموصلي لنفسه:
لبابك بدر الدين أهديت مدحة ... تفوق بذكراك المعتقة الصهبا
لقد كنت عينا في دمشق ولم تزل ... تجاوز في ميدان شقرائها الشهبا
فلا غرو أن فقت النفوس مكانة ... بطلعتك الغراء في حلب الشهبا
فأجابه ملقبا له بنور الدين على عادة المصريين في تلقيب علي به فقال:
لنظمك نور الدين فضل طلاوة ... غدا ينهب الألباب رونقها نهبا
وفيه معان يسلب العقل سحرها ... ويسكرنا أضعاف ما تسكر الصهبا
وندّك لم يلحقك فيه لأجل ذا ... علوت على الأنداد في حلب الشهبا
نقلت من خط الشيخ إبراهيم بن أحمد الملا على هامش نسخته در الحبب ما نصه:
أنشدني العلامة والدي قال: أنشدني شيخنا شيخ الإسلام يعني صاحب هذا التاريخ الرضي محمد ابن الحنبلي قال: مما وجدته بخط صاحب الترجمة العلامة البدر السيوفي من نظمه مداعبا شيخا بحلب يدعى بابن المنيّر هذين المقطوعين:
ابن المنيّر قد سما ... أقرانه بفضائله
أرسوا ببحر علومه ... وسينزلون بساحله
ولا يخفى عليك ما فيهما من المدح الذي يشبه الذم والقدح اهـ.
أقول: وله ترجمة حافلة في الكواكب السائرة للغزي بمعنى ما هنا، غير أنه قال:
وله من المؤلفات حاشية على شرح المنهاج للمحلي وحاشية على شرح الكافية المتوسط للسيد ركن الدين، ومن شعره ما كتب على غطاء علبة:(5/383)
إلهي فاحفظني ولا تكشف الغطا ... إذا ما كشفت الستر عن كل مضمر
ولكن غطاء القلب فاكشفه سيدي ... وأشهدني الأسرار في كل مظهر
وله:
إذا ما نالت السفهاء عرضي ... ولم يخشوا من العقلاء لوما
كسوت من السكوت فمي لثاما ... وقلت نذرت للرحمن صوما
أما النائبة التي ألمت به من قبل قاضي حلب زين العابدين محمد بن الفناري التي تقدمت الإشارة إليها فهي أن البدر ابن السيوفي عقد بعض الأنكحة في أيامه من غير استئذان منه بناء على ما كان يعهده في الدولة الجركسية من عدم توقف عقود الأنكحة على إذن القضاة إذ لا يفتقر إلى إذنهم شرعا لعدم أخذهم عليها رسما، فبلغه ذلك فأمره بأن يستأذنه كلما بدا له أن يعقد نكاحا لمن أراد بحيث يكون الرسم له وإن تعددت الرسوم بتعدد العقود، فلم يبال بما أمر به وعقد لواحد نكاحا من غير استئذان، فأرسل وراءه من حضر به إلى بابه ماشيا والأمر لله، فلما دخل عليه قال له: يا كذا يا جاهل اقطع يدك، فقال له الشيخ:
ما أنا إلا حامي هذه الديار بالعلم، وإن قدر على يدي القطع فلا مرد له، أو كلاما يشبه هذا، وكان الشيخ قد أرسل إلى عمي الكمال الشافعي إذ دخل عليه المحضر بأن يسبقه إلى مجلس القاضي، فلما سبقه إليه أحجم عن أن يوقع به ما لا يليق به، فأمر بأن يكون في بيت المحضر باشي تلك الليلة إلى أن يفعل به ما يريد، فقال له عمي بعد أن أخرج من عنده: أتريد يا أفندي أن تفعل به ما يوجب اجتماع السواد الأعظم على بابك، هذا شيء لا يمكن، ثم خرج من عنده وعاد إليه ومعه الشيخ زين الدين عمر بن المرعشي وكان بينه وبين القاضي أنس، فأبرما عليه في أن لا يؤاخذه، ففعل، فلم يمض زمن قليل إلا ومات القاضي المذكور وذلك في سنة ست وعشرين.
708 - علي بن محمد العلاء الموصلي المتوفى سنة 925
علي بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن علي بن إبراهيم بن مسعود بن محمد العلاء ابن الشمس الحصكفي الموصلي الشافعي نزيل حلب.
قطن دمشق أولا مع أبيه وقرأ بها على ابن خطيب السقيفة وابن المعتمد وغيرهما. وحج
مرتين ماشيا ثم قدم وحده إلى حلب فقطنها وقرأ بها على الفخر عثمان الكردي وملا قل درويش والبدر السيوفي وعلى الشمس البازلي لما قدم إلى حلب، ودرس وقتا فوقتا. وأما الفتوى فربما أفتى وجلس بمكتب الشهادة بحلب تحت قلعتها، وتردد طلاب الفضائل إليه لكونه ابن بجدتها.(5/384)
قطن دمشق أولا مع أبيه وقرأ بها على ابن خطيب السقيفة وابن المعتمد وغيرهما. وحج
مرتين ماشيا ثم قدم وحده إلى حلب فقطنها وقرأ بها على الفخر عثمان الكردي وملا قل درويش والبدر السيوفي وعلى الشمس البازلي لما قدم إلى حلب، ودرس وقتا فوقتا. وأما الفتوى فربما أفتى وجلس بمكتب الشهادة بحلب تحت قلعتها، وتردد طلاب الفضائل إليه لكونه ابن بجدتها.
ولم يزل معدودا من العدول بل من فضلاء المعقول والمنقول على رغم العذول، يربي الطالبين ويلبي دعوة الراغبين، ويوضح لهم ما أشكل ويفصل لهم ما كان من مجمل، إلى أن تلقى منه بطريق الاستفادة جمع جم من الأفاضل وترقى به إلى ذروة الإفادة كثير من طلابه الأماثل، ولم يبرح على ذلك فيها هنالك إلى أن زالت الدولة الجركسية وعدل عن مكاتب العدول بالكلية، فأبرم على الإفادة مثل ما كان وزيادة لمن جد وطلب بشمالية جامع حلب، وبها كنت اشتغلت عليه في القواعد الصرفية والنحوية والعروضية والمنطقية، واستفدت من غالي أشعاره في أسعاره ومن بديع نثره العالي بل نثاره، إلى أن طرقته المنية ولم نظفر منه بتمام الأمنية، ومات في يوم الثلاثاء سابع شوال سنة خمس وعشرين ودفن بمقابر حارة المشارقة في يوم مشهود هبت فيه ريح عظيمة سقط منها رأس منارة زاوية الأطعاني ودرابزين منارة جامع الصفي وبعض حجارتها ورأس شرافة باب قبلية الجامع الأموي بحلب، وجلس شرذمة ممن كان صحبة جنازته إلى جنب حائط من حيطان مقبرته فما ذهبوا عنه إلا وقد سقط، فعدت سلامتهم من بركته.
وبالجملة فقد كان شيخ الطلبة ومرشد من طلبه، وكان في علوم العربية فارسا لا يجارى وفي الفنون الأدبية مناظرا لا يمارى، ذا باع طويل وافي في العروض والقوافي، وتقرير في الفقه شافي معروف به كل خافي، ومنظوم سلسل رقيق أزرى برقة الرحيق، ومنثور ما ضاع نشره العبيق إلا وشق ثوبه الشقيق، ويا طالما نهج المنهج القويم لتحصيل غاية المأمول، وصدق في مقاله المحرر الذي حصلت للقلوب منه بهجة وقبول، وكشف عن وجه المعاني النقاب حتى كأنها شمس ذات إسفار، وقطع بعقله مادة الارتياب عما هو مطوي في بطون الأسفار، وعني بجبر قلوب الطلاب، فلا كسر ولا قص، وعري عما يرمي به أو يعاب، فلا قدح فيه ولا نقص وما برح منعوتا بمحاسن جمال الأفعال، مغنيا لكل لبيب من صلة فوائده في كل حال، منصفا في مقام البحث، مقابلا لخفي الأسرار العلمية بالنث والبث، لطيف المحاضرة، مرضي المذاكرة، حسن المعاشرة، يذكر كل
شعر ونادرة، له أو لغيره، ممن سار مثيل سيره. ولم يكن ليدون أشعاره، إذ لم يكن قرض القريض شعاره، إنما كان يلم به أحيانا ولا يضيع فيه أزمانا. ومنه قوله:(5/385)
وبالجملة فقد كان شيخ الطلبة ومرشد من طلبه، وكان في علوم العربية فارسا لا يجارى وفي الفنون الأدبية مناظرا لا يمارى، ذا باع طويل وافي في العروض والقوافي، وتقرير في الفقه شافي معروف به كل خافي، ومنظوم سلسل رقيق أزرى برقة الرحيق، ومنثور ما ضاع نشره العبيق إلا وشق ثوبه الشقيق، ويا طالما نهج المنهج القويم لتحصيل غاية المأمول، وصدق في مقاله المحرر الذي حصلت للقلوب منه بهجة وقبول، وكشف عن وجه المعاني النقاب حتى كأنها شمس ذات إسفار، وقطع بعقله مادة الارتياب عما هو مطوي في بطون الأسفار، وعني بجبر قلوب الطلاب، فلا كسر ولا قص، وعري عما يرمي به أو يعاب، فلا قدح فيه ولا نقص وما برح منعوتا بمحاسن جمال الأفعال، مغنيا لكل لبيب من صلة فوائده في كل حال، منصفا في مقام البحث، مقابلا لخفي الأسرار العلمية بالنث والبث، لطيف المحاضرة، مرضي المذاكرة، حسن المعاشرة، يذكر كل
شعر ونادرة، له أو لغيره، ممن سار مثيل سيره. ولم يكن ليدون أشعاره، إذ لم يكن قرض القريض شعاره، إنما كان يلم به أحيانا ولا يضيع فيه أزمانا. ومنه قوله:
تمر الليالي والحوادث تنقضي ... كأضغاث أحلام ونحن رقود
وأعجب من ذا أنها كل ساعة ... تجد بنا سيرا ونحن قعود
وقوله:
إذا ما رمت تحقيقا لعلم ... فلذ بالمنطق العدل القويم
ولا تدخل إليه بغير نحو ... فإن النحو مفتاح العلوم
وقال ملغزا:
يا إماما في النحو شرقا وغربا ... من له بان سره المكنون
أي ما اسم قد جاء ممنوع صرف ... وأتى الجر فيه والتنوين
فقلت مجيبا:
لي جواب عما سئلت متين ... جيّد قد تضمنته المتون
علم كان للمؤنث جمعا ... سالما جمع ذين فيه يكون
وقال محاجيا في عين تاب:
يا صاح ما اسم بلدة ... كم قد حوت بدرا طلع
قريبة من حلب ... رادفها طرف رجع
وقال يمدح «البهجة الوردية»:
لقد أحسن الورديّ بالبهجة التي ... تنظم فيها الفقه كالدر في العقد
لها أصبح المنثور يومي بإصبع ... حنانيك كل الحسن من بهجة الوردي
وقال مضمنا فيما أنشدنيه عند الشمس السفيري في تفضيل النسوان على الغلمان:
لئن فتن المرد الملاح أولي النهى ... وأودت عيون منهم وحواجب
فحب النساء الخرّد البيض مذهبي ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
وقال مخاطبا صاحبا له يدعى عبد العزيز وله ولد اسمه عمر:(5/386)
لئن فتن المرد الملاح أولي النهى ... وأودت عيون منهم وحواجب
فحب النساء الخرّد البيض مذهبي ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
وقال مخاطبا صاحبا له يدعى عبد العزيز وله ولد اسمه عمر:
عمر نجلك السعيد تسمى ... بابن عبد العزيز وهو لطيفه
ينتشي عالما ويحيى سعيدا ... وينال المنى ويبقى خليفه
وقال يمدح إيوانا عليه رفرف:
وإيوان يقول لمن رآه ... علا سعدي على شرفي وأشرف
ألم تر أن طير العز أضحى ... يحوم بساحتي وعلي رفرف
وقال ملغزا في ثلج:
اسم الذي ألغزته ... يطفي شرار اللهب
مقلوبه مصحفا ... وجدته في حلب
وقال في مليح عروضي:
هويت عروضيا مديد صبابتي ... ببحر هواه كامل الحسن وافره
على خدّه البدر المكمّل دارة ... وفي وجهه الشمس المنيرة دايره
وقال يرثي عشيرين له اتفق موتهما في يوم الأحد وكان يعاشرهما في يوم الثلاثاء مواليا:
على الأديب الحريريّ والأديب الزين ... فارقت صبري ورافقت البكا والحين
يوم الثلاثاء بهم كانت تقر العين ... فارقتهم في الأحد وانصبت في الأثنين
وقال يمدح النووي:
إلى الشيخ محيي الدين علّامة الورى ... وروضته تعزى الدراية في الفتوى
دقائقه كنز وأذكاره هدى ... ومنهاجه السامي هو الغاية القصوى
وحكي عنه أنه رأى في المنام شخصا عانق شخصا وبكى وأخذ يقول:
خلا كل محبوب أتى بحبيبه
فاستيقظ من منامه وهو يحفظه فقال مضمنا:
ولما تلاقينا بكى كل عاشق ... وما مل من عظم السرور الذي به
فقمنا وصلينا على الهجر بعد ما ... خلا كل محبوب أتى بحبيبه
ومثل هذا ما وقع لوالدي أنه رأى في منامه قائلا يقول:(5/387)
ولما تلاقينا بكى كل عاشق ... وما مل من عظم السرور الذي به
فقمنا وصلينا على الهجر بعد ما ... خلا كل محبوب أتى بحبيبه
ومثل هذا ما وقع لوالدي أنه رأى في منامه قائلا يقول:
بالله خذلي صباحا من ثناياه
فأخذته وجعلته صدر قصيدة قائلا في مطلعها:
بالله خذ لي صباحا من ثناياه ... وإن ترد فنهارا من محيّاه
فإن ليلي صفا من صدره وعفا ... جسمي وأضحى رميما من بلاياه
وأنشد بعض فضلاء النحو سائلا:
سلم على شيخ النحاة وقل له ... عندي سؤال من يجبه يعظم
أنا إن شككت وجدتموني جازما ... وإذا جزمت فإنني لم أجزم
فأجاب الشيخ زين الدين ابن الوردي:
هذا سؤال غامض عن كلمتي ... شرط وإن وإذا جواب مكلم
إن إن أتيت بها فإنك جازم ... وإذا إذا تأتي بها لم تجزم
وأوضح شيخنا الجواب فقال:
قل في الجواب بأنّ إن في شرطها ... جزمت ومعناها التردد فاعلم
وإذا لجزم الحكم إن شرطية ... وقعت ولكن لفظها لم يجزم
ووقف شيخنا على ما ذكره ابن هشام في بحث الترخيم في كتابه «شرح قطر الندى» حيث قال: روي أنه قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: ونادوا يا مال وقفا، فقال: ما أشغل (1) أهل النار عن الترخيم، ذكره الزمخشري وغيره.
وعن بعضهم أن الذي حسّن الترخيم هنا أن فيه الإشارة إلى أنهم يقطعون بعض الاسم لضعفهم عن إتمامه. انتهى كلامه. فلمح شيخنا ما نقله عن بعضهم فقال:
ما كان أغنى أهل نار جهنم ... إذ رخموا يا مال وسط جحيم
__________
(1) في شرح قطر الندى: ما كان أشغل.(5/388)
عجزوا عن استكمال كلمة مالك ... فلأجل ذا نادوه بالترخيم
وأراد بالمصراع الأول الاستفهام، والمعنى، أي شيء كان صيرهم أغنياء عن آخر كلمة مالك، ولهذا أجاب بالبيت الثاني. ويحتمل التعجب على معنى ما كان أشدهم غني عن آخر كلمة مالك حتى حذفوها كما قال ابن عباس في الرد على ابن مسعود: ما أشغل أهل النار عن الترخيم، غير أن شيخنا زاد كان بعد ما التعجبية كما يقال ما كان أحسن زيدا وهو سايغ شايع، ولما كان هذا التعجب مظنة أن يقال: لم استغنوا عن آخر تلك الكلمة أجاب بالبيت الثاني، إلا أن الوجه الأول أولى.
ومما يحكى عنه أنه كان بسجن القلعة المنصورة بدوي يقال له سيف، فأخرج وقصد أن يكتب له شيخنا مستندا يتعلق ببعض أموره، فكتب له فلم يعظه معلومه أو أعطاه النزر القليل منه، فأنشد:
كان من الرأي والصواب ... أن يترك السيف في القراب
قد كان في غمده مضرا ... فكيف إن سل للحراب
وأنشد له صاحبنا القاضي سعد الأنصاري:
قد ذهب الأطيبان مني ... وفرقتني يد الهموم
كأنني قرية خراب ... لم يبق منها سوى الرسوم
وقال يمدح عمي الكمال الشافعي:
ألا أبلغ كمال الدين أني ... وصلت به إلى رتب المعالي
وكم فخرت به قوم وأني ... كملت به وما لهم كمالي
وفيه التورية الحسنة كما لا يخفى.
وأخبرني الشمس السفيري أن الشيخ اتخذه سفيرا بينه وبين بعض المخاديم لقضاء حاجة مهمة، قال: فقضيتها له كما أراد، فأنشدني ارتجالا:
قصدت لحاجتي خلّا وفيّا ... فما ألفيت كالبحر السفيري
به نلت الذي قد كنت أرجو ... وأحسنت السفارة بالسفير
ومن النوادر التي وقعت له أنه أخذ يكتب في ذيل وثيقة كتبه: علي بن محمد بن عبد الرحيم الموصلي كما هي عادته، فكتب هكذا: كتبه علي بن محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مخطىء هذا الخطأ الغريب، فلم يسعه إلا أنه أخذ ذلك المداد بلسانه في طرفة عين لائما نفسه على ما صدر منه.(5/389)
قصدت لحاجتي خلّا وفيّا ... فما ألفيت كالبحر السفيري
به نلت الذي قد كنت أرجو ... وأحسنت السفارة بالسفير
ومن النوادر التي وقعت له أنه أخذ يكتب في ذيل وثيقة كتبه: علي بن محمد بن عبد الرحيم الموصلي كما هي عادته، فكتب هكذا: كتبه علي بن محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مخطىء هذا الخطأ الغريب، فلم يسعه إلا أنه أخذ ذلك المداد بلسانه في طرفة عين لائما نفسه على ما صدر منه.
ولنا في مرثية شيخنا:
لنا عالم مذمات أورثنا المحن ... وقد كان يولينا منى فله المنن
مفيد له بالطالبين عناية ... بدت وله الإرشاد في السر والعلن
وكم من سنا قد لاح من زند فكره ... فزال به الإشكال واتضح السنن
وكم من خفايا مرتج نال مرتج ... بما كان من إقليد تقريره الحسن
وكم لمّض الجلاب من علمه فتى ... وكم منح الطلاب منه ولم يضن
وكم لم يخف في الله لومة لايم ... فأظهر قول الحق من بعد ما بطن
ثراء مزاياه تغيّب في الثرى ... فلم نلف من جدوى سوى منح المحن
وعز علينا بعد ما مات مثله ... وفي القلب جبر الهم والغم قد قطن
فواحسرتي من بعده وتلهفي ... وواسرحتي في حزن ما بي من حزن
ويا طول وجدي فيه وجدي ولوعتي ... ومحنة ما قد مر من حادث الزمن
عنيت وفاة العالم الفاضل الذي ... أفدناك فيما قبل أن له المنن
وذاك الإمام الموصلي الذي اسمه ... علي ولم يبرح له الخلق الحسن
همام له في العلم همة قسور ... وقيس به في الحكم قد قيس واقترن
وإن ساير الطلاب ساروا لبابه ... ترقى إلى الإعزاز كل فما وهن
كبير ولكن قدره ومعمر ... ولكن بأنحاء البلاغة واللسن
كثير أنحناء بل حنوّ فما سكن ... إليه الفتى إلا وكان له سكن
يبين المعاني للمعاني بمنطق ... فصيح صحيح إن يكن ثم من لحن
ففي الشعر والآداب أبرز ما اختفى ... وفي منعه الإعراب أظهر ما استكن
هو الأخفش النحوي في نحوه فقل ... بأرفع صوت ذا علي أبو الحسن
وفي نظم أنحاء القريض ابن هانىء ... فأبلغ به إذ جال في ذلك السنن
وفي فقهه الوردي ذو البهجة التي ... صفا وردها حتى غدت ركن من ركن
وأما حديث المصطفى فلكم صفا ... لنا منه ورد إذ غدا صاحب السنن
سقانا شراب الحزن صرفا معتقا ... وأبكى لنا طرفا تكحل بالوسن
وأعطش أكبادا وأجرى مدامعا ... وصار حمام الأيك يبكي على الفنن
ولكنّ ذا أمر إليه مصيرنا ... ومن ذا الذي لم يمض بالقطن والكفن
كساه مبيد الخلق حلة رحمة ... ومن ذا الذي يكسو سواه ومن ومن
وأهدي لخير الخلق خير تحية ... وأزكى صلاة دون قطع لها ومن(5/390)
لنا عالم مذمات أورثنا المحن ... وقد كان يولينا منى فله المنن
مفيد له بالطالبين عناية ... بدت وله الإرشاد في السر والعلن
وكم من سنا قد لاح من زند فكره ... فزال به الإشكال واتضح السنن
وكم من خفايا مرتج نال مرتج ... بما كان من إقليد تقريره الحسن
وكم لمّض الجلاب من علمه فتى ... وكم منح الطلاب منه ولم يضن
وكم لم يخف في الله لومة لايم ... فأظهر قول الحق من بعد ما بطن
ثراء مزاياه تغيّب في الثرى ... فلم نلف من جدوى سوى منح المحن
وعز علينا بعد ما مات مثله ... وفي القلب جبر الهم والغم قد قطن
فواحسرتي من بعده وتلهفي ... وواسرحتي في حزن ما بي من حزن
ويا طول وجدي فيه وجدي ولوعتي ... ومحنة ما قد مر من حادث الزمن
عنيت وفاة العالم الفاضل الذي ... أفدناك فيما قبل أن له المنن
وذاك الإمام الموصلي الذي اسمه ... علي ولم يبرح له الخلق الحسن
همام له في العلم همة قسور ... وقيس به في الحكم قد قيس واقترن
وإن ساير الطلاب ساروا لبابه ... ترقى إلى الإعزاز كل فما وهن
كبير ولكن قدره ومعمر ... ولكن بأنحاء البلاغة واللسن
كثير أنحناء بل حنوّ فما سكن ... إليه الفتى إلا وكان له سكن
يبين المعاني للمعاني بمنطق ... فصيح صحيح إن يكن ثم من لحن
ففي الشعر والآداب أبرز ما اختفى ... وفي منعه الإعراب أظهر ما استكن
هو الأخفش النحوي في نحوه فقل ... بأرفع صوت ذا علي أبو الحسن
وفي نظم أنحاء القريض ابن هانىء ... فأبلغ به إذ جال في ذلك السنن
وفي فقهه الوردي ذو البهجة التي ... صفا وردها حتى غدت ركن من ركن
وأما حديث المصطفى فلكم صفا ... لنا منه ورد إذ غدا صاحب السنن
سقانا شراب الحزن صرفا معتقا ... وأبكى لنا طرفا تكحل بالوسن
وأعطش أكبادا وأجرى مدامعا ... وصار حمام الأيك يبكي على الفنن
ولكنّ ذا أمر إليه مصيرنا ... ومن ذا الذي لم يمض بالقطن والكفن
كساه مبيد الخلق حلة رحمة ... ومن ذا الذي يكسو سواه ومن ومن
وأهدي لخير الخلق خير تحية ... وأزكى صلاة دون قطع لها ومن
709 - محمود بن محمد بن آجا المتوفى سنة 925
محمود بن محمد بن محمود بن خليل بن آجا المقر الأشرف محب الدين أبو الثنا الغزنوي الأصل الحلبي ثم القاهري الحنفي كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية المعروف بابن آجا.
وقد كانت وظيفة كاتب السر في الدولة الجركسية التوقيع عن الملك والاطلاع على أسراره التي يكاتب بها وعنه كانت تصدر التواقيع بالتولية والعزل.
ولد المقر المحبي كما قال السخاوي سنة أربع وخمسين وثمانماية بحلب، ودام بالقاهرة بالاشتغال بالعلم إلى سنة ثمان وثمانين، ثم رجع إلى حلب وزار بيت المقدس. وتميز بذكائه ولطيف عشرته. وولي قضاء الحنفية ببلدته بعد ابن الشهاب الحلاوي في شهر رمضان سنة تسعين بالبذل، وحج سنة تسعمائة في ضخامة.
وذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في تاريخه فقال: انتهت إليه رياسة البلاد الشامية والمملكة المصرية، وطلبه سلطانها الأشرف قانصوه الغوري من حلب وولاه كتابة السر بالقاهرة عوض القاضي صلاح الدين بن الجيعان في أول ولايته سنة ست وتسعمائة، واستمر فيها مدة ولايته بل إلى آخر دولة الجراكسة، فكان آخر من ولي كتابة السر. قال: ولما حج في عظمته عام عشرين وتسعماية قرأت عليه بمكة أربعين حديثا عن عشرين شيخا من مروياته عنهم أخرجتها له وسميتها «تحقيق الرجا لعلو المقر المحبي ابن آجا» فأعجبه ذلك واغتبط به وأنعم علي بلبس من ملبوسه وقال لي عند الفراغ من القراءة: لا فض الله فاك وبارك فيك كما بورك في أبيك، قال: وبعد فراغه من المناسك عاد إلى القاهرة وصحبه
صاحب مكة أبو زهر بركات بن محمد الحسني ليبلغه من السلطان المقام العلي وعليه أبهة وشكالة حسنة وشيبة نيرة، لكنه ضعيف الجسد مع كثرة الأسقام وملازمة وجع المفاصل له مدة من الأعوام، حتى لم يطف بالكعبة الشريفة إلا مرتين أو ثلاثا مع الجلوس في بعض الأشواط، إلى أن ذكر أنه بعد دخوله القاهرة توجع مدة فركب إليه السلطان وزاره لتعظيمه ومحبته له.(5/391)
وذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في تاريخه فقال: انتهت إليه رياسة البلاد الشامية والمملكة المصرية، وطلبه سلطانها الأشرف قانصوه الغوري من حلب وولاه كتابة السر بالقاهرة عوض القاضي صلاح الدين بن الجيعان في أول ولايته سنة ست وتسعمائة، واستمر فيها مدة ولايته بل إلى آخر دولة الجراكسة، فكان آخر من ولي كتابة السر. قال: ولما حج في عظمته عام عشرين وتسعماية قرأت عليه بمكة أربعين حديثا عن عشرين شيخا من مروياته عنهم أخرجتها له وسميتها «تحقيق الرجا لعلو المقر المحبي ابن آجا» فأعجبه ذلك واغتبط به وأنعم علي بلبس من ملبوسه وقال لي عند الفراغ من القراءة: لا فض الله فاك وبارك فيك كما بورك في أبيك، قال: وبعد فراغه من المناسك عاد إلى القاهرة وصحبه
صاحب مكة أبو زهر بركات بن محمد الحسني ليبلغه من السلطان المقام العلي وعليه أبهة وشكالة حسنة وشيبة نيرة، لكنه ضعيف الجسد مع كثرة الأسقام وملازمة وجع المفاصل له مدة من الأعوام، حتى لم يطف بالكعبة الشريفة إلا مرتين أو ثلاثا مع الجلوس في بعض الأشواط، إلى أن ذكر أنه بعد دخوله القاهرة توجع مدة فركب إليه السلطان وزاره لتعظيمه ومحبته له.
قال: وتردد إلى منزله العلماء والأمراء والأكابر.
ثم تعرض لذكر سفره مع السلطان سنة اثنتين وعشرين وتسعماية إلى بلدته حلب وصحة بدنه بها لألفه هواها وإقامته بها إلى أن قتل الغوري وهرب عسكره إلى القاهرة، فتبعهم إليها فولاه الأشرف طومان باي ابن أخي الغوري المتولي للسلطنة بعده كتابة السر بها.
وتعرض لذكر إكرام السلطان سليم له لما دخل القاهرة، وأنه عرض عليه وظيفته فاستعفى عنها واعتذر بكبر سنه وضعف بدنه، وأنه أراد الاستعفاء في تلك الدولة فخشي على نفسه فعفا عنه وأسكن عنده برضاه زيرك زاده قاضي عسكر روم إيلي فانتفع به وصار مسموع الكلمة عند السلطان سليم ووزرائه حتى سأله في الإقامة بحلب فأجابه، ولما عاد من القاهرة عاد معه وقر في منزله إلى أن توفي في رجب سنة خمس وعشرين وتسعماية.
وقد بلغني أنه كان السبب في أن ولي قضاء الحنفية بحلب هو أنه أقام بينة شهدت على الكمال بن المعري كاتب سر حلب وناظر جيشها وهو معزول عن كلتا وظيفتيه أنه علّق الطلقات الثلاث من زوجته الست حلب الآتي ذكرها بصفة وهو يلعب بالشطرنج مغلوبا أو نحو ذلك، وأن الصفة وجدت، فحكم الحاكم الشرعي بطلاقها ثلاثا، ثم إنه تزوجها ودخل بها فشكا عليه الكمال بالأبواب الشريفة فطلب فبذل للسلطة خفية عشرة آلاف دينار على تنفيذ حجة الطلاق وإعطاء قضاء حلب ليحظى فيها بحلب، فكان الأمر كما طلب.
ثم لما ولي كتابة السر بالقاهرة بقي قضاء حلب في يده مضافا إليها يباشر فيها نوابه ويرفعون إليه محصوله وهو بالقاهرة إلى أن عزل نفسه عنه ورسخ في كتابة السر بالقاهرة وعمر بها مدرسة وتربة. ثم كان من انقراض الدولة الجركسية وعوده مع المقام الشريف السليمي إلى حلب، فاختار مقام العزلة ومكث بالبيت النفيس المشهور ببيت أزدمر كافل
حلب ملكا إلى أن توفي بعد أن أوصى بماله وعليه وبقدر ما يصرف في تجهيزه وإلى عتقائه من بيض وسود سوى من كان أعتقهم بعد عوده من الحجة الثانية من نحو ستين رقيقا وإلى جواري زوجته، وبأن يوضع على قبره عشرة مصاحف ثم يطلب عشرة من القراء المحسنين للقراءة فيقرؤون فيها كل ليلة ليتم ختمة واحدة، وهكذا إلى تمام عشر ليال يتمها عشر ختمات، على أن يكون لكل شخص عن كل ليلة خمسون درهما، وأشهد عليه أنه كان قد جعل حصة بمعرة أحوان من قرى حلب وقفا على مصارف كان شرط أن تصرف بتربته التي أنشأها بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقاهرة وأنه رجع عن وقفها على تلك المصارف بها إلى وقفها على تربته بحلب بمقتضى أنه شرط في كتاب وقفه الأول أنه له أن يزيد ما شاء وينقص ما شاء ويمنع من شاء ويخرج من شاء ويغير ما شاء، وأنه جعل النظر لابن أخته قاضي القضاة جمال الدين يوسف الحنفي ثم الأرشد فالأرشد من ذريته ونسله وعقبه وحكم بذلك الحاكم الشرعي.(5/392)
ثم لما ولي كتابة السر بالقاهرة بقي قضاء حلب في يده مضافا إليها يباشر فيها نوابه ويرفعون إليه محصوله وهو بالقاهرة إلى أن عزل نفسه عنه ورسخ في كتابة السر بالقاهرة وعمر بها مدرسة وتربة. ثم كان من انقراض الدولة الجركسية وعوده مع المقام الشريف السليمي إلى حلب، فاختار مقام العزلة ومكث بالبيت النفيس المشهور ببيت أزدمر كافل
حلب ملكا إلى أن توفي بعد أن أوصى بماله وعليه وبقدر ما يصرف في تجهيزه وإلى عتقائه من بيض وسود سوى من كان أعتقهم بعد عوده من الحجة الثانية من نحو ستين رقيقا وإلى جواري زوجته، وبأن يوضع على قبره عشرة مصاحف ثم يطلب عشرة من القراء المحسنين للقراءة فيقرؤون فيها كل ليلة ليتم ختمة واحدة، وهكذا إلى تمام عشر ليال يتمها عشر ختمات، على أن يكون لكل شخص عن كل ليلة خمسون درهما، وأشهد عليه أنه كان قد جعل حصة بمعرة أحوان من قرى حلب وقفا على مصارف كان شرط أن تصرف بتربته التي أنشأها بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه بالقاهرة وأنه رجع عن وقفها على تلك المصارف بها إلى وقفها على تربته بحلب بمقتضى أنه شرط في كتاب وقفه الأول أنه له أن يزيد ما شاء وينقص ما شاء ويمنع من شاء ويخرج من شاء ويغير ما شاء، وأنه جعل النظر لابن أخته قاضي القضاة جمال الدين يوسف الحنفي ثم الأرشد فالأرشد من ذريته ونسله وعقبه وحكم بذلك الحاكم الشرعي.
ثم لما توفي ضبطت تركته فنافت عن سبعمائة ألف درهم وناف المبلغ المخرج لتنفيذ وصاياه عن سبع وثمانين ألف درهم.
وقد كنت أحضر مع والدي في حضرته وأشاهد ما كان من نورانيته ونظرته ومن لطيف محاورته ومحاضرته، فإذا له نور شيبة يلوح عليها أنوار الهيبة، ومزيد يد حشمة ورئاسة، وفرط ظرافة وكياسة، يهوى ذكر تواريخ الناس، ويرغب في خلطة وجوه الناس للاستيناس، لا يشبع رائيه من شهوده، ويعترف له بمقام الجمال بحضرة شهوده. وكان يحب والدي ويعظمه حتى بلغ والدي عنه والسلطان الغوري بحلب أنه قال: إذا عاد السلطان إلى تخته فإني أسعى لابن أختي في قضاء الحنفية بالقاهرة وآخذ عنه قضاء حلب للشيخ برهان الدين بن الحنبلي. ثم بلغه عن والدي أنه غم من أجل ذلك لأنه يرغب في القضا ولا يذهب إلى الضيق عن الفضا، فأقلع عما صمم عليه إذ لم يقع به الرضى، فتوجه والدي إليه ليتشكر فضله إذ أقلع عما أقلع وأنا معه، فرفعت إليه رقعة بخطي فيها من نظم والدي هذان البيتان:
مدحي وحمدي فيك قد زادني ... فخرا وأوليت به جودا
فدم مدى الدهر لنا سالما ... لا زلت ممدوحا ومحمودا
فلما وصل في القراءة إلى لفظ وأوليت قرأ: وأوذيت مداعبا، فقال له والدي: مثل
مولانا قاضي القضاة لا يؤذي ولا يؤذى، فتبسم ضاحكا وأخذ يذكر ما كان لصحبة جدي الجمالي الحنبلي وهو رفيقه في قضاء حلب ويتأسف على تلك الأيام ويواجه والدي بأوجه كلام.(5/393)
مدحي وحمدي فيك قد زادني ... فخرا وأوليت به جودا
فدم مدى الدهر لنا سالما ... لا زلت ممدوحا ومحمودا
فلما وصل في القراءة إلى لفظ وأوليت قرأ: وأوذيت مداعبا، فقال له والدي: مثل
مولانا قاضي القضاة لا يؤذي ولا يؤذى، فتبسم ضاحكا وأخذ يذكر ما كان لصحبة جدي الجمالي الحنبلي وهو رفيقه في قضاء حلب ويتأسف على تلك الأيام ويواجه والدي بأوجه كلام.
وقد مدحه من الشعراء من لا يحصون كثرة، ولو لم يكن ممن مدحه إلا الأديبة الأريبة العالمة العاملة الشيخة الصوفية عائشة الدمشقية المشهورة ببنت الباعوني صاحبة البديعية المشهورة وشرحها لكفت. كانت قد رحلت إلى القاهرة ونزلت بها في منزله عند زوجته الست حلب ومدحته بقصيدة طولى نحو أربعين بيتا، وكتب إليها وهو بالقاهرة أيضا لغزا في اسم المقر المحبي محمود مستطردا فيه إلى مدحه لما أنها كانت نازلة بشامخ صرحه: شيخنا بالإجازة شيخ العلم والأدب الشريف عبد الرحيم العباسي الشافعي، فأجابته على لغزه مادحة للمحبي أيضا بقصيدة طولى.
710 - محمد بن علي بن الدهن المتوفى سنة 925
محمد بن علي بن أحمد بن الدهن الشيخ المعمر المنوّر شمس الدين الحلبي الشافعي الشهير بابن الدهن شيخ القراء والإقراء بحلب وإمام الحجازية بجامعها الأعظم.
قرأ على جماعة منهم الشيخ الإمام العالم الورع الزاهد منلا سليمان بن أبي بكر المقري الهروي، ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الورع الناسك الذي لم يوجد في عصره مثله الإمام منلا زاده شهاب الدين أحمد بن عثمان الجرخي، فالأول قرأ عليه لخمسة مشايخ هم نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي إفرادا وقرأ حرز الأماني كامله وأخبره أنه قرأ بها على أكمل المقرئين وأفضل المحدثين أبي الخير محمد بن أحمد الحريري الشافعي، والثاني قرأ عليه لابن عامر وحمزة إفرادا وبالقراءات السبع جمعا بمضموني الشاطبية والتيسير، وقرأ عليه حرز الأماني كامله، وأخبره أنه قرأ بما قرأ عليه على الحافظ المقري الجليل مولانا نور الدين محمود البزازي، وأخبره أنه قرأ بما عليه قرأ على شيخ القراء والمحدثين محمد بن محمد ابن محمد الجزري الشافعي، كذا لقيت بخط صاحب الترجمة في أخباره سطّره للشمس محمد بن أمير غفلة. توفي في رمضان سنة خمس وعشرين وتسعمائة.(5/394)
711 - إبراهيم الهمداني المتوفى سنة 925
إبراهيم بن إدريس الحلبي الشافعي الهمداني القاطن بالمدرسة الرواحية بحلب.
كان مريد السيد عبيد الله التستري وخليفة لابن أخيه الشيخ يونس، فإنه خلفه عند أخذه السفر إلى دمشق. وكان صالحا سليم الصدر متجردا لم يتزوج قط. وكان من دأبه أن يجمع عنده في كل سنة شيئا من الزبيب والقلوب، وكلما دخل عليه طفل وهو بالرواحية بإناء لأخذ ماء من بركتها أعطاه كفا من ذلك. ولم يزل فيها ملازما للأوراد الفتحية في طائفة كثيرة من المريدين إلى أن توفي سنة خمس وعشرين وتسعمائة ودفن شرقي مزار الشيخ ثعلب على الجادة بعد أن صلى عليه صاحبه الشيخ زين الدين الشماع في مشهد عظيم كان له. وكنت ممن حضره مع والدي عند احتضاره فإذا وجهه في نورانيته كالشمس، وإذا العرق في جبينه كاللؤلؤ.
وكان من شأنه أنه أخبر بزوال الدولة الجركسية بعد حلول سلطانها قانصوه الغوري بحلب لمنام رأى فيه رجلا قصيرا راكبا على فرس وأمامه آخر يذود الناس بين يديه باللسان التركي، وقد سأل عنه سائل من هو فقيل له: إنه سلطان الروم.
قيل: وكان للشيخ جد سيوفي بدمشق من أولياء الله تعالى متى ضرب بسيفه من يستحق القتل قطع وإلا لم يقطع، وأخت عابدة رآها تكبّر يوما تكبيرة الإحرام ثلاثا كما هي عادتها، فسألها ما السبب في ذلك فقالت: إني لا أرى الكعبة الشريفة إلا في ثالث مرة.
712 - الشيخ محمد الخراساني المتوفى سنة 925
محمد الخراساني النجمي نزيل حلب. قيل إنه كان يمني الأصل وذا سيادة.
وأخبرني نزيله الشيخ الصالح محمد الكيلاني التروسي أن سنده في لبس الخرقة يتصل بنجم الدين الكبير رحمة الله عليه، وأن من جملة كراماته أنه لما قدم حلب أنكر عليه القاضي جلال الدين النصيبي والشيخ جبرائيل الكردي ما كان عليه من سماع الموصول والشبابة، فقيل للأول لا بأس بالاجتماع به وإلا فلا وجه للإنكار عليه مجانا، فلما توجه إليه قال في نفسه: إن كان الشيخ وليا فإنه يضيفني اليوم خبزا ولبنا وعسلا وإنه يسألني عن
مسألتين. فلما حضر مجلسه أمر بإحضار الخبز واللبن والعسل وعرفه أنه أضمر السؤال عن مسألتين. وأما الثاني فإنه طرق عليه الباب ذات يوم ودخل عليه فاعتنقه الشيخ، فقال للشيخ: اجعلني في حل مما كان يصدر مني من الغيبة لك، فإني قد وجدت نفسي وأنا نائم تائها في مفازة وإذا بك قلت لي: افتح فمك، ففتحته فألقيت فيه شيئا فلم أقدر على ابتلاعه ولا على إلقائه، فذكرتني أني أغيبك فتبت، فلما تبت صار الذي في حلقي كأنه سكر فابتلعته، وأخذتني وأخرجتني من التيه. فلما تمم له القصة جعله الشيخ في حل من ذلك رضي الله عنهما.(5/395)
وأخبرني نزيله الشيخ الصالح محمد الكيلاني التروسي أن سنده في لبس الخرقة يتصل بنجم الدين الكبير رحمة الله عليه، وأن من جملة كراماته أنه لما قدم حلب أنكر عليه القاضي جلال الدين النصيبي والشيخ جبرائيل الكردي ما كان عليه من سماع الموصول والشبابة، فقيل للأول لا بأس بالاجتماع به وإلا فلا وجه للإنكار عليه مجانا، فلما توجه إليه قال في نفسه: إن كان الشيخ وليا فإنه يضيفني اليوم خبزا ولبنا وعسلا وإنه يسألني عن
مسألتين. فلما حضر مجلسه أمر بإحضار الخبز واللبن والعسل وعرفه أنه أضمر السؤال عن مسألتين. وأما الثاني فإنه طرق عليه الباب ذات يوم ودخل عليه فاعتنقه الشيخ، فقال للشيخ: اجعلني في حل مما كان يصدر مني من الغيبة لك، فإني قد وجدت نفسي وأنا نائم تائها في مفازة وإذا بك قلت لي: افتح فمك، ففتحته فألقيت فيه شيئا فلم أقدر على ابتلاعه ولا على إلقائه، فذكرتني أني أغيبك فتبت، فلما تبت صار الذي في حلقي كأنه سكر فابتلعته، وأخذتني وأخرجتني من التيه. فلما تمم له القصة جعله الشيخ في حل من ذلك رضي الله عنهما.
وقد حضرت سماعاته صحبة والدي، وأخبرني أنه رأى ذات ليلة في منامه شيئا فتوجه إليه ليقص عليه، فإذا عنده رجل يقرأ في كتاب الله، فلما دخل والدي أطبق كتاب الله، فقال الشيخ للقارىء قبل أن يكلمه والدي في أمر المنام: افتح الكتاب واقرأ، فإذا هو يقرأ: و «منهم من رأى في منامه».
وقد كان رضي الله عنه عالما عاملا مطروح التكلفات وأسبابها، يقدم النعال لأربابها، جمالي المشرب، يضرب بمواعظه ويطرب، ذا حظوة في مجالس الأفراح، وخمرة تزري بخندريس الأقداح، لطيفا ظريفا جاذبا لقلوب الناس، ملينا لكل قلب قاس.
مات رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وتسعمائة ودفن في يوم كان مشهودا شهده الخاص والعام، وعمرت على قبره عمارة بباب الفرج من مدينة حلب أنشأها الأمير يونس العادلي.
ومما حكى عنه شيخ الشيوخ الموفق بن أبي ذر المحدث أنه كان ذات حين بين النوم واليقظة، فإذا طائر وقف على مكان من داره واضطرب ساعة، قال: فاستيقظت مذعورا فأخذت الغطا على رأسي وإذا هاتف يقول: هذه روح الشيخ محمد الخراساني، فما مضى قليل من الأيام إلا وانتقل إلى رحمة الله تعالى.
قال: وكان يقول: من لم يتخلّع يتقلّع.
713 - محمد بن أحمد المهمازي المتوفى سنة 926
محمد بن أحمد بن علي بن إبراهيم أقضى القضاة ناصر الدين أبو عبد الله العجمي الأصل
الحلبي المولد الأردبيلي الخرقة والطريقة الحسيني الحنبلي المشهور بالسيد المهمازي.(5/396)
محمد بن أحمد بن علي بن إبراهيم أقضى القضاة ناصر الدين أبو عبد الله العجمي الأصل
الحلبي المولد الأردبيلي الخرقة والطريقة الحسيني الحنبلي المشهور بالسيد المهمازي.
كان شيخا معمرا له علامة خضراء مستطيلة فوق العادة موضوعة على عمامته بإبرتين في طرفها. ناب في القضاء بمحكمة جدي الجمال وعمي النظام الحنبليين ولم يشك أحد في مدة نيابته. وكان توقيعه: الحمد لله خير الحاكمين. قيل: وكان في تطويل العمامة تابعا لوالده بل جده السيد إبراهيم إذ قدم حلب من بلاده فطلب من نقيب الأشراف بها إذ ذاك ما للواردين عليه من الأشراف من المعلوم المعتاد، فطلب منه ما يشهد له بالشرف، فذكر أنه ليس معه شيء من ذلك، فأبى إعطاءه ونزع علامته وكانت قصيرة على العادة، فاتفق أن كافل حلب رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه السيد إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلم ينكر على نقيب الأشراف حيث أنكر نسبه إليه ويقول: هذا ابني أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم وضع له علامة مستطيلة، فلما استيقظ أرسل وراء نقيب الأشراف، فإذا نقيب الأشراف رأى مثل ما رأى، فما وسعه إلا أن أدى إليه حقه وأكرمه، فعند ذلك أحضر الكافل شقة خضراء وقص منها بقدر ما رأى من العلامة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع ذلك على عمامة السيد إبراهيم على أسلوب ما رأى، ثم صار ذلك شعار ولده وولد ولده.
وكانت وفاة السيد ناصر سنة ست وعشرين وتسعمائة بالمهمازية خارج باب المقام وهي تربة ابن قراسنقر الذي استقر بها جده السيد كمال الدين إبراهيم المهمازي الحسيني لما أنه كان له قبول عند الناصر يوسف صاحب حلب حتى سلمها إليه، فاستقر بها ووقف عليه حمّام السلطان بحلب كما ذكره ابن الوردي في تاريخه.
وفي تاريخ الشيخ أبي ذر أنه كان عجمي الدار وأنه صاحب الأحوال رضي الله عنه.
ومن غريب ما كان عليه السيد ناصر الدين أنه كان يحمل خنجرا تحت ثوبه إما بنية الغزاة على توهم حصولها أو لخشيته وتوهمه أن واحدا ممن حكم عليه يقتله وهو سبب ذلك.
714 - علاء الدين الإربلي الطبيب المتوفى سنة 926
علاء الدين بن ولي الدين الإربلي ثم الحلبي الطبيب المشهور بابن ولي.
كان له حانوت بسوق الزرد كاشية بحلب، وهو سوق كانت تعمل فيه الزرديات
واللبوس في الدولة الجركسية، ثم خرب وبني في مكانه السوق المشهور بالسوق الجديد إنشاء محمد باشا كافل حلب.(5/397)
كان له حانوت بسوق الزرد كاشية بحلب، وهو سوق كانت تعمل فيه الزرديات
واللبوس في الدولة الجركسية، ثم خرب وبني في مكانه السوق المشهور بالسوق الجديد إنشاء محمد باشا كافل حلب.
وكان طبيبا حاذقا ذا يد مباركة، مقبولا عند الخواص والعوام، قنوعا منقادا لكل من طلبه. وكان شيخه في الطب عجميا اسمه أبو بكر شاه سبقه بالوفاة فدفن بجنبه سنة ست وعشرين.
715 - قطلوبك (1) القطلاوي (2) المتوفى سنة 926
قطلوبك بن محمد بن محمد الأمير ناصر الدين الحلبي العمري المشهور بابن القطلاوي.
توفي في رجب سنة ست وعشرين وتسعمائة. وكان ممن ينتسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وتولى على الزاوية القطلاوية بالحدادين بحلب المشروطة للطائفة الكازرونية فقيل: كان من ذرية منشيها الشيخ صالح الحاج جنيد بن عمر الإسحاقي نسبة إلى الشيخ المرشد أبي إسحق إبراهيم شهريار الكازروني، وقيل لا.
وكان الأمير ناصر الدين ذا ثروة ومال، وربما لبس الفرو الوشق، إلا أنه كان مماجنا مزّاحا مضحكا يقدح أهل المجلس في عرضه مجانا فلا يبالي بقدحهم ويمزحون معه قبيح المزح فلا يتأثر من قبيح مزحهم، وكذا يقدح في عرض من حضر من صحبه فلا يبالون بما منه ينالون وإن كانوا من رؤساء الناس.
وكانت له وقائع غريبة منها أنه حلف ليطعمن فلانا فحما وفلان حاضر ليغيظه، فإذا اغتاظ ضحك عليه فازداد غيظا فازداد عليه ضحكا فأضحك عليه الحاضرين، ثم تناساه مدة مديدة، ثم حضر معه في مجلس المخاديم الذين كانوا حاضرين مجلس الحلف وأحضر معه شيئا أسود مستطيلا محدود الرأس طيب الرائحة مموها بشيء من ورق الذهب، وأخبر أنه دخل السوق فاشتراه بثمن زائد، وذكر أنه يسمى قلم بك وأن له كما ذكر من الخاصية كذا وكذا، وعبس وجهه في وجوه الحاضرين ولم يضحك أصلا، فقال له المحلوف عليه:
__________
(1) في الأصل قطوبك.
(2) في «در الحبب»: القطماوي.(5/398)
أعطني إياه، فامتنع من إعطائه وسمح له بأكل قطعة منه في وقت آخر وأظهر بخله عليه، فصمم أنه يعطيه إياه فأبى، ثم أذن له أن يأخذ من رأسه المحدود شيئا قليلا بفمه فإن قليله في النفع كثير، فأخذ فلم ير له مطعما ليرى له فيه مطعما (1) فكاد يمجه من فمه، فقال له: ابتلعه لتنال نفعه، فابتلعه فقال: اشهدوا يا مخاديم أني أطعمته فحما وأني بررت في يميني يوم كذا، فضحكوا وانشرحوا، وظهر أنه اصطنع فحمة على تلك الهيئة ودهنها أو نحوه وذهّبها وسماها من عند نفسه.
ومنها أنه حضر بمصر في مجلس الأمير جمال الدين بن أبي إصبع الحلبي، فقال له في الملأ العام: يا قواد، فقال: إني أشتهي أن لو كنت قوادا، ولم يظهر ضم التاء من قوله كنت ولا فتحها بل سكنها، وأشار إلى الأمير جمال الدين بيده أي أنت، فضحك الحاضرون والمقر الجمالي لم يفطن له إلا بعد حين، فقذفه فلم يبال بقذفه له ولا قطع كلامه فيه كأنه لم يسمع منه قدحا بل مدحا.
716 - إبراهيم الحمّامي الشاعر المتوفى سنة 926
إبراهيم الأنطاكي ثم الحلبي المعروف بأصطا إبراهيم الحمّامي.
