الجزء الثانى
تتمة الدولة
سنة 541
ذكر ولاية نور الدين محمود الشهيد بن زنكي على حلب
قال في الروضتين: قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: لما راهق نور الدين لزم خدمة والده إلى أن انتهت مدته على قلعة جعبر، وسير في صبيحة الأحد الملك آلب أرسلان بن السلطان مسعود إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه، فقال لهم: إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له وأنتم في خدمته، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ثم قصد حلب ودخل قلعتها سابع ربيع الآخر ورتب النواب في القلعة والمدينة.
قال ابن أبي طي الحلبي: لما اتصل قتل أتابك بأسد الدين شيركوه ركب من ساعته وقصد خيمة نور الدين وقال له: اعلم أن الوزير جمال الدين قد أخذ عسكر الموصل وعول على تقديم أخيك سيف الدين وقصده إلى الموصل وقد انضوى إليه جلّ العسكر، وقد أنفذ إلي جمال الدين وأرادني على اللحاق به فلم أعرج عليه، وقد رأيت أن أصيرك إلى حلب وتجعلها كرسي ملكك وتجتمع في خدمتك عساكر الشام، وأنا أعلم أن الأمر يصير جميعه إليك، لأن ملك الشام يحصل بحلب، ومن ملك حلب استظهر على بلاد الشرق.
فركب وأمر أن ينادى في الليل في عساكر الشام بالاجتماع، فاجتمعوا وساروا في خدمة نور الدين إلى حلب ودخلوها سابع ربيع الأول [تقدم آنفا سابع ربيع الآخر]. ولما دخلوا إلى حلب جاء أسد الدين إلى تحت القلعة ونادى واليها وأصعد نور الدين إليها وقرر أمره ومشى أحواله، فكان نور الدين يرى له ذلك وأسد الدين يمن بأنه كان السبب في توليته. ثم
ساق في الروضتين ما قام به الوزير جمال الدين من الثدابير في تقرير سيف الدين غازي أخي نور الدين في الملك لبلاد الموصل، إلى أن قال:(2/7)
فركب وأمر أن ينادى في الليل في عساكر الشام بالاجتماع، فاجتمعوا وساروا في خدمة نور الدين إلى حلب ودخلوها سابع ربيع الأول [تقدم آنفا سابع ربيع الآخر]. ولما دخلوا إلى حلب جاء أسد الدين إلى تحت القلعة ونادى واليها وأصعد نور الدين إليها وقرر أمره ومشى أحواله، فكان نور الدين يرى له ذلك وأسد الدين يمن بأنه كان السبب في توليته. ثم
ساق في الروضتين ما قام به الوزير جمال الدين من الثدابير في تقرير سيف الدين غازي أخي نور الدين في الملك لبلاد الموصل، إلى أن قال:
ولما استقر سيف الدين في الملك أطاعه جميع البلاد ما عدا ما كان بديار بكر كالمعدن وحيزان وأسعرد وغير ذلك، فإن المجاورين لها تغلبوا عليها، قال: ولما فرغ سيف الدين من إصلاح أمر السلطنة وتحليفه وتقرير أمر البلاد عبر إلى الشام لينظر في تلك النواحي ويقرر القاعدة بينه وبين أخيه نور الدين وهو بحلب، وقد تأخر عن الحضور عند أخيه نور الدين وخافه، فلم يزل يراسله ويستميله، فكلما طلب شيئا أجابه إليه استمالة لقلبه. واستقرت الحال بينهما على أن يجتمعا خارج العسكر السيفي ومع كل واحد خمسمائة فارس، فلما كان يوم الميعاد بينهما سار نور الدين من حلب في خمسمائة فارس وسار سيف الدين من معسكره في خمسة فوارس فلم يعرف نور الدين أخاه سيف الدين حتى قرب منه، فحين رآه عرفه فترجل له وقبل الأرض بين يديه وأمر أصحابه بالعود عنه، فعادوا وقعد سيف الدين ونور الدين بعد أن اعتنقا وبكيا، فقال له سيف الدين: لم امتنعت من المجيء إلي أكنت تخافني على نفسك؟ والله ما خطر ببالي ما تكره، فلمن أريد البلاد ومع من أعيش وبمن أعتضد إذا فعلت السوء مع أخي وأحب الناس إلي؟ فاطمأن نور الدين وسكن روعه وعاد إلى حلب، فتجهز وعاد بعسكره إلى خدمة أخيه سيف الدين، فأمره سيف الدين بالعود وترك عسكره عنده وقال: لا غرض لي في مقامك عندي، وإنما غرضي أن يعلم الملوك والفرنج اتفاقنا، فمن يريد السوء يكف عنه، فلم يرجع نور الدين ولزم إلى أن قضيا ما كانا عليه وعاد كل واحد منهما إلى بلده.
قلت: ومن قصيدة لابن منير في نور الدين:
أيا خير الملوك أبا وجدا ... وأنفعهم حيا لغليل صاد
علوا وغلوا وقال الناس فيهم ... شوارد من ثناء أو أحاد
وما اقتسموا ولا عمدوا بناهم ... بمنصبك القسيمي العمادي
وهل حلب سوى نفس شعاع ... تقسمها التمادي والتعادي
نفى ابن عماد دين الله عنها ال ... شكاة فأصبحت ذات العماد (1)
__________
(1) في الأصل: نفى ابن عماد الدين وصوابه كما أثبتناه نقلا عن مخطوطة أوكسفورد.(2/8)
تبختر في كسا عدل وبذل ... مدبّجة التهائم والنجاد
وفي محرابها داود منه ... يهذب حكمة آيات صاد
تجاوزت النجوم فأين تبقى ... ترق فلا خلوت من ازدياد
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: في سابع يوم من استقرار نور الدين بحلب اتصل خبر مقتل أتابك بصاحب أنطاكية البيمند، فخرج في يومه بعساكر أنطاكية وقسم عسكره قسمين (قسما) أنفذه إلى جهة حماة وقسما أغار به على جهة حلب، وعاث في بلادها، وكان الناس آمنين فقتل وسبى عالما عظيما، وتمادى حتى وصل إلى صلدي ونهبها. ووصل الخبر إلى حلب فخرج أسد الدين شيركوه فيمن كان بحلب من العسكر وجد في السير ففاته الفرنج وأدرك جماعة من الرجالة يسوقون الأسرى، فقتلهم واستنقذ كثيرا مما كانت الفرنج أخذته، وسار مجنبا عن طريق الفرنج إلى أن شن الغارة على بلد أرتاح واستاق جميع ما كان للفرنج فيه وعاد إلى حلب مظفرا.
وقال فيها أيضا: وردت الأخبار في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الإفرنج من ناحيته وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة من النصارى المقيمين فيها فدخلها واستولى عليها وقتل من فيها من المسلمين، فنهض نور الدين صاحب حلب في عسكره ومن انضاف إليه من التركمان وغيرهم زهاء عشرة آلاف فارس، ووقعت الدواب في الطرقات من شدة السير، ووافوا البلد وقد حصل ابن جوسلين وأصحابه فيه فهجموا عليهم ووقع السيف فيهم، وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل وانهزم إلى برج يقال له برج الماء فحصل فيه ابن جوسلين في تقدير عشرين فارسا من وجوه أصحابه، وأحدق بهم المسلمون وشرعوا في النقب عليهم حتى تعرقب البرج، فانهزم ابن جوسلين في الخفية من أصحابه وأخذ الباقون، ومحق بالسيف كل من ظفر به من نصارى الرها واستخلص من كان فيه أسيرا من المسلمين ونهب منها شيء كثير من المال والأثاث والسبي، وانكفأ المسلمون بالغنائم إلى حلب وسائر الأطراف.
وقال ابن الأثير: لما قتل زنكي كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته غرب الفرات في تل باشر وما جاورها، فراسل أهل الرها وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوما يصل إليهم فيه، فأجابوه إلى ذلك فسار في عسكره إليها وملكها وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين فقاتلهم وجد في قتالهم، فبلغ الخبر نور الدين وهو بحلب
فسار إليهم بعسكره فهرب جوسلين، ودخل نور الدين مدينة الرها ونهبها وسبى أهلها.(2/9)
وقال ابن الأثير: لما قتل زنكي كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته غرب الفرات في تل باشر وما جاورها، فراسل أهل الرها وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوما يصل إليهم فيه، فأجابوه إلى ذلك فسار في عسكره إليها وملكها وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين فقاتلهم وجد في قتالهم، فبلغ الخبر نور الدين وهو بحلب
فسار إليهم بعسكره فهرب جوسلين، ودخل نور الدين مدينة الرها ونهبها وسبى أهلها.
وفي هذه الدفعة نهبت وخربت وخلت من أهليها ولم يبق منهم إلا القليل، ووصل خبر الفرنج إلى سيف الدين غازي بالموصل فجهز العساكر إلى الرها، فوصل العساكر وقد ملكها نور الدين فبقيت في يده ولم يعارضه فيها أخوه سيف الدين.
سنة 542
ذكر ملك نور الدين محمود مدينة أرتاح وغيرها
قال ابن الأثير: في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلد الفرنج ففتح منه مدينة أرتاح بالسيف ونهبها وحصر مابولة وبسرفوث وكفرلاثا. وكان الفرنج بعد قتل زنكي قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد وخاب ظنهم وأملهم.
سنة 543
انهزام نور الدين في وقعة بينه وبين صاحب أنطاكية
قال في الروضتين في حوادث هذه السنة: وردت الأخبار في رجب من ناحية حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال الإفرنجية وقصد أفامية وظفر بعدة من الحصون والمعاقل الإفرنجية وبعدة وافرة من الإفرنج، وأن صاحب أنطاكية جمع الفرنج وقصده على حين غفلة منه فنال من عسكره وأثقاله وكراعه ما أوجبته الأقدار النازلة، وانهزم بنفسه وعسكره وعاد إلى حلب سالما في عسكره لم يفقد منه إلا النفر اليسير بعد قتل جماعة وافرة من الإفرنج، وأقام بحلب أياما بحيث جدد ما ذهب له من اليزك وما يحتاج إليه من آلات العسكر، وعاد إلى منزله، وقيل لم يعد.(2/10)
ذكر وقعة يغرى وانهزام الفرنج فيها
قال ابن الأثير: في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى (هو أرض في العمق) وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها، فعلم نور الدين فسار إليهم في عسكره فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالا شديدا وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل كثير منهم وأسر جماعة من مقدميهم ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل، وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم.
قال في الروضتين: وفي هذه الوقعة يقول القيسراني من قصيدة أولها:
يا ليت أن الصد مصدود ... أو لا فليت النوم مردود
إلى متى تعرض عن مغرم ... في خده للدمع أخدود
قالوا عيون البيض بيض الظبى ... قلت ولكن هذه سود
يخاف منها وهي في جفنها ... والسيف يخشى وهو مغمود
ثم خرج إلى المدح فقال:
وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
فليشكر الناس ظلال المنى ... إن رواق العدل ممدود
ونيرات الملك وهاجة ... وطالع الدولة مسعود
وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود
مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
مظفر في درعه ضيغم ... عليه تاج الملك معقود
نال المعالي مالكا حاكما ... فهو سليمان وداود
ترتشف الأفواه أسيافه ... إن وصاب العز مورود
وكم له من وقعة يومها ... عند ملوك الشرك مشهود
والقوم إما مرهق صرعة ... أو موثق بالقد مشدود
حتى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا
طالب بثأر ضمنته الظبى ... فكل ما يضمن مردود
والكر والفر سجال الوغى ... فطارد طورا ومطرود
وإنما الإفرنج من بغيها ... عادوا وقد عاد لها هود
قد حصحص الحق فما جاهد ... في قلبه بأسك مجحود
فكل مصر بك مستفتح ... وكل ثغر بك مسدود
وقال أيضا قصيدة في نور الدين وأنشده إياها بظاهر حلب وقد كسر الفرنج على يغرى وهزمهم إلى حصن حارم، وقد كانت الفرنج هزمت المسلمين أولا بهذا الموضع أولها:(2/11)
وكيف لا نثني على عيشنا ال ... محمود والسلطان محمود
فليشكر الناس ظلال المنى ... إن رواق العدل ممدود
ونيرات الملك وهاجة ... وطالع الدولة مسعود
وصارم الإسلام لا ينثني ... إلا وشلو الكفر مقدود
مناقب لم تك موجودة ... إلا ونور الدين موجود
مظفر في درعه ضيغم ... عليه تاج الملك معقود
نال المعالي مالكا حاكما ... فهو سليمان وداود
ترتشف الأفواه أسيافه ... إن وصاب العز مورود
وكم له من وقعة يومها ... عند ملوك الشرك مشهود
والقوم إما مرهق صرعة ... أو موثق بالقد مشدود
حتى إذا عادوا إلى مثلها ... قالت لهم هيبته عودوا
طالب بثأر ضمنته الظبى ... فكل ما يضمن مردود
والكر والفر سجال الوغى ... فطارد طورا ومطرود
وإنما الإفرنج من بغيها ... عادوا وقد عاد لها هود
قد حصحص الحق فما جاهد ... في قلبه بأسك مجحود
فكل مصر بك مستفتح ... وكل ثغر بك مسدود
وقال أيضا قصيدة في نور الدين وأنشده إياها بظاهر حلب وقد كسر الفرنج على يغرى وهزمهم إلى حصن حارم، وقد كانت الفرنج هزمت المسلمين أولا بهذا الموضع أولها:
تفي بضمانها البيض الحداد ... وتقضي دينها السمر الصعاد
وتدرك ثأرها من كل باغ ... فوارس من عزائمها الجلاد
ويغشى حومة الهيجا همام ... يشد بضبعه السبع الشداد
أظنوا أن نار الحرب تخبو ... ونور الدين في يده الزناد
وجند كالصقور على صقور ... إذا انقضوا على الأبطال صادوا
إذا أخفوا مكيدتهم أخافوا ... وإن أبدوا عداوتهم أبادوا
ونصرة دولة حاميت عنها ... وهل يخشى وأنت لها عماد
وأنت تتل القوافي ما تلته (1) ... بإنّب ما يؤنبها سناد
جرت بالنصر أقلام العوالي ... وليس سوى النجيع لها مداد
وطالت أرؤس الأعلاج خصبا ... فنادى السيف قد وقع الحصاد
أحطت بهم فكان القتل صبرا ... ولا طعن هناك ولا طراد
وللإبرنس فوق الرمح رأس ... توسد والسنان له وساد
ترجل للسلام ففرسوه ... وليس سوى القناة له جواد
غضيض المقلتين ولا نعاس ... وعايرها وليس به سهاد
فسر واستوعب الدنيا فتوحا ... فلا هضب هناك ولا وهاد
وزر ببني الوغى مثوى حبيب ... فما عن باب مسلمة ذياد
ولا في باب فارس غير ثكلى ... بفارسها يضيء بها الحداد
لأنطاكية يحمي ذراها ... وقد دانت لسطوتك البلاد
وأذعنت الممالك واستجابت ... ملبية لدعوتك العباد
__________
(1) لعل الصواب: وإن تتل.(2/12)
ووقعة إنّب (1) هذه كانت عظيمة وقد أكثر ذلك الشعراء لها، وسيأتي ذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.
قال في الروضتين: قال أبو يعلى التميمي: وفي رجب من هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين بن أتابك أمر بإبطال خير العمل في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة، وأنكر ذلك إنكارا شديدا، وساعده على ذلك جماعة من أهل السنة بحلب، وعظم هذا الأمر على الإسماعيلية وأهل التشيع وضاقت له صدورهم وهاجوا وماجوا، ثم سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة والهيبة المحذورة اه.
أقول: قد تقدم في ترجمة سيف الدولة بن حمدان أن أول التأذين بحي على خير العمل كان في أيامه في سنة 347وذكرنا ثمة إبطال نور الدين لذلك وأمره بالاقتصار على الأذان المشروع وأن ذلك كان لما فتح نور الدين المدرسة الكبيرة المعروفة بالحلاوية.
سنة 544
قال ابن الأثير: في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل وخلف ولدا ذكرا، فرباه عمه نور الدين محمود وأحسن تربيته وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود، فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه فانقرض عقب سيف الدين.
قال في الروضتين: في حوادث هذه السنة فيها أنفذ نور الدين محمود إلى معين الدين (صاحب دمشق) يعلمه أن صاحب أنطاكية قد جمع إفرنج بلاده وظهر يطلب بهم الإفساد في الأعمال الحلبية وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب للقائه والحاجة ماسة إلى معاضدته، فندب معين الدين مجاهد الدين نران بن مامين في فريق وافر من العسكر الدمشقي للمصير إلى جهته، وبذل المجهود في طاعته ومناصحته، وبقي معين الدين في
__________
(1) قال في معجم البلدان: إنّب، بكسرتين وتشديد النون والباء الموحدة: حصن من أعمال عزاز من نواحي حلب له ذكر.(2/13)
العسكر بناحية حوران. قال: وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين بما أولاه الله تعالى وله الحمد على حشد الفرنج المخذول ولم يفلت منهم إلا من أخبر ببوارهم وتعجيل دمارهم، وذلك أن نور الدين اجتمع له من العساكر ستة آلاف فارس مقاتلة سوى الأتباع والسواد، فنهض بهم إلى الفرنج في الموضع المعروف بإنّب وهم في نحو أربعمائة فارس وألف راجل فقتلوهم وغنموهم ووجد البرنس مقدمهم صريعا بين جماعته وأبطاله فعرف وقطع رأسه وحمل إلى نور الدين، وكان هذا من أبطال الفرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس وقوة الحيل وعظم الخلقة مع اشتهار الهيبة وكثرة السطوة والتناهي في الشر، وذلك يوم الأربعاء الحادي والشعرين من صفر. ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية وقد خلت من حماتها والذابين عنها ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة عددهم وحصانة بلدهم، وترددت المراسلات بينه وبينهم في طلب التسليم إليه وأيمانهم وصيانة أموالهم، فوقع الاحتجاج منهم بأن هذا الأمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع آمالهم من الناصر لهم والمعين على من يقصدهم، وحملوا ما أمكنهم من التحف والمال، ثم استمهلوا فأمهلوا، ثم رتب نور الدين بعض العساكر للإقامة عليها والمنع لمن يصل إليها ونهض في بقية العساكر لمنازلتها ومضايقتها فالتمسوا الأمان فأومنوا على أنفسهم وسلموا البلد في ثامن عشر ربيع الأول، وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية أنطاكية وقد انتهى الخبر بنهوض الفرنج من السواحل إلى صوب أنطاكية لإنجاد من بها فاقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له وما قرب من أنطاكية لهم. ورحل عنهم إلى جهة غيرهم بحيث كان قد ملك في هذه النوبة مما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل وغيرها من المغانم الجمة. وفصل عنه الأمير مجاهد الدين نران في العسكر الدمشقي، وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور والذكر المشكور لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة وإصابة الرأي والمعرفة بمواقف الحروب.
وقال ابن أبي طي: حمل أسد الدين على حامل صليب الفرنج وقتله وقتل البرنس صاحب أنطاكية وجماعة من وجوه عسكره ولم يقتل من المسلمين من يقوم به، وعاد المسلمون بالغنائم والأسرى، وكان لأسد الدين في هذه الحرب اليد البيضاء، ومدحه بها بعض الشعراء الحلبيين بقصيدة يقول فيها:
إن كان آل فرنج أدركوا فلجا ... في يوم يغرا ونالوا منية الظفر
ففي الخطيم خطمت الكفر منصلتا ... أبا المظفر بالصمصامة الذكر
نالوا بيغرا نهابا وانتهبت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر البتر
واستقودوا الخيل عريا واستقدت لنا ... قوامص الكفر في ذل وفي صغر
وقال ابن الأثير: سار نور الدين إلى حصن حارم وهو للفرنج فحصره وخرب ربضه ونهب سواده، ثم رحل عنه إلى حصن إنّب فحصره فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وساروا إليه ليرحلوه عن إنّب فلم يرحل بل لقيهم، وتصاف الفريقان واقتتلوا وصبروا وظهر من نور الدين من الشجاعة والصبر في الحرب على حداثة سنه ما تعجب منه الناس. وانجلت الحرب عن هزيمة الفرنج وقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا، وفيمن قتل البرنس صاحب أنطاكية وكان من عتاة الفرنج وذوي التقدم فيهم والملك. ولما قتل البرنس خلف ابنا صغيرا وهو بيمند فبقي مع أمه بأنطاكية فتزوجت أمه ببرنس آخر وأقام معها بأنطاكية يدبر الجيش ويقودهم ويقاتل بهم إلى أن يكبر بيمند.(2/14)
وقال ابن أبي طي: حمل أسد الدين على حامل صليب الفرنج وقتله وقتل البرنس صاحب أنطاكية وجماعة من وجوه عسكره ولم يقتل من المسلمين من يقوم به، وعاد المسلمون بالغنائم والأسرى، وكان لأسد الدين في هذه الحرب اليد البيضاء، ومدحه بها بعض الشعراء الحلبيين بقصيدة يقول فيها:
إن كان آل فرنج أدركوا فلجا ... في يوم يغرا ونالوا منية الظفر
ففي الخطيم خطمت الكفر منصلتا ... أبا المظفر بالصمصامة الذكر
نالوا بيغرا نهابا وانتهبت لنا ... على الخطيم نفوس المعشر البتر
واستقودوا الخيل عريا واستقدت لنا ... قوامص الكفر في ذل وفي صغر
وقال ابن الأثير: سار نور الدين إلى حصن حارم وهو للفرنج فحصره وخرب ربضه ونهب سواده، ثم رحل عنه إلى حصن إنّب فحصره فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وساروا إليه ليرحلوه عن إنّب فلم يرحل بل لقيهم، وتصاف الفريقان واقتتلوا وصبروا وظهر من نور الدين من الشجاعة والصبر في الحرب على حداثة سنه ما تعجب منه الناس. وانجلت الحرب عن هزيمة الفرنج وقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا، وفيمن قتل البرنس صاحب أنطاكية وكان من عتاة الفرنج وذوي التقدم فيهم والملك. ولما قتل البرنس خلف ابنا صغيرا وهو بيمند فبقي مع أمه بأنطاكية فتزوجت أمه ببرنس آخر وأقام معها بأنطاكية يدبر الجيش ويقودهم ويقاتل بهم إلى أن يكبر بيمند.
ثم إن نور الدين غزا بلد الفرنج غزوة أخرى وهزمهم وقتل فيهم وأسر، وكان في الأسرى البرنس الثاني زوج أم بيمند، فلما أسره تملك بيمند أنطاكية بلد أبيه وتمكن منه، وبقي بها إلى أن أسره نور الدين بحارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأكثر الشعراء مدح نور الدين وتهنئته بهذا الفتح وقتل البرنس، فممن قال فيه القيسراني الشاعر من قصيدة أنشده إياها بجسر الحديد الفاصل بين عمل حلب وعمل أنطاكية أولها:
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت يا بن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب
ما زال جدك يبني كل شاهقة ... حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب
لله عزمك ما أمضى وهمك ما ... أقضى اتساعا بما ضاقت به الحقب
يا ساهد الطرف والأجفان هاجعة ... وثابت القلب والأحشاء تضطرب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منا بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
قل للطغاة وإن صمت مسامعها ... قولا لصم القنا في ذكره أرب
ما يوم إنّب والأيام دائلة ... من يوم يغرا بعيد لا ولا كثب
أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم أسلم الجهل ظنا غره الكذب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى ... وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
حتى استطار شرار الزند قادحه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب
والخيل من تحت قتلاها تقر لها ... قوائم خانهن الركض والخبب
والنقع فوق صقال البيض منعقد ... كما استقل دخان تحته لهب
والسيف هام على هام بمعركة ... لا البيض ذو ذمة منها ولا اليلب
والنبل كالوبل هطال وليس له ... سوى القسي وأيد فوقها سحب
وللظبى ظفر حلو مذاقته ... كأنما الضرب فيما بينهم ضرب
وللأسنة عما في صدورهم ... مصادر أقلوب تلك أم قلب
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم ... فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب
كذاك من لم يوق الله مهجته ... لاقى العدى والقنا في كفه قصب
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يا رب خائنة منجاتها العطب
حتى الطوارق كانت من طوارقهم ... ثارت عليهم بها من تحتها النوب
أجسادهم في ثياب من دمائهم ... مسلوبة وكأن القوم ما سلبوا
أنباء ملحمة لو أنها ذكرت ... فيما مضى نسيت أيامها العرب
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك فنور الدين محتسب
ذو غرة ما سمت والليل معتكر ... إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب
أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه اللقب
في كل يوم لفكري من وقائعه ... شغل فكل مديحي فيه مقتضب
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ... هل يأسر الغلب إلا من له الغلب
فملكوا سلب الإبرنس قاتله ... وهل له غير أنطاكية سلب
من للشقي بما لاقت فوارسه ... وأن يسائرها من تحته قتب
عجبت للصعدة السمراء مثمرة ... برأسه إن أثمار القنا عجب
سما عليها سموّ الماء أرهقه ... أنبوية في صعود أصلها صبب
ما فارقت عذبات التاج مفرقه ... إلا وهى منه لا تاج ولا عذب
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نحره سرب
كنا نعد حمى أطرافنا ظفرا ... فملكتك الظبى ما ليس نحتسب
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كأن تسليم هذا عند ذا جرب
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق ... كما التوى بعد رأس الحية الذنب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب ... يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب
وائذن لموجك في تطهير ساحله ... فإنما أنت بحر لجه لجب
يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة ... من الظبى عن ثغور زانها الشنب
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها ... حتى أقمت وأنطاكية حلب
حللت من عقلها أيدي معاقلها ... فاستجفلت وإلى ميثاقك الهرب
وأيقنت أنها تتلو مراكزها ... وكيف يثبت لا جوق ولا طنب
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها ... جري الجفون امتراها بارح حصب
وما ركزت القنا إلا ومنك على ... جسر الحديد هزبر غيله أشب
فاسعد بما نلته من كل صالحة ... يأوي إلى جنة المأوى لها حسب
إن لا تكن أحد الأبدال في فلك الت ... قوى فلا نتمارى أنك القطب
فلو تناسب أفلاك السماء بها ... لكان بينكما من عفة نسب
هذا وهل كان في الإسلام مكرمة ... إلا شهدت وعبّاد الهدى غيب
وله فيه من قصيدة أخرى:(2/15)
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت يا بن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب
ما زال جدك يبني كل شاهقة ... حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب
لله عزمك ما أمضى وهمك ما ... أقضى اتساعا بما ضاقت به الحقب
يا ساهد الطرف والأجفان هاجعة ... وثابت القلب والأحشاء تضطرب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منا بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
قل للطغاة وإن صمت مسامعها ... قولا لصم القنا في ذكره أرب
ما يوم إنّب والأيام دائلة ... من يوم يغرا بعيد لا ولا كثب
أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم أسلم الجهل ظنا غره الكذب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى ... وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
حتى استطار شرار الزند قادحه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب
والخيل من تحت قتلاها تقر لها ... قوائم خانهن الركض والخبب
والنقع فوق صقال البيض منعقد ... كما استقل دخان تحته لهب
والسيف هام على هام بمعركة ... لا البيض ذو ذمة منها ولا اليلب
والنبل كالوبل هطال وليس له ... سوى القسي وأيد فوقها سحب
وللظبى ظفر حلو مذاقته ... كأنما الضرب فيما بينهم ضرب
وللأسنة عما في صدورهم ... مصادر أقلوب تلك أم قلب
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم ... فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب
كذاك من لم يوق الله مهجته ... لاقى العدى والقنا في كفه قصب
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يا رب خائنة منجاتها العطب
حتى الطوارق كانت من طوارقهم ... ثارت عليهم بها من تحتها النوب
أجسادهم في ثياب من دمائهم ... مسلوبة وكأن القوم ما سلبوا
أنباء ملحمة لو أنها ذكرت ... فيما مضى نسيت أيامها العرب
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك فنور الدين محتسب
ذو غرة ما سمت والليل معتكر ... إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب
أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه اللقب
في كل يوم لفكري من وقائعه ... شغل فكل مديحي فيه مقتضب
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ... هل يأسر الغلب إلا من له الغلب
فملكوا سلب الإبرنس قاتله ... وهل له غير أنطاكية سلب
من للشقي بما لاقت فوارسه ... وأن يسائرها من تحته قتب
عجبت للصعدة السمراء مثمرة ... برأسه إن أثمار القنا عجب
سما عليها سموّ الماء أرهقه ... أنبوية في صعود أصلها صبب
ما فارقت عذبات التاج مفرقه ... إلا وهى منه لا تاج ولا عذب
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نحره سرب
كنا نعد حمى أطرافنا ظفرا ... فملكتك الظبى ما ليس نحتسب
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كأن تسليم هذا عند ذا جرب
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق ... كما التوى بعد رأس الحية الذنب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب ... يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب
وائذن لموجك في تطهير ساحله ... فإنما أنت بحر لجه لجب
يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة ... من الظبى عن ثغور زانها الشنب
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها ... حتى أقمت وأنطاكية حلب
حللت من عقلها أيدي معاقلها ... فاستجفلت وإلى ميثاقك الهرب
وأيقنت أنها تتلو مراكزها ... وكيف يثبت لا جوق ولا طنب
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها ... جري الجفون امتراها بارح حصب
وما ركزت القنا إلا ومنك على ... جسر الحديد هزبر غيله أشب
فاسعد بما نلته من كل صالحة ... يأوي إلى جنة المأوى لها حسب
إن لا تكن أحد الأبدال في فلك الت ... قوى فلا نتمارى أنك القطب
فلو تناسب أفلاك السماء بها ... لكان بينكما من عفة نسب
هذا وهل كان في الإسلام مكرمة ... إلا شهدت وعبّاد الهدى غيب
وله فيه من قصيدة أخرى:(2/16)
هذي العزائم لا ما تدعي القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت يا بن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب
ما زال جدك يبني كل شاهقة ... حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب
لله عزمك ما أمضى وهمك ما ... أقضى اتساعا بما ضاقت به الحقب
يا ساهد الطرف والأجفان هاجعة ... وثابت القلب والأحشاء تضطرب
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة ... فؤاد رومية الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منا بقاصمة ... أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
قل للطغاة وإن صمت مسامعها ... قولا لصم القنا في ذكره أرب
ما يوم إنّب والأيام دائلة ... من يوم يغرا بعيد لا ولا كثب
أغركم خدعة الآمال ظنكم ... كم أسلم الجهل ظنا غره الكذب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى ... وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
حتى استطار شرار الزند قادحه ... فالحرب تضرم والآجال تحتطب
والخيل من تحت قتلاها تقر لها ... قوائم خانهن الركض والخبب
والنقع فوق صقال البيض منعقد ... كما استقل دخان تحته لهب
والسيف هام على هام بمعركة ... لا البيض ذو ذمة منها ولا اليلب
والنبل كالوبل هطال وليس له ... سوى القسي وأيد فوقها سحب
وللظبى ظفر حلو مذاقته ... كأنما الضرب فيما بينهم ضرب
وللأسنة عما في صدورهم ... مصادر أقلوب تلك أم قلب
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم ... فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب
كذاك من لم يوق الله مهجته ... لاقى العدى والقنا في كفه قصب
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم ... يا رب خائنة منجاتها العطب
حتى الطوارق كانت من طوارقهم ... ثارت عليهم بها من تحتها النوب
أجسادهم في ثياب من دمائهم ... مسلوبة وكأن القوم ما سلبوا
أنباء ملحمة لو أنها ذكرت ... فيما مضى نسيت أيامها العرب
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا ... من الملوك فنور الدين محتسب
ذو غرة ما سمت والليل معتكر ... إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب
أفعاله كاسمه في كل حادثة ... ووجهه نائب عن وصفه اللقب
في كل يوم لفكري من وقائعه ... شغل فكل مديحي فيه مقتضب
من باتت الأسد أسرى في سلاسله ... هل يأسر الغلب إلا من له الغلب
فملكوا سلب الإبرنس قاتله ... وهل له غير أنطاكية سلب
من للشقي بما لاقت فوارسه ... وأن يسائرها من تحته قتب
عجبت للصعدة السمراء مثمرة ... برأسه إن أثمار القنا عجب
سما عليها سموّ الماء أرهقه ... أنبوية في صعود أصلها صبب
ما فارقت عذبات التاج مفرقه ... إلا وهى منه لا تاج ولا عذب
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها من نحره سرب
كنا نعد حمى أطرافنا ظفرا ... فملكتك الظبى ما ليس نحتسب
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها ... كأن تسليم هذا عند ذا جرب
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق ... كما التوى بعد رأس الحية الذنب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب ... يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب
وائذن لموجك في تطهير ساحله ... فإنما أنت بحر لجه لجب
يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة ... من الظبى عن ثغور زانها الشنب
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها ... حتى أقمت وأنطاكية حلب
حللت من عقلها أيدي معاقلها ... فاستجفلت وإلى ميثاقك الهرب
وأيقنت أنها تتلو مراكزها ... وكيف يثبت لا جوق ولا طنب
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها ... جري الجفون امتراها بارح حصب
وما ركزت القنا إلا ومنك على ... جسر الحديد هزبر غيله أشب
فاسعد بما نلته من كل صالحة ... يأوي إلى جنة المأوى لها حسب
إن لا تكن أحد الأبدال في فلك الت ... قوى فلا نتمارى أنك القطب
فلو تناسب أفلاك السماء بها ... لكان بينكما من عفة نسب
هذا وهل كان في الإسلام مكرمة ... إلا شهدت وعبّاد الهدى غيب
وله فيه من قصيدة أخرى:
ألا لله درك أي در ... صريح جاء بالكرم الصريح
وعسكرك الذي استولى مسيحا ... على ما بين فامية وسيح
ووقعتك التي بنت العوالي ... صوادر عن قتيل أو جريح
بإنّب يوم أبرزت المذاكي ... من النقع الغزالة في مسوح
غداة كأنما العاصي احمرارا ... من الدم عبرة الجفن القريح
وقد وافاك بالإبرنس حتف ... أتيح له من القدر المتيح
قتلت أشحهم بالنفس إذ لا ... يجود بنفسه غير الشحيح
ملأت بهم ضرائحهم فأمسوا ... وليس سوى القشاعم من ضريح
وعدت إلى ذرا حلب حميدا ... سمو البدر من بعد الجنوح
فإن جليت بغرتك الليالي ... فكم لسناك من زمن مليح
رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بحيث تريح من تعب المريح
فأنت وإن أرحت الخيل وقتا ... فهمك غير هم المستريح
وقال أحمد بن منير يمدحه ويذكر ظفره بالبرنس وأصحابه وحمل رأسه إلى حلب، وأنشده إياها أيضا بجسر الحديد:(2/17)
ألا لله درك أي در ... صريح جاء بالكرم الصريح
وعسكرك الذي استولى مسيحا ... على ما بين فامية وسيح
ووقعتك التي بنت العوالي ... صوادر عن قتيل أو جريح
بإنّب يوم أبرزت المذاكي ... من النقع الغزالة في مسوح
غداة كأنما العاصي احمرارا ... من الدم عبرة الجفن القريح
وقد وافاك بالإبرنس حتف ... أتيح له من القدر المتيح
قتلت أشحهم بالنفس إذ لا ... يجود بنفسه غير الشحيح
ملأت بهم ضرائحهم فأمسوا ... وليس سوى القشاعم من ضريح
وعدت إلى ذرا حلب حميدا ... سمو البدر من بعد الجنوح
فإن جليت بغرتك الليالي ... فكم لسناك من زمن مليح
رويدك تسكن الهيجا فواقا ... بحيث تريح من تعب المريح
فأنت وإن أرحت الخيل وقتا ... فهمك غير هم المستريح
وقال أحمد بن منير يمدحه ويذكر ظفره بالبرنس وأصحابه وحمل رأسه إلى حلب، وأنشده إياها أيضا بجسر الحديد:
أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته
وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما غلبت دما عبراته
ردّت على الإسلام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته
أرسى قواعده ومّد عماده ... صعدا وشيد سوره سوراته
وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... أصلاته وصلاته وصلاته
لما تواكل حزبه وتخاذلت ... أنصاره وتقاصرت خطواته
رفعت لنور الدين نار عزيمة ... رجعت لها عن طبعها ظلماته
ملك مجالس لهوه شدّاته ... ومشوقه بين الصفوف شذاته
تغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إن لذ حثحثة الكؤوس لداته
ويروقه ثغر العدى قان دما ... لا الثغر يعبق في لماه لثاته
فصبوحه خمر الطلى وغبوقه ... نطف النفوس تديرها نشواته
فتح تعممت السماء بفخره ... وهفت على أغصانها عذباته
سبغت على الإسلام بيض حجوله ... واختال في أوضاحها جبهاته
وانهل فوق الأبطحين غمامه ... وسرت إلى سكينها نفحاته
لله بلجة ليلة محصت به ... واليوم دبح وشيه ساعاته
حط القوامص فيه بعد قماصها ... ضرب يصلصل في الطلى صعقاته
نبذوا السلاح لضيغم عاداته ... فرس الفوارس والقنا غاياته
لمجرب عمرية غضباته ... لله معتصمية غزواته
تحيا لضيق صفاده أسراؤه ... وتغيض ماء شؤونها نقماته
بين الجبال خواضعا أعناقها ... كالزود نابت عن براه حداته
نشرت على حلب عقود بنودهم ... حلل الربيع تناسقت زهراته
روض جناه لها مكر جياده ... واستوأرت حمالة حملاته
متساندين على الرحال كما انتشى ... شرب أمالت هامه قهواته
لم تثبت الآجام قبل رماحه ... شجرا فروع أصوله ثمراته
فليحمد الإسلام ما جدحت له ... شربات غرس هذه مخباته
وسقى صدى ذاك الحيا صوب الحيا ... خير الثرى ما كنت أنت نباته
نصب السرير ومال عنه ومهدت ... لمقر منصبك السري سراته
ما ضر هذا البدر وهو محلق ... أن الكواكب في الذرى ضراته
في كل يوم تستطيل قناته ... فوق السماء وتعتلي درجاته
وترى كشمس في الضحى آثاره ... مجدا وألسنة الزمان رواته
أين الألى ملؤوا الطروس زخارفا ... عن نزف بحر هذه قطراته
غدقوا بأعناق العواطل ماله ... من جوهر فأتتهم فذاته
لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه ... سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته
تمسي قنانيه بنات قيونه ... فوق القوانس والقنا قيناته
صلتان من دون الملوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته
قعدت بهم عن خطوه هماتهم ... وسمت به عن خطوهم هماته
سكنوا مسجفة الحجال وأسكنت ... زحل الرحال مع السها عزماته
لو لاح للطائي غرة فتحه ... باءت بحمل تأوه باءاته
أو هبّ للطبريّ طيب نسيمه ... لاحتش من تاريخه حشواته
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سبا خشباته
وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة ... بالروح مما قد جنت غدراته
فانقاد في خطم المنية أنفه ... يوم الخطيم وأقصرت نزواته
ومضى يؤنب تحت إنّب همة ... أمست زوافر غيها زفراته
أسد تبوأ كالغرنف فجاته ... فتبوأت طرف السنان شواته
دون النجوم مغمضا ولطالما ... أغضت وقد كرت لها لحظاته
فجلوته تبكي الأصادق تحته ... بدم إذا ضحكت له شماته
تمشي القناة برأسه وهو الذي ... نظمت مدار النيرين قناته
لو عانق العيوق يوم رفعته ... لأراك شاهد خفضه إخباته
ما انقاد قبلك أنفه بحرامه ... كلا ولا همت لها هدراته
طيان خلف السرح طال زئيره ... نطقت سطاك له فطال صماته
لما بدا مسود رأيك فوقه ... مبيض نصرك نكست راياته
ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين فقلصت كثراته
ولى وقد شربت ظباك كماته ... تحت العجاج وأسلمته حماته
ترك الكنائس والكناس لناهب ... بالبيض نهب ما حواه عفاته
غلاب أروع لا يميت عداته ... داء المطال ولا تعيش عداته
والآن ملقى بالعرا يقتاته ... ما كان قبل يصيده يقتاته
اليوم ملّكك القراع قلاعه ... متسنما ما استشرفت شرفاته
وغدا تحل لك الحلائل أسهم ... متوزعات بينهن نباته
أوطأت أطراف السنابك هامه ... فتقاذفت بعنيفها قذفاته
لا زال هذا الملك يشمخ شأنه ... أبدا ويلفت في الحضيض وشاته
ما أخطأتك يد الزمان فدونه ... من شاء فلتسرع إليه هناته
أنت الذي تحلي الحياة حياته ... وتهبّ أرواح القصيد هباته(2/18)
أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته
وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما غلبت دما عبراته
ردّت على الإسلام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته
أرسى قواعده ومّد عماده ... صعدا وشيد سوره سوراته
وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... أصلاته وصلاته وصلاته
لما تواكل حزبه وتخاذلت ... أنصاره وتقاصرت خطواته
رفعت لنور الدين نار عزيمة ... رجعت لها عن طبعها ظلماته
ملك مجالس لهوه شدّاته ... ومشوقه بين الصفوف شذاته
تغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إن لذ حثحثة الكؤوس لداته
ويروقه ثغر العدى قان دما ... لا الثغر يعبق في لماه لثاته
فصبوحه خمر الطلى وغبوقه ... نطف النفوس تديرها نشواته
فتح تعممت السماء بفخره ... وهفت على أغصانها عذباته
سبغت على الإسلام بيض حجوله ... واختال في أوضاحها جبهاته
وانهل فوق الأبطحين غمامه ... وسرت إلى سكينها نفحاته
لله بلجة ليلة محصت به ... واليوم دبح وشيه ساعاته
حط القوامص فيه بعد قماصها ... ضرب يصلصل في الطلى صعقاته
نبذوا السلاح لضيغم عاداته ... فرس الفوارس والقنا غاياته
لمجرب عمرية غضباته ... لله معتصمية غزواته
تحيا لضيق صفاده أسراؤه ... وتغيض ماء شؤونها نقماته
بين الجبال خواضعا أعناقها ... كالزود نابت عن براه حداته
نشرت على حلب عقود بنودهم ... حلل الربيع تناسقت زهراته
روض جناه لها مكر جياده ... واستوأرت حمالة حملاته
متساندين على الرحال كما انتشى ... شرب أمالت هامه قهواته
لم تثبت الآجام قبل رماحه ... شجرا فروع أصوله ثمراته
فليحمد الإسلام ما جدحت له ... شربات غرس هذه مخباته
وسقى صدى ذاك الحيا صوب الحيا ... خير الثرى ما كنت أنت نباته
نصب السرير ومال عنه ومهدت ... لمقر منصبك السري سراته
ما ضر هذا البدر وهو محلق ... أن الكواكب في الذرى ضراته
في كل يوم تستطيل قناته ... فوق السماء وتعتلي درجاته
وترى كشمس في الضحى آثاره ... مجدا وألسنة الزمان رواته
أين الألى ملؤوا الطروس زخارفا ... عن نزف بحر هذه قطراته
غدقوا بأعناق العواطل ماله ... من جوهر فأتتهم فذاته
لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه ... سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته
تمسي قنانيه بنات قيونه ... فوق القوانس والقنا قيناته
صلتان من دون الملوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته
قعدت بهم عن خطوه هماتهم ... وسمت به عن خطوهم هماته
سكنوا مسجفة الحجال وأسكنت ... زحل الرحال مع السها عزماته
لو لاح للطائي غرة فتحه ... باءت بحمل تأوه باءاته
أو هبّ للطبريّ طيب نسيمه ... لاحتش من تاريخه حشواته
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سبا خشباته
وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة ... بالروح مما قد جنت غدراته
فانقاد في خطم المنية أنفه ... يوم الخطيم وأقصرت نزواته
ومضى يؤنب تحت إنّب همة ... أمست زوافر غيها زفراته
أسد تبوأ كالغرنف فجاته ... فتبوأت طرف السنان شواته
دون النجوم مغمضا ولطالما ... أغضت وقد كرت لها لحظاته
فجلوته تبكي الأصادق تحته ... بدم إذا ضحكت له شماته
تمشي القناة برأسه وهو الذي ... نظمت مدار النيرين قناته
لو عانق العيوق يوم رفعته ... لأراك شاهد خفضه إخباته
ما انقاد قبلك أنفه بحرامه ... كلا ولا همت لها هدراته
طيان خلف السرح طال زئيره ... نطقت سطاك له فطال صماته
لما بدا مسود رأيك فوقه ... مبيض نصرك نكست راياته
ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين فقلصت كثراته
ولى وقد شربت ظباك كماته ... تحت العجاج وأسلمته حماته
ترك الكنائس والكناس لناهب ... بالبيض نهب ما حواه عفاته
غلاب أروع لا يميت عداته ... داء المطال ولا تعيش عداته
والآن ملقى بالعرا يقتاته ... ما كان قبل يصيده يقتاته
اليوم ملّكك القراع قلاعه ... متسنما ما استشرفت شرفاته
وغدا تحل لك الحلائل أسهم ... متوزعات بينهن نباته
أوطأت أطراف السنابك هامه ... فتقاذفت بعنيفها قذفاته
لا زال هذا الملك يشمخ شأنه ... أبدا ويلفت في الحضيض وشاته
ما أخطأتك يد الزمان فدونه ... من شاء فلتسرع إليه هناته
أنت الذي تحلي الحياة حياته ... وتهبّ أرواح القصيد هباته(2/19)
أقوى الضلال وأقفرت عرصاته ... وعلا الهدى وتبلجت قسماته
وانتاش دين محمد محموده ... من بعد ما غلبت دما عبراته
ردّت على الإسلام عصر شبابه ... وثباته من دونه وثباته
أرسى قواعده ومّد عماده ... صعدا وشيد سوره سوراته
وأعاد وجه الحق أبيض ناصعا ... أصلاته وصلاته وصلاته
لما تواكل حزبه وتخاذلت ... أنصاره وتقاصرت خطواته
رفعت لنور الدين نار عزيمة ... رجعت لها عن طبعها ظلماته
ملك مجالس لهوه شدّاته ... ومشوقه بين الصفوف شذاته
تغرى بحثحثة اليراع بنانه ... إن لذ حثحثة الكؤوس لداته
ويروقه ثغر العدى قان دما ... لا الثغر يعبق في لماه لثاته
فصبوحه خمر الطلى وغبوقه ... نطف النفوس تديرها نشواته
فتح تعممت السماء بفخره ... وهفت على أغصانها عذباته
سبغت على الإسلام بيض حجوله ... واختال في أوضاحها جبهاته
وانهل فوق الأبطحين غمامه ... وسرت إلى سكينها نفحاته
لله بلجة ليلة محصت به ... واليوم دبح وشيه ساعاته
حط القوامص فيه بعد قماصها ... ضرب يصلصل في الطلى صعقاته
نبذوا السلاح لضيغم عاداته ... فرس الفوارس والقنا غاياته
لمجرب عمرية غضباته ... لله معتصمية غزواته
تحيا لضيق صفاده أسراؤه ... وتغيض ماء شؤونها نقماته
بين الجبال خواضعا أعناقها ... كالزود نابت عن براه حداته
نشرت على حلب عقود بنودهم ... حلل الربيع تناسقت زهراته
روض جناه لها مكر جياده ... واستوأرت حمالة حملاته
متساندين على الرحال كما انتشى ... شرب أمالت هامه قهواته
لم تثبت الآجام قبل رماحه ... شجرا فروع أصوله ثمراته
فليحمد الإسلام ما جدحت له ... شربات غرس هذه مخباته
وسقى صدى ذاك الحيا صوب الحيا ... خير الثرى ما كنت أنت نباته
نصب السرير ومال عنه ومهدت ... لمقر منصبك السري سراته
ما ضر هذا البدر وهو محلق ... أن الكواكب في الذرى ضراته
في كل يوم تستطيل قناته ... فوق السماء وتعتلي درجاته
وترى كشمس في الضحى آثاره ... مجدا وألسنة الزمان رواته
أين الألى ملؤوا الطروس زخارفا ... عن نزف بحر هذه قطراته
غدقوا بأعناق العواطل ماله ... من جوهر فأتتهم فذاته
لو فصلوا سمطا ببعض فتوحه ... سخرت بما افتعلوا لهم فعلاته
تمسي قنانيه بنات قيونه ... فوق القوانس والقنا قيناته
صلتان من دون الملوك تقرها ... حركاته وتنيمها يقظاته
قعدت بهم عن خطوه هماتهم ... وسمت به عن خطوهم هماته
سكنوا مسجفة الحجال وأسكنت ... زحل الرحال مع السها عزماته
لو لاح للطائي غرة فتحه ... باءت بحمل تأوه باءاته
أو هبّ للطبريّ طيب نسيمه ... لاحتش من تاريخه حشواته
صدم الصليب على صلابة عوده ... فتفرقت أيدي سبا خشباته
وسقى البرنس وقد تبرنس ذلة ... بالروح مما قد جنت غدراته
فانقاد في خطم المنية أنفه ... يوم الخطيم وأقصرت نزواته
ومضى يؤنب تحت إنّب همة ... أمست زوافر غيها زفراته
أسد تبوأ كالغرنف فجاته ... فتبوأت طرف السنان شواته
دون النجوم مغمضا ولطالما ... أغضت وقد كرت لها لحظاته
فجلوته تبكي الأصادق تحته ... بدم إذا ضحكت له شماته
تمشي القناة برأسه وهو الذي ... نظمت مدار النيرين قناته
لو عانق العيوق يوم رفعته ... لأراك شاهد خفضه إخباته
ما انقاد قبلك أنفه بحرامه ... كلا ولا همت لها هدراته
طيان خلف السرح طال زئيره ... نطقت سطاك له فطال صماته
لما بدا مسود رأيك فوقه ... مبيض نصرك نكست راياته
ورأى سيوفك كالصوالج طاوحت ... مثل الكرين فقلصت كثراته
ولى وقد شربت ظباك كماته ... تحت العجاج وأسلمته حماته
ترك الكنائس والكناس لناهب ... بالبيض نهب ما حواه عفاته
غلاب أروع لا يميت عداته ... داء المطال ولا تعيش عداته
والآن ملقى بالعرا يقتاته ... ما كان قبل يصيده يقتاته
اليوم ملّكك القراع قلاعه ... متسنما ما استشرفت شرفاته
وغدا تحل لك الحلائل أسهم ... متوزعات بينهن نباته
أوطأت أطراف السنابك هامه ... فتقاذفت بعنيفها قذفاته
لا زال هذا الملك يشمخ شأنه ... أبدا ويلفت في الحضيض وشاته
ما أخطأتك يد الزمان فدونه ... من شاء فلتسرع إليه هناته
أنت الذي تحلي الحياة حياته ... وتهبّ أرواح القصيد هباته
سنة 545
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: فيها سار نور الدين إلى حصن أفامية وهو للفرنج أيضا وبينه وبين حماة مرحلة، وهو حصن منيع على تل مرتفع عال من أحصن القلاع وأمنعها، وكان من به من الفرنج يغيرون على أعمال حماة وشيزر وينهبونها، فأهل تلك الأعمال معهم تحت الذل والصغار، فسار نور الدين إليه وحصره وضيق عليه ومنع من به القرار ليلا ونهارا، وتابع عليهم القتال ومنعهم الاستراحة، فاجتمعت الإفرنج من سائر بلادهم وساروا نحوه ليزحزحوه عنها، فلم يصلوا إليه إلا وقد ملك الحصن وملأه ذخائر من طعام ومال وسلاح ورجال وجميع ما يحتاج إليه، فلما بلغه قرب الفرنج سار نحوهم فحين رأوا جده في لقاهم رجعوا واجتمعوا ببلادهم، وكان قصاراهم أن صالحوه على ما أخذ.(2/20)
ومدحه الشعراء وأكثروا، منهم أبو الحسين أحمد بن منير حيث قال في مطلع قصيدة:
أسنى الممالك ما أطلت منارها ... وجعلت مرهفة الشفار دثارها
ومنها:
في كل يوم من فتوحك سورة ... للدين يحمل سفره أسفارها
ومطيلة قصر المنابر أن غدا ال ... خطباء تنثر فوقها تقصارها
همم تحجلت الملوك وراءها ... بدم العثار وما اقتفت آثارها
وعزائم تستوزر الآساد عن ... نهش الفرائس إن أحس أوارها
أبدا تقصر طول مشرفة الذرى ... بالمشرفية أو تطيل قصارها
فعزت أفامية فما فهمته ... كوبار أجناها الإران بوارها
ومنها:
ماض إذا قرع الركاب لبلدة ... ألقت له قبل القراع إزارها
وإذا مجانقه ركعن لصعبة ال ... ملقاة أسجد كالجدير جدارها
ملأ البلاد مواهبا ومهابة ... حتى استرقت آية أحرارها
يذكي العيون إذا أقام لعينها ... أبدا ويفضي بالظبى أبكارها
أومى إلى رمم الندى فأعاشها ... وهمى لسابقة المنى فأزارها
نبويّ تشبيه الفتوح كأنما ... أنصاره رجعت له أنصارها
أحيا لصرح سلامها سلمانها ... وأمات تحت عمارها عمارها
إن سار سار وقد تقدم جيشه ... رجف يقصع في اللهى دعارها
أوحل حل حبا القروم بهيبة ... سلب البدور بدارها إبدارها
وإذا الملوك تنافسوا درج العلى ... أربى بنفس أفرعته خيارها
ونهى إذا هيضت تدل لجبرها ... وسطى تذل إذا عنت جبارها
تهدي لمحمود السجايا كاسمه ... لو لذ فاعلة بها لأبارها
الفاعل الفعلات ينظم في الدجى ... بين النجوم حسودها أسمارها
ساع سعى والسابقات وراءه ... عنقا فعصفر منتماه عثارها
ومنها وهي آخرها:(2/21)
ماض إذا قرع الركاب لبلدة ... ألقت له قبل القراع إزارها
وإذا مجانقه ركعن لصعبة ال ... ملقاة أسجد كالجدير جدارها
ملأ البلاد مواهبا ومهابة ... حتى استرقت آية أحرارها
يذكي العيون إذا أقام لعينها ... أبدا ويفضي بالظبى أبكارها
أومى إلى رمم الندى فأعاشها ... وهمى لسابقة المنى فأزارها
نبويّ تشبيه الفتوح كأنما ... أنصاره رجعت له أنصارها
أحيا لصرح سلامها سلمانها ... وأمات تحت عمارها عمارها
إن سار سار وقد تقدم جيشه ... رجف يقصع في اللهى دعارها
أوحل حل حبا القروم بهيبة ... سلب البدور بدارها إبدارها
وإذا الملوك تنافسوا درج العلى ... أربى بنفس أفرعته خيارها
ونهى إذا هيضت تدل لجبرها ... وسطى تذل إذا عنت جبارها
تهدي لمحمود السجايا كاسمه ... لو لذ فاعلة بها لأبارها
الفاعل الفعلات ينظم في الدجى ... بين النجوم حسودها أسمارها
ساع سعى والسابقات وراءه ... عنقا فعصفر منتماه عثارها
ومنها وهي آخرها:
لله وجهك والوجوه كأنما ... حطت بها أوقار هبت وقارها
والبيض تخنس في الصدور صدورها ... هبرا وتكتحل الشفور شفارها
والخيل تدلج تحت أرشية القنا ... جذب المواتح غاورت آبارها
فبقيت تستجلي الفتوح عرائسا ... متمليا صدر العلى وصدارها
في دولة للنصر فوق لوائها ... زبر تنمق في الطلى أسطارها
فالدين موماة رفعت بها الصوى ... وحديقة ضمنت يداك إبارها
سنة 546
قال في الروضتين ما ملخصه: في سنة 545توجه نور الدين إلى دمشق، وبعد أخذ ورد بينه وبين صاحبها تقرر في محرم سنة 546الصلح بين نور الدين وأهل دمشق، وبذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وكذا السكة ووقعت الأيمان على ذلك ورحل عن مخيمه عائدا إلى حلب.
ذكر انهزام نور الدين من جوسلين وأسر جوسلين بعد ذلك وفتح عين تاب وعزاز ودلوك ومرعش وغير ذلك
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: سار نور الدين إلى بلاد جوسلين وهي القلاع التى شمالي حلب منها تل باشر وعين تاب وعزاز وغيرها من الحصون، فجمع جوسلين الفرنج فارسهم وراجلهم ولقوا نور الدين، وكان بينهم حرب شديدة انجلت عن انهزام المسلمين وظفر الفرنج، وأخذ جوسلين سلاح دار كان لنور الدين أسيرا وأخذ ما معه من السلاح، فأنفذه إلى السلطان مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب قونيه وأقصرا وغيرهما من تلك الأعمال. وكان نور الدين قد تزوج ابنته وأرسل مع السلاح إليه يقول:
قد أنفذت لك بسلاح صهرك وسيأتيك بعد هذا غيره، فعظمت الحادثة على نور الدين
وأعمل الحيلة على جوسلين وعلم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع، فأحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلا وإما أسرا، فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان وسبى ونهب فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة فعاجله التركمان، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذوه أسيرا، فصانعهم على مال بذله لهم فرغبوا فيه وأجابوه إلى ذلك وأخفوا أمره عن نور الدين، فأرسل جوسلين في إحضار المال فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب (هو أبو بكر بن الداية كما في الكامل) فأعلمه الحال فسير معه عسكرا أخذوا جوسلين من التركمان قهرا، وكان نور الدين حينئذ بحمص، وكان أسره من أعظم الفتوح على المسلمين، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج شديد العداوة للمسلمين، وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجاعته وجودة رأيه وشدة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أهلها، وأصيبت النصرانية كافة بأسره وعظمت المصيبة عليهم بفقده وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها وسهل أمرهم على المسلمين بعده، وكان كثير الغدر والمكر لا يقف على يمين ولا يفي بعهد، طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فلقيه غدره وحاق به مكره {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم، فمنها عين تاب وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خالد وكفرلاثا وكفرسوت وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الجوز وبرج الرصاص.(2/22)
قد أنفذت لك بسلاح صهرك وسيأتيك بعد هذا غيره، فعظمت الحادثة على نور الدين
وأعمل الحيلة على جوسلين وعلم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع، فأحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلا وإما أسرا، فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان وسبى ونهب فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة فعاجله التركمان، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذوه أسيرا، فصانعهم على مال بذله لهم فرغبوا فيه وأجابوه إلى ذلك وأخفوا أمره عن نور الدين، فأرسل جوسلين في إحضار المال فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب (هو أبو بكر بن الداية كما في الكامل) فأعلمه الحال فسير معه عسكرا أخذوا جوسلين من التركمان قهرا، وكان نور الدين حينئذ بحمص، وكان أسره من أعظم الفتوح على المسلمين، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج شديد العداوة للمسلمين، وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجاعته وجودة رأيه وشدة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أهلها، وأصيبت النصرانية كافة بأسره وعظمت المصيبة عليهم بفقده وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها وسهل أمرهم على المسلمين بعده، وكان كثير الغدر والمكر لا يقف على يمين ولا يفي بعهد، طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فلقيه غدره وحاق به مكره {وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ} فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم، فمنها عين تاب وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خالد وكفرلاثا وكفرسوت وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الجوز وبرج الرصاص.
قال: وكان نور الدين رحمه الله إذا فتح حصنا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء.
وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا، منهم القيسراني قال يمدح نور الدين بعد صدوره عن دمشق واستقرار أمرها ويذكر قتل البرنس وأسر جوسلين وأخذ بلاده:
دعا ما ادعى من غره النهي والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به الأمر
ومن ثنت الدنيا إليه عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
إذا الجد أمسى دون غايته المنى ... فماذا عسى أن يبلغ النظم والنثر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم بجيش من طلائعه النصر
ليهن دمشقا أن كرسي ملكها ... حبي منك صدرا ضاق عن همه الصدر
إلى أن قال:(2/23)
دعا ما ادعى من غره النهي والأمر ... فما الملك إلا ما حباك به الأمر
ومن ثنت الدنيا إليه عنانها ... تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
إذا الجد أمسى دون غايته المنى ... فماذا عسى أن يبلغ النظم والنثر
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم بجيش من طلائعه النصر
ليهن دمشقا أن كرسي ملكها ... حبي منك صدرا ضاق عن همه الصدر
إلى أن قال:
وأمست عزاز كاسمها بك عزة ... تشق على النسرين لو أنها الوكر
فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر
كأني بهذا العزم لا فل حده ... وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر
وقد أصبح البيت المقدس طاهرا ... وليس سوى جاري الدماء له طهر
وقد أدت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وإن يتيم ساحل البحر مالكا ... فلا عجب أن يملك الساحل البحر
وهي طويلة جدا اكتفينا منها بهذا المقدار.
وفي هذه السنة فارق صلاح الدين والده وصار إلى خدمة عمه أسد الدين بحلب فقدمه بين يدي نور الدين فقبله وأقطعه إقطاعا حسنا.
وفي جمادى الأولى كتب أحمد بن منير من حماة إلى نور الدين قصيدة أولها:
لعلائك التأييد والتأميل ... ولملكك التأبيد والتكميل
يهنئه بوصول الخلع من بغداد من عند الخليفة على يد الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون ويصف الفرس الأصفر الأسود القوائم والمعارف والسيف العربي. وساق في الروضتين القصيدة بتمامها.
سنة 547
ذكر الحرب بين نور الدين وبين الفرنج بدلوك
قال ابن الأثير: في هذه السنة تجمعت الفرنج وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن ملكها، فوصلوا إليه وهو بدلوك فلما قربوا منه
رجع إليهم ولقيهم وجرى المصاف بينهم عند دلوك واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج وقتل منهم وأسر كثير، وعاد نور الدين إلى دلوك فملكها واستولى عليها.(2/24)
قال ابن الأثير: في هذه السنة تجمعت الفرنج وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن ملكها، فوصلوا إليه وهو بدلوك فلما قربوا منه
رجع إليهم ولقيهم وجرى المصاف بينهم عند دلوك واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج وقتل منهم وأسر كثير، وعاد نور الدين إلى دلوك فملكها واستولى عليها.
ومما قال في ذلك أحمد بن منير الطرابلسي:
أعدت بعصرك هذا الأني ... ق فتوح النبي وأعصارها
فواطأت يا حبذا أحد بها (1) ... وأسررت من بدر إبدارها
وكان مهاجرها تابعي ... ك وأنصار رأيك أنصارها
فجددت إسلام سلمانها ... وعمر جدك عمارها
وما يوم إنّب إلا كذا ... ك بل طال بالبوع أشبارها
صدمت عزيمتها صدمة ... أذابت مع الماء أحجارها
وفي تل باشر باشرتهم ... بزحف تسور أسوارها
وإن دالكتهم دلوك فقد ... شددت فصدقت أخبارها
سنة 549
استيلاء نور الدين على دمشق وتل باشر
قال ابن الأثير: في هذه السنة في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين أتابك، ثم ساق السبب الذي دعاه إلى ذلك.
وفي هذه السنة أو التي بعدها ملك نور الدين محمود قلعة تل باشر وهي شمالي حلب من أمنع القلاع، وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه وعلموا أنه يقوى عليهم ولا يقدرون على الانتصاف منه لما كانوا يرون منه قبل ملكها، فراسله من بهذه القلعة من الفرنج وبذلوا له تسليمها، فسير إليهم الأمير حسان المنبجي وهو من أكابر أمرائه وكان إقطاعه ذلك الوقت منبج وهي تقارب تل باشر وأمره أن يسير إليها
__________
(1) لعل الصواب: أحدها، والمقصود غزوة أحد.(2/25)
ويتسلمها، فسار إليها وتسلمها منهم وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.
سنة 550
قال في الروضتين: في هذه السنة ولى نور الدين صلاح الدين الشحنكية والديوان بدمشق فأقام فيه أياما ثم تركه وصار إلى حلب لأجل اواقعة جرت بينه وبين صاحب الديون أبي سالم همام. ثم قال نقلا عن ابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي: واستخص نور الدين صلاح الدين وألحقه بخواصه، فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان يفوق الناس جميعا في لعب الكرة، وكان نور الدين يحب لعب الكرة.
قال في المختار من الكواكب المضية: (كان) بالجزيرة رجل من أهل الدين والصلاح والخير، وكان نور الدين يراسله ويرجع إلى قوله، فبلغه عن نور الدين أنه يكثر اللعب بالكرة فكتب إليه يقول: ما كنت أظن أنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل بغير فائدة دينية، فكتب إليه نور الدين بخط يده يقول: والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو واللعب، وإنما نحن في ثغر العدو ونخشى أن يقع صوت فنركب في الطلب ولا يمكننا ملازمة الجهاد، ومتى تركنا الخيل صارت لا قدرة لها على إدمان السفر في الطلب ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في المعركة، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب اه.
سنة 551
ذكر حصر حارم
قال في الروضتين: فيها حاصر نور الدين قلعة حارم وهي حصن غربي حلب بالقرب من أنطاكية وضيق على أهلها وهي من أمنع الحصون وأحصنها في نحور المسلمين، فاجتمعت الفرنج من قرب منها ومن بعد وساروا نحوه لمنعه. وكان بالحصن شيطان من شياطين الفرنج يرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يعرفهم قوتهم وأنهم قادرون على حفظ الحصن والذب عنه بما عندهم من العدد وحصانة القلعة، ويشير عليهم بالمطاولة وترك اللقاء، وقال
لهم: إن لقيتموه هزمكم وأخذ حارم وغيرها وإن حفظتم أنفسكم منه أطقنا الامتناع عليه، ففعلوا ما أشار به عليهم وراسلوا نور الدين في الصلح على أن يعطوه حصته من حارم، فأبى أن يجيبهم إلا على مناصفة الولاية، فأجابوه إلى ذلك فصالحهم وعاد.(2/26)
قال في الروضتين: فيها حاصر نور الدين قلعة حارم وهي حصن غربي حلب بالقرب من أنطاكية وضيق على أهلها وهي من أمنع الحصون وأحصنها في نحور المسلمين، فاجتمعت الفرنج من قرب منها ومن بعد وساروا نحوه لمنعه. وكان بالحصن شيطان من شياطين الفرنج يرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يعرفهم قوتهم وأنهم قادرون على حفظ الحصن والذب عنه بما عندهم من العدد وحصانة القلعة، ويشير عليهم بالمطاولة وترك اللقاء، وقال
لهم: إن لقيتموه هزمكم وأخذ حارم وغيرها وإن حفظتم أنفسكم منه أطقنا الامتناع عليه، ففعلوا ما أشار به عليهم وراسلوا نور الدين في الصلح على أن يعطوه حصته من حارم، فأبى أن يجيبهم إلا على مناصفة الولاية، فأجابوه إلى ذلك فصالحهم وعاد.
وأنشده ابن منير قصيدة طويلة يهنئه بالعود من غزاة حارم مطلعها:
ما فوق شأوك في العلا مزداد ... فعلام يقلق عزمك الإجهاد
همم ضربن على السماء سرادقا ... فالشهب أطناب لها وعماد
أنت الذي خطبت له حساده ... والفضل ما اعترفت به الحساد
ومنها:
ألبست دين محمد يا نوره ... عزا له فوق السها إسآد (1)
ما زلت تسمكه بمياد القنا ... حتى تثقف عوده المياد
لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ... عدد يراع به ولا استعداد
إن المنابر لو تطيق تكلما ... حمدتك عن خطبائها الأعواد
ومنها:
ورجا البرنس وقد تبرنس ذلة ... حرما بحارم والمصاد مصاد
ضجت ثعاليه فأخرس جرسها ... بيض تناسب في الحديد حداد
وسواعد ضربت بهن وبالقنا ... من دون ملة أحمد الأسداد
يركزن في حلب ومن أفنانها ... تجني فواكه أمنها بغداد
وختمها بقوله:
لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال ... علياء حتى ترفع الأولاد
ملك يقيد خوفه ورجاؤه ... ولقلما تتضافر الأضداد
وقال يهنئه بالنصر يوم حارم أيضا قصيدة أولها (لملكك ما تشاء من الدوام) يقول فيها:
حظيت من المعالي بالمعاني ... ولاذ الناس بعدك بالأسامي
__________
(1) هكذا في الأصل. ولعل الصواب: عزا له فوق السهاء إساد. والإسادة بفتح الهمزة وضمها: الوسادة(2/27)
عزيز المنتمى عالي المراقي ... بعيد المرتمى غالي المسامي
وهي طويلة أيضا.
قال في الروضتين: قال الرئيس أبو يعلى: توجه نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في الرابع والعشرين من صفر عند انتهاء خبر الفرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وإفسادهم، وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره الحلبي بالإفرنج المفسدين على حارم وقتل جماعة منهم وأسرهم، ووصل مع المبشر عدة وافرة من رؤوس الفرنج المذكورين وطيف بها في دمشق، قال: وعاد نور الدين إلى دمشق في بعض أيام رمضان بعد تهذيب حلب وأعمالها وتفقد أحوالها.
قال في الروضتين: في هذه السنة والتي بعدها كثرت الزلازل بالشام [أي بجميع بلاد الشلام] وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية، وأما شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدام على سكانه بحيث قتل منهم العدد الكثير، وأما كفر طاب فهرب أهلها خوفا على أرواحهم.
سنة 552
الزلازل العظمى
قال في الروضتين: فيها أيضا كثرت الزلازل بالشام في صفر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وترادفت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيرا أزعج أهلها وأقلقهم، وكذا في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفر طاب وأفامية، وهدمت ما كان بني من مهدوم الزلازل. وتتابعت الزلازل في كثير من البلاد بما يطول به الشرح، ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس ذكره بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم العدد الكثير والجم الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير. وأما شيزر (1) فإن ربضها سلم
__________
(1) قال الجلال السيوطي في كتاب الصلصلة في الزلزلة: أما شيزر فلم يسلم منها أحد إلا امرأة وخادم لها وهلك الباقون. وأما كفر طاب فلم يسلم منها أحد وساخت قلعتها وتل حرب انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه اه.(2/28)
إلا ما كان خرب أولا، وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها تاج الدولة أبي العساكر ابن منقذ ومن تبعه إلا اليسير ممن كان خارجا، وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج منها أهلها إلى ظاهر البلد وكفر طاب وأفامية وما والاها ودنا منها وبعد عنها من الحصون والمعاقل.
ثم حصلت بحلب أيضا فجاءتها زلزلة هائلة قلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير، إلى أن قال: قال ابن الأثير: في سنة اثنتين وخمسين كان بالشام زلزلة شديدة ذات رجفات عظيمة أخربت البلاد وأهلكت العباد، وكان أشدها بمدينة حماة وحصن شيزر فإنهما خربا بالمرة، وكذا ما جاورهما كحصن بارين والمعرة وغيرهما من البلاد والقرايا، وهلك تحت الهدم من الخلق ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، ولولا أن الله تعالى منّ على المسلمين بنور الدين جمع وحفظ البلاد وإلا كان دخلها الفرنج بغير حصار ولا قتال. قال: ولقد بلغني من كثرة الهلكى أن بعض المعلمين بحماة ذكر أنه فارق المكتب لمهم فجاءت الزلزلة فأخربت الدور وسقط المكتب على الصبيان جميعهم، قال المعلم: فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له في المكتب.
ذكر ملك نور الدين حصن شيزر بعد خرابها
قال أبو الفداء: إن صاحب شيزر كان قد ختن ولده وعمل دعوة للناس وأحضر جميع بني منقذ في داره، فجاءت الزلزلة فسقطت الدار والقلعة عليهم فهلكوا عن آخرهم. وكان لصاحب شيزر بن منقذ المذكور حصان يحبه ولا يزال على باب داره، فلما جاءت الزلزلة وهلك بنو منقذ تحت الهدم سلم منهم واحد وهرب يطلب باب الدار، فلما خرج من الباب رفسه الحصان المذكور فقتله.
فلما خربت القلعة في هذه السنة بالزلزلة تسلم نور الدين القلعة والمدينة، وكان ملكه لها ثالث جمادى الأولى من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة واستولى على كل من فيها لبني منقذ وسلمها إلى مجد الدين أبي بكر بن الداية.
قال في الروضتين: قرأت في ديوان الأمير الفاضل مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ قصيدة يرثي أهله الذين هلكوا بالزلازل بحصن شيزر، منها:
ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تخرمهم مثنى ووحدانا
فكنت أصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمد الخطب فيهم عز أو هانا
وأقتدي بالورى قبلي فكم فقدوا ... أخا وكم فارقوا أهلا وجيرانا
لكن سقيت المنايا وسط جمعهم ... رغا فخروا على الأذقان إذعانا
وفاجأتهم من الأيام قارعة ... سقتهم بكؤوس الموت ذيفانا
ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا ... هل ما ترى تارك للحي إنسانا
أعزز علي بهم من معشر صبروا ... على الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم ... قلبا أجشمه صبرا وسلوانا
فلو رأوني لقالوا مات أسعدنا ... وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني ... عنهم فيوضح ما قالوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا فوا عجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذي قصورهم أمست قبورهم ... كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل أفنت معشري فإذا ... ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
لا ألتقي الدهر من بعد الزلازل ما ... حييت إلا كسير القلب حيرانا
أخنت على معشري الأدنين فاصطلمت ... منهم كهولا وشبانا وولدانا
لم يحمهم حصنهم منها ولا رهبت ... بأسا تبادره الأقران أزمانا
إن أقفرت شيزر منهم فهم جعلوا ... منيع أسوارها بيضا وخرصانا
هم حموها فلو شاهدتهم وهم ... بها لشاهدت آسادا وخفانا
تراهم في الوغى أسدا ويوم ندى ... غيثا مغيثا وفي الظلماء رهبانا
بنو أبي وبنو عمي دمي دمهم ... وإن أروني مناواة وشنآنا
يطيب النفس عنهم أنهم رحلوا ... وخلفوني على الآثار عجلانا
قال ابن الوردي في تاريخه في الكلام على حوادث هذه السنة:(2/29)
ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تخرمهم مثنى ووحدانا
فكنت أصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمد الخطب فيهم عز أو هانا
وأقتدي بالورى قبلي فكم فقدوا ... أخا وكم فارقوا أهلا وجيرانا
لكن سقيت المنايا وسط جمعهم ... رغا فخروا على الأذقان إذعانا
وفاجأتهم من الأيام قارعة ... سقتهم بكؤوس الموت ذيفانا
ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا ... هل ما ترى تارك للحي إنسانا
أعزز علي بهم من معشر صبروا ... على الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم ... قلبا أجشمه صبرا وسلوانا
فلو رأوني لقالوا مات أسعدنا ... وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني ... عنهم فيوضح ما قالوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا فوا عجبا ... للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذي قصورهم أمست قبورهم ... كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل أفنت معشري فإذا ... ذكرتهم خلتني في القوم سكرانا
لا ألتقي الدهر من بعد الزلازل ما ... حييت إلا كسير القلب حيرانا
أخنت على معشري الأدنين فاصطلمت ... منهم كهولا وشبانا وولدانا
لم يحمهم حصنهم منها ولا رهبت ... بأسا تبادره الأقران أزمانا
إن أقفرت شيزر منهم فهم جعلوا ... منيع أسوارها بيضا وخرصانا
هم حموها فلو شاهدتهم وهم ... بها لشاهدت آسادا وخفانا
تراهم في الوغى أسدا ويوم ندى ... غيثا مغيثا وفي الظلماء رهبانا
بنو أبي وبنو عمي دمي دمهم ... وإن أروني مناواة وشنآنا
يطيب النفس عنهم أنهم رحلوا ... وخلفوني على الآثار عجلانا
قال ابن الوردي في تاريخه في الكلام على حوادث هذه السنة:
إذا ما قضى الله أمرا فمن ... يرد القضاء الذي ينفذ
عجبت لشيزر إذ زلزلت ... فما لبني منقذ منقذ
أخبار بني منقذ أصحاب شيزر
قال أبو الفدا: قال مؤيد الدولة أسامة بن مرشد في تاريخه وكان المذكور أفضل بني
منقذ: في سنة ثمان وستين وأربعمائة بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر وحصر به حصن شيزر. أقول [القائل أبو الفدا]: ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة، وهو غربي شيزر على مسافة قريبة منها. قال ابن الأثير: وحصن شيزر قريب من حماة بينهما نصف نهار وهو على جبل عال منيع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة.(2/30)
قال أبو الفدا: قال مؤيد الدولة أسامة بن مرشد في تاريخه وكان المذكور أفضل بني
منقذ: في سنة ثمان وستين وأربعمائة بدأ جدي سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني بعمارة حصن الجسر وحصر به حصن شيزر. أقول [القائل أبو الفدا]: ويعرف الجسر المذكور في زماننا بجسر ابن منقذ، وموضع الحصن اليوم تل خال من العمارة، وهو غربي شيزر على مسافة قريبة منها. قال ابن الأثير: وحصن شيزر قريب من حماة بينهما نصف نهار وهو على جبل عال منيع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة.
قال أبو الفداء: رجعنا إلى كلام ابن منقذ قال: وكان في شيزر وال للروم اسمه دمتري، فلما طالت المضايقة لدمتري المذكور راسل جدي هو ومن عنده من الروم في تسليم حصن شيزر إليه باقتراحات اقترحوها عليه، منها مال يدفعه إلى دمتري المذكور، ومنها إبقاء أملاك الأسقف الذي بها عليه فإنه استمر مقيما تحت يد جدي حتى مات بشيزر، ومنها أن القنطارية وهم رجالة الروم يسلفهم ديوانهم لثلاث سنين، فسلم إليهم جدي ما التمسوه وتسلم حصن شيزر يوم الأحد في رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، واستمر سديد الملك علي بن منقذ المذكور مالكها إلى أن توفي فيها في سادس المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتولى بعده ولده أبو المرهف نصر بن علي، إلى أن توفي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وتولى بعده أخوه أبو العساكر سلطان بن علي، إلى أن توفي فيها وتولى ولده محمد بن سلطان إلى أن مات تحت الردم هو وثلاثة أولاده بالزلزلة في هذه السنة المذكورة أعني سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في يوم الاثنين ثالث رجب اه.
قال في الروضتين: إن الأمير أبا المرهف نصر بن علي بن المقلد بن نصر بن منقذ ابن نصر بن هشام لما حضره الموت استخلف أخاه الأمير أبا سلامة مرشد بن علي وهو والد أسامة فقال: والله لا وليتها، ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها. وكان عالما بالقرآن والأدب كثير الصلاح، فولاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي وكان أصغر منه، فاصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان، فولد أبو سلامة مرشد عدة أولاد ذكور فكبروا وسادوا، منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة بن مرشد وغيرهما، ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر، إلى أن كبر فجاءه أولاد فحسد أخاه على ذلك فكان كلما رأى صغر أولاده وكبر أولاد أخيه وسيادتهم ساءه ذلك وخافهم على أولاده. وسعى المفسدون بينهما فغيروا كلا منهما على أخيه فكتب الأمير سلطان إلى أخيه شعرا يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بأبيات جيدة في معناها وكلهم كان أديبا شاعرا، فمنها:(2/31)
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
شكت هجرنا في ذاك والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين فيّ وطالما ... عصيت عذولا في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلا ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حينا لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوق ... إذا رمت أدنى القول منه عصانيا
وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارما كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... كذا اليأس قد عفّى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
فلا غرو عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهنّ بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم سماء لم تعدّ دراريا
تحلت بدرّ من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانيا للجود ما كان واهنا ... مشيدا من الإحسان ما كان واهيا
قال: وكان الأمر فيه في حياة الأمير بعض الستر فلما مات سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قلب أخوه لأولاده ظهر المجن وباداهم بما يسوؤهم، وتمادت الأيام بينهم إلى أن قوي عليهم فأخرجهم من شيزر، وكان أعظم الأسباب في إخراجهم ما حدثت به عن مؤيد الدولة أسامة بن مرشد قال: كنت من الشجاعة والإقدام على ما علمه الناس، فبينا أنا بشيزر وإذ قد أتاني إنسان أخبرني أن بدجلة بغاربها أسدا ضاريا، فركبت فرسي وأخذت سيفي وسرت إليه لأقتله، ولم أعلم أحدا من الناس لئلا أمنع من ذلك، فلما قربت من الأسد نزلت عن فرسي وربطته ومشيت نحوه، فلما رآني قصدني ووثب فضربته بالسيف على رأسه فانفلق ثم أجهزت عليه وأخذت رأسه في مخلاة فرسي وعدت إلى شيزر ودخلت
على والدتي وألقيت الرأس بين يديها وحدثتها الحال، فقالت: يا بني تجهز للخروج من شيزر فو الله لا يمكنك عمك من المقام ولا أحدا من إخوتك وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجرأة.(2/32)
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
شكت هجرنا في ذاك والذنب ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين فيّ وطالما ... عصيت عذولا في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلا ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما أودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه لي والمعانيا
وكنت هجرت الشعر حينا لأنه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا
وأين من الستين لفظ مفوق ... إذا رمت أدنى القول منه عصانيا
وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارما كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك مني جفوة وتنائيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... كذا اليأس قد عفّى سبيل رجائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا
فلا غرو عند الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
تهنّ بها عذراء لو قرنت بها ... نجوم سماء لم تعدّ دراريا
تحلت بدرّ من صفاتك زانها ... كما زان منظوم اللآلي الغوانيا
وعش بانيا للجود ما كان واهنا ... مشيدا من الإحسان ما كان واهيا
قال: وكان الأمر فيه في حياة الأمير بعض الستر فلما مات سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قلب أخوه لأولاده ظهر المجن وباداهم بما يسوؤهم، وتمادت الأيام بينهم إلى أن قوي عليهم فأخرجهم من شيزر، وكان أعظم الأسباب في إخراجهم ما حدثت به عن مؤيد الدولة أسامة بن مرشد قال: كنت من الشجاعة والإقدام على ما علمه الناس، فبينا أنا بشيزر وإذ قد أتاني إنسان أخبرني أن بدجلة بغاربها أسدا ضاريا، فركبت فرسي وأخذت سيفي وسرت إليه لأقتله، ولم أعلم أحدا من الناس لئلا أمنع من ذلك، فلما قربت من الأسد نزلت عن فرسي وربطته ومشيت نحوه، فلما رآني قصدني ووثب فضربته بالسيف على رأسه فانفلق ثم أجهزت عليه وأخذت رأسه في مخلاة فرسي وعدت إلى شيزر ودخلت
على والدتي وألقيت الرأس بين يديها وحدثتها الحال، فقالت: يا بني تجهز للخروج من شيزر فو الله لا يمكنك عمك من المقام ولا أحدا من إخوتك وأنتم على هذه الحال من الإقدام والجرأة.
فلما كان الغد أمر عمي بإخراجنا من عنده وألزمنا به إلزاما لا مهلة فيه فتفرقنا في البلاد، فقصدوا الملك العادل نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم فلم يمكنه قصده ولا الأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى أوطانهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ولخوفه من أن تسلم شيزر إلى الفرنج، وبقي في نفسه.
وتوفي الأمير سلطان وولي بعده أولاده فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج فاشتد ما في نفسه وهو ينتظر الفرصة، فلما خربت القلعة بالزلزلة ولم يسلم منها أحد كان بالحصن فبادر إليها وملكها وأضافها إلى بلاده وعمرها وأسوارها وأعادها كأن لم تخرب، وكذلك فعل بمدينة حماة وكل ما خرب بالشام بهذه الزلزلة فعادت البلاد كأحسن ما كانت.
ذكر وصول ولد السلطان مسعود للنزول على أنطاكية ومجيء العادل نور الدين إلى حلب ومرضه وما جرى بسبب ذلك
قال في الروضتين: قال الرئيس أبو يعلى: وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على أنطاكية، وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين نور الدين وملك الفرنج وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات بحيث فسد الأمر ولم يستقر على مصلحة. ووصل نور الدين إلى مقر عزه في بعض عسكره وأقر باقيه ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين.
قال: وفي ثالث رجب توجه نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها وإمعان النظر في حمايتها عند ما عاث المشركون فيها وقربت عساكر ابن مسعود منها. قال بعد ذلك: وقد تقدم من ذكر نور الدين ونهوضه في عساكره من دمشق إلى بلاد الشام
عند انتهاء الخبر إليه بتجمع أحزاب الفرنج وقصدهم لها وطمعهم بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لها وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وكفر طاب وحماة وغيرها، بحيث اجتمع إليهم العدد الكثير والجم الغفير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان، وخيم بهم بإزاء جمع الفرنج بالقرب من أنطاكية وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الفساد.(2/33)
قال: وفي ثالث رجب توجه نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجديد مشاهدتها وإمعان النظر في حمايتها عند ما عاث المشركون فيها وقربت عساكر ابن مسعود منها. قال بعد ذلك: وقد تقدم من ذكر نور الدين ونهوضه في عساكره من دمشق إلى بلاد الشام
عند انتهاء الخبر إليه بتجمع أحزاب الفرنج وقصدهم لها وطمعهم بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة لها وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وكفر طاب وحماة وغيرها، بحيث اجتمع إليهم العدد الكثير والجم الغفير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان، وخيم بهم بإزاء جمع الفرنج بالقرب من أنطاكية وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الإقدام على الفساد.