كان شاعرا ذا ذكاء وذوق مع كونه عاميا. وله موشحات وتصانيف وأعمال مويسيقية مشهورة على لحن فيها وديوان حافل سماه «برهان البرهان». ومن شعره مضمنا:
وبي رشأ حاز الجمال بأسره ... له طلعة فاقت على شفق الفجر
تحير فيه الواصفون لحسنه ... وقالوا عجزنا عنه بالفكر والذكر
فقلت لهم هذا الذي صح أنه ... كما شاعت الأخبار في البر والبحر
تراءى ومرآة الزمان صقيلة ... فأثر فيها وجهه صورة البدر
وله أيضا:
مقلتي يوم النوى إذ رحلوا ... طلقت من أجلهم طيب الكرى
إن تسل عما جرى من أدمعي ... فوق خدي بعدهم ياما جرى
__________
(1) في بعض النسخ المخطوطة: مطمعا.(5/399)
وقال يهجو بعض الأمراء على طريق الاكتفاء:
أميرنا ذو معان ... محرّك للسواكن
حوى حلاوة لفظ ... حلو اللسان ولكن
وقال من قصيدة:
باكر يا صاح لرشف قدح ... فزناد الخمرة فيه قدح
واشرب قدحا وانف ترحا ... واجنح مرحا والمح لملح
بكر في الكاس إذا جليت ... بالبسط أكاد أطير فرح
تنفي الأحزان بساحتها ... وبنشأتها كما شح سمح (1)
في شرح معاني بهجتها ... قدح منها للصدر شرح
تنفي الأسقام من الأجسا ... م بها من هام ورام نصح
فاشرب في صبح غبقتها ... فالديك على الندمان صدح
والوقت صفا والحب وفا ... والكاس شفا والهم نزح
والحال حلا والبدر جلا ... والطير تلا والكاس طفح
إلى أن قال:
ما زلت مسائي مغتبقا ... في الحضرة حتى الصبح وضح
من عظم سروري في فرحي ... أيقنت بأن العقل شطح
ومن شعره:
إذا لم أجد خلا وفيا على المدى ... مقيما على الحالين في الحر والبرد
جلوت عروس الراح في وسط راحتي ... فعاينتها بكرا خلوت بها وحدي
ومن شعره:
أحبابنا من بعدكم ... أجريتمو مدامعي
من لي معينا في الهوى ... يصبر على المدى معي
__________
(1) لعل الصواب: من شح سمح، كما رجح محققا در الحبب.(5/400)
ولا يخفى ما فيه من إسكان راء يصبر للضرورة.
ومن شعره في صوفي ظاهري:
لله صوفيّ وقت حاز أربعة ... لاحت لنا من معانيها عبارات
دقن ودلق وعكاز ومسبحة ... وكان ذا زكرة فيها فشارات
وله:
مهفهف من لطفه ... أعطافه ترنّحت
وخده لشقوتي ... وردته تفتّحت
توفي ليلة عيد الفطر سنة ست وعشرين وتسعماية رحمه الله وإيانا.
717 - تاج الدين بن زهرة المتوفى سنة 927
تاج الدين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن الحسن ابن زهرة بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة الحسيني الإسحاقي الحلبي ثم الفوعي عم جدي لأمي القاضي شهاب الدين أحمد المتقدم ذكره.
كان شيخا كبيرا معمرا، رحل إلى بلاد العجم وحصل بها جانبا من العلم والمال وبقي بها غائبا قريبا من سبع عشرة سنة.
وعني بعلم الأنساب فكان نسّابة عارفا بها جدا يدعي أن عنده كتابا يسمى «ببحر الأنساب» على تشيع عنده به. وكان لأهل الفوعة فيه مزيد الاعتقاد حتى انتصبوا معه لعداوة خالي الشريف شرف الدين عبد الله الآتي ذكره وكادوا يقتلونه، ولما عاد من العجم حسّن عند خالي أن يتوجه إليه ويسلم عليه ففعل، فلما دنا خالي منه في ملأ عظيم من أهل الفوعة مد يده إلى عمامته فنقضها وحقره فيما بينهم وسلط عليه من يواجهه بالسيوف نهارا، فلم يمكنه الله تعالى منه.
ثم كانت وفاته سنة سبع وعشرين.(5/401)
718 - إبراهيم بن أحمد الدوركي نزيل حلب المتوفى بعد 928
إبراهيم الدوركي نزيل حلب المشهور بتاج الدين.
كان حسن الكتابة فوقّع في آخر أمره بمحكمة قاضي حلب حيدر في الدولة السليمانية وعني عنده بأخذ الرشى له ولنفسه، فكثر ماله وصار يخاف شره أكابر حلب فضلا عن أصاغرهم، حتى مشي في ختان أولاده، فهرع إليه الأكابر وأرسلوا إليه وافر الهدايا وحضر منهم من حضر في مطبخ وليمته وحضر الآخرون على سماط وليمته حتى الشيخ شمس الدين ابن بلال، إلا أنه لم يأكل منه، إلى أن فتش على حيدر وعليه بالجامع الأعظم بحلب سنة ثمان وعشرين فصار يحضر إليه في زنجير من الحديد والناس يسبونه ويبصقون في وجهه.
ثم آل أمره إلى أن باع داره بحلب وذهب إلى بلاده فمات بها.
719 - الأمير خاير بك الأشرفي كافل حلب المتوفى سنة 928
خاير بك ابن مال باي بن عبد الله الجركسي الملكي الأشرفي ثم الملكي المظفري كافل حلب بل آخر كفّالها في الدولة الجركسية.
وكان أبوه جركسيا إلا أنه كان مسلما من تجار المماليك الجراكسة، وكان قد سمى ولده هذا بخليل ولقبه بخاير بك فاشتهر بلقبه.
وكانت ولايته لكفالة حلب عن سيباي ولم يكن سيباي من أهل البطش، فلما قام مقامه نشر شخصا من المفسدين نصفين فقال الحلبيون: ذهب سيباي الفشّار وجاء خاير بك النشّار.
وسلك بحلب مسلك كفّالها المتقدمين فركب في كل خميس واثنين بالكلفتة والقباء الأبيض وركب معه مقدمو الألوف وعدتهم ثمانية، موضوع كل واحد أن يكون أمير مائة فارس مملوك له ومقدم ألف فارس غير مملوك له، وركب معه أرباب المناصب والجند وساروا إلى قبة المارداني والجاليشية بين يديه يصعقون، ثم عاد فوقف تحت القلعة راكبا والمنادي ينادي بالأمان والاطمئنان وإظهار العدل للرعية، فإذا قابل باب القلعة اصطفت البحرية الذين دأبهم أن يجلسوا على بابها وقوفا له حتى يسلم عليهم. ثم دخل دار العدل
وحاجب الحجاب يمشي في خدمته وعصاه في يده إلى أن يجلس في محله فيقرأ بين يديه ما يرفع من القصص إليه لتفصل الخصومات لديه بحضرة قضاة القضاة ومفتي دار العدل على وجه يكون الشافعي عن يمينه وتحته الحنبلي والحنفي عن يساره ودونه المالكي. ثم يقوم حاجب الحجاب فينادي لقضاة القضاة بالانصراف. ويسمى ذلك اليوم بيوم الموكب لتقدم الموكب فيه على الجلوس بدار العدل الفصل بين الخصوم بالعدل.(5/402)
وسلك بحلب مسلك كفّالها المتقدمين فركب في كل خميس واثنين بالكلفتة والقباء الأبيض وركب معه مقدمو الألوف وعدتهم ثمانية، موضوع كل واحد أن يكون أمير مائة فارس مملوك له ومقدم ألف فارس غير مملوك له، وركب معه أرباب المناصب والجند وساروا إلى قبة المارداني والجاليشية بين يديه يصعقون، ثم عاد فوقف تحت القلعة راكبا والمنادي ينادي بالأمان والاطمئنان وإظهار العدل للرعية، فإذا قابل باب القلعة اصطفت البحرية الذين دأبهم أن يجلسوا على بابها وقوفا له حتى يسلم عليهم. ثم دخل دار العدل
وحاجب الحجاب يمشي في خدمته وعصاه في يده إلى أن يجلس في محله فيقرأ بين يديه ما يرفع من القصص إليه لتفصل الخصومات لديه بحضرة قضاة القضاة ومفتي دار العدل على وجه يكون الشافعي عن يمينه وتحته الحنبلي والحنفي عن يساره ودونه المالكي. ثم يقوم حاجب الحجاب فينادي لقضاة القضاة بالانصراف. ويسمى ذلك اليوم بيوم الموكب لتقدم الموكب فيه على الجلوس بدار العدل الفصل بين الخصوم بالعدل.
وكان له موكب إذا صلى الجمعة بالجامع الأعظم بحلب وبين يديه فيه ماشيان بأيديهما طبران نفيسان مكفتان بالذهب والفضة ووراءه خمسة من الخيل مجنوبة مع ما معه من مماليكه الذين كانوا مع مماليكه الكتابية الذين في الأطباق (1) يناهزون ألفا، فإذا استقر بمقصورته بالجامع كان بها الشربدار ومعه طبق نفيس مغطى بغطاء نفيس يشتمل على أشربة سكرية متنوعة، وتراه إذا رفع إليه شيء منها أخذ منه قليلا في وعاء صغير وهو يراه فشربه، وهو المسمى بالششني، المقصود بشربه الأمن من دس السم إلى ذلك المخدوم. وكانت عدة ماله من الأطباق التي فيها من يؤدب مماليكه ويعلمهم الكتابة وقراءة القرآن تسعة أطباق.
مع كثرة مماليكه كان قد استبد وهو كافل حلب باستخدام شرذمة يرمون بالتفنكات كما في عساكر المملكة الرومية ويركبون معه في بعض مواكبه، وكان له موكب عظيم إذا صلى صلاتي العيد، غير أنه كان يصلي صلاة عيد النحر بجامع الأطروش فإذا خرج من الصلاة ناوله استدادار الصحبة سكينا ماضية للنحر وفوطة نفيسة يقي بها ثيابه من الدم، وقدم له أولا جمل فنحره على باب الجامع وهذا لا يأخذه إلا مؤذنوه، ثم قدم له ما كان من البقر والأغنام فنحر وذبح شيئا فشيئا إلى أن يصل وهو ماش إلى باب دار العدل وتسمى دار السعادة أيضا، كل ذلك للفقراء، فإذا دخلها نحر بها وذبح لنفسه ولمن كان من سكانها بعد أن كان بعث في يوم عرفة لبيوت قضاة القضاة في آخرين عدة من البقر والأغنام.
وكان طوالا أسمر اللون غرابيا لم يظهر الشيب في لحيته مع كبر سنه، ذا شهامة وأبهة وهيبة، حلو اللسان حسن التدبير محكما لأمر الدنيا متمولا جدا، حتى عمر بحلب عدة خانات منها خانه الأعظم (لا زال عامرا معروفا بخان خير بك). وكان مما دخل فيه دور
__________
(1) الأطباق والطباق: ثكنات الجيش المملوكي بالقلعة، وفيها يتلقى المماليك الكتابة والتعليم الديني وفنون الفروسية.(5/403)
بني العديم وهو بيت مشهور بحلب خربها فإذا فيها دفين استعان به في عمارته وعمر بها داره المشهورة بمحلة سويقة علي، ولم تكن قاعتها العظمى من إنشائه وإنما كانت من جملة الدار التي أدخلها في داره، وكانت تعرف في زماننا بدار ابن المعري وقبل ذلك بدار ابن الفخري، وهي إحدى الدور العظام التي ذكرها المحب أبو الفضل ابن الشحنة في تاريخه قال: وهي وقف ابن الصاحب على مدرسته (أمام خان الوزير) بالقرب من المصبغة (1). قال: وفي ظني أن قراجا دوادار الأمير قصروه كان استبدلها استبدالا لا يصح. انتهى.
وكان السلطان الغوري يخشى غدره به ويريد قتله بدس السم إليه، بل دسه إليه مرة وعوفي منه بإذن الله تعالى على يد طبيب يهودي إلى أن غدر به هو وجان بردي الغزالي بعد نزول السلطان الغوري إلى حلب وعزمه على التوجه إلى المقام الشريف السليمي، وارتفعت منزلته عنده بعد أخذه ملك مصر وقبله حتى أمنه على لسان وزيره يونس باشا إذ لحقه بحماة، وكان قد عاد بعد التقاء العسكرين بدابق إلى حلب فخرج منها بمن معه على جرائد الخيل ومعه إحدى زوجتيه المحظية عنده في صورة رجل وعليها برنس يسترها، فعاد به إلى حلب فأكرمه المقام الشريف السليمي غاية الإكرام. ثم لما أخذ مصر جعله كافلها فبقي بها إلى أن مات سنة ثمان وعشرين وتسعماية اهـ.
وله في بدائع الزهور لابن إياس المصري ترجمة مطولة نقتطف منها ما يأتي:
قال في حوادث سنة 928: وفي شهر ذي القعدة أشيع أن ملك الأمراء خاير بك قد مرض ولزم الفراش، ولما قوي عليه المرض صار يتصدق على الأطفال الذين بالمكاتب بالقاهرة قاطبة لكل صغير نصف فضة كبير بنصفين وربع، وصار أحد الخزندارية، وابن الظريف المقري يدفع لكل صغير النصف في يده ويعطي الفقيه خمسة أنصاف كبار والعريف ثلاثة أنصاف كبار ويقولون لهم: اقرؤوا الفاتحة وادعوا بالشفاء لملك الأمراء والعافية.
وفي ثالث عشره أشيع أنه قد نزل به النزع وأنه أرسل خلف الأمير سنان بك العثماني، فلما طلع إليه وجده في حال التلف، فدفع إليه خاتم الملك الذي كان السلطان سليم شاه
__________
(1) منذ نحو عشر سنين اتخذت هذه المصبغة مخزنا كبيرا وهي قبلي مسجد النارنجة في السويقة.(5/404)
أعطاه له ثم قال له: على قدر الأموال التي في الخزائن، وكانت ستمائة ألف دينار ذهبا عينا هذا خارجا عما كان في بيت المال. وخلف من الخيول والجمال والبغال ما لا ينحصر ومن الغلال والأغنام والأبقار أشياء كثيرة. ومع وجود هذه الأموال التي تركها كان يكسر جوامك الجراكسة ستة أشهر لم يعطهم شيئا ويشكي أن بيت المال مشحوت من المال.
قال: وأصله من مماليك الأشرف قايتباي وهو جركسي الجنس أباظيا. وكان أبوه اسمه (1) ملباي، ولهذا كان يدعى خاير بك ملباي. ولما مات أخو قانصوه المحمدي نائب الشام نقل السلطان الأمير سيباي من نيابة حلب إلى الشام وعين لنيابة حلب خاير بك عوضا عن سيباي، وذلك في سنة عشر وتسعماية، واستمر على ذلك حتى تحرك الخوندكار (2) سليم شاه بن عثمان على السلطان الغوري وانكسر، وكان خاير بك سببا لكسرة الغوري.
وولاه السلطان سليم نيابة مصر في شعبان سنة ثلاث وعشرين، فاستمر على نيابته إلى أن مات رابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وتسعماية.
وأما ما عد من مساويه فإنه كان جبارا عنيدا سفاكا للدماء، قتل في مدة ولايته مالا يحصى من الخلائق وشنق رجلا على عود خيار شنبر (أخذه من جنينة) (3). وشنق من الناس ووسّط وخوزق جماعة كثيرة، واقترح لهم أشياء في عذابهم فكان يخوزقهم من أضلاعهم ويسميه شك الباذنجان، فقتل بمصر وحلب فوق العشرة آلاف رجل وغالبهم راح ظلما.
ومنها أنه أتلف معاملة الديار المصرية من الذهب والفضة والفلوس الجدد وسلط إبراهيم اليهودي معلم دار الضرب على أخذ أموال المسلمين. ومنها أنه شوش على جماعة من المباشرين الأعيان وضربهم وبهدلهم وعوقهم في الترسيم نحو خمسة أشهر. وأخذ من الشهاب أحمد بن الجيعان فوق السبعين ألف دينار حتى باع جميع أملاكه وقماشه ورزقه وبقي على الأرض. ومنها أنه كان سببا لخراب الديار المصرية ودخول سليم شاه، وحسّن له عبارة
__________
(1) في الأصل: أباه سماه والصواب ما أثبتناه نقلا عن بدائع الزهور.
(2) في الأصل: الخنكار، والصواب ما أثبتناه نقلا عن بدائع الزهور.
(3) إضافة من بدائع الزهور ليست في الأصل.(5/405)
أخذ مصر، وضمن له أخذها من غير مانع وعرفه كيف يصنع حتى ملكها وجرى منه ما جرى، وقتل الأمراء والمماليك الجراكسة وشنق السلطان طومان باي على باب زويلة وكل ذلك بترتيبه.
وكان كثير الحيل والخداع والمكر، وكان من دهاة العالم لا يعلم له حال ولو ذكرت مساويه كلها لطال الشرح.
آثاره بحلب:
من آثاره بحلب تربة واسعة أنشأها خارج باب المقام بالقرب من الباب وفيها قبتان كبيرتان بينهما إيوان في وسطه قبر، وفي صحن التربة قبر الشيخ علي شاتيلا المجذوب المتوفى سنة 1212.
وفي جدار التربة الغربي من الخارج كتابة حسنة الخط بقلم جاف وهي بعد البسملة:
(أنشأ هذه التربة المباركة المقر الأشرف الكريم العالي المولوي الكافلي السيفي خاير بك الأشرفي كافل المملكة الحلبية المحروسة أعز الله تعالى أنصاره بتاريخ شهر ربيع الأول عام عشرين وتسعمائة).
وهذه الكتابة البديعة بخط الشيخ أحمد بن الداية الدهان المتوفى سنة 951الآتي ذكره.
وهذا البناء وتلك الكتابة يعدان في جملة الآثار القديمة التي بحلب، غير أن المكان مشرف على الخراب ولا سائل عنه.
720 - خليل بن سالم الحريري المتوفى سنة 928
خليل بن سالم الشيخ الصوفي خرقة الحريري حرفة، أحد أهل محلة جب أسد الله بحلب ويعرف بالنفّاش بالفاء.
كان له صدع في النهي عن المنكر واهتمام بترميم كثير من المساجد من ماله حتى اتهمه في الدولة الجركسية الأستادار بدفين (1) ظفر به وأراد أن يأخذ منه مالا بطريق الجور، فصدعه بالقول وهول عليه فلم يقدر أن يصل إليه.
__________
(1) المقصود ما يدفن مع الموتى من حلي ونقود ومجوهرات.(5/406)
توفي عن سن عالية سنة ثمان وعشرين أو بعدها، وكان كثير التردد إلى البدر السيوفي وعمي الحنبلي والشافعي، مقداما في الكلام حاد اللسان ولو مع الحكام يخشاه كثير من الخواص فضلا عن العوام.
721 - محمد بن الحسن البيلوني المتوفى سنة 929
محمد بن الحسن بن محمد بن أبي بكر الشيخ شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ الصالح المقري بدر الدين البابي المولد الحلبي المنشأ الشافعي المعروف بابن البيلوني الكبير.
عالم عامل صالح، ولي إمامة السفاحية والحجازية بالجامع الأموي بحلب دهرا، ولازم البدر السيوفي وأخذ عنه وأجاز له جماعة كتبوا له خطوطهم في ثبته منهم الحافظ السخاوي الشافعي، وبخطه وجدت أنه ألبسه الطاقية وصافحه بعد أن سمع منه الحديث المسلسل بالمصافحة وبلباس الخرقة بحق روايته عنهما عن الشمس بن عبد الله بن المصري شيخ الصوفية بالباسطية فيما أجاز له عن أبي حفص المزي بلباسه من العز أبي العباس الفاروشي بلباسه من الإمام أبي حفص السهروردي قال: لبسهما من الشيخ عبد القادر الكيلاني بسنده، ومنهم الشيخ العلامة يحيى بن حسن المغربي الربعي الحنفي نزيل حلب ومكة والأخوان الكمال والبرهان ابنا أبي شريف الشافعيان، وترجمه الأول منهما بالشيخ الفاضل زين الأماثل، والثاني بالشيخ الفاضل المتفنن، وذلك كله من اجتماعه بهم وقراءته عليهم.
وقرأ أيضا على الكمال ابن محمد الناسخ الطرابلسي وهو نزيل حلب في شعبان سنة خمس وتسعمائة من أول صحيح البخاري إلى أول سورة مريم وأجاز له ولمن معه جميع ما يجوز له وعنه روايته.
وقد سمعت أنا ولله الحمد من لفظ الشيخ شمس الدين شيئا من صحيح البخاري وذلك أنه كان محدثا بالجامع المذكور أيضا، وكان يحضر به في اليوم الموعود بالقراءة على الكرسي شماليته، فإذا شيخنا العلاء الموصلي يدرس تحته فيحترمه ويجلس إلى جنبه فيقرأ من الصحيح ما تيسر منه قراءة حسنة يراعي فيها قواعد التجويد كما يراعي عند تلاوة القرآن المجيد.
وكانت وفاته يوم السبت الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين
وتسعمائة، وصلى عليه الزين الشماع ودفن بالرحبي وذلك بعد أن كان خطب بالجامع المذكور أمس السبت، ولما فرغ من دفنه سمع الزين الشماع جماعة العلاء الكيزواني يقرؤون شيئا من النظم على قبره، فغضب من ذلك لكونه بدعة ابتدعوها واستوجبوا أن يقال لهم دعوها، فكتب إلى سيدي علوان الحموي يعلمه بالواقعة ويقدح في الناس بأنهم لا يميلون إلا إلى هوى أنفسهم، فأجابه برسالة طولى ذكرها في كتاب «عيون الأخبار»، ومن جملة ما تضمنه أنه يجب على العاقل أن يكون في الغضب والرضى ملاحظا لمولاه فيغضب عند مخالفة الشرع ويرضى عند الموافقة، فإذا كان رضاه في المدح لنفسه فيرضى موافقة وعبودية أو بالعكس فبالعكس، وإذا رضي لحظة وغضب كذلك فهذه منازعة للربوبية وأنه لا يحسم مادة الاشتغال بذكر عيوب الخلق إلا بذكر الحق كما أشار إليه قوله تعالى:(5/407)
وكانت وفاته يوم السبت الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين
وتسعمائة، وصلى عليه الزين الشماع ودفن بالرحبي وذلك بعد أن كان خطب بالجامع المذكور أمس السبت، ولما فرغ من دفنه سمع الزين الشماع جماعة العلاء الكيزواني يقرؤون شيئا من النظم على قبره، فغضب من ذلك لكونه بدعة ابتدعوها واستوجبوا أن يقال لهم دعوها، فكتب إلى سيدي علوان الحموي يعلمه بالواقعة ويقدح في الناس بأنهم لا يميلون إلا إلى هوى أنفسهم، فأجابه برسالة طولى ذكرها في كتاب «عيون الأخبار»، ومن جملة ما تضمنه أنه يجب على العاقل أن يكون في الغضب والرضى ملاحظا لمولاه فيغضب عند مخالفة الشرع ويرضى عند الموافقة، فإذا كان رضاه في المدح لنفسه فيرضى موافقة وعبودية أو بالعكس فبالعكس، وإذا رضي لحظة وغضب كذلك فهذه منازعة للربوبية وأنه لا يحسم مادة الاشتغال بذكر عيوب الخلق إلا بذكر الحق كما أشار إليه قوله تعالى:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى ََ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} (1).
ومما تضمنه أيضا قوله مخاطبا له: كان الواجب عليكم إذا رأيتم البدعة في الجنازة أن تنكروا على المبتدع شفاها كفاحا إن كان المحل قابلا وكذلك في غيرها، فإن لم يكن فبالقلب فذلك أضعف الإيمان والسلام.
وكان الشيخ شمس الدين رحمنا الله وإياه متحاشيا عن فاخر الثياب مقصرا ثيابه إلى أنصاف ساقيه عملا بالسنة فهو تقصير ليس فيه تقصير، متواضعا للناس مكثرا من أن يعبر عن نفسه بكلمة عبيدكم بصيغة التصغير تحقيرا لنفسه، وكان يستعمل أحيانا صيغة التصغير في حق غيره مثل أن يقول: كيف وليدكم وعبيدكم، فناقشه بعض الناس في ذلك صورة فأجاب بأنه قصد بصيغة التصغير التعظيم كما هو مذهب الكوفيين.
722 - علي بن حسن السرميني المتوفى سنة 929
علي بن الحسن السرميني ثم الحلبي الفرضي الحيسوب الشافعي شيخنا الملقب بالنعش المخلع.
أخذ الفرائض والحساب عن الجمال الأسعردي ومهر فيهما واشتهر بهما، وكان له مكتب على باب دار العدل بحلب يطلب منه لكتابة الوثايق المتعلقة بدار العدل وغيرها كما
__________
(1) الحجرات: 11.(5/408)
كان لشيخنا العلاء الموصلي مكتب تجاه باب قلعة حلب يطلب منه لكتابة الوثايق المتعلقة بها وبغيرها، ثم لما كانت الدولة العثمانية وأبطلت مكاتب الشهود بحلب أخذ في نسخ المصاحف والانتفاع بثمنها وفي تأديب الأطفال بمكتب داخل باب أنطاكية، وبه قرأت عليه طرفا من العلوم الحسابية سنة سبع وعشرين. ثم كانت وفاته في رمضان سنة تسع وعشرين ودفن بالسنيبلة غربي حلب.
723 - يوسف بن إسكندر المشهور بابن أبجق المتوفى سنة 929
يوسف بن إسكندر بن محمد قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن الحلبي الحنفي الشافعي المشهور كوالده المتقدم ذكره بابن أبجق، سبط المقر المحبي محمود بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية.
اشتغل في الفقه وغيره على الزين عبد الرحمن بن فخر النسا وغيره، وسمع على الجمال إبراهيم بن القلقشندي بن عبد الله أربعين حديثا خرجها بعض الفضلاء عن أربعين شيخا من مشايخه، وعلى المحب أبي القاسم محمد بن جرباش بن عبد الله الحنفي جميع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد بن إسحق وتهذيب الإمام عبد الملك بن هشام، وأجاز كلاهما له أن يروي ذلك عنهما وجميع ما يجوز لهما وعنهما روايته.
وتولى قضاء حلب بعناية خاله واستمر فيه إلى انقضاء الدولة الجركسية فكان آخر قاض حنفي فيها بحلب، وكان توقيعه في صدور الوثائق الشرعية: الحمد لله ذي العز والجمال. ثم لما كانت الدولة الرومية السليمية تولى بحلب تدريس الحلوية ووظائف أخرى.
ثم هاجر إلى القاهرة فأكرم مثواه كافلها خير بك الأشرفي المظفري وراعاه الأمير جانم الحمزاوي لمواخاة وجيزة كانت بينهما.
وتولى بالقاهرة مشيخة المؤيدية وسار فيها السيرة المرضية إلى أن حج فقدمها موعوكا فمات بها سنة تسع وعشرين وتسعمائة.
وكان شكلا حسنا ذا شهامة وجلالة ووداد وخلالة، يهوى الرياسة ويحب لبس ماله من نفاسة. وكان لما عنده من الفقه قد زاحم أرباب التأليف في وضع رسالة تتضمن تقوية مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في عدم رفع اليدين قبل الركوع وبعده، وممن مدحه شيخنا العلا الموصلي بقصيدة طولى.(5/409)
724 - الشيخ موسى اللاني (1) المتوفى سنة 930
موسى بن الحسن الكردي من طائفة اللان بالنون (ناحية)، الشافعي، نزيل حلب، شيخنا في علم البلاغة.
اشتغل في العلم في مراغة وغيرها على جماعة منهم منلا محمد المشهور ببير قلعي محشي الخبيصي وغيره والشمس البازلي نزيل حماة، ومنهم منلا محمد إسماعيل الشرواني أحد مريدي خوجه عبيد نقش بندي فإنه أخذ عنه بمكة «تفسير البيضاوي»، ومنهم الشهاب أحمد بن كلف، فإنه أخذ عنه بأنطاكية «شرح التجريد» مع حاشيته و «متن الجغميني» في الهيئة.
ثم قدم حلب وأكب على المطالعة ونسخ الكتب العلمية لنفسه والتدريس بزاوية الشيخ عبد الكريم الخافي بها، مع كثيرة الصيام والقيام والزهد والسخاء والصبر على الطلب وسلوك طريق من لا يخاف في الله لومة لائم.
توفي مطعونا في شعبان سنة ثلاثين وتسعمائة ودفن بتربة أولاد ملوك خارج باب قنسرين بعد أن ماتت زوجته من قبله وغسلها بيده على قاعدة مذهبه. وفي الليلة المسفر صباحها عن يوم دفنه رأى شخص في المنام من يكنس داخل باب قنسرين، فسأله: لم ذلك؟
فقال: لأجل جنازة الشيخ أو نحو ذلك. وكان عند الشيخ ثوب غليظ من الخام، فلما مات وقع الرأي على تكفينه فيه مع بذل جماعة من معتقديه أكفانا نفيسة له يوم الدفن رحمنا الله وإياه.
725 - أمين الدين الشيخ جبريل الكردي المتوفى سنة 930
جبريل بن أحمد بن إسماعيل الشيخ أمين الدين أبو الوحي الكردي ثم الحلبي الشافعي.
كان أحد المدرسين والمفتين بها، وكان له القدم الراسخة في الفقه والكتابة الحسنة المعربة على رقعة الفتوى، إلا أن البدر السيوفي كان يغض منه ويسميه جبريل الأرض، بل كان يغض من فضلاء الأكراد ويقول: اكردوهم إلى الجبال، تلميحا إلى ما ذكره صاحب «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون» في ترجمة الضحاك بن الأهبوب بن
__________
(1) في «در الحبب»: الآلاني.(5/410)
عويح بن طهمورث بن آدم وكان زمنه بعد الطوفان، قال: كان على كتفه سلعتان يحركهما إذا شاء، فادعى أنهما حيتان يهول بهما وذكر أنهما يضربان عليه فلا يسكنان حتى يطليهما بدماغي إنسانين يذبحان له كل يوم، وكان له وزير صالح فكان يستحيي أحدهما ويضع مكان دماغه دماغ كبش ويأمر الرجل باللحوق بالجبال ولا يأوي الأمصار، قال: فيقال إن الأكراد من تلك القوم لكردهم إلى الجبال، انتهى كلامه.
وكان يذكر مثل ما يذكره الثعلبي في قصص الأنبياء من أن الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار كردي اسمه هبرن ونحو ذلك مما فيه شناعة على الأكراد، وبئس الصنيع هذا التشنيع، لا سيما مع مرافقة الشيخ أمين الدين للبدري في الأخذ عن بعض الشيوخ، فقد وجدت بخط البدر أنه سمع على السيد علاء الدين محمد بن السيد عفيف الدين محمد ابن السيد نور الدين الإيجي بالحلاوية بحلب سنة سبعين وثمانمائة الحديثين الأولين من «صحيح البخاري» وجميع ثلاثياته وجميع «جمع الجوامع في الأحاديث» جمع المستمع وجميع العشرة العشارية لحافظ الإسلام ابن حجر بسماع المستمع لها من لفظ مؤلفها وثلاثيات الدارمي وثلاثيات ابن ماجه بروايته عن ابن حجر وغيره، وأن السيد علاء الدين أجاز له وللشيخ أمين الدين جميع ما يجوز له وعنه روايته متلفظا بذلك بقراءة البدر.
وممن أخذ عنه الشيخ أمين الدين الكمال محمد بن الناسخ أخذ عنه جميع صحيح البخاري ومسلم بحق قراءته لهما على الحافظ برهان الدين الحلبي وكتب له إجازة صدرها بعد البسملة بقوله: الحمد لله الذي جعل سيدنا محمدا في السماء وفي الأرض أمينا، وأنجز له ما وعده من الفتح على لسان جبريل فقال: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (1).
وكان الشيخ أمين الدين ديّنا خيرا متواضعا ترابيا حتى لف المئزر على رأسه في آخر عمره، وكان مشغولا بإشغال الطلبة في الفقه والعربية وغيرهما. وكان له تردد إلى منزل عمي نظام الدين الحنبلي لأخذ صحيح مسلم عنه، فورد يوما إليه ليقرأه عليه فإذا عنده بعض المخاديم في محل خلوة، فخرج إليه ظريف منهم وهو يقول: إن جبريل لم يهبط إلى الأرض بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ففطن أن المحل غير قابل للقراءة عليه فذهب من ساعته.
__________
(1) الفتح: 1.(5/411)
توفي رحمه الله سنة ثلاثين ودفن بمقبرة الخراساني خارج باب الفرج رحمنا الله وإياه.
726 - حسن بن أحمد الخياط الصوفي المتوفى سنة 930
حسن بن أحمد الصوفي الوفائي الخياط الحلبي من زقاق الكّلاسة بحلب، وهو غير محلة الكلّاسة بحلب.
كان رجلا أسمر اللون مسترسل شعر الرأس، له مدلوكة من صوف أسود وعمامة سوداء وعباءة يلبسها سوداء. ولم يزل على التقشف وخشونة الملبس وتعاني الذكر مع مريديه في مسجد بقرب داره ومذاكرة بعض الأخوان في طريق القوم بجامع البختي سالكا كأبيه طريقة سيدي علي بن أبي الوفا رضي الله تعالى عنه متعاطيا صنعة الخياطة، والمحبون له يترددون إلى حانوته، وكثيرا ما كان يخيط لنا فنتبرك به إلى أن توفي تقريبا سنة ثلاثين ودفن بالقبة التي أنشأها أبوه بأرنبيا خارج حلب.
727 - خديجة بنت البيلوني المتوفاة سنة 930
خديجة بنت الشمس محمد بن الحسن البابي المشهور بابن البيلوني الشيخة الصالحة القارئة الكاتبة المتفقهة الحنفية.
أجاز لها رواية البخاري الكمال ابن الناسخ وغيره، ولحفظ طهارتها عن الانتقاض بما عسى أن يحدث من مس الزوج لها تركت مذهب والدها واختارت مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فحفظت فيه كتابا لتراعي به سائر مذهبه.
ولم تبرح على ديانتها وصيانتها وعبادتها إلى أن توفيت في رمضان سنة ثلاثين.
728 - أبو بكر بن محمد الحيشي المتوفى سنة 930
أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن نصر بن عمر الشيخ تقي الدين الحيشي الأصل الحلبي الشافعي البسطامي المعروف بابن الحيشي.
أدركته وقد عمر وعلى رأسه تاج البسطامية وفي وجهه نور السادة الصوفية. وحدثني
ووالدي بالحديث المسلسل بالأولية بقاعة سكنه الملاصقة لدار القراءة العشائرية المعروفة الآن بالحيشية، وأجاز لي وله جميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه. وسمعته يقرأ الحديث مرارا على الكرسي الموضوع لدى شباك الدار المذكورة المطل على الجامع الأعظم.(5/412)
أدركته وقد عمر وعلى رأسه تاج البسطامية وفي وجهه نور السادة الصوفية. وحدثني
ووالدي بالحديث المسلسل بالأولية بقاعة سكنه الملاصقة لدار القراءة العشائرية المعروفة الآن بالحيشية، وأجاز لي وله جميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه. وسمعته يقرأ الحديث مرارا على الكرسي الموضوع لدى شباك الدار المذكورة المطل على الجامع الأعظم.
وقد ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» فقال بعد أن لقبه بالشرف: ولد في مستهل جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وثمانمائة بحلب ونشأ بها فلازم والده في التسلك، وقرأ وسمع على أبي ذر ابن البرهان الحافظ وتدرب به في كثير من المبهمات والغريب والرجال، بل وتفقه به وبالشمس البابي إمام جامع الكبير بحلب وأبي عبد الله بن القيم وإبراهيم الضعيف، وكذا على العلاء ابن السيد عفيف الدين حسين وزاد عليهم في آخرين، بل ذكر لي أن شيخنا (يريد به الحافظ ابن حجر العسقلاني) والعلم البلقيني والزين عبد الرحمن بن داود أجازوا له في بعض الاستدعاءات في آخرين ممن أخذ عنهم الفقه والحديث.
وخلف والده في المشيخة بحلب وصارت له وجاهة.
وزار بيت المقدس، ولقيني بمكة في سنتي ست وثمانين والتي بعدها فلازمني حتى حمل عني أشياء من مروياتي ومصنفاتي وكتب بخطه منها جملة واغتبط بذلك، وكتبت له إجازة أشرت لمقاصدها في الكبير. ونعم الرجل أدبا وفهما وسمتا وتواضعا واشتغالا بنفسه وإقبالا على الخير وتعففا وعفة. انتهى كلامه.
وتلاه الزين الشماع فقال: وسمع ثلاثيات البخاري على المسند المعمر برهان الدين ابن العفيف الحلبي ورأيت خطه، وسمع عليه أيضا تسعة أحاديث من الأربعين النووية، وسمع كتاب الشمائل جميعه على مسند الدنيا أبي عبد الله محمد بن مقبل الحلبي بها وكتب له خطة بالإجازة، وقد استوهبت خطه بذلك مع خط البرهان بن العفيف من شيخنا صاحب الترجمة فوهب لي ذلك مع جملة من المؤلفات، وقد أودعت ما ذكر من خطي ابن مقبل وابن الضعيف في ثبتي تبركا بخطهما وحفظهما. وكذلك سمع المسلسل بالأولية على المسندة أم محمد زينب الشويكية، وانفرد بالرواية عنهم بحلب بل انفرد بالسماع على ابن مقبل مطلقا فلا يشاركه فيه أحد بحلب ولا بدمشق ولا بالقاهرة ولا بمكة المشرفة فيما حررته. انتهى بحروفه.
ولم أر واحدا من السخاوي والزين رفع نسبه فوق ما ذكر، ثم ظفرت بخطه فإذا
هو قد رفع نسبه إلى زيد الخيل الذي غير اسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد الخير فقال: أبو بكر بن محمد بن أبي بكر الحيشي بن نصر بن عمر بن هلال بن معدي كرب ابن زيد بن أبي يزيد بن عشائر بن عشلة بن أحمد بن أبي الكرم بن عبد الله بن عبد الغفار ابن مهلهل بن عروة بن عمرو بن معدي كرب بن زيد الخير الطائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/413)
ولم أر واحدا من السخاوي والزين رفع نسبه فوق ما ذكر، ثم ظفرت بخطه فإذا
هو قد رفع نسبه إلى زيد الخيل الذي غير اسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد الخير فقال: أبو بكر بن محمد بن أبي بكر الحيشي بن نصر بن عمر بن هلال بن معدي كرب ابن زيد بن أبي يزيد بن عشائر بن عشلة بن أحمد بن أبي الكرم بن عبد الله بن عبد الغفار ابن مهلهل بن عروة بن عمرو بن معدي كرب بن زيد الخير الطائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت وفاته في العشر الأول من رجب سنة ثلاثين رحمنا الله تعالى وإياه.
729 - عبد الرحمن بن فخر النساء شيخ الرضي الحنبلي المتوفى سنة 930
عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد الله الشيخ زين الدين أبو الفرج بن الشمس ابن الجمال الكلسي الأصل الحلبي الحنفي سبط الفخر الرومي شيخنا المعروف بابن فخر النساء.
قال السخاوي في ضوئه: ولد بعد الستين والثمانمائة بحلب، ولقيني بمكة فذكر لي أن والده كان مدرسا عالما مفيدا، وأن جده كان مقرئا، وأنه هو اشتغل على زوج أمه، وكذا اشتغل بمكة حين مجاورته في النحو والصرف على بعض الشيرازيين. ولازمني حتى حمل عني الكثير وكتبت له إجازة أشرت لها في الكبير، ولم يتعرض لتاريخ وفاته لأنه مات قبله. وقد ظفرت بصورة الإجازة المذكورة بخط المجيز، ومن مضمونها أنه كلّسي الأصل، هكذا بكسر الكاف واللام المشددة معا، وأنه سمع من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وحديث زهير بن صرد أخذ ما عنده من «العشاريات العلية والبلدانيات العليات» له و «الجواهر المكللة في الأخبار المرسلة» له، وسمع بقراءة غيره من تصانيفه أيضا «القول البديع في الصلاة على الشفيع» والكثير من شرح ألفية العراقي وجميع «القول التام في فضل الرمي بالسهام» و «القول النافع وعمدة القارىء والسامع في ختم صحيح البخاري الجامع» و «تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان»، ومن تصانيف غيره البخاري وجل مسلم وغير ذلك، وأنه أجاز رواية ذلك عنه مع جميع مروياته ومؤلفاته. قال: وكان ذلك في مجالس آخرها في ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانمائة. وفي هذه السنة أجازت له زينب الشويكية رواية ما سمعه عليها بمكة بقراءة أحمد بن سليمان بن محمد الحوراني ثم الغزي الحنفي نزيل مكة من سنن ابن ماجه من باب صفة الجنة والنار إلى آخر الكتاب ومن أوله
إلى الباب الأول منه مع ثلاثياته ثم ثلاثيات البخاري، وأذنت له في رواية سائر مروياتها بسؤله في ذلك كما وجدته بخط القاري المذكور. وبهذا ظهر صدق قول شيخنا الزين الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» بعد ذكره شيخنا صاحب الترجمة: وقد ذكر أنه سمع على المسندة الجليلة زينب الشويكية، وهو ممكن فقد جاور بمكة وكانت بها وهو ثقة في أخباره.(5/414)
قال السخاوي في ضوئه: ولد بعد الستين والثمانمائة بحلب، ولقيني بمكة فذكر لي أن والده كان مدرسا عالما مفيدا، وأن جده كان مقرئا، وأنه هو اشتغل على زوج أمه، وكذا اشتغل بمكة حين مجاورته في النحو والصرف على بعض الشيرازيين. ولازمني حتى حمل عني الكثير وكتبت له إجازة أشرت لها في الكبير، ولم يتعرض لتاريخ وفاته لأنه مات قبله. وقد ظفرت بصورة الإجازة المذكورة بخط المجيز، ومن مضمونها أنه كلّسي الأصل، هكذا بكسر الكاف واللام المشددة معا، وأنه سمع من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وحديث زهير بن صرد أخذ ما عنده من «العشاريات العلية والبلدانيات العليات» له و «الجواهر المكللة في الأخبار المرسلة» له، وسمع بقراءة غيره من تصانيفه أيضا «القول البديع في الصلاة على الشفيع» والكثير من شرح ألفية العراقي وجميع «القول التام في فضل الرمي بالسهام» و «القول النافع وعمدة القارىء والسامع في ختم صحيح البخاري الجامع» و «تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان»، ومن تصانيف غيره البخاري وجل مسلم وغير ذلك، وأنه أجاز رواية ذلك عنه مع جميع مروياته ومؤلفاته. قال: وكان ذلك في مجالس آخرها في ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانمائة. وفي هذه السنة أجازت له زينب الشويكية رواية ما سمعه عليها بمكة بقراءة أحمد بن سليمان بن محمد الحوراني ثم الغزي الحنفي نزيل مكة من سنن ابن ماجه من باب صفة الجنة والنار إلى آخر الكتاب ومن أوله
إلى الباب الأول منه مع ثلاثياته ثم ثلاثيات البخاري، وأذنت له في رواية سائر مروياتها بسؤله في ذلك كما وجدته بخط القاري المذكور. وبهذا ظهر صدق قول شيخنا الزين الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» بعد ذكره شيخنا صاحب الترجمة: وقد ذكر أنه سمع على المسندة الجليلة زينب الشويكية، وهو ممكن فقد جاور بمكة وكانت بها وهو ثقة في أخباره.
وفي سنة خمس وتسعين أذن له بالإفتاء والتدريس الشمس البازلي بحماة وأجاز له أن يروي عنه ما صح له أنه من روايته ومسموعاته ومقروءاته ومستجازاته، ونعته بالإمام العالم العلامة الجامع بين المعقول والمنقول المتبحر في الأصول والفروع، ووصفه بأنه بحر لا يخاض وإمام في فنون هو فيها مرتاض.
وفي عام ست وتسعين أذن له العلامة محمد بن محمد الطرابلسي الحنفي في التدريس في سائر العلوم الشرعية بعد أن قرأ عليه في تنقيح الأصول. وفي سنة خمس وتسعمائة أذن له الكمال ابن أبي شريف المقدسي أن يروي عنه كتابه «المسامرة بشرح المسايرة» وسائر مؤلفاته وما تجوز له وعنه روايته بشرطه بعد أن قرأ عليه من كتابه هذا شيئا من مبحث التوحيد. وفي سنة سبع أجاز له الحافظ الديمي جميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه من الموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني وغيره من القدوري والمختار والكنز والمنار ومجمع البحرين بحق رواية الحافظ الديمي بها عن الحافظ ابن حجر بأسانيده المعروفة بعد أن سمع عليه بقراءة غيره بعضا من هذه الكتب سوى الموطأ.
وقد تفقهت أنا ولله الحمد على شيخنا صاحب الترجمة قراءة وسمعت عليه سماع دراية جانبا من شرح الشافية للجاربردي وجانبا من شرح الكافية للهندي بقراءة البرهان الصيرفي الأريحاوي وقطعة من صدر الشريعة بقراءة الشمس محمد بن طاس بصتي، وكان الشيخ قد قرأه على العلاء قل درويش الخوارزمي مع أنه في غير مذهبه إذ هو من جملة شيوخه بحلب كالشهاب أحمد التونسي المعروف بشقير، فإنه من شيوخه بمصر فيما بلغني.
توفي شيخنا بحلب في ذي الحجة سنة ثلاثين ودفن بالقرب من مزار الشيخ يبرق.
وكان رحمه الله تعالى قصير القامة نحيفا لطيف الجثة حسن المفاكهة كثير الملاطفة سخيا نخيا أصيلا عريقا، سمعته يقول: إن له نسبة إلى أبي البركات النسفي صاحب المنار والكنز وغيرهما. وكان له إلمام بالفارسية كالتركية واعتناء بالتنزهات والخروج إلى البساتين مع الديانة والصيانة.(5/415)
ولي في مدحه أبيات مطلعها:
كلامك أحلى من سواه وأعذب ... وتقريرك الشافي ألذ وأطيب
وكان يدرس بجامع الحدادين بحلب، ثم ولي تدريس الجاولية في الدولة الرومية فصار يدرس بها رحمه الله تعالى وإيانا.
730 - قاسم البيري الصابوني المتوفى سنة 930
قاسم بن محمود القاضي شرف الدين البيري الأصل الحلبي الدار الشافعي المعروف بابن الصابوني.
ولي نيابة القضاء بمحكمة قاضي القضاة عز الدين محمد المشهور بابن الحسفاوي وغيره وجعل توقيعه: الحمد لله قاسم الأرزاق، فاتفق أن ناقشه بعض أعدائه في ذلك قائلا:
إن وجه التورية ههنا كفر.
وأخبر ولده الشمس محمد أنه ولي قديما قضاء البيرة استقلالا، وكذا قضاء بيت المقدس ثلاث سنين لما أن كافله يومئذ من مماليك القاضي شرف الدين، فباعه لسلطان الوقت فترقى عنده إلى أن صار كافل بيت المقدس، فجذب سيده القديم إليه شكرا لنعمته القديمة عليه. توفي القاضي شرف الدين سنة ثلاثين وتسعمائة وكان قد سقط كثير من أسنانه فجمعها عنده في خرقة وأوصى أن تدفن معه.
وكان رحمه الله تعالى رئيسا سخيا يحفظ أخبار الناس وتواريخهم ويحب والدنا ويحبه والدنا ويبسطه بالكلام. ولما قدم حلب المقر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية في ركاب السلطان الغوري سأل عن القاضي شرف الدين لأنه كان من خلانه في آخرين من الأكابر، فقيل له: إنه قل ما بيده واستقر أمينا بمصبنة مجاورة لمنزله، فطلب من بعض المخاديم أن يحضره إليه ليجري إنعامه العامة عليه، فسأله عن الحضور فعزت نفسه عن الحضور فلم يتوجه إليه.
731 - أبو بكر بن محمود المعري قاضي القضاة المتوفى سنة 931
أبو بكر بن محمود قاضي القضاة، تقي الدين المعري، الحموي الأصل، ثم الحلبي الشافعي، الشهير بابن المعري.(5/416)
توفي بحلب سنة إحدى وثلاثين وكان في الدولة الجركسية قاضيا بحماة، ثم تحاشى عن منصب القضاء واختار العزلة ليكون العز له، فبقي بها إلى أن كانت الدولة العثمانية فهاجر إلى حلب ومكث بها على حشمته ورياسته وأبهته وجلالته بحيث لا يخرج من منزله بسويقة حاتم إلا للصلاة بالجامع الأعظم. وكان إذا جاء لصلاة جمعة أو عيد جاء هو وولداه قاضي القضاة نور الدين والمقر البدري بدر الدين ومن معهم من الأتباع على أسلوب الأكابر في المسير حيث يتقدم هو، ثم يتلوه ولده الأول ثم الثاني ثم الأتباع، وفي الجلوس على السجادات بترتيبهم ذلك. ومع ذلك فلم يسلم هو وولداه عند اجتماعهم من قول بعض أعاديهم: انظروا هذا أقضى القضاة وذلك قاضي القضاة وذلك شيخ الإسلام، وهذا منه مبني على الفرق الذي كان في الدولة الجركسية بجعل أقضى القضاة لمن كان نائبا في القضاء وقاضي القضاة لمن كان مستقلا به بناء على أن قاضي القضاة أرفع من أقضى القضاة خلافا للزمخشري فإنه عكس حيث قال في قوله تعالى في هود {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحََاكِمِينَ} (1) أي أعلم الحكام وأعدلهم، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعدل والعلم. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين، أي والحال أن معناه ذلك.
وقد صرح الفاضل ناصر الدين أحمد المالكي في كتابه «الانتصاف من الكشاف» بأن العكس رأيه، قال: والذي يلاحظونه الآن أن القضاة يشاركون أقضاهم في الوصف وإن فضل عليهم فترفعوا أن يشركهم أحد فأفردوا رئيسهم بنعته بقاضي القضاة أي هو الذي يقضي بين القضاة لا يشاركه أحد في وصفه، وجعلوا أقضى القضاة يليه في الرتبة.
قال: وقد أطلق على عليّ أقضى القضاة فلا حرج أن يطلق على أعدل قضاة الزمان وأجلهم وأعلمهم قاضي القضاة وأقضى القضاة أي في زمنه وبلدته. وأنشدوا:
وكل قرن ناجم في زمن ... فهو شبيه زمن فيه بدا
وعلى هذا الذي قاله فلعل عليا رضي الله عنه هو أول من لقب أقضى القضاة، كما أن القاضي أبا يوسف صاحب الإمام الأعظم هو أول من لقب قاضي القضاة على ما هو مسطور في بعض كتب التاريخ.
__________
(1) هود: 45.(5/417)
732 - شرف الدين بن علي بن حمزة المتوفى سنة 932
شرف الدين بن علي بن حمزة الحلبي المشهور بابن شيخ سوق الدهشة.
كان من أعيان التجار بحلب من بيت متهم بالتشيع، إلا أني سمعت الشيخ الصالح أبا بكر ابن الحصنية وكان مقربا عنده شهد ببراءته والله أعلم بما كان في ضميره.
وكانت له حظوة عند خير بك كافل حلب بعد أن آذاه بواسطة أنه كان قدم من الحجاز ومعه عبدان صغيران فلم يشعر وهو بحانوته إلا وقد قيل له: إن أحدهما قد شنق داخل باب دارك، فعلم أن بعض عداه هو الذي فعل ذلك، فذهب من ساعته إلى خير بك وأخبره فقال له: أنت تشنق بيدك كأنما بحلب كافلان، فاعتذر ومضى ما مضى. ثم دخلت داره من غير شعوره امرأة متهمة فأرسل وراءه وأغلظ له القول وسلمه إلى دواداره فضربه وأضرّبه، فلما أطلقه ذهب إلى دمشق فندم خير بك وأراد أن يتلافى خاطره فطلب حضوره فأبى وعزم على التوجه إلى مكة، فحمّ ثم عوفي فعزم فحمّ أيضا، فذهب إلى شيخ له بدمشق كان يقرأ عليه في مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه كان يذكر أنه حنفي، فاستشاره وقص له القصة فأمره بالسفر إلى حلب بنية زيارة أمه، فنواها وعزم فتيسر له السفر إليها، فقدمها واتصل بخير بك جدا حتى جعله ناظرا على دواوينه في ضبط مصارف خانه الأعظم، ولما آل أمره إلى إمارة القاهرة وكفالتها في الدولة الرومية تولى بعنايته شاه بندر جدة، ثم عزل ودخل مصر فصادره أحمد باشا كافلها لما عصى على المقام الشريف، وصادر التجار وأخذ منه ما قيمته عشرون ألف قبرصي، ثم عاد إلى مكة وتوفي بها سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالمعلاة.
733 - عبد الله بن أحمد الإسحاقي المتوفى سنة 932
عبد الله بن أحمد القاضي شرف الدين ابن القاضي شهاب الدين الحسيني الإسحاقي الشافعي خالي المتقدم ذكر والده حسبا ونسبا.
كان جوادا فياضا كوالده، وولي قضاء الفوعة فلم يكن محظوظا من أهلها كأبيه لتشيع فيهم، وكان في أوان قضائه بها في الدولة الجركسية مقربا معظما عند خير بك كافل حلب، ولم يكن قضاؤه بها كأبيه نيابة فقد كان لها في تلك الدولة قاض مستقل حتى كأن قاضيها
استقلالا القاضي عماد الدين إسماعيل بن الزيرباج الفوعي الشافعي الشاعر صاحب الديوان المشهور، وكان ينسب إلى التشيع على ما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه عند ذكر وفاته سنة خمس وخمسين وثمانمائة.(5/418)
كان جوادا فياضا كوالده، وولي قضاء الفوعة فلم يكن محظوظا من أهلها كأبيه لتشيع فيهم، وكان في أوان قضائه بها في الدولة الجركسية مقربا معظما عند خير بك كافل حلب، ولم يكن قضاؤه بها كأبيه نيابة فقد كان لها في تلك الدولة قاض مستقل حتى كأن قاضيها
استقلالا القاضي عماد الدين إسماعيل بن الزيرباج الفوعي الشافعي الشاعر صاحب الديوان المشهور، وكان ينسب إلى التشيع على ما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه عند ذكر وفاته سنة خمس وخمسين وثمانمائة.
توفي خالي القاضي شرف الدين بالقاهرة دون بلدته حلب سنة اثنتين وثلاثين.
734 - علي بن عبد الله العشاري المتوفى سنة 932
علي بن عبد الله القاضي علاء الدين العشاري نسبة إلى عشارة بضم العين المهملة، بلدة قريبة من الدير، الحلبي الشافعي المعروف بابن القطان.
ولي قضاء عزاز وكذا سرمين من قبل قاضي الشافعية بحلب عز الدين أبي البقاء محمد ابن إبراهيم الحسفائي الشافعي، ووقع بمحكمة عمي الكمال الشافعي سنين متعددة، وناب عنه في أواخر الدولة الجركسية، وله فيه مدائح كثيرة منها:
مولاي عبدك في هم وفي قلق ... صفر اليدين بلا ورق ولا ورق
واهي المعيشة في ضيق وفي نكد ... وسوء حال من الإفلاس والحرق
لا مال في يده والفقر أوهنه ... وأنت منقذه من لجة الغرق
أخبار جودك قد جاءت مسلسلة ... صحت روايتها من سائر الطرق
نلت المعالي بفعل المكرمات وها ... روايح المسك لا تخفى لمنتشق
أنت الجواد الذي أضحت مكارمه ... كالغيث هلّ فعم الناس مندفق
قاض غدا جوده كالبحر فاض ندى ... ودام وافره كالصيّب الغدق
أقلامه الخضر بالإحسان مثمرة ... من كفه قد جرت بالسعد في الورق
ضاءت بمنصبه الشهباء وهو بها ... لنصرة الحق لا وان ولا قلق
يؤمه العاجز الملهوف ينجده ... نعم ويخرجه من أضيق الطرق
أب اليتيم وللمحتاج نعم أخ ... وللغريب معين والضعيف يقي
له السيادة في الدنيا مؤيدة ... على الدوام مدى الأيام في نسق
قاضي القضاة رقى بالمجد منزلة ... تعلو على الدهر والأفلاك والأفق
ضاهاك بدر الدجى عند الكمال وها ... أنت الكمال بحسن الخلق والخلق
إليك تأتي أمور الناس قاطبة ... عرب وروم وأعجام من الفرق
هل أنت غرة هذا الدهر واحده ... فريد في عصره مسعود غير شقي
كافي المهمات حاوي الفضل كنز تقى ... مصباح بهجته كالبدر في الغسق
مهذب العقل مغني الراغبين أتى ... تصحيح ألفاظه كالدر في نسق
أما ومكة والأقصى وخيف منى ... وسورة النور والأعراف والفلق
لقد سما لك ذكر طيّب وثنا ... تضوع كالمسك أو كالعنبر العبق
أوضحت بالحق منهاجا لطالبه ... ومنهج العدل والإرشاد للفرق
لك اليراع إذا ما اهتز في ورق ... رأيت بحر الندى قد فاض بالورق
دامت لياليك في أمن وفي خفر ... ونجم سعدك وهّاج على الشفق
يا من به حلب أحوالها صلحت ... وبات ساكنها بالأمن من فرق
نوال كفيك مبسوط ومتصل ... يا كامل الفضل كم مدّيت من رمق
أنت الإمام كمال الدين من كملت ... أوصافه الغر لا تحصى من الورق
لله درك يا مولاي من رجل ... لسانه ناطق بالحق منطلق
شاد المعالي وساد الأقدمين وقد ... زهت مناقبه كالزهر حين سقي
أبقاه مولاه في الدنيا لنا سندا ... حتى نعيش به في أطيب العبق
فمن يكن بكمال الدين متثقا ... بعد الإله فلا يخشى من الغرق
عين الوجود ورأس الناس في حلب ... كهف المساكين شيخ المسلمين تقي
يقوم بالليل والقرآن يسرده ... بالفكر والذكر والتدبير في الغسق
خال من الغش ذو نصح وصدق وفا ... وسيرة ظهرت في أحسن الطرق
دارت بسعدك أفلاك السعود وقد ... علوت قدرا وإجلالا على الأفق
مات العدو وقد شقت مرارته ... وكبده ذاب من غيظ ومن حنق
هلّت مدامعه كالسحب من حسد ... وبات في قلق من شدة الأرق
عليل مسقوم في ذل وفي حزن ... وقلبه من أليم الحقد في حرق
لا زلت ترقى على الأفلاك مرتفعا ... أوج المعالي فلا تخشى من الزلق
يهدى برأيك أصحاب العقول كما ... يهدى المضل بسير النجم في الطرق
أوليتني نعما قلّدتني مننا ... ألبستني خلعا تغلو على الوشق
بادر لعبدك يا مولاي والحظه ... وانظر إليه وأنقذه من الأرق
نفعته دائما في كل واقعة ... لولاك كان زري الحال في خلق
اختم بخير وكمل ما سمحت به ... يا من فضائله كالعقد في العنق
لخصت مدحك يا مولاي مختصرا ... في نبذة من قريض الشعر في نسق
قصيدة قد وهت في النظم سافلة ... لكن بكم قد علت قدرا على الشفق
طرازها مدح مولانا وحلّتها ... من فاخر المدح لا سحا من البثق
أتت لبابك تسعى وهي في خجل ... ترجو القبول بعين القلب والحدق
نفيسة المدح من بحر البسيط أتت ... بكر تزف بلا عيب ولا رتق
إن ردت تعرف ممدوحا ومادحه ... فاجمع أوائل بيت النظم في نسق
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ما غنت الورق فوق الأيك في الورق
والآل والصحب والأتباع كلهم ... ما انهل غيث على البطحاء مندفق
وكان القاضي علاء الدين في بداية أمره أحد عدول حلب بمكتب الزرد كاشية عارفا بصنعة الشروط سريع الكتابة، ربما حفي قلمه فقطّه بسنه وكتب به خطا حسنا. وكان له اشتغال في العلم على الجلال النصيبي وحرص على اقتناء الكتب النفيسة.(5/419)
مولاي عبدك في هم وفي قلق ... صفر اليدين بلا ورق ولا ورق
واهي المعيشة في ضيق وفي نكد ... وسوء حال من الإفلاس والحرق
لا مال في يده والفقر أوهنه ... وأنت منقذه من لجة الغرق
أخبار جودك قد جاءت مسلسلة ... صحت روايتها من سائر الطرق
نلت المعالي بفعل المكرمات وها ... روايح المسك لا تخفى لمنتشق
أنت الجواد الذي أضحت مكارمه ... كالغيث هلّ فعم الناس مندفق
قاض غدا جوده كالبحر فاض ندى ... ودام وافره كالصيّب الغدق
أقلامه الخضر بالإحسان مثمرة ... من كفه قد جرت بالسعد في الورق
ضاءت بمنصبه الشهباء وهو بها ... لنصرة الحق لا وان ولا قلق
يؤمه العاجز الملهوف ينجده ... نعم ويخرجه من أضيق الطرق
أب اليتيم وللمحتاج نعم أخ ... وللغريب معين والضعيف يقي
له السيادة في الدنيا مؤيدة ... على الدوام مدى الأيام في نسق
قاضي القضاة رقى بالمجد منزلة ... تعلو على الدهر والأفلاك والأفق
ضاهاك بدر الدجى عند الكمال وها ... أنت الكمال بحسن الخلق والخلق
إليك تأتي أمور الناس قاطبة ... عرب وروم وأعجام من الفرق
هل أنت غرة هذا الدهر واحده ... فريد في عصره مسعود غير شقي
كافي المهمات حاوي الفضل كنز تقى ... مصباح بهجته كالبدر في الغسق
مهذب العقل مغني الراغبين أتى ... تصحيح ألفاظه كالدر في نسق
أما ومكة والأقصى وخيف منى ... وسورة النور والأعراف والفلق
لقد سما لك ذكر طيّب وثنا ... تضوع كالمسك أو كالعنبر العبق
أوضحت بالحق منهاجا لطالبه ... ومنهج العدل والإرشاد للفرق
لك اليراع إذا ما اهتز في ورق ... رأيت بحر الندى قد فاض بالورق
دامت لياليك في أمن وفي خفر ... ونجم سعدك وهّاج على الشفق
يا من به حلب أحوالها صلحت ... وبات ساكنها بالأمن من فرق
نوال كفيك مبسوط ومتصل ... يا كامل الفضل كم مدّيت من رمق
أنت الإمام كمال الدين من كملت ... أوصافه الغر لا تحصى من الورق
لله درك يا مولاي من رجل ... لسانه ناطق بالحق منطلق
شاد المعالي وساد الأقدمين وقد ... زهت مناقبه كالزهر حين سقي
أبقاه مولاه في الدنيا لنا سندا ... حتى نعيش به في أطيب العبق
فمن يكن بكمال الدين متثقا ... بعد الإله فلا يخشى من الغرق
عين الوجود ورأس الناس في حلب ... كهف المساكين شيخ المسلمين تقي
يقوم بالليل والقرآن يسرده ... بالفكر والذكر والتدبير في الغسق
خال من الغش ذو نصح وصدق وفا ... وسيرة ظهرت في أحسن الطرق
دارت بسعدك أفلاك السعود وقد ... علوت قدرا وإجلالا على الأفق
مات العدو وقد شقت مرارته ... وكبده ذاب من غيظ ومن حنق
هلّت مدامعه كالسحب من حسد ... وبات في قلق من شدة الأرق
عليل مسقوم في ذل وفي حزن ... وقلبه من أليم الحقد في حرق
لا زلت ترقى على الأفلاك مرتفعا ... أوج المعالي فلا تخشى من الزلق
يهدى برأيك أصحاب العقول كما ... يهدى المضل بسير النجم في الطرق
أوليتني نعما قلّدتني مننا ... ألبستني خلعا تغلو على الوشق
بادر لعبدك يا مولاي والحظه ... وانظر إليه وأنقذه من الأرق
نفعته دائما في كل واقعة ... لولاك كان زري الحال في خلق
اختم بخير وكمل ما سمحت به ... يا من فضائله كالعقد في العنق
لخصت مدحك يا مولاي مختصرا ... في نبذة من قريض الشعر في نسق
قصيدة قد وهت في النظم سافلة ... لكن بكم قد علت قدرا على الشفق
طرازها مدح مولانا وحلّتها ... من فاخر المدح لا سحا من البثق
أتت لبابك تسعى وهي في خجل ... ترجو القبول بعين القلب والحدق
نفيسة المدح من بحر البسيط أتت ... بكر تزف بلا عيب ولا رتق
إن ردت تعرف ممدوحا ومادحه ... فاجمع أوائل بيت النظم في نسق
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ما غنت الورق فوق الأيك في الورق
والآل والصحب والأتباع كلهم ... ما انهل غيث على البطحاء مندفق
وكان القاضي علاء الدين في بداية أمره أحد عدول حلب بمكتب الزرد كاشية عارفا بصنعة الشروط سريع الكتابة، ربما حفي قلمه فقطّه بسنه وكتب به خطا حسنا. وكان له اشتغال في العلم على الجلال النصيبي وحرص على اقتناء الكتب النفيسة.(5/420)
مولاي عبدك في هم وفي قلق ... صفر اليدين بلا ورق ولا ورق
واهي المعيشة في ضيق وفي نكد ... وسوء حال من الإفلاس والحرق
لا مال في يده والفقر أوهنه ... وأنت منقذه من لجة الغرق
أخبار جودك قد جاءت مسلسلة ... صحت روايتها من سائر الطرق
نلت المعالي بفعل المكرمات وها ... روايح المسك لا تخفى لمنتشق
أنت الجواد الذي أضحت مكارمه ... كالغيث هلّ فعم الناس مندفق
قاض غدا جوده كالبحر فاض ندى ... ودام وافره كالصيّب الغدق
أقلامه الخضر بالإحسان مثمرة ... من كفه قد جرت بالسعد في الورق
ضاءت بمنصبه الشهباء وهو بها ... لنصرة الحق لا وان ولا قلق
يؤمه العاجز الملهوف ينجده ... نعم ويخرجه من أضيق الطرق
أب اليتيم وللمحتاج نعم أخ ... وللغريب معين والضعيف يقي
له السيادة في الدنيا مؤيدة ... على الدوام مدى الأيام في نسق
قاضي القضاة رقى بالمجد منزلة ... تعلو على الدهر والأفلاك والأفق
ضاهاك بدر الدجى عند الكمال وها ... أنت الكمال بحسن الخلق والخلق
إليك تأتي أمور الناس قاطبة ... عرب وروم وأعجام من الفرق
هل أنت غرة هذا الدهر واحده ... فريد في عصره مسعود غير شقي
كافي المهمات حاوي الفضل كنز تقى ... مصباح بهجته كالبدر في الغسق
مهذب العقل مغني الراغبين أتى ... تصحيح ألفاظه كالدر في نسق
أما ومكة والأقصى وخيف منى ... وسورة النور والأعراف والفلق
لقد سما لك ذكر طيّب وثنا ... تضوع كالمسك أو كالعنبر العبق
أوضحت بالحق منهاجا لطالبه ... ومنهج العدل والإرشاد للفرق
لك اليراع إذا ما اهتز في ورق ... رأيت بحر الندى قد فاض بالورق
دامت لياليك في أمن وفي خفر ... ونجم سعدك وهّاج على الشفق
يا من به حلب أحوالها صلحت ... وبات ساكنها بالأمن من فرق
نوال كفيك مبسوط ومتصل ... يا كامل الفضل كم مدّيت من رمق
أنت الإمام كمال الدين من كملت ... أوصافه الغر لا تحصى من الورق
لله درك يا مولاي من رجل ... لسانه ناطق بالحق منطلق
شاد المعالي وساد الأقدمين وقد ... زهت مناقبه كالزهر حين سقي
أبقاه مولاه في الدنيا لنا سندا ... حتى نعيش به في أطيب العبق
فمن يكن بكمال الدين متثقا ... بعد الإله فلا يخشى من الغرق
عين الوجود ورأس الناس في حلب ... كهف المساكين شيخ المسلمين تقي
يقوم بالليل والقرآن يسرده ... بالفكر والذكر والتدبير في الغسق
خال من الغش ذو نصح وصدق وفا ... وسيرة ظهرت في أحسن الطرق
دارت بسعدك أفلاك السعود وقد ... علوت قدرا وإجلالا على الأفق
مات العدو وقد شقت مرارته ... وكبده ذاب من غيظ ومن حنق
هلّت مدامعه كالسحب من حسد ... وبات في قلق من شدة الأرق
عليل مسقوم في ذل وفي حزن ... وقلبه من أليم الحقد في حرق
لا زلت ترقى على الأفلاك مرتفعا ... أوج المعالي فلا تخشى من الزلق
يهدى برأيك أصحاب العقول كما ... يهدى المضل بسير النجم في الطرق
أوليتني نعما قلّدتني مننا ... ألبستني خلعا تغلو على الوشق
بادر لعبدك يا مولاي والحظه ... وانظر إليه وأنقذه من الأرق
نفعته دائما في كل واقعة ... لولاك كان زري الحال في خلق
اختم بخير وكمل ما سمحت به ... يا من فضائله كالعقد في العنق
لخصت مدحك يا مولاي مختصرا ... في نبذة من قريض الشعر في نسق
قصيدة قد وهت في النظم سافلة ... لكن بكم قد علت قدرا على الشفق
طرازها مدح مولانا وحلّتها ... من فاخر المدح لا سحا من البثق
أتت لبابك تسعى وهي في خجل ... ترجو القبول بعين القلب والحدق
نفيسة المدح من بحر البسيط أتت ... بكر تزف بلا عيب ولا رتق
إن ردت تعرف ممدوحا ومادحه ... فاجمع أوائل بيت النظم في نسق
ثم الصلاة على المختار من مضر ... ما غنت الورق فوق الأيك في الورق
والآل والصحب والأتباع كلهم ... ما انهل غيث على البطحاء مندفق
وكان القاضي علاء الدين في بداية أمره أحد عدول حلب بمكتب الزرد كاشية عارفا بصنعة الشروط سريع الكتابة، ربما حفي قلمه فقطّه بسنه وكتب به خطا حسنا. وكان له اشتغال في العلم على الجلال النصيبي وحرص على اقتناء الكتب النفيسة.
توفي في العشر الأواخر من رجب سنة اثنتين وثلاثين. وكان طويل القامة طويل العمامة.
735 - محمود بن أبي بكر بن محمود المعري سبط أبي ذر المتوفى سنة 932
محمود بن أبي بكر بن محمود قاضي القضاة نور الدين المعري الأصل الحموي ثم الحلبي الشافعي سبط الشيخ أبي ذر بن الحافظ برهان الدين الحلبي.
ولي قضاء حماة بعد أبيه إلى آخر الدولة الجركسية.
وكان أبوه القاضي تقي الدين قد ذهب إلى القاهرة فاجتمع بالمقر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بها فأبرم عليه أن يكون قاضي الشافعية بحلب، فأبى رعاية منه لعمي الكمال قاضيها، ففوض إليه الأمر السلطاني قضاء حماة، فأبى وسعى فيه لولده هذا، فبقي بها قاضيا إلى انقضاء الدولة الجركسية، فلما مر على حماة المقام السليمي ذاهبا إلى القاهرة ليأخذها ولاه قضاها أيضا، فلما أخذها وعاد بدا للقاضي نور الدين أن يترك القضاء
في هذه الدولة تورعا عما فيها من رقم ورسم وسجلات الحسبة ونحو ذلك، فتركه وطلب شيئا من المناصب الحموية، فأخرجت له براءة واحدة بنحو ثلاثين منصبا ما بين تدريس وتولية.(5/421)
وكان أبوه القاضي تقي الدين قد ذهب إلى القاهرة فاجتمع بالمقر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بها فأبرم عليه أن يكون قاضي الشافعية بحلب، فأبى رعاية منه لعمي الكمال قاضيها، ففوض إليه الأمر السلطاني قضاء حماة، فأبى وسعى فيه لولده هذا، فبقي بها قاضيا إلى انقضاء الدولة الجركسية، فلما مر على حماة المقام السليمي ذاهبا إلى القاهرة ليأخذها ولاه قضاها أيضا، فلما أخذها وعاد بدا للقاضي نور الدين أن يترك القضاء
في هذه الدولة تورعا عما فيها من رقم ورسم وسجلات الحسبة ونحو ذلك، فتركه وطلب شيئا من المناصب الحموية، فأخرجت له براءة واحدة بنحو ثلاثين منصبا ما بين تدريس وتولية.
ثم أقام بحلب مع والده بالمدرسة الشمسية بمحلة سويقة حاتم وحريمه معه بها، فلم تكن عتبتها مباركة عليه ولا على أبيه وأخيه المقر الشهابي المتقدم ذكرهما حتى ماتوا بعد قليل من مجيئهم من حماة.
وكانت وفاة القاضي نور الدين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.
736 - يحيى بن علي بن الشاطر المتوفى سنة 933
يحيى بن علي الشيخ المعمّر المنوّر شرف الدين الحصكفي ثم الحلبي الشافعي المعروف بابن الشاطر، ابن معلم السلطان بحصن كيفا في دولة السلطان حسن بك، وأخو المعلم يوسف معلم السلطان بحلب، وابن عمة شيخنا العلاء الموصلي.
باشر صنعته في أوائل عمره بتقوى وديانة وبلغ فيها ما لم يبلغه غيره من الكمال، ثم تركها واشتغل بالطاعة والعبادة وفعل الخير حتى كان هو السبب في وصول الماء إلى محلة سويقة الحجارين بحلب، وذلك أنه سعى فيه عند يشبك الدوادار لما نزل على حلب متوجها إلى أخذ الرها من السلطان يعقوب بك بن حسن بك، فسمح له بخمسة عشر ألفا فصرفها على عمل الحوض الكائن بها الآن مع ما ضمه إليها أهل الخير من المال.
وحج وجاور بالقدس الشريف قريبا من اثنتي عشرة سنة، وأكرمه كل الإكرام بالإنفاق عليه شيخ الإسلام الشمس محمد بن أبي اللطف الحصكفي الشافعي. ولما كان بحلب قبل هذه المجاورة نسجت المودة بينه وبين ولي الله تعالى الشيخ علي بك بن المصارع البيري مريد الشيخ محمد الكواكبي وهو إذ ذاك بالبيرة إلى أن زار المثنى بذكره المبدوء بذكره، فاجتذبه بالحال إلى البيرة فسكنها، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخلع على الشيخ علي بك بن المصارع، فقال: وماذا أخلع عليه يا رسول الله؟ فقال: هذا، وكان عليه إذ ذاك لبّاد قصير يلبسه على القميص وينام به، فلما استيقظ من نومه انتزعه من ساعته وطيّبه ورش
عليه ماء الورد، ثم توجه به إلى الشيخ علي بك بن المصارع وقص عليه القصة وأعطاه إياه، فلبسه ولم يزل عليه إلى أن تقطع ورقعه مرة بعد أخرى.(5/422)
وحج وجاور بالقدس الشريف قريبا من اثنتي عشرة سنة، وأكرمه كل الإكرام بالإنفاق عليه شيخ الإسلام الشمس محمد بن أبي اللطف الحصكفي الشافعي. ولما كان بحلب قبل هذه المجاورة نسجت المودة بينه وبين ولي الله تعالى الشيخ علي بك بن المصارع البيري مريد الشيخ محمد الكواكبي وهو إذ ذاك بالبيرة إلى أن زار المثنى بذكره المبدوء بذكره، فاجتذبه بالحال إلى البيرة فسكنها، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخلع على الشيخ علي بك بن المصارع، فقال: وماذا أخلع عليه يا رسول الله؟ فقال: هذا، وكان عليه إذ ذاك لبّاد قصير يلبسه على القميص وينام به، فلما استيقظ من نومه انتزعه من ساعته وطيّبه ورش
عليه ماء الورد، ثم توجه به إلى الشيخ علي بك بن المصارع وقص عليه القصة وأعطاه إياه، فلبسه ولم يزل عليه إلى أن تقطع ورقعه مرة بعد أخرى.
ولم يزل الشيخ شرف الدين على عمل الخير والديانة والمثابرة على الطاعة ومطالعة كتب القوم والاحتفال بالنظر في إحياء علوم الدين إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ودفن خارج باب الفرج قبلي تربة الخراساني في قبر حفره لنفسه بيده شيئا فشيئا. فبينما هو ذات يوم يتعاطى حفره إذ جاءه الشيخ محمد العريان السابق ذكره وقال: اخرج منه، فخرج منه، فنزل فعمل فيه شيئا، فسر بذلك الشيخ شرف الدين وأخبر به أصحابه، ولما فتح القبر لدفنه وجد فيه في المحل الذي يكون فيه خده حصيات، فسئل عن شأنها فأخبر بعض إخوانه أنه كان قد قرأ على كل حصاة منها {(قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ)} (1) ألف مرة. وكنت قد اجتمعت به بمحلته المذكورة قبل الوفاة والتمست بركته، رحمنا الله تعالى وإياه.
737 - إبراهيم بن أحمد القصيري المتوفى سنة 933
إبراهيم فقيه اليشبكية ابن أحمد بن يعقوب الكردي القصيري الشافعي المشهور بفقيه اليشبكية.
ولد سنة خمسين وثمانماية تقريبا بعاره بالمهملتين: قرية من القصير من أعمال حلب.
وأخبر أنه انتقل مع والده إلى حلب صغيرا فقطنها وحفظ القرآن ثم الحاوي الصغير، وأنه رحل إلى دمشق فعرضه على البدر محمد بن قاضي شهبة والنجم ابن قاضي عجلون وأخيه التقي، وأنه سمع الحديث بها، وبالقاهرة على جماعة، وبحلب على محدثها الموفق أبي ذر وغيره، وأجازه الشيخ خطاب الدمشقي وغيره.
قال الزين عمر بن الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع»: ولم يهتم بالحديث كما ظهر لي من كلامه، وإنما اشتغل بالقاهرة بالعلوم العقلية والنقلية.
قلت: وقد كان دينا خيرا كثير التلاوة للقرآن، معتقدا عند كل إنسان، طارحا للتكلف، سارحا في طريق التقشف، مكفوف اللسان عن الاغتياب، مثابرا على إفادة
__________
(1) الإخلاص: 1.(5/423)
الطلاب. وكانت إفادته باليشبكية المجاورة لدار العدل بحلب بسبب تأديبه الأطفال بها وقناعته مع جلالة القدر بما له من المعلوم النزر، ومن ثم اشتهر بفقيه اليشبكية ثم بمواضع شتى بحسب اختلاف مساكنه كالشرفية ومسجد النارنجة ومسجد زبيدة.
وقد انتفع به كثيرون من فنون كثيرة، منها العربية والمنطق والحساب والفرائض والفقه والقراءات والتفسير، وكنت ممن انتفع به في العربية والمنطق والتجويد إلى أواخر سنة ثلاثين وتسعمائة، مع أنه شيخي بالإجازة أيضا حسب إجازته العامة للحلبيين ولمن أدرك أصوله المسطرة عنده بإذنه لانكفاف بصره في ذيل الاستدعاء المسطر بخط الزين عمر الشماع المحفوظ في ثبته المؤرخ بثالث عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين.
وكان مع انكفاف بصره في آخر عمره غير منكف عن الإفادة وعلى جاري العادة، بحيث لم يعدل تقريره عن الصواب، ولا أذنت شمس بصيرته بالأفول والذهاب.
وكان لما كف بصره قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد وضع يده الشريفة على إحدى عينيه قال: فكانت لها بعد تلك الرؤيا رؤية كما نقل لنا عنه صاحبنا الشيخ الصالح برهان الدين إبراهيم الصهيوني.
ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ودفن غربي حلب تجاه ضريح الشيخ ثعلب صاحب المزار المشهور، رحمنا الله وإياه.
738 - الست حلب بنت أغلبك المتوفاة سنة 933
الست حلب المحجبة الكبرى بنت الأميري الكبيري الكافلي الفخري عثمان بن أغلبك الحلبي الحنفي والدها الماضي ذكره.
تزوجها المقر المحبي محمود بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية وحظي بها مالا كما حظيت به جمالا، وأثرت من أوقاف أبيها ومنه قدرا لا يعبر عنه. وصارت وهي بالقاهرة تخرج في كل شهر إلى حضرة خوند زوجة السلطان الغوري فتعظمها، إلى أن حضرت وهي هناك طاب الزمان الحبشية سرية قاضي القضاة عبد البر ابن الشحنة فجلست فوقها قائلة: إن سيدي أعلى درجة من زوجك منصبا وعلما، فلم يجسر أحد من سائر الخوندات الحاضرات هناك على منعها، وثارت العداوة من بعد بين
سيدها وبين المحب فصار مبغضا من كان هو المحب. ثم كانت الست حلب تجلس على كرسي تأذن خوند بنصبه لها ولو تحت مجلسها حسما لمادة القيل والقال.(5/424)
تزوجها المقر المحبي محمود بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية وحظي بها مالا كما حظيت به جمالا، وأثرت من أوقاف أبيها ومنه قدرا لا يعبر عنه. وصارت وهي بالقاهرة تخرج في كل شهر إلى حضرة خوند زوجة السلطان الغوري فتعظمها، إلى أن حضرت وهي هناك طاب الزمان الحبشية سرية قاضي القضاة عبد البر ابن الشحنة فجلست فوقها قائلة: إن سيدي أعلى درجة من زوجك منصبا وعلما، فلم يجسر أحد من سائر الخوندات الحاضرات هناك على منعها، وثارت العداوة من بعد بين
سيدها وبين المحب فصار مبغضا من كان هو المحب. ثم كانت الست حلب تجلس على كرسي تأذن خوند بنصبه لها ولو تحت مجلسها حسما لمادة القيل والقال.
ومما اتفق لها أن وعك المحبي فخرج إلى بولاق فزاره السلطان الغوري بمن معه من مقدمي الألوف وعدتهم أربعة وعشرون مقدما ومن معهم من أتباعهم، فهيأت لهم غداء وعشاء ولم تستعن فيهما بأحد ممن يطبخ سوى جواريها. وكان في ملكها في وقت واحد سبعون جارية بيضاء وسوداء من خزندارات وطشدارات وطباخات. وأصبح السلطان متوجها من بولاق للتنزه بمكان آخر فلحقته بسفينة مملوءة من الأطعمة العجيبة والحلويات الغريبة. ثم لما أخذت منه المملكة عادت الست حلب إلى بلدتها حلب فتوفي المحبي بها فمكثت بتربته سنة كاملة، ثم لم تنزل منها حتى انعقد فيها عقد نكاحها على الولوي ابن الفرفور الدمشقي قاضي حلب يومئذ، وصارت تظهر السرور به بعد الدخول مع شيخوختها وشبابه وتشبّب بذكره حتى عيب عليها ذلك بعد أكيد محبتها للمحبي. فلما عزل سافر بها إلى دمشق فماتت بها سنة ثلاث وثلاثين وتركت ما يناهز عشرين ألف قبرصي، وصار إلى الخاصكي من تركتها بالطريق الشرعي ما لم يكن يصلح إلا لها من قرطين كانا بأذنيها وحلي من الذهب مرصع بالجواهر كان على رأسها.
739 - محمد بن علي المعروف بابن هلال المتوفى سنة 933
محمد بن علي العرضي الأصل الحلبي شمس الدين المعروف بابن هلال النحوي الشافعي.
قرأ بحلب على الشيخ محمد الداديخي، ثم على شيخنا العلا الموصلي فلم يحصل على طائل مع وكده وكدّه، فارتحل إلى القاهرة ولازم خالدا الأزهري في العربية مدة مديدة إلى أن مات، فقدم إلى حلب ودرس بجامعها الأعظم عن شيخنا المذكور بحكم وفاته.
وألف عدة تآليف يعرفها من وقف عليها (1) كحاشية البيضاوي في مجلدين ولم
__________
(1) قد تحامل العلامة ابن الحنبلي على العلامة ابن هلال في قوله هذا كما أفصح بذلك صاحب الكواكب السائرة وشذرات الذهب في أخبار من ذهب. ومن تآليف ابن هلال شرح الخبيصي المسمى «بالورد المفتح على الموشح»، وعندي منه النصف الأول والثاني وعليهما خط العلامة جمال الدين ابن حسن ليه الحلبي في آخرهما اهـ. من ورقة كتبها لي السيد حامد عجان الحديد الكتبي الحلبي.(5/425)
يشتهر، وكشرح التسهيل، وشرح المراح (1)، وحاشية «شرح التصريف» للزنجاني التي سماها «بالتصريف على شرح التصريف»، وكنت قد كتبت عليها حاشية سميتها «التعريف بغلط التطريف»، ثم بدا لي فمحوتها، وكالرسالة التي أثبت فيها أن فرعون موسى آمن إيمانا مقبولا، وهي الرسالة التي حمله على وضعها حسبما هو مذكور في صدرها روح الله القزويني حيث سأله في الكتابة على قوله تعالى {(قََالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ)}. ورد عليه ما ذكره فيها الشيخ محمد المنير في تأليف أفرده وذكر فيه أنه صار كمن دخل مكة ولا ذكر له فتغوط ببئر زمزم ليصير له ذكر بين الناس.
توفي نهار الأربعاء سادس عشر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة من غير زوجة ولا ولد بزاوية الأحمدية بحلب.
وكان له شعر يابس وهجو فيه فاحش عفا الله عنا وعنه.
740 - محمد بن عبد القادر الشراباتي الطيب المتوفى سنة 933
محمد بن عبد القادر بن محمد بن محمد بن سليمان الرئيس الحاذق شمس الدين ابن الرئيس الحاذق زين الدين ابن الرئيس الحاذق شمس الدين ابن الرئيس الحاذق علم الدين الحلبي الشراباتي المتطبب أبا عن جد المعروف بابن شمس.
عهدناه وهو رئيس الأطباء بالمارستان الأرغوني صاحب وظيفة الشرابدارية به يباشر سقي الأشربة للضعفاء بنفسه وبيده مع ما كان عليه من شهامة النفس وعدم التردد إلى من يطلبه للمعالجة إلا وهو راكب فرسا غالبا. وكانت حانوته الملاصقة لداره برأس سوق الصابون الكبير يباع فيها الأشربة المؤنبقة والمعاجين النافعة واللعوقات والجوارشات وغير ذلك على يد مملوك له، وربما جلس بها أحيانا، ويكون يجلس عنده في طرفي بابها بعض مخاديم حلب إما طبا وإما حبا، وكانت مملوءة بالتحف مع البراني والمراطبين الصيني وأواني النحاس المكفت وغير ذلك مما يعجب الرائي. وكذا كان بقربها حانوتان أخريان لبعض بني عمه مملوءتان بمثل ما ذكر على وجهه. قيل إنه لم يكن بمصر والشام لهذه الحوانيت الثلاث من نظير في كمالات الآلات.
__________
(1) اسمه «الإصباح على مراح الراح» منه نسخة في مكتبة المدرسة الحلوية بحلب.(5/426)
وكانت وفاته سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة.
741 - أحمد بن أبي بكر المعري المتوفى سنة 933
أحمد بن أبي بكر بن محمود الأصيل العريق بدر الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين الحموي ثم الحلبي الشافعي المشهور بابن المعري ناظر الحرمين الشريفين بحلب.
كان ذا حشمة ورياسة وملبس نفيس وشكل بهي وذكاء عجيب واستحضار جيد لفوائد أصولية وفرعية، غير أنه انحاز إلى القاضي علاء الدين الحنفي قاضي حماة الشهير بقرا قاضي وفتش معه أوقاف حلب وأملاكها وداخله في أمور السلطنة لما صار كاتب الإبل وناظر الأموال السلطانية، وصارت له عنده الكلمة النافذة، وهرع إليه الناس من أجل ذلك.
وقربت منيته فصلى معه الجمعة بحجازية جامع حلب، فلما قتله أهلها لما سيأتي في ترجمته سنة ثلاث وثلاثين قتلوه معه شهيدا.
ومن العجب أن قصّابا يسمى الملوخية شق بطنه وأخذ من شحمه شيئا في يده والناس يرونه رأي العين، ولم يمكن الله تعالى أحدا من إمساكه لتعزيره أو إهلاكه، ثم سحب إلى تلة عيشة بالقرب من السفاحية ليحرق فتداركه أهله ومحبوه فخلصوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه على عجل وهم على وجل بمقبرة أقربائه.
742 - أحمد بن علي الشماع المتوفى سنة 934
أحمد بن علي البابي الأصل الحلبي الشماع المعروف بابن الكيمختي.
كان من الخيرين، جدد رصيفا بالحدادين وبمواضع أخر بمباشرة الحاج أبي بكر بن الحصينة الحجار، وكان ينهاه أن يظهر أن مصروف العمارة منه.
وكان له دين على بهاء الدين بن حمزة فطالبه فأغلظ له القول ولم يعطه شيئا. فناله منه غيظ زائد، فعرض عليه في أسرع وقت فالج مات به في سنة أربع وثلاثين وسنه ثلاث وستون سنة حتى قال وقد أيقن بقرب وفاته: عشنا كما عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ونموت كما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم.(5/427)
743 - حسين بن محمد الميداني المتوفى سنة 934
حسين بن محمد شاه الحلبي المشهور بابن الميداني لأن أباه كان قيم الميدان الأخضر بحلب.
كان في مبدأ أمره من أبطال حلب ومردتها، إلا أن رفقاءه إذا أكرهوا عفيفة ليزنوا بها نزعها من بين أيديهم شاؤوا أو أبوا، حتى أعطاه الله كما كان يحكي لنا المنزلة العليا، وذلك أنه لما كان قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب عصى كافلها إينال، فأمر من تسلطن بعد قايتباي بالقبض عليه، فكان الغوري فيمن ركب عليه حتى قبض عليه ووضع في قلعة حلب لكونه من حزب من تسلطن، فورد الخبر بقتله ونصب سلطان آخر كان إينال من حزبه، فأطلق إينال وتبع الغوري وغيره ممن ركب عليه، فشعر به الغوري وكان صاحب الترجمة مقربا عنده، فاحتال لإخراجه من حلب ليلا فأخرجه فسلم، فلما تسلطن بعث يستحثه على الحضور لديه فحضر فجعله كيخيا محلات قيس فحصل النفع به، وكان كفؤا لمنصبه ولم يخلفه من بعده مثله، وجعله أيضا من أمراء العشرات وألبسه الكلوتة والقباء الأبيض، فكان يلبسهما وهو بحلب في الموكب. والكلوتة بفتح الكاف وسكون الواو بعدها تاءان: عمامة ملساء ذات قرنين منعطفين إلى أسفل يمنة ويسرة، واسمها الصحيح الكلفتة بالفاء، كذا وجدته بخط بعض الضابطين من المؤرخين.
ثم كثر ماله وظهر خيره فأنشأ الجامع المجاور للشيخ عبد الله بالقرب من قبور الغرباء بحلب ووقف عليه وقفا وعمر له مدفنا بقربه، وجدد عمارة محكمة على المكان الذي قتل فيه الشيخ شهاب الدين السهرودي المعروف بالمقتول خارج باب الفرج، ووسع جامع شرف بالقرب من الجديدة، وجدد مسجدين عند عمارته خارج باب الجنان، ومسجدين فوقانيا وتحتانيا بالبندرة. وبقي على جلالته وشهامته وقبول كلمته في الدولة العثمانية السليمية والسليمانية كما كانت في الدولة الجركسية الغورية.
ولما حاصر الغزالي حلب ووضع كافلها قراجا باشا على أسوارها حراسا بالليل صار هو يطوف عليهم ليلا ويشجعهم ويوقظ من نام منهم ويمنح كل فريق ما يليق به من عدة علب فيها الحلاوات السكرية إلى أن زال الحصار وصار للغزالي ما صار.
وكان له صدع بلسان الحق وحرمة زائدة ومهابة في أعين الناس العوام والخواص وعلو
همة إذا انتدب في الأمور المهمة، وتردد الكثير من الأكابر إليه.(5/428)
وكان له صدع بلسان الحق وحرمة زائدة ومهابة في أعين الناس العوام والخواص وعلو
همة إذا انتدب في الأمور المهمة، وتردد الكثير من الأكابر إليه.
حكى أنه ورد عليه في بعض الأيام خوجه فتح الله بن المرعشي وخوجه سعد الله الملطي وخوجه روح الله القزويني في طلب حاجة مهمة فأجابهم إلى ملتمسهم قائلا: كيف أراد فتح الله وسعد الله وروح الله وكل واحد منهم ينتسب إلى الله، ما بقي لي فيكم حيلة باتفاقكم علي.
وكانت وفاته كما قيل بسمّ دسه إليه عيسى باشا وهو بدمشق مع واحد من جماعته ركب معه ذات يوم إلى خارج حلب فاحتال عليه وأطعمه، فما عاد إلا وتوفي وذلك في سنة أربع وثلاثين رحمه الله تعالى.
الكلام على جامع الميداني:
موضع هذا الجامع في المحلة المعروفة بترب الغرباء شمالي الكنيسة التي هناك بينهما خطوات، وهو عامر تقام فيه الصلوات الخمس والجمعة. طول قبليته نحو أربعين ذراعا وعرضها نحو سبعة أذرع ما عدا الجدران التي يبلغ سمكها نحو ذراعين، وفيها محرابان.
وفي شرقيها حجرة تبلغ ثمانية أذرع في مثلها فيها ضريح يقال له الشيخ عبد الله وهو أقدم من بناء الجامع كما تقدم. وصحن المسجد على طول القبلية وعرضه نحو ثمانية أذرع، وفيه مصطبة أنشأها الشيخ عبد القادر سالم سنة 1324، وإلى جانبها حوض كبير كان صغيرا وسعه المذكور تلك السنة، وكذلك جدد باب الجامع ووسعه وجاء تاريخه (تمت محاسن جامع الميداني 1324). وشمالي الصحن حجرة يؤدب فيها بعض المشايخ الأطفال، وفي شماليه بجانب هذه الحجرة منارة قصيرة فيها شيء من الزخرفة من وسطها إلى موقف المؤذنين على نسق منارة جامع السفاحية والجامع العمري. ووراء هذه المنارة وتلك الحجرة قبور كثيرة، وكذا في غربي الصحن وفي مدخل باب الجامع.
وقد كان المتولي على هذا الجامع الشيخ سالم المهتدي، وفي أثناء توليته وذلك في سنة 1298هـ و 1880م حكر أرضا واسعة قبلي الجامع كانت مقبرة للمسلمين تعرف بترب الغرباء وشرع في بنائها كنيسة، فضج أهل المحلة لذلك وراجعوا جميل باشا الحاكم وقتئذ، غير أنه لم يلتفت لمراجعتهم بل نفى منهم وقتئذ الحاج محمد النشار ومصطفى الخلاصي الطبيب، ثم أرجعهما بعد مدة بتوسط جماعة بعد أن كان قضي الأمر وتم بناء الكنيسة،
وذلك لا يخلو من نفع ذاتي ولله الأمر.(5/429)
وقد كان المتولي على هذا الجامع الشيخ سالم المهتدي، وفي أثناء توليته وذلك في سنة 1298هـ و 1880م حكر أرضا واسعة قبلي الجامع كانت مقبرة للمسلمين تعرف بترب الغرباء وشرع في بنائها كنيسة، فضج أهل المحلة لذلك وراجعوا جميل باشا الحاكم وقتئذ، غير أنه لم يلتفت لمراجعتهم بل نفى منهم وقتئذ الحاج محمد النشار ومصطفى الخلاصي الطبيب، ثم أرجعهما بعد مدة بتوسط جماعة بعد أن كان قضي الأمر وتم بناء الكنيسة،
وذلك لا يخلو من نفع ذاتي ولله الأمر.
ثم آلت التولية إلى ولده المتقدم بقي إلى سنة 1334، ففيها استلمته دائرة الأوقاف وهو الآن في يدها، وله من الأوقاف ستة دور في محلة الألمجي الملاصقة لهذه المحلة ودكان وحكر الأرض التي بنيت فيها الكنيسة وهو نحو 300قرش رائجة.
744 - عبد القادر بن سعيد المتوفى سنة 934
عبد القادر بن أبي بكر بن سعيد الشيخ محيي الدين الحلبي الشافعي المشهور بابن سعيد نسبة إلى جده سعيد. وكان أسلميا عن يهودية.
اشتغل بالعلم على جماعة من الحلبيين وغيرهم كالعلاء الموصلي وملا حبيب الله العجمي نزيل حلب، وكالكمال ابن أبي شريف فإنه أخذ عنه بعض حاشيته على شرح العقائد النسفية وأجاز له روايتها عنه بالشرط المعتبر بعد أن ترجمه بفسكل الطلبة بعد قاشورها وجوّد الخط وجوّد عليه، وكان يفتخر بتلك الترجمة على ما فيها، فإن الفسكل من خيل السباق هو الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل كما ذكره الجوهري، إلا أن المنقول عن الشيخ كمال الدين أنه قال هكذا فجعل القاشور غير الفسكل متقدما عليه، والذي عليه الجوهري أنهما والسكّيت شيء واحد وهو الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل كما ذكرنا. ولم أجد للقاشور ذكرا فيما أنشده الصفدي في تاريخه لابن مالك النحوي جامعا لأسماء خيل السباق العشرة من قوله:
خيل السباق المجلّي يقتفيه مصلّ ... والمسلّي وتال قبل مرتاح
وعاطف وحظيّ والمومّل وال ... لطيم والفسكل السكّيت يا صاح
وكأنه تركه لأنه والفسكل والسكّيت واحد كما عليه الجوهري.
وكان الشيخ محيي الدين ذا همة علية في نسخ الكتب بخطه النفيس حتى كتب البخاري وما دونه في القدر، وحشّى على هوامش المتون والشروح بخطه الحواشي المنمقة المنقولة من كلام الناس.
وطلب الرياسة فترقى إلى أن صار إمام قصروه كافل حلب في الدولة الجركسية، ثم
صحبه بدمشق وهو كافلها، ثم بالقاهرة وقد ولي بها الإمرة الكبرى على إمامته عنده، إلى أن قبض عليه بعض من صارت السلطنة إليه بعد السلطان قايتباي خوفا من أن يتسلطن قهرا عليه وحلف له أن لا يقتله، ثم وضعه في حائط مجوف وسد عليه إلى أن مات، فعاد الشيخ محيي الدين إلى حلب بعد أن صودر يسيرا واشتغل بها بحسب حاله وأفتى ورأس فركب الخيل وتجمل بالملبس النفيس، وأنشأ في داره داخل باب المقام العماير الحسنة والكتبية المشتملة على الكتب النفيسة، وصار مفتي دار العدل بحلب من غير أن يكون غيره مفتيا بها يومئذ وإن كانت في الزمن السابق ذات مفتيين على ما وجدته في تاريخ المحب أبي الفضل ابن الشحنة.(5/430)
وطلب الرياسة فترقى إلى أن صار إمام قصروه كافل حلب في الدولة الجركسية، ثم
صحبه بدمشق وهو كافلها، ثم بالقاهرة وقد ولي بها الإمرة الكبرى على إمامته عنده، إلى أن قبض عليه بعض من صارت السلطنة إليه بعد السلطان قايتباي خوفا من أن يتسلطن قهرا عليه وحلف له أن لا يقتله، ثم وضعه في حائط مجوف وسد عليه إلى أن مات، فعاد الشيخ محيي الدين إلى حلب بعد أن صودر يسيرا واشتغل بها بحسب حاله وأفتى ورأس فركب الخيل وتجمل بالملبس النفيس، وأنشأ في داره داخل باب المقام العماير الحسنة والكتبية المشتملة على الكتب النفيسة، وصار مفتي دار العدل بحلب من غير أن يكون غيره مفتيا بها يومئذ وإن كانت في الزمن السابق ذات مفتيين على ما وجدته في تاريخ المحب أبي الفضل ابن الشحنة.
ثم كانت له في الدولة الرومية علوفة من المملحة فوق ماله من الثروة، وولي فيها من المناصب مشيخة التغري ورمشية ومشيخة الزينبية ونظرها ونظر الأطروش.
ثم كانت وفاته سنة أربع وثلاثين ودفن بداره بوصية منه، وصلى عليه إماما الزين عمر الشماع في ملأ عظيم.
وكان عنده شهامة وتعظيم عظيم لمن يعظه وإحسان لمن يرد على حلب من فضلاء العجم، وصبر على تبكيت البدر السيوفي به، غير أنه تعاظم على شيخه العلاء الموصلي فبلغه أنه صحف كلمة يشبه في المنهاج الفرعي من الشوب وهو الخلط بلفظ يشبه من الشبه، وحمل ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى {(فَسُحْقاً لِأَصْحََابِ السَّعِيرِ)} من قراءة التثقيل على تشديد القاف مع ضم الحاء مع أن المراد بها مجرد ضم الحاء من غير تشديد للقاف فهجاه بقوله:
يا سائلي عن جهول ... يتيه في الجهل حمقا
لم يدر بين يشبه ... وبين يشبه فرقا
وخالف الله فيما ... أبداه في الذكر حقا
وقال فيه سحقّا ... سحقا له ثم سحقا
وبالغ في هجوه من قال:
يا منتسبا إلى سعيد الذّمّي ... ما بالك هكذا ثقيل الدمّ
إن دمت على ذاك فلا تذكر ما ... قد قلت وما أقوله من ذمّ
ولا مؤاخذة على هذا القائل في تشديد ميم الدم في المصراع الثاني، ففي كتاب «عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ» للشهاب ابن السمين تصريح بأن ميم الدم قد تشدد.(5/431)
يا منتسبا إلى سعيد الذّمّي ... ما بالك هكذا ثقيل الدمّ
إن دمت على ذاك فلا تذكر ما ... قد قلت وما أقوله من ذمّ
ولا مؤاخذة على هذا القائل في تشديد ميم الدم في المصراع الثاني، ففي كتاب «عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ» للشهاب ابن السمين تصريح بأن ميم الدم قد تشدد.
745 - حسن ابن خطيب الناصرية المتوفى سنة 934
حسن بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن سعد بن محمد الشيخ بدر الدين الجبريني الأصل الحلبي الطائي الشافعي.
توفي في شعبان سنة أربع وثلاثين. وكان مولده على ما وجدته بخط والده في المحرم سنة إحدى وثمانين وثمانمائة. وكان شروطيا حلو الطريقة في الخط غريبها.
رافق الزين الشماع في أخذ الفقه عن القاضي جلال الدين النصيبي، ووقع بمحكمة القاضي عفيف الدين ابن جنغل المالكيّ، واشتهر بابن خطيب الناصرية كأبيه الشيخ شمس الدين المعروف بمفرّج بالفاء والراء المشددة المكسورة والجيم أحد عدول حلب بمكتب سوق الصابون وجده أقضى القضاة برهان الدين الشافعي أخي قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية صاحب التاريخ المشهور، لا لأنه كان من ذرية أولاد عم أبيه الذكور لأنه لم يترك بنين فيما سمعنا وعلمنا وإنما ترك ثلاث بنات: إحداهن خديجة أم القاضي جمال الدين الحسفاوي، والأخرى أم القاضي أثير الدين محمد بن الشحنة، وشهدة أم القاضي جلال الدين ابن النصيبي، ومن هنا استحق والدي في وقف قاضي القضاة علاء الدين لأنه سبط القاضي أثير الدين، والثالثة هي التي تزوّجت بطاهر الحنبلي فولد لها منه بنت هي أم الشيخ شمس الدين، ومن هنا استحق الشيخ شمس الدين وولده ومن يشركه.
وجده طاهر هذا هو أبو أحمد طاهر بن الجمال محمد الحرّاني قاضي الحنابلة بحلب في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، وهو الذي قيل فيه:
تجادل مالكيّ وشافعيّ ... وكلّ منهما في القول ظاهر
فقال الشافعيّ: الكلب رجس ... وقال المالكيّ: الكلب طاهر
746 - يوسف بن أحمد المهمندار المتوفى سنة 934
يوسف بن أحمد بن يوسف بن الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير ناصر الدين محمد
ابن بلبان الحلبي الشهير بابن المهمندار.(5/432)
يوسف بن أحمد بن يوسف بن الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير ناصر الدين محمد
ابن بلبان الحلبي الشهير بابن المهمندار.
كان ترجمانا عند بعض قضاة حلب في الدولة الرومية، فاتفق أن شكا الناس على شخص يدعى بجانم هو أحد أعوان القاضي علاء الدين المشهور بقرا قاضي الآتي ذكره لدى ابن المعمار قاضي حلب، فطلبه لسماع ما عليه من الدعاوي فأبى عن الحضور، فأقفل قاضي حلب المحكمة بتحسين صاحب الترجمة له ذلك، فلما قتل الناس قرا قاضي بحلب وفتش عيسى باشا على قاتليه أخذ جانم في تعيين طائفة زعم أنهم كانوا الساعين في قتله، فعينه منهم فقتله عيسى باشا فيمن قتله سنة أربع وثلاثين وتسعمائة.
وكان جده بلبان مهمندارا وأحد أمراء العشرات بحلب، وهو الذي أنشأ بها الجامع المشهور به ووقف عليه أوقافا منها داره التي عدها المحب أبو الفضل بن الشحنة في تاريخه في الدور العظام التي بحلب وقال إنها تجاه جامعه هذا (هي المحكمة الشرعية) وإنها وقف عليه. وصحيح ما قال، إلا أنها استبدلت في زماننا بالحمزية. ثم وقفها مالكها بطريق الاستبدال نصفين نصف على الجامع المذكور ونصف على فقراء الحرمين الشريفين.