فلما مضت أيام من شهر رمضان عرض لنور الدين ابتداء مرض حاد، فلما اشتد به وخاف منه على نفسه استدعى أخاه نصرة الدين أمير أميران محمد وأسد الدين شيركوه وأعيان الأمراء والمقدمين وأوحى إليهم بما اقتضاه رأيه واستصوبه، وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده والساد لثلمة فقده لاشتهاره بالشهامة وشدة البأس يكون مقيما بحلب ويكون أسد الدين في دمشق لحفظ أعمالها من فساد الفرنج.
وتواصلت الأراجيف بنور الدين فقلقت النفوس وأزعجت القلوب فتفرقت جموع المسلمين واضطربت الأعمال وطمع الإفرنج فقصدوا مدينة شيزر وهجموها وحصلوا فيها فقتلوا وأسروا ونهبوا، وتجمع من عدة جهات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وغيرهم وظهروا عليهم فقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر.
واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب وعصى عليه فثارت أحداث حلب وقالوا: هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه، فزحفوا في السلاح إلى باب البلد وكسروا أغلاقه ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد، وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والإنكار والوعيد.
واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسمهم في التأذين بحي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر، فأجابهم إلى ما رغبوا فيه وأحسن القول لهم والوعد، ونزل في داره وأنفذ والي القلعة إليه وإلى الحلبيين يقول: مولانا نور الدين حي في نفسه وما كان إلى ما فعل حاجة، فقيل الذنب في ذلك للوالي. وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حيا يفهم ما يقول وما يقال له، فانكر ما جرى وقال: أنا أصفح للأحداث عن هذا الخطل ولا أؤاخذهم بالزلل وما طلبوا إلا صلاح حال أخي وولي عهدي من بعدي.(2/34)
وشاعت الأخبار وانتشرت البشائر في الأقطار بعافيته فأنست القلوب بعد الاستيحاش وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت العافية وصرفت الهمم إلى مكاتبات المقدمين بالعود إلى جهات الأعداء.
وكان نصرة الدين قد ولي مدينة حران وما أضيف إليها وتوجه نحوها، ولما تناصرت الأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية نور الدين واعتزامه على استدعاء العساكر الإسلامية للجهاد سارع بالنهوض من دمشق إلى حلب ووصل إليها في خيله فاجتمع بنور الدين فأكرم لقياه وشكر مسعاه، وشرعوا في حماية الأعمال من شر من جاورهم من الأعداء اه.
قال في الزبد والضرب: لما أذن نصرة الدين محمد بن زنكي للشيعة أن يزيدوا في الأذان حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر على عادتهم من قبل مالوا إليه لذلك وثارت فتنة بين السنة والشيعة، ونهبت الشيعة مدرسة ابن أبي عصرون وغيرها من آدر أهل السنة، ثم ترجح نور الدين إلى الصلاح فذهب أمير أميران محمد بن زنكي إلى حران فملكها.
قال الصاحب كمال الدين: وسير نور الدين إلى قاضي حلب جدي أبي الفضل هبة الله بن أبي جرادة وكان يلي بها القضاء والخطابة والإمامة وقال له: تمضي إلى الجامع وتصلي بالناس ويعاد الأذان على ما كان عليه، فنزل جدي وجلس شمالية الجامع تحت المنارة واستدعى المؤذنين وأمرهم بالأذان المشروع على رأي أبي حنيفة، فخافوا، فقال لهم: ها أنا أسفل منكم ولي أسوة بكم، فصعد المؤذنون وشرعوا في الأذان، فاجتمع تحت المنارة من عوام الشيعة خلق كثير فقام القاضي إليهم وقال: يا أصحابنا وفقكم الله تعالى، من كان على طهارة فليدخل وليصل ومن كان محدثا فليجدد وضوءه ويصل، فإن المولى نور الدين بحمد الله تعالى في عافية وقد تقدم بما يفعل فانصرفوا راشدين. فانصرفوا وقالوا: أيش نقول لقاضينا، ونزل المؤذنون وصلى بالناس وسكنت الفتنة اه.
أقول: ذكر ابن الأثير خبر مرض العادل نور الدين في حلب ومجيء أسد الدين شيركوه إليه من دمشق في حوادث سنة 554، والأصح أن ذلك كان في سنة 552كما قدمناه نقلا عن الروضتين، وقد مرض العادل نور الدين في سنة 554أيضا كما سيأتي
فاشتبه على ابن الأثير هذه بتلك، ونحن نذكر أيضا عبارة ابن الأثير في حوادث سنة 554 لأن فيها زيادة فوائد على ما تقدم.(2/35)
أقول: ذكر ابن الأثير خبر مرض العادل نور الدين في حلب ومجيء أسد الدين شيركوه إليه من دمشق في حوادث سنة 554، والأصح أن ذلك كان في سنة 552كما قدمناه نقلا عن الروضتين، وقد مرض العادل نور الدين في سنة 554أيضا كما سيأتي
فاشتبه على ابن الأثير هذه بتلك، ونحن نذكر أيضا عبارة ابن الأثير في حوادث سنة 554 لأن فيها زيادة فوائد على ما تقدم.
قال: في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب مرضا شديدا أرجف بموته، وكان بقلعة حلب ومعه أخوه الأصغر أميران (محمد) فجمع الناس وحصر القلعة وشيركوه وهو أكبر أمراء حمص، فبلغه خبر موته فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب، فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد إلى حلب مجدا وصعد القلعة وأجلس نور الدين في شباك يراه الناس وكلمهم، فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها، فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها فهرب أخوه منه وترك أولاده بحران في القلعة فملكها نور الدين وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين صاحب الموصل.
ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة وبها أولاد أميرك الجاندار وهو من أعيان الأمراء وقد توفي وبقي أولاده، فنازلها فشفع جماعة من الأمراء فيهم فغضب من ذلك وقال:
هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي، فلم يشفعهم وأخذها منهم اه.
سنة 553
ذكر استيلاء الفرنج على حارم
قال في الروضتين: قال الرئيس أبو يعلى: في أوائل المحرم تناصرت الأخبار من ناحية الفرنج المقيمين بالشام بمضايقتهم لحصن حارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المجانيق، إلى أن ضعف وملك بالسيف وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وإطلاق الأيدي في العيث والفساد في معاقلها وضياعها بحكم تفرق العساكر الإسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال نور الدين بعقابيل المرض العارض له، ولله المشيئة التي لا تدافع والأقضية التي لا تمانع.(2/36)
وقال: وفي صفر ورد الخبر المبشر بنزول نور الدين من حلب للتوجه إلى دمشق، ووصل إليها وحصل في قلعته سادس ربيع الأول سالما في نفسه وحملته، ولقي بأحسن زي وترتيب وتجمل واستبشر العالم بمقدمه المسعود وابتهجوا وبالغوا في شكر الله تعالى على سلامته وعافيته والدعاء له بدوام أيامه، وشرع في تدبير أمر الأجناد والتأهب للجهاد.
سنة 554
ذكر مرض العادل نور الدين وما جرى بسبب ذلك
قال في الروضتين: في هذه السنة عرض لنور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته، ووقع الإرجاف به من حساد دولته والمفسدين من عوام رعيته، وارتاعت الرعايا وأعيان الأجناد وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد خوفا عليه وإشفاقا من سوء يصل إليه لا سيما أخبار الروم والفرنج، ولما أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم: إنني قد عزمت على وصية إليكم بما وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين وبشروطها عاملين، إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن يكون بعدي من الولاة الجاهلين والظلمة الجائرين، وإن أخي نصرة الدين أعرف من أخلاقه وسوء أفعاله ما لا أرتضي معه بتولية أمر من أمور المسلمين، وقد وقع اختياري على أخي قطب الدين مودود متولي الموصل لما يرجع إليه من عقل وسداد ودين وصحة اعتقاد. فحلفوا له وأنفذ رسله إلى أخيه بإعلامه صورة الحال ليكون لها مستعدا، ثم تفضل الله تعالى بإبلاله من المرض وتزايد القوة في النفس والحس وجلس للدخول إليه والسلام عليه.
وكان الأمير مجد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات من يحفظ السالكين فيها، فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق ومعه كتب فأنفذ بها إلى مجد الدين متولي حلب، فلما وقف عليها أمر بصلب متحملها وأنفذها في الحال إلى نور الدين، فوجدها من أمين الدين زين الحاج أبي القاسم متولي ديوانه ومن عز الدين والي القلعة مملوكه ومن محمد بن جفري أحد حجابه إلى أخيه نصرة الدين أمير أميران صاحب حران بإعلامه بوقوع اليأس من أخيه ويحضونه على المبادرة والإسراع إلى دمشق لتسلم إليه. فلما عرف نور الدين ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا بها فأمر باعتقالهم، وكان رابعهم سعد الدين عثمان، وكان قد خاف فهرب قبل ذلك بيومين.(2/37)
وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة الدين الفرات مجدا إلى دمشق، فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من الوصول، فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية أخيه، فعاد أسد الدين إلى دمشق، ووصلت رسل الملك العادل من ناحية الموصل بجواب ما تحمله إلى أخيه قطب الدين وفارقوه وقد برز في عسكره متوجها إلى ناحية دمشق، فلما فصل عن الموصل اتصل به خبر عافيته فأقام بحيث هو وأنفذ وزيره جمال الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال، فوصل إلى دمشق ثامن صفر في أحسن زي وأبهى تجمل، وخرج إلى لقائه الخلق الكثير.
قال: وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد الخلال وكرم النفس وإنفاق أمواله في أبواب البر والصدقات والصلات ومستحسن الآثار في مدينة الرسول عليه السلام ومكة ذات الحرم والبيت المعظم شرفه الله تعالى ما قد شاع ذكره وتضاعف عليه حمده وشكره (1) واجتمع مع نور الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى إلى عوده إلى جهته بعد الإكرام له وتوفيته حقه من الاحترام، وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته الحال الحاضرة، وتوجه معه الأمير أسد الدين.
وقال ابن أبي طي: لما وصل الوزير جمال الدين إلى حلب تلقاه موكب نور الدين وفيه وجوه الدولة وكبراء المدينة وأنزل في دار ابن الصوفي وأكرم غاية الإكرام وأعيد إلى صاحبه شاكرا عن نور الدين، وسير معه الأمير أسد الدين شيركوه رسولا إلى قطب الدين بالشكر له والثناء وأنفذت معه هدايا سنية، فسار وعاد إلى حلب مكرما، فوجد نور الدين عازما على الخروج إلى دمشق لما بلغه من إفساد الفرنج. ثم أنهض أسد الدين في قطعة من العسكر للإغارة على صيدا، فسار ومعه أخوه نجم الدين أيوب وأولاده ولم يشعر الفرنج إلا وهو قد عاث في بلد صيدا وقتل وأسر عالما عظيما وغنم غنيمة جليلة، وعاد فاجتمع بنور الدين على جسر الخشب. قلت: وهذا هو ما تقدم ذكره بعد المرضة الأولى، وكأن ابن أبي طي جعل المرضتين واحدة بحلب وأبو يعلى ذكر أن الأولى بحلب والثانية بدمشق وهو أصح اه.
__________
(1) انظر ترجمته في ابن الأثير في حوادث سنة 559وفي ابن خلكان وفي الروضتين.(2/38)
سنة 555
قال في تحف الأنباء: في سنة خمس وخمسين وخمسمائة تاسع ذي القعدة سار ربنلد ملك أنطاكية إلى البلاد التي أخذها نور الدين من جوسلين ونهب البلاد التي كانت بها الأرمن والسريان فقط، فلما رجع إلى أنطاكية قبل وصوله إليها خرج إليه مجد الدين نائب حلب وصحبته العساكر وحاربه وأخذه أسيرا ووضع في رجليه قيدا وأحضره معه إلى حلب 1هـ.
سنة 557
ذكر حصر نور الدين حارم
قال ابن الأثير: في هذه السنة جمع نور الدين محمود بن زنكي العساكر بحلب وسار إلى قلعة حارم وهي للفرنج غربي حلب (قدمنا أخذهم لها سنة 553) فحصرها وجد في قتالها، فامتنعت عليه بحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجّالتهم وشجعانهم، فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد وحشدوا واستعدوا وساروا نحوه ليرحلوه عنها، فلما قاربوه طلب منهم المصاف فلم يجيبوه إليه وراسلوه وتلطفوا الحال معه، فلما رأى أنه لا يمكنه أخذ الحصن ولا يجيبونه إلى المصاف عاد إلى بلاده، وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني، وكان من الشجاعة في الغاية، فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر وكان قد دخله في العام الماضي سائرا إلى الحج، فلما دخله الآن كتب على حائطه:
لك الحمد يا مولاي كم لك منة ... علي وفضل لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلا ... من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري(2/39)
لك الحمد يا مولاي كم لك منة ... علي وفضل لا يحيط به شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلا ... من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي ... مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما ... تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري
سنة 558
ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنج
قال ابن الأثير: في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد [بلدة صغيرة قريبة من طرابلس فوق جبل عال يراها المتوجه من حمص إلى طرابلس من بعيد]. وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة تحت حصن الأكراد محاصرا لها وعازما على قصد طرابلس ومحاصرتها. فبينما الناس يوما في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلا ظهور الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارا فإنهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم وساروا مجدين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملة فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معا إلى العسكر النوري فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر، وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله فنزل إنسان كردي قطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيه ووقف عليهم الوقوف.
ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص وبينه وبين المعركة أربع فراسخ وتلاحق به من العسكر وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تقيم ههنا فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذا الحال، فوبخه وأسكته وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، وو الله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام.
ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل فأعطى الناس عوض ما أخذ جميعه بقولهم فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قتل أعطي إقطاعه لأولاده.(2/40)
وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها. ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم: إن لك في البلاد إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما تنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطىء وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطىء، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم. ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم اه.
أقول: دعاني إلى ذكر هذه الوقعة بالأصالة وإن كان مكانها خارجا عن ولاية الشهباء لأنها كانت السبب للوقعة التي بعدها على حصن حارم، فذكرناها تمهيدا لتلك.
سنة 559
ذكر فتح حارم
قال في الروضتين: قال العماد الكاتب: في سنة تسع وخمسين اغتنم نور الدين خلو الشام من الفرنج وقصدهم واجتمعوا على حارم فضرب معهم المصاف فرزقه الله تعالى الانتقام منهم فأسرهم وقتلهم، ووقع في الإسار إبرنس أنطاكية وقومص طرابلس وابن الجوسلين ودوك الروم، وذلك في رمضان.
وقال في الخريدة: كانت نوبة البقيعة نوبة عظيمة على المسلمين، وأفلت نور الدين في أقل من عشرة من عسكره ثم كسر الفرنج بعد ثلاثة أشهر على حارم، وقتل في معركة واحدة منهم عشرين ألفا وأسر من نجا وأخذ القومص والإبرنس والدوقس وجميع ملوكهم، وكان منحا عظيما وفتحا مبينا.
قال ابن الأثير: والسبب في هذا الفتح أن نور الدين لما عاد منهزما على ما سبق من غزوة ناحية حصن الأكراد أقبل على الجد والاجتهاد والاستعداد للجهات والأخذ بثأره وغزو العدو في عقر داره وليرتق ذلك الفتق ويمحو سمة الوهن ويعيد رونق الملك، فراسل أخاه
قطب الدين بالموصل وفخر الدين قرا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألبي بماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف.(2/41)
قال ابن الأثير: والسبب في هذا الفتح أن نور الدين لما عاد منهزما على ما سبق من غزوة ناحية حصن الأكراد أقبل على الجد والاجتهاد والاستعداد للجهات والأخذ بثأره وغزو العدو في عقر داره وليرتق ذلك الفتق ويمحو سمة الوهن ويعيد رونق الملك، فراسل أخاه
قطب الدين بالموصل وفخر الدين قرا أرسلان بالحصن ونجم الدين ألبي بماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف.
أما قطب الدين أتابك فإنه جمع عساكره وسار مجدا وعلى مقدمة عسكره زين الدين نائبه، وأما فخر الدين قرا أرسلان فإنه بلغني عنه أنه قال له خواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك، وكلهم وافقه على ذلك. فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر بالتجهز للغزاة فقال له أولئك: ما عدا مما بدا فارقناك بالأمس على حال ونرى الآن ضدها، فقال إن نور الدين قد سلك معي طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي وأخرجوا البلاد عن يدي فإنه كاتب زهادها وعبادها المنقطعين عن الدنيا يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر والنهب ويستمد منهم الدعاء ويطلب منهم أن يحثوا المسلمين على الغزاة، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي، فلابد من إجابة دعوته. ثم تجهز أيضا وسار إلى نور الدين بنفسه.
وأما نجم الدين ألبي فإنه سير عسكرا، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر، فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك وهو رئيس الروم ومقدمها، وجمعوا معهم من الراجل ما لا يقع عليه الإحصاء قد ملؤوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء، فحرض نور الدين أصحابه وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال. فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرتاح وهو إلى لقائهم مرتاح، وإنما رحل طمعا أن يتبعوه ويتمكن منهم إذا لقوه، فساروا حتى نزلوا على عم وهو على الحقيقة تصحيف ما لقوه من الغم، ثم تيقنوا أنه لا طاقة لهم بقتاله ولا قدرة لهم على نزاله فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدين، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وبها عسكر حلب وصاحب الحصن فخر الدين، فبددوا نظامهم وزلزلوا أقدامهم وولوا الأدبار، وتبعهم الفرنج وكانت تلك الفرة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مكروه، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيحيل عليهم من بقي من المسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا منهم
الأنوف، فإذا عاد فرسانهم من إثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجؤون إليه ويعود المنهزمون في آثارهم وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم، فكان الأمر على ما دبروا، فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين في عسكر الموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم من الطلب، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفرين وبدمائهم مضرجين، فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا وحضعت رقابهم وذلوا، فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فحينئذ حمي الوطيس وحاربوا حرب من أيس من الحياة، وانقضّت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بددا وجعلوهم قددا، فألقى الفرنج بأيديهم إلى الإسار وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل وزادت عدة القتلى على عشرة آلاف، وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، ويكفيك دليلا على كثرتهم أن ملوكهم أسروا وهم الذين ذكروا من قبل. وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم فملكها في الحادي والعشرين من رمضان، وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فلم يفعل، وقال: أما المدينة فأمرها سهل. وأما القلعة التي لها فهي منيعة لا تؤخذ إلا بعد طول حصار، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها إليه، ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة ملك الروم، وبث سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسلبوا وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويدا وغير ذلك وعادوا سالمين. ثم إن نور الدين أطلق بيمند صاحب أنطاكية بمال جزيل أخذه منه وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم. وقال الحافظ أبو القاسم: كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا. قال: ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد. قلت: وبلغني أن نور الدين رحمه الله لما التقى الجمعان أو قبيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل ومرغ وجهه وتضرع وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك فانصر أولياءك على أعدائك أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، من هو محمود الكلب حتى ينصر. وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط
بعد نزولهم عليها، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه اه.(2/42)
وأما نجم الدين ألبي فإنه سير عسكرا، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر، فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك وهو رئيس الروم ومقدمها، وجمعوا معهم من الراجل ما لا يقع عليه الإحصاء قد ملؤوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء، فحرض نور الدين أصحابه وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال. فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرتاح وهو إلى لقائهم مرتاح، وإنما رحل طمعا أن يتبعوه ويتمكن منهم إذا لقوه، فساروا حتى نزلوا على عم وهو على الحقيقة تصحيف ما لقوه من الغم، ثم تيقنوا أنه لا طاقة لهم بقتاله ولا قدرة لهم على نزاله فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدين، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وبها عسكر حلب وصاحب الحصن فخر الدين، فبددوا نظامهم وزلزلوا أقدامهم وولوا الأدبار، وتبعهم الفرنج وكانت تلك الفرة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مكروه، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيحيل عليهم من بقي من المسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا منهم
الأنوف، فإذا عاد فرسانهم من إثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجؤون إليه ويعود المنهزمون في آثارهم وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم، فكان الأمر على ما دبروا، فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين في عسكر الموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم من الطلب، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفرين وبدمائهم مضرجين، فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا وحضعت رقابهم وذلوا، فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فحينئذ حمي الوطيس وحاربوا حرب من أيس من الحياة، وانقضّت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بددا وجعلوهم قددا، فألقى الفرنج بأيديهم إلى الإسار وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل وزادت عدة القتلى على عشرة آلاف، وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، ويكفيك دليلا على كثرتهم أن ملوكهم أسروا وهم الذين ذكروا من قبل. وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم فملكها في الحادي والعشرين من رمضان، وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فلم يفعل، وقال: أما المدينة فأمرها سهل. وأما القلعة التي لها فهي منيعة لا تؤخذ إلا بعد طول حصار، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها إليه، ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة ملك الروم، وبث سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسلبوا وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويدا وغير ذلك وعادوا سالمين. ثم إن نور الدين أطلق بيمند صاحب أنطاكية بمال جزيل أخذه منه وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم. وقال الحافظ أبو القاسم: كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا. قال: ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد. قلت: وبلغني أن نور الدين رحمه الله لما التقى الجمعان أو قبيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل ومرغ وجهه وتضرع وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك فانصر أولياءك على أعدائك أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، من هو محمود الكلب حتى ينصر. وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط
بعد نزولهم عليها، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه اه.(2/43)
وأما نجم الدين ألبي فإنه سير عسكرا، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فنزل عليها وحصرها وبلغ الخبر إلى من بقي من الفرنج بالساحل أنه لم يسر إلى مصر، فحشدوا وجاؤوا ومقدم الفرنج البرنس صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج وأبطالها والدوك وهو رئيس الروم ومقدمها، وجمعوا معهم من الراجل ما لا يقع عليه الإحصاء قد ملؤوا الأرض وحجبوا بقسطلهم السماء، فحرض نور الدين أصحابه وفرق نفائس الأموال على شجعان الرجال. فلما قاربه الفرنج رحل عن حارم إلى أرتاح وهو إلى لقائهم مرتاح، وإنما رحل طمعا أن يتبعوه ويتمكن منهم إذا لقوه، فساروا حتى نزلوا على عم وهو على الحقيقة تصحيف ما لقوه من الغم، ثم تيقنوا أنه لا طاقة لهم بقتاله ولا قدرة لهم على نزاله فعادوا إلى حارم وقد حرمتهم كل خير وتبعهم نور الدين، فلما تقاربوا اصطفوا للقتال وبدأت الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وبها عسكر حلب وصاحب الحصن فخر الدين، فبددوا نظامهم وزلزلوا أقدامهم وولوا الأدبار، وتبعهم الفرنج وكانت تلك الفرة من الميمنة عن اتفاق ورأي دبروه ومكر بالعدو مكروه، وهو أن يبعدوا عن راجلهم فيحيل عليهم من بقي من المسلمين ويضعوا فيهم السيوف ويرغموا منهم
الأنوف، فإذا عاد فرسانهم من إثر المنهزمين لم يلقوا راجلا يلجؤون إليه ويعود المنهزمون في آثارهم وتأخذهم سيوف الله من بين أيديهم ومن خلفهم، فكان الأمر على ما دبروا، فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين في عسكر الموصل على راجلهم فأفناهم قتلا وأسرا وعادت خيالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفا على راجلهم من الطلب، فصادفوا راجلهم على الصعيد معفرين وبدمائهم مضرجين، فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا وحضعت رقابهم وذلوا، فلما رجعوا عطف المنهزمون أعنتهم وعادوا فبقي العدو في الوسط وقد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فحينئذ حمي الوطيس وحاربوا حرب من أيس من الحياة، وانقضّت العساكر الإسلامية عليهم انقضاض الصقور على بغاث الطيور، فمزقوهم بددا وجعلوهم قددا، فألقى الفرنج بأيديهم إلى الإسار وعجزوا عن الهزيمة والفرار، وأكثر المسلمون فيهم القتل وزادت عدة القتلى على عشرة آلاف، وأما الأسرى فلم يحصوا كثرة، ويكفيك دليلا على كثرتهم أن ملوكهم أسروا وهم الذين ذكروا من قبل. وسار نور الدين بعد الكسرة إلى حارم فملكها في الحادي والعشرين من رمضان، وأشار أصحابه عليه بالمسير إلى أنطاكية ليملكها لخلوها ممن يحميها ويدفع عنها، فلم يفعل، وقال: أما المدينة فأمرها سهل. وأما القلعة التي لها فهي منيعة لا تؤخذ إلا بعد طول حصار، وإذا ضيقنا عليهم أرسلوا إلى صاحب القسطنطينية وسلموها إليه، ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة ملك الروم، وبث سراياه في تلك الأعمال والولايات فنهبوا وسلبوا وأوغلوا في البلاد حتى بلغوا اللاذقية والسويدا وغير ذلك وعادوا سالمين. ثم إن نور الدين أطلق بيمند صاحب أنطاكية بمال جزيل أخذه منه وأسرى كثيرة من المسلمين أطلقهم. وقال الحافظ أبو القاسم: كسر نور الدين الروم والأرمن والفرنج على حارم وكان عدتهم ثلاثين ألفا. قال: ووقع بيمند في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد. قلت: وبلغني أن نور الدين رحمه الله لما التقى الجمعان أو قبيله انفرد تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل ومرغ وجهه وتضرع وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك فانصر أولياءك على أعدائك أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، من هو محمود الكلب حتى ينصر. وجرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس وستين عند رحيل الفرنج عن دمياط
بعد نزولهم عليها، وهذا فتح عظيم ونصر عزيز أنعم الله به على نور الدين والمسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر مع شيركوه اه.
وقال في حوادث سنة خمس وستين: بلغني أن إماما لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال يا رسول الله: ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت يا رب انصر دينك ولا تنصر محمودا من هو محمود الكلب حتى ينصر، قال: فانتبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس ولا زال يركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له فسألني عن أمري فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها، وألح علي في ذلك فقلتها فبكى رحمه الله وصدق الرؤيا فأرخت تلك الليلة فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة اه.
سنة 562
عصيان غازي بن حسان صاحب منبج على نور الدين
قال ابن الأثير: في هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي، وكان نور الدين قد أقطعه مدينة منبج فامتنع عليه فيها، فسير عسكرا فحصروه وأخذوها منه، فأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان وكان عادلا خيرا محسنا إلى الرعية جميل السيرة، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة اه.
قال في الروضتين في حوادث سنة 563: كان ابن حسان صاحب منبج قد ساءت أفعاله، فبعث إليه نور الدين من حاصره وانتزعها منه ثم توجه نور الدين إليها لتهذيب أحوالها. ومدحه العماد الكاتب بقصيدة منها يقول:
بشرى الممالك فتح قلعة منبج ... فليهن هذا النصر كل متوج
أعطيت هذا الفتح مفتاحا به ... في الملك يفتح كل باب مرتج
وافى يبشر بالفتوح وراءه ... فانهض إليها بالجيوش وعرج
أبشر فبيت القدس يتلو منبجا ... ولمنبج لسواه كالأنموذج
ما أعجزتك الشهب في أبراجها ... طلبا فكيف خوارج في أبرج
ولقدر من يعصيك أحقر أن يرى ... أثر العبوس بوجهك المتبلج
لكن تهذب من عصاك سياسة ... في ضمنها تقويم كل معوج
فانهض إلى البيت المقدس غازيا ... وعلى طرابلس ونابلس عج
قد سرت في الإسلام أحسن سيرة ... مأثورة وسلكت أوضح منهج
وجميع ما استقريت من سنن الهدى ... جددت منه كل رسم مبهج
قال العماد: وسار نور الدين من منبج إلى قلعة النجم وعبر الفرات إلى الرها وكان بها ينال صاحب منبج وهو سديد الرأي رشيد المنهج، فنقله إليها مقطعا وواليا وأقام نور الدين بقلعة الرها مدة.(2/44)
بشرى الممالك فتح قلعة منبج ... فليهن هذا النصر كل متوج
أعطيت هذا الفتح مفتاحا به ... في الملك يفتح كل باب مرتج
وافى يبشر بالفتوح وراءه ... فانهض إليها بالجيوش وعرج
أبشر فبيت القدس يتلو منبجا ... ولمنبج لسواه كالأنموذج
ما أعجزتك الشهب في أبراجها ... طلبا فكيف خوارج في أبرج
ولقدر من يعصيك أحقر أن يرى ... أثر العبوس بوجهك المتبلج
لكن تهذب من عصاك سياسة ... في ضمنها تقويم كل معوج
فانهض إلى البيت المقدس غازيا ... وعلى طرابلس ونابلس عج
قد سرت في الإسلام أحسن سيرة ... مأثورة وسلكت أوضح منهج
وجميع ما استقريت من سنن الهدى ... جددت منه كل رسم مبهج
قال العماد: وسار نور الدين من منبج إلى قلعة النجم وعبر الفرات إلى الرها وكان بها ينال صاحب منبج وهو سديد الرأي رشيد المنهج، فنقله إليها مقطعا وواليا وأقام نور الدين بقلعة الرها مدة.
سنة 563
قال في الروضتين في حوادث هذه السنة: ذكر العماد أن نور الدين رحل إلى حمص ثم مضى إلى حماة ثم شتى في قلعة حلب ومعه الأسد والصلاح، ونزل العماد بمدرسة ابن العجمي، وكتب إلى صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد عثر فرسه في الميدان وهو يلعب بالكرة رحمه الله تعالى:
لا تنكرن لسابح عثرت به ... قدم وقد حمل الخضم الزاخرا
ألقى على السلطان طرفك طرفه ... فهوى هنالك للسلام مبادرا
سبق الرياح بجريه وكففته ... عنها فليس على خلافك قادرا
ضعفت قواه إذا تذكر أنه ... في السرج منك يقل ليثا خادرا
ومتى تطيق الريح طودا شامخا ... أو يستطيع البرق جونا ماطرا
فاعذر سقوط البرق عند مسيره ... فالبرق يسقط حين يخطف سائرا
وأقل جوادك عثرة ندرت له ... إن الجواد لمن يقيل العاثرا
وتوق من عين الحسود وشرها ... لا كان ناظره بسوء ناظرا
واسلم لنور الدين سلطان الورى ... في الحادثات معاضدا ومؤازرا
وإذا صلاح الدين دام لأهله ... لم يحذروا للدهر صرفا ضائرا
أقول: قدمنا في حوادث السنة الماضية خبر عصيان غازي بن حسان صاحب منبج وأن نور الدين توجه سنة 563وأخذها منه وأقطعها أخاه ينال بن حسان وتوجه منها إلى الرها وأقام بها مدة.(2/45)
لا تنكرن لسابح عثرت به ... قدم وقد حمل الخضم الزاخرا
ألقى على السلطان طرفك طرفه ... فهوى هنالك للسلام مبادرا
سبق الرياح بجريه وكففته ... عنها فليس على خلافك قادرا
ضعفت قواه إذا تذكر أنه ... في السرج منك يقل ليثا خادرا
ومتى تطيق الريح طودا شامخا ... أو يستطيع البرق جونا ماطرا
فاعذر سقوط البرق عند مسيره ... فالبرق يسقط حين يخطف سائرا
وأقل جوادك عثرة ندرت له ... إن الجواد لمن يقيل العاثرا
وتوق من عين الحسود وشرها ... لا كان ناظره بسوء ناظرا
واسلم لنور الدين سلطان الورى ... في الحادثات معاضدا ومؤازرا
وإذا صلاح الدين دام لأهله ... لم يحذروا للدهر صرفا ضائرا
أقول: قدمنا في حوادث السنة الماضية خبر عصيان غازي بن حسان صاحب منبج وأن نور الدين توجه سنة 563وأخذها منه وأقطعها أخاه ينال بن حسان وتوجه منها إلى الرها وأقام بها مدة.
قال في الروضتين: وقد مدحه العماد الكاتب وهو مقيم على الرها في هذه السنة بقصيدة وتحجب له صلاح الدين في عرضها وهي:
أدركت من أمر الزمان المشتهى ... وبلغت من نيل الأماني المنتهى
وبقيت في كنف السلامة آمنا ... متكرما بالطبع لا متكرها
لا زلت نور الدين في فلك الهدى ... ذا عزة للعالمين بها البها
يا محيي العدل الذي في ظله ... من عدله رعت الأسود مع المها
محمود المحمود من أيامه ... لبهائها ضحك الزمان وقهقها
مولي الورى مولي الندى معلي الهدى ... مردي العدى مسدي الجدا معطي اللها
آراؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائر فلك النهى
متلبس بحصافة وحصانة ... متقدس عن شوب مكر أودها
يا من أطاع الله في خلواته ... متأوبا من خوفه متأوها
أبدا تقدم في المعاش لوجهه ... عملا يبيض في المعاد الأوجها
كل الأمور وهى وأمرك مبرم ... مستحكم لا نقض فيه ولا وها
ما صين عنك الصين لو حاولتها ... والمشرقان فكيف منبج والرها
ما للملوك لدى ظهورك رونق ... وإذا بدت شمس الضحى خفي السها
إن الملوك لهوا وإنك من غدا ... وبماله والملك منه مالها
شرهت نفوسهم إلى دنياهم ... وأبى لنفسك زهدها أن تشرها
ما نمت عن خير ولم يك نائما ... من لا يزال على الجميل منبها
أخملت ذكر الجاهلين ولم تزل ... ملكا بذكر العالمين منوّها
ورأيت إرعاء الرعايا واجبا ... تغني فقيرا أو تجير مدلها
لرضاهم متحفظا ولحالهم ... متفقدا ولدينهم متفقها
وبما به أمر الإله أمرتهم ... من طاعة ونهيتهم عما نهى
عن رحمة لصغيرهم لم تشتغل ... عن رأفة لكبيرهم لن تشدها
باليأس عندك آمل لم يمتحن ... بالرد دونك سائل لن يجبها
أتعبت نفسك كي تنال رفاهة ... من ليس يتعب لا يعيش مرفها
فقت الملوك سماحة وحماسة ... حتى عدمنا فيهم لك مشبها
ولك الفخار على الجميع فدونهم ... أصبحت عن كل العيوب منزها
وأراك تحلم حين تصبح ساخطا ... ويكاد غيرك ساخطا أن يسفها
قال صاحب الروضتين: رحم الله العماد فقد نظم أوصاف نور الدين الجليلة بأحسن لفظ وأرقه (1) وهذا البيت الأخير مؤكد لما نقلناه في أول الكتاب من قول الحافظ أبي القاسم ابن عساكر في وصف نور الدين إنه لم يستمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وقل من الملوك من له حظ من هذه الأوصاف الفاضلة والنعوت الكاملة.(2/46)
أدركت من أمر الزمان المشتهى ... وبلغت من نيل الأماني المنتهى
وبقيت في كنف السلامة آمنا ... متكرما بالطبع لا متكرها
لا زلت نور الدين في فلك الهدى ... ذا عزة للعالمين بها البها
يا محيي العدل الذي في ظله ... من عدله رعت الأسود مع المها
محمود المحمود من أيامه ... لبهائها ضحك الزمان وقهقها
مولي الورى مولي الندى معلي الهدى ... مردي العدى مسدي الجدا معطي اللها
آراؤه بصوابها مقرونة ... وبمقتضاها دائر فلك النهى
متلبس بحصافة وحصانة ... متقدس عن شوب مكر أودها
يا من أطاع الله في خلواته ... متأوبا من خوفه متأوها
أبدا تقدم في المعاش لوجهه ... عملا يبيض في المعاد الأوجها
كل الأمور وهى وأمرك مبرم ... مستحكم لا نقض فيه ولا وها
ما صين عنك الصين لو حاولتها ... والمشرقان فكيف منبج والرها
ما للملوك لدى ظهورك رونق ... وإذا بدت شمس الضحى خفي السها
إن الملوك لهوا وإنك من غدا ... وبماله والملك منه مالها
شرهت نفوسهم إلى دنياهم ... وأبى لنفسك زهدها أن تشرها
ما نمت عن خير ولم يك نائما ... من لا يزال على الجميل منبها
أخملت ذكر الجاهلين ولم تزل ... ملكا بذكر العالمين منوّها
ورأيت إرعاء الرعايا واجبا ... تغني فقيرا أو تجير مدلها
لرضاهم متحفظا ولحالهم ... متفقدا ولدينهم متفقها
وبما به أمر الإله أمرتهم ... من طاعة ونهيتهم عما نهى
عن رحمة لصغيرهم لم تشتغل ... عن رأفة لكبيرهم لن تشدها
باليأس عندك آمل لم يمتحن ... بالرد دونك سائل لن يجبها
أتعبت نفسك كي تنال رفاهة ... من ليس يتعب لا يعيش مرفها
فقت الملوك سماحة وحماسة ... حتى عدمنا فيهم لك مشبها
ولك الفخار على الجميع فدونهم ... أصبحت عن كل العيوب منزها
وأراك تحلم حين تصبح ساخطا ... ويكاد غيرك ساخطا أن يسفها
قال صاحب الروضتين: رحم الله العماد فقد نظم أوصاف نور الدين الجليلة بأحسن لفظ وأرقه (1) وهذا البيت الأخير مؤكد لما نقلناه في أول الكتاب من قول الحافظ أبي القاسم ابن عساكر في وصف نور الدين إنه لم يستمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وقل من الملوك من له حظ من هذه الأوصاف الفاضلة والنعوت الكاملة.
قال العماد: ثم عاد نور الدين إلى حلب في شهر رجب وضربت خيمته في رأس الميدان الأخضر. قال: وكان مولعا بضرب الكرة، وربما دخل الظلام فلعب بها بالشموع في الليلة المسفرة. ويركب صلاح الدين مبكرا كل بكرة، وهو عارف بآدابها في الخدمة وشروطها المعتبرة. قال: وأقطعه في تلك السنة ضيعتين إحداهما من ضياع حلب والأخرى من ضياع كفر طاب.
سنة 564
ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر
قال في الروضتين: في أول هذه السنة ملك نور الدين رحمه الله قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين بلك بن علي بن بلك العقيلي من آل عقيل من بني المسيب، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملكشاه، وقد تقدم ذكر ذلك، وهي من أمنع الحصون وأحسنها، مطلة على الفرات لا يطمع فيها بحصار، وقد أعجز جماعة من الملوك أخذها منه وقتل عليها عماد الدين زنكي والد نور الدين، ثم اتفق أن خرج صاحبها منها يوما يتصيد فصاده بنو كلب فأخذوه أسيرا وأوثقوه وحملوه إلى نور الدين فتقربوا به إليه، ورغبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل، فعدل به نور الدين إلى الشدة
__________
(1) أقول: العماد الكاتب ليس من الشعراء المجيدين ونثره خير من نظمه.(2/47)
والعنف وتهدده فلم يفعل أيضا، فسير إليها عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني فحصرها مدة فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية وهو أكبر أمراء نور الدين ورضيعه ووالي معاقله، فأقام عليها وطاف حواليها فلم ير له في فتحها مجالا، ورأى أخذها بالحصر متعذرا محالا، فسلك مع صاحبها طريق اللين وأشار عليه بأخذ العوض من نور الدين، ولم يزل يتوسط معه حتى أذعن على أن يعطى سروج وأعمالها والملاحة التي في عمل حلب والباب وبزاعة وعشرين ألف دينار معجلة، فأخذ جميع ما شرطه مكرها في صورة مختار.
قال ابن الأثير: وهذا إقطاع عظيم جدا لكنه لا حظ فيه. وتسلم مجد الدين قلعة جعبر وصعد إليها منتصف المحرم ووصل كتابه إلى نور الدين بحلب فسار إليها وصعد القلعة في العشرين من المحرم، ثم سلمها نور الدين إلى مجد الدين بن الداية فولاها أخاه شمس الدين علي، وكان هذا آخر أمر بني بلك ولكل أمر حد ولكل ولاية نهاية، يؤتي الله الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. قال ابن الأثير: بلغني أنه قيل لشهاب الدين: إيما أحب إليك وأحسن مقاما سروج والشام أم القلعة؟ فقال: هذا أكثر مالا والعز بالقلعة فارقناه اه.
وفيها في سابع صفر من هذه السنة توفي بهاء الدين عمر أخو مجد الدين بن الداية.
وفيه وفي أخويه يقول العماد الكاتب من قصيدة:
أنتم لمحمود كآل محمد ... متصادفي الأفعال والأسماء
يتلو أبا بكر على حسناته ... عمر الممدح في سنا وسناء
ويليه عثمان المرجى للعلا ... وعليّ المأمول في اللأواء
وتقبل الحسن الممجد مجدهم ... فهم ذوو الإحسان والنعماء
فرعت لمجد الدين أخوته الذرى ... دون الورى في المجد والعلياء
من سابق كرما وشمس ساده ... شرفا وبدر دجنة وبهاء
سرج الهدى سحب الندى شهب النهى ... أسد الحروب ضراغم الهيجاء
يريد سابق الدين عثمان وشمس الدين علي وبدر الدين حسن وبهاء الدين عمر ومجد الدين هو الأكبر، فهم خمسة رحمهم الله تعالى.
وفي هذه السنة فتحت الديار المصرية سار إليها أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين
مرة ثالثة، فهزم العدو وقتل شاورا (وزير مصر) وولي الوزارة مكانه، ثم مات فوليها صلاح الدين، وساق في الروضتين تفاصيل ذلك.(2/48)
وفي هذه السنة فتحت الديار المصرية سار إليها أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين
مرة ثالثة، فهزم العدو وقتل شاورا (وزير مصر) وولي الوزارة مكانه، ثم مات فوليها صلاح الدين، وساق في الروضتين تفاصيل ذلك.
قال ابن خلكان: توفي أسد الدين شيركوه بالقاهرة ودفن بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه رحمه الله.
وقال ابن شداد في سيرة صلاح الدين إن أسد الدين كان كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة تتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد مقاساة شديدة عظيمة، فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق عظيم فقتله في التاريخ المذكور (ثم قال):
وشيركوه لفظ أعجمي تفسيره بالعربي أسد الجبل فشير: أسد وكوه: جبل.
ومن آثاره بحلب (المدرسة الأسدية) قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: هي الآن متلاشية كغيرها وهي بالقرب من الشعيبية اه.
ومن آثاره جامع بالحاضر السليماني ذكره ابن شداد في الأعلاق الخطيرة، قال:
ووسع بناءه الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان بن جندر وبنى إلى جانبه مدرسة وتربة ودفن بها، تقام به الخطبة وهذا الجامع خراب وسد بابه.