وكان من خبر جده الأدنى أنه ورث من أبيه ما ينوف على مائة ألف دينار، فصرف منها حصة عظمى في حجة حجها وبذل الباقي في طريق الخير محبة في الله تعالى دون معصية من معاصيه إلى أن صار فقيرا من فقراء المسلمين، فجعل نفسه مؤذنا بجامع جده، إلا أنه لصفاء خاطره كان إذا مرّ عليه أحد من تحت المنارة وكلمه في خلال كلمات الأذان مرتين فأكثر يكلمه ثم يعود إليه وهكذا. ولما قرب إلى الوفاة أوصى أن لا يجعل قبره إلا من التراب. ثم نسج ولده على منواله فأذّن بجامع جده كأبيه.
747 - محمد بن أبي بكر القواس المتوفى سنة 934
محمد بن أبي بكر بن الشيخ زين الدين عبد الواحد بن صدقة بن أبي بكر ابن الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف بن أبي العز الأصيل المعمّر ناصر الدين الحراني الأصل الحلبي المولد القواس هو وأبوه.
توفي سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. وكان يعرف بالحراني ويسكن بالزقاق المعروف بزقاق بني الحراني وراء المسجد المعروف بشمس الدين محمد بن الحسامي حسن بن محمود
الحراني. وكان الناصري يذكر أنه من جملة أجداده أيضا.(5/433)
توفي سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. وكان يعرف بالحراني ويسكن بالزقاق المعروف بزقاق بني الحراني وراء المسجد المعروف بشمس الدين محمد بن الحسامي حسن بن محمود
الحراني. وكان الناصري يذكر أنه من جملة أجداده أيضا.
ولجده أبي بكر الأعلى وقف على الحدادية وعلى جده الشيخ شمس الدين وذريته وقف آخر منسوب إلى القاضي كمال الدين أبي الربيع سليمان بن أبي الحسن بن ريان الطائي، وقد انحصر كلا الوقفين في الناصري ثم في بنته ثم في أولادها.
748 - القاضي علي بن أحمد المعروف بقرا قاضي المتوفى سنة 934
علي بن أحمد القاضي علاء الدين الرومي الحنفي قاضي حماة المشهور بقرا قاضي.
ولي كتابة الإبل وتفتيش أوقاف حلب وأملاكها والنظر على الأموال السلطانية فبالغ في جمعها وتثميرها حتى أخرج حكما سلطانيا يمنع توريث ذوي الأرحام من الشافعية بخصوصهم، وضبط التركة لبيت المال، وأراد أن يجعل ملح المملحة الذي صار مضبوطا لبيت المال أغلى من الفلفل، قال لأن الناس أحوج إلى الملح منه، ومنع من بيع حنطة كانت للخزائن الشريفة السليمانية في سنة كانت ذات قحط وهي سنة أربع وثلاثين.
ثم أحضرته المنية إلى الجامع الأموي بحلب يوم الجمعة خامس شعبان من السنة المذكورة فقامت غوغاء الناس وكثر طغامهم بعد صلاة الجمعة وأخذوا في التكبير عليه وقتلوه داخل الحجازية بالنعال والحجارة على وجه لم يعلم له قاتل معين، وجروه بعد أن جردوه من ثيابه ليحرقوه، فخلصه جماعة من أهل الخير ودسوه في ميضأة إلى ثاني يوم، ثم غسلوه وكفنوه ودفنوه. ثم كان ما كان من تفتيش عيسى باشا على قاتليه، والأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {مََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}
وأنشد فيه بعضهم:
إن قرا قاضي سطا ... ولم يزل معسّرا (1)
فاشكر لمن مضى وقل ... أين قراجا من قرا
أراد قراجا باشا أول كفّال حلب في الدولة العثمانية، وقد ذكره في الأحمدين مثنيا عليه.
__________
(1) في الأصل: مقتعرا.(5/434)
749 - قاسم العجمي المشهور بعفاريت المتوفى سنة 934
قاسم العجمي المشهور بعفاريت.
كان من مريدي الشيخ محمد الخراساني النجمي، وهو الذي لما كان يوم دفن الشيخ خرج في جنازته دائرا على قدميه كأنه فلكة مغزل من منزل الشيخ إلى تربته. ثم دخل أركان الدولة بالباب العالي فتولى نظر جامع حلب الأعظم ونظر المدرسة الجردكية وغيّر منها هيئة الواقف التي رضي بها، فترك بقاء حجراتها الفوقانية وطاقاتها المشرفة على صحنها، وجدد حائطا لا طاقة فيه، ولم ينتطح فيها عنزان مع ما كنت عليه وأنا إمامها يومئذ من المبالغة في الكشف عن سوء حاله في رسالة سميتها «بالقول القاصم للقاسي قاسم» ونسجتها على منوال الخرقة لأهل الحرقة في النظم والنثر، وضمنتها عدة مقاطيع منها هذه:
لا تركننّ لقاسم ... إذ ليس فيه فائده
واعلم أخيّ بأنه ... قاس بميم زائده
ومنها على الاقتباس:
شخص خبيث لو طلبت اسمه ... من أحد يوصف بالضنّ
لبادر الحال إلى كشفه ... وقال عفريت من الجنّ
وكان في سنة أربع وثلاثين وتسعمائة في الأحياء، ثم مات بعدها برودس لسوقه إليها.
750 - يوسف بن علي الحصكفي معلم السلطان المتوفى سنة 934
يوسف بن علي الحصكفي الحلبي الحجار معلم السلطان بحلب، وأخوه الشيخ يحيى المتقدم ذكره.
كانت له قدم راسخة في الهندسة والعمائر العظام كالتربة التي أنشأها لجدي الجمال الحنبلي خارج باب المقام فوضع له على بابها النقوش العجيبة والصنائع الغريبة مع الفسقية المقلوبة على الطريقة الحسنة المرغوبة، كالمحراب الذي أنشأه له أيضا بالمسجد المعروف قديما بمسجد النارنجة المجاور للصباغين الذي كان له محكمة، وهو محراب عجيب غريب (1).
__________
(1) لم يزل باقيا إلى الآن في المسجد المعروف بمسجد النارنجة في محلة السويقة، وهو كما قال الرضي الحنبلي.(5/435)
وكانت له الدراية الحسنة في تصوير ما يريد عمارته من جامع أو دار ونحوهما لمن أراد ذلك من الأكابر.
وقد بلغني أنه لما أرسل الملك الأشرف قايتباي رسوله ماميه إلى السلطان بايزيد بن عثمان بالصلح بعد الوقعة العظيمة الشهيرة التي كانت بينهما ثم عاد رسوله إليه وحسّن له أنه يجعل قلعة آذنة جامعا حسما لمادة النزاع بينهما، فإنها كانت تارة تحت حكمه وتارة أخرى تحت حكم السلطنة البايزيدية، وهكذا فأرسل السلطان قايتباي إلى كافل حلب بأن يرسل المحب محمود بن آجا قاضي الحنفية بحلب إلى القلعة المذكورة ومعه المعلم يوسف معلم السلطان بها فينظر إلى كم يحتاج من المال ليكون جامعا، ففعل، فلما عاد من آذنة صور له المعلم يوسف صورة الجامع التي سيكون على أسلوب يعجب ناظريه ممن كانوا حاضريه، فلما وقف عليها برز أمره بالعمارة، فما شرعوا في تهيئة أسبابها إلا وجاء خبر وفاته، فلما تسلطن ولده أمر أيضا بذلك ثم لم يتم ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وكانت وفاة المعلم بحلب سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. وكان في صنعته صالحا ناصحا.
751 - محمد بن محمد العجيمي المتوفى سنة 935
محمد بن محمد بن محمد بن زين الدين مسافر المشهور بابن العجيمي بالتصغير أحد أعيان التجار بحلب.
كان من أهل الخير هو ووالده. عمّر والده الحوض المعروف بقسطل العجيمي بالقرب من داره بمحلة باحسيتا وأجرى إليه الماء من قسطل الشماع بها، ثم منع ماءه بعض أهل الشر باستيلائه عليه فانقطع عنه الماء، فأخذته غيرة على قسطل والده فأخذ له حقا من محلة العوينة وأجراه إليه في سرداب بذل عليه أكثر من ألف دينار كبير سنة ثمان وعشرين وتسعمائة.
ثم كانت وفاته بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وتسعمائة.
وكان جده الأدنى عجميا خراسانيا، وكان معلم دار الضرب بحلب.(5/436)
752 - محمد بن محمد البيلوني المتوفى سنة 935
محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الفاضل المشتغل المحصل شمس الدين أبو البركات البابي الأصل الحلبي الشافعي صاحبنا المشهور كأبيه المتقدم ذكره بإمام السفاحية وبابن البيلوني.
سمع بقراءة أبيه على الكمال محمد بن الناسخ ما مر ذكره في ترجمة أبيه وأجاز له ما أجاز لأبيه، وسمع من الزين الشماع شمائل النبي صلى الله عليه وسلم للترمذي وأجاز له، واشتغل على العلاء الموصلي في شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل.
وجدد بالحجازية حجرة في جانبها الغربي وأرادوا منعه من تجديدها فلم يقدروا. كان يدرس بالحجازية أحيانا بعض الأفراد. وكانت له حظوة عند قاضي حلب عبيد الله سبط ابن الفناري.
وكانت وفاته بمنبج سنة خمس وثلاثين وتسعمائة وبها دفن وراء ضريح سيدي عقيل المنبجي رضي الله عنه بحيث لم يكن بين الضريحين إلا الجدار ولم يكن سنه لتبلغ أربعين سنة.
قال شيخنا في «عيون الأخبار»: وقد كان له حركة في السعي في تحصيل الدنيا، وكنت قد عرضت له بذلك فذكر أنه إنما يطلب الدنيا لثلاثة مقاصد: الأول لتحصيل المؤنة وعدم الاحتياج إلى الناس، الثاني ليستعين بذلك على الاشتغال بالعلم، الثالث لتوسعته على المحتاجين والإنفاق في وجه البر، أو كما قال شيخنا، فعاجلته المنية، ولم يظفر بالأمنية، فالله يثيبه على نيته، ويعامله بعفوه ورحمته، ويجمعنا وسائر الأحباء في جنته، بمنه وكرمه ونعمته. اهـ.
753 - يحيى بن عبد الوهاب ابن أخت المحب ابن آجا المتوفى سنة 935
يحيى بن عبد الوهاب الرئيس الشهم شرف الدين النابلسي الأصل الحلبي الحنفي ابن أخت المقر المحبي محمود بن آجا صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية.
كانت بيده مقاليد مهمات خاله وإليه المرجع في سائر أحواله. إلى أن زالت الدولة الجركسية. وقدم المملكة الحلبية وتوفي خاله بها فلزم بيته بها وتحاشى عن المناصب مع علمه
بأنه لم يكن ليرى من العز والجاه من بعد ما كان من قبل رآه، وقنع بماله من الجهات التي وقفها وجعل مآل وقفها إلى ذريته ثم ذرية أخيه لأمه القاضي الجمالي يوسف الحنفي، إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ودفن عند تربة خاله بجوار ضريح الشهاب أحمد ابن المرعشي رحمنا الله وإياهم.(5/437)
كانت بيده مقاليد مهمات خاله وإليه المرجع في سائر أحواله. إلى أن زالت الدولة الجركسية. وقدم المملكة الحلبية وتوفي خاله بها فلزم بيته بها وتحاشى عن المناصب مع علمه
بأنه لم يكن ليرى من العز والجاه من بعد ما كان من قبل رآه، وقنع بماله من الجهات التي وقفها وجعل مآل وقفها إلى ذريته ثم ذرية أخيه لأمه القاضي الجمالي يوسف الحنفي، إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ودفن عند تربة خاله بجوار ضريح الشهاب أحمد ابن المرعشي رحمنا الله وإياهم.
754 - يوسف بن محمد العكرمي المتوفى سنة 935
يوسف بن محمد بن محمد بن محمد الأصيل جمال الدين ابن الشيخ شمس الدين الحلبي العكرمي المعروف بابن النديم.
كان والده من أقران الشيخ أبي ذر المحدث، فأخذ عن بعض الشيوخ. وكان هو يبيع اللبوس بسوق السلاح بحلب ويذكر أنه من ذرية عكرمة بن مرة الخزرجي.
توفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة.
755 - محمود بن مصطفى طيلان (1) المتوفى سنة 935
محمود بن مصطفى بن موسى بن طيلان القصيري الأصل الحلبي المولد الحنفي المشهور بابن طيلان.
ولي خطابة الجامع الأعظم بحلب في الدولة العثمانية السليمية. وكانت له حظوة عند قراجا باشا وكفّالها في الدولة المذكورة. وكان فقيها جيدا.
توفي في رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة بعد أن حج.
وكان مقداما للقاء الأكابر وممن يصدع بالقول ولا يخاف في الله لومة لائم، إلا أنه كان ذا حدة، فاتفق أن لقيه الشمس محمد بن الحسن البيلوني مرات عديدة وهو يتواضع له بالقول بنحو عبيدكم ومميليككم بلفظ التصغير، فحصل له عليه حدة فقال له الشمس:
يا شيخ الكاس يفيض، ثم مضى عنه.
__________
(1) في «در الحبب»: طليان.(5/438)
756 - يونس بن علي العادلي المتوفى سنة 936
يونس بن علي الأمير شرف الدين الحلبي ثم الدمشقي المشهور بالعادلي وبابن البغدادي.
كان من تجار سوق الصابون بحلب، وكانت بيده أيضا معلمية المصابن، فضاقت يده ذات مرة فتوجه إلى القاهرة فوقف في خدمة ناظر الخاص المعروف بابن الصابوني، واختاره للخدمة دون غيره حذقا منه لكونه صابونيا وكون المخدوم معروفا بابن الصابوني.
وكانت الدولة الجركسية باقية وصار يتعاطى مهماته بهمة له عالية ولطافة وافرة، فتقدم عنده مدة مديدة في دولة الأشرف قايتباي، فلما توفي وتسلطن ولده ثم تسلطن العادل طومان باي داخله وصرف نفسه إلى مهماته، فتقدم عنده أيضا وصار يعرف به حتى قيل له العادل.
ثم لما آلت السلطنة بعد حين إلى الأشرف قانصوه الغوري تقدم عنده جدا وجمع بجاهه أموالا عظاما. وكان مع ذلك يرفع إليه شيء من محصول معلمية الصابون بحلب. ولما أراد أن يبعث إلى سلطان الروم رسولا آثره على غيره لوجاهته فبعثه إليه رسولا.
ثم لما اضمحل أمر الدولة الغورية صارت له مكانة عند الوزير الأعظم في الدولة السليمية حتى أخرج له حكما شريفا بأنه تاجر المقام الشريف السليمي وأنه مسموح له من جميع المكوس والأعشار في سائر الممالك السليمية، بل كان المقام الشريف يقول له: تمنّ عليّ ما تريد، فيتمنع خوفا منه إذ كان من أتباع ضده، فلما امتنع ازداد حبا له واعتقادا فيه، وكان تمنعه من محكم تدبيره.
وبقي في هذه الدولة كما كان في الأولى في شهامة وأبهة وكرم وسخاء مؤثرا دمشق للتوطن على بلدته حلب.
ومن غريب ما حكي عن كرمه أنه في يوم من الأيام زاره بعض المخاديم أول النهار فصنع له مائدة تليق به، فزاره آخر بعد رفع السماط فطلب سماطا آخر جديدا، فقيل له: قد بقي من الأول ما يكفي، فاستنكف من إعادة وضعه، فأمر أن يطبخ غيره، فطبخ، فجاء زائر آخر فجدد له طعاما له ثالثا، ثم وثم إلى تمام ثمانية زوار ورد آخرهم في آخر النهار.
وكانت وفاته بدمشق سنة ست وثلاثين وتسعمائة.(5/439)
الكلام على المصابن ودرب الصبّانة في حلب:
قال أبو ذر في الكلام على درب الصبّانة: به مطابخ للصابون عديدة تزيد على عشرين وذلك لكثرة أشجار الزيتون بمعاملة حلب. وقد كان الأحصّ كثير أشجار الزيتون لأنك كنت إذا خرجت من حلب إلى قرية بابلّى ثم أخذت في الرابية المطلة على بابلّى تدخل في أشجار الزيتون والتين، ولذلك قلّ قرية من قرى الأحصّ إلا وبها معصرة للزيتون.
وبحلب سوق يباع فيه الصابون يحمل منه أحمال عديدة وإلى ناحية الروم والعجم وغيرها.
وفي معاملة حلب في قراها عدة مطابخ للصابون أيضا والجميع يجلب إلى هذا السوق ويباع.
وبهذه الحارة مسجد يقال له مسجد بدران وله وقف على الصدقات برحا حاسين وغيرها وهو مدفون بهذا المسجد. ومن وقف هذا المسجد بعض رحا الحربلي. وبرأس التل مسجد وعند أسفله مسجد.
قال ابن شداد: قلت: وهذه الناحية الآن كثيرة المساجد اهـ.
وهناك مسجد معلق إلى جانب المصبنة المهدمة وقسطل اهـ.
757 - موسى السرسولي المتوفى سنة 936
محمد بن الحسين الملقب بعوض بن مسافر بن الحسن بن محمود الكردي اللاني (1) طائفة السرسولي ناحية وقرية الشافعي نزيل حلب شيخنا.
أخذ العلم عن جماعة، منهم منلا محمد المعروف ببير قلعي.
وعمرت في أيامه مدرسة بالعمادية فجعله واقفها مدرسا بها، ثم أقلع عنها وأقبل على التصوف، فرحل إلى حماة وأخذ في السلوك عن سيدي علوان الحموي مع انتفاع غير واحد بها بالقراءة عليه. ثم قدم حلب لمداواة مرض عرض له ونزل بالمدرسة الشرفية فقرأ عليه غير واحد، وكنت ممن فاز بالقراءة عليه بها في علم البلاغة. ثم مضى إلى حماة،
__________
(1) في «در الحبب»: الآلاني.(5/440)
فلما توفي الشيخ علوان عاد إلى حلب واستقر في مشيخة الزينبية وأخذ يربي بها المريدين ويتكلم فيها على الخواطر مواظبا على طاعة العليم وإطعام الطعام وإكرام من ورد عليه من الخواص والعوام وحسن الصمت ولين الكلام ووفور الصفة وفصاحة العبارة وولوج سبيل أهل الإشارة واستعمال التفسير والحديث وكلام الصوفية على الأساليب الكاملة الوفية.
وفي الزاوية المذكورة وغيرها قرأت عليه شرح المسايرة الموسوم بالمسامرة وغيره، وحضرت كثيرا من مجالسه في التربية والكلام على الخواطر فانتعش بها ولله الحمد الخاطر.
ثم توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وصلى عليه الشمس بن بلال في مشهد عظيم ودفن في مقابر الصالحين بوصية منه.
وكان بعض المحبين قد حفر له قبرا بمقبرة منلا موسى المذكور وغلب بعض الناس على أن يدفن فيه، فلما خرجنا بالجنازة من باب قنسرين أبى الله تعالى أن يدفن بحيث أوصى فدفن بمقابر الصالحين بالقرب من قبر يوقنا من جهة القبلة رحمه الله تعالى.
758 - مظفر الكتبي المتوفى سنة 936
مظفر الدين بن محمود بن مظفر الدين بن أحمد الحلبي الشافعي الصوفي الأوحدي المشهور بالشيخ المظفر الكتبي.
شيخ معمر يلف على رأسه الميزر وينتسب إلى الشيخ أحمد الأوحدي الكرماني منشىء الزاوية المشهورة الآن بالمظفرية بالقرب من الزاوية النفيسية بحلب نسبة لها إلى ولده الشيخ مظفر الدين وإنما قيل له الكتبي لأنه كان يجلد الكتب على باب الجامع الكبير بحلب، وكانت له الخبرة التامة بترميم المصاحف الرثة. وكان له صفاء قلب ونورانية وسريرة وملازمة لعمي قاضي القضاة كمال الدين الشافعي وهو شيخ شيوخ حلب، ثم بقي عنده نقيب الرسل وهو قاضي طرابلس ثم حلب وصار له اسم في الوثائق الشرعية المعمولة إذ ذاك عنده.
توفي بحلب تقريبا سنة ست وثلاثين وتسعمائة.(5/441)
759 - أثير الدين محمد بن الحسين بن الشحنة المتوفى سنة 936
محمد بن الحسين بن محمد الرئيس الأصيل أثير الدين أبو اليمن بن الشحنة الشافعي شقيق اللساني أحمد المتقدم ذكره.
اشتغل على العلاء الموصلي والبدر السيوفي قليلا وتولى وظائف سنية ورأس بها كعادة أسلافه. ثم توفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة ولم يعقب ذكرا.
760 - محمد بن طاس بصتى المتوفى سنة 936
محمد بن الشيخ شمس الدين الحنفي البانقوسي المعروف بابن طاس بصتي.
تفقه على شيخنا عبد الرحمن بن فخر النسا الحنفي ودرس بالأتابكية البرانية ببراءة.
وكان صالحا مباركا قليل الكلام حسن الخط كبير السن كثير التهجد. وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة.
761 - أحمد بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة 936
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن قاضي القضاة فتح الدين أبي البشرى عبد الرحمن بن العلامة الشيخ كمال الدين أبي الفضل محمد بن الشحنة الحلبي سبط دنكز نائب قلعة حلب وابن سبط المقر الناصري محمد ابن الأمير الجمالي يوسف ابن الأميري الناصري محمد بن مبارك الحلبي المشهور بابن المنقار.
توفي سنة ست وثلاثين، وكان يعرف أيضا بابن المنقار لما أن أباه نشأ في كنف أخواله.
وكان منور الشيبة حسن الهيئة وافر الحشمة، غير أنه لم يكن له حظ من العلم ولا من الجاه لاشتغاله في شبابه بصنعة العد (1) (هكذا) في حانوت بقرب آدر أخوال أبيه واستغنائه بما يصل إليه من نصف وقف جده القاضي فتح الدين، فإن وقفه انحصر في
__________
(1) في در الحبب: الفراء.(5/442)
ولده إبراهيم وبنته بوران المنتقل ريعها إلى ولدها الأمير الشرفي يونس أخي الناصري محمد المذكور، ثم إلى أولاده يوسف ومحمد ويونس وفرج المنتقل ريعها الآخر إلى أولادها القاضي جلال الدين محمد والقاضي لسان الدين أحمد ولدي القاضي أثير الدين محمد ابن الشحنة وأمامة جدتي لأبي المنتقل نصيبها من أمها ومن آسية بنت عمها الميتة من غير ولد إلى أولادها والدي وعمّيّ، وبما يصل إليه من غير هذا الوقف كوقف جده لأبيه الأمير حسام الدين محمود شحنة حلب، إذ قد كان جده القاضي فتح الدين هذا هو الذي كان حنفيا ثم تحول مالكيا ورافقه في قضاء حلب قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية الطائي الشافعي حتى ذكره في تاريخه وأثنى عليه بالمروءة والحشمة وأنشد له كما قال ابن حجر في إنبائه:
لا تلوموا الغمام إن صب دمعا ... وتوالت لأجله الأنواء
فالليالي أكثرن فينا الرزايا ... فبكت رحمة علينا السماء
ولم يكن دفن صاحب الترجمة بمقابر بني الشحنة بالأشقتمرية بل بمقابر أخوال أبيه بني المنقار عند أبيه حتى لا يفارقهم حيا ولا ميتا.
762 - زين الدين عمر الشماع المتوفى سنة 936
عمر بن أحمد بن علي بن محمود الشيخ الإمام أبو حفص زين الدين الشماع الحلبي الشافعي الفقيه الأثري الإخباري الصوفي شيخنا المشهور بالشيخ زين الدين.
ولد حسب ما وجدته بخطه سنة ثمانين وثمانمائة ظنا، وعني بالقراءة على المحيوي الأبّار والجلال النصيبي وغيرهما من علماء حلب، وحظي بالرواية بالسند العالي من قبل شيخنا التقي أبي بكر الحيشي الحلبي وغيره.
وارتحل في طلب العلم والحديث فحج وجاور بمكة مرات، وحرص فيها على التحصيل والأخذ عن كل حقير وجليل من الرجال والنساء، وكذا أخذ عن بعض أهل المدينة الشريفة وبيت المقدس ودمشق وحمص والقابون الفوقاني وصفد وبلبيس وظاهر أنبابه حسبما ذكره في فهرسته الصغير الذي سماه «تحفة الثقاة بأسانيد ما لعمر الشماع من المسموعات».
وصاحب بمكة الشيخ الزاهد العارف بالله تعالى سيدي محمد بن عراق حتى كان يهدي للشيخ هدايا والشيخ ببلدته حلب. ذكر شيخنا في كتابه «عيون الأخبار» أنه أهدى
إليه عباءة كان يلبسها وعراقية وشيئا من ماء زمزم. ونقل شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه لبس خرقة التصوف من يد سيدي محمد بن عراق ولقنه الذكر، وأنه لما مات حزن عليه كثيرا وجمع ترجمته مع بعض كراماته الشهيرة.(5/443)
وصاحب بمكة الشيخ الزاهد العارف بالله تعالى سيدي محمد بن عراق حتى كان يهدي للشيخ هدايا والشيخ ببلدته حلب. ذكر شيخنا في كتابه «عيون الأخبار» أنه أهدى
إليه عباءة كان يلبسها وعراقية وشيئا من ماء زمزم. ونقل شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه لبس خرقة التصوف من يد سيدي محمد بن عراق ولقنه الذكر، وأنه لما مات حزن عليه كثيرا وجمع ترجمته مع بعض كراماته الشهيرة.
ورحل إلى القاهرة وعني فيها بالأخذ عن علمائها لا سيما العلم المشهور الجلال السيوطي فإنه أكثر من الأخذ عنه والالتقاط من كتبه المهمة وتأليفاته الجمة. وكان الجلال النصيبي يدفع إليه على يده مسائل مشكلة ليرفع له إشكالها ويقول له: لا تعرضها على غيره فإني أعرف مقام غيره في العلم بالنسبة إليه.
ومن أعظم من أخذ عنه بالقاهرة قاضي القضاة زكريا الأنصاري، وكان من حاله معه أول اجتماعه به أنه قال له: ما اسمك؟ فقال عمر، قال شيخنا: فترنم لسماع هذا الاسم ثم قال: والله يا سيدي أنا أحب سيدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأحب من اسمه عمر لأجل سيدي عمر، قال: ثم ذكر لي مناما رآه حاصله أنه رأى سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في منامه وهو طوال، قال: فقلت له: اجعلني في صدرك أو في قلبك، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه: يا زكريا أنت عين الوجود، ثم ذكر أنه استيقظ وهو يجد لذة هذه الكلمة.
قال شيخنا: ثم ذكر لي أيضا أنه اختصم شخصان من أمراء الدولة في الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض صاحب الديوان المشهور فقال أحدهما: هو ولي الله تعالى، وقال الآخر: هو كافر، وأن القائل بكفره كتب صورة سؤال في كفره وطلب منه الكتابة، قال: فامتنعت من ذلك واعتذرت بأن القول بكفر مسلم فيه خطر، قال: فلما سمع القائل بولايته بذلك طمع في الكتابة بولايته، فكتب صورة سؤال يطلب الكتابة بولايته، فامتنعت أيضا واعتذرت بأن الجزم بولاية من لا تتحقق ولايته فيه خطر أيضا، فلم يقنع به بل طلب الكتابة وترك السؤال عندي، فذهبت بعد صلاة الجمعة إلى الجامع الأزهر لزيارة شخص كنت أعتقده لأستشيره في الكتابة بالولاية، فلما رآني ابتدرني قبل أن أكلمه يقول: نحن مسلمون أم لا؟ قلت له: بل أنتم من خيار المسلمين، قال: فما الذي يوقفك عن الكتابة؟ فقلت له: كنت انتظر هذا الإذن، قال: ثم فتح علي بكتابة عظيمة في القول بولايته. قال الشيخ زين الدين: هذا محصل ما سمعته من لفظه.(5/444)
ودخل الشيخ زين الدين حماة فأخذ بها عن شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي علوان الحموي وأخذ هو عنه وصاحبه صحبة أكيدة حتى كان يرسل إليه وهو بحلب مطالعات يشكو فيها خواطر لنفسه، فيجيبه عنها بأجوبة شديدة على النفس فيتلقاها بالقبول ولا يخفيها كأنه ينادي بها على نفسه. وقد حكى هو لشيخنا جار الله أن بعض تلامذة الشيخ جمعها في كراسة فكتب الشيخ عليها عند رؤيتها: «تشنيف الأسماع بما سئل عنه الفقير عمر بن الشماع» مظهرا للشيخ جار الله الاغتباط بها. ومما دل على أخذ سيدي علوان عنه ما أنشدنيه شيخنا له رواية عنه:
استبق للخير تغنم ... وارحم الخلق لترحم
قد روينا في حديث ... مسند ليس يكتّم
إنما رب البرايا ... لأولي الرحمة يرحم
نجل شماع رواه ... وروينا عنه فافهم
من طريق عن فريق ... سلسلوه فتقدّم
وبالجملة فقد أكثر من الشيوخ والأخذ عمن دب ودرج حتى استجيز لأهل مكة، فكتب لهم سنة ثلاث وثلاثين إجازة منطوية على استدعاء سطره الشيخ جار الله وضمنها أن شيوخه بالسماع والإجازة الخاصة قد زادوا على المائتين وأن شيوخه بالإجازة العامة مع الأولين ثلاث مائة مع قبول الزيادة عليها.
وكان لا يخل بالرواية والإسماع إذا حضر إليه جماعة، ويكتب طبقتهم عنده مثبتا ما سمعوه عليه وأجاز لهم إياه.
وقد نظم ونثر وألف واختصر، فمن أول ما ألفه ونظمه تخميس منظومة السهيلي التي مطلعها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
وسماه «باللمعة النورانية في تخميس السهيلية»، وأكثر من التبرع بنسخ منه بخطه لأصحابه وبالإجازة به لصفاء خاطره. وتناوله منه ذات يوم سيدي علوان وقرأ صدره فتبسم، ثم أنشده من نظمه قصيدة تشتمل على فوائد وحكم ثم قال: لما نظمت هذه القصيدة عرضتها على سيدي علي بن ميمون قدس الله سره فنظر إلى موضع منها أعني من
حكمها أو مواعظها ثم قال لي: يا علوان أهكذا أنت أو أنت متصف بما ذكرت، فإن يكن كذلك فبها ونعمت أو نحو هذا الكلام، ثم قال له: يا أخي قولك:(5/445)
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
وسماه «باللمعة النورانية في تخميس السهيلية»، وأكثر من التبرع بنسخ منه بخطه لأصحابه وبالإجازة به لصفاء خاطره. وتناوله منه ذات يوم سيدي علوان وقرأ صدره فتبسم، ثم أنشده من نظمه قصيدة تشتمل على فوائد وحكم ثم قال: لما نظمت هذه القصيدة عرضتها على سيدي علي بن ميمون قدس الله سره فنظر إلى موضع منها أعني من
حكمها أو مواعظها ثم قال لي: يا علوان أهكذا أنت أو أنت متصف بما ذكرت، فإن يكن كذلك فبها ونعمت أو نحو هذا الكلام، ثم قال له: يا أخي قولك:
يا من إليه بذلتي أتخضع ... وبذكره أبدا لساني مولع
إن كنت كذلك فبها ونعمت أو فكن كما قلت أو نحو ذلك.
وله تخميس آخر سماه «فتح المنّان في تخميس رائية الشيخ علوان» وهي القصيدة التي مطلعها:
يا طالبا للوصال بادر ... واخرج عن الكون ثم سافر
وله في معنى الحديث المسلسل بالأولية قوله فيما أنشدنيه:
كن راحما لجميع الخلق منبسطا ... لهم وعاملهم بالبشر والبشر
من يرحم الناس يرحمه الإله كذا ... جاء الحديث به عن سيد البشر
واتفق له في هذين البيتين أن أنشدهما بمكة، فقال فاضل من فضلائها: ما أردتم بقولكم البشر؟ فقال: جمع بشارة، فقال له: فعل هل يجمع عليه فعالة؟ فأوقفه إذ أشكل عليه، فلقي آخر من فضلائها فذكر له الواقعة فقال له: أبشر فقد صنف بعضهم كتابا في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وسماه «خير البشر بخير البشر»، ثم ذهب إلى منزله فأوقفه عليه فسر به إذ دل على صحة استعمال هذا اللفظ، ولولا ذكره البشر وهو طلاقة الوجه مع البشر بالتحريك لم يجعل البشر بالتحريك جمع بشارة، فلم يرد عليه ما ورد وإنما كان يجعله جمع بشرة من البشر الذي هو طلاقة الوجه مثل كسر في جمع كسرة كما في قول سالم بن مفرج السلمي المعري أحد رجال تاريخ ابن العديم:
له راحة ينهلّ من فيضها الندى ... فينهل في معروفها البدو والحضر
ووجه يضيء البدر من قسماته ... وأحسن ما في أوجه البشر البشر
ولشيخنا ما أنشده بعد إسماع أحاديث منها (اغتنم خمسا قبل خمس) من قوله:
تيقظ ونافس في المعالي بهمة ... تجد نفسا فالنفس إن جدت جدّت
عليك بخمس قبل خمس ففز بها ... وإياك خلّي قهر أخطر علّة
غناء فراغ صحة قبل عكسها ... بسقم وشغل مع توال لفاقة
شباب حياة قبل ضد كليهما ... من الهرم المزري وخطف المنية
تمسك بنظم قد أجزت بعقده ... غدا نثره في قول خير البرية
وكان يفعل أشياء لم يرها منقولة ثم تظهر له منقولة كما وجدته بخطه أنه قد كان من مدة من السنين جعل في ورده من أدعية الكرب (الله الله ربي لا أشرك به شيئا) ولم ير نصا على عدد فيه، فألقي في قلبه أن يقوله سبع مرات ففعل، فوقف على بعض «جمع الجوامع» في الحديث لشيخه السيوطي فرآه نقل عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه أنه إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات: الله الله ربي لا أشرك به شيئا.(5/446)
تيقظ ونافس في المعالي بهمة ... تجد نفسا فالنفس إن جدت جدّت
عليك بخمس قبل خمس ففز بها ... وإياك خلّي قهر أخطر علّة
غناء فراغ صحة قبل عكسها ... بسقم وشغل مع توال لفاقة
شباب حياة قبل ضد كليهما ... من الهرم المزري وخطف المنية
تمسك بنظم قد أجزت بعقده ... غدا نثره في قول خير البرية
وكان يفعل أشياء لم يرها منقولة ثم تظهر له منقولة كما وجدته بخطه أنه قد كان من مدة من السنين جعل في ورده من أدعية الكرب (الله الله ربي لا أشرك به شيئا) ولم ير نصا على عدد فيه، فألقي في قلبه أن يقوله سبع مرات ففعل، فوقف على بعض «جمع الجوامع» في الحديث لشيخه السيوطي فرآه نقل عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه أنه إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات: الله الله ربي لا أشرك به شيئا.
ولحرصه على الرواية رأى في منامه شيخه البرهان ابن أبي الشريف المقدسي ثم القاهري وقد دخل منزله بحلب وهو مكفوف، فاستأذنه في قراءة بعض مما نظمه الشيخ ليرويه عنه، فأذن له، قال: فمما قرأته عليه ظنا:
توقّ الهوى والنفس واجهد لتسلما ... وجاهد لكي ترقى من العز سلّما
ومن مؤلفاته: «مورد الظمآن في شعب الإيمان» ومختصره «تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان»، ومختصر شرح الروض وهو الذي سماه «مغني الراغب في روض الطالب»، ومنها «بلغه المقتنع في آداب المتمتع»، و «الدر الملتقط» الذي انتقاه من «الرياض النضرة في فضائل العشرة» رضي الله عنهم وعنا بهم، و «العذب الزلال في مناقب الآل»، و «اللآلي اللامعة في تراجم الأئمة الأربعة»، ومنها تذكرة سماها «سفينة نوح»، و «المنتخب من النظم الفايق في الزهد والرقايق»، و «عرف الند في المنتخب من مؤلفات بني فهد»، و «الفوائد الزاهرة في السلالة الطاهرة»، و «المنتخب المرضي من مسند الشافعي»، و «الدر المنضد من مسند أحمد»، و «لقط المرجان من مسند أبي حنيفة النعمان»، و «إتحاف العابد الناسك بالمنتقى من موطأ مالك»، و «اليواقيت المكللة في الأحاديث المسلسلة»، و «القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي»، و «المواهب المكية»، و «تحفة الأمجاد»، والسيرة الموسومة «بالجواهر والدرر»، و «محرك همم القاصرين بذكر الأئمة المجتهدين المعتبرين»، و «النبذ الزاكية فيما يتعلق بذكر أنطاكية». وله تعليق سماه «عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار» انتهى فيه إلى المحرم سنة ست وثلاثين
وصدره بما لم أجده لغيره من ذكره الحمدلة سبع عشرة مرة حيث قال: الحمد لله مقدر السكون والحركات، الحمد لله الحافظ لعباده في الإقامة والتردد في القفار والفلوات، إلى أن قال: وقد يسمى هذا التعليق تحرير المقال في ضبط ما وقع لجامعه في الإقامة والارتحال، أو الفوائد والدرر فيما وقع له في السفر والحضر، أو ملء العيبة فيما وقع في الإقامة والغيبة، أو التحفة فيما وقع في الإقامة والوجهة، أو زبدة الخبر فيما وقع في الإقامة والسفر، أو عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار، إلى أن قال: وقد سنح لي اختيار الأخير فهو عين الأسماء.(5/447)
توقّ الهوى والنفس واجهد لتسلما ... وجاهد لكي ترقى من العز سلّما
ومن مؤلفاته: «مورد الظمآن في شعب الإيمان» ومختصره «تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان»، ومختصر شرح الروض وهو الذي سماه «مغني الراغب في روض الطالب»، ومنها «بلغه المقتنع في آداب المتمتع»، و «الدر الملتقط» الذي انتقاه من «الرياض النضرة في فضائل العشرة» رضي الله عنهم وعنا بهم، و «العذب الزلال في مناقب الآل»، و «اللآلي اللامعة في تراجم الأئمة الأربعة»، ومنها تذكرة سماها «سفينة نوح»، و «المنتخب من النظم الفايق في الزهد والرقايق»، و «عرف الند في المنتخب من مؤلفات بني فهد»، و «الفوائد الزاهرة في السلالة الطاهرة»، و «المنتخب المرضي من مسند الشافعي»، و «الدر المنضد من مسند أحمد»، و «لقط المرجان من مسند أبي حنيفة النعمان»، و «إتحاف العابد الناسك بالمنتقى من موطأ مالك»، و «اليواقيت المكللة في الأحاديث المسلسلة»، و «القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي»، و «المواهب المكية»، و «تحفة الأمجاد»، والسيرة الموسومة «بالجواهر والدرر»، و «محرك همم القاصرين بذكر الأئمة المجتهدين المعتبرين»، و «النبذ الزاكية فيما يتعلق بذكر أنطاكية». وله تعليق سماه «عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار» انتهى فيه إلى المحرم سنة ست وثلاثين
وصدره بما لم أجده لغيره من ذكره الحمدلة سبع عشرة مرة حيث قال: الحمد لله مقدر السكون والحركات، الحمد لله الحافظ لعباده في الإقامة والتردد في القفار والفلوات، إلى أن قال: وقد يسمى هذا التعليق تحرير المقال في ضبط ما وقع لجامعه في الإقامة والارتحال، أو الفوائد والدرر فيما وقع له في السفر والحضر، أو ملء العيبة فيما وقع في الإقامة والغيبة، أو التحفة فيما وقع في الإقامة والوجهة، أو زبدة الخبر فيما وقع في الإقامة والسفر، أو عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار، إلى أن قال: وقد سنح لي اختيار الأخير فهو عين الأسماء.
وله مجموع سماه «سلوة الحزين» ذكر فيه فوائد، ومن غريب ما اتفق له فيه أنه كان يعلق فيه شيئا من خبر وقعة الحرة، فدخل عليه رجل وأخبره أن الوزير الأعظم في الدولة السليمانية إبراهيم باشا، وكان يومئذ بحلب في سنة إحدى وثلاثين، قد أمر بقتل نائب قاضي حلب وأنه علقّ وأن الجم الغفير قد سر بذلك، وهو يعلّق في خبر عبد الملك بن عبد الرحمن الذماري الصنعاني الأنباري القاضي وأنه ضربت عنقه.
وكان رحمه الله تعالى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يقبل هدية أهل الدنيا ولا يتولى شيئا من الوظائف والمناصب ويقنع بما يحصل له من كسب مال كان له على يد من يتجر له فيه متعففا متقشفا.
توفي بحلب في أواسط صفر سنة ست وثلاثين ودفن تحت سفح جبل جوشن عند الحارة التي يرد عليها من يرد من الأنطاكيين، وتألم لفقده أهل حلب وغيرهم كسيدي علوان الحموي، فإنه تأخر بالوفاة عنه في هذه السنة بما دون ثلاثة أشهر، وعنه نقل بالواسطة شيخنا جار الله أنه قال في شأن الشيخ زين الدين وذلك بعد أن توفاه الله تعالى:
انتهت إليه رياسة الحديث النبوي ومعرفة طرقه. وكان محافظا على السنة واقتفاء أثر السلف الصالح رحمه الله تعالى وإيانا.
قال في «الكواكب السائرة» ناقلا عن تاريخ ابن طولون الدمشقي: إنه بعد وفاته بسبعة عشر يوما توفيت زوجته ولم يعقب. اهـ.
وذكر الرضي ابن الحنبلي في ترجمة محمد أبي النجا محمد بن إبراهيم الشهير بابن الخياط الشافعي عم الزين عمر الشماع المتقدم ذكره أنه كان دينا خيرا حضر مجلسه في السماعات
والإجازات وآلت كتب الشيخ زين الدين المذكور إليه. وكانت له على الناس في إعارة بعضها منة عظمى، وكان ينتفع بها وينفع من سأله في عارية شيء منها إلى أن توفي سنة سبع وخمسين وتسعمائة فذهبت الكتب شذر مذر لاستيلاء أيدي الجهلة عليها.(5/448)
وذكر الرضي ابن الحنبلي في ترجمة محمد أبي النجا محمد بن إبراهيم الشهير بابن الخياط الشافعي عم الزين عمر الشماع المتقدم ذكره أنه كان دينا خيرا حضر مجلسه في السماعات
والإجازات وآلت كتب الشيخ زين الدين المذكور إليه. وكانت له على الناس في إعارة بعضها منة عظمى، وكان ينتفع بها وينفع من سأله في عارية شيء منها إلى أن توفي سنة سبع وخمسين وتسعمائة فذهبت الكتب شذر مذر لاستيلاء أيدي الجهلة عليها.
أقول: أما قبره فقد درس، وفتشت عليه كثيرا بين البقية الباقية من القبور التي في سفح جبل الجوشن التي اشتهرت عند العامة بقبور الجراكسة والتي درس معظمها منذ ثلاث سنين بسبب مستودع الكاز الكبير الذي عمر هناك فلم أعثر عليه.
وله من المؤلفات التي لم تذكر هنا «نزهة العين في رجال الصحيحين» وهو مجلد وسط رأيته بخطه في خزانة الشيخ محمد العقيلية بحلب وهو من نفائس الكتب وربما لا تجد لهذه النسخة ثانية.
ومن مؤلفاته التي لم تذكر في ترجمته ولا في كشف الظنون «الكواكب النيرات في الأربعين البلدانيات» وهي أربعون حديثا تلقاها في أربعين بلدا عن أربعين شيخا، رأيتها في المكتبة المولوية بحلب وهي جديرة بالطبع أيضا لغرابتها كما رأيت. وله ثبت في مجلدين صغيرين رأيت الأول منه بخطه أيضا في المكتبة التي كانت عند الشيخ أحمد الزرقا وبيعت للمجلس البلدي في الإسكندرية افتتحه بإجازة من شيخه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وفيه إجازته من شيخه الحافظ الجلال السيوطي والجلال المحلي بخطهما، وفيه إجازات كثيرة لعلماء عصره من حلب ومصر والأقطار الحجازية وغيرها، ومعظم تلك الخطوط لا تكاد تقرأ حتى إن خط الجلال السيوطي رحمه الله قرأته بعد جهد. وبالجملة فهو ثبت حافل نفيس لما اشتمل عليه من خطوط أعاظم علماء ذلك العصر. وقد ذكرنا مؤلفاته التاريخية في المقدمة.
763 - علي بن أحمد الحاضري المتوفى سنة 937
علي بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد الصغير ابن عز الدين محمد الكبير ابن خليل أقضى القضاة علاء الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.
أخذ عن الشمس الدلجي وغيره، وجلس بمكتب العدول على باب جامع حلب الشرقي، وناب بمحكمة الجمالي يوسف بن الخواجا إسكندر الحنفي، وكتب بخطه الكثير
من الكتب العلمية، ووعظ بجامع حلب.(5/449)
أخذ عن الشمس الدلجي وغيره، وجلس بمكتب العدول على باب جامع حلب الشرقي، وناب بمحكمة الجمالي يوسف بن الخواجا إسكندر الحنفي، وكتب بخطه الكثير
من الكتب العلمية، ووعظ بجامع حلب.
وكان صالحا عفيفا سليم الصدر.
توفي في شوال سنة سبع وثلاثين.
764 - قاضي القضاة محمد بن فرفور المتوفى سنة 937
محمد بن أحمد بن محمود قاضي القضاة ولي الدين أبو اللطف وأبو زرعة الدمشقي الشافعي الشهير بابن فرفور.
أخذ الفقه عن والده قاضي القضاة شهاب الدين، وعن جماعة بدمشق، منهم التقي ابن قاضي عجلون الشافعي، وجماعة بمصر، منهم قاضيا القضاة زكريا الأنصاري والبرهان ابن أبي شريف الشافعيان.
وأخذ الحديث عن جماعة، منهم التقي عبد الرحيم ابن الشيخ محب الدين بن الأوجاوقي الشافعي، ومنهم حفيده ولد ولده، فإنه سمع من الأول المسلسل بالأولية، وأجاز له الثاني رواية القرآن العظيم عنه برواياته التي فيها من السبعة المتواترة ورواية الصحيحين في كتب أخرى حديثية وغير حديثية، وأذن له في لباس الخرقة القادرية، وكتب له ثبتا سماه «بالقصر الثبوتي» المشهور لسكنى ولد شيخ الإسلام ابن فرفور وترجمه فيه وهو يومئذ شاب بسلالة العلماء الأكابر وبليل دوحة الفضل من أهل المناقب والمفاخر، وترجم والده بشيخ مشايخ الإسلام ملك العلماء الأعلام صدر مصر والمدينة والشام، وأفاد فيه أنه صحب جده الذي صحب جماعة أجلاء منهم سيدي أبو الفتح بن أبي الوفا والسيد الشريف أبو الصفا الوفائي المقدسي والشيخ الكبير المعمر سيدي محمد بن سلطان وسيدي الشيخ كمال الدين الملقب بالمجذوب، وأن الولوي صحبه كما صحب هو جده، فلاح لنا إذ صحبنا الولوي بحلب أنا كنا من المتشرفين بصحبته.
ثم إن الولوي ولي قضاء الشافعية بدمشق سنة اثنتي عشرة وتسعمائة واستمر بها قاضيا إلى دولة آل عثمان، فعزل عنه ثم أعيد إليه مضافا إليه من غزة إلى حمص، فلما توفي السلطان سليم وأراد جان بردي الغزالي العصيان بعد كفالة دمشق وما معها قصد الولوي بالسوء، فرحل الولوي قاصدا الباب العالي السليماني للشكاية عليه، فدخل على حلب وكافلها قراجا
باشا فمنعه من التوجه وعرض له أحواله، فأعطي قضاء حلب سنة ست وعشرين وتسعمائة فكان أول قاض تولى قضاء حلب ودمشق في الدولة العثمانية وآخر قاض تولى قضاء حلب من أبناء العرب فيها.(5/450)
ثم إن الولوي ولي قضاء الشافعية بدمشق سنة اثنتي عشرة وتسعمائة واستمر بها قاضيا إلى دولة آل عثمان، فعزل عنه ثم أعيد إليه مضافا إليه من غزة إلى حمص، فلما توفي السلطان سليم وأراد جان بردي الغزالي العصيان بعد كفالة دمشق وما معها قصد الولوي بالسوء، فرحل الولوي قاصدا الباب العالي السليماني للشكاية عليه، فدخل على حلب وكافلها قراجا
باشا فمنعه من التوجه وعرض له أحواله، فأعطي قضاء حلب سنة ست وعشرين وتسعمائة فكان أول قاض تولى قضاء حلب ودمشق في الدولة العثمانية وآخر قاض تولى قضاء حلب من أبناء العرب فيها.
وبقي في حلب في عزة وشهامة وكرم وسخاء إلى أن تزوج بها الست حلب الأغلبكية الماضي ذكرها وسكن بها في بيت أزدمر الذي دخل الآن في خبر كان، ثم عزل عن قضاء حلب فسافر إلى دمشق في أثناء صفر سنة سبع وعشرين وتسعمائة بعد خذلان جان بردي كافلها، فولي قضاها ثاني مرة، ثم كان من حقد عيسى باشا عليه حتى قدم حلب قدمة ثانية بنية التوجه إلى الباب العالي وشيخنا الهندي بها، فذهب إليه لما كان له وهو بدمشق من العطف عليه، وذهبنا معه، ثم عاد إلى دمشق فتوفي بها لسم دسه إليه عيسى باشا سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ودفن بمدرسته الكائنة خارج دمشق بجوار الشيخ أرسلان رضي الله عنه.
وكان مولده سنة أربع وتسعين وثمانمائة. ومع توليته القضاء في الدولة العثمانية لم ينتقل عن مذهبه بل كان متعبدا على قاعدته.
765 - زين العابدين بن الحسن الخريزاتي المتوفى سنة 937
زين العابدين بن الحسن بن عبد الله بن عمر بن علي بن عبد الله بن سليمان بن أحمد ابن الفقيه موسى بن يونس بن علاء الدين بن عبد الله بن عبد القادر بن عبد الوهاب بن حسين ابن الشيخ إلياس ابن الشيخ علي بن موسى بن جعفر بن خالد بن موسى، المسمى بالشمّو، المتصل نسبه بعاصم بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الجزري المولد الحلبي الموطن الخريزاتي العباسي.
توفي بحلب سنة سبع وثلاثين. وكان آباؤه وأجداده بقرية تسمى فقه موسيان بجنب النهر المسمى بهكار في ناحية ريكان العليا من عمل العمادية، ثم جهل نسبه، ثم رحل إلى العمادية فإذا بها بنو عمه فأثبت له نسبه القاضي إسماعيل بن محمد العمادي الريكاني قاضي الجزيرة سنة تسع وثمانين وثمانمائة، ثم اتصل ذلك بعدد من القضاة ونوابهم واحدا بعد واحد إلى عمي الكمال الشافعي وهو خليفة الحكم العزيز بالديار المصرية سنة اثنتي
عشرة قبل أن يتولى فيها قضاء حلب وسائر أعمالها.(5/451)
توفي بحلب سنة سبع وثلاثين. وكان آباؤه وأجداده بقرية تسمى فقه موسيان بجنب النهر المسمى بهكار في ناحية ريكان العليا من عمل العمادية، ثم جهل نسبه، ثم رحل إلى العمادية فإذا بها بنو عمه فأثبت له نسبه القاضي إسماعيل بن محمد العمادي الريكاني قاضي الجزيرة سنة تسع وثمانين وثمانمائة، ثم اتصل ذلك بعدد من القضاة ونوابهم واحدا بعد واحد إلى عمي الكمال الشافعي وهو خليفة الحكم العزيز بالديار المصرية سنة اثنتي
عشرة قبل أن يتولى فيها قضاء حلب وسائر أعمالها.
وكان في أول أمره يغسل الموتى، ولما جاء الطاعون بحلب وكافلها يومئذ أزدمر الجركسي مات من مماليكه الجم الغفير، وكان يملك ألف مملوك، فكان يغسل من مات منهم ويأخذ جميع سلبه إلى أن أثرى، وبقي على حرفته هذه إلى اخر وقت. ثم كان سر الحلقة عند عمي المشار إليه حين كان شيخ شيوخ حلب، ثم تقهقر الزمان فصار شيخ شيوخها.
وكان قادريا سهرورديا رفاعيا، وذلك أنه أذن له في سنة خمس في لبس الخرقة القادرية والجلوس على السجادة وأخذ العهد وقص الشعور السيد الشريف محيي الدين محمد بن محمد القادري أحد أسباط قطب الدائرة عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه، وأخذ عليه العهد السيد علي الخراساني السهروردي بحق أخذه عليه من قبل الشيخ زين الدين الخوافي بسنده، وأجلسه على السجادة شيخ شيوخ حلب يومئذ السيد علي بن يوسف بن محمد الحسيني الرفاعي ولبس العمامة السوداء من يد المبدوء بذكره.
وكان لسنا مفوها ذا حيل ودهاء، يعرف مع اللغة العربية الفارسية والتركية.
766 - محمد بن سبيخ الطبيب المتوفى سنة 937
محمد بن ناصر الدين بن سبيخ الطبيب الحلبي المعروف بشيخ الإسلام.
كان أخذه الطب عن طبيب يعرف بالحمصية لكثرة ما كان يأمر بإطعامها للضعفاء.
وكان تلقيبه بشيخ الإسلام (من الغرائب، إذ لم يكن له من العلوم سوى الطب، وكأنه لقب بذلك على معنى أنه شيخ في الإسلام) (1) لداع دعا إلى ذلك.
توفي سنة سبع وثلاثين وتسعمائة.
(وكان الشيخ عبد الله بن ناصر الدين المتقدم ذكره أخاه لأبيه) (2).
767 - بوران بنت الشحنة الشاعرة المتوفاة سنة 938
بوران بنت قاضي القضاة أثير الدين محمد بن الشحنة الحنفي.
__________
(1) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب» ليست في الأصل.
(2) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب» ليست في الأصل.(5/452)
ولدت بحلب سنة إحدى وستين وثمانمائة، وقرأت القرآن العظيم وطالعت الكتب ونسختها ونظمت ونثرت وحجت مرتين. وكانت صالحة خيرة. ولما احتضرت جرى منها أن حمدت الله تعالى على أن لم يكن في صندوقها إذ ذاك درهم ولا دينار. وكانت مستأجرة لبعض الجهات تسعين سنة ممن أضربه الفقر، ولم يمض من المدة سوى القليل فردته على المؤجر وسامحته في باقي الأجرة.
ومن شعرها ترثي أخويها العفيف الحسين والمحب عبد الباسط الآتي ذكرهما قولها:
يا بين بالغت في الأشجان والمحن ... وجلت فينا بجد ليس بالحسن
أضرمت نار فؤادي والحشاء معا ... أوليتني في الورى حزنا على حزن
أغلقت باب علوم ثم باب هدى ... أخذت مني محب الدين من وطني
قد مات في غربة والشام مسكنه ... يا ليتني قبل ذا أدرجت في كفني
وقد فقدت عفيف الدين وا أسفي ... فليت بعد عفيف الدين لم أكن
قد كان موت محب الدين نائبة ... واطول حزني لذالك المنظر الحسن
إلى أن قالت:
واطول حزني وواوجدي ووا أسفي ... فيم الإقامة بالشهباء لا سكني
ولها ترثي المحب وحده:
دعوا دمعي بيوم البين يجري ... فقد ذهب الأسى بجميل صبري
وكيف تصبرّي وأخي رهين ... بأرض الشام في ظلمات قبر
فقدت أخي وكان أخي وظهري ... على الحدثان سمّاعا لأمري
فإن عجزت عن الندب الغواني ... بعثت الدمع نظما غير نثر
ولا يخفى أنما أرادت في المرثية الأولى بقولها لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي على الاكتفاء أخذا من قول الطغرائي (فيم الإقامة بالزوراء لا سكني) البيت. وأرادت في المرثية الثانية بقولها (فقد ذهب الأسى بجميل صبري) يعني قد أذهب الأسى جميل صبري على نمط قوله عز وجل {ذَهَبَ اللََّهُ بِنُورِهِمْ} أي أذهبه ولم ترد ذهاب الأسى مع جميل الصبر على أن الباء للمعية لفساد المعنى حينئذ.
توفيت سنة ثمان وثلاثين.(5/453)
768 - عمر بن محمد المرعشي المتوفى سنة 938
عمر بن محمد ابن الشيخ الإمام العلامة الصوفي شهاب الدين أبي الفضائل أحمد بن أبي بكر ابن الشيخ زين الدين أبو حفص المرعشي الأصل الحلبي الحنفي الشهير بابن المرعشي أحد رؤساء حلب.
كان في أول شأنه فقيها شروطيا يجلس بمركز العدول المشهورة قديما بمكتب الصوفي بجوار جامع الزكي بحلب على فقر كان عنده وقناعة بما كان يحصله من صنعة الشهادة ووظيفة عالية كانت له بالجامع المذكور، ثم انساقت إليه أموال جزيلة وزوجة جميلة من حيث لا يعلم ولا يدري، كما قال الشاعر:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع (1)
فعند ذلك رأس كما هو اللايق به، إذ كان حفيد من ترجمه السخاوي بالتقدم في الفقه وغيره على ما علمت في ترجمته بعد ما كان يتجمل بمصاحبة شيخ الإسلام البدر السيوفي ويحظى بمجالسته لا سيما حيث كان يحضر الجامع الأعظم بحلب لشراء الكتب فيجلس بالقرب منه. ثم لما كانت الدولة العثمانية صار يحضر مع الأكابر في تفاتيش الأوقاف والأملاك بحلب، وانتفع به جماعة في شهادته أو تزكيته، وأحبه القاضي زين العابدين ابن الفناري ثاني قضاة حلب في هذه الدولة. ثم أجرى قلمه على صور الفتوى قيل بحكم سلطاني سعى في إخراجه، وقيل لا، ثم امتحن فسيق هو وأولاده مع من سيق إلى رودس من الحلبيين بواسطة قتل قرا قاضي، ثم أطلق منها هو وأولاده وعاد إلى حلب باقيا على شهامته ورياسته وعلى ما كان بيده من المناصب الجليلة فيها إلى أن مات بها سنة ثمان وثلاثين وهو يحث عند الاحتضار من كان من الحضّار على الذكر والتلاوة، إلى أن مات على أسلوب أبناء العرب في لبس العمامة الفقهية، غير أنه كان يشد وسطه ويلبس السلاري المفتوح من فوق على الأسلوب الرومي.
769 - محمد بن عمر المعروف بمنلا عرب الأنطاكي المتوفى سنة 938
محمد بن عمر ابن الشيخ شرف الدين أبي المكارم حمزة بن عوض الأنطاكي الحنفي
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة.(5/454)
الواعظ المعروف في الديار الرومية بمنلا عرب.
وعظ بحلب في دولة كافلها خير بك الجركسي. وكان ذا وجاهة في وعظه كثير القدح في شاه إسماعيل صاحب تبريز وفي شيعته، فصيحا بليغا منطيقا ذا علم وعمل.
واتفق له في مجلس وعظه أن حضره شيعي متسلح من أتباع الإلجي الذي بعثه شاه إسماعيل إلى الغوري صاحب مصر، فتوجه إليه وعاد من عنده إلى حلب فهمّ بإشهار سيفه ليقتله، فقتله الحلبيون وحرقوه، فتغير الإلجي من ذلك وكاتب الغوري في ذلك، فاضطرب له فإذا بعرض خير بك قد وصل إلى الباب الشريف متضمنا لما فيه إخماد نار كان قد أوقدها الإلجي في مكاتبته، فأزال ما في خاطر الغوري من الغيظ على الشيخ، ثم بدا له فأرسل مكاتبة تتضمن الأمر بخروجه من حلب، فاجتمع به خير بك وكان يعتقده ويحبه وأوحى إليه ما وردت به المكاتبة، فأمره خفية بالمهاجرة فهاجر إلى الديار الرومية.
ثم لما اضمحلت الدولة الجركسية قدم إلى حلب ووعظ بها على جاري عادته بعد أن سافر صحبة السلطان سليم بن عثمان عند توجهه إلى فتح تبريز وأخذ في الوعظ بها والقدح في الرافضة على أكمل وجه، إلا أنه أخذ في النهي عن أخذ أموالهم، فقيل له: قد كنت بالأمس تبيحها فما لك اليوم تنهى عن أخذها؟ فقال: لأن الخنكار قد أمنهم.
وكان للشيخ قوة حافظة لا نظير لها بحيث حكى لنا شيخنا الشهاب الأنطاكي أنه سأله عن حالته في الحفظ فذكر له أنه إذا مر على الكراسة الورق التي في مسطرة خمس وعشرين مرة واحدة فإنه يحفظها ويفهم مضمونها.
توفي ببروسا من الديار الرومية سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة حسبما أخبرني بذلك صاحبنا ولده الشيخ محيي الدين محمد حين قدم إلى حلب سنة اثنتين وخمسين وتسعماية من جانب أرض الحجاز.
وكان محدثا مفسرا جامعا لفضائل شتى سالكا لطريق السنة في إرخاء العذبة، وكانت عذبته طولى (1) برميها وراء ظهره.
ومما بلغني أن جده الشيخ حمزة كان يقري الكشاف بحلب، وكان إذا جرى ذكر
__________
(1) في الأصل: طولها.(5/455)
مؤلفه قال: رحمه الله إن كان مستحقا للرحمة، فيقيد له دعاءه بالرحمة بهذا التقييد، وأنه قال: اشتغلت بالعلم بالقدس الشريف عشر سنين ولي مشاية واحدة، مشيرا إلى أنه كان يقتصر على المشي إلى محل درسه لا غير.
وأخبرنا شيخنا الشهاب أحمد الخطيب الأنطاكي أن أصله من شيخ الحديد وأن البدر السيوفي كان يغص منه ويقول: ليس هو منلا عرب بل من لا عرف، ولا عبرة بقوله.
770 - أبو الهدى النقشواني سنة 939
أبو الهدى بن محمود النقشواني الحنفي.
دخل حلب وسكن بها بالكلتاوية وبها صحبته، ثم بالأتابكية البرانية، ثم مات بعين تاب سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.
وكان عالما عاملا محققا مدققا منقطعا عن الناس قليل الأكل، وإذا توجه إلى صلاة الجمعة لم يلتفت يمينا ولا شمالا. وكان تحصيله للعلم عن جماعة، منهم منلا طالش الدريغي ومنلا مريد القراباغي وابن الشاعر، وكان يميزه في الفضل على الأولين. وقد نظم منلا أبو الهدى الشعر باللسانين العربي والفارسي، ومن قوله:
بدا الأحزان في قلبي ... فهات الراح واغسلها
771 - مسعود بن عبد الله الشيرازي المتوفى سنة 939
مسعود بن عبد الله العجمي الشيرازي الشافعي الواعظ نزيل حلب.
وعظ بجامعها الأعظم فنال قبولا من الناس وصارت له به في يوم الجمعة المجالس الحافلة، وصار الوتارون بحلب من شيعته كما كانوا قديما من أتباع الشيخ محمد الخراساني النجمي، فبلغ الشمس بن بلال أمره فزوجه بنته وصار لا يكلفه عليها درهما واحدا. ولم يزل يعظ الناس إلى أن توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.
وكانت له مطالعات في التفسير والحديث وأخذ في الكلام عليها باللسان العربي ولكن مع لحنات فيه ومجازفات كانت تبدو من فيه. ومما اتفق لي معه في بعض المجالس أن أوردت
حديث البخاري في شأن جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) فضعفه مع أن الحافظ ابن حجر رواه في فتح الباري من غير ما طريق ولم يضعّفه. وكذا أوردت حديث أنه صلى الله عليه وسلم (كان يأكل البطيح بالرطب)، فزعم أنه موضوع مع أن الدارمي رواه في كتاب الأطعمة غير حاكم بوضعه، وناقشته فيما قال، فلم يرد جوابا إذ لم يورد صوابا.(5/456)
وكانت له مطالعات في التفسير والحديث وأخذ في الكلام عليها باللسان العربي ولكن مع لحنات فيه ومجازفات كانت تبدو من فيه. ومما اتفق لي معه في بعض المجالس أن أوردت
حديث البخاري في شأن جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) فضعفه مع أن الحافظ ابن حجر رواه في فتح الباري من غير ما طريق ولم يضعّفه. وكذا أوردت حديث أنه صلى الله عليه وسلم (كان يأكل البطيح بالرطب)، فزعم أنه موضوع مع أن الدارمي رواه في كتاب الأطعمة غير حاكم بوضعه، وناقشته فيما قال، فلم يرد جوابا إذ لم يورد صوابا.
وكان من أتباعه هندي يدعى هلالا فبينما شيخنا الشهاب أحمد الهندي جالس إذ هو سائل إياه سؤالا صرفيا بقصد احتقاره، وأخذ في أن يجلس فوق الشيخ، فأنشده الشيخ:
إن الجهول إذا تصدّر بالغنى ... في مجلس فوق العليم الفاضل
فهو المؤخر في المجالس كلها ... كتقدم المفعول قبل الفاعل
ثم لما بلغ الشمس بن بلال ما جرى من هلال وسطع شهاب شيخنا الشهاب أضافه بمنزلة ضيافة عجيبة ونسج المودة بينه وبين صهره وأكرمه مزيد إكرام حتى قدم له الشمس السجادة بيده إذ قام القوم لصلاة العشاء.
772 - فتح الله المرعشي المتوفى سنة 939
فتح الله بن محمد بن العلامة شهاب الدين أبي الفضائل أحمد بن أبي بكر المرعشي الأصل، الحلبي المولد والدار، أحد أعيان التجار بحلب، المعروف بابن المرعشي.
كانت له قدم في نظم الشعر التركي وذوق في الشعر العربي وكذا الفارسي، ورأي مصيب وحدس جيد وهمة عالية وحمية تامة وخلطة ببعض أركان الدولة.
توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.
773 - الشهاب أحمد الهندي دفين الأطعانية المتوفى سنة 939
الشهاب الهندي أحمد البنارسيّ الأصل الدّلوليّ الدار الشيخ المحقق المدقق شهاب الدين الهندي الحنفي شيخنا.
كان رحمه الله تعالى في بداية أمره من أرباب الديوان العسكري، فاشتغل في بلاده بالعلوم العقلية والنقلية على جماعة، منهم العالم العامل الصوفي السيد إبراهيم الدلي القادري
والعماد الطارمي وغيرهما، ثم آل أمره إلى أن صار عند داود وزير السلطان إسكندر شاه سلطان دلي (دهلي) نحو سبع سنين يعلم فيها أولاده العلم، وكان يمنعه من التردد إلى أحد إلا إلى بعض أساتذته لشدة حرصه عليه ومحبته له. وكانت له خزانة كتب نفيسة فدفع مفتاحها إليه وأبقاه عنده في عيش رغد، إلا أنه كان مغصوبا في الإقامة عنده لما كان يكره من عشرة ذوي الشوكة وأرباب السياسة وإن كان في بدء أمره عسكريا، ولم يزل عنده إلى أن احتال على مفارقته بطلب الحج وأوهمه أنه يحج ويرجع، فخرج من عنده ومر في سفره بمدينة كجرات من بلاد الهند، فاجتمع فيها بشيخ الإسلام الخطيب أبي الفضل ابن نور الهدى الكازروني الصديقي تلميذ الجلال الدواني ومحشّي تفسير البيضاوي وشارح «الإرشاد» في النحو (1) للقاضي شهاب الدين أحمد الهندي، وهو التأليف العجيب الغريب الذي التزم مؤلفه فيه بإيراد النظير في ضمن التعبير نحو قوله: ونكرة مخصوصة تقع مبتدأ، وأخفى نفسه عند اجتماعه به وطلب القراءة عليه في حاشية الشريف قدس الله سره على شرح الشمسية، فأذن له ودفع إليه من حواشيه المنطقية شيئا يطالع، فأخذ شيخنا في مناقشته المرة بعد المرة، فلما عرف مقامه أقرأه في شرح المواقف، وكان قد سمع به هناك العلامة السيد صفي الدين الإيجي والد (2) شيخنا القطب عيسى، فقربه وأكرم مثواه ورتب له عشاء وغداء وخادما خاصا.(5/457)
كان رحمه الله تعالى في بداية أمره من أرباب الديوان العسكري، فاشتغل في بلاده بالعلوم العقلية والنقلية على جماعة، منهم العالم العامل الصوفي السيد إبراهيم الدلي القادري
والعماد الطارمي وغيرهما، ثم آل أمره إلى أن صار عند داود وزير السلطان إسكندر شاه سلطان دلي (دهلي) نحو سبع سنين يعلم فيها أولاده العلم، وكان يمنعه من التردد إلى أحد إلا إلى بعض أساتذته لشدة حرصه عليه ومحبته له. وكانت له خزانة كتب نفيسة فدفع مفتاحها إليه وأبقاه عنده في عيش رغد، إلا أنه كان مغصوبا في الإقامة عنده لما كان يكره من عشرة ذوي الشوكة وأرباب السياسة وإن كان في بدء أمره عسكريا، ولم يزل عنده إلى أن احتال على مفارقته بطلب الحج وأوهمه أنه يحج ويرجع، فخرج من عنده ومر في سفره بمدينة كجرات من بلاد الهند، فاجتمع فيها بشيخ الإسلام الخطيب أبي الفضل ابن نور الهدى الكازروني الصديقي تلميذ الجلال الدواني ومحشّي تفسير البيضاوي وشارح «الإرشاد» في النحو (1) للقاضي شهاب الدين أحمد الهندي، وهو التأليف العجيب الغريب الذي التزم مؤلفه فيه بإيراد النظير في ضمن التعبير نحو قوله: ونكرة مخصوصة تقع مبتدأ، وأخفى نفسه عند اجتماعه به وطلب القراءة عليه في حاشية الشريف قدس الله سره على شرح الشمسية، فأذن له ودفع إليه من حواشيه المنطقية شيئا يطالع، فأخذ شيخنا في مناقشته المرة بعد المرة، فلما عرف مقامه أقرأه في شرح المواقف، وكان قد سمع به هناك العلامة السيد صفي الدين الإيجي والد (2) شيخنا القطب عيسى، فقربه وأكرم مثواه ورتب له عشاء وغداء وخادما خاصا.
ثم توجه إلى مكة فحج وجاور فيها، ثم إلى بيت المقدس فدخل في طريقه مصر وأقام بالأزهر مدة يقرأ عليه فيها أقوام، واجتمع فيها بشيخ الإسلام ناصر الدين اللقاني المالكي، فكان كل منهما يعجبه كمال صاحبه. ثم قدم دمشق قبل وفاة قاضي القضاة ولي الدين ابن الفرفور فأكرم مثواه ورتب له في كل يوم خمسة عثمانية سوى ما عينه له من الحنطة والكسوة في كل عام، واشتغل عليه بها جماعة. ثم قدم حلب فأنزلناه بمنزلنا، ثم قطن المدرسة الشرفية وأقبل عليه الناس للقراءة، فامتحنه بعض الحسدة في مسائل علمية أجاب عنها من غير رؤية نقل ولا روية.
واقترح عليه آخرون «كشف الغطا عن مباحثة قصرت عن دركها الخطا» فكتب عليها ما كتب. وكنت أول من أخذ في القراءة عليه، فقرأت عليه بجامع حلب الأموي
__________
(1) في الأصل: إرشاد النحو.
(2) في «در الحبب»: جد.(5/458)
في المطول وحواشيه للشريف الجرجاني.
ثم أكب الناس عليه في أنواع العلوم ووفد عليه جماعة من المحصلين والتفت إليه قاضي القضاة محيي الدين محمد بن قطب الدين الرومي الحنفي فعرض له في أدنى مدة في تداريس عدة، فتوطن بحلب وتزوج بها بنت الشيخ الصالح القدوة الحسين العزازي المعروف بالأطعاني، إلى أن مات بالطاعون في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ودفن بالأطعانية عند رجل ولي الله تعالى المعروف بالخباز رضي الله عنه، وكان له يوم دفنه مشهد عظيم تنافس فيه الناس في رفع سريره.
وكنت أقرأ عليه قبل أن يطعن في مسألة القصر المتعلقة بقوله تعالى {وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (1) وأوردت الآية وما تضمنته مما أورده التفتازاني فيها من نسبة الهلاك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستصعب بعض أصحابنا الحاضرين لديه نسبة الهلاك دون الموت إليه، فقال له الشيخ: قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} (2). ثم مسه الطاعون بعد هذه الواقعة بقليل فانقطع بالبيت. ثم لما أخذ في النزع سمعته يقرر في تفسير الفاتحة وهو يقول بالفارسية: خوب خوب (3).
وكان رحمه الله تعالى طويل القامة حسن الوجه مهابا ذا لحية شديدة السواد بها بياض كثير هو أشد ما يكون من البياض، ضحوك السن متواضعا صالحا محبا للفقراء محسنا إليهم معتقدا للأولياء معولا عليهم، ترك ما كان له من الثروة ورغب في الفقر وأعرض عن الدنيا، وقدم إلى ديارنا محلوق الشعر بعد أن كان ذا شعر بناء على ما هو دستورهم من حلق الشعر بعد تربيته إذا هم تركوا الدنيا وسلكوا مسلك أهل الفقر.
وكان ذا ذكاء مفرط واستنباط عجيب للمعاني الدقيقة بحاثا مناظرا سريع التقرير بديع التحرير لا يتوقف في كلامه ولا يتلعثم في إنهاء مرامه، مع البلاغة والفصاحة والبراعة، وكان يقول مع هذا: إنه بالفارسية أعلم منه بالعربية. وبلغ من فرط الذكاء إلى أن وصفه الشمس الخناجري بأنه ذو فكر يكاد يثقب الألماس.
__________
(1) آل عمران: 144.
(2) القصص: 88.
(3) أي: حسن حسن.(5/459)
وكان صرفيا نحويا بيانيا عروضيا فقهيا أصوليا منطقيا كلاميا فرضيا ملما بفن القراءات والحديث وأصوله والتفسير وغير ذلك مستحضرا للطيف الأشعار غواصا على درر البحار مستحضرا أي استحضار. وكان له بديع حل لحاشية الهندي على الكافية، وكثيرا ما كان يصحح لفظها من لفظه ويخبرنا أنها في ديارهم غير مدونة على هذا الأسلوب المشهور، وإنما هي هناك مكتوبة على حواشي الكافية عادة.
وكان لا يتعرض لمناظرة أحد من العلماء إلا بعد أن يتعرض لمناظرته ويقول: أوصاني بعض شيوخي بذلك، مع ما هو فيه من حب الانجماع عن الناس والرفاهية ونظافة الملبس والميل إلى لذيذ المأكل.
وفي مدحه قلت:
بماضي سيوف الهند كم أسرت قبلي ... وما يممت من قتل حب سوى قتلي
أسيلة قدّ في الضمير تمكّنت ... جليلة قدر لا تقابل بالمثل
ترنمها الغالي وطيب كلامها ... بكل عقيب القطع تقت إلى الوصل
غدايرها ليل بهيم وفرقها ... بهيّم معناه البهيّ ذوي العقل
إذا أقبلت في جمعها أظهرت لنا ... صفات حسانا من محاجرها النجل
وإن أدبرت أبدت مثنّى ومرسلا ... طويلا بديعا طوله صحّ في النقل
وإن رفعت عن وجهها برقع الحيا ... جزمت بأن القلب مسكنها الأصلي
تسلّيت عن أسمائها وصرفتها ... عن القلب إذ هند هي الغرض الكلي
فتاة بمعناها تعلّق خاطري ... ولم أصب عنها واشتغلت عن الكل
فصدت وردت وانثنت وتشاغلت ... وما قصدت إلا اختباري بالمطل
فثار غرامي واعتدت نار لوعتي ... عليّ فقالت لي: أترغب في وصلي
فقلت: أجل إني لأرغب راغب ... أجابت: لعمري إن ذا أسهل السهل
ومن بعد ذا غابت عن العين برهة ... من الدهر حتى صرت من ذاك في شغل
فشمّرت ساق الجدّ في طلبي لها ... لعلي أراها أو أصادف ذا فضل
فلم أر إلا سيبويه زمانه ... وشيخ المعاني والبيان لذي الكل
من أمتاز بالهنديّ عن كل عالم ... وصار شهابا باقيا في دجى الجهل
وقدّمه الناس اهتماما لشأنه ... لما أنه في العلم ذو العقد والحل
بتقريره أبدى حقيقة أمره ... فما كان إلا صاحب النقل والعقل
ومن أجل هذا كان منكر فضله ... جديرا بتوبيخ أضيف إلى عذل
فإن قوبلت حساده بخناجر ... تجد سل سيف الهند من أعظم العدل
بليغ إذا أملى كلاما لكاتب ... تراه عن التعقيد خلوا إذا يملي
وإن جمل ضمت إلى جمل بدت ... بلاغته إذ ذاك بالفصل والوصل
يصرح بالتحقيق في كل مبحث ... وإن ناب حرب جرد السيف للقتل
وإن ناقشت حساده أهل وده ... يدافع عنهم دون عيّ ولا كل
وينشد بيتا للفرزدق محكما ... وأبلغ به بيتا بناه على أصل
أنا الذايد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
بنى السعد للممدوح بيتا مشيدا ... ولا زال مرفوعا مقام أولي الفضل
ليحظى حفيد التادفي الحنبلي بهم ... كأنهم نفس الأقارب والأهل
وصلى إله الخلق في كل ساعة ... وآن على خير الورى خاتم الرسل
ثم رثيته بقصيدة صدرتها:(5/460)
بماضي سيوف الهند كم أسرت قبلي ... وما يممت من قتل حب سوى قتلي
أسيلة قدّ في الضمير تمكّنت ... جليلة قدر لا تقابل بالمثل
ترنمها الغالي وطيب كلامها ... بكل عقيب القطع تقت إلى الوصل
غدايرها ليل بهيم وفرقها ... بهيّم معناه البهيّ ذوي العقل
إذا أقبلت في جمعها أظهرت لنا ... صفات حسانا من محاجرها النجل
وإن أدبرت أبدت مثنّى ومرسلا ... طويلا بديعا طوله صحّ في النقل
وإن رفعت عن وجهها برقع الحيا ... جزمت بأن القلب مسكنها الأصلي
تسلّيت عن أسمائها وصرفتها ... عن القلب إذ هند هي الغرض الكلي
فتاة بمعناها تعلّق خاطري ... ولم أصب عنها واشتغلت عن الكل
فصدت وردت وانثنت وتشاغلت ... وما قصدت إلا اختباري بالمطل
فثار غرامي واعتدت نار لوعتي ... عليّ فقالت لي: أترغب في وصلي
فقلت: أجل إني لأرغب راغب ... أجابت: لعمري إن ذا أسهل السهل
ومن بعد ذا غابت عن العين برهة ... من الدهر حتى صرت من ذاك في شغل
فشمّرت ساق الجدّ في طلبي لها ... لعلي أراها أو أصادف ذا فضل
فلم أر إلا سيبويه زمانه ... وشيخ المعاني والبيان لذي الكل
من أمتاز بالهنديّ عن كل عالم ... وصار شهابا باقيا في دجى الجهل
وقدّمه الناس اهتماما لشأنه ... لما أنه في العلم ذو العقد والحل
بتقريره أبدى حقيقة أمره ... فما كان إلا صاحب النقل والعقل
ومن أجل هذا كان منكر فضله ... جديرا بتوبيخ أضيف إلى عذل
فإن قوبلت حساده بخناجر ... تجد سل سيف الهند من أعظم العدل
بليغ إذا أملى كلاما لكاتب ... تراه عن التعقيد خلوا إذا يملي
وإن جمل ضمت إلى جمل بدت ... بلاغته إذ ذاك بالفصل والوصل
يصرح بالتحقيق في كل مبحث ... وإن ناب حرب جرد السيف للقتل
وإن ناقشت حساده أهل وده ... يدافع عنهم دون عيّ ولا كل
وينشد بيتا للفرزدق محكما ... وأبلغ به بيتا بناه على أصل
أنا الذايد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
بنى السعد للممدوح بيتا مشيدا ... ولا زال مرفوعا مقام أولي الفضل
ليحظى حفيد التادفي الحنبلي بهم ... كأنهم نفس الأقارب والأهل
وصلى إله الخلق في كل ساعة ... وآن على خير الورى خاتم الرسل
ثم رثيته بقصيدة صدرتها:
جرى مدمعي من فرط ما قد جرى عندي ... لفقدان ذاك الليث والصارم الهندي
ونار الغضا بين الجوانح أضرمت ... جوى والأسى ما زال مشتعل الزند
وضوعفت الأحزان مذ حلّ رمسه ... وجثماننا ما زال يعتل للفقد
وصيّرنا فوضى وقد كان جمعنا ... لفيفا وبعد القرب صرنا ذوي بعد
وأدغم يوم البين في القلب لوعة ... وأبدل نوم العين بالدمع والسهد
إمام له التحقيق في كل مبحث ... وتوضيحه من غير كلّ ولا جهد
ومن بعد فتح المغلقات بفكره ... فكم مغلق تلقاه كالحجر الصلد
تحلّى بأوصاف الفحول أولى الحجى ... وألبس إثر الموت أكسية الحمد
ومذ حل بالشهبا تضوّع نشره ... كما ضاع نشر المسك والمندل الهندي
774 - أبو يزيد بن أحمد المعري الإدلبي المتوفى في هذا العقد ظنا
أبو يزيد بن أحمد المعري الكفر رومي ثم الإدلبي، إدلب الصغرى، الشافعي الصوفي مريد سيدي علوان الحموي.(5/461)
اجتمعت به بحلب غير مرة، فإذا هو لعيون القلوب قرة، صالح حسن الصمت متدين لا عوج في دينه ولا أمت، متحاش عن الدنيا الدنية فاضل في العلوم الدينية، لازم شيخه هذا من صغره وانتفع به في الطريق في كبره. وتفقه في بعض مؤلفاته على ولده سيدي محمد ورحل إلى مصر فأخذ بها الحديث عن الشيخ المعتمد السيد الشريف جمال الدين يوسف المصري.
775 - موسى التبريزي المتوفى سنة 940
موسى التبريزي الأدهمي، شيخ معمر منور، كان من مريدي الحاج ولي التبريزي الأدهمي.
قطن حلب وجاور بزاوية الأدهمية الكائنة شرقي السفاحية ووضع بها العلم الأدهمي مع سائر أدوات الدروايش. ولم يزل يعبد الله تعالى ويكنسها وينورها إلى أن مات فدفن بها سنة أربعين وتسعمائة. ولم تر عيني مثل شيبته ونورانيته رحمنا الله تعالى وإياه.
776 - حميد الدين الرهاوي البكرجي المتوفى سنة 940
حميد الدين بن مصلح الدين ابن الشيخ الصالح أحمد الرهاوي البكرجي، الفقيه المعمر الحنفي.
توفي بحلب سنة أربعين.
وكان يدرس في الفقه بجامع البكرجي وفيه أخذته عنه.
777 - عبد الله بن ناصر الدين الخطاط المتوفى سنة 940
عبد الله بن ناصر الدين بن سبيخ الحلبي الشافعي المشهور بابن ناصر الدين.
كان يؤدب الأطفال وعليه قبول في تأديبهم وفي قراءة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع اشتغاله بالتأديب كان يكتب في كل شهر مصحفا بالخط الحسن. واتفق له في آخر عمره أن أحضر للشهادة على يهودي بحق، فارتشى نائب قاضي حلب وكان
روميا يعرف بمحمد بن حمزة، فأمر أن يحضر الخصم بين عدة من اليهود ثم قال للشيخ عبد الله: بيّن المشهود عليه، فعيّن غيره لضعف بصره ودهشته، فامتحنه والعياذ بالله تعالى، فلم يمض قليل من الزمان إلا وحضر إبراهيم باشا الوزير الأعظم للمقام الشريف السليماني بحلب فصلب محمد بن حمزة لظلم كان منه. ثم توفي الشيخ عبد الله بعد تشفيه فيه سنة أربعين تقريبا.(5/462)
كان يؤدب الأطفال وعليه قبول في تأديبهم وفي قراءة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع اشتغاله بالتأديب كان يكتب في كل شهر مصحفا بالخط الحسن. واتفق له في آخر عمره أن أحضر للشهادة على يهودي بحق، فارتشى نائب قاضي حلب وكان
روميا يعرف بمحمد بن حمزة، فأمر أن يحضر الخصم بين عدة من اليهود ثم قال للشيخ عبد الله: بيّن المشهود عليه، فعيّن غيره لضعف بصره ودهشته، فامتحنه والعياذ بالله تعالى، فلم يمض قليل من الزمان إلا وحضر إبراهيم باشا الوزير الأعظم للمقام الشريف السليماني بحلب فصلب محمد بن حمزة لظلم كان منه. ثم توفي الشيخ عبد الله بعد تشفيه فيه سنة أربعين تقريبا.
778 - أحمد ابن الشيخ موسى الأريحاوي المتوفى سنة 940
أحمد ابن الشيخ الفقيه الصالح موسى الشيخ شهاب الدين النحلاوي محتدا الحلبي مولدا الشافعي المشهور بالرقة وبابن الشيخ موسى الأريحاوي.
كان أحد عدول حلب في الدولة الجركسية، وكان بعدها يخطب بالسلطانية تجاه قلعتها.
كان له شعر وتنطع في العبادة. ومن شعره ما كتب به لعمي الكمال الشافعي يهنيه بعيد أتى:
تهنّ بعيد قد أتاك على يمن ... يبشر بالغفران والعتق والأمن
وعش سالما من كل منية حاسد ... ومن شر ذي شر ومن كيد ذي ضغن
ومروانه وانعم واعل وابق وطب وجد ... وعد وارق وازدد واسم بالفهم والذهن
تقلدت بالسعد الكمال مناصبا ... تدوم ولم تقبل على مثمن الغبن
وسابقت أهل العلم في الفضل والحجا ... فذو السبق منهم حين سعيك في وهن
وكلهم في البحث أضحوا كهيئة ... وأصبحت في الشهباء كالشرط والركن
إذ أنت حررت الأمور تجندلوا ... لديك بلا ضرب يقدّ ولا طعن
وإن فهت بالآراء نظّمت لؤلؤا ... وإن تسطر التوقيع كالدر في القطن
ولم أنس ما أوليتني من تفضل ... مرارا ولم أبرح على فضلكم أثني
إلى أن قال:
أمدك رب العالمين بفضله ... وبالعز والتأييد ما دمت في أمن
وكانت له أمور مضحكة، منها أنه خرج ذات يوم في جماعة إلى جنينة عبيد (1)
وكانت مقصف حلب يستعمل فيها الحشيشة الخبيثة في منكرات أخرى، وبلغ أمره أن قتل وبلع (2)، وكان في سعد السعود فصار في سعد بلع، وقام ليصلي بهم فسجد فلم يرفع رأسه إلى أن فارقوه وأتموا صلاتهم، ثم أيقظوه مما كان فيه إيقاظا.(5/463)
أمدك رب العالمين بفضله ... وبالعز والتأييد ما دمت في أمن
وكانت له أمور مضحكة، منها أنه خرج ذات يوم في جماعة إلى جنينة عبيد (1)
وكانت مقصف حلب يستعمل فيها الحشيشة الخبيثة في منكرات أخرى، وبلغ أمره أن قتل وبلع (2)، وكان في سعد السعود فصار في سعد بلع، وقام ليصلي بهم فسجد فلم يرفع رأسه إلى أن فارقوه وأتموا صلاتهم، ثم أيقظوه مما كان فيه إيقاظا.
ومنها أنه كانت له زوجة فادعى أنها من ذرية العباس رضي الله عنه، وجلس يوما بدار العدل يسرد نسبها بحضرة قضاة القضاة، فإذا هو قد قام وهو آخذ في أثناء النسب، فقيل له في ذلك فقال: إني وصلت إلى جدها فلان وكان من أمراء المؤمنين.
ومنها أنه وقع بينه وبين القاضي علاء الدين ابن القطّان الشافعي، فقال له: أنا شهاب وأنت قطّان، أفلست تخشى على قطنك مني؟
ومنها أنه صار وكيلا في واقعة، فوقع بينه وبين الموكل وهو في الدعوى عليه منافرة، وكان يلقب بكرباج، فقال: ماذا يقال فيمن هو كرباج.
توفي بدمشق سنة أربعين رحمه الله وإيانا.
779 - محمد بن محمد الخناجري المتوفى سنة 940
محمد بن محمد الخناجري أبوه، الديري الأصل، الحلبي الشافعي، المعروف أبوه بابن عجل، ولم يشنه ذلك لما مر في ترجمة الشهاب أحمد المعروف بابن حماره.
كان ذا يد طولى في الفقه والفرايض والحساب مع المشاركة في فنون أخر، معتقدا في الصوفية سريع البكاء مع ما هو عليه من لطف المحاضرة وحسن المعاشرة وكثرة المفاكهة والممازحة وخفة الروح وانشراح الصدر. وكان كثير التردد للشيخ محمد الخراساني قدس
__________
(1) قوله جنينة عبيد هذا بضم عينها قطعة أرض واقعة ما بين شمالي الخضرية وبين منتهى أرض بستان النصيبي من جهة القبلة، وهي مذكورة في حدود البستان المذكور الجاري في وقف جد كاتبه الأعلى القاضي شمس الدين ابن آجا. وهذه الجنينة لم يبق لها عين ولا أثر، وأظن ذلك الاضمحلال في سنة سبعين وتسعمائة اهـ. نقلا عن خط الشيخ إبراهيم ابن الملا.
(2) قوله أن قتل وبلع، أراد المؤرخ ههنا قتل الحشيشة وهو دقها وعجنها المتعارف بين متعاطيها بقرينة قوله وبلع اهـ. نقلا عن خط إبراهيم بن الملا.(5/464)
سره، فاتفق له ذات يوم أنه وقف بين يدي الشيخ غاضا لطرفه، ساكتا، واضعا يده فوق الصدر، فسأله الشيخ: لم فعلت ذلك؟ فقال: طريق من كان بحضرة سلطان أن يغض طرفه، أو بحضرة فقيه أن يكف لسانه، أو بحضرة صوفي أن يوجه إليه قلبه، وها أنا قد جمعت الثلاثة بين يديك لاستحقاقك مثل ذلك.
وقد أفتى صاحب الترجمة ودرّس بالجامع الأعظم بحلب وانتفع به الناس.
وما أحسن قول القاضي جابر متعرضا إليه وإلى البدر بن السيوفي رحمهم الله تعالى:
سللن سيوفا من جفون لقتلتي ... وأردفنها من هدبها بخناجر
فقلت: أيفتى في دمي قلن لي: أجل ... أجاز السيوفي ذاك وابن الخناجري
وكنت ممن أخذ حظه منه فقرأت عليه «نزهة الحسّاب» بالمدرسة الشرفية، وأجاز لي أن أقرأها بحق قراءته لها على (العلامة الفرضي الحيسوب جمال الدين أبي النجا يوسف ابن علي بن محمد الإسعردي مولدا، المقدسي منزلا، الوفائي خرقة، الشافعي، صاحب المنظومة المسماة ب «بغية الرائض في علم الفرائض» بحق قراءته لها على) (1) مؤلفها الشهاب أحمد بن الهايم المصري ثم القدسي.
وكانت وفاته نهار عرفة من شهور سنة أربعين وتسعمائة بعد وفاة شيخنا الشهاب الهندي بأشهر معدودة، فقلت في مرثيتهما معا حيث قلت:
ثوى شيخنا الهندي في رحب رمسه ... ففاضت دموعي من نواحي محاجري
ومن بعده مات الإمام الخناجري ... وبان فكم من غصة في الحناجر
ومن لطائفه أنه مر يوما على الطائفة القلندرية، فتقدّم إليه أحدهم ليأخذ منه فتوحا فقال له: أنت جرار وأنا جرار والجرار لا يأخذ من الجرار شيئا.
وحضر عند جماعة في مأدبة، فلما خرج من عندهم فبينما هو في الطريق إذ صادفه رجل راجع من جنازة بعض معارف الشيخ، فقال له: أين كنتم؟ إشعارا منه بأنا لم نركم في الجنازة ولا المقبرة، فقال له: كنا بين القبور، فقيل له في ذلك فقال: كنا بين القبور الماشية.
__________
(1) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب» ليست في الأصل.(5/465)
وكان يوما بين جماعة من المشايخ يقرؤون الأنعام وفيهم القاضي تقي الدين بن شهلا الدمشقي الشافعي، وكان أسود اللون، فتردد الجماعة فيمن يدعو، فقال الشيخ لبعض الجماعة الحاضرين: توجه إلى ذلك الأدهم ودعه يدعو، فتوجه إليه وأخبره بصدور هذه العبارة من الشيخ، فلما رآه عاتبه فقال له: يا قاضي هب أنك ابن آدم رضي الله تعالى عنه.
وكان يسمع الآلات ويقول: أنا ظاهري أعمل بقول ابن حزم الظاهري، فإذا قال ذلك بحضرة الموفق شيخ الشيوخ بحلب قال له: إن من الحزم ترك قول ابن حزم. وجرى بينهما ما جرى من المباسطة.
وحكي عنه أن طفلا حسنا قبّل يده، فقال له: والله إن فمي أحق بهذا التقبيل من يدي.
ودخل يوما على حين غفلة على قاضي القضاة ولي الدين بن الفرفور ببيت أزدمر، فإذا هو وحده يستنجي بجنب البحرة، وكان يدخل عليه من غير استئذان، وكان الشيخ رأى منه ما رأى، فقال له: يا قاضي أهذا خف جمل؟ فقال له القاضي: يا شمس الدين بعد هذا لم تكن لتعمى أبدا، فقال له الشيخ: سبحان الله هل هذا ذكر نبي حتى تكون له هذه الخاصية.
ورأى إنسانا يمشي قدامه صغير له فقال له: وهذا عصفور من؟
ولما تزوج الشيخ إبراهيم الصيرفي الأريحاوي بعد أن كان أرملا هبت زوبعة شديدة فقال: سبحان الله! النساء يقلن: إذا انجلت عروس أرملة على زوجها هبت زوبعة، فلعل هذا الأرمل الذكر ينجلي في هذه الليلة على زوجته. إلى غير ذلك من لطائفه.
780 - أحمد بن محمد بن مهان المتوفى نواحي سنة 940
أحمد بن محمد الحلبي المشهور بابن مهان.
كان سمسار السختيان، ومع هذا كانت له كلمة في محلته الشهيرة بمحلة الجبيل، وكان فيه الخير حتى إنه بذل نحو ثلاثمائة دينار سلطاني في إنشاء القسطل التحتاني المجاور للمدرسة العجمية بالمحلة المذكورة، ونقر الجدار الكائن على يسرة النازل إليه فهيأ له فيه مدفنا سنة
تسع وثلاثين، ثم كان دفنه فيه بعد سنين معدودة، وجعل على أعلاه بعض حجرات منقورة في الجبل أيضا برسم بعض طلبة العلم الغرباء، فلما سكن بها بعضهم أتلفت عليه كتبه باستيلاء الرطوبة، فتركها ولم تزل متروكة من يومئذ اهـ.(5/466)
كان سمسار السختيان، ومع هذا كانت له كلمة في محلته الشهيرة بمحلة الجبيل، وكان فيه الخير حتى إنه بذل نحو ثلاثمائة دينار سلطاني في إنشاء القسطل التحتاني المجاور للمدرسة العجمية بالمحلة المذكورة، ونقر الجدار الكائن على يسرة النازل إليه فهيأ له فيه مدفنا سنة
تسع وثلاثين، ثم كان دفنه فيه بعد سنين معدودة، وجعل على أعلاه بعض حجرات منقورة في الجبل أيضا برسم بعض طلبة العلم الغرباء، فلما سكن بها بعضهم أتلفت عليه كتبه باستيلاء الرطوبة، فتركها ولم تزل متروكة من يومئذ اهـ.
أقول: لا زال هذا القسطل موجودا لكنه معطل لا يأتيه الماء، وقبره ثمة عن يسار النازل إلى القسطل داخل مغارة طويلة قليلة النور يشتغل فيها الحبّالون الحبال لرطوبتها.
ومكتوب على قبره: (أنشأ هذا السبيل المبارك أضعف خلق الله الحاج أحمد بن الحاج محمد بن مهان النعايومي «ثم كتابة داخلة في الجدار لم أتمكن من قراءتها وفي السطر الثاني من اللوح» ولرسوله الكريم بتاريخ شهر صفر الخير سنة تسعة وثلاثين وتسعمائة).
781 - حسين بن أبي بكر بن أبي ذر المتوفى سنة 941
حسين بن أبي بكر ابن محدث حلب وابن محدثها وحافظها أحمد بن أبي ذر الحلبي الشافعي أخو شيخ الشيوخ بحلب.
توفي في شعبان سنة إحدى وأربعين عن يرقان مري عرض له، ودفن بقبر عم أبيه عبد الله ابن الحافظ برهان الدين الحلبي.
وكان كثير الترفهات والتنزهات متأنقا في المأكل طري النغمة، ولكن لا في المحافل، عنده خير بقية من الأعمال الموسيقية رحمه الله.
782 - أبو ذر الصمصوني قاضي حارم المتوفى سنة 941
أبو ذر بن يوسف بن إبراهيم الصمصوني ثم الحلبي الحنفي.
فقيه فاضل شروطي ماهر في تسطير الوثايق الشرعية. قدم حلب فكتب بمحكمة القاضي زين العابدين الرومي، ولولي الدين محمد ابن الفرفور الدمشقي وهو قاض بحلب فمن بعدهما كالقاضي عبيد الله وغيره.
وتنقل من بعد ذلك في عدة مناصب ما بين تدريس وقضاء كقضاء حارم ونحوه.
وتزوج في حياة شيخنا الزين عبد الرحمن بن فخر النسا ببنت له مات زوجها عنها
طمعا في تركته وطلبا لأولاد يكونون من ذريته، إلى أن كانت وفاته بحلب سنة إحدى وأربعين وتسعمائة.(5/467)
وتزوج في حياة شيخنا الزين عبد الرحمن بن فخر النسا ببنت له مات زوجها عنها
طمعا في تركته وطلبا لأولاد يكونون من ذريته، إلى أن كانت وفاته بحلب سنة إحدى وأربعين وتسعمائة.
783 - علاء الدين بن عمر المعروف بشيء لله المتوفى سنة 941
علاء الدين بن عمر الحلبي المعروف بابن شيء لله، أحد أعيان التجار وأخو الحاج عثمان المتوفى سنة 959لأبيه.
كان في الدولة الجركسية معلم دار كورة كأبيه وأخيه، ثم تنزه عن معلميتها وأثمر ماله وحسنت حاله إلى أن قرب من الوفاة، فأوصى بمال كبير ليعمر به حوض بمحلة المشارقة عند باب العقد بها، فصرف بعد وفاته في عمارته فلم يف، فأكمل عمارته الخواجا سعد الله الملطي من ماله.
وأوصى أيضا لعلماء حلب وفقرائها بألف دينار سلطاني ففرقت على أربابها بعد وفاته بمباشرة الشيخ زين الدين عمر بن الوزنة. ولم نر بعده تاجرا أوصى بألف دينار سلطاني لمن ذكر إلى عامنا هذا عام أربعة وستين سواه.
وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ودفن بقرب مزار الشيخ ثعلب.
784 - باي خاتون بنت الشماع المتوفاة سنة 942
باي خاتون بنت إبراهيم بن أحمد الحلبية الشافعية القادرية الكاتبة بنت أخي شيخ الإسلام الزين الشماع.
قرأت عليه «منهاج النووي» بطرفيه وشيئا من «إحياء علوم الدين»، ومات ورأسه في حجرها، وكان كثير الزيارة لها.
قيل: وكانت ترقي من به الريح الأحمر فيبرأ بإذن الله تعالى كثير. وبذلت نحو مائتي مثقال من الذهب في الصدقات.
وكانت بينها وبين الشيخة فاطمة بنت قريمزان صحبة أكيدة، ولقد تشرف بها إذ كانت له زوجة الشريف ناصر الدين محمد العادلي.(5/468)
توفيت سنة اثنتين وأربعين ودفنت بجوار عمها المشار إليه.
785 - القاضي جابر التنوخي المتوفى سنة 942
جابر بن إبراهيم بن علي التنوخي القضاعي الشافعي القاطن بجبل الأعلى من معاملة حلب.
ولي نيابة القضاء به. وكان شاعرا ماهرا عارفا بالعروض والقافية وطرف من النحو، مستحضرا لكثير من علم متن اللغة ونوادر الشعراء وأشعار العرب العرباء، وحافظا لكثير من مقامات الحريري. وطالما كان يحضر مجلس درس شيخنا العلامة الموصلي فيسأله في سرد شيء منها عليه ليذاكره في عباراتها ولغاتها.
وكان له خط حسن وحظ إذا نطق في اللسن. وكان يزعم أنه من ذرية أخي أبي العلاء المعري، إلا أنه نقل عنه إلي أنه كان يرفع (نسبه) (1) فيقول: جابر بن إبراهيم بن علي بن فرج بن شمس الدين (بن الحسين بن علي بن أحمد بن عبد الله بن سليمان) (2)
ابن وداع، إلى أن يقول: ابن قضاعة التنوخي، مع أن أحمد هذا ليس أخا لأبي العلاء المعري الذي هو أحمد بن عبد الله بن سليمان موافقا له في الاسم فيما نعلم، فيكون هو أبا العلاء نفسه، وهو لم يتزوج قط فيلزم أن يكون القاضي جابر من ذرية من لم يتزوج قط.
نعم لأبي العلاء أخوان ذكرهما الصفدي في تاريخه، إلا أن أحدهما عبد الواحد والآخر محمد أبو المجد جد أبي المجد قاضي المعرة الذي كان أحد من أفتى على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأحد أرباب الدواوين الشعرية.
وعلى ما لصاحب الترجمة من المحاسن كان متهما بانحلال العقيدة بل باعتقاد ما يوجب الكفر والعياذ بالله تعالى حين كتب إليه بعض أكابر حلب لأمر وقع بينهما: السلام على من اتبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى وإن كان بالجبل الأعلى (3).
ومن شعره القصائد التي نظمها على حروف الهجاء وسماها «بالعقد الغالي في مدح
__________
(1) ما بين قوسين زيادة ليست في الأصل.
(2) ما بين قوسين زيادة ليست في الأصل.
(3) الجبل الأعلى: جبل شمالي حلب.(5/469)
الكمالي» وأهداها لعمي قاضي القضاة كمال الدين محمد الشافعي وجعل الأول منها:
طاب الزمان وراقت الصهباء ... وشدت على أوراقها الورقاء
وأدارها الساقي علينا في الدجى ... كانت لداء القوم نعم دواء
ساق له وجه حكى بدر الدجى ... وطلا الغزال ومقلة كحلاء
يرنو إلى الندما فيسكر طرفه ... غنجا ولا شهد ولا إغفاء
كالبدر حاز بكفه شمس الضحى ... في فتية تحكيهم الجوزاء
فاشرب ولا تدع السرور بها فقد ... غفل الوشاة وغابت الرقباء
سيما وقد مد الربيع بساطه ... من بعد ما قد جادت الأنواء
حاكت به أيدي الزمان زخارفا ... فيرى بها الصفراء والحمراء
يزهو بأزهار تخالف نورها ... يصبو إليها القلب والحوباء
وإذا تضن الغاديات بوبلها ... من كف قاضيها يسح نداء
أعني كمال الدين ذا الفخر الذي ... شهدت به الأموات والأحياء
الشافعيّ التاذفيّ ومن غدت ... تمحى به البأساء والضراء
البارع الشهم الهمام ومن به ... صلح الورى واستبّت (1) الأشياء
تلقى طباع الخير فيه غزيرة ... زينت به الغبراء والشهباء
ذو همة تعلو الكواكب رفعة ... ليست تنال ولا له أكفاء
وله المروءة والفتوة والوفا ... وفضائل ومناقب وسخاء
هو كامل في كل فن عالم ... وله التقى وفصاحة وذكاء
كملت مناقبه الحسان وغيره ... كملت به الضراء والفحشاء
شتان ما بين اللئام وبينه ... وبضدها تتميز الأشياء
لا زالت الأيام تخدم سعده ... ما عوقب الأنوار والظلماء
وله فيه مدائح كثيرة جدا لأنه كان ممدوحه الذي يعرف به، ومن جملتها قصيدة مطلعها:
هويت غزالا جعده وجبينه ... وأجفانه والجيد جيمات أربع
__________
(1) لعل الصواب: واستدت.(5/470)
وجمرة خديه وجوهر ثغره ... وسابعها جيم العجيزة تتبع
كجنح دجى والفجر والجفن ينتضى ... جرازا لقتلي والجداية تتلع
وجوريّ ورد والجمان منظما ... وأمواج لج هائج تتدفع
ومن جملتها:
سواء على المحبوب إن صدّ أو وصل ... وإن مرض الصب المعنى وإن نصل
أقلبك من قين شديد قساوة ... على العاشق المسكين أم قدّ من جبل
تقرح جفني من دموعي ومهجتي ... بها من غرام فيك جمر قد اشتعل
فتنت ببدر كل ما فيه فاتن ... من الشعر والخد المؤثر والمقل
وجعد وجيد والنهود وصدره ... كلوح من البلور والخصر والكفل
أقول له صلني فيضحك هازئا ... ولا ينثني نحوي فيدركني الخجل
فقلت لقلبي دع هواك وسر بنا ... إلى من له فخر ومجد قد اكتمل
وهي طويلة.