قال في الروضتين: وفي هذه السنة احترق جامع حلب وأسواق البز وأخذ نور الدين في عمارته آخر السنة اه.
سنة 565
ذكر الزلازل بالبلاد الشامية وغيرها
قال ابن الأثير: في هذه السنة أيضا ثاني عشر شوال كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها وعمت أكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وأشدها كان بالشام فخربت كثيرا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها وسقطت الدور على أهلها وهلك منهم ما يخرج عن الحد، فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها، فلما وصلها أناه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها
ويحفظها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك ثم إلى حماة ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، وكانوا لا يقدرون يأوون مساكنهم خوفا من الزلزلة، فأقام بظاهرها وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها. وأما بلاد الفرنج فإن الزلازل أيضا عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفا من نور الدين عليها فاشتغل كل واحد منهم بعمارة بلاده خوفا من الآخر اه.(2/49)
قال ابن الأثير: في هذه السنة أيضا ثاني عشر شوال كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها وعمت أكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وأشدها كان بالشام فخربت كثيرا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها وسقطت الدور على أهلها وهلك منهم ما يخرج عن الحد، فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها، فلما وصلها أناه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها
ويحفظها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك ثم إلى حماة ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، وكانوا لا يقدرون يأوون مساكنهم خوفا من الزلزلة، فأقام بظاهرها وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها. وأما بلاد الفرنج فإن الزلازل أيضا عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفا من نور الدين عليها فاشتغل كل واحد منهم بعمارة بلاده خوفا من الآخر اه.
قال في الروضتين: قال العماد: في هذه السنة عند وصولنا إلى حلب في الخدمة النورية كنت مقرظا للفضائل الشهرزورية، وكان الحاكم بها القاضي محيي الدين أبا حامد محمد بن قاضي قضاة الشام كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، وكان كمال الدين قد علق به تنفيذ الأحكام وإليه أمور الديوان، وهو ذو المكانة والإمكان في بسط العدل والإحسان، ومحيي الدين ولده ينوب عنه في القضاء بحلب وبلدانها وينظر أيضا في أمور ديوانها، وبحماة وحمص من بني الشهرزوري قاضيان وهما حاكمان متحكمان، وكان هذا محيي الدين من أهل الفضل وله نظم ونثر وخطب وشعر، وكانت معرفتي به في أيام التفقه ببغداد في المدرسة النظامية منذ سنة خمس وثلاثين والمدرس شيخنا معين الدين سعيد بن الرزاز، وكان مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه بعلمه معلما مذهب الطراز، وكانت الزلزلة بحلب قد خربت دار محيي الدين وسلبت قراره وغلبت اصطباره وحلبت أفكاره، فكتب إليه قصيدة مطلعها:
لو كان من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معديا
مات الرجاء فإن أردت حياته ... ونشوره فارج الإمام المحييا
أقضى القضاة محمد بن محمد ... من لست منه للفضائل محصيا
قاض به قضت المظالم نحبها ... وغدا على آثارهن معفيا
يا كاشفا للحق في أيامه ... غررا يدوم لها الزمان مغطيا
لم تنعش الشهباء عند عتارها ... لو لم تجدك لطود حلمك مرسيا
رجفت لسطوتك التي أرسلتها ... نحو الطغاة لحد عزمك ممهيا
وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل إجازتها عليها مبقيا
أنفت من الثقلاء فيها إذ رمت ... أثقالها ورأتك منها ملجيا
حلب لها حلب المدامع مسبل ... أن لاقت الخطب الفظيع المبكيا
وبعدل نور الدين عاود أفقها ... من بعد غيم الغم جوا مصحيا
أضحى لبهجتها معيدا بعد ما ... ذهبت وللمعروف فيها مبديا
لأمورها متدبرا لشتاتها ... متألفا لصلاحها متوليا
فالشرع عاد بعدله مستظهرا ... والحق عاد بظله مستذريا
والدهر لاذ بعفوه مستغفرا ... مما جناه مطرقا مستحييا
قال ابن الأثير: في هذه السنة في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل بالموصل، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر سيف الدين غازي، وساق ابن الأثير سبب عدوله.(2/50)
لو كان من شكوى الصبابة مشكيا ... لعدا على عدوى الصبابة معديا
مات الرجاء فإن أردت حياته ... ونشوره فارج الإمام المحييا
أقضى القضاة محمد بن محمد ... من لست منه للفضائل محصيا
قاض به قضت المظالم نحبها ... وغدا على آثارهن معفيا
يا كاشفا للحق في أيامه ... غررا يدوم لها الزمان مغطيا
لم تنعش الشهباء عند عتارها ... لو لم تجدك لطود حلمك مرسيا
رجفت لسطوتك التي أرسلتها ... نحو الطغاة لحد عزمك ممهيا
وتظلمت من شرهم فتململت ... عجل إجازتها عليها مبقيا
أنفت من الثقلاء فيها إذ رمت ... أثقالها ورأتك منها ملجيا
حلب لها حلب المدامع مسبل ... أن لاقت الخطب الفظيع المبكيا
وبعدل نور الدين عاود أفقها ... من بعد غيم الغم جوا مصحيا
أضحى لبهجتها معيدا بعد ما ... ذهبت وللمعروف فيها مبديا
لأمورها متدبرا لشتاتها ... متألفا لصلاحها متوليا
فالشرع عاد بعدله مستظهرا ... والحق عاد بظله مستذريا
والدهر لاذ بعفوه مستغفرا ... مما جناه مطرقا مستحييا
قال ابن الأثير: في هذه السنة في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل بالموصل، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر سيف الدين غازي، وساق ابن الأثير سبب عدوله.
سنة 566
ذكر ملك نور الدين الموصل وإقرار سيف الدين
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده واستيلاء فخر الدين عبد المسيح واستبداده بالأمور وحكمه على سيف الدين أنف من ذلك وكبر لديه وشق عليه، وكان يبغض عبد المسيح لما يبلغه من خشونته على الرعية والمبالغة في إقامة السياسة، وكان نور الدين رحمه الله لينا رفيقا عادلا، فقال: أنا أولى بتدبير بني أخي وملكهم. ثم سار من وقته فعبر الفرات عند قلعة جعبر أول المحرم وقصد الرقة فامتنع النائب بها شيئا من الامتناع، ثم سلمها على شيء اقترحه فاستولى نور الدين عليها وقرر أمورها، وسار إلى الخابور فملكه جميعه، ثم ملك نصيبين وأقام بها يجمع العساكر، فإنه كان قد سار جريدة فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وديار بكر واجتمعت عليه العساكر وترك أكثر عسكره بالشام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وغيرهم، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها وأقام عليها ونصب المجانيق، وكان بها عسكر كبير من الموصل، فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل
يحثونه على السرعة إليهم ليسلموا البلد إليه وأشاروا بترك سنجار، فلم يقبل منهم، وقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه الأكبر عماد الدين زنكي، ثم سار إلى الموصل فأتى مدينة بلد وعبر دجلة في مخاضة عندها إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. إلى أن قال: وحصر نور الدين الموصل فلم يكن بينهم قتال، وكان هوى كل من بالموصل من جندي وعامي معه لحسن سيرته وعدله، وكاتبه الأمراء يعلمونه على الوثوب على عبد المسيح وتسليم البلد إليه، فلما علم عبد المسيح ذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين ويطلب الأمان وإقطاعا يكون له، فأجابه إلى ذلك وقال: لا سبيل إلى إبقائه بالموصل بل يكون عندي بالشام، فإني لم آت لآخذ البلاد من أولادي وإنما جئت لأخلص الناس منك وأتولى أنا تربية أولادي فاستقرت القاعدة على ذلك وسلمت الموصل إليه، فدخلها ثالث عشر جمادى الأولى وسكن القلعة وأقر سيف الدين غازي على الموصل وولى بقلعتها خادما يقال له سعد الدين كمشتكين وجعله دزدارا فيها، وقسم جميع ما خلفه أخوه قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة. ولما كان يحاصر الموصل جاءته خلعة من الخليفة فلبسها، فلما دخل الموصل خلعها على سيف الدين وأطلق المكوس جميعها من الموصل وسائر ما فتحه من البلاد وأمر ببناء الجامع النوري بالموصل، فبني وأقيمت الصلاة فيه سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.(2/51)
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما بلغ نور الدين وفاة أخيه قطب الدين وملك ولده سيف الدين بعده واستيلاء فخر الدين عبد المسيح واستبداده بالأمور وحكمه على سيف الدين أنف من ذلك وكبر لديه وشق عليه، وكان يبغض عبد المسيح لما يبلغه من خشونته على الرعية والمبالغة في إقامة السياسة، وكان نور الدين رحمه الله لينا رفيقا عادلا، فقال: أنا أولى بتدبير بني أخي وملكهم. ثم سار من وقته فعبر الفرات عند قلعة جعبر أول المحرم وقصد الرقة فامتنع النائب بها شيئا من الامتناع، ثم سلمها على شيء اقترحه فاستولى نور الدين عليها وقرر أمورها، وسار إلى الخابور فملكه جميعه، ثم ملك نصيبين وأقام بها يجمع العساكر، فإنه كان قد سار جريدة فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وديار بكر واجتمعت عليه العساكر وترك أكثر عسكره بالشام لحفظ ثغوره وأطرافه من الفرنج وغيرهم، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها وأقام عليها ونصب المجانيق، وكان بها عسكر كبير من الموصل، فكاتبه عامة الأمراء الذين بالموصل
يحثونه على السرعة إليهم ليسلموا البلد إليه وأشاروا بترك سنجار، فلم يقبل منهم، وقام حتى ملك سنجار وسلمها إلى ابن أخيه الأكبر عماد الدين زنكي، ثم سار إلى الموصل فأتى مدينة بلد وعبر دجلة في مخاضة عندها إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل. إلى أن قال: وحصر نور الدين الموصل فلم يكن بينهم قتال، وكان هوى كل من بالموصل من جندي وعامي معه لحسن سيرته وعدله، وكاتبه الأمراء يعلمونه على الوثوب على عبد المسيح وتسليم البلد إليه، فلما علم عبد المسيح ذلك راسله في تسليم البلد إليه وتقريره على سيف الدين ويطلب الأمان وإقطاعا يكون له، فأجابه إلى ذلك وقال: لا سبيل إلى إبقائه بالموصل بل يكون عندي بالشام، فإني لم آت لآخذ البلاد من أولادي وإنما جئت لأخلص الناس منك وأتولى أنا تربية أولادي فاستقرت القاعدة على ذلك وسلمت الموصل إليه، فدخلها ثالث عشر جمادى الأولى وسكن القلعة وأقر سيف الدين غازي على الموصل وولى بقلعتها خادما يقال له سعد الدين كمشتكين وجعله دزدارا فيها، وقسم جميع ما خلفه أخوه قطب الدين بين أولاده بمقتضى الفريضة. ولما كان يحاصر الموصل جاءته خلعة من الخليفة فلبسها، فلما دخل الموصل خلعها على سيف الدين وأطلق المكوس جميعها من الموصل وسائر ما فتحه من البلاد وأمر ببناء الجامع النوري بالموصل، فبني وأقيمت الصلاة فيه سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
وأقام بالموصل نحو عشرين يوما وسار إلى الشام فقيل له: إنك تحب الموصل والمقام بها ونراك أسرعت العود، فقال: قد تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت، ويمنعني أيضا أنني هاهنا لا أكون مرابطا للعدو وملازما للجهاد. ثم أقطع نصيبين والخابور العساكر وأقطع جزيرة ابن عمر سيف الدين غازي ابن أخيه مع الموصل وعاد إلى الشام ومعه عبد المسيح فغير اسمه وسماه عبد الله وأقطعه إقطاعا كثيرا.
ثم ساق في الروضتين ما ذكره العماد الكاتب في ملك نور الدين للموصل إلى أن قال: لما دخل الموصل جدد مناشير أهل المناصب وتوقيعات ذوي المراتب من القضاء والنقابة، وغيرهما، وأمر بإسقاط جميع المكوس والضرائب وأنشأ بذلك منشورا يقرأ على الناس فمنه:
قد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال، فسحقا للسحت، ومحقا للحرام الحقيق بالمقت، وبعدا لما يبعد من رضى الرب ويقصي من محل القرب، وقد استخرنا الله
وتقربنا إليه وتوكلنا في جميع الأحوال عليه، وتقدمنا بإسقاط كل مكس وضريبة في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة وإزالة كل جهة مشتبهة مشوبة ومحو كل سنة سيئة شنيعة ونفي كل مظلمة مظلمة فظيعة وإحياء كل سنة حسنة وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة خوفا من عواقبها الرديئة المحذورة، فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جاريا ولا عمل لا يكون به الله راضيا إيثارا للثواب الآجل على الحطام العاجل، وهذا حق لله قضيناه وواجب علينا أديناه، بل هي سنة حسنة سنناها ومحجة واضحة بيناها وقاعدة محكمة مهدناها وفائدة مغتنمة أفدناها اه».(2/52)
قد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال، فسحقا للسحت، ومحقا للحرام الحقيق بالمقت، وبعدا لما يبعد من رضى الرب ويقصي من محل القرب، وقد استخرنا الله
وتقربنا إليه وتوكلنا في جميع الأحوال عليه، وتقدمنا بإسقاط كل مكس وضريبة في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة وإزالة كل جهة مشتبهة مشوبة ومحو كل سنة سيئة شنيعة ونفي كل مظلمة مظلمة فظيعة وإحياء كل سنة حسنة وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة خوفا من عواقبها الرديئة المحذورة، فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جاريا ولا عمل لا يكون به الله راضيا إيثارا للثواب الآجل على الحطام العاجل، وهذا حق لله قضيناه وواجب علينا أديناه، بل هي سنة حسنة سنناها ومحجة واضحة بيناها وقاعدة محكمة مهدناها وفائدة مغتنمة أفدناها اه».
ثم قال: وعاد نور الدين إلى سنجار فأعاد عمارة أسوارها، ثم أتى حران وقد اقتطعها عن صاحب الموصل هي ونصيبين والخابور والمجدل ووصل حلب في خامس رجب. وقال ابن شداد: دخل حلب في شعبان وزوج صاحب الموصل ابنته.
قال في الروضتين: وصل الخبر بموت الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي بالله ونور الدين مخيم بشرقي الموصل بتل توبة، وكانت وفاته في ربيع الآخر، وبويع ابنه المستضيء بالله، وكانت خلافة المستنجد إحدى عشرة سنة وهو الثاني والثلاثون من خلفاء بني العباس، وهذا العدد له بحساب الجمّل اللام والباء، وفيه يقول بعض الأدباء:
أصبحت لب بني العباس كلهم ... إن عددت بحساب الجمّل الخلفا
وكان من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية، وكان عادلا فيهم كثير الرفق بهم وأطلق من المكوس كثيرا ولم يترك بالعراق مكسا، وكان شديدا على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
سنة 567
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العبيدية
قال في الروضتين: استفتح صلاح الدين أيوب هذه السنة بإقام الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس، وفي الجمعة الثانية خطب لهم بالقاهرة وانقطع ذكر خلفاء
مصر، وتوفي العاضد (آخر الخلفاء العبيديين) بالقصر يوم عاشوراء، وانقضت تلك الدولة بانتهاء ما دام لها من العصر، وكان ذلك بأمر من الملك العادل نور الدين محمود، وبسط في الروضتين الأخبار في ذلك.(2/53)
قال في الروضتين: استفتح صلاح الدين أيوب هذه السنة بإقام الخطبة في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس، وفي الجمعة الثانية خطب لهم بالقاهرة وانقطع ذكر خلفاء
مصر، وتوفي العاضد (آخر الخلفاء العبيديين) بالقصر يوم عاشوراء، وانقضت تلك الدولة بانتهاء ما دام لها من العصر، وكان ذلك بأمر من الملك العادل نور الدين محمود، وبسط في الروضتين الأخبار في ذلك.
ذكر اتخاذ نور الدين الحمام الهوادي
قال في الروضتين: في هذه السنة أمر الملك العادل نور الدين باتخاذ الحمام الهوادي وهي المناسيب التي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، فاتخذت في سائر بلاده، وكان سبب ذلك أنه اتسعت بلاده وطالت مملكته فكانت من حد النوبة إلى باب همذان لا يتخللها سوى بلاد الفرنج، وكان الفرنج ربما نازلوا بعض الثغور فإلى أن يصله الخبر ويسير إليهم يكونون قد بلغوا بعض الغرض، فحينئذ أمر بذلك وكتب به إلى سائر بلاده وأجرى الجرايات لها ولمربيها فوجد بها راحة كبيرة، كانت الأخبار تأتيه لوقتها لأنه كان له في كل ثغر رجال مرتبون ومعهم من حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمرا كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعة فتنقل الرقعة من طائر إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم في الجهة التي فيها نور الدين، وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه، فانحفظت الثغور بذلك حتى إن طائفة من الفرنج نازلوا ثغرا له فأتاه الخبر ليومه فكتب إلى العساكر المجاورة لذلك الثغر بالاجتماع والمسير بسرعة وكبس العدو ففعلوا ذلك فظفروا والفرنج قد أمنوا لبعد نور الدين عنهم، فرحم الله نور الدين ورضي الله عنه فما كان أحسن نظره للرعايا وللبلاد.
قال الجلال السيوطي في أواخر تاريخه حسن المحاضرة في فصل (ذكر الحمام الرسائل): وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر أنه من ولد الطير الفلاني، وقيل إنه بيع طير بألف دينار. وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه «تمائم الحمائم» وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق وما جرت العادة به في ذلك (إلى أن قال): والذي استقرت قواعد الملك عليه أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل ولا يمهل لحظة واحدة فيفوت مهمات لا تستدرك إما من واصل وإما
من هارب وإما من متجدد في الثغور، ولا يقلع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد، فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ وإن كان نائما لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. ثم ذكر ما قيل فيها من الشعر وما أنشأه القاضي الفاضل وغيره فيها من الرسائل. وذكر في الروضتين رسالة العماد الكاتب فيها ثم قال: وقد بلغني عن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أنه وصلها بألطف من هذه الأوصاف وأخصر فقال (الطيور ملائكة الملوك) يشير إلى أن نزولها على الملوك من جو الهواء نزول الملائكة على الأنبياء عليهم السلام من السماء مع فرط ما فيها من الأمانة لا يتوهم من جهتها خيانة.(2/54)
قال الجلال السيوطي في أواخر تاريخه حسن المحاضرة في فصل (ذكر الحمام الرسائل): وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة اعتنى الخليفة الناصر لدين الله بحمام البطاقة اعتناء زائدا حتى صار يكتب بأنساب الطير المحاضر أنه من ولد الطير الفلاني، وقيل إنه بيع طير بألف دينار. وقد ألف القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في أمور هذه الحمام كتابا سماه «تمائم الحمائم» وذكر فيه فصلا فيما ينبغي أن يفعله المنطق وما جرت العادة به في ذلك (إلى أن قال): والذي استقرت قواعد الملك عليه أن طائر البطاقة لا يلهو الملك عنه ولا يغفل ولا يمهل لحظة واحدة فيفوت مهمات لا تستدرك إما من واصل وإما
من هارب وإما من متجدد في الثغور، ولا يقلع البطاقة من الحمام إلا السلطان بيده من غير واسطة أحد، فإن كان يأكل لا يمهل حتى يفرغ وإن كان نائما لا يمهل حتى يستيقظ بل ينبه. ثم ذكر ما قيل فيها من الشعر وما أنشأه القاضي الفاضل وغيره فيها من الرسائل. وذكر في الروضتين رسالة العماد الكاتب فيها ثم قال: وقد بلغني عن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أنه وصلها بألطف من هذه الأوصاف وأخصر فقال (الطيور ملائكة الملوك) يشير إلى أن نزولها على الملوك من جو الهواء نزول الملائكة على الأنبياء عليهم السلام من السماء مع فرط ما فيها من الأمانة لا يتوهم من جهتها خيانة.
وقال في الزبد والضرب: اتخذ نور الدين الحمام الهوادي في سنة سبع وستين وخمسمائة وكتب بذلك إلى جميع البلاد فاتخذت في الأبراج وكتب منشورا لأربابها وإنذار أصحابها بالتهديد لمن اصطاد شيئا.
سنة 568
ذكر ظفر مليح بن ليون بالروم
قال ابن الأثير: في هذه السنة في جمادى الأولى هزم مليح بن ليون الأرمني صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب عسكر الروم من القسطنطينية، وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحا المذكور وأقطعه إقطاعا سنيا، وكان ملازم الخدمة لنور الدين ومشاهدا لحروبه مع الفرنج ومباشرا لها، وكان هذا من جيد الرأي وصائبه، فإن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع في بلاد الشام قال: أستعين به على قتال أهل ملته وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الغارة على البلاد المجاورة له. وكان مليح أيضا يتقوى بنور الدين على من يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدينة آذنة والمصيّصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشا كثيفا وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال وصابرهم، فانهزمت الروم وكثر فيهم القتل والأسر، وقويت شوكة مليح وانقطع أمل الروم من تلك البلاد، وأرسل مليح إلى نور الدين من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلا من مشهوريهم
وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إلى الخليفة المستضيء بأمر الله وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه.(2/55)
قال ابن الأثير: في هذه السنة في جمادى الأولى هزم مليح بن ليون الأرمني صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب عسكر الروم من القسطنطينية، وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحا المذكور وأقطعه إقطاعا سنيا، وكان ملازم الخدمة لنور الدين ومشاهدا لحروبه مع الفرنج ومباشرا لها، وكان هذا من جيد الرأي وصائبه، فإن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع في بلاد الشام قال: أستعين به على قتال أهل ملته وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الغارة على البلاد المجاورة له. وكان مليح أيضا يتقوى بنور الدين على من يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدينة آذنة والمصيّصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشا كثيفا وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال وصابرهم، فانهزمت الروم وكثر فيهم القتل والأسر، وقويت شوكة مليح وانقطع أمل الروم من تلك البلاد، وأرسل مليح إلى نور الدين من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلا من مشهوريهم
وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إلى الخليفة المستضيء بأمر الله وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه.
ذكر إرسال نور الدين للخليفة يطلب منه تقليدا
قال ابن الأثير: في هذه السنة أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولا إلى الخليفة، وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان، وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان وما هو عليه من جهاد الكفار وفتح بلادهم، ويطلب تقليدا بما بيده من البلاد مصر والشام والجزيرة والموصل وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان، وأن يعطي من الإقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو صريفين ودرب هارون، والتمس أرضا على شاطىء دجلة يبنيها مدرسة للشافعية ويوقف عليها صريفين ودرب هارون، فأكرم كمال الدين إكراما لم يكرمه رسول قبله وأجيب إلى ما التمس، فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة رحمه الله.
قصد نور الدين بلاد قلج أرسلان واستيلاؤه على مرعش
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: وفي سنة ثمان وستين سار نور الدين رحمه الله نحو ولاية الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي وهي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا عازما على حربه وأخذ بلاده منه، وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس وغيرهما من تلك البلاد قصد قلج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريدا فريدا، فسار إلى نور الدين مستجيرا وملتجئا إلى ظله فأكرم نزله وأحسن إليه وحمل له ما يليق أن يحمل للملوك ووعده النصر والسعي في رد ملكه إليه، وكانت عادة نور الدين أنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة إما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما، فلما قصده ذو النون راسل قلج أرسلان وشفع إليه في إعادة ما غلبه عليه من بلاده فلم يجبه إلى ذلك،
فسار نور الدين نحوه فابتدأ بكيسون وبهسنى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها من الحصون، وسير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها، وكان قلج أرسلان لما بلغه قصد نور الدين بلاده قد سار من أطرافها التي تلي الشام إلى وسطها خوفا وفرقا وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح والصفح عنه فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه من الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح، وكان في جملة رسالة نور الدين إليه: أنني أريد منك أمورا وقواعد ومهما تركت منها فلا أترك ثلاثة أشياء: أحدها أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتى يحل لي إقرارك على بلاد الإسلام فإني لا أعتقدك مؤمنا، وكان قلج أرسلان يتهم باعتقاد الفلاسفة. والثاني إذا طلبت عسكرك للغزاة تسيره فإنك قد ملكت طرفا كبيرا من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم، فإما أن تكون تنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع والجهد في جهادهم. والثالث أن تزوج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي. وذكر أمورا غيرها. فلما سمع قلج أرسلان الرسالة قال: ما قصد نور الدين إلا الشناعة علي بالزندقة وقد أجبته إلى ما طلب، أنا أجدد إسلامي على يد رسوله. واستقر الصلح وعاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون، فبقي العسكر بها إلى أن مات نور الدين فرحل العسكر عنها وعاد قلج أرسلان ملكها اه.(2/56)
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: وفي سنة ثمان وستين سار نور الدين رحمه الله نحو ولاية الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي وهي ملطية وسيواس وقونية وأقصرا عازما على حربه وأخذ بلاده منه، وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس وغيرهما من تلك البلاد قصد قلج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريدا فريدا، فسار إلى نور الدين مستجيرا وملتجئا إلى ظله فأكرم نزله وأحسن إليه وحمل له ما يليق أن يحمل للملوك ووعده النصر والسعي في رد ملكه إليه، وكانت عادة نور الدين أنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا ضرورة إما ليستعين بها على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم كما فعل بدمشق ومصر وغيرهما، فلما قصده ذو النون راسل قلج أرسلان وشفع إليه في إعادة ما غلبه عليه من بلاده فلم يجبه إلى ذلك،
فسار نور الدين نحوه فابتدأ بكيسون وبهسنى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها من الحصون، وسير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها، وكان قلج أرسلان لما بلغه قصد نور الدين بلاده قد سار من أطرافها التي تلي الشام إلى وسطها خوفا وفرقا وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح والصفح عنه فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه من الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح، وكان في جملة رسالة نور الدين إليه: أنني أريد منك أمورا وقواعد ومهما تركت منها فلا أترك ثلاثة أشياء: أحدها أن تجدد إسلامك على يد رسولي حتى يحل لي إقرارك على بلاد الإسلام فإني لا أعتقدك مؤمنا، وكان قلج أرسلان يتهم باعتقاد الفلاسفة. والثاني إذا طلبت عسكرك للغزاة تسيره فإنك قد ملكت طرفا كبيرا من بلاد الإسلام وتركت الروم وجهادهم وهادنتهم، فإما أن تكون تنجدني بعسكرك لأقاتل بهم الفرنج وإما أن تجاهد من يجاورك من الروم وتبذل الوسع والجهد في جهادهم. والثالث أن تزوج ابنتك لسيف الدين غازي ولد أخي. وذكر أمورا غيرها. فلما سمع قلج أرسلان الرسالة قال: ما قصد نور الدين إلا الشناعة علي بالزندقة وقد أجبته إلى ما طلب، أنا أجدد إسلامي على يد رسوله. واستقر الصلح وعاد نور الدين وترك عسكره في سيواس مع فخر الدين عبد المسيح في خدمة ذي النون، فبقي العسكر بها إلى أن مات نور الدين فرحل العسكر عنها وعاد قلج أرسلان ملكها اه.
وقال في الروضتين قبل ذلك: وكتب العماد وهو بمرعش مع نور الدين إلى صديق له بدمشق وكان سافر عنها مع نور الدين في أطيب فصولها وهو زمن المشمش:
كتابي فديتك من مرعش ... وخوف نوائبها مرعشي
وما مر في طرقها مبصر ... صحيح النواظر إلا غشي
وما حل في أرضها آمن ... من الضيم والضر إلا خشي
ترنحني نشوات الغرام ... كأني من كأسه منتشي
أسر وأعلن برح الجوى ... فقلبي يسر ودمعي يشي
بذلت لكم مهجتي رشوة ... فحاكم حبكم مرتشي
وكيف يلذ الكرى مغرم ... بنار الغرام حشاه حشي
بمرعش أبغي وبلوطها ... مضاهاة جلّق والمشمش
قال العماد في الخريدة: فسارت هذه القطعة ونمي حديثها إلى نور الدين فاستنشدنيها فأنشدته إياها ونحن سائرون في واد كبير مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما:(2/57)
كتابي فديتك من مرعش ... وخوف نوائبها مرعشي
وما مر في طرقها مبصر ... صحيح النواظر إلا غشي
وما حل في أرضها آمن ... من الضيم والضر إلا خشي
ترنحني نشوات الغرام ... كأني من كأسه منتشي
أسر وأعلن برح الجوى ... فقلبي يسر ودمعي يشي
بذلت لكم مهجتي رشوة ... فحاكم حبكم مرتشي
وكيف يلذ الكرى مغرم ... بنار الغرام حشاه حشي
بمرعش أبغي وبلوطها ... مضاهاة جلّق والمشمش
قال العماد في الخريدة: فسارت هذه القطعة ونمي حديثها إلى نور الدين فاستنشدنيها فأنشدته إياها ونحن سائرون في واد كبير مع بيتين بدهت بهما في الحال وهما:
وبالملك العادل استأنست ... نجاحا منى كل مستوحش
وما في الأنام كريم سواه ... فإن كنت تنكر ذا فتش
سنة 569
وفاة الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي
قال ابن الأثير: في هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق، ودفن بقلعة دمشق، ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق عند سوق الخواصين. ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء [هو كما في الروضتين همام الدين مودود والي حلب في أول دولة نور الدين] فقال له الأمير: سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا، فقال نور الدين: لا تقل هكذا بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا، فمات نور الدين بعد أحد عشر يوما ومات الأمير قبل الحول فأخذ كل منهما بما قاله.
ثم قال: وكان أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حنكه وكان واسع الجبهة حسن الصورة مليح العينين. وكان قد اتسع ملكه جدا وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها. وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله.
وقال ابن كثير في وفيات سنة خمسمائة وتسعة وستين: إن نور الدين ولد وقت طلوع الشمس يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل. وهذا سهو فإن والده زنكي ملك حلب في سنة اثنتين وعشرين كما تقدم، ولم نقف على ما يفيد أنه أتى حلب في سنة إحدى عشرة وخمسمائة.(2/58)
قال في المختار من الكواكب المضية: واختلف في تسميته بالشهيد، قال بعضهم:
أحب مملوكا وعف فأكمده الحب فقتله. وقال بعضهم: إنه مرض وكان مرضه علة الخوانيق فأشار عليه بعض الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع ومات من هذه العلة بقلعة دمشق، فإن كان مقصده في ترك الفصد عملا بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«سبعون ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون الحديث» فقد تصدق عليه هذه التسمية وما أظنها إلا غلبت عليه كقول الناس في سلاطينهم فلان الشهيد وإن كان قد مات على فراشه تفاؤلا في حقهم. فإن قلت: كيف بقي عليه هذا ولم يبق على غيره قلت: لأنه ليس لغيره من الفتوحات كفتوحاته وغزواته وورعه وأوقافه وزهده وجميل أوصافه المحمودة، وطالما ألقى نفسه على العدو وجاهد في الله حق جهاده طلبا للشهادة اه.
أقول: السبب الأول يستبعده العقل جدا عن أمثال نور الدين، فإن التفكر في الجهاد وتجهيز الجيوش وعمارة الأسوار والقلاع وغير ذلك لم يدع في فؤاده مكانا خاليا ليسلك إليه الحب ويتمكن منه تمكنا يقضي به على حياته، والذي يترجح عندي في سبب تسميته بالشهيد أن والده زنكي كان يدعى الشهيد لأنه قتل على قلعة جعبر كما تقدم فصار يقال لولده محمود نور الدين بن الشهيد، ثم لكثرة الاستعمال حذفت كلمة ابن اختصارا.
قال ابن الأثير: وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر ههنا نبذة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به، فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة من الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل له منها في السنة نحو العشرين دينارا، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيرا بالليل وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:
جميع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر. وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل.(2/59)
جميع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر. وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل.
وفي الروضتين وغيره: قال له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الحلبي: إني رأيت أني أغسل ثيابك، فأفكر ساعة ثم أمره بإسقاط المكوس وقال له: هذا تفسير منامك، وكتب إلى البلاد بذلك وأمر الخطباء أن يسألوا الناس أن يحاللوه في المدة الماضية، وقال لهم: ما أخرجناه إلا في جهاد أعداء الإسلام، يعتذر إليهم بذلك.
قال في المختار من الكواكب المضية: وفي بعض التواريخ ذكر المكوس التي أزالها وقدرت فأفردت من ذلك حلب ومعاملتها [96] ألف دينار ونيف. وفي الروضتين [50] ألف دينار سرمين [1360] دينارا كفر طاب [2000] دينار عزاز [6500] دينار تل باشر [21000] دينار عينتاب [9080] دينارا الباب وبزاعة [3000] دينار قلعة النجم [3000] دينار قلعة جعبر [7600] دينار الرها [8500] دينار.
وقال في أوائل الروضتين ناقلا من خط الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن العديم وسامعا له من لفظه قال: قال لي والدي: دخل في أيام نور الدين إلى حلب تاجر موسر فمات بها وخلف بها ولدا صغيرا ومالا كثيرا، فكتب بعض من بحلب إلى نور الدين يذكر له أنه قد مات هاهنا رجل موسر وخلف عشرين ألف دينار أو فوقها وله ولد عمره عشر سنين وحسن له أن يرفع المال إلى الخزانة إلى أن يكبر الصغير يرضى منه ويمسك الباقي للخزانة، فكتب على رقعته: أما الميت فرحمه الله، وأما الولد فأنشأه الله، وأما المال فثمره الله، وأما الساعي فلعنه الله. قال: وبلغتني هذه الحكاية عن غير نور الدين أيضا.
ثم قال ناقلا عنه أيضا: وسمعت صقر بن يحيى بن صقر المعدل يقول: سمعت مقلدا يعني الدولعي يقول: لما مات الحافظ المرادي وكنا جماعة الفقهاء قسمين العرب والأكراد فمنا من مال إلى المذهب، وأردنا أن نستدعي الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون وكان بالموصل ومنا من مال إلى علم النظر والخلاف وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري، وكان قد جاء وزار البيت المقدس ثم عاد إلى بلاد العجم فوقع بيننا كلام بسبب ذلك ووقعت فتنة بين الفقهاء، فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة
بحلب وخرج إليهم مجد الدين بن الداية عن لسانه وقال لهم: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم ودحض البدع من هذه البلدة وإظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق. وقد قال المولى نور الدين: نحن نرضي الطائفتين ونستدعي شرف الدين بن أبي عصرون وقطب الدين النيسابوري، فاستدعاهما جميعا وولى مدرسة ابن أبي عصرون لشرف الدين ومدرسة النفري لقطب الدين.(2/60)
ثم قال ناقلا عنه أيضا: وسمعت صقر بن يحيى بن صقر المعدل يقول: سمعت مقلدا يعني الدولعي يقول: لما مات الحافظ المرادي وكنا جماعة الفقهاء قسمين العرب والأكراد فمنا من مال إلى المذهب، وأردنا أن نستدعي الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون وكان بالموصل ومنا من مال إلى علم النظر والخلاف وأراد أن يستدعي القطب النيسابوري، وكان قد جاء وزار البيت المقدس ثم عاد إلى بلاد العجم فوقع بيننا كلام بسبب ذلك ووقعت فتنة بين الفقهاء، فسمع نور الدين بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة
بحلب وخرج إليهم مجد الدين بن الداية عن لسانه وقال لهم: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم ودحض البدع من هذه البلدة وإظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق. وقد قال المولى نور الدين: نحن نرضي الطائفتين ونستدعي شرف الدين بن أبي عصرون وقطب الدين النيسابوري، فاستدعاهما جميعا وولى مدرسة ابن أبي عصرون لشرف الدين ومدرسة النفري لقطب الدين.
ثم قال ناقلا عنه أيضا: أخبرنا افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي قال: كان عند القاضي تاج الدين عبد الغفور بن لقمان الكردري قاضي حلب غلام قد جعله لمجلس الحكم يدعى سويدا يحضر الخصوم إلى مجلس الحكم، فحضر بعض التجار وادعى أنه له على نور الدين دعوى، فقال الكردري لسويد المذكور: امض إلى نور الدين وادعه إلى مجلس الحكم وعرفه أنه حضر شخص يطلب حضوره، وكان نور الدين في الميدان، فجاء سويد إلى باب الميدان فخرج إسماعيل الخزندار فوجد سويدا قادما إليه قال: سيرني تاج الدين يعني القاضي وذكر أنه حضر تاجر وذكر أن له دعوى على المولى نور الدين وقد أنفذني تاج الدين وقال لي كذا وكذا، فضحك إسماعيل الخزندار ودخل على نور الدين ضاحكا وقال له مستهزئا: يقوم المولى، فقال: إلى أين؟ فقال: حضر سويد غلام تاج الدين الكردري وقال إن تاج الدين أرسله يطلب المولى إلى مجلس الحكم، فأنكر نور الدين على إسماعيل استهزائه وقال: تستهزىء بطلبي إلى مجلس الحكم، وقال نور الدين: يحضر فرسي حتى نركب إليه، السمع والطاعة، قال الله تعالى: {إِنَّمََا كََانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذََا دُعُوا إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا} ثم نهض وركب حتى دخل باب المدينة فاستدعى سويدا وقال له: امض إلى القاضي تاج الدين وسلم عليه وقل إنني جئت إلى هاهنا امتثالا لأمر الشرع، وأحتاج في الحضور إلى مجلسه إلى سلوك هذه الأزقة وفيها الأطيان، وهذا وكيلي يسمع الدعوى وإن توجهت علي يمين أحضر إن شاء الله تعالى، قال: فحضر الوكيل وسمع الدعوى وتوجهت اليمين فقال الكردري: قد توجهت اليمين فليحضر، فلما بلغ نور الدين ذلك وعلم أنه لا مندوحة عن حضور مجلسه لليمين استدعى ذلك التاجر وأصلح الأمر فيما بينه وبينه وأرضاه اه.
وقال في المختار من الكواكب المضية: حكي أن نور الدين كان قاعدا بدمشق على طيارة مشرفة على نهر بردى فوصل إليه كتاب من بلد المعرة يذكر أن جماعة من أهل المعرة
تغلبوا على كروم وزيتون وأملاك ذكر أنها ليست لهم واستأذن في قبضها فمن أحضر بينة أو حجة سلم إليه ما كان بيده وإن لم يحضر بقي في ديوان بيت المال، فأمر بكتب مرسوم بذلك فشرع الكاتب يكتب فسمع منشدا يقول:(2/61)
وقال في المختار من الكواكب المضية: حكي أن نور الدين كان قاعدا بدمشق على طيارة مشرفة على نهر بردى فوصل إليه كتاب من بلد المعرة يذكر أن جماعة من أهل المعرة
تغلبوا على كروم وزيتون وأملاك ذكر أنها ليست لهم واستأذن في قبضها فمن أحضر بينة أو حجة سلم إليه ما كان بيده وإن لم يحضر بقي في ديوان بيت المال، فأمر بكتب مرسوم بذلك فشرع الكاتب يكتب فسمع منشدا يقول:
اعدلوا ما دام أمركم ... نافذا في النفع والضرر
احفظوا أيام دولتكم ... إنكم منها على خطر
إنما يبقى لكم أبدا ... طيب ما يبقى من الخبر
فقال السلطان نور الدين: {فَمَنْ جََاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} الآية، ثم أمر بإبطال ذلك الكتاب وجعل يبكي اه.
وقال في الزبد والضرب: عمر بلد حلب في زمان نور الدين لعدله وحسن سيرته حتى ارتفعت الأسعار مع كثرة المغلات لكثرة العالم.
وقال ابن خلكان في تاريخه في ترجمته: كان ملكا عادلا زاهدا عابدا ورعا مستمسكا بالشريعة مائلا إلى أهل الخير مجاهدا في سبيل الله كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري ورتب له ما يكفيه، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي وجامع الرها وجامع منبج وبيمارستان دمشق ودار الحديث بها أيضا، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.
وقال ابن الأثير: وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها، فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها [ثم قال]: وبنى الخانات في الطرق وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد ووقف على الجميع وقوف الكثرة. سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري، وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه وينبسط معهم ولا يرد لهم قولا ويكاتبهم بخط يده، وكان وقورا مهيبا مع تواضعه، وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب اه.(2/62)
أقول: ومن أراد الوقوف على تفاصيل أخباره ومحمود آثاره فعليه بكتاب الروضتين في أخبار الدولتين (النورية والصلاحية) فإنه جمع وأوعى.
آثاره الجليلة في حلب
المدرسة الحلوية:
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: المدرسة الحلوية كانت كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين وجعلها القاضي أبو الحسن بن الخشاب مسجدا بسبب ما اعتمده الفرنج من بعثرة قبور المسلمين وإحراقهم حين حصارهم حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة، وكانت تعرف بمسجد السراجين، فلما ملك نور الدين جعلها مدرسة وجدد بها مساكن يأوي إليها الفقهاء. وكان مبدأ عمارتها في سنة أربع وأربعين [صوابه ثلاث وأربعين كما هو مكتوب على جدار بابها] وهي من أعظم المدارس صيتا وأكثرها طلبة وأغزرها جامكية. قال: ومن شرط الواقف أن يجعل في كل شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدارس يضع بها طعاما للفقهاء، وفي ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوى معلومة وفي الشتاء ثمن لباس لكل فقيه شيء معلوم، وفي أيام شرب الدواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة، وفي المواليد أيضا الحلوى، وفي الأعياد ما يرتفقون به فيها دراهم معلومة، وفي أيام الفاكهة ما يشترون به من أنواعها بطيخا ومشمشا وتوتا.
وقال قبل ذلك في باب ذكر المزارات: وشوهد بالمدرسة الحلاوية الحنفية بحلب مذبح من الرخام الملكي الشفاف الذي يقرب النصارى عليه القربان، وهو من أحسن الرخام صورة، إذا وضع تحته ضوء يرى من وجهه، فسئل عن ذلك فقيل إن نور الدين محمود بن زنكي أحضره من أفامية سنة أربع وأربعين ووضعه في هذه المدرسة، وعليه كتابة باليونانية فعربت فكانت (إنه عمل هذا للملك فلطيانس والنسر الطائر في أربعة عشر درجة من برج العقرب) قال: فيكون مقدار ذلك ثلاثة آلاف سنة إلى أيام نور الدين الشهيد المذكور.(2/63)
وقيل: إن نور الدين المذكور كان يحشو القطايف للفقهاء ويملأ هذا الجرن ويجتمعون عليه ويأكلونها (1)، وهذا الجرن هو الآن بالمدرسة الحلاوية. (قلت): وقد شاهدت هذه الرخامة لكنها ليست بجرن، فإن الجرن الحجر المنقور المتخذ للوضوء والوضع فيه، وهذه الرخامة بسيطة طويلة عريضة مربعة إلى الطول أقرب إلا أن لها حافات عالية عنها مقدارا يسيرا نحو إصبعين أو ثلاثة.