وذكر لنا ذات مرة مراتب الشعراء أن أشعرهم الخنديد ثم المفلق ثم الشاعر ثم الشويعر ثم الشعرور، فأنشدته في نظم مراتبهم هذه لنفسي:
مراتب نظّام القوافي تفاوتت ... وكل فصيح منهم فهو مشكور
فأشعرهم خنديدهم ثم مفلق ... فشاعرهم ثم الشويعر شعرور
توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين عفا الله عنه.
786 - يوسف الشرفي المعروف بابن المنقار المتوفى سنة 943
يوسف ابن الأميري الشرفي يونس ابن الأميري الجمالي يوسف ابن الأمير الناصري محمد بن المبارك، الحلبي ثم الدمشقي، الحنفي الشهير بابن المنقار.
كان له ذكاء مفرط وفضائل متنوعة ومعرفة تامة بأمور أهل الدنيا وشغف زائد بتواريخ الناس، حتى ألف تاريخا صالحا، ثم بداله فأزاله من البين، حتى لم تتمتع به عين، ولم يكن له أثر ولا عين.(5/471)
وتنقل في الوظائف السنية في كلتا الدولتين الجركسية والرومية، فولي في دولة الجراكسة كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة بحلب، وكذا ولي أستدارية السلطان بها، إلا أنه تجمع عليه للخزاين الشريفة مال جزيل فورد الأمر السلطاني برفعه إلى قلعتها ليؤخذ منه المال، وساء به الحال، فصمم العزم على الفرار منها إلى الأبواب الشريفة ليصلح أمره بها بمشارفة من له بها من الأصحاب، ففعل، فلما وصل إلى الأبواب الشريفة نصحه المقر المحبي بن أجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية وصمم عليه وهو مختف عنده في أن لا يقيم بهذه المملكة أصلا، وأخبره أن السلطان الغوري يومئذ كان قد عورض من جهتك وهو حاجب الحجاب بحلب في أمر فلاح كنت منعته من مطالبته بحق كان له عليه لكونه من فلاحي جهات السلطنة المتصرف أنت فيها، فإن ظهرت له ربما يوقع فيك أمرا، فانتصح ومر من القاهرة في البحر إلى القسطنطينية، فبينما هو فيها إذ داع دعاه إلى مفتيها فدخل عليه فإذا هو صاحب له قديم كان قد صحبه من حلب إلى القاهرة في سفرة قديمة للقاضي جمال الدين إليها رافقه هو فيها متوجها إلى الحج من طريق القاهرة وهو العلامة علاء الدين علي الجمالي والد فضيلة قاضي حلب المتقدم ذكره، فأكرم عند ذلك مثواه لما أن القاضي جمال الدين من الأسخياء سفرا وحضرا. ثم صار له بها خمسون درهما عثمانيا من الخزائن الشريفة العثمانية البايزيدية، فمكث بها مدة تزيد على ست عشرة سنة. ثم لما زالت الدولة الجركسية وزال ما كان يخشاه عاد إلى ديار العرب وتولى القضاء بسيجر وبإسعرد وبصفد، وتولى على المدرسة الماردانية بصالحية دمشق ذاكرا أن توليتها له بشرط واقفها.
ورافق زين العابدين سبط ابن الفناري قاضي حلب مع ثالث لهما في تفتيش الأملاك والأوقاف لرد ما لا صاحب له إلى بيت المال، فلم ير الحلبيون ذوو الأملاك والأوقاف منه ضررا، غير أنه ذكر أنه كان على قرية من ستين جهة رماح معدودة، وعرض ذلك على الحضرة الخنكارية خشية على نفسه من أن يقال في شأنه قد أخفى عنهما ما أخفى، فلما عرض على الحضرة الخنكارية ما عرض حصل منها السماح لمن كانت عليه الرماح.
ثم كانت له من خزانة دمشق علوفة جيدة إلى أن توفي بصالحيتها من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة ودفن بجبل قاسيون بوصية منه بعد ما كان دفن أولاده بداره وأعد له قبرا. ولم يعقب ولدا ولا ولد ولد ولا من دونه.(5/472)
وكان جده محمد هذا وهو محمد بن مبارك بن عبد الله الحسامي أميرا جليلا صار أحد مقدمي الألوف بالشام عام ثلاث وثمانمائة، وولي كفالة حماة في أيام السلطان فرج بن برقوق وجعله مدة باش عسكره، وكان أولا يعرف بابن المهمندار وهو صاحب الوقف العظيم الباقي في أيدي ذريته الآن بحلب، وكذا هو الذي لقب بالمنقار، قيل لأنه كان بمطبخه طباخة مسنة وكان ينكر عليها حسن الطبخ مغضبا، فقالت له يوما: إلى متى ترفع منقارك عليّ، تريد بذلك رفع أنفه عليها عند غضبه، فلقبه أعداؤه بالمنقار.
وأما جده الجمالي فإنه كان نائب إياس.
ورأيت مرسوما قديما ورد من قبل بعض السلاطين لبعض كفّال حلب يتضمن أنه قد أحاط علمنا ببني المهمندار بحلب وأنهم من ذوي البيوت العريقة وأنهم كانوا قطب المملكة الحلبية وعليهم مدارها وحقوق أسلافهم متواترة على الدول الشريفة قديما وحديثا مؤرخا لسنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.
787 - أحمد بن شاذ بك الطبيب المتوفى سنة 944
أحمد بن شاذ بك بن عبد الله العلائي أحد رؤساء الطب الحذاق بحلب.
أخذ شيئا في المنطق عن شيخنا العلاء الموصلي، ثم مهر في الطب، ثم استولى عليه حب شرب الراح فصار يشربها ويخالط الناس، فاختل نظام طبه.
وكان كثيرا ما يغض من شموال الأمشاطي الطبيب المصري نزيل حلب.
وكان أبوه شاذ بك العلائي عتيق قاضي القضاة علاء الدين ابن جنغل المالكي.
توفي تقريبا سنة أربع وأربعين رحمه الله تعالى.
788 - الأمير جانم الحمزاوي المتوفى سنة 944
جانم بن يوسف بن قرقماس الجركسي الأصل الحلبي المولد الأمير الكبير الشهير بابن الحمزاوي بالمهملة المكسورة والزاي.
كان اسمه محمدا فغلب لقبه عليه.(5/473)
وكان في الدولة الجركسية دوادارا ثالثا عند خاله خير بك كافل حلب ومقربا عنده جدا، ثم لما تولي كفالة القاهرة في الدولة العثمانية السليمية بقي عنده فلم يبرح عنه، ثم صار ناظر الأموال السلطانية بالديار المصرية والأقطار الحجازية فساس الناس في جمعها وجمع للخزاين الشريفة الأموال العظام وأنشأ له أملاكا وأوقافا جمة ورأس بالقاهرة رياسة كاملة باهرة، وصار يجتمع عنده أكابر العلماء كقاضي القضاة نور الدين الطرابلسي الحنفي وقاضي القضاة شهاب الدين الحنبلي ابن النجار وشيخ المحققين النور البحيري الشافعي في آخرين منهم الشيخ المعمر الشمس الدلجي، قيل وكان يلاقيه إلى باب منزله وينزله بيده من على دابته وهو منحن عليها لكبره ويقبل يده مرات، يجمعهم عنده كل خميس واثنين فيقرأ أحدهم شيئا من الحديث ويتكلمون عليه ما تيسر وهو بين أظهرهم، إلا في الأشهر الثلاثة الحرم فإنهم كانوا يحضرون عنده كل يوم، وكان يتفقدهم في الأعياد والمواسم والعطايا.
وكان له في كل سنة زكوات يفرقها على أربابها وخبز يفرق على أهل جامع الأزهر عشية كل يوم قدر خمسمائة رغيف، وخبز يفرق على المسجونين بسجن القاهرة واهتمام بشأن الحلبيين إذا قدموا عليه.
وعمر هناك تربة ووقف عليها وقفا وقرر لها شيخا وعشرة أشخاص يكونون حرسيين مقيمين بمساكن فيها وجعل لهم خبزا وماء وجوامك ودفن بها النورين المذكورين. وأمره الشيخ نور الدين محيسن القاهري وهو من المعتقدين أن يدفنه عندهما عسى أن يكون له بهما ثلاثة أنوار ينتفع بها يوم القيامة ففعل.
وكان له بالباب العالي الإكرام والاحترام غيبة وحضورا. ولما عزل سليمان باشا كافل القاهرة استنهضه في أن يكون معه في أخذ الهند بالأمر السلطاني إذا حصل الإذن السلطاني فيه، فوافقه، ثم رافقه في التوجه إلى الباب العالي، فلما عرض الحال وقع الإذن في ذلك وأعيد سليمان باشا إلى كفالة القاهرة، فلما شرع في تهيئة أمور السفر إلى الهند بدا للأمير جانم أن لا يسافر معه، فأرسل إلى أخيه الأمير إبراهيم وكان بالباب العالي دائما أن يشفع فيه ويصرفه عن هذه السفرة، فشاع بالباب العالي ما أسره لأخيه. واتفق أن الأمير إبراهيم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل بلوغ أخيه ما يبغيه فوصل إلى مسامع سليمان باشا ما أسره
لأخيه فلم يعرض فيه على التعيين حذرا أن لا يسمع فيه عرض، فعرض أن جماعة بالقاهرة يعطلون على هذه السفرة التي وقع الإذن السلطاني بها، فورد عليه حكم بفعل ما يريد، فأحضره وحز رأسه وأحضر ولده الجمالي يوسف وحز رأسه وسلخهما وحشاهما تبنا وعلقهما بباب زويلة، وكان ذلك في آخر ذي الحجة ختام سنة أربع وأربعين.(5/474)
وكان له بالباب العالي الإكرام والاحترام غيبة وحضورا. ولما عزل سليمان باشا كافل القاهرة استنهضه في أن يكون معه في أخذ الهند بالأمر السلطاني إذا حصل الإذن السلطاني فيه، فوافقه، ثم رافقه في التوجه إلى الباب العالي، فلما عرض الحال وقع الإذن في ذلك وأعيد سليمان باشا إلى كفالة القاهرة، فلما شرع في تهيئة أمور السفر إلى الهند بدا للأمير جانم أن لا يسافر معه، فأرسل إلى أخيه الأمير إبراهيم وكان بالباب العالي دائما أن يشفع فيه ويصرفه عن هذه السفرة، فشاع بالباب العالي ما أسره لأخيه. واتفق أن الأمير إبراهيم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل بلوغ أخيه ما يبغيه فوصل إلى مسامع سليمان باشا ما أسره
لأخيه فلم يعرض فيه على التعيين حذرا أن لا يسمع فيه عرض، فعرض أن جماعة بالقاهرة يعطلون على هذه السفرة التي وقع الإذن السلطاني بها، فورد عليه حكم بفعل ما يريد، فأحضره وحز رأسه وأحضر ولده الجمالي يوسف وحز رأسه وسلخهما وحشاهما تبنا وعلقهما بباب زويلة، وكان ذلك في آخر ذي الحجة ختام سنة أربع وأربعين.
ثم سعى في أخذ الهند فضيع أموالا جزيلة ولم ينل مراده قبل.
قيل: وكان تدبير قتله وقتل ولده مع سليمان باشا من قاسم المغربي كما سيأتي في ترجمته.
وقد بلغني عن الأمير جانم أنه كان مع هذه السعة لا يرى الدعة ويتمنى أن لو كان ببلدته حلب منفردا عن الناس تحت ظل شجرة في داره بها، حتى برز أمره بتجديد قاعة عظمى بجوار داره القديمة وبعث لها من القاهرة نفائس الرخام الملون فعمرت ولم ينل ما يريده من العزلة بها رحمه الله.
789 - يوسف بن الأمير جانم الحمزاوي المتوفى سنة 944
يوسف بن الأمير جانم بن الأمير الكبير يوسف الأمير جمال الدين الحمزاوي الحلبي القاهري.
ولي إمارة الحاج المصري. وقتله سليمان باشا الخادم كافل القاهرة سنة أربع وأربعين وتسعمائة على ما مر في ترجمة أبيه، ولامه على قتله الشيخ شاهين الجركسي المنقطع إلى الله تعالى بالقرافة، وكان سليمان يتردد إليه ويتبرك به، فلما قتله وأباه تركه وأباه وقال:
لا يعد سليمان يدخل عليّ ولا يتردد إليّ، فما زال حتى اجتمع به فقال: إن أباه قتل في عمره من لا يستحق القتل فقتل به، فما ذنب ولده؟ فقال: إني خشيت أن ينقاد إليه بعض بقايا الجراكسة فيفسد ملك مصر على الحضرة الخنكارية فقتلته.
وكان شكلا حسنا لا يروى راء من عذب رؤيته ولا يمل مطالع من شهود طلعته، طويل القامة زائد الشهامة رحمنا الله تعالى وإياه.(5/475)
790 - محمد بن عبد القادر الشماع المتوفى سنة 944
محمد بن عبد القادر بن أبي بكر الشيخ شمس الدين بن محيي الدين القرشي العمري الحلبي الشهير بابن الشماع (1) الريس بالجامع الكبير، كذا وجدته مرقوما بخط المحدث عبد العزيز بن عمر بن محمد بن فهد الهاشمي المكي في ثبت الزين الشماع حيث عده فيمن سمع منه الحديث المسلسل بالأولية كما هو المسطور هناك وكتب له بالإجازة عنه.
وقد كان الشيخ شمس الدين دينا خيرا فقيها موقتا مقداما في كلمة الحق، حتى مر يوما بجامع حلب الأعظم وبه شاب يدرس من ذوي البيوت فقال بصريح العبارة: من تصدر وهو حدث فقد فاته علم كثير.
وكان إماما بالتغري ورمشية وبها قرأت عليه في الميقات. وكان له مع هذا الفضل دراية في علم بعض الأطعمة والحلويات النفيسة، وذلك أنه كتب بخطه «وصلة الحبيب (2)
في الطيبات والطيب» وكان يطالعه ويعمل بموجبه.
سافر إلى دمشق فمرض بها فنقل إلى بيمارستانها فقال له كاتب البيمارستان: ماذا اكتب لك مما هو ملكك؟ فقال: اكتب أني فقير من فقراء المسلمين لا عليه ولا له.
وكانت وفاته سنة أربع وأربعين وتسعمائة.
791 - محمد بن عبد الرحمن السيرجي المتوفى سنة 944
محمد بن عبد الرحمن الأمير ناصر الدين الحلبي الشهير بابن السيرجي.
توفي سنة أربع وأربعين وتسعمائة. وكان مهمندارا كبيرا بحلب من دولة قايتباي إلى انقراض دولة الغوري، فإنه كان بحلب مهمنداران يقال لأحدهما مهمندار كبير ويقال للآخر مهمندار ثاني. ومن بديع ما اتفق له في دولة قايتباي أنه أرسل إليه يعقوب شاه مهمندار كبير بالأبواب الشريفة كتابا يذكر له فيه أن المهمندار الثاني سعى في أخذ
__________
(1) في هامش إحدى النسخ المخطوطة من «در الحبب»: ابن الشحام.
(2) طبع في جامعة حلب معهد التراث العلمي العربي بتحقيق سليمى محجوب ودرية الخطيب باسم «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب» تأليف كمال الدين بن العديم.(5/476)
المهمندارية الكبرى بحلب منك وكان صديقه، فتوجه إلى الأبواب الشريفة في أربعة عشر يوما، فلما اجتمع بقايتباي ظهر أن عمه كان من أصدقاء قايتباي قبل السلطنة، فقرره على وظيفته وألبسه الخلعة، فلما نزل بها إلى منزله أمر صديقه مهمندار كبير بالأبواب الشريفة عدوه الساعي عليه في وظيفته بأن يمشي معه بين يديه إلى منزله، فلم يسعه المخالفة، فلما وصل معه إلى منزلة اقتضت مروءة الناصري إذ تلاشى أمر عدوه وصلحت حاله أن نزع الخلعة وألبسه إياها كأنه لم يدر أنه سعى عليه، فعند ذلك اهتم العدو بشأنه وأضافه ضيافة حافلة وبسط عذره له، فيا لها مروءة أجراها المرء على عدوه اهـ.
أقول: وله وقف داخل في دائرة الأوقاف ومرتزقة يرتزقون منه.
792 - الشيخ عبدو القصيري المتوفى سنة 944
عبدو بن سليمان الكردي القصيري الشافعي الصوفي الخلوتي.
قدم حلب مرارا ونزل عند شيخنا البرهان العمادي وغيره. وكان أصله من خينو من قرى القصير، فتركها مع نضارتها إلى قرية خربة بجبل الأقرع فعمر له بها دارا، فعمر غيره بها دورا، واعتزل بها إلى أن ورد عليه ولده الشيخ أحمد وقبل يديه وأظهر التوبة عما كان عليه من عدم الرضى بما عليه أبوه، فجعله خليفته وانقطع لمجرد العبادة.
وبلغني من بعض الثقاة أنه توجه إلى زيارته فرأى حول داره دواب لا تحصى للزوار وغيرهم، فحدثته نفسه بأن يشتري لدابته علفا خشية أن تموت بين تلك الدواب الكثيرة عند رجل فقير، قال: فقدمت على الشيخ فقال لي بديهة: أتخاف عليها من الموت لعدم العلف؟ فعلمت أنه قد كاشفني أو كشف له.
توفي بوطنه سنة أربع وأربعين.
وكان من المجدين في العبادة فوق العادة، يتعمم هو وأتباعه بالمئزر الأسود ويلبس التاج المضرّب دالات (1). وكان في مريديه كثرة إلا أنها لم تبلغ كثرة مريدي ولده المذكور ولا كان يشتغل في العلوم الظاهرة مثله.
__________
(1) هذا التاج يلبسه أتباع الطريقة الصوفية المنسوبة إلى إبراهيم بن أدهم، وهو قطعة قماش ضرب على ظاهرها ما يشبه الدالات.(5/477)
793 - إبراهيم بن إبراهيم الأريحاوي المتوفى سنة 945
إبراهيم بن إبراهيم بن أبي بكر الشيخ برهان الدين الأريحاوي الأصل الحلبي الدار الصيرفي الشافعي.
كان حريصا على خدمة جماعة من العلماء بالمال واليد، صبورا على تحمل غليظ القول من بعضهم، معتنيا بجمع نفايس الكتب الحديثية والطبية وغيرها، سمحا بعاريتها.
قرأ على البرهان العمادي وابن مسلم وغيرهما وأعاد بالعصرونية في حلب عن المبدوء بذكره والشمس السفيري، وولي وظيفة تلقين القرآن العظيم بجامعها الأعظم. وأعرض في آخر أمره عن حرفته وقنع بالقليل مكبا على خدمة العلم عفيفا متعففا. ورافقنا في أخذ العلم عن الزين عبد الرحمن بن فخر النسا وغيره.
ولما توفي سنة خمس وأربعين دفن وراء جدار مقابر الصالحين في أرض اشتراها أخوه أبو بكر الصيرفي، ثم أزيل الجدار وترادف الدفن هناك حتى كان ممن دفن بها الشيخ الزاهد محمد الخاتوني وصارت المقبرتان مقبرة واحدة.
(على الهامش): وممن دفن في تلك البقعة مصنف هذا التاريخ [الرضي الحنبلي] وبين قبره وقبر الخاتوني دون عشرة أذرع، وقد زرتهما مرارا رحمهما ورحمنا الله تعالى. اهـ.
794 - بهاء الدين ابن شيخ سوق الدهشة المتوفى سنة 945
بهاء الدين بن علي بن حمزة المشهور بابن شيخ سوق الدهشة.
كان أحد أعيان تجار الصابون بحلب من بيت مهتم بالتشيع، إلا أن صاحبه الشيخ يحيى الأريحاوي أخبر عنه إذ شهد احتضاره أنه أشهده عليه أنه بريء مما اتهم به من التشيع، وأوصى أن لا يغسله فلان وذكر غاسلا اعتاد الشيعة غسله للموتى فغسله واحد من أهل السنة.
وكان الخواجا بهاء الدين قد رأس بحلب وصار له حشم وخدم وخيول ودواب وأسمطة عجيبة وملابس نفيسة وضيافات حافلة ووصلة بالحكام ليراعوه في الأحكام، وبذل رشى
لينال ما يروم ويشا، حتى كاد يتخيل لرياسته أنه القاضي بهاء الدين ابن الخشاب الذي أنشأ منارة الجامع الأموي بحلب وكان من رؤسائها على تشيع فيه.(5/478)
وكان الخواجا بهاء الدين قد رأس بحلب وصار له حشم وخدم وخيول ودواب وأسمطة عجيبة وملابس نفيسة وضيافات حافلة ووصلة بالحكام ليراعوه في الأحكام، وبذل رشى
لينال ما يروم ويشا، حتى كاد يتخيل لرياسته أنه القاضي بهاء الدين ابن الخشاب الذي أنشأ منارة الجامع الأموي بحلب وكان من رؤسائها على تشيع فيه.
وكان الخواجا بهاء الدين وهابا نهابا، ومتى حاول مالا كان في تحصيله محتالا، حتى إن شخصا كان يدعى بمحمد شاه سيق فيمن سيق إلى طرابزون، فحمله على أن وكله في تخليص مال كثير كان له في ذمم يهود فاستوفاه، فلما أطلق منها وعاد إلى حلب طالبه فمطله، وكان لا يبالي بالمطالبين على بابه قلوا أو كثروا، ثم آل أمره معه إلى أن طلب منه دينارا فسوفه، فنزل معه إلى درهمين يدفعهما إلى الحمامي لرفع جنابة عنه فلم يعطه ولم يبال بمنع إعطاء له لكثرة احتياله ودهائه.
وأخذ لشخص يدعى بصقر الكيلاني حريرا يقاوم مالا غزيرا فأكل غالبه عليه، فأقام بحلب يطالبه المرة بعد المرة، فنفذ منه ما أعطاه إياه ولم يحصل له الباقي، فافتقر وأنف من عوده إلى دياره فقيرا، فبقي بحلب بعباءة وقبقاب زحاف يأتي إليه فيقف من بعيد ليرق قلبه عليه فلا يلتفت إليه، إلى أن مات بحلب مقهورا.
ولكن الله القهار سلط على الخواجا بهاء الدين شيخا هما أشبعه غما وهما يقال له المحبي وكيلا من قبل مستحقي أوقاف المصريين بحلب كوقف قانيباي الرماح وغيره، فادعى عليه أجرة قاعته لكونها وقفا له ولأنه قبض أجوره فادعى استبدالها، وآل أمره بعد اللتيا واللتي إلى أن حكم عليه القاضي بحلب محيي الدين ابن قطب الدين الرومي، فلم يزده حكمه إلا جدالا واحتيالا، غير أنه صار كلما احتال على المحبي غلبت حيلة المحبي عليه وطالت المرافعة بينهما إلى الحكام عدة أعوام. ومضى الخواجا بهاء الدين إلى القاهرة لمزيد ضيق يده، فتبعه المحبي ولم يسلم فيها من مخاصمته والاستفتاء عليه. وقبل سفره كان قد أخرج لولده رياسة السبع بالجامع الأموي بحلب وكانت بيد المحيوي ابن الدغيم، وأمر ولده يقرأ بعد تلاوة السبع منفردا قوله تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} لعداوة كانت بينه وبين المحيوي، فبلغ ذلك المحيوي فصار يصرف عنه كل من أراد التردد إليه من الخواص المداهنين له حتى قهره بصرفهم عنه.
ولما عاد من سفره نزل بحماة وهو متحير في كيفية دخوله إلى حلب ولا شيء بيده يبذله لأركان الدولة، فبينما هو في تحيره وتغيره إذ ورد عليه كتاب يتضمن وفاة زوج بنته
الخواجا نور الدين الصابوني عن تركة فيها مزيد بركة، فسر سرا وحزن جهرا. وجد في السفر إلى حلب فدخلها وخاض في التركة فمرض لاستيلاء أكل البرش (1) عليه في آخر عمره، فلم يمض عليه مائة يوم إلا وانتقل إلى الله تعالى ودفن بغربية جامع البدري خارج باب أنطاكية بغير حق شرعي لأنه كان ناظرا على الجامع المذكور فتصرف فيها واتخذها مقبرة لنفسه وأتباعه وأشياعه ظلما واجتراء على بيت الله تعالى.(5/479)
ولما عاد من سفره نزل بحماة وهو متحير في كيفية دخوله إلى حلب ولا شيء بيده يبذله لأركان الدولة، فبينما هو في تحيره وتغيره إذ ورد عليه كتاب يتضمن وفاة زوج بنته
الخواجا نور الدين الصابوني عن تركة فيها مزيد بركة، فسر سرا وحزن جهرا. وجد في السفر إلى حلب فدخلها وخاض في التركة فمرض لاستيلاء أكل البرش (1) عليه في آخر عمره، فلم يمض عليه مائة يوم إلا وانتقل إلى الله تعالى ودفن بغربية جامع البدري خارج باب أنطاكية بغير حق شرعي لأنه كان ناظرا على الجامع المذكور فتصرف فيها واتخذها مقبرة لنفسه وأتباعه وأشياعه ظلما واجتراء على بيت الله تعالى.
وكانت وفاته في أثناء سنة خمس وأربعين.
795 - نور الدين الصابوني سنة 945
نور الدين بن محيي الدين الصابوني.
كان أول أمره من الواقفين في خدمة الشيخ عز الدين الصابوني الخطيب المتوفى سنة 922ومن عملة سوق الصابون بحلب، ثم طفح عليه المال فطلب أن يرأس كقريبه الخواجا بهاء الدين بن حمزة فلم يقبل هيكله ولا حركاته ولا سكناته الرياسة.
وكان اسمه قد صحف ببوز الدين (2)، ثم قيل له بوز الكلب، ثم اختصر فقيل له البوز بالباء الموحدة والزاي.
وكان يتشيع ويقرب الشيعة ويرسل إلى المشهدين القناديل الفضة وغيرها. وكان الخواجا بهاء الدين يعيب عليه ويغض منه لفيض الدنيا عليه واتساع دائرته ويريد أن يأكله فلا يقدر عليه للقرابة التي بينهما، إلى أن مات فسلطه الله على تركته فجعلها شذر مذر.
وكانت بنته تحته فأرادت أن لا يدخل أبوها فيها حذرا من تبذيره، فهددها وقال لها:
إن لم تطلعيني على أموره وتسكتي أدخلت القسامين الآن وأطلعتهم على ما عنده من كتب الشيعة وسعيت في ذهاب تركته لبيت المال في الحال. فلم يسعها إلا أن سكتت وسكنت، فخاض في التركة إلى ركبته.
وكانت وفاته في أوايل سنة خمس وأربعين وتسعمائة، قيل لركوبه على سرج لم يشعر
__________
(1) مادة ضمغية.
(2) في بعض النسخ المخطوطة من در الحبب: الذيب. ولعل الصواب: الديب (بالدال).(5/480)
بأن فيه إبرة مغروزة ودخول تلك الإبرة في جسده حال الركوب ومرضه بسبب ذلك والله أعلم.
796 - محمد بن أحمد السمرقندي المشهور بمنلا شاه المتوفى سنة 945
محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح ابن مولانا جلال الدين الخالدي الكشي ثم السمرقندي الحنفي المشهور بمنلا شاه سيد عاشق.
قدم حلب في سنة خمس وأربعين وتسعمائة متوجها إلى مكة هو وولده مولانا عبد الرحيم، وكان اشتغاله إذ ذاك بمطالعة شرح الفصوص لمنلا جامي وبكتابة حاشية على شرح الجامي للكافية. اجتمعت به مرارا واستفدت منه.
وكان شيخا معمرا نحيف البدن محققا مدققا متواضعا ذا حسب ونسب. قرأ على أكابر العلماء مثل منلا عبد الغفور اللاري أجل تلامذة منلا عبد الرحمن الجامي، ورافق مولانا عصاما البخاري ومنلا حنفي السمرقندي شارح «آداب البحث» للقاضي عضد في القراءة على المسعودي.
وكان جده جلال الدين المذكور شيخا يقتدى به وتيمور من جملة خدامه قبل السلطنة، وكان يقول: إن له نسبة إلى سيف الله خالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه، فكتبت له رسالة في مناقبه متعرضا فيها لذكره وقدمتها إليه، فاستحسنها وسميتها «أخبار المستفيد بأخبار خالد بن الوليد» وتعرضت فيها لذكر من انتسب إليه رضي الله عنه وإن كان في وفيات الأعيان لابن خلكان التصريح بأن أكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون: إن خالد بن الوليد لم يتصل نسبه بل انقطع منذ زمان، كما يطلع على ذلك من وقف على ترجمة أبي عبد الله محمد بن القيسراني المحكي في الكتاب المذكور.
وكانت وفاة صاحب الترجمة في السنة المذكورة ودفن بمقبرة الصالحين اهـ.
أقول: لا زال قبره موجودا ثمة في وسط التربة وراء المقام وعليه كتابة حسنة.
797 - عمر بن خليفة بن الزكي المتوفى سنة 946
عمر بن أحمد بن محمد الشهير بخليفة بن الزكي الشيخ زين الدين الحلبي الصوفي المشهور
بابن خليفة، شيخ الطائفة السعدية بحلب وأخو الشرف قاسم الآتي ذكره.(5/481)
عمر بن أحمد بن محمد الشهير بخليفة بن الزكي الشيخ زين الدين الحلبي الصوفي المشهور
بابن خليفة، شيخ الطائفة السعدية بحلب وأخو الشرف قاسم الآتي ذكره.
كان حسن الخط كثير الكتابة بالأجرة. وله شعر يلحن في غالبه، ولله در سيدي إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه حيث قال: قد أعربنا في كلامنا فلم نلحن أبدا ولحنا في أعمالنا فلم نعرب أبدا.
عمر زاوية بالقرب من حمّام القواس خارج باب النصر ووضع بها أعلام الصوفية وتعاطى مصالحها من البسط والتنوير وغير ذلك. وأنشأ له مدفنا ملاصقا له شباك مشرف على الطريق وبه دفن شهيدا بالهدم، ووضع عليه صندوق ليزار. وكانت وفاته سنة ست وأربعين.
ومن شعره:
تكلم بالشهباء من كان أبكما ... لمال وجاه لا لعلم ولا أدب
ومن أعجب الأعجاب أن غريبها ... يقدم على أبنائها من ذوي الحسب
ومن شعره قوله معرضا ببعض الحمويين:
حماة لأجل القال والقيل بعتها ... بما هم أباعوني ويدّي غسلتها
وقد كنت قبل اليوم بالروح أفدهم ... ولكن إذا خانت يميني قطعتها
وقوله في شأن سيدي محمد بن سيدي علوان إذ قدم حلب:
لشمس حماة نورت حلب الشهبا ... وقد ظفرت بالوصل منه ذوو القربى
فإقتبسوا يا عاشقين ضياءه ... وإغتنموا من صرف كاساته شربا
قال في الكواكب السائرة: لو قال: ألا اقتبسوا لأصاب وخلص من قطع همزة الوصل اهـ.
798 - صالح بن أحمد بن السفاح المتوفى سنة 946
صالح بن أبي بكر بن أحمد بن عمر الأصيل صلاح الدين المعروف بابن السفاح المرداسي الشافعي المتقدم ذكر والده.(5/482)
كان له حظ من حسن الخط وشهامة وحشمة ووجاهة عند الحكام وإقدام في الكلام.
وكان والده قد زوجه بامرأة جميلة ذات ثروة فعاش معها عيشا رغدا في حياته وبعدها، ثم تمكن منها بغضها له كما تمكن منه حبه لها، فهجر ولدا كان له من سريته في رضاها حتى حبسه في بيته. وحج بها حجة عظيمة بذل فيها أموالا جمة، ولم يفده ذلك إلا البلبال وكثرة القيل والقال. ثم مرض مرضا شديدا اتهموها فيه بأنها دست له ما يقتله وهو مع هذا لا يواجهها بأنها فعلت معه شيئا قبيحا، بل يتناول من يدها ما تعطيه من الأدوية والأغذية إلى أن مات في جمادى الأولى سنة ست وأربعين ودفن عند جده بالسفاحية.
فتزوجت بعده بأقل قليل بواحد من أهل الديوان الدفتر داري، فلم يمض عليها ما دون نصف شهر إلا وتبعته بالوفاة، وتشفى ولده بوفاتها.
وكان ذلك من غريب الاتفاق نظير ما وقع لغياث الدين محمد الكيلاني إذ هوي امرأة له فأفرط في حبها وأفرطت هي في بغضه إلى أن مات ولها بها، ثم تزوجت بعده رجلا من العوام فأذاقها الهوان وأحبته فأبغضها عكس ما جرى لها مع غياث الدين المعدود فيمن مات سنة إحدى وعشرين وثمانمائة على ما في «اقتطاف الأزاهر في ذيل روض المناظر» للمحب أبي الفضل ابن الشحنة.
799 - خليل بن عثمان بن البانقوسي المتوفى سنة 947
خليل بن عثمان بن البانقوسي الحلبي، أحد أعيان التجار بحلب.
توفي سنة سبع وأربعين ودفن بإيوان يدخل إليه من باب جامع شرف خارج باب النصر، أنشأه وما فوقه من المربع وما يلي ذلك من القبة الأمير حسين بن الميداني، ولكن إنما كان ذلك من مال الخواجا خليل باطنا على ما ذكروا وكان بينهما صحبة زائدة، نعم شمالية الجامع المذكور عمرت من مال الخواجا خليل ظاهرا.
وكان ذا باطن صاف وظاهر بالسكينة واف.
800 - قاسم بن عبد الكريم المغربي المتوفى سنة 947
قاسم بن عبد الكريم المغربي الفاسي الأوراسي.(5/483)
كان أبوه بوابا بخان الليمون بدمشق، وأما هو فكان من أتباع قاضي الشافعية بها ولي الدين محمد ابن الفرفور. ثم قدم حلب فرأس بها، إذ احتال فتزوج بها الست فاطمة بنت المقر المحبي بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية بعد وفاة أبيها، مع أنه لو كان حيا كان من جملة خدمه، ولقد صدق من قال: من كانت البنت خليفته لم يأمن من كون الكلب صهره، وصار مستوليا على أموالها وعلى أوقاف أبيها وجدها وعلى وقف أبي أمها الفخري عثمان بن أغلبك، فعم ماله وطم، فشرع في عمل المحافل النهارية والليلية، ورزق منها ابنا فكاد يطير إلى السماء بنيل ما تمنى، ثم ختنه ختانا حافلا، ولم يزل في أثواب سروره رافلا.
وزاحم في المناصب الجليلة فتولى نظر الجامع الأموي بحلب وخالط أركان الدولة وسرى فيهم مكره، فآذى من أراد وأخذ في عناد كثير من العباد.
ولم تسعه حلب فذهب إلى القاهرة وتولى فيها بعد عمي الكمال الشافعي نظر الأوقاف في سنة أربعين وتسعمائة أو قبلها بمعونة من الأمير جانم الحمزاوي.
ثم كانت في هذه السنة وفاة ولده المذكور ففعلت أمه يومئذ منكرا عظيما هي أنها جلت عليه وهو ميت على ما نصته (1) زوجته التي لم يكن يدخل عليها.
وكان عمي يكثر من تحذير الأمير جانم منه وهو لا يحذره حتى كتب له قصيدة يقول فيها هذه الأبيات:
تنبه لنذل لا يصادق عمره ... لذي حسب ولاه أسنى وظيفة
وكن جازما كالصحب من غير فترة ... وكذّب دعاوي حبه كل طرفة
ولا تغترر بالله إن لان لفظه ... وباداك في أقواله بالمسرة
نصحتك فاقبل لا تكن متهاونا ... فإني محب لو قطعت محبتي
على البعد ثم القرب في كل حالة ... أريد لك العلياء من غير عثرة
فعش سالما سالمتني أو رفضتني ... فإني على عهدي لميقات بعثتي
إلى أن دبر فيما قيل مع سليمان باشا تدبيرا فيه قتل الأمير جانم وولده الجمالي يوسف،
__________
(1) في در الحبب: على منصته.(5/484)
فقتلهما على ما مر في ترجمتهما وسر هو بقتلهما.
وشاع ظلمه بالقاهرة حتى كان يعمد إلى أحد له ميت دفنه بفسقية أعدت للموتى وهي كالخشخاشة فيقول: لم دفنت هذا بغير إذني وأنا ناظر الأوقاف؟ ويصمم عليه في إخراج ميته فلا يرى له سبيلا إلا إلى دفع مال يرضيه. ولما شاع من ظلمه ما شاع صار المصريون يضجون المغربي بالم غريب (هكذا) (1) ويتضرعون ويتضررون منه، إلى أن جاء التفتيش عليه فأحضروه مريضا أو متمارضا إلى مجلس التفتيش، وكان فيه عدة من نواب القضاة، فصار ينام على أحد شقيه، فدخل عليه واحد من الأوباش وقال له: يا كلب لم تنام بحضرة هؤلاء الأكابر، ونهره مرة بعد أخرى إلى أن جلس وجعل وراءه من يحتضنه. ثم صار كلما أخرجوه إلى القلعة للتفتيش عليه أو جاؤوا به منها إلى السجن يضربه العوام بما كان من حجر أو مدر. ثم شنق بباب زويلة سنة سبع وأربعين وتسعمائة، فذهبت إلى داره شرذمة من النساء يصوتن تصويت الأفراح تشفيا منه.
وكان يرمى بالسحر الموجب للكفر والعياذ بالله تعالى. وفيه قيل:
قاسم الأسود أفعى ... قاءسما للعباد
كان من قد ذاق منه ... صار منه كالرماد
لعنة الله عليه ... كثمود ثم عاد
ما دعا لله داع ... وحدا للركب حاد
801 - محمد بن محمد بن السلطان قانصوه الغوري المتوفى سنة 947
محمد بن محمد بن قانصوه الناصري ابن السلطان الملك الأشرف الغوري سلطان مصر والحرمين الشريفين.
حج في دولة والده في أبهة زائدة والقندس يومئذ على رأسه عام عشرين وتسعمائة هو وخوند الكبرى جهة والده في صحبة كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية المحب محمود بن آجا.
__________
(1) في در الحبب: صار المصريون يصيحون: المغربي يألم غريب.(5/485)
ثم لما مات قانيباي الرماح أمير أخور كبير أعطي وظيفته ولبس الكلوتة ونزع القندس، وكان من الصوف الأبيض مع قليل جوخ أسود في أسفله بخلاف قندس من لم يكن ابن سلطان، فإنه كان من الصوف الأخضر.
ودخل حلب في ركاب أبيه سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، فلما مات أبوه سبق إلى الباب العالي السليمي وجعلت علوفته كل يوم خمسمائة درهم عثماني، فأسرف في المأكول والمشروب والمسموع واصطناع الفنونا [هكذا] (1) باللؤلؤ والياقوت مرارا، وأفسد كثيرا من المال في استعمالها إلى أن علاه الدين مع ما كان له من أبيه من الملك والوقف بالقاهرة وحلب وغيرهما، فحطت منزلته وانحطت علوفته إلى ستين درهما.
ثم قطن بدمشق مدة وبدار بني القرموط بحلب مدة، ثم توجه إلى الباب العالي السليماني وتوفي به سنة سبع وأربعين وتسعمائة، ودفن بمقبرة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وكان من حاله أن يصلي الصبح وينام إلى أن يقرب وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر والعشائين ويستمر ساهرا ومن عنده من المخاديم والمطربين والمضحكين والمأكول والمشروب متداول بينهم شيئا فشيئا ورأسه ينخفض ويرتفع بما استولى من الكيفية عليه إلى أن يصلي الصبح ثم وثم وثم على ممر الأيام والأعوام.
802 - أحمد بن الحسين الباكزّي المتوفى سنة 948
أحمد بن الحسين بن محمد بن أبي الوفا الشيخ شهاب الدين الكردي الباكزي، نسبة إلى باكزّة: قرية من معاملة القصير من توابع حلب، الشافعي.
كان دينا خيرا، يؤدب الأطفال بحلب ويؤم بمسجد الحولية بها. وقد انتفعت بقراءة القرآن العظيم عليه لما له من الصلاح خلفا عن سلف بواسطة أنه من بيت مشهور بالعمادية يعرف ببيت أبي الوفا وأن جده أبا الوفا المذكور كان من أرباب الأحوال.
__________
(1) في نسخة مخطوطة من در الحبب: الفنونيا، وفي أخرى: الفلونيا.(5/486)
وكان إذا غلب عليه الحال أخذ بيده الطين من الأرض ودفعه إلى من اختار، فإذا هو في يد الآخذ لاذن (1) فيبيعه أو ينتفع به.
وكان شيخنا المذكور قد حصل له في إحدى عينيه داء يعرف بالتوتة فأضرّبها، فحذره بعض الأطباء من أن يصيبها الماء، فامتنع لئلا يفوته الوضوء وإن كان له عنه مندوحة بالتيمم وقال: أنا لا أبالي إذا تلفت بعد أن لا أترك الوضوء أصلا.
803 - عز الدين بن يوسف الكردي المتوفى سنة 948
عز الدين بن يوسف الكردي العدوي أمير لواء أكراد حلب في آخر الدولة الجركسية وأوائل الدولة العثمانية.
كان من طائفة ينتسبون إلى الشيخ عدي بن مسافر رضي الله عنه ويعرفون ببيت الشيخ مند الذي كان يأتيه من لدغته الحية فيطعمه من خبز رقى عليه ونفث فيه فيأكله فيبرأ بإذن الله تعالى. وكان الأمير عز الدين شهيرا بهذه الخاصية بين الأكراد مع إدمانه على شرب الخمر وقتل النفوس سياسة.
وكان لهم غلو زائد فيه حتى كانوا يلقبونه بالشيخ عز الدين، وربما قيل للواحد منهم:
أنت من أكراد ربنا أو من أكراد عز الدين؟ فيقول: بل من أكراد عز الدين.
وكان شيخا معمرا يصبغ لحيته بالسواد، وله شهامة ووصلة أكيدة بخير بك كافل حلب في آخر دولة الجراكسة. وفي أيامه كان صلب الأمير حبيب بن عربو تحت قلعة حلب، وذلك أنه كان بين الأمير عز الدين وبين أولاد عربو: طائفة معتبرة من أمراء القصير عداوة بينة من جهة الدنيا وكذا من جهة الدين، لأن بيت عربو كانوا من أهل السنة والجماعة رضي الله عنهم، وبيت الشيخ مند كانوا يزيدية، فكان يغدر بهم حتى سعى في قتل جماعة منهم كالأمير حبيب وكأخيه الأمير قاسم. وكان قتله بالباب العالي السليمي من عرض عرضه أحمد باشا المشهور بقراجا باشا أول من كان باشا بحلب في الدولة العثمانية السليمية، وذكر فيه أنه جمع بين تسع نسوة في زمن واحد بمكر الأمير عز الدين به عنده.
__________
(1) اللاذن: رطوبة تتعلق بشعر المعزى، ملين مدر نافع للنزلات والسعال.(5/487)
وهذا الحوض الكبير داخل آغيول من إنشاء الأمير عز الدين، وكان يزعم أنه عمره من حلال مال والده.
توفي الأمير عز الدين سنة ثمان وأربعين.
804 - علي بن محمد بن دغيم الحنبلي المتوفى سنة 948
علي بن محمد بن عثمان بن إسماعيل الشيخ علاء الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين البابي محتدا الحلبي مولدا الحنبلي المعروف بابن الدغيم.
ولي تدريس الحنابلة بالجامع الأموي بحلب. وكان هينا لينا صبورا على الأذى مزوحا لا يرى حمل الهم والغم شيئا مذكورا.
توفي يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين ودفن بجوار مقابر الصالحين بوصية منه. وكان آخر حنبلي بقي بمدينة حلب من أهلها.
805 - الشريف أحمد بن يوسف الإسحاقي المتوفى سنة 949
أحمد بن يوسف بن يحيى بن بدر الدين محمد بن عز الدين أحمد الحسيني الإسحاقي الحلبي الشافعي، نقيب الأشراف وابن نقيب الأشراف ابن نقيب الأشراف بحلب.
كان رئيسا سخيا حسن الشكالة مترفها في المأكل والمشرب كثير التنزهات معتادا فيها لخذ دون هات، يرى الأتم والأهم صرف الدينار والدرهم.
وفي آخر أمره تحاشى عن نقابة الأشراف، فكانت للسيد شمس الدين النويرة إلى أن توفي سنة تسع وأربعين.
وكان جداه العز والبدر من شيوخ الحافظ ابن حجر بالإجازة على ما ذكره في إنبائه.
والعز هذا هو الذي ذكره ابن خطيب الناصرية وقال في شأنه: كان من حسنات الدهر زهدا وورعا ووقارا ومهابة وسمتا، لا يشك من راه أنه من السلالة النبوية حتى انفرد في زمانه برياسة حلب، والرؤساء حتى القضاة يترددون إليه. إلى أن قال: وكان حسن المحاضرة جميل الصورة حلو الحديث شريف النفس متمسكا بالسنة وطريق السلف، ثم
تعرض لقراءة البرهان الحلبي عليه وأنشد له مضمنا.(5/488)
والعز هذا هو الذي ذكره ابن خطيب الناصرية وقال في شأنه: كان من حسنات الدهر زهدا وورعا ووقارا ومهابة وسمتا، لا يشك من راه أنه من السلالة النبوية حتى انفرد في زمانه برياسة حلب، والرؤساء حتى القضاة يترددون إليه. إلى أن قال: وكان حسن المحاضرة جميل الصورة حلو الحديث شريف النفس متمسكا بالسنة وطريق السلف، ثم
تعرض لقراءة البرهان الحلبي عليه وأنشد له مضمنا.
فتى ضغن يفاخر إذ وردنا ... لزمزم لا بجد بل بجدّ
فقلت تنح ويح أبيك عنها ... فإن الماء ماء أبي وجدّي
806 - أويس بك الدفتر دار المتوفى سنة 949
أويس بك بن عبد الله الحنفي الدفتر دار بديار العرب.
كان عالما فاضلا متواضعا طلق المحيا شديد التعصب لأبناء العرب حسن الاعتقاد ذا قدم في التفسير والحديث. وكان من جملة المماليك الخدمة للسلطان بايزيد بن عثمان، وكانت بيده خزانة كتب تأتيه منها بما يشاء.
ثم خرج من السراي وصمم على تحصيل العلم فقرأ على جماعة، منهم شيخ زاده المفسر والشيخ برهان الدين إبراهيم الحلبي الحنفي خطيب عمارة السلطان محمد بالقسطنطينية، وكان يثني عليهما جميل الثناء ويصف الثاني منهما بأنه مختلط منضبط (هكذا) ويميل معه إلى انتقاد ابن عربي، وكان للوزير الأعظم إياس باشا ميل إليه وأخذ لبعض العمليات عنه.
وولي من المناصب السنية أمانة القسطنطينية ودفتر دارية التيمار بأناطولي ثم بروم إيلي، ثم ولي في سنة ثمان وأربعين دفتر دارية ديار العرب فباشرها أحسن مباشرة، وأطلق من سجن السلطنة جماعة من العمال كانوا أيسوا من الإطلاق بعد أن كفل عليهم وقسط عليهم الأموال فجبر قلوبهم، وعمل ما فيه المصلحة لجهة السلطنة.
وطلب منه جماعة ترجمة الفرنج بحلب وسمسرة البهار بها على أن يكون عليه (1) للخزائن السلطانية مبلغ وافر من المال، فرأى ذلك ظلما محضا فأبى.
وجعل على بيت المال ثلاثين قطعة برسم تجهيز كل من مات من المسلمين ولا شيء له يجهز به بعد أن لم يكن ذلك.
وهرع إليه جماعة من فضلاء حلب لما بلغهم من محبته للفضلاء، فأقبل عليهم وتوجه
__________
(1) في درر الحبيب: عليهم.(5/489)
إليهم. واستخار الله تعالى في قراءة البخاري والشفا فأخذ في القراءة فيها علينا أياما، وكنا نخاطبه في أثناء التقرير بمثل أفندي وسلطانم، فذكر لبعض من كان بمجلس درسه أنه لا يطيب ذلك على خاطري، وأمر بتركه في مثل ذلك المقام العلمي.
وطالما كان ينوي النظر في حال الأوقاف بنور الله تعالى، حتى بلغه أن متولي الفردوس بحلب بل مدرسه باع من حجارته جانبا، فركب إلى الفردوس وأمسك المشتري وشدد عليه وخلص ما استولى عليه من الحجارة إذ لم يأمن النار التي وقودها الناس والحجارة.
وعمل في البيمارستان النوري بنور الله تعالى حيث فتش على متوليه فأخرج عليه أكثر من مائة دينار سلطاني مع ما في البيمارستان من المواضع الخربة، ثم أمر بعمارتها من ذلك المال.
ولم يزل على فعل الخيرات إلى أن مات مطعونا سنة تسع وأربعين، وتأسف عليه الحلبيون خاصهم وعامهم، وأقفلت الأسواق للصلاة عليه وأطبق الناس على الترحم عليه.
وكان قد سئل قبيل الموت هل ننقلك إلى دمشق أو ندفنك بحلب؟ فقال: أبقوني بحلب فإن أهلها يحبونني. وأخبر قبيل الوفاة أن عليه صلوات خمسة أيام، فطلب الماء فتوضأ، ثم كان في أثناء ذلك انتقاله إلى رحمة الله تعالى، ثم كان دفنه بجوار باب السفيري في قطعة أرض كان الشيخ شمس الدين محمد السفيري الشافعي قد أعدها لدفنه، فأبى الله إلا أن يكون هو المدفون بها.
قال الشيخ شمس الدين: ولقد رأيته في المنام وهو جالس تجاه القبلة حيث كنت أجلس من الحجرة التي بالعلمية بالقرب من منزل سكني، فلما أقبلت عليه نهض قائما وأخذ يبتسم كأنه يستعطف خاطري من جهة دفنه فيها دوني.
ومن عجيب الاتفاق أني قلت للشيخ مصلح الدين القريمي وكلانا واقفان على قبره يوم دفنه: ما أدراكم لعله يتناقص الطاعون بموته أو ينقطع، فاتفق أن تناقص من ثاني يوم وهلم جرا.
واتفق له يوما ونحن معه في مذاكرة البخاري أن قال: إنا نريد أن نقرأ في البخاري إلى كتاب الإيمان، فلم تمتد قراءته إلا إليه ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى.
وسئلنا في أبيات تكتب على لوحي قبره فعملناها غير أنها لم تكتب عليها، فمنها لأحدهما:(5/490)
فيك يا قبر من له طيب ذكر ... وله الشكر عنبر وعبير
من يؤرخ وفاته قال نظما ... عن أويس عفا الرؤوف المجير 949
ومنها للآخر:
بهذا الضريح ثوى فاضل ... أنيل الأفاضل منه الأدب
له منصب إن ترم كشفه ... فدفتر دار ديار العرب
وحكى لي أنه لما حضر يوم الجمعة آخر جمعة أدركها إلى الجامع الكبير وكان يصلي تجاه باب الخطابة سمع قراء السبع يتلون قوله تعالى {وَمََا هِيَ مِنَ الظََّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} فدمعت عيناه كأنه خايف من ذلك الوعيد، فما أتت الجمعة الثانية إلا وهو في جوار رحمة الله تعالى.
807 - يوسف بن إبراهيم بن أصيبعة المتوفى سنة 949
يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل بن كمال الدين إبراهيم بن إسماعيل بن نجيب الدين أبي المنى الأمير جمال الدين الحلبي ثم القاهري المشهور بابن أبي إصبع وبابن أبي أصيبعة، هكذا بالتصغير.