(حاشية بين سطور الدر المنتخب): وقال كاتب هذه الأحرف أبو اليمن البتروني: وقع على هذا الجرن أحد جدران المدرسة فانكسر وصار قطعا وأسف الناس عليه لأنه كان غاية في الحسن اه.
مدرسو المدرسة من حين بنائها إلى سنة 650تقريبا:
قال ابن شداد: ولما فرغ نور الدين من بنائها استدعى لها من دمشق الفقيه الإمام برهان الدين أحمد بن علي الأصولي السلفي ليجعله نائبا عن برهان الدين البلخي، فامتنع من القدوم فسير إليه ثانيا فأجابه، ولم يزل نائبا إلى أن مات، ولما مات شمت الناس بعلي لموت أحمد، وتولى تدريسها الإمام الفاضل رضي الدين محمد بن محمد أبو عبد الله السرخسي صاحب المحيط، كان قدم حلب فولاه محمود بن زنكي التدريس، وكان في لسانه لكنة فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنفية فصغروا أمره عند نور الدين فمات يوم الجمعة آخر جمعة من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فولي مكانه إسماعيل الغزنوي البلخي وكان بالموصل، ثم ولي صاحب التصانيف البديعة في أحكام الشريعة علاء الدين (2)، ثم ولي الإمام افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي صاحب الرواية العالية الفاخرة والدراية الزاهية الزاهرة، شرح الجامع الكبير شرحا لطيفا مستوفيا وقام بما
__________
(1) أقول: ولهذا سميت المدرسة الحلوية. وقال في الزبد والضرب: إن الظاهر في تسميتها بالحلاوية لم تكن لما كان يصنعه من الحلوى ويضعه في الجرن المذكور، وإنما كان لحلاويين كانوا بجوارها.
أقول: إنها قبل أن تتخذ مدرسة كانت مسجدا يعرف بمسجد السراجين، والظاهر أنه سمي بذلك لسراجين كانوا بجانبه، ولا يعرف ذلك السوق بسوق الحلاويين وقتئذ، فيغلب على الظن في تسميتها بالمدرسة الحلوية ما هو مشهور بين الناس وهو هذه الحلوى التي كانت تصنع للفقهاء وتوضع في هذا الجرن
(2) هو صاحب بدائع الصنائع في الفقه الحنفي وستأتيك ترجمته.(2/64)
شرط، ثم تولى العلامة تاج الدين أبو المعالي واستمر مدرسا إلى أن مات، ثم ولي تدريسها الإمام العلامة جامع أشتات الفضائل المبرز في معلوماته على الأواخر والأوائل المضيف إلى عالي الرواية عظيم الدراية الوافر الحظ من حسن الخط كمال الدين أبو القاسم أحمد بن عمر ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم، ولم يزل مدرسا حتى كتب عليه الجلاء مع من كتب من أهل حلب اه.
قال ابن الشحنة في الدر المنتخب: ولم يزل المدرسون ينتقلون بها إلى أن اتصلت إلى سيدي الوالد رحمه الله تعالى، ثم إليّ خاصة بتوقيع شريف في سنة أربع وعشرين وثمانمائة.
أقول: وفي خلال التراجم تجد أسماء من تولى التدريس في هذه المدرسة، والذي يظهر أن أمرها كان جاريا على السداد إلى أوائل القرن الماضي حينما تولاها أحفاد محمد أفندي الطرابلسي مفتي حلب فأهمل أمر التدريس فيها لأنهم لم يكونوا من أهل العلم، وتداعت أبنيتها إلى الخراب، وقد أدركناها والأتربة مالئة وسطها. وفي أواخر القرن الماضي كان المتولي عليها الأخوين السيد محمدا أبا الفتح والسيد محمودا ابني السيد عبد الوهاب ابن الشيخ مصطفى الطرابلسي ففرغا التولية سنة 1294إلى الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد طلس، ولما استلم المدرسة منهما كانت خرابا يبابا وليس فيها من القديم سوى مكان الصلاة والمحراب البديع الذي في إيوانها. ولم يبق لها من العقارات سوى دارين داخل المدرسة وأربع دكاكين اثنتان عن يمين الداخل إلى المدرسة واثنتان عن الشمال.
وللمدرسة أراض محكرة لجماعة معلومين في المحلة المعروفة الآن بالتلل كانت تعرف بمناشر الزبل يؤخذ منها بدل زهيد جدا هو عبارة عن عشرة أرطال زيتا، ولما تولى المدرسة الشيخ مصطفى المذكور وجد أن ذلك إجحاف في حقوق المدرسة فرفع الأمر إلى والي الولاية وقتئذ جميل باشا فمد له الوالي يد العناية إلى أن تمكن من استرداد تلك الأراضي بعد محاكمات دامت سنين، ولما تم له ذلك باشر بتحكيرها بأجر مثلها في ذلك الوقت، ومن هذه الواردات صار يعمر المدرسة ويشتري لها بفاضل الغلة عقارات، ولما توفي سنة 1315 جرى ولده الشيخ محمد الذي صار متوليا عليها على تلك الطريقة وبقي إلى أن توفي سنة 1333وآلت التولية إلى ولده محمد الذي هو في قيد الحياة الآن، ولصغر سنه قام بأمر التولية عنه عمه الشيخ عبد الوهاب أفندي فجرى على تلك الطريقة إلى أن عمرت المدرسة
جميعها وفرشت بالرخام في أماكنها كافة وأصبح فيها من الحجر اثنتا عشرة حجرة للطلاب، وعين في هذه السنة وهي سنة 1342لكل طالب مائتي قرش رائجة. وصار للمدرسة من العقارات اثنان وستون عقارا، وقد أطلعني المومى إليه على دفترين أحدهما محرر سنة 1079وفيه ذكر العقارات الموقوفة على المدرسة والأحكار التي كانت تأخذها من كثير من الدور والحوانيت والبساتين والأراضي، وعلى هذا الدفتر إمضاء وختم القاضي نقيب زاده السيد محمد سعيد الحجازي المولى بالمحكمة الشافعية، ودفتر آخر محرر سنة 1219وفيه أيضا ذكر ذلك، ومعظم هذه الأماكن لا تتناول المدرسة اليوم منها شيئا، وقد تغلبت الأيدي منذ سنين طويلة عليها، ولو كانت باقية على حالها لكان للمدرسة من الريع مبالغ طائلة ولله في خلقه شؤون.(2/65)
وللمدرسة أراض محكرة لجماعة معلومين في المحلة المعروفة الآن بالتلل كانت تعرف بمناشر الزبل يؤخذ منها بدل زهيد جدا هو عبارة عن عشرة أرطال زيتا، ولما تولى المدرسة الشيخ مصطفى المذكور وجد أن ذلك إجحاف في حقوق المدرسة فرفع الأمر إلى والي الولاية وقتئذ جميل باشا فمد له الوالي يد العناية إلى أن تمكن من استرداد تلك الأراضي بعد محاكمات دامت سنين، ولما تم له ذلك باشر بتحكيرها بأجر مثلها في ذلك الوقت، ومن هذه الواردات صار يعمر المدرسة ويشتري لها بفاضل الغلة عقارات، ولما توفي سنة 1315 جرى ولده الشيخ محمد الذي صار متوليا عليها على تلك الطريقة وبقي إلى أن توفي سنة 1333وآلت التولية إلى ولده محمد الذي هو في قيد الحياة الآن، ولصغر سنه قام بأمر التولية عنه عمه الشيخ عبد الوهاب أفندي فجرى على تلك الطريقة إلى أن عمرت المدرسة
جميعها وفرشت بالرخام في أماكنها كافة وأصبح فيها من الحجر اثنتا عشرة حجرة للطلاب، وعين في هذه السنة وهي سنة 1342لكل طالب مائتي قرش رائجة. وصار للمدرسة من العقارات اثنان وستون عقارا، وقد أطلعني المومى إليه على دفترين أحدهما محرر سنة 1079وفيه ذكر العقارات الموقوفة على المدرسة والأحكار التي كانت تأخذها من كثير من الدور والحوانيت والبساتين والأراضي، وعلى هذا الدفتر إمضاء وختم القاضي نقيب زاده السيد محمد سعيد الحجازي المولى بالمحكمة الشافعية، ودفتر آخر محرر سنة 1219وفيه أيضا ذكر ذلك، ومعظم هذه الأماكن لا تتناول المدرسة اليوم منها شيئا، وقد تغلبت الأيدي منذ سنين طويلة عليها، ولو كانت باقية على حالها لكان للمدرسة من الريع مبالغ طائلة ولله في خلقه شؤون.
المدرسة العصرونية:
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: إن هذه المدرسة كانت دارا لأبي الحسن علي بن أبي الثريا وزير بني دمرداش، فصيرها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بعد انتقالها إليه بالوجه الشرعي مدرسة وجعل فيها مساكن للمرتبين بها من الفقهاء، وذلك في سنة خمسين وخمسمائة، واستدعى لها من جبل بناحية سنجار الشيخ الإمام شرف الدين أبا سعد عبد الله بن أبي السري محمد بن هبة الله بن المطهر بن علي بن أبي عصرون بن أبي السري التميمي الحديثي ثم الموصلي الشافعي، وكان من أعيان فقهاء عصره، ولما وصل إلى حلب ولي تدريسها والنظر فيها، وهو أول من درس بها فعرفت به، وصنف كتبا كثيرة في المذهب والخلاف والفرائض مشهورة في أيدي الناس اه.
أقول: إذا كانت المدرسة بنيت سنة 550كما ذكره هنا فيكون قد استدعي من الشام لا من سنجار، لأنه كما في ترجمته في ابن خلكان قدم إلى حلب سنة 545وتوجه منها إلى الشام في أوائل سنة 549ثم عاد إلى حلب وبقي في هذه البلاد إلى سنة 570 فتوجه فيها إلى الشام وتوفي فيها سنة 585.
وإذا كان بناؤها سنة 545فيكون قد استدعي من سنجار لأنه في هذه السنة قدم إلى حلب كما نقلناه عن ابن خلكان. ويظهر أن الأصح أن بناءها سنة 545لأن ابن أبي عصرون والقطب النيسابوري استدعيا في آن واحد كما قدمناه في ترجمة نور الدين.(2/66)
وإذا كان بناؤها سنة 545فيكون قد استدعي من سنجار لأنه في هذه السنة قدم إلى حلب كما نقلناه عن ابن خلكان. ويظهر أن الأصح أن بناءها سنة 545لأن ابن أبي عصرون والقطب النيسابوري استدعيا في آن واحد كما قدمناه في ترجمة نور الدين.
المدرسة النفرية وهي المدرسة النورية:
قال في الدر المنتخب: المدرسة النفرية لا أدري من المنسوب إليه هذه المدرسة. ثم قال: المدرسة النورية أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
وقال في المختار من الكواكب المضية: ومن جملة أوقافه بحلب المدرسة النورية المعروفة بالنفرية.
وقال في الزبد والضرب: لما بنى نور الدين المدرسة النفرية ولاها القطب النيسابوري واسمه كما في ابن خلكان مسعود بن مسعود النيسابوري الطرثيثي الفقيه الشافعي الملقب قطب الدين. وتولى كما في ابن خلكان تدريس المدرسة التي بناها أسد الدين شيركوه وكانت وفاته في دمشق سنة 578.
المدرسة الشعيبية:
قال في الدر المنتخب: كانت هذه مسجدا أول ما اختطه المسلمون عند فتح حلب ويعرف بالغضايري كما تقدم، فلما ملك نور الدين حلب وأنشأ المدارس بها وصل الشيخ شعيب بن أبي الحسن بن الحسين بن أحمد الفقيه الأندلسي فصيرت له مدرسة فعرفت به ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة في طريق مكة.
قلت: وهي يومئذ جامع يقام فيه الخطبة اه.
أقول: هي في محلة باب أنطاكية قبالة الباب المذكور يكتنفها من طرف اليمين سوق الصباغين ومن طرف الشمال الزقاق الذي في آخره حمام بزدار، وهي الآن مسجد تقام فيه الصلاة.
خانقاه القصر:
قال في الدر المنتخب: قال ابن شداد: خانقاه القصر وهي تحت القلعة أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وسميت بهذا الاسم لأنه كان مكانها قصر من بناء شجاع الدين فاتك، وكان مبدأ عمارتها في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.(2/67)
خانقاه القديم:
قال في الدر المنتخب: أنشأها نور الدين أيضا وتولى النظر على عمارتها شمس أبو القاسم الطرسوسي.
البيمارستان:
قال في الدر المنتخب: البيمارستان النوري بناه الملك العادل نور الدين محمود داخل باب أنطاكية بالقرب من سوق الهواء [في محلة الجلّوم الكبرى في الزقاق المعروف الآن بزقاق البهرمية]. يقال إن الملك العادل نور الدين تقدم إلى الأطباء أن يختاروا من حلب أصح بقعة صحيحة الهواء لبناء البيمارستان بها، فذبحوا خروفا وقطعوه أربعة أرباع وعلقوها بأرباع المدينة ليلا، فلما أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة الربع الذي كان في هذا القطر فبنوا البيمارستان فيه، ووقف عليه قرية معراتا ونصف مزرعة وادي العسل من جبل سمعان وخمسة أفدنة من مزرعة كفرنايا وثلث مزرعة الخالدي وطاحونها من المطخ وثمن طاحون أعريبة ظاهر باب الجنان وثمانية أفدنة من مزرعة أبو مدايا من عزاز وخمسة أفدنة بمزرعة الحميرة من المطخ واثني عشر فدانا من مزرعة الفرزل من المعرة وثلث قرية بيت راعل من الغربيات وعشرة دكاكين بسوق الهواء هو الآن معروف بسوق الكمرك، منها ثلاثة تمام والباقي شركة الجامع الكبير وأحكار ظاهر باب أنطاكية وباب الفرج وباب الجنان اه.
أقول: هو الآن خراب لم يبق منه سوى بابه وجدران أطرافه يأوي إليه الفقراء من الغرباء. ومن الغريب أن معتمد إيطاليا آدولف صولا عمر فوق باب البيمارستان المذكور قنطرة جعل طرفها تحت أطراف قصر داره التي هي تجاه البيمارستان المذكور حفظا للقصر وذلك منذ خمس عشرة سنة، وكان ذلك في ليلة واحدة، ولم ينتطح لذلك عنزان، غايته أن المتولي على البيمارستان رفع الأمر إلى الحكومة وإلى المجلس البلدي فلم يلتفت إليه وكأن الحادثة لم تكن فلله الأمر. إلا أنه بعد ذلك ابتلي بالأمراض والأسقام ولم يطب عيشه إلى أن مات.
ومن آثاره تجديد بناء الجامع الأعظم والتوسيع فيه:
يجدر بنا قبل الكلام على ذلك أن نذكر تأسيس بناء هذا الجامع وما حصل فيه إلى أن نصل إلى هذا التاريخ.(2/68)
قال في كراسة عندي (يظهر أنها من كنوز الذهب لأبي ذر) ما ملخصه أن أبا عبيدة لما فتح حلب صالح أهلها على موضع المسجد الجامع فاختطه الصحابة رضي الله عنهم وكان بستانا للكنيسة التي هي الحلاوية، والجب الذي فيه كان دولابا للبستان، ثم جدده سليمان بن عبد الملك. ولم يذكر ابن العديم في ترجمة سليمان أن سليمان بناه.
وقال في مكان آخر: وبلغني أن سليمان هو الذي بناه كما رأيته بخط ابن عشاير. وقد كان هذا الجامع يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء، وباهى سليمان في بنائه ما عمل أخوه الوليد في جامع دمشق، وقيل إنما بناه الوليد وإنه نقل إليه آلة كنيسة قورص، وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا. يقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح الوليد بذلك. ويقال إن بني العباس نقضوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لما نقضوا آثار بني أمية من بلاد الشام، وعلى باب الحجازية حجر من الرخام الأبيض يقال إن عمر بن عبد العزيز جلس عليه ولا يجلس هناك مهموم في الغالب إلا انفرج همه ببركته. وهذه الحجرة يبلغ طولها نصف ذراع وعرضها أقل من ذلك.
أقول: ولما وسع باب الحجازية وجدد الدرج الذي أمامه وذلك سنة 1326وقلعت الأحجار التي كانت أمام الباب تفتتت هذه فوضعت في كيس من الكتان ومعها زجاجة في داخلها ورقة كتب فيها قصتها، وقد وضع ذلك الكيس في البنيان وراء الحجر المنقوش فوق باب الحجازية.
قال في الدر المنتخب: ولما دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة أحرق الجامع والبلد ورحل من حلب، وعاد سيف الدولة إليها من قنسرين ورم بعض المسجد، ولما مات سيف الدولة وتولى ولده أبو المعالي سعد الدولة شريف بنى فيه قرعويه غلام أبيه قبة الفوارة التي في وسط الجامع، وفي هذه القبة جرن رخام أبيض في غاية الكبر والحسن، وفي دور حافة الجرن مكتوب [هذا ما أمر بعمله قرعويه غلام سيف الدولة في سنة أربع وخمسين وثلثمائة].
أقول: الكتابة كانت قدر نصف ذراع، وقد كان أثر النقش باقيا وقد محي هذا الأثر سنة 1302حينما رمم الحوض وذلك في زمن والي الولاية وقتئذ جميل باشا، وياليتهم أبقوا هذا الأثر وإن كان قليلا.(2/69)
قال في الكراسة: والماء ينصب من هذا الجرن إلى بركة مقطعة من الرخام الأصفر، ثم يسيل إلى بركة من رخام أصفر قطعة واحدة وهي من عجائب الدنيا، والعمود الذي في وسط الجامع رؤي النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي عنده، وفي أعلاه صحن من الحديد كان يوضع فيه البحور قديما ويوضع فيه تارة زيت وحب قطن ليضيء على الجامع.
وأما الشرقية فبناها بنو عماد الدين وكانوا أصحاب طرابلس قديما، وكان فيها آبار لخزن الغلات المتحصلة من ريع كنيسة هيلانة وهي الحلاوية، وشاهدت جبا في الحجازية إلى جانب البركة، وإنما سميت حجازية لأنها منزل أهل الحجاز.
(ثم قال): وعلم أن الدخول إلى هذا الجامع والصلاة فيه تزيل الكرب وتفرج المهموم، وهذا مشاهد مرئي، كيف لا وقد بني في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما تقدم وخطب فيه الصالحون والأخيار كعمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك، وأخيرا خطب فيه الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم الفارقي ابن نباتة صاحب الخطب المشهورة التي وقع الإجماع أنه ما عمل مثلها، وقصة رؤياه للنبي صلّى الله عليه وسلم وتفله في فيه مشهورة، وأقام ثمانية عشر يوما لا يطعم ولا يشرب لبركتها.
ولأبي بكر الصنوبري الشاعر المشهور شاعر سيف الدولة قصيدة طويلة يمدح فيها حلب ذكرها ياقوت في معجمه، ومما قاله فيها في مدح هذا الجامع:
حلب بدر دجى أنجمها الزهر قراها
حبذا جامعها الجامع للنفس تقاها
موطن يرسي ذوو البر لمرساه جباها
سهوات الطرف فيه فوق ما كان اشتهاها
قبلة كرمها الله بنور وحباها
ورآها ذهبا في لازورد من رآها
ومراقي منبر أعظم شيء مرتقاها
وذرى مئذنة طالت ذرى النجم ذراها
ولفوّارته ما لا تراه بسواها
قصعة ما عدت الكعب ولا الكعب عداها
أبدا يستقبل السحب بسحب من حشاها
فهي تسقي الغيث إن لم يسقها أو إن سقاها
كنفتها قبة يضحك عنها كنفاها
قبة أبدع بانيها بناء إذ بناها
ضاهت الوشي نقوشا فحكته وحكاها
لو رآها مبتني قبة كسرى ما ابتناها
فندا الجامع سرو يتناهى من تناهى (1)
حييا السارية الخضراء منه حيياها
قبلة المستشرف الأعلى إذا قابلتماها
حيث يأتي حلقة الآداب منا من أتاها
من رجالات حبا لم يحلل الجهل حباها
من رآهم من سفيه باع بالعلم السفاها
وهذه السارية الخضراء كان يجتمع إليها المشتغلون بالأدب يقرؤون عندها وذهبت في الحريق، وما زالت حلقة الأدب لقراءة النحو واللغة معقودة بجامع حلب ليلا ونهارا، وكذلك لقراءة القرآن العزيز وما فتىء على هذه الحالة، وكان مشرق العابد يقرأ فيه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وذلك قبل أن تبنى المدارس بحلب.(2/70)
حلب بدر دجى أنجمها الزهر قراها
حبذا جامعها الجامع للنفس تقاها
موطن يرسي ذوو البر لمرساه جباها
سهوات الطرف فيه فوق ما كان اشتهاها
قبلة كرمها الله بنور وحباها
ورآها ذهبا في لازورد من رآها
ومراقي منبر أعظم شيء مرتقاها
وذرى مئذنة طالت ذرى النجم ذراها
ولفوّارته ما لا تراه بسواها
قصعة ما عدت الكعب ولا الكعب عداها
أبدا يستقبل السحب بسحب من حشاها
فهي تسقي الغيث إن لم يسقها أو إن سقاها
كنفتها قبة يضحك عنها كنفاها
قبة أبدع بانيها بناء إذ بناها
ضاهت الوشي نقوشا فحكته وحكاها
لو رآها مبتني قبة كسرى ما ابتناها
فندا الجامع سرو يتناهى من تناهى (1)
حييا السارية الخضراء منه حيياها
قبلة المستشرف الأعلى إذا قابلتماها
حيث يأتي حلقة الآداب منا من أتاها
من رجالات حبا لم يحلل الجهل حباها
من رآهم من سفيه باع بالعلم السفاها
وهذه السارية الخضراء كان يجتمع إليها المشتغلون بالأدب يقرؤون عندها وذهبت في الحريق، وما زالت حلقة الأدب لقراءة النحو واللغة معقودة بجامع حلب ليلا ونهارا، وكذلك لقراءة القرآن العزيز وما فتىء على هذه الحالة، وكان مشرق العابد يقرأ فيه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وذلك قبل أن تبنى المدارس بحلب.
واعلم أن هذا الجامع كان قديما يدرس فيه على المذاهب الأربعة، ولكل مذهب مكان مخصوص، وبه المحدثون وأرباب الفتاوى ولهم معاليم على ذلك، وأمره منتظم إلى محنة تيمور، والآن قد زالت المسميات وبقيت الأسماء كما قال الأول:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومهبط وحي مقفر العرصات
قال ابن شداد: زاويتان بالجامع المذكور وقفهما العادل نور الدين لتدريس مذهب مالك وأحمد، وزاوية بالجامع لتدريس الحديث وقفها العادل نور الدين، وإنما أغفل المذهبين لأنهما كان يدرس فيهما قبل نور الدين. وقرأت بخط الصاحب ما لفظه إبراهيم بن
__________
(1) ويروى:
فبذا الجامع سرو ... يتباهى من تباهى(2/71)
عيسى الفقيه المالكي المغربي يلقب بالحجة، فقيه حسن فاضل عارف بالأصول ومذهب مالك، قدم علينا حلب قبل الستمائة وولي التدريس بزاوية المالكية بالمسجد الجامع ودام يدرس بها مذهب مالك إلى أن توفي بعد الأربعين والستمائة بحلب.
آثار نور الدين فيه:
قال في الدر المنتخب في الكلام على المسجد الجامع: لما كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة في أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي أحرقته الإسماعيلية واحترقت الأسواق التي حوله، فاجتهد نور الدين في عمارته وقطع الأعمدة الصفر من بعادين ونقل إليه عمد مسجد قنسرين، لأن العمد الرخام التي كانت فيه كانت قد تفطرت وتنخرت من حريق النار وسقطت، وكانت قواعد العمد في صحن الجامع مع شيء من الرؤوس وهي في أرضه، فجمعت وبني بعضها فوق بعض في الغربية التي فيه، وكان النصف القبلي من الشرقية التي في قبلي الجامع الآن الملاصقة لسوق البز عن يمين الداخل من الباب القبلي سوقا موقوفا على الجامع، ولم يكن المسجد على التربيع فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمن بن محمود الغزنوي فأفتاه بجوازه، فنقض السوق وأضاقه إلى الجامع فاتسع به وحسن في مرأى العين ووقف عليه نور الدين أوقافا كثيرة.
نواب نور الدين بحلب وآثارهم:
قدمنا أن نور الدين محمود ملك دمشق سنة 549، ويظهر من خلال الحوادث أنه في سنة 553أو 554اتخذها دار ملكه ومقره، وكان يتردد إلى الشهباء وإلى هذه البلاد للغزو والنظر في شؤونها إلى حين وفاته، وكان ينوب عنه في الشهباء كما تراه في خلال الحوادث الأمير مجد الدين أبو بكر بن الداية وهو رضيعه وأكبر أمرائه، وهذا قد توفي في سنة خمس وستين وخمسمائة، وبعد وفاته قام بأمر النيابة بعده أخوه الأمير علي الملقب شمس الدين، ولما توفي الملك العادل نور الدين كان هو القابض على زمام الأمور بالشهباء، وكان والي القلعة جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي عتيق نور الدين.(2/72)
المدرسة المجدية الجوانية:
قال في الدر المنتخب: هذه المدرسة منسوبة إلى مجد الدين بن الداية وهي بالقرب من ضريح النبي بلوقيا بمحلة بزي، وقد خربت ولم يبق منها عين ولا أثر في سنة ست وثلاثين وتسعمائة.
المدرسة المجدية البرانية:
قال فيه: المدرسة المجدية البرانية منسوبة إليه أيضا، لكن دثرت بالكلية بحيث لم يبق لها عين ولا أثر، ولكن البقعة التي كانت بها تعرف الآن بالمجدية.
دار الحديث:
وقال فيه: ومن دور الحديث دار أنشأها مجد الدين بن الداية.
خانقاه:
وقال فيه: خانقاه بعرصة الفراتي أنشأها مجد الدين أبو بكر محمد بن الداية بن محمد بن توشتكين، وكانت وفاته سنة خمس وستين وخمسمائة.
خانقاه أيضا:
وقال فيه: خانقاه أنشأها الأمير مجد الدين بن الداية بمقام إبراهيم عليه السلام.
المدرسة الشاذبختية:
قال في الدر المنتخب: هذه المدرسة أنشأها الأمير جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي الأتابكي، كان نائبا عن نور الدين محمود بحلب، وأول من درس بها موفق الدين أبو الثناء محمود بن النحاس، ثم عمر بن العديم. قال ابن الشحنة: ولم يزل المدرسون ينتقلون بها إلى أن اتصلت إلى سيدي الوالد ومن بعده إليّ بورود توقيع شريف باسمي بعرض الأمير سيف الدين قصروه نائب حلب، ولم تزل بيدي حتى نزلت عنها لولديّ أبي اليمن محمد وأبي محمد عبد البر مع ما نزلت لهما عنه من الوظائف بحلب عند استقرائي (1) في قضاء الديار المصرية اه.
__________
(1) هكذا في الأصل والصواب: استقراري.(2/73)
أقول: موقع هذه المدرسة في وسط السوق المعروف بسوق الزرب [محرف عن الضرب] وهو يبتدىء من آخر سوق العبي ويخرج منه إلى تجاه القلعة ومكتوب على بابها:
1 - بسم الله الرحمن الرحيم وقف هذه المدرسة على أصحاب الإمام
2 - الأعظم سراج الأمة أبي حنيفة رضي الله عنه في أيام
3 - الملك الظاهر غازي بن يوسف عز نصره العبد الفقير إلى رحمة
4 - ربه شاذبخت عتيق الملك العادل محمود بن زنكي في سنة تسع وثمانين وخمسمائة
وفي شمالي المدرسة حجرة كبيرة في وسطها ضريح يقول الناس إنه قبر رجل اسمه الشيخ معروف، وقد اشتهرت هذه المدرسة الآن باسمه وهو عندنا غير معروف، ولهذه الحجرة نافذة كبيرة مطلة على السوق كتب في أعلاها ما كتب على الباب، ولها من الأوقاف خمس حوانيت في نفس السوق ونصف دار في محلة ساحتبزه، وقد أخرج المتولي على المدرسة محمد رضا الخواجكي حانوتين من المدرسة من إيوانها، وأخبرني أن مجموع ريع هذه الحوانيت مع نصف الدار أربعين ليرة عثمانية ذهبا، وهو يعمر الآن حجرتين صغيرتين عن يسار القبلية وحجرة كبيرة عن يمينها.
ومحراب القبلية بديع جدا وفيه عمودان من الرخام الأبيض، وهو يقارب في هندسته المحراب الذي في مدرسة الفردوس والمحراب الذي في جامع البهرمية، وقد كتب على أعلى المحراب (عمل أبي الرجا وعبد الله ابني يحيى رحمه الله).
وقال في الدر المنتخب (في صحيفة 121): عود إلى ما ذكره ابن شداد من المدارس الحنفية التي بظاهر حلب: (المدرسة الشاذبختية) تقدم لنا اسم بانيها، وأول من درس بها موفق الدين أبو الثنا محمود بن النحاس باعتبار شرط الواقف أن من درس في الجوانية (التي قدمنا ذكرها) كان إليه التدريس في البرانية، إلا أن يرى الواقف أن يفرق بينهما، ثم انتقل تدريسها إلى كل مدرسي الجوانية المقدم ذكرهم. قلت: وقد دثرت هذه المدرسة ولم يبق لها عين ولا أثر وباع من كان ناظرا عليها من بني العديم حجارتها لعلم الدين ابن الجابي الوزير اه.(2/74)
ذكر ولاية الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما توفي نور الدين جلس ابنه الملك الصالح إسماعيل في الملك بعده، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق وأقام بها وأطاعه الناس في سائر بلاد الشام وصلاح الدين بمصر، وخطب له بها وضرب السكة باسمه فيها، وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم اه.
قال في الزبد والضرب: لما توفي نور الدين كان والي قلعة حلب جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي عتيق نور الدين وهو الذي بنى المدرسة لأصحاب أبي حنيفة بحلب، فوصله كتاب الطير بوفاة نور الدين، فأمر في الحال بضرب الدبابات والكوسات والبوقات، وأحضر المقدمين والأعيان والفقهاء والأمراء وقال: قد وصل كتاب الطائر يخبر أن مولانا الملك العادل قد ختن ولده وولاه العهد بعده ومشى بين يديه، فأظهروا السرور بذلك وحمدوا الله تعالى فقال: تحلفون لولده الملك الصالح كما أمر الملك العادل بأن حلب له وأن طاعتكم له وخدمتكم كما كانت لأبيه، فحلف الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم في ذلك اليوم ولم يترك أحدا منهم يزول من مكانه، ثم قام إلى مجلس آخر ولبس ثياب الحداد وخرج إليهم وقال: يحسن الله عزاكم في الملك العادل فإن الله تعالى قد نقله إلى جنات النعيم، فأظهروا الحزن والكآبة والأسف والبكاء. واستقر الملك الصالح وتوجه المؤيد ابن العميد وعثمان بن زردك وهمام الدين إلى حلب في الرابع والعشرين من شوال لإثبات ما في خزائن حلب وختمها بختم الملك الصالح.
ذكر ملك سيف الدين صاحب الموصل البلاد الجزرية
قال ابن الأثير: كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر لحجة الغزاة والمراد غيرها، فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين، فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين، فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة
فهرب جريدة، وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره، وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له، ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر فأعطيها، ثم أخذت منه، ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوم به ويقوته. وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة، وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين، فلم يتعرض إليها، وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه خوفا من أن يغلب على الأمراء كما سيأتي. ولما ملك سيف الدين الجزيرة قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلك فلم يجن ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعض الأمراء، قال له: الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع، فقال له أكبر أمرائه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار: قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود، فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله أمرا كان معفولا اه.(2/75)
قال ابن الأثير: كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر لحجة الغزاة والمراد غيرها، فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين، فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين، فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة
فهرب جريدة، وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره، وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له، ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر فأعطيها، ثم أخذت منه، ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوم به ويقوته. وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة، وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين، فلم يتعرض إليها، وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه خوفا من أن يغلب على الأمراء كما سيأتي. ولما ملك سيف الدين الجزيرة قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلك فلم يجن ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعض الأمراء، قال له: الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع، فقال له أكبر أمرائه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار: قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود، فرجع إلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله أمرا كان معفولا اه.
ذكر ما كان من الأمور بين صلاح الدين وبين أمراء دمشق بعد وفاة الملك العادل نور الدين
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما توفي نور الدين قال الأمراء منهم شمس الدين ابن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي وغيرهما من أكابر الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوابه، والمصلحة أن نشاوره فيما نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعة الملك الصالح ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا، لأن له مثل مصر، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح، فلم يوافق أغراضهم هذا القول
وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا، قال: فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يهنئه بالملك ويعزيه بأبيه، وأرسل دنانير مصرية وعليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده، فلما سار سيف الدين غازي ابن عمه قطب الدين وملك الديار الجزرية ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال كتب إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه، وكتب إلى الأمراء يقول: إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثلي ثقته بي ليسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمة مولاي وابن مولاي دوني فسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأقابل كلا منكم على سوء صنيعه وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه حتى أخذت بلاده، فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية، فإنه كان أكبر الأمراء النورية، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه، وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه، وأرسل إلى الأمراء يقول لهم: إن سيف الدين قد ملك إلى الفرات ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منه وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولا نقوى على منعه، فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.(2/76)
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما توفي نور الدين قال الأمراء منهم شمس الدين ابن المقدم وحسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي وغيرهما من أكابر الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين من مماليك نور الدين ونوابه، والمصلحة أن نشاوره فيما نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعة الملك الصالح ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا، لأن له مثل مصر، وربما أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح، فلم يوافق أغراضهم هذا القول
وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا، قال: فلم يمض غير قليل حتى وصلت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يهنئه بالملك ويعزيه بأبيه، وأرسل دنانير مصرية وعليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لوالده، فلما سار سيف الدين غازي ابن عمه قطب الدين وملك الديار الجزرية ولم يرسل من مع الملك الصالح من الأمراء إلى صلاح الدين ولا أعلموه الحال كتب إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدين بلاده ليحضر في خدمته ويمنعه، وكتب إلى الأمراء يقول: إن الملك العادل لو علم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق إليه مثلي ثقته بي ليسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمة مولاي وابن مولاي دوني فسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأقابل كلا منكم على سوء صنيعه وإهمال أمر الملك الصالح ومصالحه حتى أخذت بلاده، فأقام الصالح بدمشق ومعه جماعة من الأمراء لم يمكنوه من المسير إلى حلب لئلا يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية، فإنه كان أكبر الأمراء النورية، وإنما تأخر عن خدمة الملك الصالح بعد وفاة نور الدين لمرض لحقه، وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم وعسكرها معهم في حياة نور الدين وبعده، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع البلاد من سيف الدين ابن عمه، وأرسل إلى الأمراء يقول لهم: إن سيف الدين قد ملك إلى الفرات ولئن لم ترسلوا الملك الصالح إلى حلب حتى يجمع العساكر ويسترد ما أخذ منه وإلا عبر سيف الدين الفرات إلى حلب ولا نقوى على منعه، فلم يرسلوه ولا مكنوه من قصد حلب.
سنة 570
ذكر مجيء الملك الصالح إلى حلب وما جرى من الأمور
قدمنا أن سيف الدين غازي لما أتى إلى البلاد الجزرية كان معه من الأمراء سعد الدين كمشتكين وأن هذا لما بلغه وفاة نور الدين هرب جريدة.
قال في الروضتين: لما هرب سعد الدين سار إلى حلب وتمسك بخدمة شمس الدين ابن الداية وأخوته واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح، فسار إلى
دمشق فأخرج ابن المقدم عسكرا لينهبه فعاد منهزما إلى حلب، فأخلف عليه شمس الدين ابن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق وعلى نفسها تجني براقش، فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء وأعلمهم ما في قصد الملك الصالح إلى حلب من المصلحة، فأجابوا إلى تسييره فسار إليها، وكان مسيره في الثالث والعشرين من ذي الحجة، ودخل حلب يوم الجمعة ثاني محرم سنة سبعين وخمسمائة، ولما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.(2/77)
قال في الروضتين: لما هرب سعد الدين سار إلى حلب وتمسك بخدمة شمس الدين ابن الداية وأخوته واستقر بينهم وبينه أن يسير إلى دمشق ويحضر الملك الصالح، فسار إلى
دمشق فأخرج ابن المقدم عسكرا لينهبه فعاد منهزما إلى حلب، فأخلف عليه شمس الدين ابن الداية ما أخذ منه وجهزه وسيره إلى دمشق وعلى نفسها تجني براقش، فلما وصلها سعد الدين دخلها واجتمع بالملك الصالح والأمراء وأعلمهم ما في قصد الملك الصالح إلى حلب من المصلحة، فأجابوا إلى تسييره فسار إليها، وكان مسيره في الثالث والعشرين من ذي الحجة، ودخل حلب يوم الجمعة ثاني محرم سنة سبعين وخمسمائة، ولما وصلها وصعد إلى قلعتها قبض الخادم سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى ابن الخشاب رئيس حلب.
قال ابن الأثير: ولولا مرض شمس الدين لم يتمكن منه ولا جرى من ذلك الخلف والوهن شيء وكان أمر الله قدرا مقدورا، فاستبد سعد الدين بتدبير أمر الملك الصالح إسماعيل فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وكاتبوا سيف الدين ليسلموا إليه دمشق فلم يفعل، وخاف أن تكون مكيدة عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه من وراء ظهره فلا يمكنه الثبات، فراسل الملك الصالح وصالحه على إقرار ما أخذه بيده وبقي الملك الصالح بحلب وسعد الدين بين يديه يدبر أمره وتمكن منه تمكنا عظيما يقارب الحجر عليه.
ذكر سبب قبض الخادم سعد الدين على أبناء الداية والفتنة بين أهل السنّة والشيعة
قال في الروضتين وفي السيرة الصلاحية وفي المختار من الكواكب المضية: لما مات نور الدين كان متولي قلعة حلب شاذبخت الخادم النوري، وكان شمس الدين علي أخو مجد الدين بن الداية إليه أمور الجيش والديوان وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية، وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب، فلما بلغ عليا موت نور الدين حدثته نفسه بأمور، وصعد إلى القلعة وكان مقعدا واضطرب البلد وتحزب الناس بحلب، أهل السنة مع بني الداية والشيعة مع ابن الخشاب، ونهبت الشيعة دار قطب الدين بن العجمي ودار بهاء الدين بن أمين الملك، فأنزل الأمير علي بن محمد بن الداية والي القلعة جماعة من القلعيين وأمر أهل السنة أن يرجعوا إلى دار أبي الفضل بن الخشاب رئيس الشيعة، فرجعوا إليها ونهبوها واختفى ابن الخشاب، واتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق من الأمراء فنظروا في
المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق، فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها تجني براقش، وساروا إلى حلب في الثالث والعشرين من ذي الحجة وسار مع الملك الصالح سعد الدين كمشتكين وجرديك وإسماعيل الخازن وسابق الدين عثمان بن الداية، وقد وكلت الجماعة به وهو لا يعلم، وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم، وكان حسن ابن الداية قد رتب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم، فلما خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجل ليخدم هو وجماعة من أصحابه، فتقدم جرديك وأخذ بيده وشتمه وجذبه فأركبه خلفه رديفا، وقبض سابق الدين أخوه في الحال وتخطفت أصحابهم جميعهم واحتيط عليهم، وساروا مجدين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا عليها وقبضوا على شمس الدين علي بن الداية من فراشه وحمل إلى بين يدي الملك الصالح، فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه، فانشقت جبهته، ثم صفدوا جميعا في جب القلعة وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية وأخرجوا جميعا من القلعة.(2/78)
قال في الروضتين وفي السيرة الصلاحية وفي المختار من الكواكب المضية: لما مات نور الدين كان متولي قلعة حلب شاذبخت الخادم النوري، وكان شمس الدين علي أخو مجد الدين بن الداية إليه أمور الجيش والديوان وإلى أخيه بدر الدين حسن الشحنكية، وكان بيده ويد إخوته جميع المعاقل التي حول حلب، فلما بلغ عليا موت نور الدين حدثته نفسه بأمور، وصعد إلى القلعة وكان مقعدا واضطرب البلد وتحزب الناس بحلب، أهل السنة مع بني الداية والشيعة مع ابن الخشاب، ونهبت الشيعة دار قطب الدين بن العجمي ودار بهاء الدين بن أمين الملك، فأنزل الأمير علي بن محمد بن الداية والي القلعة جماعة من القلعيين وأمر أهل السنة أن يرجعوا إلى دار أبي الفضل بن الخشاب رئيس الشيعة، فرجعوا إليها ونهبوها واختفى ابن الخشاب، واتصلت هذه الأخبار بمن في دمشق من الأمراء فنظروا في
المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق، فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها تجني براقش، وساروا إلى حلب في الثالث والعشرين من ذي الحجة وسار مع الملك الصالح سعد الدين كمشتكين وجرديك وإسماعيل الخازن وسابق الدين عثمان بن الداية، وقد وكلت الجماعة به وهو لا يعلم، وساروا إلى حلب وخرج الناس إلى لقائهم، وكان حسن ابن الداية قد رتب في تلك الليلة جماعة من الحلبيين ليصبح ويصلبهم، فلما خرج إلى لقاء الملك الصالح ووقعت عينه عليه ترجل ليخدم هو وجماعة من أصحابه، فتقدم جرديك وأخذ بيده وشتمه وجذبه فأركبه خلفه رديفا، وقبض سابق الدين أخوه في الحال وتخطفت أصحابهم جميعهم واحتيط عليهم، وساروا مجدين حتى سبقوا الخبر إلى القلعة وصعدوا عليها وقبضوا على شمس الدين علي بن الداية من فراشه وحمل إلى بين يدي الملك الصالح، فاستقبله أحد مماليك نور الدين المعروف بالجفنية فركله برجله ركلة دحاه بها على وجهه، فانشقت جبهته، ثم صفدوا جميعا في جب القلعة وقبضوا على جميع الأجناد الذين حلفوا لأولاد الداية وأخرجوا جميعا من القلعة.