كان ناظر الجيوش المنصورة بحلب كأبيه وجده، وكانت له الحظوة عند السلطان الغوري لما أنه كان ساكنا بدور بني الأصبع داخل باب النصر بحلب بعد ما نفاه إليها الملك الأشرف قايتباي غضبا عليه، فلما تسلطن من تسلطن بعد الملك الناصر محمد بن قايتباي وعصى إينال كافل حلب إذ لم يكن من حزب من تسلطن وورد الأمر بالقبض عليه، فركب عليه الغوري في جماعة إلى أن قبض عليه وسجن بالقلعة المنصورة، وورد مرسوم ملبس على سلطان الوقت بإطلاقه، فأخذ يقتل بعض من ركب عليه. وأراد القبض على الغوري، فلما أحس هرب ليلا من حلب إلى القاهرة بحيلة من صديقة الأمير حسين بن الميداني، فكان ممن تبعه الأمير جمال الدين حتى إنه لما نهب منزل الغوري بدور بني أبي الإصبع نهب منزل الجمال بواسطته، فلما تسلطن الغوري بعد حين قربه إليه فكان يخلو به ويبيته ليلا ونهارا، وصار من قبله على ما كان له من مقام الشكر بالقاهرة، بل كان بيده فيها وظيفة الوزر بواو وزاي مفتوحتين، وهي في الحقيقة وظيفة ذنب ووزر، لأن صاحبها ينظر في المكوس وغيرها من الأموال التي ترفع إلى السلطان وبيت المال من حرام
وحلال على ما ذكره السبكي في «مفيد النعم ومبيد النقم»، وهي غير وظيفة الوزارة المشهورة.(5/491)
كان ناظر الجيوش المنصورة بحلب كأبيه وجده، وكانت له الحظوة عند السلطان الغوري لما أنه كان ساكنا بدور بني الأصبع داخل باب النصر بحلب بعد ما نفاه إليها الملك الأشرف قايتباي غضبا عليه، فلما تسلطن من تسلطن بعد الملك الناصر محمد بن قايتباي وعصى إينال كافل حلب إذ لم يكن من حزب من تسلطن وورد الأمر بالقبض عليه، فركب عليه الغوري في جماعة إلى أن قبض عليه وسجن بالقلعة المنصورة، وورد مرسوم ملبس على سلطان الوقت بإطلاقه، فأخذ يقتل بعض من ركب عليه. وأراد القبض على الغوري، فلما أحس هرب ليلا من حلب إلى القاهرة بحيلة من صديقة الأمير حسين بن الميداني، فكان ممن تبعه الأمير جمال الدين حتى إنه لما نهب منزل الغوري بدور بني أبي الإصبع نهب منزل الجمال بواسطته، فلما تسلطن الغوري بعد حين قربه إليه فكان يخلو به ويبيته ليلا ونهارا، وصار من قبله على ما كان له من مقام الشكر بالقاهرة، بل كان بيده فيها وظيفة الوزر بواو وزاي مفتوحتين، وهي في الحقيقة وظيفة ذنب ووزر، لأن صاحبها ينظر في المكوس وغيرها من الأموال التي ترفع إلى السلطان وبيت المال من حرام
وحلال على ما ذكره السبكي في «مفيد النعم ومبيد النقم»، وهي غير وظيفة الوزارة المشهورة.
وكان الجمالي عارفا بديوان الجيش وما فيه من وقف وملك وإقطاع معرفة تامة أسوة أبيه وبعض أجداده، مطلعا على عيوب الناس في أملاكهم وأوقافهم، ولما قتل الحلبيون قرا قاضي مفتش أملاك حلب وأوقافها في الدولة الرومية قدم هو من القاهرة إلى حلب ومعه شيء من ديوان الجيش في الدولة الجركسية، وكان يفتح على الحلبيين من ذوي الملك والوقف أبوابا يتضررون منها، فأغلظ عليه القول جماعة منهم كالصلاحي بن السفاح والزيني منصور بن حطب وغيرهما، فلم يسعه إلا أن ثنى عزمه ورجع إلى القاهرة متلاشيا أمره كما تلاشى في آخر وقته، إذ غضب عليه الغوري فصادره ووضعه بالمقشرة بعد عزه وصار يحضره إلى خان الخليلي ليبيع أثاثه وقماشه والسلسلة في عنقه، إلى أن توفي بالقاهرة سنة تسع وأربعين وتسعمائة.
ومن غريب ما اتفق له بها مع شيخنا الخناجري أنه سئل عمن سلّم فارغا من صلاته ثم عاد واقفا، فأجاب بأن هذا ليس بسنة بل هو صنيع اليهود، وكان الاستفتاء على الأمير جمال الدين فبلغه الخبر، وكان أجداده الأقدمون من اليهود فشق عليه ذلك وأخذ يستفتي على الشيخ، فبلغ الخبر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية، وكان الشيخ من اللائذين به، فقال له: لم قلت ما قلت يا شيخ شمس الدين؟ فأجابه بنقل أخرجه من بعض مؤلفات الجلال الأسيوطي قائلا: إن الأمير جمال الدين قد جذبته اليهودية إلى نفسها، فبلغ الأمير جمال الدين ذلك فما وسعه إلا الكف عن الشيخ والتغافل عنه.
وكان جده كمال الدين ناظر الجيوش المنصورة بحلب وله وقف بها، وكذا والده، وله المسجد الذي جدده وراء داره بالقرب من محلة اليهود والحوض المجاور له الذي تبرع بعمارته بعد دثوره في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
808 - أبو السعود بن إسكندر المتوفى سنة 949
أبو السعود ابن قاضي الحنفية بحلب جمال الدين يوسف بن إسكندر الحنفي سبط الأميري رمضان بن صاروخان أحد أمراء حلب.(5/492)
توفي والده الجمال عنه صغيرا، فنشأ بعده عفيفا نظيفا، وطمحت نفسه للرياسة فتفقد ما بقي من تركة أبيه وجد في جمع المال. وذهب إلى القاهرة ليرى بها ما يشهد له باستحقاق النظر على وقف خال أبيه المحبي محمود بن آجا على تربته بالقاهرة وتربته بحلب التي آلت إليه حصة من معرة أخوان (1)، وصار النظر عليها لأبيه ثم الأرشد فالأرشد من أولاده، فأكرم مثواه الأمير جانم الحمزاوي لأنه كان مؤاخيا لأبيه، فشعر به قاسم المغربي وهو يومئذ بالقاهرة فغض عليه لتزوجه ببنت المحبي واستيلائه على أوقاف أبيها وجدها.
ثم عاد إلى حلب فتزوج ببنت خوجه روح الله القزويني، فبذل على يده لبعض الدفتر دارية نحو مائة قبرصي على تولية بيمارستان حماة، فأعطاه إياها بعد ما شرط عليه لبس الكسوة الرومية بسؤال أبي زوجته إياه في ذلك خفية، فلبسها وتجمل باللباس الحسن.
وكان شابا لطيفا. وولي النظر على تربة جده بالجبيل الصغير بشرط الواقف، وتكلم على وقف المحبي وأبيه بحلب، وشرع في ابتياع أملاك وعقارات، وأشرف على رياسة في المال عظمى، فوافته المنية في عنفوان شبابه، فتوفي سنة تسع وأربعين ودفن بتربة جده (في محلة الجبيلة).
809 - دوريش بن أبي سوادة المتوفى سنة 949
درويش بن قاسم بن محمد بن أبي سوادة الحلبي المعروف بابن أبي سوادة العطار والده.
شاعر سريع النظم كثيرة، إلا أن بضاعته في النحو مزجاة، ولذا كان كثيرا ما يغلط في الإعراب إذا قال شعرا أو أنشد لغيره شعرا، ويعتذر بأنه لم يكن ليسعه ركوب متن العربية لاشتغال باله بكثرة أولاده وعياله. إلا أنه كان يلم بمطالعة شروح البديعيات ونوادر الشعراء وأخبار المتقدمين.
توفي سنة تسع وأربعين.
وكان يذكر أنه من طائفة ينتسبون إلى موقّع الدست بحلب القاضي بهاء الدين علي ابن أبي سوادة الذي أنشأ المنارة المجاورة لزاوية الشيخ عبد الكريم بحلب سنة إحدى وسبعين
__________
(1) تقع قرب معرة مصرين، وكانت تدعى مرتحوان.(5/493)
وسبعمائة حسب ما هو مسطور بجدارها. وكان بهاء الدين هذا ممن ينتسب إلى بهاء الدين علي بن علي بن محمد بن علي بن أبي سوادة صاحب ديوان الإنشاء بحلب المتوفى سنة أربع عشرة وسبعمائة، وهو القائل في مملوك له على ما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه:
جد لي بأيسر وصل منك يا أملي ... فالصبر عنك عذاب غير محتمل
مالي رميت بأمر لا أطيق له ... حملا وبدلت بعد الأمن بالوجل
نعم قد ذكر في موضع آخر منه عند ذكر بيوتات حلب بيت أبي سوادة وأن فيهم الفضل والتشيع، وأنهم انقرضوا ببركة الصديق رضي الله عنه، إلا أن احتمال كون درويش ممن ينتسب إلى هذا البيت لا ينافي انقراض ذكور ذلك البيت لجواز أن يكون من ذرية البنات.
810 - محمد بن البزرة الموسيقي المتوفى سنة 949
محمد الآلاتي الفرضي المشهور بالبزرة.
وكان لا نظير له في لعب الطنبور ومعرفة الأعمال الموسيقية، حتى طلبه السلطان الغوري من خير بك كافل حلب، فذهب إليه ومعه أصحابه في الفن، فأسمعه من مطرب الأعمال ما لم يكن ببال، ولكن كان هزّالا مزّاحا مماجنا، فقال له السلطان بعد فراغه، ماذا تتمنى وماذا تريد؟ فقال: أريد أمي في صورة صغير لا صبر له على فراق أمه، فقال له: رح إلى أمك، ولم يعطه ما كان نوى إعطاءه إياه لسوء أدبه.
وقد تاب في آخر عمره حين أسن التوبة النصوح ولازم تلاوة القرآن، ولكن سال لعابه من فيه سيلانا ظاهرا، إلى أن مات سنة تسع وأربعين وتسعمائة عفا الله عنا وعنه.
811 - بركات بن سرور العرضي المتوفى سنة 950
بركات بن سرور العرضي الأصل الحلبي صاحبنا المعروف بابن سرور، أحد أعيان التجار بحلب.
عمر حوضا للسبيل بالقرب من داره داخل باب المقام ووقف ألف دينار سلطاني ذهبا
جعل منها مائتين على مصالح سبيله لينفعه سبيله إذا مضى لسبيله، وثمانمائة على فقراء وأرامل محلته ومحلة أخرى عينها بحيث يؤخذ ربح ذلك كله ويصرف في مصارفه حسب ما شرطه.(5/494)
عمر حوضا للسبيل بالقرب من داره داخل باب المقام ووقف ألف دينار سلطاني ذهبا
جعل منها مائتين على مصالح سبيله لينفعه سبيله إذا مضى لسبيله، وثمانمائة على فقراء وأرامل محلته ومحلة أخرى عينها بحيث يؤخذ ربح ذلك كله ويصرف في مصارفه حسب ما شرطه.
وكان تقيا نقيا شهما سريع زوال الغضب، لا يحبس أحدا على سعة تفرق ما له عند الناس.
وقد بلغني أنه ظفر إذ كان بأدرنة من بلاد الروم بوصية زوجة السلطان محمد بن عثمان من متولي جامعها، وكان صاحبه، فألهم أن يكتب له وصية على نهجها، فكتب، فلم يمض عليه ما دون الشهرين إلا وتوفي مطعونا سنة خمسين.
812 - أحمد بن حمزة بن قيما المتوفى سنة 950
أحمد بن حمزة الشيخ المعمر شهاب الدين القلعي الشافعي المشهور بابن قيما، أحد أرباب الأقاطيع بالقلعة الحلبية في الدولة الجركسية.
اعتنى بالقراءات فأخذها عن النشار صاحب التآليف المشهورة، وتصدر مدة بالجامع الكبير بحلب لإفادتها. وكان حنفيا وابن حنفي، إلى أن تزوج بنت شيخنا الشيخ نور الدين محمود البكري الشافعي خطيب المقام، فانتقل إلى مذهبه. وكان تلميذا له أخذ عنه القرآن بقراءة أبي عمرو قبل أن يأخذ عن النشار بالقاهرة.
توفي سنة خمسين في أول ذي الحجة ختام السنة المزبورة.
813 - الشيخ محمد الخاتوني المتوفى سنة 950
محمد بن الشيخ صالح عبدو البيري مولدا الأردبيلي خرقة، ويقال الأردويلي غلطا، الحنفي الشيخ الزاهد المعمر المنور المشهور بالخاتوني.
ولد ببيرة الفرات في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وثمانمائة، وأمه قد أخذته إلى الشيخ محمد الكواكبي الحلبي، فأمر خليفته الشيخ سليمان (البويقيري) (1) بتربيته، فرباه فجعله خليفته، فاستصعب هذا الأمر، إلى أن رآه شيخ الإسلام عبد القادر الأبّار (الشافعي) (2) فحسن له امتثال أمر الشيخ سليمان إذ لم يكن إلا على طريق محمدي أمره
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) ليست في الأصل.(5/495)
بسلوكه. ولم يزل بعده يتعاطى الذكر والفكر ويتردد إليه الزائرون وهو لا يرى نفسه إلا ذليلا، ولا يطلب أحد منه الدعاء إلا سبقه إلى طلبه، مع الزهد عما في أيدي الناس وعن أموال عظام كانت ترفع إليه من قبل الحكام، فلا يلتفت إليها، والإنفاق من الغيب فيما استفاض عنه، والمكاشفات الجلية الصادرة منه، والانكفاف عن الناس في داره إلا في ليالي الجمعات، فإنه كان يحييها بالأذكار والطاعات، وكان له ثلاثة بيوت أنشأها في ثلاث قرى من أعمال بيرة الفرات ولكن من طرف الأرض المقدسة برسم النزول بها وعدم تكلف أهل القرى المذكورة بالنزول في دوره مع حرصهم على الاعتقاد فيه وكثرة ترددهم إليه وهو بحلب وحملهم إياه إلى قراهم.
وكان يكثر من أن يقول: لست بشيخ ولا لي خليفة، إلى أن قرب من الوفاة وتهالك بعض الناس على أن يكونوا له خلفا، فلم يتغير عن مقالته.
وكانت وفاته بحلب في أواخر شوال سنة خمسين وتسعمائة، ودفن في مقابر الصالحين، وكان له يوم دفنه مشهد عظيم، وحمل سريره فيه الشريف محمد بن عبد الأول الحنفي قاضي حلب.
وكان هو أحد من توجه صحبة بعض القلعيين بمفاتيح قلعة حلب إلى لقاء السلطان سليم بن عثمان وحصلت به البركة والأمن. وقد رآه في المنام قبل أن يموت بسنين الزين عمر الشماع. قال في عيون الأخبار ما نصه: رأيت في منامي جمعا من الناس في صعيد من الأرض وأنا جالس طرف الناس، وكان في الآخر صوت قوم يذكرون الله، وإذا بالشيخ شمس الدين محمد الخاتوني الصوفي المشهور بحلب جاء يمشي إلى الجهة التي أنا جالس فيها وهو يتقلب بالنظر يمنة ويسرة، فوقع في قلبي أنه يريدني، فرفعت رأسي إلى جهته، فلما رآني توجه إليّ بمفرده ليس معه أحد، فقربت إليه فسلم علي وسلمت عليه وقلت له:
أنا ما كنت أنكر التصوف قط، وإنما كنت أنكر وجود أحد من المتظاهرين بصفة القوم أو نحو ذلك، فتبسم، ثم وقع كلام غير ذلك لم أضبطه، ثم استيقظت نفعنا الله تعالى به.
814 - محمد المنيّر الواسطي المتوفى 950
محمد المنيّر الشيخ الصالح شمس الدين الواسطي الشافعي، نزيل حلب ومؤدب الأطفال بها.(5/496)
تفقه على الجلال النصيبي، وعمّر وهو مكب على عمل الكيميا، إلا أنه كان يحفظ القرآن ويستشكل فيه مواضع ويقترح أمورا من عنده.
ووقع منه ذات مرة أنه كتب رسالة وقال في ضمنها: قد خضت لجة بحر وقف العلماء بساحله، فلما بلغ شيخنا العلامة الموصلي عابه على ذلك وأنشد فيه يقول:
إن المنيّر قد سما ... أقرانه بفضائله
أرسوا ببحر علومه ... وسينزلون بساحله
وفي البيت الأخير كما ترى إيهام لطيف، فإن العوام يقولون نزل فلان بساحل فلان.
وكان أبوه شيعيا إلا أنه كان كثير التعرض لذم أبيه لتصلبه في التسنن.
وبلغه عن رجل شيعي من الحلبيين أنه توجه إلى بلدة من بلاد الشيعة وأظهر فيها السب للصحابة رضي الله عنهم وأنه قريب الوصول إلى حلب، فأخذ في فضيحته وأشاع بحلب أنه سيرد عليكم فلان الذي شأنه كذا وكذا وأنه لا بد من تعزيره ونحوه في الطريق وغيره، وهوّل الأمر إلى أن بلغه الخبر فلم يجسر على دخول حلب.
ولقد نقل عن صاحب الترجمة أنه كان يقول: اللهم لا تحشرني مع أبي في الآخرة.
وفي «عيون الأخبار» للزين الشماع أنه قدم يوما إلى مسجد الزين فتداكرا شيئا، إلى أن مر بهما حديث (أكثر أهل الجنة البله) فسأله عن معناه فأجاب قائلا: وقفت على كلام فيه لشيخ شيوخي سعد الدين ابن الديري الحنفي، وحاصل ما استحضرته الآن من كلامه أن المراد البله في أمر الدنيا وهو من يحسن الصلاة والصيام ونحو ذلك بالأركان والشروط المقررة في الشريعة، وأما أمور الدنيا فتراه لعدم اكتراثه بها غير عارف بها، فهو كالأبله بالنسبة إلى معرفتها، وليس المراد بالبله الذين لا يتحاشون النجاسة ولا يفعلون العبادة، فهؤلاء ساقطون لعدم تكليفهم. قال الزين: فاستحسنه الشمس المنيّر، غير أنه قال: هو غير واف بقوله: إنهم أكثر أهل الجنة، لأنه ليس أكثر الناس بهذه الصفة كما هو مشاهد. ثم أفاد أنه سمع من بعض الفضلاء أن البله هم الذين توجهوا في العبادة لطلب الجنة كما هو المقصود للجم الغفير يتوجهون إلى طلب الجنة، ومن فعل ذلك وغفل عن المولى والفوز بالنظر إلى وجهه الكريم وتوجه فكره إلى طلب الجنة ونعيمها ولذاته فهو الأبله، وعلى هذا يستقيم الحديث، فإن أكثر الناس بهذه الصفة، والذين محضوا العبادة
لرضى المولى ولم يقصدوا سوى ربهم، وهم الأفراد من العارفين والصديقين، أعاد الله علينا من بركاتهم وألهمنا سلوك طريقهم بمنه وكرمه. انتهى كلامه.(5/497)
وفي «عيون الأخبار» للزين الشماع أنه قدم يوما إلى مسجد الزين فتداكرا شيئا، إلى أن مر بهما حديث (أكثر أهل الجنة البله) فسأله عن معناه فأجاب قائلا: وقفت على كلام فيه لشيخ شيوخي سعد الدين ابن الديري الحنفي، وحاصل ما استحضرته الآن من كلامه أن المراد البله في أمر الدنيا وهو من يحسن الصلاة والصيام ونحو ذلك بالأركان والشروط المقررة في الشريعة، وأما أمور الدنيا فتراه لعدم اكتراثه بها غير عارف بها، فهو كالأبله بالنسبة إلى معرفتها، وليس المراد بالبله الذين لا يتحاشون النجاسة ولا يفعلون العبادة، فهؤلاء ساقطون لعدم تكليفهم. قال الزين: فاستحسنه الشمس المنيّر، غير أنه قال: هو غير واف بقوله: إنهم أكثر أهل الجنة، لأنه ليس أكثر الناس بهذه الصفة كما هو مشاهد. ثم أفاد أنه سمع من بعض الفضلاء أن البله هم الذين توجهوا في العبادة لطلب الجنة كما هو المقصود للجم الغفير يتوجهون إلى طلب الجنة، ومن فعل ذلك وغفل عن المولى والفوز بالنظر إلى وجهه الكريم وتوجه فكره إلى طلب الجنة ونعيمها ولذاته فهو الأبله، وعلى هذا يستقيم الحديث، فإن أكثر الناس بهذه الصفة، والذين محضوا العبادة
لرضى المولى ولم يقصدوا سوى ربهم، وهم الأفراد من العارفين والصديقين، أعاد الله علينا من بركاتهم وألهمنا سلوك طريقهم بمنه وكرمه. انتهى كلامه.
وفي تعليل الشيخ المنيّر بقوله: إنه ليس أكثر الناس بهذه الصفة نظر، إذ ليس أهل الجنة جميع الناس، حتى إذا لم يكن أكثرهم بهذه الصفة لم يكن أكثر أهل الجنة بهذه الصفة فيثبت المطلوب. نعم ليس أكثر المحسنين لما ذكر غير العارفين بأمور الدنيا، بل أكثرهم العارفون بها الذين هم كالبله.
واتفق أن الشيخ المنير قدم هذه البلاد غير مختتن، فختن نفسه بيده.
وكانت وفاته سنة خمسين وتسعمائة.
815 - حسن السرميني الإدلبي المتوفى في هذا العقد ظنا
حسن بن صالح بن سلامة السرميني مولدا، الإدلبي الحلبي الشافعي السرميني الصوفي الأديب بدر الدين.
ذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في «معجم الشعراء» الذين سمع منهم الشعر وقال:
إنه ولد في حدود الثمانين والثمانماية بسرمين ونشأ بها عند أمه لموت والده حتى بلغ، ثم ارتحل إلى الشام فزار بيت المقدس، ودخل القاهرة وأقام بجامع الأزهر أربع سنين واشتغل بالعلم ولازم جماعة، منهم الشيخ نور الدين المحلي، وتردد للقاضي زكريا، ثم ذهب لمكة في سنة ثلاث عشرة وتسعماية وأقام بها سبع سنين متوالية وقرأ بها العلم. قال: وقرأ على الوالد جانبا من صحيح البخاري، ونظم ونثر. انتهى كلامه.
ومن شعره ما مدح به عمّي الكمال الشافعي حيث قال في مطلع قصيدة:
وهيفاء التثني في الكثيب ... تميس بقامة الغصن الرطيب
تريك البدر إذ تبدو محيّا ... بمثل معاطف الرشأ الربيب
تجنّت في الهوى عمدا فصدّت ... ولم تعطف على الصب الكئيب
وقد كانت تواصل من بعيد ... وقد صارت تقاطع من قريب
ومنها:(5/498)
سقتني الراح من ثغر شهي ... فتنت به ومن كف خضيب
تغنينا إذا شئنا بصوت ... تقول لأنفس العشاق ذوبي
وكان نديمنا نظم القوافي ... لقاض لا يدنس بالعيوب
حوى رتب العلا أصلا وفرعا ... كمال الدين مفقود الضريب
أجلّ أئمة الإسلام قدرا ... عريق الأصل ذو الحسب الحسيب
كريم لا يقاس به كريم ... من الكرماء ذو الوصف الغريب
بصير بالأمور يكاد ينبي ... لفرط ذكاه عن علم الغيوب
أغرّ تراه في عزم وأزم ... كليث شرى وغيث ندى سكوب
ومن غريب ما رأيت أنه كتب في ذيل القصيدة أنه شاعر عصره وأوانه ومجري الفصاحة على عضب لسانه.
816 - قاضي القضاة محمد بن جنغل المتوفى سنة 951
محمد بن محمد بن علي بن عمر بن قاضي القضاة عفيف الدين بن جنغل، بضم الجيم والمعجمة وسكون النون بينهما، الحلبي المالكي.
كان آخر مالكي وجد من أهل حلب وآخر قضاة المالكية بالمملكة الحلبية في الدولة الجركسية وابن قاضيها.
تفقه على مذهب أبيه بالشيخ علي الكناسي المغربي المالكي، ثم ولي القضاء من قبل السلطان الملك الأشرف قايتباي في تاسع عشري شوال سنة سبع وتسعين وثمانمائة وهو ابن نيف وعشرين سنة، وذلك بأني وجدت بخط الأستاذ المنجم غياث الدين التقاويمي أنه ولد يوم الأربعاء ثاني شوال سنة أربع وسبعين وثمانمائة، ذكر ذلك في رسالة ألفها برسمه وعرف (1) فيها دلايل نجومية تتعلق به ما هو من دلايل الخير والسعادة والفهم والفطنة والنجابة، ثم أنشد:
نعم الإله على العباد كثيرة ... وأجلّهن نجابة الأولاد
__________
(1) في در الحبب: وعدد.(5/499)
فكانت وفاته نهار الأربعاء ثاني شوال سنة إحدى وخمسين وتسعمائة عن سبع وسبعين سنة بعد أن نسب إليه أنه يترجى العمر الطبيعي قائلا: إنه لا يموت قبله. وفي وفاته كسرت دكة عظيمة كانت مصنوعة من الخشب الطيب الرائحة المشهور بالشّر بين موضوعة داخل باب داره يعتاد الجلوس عليها.
وكان رحمه الله قد لزم بيته في رفاهية وطيب عيش، وسلم المسلمون من لسانه ويده، وانكف عن أمر المناصب العثمانية، ولم يكد يخرج من بيته غالبا إلا لصلاة الجمعة والعيدين تحت منارة الجامع الأعظم بحلب وشهود بعض الجنائز.
وكان من كلامه إذ كان أحد القضاة الأربعة يقول: أنا ربع الإسلام. ولما قرب إلى الوفاة جس نبض يده بيده الأخرى لأنه كان يلم بعلم الطب ويطالع فيه فقال: متّ ورب الكعبة. ثم كانت وفاته رحمه الله.
817 - محمد بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة 951
محمد بن عبد البر بن محمد أقضى القضاة محب الدين ابن قاضي القضاة وشيخ الإسلام سري الدين ابن شيخ مشايخ الإسلام أبي الفضل محب الدين الحلبي محتدا المصري مولدا الحنفي المشهور بابن الشحنة.
ولي نيابة (1) الحكم عند أبيه وهو قاضي الحنفية بالديار المصرية في الدولة الجركسية، فكانت تعرض عليه المستندات الشرعية فيعرضها على والده ليفوض إلى كل نائب ما يليق به. ثم قدم إلى حلب بعد انقضاء الدولة الجركسية فحصلت لنا به حظوة في الممازحة والمطارحة الشعرية لسرعة نظمه ورقة طبعه. ثم حج وجاور. ثم قدم إلى حلب فكانت وفاته بها ليلة الأحد تاسع شعبان سنة إحدى وخمسين وتسعمائة بين سلام الفجر وأذانه، ودفن وسط الرواق الشرقي المجاور لتربة موسى الحاجب خارج باب المقام، ولم يخلف ذكرا فكان كثيرا ما يتمثل بقول الخنساء في أخيها في مرض موته:
__________
(1) في در الحبب: نقابة.(5/500)
ولولا كثرة الباكين حولي ... على قتلاهم (1) لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّى النفس منهم (2) بالتأسي
ولقد كثر منا التأسف عليه والبكاء، وأذكرنا هذا الشعر قولنا:
على صفحتي خديّ أجريت مقلتي ... بحيث ترى الأنهار من تحتها تجري
وخدي لسقم عاد صخرا وجندلا ... فمقلتي الخنساء تبكي على صخر
وكان مقداما في الكلام لدى الملوك والحكام، لا يتلعثم لسانه ولا يكبو جنانه، ذا حشمة وشهامة وحسن ملبس ولطافة عمامة، وكان من سرية والده الحبشية المسماة بطاب الزمان التي شغفته حبا وحظيت عنده حظوة زائدة، وكذا عند خوند جهة السلطان الغوري حتى مكنها والده من أن تجلس فوق الست حلب المتقدم ذكرها في مجلس خوند، فجلست وصار ما صار مما مر ذكره عند ترجمة الست حلب.
818 - خليل بن سلطان الأصفهاني المتوفى سنة 951
خليل بن سلطان أحمد بن محمود الأصفهاني الحنفي الملقب بحسام الدين.
فاضل كاتب مجلّد مذهّب حسن الخلق متواضع. لازم شيخنا السيد قطب الدين الإيجي في تحصيل العلم بحلب وغيرها، إلا أنه امتحن في حلب بعشق إنسان حسن مع الديانة والصيانة، فلم يتمكن من إخفائه، وشطح بعض أيام، وكان مما أنشدنيه فيه من شعره:
أشهّر نفسي في صبابة غيركم ... لتخييل أن لا يعلموا بحديثنا
وكان من أجداده لأمه من هو من ذرية الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه حسب ما ذكر لي.
توفي بحلب مطعونا وهو في تشهد صلاة العصر في صفر سنة إحدى وخمسين مع تكلف منه للقيام فيها وهو في خلال السكرات، وغسل ودفن بتربة الشيخ عمر بن المرعشي، ولقنه شيخنا وهو في قبره بعد أن أم في الصلاة عليه، ثم أخذ في ذكر الله تعالى عند قبره
__________
(1) في الديوان: إخوانهم، عنه.
(2) في الديوان: إخوانهم، عنه.(5/501)
والناس معه ذاكرون في ساعة كانت مشهودة. ولله در علي رضي الله عنه حيث قال:
وإن فراقي فاطما بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليل
819 - أحمد بن الداية الدهان المتوفى سنة 951
أحمد بن الداية العاني الأصل الحلبي الدهان المشهور بأمه. شيخ معمر بارع في النقوش وكتابة الطرازات بالخط الحسن على طريقة القاطع والمقطوع، كالخط الذي كتبه في حائط حوض خاير بك كافل حلب وحائط التربة التي أنشأها تجاه تربة جدي الجمالي الحنبلي خارج باب المقام وغيرهما، حافظ لبعض أشعار الناس وأخبارهم ونوادرهم.
توفي وذلك من جميل الاتفاق ليلة الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة إحدى وخمسين اهـ.
أقول: والكتابة التي على باب قنسرين وكذا الكتابة التي على برج القلعة القبلي هي بخطه على ما ظهر لي، لأنها تشبه الكتابة التي على حائط تربة خاير بك خارج باب المقام.
820 - أحمد بن محمد العلبي المتوفى سنة 951
أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر الحلبي الشافعي المشهور بابن العلبي، أحد أعيان التجار بحلب وسبط الشيخ زين الدين أبي بكر البويضاتي الشافعي.
ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة، وتوفي بحلب سنة إحدى وخمسين. وكان له سخاء ورياسة واعتقاد في أهل الصلاح والجذب، وتصدق على المحابيس وغيرهم بالأطعمة وغيرها، ومزيد تردد لزيارة ضريح الشيخ شهاب الدين أحمد بن هلال الحسباني الشافعي الصوفي خارج باب الفرج. والشيخ شهاب الدين هذا هو الذي أفتى بإراقة دم النسيمي وعدم قبول توبته فضربت عنقه بحلب، ثم كانت وفاته بحلب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، وزار الناس مدة قبره كما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه.
وكان أيضا ينظر في مصالح جامع محلته باحسيتا سرا وعلنا، وربما كان يخطب به.
وكان قبل وفاته بسنين عديدة قد انجمع عن الناس إلا في التهاني والتعازي، وكانت
المجالس تتجمل به إذا تجمل غيره بها، رحمه الله تعالى وإيانا. وكان فيما بلغني من ذرية أبي المحاسن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الجماهري الشافعي.(5/502)
وكان قبل وفاته بسنين عديدة قد انجمع عن الناس إلا في التهاني والتعازي، وكانت
المجالس تتجمل به إذا تجمل غيره بها، رحمه الله تعالى وإيانا. وكان فيما بلغني من ذرية أبي المحاسن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الجماهري الشافعي.
وكان كما قال الشمس الصفدي العثماني الشافعي في طبقاته: فقيها صوفيا محدثا، تفقه على أبي منصور الرزاز لما انقطع إلى الشيخ أبي النجيب السهروردي. ومات في دمشق سنة خمسين وخمسمائة.
821 - الشيخ أويس القرماني المتوفى سنة 951
أويس القرماني الأبري، الشيخ الكبير المعمر الصوفي الخلوتي صاحب الخلفاء والأتباع، المستغنى بذكر حسبه عن ذكر نسبه.
كان في مبدأ أمره فلاحا بأبر، بفتح الهمزة والموحدة وإهمال الراء: قرية من قرى بلاد قرمان، لا يقرأ ولا يكتب، فحصلت له جذبة، فوفد على الشيخ محمد بن محمد ابن جمال الدين الأقصرائي الصوفي عم والد فضيل جلبي قاضي حلب، فتعلم عنده القرآن وتعبد وجاهد نفسه ودخل الخلوة حتى قيل إنه فاق بسبب الرياضة على خليفته محيي الدين البكري بفتح الموحدة والكاف.
وكان من كبار علماء الظاهر. وتلقن من شيخه الذكر كما تلقنه هو من بير الأرزنجاني، وتلقنه الأرزنجاني من السيد يحيى بسنده المشهور وصار من جملة خلفائه، إلى أن كثر أتباعه وشاع ذكره، فرحل إلى بلد القصير واستوطن بقرية جدالية.
ثم قدم حلب ورفع إلى قلعتها بالأمر السلطاني السليماني هو وخليفته الشيخ شمس الدين أحمد بن محمد الجورمي لما نسب إليهما بعض أتباعهما من دعوى أن شخصا يسمى بحامد الهندي ويكون مقدمة المهدي يخرج من بين أظهر الطائفة الأويسية، ودعوى أن الشيخ عبد القادر الكيلاني لم يكن وليا بل رجلا صالحا، حتى أخذتنا الحمية فوضعنا كتابنا المشهور «بالمشرب النيلي في ولاية الجيلي» أو غير ذلك من الدعاوي الباطلة، ثم بقي خليفته ملا داود في شرذمة من المريدين بالطرنطائية داخل باب الملك إلى أن أطلق الشيخ وخليفته من القلعة الحلبية، وكنت ممن زارهما بها كشيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي وغيره وهما يومئذ بجامعها.(5/503)
ثم استوطن الشيخ شمس الدين بعلبك وتوفي بها، وكان له مزيد تعبد وقيام وتحصيل قديم وصل فيه إلى شرح «الطوالع» للأصفهاني.
ثم استوطن الشيخ الكبير دمشق وتوفي بها عن سن عالية تكاد تبلغ مائة سنة أو قد بلغت في سنة إحدى وخمسين رحمنا الله وإياه.
822 - أبو بكر الهاشمي محتسب حلب المتوفى سنة 951
أبو بكر بن عبد الله ابن شيخ شيوخ حلب ورئيسها عز الدين أبي عبد الله محمد الهاشمي الحلبي، محتسب حلب في أوائل الدولة العثمانية السليمية.
توفي في جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين. وكانت له حشمة زائدة إذا تلقى أحدا من الأكابر بوجهه أو تكلم، مع أبهة ونظافة ثياب ورفاهية عيش واقتناء لشيء من الخيل برسم الركوب، إلا أنه كان ذا عين واحدة لسهم بارود أصاب الأخرى، فكان يضع عليها دائما عصابة بيضاء مصقولة من لطيف الموصلي.
ونسب إلى جذب بعض أرباب الدعاوي إليه ليعوّلوا في سلوك التلبيس عليه. وبلغ ذلك بعض قضاة حلب الروميين فأرسل من نادى عليه وحذر من الاجتماع به وفضحه فضيحة تامة لينزجر هو ومن يعمل بعمله. عفا الله عنا وعنه.
823 - عبد الرزاق بن سحلول المتوفى سنة 952
عبد الرزاق بن الشهاب أحمد بن الزين فرج بن عبد الرزاق بن الناصري محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن سحلول الحريري الحلبي المشهور بابن سحلول.
أصيل من بيت قديم بحلب. ولي نظر السحلولية خارج باب الفرج كأبيه وجده.
وكان أبوه الشيخ شهاب الدين أحمد، ويعرف بالأمير أحمد أيضا، خليفة البيت القادري بحلب كأبيه، وكانت مشيخة المشايخ بحلب وضواحيها بيد جده المقر العالي الشيخي المسلكي المحققي الناصري ناصر الدين محمد المذكور بمقتضى درج وقفت عليه مشتمل على معارف تصوفية ولطائف عبارات هي بالبراعات وفيّة، متضمن لبروز أمر أمير المؤمنين أبي الفضل
العباس في دولة الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق عام إحدى عشرة وثمانمائة بأن يستقر فيها.(5/504)
وكان أبوه الشيخ شهاب الدين أحمد، ويعرف بالأمير أحمد أيضا، خليفة البيت القادري بحلب كأبيه، وكانت مشيخة المشايخ بحلب وضواحيها بيد جده المقر العالي الشيخي المسلكي المحققي الناصري ناصر الدين محمد المذكور بمقتضى درج وقفت عليه مشتمل على معارف تصوفية ولطائف عبارات هي بالبراعات وفيّة، متضمن لبروز أمر أمير المؤمنين أبي الفضل
العباس في دولة الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق عام إحدى عشرة وثمانمائة بأن يستقر فيها.
فقد الأصيل عبد الرزاق المذكور في طريق الروم سنة اثنتين وخمسين فلم تدر حياته من موته.
وكان من اللائذين بعمي الكمال الشافعي. وكان سميه وجده عبد الرزاق المذكور من أجناد حلب وممن حدث بها وممن أجاز للشيخ أبي ذر بن الحافظ برهان الدين الحلبي حسب ما وجدته في ثبت له في ذكر من أجازوا له بخط العلامة المحدث محمد المدعو عمر ابن محمد بن فهد الهاشمي المكي قال: وكان والده من رؤساء حلب، ولي مشيخة الشيوخ بها ومشيخة خانقاه أبيه بحلب. انتهى.
824 - شاه محمد الدكني المتوفى سنة 952
محمد بن مسعود بن محمد، الشاب الفاضل صدر الدين بن ركن الدين بن صدر الدين، الشيرازي الأصل الدكني المولد والمنشأ، الشافعي، تلميذنا في العربية والمنطق، المشهور هو بشاه محمد ووالده بلطيف خان.
كان والده من نسل بعض الوزراء، ثم باشر الوزارة بدكن من بلاد الهند بخدمة سلطانها عادل خان، ثم دخل مكة بمال عريض تاركا للوزارة آخذا في صنعة التجارة، إلى أن قدم حلب فأقام بها يرفل في ثياب السعادة هو وولده هذا مع باقي أولاده وحشمه وخدمه بحيث لا يكاد يفارق ولده هذا الساعة الواحدة لمزيد شغفه به وإعجابه لحسن هيكله ولطافة خلقه وخلقه وكمال إدراكه وفهمه وحسن حظه وامتيازه بعلمه، إذ دخل الطاعون حلب ففر بمن معه إلى بعض بساتينها، وكان يخاف الموت خوفا شديدا، فقدر الله السلامة.
ثم جاء طاعون سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فطعن هو وولده هذا بحلب، ففر به بعد الطعن حيث لم ينفعه الرحيل والظعن إلى مشهد سيدي محسن رضي الله تعالى عنه، فقضى فيه وهو يقرأ يسن وعمره دون اثنتين وعشرين سنة.
وكان ميلاده كما أخبرني به بدكن بالقرب من مزار الشيخ المشهور بالأمبوردي. وكان قد أوصى أن يدفن بقبور الصالحين فخالفوه ودفنوه داخل مشهد الحسين رضي الله عنه،
فخرج من مشهد ودخل في مشهد. ثم قضى والده فدفن بجنبه بوصية منه لأنه ما قطع البكاء عليه لاعتقاده أنه سيصل إليه.(5/505)
وكان ميلاده كما أخبرني به بدكن بالقرب من مزار الشيخ المشهور بالأمبوردي. وكان قد أوصى أن يدفن بقبور الصالحين فخالفوه ودفنوه داخل مشهد الحسين رضي الله عنه،
فخرج من مشهد ودخل في مشهد. ثم قضى والده فدفن بجنبه بوصية منه لأنه ما قطع البكاء عليه لاعتقاده أنه سيصل إليه.
وكان شاه محمد مفرط الذكاء متمسكا بالعلم وتحصيله مهتما بشأن أديانه ذاما للمناصب معرضا عن كلام أبيه إذ كان يعده بالعود إلى الهند والسعي له في الوزارة بها، متواضعا ذا بشاشة وكرم نفس وتحنن، وإن أشيع عن أبيه التشيع مع أنه لم يكن إلا من بيت سنة وجماعة فيما أخبر به غير واحد من الأعاجم.
ومع ماله من هذه الصفات كان يعرف شيئا قواعد الموسيقى ويحضر مع أبيه في سماعات اللهو ولكن مع كراهة لها. وكان على صغر سنه يعرف من اللغة الهندية ثلاثة ألسنة سوى ما يعرفه من العربية والفارسية.
825 - سعد بن علي العبادي المتوفى سنة 953
سعد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد أقضى القضاة سعد الدين ابن القاضي علاء الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي، صاحبنا.
لازم شيخنا العلاء الموصلي في قراءة قطر الندى والوافية وعروض الأندلسي وغير ذلك، واشتغل على الجلال النصيبي وغيره، وعني بالأدب وتولع بمطالعة مقامات الحريري فحفظ غالبها، وخط الخط الحسن وتجشم أسلوب اللسن، وأخذ في صنعة الشهادة وكتب الوثايق بشروطها المعتادة، وناب في القضاء بأنطاكية فما دونها فلم يشك منه أحد لتحرزه عن موجبات سخط الحق والخلق في قضائه وحكمه وإمضائه ومزيد وهمه وخياله في أطواره وأحواله.
وتزوج ثم ترك التزوج دهرا مع الديانة والصيانة.
ومن شعره قوله يشكو من أهل زمانه:
نظري إلى الأعيان قد أعياني ... وتطلبي الأدوان قد أدواني
من كل إنسان إذا عاينته ... لم تلق إلا صورة الإنسان
وتاقت نفسه يوما إلى سماع شيء من نظمي فأنشدته حالا لا مآلا:(5/506)
قل لمن غادر القريض احتقارا ... طالع السعد في ذرى الأشعار
ولكم طالع سعيد رآه ... فارس الشعر سعدنا الأنصاري
وكان يكثر من أن يقول: الأولى بذوي الألباب سد هذا الباب، حيث سمع ممن حضر مقالة لا يرضى بها عن غيبة أو نحوها. غير أنه صدرت منه مرة من المرات هفوة شعرية ولم يشعر أنه سيطلع عليها، وذلك أنه كتب لقاضي حلب سنان الدين يوسف الروميّ الأماسيّ قصيدة يمدحه بها، فإذا هي قصيدة شيخنا العلاء الموصلي التي مدح بها آخر قضاتها في الدولة الجركسية الجمال يوسف الحنفي وقال في مطلعها:
الورد من وجنات خدك يقطف ... والشهد من جنبات ثغرك يرشف
غير أنه ذيلها بأبيات من نظمه خفيفة منها قوله:
تالله ما مدحي لأجل جوائز ... تعطى عوض ما قلت يا متشرف
فسكّن ضاد عوض ولو لضرورة الشعر، وقال يا متشرف فأشرف بيته على الانهدام، لأنه يقال للأسلمي المتشرف بدين الإسلام، فيلزمه كما ناقشه القاضي معروف الصهيوني الدمشقي وهو يومئذ بحلب أن يكون الممدوح أسلميا. ويعضد مناقشته ما سمعناه ممن به وثقنا أنه كان بحلب وقف يعرف بوقف الأسارى والمتشرفين بدين الإسلام يعطى منه نصيبه من أسلم أو أسر فأطلق فقدم حلب (1).
توفي القاضي سعد الدين مخنوقا بدمشق لمال كثير كان متهما بجمعه والحرص عليه في صفر سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة.
826 - حسن الينابيعي المتوفى سنة 953
حسن بدر الدين الشيخ السرميني الشافعي المشهور بابن الينابيعي.
توفي سنة ثلاث وخمسين. وكان عالما فاضلا، تلمذ للبدر السيوفي وغيره، وأدرك الشيخ جاكير صاحب الزاوية المشهورة بسرمين وأخذ عنه القراءات، وكان من العارفين بها، وله الآن بها مصحف بخطه يعتمد عليه فيها.
__________
(1) في الأصل: فعدم بحلب، وهو تصحيف.(5/507)
وكان الشيخ بدر الدين قد قارب الماية أو بلغها مع ما عنده من قوة الجماع والمشي.
ولم يكن خاليا من خفة لما يقال من أن أهل قرية الينابيع بالقرب من سرمين ذوو اختصاص بها، ومع هذا كان عنده نوع ولاية.
827 - غادر القنواتي المتوفى سنة 953
غادر القنواتي بحلب.
كان مسلطا من الله تعالى على الرافضة قدحا فيهم ولعنا لهم وسخرية بهم، إجمالا تارة وتفصيلا أخرى بصوت عنيف مزعج جهوري لا يتوقف فيه ولا يتعلثم ويبرزه إبرازا لا يتكتم.
يقف تارة بالجامع من الأسواق والجوامع، حيث الجامع للناس جامع، ويصفق صفقات مهولة وينادي بعبارات خلت لمرارتها عن حلاوة السهولة، ويقف تارة أخرى تجاه واحد منهم ويصدعه بما عنده من القول ويخرج من توريثه إياه الصد والصدع من باب الرد إلى باب القول، فيزاحمه في ماله ويبلغ منه بالغ آماله ويفعل بآخر هكذا ثم وثم أعطاه شيئا أو لم يعطه. وصار بحيث لا يمنعه قاض ولا وال، ولا يهاب منهم أحدا. ويرى أن لو كان من الشهداء في آخر الأمر (1) يحمل معه نجفا أو نحوه خشية أن يكون مغدورا به وهو غادر.
وكثيرا ما كان يعد منهم أولاد كمونة (2) ببغداد وعبد العال الذي كان له الشأن عند شاه إسماعيل الصوفي صاحب تبريز. وزاد في غوايته في آخرين بعدهم ويبين من هم ولا يبالي منهم، إلى أن سار في ركاب القاضي عبد الباقي قاضي حلب حين سافر إلى دمشق للتفتيش على صجلي أمير قاضيها بعد قضاء حلب ستة ثلاث وخمسين وتسعمائة، فأخذ يجعل له بدمشق محافل في الرافضة كمحافله بحلب، فضربه واحد منهم بنشاب وهو بظاهرها فقتله، فطلب ولده عند ذلك دمه، فظهر القاتل فشهد عليه أنه قتله فقتل.
وكان خبر الغادر قد شاع وذاع حتى وصل إلى ديار الشيعة وكادوا يرونه في مناماتهم.
828 - يحيى بن موسى النحلاوي الريحاوي المتوفى سنة 953
يحيى بن موسى بن أحمد الشيخ شرف الدين النحلاوي محتدا الحلبي مولدا الأردبيلي
__________
(1) العبارة في در الحبب: ويرى أنه من الشهداء فكان في آخر الأمر
(2) في الأصل: (كونه)، وأولاد كمونة أسرة يهودية كانت في بغداد.(5/508)
خرقة الشافعي المشهور بابن الشيخ موسى الأريحاوي.
عني بمخالطة الصوفية كسيدي علوان الحموي والعلاء الكيزواني والشيخ محمد الخراساني النجمي وغيرهم، ونال حظوة عند الأمير جانم الحمزاوي وطائفة من كبراء أهل الدنيا. وتردد إلى منزله شرذمة من قضاة حلب ونوابها في الدولة العثمانية، وصار له مريدون يترددون إلى الذكر إلى زاويته المجاورة لدار سكنه داخل باب قنسرين، وقد كانت زاوية لأبيه فزاد في عمارتها ونقل إليها أحجارا كثيرة من المدرسة الداثرة المعروفة بالزجاجية.
وانقطع عن زيارة الأمراء نهارا، وصار إذا زارهم يزورهم ليلا إلا نادرا. وخلف خلفاء في بعض القرى. وطالع شيئا من الفقه وكتب القوم، وداوم مع مريديه على الورد وجعل من جملته الأبيات السهيلية التي مطلعها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدّ لكل ما يتوقّع
وتوجه إلى الباب الشريف السليماني ذات مرة، ذاكرا أنه بصدد رفع بعض المظالم، فلما وصل رفع إليه بعض أركان الدولة شيئا من المال فرده وشيئا من الأكل فقبله، ثم عاد ذاكرا أنه أخرج حكما شريفا بإصلاح نهر حلب من بيت المال، وكان الناس محتاجين إلى إصلاحه، ثم لم يظهر لمقدماته نتيجة.
وكانت وفاته سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، وحضر جنازته للصلاة عبد الباقي العربي قاضي حلب وإسكندر بك دفتر دارها، وحظي بحضور الأكابر في مماته كما حظي بهم في حياته، والله يحسن له الأخرى كما أحسن له الأولى.
وكان شيخنا الزين الشماع يكثر من مزاره وينصح له ويبين له عن طريق الكمّل.
829 - محمد بن الحسن الأنصاري المتوفى سنة 953
محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الواحد الشيخ شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي، أحد عدول حلب في كلتا الدولتين الجركسية والعثمانية.
كان فقيها شروطيا حلو الخط نظيف العرض، له استحضار لتواريخ الناس وميل إلى مطالعة التواريخ القديمة وحظوة عند قضاة حلب وقبول في قلوب أهلها بحيث انتفع به الناس
في وثائقهم بالنسبة إلى جهلة الموقعين ومن لا يعرف اللسان العربي ولا أساليب أهل الشروط، ومع ذلك كان يتعاطى شهادة الجريدة بسوق حلب إلى أن اعتراه داء الأسد (1)، والعياذ بالله تعالى، فاستولى عليه. واستمر يتحامل نفسه ويخالط الناس والناس يهرعون إليه مع ما عرض عليه لاحتياجهم إلى دربته الحسنة إلى أن لم يبق مجال. ثم استولى عليه الإسهال ولاح له أنه على شرف الزوال، فأوصى وأخبر أنه ليس له من المال سوى دينار أعطاه إياه الشيخ محمد الخاتوني فهو يتبرك به.(5/509)
كان فقيها شروطيا حلو الخط نظيف العرض، له استحضار لتواريخ الناس وميل إلى مطالعة التواريخ القديمة وحظوة عند قضاة حلب وقبول في قلوب أهلها بحيث انتفع به الناس
في وثائقهم بالنسبة إلى جهلة الموقعين ومن لا يعرف اللسان العربي ولا أساليب أهل الشروط، ومع ذلك كان يتعاطى شهادة الجريدة بسوق حلب إلى أن اعتراه داء الأسد (1)، والعياذ بالله تعالى، فاستولى عليه. واستمر يتحامل نفسه ويخالط الناس والناس يهرعون إليه مع ما عرض عليه لاحتياجهم إلى دربته الحسنة إلى أن لم يبق مجال. ثم استولى عليه الإسهال ولاح له أنه على شرف الزوال، فأوصى وأخبر أنه ليس له من المال سوى دينار أعطاه إياه الشيخ محمد الخاتوني فهو يتبرك به.
ثم كانت وفاته ليلة الاثنين المسفرة عن التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة.
830 - أحمد بن محمد المشهور بابن حمارة المتوفى سنة 953
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن القاضي برهان الدين الأنطاكي ثم الحلبي الحنفي شيخنا المعروف بابن حمارة. ولم يشنه ذلك، فقد كان من شيوخ الحافظ ابن حجر بالإجازة شهاب الدين أحمد بن الثور، بالمثلثة، الحنفي أحد رجال «طبقات الحنفية» لابن السابق، وكان من النحاة أبو محمد عبد المنعم ابن الفرس القائل بأن كلمة «ثم» لا ترتيب فيها.
ولد بأنطاكية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة ونشأ بها، فحفظ القرآن وتخرج في صنعة التوقيع بجده القاضي برهان الدين موقع الفرس خليل بن اللنكي الأنطاكي.
وأخذ النحو والصرف عن الشيخ العالم الصوفي علاء الدين علي العداس الأنطاكي.
وأخذ المنطق والكلام والأصول عن الشيخ المعمر الصالح الفاضل ملا محيي الدين محمد ابن صالح بن الجام المشهور بابن عرب الأنطاكي الحنفي تلميذ قاضي زاده الرومي، واشتغل عليه بأنطاكية وبحلب بعد قدومه من بلاد الروم وتحصيله بها نحوا من أربعين سنة. وقرأ على الشيخ رمضان الأنطاكي.
ثم قدم إلى حلب ولازم فيها البدر السيوفي واشتغل في القراءات على الشيخ محمد
__________
(1) هي الحمّى لأنها كثيرا ما تغزو الأسد حتى إنه قلما يخلو منها ساعة.(5/510)
الداديخي، وتعاطى صنعة الشهادة بمكتب العدول بجوار جامع الصروي بحلب. ولما عمر توسعته الحاج علي بن سعيد جعله فيها مدرسا وأعانه على حجة الإسلام، فحج واستجاز بمكة المحدث عبد العزيز ابن الشيخ المحدث نجم الدين بن فهد المكي، وبالقاهرة أبا يحيى زكريا الأنصاري والشهاب أحمد القسطلاني فأجازوا له.
ولم يزل مكبا على التدريس والإمامة والتحديث والتكلم في تحديثه على الحديث باللسانين العربي والتركي بالجامع المذكور وتوسعته إلى أن انضاف إليه في الدولة العثمانية تدريس السلطانية، فأعرض عنه لاطلاعه على ما كتب على بابها من اشتراط كون مدرسها شافعيا والفقهاء حنفية، فأضيف إليه بعد ذلك خطابة الجامع المذكور، ثم بدلت بخطابة الجامع الكبير الأموي بإبرام قاضي القضاة محيي الدين بن قطب الدين الحنفي قاضي حلب عليه في ترك الأولى وتعاطي الثانية، ثم ضم إليه مع الخطابة المذكورة تدريس الحلاوية والإفتاء بحلب بحكم سلطاني يتضمن أن لا يكون مفتيا غيره أخرجه له لما ولي قضاء العسكر بأناطولي لما تحققه من ديانته في الفتوى قبل ذلك.
ثم لما كان سنة تسع وأربعين توجه للحج فتحرك عليه نقرس كان يتحرك عليه وهو بدمشق، واستمر إلى أن دخل المدينة الشريفة فخف وجعه، ثم لم يعد إلى حلب إلا وهو معافى منه.
وله من التآليف «مناسك» حمله على تأليفه الشيخ الفاضل المسلك العارف بالله تعالى علاء الدين علي بن الأطلسي الحمصي حين مر عليه بحمص متوجها إلى زيارة بيت المقدس في حدود سنة أربع. وأخبرني أنه لما مر عليه أنزله في منزله وصومه رمضان عنده وسأله في كتابته، فامتنع، وأحضر له «الهداية» وشروحا سبعة عليها، فلم يسعه إلا أنه كتب ذلك وجعل مبناه على عبارة الهداية، وأضاف إليها فوائد وأشياء لها حصل تحريرها.
هذا وكان له مع هذا الخط الحسن والتحشية اللطيفة المحررة على هوامش الكتب والنسخ الكثير من أنواع العلوم لا سيما علم الفقه والانقطاع الطويل في داره إلا في وقت مباشرة ما بيده من الوظائف والصلاح الزائد وعدم الخبرة بأساليب أهل الدنيا. ومما اتفق له وهو يخطب بالجامع الأموي وقد ذكر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنه طلع إليه شخص شيعي متحريا قتله، فتمكن أهل السنة منه وحملوه إلى كافل حلب خسرو باشا، فأمر بقتله،
فقتله الناس بإلقائه في النار حيا، وكان يوما مشهودا سر به أهل السنة.(5/511)
هذا وكان له مع هذا الخط الحسن والتحشية اللطيفة المحررة على هوامش الكتب والنسخ الكثير من أنواع العلوم لا سيما علم الفقه والانقطاع الطويل في داره إلا في وقت مباشرة ما بيده من الوظائف والصلاح الزائد وعدم الخبرة بأساليب أهل الدنيا. ومما اتفق له وهو يخطب بالجامع الأموي وقد ذكر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنه طلع إليه شخص شيعي متحريا قتله، فتمكن أهل السنة منه وحملوه إلى كافل حلب خسرو باشا، فأمر بقتله،
فقتله الناس بإلقائه في النار حيا، وكان يوما مشهودا سر به أهل السنة.
ثم ذكر العلامة الحنبلي قصيدة فيه من بحر السلسلة وهي طويلة، وبعد أن أتى عليها قال: توفي في وقت طلوع الفجر من يوم عرفة سنة ثلاث وخمسين. وقد أخبرني الثقة عنه بعد عودي من الحج سنة أربع وخمسين أنه علم قبيل موته بأنه سيموت، فأخذ في تلاوة القرآن على أحسن ما يتلى من رعاية التجويد، وأخذ يكرر قوله تعالى {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَتُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشََاءُ بِغَيْرِ حِسََابٍ} مرة بعد أخرى إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى.
831 - محمد بن محمد بن حلفا المتوفى سنة 954
محمد بن أبي اليمن محمد رضي الدين المعري الأصل الحلبي المولد والدار الحنفي المشهور بابن حلفا، تلميذنا.
فضل في العربية والفقه وشارك في أصوله، وكتب على أبيه بإملائه على الفتوى لما كف بصره، وكانت له الطريق الياقوتية في الخط. وخطب بجامع القلعة ثم بجامع حلب استقلالا بعد شيخنا الشهاب الأنطاكي، إلى أن توفي شابا بعد مدة قليلة سنة أربع وخمسين ودفن بجوار قبر الحسين النوري الكائن بمقابر الصالحين.
وكان متواضعا متوددا للناس كثير الرعاية لنا رحمه الله تعالى.
832 - عبد الوهاب بن منصور السمان المتوفى سنة 954
عبد الوهاب بن منصور المعروف بابن السمان، أحد التجار المعتبرين بمحلة قلعة الشريف بحلب.
حج، وعمر مصبنة بحلب، وعني بصحبة الجمال ابن حسن ليّه فقرأ عليه منهاج الفقه. وعني باقتناء الكتب فبذل فيها مالا جزيلا وصار الجمال ينتفع بها كثيرا، فلما توفي سنة أربع وخمسين بيعت بربح زائد وكانت زائدة على ألف كتاب.(5/512)
833 - إبراهيم بن عبد الرحمن العمادي المتوفى سنة 954
إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد شيخ الإسلام برهان الدين ابن الشيخ العالم العامل العلامة زين الدين العمادي الأصل الحلبي الشافعي الشهير بابن العمادي.
ولد بحلب فيما ذكره الزين الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» بعد الثمانين والثمانمائة، قال: ونشأ بها وأخذ في العلوم عن جماعة من أهلها وعن بعض من ورد إليها، وجد واجتهد حتى فضل في فنون، ودرس وأفتى ووعظ، مع الديانة والسكون واللين وحسن الخلق.
وحج من طريق القاهرة فدخلها أولا وأخذ عن جماعة من أعيانها، منهم شيخا الإسلام زكريا الأنصاري والبرهان بن أبي شريف، وسمع على الثاني ثلاثيات البخاري بقراءتي، وقرأها على العلامة نور الدين المحلي ثم القاهري فسمعتها بقراءته، وأخذ بمكة عن جماعة من مشايخي كالعز بن فهد وابن عمته الخطيب وابن كشني والسيد أصيل الدين الإيجي، ولقي بها من مشايخ القاهرة عبد الحق السنباطي وعبد الرحيم بن صدقة فأخذ عنهما، وأخذ بغزة عن شيخها الشهاب ابن شعبان، وسمع صحيح البخاري بحلب عن الكمال محمد ابن الناسخ الطرابلسي. انتهى كلامه.
وفاته أنه أخذ بالقاهرة عن الشهاب القسطلاني «المسلسل بالأولية» و «ثلاثيات البخاري» و «الطبراني» و «ابن حبان» و «الثلاثيات الأربعين» المستخرجة من «مسند أحمد» و «شرحه على البخاري» و «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» و «فتح الداني من كنز حرز الأماني» له.
وأما من أخذ في العلوم عنهم من أهل حلب والواردين إليها فمنهم الشيخ إبراهيم فقيه اليشبكية، فإنه قرأ عليه ابتداء في العربية، ومنهم خليل الله اليزدي فقد قرأ عليه في شرح القطب على الشمسية، ومنهم البدر حسن السيوفي وعليه قرأ في المطوّل والعضد يسيرا، ومنهم المحيوي عبد القادر الأبار وعليه قرأ في الفقه وغيره شيئا كثيرا. قال: وكان يقول:
أنا لا أعرف إلا الفقه، ولكن اقرؤوا ما تختارونه من العلوم، فيفعلون متبركين بنفسه، ومنهم والده والشمس البازلي والشيخ أبو بكر الحيشي والشيخ مظفر الدين الشيرازي نزيل حلب.(5/513)
ثم أكب على إفادة الوافدين إليه والواردين عليه من طالبي العربية والنحو والقراءات والفقه وأصوله والحديث وعلومه والتفسير وغير ذلك على وجه لم يرد أحدا ولا كسر قلب بليد لا يفهم أبدا.
وكنت ممن أخذ عنه عدة فنون ولله الحمد والمنة إلى أن أجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته إجازة مفصلة بخطه في شوال سنة ثمان وأربعين.
ثم لما برع في العلوم الدينية هرع إليه السواد الأعظم إذ كانت له اليد البيضاء فيها في أمر الاستفتاء، فأجاب وأفتى ولم يبخل على مستفت بالإفتا، ولا صد ولا رد ولا تناول منه الدرهم الفرد، بل كف عن هذا الأرب وفاقا لمعظم المفتين من أبناء العرب.
وانتهت إليه رياسة الشافعية بحلب إفتاء وتدريسا بجامعها الأعظم وعصرونيتها التي انفردت من بين سائر مدارسها في آخر وقت بأن فيها من الفقهاء والمتفقهة ذوي المعاليم المقررة على وقفها نحو العشرين، ومن المعيدين اثنين. على أنه كان بها في زمن والده وهو معيدها من الفريق الأول واحد وستون ومن الثاني أربعة كما أخبرني بذلك من أثق به.
وكان رحمه الله تعالى قد عبث مرة بحل زايرجة السبتي، فحل منها شيئا ما، وعلق بالكيمياء أياما ثم تركها.
ولم تكن تراه إلا دمث الأخلاق متبسما حالة التلاقي حليما لدى الإيذاء صبورا على الأذى صوفيا معتقدا لكل صوفي، له مزيد اعتقاد في الشيخ الزاهد محمد الخاتوني الماضي ذكره، ولذا صار من بعده يحيي بالعصرونية كل ليلة جمعة ذكر الله تعالى على نهج ما كان عليه معتقده من إحيائها، إلى أن توفي يوم الجمعة في شهر رمضان سنة أربع وخمسين ودفن وراء المقام الإبراهيمي خارج باب المقام في تتمة مقبرة الصالحين رحمه الله تعالى وإيانا، حتى رثاه الشيخ أبو بكر العطار الجلّومي فقال:
أضحى العمادي للمقام مجاورا ... ومقامه عند الإله عظيم
فاقصد زيارته تنل كل المنى ... فضريحه في الصالحين مقيم
وإذا وصلت إلى الضريح فقل له ... هذا المقام وأنت إبراهيم
ومدحه في حياته الزين الشماع أحد شيوخه بالإجازة وقد أهدى إليه منظومته الموسومة «باللمعة النورانية في تخميس السهيلية» فقال:(5/514)
إلى العالم البرهان خلي وصاحبي ... ورادع من بالسوء في الغيب صاح بي
سليل العمادي من بنشر فضائل ... بشهبائنا قد عمّ كل الحبائب
بنور علوم ضاء كالبدر مسفرا ... وأنوار شانيه كضوء الحباحب
قصدت بإهداء للمعتي التي ... يرجّى لقاريها بلوغ المآرب
إلى أن قال:
وها عمر الشماع وافى بمنحة ... على قدره فاقبل تفز بالمناصب
فمن بقبول يلقها نال فضلها ... ومن يولها الإنكار ليس بصائب
فكرر لها في كل موطن شدة ... وبالذكر فالهج في ليالي الرغائب
وكن صافيا خلي سليما مفوّضا ... أمورك للباري تحز للمراتب
ولا تخلني من دعوة منك في الدجى ... إذا حفت الجربا بنور الكواكب
وكان الشيخ زين الدين قد وقع في خلده أن الجرباء من أسماء السماء فأراد أن يراجع بعض كتب اللغة فمنعه مانع، وقد كان أنشأ أبياته هذا فما مضت عشرة أيام إلا وقد وقف على قصيدة لبعض المغاربة حاذى بها «المنفرجة» (1) واستعمل فيها لفظ الجرباء على وجه فهم منه أنه من أسمائها وذلك حيث قال:
خلق الإنسان وصوّره ... بشرا من ماء ممتشج
وليوم حساب يبعثه ... فيقوم عليه بالحجج
يوم تطوى فيه الجرباء ... كطي سجل مندمج
فكان ذلك من الأمور التي اتفقت له ههنا رحمه الله تعالى وإيانا اهـ.
أقول: هنا كتب الشيخ إبراهيم ابن الشيخ أحمد المشهور بالملا على هامش النسخة المحررة بخطه ما نصه: انظر إلى أثر الحب في الله الحقيقي كيف جذب العلامة المؤرخ (يعني الرضي الحنبلي) وساقته القدرة الإلهية إلى أن دفن بجوار شيخه المترجم.
__________
(1) هي لأبي الفضل يوسف بن محمد التوزري المتوفى 513هـ ومطلعها:
اشتدي أزمة تنفرجي ... قد آذن صبحك بالبلج(5/515)
834 - داود المرعشي شيخ الطرنطائية المتوفى سنة 955
داود المرعشي الدلغادري الحنفي الصوفي الأويسي.
كان من أكابر العلماء المتفننين المتقنين، مقبولا عند قاضي عسكر روم إيلي محيي الدين ابن الفناري وغيره، فرحل إلى الشيخ أويس القرماني فأخذ عليه العهد وجعله خليفته، وقدم معه إلى حلب، فلما سجن شيخه بالقلعة الحلبية بالأمر السلطاني بقي هو بالمدرسة الطرنطائية داخل باب الملك في فرقة من المريدين، ثم آل الأمر إلى إطلاق شيخه وذهابه إلى دمشق وذهابه إلى شيخه وهو بدمشق، ثم وفاة شيخه بها، ثم توجه إلى مكة ومجاورته بها، ثم عوده إلى دمشق سنة أربع وخمسين، ثم قتله بها بالأمر السلطاني في السنة التي تليها.
835 - محمد بن أحمد الأماصي سنة 955
محمد بن أحمد بن محمود الحلبي الأماصي الأصل الحنفي المشهور بابن الأماصي، هكذا بالصاد.
توفي في شوال سنة خمس وخمسين وتسعمائة، وكان من وجوه الناس وله قول عند قضاة حلب في الدولة العثمانية البايزيدية، فتوجه من بلده أماصية إلى مكة حاجا فولد له ولده هذا، فأقام به عدة سنين بدمشق، ثم قطن حلب فبرع ولده هذا في الشعر التركي والفارسي ونظم الشعر الملمع بالعربي، ومدح بعض أركان الدولة بالباب العالي الشريف السليماني بشعره، فصارت له عندهم وجاهة، وكل كاد يمنحه عزه وجاهه.
وتولى بحلب النظر إلى جامع الصفيّ وخطب به.
وكان يلقب بالهوائي لما أن مخلصه في شعره هوائي.
الكلام على جامع الصفيّ في محلة المشارقة:
قال أبو ذر: هذا الجامع ظاهر حلب خارج باب الجنان بالقرب من البساتين شرقي (1)
نهر قويق، أنشأه صفي الدين عبد الوهاب بن أبي الفضل بن عبد السلام مشارف ديوان
__________
(1) في الأصل: غربي. ولعل الصواب كما أثبتناه نقلا عن مخطوطة «كنوز الذهب».(5/516)
الجيوش المنصورة بحلب المحروسة بتاريخ خامس عشر شعبان المكرم من شهور سنة ثمان عشرة وسبعمائة.
وهذا الجامع نزه ظريف له مناظر من غربيه إلى البستان، وله منبر من الرخام، وكذلك سدته، وله بوابة عظيمة وحوض ماء، كان يأتي الماء إليه وإلى بركة الجامع من دولاب شمالي الجامع، وله منارة. وهذا الجامع له وقف حسن مبرور من جملة وقفه بستان بدير كوش. اهـ.
أقول: موقع هذا الجامع في آخر المحلة المذكورة من جهة الغرب بالقرب من تربة الشيخ ثعلب بينهما الجادة. وهو الآن مسجد صغير مشرف على الخراب يسكنه بعض الفقراء لا شيء فيه مما ذكره أبو ذر. وقد كان له باب كبير على قنطرته حجرة كبيرة شطرت شطرتين، وضع شطرها الأكبر على الباب الموجود وشطرها الثاني في جدار قبلية صغيرة هناك فيها قبر يغلب على الظن أنه قبر الواقف، وهذه الحجرة وضعت مقلوبة جهلا من الباني بمثل هذه الآثار التاريخية.
وهذا نص ما كتب على الحجرة جميعها، وما بين الهلالين هو ما كتب على بقية الحجرة التي بنيت في جدار القبلية:
(1) البسملة. أنشأ هذا الجامع المعمور العبد الفقير إلى الله تعالى صفي الدين بن عبد الوهاب شاد الجيوش المنصورة الحلبية في دولة السلطان
(2) الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاون خلد الله ملكه في أيام المقر العالي العلائي ألطنبغا كافل الممالك (بتاريخ سنة ثلث وثلثين وسبعماية بتولى محمد بن علي السقا).
والجامع تحت دائرة الأوقاف ولا وقف له سوى تخميس أعشار.
836 - علي بن أحمد الكيزواني المتوفى سنة 955
علي بن أحمد بن محمد الصوفي الشاذلي الشيخ العابد المسلك المربي أبو الحسن الحموي الكيزواني، ويقال الكازواني نسبة إلى كازوا وهو الصحيح، إلا أنه اشتهر بالأول أيضا،
أحد مريدي السيد الشريف سيدي علي بن ميمون المغربي.(5/517)
علي بن أحمد بن محمد الصوفي الشاذلي الشيخ العابد المسلك المربي أبو الحسن الحموي الكيزواني، ويقال الكازواني نسبة إلى كازوا وهو الصحيح، إلا أنه اشتهر بالأول أيضا،
أحد مريدي السيد الشريف سيدي علي بن ميمون المغربي.
قدم إلى حلب وجلس في مجلس التسليك فاجتمع عليه خلق كثير. ولما كانت سنة ست وعشرين وهي السنة التي ورد فيها أرسل شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي علوان الحموي إلى الزين عمر الشماع رسالة مبسوطة تشتمل على التنفير من الاجتماع به، ومن جملة ما فيها: احذر وحذّر من فهمت منه قبول النصح. فأخذ في قراءتها على غير واحد ممن ورد إليه.
ثم كان توجهه إلى مكة والمجاورة بها.
فلما قدم إلى حلب في سنة ثمان وعشرين رأى أمر الشيخ علاء الدين في ازدياد وقد أقبل عليه خلق كثير، قال: فأعرضت عن قراءة الرسالة المشار إليها واستمرت مهجورة إلى سنة إحدى وثلاثين، فاختلج في سرّي غسلها، وذلك لأني صممت على أني لا أقرؤها على أحد ونفر قلبي مما فيها من الألفاظ اليابسة التي لا ينبغي إطلاقها في حق متدين، ورأيت أني إذا قرأتها ينفر قلبي من الرجل المذكور ويحصل لي غيظ عليه، فكرهت ذلك ورأيت أن سلامة الباطن أسلم. ثم لما أردت غسلها خشيت أن يكون في ذلك بعض انتقاص لكاتبها لأنه ليس من الأدب غسل رسالته بغير إذنه، ثم ترددت في ذلك إلى أن قوي العزم على غسلها ورأيت أنه أولى طلبا لسلامة الباطن وحراسته من إساءة الظن بالرجل المذكور، فإن تحسين الظن أولى، فغسلتها.
قال: ثم لما انسلخ العام المذكور ودخل هذا العام المبارك توجه الصوفي المذكور في أوله إلى حماة واجتمع بالشيخ علوان وأبدى له الاعتذار عن أشياء لا أتحقق تفاصيلها، وجدد التوبة كما قيل، فأذن حينئذ في الاجتماع به ومحا معنى ما كتبه في رسالته. قال:
فقد ظهر ولله الحمد أنا سبقناه إلى محوها حسا قبل محوه لها معنى، في ذلك برهان ظاهر على أن من أخلص النية ألهم سلوك الطرق المرضية. انتهى كلامه منقولا من «عيون الأخبار» له.
ومما كتب به الشيخ علوان إلى الشيخ زين الدين مرة ثانية: ليكن على علمكم أن ذلك الرجل الصوفي، يريد به صاحب الترجمة، وقف علينا تائبا وفي المواصلة راغبا، فحكمنا بالظاهر والله يتولى السرائر، فإن رأيتم الاجتماع معه أو ضده فذاك إليكم، وما
أريد أن أشق عليكم، وليس بخاف عن علمكم الحديث المشهور: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).(5/518)
ومما كتب به الشيخ علوان إلى الشيخ زين الدين مرة ثانية: ليكن على علمكم أن ذلك الرجل الصوفي، يريد به صاحب الترجمة، وقف علينا تائبا وفي المواصلة راغبا، فحكمنا بالظاهر والله يتولى السرائر، فإن رأيتم الاجتماع معه أو ضده فذاك إليكم، وما
أريد أن أشق عليكم، وليس بخاف عن علمكم الحديث المشهور: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
ولما كانت سنة إحدى وثلاثين أمر صاحب الترجمة جماعة من أتباعه بالطواف في الأسواق مع حمل الخرز في رقابهم ولبس الفراء المقلوبة ونحو ذلك، وبعضهم خزم أنفه، فكره كثير من الناس فعل ذلك، وأنكر بعض الفقهاء، فساعده كما قيل قاضي حلب عبيد الله سبط ابن الفناري، فكتب عند ذلك الشيخ شمس الدين محمد المنيّر الواسطي يستفتي، وأرسل بصورة فتواه إلى حماة، فكتب له الشيخ علوان بعد حمد الله تعالى:
أما الديار فإنها كديارهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها (1)
ثم أخذ يذكر أن بساط التصوف قد طوي من لدن أبي القاسم الجنيد شيخ الطائفة إلى هلم جرا، وإنما كان هو ومن بعده من الصديقين والصادقين يتكلمون في حواشيه.
إلى أن قال: وزبدة الخبر أن توزن هذه الأفعال المرتكبة بموازين الشريعة، فما خرج عن المأذون فيه فهو داخل في المنهي عنه، ولا يخرج ما دخل في حيز المنهي عن الكراهة والتحريم. وأما السؤال عن كونها بدعة أو سنة فإن أريد بالسنة ما تخلق به المصطفى صلى الله عليه وسلم من الأحوال والأقوال والأفعال فلا شبهة أن هذه الأفعال المرتكبة لم يرتكبها بنفسه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الصحابة الأعلام فكانت بدعة في الدين وحدثا لم يعهد في زمن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وإن أريد بالسنة ما هو أعم من ذلك مما أباحه للأمة وشرعه لها ففي بعض الأفعال ما لا يحرمه الشرع كتعليق الخرز ونحوه، وإن كان خارما للمروءة مانعا من قبول الرواية والشهادة، وحينئذ ينظر في حاله مرتكبه ونيته، فإن لم يجد صلاحا لقلبه بدونه فله ذلك إذ المعالجة بالنجاسة عند تعذر الطاهر جائزة، هذا إن لم يترتب عليه مفسدة راجحة، فإن ترتبت درئت، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. وليس بخاف عن جهابذة العلماء وصيارفة الفقهاء مصطلح الصادقين من الصوفية كما تضمنه «الإحياء» وغيره ولكل مقام مقال {وَاللََّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وهو أعلم بالصواب.
هذا وقد وقفت في موضع آخر من «عيون الأخبار» على ملخص الرسالة التي أرسلها
__________
(1) البيت ينسب إلى المجنون. «قوت القلوب 1/ 349».(5/519)
سيدي الشيخ علوان إلى الشيخ زين الدين عمر الشماع، فمما قاله فيها بعد البسملة والصلاة:
أما الرجل المذكور فإياكم وإياه، ولا تغتروا بزخرف كلامه البارز على لسانه بمتابعة نفسه وهواه. إلى أن قال: إنما يتوسل بما يقوله للعوام من تزويق الكلام ليتوصل إلى أغراضه الفاسدة من منكح ومأكل ومشرب وملبس إلى أن قال: وكيف يدعو إلى الكتاب والسنة من هو جاهل بألفاظ الكتاب والسنة، ومن جهل اللفظ فهو بالمعنى أجهل، ولو كان أحدنا مراقبا لربه لحاسب نفسه على ما يتلوه من القرآن والسنة باللحن والتحريف الموجبين للإثم اللاحق للتالي والسامع، فكان يجثو على الركب بين يدي علماء القراءة والحديث مصححا للعبارة خوفا من قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
ثم أطال إلى أن قال: فلو كان هذا المخذول المغرور موفقا لكان ملازما لضريح شيخه باكيا نادما آسفا حزينا يخاف الرد ويرجو القبول، ولكان له شغل شاغل عما يهذرم به مما لا يعنيه من زخرف القول والفضول، ولكن الرياسة حبها آخر ما يخرج من رؤوس الرجال الفحول. إلى أن قال في آخر الرسالة: وزبدة الخبر فالحذر الحذر الحذر، فليس الخبر كالخبر، ولتعلمن نبأه بعد حين، ولكل نبأ مستقر، والسلام.
قلت: وقد كان من شأنه بعد حين أن جاور بمكة (المشرفة) في دار عمرتها الخاصكي بها، فتكلم فيه الناس بأنه سكن في بيت حرام.
وفي تاريخ شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه ولد تقريبا في عاشر رجب عام ثمان وثمانين وثمانمائة. وفيه من أخباره أنه توجه صحبة الشيخ علوان للإقامة في بروسا من بلاد الروم سنة ثمان وتسعمائة وأقاما عند السيد علي بن ميمون نحو شهرين، وعادا صحبته إلى صالحية دمشق، وأنه لازمه وانتفع به وتهذب بأخلاقه، ثم كان بحلب فاعتقده قاضيها عبيد الله سبط ابن الفناري الرومي وانقاد لأمره وصار يقبل شفاعته ويتردد إليه، فزادت وجاهته خصوصا وله معرفة بكلام الصوفية وتوجيه لأفعالهم المرضية مع تعبير المقامات بألفاظ حسنة ونظم متوسط، جمع منه تلامذته تائية وفائية على طريقة الشيخ عمر بن الفارض مع وظائف الأوراد وبعض تآليف لطاف، منها «زاد المساكين إلى منازل السالكين» في كراسين
و «عقيدة» في نصف كراس، وذكر في آخر زاد المساكين من نظمه أبياتا خمسة عشر وهي:(5/520)
وفي تاريخ شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه ولد تقريبا في عاشر رجب عام ثمان وثمانين وثمانمائة. وفيه من أخباره أنه توجه صحبة الشيخ علوان للإقامة في بروسا من بلاد الروم سنة ثمان وتسعمائة وأقاما عند السيد علي بن ميمون نحو شهرين، وعادا صحبته إلى صالحية دمشق، وأنه لازمه وانتفع به وتهذب بأخلاقه، ثم كان بحلب فاعتقده قاضيها عبيد الله سبط ابن الفناري الرومي وانقاد لأمره وصار يقبل شفاعته ويتردد إليه، فزادت وجاهته خصوصا وله معرفة بكلام الصوفية وتوجيه لأفعالهم المرضية مع تعبير المقامات بألفاظ حسنة ونظم متوسط، جمع منه تلامذته تائية وفائية على طريقة الشيخ عمر بن الفارض مع وظائف الأوراد وبعض تآليف لطاف، منها «زاد المساكين إلى منازل السالكين» في كراسين
و «عقيدة» في نصف كراس، وذكر في آخر زاد المساكين من نظمه أبياتا خمسة عشر وهي:
زاد المساكين قد تبدّى ... لمن لنيل العلا تصدّى
صحيح قول بلا توان ... في حب مولاه صار فردا
يا طالبا للسلوك بادر ... فإن هزل السلوك جدّا
وتب إلى الله قبل يوم ... تصير فيه الجبال هدّا
قاسوا على الذاب بالمربي (هكذا) (1) ... وطالب القوت ما تعدّى
قد فاز من فاز بالتداني ... إلى وصال الحبيب يهدى
وخاب في الناس كل فاني ... قد أذهب العمر فيه جهدا
ثم لما اتفقت المحنة لأهل بلدة حلب مع الدولة الرومية عام أربع وثلاثين وتسعمائة أمر الخنكار بإرساله إلى رودس، ثم أطلق منها هو وجماعة، ثم جاور بمكة ملازما للعبادة وصار مصرفا للفتوحات وقررت له المرتبات. انتهى كلامه.
وقد صلي عليه بحلب صلاة الغائب لورود خبر موته في رجب سنة اثنتين وخمسين، ثم ظهر أنه حي. ولما بلغه أنه صلي عليه تمنى أن لو صلي عليه مرة أخرى ثم وثم.
ثم كانت وفاته بين مكة والطائف في رجب سنة خمس وخمسين، إلا أنه دفن بمكة رحمه الله تعالى.
أقول: لم يذكر المؤلف أسباب نفور أستاذه السيد علي بن ميمون منه، وقد ذكر ذلك صاحب «الكواكب السائرة» حيث قال ناقلا عن صاحب «الشقايق»: إن صاحب الترجمة سافر مع سيدي علي بن ميمون في نواحي حماة، وكانت الأسد كثيرة في تلك النواحي، فشكوا منه إلى الشيخ ابن ميمون فقال: أذّنوا، فأذّنوا فلم يبرح، فذكروا ذلك للشيخ فقال: أذنوا ثانيا، فتقدم الكازواني فغاب الأسد عن أعينهم ولم يعلموا أخسفت به الأرض أم ذاب في مكانه، فذكروا ذلك لسيدي علي بن ميمون فغضب على الكازواني وقال له: أفسدت طريقنا، وطرده ولم يقبله حتى مات، فأراد الكازواني أن يرجع إلى خلفاء الشيخ فلم يقبلوه، حتى ذهب إلى بلاد المغرب وأتى بكتاب من الشيخ عرفة أستاذ
__________
(1) اختلفت النسخ المخطوطة من در الحبب في رواية هذا الشطر. وفي المطبوعة: فأسوا على الدأب بالمربي.(5/521)
سيدي علي بن ميمون إلى خلفاء السيد علي وقال: إن أحدا لا يرد من تاب إلى الله تعالى، وإن شيخه إنما رده لتأديبه وإخلاصه، فقبله الشيخ علوان وأكمل تربيته.
ثم قال صاحب الكواكب نقلا عن الشعراني في طبقاته: قال: أخبرني من لفظه أنه كان في بدايته يمكث الخمسة شهور طاويا لا ينام إلا جالسا. ثم ذكر جملة مما سمعه من كلامه، ثم قال: بدأ أمره بمدينة حلب وبنى له النائب تكية عظيمة، واجتمع عليه خلائق لا يحصون، فوقعت فتنة في حلب، فقتل الدفتر دار وقاضي العسكر يعني قراقاضي فقال الناس: إن ذلك بإشارة الشيخ، يعني الكيزواني، فأخرجوه من حلب ونفوه إلى رودس، فأقام بها ثلاث سنين، ثم رأته يعني في المنام خوند الخاص وهو يقول لها: أريد أن أقيم بمكة ولا أرجع إلى حلب، فقالت: من تكون؟ قال: الكيزواني، فكلمت السلطان سليمان، فأرسل له مرسوما بأن يسافر إلى مكة ويقيم بها، وعمرت له خوند هناك تكية وفيها سماط، فزاحمه أهل مكة فتركها وسكن في بيت عند الصفا اهـ.
أقول: والتكية التي أشير إليها هي في محلة العقبة وتعرف الآن بجامع الكيزواني، وهو جامع صغير مرتفع يصعد إليه من الجهة القبلية بدرج له صحن صغير يشرف على المساكن القبلية من مدينة حلب فترى منه منظرا حسنا بالنظر لارتفاعه، وله منارة كان خرب أعلاها في الزلزلة الكبرى التي حصلت سنة 1237، بل تهدم في هذه المحلة كثير من الدور لعدم إحكام أبنيتها لبعد الأساس فيها، وبقي أعلى المنارة خربا إلى سنة 1341ففيها عمرها متولي الجامع الحاج أحمد صهريج وفيه قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة، وله من الأوقاف داران ومخزنان غير أنها لا تأتي بريع يستحق الذكر.
837 - محمد بن يوسف الحنبلي المتوفى سنة 956
قدمنا ترجمته وأنه توفي سنة 931وهو سهو، بل المتوفى في هذه السنة هو شريف مكة الشريف بركات، وأما المترجم فقد كانت وفاته سنة 956كما ذكره الغزي في الكواكب السائرة وقلت ثمة إن له أبياتا سماها «السهم الساري في الشريف بركات وأتباعه الدراري»، والصواب (والذراري) ووقع في الأبيات هناك بخنقك والصواب (بحتفك). وذكر الغزي هنا الأرجوزة التي امتدح المترجم بها شيخ الإسلام عبد الرحيم العباسي، لكن كثرة
أغلاطها حالت دون ذكرها (1).(5/522)
قدمنا ترجمته وأنه توفي سنة 931وهو سهو، بل المتوفى في هذه السنة هو شريف مكة الشريف بركات، وأما المترجم فقد كانت وفاته سنة 956كما ذكره الغزي في الكواكب السائرة وقلت ثمة إن له أبياتا سماها «السهم الساري في الشريف بركات وأتباعه الدراري»، والصواب (والذراري) ووقع في الأبيات هناك بخنقك والصواب (بحتفك). وذكر الغزي هنا الأرجوزة التي امتدح المترجم بها شيخ الإسلام عبد الرحيم العباسي، لكن كثرة
أغلاطها حالت دون ذكرها (1).
838 - محمد بن يوسف التادفي قاضي القضاة المتوفى سنة 956
محمد بن يوسف بن عبد الرحمن قاضي القضاة وشيخ الشيوخ أبو اللطف كمال الدين الربعي الحلبي التادفي الشافعي القادري عمي شقيق والدي.
ولد بحلب في ربيع الأول سنة أربع وسبعين وثمانمائة وتفقه على الفخر عثمان الكردي والجلال النصيبي وغيرهما، وأجاز له المشايخ السابق ذكرهم في ترجمة والدي كوالدي، ولبس الخرقة القادرية عن يد الشيخ العارف بالله الشرف عبد الرزاق الحموي الشافعي مذهبا الكيلاني خرقة ونسبا. ثم ناب في الحكم عن خاله القاضي حسين بن الشحنة الشافعي وغيره، ثم ترك مخالطة الناس ولف المئزر على رأسه وأقدم على خشونة اللباس وأخذ في مخالطة الصوفية إلى أن بلغ السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري. فأرسل له توقيعا وخلعة يلبسه إياها كافل حلب على أن يكون شيخ الشيوخ بها، وأرسل إلى الشيخ أحمد ابن الرفاعي شيخ الشيوخ وشيخ الرواق الأحمدي بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية يعرفه أن ولي القاضي كمال الدين التادفي فلا يتعرض إليه بعزل فإنه إنما يولي مشيخة الشيوخ ويعزل منها بأمر مني، فامتثل أمره، فلما وصل التوقيع والخلعة إلى كافل حلب أبرم عليه في تلقي ذلك فتلقاه.
ثم ولي بعد ذلك قضاء الشافعية بطرابلس ثم عزل عنه، ثم سعى في قضاء الشافعية بحلب فصده عنه المحب بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية وغيره، فشكا حاله لخوند جهة السلطان وسألها في استيذان السلطان في اجتماعه به حيث لا واش ولا رقيب ولا متطفل عليه في ذلك لما كان بينهما وهو صاحب الحجاب بحلب من المودة الأكيدة، فأذن له فيه فاجتمع به فولاه قضاء حلب عن القاضي جلال الدين النصيبي رغما عن أولئك والتزم له أنه ما دام سلطانا فهو قاض، وكان الأمر كذلك، فإنه بقي قاضيا إلى انقراض
__________
(1) مطلعها:
سعد قدوم مجدك السنيّ ... مؤيد بالصمد العليّ
وانظر الترجمة التالية.(5/523)
دولته، وكان توقيعه: الحمد لله ولي الإحسان. ولما قرىء منشوره بالجامع الأموي بحلب وتفرق الناس توجه إلى القاضي جلال الدين ووجه معاذيره إليه، ولم يزل في مهابة وقضاء حاجاته، وفوض إليه البرهان القلقشندي قاضي الشافعية بالممالك الإسلامية مضافا إلى قضاء حلب نيابة الحكم بالديار المصرية ومضافاتها بسؤاله.
ثم ولي في الدولة العثمانية السليمية تدريس العصرونية، ثم أضيف إليه نظر أوقاف الشافعية بحلب وأنظار أخرى، ثم تدريس الصاحبية الشدادية، وكان هو المشار إليه في تفاتيش الأملاك والأوقاف الحلبية في أوائل هذه الدولة مع كمال ابن الحاج إلياس أول قاض تولى فيها بحلب، ثم مع القاضي زين العابدين بن الفناري وغيرهما.
وفي سنة سبع وعشرين وتسعمائة ولاه خير بك المظفري عن المحب بن ظهير الدين المكي وهو أول كافل كان بالديار المصرية في الدولة العثمانية وظيفة قضاء الشافعية بمكة وجدة وسائر أعمالها ونظر الحرم الشريف المكي لما أنه كان مأذونا له في توليتهما وكتابة التوقيع بهما، فتوجه إلى محل ولايته وكان أول قاض ولي ذلك من غير أهل مكة في هذه الدولة، فساس الناس وعاملهم بالاستيناس، وساق إليهم المطايا في بذل العطايا، وعمر بمكة عين ثقبة بعد أن استنبط ماؤها، وعرض إلى الباب الشريف في إيصال الماء إلى مكة من عين حنين وعين ميمون وغيرهما، فعارضه الشريف بركات الحسني أمير مكة في ذلك لئلا يفوت عبيده الانتفاع بجلب الماء من خارجها إليها وبيعه بها، فلم يزل يعارض وهو يعرض إلى أن برز الأمر الشريف السلطاني بإيصاله إليها، فأوصله إليها.
ثم لما مات خير بك المظفري واستقر مكانه محمد باشا نوزع في الوظيفتين بمساعدة أميرها ابن ظهيرة، فكتب للقاضي كمال الدين توقيعا بالاستقرار فيهما مؤرخا بمستهل جمادى الأولى سنة ثلاثين وتسعمائة، فكتبت له إذ ذاك في صدر مطالعة مضمنا ومكتفيا:
مذ غبت زاد تشوقي ... فهل لقاي إذا يشوقك
وسررت إذ نلت العلا ... وكملت لا أحد يفوقك
ثم لما استقر مكانه قاسم باشا عزله بعد أمور جرت بينه وبين أميرها ولم يمكنه الله منه مع ما كان يوصله إليه من القصائد القادمة كالقصيدة التي قال في مطلعها:
شربنا على روض أنيق مدامة ... على جدول يجري جوانبه الزهر
معتقة في الدن من عهد آدم ... تخبر عن أخبار أخيار من غبر
إذا مقعد منها حسا (1) ثم ميّت ... تجرعها من سرها هب وانتشر
إلى أن قال مخاطبا له:(5/524)
شربنا على روض أنيق مدامة ... على جدول يجري جوانبه الزهر
معتقة في الدن من عهد آدم ... تخبر عن أخبار أخيار من غبر
إذا مقعد منها حسا (1) ثم ميّت ... تجرعها من سرها هب وانتشر
إلى أن قال مخاطبا له:
فيا ملكا بالعدل قد شاع ذكره ... تنبه لضد في مواتك قد نشر
وكن يقظا إني وحقك ناصح ... لذاتك والبيت العتيق ومن نفر
وجذ فروعا من عداك تتابعت ... ولا تغترر واقدم فقد فاز من جسر
فما الفرع في التحقيق إلا كأصله ... عدوا كما قد قيل في الناس واشتهر
وإن صح عنكم سعيكم لمعاندي ... صبرت فإن الصبر خير لمن صبر
وأرسل أبغي العزل حيث أردتم ... وعما قليل تبلغوا السول والوطر
ثم قال:
فيا خيبة المسعى ويا قلة الرجا ... ويا ضيعة الأعمار فيكم مع السهر
وحقك يا ذا المجد لست بماكث ... بدار بها قدري يهان ويحتقر
وأشكو إذا في الحال في كل محفل ... وأشعر من فيه إذا لم يكن شعر
وإني واسم الله ذي القدرة التي ... أنارت ضياء الشمس والنجم والقمر
إذا ملئت بطحاء مكة عسجدا ... مع الفضة البيضاء مع أنفس الدرر
وأعطيت بالذل القضاء وحكمها ... رددت ولو من فاقتي كنت محتضر
فيا أيها الحبر الشريف إذا أتى ... إليك غريب الدار لا يفهم الدرر (2)
وبشر لمن وافاك من دار أهله ... فو الله لا يبقى سوى خيّر الخير
وحقق رجا من أمّ بابك دائما ... وحاشاك أن يعزى إلى بابك القصر
ودم أيها الشهم الأشم لوارد ... إليك على بعد وإن قرب السفر
رحيما وكن في حقه محسنا بما ... يعد جميلا في البوادي وفي الحضر
فذلك صيد الشكر والمدح والثنا ... لمن يبتغي ذكرا جميلا على الممر
إلى أن قال:
__________
(1) في الأصل: حيا.
(2) في در الحبب: السدر.(5/525)
فها قصتي أوضحتها لك دافعا ... وصرف الليالي ليس يبقي ولا يذر
فخذها مقال التادفيّ محمد ... من الخيرة الأنصار والخزرج الخير
كفاك الذي قد قيل فيك وما الذي ... يقال على مر الزمان الذي هجر
وصلى إله العرش في كل ساعة ... على من عليه أنزلت سورة الزمر
مقاطع من قد قاطعوه مواليا ... لأنصاره لا مثل ما منك قد صدر
كذاك على الآل الكرام وصحبه ... وتابعهم والتابعين ومن شكر
وله في ذلك أبيات كثيرة أعرضنا عنها لطولها وفيها يذكر أنه قدّم قرشيا كانت أصوله تبدي القرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنصاري كان جده من قوم ينصرونه، وكتب له بعد أن خرج من مكة معزولا سنة إحدى وثلاثين أبياتا سماها «السهم الساري في الشريف بركات وأتباعه الذراري» ومن جملتها هذه الأبيات:
يا واليا قطر الحجاز تعسفا ... عزلي بعزلك منذر قد عنّ لي
فاشرب بكاس حمام سقمك جرعة ... لحرورها أبدا همومك تصطلي
أو ما علمت بأنني شهم له ... سهم يصيب لمن نأى في المقتل
فابشر بحتفك مع ذراريك التي ... سحب المنايا عنهم لا تنجلي
فمات في تلك السنة رحمه الله تعالى. ومن شعره أيضا:
لولا رجائي بأن الشمل مجتمع ... ما كان لي في حياتي بعدكم طمع
يا جيرة قطعوا رسلي وما رحموا ... قلبا تقطع وجدا عند ما قطعوا
أواه واطول شوقي للذي سكنوا ... في الصرح يا ليت شعري ما الذي صنعوا
لا عشت إن كنت يوما بعد بعدكم ... أمّلت أني بطيب العيش أنتفع
هم أطلقوا مدمعي والنار في كبدي ... كذاك نومي وصبري في الهوى منعوا
دع يفعلوا ما أرادوا في عبيدهم ... لا واخذ الله أحبابي بما صنعوا
وله مرثية أيضا يقول:
ما كان أهنا زمن الملتقى ... في الحي مع سكان تلك الخيام
ليت اجتماع الشمل لو كان دام ... عليك يا طيب الوصال السلام
فعاجلتنا فرقة مع ردى ... وفوّقت فينا الليالي سهام
كنا مع الأحباب في لذة ... كأننا من طيبها في منام
آها على رؤية وجه لكم ... زاه على الشمس وبدر التمام
فافترق الشمل وحال القضا ... ما بيننا وانحلّ ذاك النظام
سقى قبورا أنتم سادتي ... فيها بدمعي لا بدمع الغمام
ولين أعطاف إذا ما انثنت ... تعلم الأغصان لين القوام
وله أيضا:(5/526)
ما كان أهنا زمن الملتقى ... في الحي مع سكان تلك الخيام
ليت اجتماع الشمل لو كان دام ... عليك يا طيب الوصال السلام
فعاجلتنا فرقة مع ردى ... وفوّقت فينا الليالي سهام
كنا مع الأحباب في لذة ... كأننا من طيبها في منام
آها على رؤية وجه لكم ... زاه على الشمس وبدر التمام
فافترق الشمل وحال القضا ... ما بيننا وانحلّ ذاك النظام
سقى قبورا أنتم سادتي ... فيها بدمعي لا بدمع الغمام
ولين أعطاف إذا ما انثنت ... تعلم الأغصان لين القوام
وله أيضا:
ترى بعد هذا البين والبعد أسمع ... بأن لييلات التواصل ترجع
ويهدا فؤاد لا يقرّ قراره ... وجفن قريح بالبكاليس يهجع
بدور الحمى يا من سرور جمالهم ... مقيم له بين الأضالع أربع
فديتكم هلا وقفتم سويعة ... أزوّد طرفي نظرة وأودّع
أعلل قلبي بالسلامة بعدكم ... وأطمع فيما ليس لي فيه مطمع
وبالجملة إن له أشعارا لا تحصى، ولو جمعت لكانت هي والأشعار التي مدح بها مجلدات. وقد مدحه كثيرون كالعلاء الموصلي وكالشيخ عبد الرؤوف المصري والحسن السرميني وكالشيخ جابر الشاعر، فإنه وفد إليه من الجبل الأعلى من معاملة حلب المرة بعد المرة ومدحه بما لا يحصى زيادة وكثرة، وله فيه كما علمت منظومات سماها «العقد الغالي في مدح الكمالي»، وقد مر لك نبذ من مدايح هؤلاء فيه عند ذكر تراجمهم. وتولى سوى قضاء مكة في الدولة العثمانية قضاء البحيرة والجيزة وكذا نظر أوقاف القاهرة ونواحيها وعمر إذ ذاك من الأوقاف الداثرة والقابلة العمارة بعد أن (قطع على كثير من أرباب المعاليم معاليمهم ما انتفعوا به واعترفوا بنفعه بعد أن) (1) أطلقوا ألسنتهم فيه عند إرادة قطعها.
وأما ما أنشأه بحلب من العماير فعمارة جددها بالقرب من مزار الشيخ أبي الرجا الرحبي تشتمل على مسجد لله تعالى وتربة اتخذها لنفسه وذريته وإخوته ونقل إليهما علمين قادريا ورفاعيا كانا بمحكمة والده ثم بمحكمته لتوليهما مشيخة الشيوخ (بحلب دون غيرهما من
__________
(1) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن در الحبب، وهو ساقط في الأصل.(5/527)
قضاة القضاة المعاصرين لهما، ثم كانت وفاته أواسط ذي الحجة سنة ست وخمسين وتسع مئة) (1) ودفن بقبر والده.
وكان ذكيا سخيا مقداما شهما عليّ الهمة حسن العشرة سليم الفطرة مزاحا حمولا للأذى محسنا لمن له أذى جم الفضائل كثير الفواضل.
وأما مادحوه من الشعراء ممن ليس من رجال هذا التاريخ فخلائق، منهم من لو لم يمدحه غيره لكفى، وهو شيخنا بالإجازة شيخ الإسلام أوحد العلماء الأعلام عين الأماثل العظام قس الزمان ولبيد الأوان أبو الفتح زين الدين عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد ابن حسن بن داوود بن سالم بن معالي العباسي الحموي الأصل ثم القاهري ثم الإستنبولي الشافعي المشهور بالسيد العباسي، ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد السجودي الخطيب الأزهري الشافعي الشاعر المكثر في مدحه، وهو الذي نظم قصيدة نبوية قدر ثمانمائة بيت وبعث بها لتقرأ عند الحجرة الشريفة، وكان من أصحابه الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار المالكي فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره أنه قبل هدية الشيخ نور الدين ووعد بالوفاء إن كان اللقاء بالعبارة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، ومنهم علي المحلي، ومنهم عبد اللطيف بن علي بن إبراهيم الديربي ثم المصري الأزهري الأنصاري الشاعر المكثر الذي جمع في مدحه مؤلفه «عقود اللآل في مدح قاضي القضاة الكمال» ولازمه كثيرا سفرا وحضرا برا وبحرا.
839 - حسن بن عمر النصيبي المتوفى سنة 956
حسن بن عمر بن محمد الأصيل العريق البدري بدر الدين ابن أقضى القضاة زين الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن النصيبي، وجده اشتغل بالعلم مدة على العلاء الموصلي والبرهان اليشبكي وغيرهما، ثم رحل لأجل المعيشة إلى الباب العالي فصار يكتب القصص التي ترفع إلى الحضرة الخندكارية باللسان التركي على أحسن وجه وأكمله، ثم تقرب إلى نيشانجي الباب العالي فقربه وأحبه وصار ظهيره ونصيره في تولية المناصب ودفع كل بلاء ناصب.
__________
(1) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن در الحبب، وهو ساقط في الأصل فعلى هذا ألحق المؤلف المترجم له في وفيات 931سهوا، فألحقناه بموضعه. وانظر الترجمة السابقة.(5/528)
وتولى بهمته نظر الأوقاف بحلب عموما ونظر الحرمين الشريفين بها والبيمارستان النوري بحماة والأرغوني بحلب خصوصا، والتزم بتحصيل الحصص السلطانية فيما فيه للحرمين الشريفين حصص أخرى. فلما قدم عيسى باشا بكلربكي المملكة الدمشقية حلب مفتشا على ما بها من المظالم قيل له إن عليه ما ينوف عن عشر كرات، فاستنطق ملا علاء الدين كاتب الحرمين الشريفين، فكتب له دفترا بذلك، فتتبع البدري فلم يظفر به مدة تفتيشه، فقبض على جابيه النظام ابن الحاضري واستنطقه فلم يقر بشيء، فلما تم أمر التفتيش ولم يظفر البدري وعاد إلى دمشق صحبه معه حافيا مكشوف الرأس إلى حماة، ثم أطلقه بشفاعة حصلت فيه، وبقي عنده حقد زائد بحيث لو ظفر بالبدري سمه كما هو عادته.
وصار البدري في وجل قد عظم وجلّ، إلى أن لاح بدره وظهر، فقبض عليه واحد من أعوانه بحلب واستولى عليه في منزل هو نازل به، فاحتال عليه كافل حلب، وكان يحب البدري، وصنع له ضيافة، فلما جاء بعث إليه أعوانه إلى منزله فاختطفوا البدري وأخفوه، فقوي حقد عيسى باشا عليه فوق ما كان وصار يقول كلما تحرك عليه نقرسه: هذا كله من نصيبي زاده.
ثم أرسل البدري حسن شقيقه البدري حسينا شاكيا على عيسى باشا، فاشتكى عليه بالديوان العالي فأغلظ له القول أفلاق (1) مصطفى الوزير الرابع يومئذ اعتناء بعيسى باشا، فأخرج له البدري حسين عرضا كان قد رقمه للبدري حسن وهو بكلربكي المملكة الدمشقية قبل عيسى باشا، ومن مضمونه تربيته والثناء عليه، فكذبه به، فهان أمره وبقيت خشيته في قلب البدري الحسن، ثم آل الأمر إلى أن توفي أفلاق وأقدم البدري حسن لما رآه من الرأي الحسن على إزالة ما في خاطر عيسى باشا بأن يمثل بين يديه ملقيا سلاحه مسلما إليه قياده، ففعل، ولكن قصد أن يسقيه شرابا أو يضيفه، فامتنع خشية أن يسمه، ثم عاد من عنده سليما بإذن الله تعالى، ثم سعد بوفاته عن قتله وصار ناظر الأموال السلطانية بحلب، فهابه الأمناء والكتاب والعمال لمزيد وقوفه على أمور الديوان والدفتر داري واطلاعه عن الكتيمات والبلعيات، فاتسع مجاله وكثر الوافدون ببابه وخفي ما كان عليه من الأموال السلطانية، إلى أن ولي الدفتر دارية إسكندر بك فأظهر ما خفي بمعونة أهل ديوانه وتقويته إياهم عليه لما عندهم من العداوة الباطنة له، وأخذ منه نحو ثمانية آلاف دينار سلطاني وصدمه
__________
(1) أثبتها في طبعة در الحبب: أفلاقي.(5/529)