ذكر قتل أبي الفضل بن الخشاب
وقال في الروضتين في حوادث سنة 570: قال ابن أبي طي: ففي أولها ضمن القطب ابن العجمي أبو صالح وابن أمين الدولة لجرديك إن قتل ابن الخشاب ردوا عليه جميع ما نهب له في دار ابن أمين الدولة، فدخل على الملك الصالح وتحدث معه وأخذ خاتمه أمانا لابن الخشاب ونودي عليه فحضر وركب إلى القلعة في جمع عظيم، فصعد إليها والشيعة تحت القلعة وقوف، فقتل وعلق رأسه على أحد أبراج القلعة، ثم رمى برأسه إلى البلد وسكنت الفتنة وبقي الملك الصالح إسماعيل في القلعة.
ذكر مجيء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر إلى الشام وحمص وحماة وملكه لهذه البلاد، ثم مجيئه إلى حلب وحصره لها وعوده عنها
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما خاف من بدمشق من الأمراء أن يقصدهم
كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه، فلم يجبهم، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم.(2/79)
قال في الروضتين: قال ابن الأثير: لما خاف من بدمشق من الأمراء أن يقصدهم
كمشتكين والملك الصالح من حلب فيعاملهم بما عامل به بني الداية راسلوا سيف الدين غازي ليسلموها إليه، فلم يجبهم، فحملهم الخوف على أن راسلوا صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم.
فلما أتته الرسل لم يتوقف وسار إلى الشام فلما وصل دمشق سلمها إليه من بها من الأمراء ودخلها واستقر بها ولم يقطع خطبة الملك الصالح وإنما أظهر أني إنما جئت لأخدمه وأسترد له بلاده التي أخذها ابن عمه.
وقال القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية: لما تحقق السلطان صلاح الدين وفاة نور الدين وكان ولده طفلا لا ينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدو الله عن البلاد تجهز للخروج إلى الشام إذ هو أصل بلاد الإسلام، فتجهز بجمع كثير من العساكر وخلف في الديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها ونظم أمورها وسياستها وخرج هو سائرا مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها، واختلفت كلمة أصحاب الملك الصالح واختلت تدابيرهم وخاف بعضهم من بعض، وقبض البعض على جماعة منهم وكان ذلك سبب خوف الباقين من فعل ذلك وسببا لتنفير قلوب الناس عن الصبي، فاقتضى الحال أن كاتب شمس الدين بن المقدم السلطان ووصل مطالبا بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولى أمره وتربية حاله فيقوم له ما اعوج من أمره، فوصل دمشق ولم يشق عليه عصا ودخلها بالتسليم يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة سبعين وتسلم قلعتها، وكان أول دخوله إلى دار أبيه، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق في ذلك اليوم في الناس مالا طائلا وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيين وأظهروا الفرح به وصعد القلعة واستقر قدمه في ملكها اه.
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: لما اتصل بمن في حلب حصول دمشق للملك الناصر وميل الناس إليه وانعكافهم عليه خافوا وأشفقوا وأجمعوا على مراسلته، فحملوا قطب الدين ينال بن حسان رسالة أرعدوا فيها وأبرقوا وقالوا له: هذه السيوف التي ملكتك مصر بأيدينا والرماح التي حويت بها قصور المصريين على أكتافنا والرجال التي ردت عنك تلك العساكر هي تردك وعما تصديت له تصدك، وأنت فقد تعديت طورك وتجاوزت حدك وأنت أحد غلمان نور الدين وممن يجب عليه حفظه في ولده.
قال: ولما بلغ السلطان ورود ابن حسان عليه رسولا تلقاه بموكبه وبنفسه وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه، فلما فاه ابن حسان
بتلك الشقاشق الباطلة والتمويهات العاطلة لم يعره السلطان رحمه الله طرفا ولا سمعا ولا رد عليه خفضا ولا رفعا، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا وترك جوابه إحسانا وتجافيا، وجرى في ميدان أريحيته واستن في سنن مروّته وخاطبه بكلام لطيف رقيق وقال له: يا هذا اعلم أنني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام وتهذيب الأمور وحياطة الجمهور وسد الثغور وتربية ولد نور الدين وكف عادة المعتدين، فقال له ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك ونحن لا نطاوعك على ذلك، ودون ما ترومه خرط القتاد وفت الأكباد وإيتام الأولاد، فلم يلتفت السلطان لمقاله وتزايد في احتماله وأومأ إلى رجاله بإقامته من بين يديه بعد أن كاد يسطو عليه، ونادى في عساكره بالاستعداد لقصد الشام الأدنى [بلاد حلب] ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها، فوكل بها من يحصرها ورحل إلى جهة حماة، فلما وصل إلى الرستن خرج صاحبها عز الدين جرديك وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدين علي واتباع أمره، وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرستن وأقام عنده يوما وليلة، وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السفير بينه وبين من بحلب، فأجابه السلطان إلى مراده، وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة، قال: وسار جرديك إلى حلب وهو ظان أنه قد فعل شيئا وحصل عند من بحلب يدا، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر، فاتهمه الأمراء بالمخامرة وردوا مشورته وأشاروا بقبضه، فامتنع الملك الصالح ولج سعد الدين كمشتكين في القبض عليه، فقبض وثقّل بالحديد وأخذ بالعذاب الشديد وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية، قال: ولما قدم جرديك وشد في وسطه الحبل ودلي إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم وسبه ألأم سب وحلف بالله إن أنزل إليهم ليقتلنه، فامتنعوا من تدليته فأعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجب وصاح على حسن وشتمه وتوعده، فسكن حسن وأمسك وأنزل جرديك الجب فكان عند أولاد الداية وأسمعه حسن كل مكروه. قال: وكتب أبي [هو أبو طي وكان من كبار الشيعة] إلى حلب حين اتصل به قبض أولاد الداية وجرديك وكانوا تعصبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب قصيدة منها:(2/80)
قال: ولما بلغ السلطان ورود ابن حسان عليه رسولا تلقاه بموكبه وبنفسه وبالغ في إكرامه والإحسان إليه، ثم أحضره بعد ثالثة لسماع الرسالة منه، فلما فاه ابن حسان
بتلك الشقاشق الباطلة والتمويهات العاطلة لم يعره السلطان رحمه الله طرفا ولا سمعا ولا رد عليه خفضا ولا رفعا، بل ضرب عنه صفحا وتغاضيا وترك جوابه إحسانا وتجافيا، وجرى في ميدان أريحيته واستن في سنن مروّته وخاطبه بكلام لطيف رقيق وقال له: يا هذا اعلم أنني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام وتهذيب الأمور وحياطة الجمهور وسد الثغور وتربية ولد نور الدين وكف عادة المعتدين، فقال له ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك ونحن لا نطاوعك على ذلك، ودون ما ترومه خرط القتاد وفت الأكباد وإيتام الأولاد، فلم يلتفت السلطان لمقاله وتزايد في احتماله وأومأ إلى رجاله بإقامته من بين يديه بعد أن كاد يسطو عليه، ونادى في عساكره بالاستعداد لقصد الشام الأدنى [بلاد حلب] ورحل متوجها إلى حمص فتسلم البلد وقاتل القلعة ولم ير تضييع الزمان عليها، فوكل بها من يحصرها ورحل إلى جهة حماة، فلما وصل إلى الرستن خرج صاحبها عز الدين جرديك وأمر من فيها من العسكر بطاعة أخيه شمس الدين علي واتباع أمره، وسار جرديك حتى لقي السلطان واجتمع به بالرستن وأقام عنده يوما وليلة، وظهر من نتيجة اجتماعه به أنه سلم إليه حماة وسأله أن يكون السفير بينه وبين من بحلب، فأجابه السلطان إلى مراده، وسار إلى حلب وبقي أخو جرديك بقلعة حماة، قال: وسار جرديك إلى حلب وهو ظان أنه قد فعل شيئا وحصل عند من بحلب يدا، فاجتمع بالأمراء والملك الصالح وأشار عليهم بمصالحة الملك الناصر، فاتهمه الأمراء بالمخامرة وردوا مشورته وأشاروا بقبضه، فامتنع الملك الصالح ولج سعد الدين كمشتكين في القبض عليه، فقبض وثقّل بالحديد وأخذ بالعذاب الشديد وحمل إلى الجب الذي فيه أولاد الداية، قال: ولما قدم جرديك وشد في وسطه الحبل ودلي إلى الجب وأحس به أولاد الداية قام إليه منهم حسن وشتمه أقبح شتم وسبه ألأم سب وحلف بالله إن أنزل إليهم ليقتلنه، فامتنعوا من تدليته فأعلم سعد الدين كمشتكين فحضر إلى الجب وصاح على حسن وشتمه وتوعده، فسكن حسن وأمسك وأنزل جرديك الجب فكان عند أولاد الداية وأسمعه حسن كل مكروه. قال: وكتب أبي [هو أبو طي وكان من كبار الشيعة] إلى حلب حين اتصل به قبض أولاد الداية وجرديك وكانوا تعصبوا عليه حتى نفاه نور الدين من حلب قصيدة منها:
بنو فلانة أعوان الضلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك والقدر
وأصبحوا بعد عز الملك في صفد ... وقعر مظلمة يغشى لها البصر
وجرد الدهر في جرديك عزمته ... والدهر لا ملجأ منه ولا وزر
قال: ولم يزل السلطان مقيما على الرستن، ثم طال عليه الأمر فسار إلى جباب التركمان فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فرحل السلطان من ساعته عائدا إلى حماة وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه وأخبره بما جرى على أخيه ففعل، وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها وولاها مبارز الدين علي بن أبي الفوارس، وذلك مستهل جمادى الآخرة، وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث الشهر وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدي، وكان من بحلب يظنون أن السلطان لا يقدم عليهم فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت، فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق، فأرادوا تطييب قلوب العامة فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بنفسه أنهم الوزر والملجأ، فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق، فاجتمعوا حتى غص الميدان بالناس، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم: يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب وشابكم عندي بمنزلة الأخ وصغيركم عندي يحل محل الولد. وخنقته العبرة وسبقته الدمعة وعلا نحيبه ففتن الناس وصاحوا صيحة واحدة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدعاء والترحم على أبيه، وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يجهر بحي على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق وقدام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات وأن يكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني (1) وأن تكون العصبية مرتفعة والناموس وازعا لمن أراد الفتنة وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله، فأجيبوا إلى ذلك. قال ابن أبي طي: فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحي على خير العمل، وصلى أبي في الشرقية مسبلا وصلى وجوه الحلبيين خلفه، وذكروا في الأسواق وقدام الجنائز(2/81)
بنو فلانة أعوان الضلالة قد ... قضى بذلهم الأفلاك والقدر
وأصبحوا بعد عز الملك في صفد ... وقعر مظلمة يغشى لها البصر
وجرد الدهر في جرديك عزمته ... والدهر لا ملجأ منه ولا وزر
قال: ولم يزل السلطان مقيما على الرستن، ثم طال عليه الأمر فسار إلى جباب التركمان فلقيه أحد غلمان جرديك وأخبره بما جرى على جرديك من الاعتقال والقهر فرحل السلطان من ساعته عائدا إلى حماة وطلب من أخي جرديك تسليم حماة إليه وأخبره بما جرى على أخيه ففعل، وصعد السلطان إلى قلعة حماة واعتبر أحوالها وولاها مبارز الدين علي بن أبي الفوارس، وذلك مستهل جمادى الآخرة، وسار السلطان إلى حلب ونزل على أنف جبل جوشن فوق مشهد الدكة ثالث الشهر وامتدت عساكره إلى الخناقية وإلى السعدي، وكان من بحلب يظنون أن السلطان لا يقدم عليهم فلم يرعهم إلا وعساكره قد نازلت حلب وخيمه تضرب على جبل جوشن وأعلامه قد نشرت، فخافوا من الحلبيين أن يسلموا البلد كما فعل أهل دمشق، فأرادوا تطييب قلوب العامة فأشير على ابن نور الدين أن يجمعهم في الميدان ويقبل عليهم بنفسه ويخاطبهم بنفسه أنهم الوزر والملجأ، فأمر أن ينادى باجتماع الناس إلى ميدان باب العراق، فاجتمعوا حتى غص الميدان بالناس، فنزل الصالح من باب الدرجة وصعد من الخندق ووقف في رأس الميدان من الشمال وقال لهم: يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللاجىء إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب وشابكم عندي بمنزلة الأخ وصغيركم عندي يحل محل الولد. وخنقته العبرة وسبقته الدمعة وعلا نحيبه ففتن الناس وصاحوا صيحة واحدة ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك. وأقبلوا على الدعاء والترحم على أبيه، وكانوا قد اشترطوا على الملك الصالح أنه يعيد إليهم شرقية الجامع يصلون فيها على قاعدتهم القديمة وأن يجهر بحي على خير العمل والأذان والتذكير في الأسواق وقدام الجنائز بأسماء الأئمة الاثني عشر وأن يصلوا على أمواتهم خمس تكبيرات وأن يكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني (1) وأن تكون العصبية مرتفعة والناموس وازعا لمن أراد الفتنة وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان قد أبطله نور الدين رحمه الله، فأجيبوا إلى ذلك. قال ابن أبي طي: فأذن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحي على خير العمل، وصلى أبي في الشرقية مسبلا وصلى وجوه الحلبيين خلفه، وذكروا في الأسواق وقدام الجنائز
__________
(1) هو المدفون بجانب المشهد وقبره ظاهر ثمة.(2/82)
أسماء الأئمة وصلوا على الأموات خمس تكبيرات، وأذن للشريف في أن يكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه اه.
وقال في الروضتين: قال ابن أبي طي: وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية، وكان السلطان قد جعل أولاد الداية علالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام، وقصد الملك الصالح فامتنع كمشتكين فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد، وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لا تنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه، فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان وإرسال من يفتك به، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى، فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان فجاؤوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغرا لهم فقال لهم: يا ويلكم كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه، فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض، وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار فقتله وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة. قال: ولما فات من حلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحل السلطان عن حلب، وكان في أسر نور الدين منذ كسرة حارم، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين، فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن الزعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير. واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما فتكفل هذا القمص بأمر ولده المخدوم فعظم شأنه وزاد خطره، فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين وأخبره الرسول أن الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة فقال: لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا سائر إليهم، ثم أنهض قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية فغنموا غنيمة حسنة وعادوا، فقصد القمص فنكص راجعا إلى بلاده وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله. [ثم قال]: ثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز [في بغداد] برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا
طويلا رائقا فائقا يشتمل على تعداد ما للسلطان من الأيادي في جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن وبلادا جمة من أطراف المغرب وإقامة الخطبة العباسية بها [ثم ساق الكتاب].(2/83)
وقال في الروضتين: قال ابن أبي طي: وكانت هذه السنة شديدة البرد كثيرة الثلوج عظيمة الأمطار هائجة الأهوية، وكان السلطان قد جعل أولاد الداية علالة له وسببا يقطع به ألسنة من ينكر عليه الخروج إلى الشام، وقصد الملك الصالح فامتنع كمشتكين فاشتد حينئذ السلطان في قتال البلد، وكانت ليالي الجماعة عند الملك الصالح لا تنقضي إلا بنصب الحبائل للسلطان والفكرة في مخاتلته وإرسال المكروه إليه، فأجمعوا آراءهم على مراسلة سنان صاحب الحشيشية في إرصاد المتالف للسلطان وإرسال من يفتك به، وضمنوا له على ذلك أموالا جمة وعدة من القرى، فأرسل سنان جماعة من فتاك أصحابه لاغتيال السلطان فجاؤوا إلى جبل جوشن واختلطوا بالعسكر فعرفهم صاحب بوقبيس لأنه كان مثاغرا لهم فقال لهم: يا ويلكم كيف تجاسرتم على الوصول إلى هذا العسكر ومثلي فيه، فخافوا غائلته فوثبوا عليه فقتلوه في موضعه، وجاء قوم للدفع عنه فجرحوا بعضهم وقتلوا البعض، وبدر من الحشيشية أحدهم وبيده سكينة مشهورة ليقصد السلطان ويهجم عليه، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه طغريل أمير جاندار فقتله وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة. قال: ولما فات من حلب الغرض من السلطان بطريق الحشيشية كاتبوا قمص طرابلس وضمنوا له أشياء كثيرة متى رحل السلطان عن حلب، وكان في أسر نور الدين منذ كسرة حارم، وكان قد بذل في نفسه الأموال العظيمة فلم يقبلها نور الدين، فلما كان قبل موت نور الدين سعى له فخر الدين مسعود بن الزعفراني حتى باعه نور الدين بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار وفكاك ألف أسير. واتفق في أول هذه السنة موت ملك الفرنج صاحب القدس وطبرية وغيرهما فتكفل هذا القمص بأمر ولده المخدوم فعظم شأنه وزاد خطره، فأرسل إلى السلطان في أمر الحلبيين وأخبره الرسول أن الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة فقال: لست ممن يرهب بتألب الفرنج وها أنا سائر إليهم، ثم أنهض قطعة من جيشه وأمرهم بقصد أنطاكية فغنموا غنيمة حسنة وعادوا، فقصد القمص فنكص راجعا إلى بلاده وحصل الغرض من رحيل السلطان عن حلب ووصل إلى حمص فتسلم القلعة ورتب فيها واليا من قبله. [ثم قال]: ثم أرسل السلطان الخطيب شمس الدين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز [في بغداد] برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتابا
طويلا رائقا فائقا يشتمل على تعداد ما للسلطان من الأيادي في جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن وبلادا جمة من أطراف المغرب وإقامة الخطبة العباسية بها [ثم ساق الكتاب].
ثم قال: قال العماد الكاتب: ولما فرغ السلطان من حمص وحصنها سار إلى بعلبك فتسلمها في رابع شهر رمضان. قال ابن أبي طي: وكان بها خادم يقال له يمن، فلما شاهد كثرة عساكر السلطان اضطرب في أمره وراسل من بحلب على جناح طائر فلم يرجع إليه منهم خبر فطلب الأمان وسلم بعلبك إلى السلطان.
ذكر الحرب بين سيف الدين غازي صاحب الموصل وبين صلاح الدين وانهزام سيف الدين ومحاصرة صلاح الدين حلب والاتفاق عليها بينه وبين الملك الصالح إسماعيل نور الدين
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: لما تسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها عاد إلى حمص ونزل بها فاتصل به ورود عز الدين مسعود أخي سيف الدين صاحب الموصل نجدة للملك الصالح، وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل، وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشما خطيب حلب وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج، وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره، فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك، فاغتنم الحلبيون بعد السلطان عنهم فاحتشدوا
وخرجوا جميعا حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها، واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص وبلغ عز الدين، فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر، وراسل النائب بحماة علي بن أبي الفوارس يقول له: إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعث الفرقة، فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحسن له الصلح وتلطف في ذلك غاية التلطف، وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح فأجابهما السلطان إلى ما أرادا وتقرر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد ويقنع بدمشق وحدها ويكون نائبا للملك الصالح، فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها حمص وحماة وبعلبك طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح وطلب الرحبة وأعمالها، فقال: هي لابن عمي ولا سبيل إلى أخذها، فقام سعد الدين من بين يديه نافرا، وكان ذلك برأي أبي صالح بن العجمي لأنه كان معه فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل، وخرج إلى عز الدين مسعود وكان بعد نازلا على حماة وحدثه ما دار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلة من معه، وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خف من أصحابه، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعولوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره، فكاتب باقي أصحابه واستعد لحربهم وسار إلى أن نزل على قرون حماة وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره وراسلهم في التلطف للأحوال فلم ينجع فيهم حال، وكانوا في كل يوم يعزمون على لقائه وقتاله فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان حتى يقدم عليه عسكره، وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم ولولا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفرصة ونالوا منه الغرض.(2/84)
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: لما تسلم السلطان بعلبك وأزاح عللها عاد إلى حمص ونزل بها فاتصل به ورود عز الدين مسعود أخي سيف الدين صاحب الموصل نجدة للملك الصالح، وكان سبب وروده أن جماعة من أمراء حلب لما كان السلطان نازلا على حلب أجمعوا آراءهم وكاتبوا سيف الدين وألزموه نجدة ابن عمه، وأخبروه أن السلطان متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل، وأرسلوا بذلك أمين الدين هاشما خطيب حلب وقطب الدين ينال بن حسان وغرس الدين قليج، وكان سيف الدين منازلا لسنجار وفيها أخوه عماد الدين قد أظهر الانتماء إلى السلطان فأنجده السلطان بقطعة من جيشه فكسرهم ونهبهم عماد الدين بهم وبعسكره، فلما وصلت رسالة الحلبيين إلى سيف الدين صالح أخاه عماد الدين وحشد عسكره وأنفذ يجيبهم مع أخيه عز الدين مسعود، فورد حلب بعد رحيل السلطان عنها إلى بعلبك، فاغتنم الحلبيون بعد السلطان عنهم فاحتشدوا
وخرجوا جميعا حتى خيموا على حماة وأخذوا في حصارها، واتصل بالسلطان ذلك فرحل من بعلبك إلى حمص وبلغ عز الدين، فعاد عن حماة ونزل قريبا من جباب التركمان إلى جهة العاصي إلى قريب من شيزر، وراسل النائب بحماة علي بن أبي الفوارس يقول له: إنما وصلت في إصلاح الحال ووضع أوزار القتال، وسأله مكاتبة السلطان فيما يجمع الكلمة ويلم شعث الفرقة، فكتب ابن أبي الفوارس بذلك إلى السلطان وحسن له الصلح وتلطف في ذلك غاية التلطف، وقدم أبو صالح بن العجمي وسعد الدين كمشتكين لطلب الصلح فأجابهما السلطان إلى ما أرادا وتقرر على أنه يرد إليهم جميع الحصون والبلاد ويقنع بدمشق وحدها ويكون نائبا للملك الصالح، فلما عاين سعد الدين إجابة السلطان إلى الصلح والنزول عن جميع الحصون التي أخذها حمص وحماة وبعلبك طمع في جانب السلطان وتجاوز الحد في الاقتراح وطلب الرحبة وأعمالها، فقال: هي لابن عمي ولا سبيل إلى أخذها، فقام سعد الدين من بين يديه نافرا، وكان ذلك برأي أبي صالح بن العجمي لأنه كان معه فاجتهد السلطان به أن يرجع فلم يفعل، وخرج إلى عز الدين مسعود وكان بعد نازلا على حماة وحدثه ما دار بينه وبين السلطان وهون عليه أبو صالح أمر السلطان وأخبره بقلة من معه، وكان السلطان لما كوتب في أمر الصلح سار في خف من أصحابه، فلما علموا بذلك طمعوا في جانبه وعولوا على لقائه وانتهاز الفرصة في أمره، فكاتب باقي أصحابه واستعد لحربهم وسار إلى أن نزل على قرون حماة وأخذ في مدافعة الأيام حتى يقدم عليه باقي عسكره وراسلهم في التلطف للأحوال فلم ينجع فيهم حال، وكانوا في كل يوم يعزمون على لقائه وقتاله فيبطل عزيمتهم بمراسلة يفتعلها تسويفا للأوقات وتقطيعا للزمان حتى يقدم عليه عسكره، وكانت هيبته قد ملأت صدور القوم ولولا ذلك لكانوا قد ناهزوا الفرصة ونالوا منه الغرض.
قال: وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا ولم يكن بعد قد وصل للسلطان من عسكره أحد فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضري عسكر حلب والعسكر الموصلي على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم وكاد أصحاب السلطان يولون الأدبار، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام السعادة للسلطان، فإنه لو تأخر ساعة لانكسر عسكره، فوصل تقي الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين
بالحرب وقيامها، فلما رأوا الناس في الكر والضرب الهبر حملوا جميعا بعد أن افترقوا في الميمنة والميسرة فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم، وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه وحمل إليهم الأموال، وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره، وإلا فلو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة، فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرب منهم، ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم، وأمر السلطان أصحابه أن لا يوغلوا في طلبهم ولا يقتلوا من رأوه منهزما ولا يدففوا على جريح، ورحل حتى نزل في منزلتهم، ثم سار من وقته مجدا حتى نزل بمرج قرا حصار ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يقر الملك الصالح على ما في يده وما هو جار تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة، فلم يرض بذلك، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب، فرضي بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه قال: وكان في جملة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدو حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه وأن لا يغير الدعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه، وأن تكون السكة باسمه. ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق، فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام. وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي:(2/85)
قال: وفي يوم الأحد تاسع عشر رمضان التقوا ولم يكن بعد قد وصل للسلطان من عسكره أحد فتجمع أصحاب السلطان كردوسا واحدا وأخذوا يحملون يمنة ويسرة ويدافعون الأوقات رجاء أن يتصل بهم بعض العسكر. وضري عسكر حلب والعسكر الموصلي على أصحاب السلطان حين شاهدوا قلتهم واجتماعهم وكاد أصحاب السلطان يولون الأدبار، فوصل تقي الدين عمر عند الحاجة إليه لتمام السعادة للسلطان، فإنه لو تأخر ساعة لانكسر عسكره، فوصل تقي الدين في عسكر مصر وجماعة من الأمراء وهم غير عالمين
بالحرب وقيامها، فلما رأوا الناس في الكر والضرب الهبر حملوا جميعا بعد أن افترقوا في الميمنة والميسرة فصدموا عسكر الموصل صدمة ضعضعتهم، وكان السلطان في هذه المدة قد كاتب جماعة من عسكرهم واستفسدهم إليه وحمل إليهم الأموال، وهذا هو الذي أبطأ بهم إلى أن وصلت عساكره، وإلا فلو كان عسكر حلب نصح لم يقدر السلطان على الثبوت ساعة، فلما اشتد القتال لم ينصح الجماعة التي كاتبها السلطان بل كانوا مثبطين مخوفين لمن قرب منهم، ثم إنهم بعد ذلك انهزموا وتبعهم عسكر السلطان واستباحوا أموالهم وخيامهم، وأمر السلطان أصحابه أن لا يوغلوا في طلبهم ولا يقتلوا من رأوه منهزما ولا يدففوا على جريح، ورحل حتى نزل في منزلتهم، ثم سار من وقته مجدا حتى نزل بمرج قرا حصار ولم يزل هناك حتى عيّد عيد الفطر، فجاءته رسل الملك الصالح يسألونه المهادنة وأن يقر الملك الصالح على ما في يده وما هو جار تحت حكمه من الشام الأسفل إلى بلد حماة، فلم يرض بذلك، فجعلوا له مع حماة المعرة وكفر طاب، فرضي بذلك وحلف على نسخة رأيتها وعليها خطه قال: وكان في جملة اليمين أنه متى قصد الملك الصالح عدو حضر بنفسه وجيوشه ودافع عنه وأن لا يغير الدعاء له من جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان وولايته وولاية أصحابه، وأن تكون السكة باسمه. ولما حلف السلطان والملك الصالح وأمراؤه عاد السلطان قاصدا دمشق، فلما وصل إلى حماة وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام. وفي هذه الخلع يقول ابن سعدان الحلبي:
يا أيها الملك الغزير فضله ... لقد غدوت بالعلى مليا
كفى أمير المؤمنين شرفا ... أنك أصبحت له وليا
طارحك الود على شحط النوى ... فكنت ذاك الصادق الوفيا
أولاك من لباسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدميا
ناسبت الروض سنا وبهجة ... حتى حكته رونقا وريا(2/86)
يا أيها الملك الغزير فضله ... لقد غدوت بالعلى مليا
كفى أمير المؤمنين شرفا ... أنك أصبحت له وليا
طارحك الود على شحط النوى ... فكنت ذاك الصادق الوفيا
أولاك من لباسه زخرفة ... لم يولها قبلك آدميا
ناسبت الروض سنا وبهجة ... حتى حكته رونقا وريا
سنة 571
الحرب بين السلطان صلاح الدين وبين سيف الدين غازي صاحب الموصل وانهزام هذا منه واستيلاء الصلاح على منبج ثم أعزاز ثم محاصرته لحلب والصلح بينه وبين الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وإهداؤه أعزاز إلى ابنة نور الدين
قال في الروضتين في حوادث هذه السنة: قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين، فلما سمع المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم فحملوهم على النقض والنكث وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده ويكشف أيضا ما عنده، فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم وناولها إياه، فتأملها وأخفى سره وما أبداه، واطلع على ما اتفقوا عليه وردها إليه وقال: لعلها قد تبدلت، فعرف الرسول أنه قد غلط ولم يمكنه تلافي ما فرط. وقال السلطان: كيف حلف الحلبيون للمواصلة ومن شرط أيمانهم أنهم لا يعتمدون أمرا إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم؟ وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض والوفاء مرفوض، وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الربيع فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر يعلمه بذلك ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان. قلت: وفي كتاب فاضلي جليل إلى بغداد عن السلطان: يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح وخفضوا الجناح اقتصرنا بعد أن كانت البلاد في أيدينا على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارات إلى الكفر وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها والأيمان فبذلوها، وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلده وأمراء مشهده يمينا جعل الله فيها حكما وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين، فلما حضر وأحضر نسختها أومأ بيده ليخرجها فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين
مضمونها الاتفاق على حزبنا والتداعي إلى حربنا والتساعد على إزالة خطبنا والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا، وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى، فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا: هذه يمين عن الأيمان خارجة، وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وانصرف الرسول عن بابنا وقد نزهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم والنكث الذميم، وعلمنا أن الناقد بصير والآخذ قدير والمواقف الشريفة النبوية أعلاها الله مستخرجة الأوامر إلى الموصلي، إما بكتاب مؤكد بأن لا ينقض عهد الله من بعد ميثاقه وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه اه.(2/87)
قال في الروضتين في حوادث هذه السنة: قد سبق ذكر الصلح الذي جرى بين السلطان والحلبيين، فلما سمع المواصلة عتبوا عليهم ووبخوهم ونسبوهم إلى العجلة في ذلك وسلوك غير طريق الحزم فحملوهم على النقض والنكث وأنفذوا من أخذ عليهم المواثيق، وتوجه ذلك الرسول منهم إلى دمشق ليأخذ للمواصلة من السلطان عهده ويكشف أيضا ما عنده، فلما خلا به طالبه السلطان بنسخة الرأي فغلط وأخرج من كمه نسخة يمين الحلبيين لهم وناولها إياه، فتأملها وأخفى سره وما أبداه، واطلع على ما اتفقوا عليه وردها إليه وقال: لعلها قد تبدلت، فعرف الرسول أنه قد غلط ولم يمكنه تلافي ما فرط. وقال السلطان: كيف حلف الحلبيون للمواصلة ومن شرط أيمانهم أنهم لا يعتمدون أمرا إلا بمراجعتهم لنا واستئذانهم؟ وعرف من ذلك اليوم أن العهد منقوض والوفاء مرفوض، وشاع الخبر عن المواصلة بالخروج في الربيع فكتب السلطان إلى أخيه العادل وهو نائبه بمصر يعلمه بذلك ويأمره أن يأمر العساكر بالاستعداد للخروج في شعبان. قلت: وفي كتاب فاضلي جليل إلى بغداد عن السلطان: يطالع بأن الحلبيين والموصليين لما وضعوا السلاح وخفضوا الجناح اقتصرنا بعد أن كانت البلاد في أيدينا على استخدام عسكر الحلبيين في البيكارات إلى الكفر وعرضنا عليهم الأمانة فحملوها والأيمان فبذلوها، وسار رسولنا وحلف صاحب الموصل بمحضر من فقهاء بلده وأمراء مشهده يمينا جعل الله فيها حكما وضيق في نكثها المجال على من كان حنيفا مسلما، وعاد رسوله ليسمع منا اليمين، فلما حضر وأحضر نسختها أومأ بيده ليخرجها فأخرج نسخة يمين كانت بين الموصليين والحلبيين
مضمونها الاتفاق على حزبنا والتداعي إلى حربنا والتساعد على إزالة خطبنا والاستنفار لمن هو على بعدنا وقربنا، وقد حلف بها كمشتكين الخادم بحلب وجماعة معه يمينا نقضت الأولى، فرددنا اليمين إلى يمين الرسول وقلنا: هذه يمين عن الأيمان خارجة، وأردت عمرا وأراد الله خارجة. وانصرف الرسول عن بابنا وقد نزهنا الله أن يكون اسمه معرضا للحنث العظيم والنكث الذميم، وعلمنا أن الناقد بصير والآخذ قدير والمواقف الشريفة النبوية أعلاها الله مستخرجة الأوامر إلى الموصلي، إما بكتاب مؤكد بأن لا ينقض عهد الله من بعد ميثاقه وإما أن تكون الفسحة واقعة لنا في تضييق خناقه اه.
ثم قال ابن شداد [في السيرة الصلاحية]: لما وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة كان سيف الدين صاحب الموصل على سنجار يحاصر أخاه عماد الدين يقصد أخذها منه ودخوله في طاعته، وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السلطان صلاح الدين واعتصم بذلك، واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربه بالمنجنيق حتى انهدم من سوره ثلم كثيرة وأشرف على الأخذ، فبلغه وقوع هذه الوقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشد أمره ويقوى جأشه، فراسله في الصلح فصالحه، ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة وخيم على جانب الفرات الشامي، وأرسل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العود مرارا حتى استقر اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إليه وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد إليها وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد القلعة جريدة وأكل فيها خبزا ونزل وسار راحلا إلى تل السلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر والسلطان رحمه الله قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم وهم لا يشعرون أن في التأخير تدميرا، حتى وصل عسكر مصر فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك ووجهوا من كشف الأخبار فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان وتفرق عسكره يسقي، فلو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكن صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره واجتمعوا وتعبوا تعبية القتال، وأصبح القوم على مصاف، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوال فالتقى العسكران وتصادما وجرى قتال عظيم وانكسرت ميسرة
السلطان بابن زين الدين مظفر الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين، وحمل السلطان بنفسه فانكسر القوم وأسر منهم جمعا عظيما من كبار الأمراء منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح، فمن عليهم وأطلقهم وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده وأمسك هو رحمه الله عن تتبع العسكر، ونزل في بقية ذلك اليوم في خيم القوم فإنهم كانوا قد أبقوا الثقل على ما كان عليه والمطابخ قد عملت ففرق الإصطبلات ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لعز الدين فرخشاه اه.(2/88)
ثم قال ابن شداد [في السيرة الصلاحية]: لما وقعت الوقعة الأولى مع الحلبيين والمواصلة كان سيف الدين صاحب الموصل على سنجار يحاصر أخاه عماد الدين يقصد أخذها منه ودخوله في طاعته، وكان أخوه قد أظهر الانتماء إلى السلطان صلاح الدين واعتصم بذلك، واشتد سيف الدين في حصار المكان وضربه بالمنجنيق حتى انهدم من سوره ثلم كثيرة وأشرف على الأخذ، فبلغه وقوع هذه الوقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشد أمره ويقوى جأشه، فراسله في الصلح فصالحه، ثم سار من وقته إلى نصيبين واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار حتى أتى الفرات وعبر بالبيرة وخيم على جانب الفرات الشامي، وأرسل كمشتكين إليه وجرت مراجعات كثيرة عزم فيها على العود مرارا حتى استقر اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب وخرج الصالح إلى لقائه بنفسه فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إليه وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة فعاد إليها وسار هو حتى نزل بعين المباركة وأقام بها مدة وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد القلعة جريدة وأكل فيها خبزا ونزل وسار راحلا إلى تل السلطان ومعه جمع كبير وأهل ديار بكر والسلطان رحمه الله قد أنفذ في طلب العساكر من مصر وهو يرقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدابيرهم وهم لا يشعرون أن في التأخير تدميرا، حتى وصل عسكر مصر فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة فبلغهم أنه قد قارب عسكرهم فأخرجوا اليزك ووجهوا من كشف الأخبار فوجدوه قد وصل جريدة إلى جباب التركمان وتفرق عسكره يسقي، فلو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة، لكن صبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره واجتمعوا وتعبوا تعبية القتال، وأصبح القوم على مصاف، وذلك بكرة الخميس العاشر من شوال فالتقى العسكران وتصادما وجرى قتال عظيم وانكسرت ميسرة
السلطان بابن زين الدين مظفر الدين، فإنه كان في ميمنة سيف الدين، وحمل السلطان بنفسه فانكسر القوم وأسر منهم جمعا عظيما من كبار الأمراء منهم الأمير فخر الدين عبد المسيح، فمن عليهم وأطلقهم وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزانته وسار حتى عبر الفرات وعاد إلى بلاده وأمسك هو رحمه الله عن تتبع العسكر، ونزل في بقية ذلك اليوم في خيم القوم فإنهم كانوا قد أبقوا الثقل على ما كان عليه والمطابخ قد عملت ففرق الإصطبلات ووهب الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لعز الدين فرخشاه اه.
ثم نقل في الروضتين ما ذكره العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية في هذه الوقعة فقال:
قال العماد: رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين فعبرنا العاصي لله طائعين وإلى المسار مسارعين، فما عرجنا على البلد ولا انتظرنا ما وراءنا من مدد، ونزلنا الغسولة وحزنا حماة وخيمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم وما وراءهم من أمدادهم [سيأتيك ما فيه نقلا عن ابن الأثير] وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة وأنهم يزيدون في كل يوم قوة وشدة، وما كان اجتمع من عسكرنا سوى ألف فارس، فرتب السلطان عسكره وقوى بقوة قلبه قلبه. وأمد الله بحزب ملائكته حزبه. ولما وصل المواصلة إلى حلب أطلقوا من كان في الأسرى من ملوك الفرنج منهم أرناط إبرنس الكرك وجوسلين خال الملك وقرروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدرك، فلما عيدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تل السلطان فعبرنا العاصي عند شيزر ورتبنا العسكر وأعدنا الأثقال إلى حماة. ثم وصف الوقعة إلى أن قال: وركب السلطان أكتافهم فشل مئيهم وآلافهم حتى أخرجهم من خيامهم وأشرقهم بمائهم ووكل بسرداق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعداه، ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين ثم من عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم، ثم نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه وإصطبلاته ومطابخه ورواسي عزه ورواسخه فبسط في جميع ذلك أيدي الجود وفرقها على الحضور والشهود، وأبقى منها نصيبا للرسل والوفود. ورأى في بيت الشراب في السرادق الخاص طيورا من القماري والبلابل والهزار والببغا في الأقفاص، فاستدعى أحد الندماء مظفر الأقرع فآنسه وقال: خذ هذه الأقفاص واطلب بها الخلاص واذهب بها إلى سيف الدين فأوصلها إليه وسلم منا عليه وقل له: عد إلى اللعب بهذه
الطيور فهي سليمة لا توقعك في مثل هذا المحذور. وقال: ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب فلم يقف بعضهم على بعض وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض، فتبعجت خيولهم وتموجت سيولهم وما صدقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدين فإنه ركض في يومه من تل السلطان إلى بزاعة وجاوز في سوقه الاستطاعة وفرق وفارق الجماعة اه.(2/89)
قال العماد: رحلنا في شهر رمضان من دمشق مستأنفين فعبرنا العاصي لله طائعين وإلى المسار مسارعين، فما عرجنا على البلد ولا انتظرنا ما وراءنا من مدد، ونزلنا الغسولة وحزنا حماة وخيمنا في مرج بوقبيس. وجاء الخبر أنهم في عشرين ألف فارس سوى سوادهم وما وراءهم من أمدادهم [سيأتيك ما فيه نقلا عن ابن الأثير] وأنهم موعودون من الفرنج بالنجدة وأنهم يزيدون في كل يوم قوة وشدة، وما كان اجتمع من عسكرنا سوى ألف فارس، فرتب السلطان عسكره وقوى بقوة قلبه قلبه. وأمد الله بحزب ملائكته حزبه. ولما وصل المواصلة إلى حلب أطلقوا من كان في الأسرى من ملوك الفرنج منهم أرناط إبرنس الكرك وجوسلين خال الملك وقرروا معهم أن يدخلوا من مساعدتهم في الدرك، فلما عيدنا وصل إلى السلطان الخبر بوصولهم إلى تل السلطان فعبرنا العاصي عند شيزر ورتبنا العسكر وأعدنا الأثقال إلى حماة. ثم وصف الوقعة إلى أن قال: وركب السلطان أكتافهم فشل مئيهم وآلافهم حتى أخرجهم من خيامهم وأشرقهم بمائهم ووكل بسرداق سيف الدين غازي ومضاربه ابن أخيه فرخشاه، وركض وراءه حتى علم أنه تعداه، ووقع في الأسر جماعة من الأمراء المقدمين ثم من عليهم بالخلع بعد أن نقلهم إلى حماة وأطلقهم، ثم نزل في السرادق السيفي فتسلمه بخزائنه ومحاسنه وإصطبلاته ومطابخه ورواسي عزه ورواسخه فبسط في جميع ذلك أيدي الجود وفرقها على الحضور والشهود، وأبقى منها نصيبا للرسل والوفود. ورأى في بيت الشراب في السرادق الخاص طيورا من القماري والبلابل والهزار والببغا في الأقفاص، فاستدعى أحد الندماء مظفر الأقرع فآنسه وقال: خذ هذه الأقفاص واطلب بها الخلاص واذهب بها إلى سيف الدين فأوصلها إليه وسلم منا عليه وقل له: عد إلى اللعب بهذه
الطيور فهي سليمة لا توقعك في مثل هذا المحذور. وقال: ولما كسر القوم ولوا مدبرين إلى حلب فلم يقف بعضهم على بعض وظنوا أن العساكر وراءهم ركضا وراء ركض، فتبعجت خيولهم وتموجت سيولهم وما صدقوا كيف يصلون إلى حلب ويغلقون أبوابها ويسكنون اضطرابها. وأما سيف الدين فإنه ركض في يومه من تل السلطان إلى بزاعة وجاوز في سوقه الاستطاعة وفرق وفارق الجماعة اه.
وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة في أثناء الكلام على هذه الوقعة: سار صلاح الدين من دمشق إلى ناحية حلب ليلقى سيف الدين فالتقى العسكران بتل السلطان وكان سيف الدين قد سبقه، فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة. فأشار على سيف الدين جماعة بقتالهم وهم على هذا الحال، فقال زلفندار: ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة، غدا بكرة نأخذهم كلهم، فترك القتال إلى الغد، فلما أصبحوا اصطفوا للقتال فجعل زلفندار وهو المدبر للعسكر السيفي أعلامهم في وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها، فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد انهزم فلم يثبتوا وانهزموا لم يلو أخ على أخيه ولم يقتل بين الفريقين مع كثرتهم غير رجل واحد. ووصل سيف الدين إلى حلب فنزل وترك بها أخاه عز الدين مسعودا في جمع من العسكر ولم يقم هو وعبر الفرات وسار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو. (ثم قال): وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس، ولم يكن كذلك إنما كان على التحقيق يزيدون على ستة آلاف فارس أقل من خمسمائة، فإنني وقفت على جريدة العرض وترتيب العساكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلبا وجاليشية وغير ذلك، وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم رحمه الله، وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفا والحق أحق أن يتبع، ثم يا ليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس اه.
أقول: وفي قوله إنه لم يقتل سوى رجل واحد نظر لما سيأتيك عن ابن أبي طي.
وقال في الروضتين: قال ابن أبي طي في وصف هذه الوقعة: إن ميسرة سيف الدين انكسرت فتحرك إلى جانبها ليكون ردأ لها ومددا، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم
فانهزموا فحقق ما كان وهما، فسار على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعهم السلطان فهلك منهم جماعة قتلا وغرقا وأسر جماعة كثيرة من وجوههم وأمرائهم، ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف على الناس وترك التعرض لمن وجد منهم بقتل أو نهب وفرق ما وجد في خزائن سيف الدين وسير جواريه وحظاياه إلى حلب وأرسل إليه بالأقفاص وقال له: عد إلى اللعب بهذه الطيور فإنها ألذ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات. قال: واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنية وأن السلطان أرى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية، وكان أنفذ الأمراء الذين أسرهم إلى حماة ثم ردهم وخلع عليهم وأرسلهم إلى حلب.(2/90)
وقال في الروضتين: قال ابن أبي طي في وصف هذه الوقعة: إن ميسرة سيف الدين انكسرت فتحرك إلى جانبها ليكون ردأ لها ومددا، فظن باقي العسكر أنه قد انهزم
فانهزموا فحقق ما كان وهما، فسار على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعهم السلطان فهلك منهم جماعة قتلا وغرقا وأسر جماعة كثيرة من وجوههم وأمرائهم، ثم رجع وأمر أصحابه برفع السيف على الناس وترك التعرض لمن وجد منهم بقتل أو نهب وفرق ما وجد في خزائن سيف الدين وسير جواريه وحظاياه إلى حلب وأرسل إليه بالأقفاص وقال له: عد إلى اللعب بهذه الطيور فإنها ألذ من مقاساة الحرب. ووجد السلطان عسكر الموصل كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والعيدان والجنوك والمغنين والمغنيات. قال: واشتهر أنه كان مع سيف الدين أكثر من مائة مغنية وأن السلطان أرى ذلك لعساكره واستعاذ من هذه البلية، وكان أنفذ الأمراء الذين أسرهم إلى حماة ثم ردهم وخلع عليهم وأرسلهم إلى حلب.
ثم قال: قال ابن أبي طي: وأما سيف الدين فإنه امتدت به الهزيمة إلى بزاعة فأقام بها حتى تلاحق به من سلم من أصحابه، ثم خرج منها حتى قطع الفرات وصار إلى الموصل وصار باقي عسكر حلب إلى حلب في سابع شوال (تقدم عن ابن شداد أن الوقعة كانت في عاشر شوال فلعله كانت في ثالثه ووصول المنهزمين إلى حلب في سابعه وما في ابن شداد سهو من النساخ) في أقبح حال وأسوئه عراة حفاة فقراء يتلاومون على نقض الأيمان والعهود، وخاف أهل حلب من قصد السلطان لهم فأخذوا في الاستعداد للحصار، وجاء السلطان وخيم عليها أياما ثم قال: الرأي أن نقصد ما حولها من الحصون والمعاقل والقلاع فنفتحها فإنا إذا فعلنا ذلك ضعفت حلب وهان أمرها، فصوبوا رأيه فنزلوا على بزاعة فتسلمها بالأمان وولاها عز الدين خشترين الكردي، وكان ذلك في الثاني والعشرين من شوال، ثم فتح منبج في التاسع والعشرين منه، وكان فيها الأمير قطب الدين ينال بن حسان والسلطان لا ينال به إحسان بل كان في جر عسكر الموصل إليه أقوى سبب ولا يماذقه ولا يحفظ معه شرط أدب ويواجهه بما يكره، فسلم القلعة بما فيها وقوم ما كان سلمه بثلثمائة ألف دينار منها عين ونقود ومصوغ ومطبوع ومصنوع ومنسوج وغلات. وسامه على أن يخدم فأبى وأنف وكبرت نفسه فتعب سره وذهب ما جمعه، ومضى إلى صاحب الموصل فأقطعه الرقة فبقي فيها إلى أن أخذها السلطان منه مرة ثانية في سنة ثمان وسبعين.
ثم قال: قال ابن أبي طي: لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره فكان في جملة أمواله ثلثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار، فحان من السلطان التفاتة
فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف، فسأل عن هذا الاسم فقيل له: ولد يحبه ويوثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له، فقال السلطان: أنا يوسف وقد أخذت ما خبىء لي، فتعجب الناس من ذلك. قال: ولما فرغ من منبج نزل على أعزاز ونصب عليها عدة مجانيق وجد في القتال وبذل الأموال. قال العماد: ثم نزل السلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز وهو حصن منيع رفيع فحاصره ثمانية وثلاثين يوما، وكان السلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذين تعب نور الدين رحمه الله في أسرهم، فرأى السلطان أن يحتاط على المعاقل ويصونها صون العقائل، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكور. قال: وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقاما على عزاز فأخذوا على غرة وغفلة ما تعجلوه وعادوا فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارسا واحدا، فأمر السلطان بقطع يده بحكم جرده، فقلت للمأمور وذلك بمسمع من السلطان: تمهل ساعة لعله يقبل مني شفاعة، ثم قلت: هذا لا يحل وقدرك بل دينك عن هذا يجل، وما زلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم وعادت عاطفته ورحم وأمر بحبسه وسرني سلامة نفسه، ودخل ناصر الدين بن أسد الدين وقال: ما هذا الفشل والونى؟ وإن سكتم أنتم فما أسكت أنا، ودمدم وزمجر وغضب وزأر وقال: لم لا يقتل هذا الرجل ولماذا اعتقل، فوعظه السلطان واستعطفه وسكن غضبه وتعطفه وتلا عليه {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} وأطلق سراحه وتم في نجاته نجاحه اه.(2/91)
ثم قال: قال ابن أبي طي: لما ملك السلطان منبج وتسلم الحصن صعد إليه وجلس يستعرض أموال ابن حسان وذخائره فكان في جملة أمواله ثلثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة والذخائر ما يناهز ألفي ألف دينار، فحان من السلطان التفاتة
فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا يوسف، فسأل عن هذا الاسم فقيل له: ولد يحبه ويوثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له، فقال السلطان: أنا يوسف وقد أخذت ما خبىء لي، فتعجب الناس من ذلك. قال: ولما فرغ من منبج نزل على أعزاز ونصب عليها عدة مجانيق وجد في القتال وبذل الأموال. قال العماد: ثم نزل السلطان على حصن عزاز وقطع بين الحلبيين وبين الفرنج الجواز وهو حصن منيع رفيع فحاصره ثمانية وثلاثين يوما، وكان السلطان قد أشفق على هذا الحصن من موافقة الحلبيين للفرنج، فإن الغيظ حملهم على مهادنة الفرنج وإطلاق ملوكهم الذين تعب نور الدين رحمه الله في أسرهم، فرأى السلطان أن يحتاط على المعاقل ويصونها صون العقائل، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة بعد مدة حصارها المذكور. قال: وأغار عسكر حلب على عسكرنا في مدة مقاما على عزاز فأخذوا على غرة وغفلة ما تعجلوه وعادوا فركب أصحابنا في طلبهم فما أدركوا إلا فارسا واحدا، فأمر السلطان بقطع يده بحكم جرده، فقلت للمأمور وذلك بمسمع من السلطان: تمهل ساعة لعله يقبل مني شفاعة، ثم قلت: هذا لا يحل وقدرك بل دينك عن هذا يجل، وما زلت أكرر عليه الحديث حتى تبسم وعادت عاطفته ورحم وأمر بحبسه وسرني سلامة نفسه، ودخل ناصر الدين بن أسد الدين وقال: ما هذا الفشل والونى؟ وإن سكتم أنتم فما أسكت أنا، ودمدم وزمجر وغضب وزأر وقال: لم لا يقتل هذا الرجل ولماذا اعتقل، فوعظه السلطان واستعطفه وسكن غضبه وتعطفه وتلا عليه {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} وأطلق سراحه وتم في نجاته نجاحه اه.
ذكر وثوب الحشيشية على السلطان صلاح الدين مرة ثانية قصد اغتياله
قال في الروضتين: كانت الوثبة الأولى عليه وهو على حلب وقد تقدم، وهذه كانت حادي عشر ذي القعدة وهو على أعزاز يحاربها، وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات وكان السلطان يحضر فيها كل يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات وحض الرجال والحث على القتال. ثم قال: قال ابن أبي طي: لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بحلب بخروج ما في أيديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إلى عادتهم في نصب
الحبائل للسلطان فكاتبوا سنانا صاحب الحشيشية [هو من الإسماعيلية وكان مقامه في مصياث (1) بلدة صغيرة بالقرب من حماة وهي الآن من أعمالها ولا زال سكانها من الإسماعيلية] مرة ثانية ورغبوه بالأموال والمواعيد وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان، فأرسل لعنه الله من أصحابه فجاؤوا بزي الأجناد ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها، فبينما السلطان يوما جالسا في خيمة جاولي [وقد قدمنا أسباب جلوسه فيها] والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكين على رأسه، وكان رحمه الله محترزا خائفا من الحشيشية لا ينزع الزردية عن بدنه ولا صفائح الحديد عن رأسه، فلم تصنع حربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد، وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فمد يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه فتتعتع السلطان لذلك، ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه ووضعه على الأرض وركبه لينحره، وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت بعقولهم، وحضر في ذلك الوقت سيف الدين بازكوج وقيل إنه كان حاضرا فاخترط سيفه وضرب الحشيشي فقتله، وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان فاعترضه الأمير منكلان الكردي وضربه بالسيف وسبق الحشيشي إلى منكلان فجرحه في جبهته وقتله منكلان، ومات منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام، وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس، فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه وبقيت يد الباطني من ورائه لا يتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه وما زال يخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس، وخرج آخر من الحشيشية منهزما فلقيه الأمير شهاب الدين محمود خال السلطان فنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيف. وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه سائل على خده، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز وضرب حوله سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام ولا يدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت(2/92)
قال في الروضتين: كانت الوثبة الأولى عليه وهو على حلب وقد تقدم، وهذه كانت حادي عشر ذي القعدة وهو على أعزاز يحاربها، وكان للأمير جاولي الأسدي خيمة قريبة من المنجنيقات وكان السلطان يحضر فيها كل يوم لمشاهدة الآلات وترتيب المهمات وحض الرجال والحث على القتال. ثم قال: قال ابن أبي طي: لما فتح السلطان حصن بزاعة ومنبج أيقن من بحلب بخروج ما في أيديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إلى عادتهم في نصب
الحبائل للسلطان فكاتبوا سنانا صاحب الحشيشية [هو من الإسماعيلية وكان مقامه في مصياث (1) بلدة صغيرة بالقرب من حماة وهي الآن من أعمالها ولا زال سكانها من الإسماعيلية] مرة ثانية ورغبوه بالأموال والمواعيد وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان، فأرسل لعنه الله من أصحابه فجاؤوا بزي الأجناد ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها، فبينما السلطان يوما جالسا في خيمة جاولي [وقد قدمنا أسباب جلوسه فيها] والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكين على رأسه، وكان رحمه الله محترزا خائفا من الحشيشية لا ينزع الزردية عن بدنه ولا صفائح الحديد عن رأسه، فلم تصنع حربة الحشيشي شيئا لمكان صفائح الحديد، وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فمد يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه فتتعتع السلطان لذلك، ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه ووضعه على الأرض وركبه لينحره، وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت بعقولهم، وحضر في ذلك الوقت سيف الدين بازكوج وقيل إنه كان حاضرا فاخترط سيفه وضرب الحشيشي فقتله، وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان فاعترضه الأمير منكلان الكردي وضربه بالسيف وسبق الحشيشي إلى منكلان فجرحه في جبهته وقتله منكلان، ومات منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام، وجاء آخر من الباطنية فحصل في سهم الأمير علي بن أبي الفوارس، فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه وبقيت يد الباطني من ورائه لا يتمكن من ضربه، فصاح علي: اقتلوه واقتلوني معه، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه وما زال يخضخضه فيه حتى سقط ميتا ونجا ابن أبي الفوارس، وخرج آخر من الحشيشية منهزما فلقيه الأمير شهاب الدين محمود خال السلطان فنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطعوه بالسيف. وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه سائل على خده، وأخذ من ذلك الوقت في الاحتراس والاحتراز وضرب حوله سرادقه برجا من الخشب كان يجلس فيه وينام ولا يدخل عليه إلا من يعرفه، وبطلت
__________
(1) هكذا في الأصل ولعله خطأ مطبعي، إذ رسمها في معجم البلدان: مصياب، وقال: وبعضهم يقول مصياف.(2/93)
الحرب في ذلك اليوم وخاف الناس على السلطان واضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض، فألجأت الحال إلى ركوب السلطان ليشاهده الناس فركب حتى سكن العسكر وعاد إلى خيمته وأخذ في قتال عزاز فقاتلها مدة ثمانية وثلاثين يوما حتى عجز من كان فيها وسألوا الأمان، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة وصعد إليها وأصلح ما تهدم منها، ثم أقطعها لابن أخيه تقي الدين عمر. وكانت عزاز أولا للجفنية غلام نور الدين، فلما ملك السلطان منبج أخذها منه الملك الصالح وقواها لعله يحفظها من الملك الناصر فلم يبلغ ذلك، ولما فرغ السلطان من أمر عزاز حقد على من بحلب لما فعلوه من أمر الحشيشية، فسار حتى نزل على حلب خامس عشر ذي الحجة وضربت خيمته على رأس الياروقية فوق جبل جوشن (هي قرية الأنصاري) وجبى أموالها وأقطع ضياعها وضيق على أهلها ولم يفسح لعسكره في مقاتلتها بل كان يمنع أن يدخل إليها شيء أو يخرج منها أحد، وكان سعد الدين كمشتكين في حارم وكانت إقطاعه في يد نوابه وكان انتزعها من يد أولاد الداية بعد أن عصى نائبها. وكان سبب خروجه إليها أن السلطان لما نزل على أعزاز خاف كمشتكين أن ينتقل منها إلى حارم فخرج إليها، فلما نزل السلطان على حلب ندم كمشتكين على كونه خارجا في حارم وخاف أن يجري بين السلطان وبين الأمراء الحلبيين صلح فلا يكون فيه ذكر ولا اسم، فراسل السلطان يتلطف معه الحال ويقول لو فسح لي في الدخول إلى حلب لسارعت في الخدمة وأصلحت الأمر على ما يرومه السلطان. وراسل أيضا الملك الصالح والأمراء بحلب يقول لهم: قد حصلت خارجا وقد بلغني أمور ولا بد من طلبي من الملك الناصر ليأذن لي في الصيرورة إليكم فإن الذي قد حصل عندي لا يمكنني الكلام فيه، فراسل الملك الصالح في الإذن له في الدخول إلى حلب فأذنوا له وطلبوا الرهائن منه، فأنفذ السلطان إليهم رهينة شمس الدين بن أبي المضاء الخطيب والعماد كاتب الإنشاء، وأنفذوا من حلب إلى السلطان رهينة نصر الدين بن زنكي. وحكى العماد الكاتب، قال:
لما حصلنا داخل حلب أخذنا برأي العدل ابن العجمي وجعلنا في بيت ومنع منا غلماننا ولم يحضر لنا طعام ولا مصباح وبتنا في أنكد عيش، وفي تلك الليلة دخل كمشتكين إلى حلب، فلما أصبحوا أحضرت أنا وابن أبي المضاء إلى مجلس الملك الصالح وكان عنده ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود وجماعة من أرباب الدولة وكان صاحب الكلام العدل ابن العجمي فأخذ يتحدث بلثغته ويترجم بلكنته ويضرب صفحا عني ويوهم الجماعة أني وأني.(2/94)
وما درى الغمر بأني امرؤ ... أميّز التبر من الترب
قد عارك الأهوال حتى غدا ... بين الورى كالصارم العضب
قد راضه الدهر فلو أمه ... بخطبه ما ريع للخطب
قال: وعرضت نسخة اليمين علينا وصرفنا ولم يلتفت إلينا، فلما صارا إلى السلطان وأخبراه بما جرى في حقهما من الهوان علم أن ذلك كان حيلة عليه حتى دخل كمشتكين إلى حلب فأطلق نصرة الدين وقاتل أهل حلب، ولم يزل منازلا لحلب إلى انسلاخ سنة إحدى وسبعين.
سنة 572
إبقاء حلب وأعمالها للملك الصالح
قال في الروضتين: دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة والسلطان مقيم بظاهر حلب فعرف أهلها أن العقوبة أليمة والعاقبة وخيمة، فدخلوا من باب التذلل ولاذوا بالتوسل وخاطبوا في التفضل وطلبوا الصلح فأجابهم وعفا وعف وكفى وكف، وأبقى للملك الصالح حلب وأعمالها واستقرى كل عثرة لهم وأقالها وأراد له الإعزاز فرد له عزاز. وقال ابن شداد:
أخرجوا إليه ابنة لنور الدين صغيرة سألت منه عزاز فوهبها إياها.
قال ابن أبي طي: لما تم الصلح وانعقدت الأيمان عول الملك الصالح على مراسلة السلطان وطلب عزاز منه فأشار الأمراء عليه بإنفاذ أخته وكانت صغيرة، فأخرجت إليه فأكرمها السلطان إكراما عظيما وقدم لها أشياء كثيرة وأطلق لها قلعة عزاز وجميع ما فيها من مال وسلاح وميرة وغير ذلك.
وقال غيره: بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه فقام قائما وقبل الأرض وبكى على نور الدين، فسألت أن يرد عليهم عزاز فقال: سمعا وطاعة، فأعطاها إياها وقدم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا، واتفق مع الملك الصالح أن له من حماة وما فتحه إلى مصر وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية (وقد تقدم ذكر حبسهم في جب القلعة) قال العماد: وحلفوا له على كل ما شرطه واعتذروا عما أسخطه، وكان الصلح عاما لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر، وكتب في
نسخة اليمين أنه إذا غدر منهم واحد وخالف ولم يف بما عليه حالف كان الباقون عليه يدا واحدة وعزيمة متعاقدة حتى يفيء إلى الوفاء والوفاق ويرجع إلى مرافقة الرفاق اه. ثم توجه السلطان صلاح الدين من حلب إلى حصن مصياث وبعد أن أخذ ثأره من سنان الإسماعيلي توجه إلى دمشق ثم إلى مصر. وبسط في الروضتين الكلام في ذلك.(2/95)
وقال غيره: بعث الملك الصالح أخته الخاتون بنت نور الدين إلى صلاح الدين في الليل فدخلت عليه فقام قائما وقبل الأرض وبكى على نور الدين، فسألت أن يرد عليهم عزاز فقال: سمعا وطاعة، فأعطاها إياها وقدم لها من الجواهر والتحف والمال شيئا كثيرا، واتفق مع الملك الصالح أن له من حماة وما فتحه إلى مصر وأن يطلق الملك الصالح أولاد الداية (وقد تقدم ذكر حبسهم في جب القلعة) قال العماد: وحلفوا له على كل ما شرطه واعتذروا عما أسخطه، وكان الصلح عاما لهم وللمواصلة وأهل ديار بكر، وكتب في
نسخة اليمين أنه إذا غدر منهم واحد وخالف ولم يف بما عليه حالف كان الباقون عليه يدا واحدة وعزيمة متعاقدة حتى يفيء إلى الوفاء والوفاق ويرجع إلى مرافقة الرفاق اه. ثم توجه السلطان صلاح الدين من حلب إلى حصن مصياث وبعد أن أخذ ثأره من سنان الإسماعيلي توجه إلى دمشق ثم إلى مصر. وبسط في الروضتين الكلام في ذلك.
سنة 573
ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم
قال ابن الأثير: في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين وكان المتولي لأمر دولته الحاكم فيها. وسبب قبضه أنه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي، وكان مقدما عند نور الدين، فلما مات نور الدين تقدم أيضا في دولة ولده الملك الصالح وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة أتباعه بحلب، وصار كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى أبي صالح وقووا جنانه وكثروا سواده، وكان عنده إقدام وجرأة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وأمره، فبينما هو في بعض الأيام في الجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيدا، وتمكن بعده سعد الدين وقوي حاله، فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين وقالوا: هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه، وذكروا ذلك للملك الصالح ونسبوه إلى العجز وأنه ليس له حكم وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره وقتل وزيره، ولم يزالوا به حتى قبض عليه، وكانت حارم لسعد الدين قد أقطعه إياها الملك الصالح، فامتنع من بها بعد قبضه وتحصنوا فيها، فسير سعد الدين إليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح، فأمرهم بذلك فامتنعوا فعذب كمشتكين وأصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان، فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى على ما نذكره ظنا منهم أنهم لا ناصر لهم وأن الملك الصالح صبي قليل العسكر وصلاح الدين بمصر، فاغتنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر ونصبوا عليها المنجنيقات والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالا وقال لهم: إن صلاح الدين واصل إلى الشام وربما يسلم القلعة من بها إليه، فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح
جيشا فحصروها، وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج وصاروا كأنهم طلائع، وكان قد قتل من أهلها وجرح كثير، فسلموا القلعة إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك اه.(2/96)
قال ابن الأثير: في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين وكان المتولي لأمر دولته الحاكم فيها. وسبب قبضه أنه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي، وكان مقدما عند نور الدين، فلما مات نور الدين تقدم أيضا في دولة ولده الملك الصالح وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة أتباعه بحلب، وصار كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى أبي صالح وقووا جنانه وكثروا سواده، وكان عنده إقدام وجرأة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وأمره، فبينما هو في بعض الأيام في الجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيدا، وتمكن بعده سعد الدين وقوي حاله، فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين وقالوا: هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه، وذكروا ذلك للملك الصالح ونسبوه إلى العجز وأنه ليس له حكم وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره وقتل وزيره، ولم يزالوا به حتى قبض عليه، وكانت حارم لسعد الدين قد أقطعه إياها الملك الصالح، فامتنع من بها بعد قبضه وتحصنوا فيها، فسير سعد الدين إليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح، فأمرهم بذلك فامتنعوا فعذب كمشتكين وأصحابه يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان، فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى على ما نذكره ظنا منهم أنهم لا ناصر لهم وأن الملك الصالح صبي قليل العسكر وصلاح الدين بمصر، فاغتنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر ونصبوا عليها المنجنيقات والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالا وقال لهم: إن صلاح الدين واصل إلى الشام وربما يسلم القلعة من بها إليه، فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح
جيشا فحصروها، وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج وصاروا كأنهم طلائع، وكان قد قتل من أهلها وجرح كثير، فسلموا القلعة إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك اه.
سنة 575
ذكر محاصرة قليج أرسلان لرعبان ثم انهزامه من تقي الدين عمر
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: اتصل بالسلطان صلاح الدين أن قليج أرسلان قد طمع في أخذ رعبان وكيسون، فلما دخل دمشق وصله رسوله يطلبهما منه ويدعي أن نور الدين بن زنكي اغتصبهما منه وأن الملك الصالح قد أنعم عليه، فاغتاظ السلطان وزجر الرسول وتوعد صاحبه، فعاد الرسول وأخبر قليج أرسلان، فغضب وسير عسكرا إلى رعبان فحاصرها، وسمع السلطان فندب تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس فسار، فلما قارب رعبان أخذ معه جماعة من أصحابه مقدار مائتي فارس، وتقدم عسكره وسار حتى أشرف على عسكر قليج أرسلان ليلا فرآهم وقد سدوا الفضاء وهم قارون آمنون وادعون، فقال تقي الدين لأصحابه: هؤلاء على ما ترون من الطمأنينة والأمن والغفلة وقد رأيت أن نحمل الساعة فيهم بعد أن نتفرق في جوانب عسكرهم ونصيح فيهم فإنهم لا يثبتون لنا، فأجابوه إلى ذلك فأنفذ واحدا من أصحابه إلى باقي عسكره وأمرهم أن يتفرقوا أطلابا وأن يجعل في كل طلب قطعة من الكوسات والبوقات، فإذا سمعوا الضجة ضربوا بكوساتهم وبوقاتهم وجدوا في السير حتى يلحقوا به، ففعلوا ما أمرهم، ثم إنه حمل في عسكر قليج أرسلان وخرج أصحابه في جوانبه، وكان عدة عسكر قليج أرسلان ثلاثة آلاف فارس، فلما سمعوا الضجة وحس الكوسات والبوقات وشدة وقع حوافر الخيل وجلبة الرجال واصطكاك أجرام الحديد هالهم ذلك وظنوا أن قد فوجئوا بعالم عظيم، فلم يكن لهم إلا أن جالوا في كواثب خيولهم عريا وطلبوا النجاة وأخذتهم السيوف فتركوا خيامهم وأثقالهم بحالها، وأكثر تقي الدين فيهم القتل والأسر وحصل على جميع ما تركوه، فلما أصبح جمع المأسورين ومن عليهم بأموالهم وكراعهم وسرحهم إلى بلادهم اه.(2/97)
وقال في الروضتين: قال ابن أبي طي: وفيها أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أهلها بذلك، وكانت إحدى الجوائح التي أصابت حلب وأهلها اه.
سنة 576
ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني
قال ابن الأثير: في هذه السنة قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قليج أرسلان، وسبب ذلك أن ابن ليون الأرمني كان قد استمال قوما من التركمان وبذل لهم الأموال فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده، وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة والدخول إليها صعب لأنها مضايق وجبال وعرة، ثم غدر بهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله. ونزل صلاح الدين على النهر الأسود وبث الغارات على بلاده فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبل أن يؤخذ، فخربه وأحرقه، فسمع صلاح الدين بذلك فأسرع السير إليه فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات ففتحها وانتفع المسلمون بما غنموه، فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق من عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، واستقر الحال وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة اه.
سنة 577
ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين
قال في الروضتين: قال ابن شداد: كان مرضه بالقولنج وكان أول مرضه في تاسع رجب، وفي الثالث والعشرين منه أغلق باب قلعة حلب لشدة مرضه واستدعى الأمراء واحدا واحدا واستحلفوا لعز الدين صاحب الموصل، وفي الخامس والعشرين منه توفي رحمه الله وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس.(2/98)
وقال ابن أبي طي: كان سبب موته أن علم الدين سليمان بن جندر سقاه سما في عنقود عنب وهو في الصيد، وقيل الذي سقاه ياقوت الأسدي في شراب، وقيل إنه أطعمه خشكنانكة وهو في الصيد. قال: ودفن بالمقام الكبير الذي في القلعة وحزن الناس له حزنا عظيما، وكان من أحسن الناس صورة وأليقهم أعطافا. قلت: وبلغني أنه كان يقال إن موت الملك الصالح صغيرا كان من كرامات نور الدين رحمه الله فإنه سأل الله تعالى أن لا يعذب شيئا من أجزائه بالنار وولده جزؤه فمات قبل أن يطول عمره على أحسن سيرة وحالة رحمهما الله.
قال ابن الأثير: ولم يبلغ عشرين سنة، ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء خمرا تداويا بها فقال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء. وكان عنده علاء الدين الكاساني [صاحب كتاب بدائع الصنائع] الفقيه الحنفي بمنزلة كبيرة يعتقد فيه اعتقادا حسنا ويكرمه، فاستفتاه فأفتاه بجواز شربها، فقال له: يا علاء الدين إن الله سبحانه وتعالى قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا والله، قال: والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه علي. قلت (القائل صاحب الروضتين): يحتمل أنه ذكر له أن من العلماء من ذهب إلى جواز ذلك لا أنه كان يرى ذلك فإن مذهبه بخلافه والله أعلم.
ثم قال ابن الأثير: فلما أيس من نفسه أحضر الأمراء كلهم وسائر الأجناد واستحلفهم لابن عمه أتابك عز الدين وأمرهم بتسليم مملكته جميعها إليه، فقال له بعضهم: إن ابن عمك عز الدين له الموصل وغيرها من البلاد من همدان إلى الفرات فلو أوصيت بحلب للمولى عماد الدين ابن عمك لكان أحسن، ثم هو تربية والدك وزوج أختك وهو أيضا عديم المثل في الشجاعة والعقل والتدبير وشرف الأعراق وطهارة الأخلاق والخلال التي تفرد بها، فقال: إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم تغلب صلاح الدين على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي ومعي فإن سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها من صلاح الدين، فإن ملكها صلاح الدين فلا يبقى لأهلنا معه مقام، وإذا سلمتها إلى عز الدين أمكنه أن يحفظها لكثرة عساكره وبلاده وأمواله، فاستحسن الحاضرون قوله وعلموا صحته وعجبوا من جودة رأيه مع شدة مرضه ومن أشبه أباه فما ظلم.(2/99)
وفي مختصر تاريخ الذهبي. كان تدبير أمر حلب إلى والدة الملك الصالح وإلى شاذبخت وخالد بن القيسراني. ثم إن الصالح مرض بالقولنج جمعتين ومات في رجب وتأسفوا عليه وأقاموا عليه المآتم وبالغوا في النوح وكان أمرا منكرا. وكان دينا عفيفا عادلا متحببا إلى العامة متبعا للسنة ولم يبلغ عشرين سنة. ذكر العفيف بن سكرة اليهودي وكان يطبه قال:
قلت له: يا مولانا والله شفاؤك في قدح خمر وأنا أحمله إليك سرا فلا تعلم والدتك ولا اللالا ولا أحد، فقال: كنت أظنك عاقلا، نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، وتقول لا أنت. هذا وما يؤمنني أن أشربه وأموت وهو في جوفي اه.
زاد في الزبد والضرب بعد العبارة المتقدمة: والله لو قال ملك من الملائكة إن شفاءك في الخمر لما استعملته.
قال ابن العديم في ترجمته: كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وكان رحمه الله قد ربي أحسن تربية، وكان دينا عفيفا ورعا كريما محبوبا إلى قلوب الرعية لعدله وحسن طريقته ولين جانبه لهم. قال لي والدي رحمه الله: إن اليوم الذي مات فيه انقلبت المدينة بالبكاء والضجيج ولم ير إلا باك عليه مصاب به. قال لي: ودفن بقلعة حلب ولم يزل قبره بها إلى أن ملك الملك الناصر حلب وتسلم قلعتها فحول قبره إلى الخانقاه التي أنشأتها والدته تحت القلعة. قال: ولما حول ظهر من الناس من البكاء والتأسف كيوم مات. قال: ووجد من قبره عند نبشه شبيه برائحة المسك رحمه الله. وحكى لي ذلك أيضا غير والدي. وكان رحمه الله على صغر سنه كثير الاتباع للسنة والنظر في العواقب، توفي وله من العمر ثمان عشرة سنة وقيل تسع عشرة سنة.
قال في الزبد والضرب نقلا عن ابن شداد: إنها أنشأت الخانقاه المذكورة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وإنها بنت إلى جانبها تربة دفنت فيها ولدها الملك الصالح.
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة بعد أن ذكر نظير ما تقدم: وجعلت أم الملك الصالح بها قراء عميانا ووقفت عليها البستان المعروف بالبقعة غربي حلب.(2/100)
ولاية عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر من شعبان إلى شوال من سنة 577 ثم ولاية عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي في المحرم من سنة 578
قال في الروضتين: لما توفي الملك الصالح أرسل دزدار حلب وهو شاذبخت وسائر الأمراء إلى أتابك عز الدين يدعونه إلى حلب ليسلموها إليه، فورد الخبر ومجاهد الدين قايماز قد سار إلى ماردين لمهم عرض فلقي القاصدين عندها فأخبروه الخبر، فسار أتابك مجددا، فلما وصل إلى المنزلة التي بها مجاهد الدين أقام معه وأرسل إلى حلب يستحضر الأمراء، فحضروا كلهم عنده وجددوا اليمين له، فسار حينئذ إلى حلب ودخلها وكان يوما مشهودا.
ولما عبر الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج فسار عنها هاربا إلى مدينة حماة ونادوا بشعار أتابك، وكان صلاح الدين بمصر فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق وأطمعوه فيها وفي غيرها من البلاد الشامية وأعلموه محبة أهلها للبيت الأتابكي، فلم يفعل وقال: بيننا يمين فلا نغدر به. وأقام بحلب عدة شهور ثم سار منها إلى الرقة فأقام بها، وجاءه رسول أخيه عماد الدين يطلب أن يسلم إليه حلب ويأخذ منه عوضها مدينة سنجار فلم يجبه إلى ذلك، ولج عماد الدين وقال: إن سلمتم إلي حلب وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين، فأشار حينئذ الجماعة بتسليمها إليه وكان أكبرهم في ذلك مجاهد الدين قايماز، فإنه لج في تسليمها إلى عماد الدين ولم يمكن أتابك عز الدين مخالفته لتمكنه في الدولة وكثرة عساكره وبلاده، فوافقه وهو كاره، فسلم حلب إلى أخيه وتسلم سنجار وعاد إلى الموصل وكان صلاح الدين بمصر وقد أيس من العودة إلى الشام، فلما بلغه ذلك برز من القاهرة إلى الشام، فلما سمع أتابك عز الدين بوصول صلاح الدين إلى الشام جمع عساكره وسار عن الموصل خوفا على حلب من صلاح الدين، فاتفق أن بعض الأمراء الأكابر مال إلى صلاح الدين وعبر الفرات إليه، فلما رأى أتابك ذلك لم يثق بعده إلى أحد من أمرائه إذ كان ذلك الأمير أوثقهم في نفسه، فعاد إلى الموصل.(2/101)
قال ابن شداد: لما توفي الملك الصالح سارعوا إلى إعلام عز الدين مسعود بن قطب الدين بذلك وبما جرى له من الوصية إليه وتحليف الناس له، فسارع سائرا إلى حلب مبادرا خوفا من السلطان، فكان أول قادم من أمرائه إلى حلب مظفر الدين بن زين الدين وصاحب سروج، ووصل معهما من حلف الأمراء له، وكان وصولهم في ثالث شعبان، وفي العشرين منه وصل عز الدين إلى حلب وصعد القلعة واستولى على خزائنها وذخائرها وتزوج أم الملك الصالح في خامس شوال وعلم أنه لا يمكنه حفظ الشام مع الموصل لحاجته إلى ملازمة الشام لأجل السلطان، وألح عليه الأمراء في طلب الزيادات ورأوا أنفسهم أنهم قد اختاروه وضاق عطنه، وكان صاحب أمره مجاهد الدين قايماز وكان ضيق العطن لم يعتد مقاساة أمر الشام، فرحل من حلب طالب الرقة وخلفه ولده ومظفر الدين بن زين الدين بها، فأتى الرقة ولقيه أخوه عماد الدين عن قرار بينهما واستقر مقايضة حلب بسنجار، وحلف عز الدين لأخيه عماد الدين على ذلك في حادي عشرين شوال، وسار من جانب عماد الدين من تسلم حلب ومن جانب عز الدين من تسلم سنجار. وفي ثالث عشر المحرم سنة ثمان وسبعين صعد عماد الدين إلى قلعة حلب اه.
قال في الروضتين: قال العماد: كان قصد السلطان صلاح الدين إصلاح حال الملك الصالح وأنه القائم مقام أبيه، فصده عنه مماليكه فأخذت بلاده بلجاجهم ومرضت دولته لسوء علاجهم، فاقتنع بحلب إلى أن توفي، ووصل ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل إلى حلب فجمع ظاهره وباطنه وأخذ خزائنه ودفائنه وأخلى كنائنه، ثم عرف أنه لا يستقر بها أمر فرغب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار في تعويضها له بحلب فمال إلى بذله ورغب.
ذكر حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومسير صاحبها مع صلاح الدين
قال ابن الأثير: كانت قلعة البيرة وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة لشهاب الدين الأرتقي وهو ابن عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فمات
شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة وأخذها فأذن له في ذلك، فسار عسكره إلى قلعة سميساط وهي له ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة فحصرها فلم يظفر منها بطائل، إلا أنهم لازموا الحصار فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر على ما نذكره يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارداني عنه ويكون هو في خدمته كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك وأرسل رسولا إلى صاحب ماردين يشفع فيه ويطلب أن يرحل عسكره عنه فلم يقبل شفاعته، واشتغل صلاح الدين بما نذكره من أمر الفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة ولم يبلغوا منها غرضا أمرهم بالرحيل عنها وعادوا إلى ماردين فسار صاحبها (ابن شهاب الدين الأرتقي) إلى صلاح الدين وكان معه حتى عبر معه الفرات على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(2/102)
قال ابن الأثير: كانت قلعة البيرة وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة لشهاب الدين الأرتقي وهو ابن عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فمات
شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة وأخذها فأذن له في ذلك، فسار عسكره إلى قلعة سميساط وهي له ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة فحصرها فلم يظفر منها بطائل، إلا أنهم لازموا الحصار فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر على ما نذكره يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارداني عنه ويكون هو في خدمته كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك وأرسل رسولا إلى صاحب ماردين يشفع فيه ويطلب أن يرحل عسكره عنه فلم يقبل شفاعته، واشتغل صلاح الدين بما نذكره من أمر الفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة ولم يبلغوا منها غرضا أمرهم بالرحيل عنها وعادوا إلى ماردين فسار صاحبها (ابن شهاب الدين الأرتقي) إلى صلاح الدين وكان معه حتى عبر معه الفرات على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
سنة 578
ذكر خروج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية ومجيئه إلى الديار الحلبية واستيلائه على البلاد الجزرية
قال في الروضتين: لما سمع السلطان في مصر بمرض الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين كتب إلى ابن أخيه تقي الدين عمر وهو يتولى له المعرة وحماة وأمره بالتأهب للنهوض، وكتب إلى ابن أخيه عز الدين فرخشاه وهو نائبه بدمشق يأمره بتنفيذ عسكر إلى جهة أخيه تقي الدين على إظهار قاعدة النظر في القضية الحادثة بين ديار بكر وابن قرا أرسلان والتوجه لفصلها. قال: فيكون ظاهر حركة العسكر لهذا السبب المتقدم وباطنها لهذا السبب المتأخر، وقد كوتب الولد تقي الدين أن يتوجه إلى منبج على الظاهر والباطن المذكورين وأن يحفظ المغازي ويرابط الفرات ويمنع المعابر ولنا بالس وقلعة جعبر ومنبج وتل باشر وهي جمهور الطرق بل كلها وقد أوعزنا إلى تقي الدين بأن يكون حمام حماة في حلب وحمام دمشق في حماة، وإلى الأجل ناصر الدين بأن يكون حمام دمشق في حمص وحمام حمص في حلب وولدنا عز الدين يؤمر بأن يكون حمام بصرى في دمشق، وقد بعثنا نجابين
يكونون منيخين ببصرى، فإن تحققت الوفاة فنحن أسبق إليكم من الجواب قولا وفعلا ووعدا ونجحا فالعلة مزاحة والعسكر مستريحة والظهر قد استعد والمصلحة في الحركة ظاهرة وحجج انتقاد المنتقدين في هذه القضية ساقطة.(2/103)
قال في الروضتين: لما سمع السلطان في مصر بمرض الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين كتب إلى ابن أخيه تقي الدين عمر وهو يتولى له المعرة وحماة وأمره بالتأهب للنهوض، وكتب إلى ابن أخيه عز الدين فرخشاه وهو نائبه بدمشق يأمره بتنفيذ عسكر إلى جهة أخيه تقي الدين على إظهار قاعدة النظر في القضية الحادثة بين ديار بكر وابن قرا أرسلان والتوجه لفصلها. قال: فيكون ظاهر حركة العسكر لهذا السبب المتقدم وباطنها لهذا السبب المتأخر، وقد كوتب الولد تقي الدين أن يتوجه إلى منبج على الظاهر والباطن المذكورين وأن يحفظ المغازي ويرابط الفرات ويمنع المعابر ولنا بالس وقلعة جعبر ومنبج وتل باشر وهي جمهور الطرق بل كلها وقد أوعزنا إلى تقي الدين بأن يكون حمام حماة في حلب وحمام دمشق في حماة، وإلى الأجل ناصر الدين بأن يكون حمام دمشق في حمص وحمام حمص في حلب وولدنا عز الدين يؤمر بأن يكون حمام بصرى في دمشق، وقد بعثنا نجابين
يكونون منيخين ببصرى، فإن تحققت الوفاة فنحن أسبق إليكم من الجواب قولا وفعلا ووعدا ونجحا فالعلة مزاحة والعسكر مستريحة والظهر قد استعد والمصلحة في الحركة ظاهرة وحجج انتقاد المنتقدين في هذه القضية ساقطة.
ثم قال: ولما سمع بوفاته تحرك عزمه وندم على النزوح من الشام مع قرب هذا المرام، فكتب إلى ابن أخيه تقي الدين عمر وكذلك شحذ عزائم نوابه بالشام بتجديد المكاتبات لهم وبعثهم على الاستعداد وحملهم. وكان الفرنج بأنطاكية قد أغاروا على حارم وأتوا من السبي والنهب بالعظائم، وأغار عسكر حلب على الراوندان وهي في عمل صلاح الدين ورسولهم عند الفرنج يستنجدهم ويغريهم به، وراسلوا الحشيشية (الباطنية) فكتب السلطان صلاح الدين كتابا إلى الخليفة في بغداد يشرح الحال باللفظ العمادي، وكان في جملة الكتاب ما معناه أن حلب من جملة البلاد التي اشتمل عليها تقليد أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله له، وإنما تركها في يد ابن نور الدين لأجل أبيه، والآن فليرجع كل إلى حقه وليقنع برقه. ثم كتب إليه في كتاب آخر عند دخول صاحب الموصل حلب واستيلائه عليها (كما تقدم) فقال: دخل حلب مستوليا وحصل بها متعديا وعقود الخلفاء لا تحل والسيوف في أوجه أوليائهم لا تسل، وإنه إن فتح باب المنازعة أدنى من ندامة وأبعد من سلامة، وخرق ما يعي على الراقع وجذب الرداء فلم تغن فيه إلا حيلة الخالع، وليس الاستيلاء بحجة في الولايات لطالبها ولا الدخول في الدار بموجب ملك غاصبها، إلا أن تكون البلاد كالديار المصرية حين فتحها الخادم وأهله حيث الجماعة مستريبة والخلافة في غير أهلها غريبة والعقائد لغير الحق مستجيبة، فتلك الولاية أولى من منحها من فتحها، وكان سلطانها من أدخل في كان شيطانها، وأما حلب فإن الكلمة فيها عالية والمنابر فيها بالاسم الشريف حالية، فإنما تكون لمن قلدها لا لمن توردها ولمن بالحق تسلمها لا لمن بالباطل تسنمها، ولو كانت حلب كما كانت مصر لدخلها الخادم ولم يشاور ولولجها ولم يناظر، ولكنه أتى البيوت من أبوابها واستمطر القطار من سحابها. ثم ذكر أن المواصلة راسلوا الملاحدة الحشيشية واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وواسطة بينهم وبين الفرنج ووعدهم بقلاع من يد الإسلام تقلع وضياع من فيء المسلمين توضع وبدار دعوة بحلب ينصب فيها علم الضلالة فيرفع، ويا للعجب من الخصم يهدم دولة حق وهي تبنيه ومن العبد يبني ملكها بنفسه وماله وذويه، وهي تراقب أعلاه فيه ودعواه في رسائلهم
وغوائلهم ليست بدعوى لا يقوم شاهدها ولا هي بشناعة لا يهتدي قائدها، بل هذا رسولهم عند سنان صاحب الملاحدة ورسولهم عند القمص ملك الفرنج، وهذه الكتب الواصلة بذلك قد سيرت. ولاستيجاب الولاية طرق، أما السبق إلى التقليد فللخادم السبق، وأما العدالة والعدل فلو وقع الفرق لوقع الحق، وأما بالإثار بالطاعة فله فيها ما لولا معونة الخالق فيه لقصرت عنه أيدي الخلق، ومتى استمرت المشاركه في الشام أفضت إلى ضعف التوحيد وقوة الاشتراك وترامت إلى أخطار يعجز عنها خواطر الاستدراك وأحوجت قابض الأعنة إلى أن يعيلها الجدد ويرسلها العراك، وطريق الصلاح والمصالحات الأيمان، والمشار إليهم (يعني أصحاب الموصل) لا يلتزمون ربقتها ولا يوجبون صفقتها، وكفى بالتجريب ناهيا عن الغرّة، ولا يلدغ المؤمن إلا مرّة، وإذا اجتمعت في الشام أيد ثلاث يد عادية ويد ملحدة ويد كافرة نهض الكفر بتثليثه وقصرت عن الإسلام يد مغيثه ولم ينفع الخادم حينئذ تصحيح حسابه وتصديق حديثه، وما يريد الخادم إلا من تكون عليه يد الله وهي الجماعة ولا يؤثر إلا ما يتقرب به إليه وهو الطاعة ولا يتوخى إلا ما يقوم به الحجة اليوم ويوم تقوم الساعة.(2/104)
ثم قال: ولما سمع بوفاته تحرك عزمه وندم على النزوح من الشام مع قرب هذا المرام، فكتب إلى ابن أخيه تقي الدين عمر وكذلك شحذ عزائم نوابه بالشام بتجديد المكاتبات لهم وبعثهم على الاستعداد وحملهم. وكان الفرنج بأنطاكية قد أغاروا على حارم وأتوا من السبي والنهب بالعظائم، وأغار عسكر حلب على الراوندان وهي في عمل صلاح الدين ورسولهم عند الفرنج يستنجدهم ويغريهم به، وراسلوا الحشيشية (الباطنية) فكتب السلطان صلاح الدين كتابا إلى الخليفة في بغداد يشرح الحال باللفظ العمادي، وكان في جملة الكتاب ما معناه أن حلب من جملة البلاد التي اشتمل عليها تقليد أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله له، وإنما تركها في يد ابن نور الدين لأجل أبيه، والآن فليرجع كل إلى حقه وليقنع برقه. ثم كتب إليه في كتاب آخر عند دخول صاحب الموصل حلب واستيلائه عليها (كما تقدم) فقال: دخل حلب مستوليا وحصل بها متعديا وعقود الخلفاء لا تحل والسيوف في أوجه أوليائهم لا تسل، وإنه إن فتح باب المنازعة أدنى من ندامة وأبعد من سلامة، وخرق ما يعي على الراقع وجذب الرداء فلم تغن فيه إلا حيلة الخالع، وليس الاستيلاء بحجة في الولايات لطالبها ولا الدخول في الدار بموجب ملك غاصبها، إلا أن تكون البلاد كالديار المصرية حين فتحها الخادم وأهله حيث الجماعة مستريبة والخلافة في غير أهلها غريبة والعقائد لغير الحق مستجيبة، فتلك الولاية أولى من منحها من فتحها، وكان سلطانها من أدخل في كان شيطانها، وأما حلب فإن الكلمة فيها عالية والمنابر فيها بالاسم الشريف حالية، فإنما تكون لمن قلدها لا لمن توردها ولمن بالحق تسلمها لا لمن بالباطل تسنمها، ولو كانت حلب كما كانت مصر لدخلها الخادم ولم يشاور ولولجها ولم يناظر، ولكنه أتى البيوت من أبوابها واستمطر القطار من سحابها. ثم ذكر أن المواصلة راسلوا الملاحدة الحشيشية واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وواسطة بينهم وبين الفرنج ووعدهم بقلاع من يد الإسلام تقلع وضياع من فيء المسلمين توضع وبدار دعوة بحلب ينصب فيها علم الضلالة فيرفع، ويا للعجب من الخصم يهدم دولة حق وهي تبنيه ومن العبد يبني ملكها بنفسه وماله وذويه، وهي تراقب أعلاه فيه ودعواه في رسائلهم
وغوائلهم ليست بدعوى لا يقوم شاهدها ولا هي بشناعة لا يهتدي قائدها، بل هذا رسولهم عند سنان صاحب الملاحدة ورسولهم عند القمص ملك الفرنج، وهذه الكتب الواصلة بذلك قد سيرت. ولاستيجاب الولاية طرق، أما السبق إلى التقليد فللخادم السبق، وأما العدالة والعدل فلو وقع الفرق لوقع الحق، وأما بالإثار بالطاعة فله فيها ما لولا معونة الخالق فيه لقصرت عنه أيدي الخلق، ومتى استمرت المشاركه في الشام أفضت إلى ضعف التوحيد وقوة الاشتراك وترامت إلى أخطار يعجز عنها خواطر الاستدراك وأحوجت قابض الأعنة إلى أن يعيلها الجدد ويرسلها العراك، وطريق الصلاح والمصالحات الأيمان، والمشار إليهم (يعني أصحاب الموصل) لا يلتزمون ربقتها ولا يوجبون صفقتها، وكفى بالتجريب ناهيا عن الغرّة، ولا يلدغ المؤمن إلا مرّة، وإذا اجتمعت في الشام أيد ثلاث يد عادية ويد ملحدة ويد كافرة نهض الكفر بتثليثه وقصرت عن الإسلام يد مغيثه ولم ينفع الخادم حينئذ تصحيح حسابه وتصديق حديثه، وما يريد الخادم إلا من تكون عليه يد الله وهي الجماعة ولا يؤثر إلا ما يتقرب به إليه وهو الطاعة ولا يتوخى إلا ما يقوم به الحجة اليوم ويوم تقوم الساعة.
ومن كتاب آخر: قد أحاط العلم بما طالع به أولا عند وفاة نور الدين رحمه الله أن التقليد الشريف المستضيئي لما وصله بالبلاد وكان قد فتح أكثرها قلاعا وأمصارا وحصونا وديارا، ولم يبق إلا قصبة حلب وهو على أخذها عدل ولد نور الدين عن القتال إلى النوال وعن النزال إلى الاستنزال، وقصد القصد الذي ما أوجبت المحافظة أن يتلقى بالرد فأقره على الولاية فرعا لا أصلا ونائبا لا مستقلا، وسلم إليه البلاد ويده الغالبة لا المغلوبة وسيوفه السالبة لا المسلوبة، ومشى الأمر معه مستقيما ومائلا وجائرا وعادلا إلى أن قضى نحبه ولقي ربه، فبدا من المواصلة نقض الأيمان والابتداء بالعدوان والتعرض للبلاد والتصرف فيها بغير حجة يكون عليها الاعتماد، فطالع الديوان بالقضية واستشهد بدلالات قوانينه الجليلة في هذا التقليد الذي تهادته المحاضر وأشاعته المنابر، وسيرت إلى الشرق والغرب نسخه وغلت الأيدي التي تحدث أنفسها أنها نسخه اه.
قال في الروضتين: بعد عود السلطان صلاح الدين من الإسكندرية إلى مصر وذلك في ذي القعدة من سنة 577شرع في الاستعداد لسفر الشام، فجمع العساكر والسلاح واستصحب نصف العسكر وأبقى النصف الآخر يحفظ ثغور مصر، وأمر قراقوش بإتمام
الأسوار الدائرة على مصر والقاهرة. قال: وكان السلطان عشية توديعه لأهل مصر جالسا في سرادقه ينشده بيتا في الوداع، فأخرج أحد مؤدبي أولاده رأسه وأنشد مظهرا له فضله ورافعا به محله:(2/105)
قال في الروضتين: بعد عود السلطان صلاح الدين من الإسكندرية إلى مصر وذلك في ذي القعدة من سنة 577شرع في الاستعداد لسفر الشام، فجمع العساكر والسلاح واستصحب نصف العسكر وأبقى النصف الآخر يحفظ ثغور مصر، وأمر قراقوش بإتمام
الأسوار الدائرة على مصر والقاهرة. قال: وكان السلطان عشية توديعه لأهل مصر جالسا في سرادقه ينشده بيتا في الوداع، فأخرج أحد مؤدبي أولاده رأسه وأنشد مظهرا له فضله ورافعا به محله:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فلما سمعه خمد نشاطه وتبدل بالانقباض انبساطه، ونحن ما بين مغضب ومغض ينظر بعضنا إلى بعض ولا يقضى العجب من مؤدب ترك الأدب فكأنه نطق بما هو كائن في الغيب، فإنه ما عاد بعدها إلى الديار المصرية حتى لقي بنجح المنى والمنية.
قال ابن الأثير: وكان مسيره من مصر إلى الشام في خامس المحرم وتبعه من التجار وأهل البلاد ومن كان قصد مصر من الشام بسبب الغلاء بالشام وغيره عالم كثير، فلما سار جعل طريقه على أيلة فسمع أن الفرنج قد جمعوا له ليحاربوه ويصدوه عن المسير، فلما قارب بلادهم سير الضعفاء والأثقال مع أخيه تاج الملوك بوري إلى دمشق وبقي هو في العساكر المقاتلة لا غير، فشن الغارات بأطراف بلادهم وأكثر ذلك ببلد الكرك والشوبك فلم يخرج إليه منهم أحد ولا أقدم على الدنو منه، ثم سار فأتى دمشق فوصلها حادي عشر صفر من السنة وأقام بها أياما يريح ويستريح هو وجنده. ثم سار إلى طبرية وحارب من تجمع فيها من الإفرنج فكسرهم وعاد إلى دمشق، ثم سار عنها إلى بيروت وكان قد واعد أسطول مصر أن يتجهز إلى بلاد الساحل فبلغه الخبر أنه وصل إلى بيروت فبادره السلطان بعسكره جريدة قبل أن يفوت، فلما وصل رأى أن أمر بيروت يطول وكان قد سبى الأسطول منها وسلب وظفر من غنيمتها بما طلب، فأغار السلطان على تلك البلاد ورجع وأعاد فرخشاه إلى دمشق ورحل إلى بعلبك ومنها إلى حمص (1).
قال في الروضتين: ثم رحل السلطان إلى حماة واستصحب معه ابن أخيه تقي الدين، فلما قرب من حلب أقبل مظفر الدين كوكوبري بن علي كوجك صاحب حران حينئذ فاجتمع بالسلطان وسار في خدمته من جملة الأعوان، وأشار عليه أن يعبر الفرات ويجوز ما وراءها ويترك حلب إلى ما بعد ذلك لئلا تشغله عن غيرها، فاستصوب السلطان رأيه وعبر الفرات.
__________
(1) [السطور الأخيرة من الروضتين].(2/106)
وقال ابن أبي طي: في أول السنة أراد مظفر الدين بن زين الدين وكان إليه شحنكية حلب الاستيلاء على قلعة حلب بأن يهجمها فلم يتمكن وظهر أمره. وبعد هذه الوقعة اجتمع الأخوان عز الدين وعماد الدين على الرقة وتحالفا على بساط واحد وسلم عماد الدين ما كان بيده من سنجار وغيرها إلى عز الدين وسلم عز الدين إليه حلب، فسار إليها ودخلها، فخرج مظفر الدين عنها وصار إلى الفرات، فلما اتصل به قصد السلطان حلب سار إلى خدمته واجتمع به على جباب التركمان وأشار على السلطان بعبور الفرات والاستيلاء على بلاد الشرق وتأخير أمر حلب، ففعل ورحل عن حلب بعد أن أقام عليها ستة أيام وأقام على تل خالد ثلاثة أيام، ثم رحل إلى البيرة وفيها شهاب الدين محمد بن إلياس الأرتقي فنزل إليه وقبل الأرض بين يديه وسأله الصعود إلى قلعة البيرة، فأجابه وقدم له مفاتيح القلعة فردها إليه ووعده باستخلاص ما كان صاحب ماردين رده عليه، ورحل السلطان إلى سروج فنزل إليه صاحبها ابن مالك مستأمنا، فأعاده إلى بلده، وراسل صاحب ماردين في رد ما كان تغلب عليه من أعمال البيرة ففعل، ثم أخذ الرها ثم الرقة، ثم سلم الرها إلى ابن زين الدين والرقة إلى صاحب الرها لأنه سأل أن يكون في خدمة السلطان.
وقال القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية: نزل السلطان على حلب في ثامن عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين فأقام ثلاثة أيام ورحل في الحادي والعشرين منه يطلب الفرات، واستقر الحال بينه وبين مظفر الدين بن زين الدين وكان صاحب حران وكان قد استوحش من جانب الموصل وخاف من مجاهد الدين فالتجأ إلى السلطان وعبر إليه قاطع الفرات وقوى عزمه على البلاد وسهل أمرها عنده، فعبر الفرات وأخذ الرها ونصيبين وسروج، ثم شحن على الخابور وأقطعه اه.
قال ابن الأثير: لما عبر صلاح الدين الفرات كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم وبذل لهم البذول على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن إلى ما طلب منه لقاعدة استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام، فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها ويسلمها إليه، وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها فحصرها في جمادى الأولى وقاتلها أشد قتال، فحدثني بعض من كان من الجند أنه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقا وقد خرقته السهام، ووالى الزحف عليها وكان بها حينئذ
مقطع وهو الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم وطلب الأمان وسلم البلد وصار في خدمة صلاح الدين، فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه، فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها على حران إلى الرقة، فلما وصل إليها كان بها مقطعا قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار عنها إلى عز الدين أتابك وملكها صلاح الدين، وسار إلى الخابور قرقيسيا وماكسين وعرابان فملك جميع ذلك، فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها، وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فملكها أيضا وأقام بها ليصلح شأنها، ثم أقطعها أميرا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنها ومعه نور الدين صاحب الحصن وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها، فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم إن خربتم الجامع جددنا عمارته وأخربنا كل بيعة لكم في بلادنا ولا نمكن أحدا من عمارتها، فتركوه، ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود فقال: يخربون قرى ونملك عوضها بلادا ونعود نعمرها ونقوى على قصد بلادهم، ولم يرجع فكان كما قال اه.(2/107)
قال ابن الأثير: لما عبر صلاح الدين الفرات كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم وبذل لهم البذول على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن إلى ما طلب منه لقاعدة استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام، فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها ويسلمها إليه، وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها فحصرها في جمادى الأولى وقاتلها أشد قتال، فحدثني بعض من كان من الجند أنه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقا وقد خرقته السهام، ووالى الزحف عليها وكان بها حينئذ
مقطع وهو الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم وطلب الأمان وسلم البلد وصار في خدمة صلاح الدين، فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه، فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها على حران إلى الرقة، فلما وصل إليها كان بها مقطعا قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار عنها إلى عز الدين أتابك وملكها صلاح الدين، وسار إلى الخابور قرقيسيا وماكسين وعرابان فملك جميع ذلك، فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها، وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فملكها أيضا وأقام بها ليصلح شأنها، ثم أقطعها أميرا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنها ومعه نور الدين صاحب الحصن وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها، فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم إن خربتم الجامع جددنا عمارته وأخربنا كل بيعة لكم في بلادنا ولا نمكن أحدا من عمارتها، فتركوه، ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود فقال: يخربون قرى ونملك عوضها بلادا ونعود نعمرها ونقوى على قصد بلادهم، ولم يرجع فكان كما قال اه.
ثم حصر صلاح الدين الموصل، ثم سار منها إلى سنجار فملكها، ثم ملك آمد وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان على ما استقرت القاعدة بينهما. وبسط ابن الأثير القول في ذلك: وكان ملكه لآمد في العشر الأولى من المحرم سنة 578.
قال في الروضتين: وفي فتح آمد يقول سعيد بن محمد الحريري الحلبي من قصيدة في السلطان:
رمى آمدا بالصافنات فأذعنت ... له طاعة آكامها ووعورها
فما عز ناديها ولا اعتاص ثغرها ... ولا جاش طاميها ولا رد سورها
وأنزلت بالكره ابن تيسان مخرجا ... كما أنزل الزباء كرها قصيرها
نهضت لها حتى إذا انقاد صعبها ... تقضى على طول الشماس نفورها
سمحت بها جودا لمن ظل برهة ... يغاورها طورا وطورا يغيرها
وملّكت ما ملّكت منها تحولا ... وكان قليلا في نداك كثيرها
وإن بلادا أنجدتك ملوكها ... لأجدر أن يرجو نداك فقيرها
وقال ابن سعدان الحلبي يذكر فتح آمد:(2/108)
رمى آمدا بالصافنات فأذعنت ... له طاعة آكامها ووعورها
فما عز ناديها ولا اعتاص ثغرها ... ولا جاش طاميها ولا رد سورها
وأنزلت بالكره ابن تيسان مخرجا ... كما أنزل الزباء كرها قصيرها
نهضت لها حتى إذا انقاد صعبها ... تقضى على طول الشماس نفورها
سمحت بها جودا لمن ظل برهة ... يغاورها طورا وطورا يغيرها
وملّكت ما ملّكت منها تحولا ... وكان قليلا في نداك كثيرها
وإن بلادا أنجدتك ملوكها ... لأجدر أن يرجو نداك فقيرها
وقال ابن سعدان الحلبي يذكر فتح آمد:
فيا ساكني الرعناء من سفح آمد ... أرى عارضا ينهل بالموت هاطله
لئن غضبت يوما عليكم عروشها ... فهذا ابن أيوب وهذي معاقله
ولو رامها يوما سواه لقطّعت ... أباهره من دونها وأباجله
وابن تيسان كان مدبر آمد ورئيسها والقائم بأمرها. وقول ابن سعيد (وملكت ما ملكت) يشير به إلى ما وهبه صلاح الدين من الخزائن والذخائر التي وجدت بها وكانت شيئا كثيرا لا يدخل تحت الحصر إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان الذي سلمه آمد كما تقدم.
سنة 579
ذكر استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعينتاب وحلب
قال في الروضتين: ثم رحل السلطان من آمد وعبر الفرات لقصد حلب وولايتها، فتسلم في طريقه تل خالد بالرعب ولم تكن منهم بالقرب فأقر أهلها فيها، ثم نزل على عينتاب فبادر صاحبها ناصح الدين محمد بن خمارتكين إلى خدمة السلطان فأعاده إلى مكانه بالإحسان.
وقال ابن أبي طي: تسلم السلطان تل خالد في رابع عشر المحرم وسلمها إلى بدر الدين دلدرم، ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشر المحرم وكان أول نزوله في الميدان الأخضر، وسير المقاتلة يقاتلون ويباسطون عسكر حلب ببانقوسا وباب الجنان غدوة وعشية، وفي يوم نزوله جرح أخوه تاج الملوك. وكان عماد الدين زنكي قبل ذلك قد خرج وخرب قلعة أعزاز في تاسع جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخرب حصن كفرلاثا وأخذها من بكمش، فإنه كان قد صار مع السلطان وقاتل تل باشر فلم يقدر عليها، وجرت غارات من الفرنج في البلاد بحكم اختلاف العساكر. قال: ولما نزل السلطان على حلب استدعى العساكر من الجوانب فاجتمع خلق كثير وقاتلها قتالا شديدا، وتحقق عماد الدين زنكي
أنه ليس له به قبل، وكان قد ضرس من اقتراح الأمراء عليه وجبههم إياه، فأشار إلى حسام الدين طمان أن يسفر له مع السلطان في إعادة بلاده وتسليم حلب إليه، واستقرت القاعدة ولم يشعر أحد من الرعية ولا من العسكر حتى تم الأمر، ثم أعلمهم وأذن لهم في تدبير أنفسهم فأنفذوا عنه عز الدين جرديك وزين الدين بلك فبقوا عنده إلى الليل واستخلفوه على العسكر وعلى أهل البلد وذلك في سابع عشر صفر، وخرجت العساكر إلى خدمته إلى الميدان الأخضر ومقدمو حلب وخلع عليهم وطيب قلوبهم. وأقام عماد الدين بالقلعة يقضي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إلى يوم الخميس ثالث عشر صفر. وفيه توفي تاج الملوك أخو السلطان من الجرح الذي كان أصابه وشق عليه أمر موته وجلس للعزاء.(2/109)
وقال ابن أبي طي: تسلم السلطان تل خالد في رابع عشر المحرم وسلمها إلى بدر الدين دلدرم، ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشر المحرم وكان أول نزوله في الميدان الأخضر، وسير المقاتلة يقاتلون ويباسطون عسكر حلب ببانقوسا وباب الجنان غدوة وعشية، وفي يوم نزوله جرح أخوه تاج الملوك. وكان عماد الدين زنكي قبل ذلك قد خرج وخرب قلعة أعزاز في تاسع جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخرب حصن كفرلاثا وأخذها من بكمش، فإنه كان قد صار مع السلطان وقاتل تل باشر فلم يقدر عليها، وجرت غارات من الفرنج في البلاد بحكم اختلاف العساكر. قال: ولما نزل السلطان على حلب استدعى العساكر من الجوانب فاجتمع خلق كثير وقاتلها قتالا شديدا، وتحقق عماد الدين زنكي
أنه ليس له به قبل، وكان قد ضرس من اقتراح الأمراء عليه وجبههم إياه، فأشار إلى حسام الدين طمان أن يسفر له مع السلطان في إعادة بلاده وتسليم حلب إليه، واستقرت القاعدة ولم يشعر أحد من الرعية ولا من العسكر حتى تم الأمر، ثم أعلمهم وأذن لهم في تدبير أنفسهم فأنفذوا عنه عز الدين جرديك وزين الدين بلك فبقوا عنده إلى الليل واستخلفوه على العسكر وعلى أهل البلد وذلك في سابع عشر صفر، وخرجت العساكر إلى خدمته إلى الميدان الأخضر ومقدمو حلب وخلع عليهم وطيب قلوبهم. وأقام عماد الدين بالقلعة يقضي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه إلى يوم الخميس ثالث عشر صفر. وفيه توفي تاج الملوك أخو السلطان من الجرح الذي كان أصابه وشق عليه أمر موته وجلس للعزاء.
قلت: وكان أصغر أولاد أيوب، ذكر ابن القادسي أن مولده سنة ست وخمسين في ذي الحجة فيكون عمره اثنتين وعشرين سنة وشيئا. وأنشد له شعرا. وقال العماد الكاتب في كتاب الخريدة إنه لم يبلغ العشرين سنة وله نظم لطيف وفهم شريف، ثم قال القاضي أبو المحاسن [هو ابن شداد]:
وفي ذلك اليوم نزل عماد الدين إلى خدمته وعزاه وسار معه بالميدان الأخضر وتقررت بينهما قواعد، وأنزله عنده بالخيمة وقدم له تقدمة سنية وخيلا جميلة، وخلع على جماعة من أصحابه، وسار عماد الدين من يومه إلى قرا حصار سائرا إلى سنجار، وأقام السلطان بالمخيم بعد مسير عماد الدين غير مكترث بأمر حلب ولا مستعظم لشأنها إلى يوم الاثنين سابع عشري صفر، ثم صعد في ذلك اليوم قلعة حلب مسرورا منصورا، وعمل له حسام الدين طمان دعوة سنية، وكان قد تخلف لأخذ ما تخلف لعماد الدين من قماش وغيره.
وقال العماد: وصل السلطان إلى حلب وفيها عماد الدين زنكي بن مودود الذي كان صاحب سنجار وقد تحصن بكثرة الأجناد والعدد وأراد مقابلة السلطان ومقاتلته، وأراد السلطان أن يظفر بها دون ذلك من القتال وعداوة الرجال، لكن الشباب وجهال الأصحاب راموا القتال وأحبوا النزال وتقدموا وأقدموا والسلطان ينهاهم فلا ينتهون، وكان فيهم تاج الملوك بوري أخو السلطان فطعن في فخذه ثم مات بعد ذلك بأيام بعد فتح البلد، وكان السلطان قد صنع ذلك اليوم وليمة لعماد الدين زنكي. وكان السلطان أول ما نزل على حلب نزل في صدر الميدان الأخضر وذلك في زمن الربيع الأنضر، ثم رحل ونزل
على جبل جوشن ونهى عن القتال وقال: نحن هاهنا نستغل البلاد وما علينا من الحصن الذي بلغ منه هذا العناد، وأنفذ رسل الترهيب إليهم ففكر عماد الدين زنكي في أمره ورأى أن الصواب مصالحة السلطان، فأنفذ سرا إليه حسام الدين طمان وصالحه وحلفه على أن يسلم إليه حلب ويرد عليه بلده سنجار، ففعل وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة للغزاة.(2/110)
وقال العماد: وصل السلطان إلى حلب وفيها عماد الدين زنكي بن مودود الذي كان صاحب سنجار وقد تحصن بكثرة الأجناد والعدد وأراد مقابلة السلطان ومقاتلته، وأراد السلطان أن يظفر بها دون ذلك من القتال وعداوة الرجال، لكن الشباب وجهال الأصحاب راموا القتال وأحبوا النزال وتقدموا وأقدموا والسلطان ينهاهم فلا ينتهون، وكان فيهم تاج الملوك بوري أخو السلطان فطعن في فخذه ثم مات بعد ذلك بأيام بعد فتح البلد، وكان السلطان قد صنع ذلك اليوم وليمة لعماد الدين زنكي. وكان السلطان أول ما نزل على حلب نزل في صدر الميدان الأخضر وذلك في زمن الربيع الأنضر، ثم رحل ونزل
على جبل جوشن ونهى عن القتال وقال: نحن هاهنا نستغل البلاد وما علينا من الحصن الذي بلغ منه هذا العناد، وأنفذ رسل الترهيب إليهم ففكر عماد الدين زنكي في أمره ورأى أن الصواب مصالحة السلطان، فأنفذ سرا إليه حسام الدين طمان وصالحه وحلفه على أن يسلم إليه حلب ويرد عليه بلده سنجار، ففعل وزاده الخابور ونصيبين والرقة وسروج واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة للغزاة.
وقال ابن الأثير: نزل صلاح الدين في الميدان الأخضر وأقام به عدة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه وأظهر أنه يريد أن يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره، وأقام عليها أياما والقتال بين العسكرين كل يوم، وكان عماد الدين زنكي ومعه العسكر النوري وهم مجدون في القتال، فلما رأى كثرة الخرج كأنه شح بالمال فحضر يوما عنده بعض أجناده وطلبوا منه شيئا فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال ولو باع حلي نسائه، فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها، وأرسل مع الأمير طمان الياروقي وكان يميل إلى صلاح الدين أنه يسلم حلب ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وجرت اليمين على ذلك وباعها بأوكس الأثمان، أعطى حصنا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع، فنزل عنها ثامن عشر صفر وتسلمها صلاح الدين فعجب الناس كلهم من ذلك وقبحوا ما أتى به، حتى إن بعض عامة حلب أحضر إجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب، وأسمعوه المكروه (هو قولهم يا حمار بعت حلب بسنجار). واستقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلا فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له اه.
قال في الروضتين: وفي آخر يوم السبت ثامن عشر صفر نشر سنجق السلطان الأصفر على سور قلعة حلب وضربت له البشائر، وفي ذلك الوقت تخفى عماد الدين وخرج من القلعة ليلا إلى المخيم وأخذ في إخراج ما كان له بالقلعة من مال وسلاح وأثاث، وكان استناب الأمير حسام الدين طمان في القلعة حتى توافى رسله بتسليم سنجار ونصيبين والخابور إلى نوابه، وأعطى السلطان طمان الرقة لوساطته في أمر عماد الدين، وكان السلطان شرط أنه ما يريد من حلب إلا الحجر، فقط، وأذن لعماد الدين في أخذ جميع ما في القلعة وما يمكنه حمله فلم يترك عماد الدين فيها شيئا، وباع في السوق كل ما لم يتمكن
من حمله، وأطلق له السلطان بغالا وجمالا وخيلا برسم حمل ما يحتاج إلى حمله، وعمل له يوم الأحد تاسع عشر صفر دعوة عظيمة في الميدان الأخضر وأحضرها جميع الأمراء ومقدمي حلب. قال: وبينما السلطان على لذته بالدعوة والأخذ والعطاء والإنعام والحباء حضر إليه من عرفه وفاة أخيه تاج الملوك بسبب الضربة التي أصابته على حلب، فلم يتغير لذلك ولا اضطرب ولا انقطع عما كان عليه من البشاشة والفرح وبذل الإحسان، وأمر بستر ذلك وتوعد عليه إن ظهر، وكظم حزنه وأخفى رزيته وصبر على مصيبته، ولم يزل على طلاقته وبشاشته إلى وقت العصر، وفي ذلك الوقت انقضت الدعوة وتفرق الناس، فحينئذ قام رحمه الله واسترجع وبكى على أخيه، ثم أمر به فغسل وكفن وصلى عليه وأمر به فدفن بمقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلم بظاهر حلب، ثم حمله بعد ذلك إلى دمشق ودفنه بها. قال: وكان تاج الملوك شابا حسن الشباب مليح الأعطاف عذب العبارة حلو الفكاهة مليح الرمي بالقوس والطعن بالرمح، وكان شجاعا باسلا مقداما على الأهوال، وكان قد جمع إلى ذلك الكرم واليقين في الأدب، وله ديوان شعر حسن متوسط فمنه:(2/111)
قال في الروضتين: وفي آخر يوم السبت ثامن عشر صفر نشر سنجق السلطان الأصفر على سور قلعة حلب وضربت له البشائر، وفي ذلك الوقت تخفى عماد الدين وخرج من القلعة ليلا إلى المخيم وأخذ في إخراج ما كان له بالقلعة من مال وسلاح وأثاث، وكان استناب الأمير حسام الدين طمان في القلعة حتى توافى رسله بتسليم سنجار ونصيبين والخابور إلى نوابه، وأعطى السلطان طمان الرقة لوساطته في أمر عماد الدين، وكان السلطان شرط أنه ما يريد من حلب إلا الحجر، فقط، وأذن لعماد الدين في أخذ جميع ما في القلعة وما يمكنه حمله فلم يترك عماد الدين فيها شيئا، وباع في السوق كل ما لم يتمكن
من حمله، وأطلق له السلطان بغالا وجمالا وخيلا برسم حمل ما يحتاج إلى حمله، وعمل له يوم الأحد تاسع عشر صفر دعوة عظيمة في الميدان الأخضر وأحضرها جميع الأمراء ومقدمي حلب. قال: وبينما السلطان على لذته بالدعوة والأخذ والعطاء والإنعام والحباء حضر إليه من عرفه وفاة أخيه تاج الملوك بسبب الضربة التي أصابته على حلب، فلم يتغير لذلك ولا اضطرب ولا انقطع عما كان عليه من البشاشة والفرح وبذل الإحسان، وأمر بستر ذلك وتوعد عليه إن ظهر، وكظم حزنه وأخفى رزيته وصبر على مصيبته، ولم يزل على طلاقته وبشاشته إلى وقت العصر، وفي ذلك الوقت انقضت الدعوة وتفرق الناس، فحينئذ قام رحمه الله واسترجع وبكى على أخيه، ثم أمر به فغسل وكفن وصلى عليه وأمر به فدفن بمقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلم بظاهر حلب، ثم حمله بعد ذلك إلى دمشق ودفنه بها. قال: وكان تاج الملوك شابا حسن الشباب مليح الأعطاف عذب العبارة حلو الفكاهة مليح الرمي بالقوس والطعن بالرمح، وكان شجاعا باسلا مقداما على الأهوال، وكان قد جمع إلى ذلك الكرم واليقين في الأدب، وله ديوان شعر حسن متوسط فمنه:
يا هذه وأماني النفس قربكم ... يا ليتها بلغت منكم أمانيها
إن كانت العين مذ فارقتكم نظرت ... إلى سواكم فخانتها أماقيها
قال في المختار من الكواكب المضية نقلا عن الصاحب: قال بعض من كان في صحبته: دخلت إليه في صبيحة اليوم الذي جرح فيه فوجدته متكئا على جنبيه وبين يديه دواة وقد وضع ورقة بيضاء على الأرض وهو يكتب فيها، قال: فجلست قليلا فرمى بالورقة إلى فإذا فيها
أسكان مصر لعل الزمان ... علي بقربكم عائد
أما تذكرون فتى شوقه ... إلى قربكم أبدا زائد
جريحا طريحا يمل الطبيب ... ويسأم من سقمه العائد
محبا لكم كان يرجوكم ... بآمد لا سقيت آمد
فلما تهيا لقطع الفرات ... وعاوده عقله الشارد
وأصبح في حلب راجيا ... زمانكم ليته عائد
رماه الزمان بأحداثه ... كأن الزمان له حاسد
قال: فقرأتها إلى أن وصلت إلى قوله رماه الزمان بأحداثه آلمني قلبي لقوله بأحداثه، فقلت: يا مولانا أعوذ بالله من أحداث الزمان، ولقد اشتهى المملوك أن يغير هذه اللفظة فمد القلم وكتب: رماه الزمان بريب المنون، فتطيرت بها وانصرفت. ثم قال:(2/112)
أسكان مصر لعل الزمان ... علي بقربكم عائد
أما تذكرون فتى شوقه ... إلى قربكم أبدا زائد
جريحا طريحا يمل الطبيب ... ويسأم من سقمه العائد
محبا لكم كان يرجوكم ... بآمد لا سقيت آمد
فلما تهيا لقطع الفرات ... وعاوده عقله الشارد
وأصبح في حلب راجيا ... زمانكم ليته عائد
رماه الزمان بأحداثه ... كأن الزمان له حاسد
قال: فقرأتها إلى أن وصلت إلى قوله رماه الزمان بأحداثه آلمني قلبي لقوله بأحداثه، فقلت: يا مولانا أعوذ بالله من أحداث الزمان، ولقد اشتهى المملوك أن يغير هذه اللفظة فمد القلم وكتب: رماه الزمان بريب المنون، فتطيرت بها وانصرفت. ثم قال:
كان صلاح الدين يقول: ما أخذنا حلب رخيصة بقتل تاج الملوك بوري. وبوري اسم تركي معناه بالعربية ذئب وهو أصغر أولاد أيوب، وله ديوان شعر، ومن نظمه في مملوك له وقد أقبل من جهة المغرب على فرس أشهب:
أقبل من أعشقه راكبا ... من جانب الغرب على أشهب
فقلت: سبحانك يا ذا العلا ... أشرقت الشمس من المغرب
وله:
يا حياتي حين يرضى ... ومماتي حين يسخط
آه من ورد على ... خديك بالمسك منقط
بين أجفانك سلطان ... على ضعفي مسلط
قد تصبرت وإن برح ... بي الشوق وأفرط
فلعل الدهر يوما ... بتلاق منك يغلط
وله:
أيا حامل الرمح الشبيه بقده ... ويا شاهرا من لحظه مرهفا عضبا
ضع الرمح واغمد ما سللت فربما ... قتلت وما حاولت طعنا ولا ضربا
قال في الروضتين: ولما انقضت تعزية السلطان بأخيه خلع على الناس في اليوم الرابع وفرق في وجوه الحلبيين الأموال. وفي سادس عشري صفر ورد أصحاب عماد الدين وأحضروا العلائم بتسليم سنجار ونصيبين والخابور، ففي ذلك اليوم تسلم قلعة حلب وأنزل منها الأمير طمان وأصحابه. ولما سلمها إلى نواب السلطان ركب عماد الدين في وجوه أصحابه وأمرائه وخرج إلى خدمة السلطان ظاهرا، وركب السلطان إلى لقائه فاجتمعا عند مشهد الدعاء الذي بظاهر حلب من جهة الشمال، فتسالما ولم يترجل أحد منهما لصاحبه، ثم جاء بعد عماد الدين ولده قطب الدين فترجل للسلطان وترجل السلطان له واعتنقه، وعادا فركبا وسار هو وأبوه في خدمة السلطان إلى المخيم بالميدان الأخضر، فأجلس السلطان عماد الدين معه على الطراحة وقدم له تقدمة عشرين بقجة صفر فيها
مائه ثوب من العتابي والأطلس والمعتق والممرس وغير ذلك وعشرة جلود قندس وخمس خلع خاص برسمه ورسم ولده ومائة قباء ومائة كمه وحجرتين عربيتين بأداتهما وبغلتين مسروجتين وعشرة أكاديش وخمس قطر بغال وثلاث قطر جمال عربيات وقطار بخت. ولما فرغ السلطان من عرض الهدية قدم الطعام، فلما أصاب منه عماد الدين نهض للركوب وخرج السلطان معه وركب لوداعه وسار معه إلى قريب من بابلىّ وودعه وعاد وسار عماد الدين إلى بلاده.(2/113)
أيا حامل الرمح الشبيه بقده ... ويا شاهرا من لحظه مرهفا عضبا
ضع الرمح واغمد ما سللت فربما ... قتلت وما حاولت طعنا ولا ضربا
قال في الروضتين: ولما انقضت تعزية السلطان بأخيه خلع على الناس في اليوم الرابع وفرق في وجوه الحلبيين الأموال. وفي سادس عشري صفر ورد أصحاب عماد الدين وأحضروا العلائم بتسليم سنجار ونصيبين والخابور، ففي ذلك اليوم تسلم قلعة حلب وأنزل منها الأمير طمان وأصحابه. ولما سلمها إلى نواب السلطان ركب عماد الدين في وجوه أصحابه وأمرائه وخرج إلى خدمة السلطان ظاهرا، وركب السلطان إلى لقائه فاجتمعا عند مشهد الدعاء الذي بظاهر حلب من جهة الشمال، فتسالما ولم يترجل أحد منهما لصاحبه، ثم جاء بعد عماد الدين ولده قطب الدين فترجل للسلطان وترجل السلطان له واعتنقه، وعادا فركبا وسار هو وأبوه في خدمة السلطان إلى المخيم بالميدان الأخضر، فأجلس السلطان عماد الدين معه على الطراحة وقدم له تقدمة عشرين بقجة صفر فيها
مائه ثوب من العتابي والأطلس والمعتق والممرس وغير ذلك وعشرة جلود قندس وخمس خلع خاص برسمه ورسم ولده ومائة قباء ومائة كمه وحجرتين عربيتين بأداتهما وبغلتين مسروجتين وعشرة أكاديش وخمس قطر بغال وثلاث قطر جمال عربيات وقطار بخت. ولما فرغ السلطان من عرض الهدية قدم الطعام، فلما أصاب منه عماد الدين نهض للركوب وخرج السلطان معه وركب لوداعه وسار معه إلى قريب من بابلىّ وودعه وعاد وسار عماد الدين إلى بلاده.
قال في الروضتين: ولأبي الحسن بن الساعاتي في مدح السلطان عند إرادة فتح حلب قصيدة منها:
ما بعد لقياك للعافين من أمل ... ملك الملوك وهذي دولة الدول
فانهض إلى حلب في كل سابقة ... سروجها قلل تغني عن القلل
ما فتحها غير إقليد الممالك وال ... داعي إليه جميع الخلق والملل
وما عصت منعة لكنه غضب ... علام أهملتها إهمال مبتذل
غارت وحقك من جاراتها فشكت ... ما باله فيصاصي غير محتفل
وللقاضي السعيد ابن سناء الملك من قصيدة:
بدولة الترك عزت دولة العرب ... وبابن أيوب ذلت بيعة الصلب
إن العواصم كانت أي عاصمة ... لنفسها بتعاليها عن الرتب
جليسة النجم في أعلى مراتبه ... وطالما غاب عنها وهي لم تغب
ومانعته كمعشوق تمنعه ... أحلى من الشهد أو أشهى من الضرب
فمر عنها بلا غيظ ولا حنق ... وسار عنها بلا حقد ولا غضب
تطوي البلاد وأهليها كتائبه ... طيا كما طوت الكتّاب للكتب
أرض الجزيرة لم تظفر ممالكها ... بمالك فطن أو سائس درب
ممالك لم يدبرها مدبرها ... إلا برأي خصي أو بعقل صبي
حتى أتاها صلاح الدين فانصلحت ... من الفساد كما صحت من الوصب
وقد حواها وأعطى بعضها هبة ... فهو الذي يهب الدنيا ولم يهب
ومذ رأت صده عن ربعها حلب ... ووصله لبلاد الغير بالحلب
غارت عليه ومدت كف مفتقر ... منها إليه وأبدت وجه مكتئب
واستعطفته فوافتها عواطفه ... وأكثب الصلح إذ نادته عن كثب
وحل منها بأفق غير منخفض ... للصاعدين وبرج غير منقلب
فتح الفتوح بلا مين وصاحبه ... ملك الملوك ومولاها بلا كذب
وقال ابن أبي طي: وكان كثير من الشعراء يحرضون السلطان على فتح حلب، منهم أبو الفضل بن حميد الحلبي له من قصيدة:(2/114)
بدولة الترك عزت دولة العرب ... وبابن أيوب ذلت بيعة الصلب
إن العواصم كانت أي عاصمة ... لنفسها بتعاليها عن الرتب
جليسة النجم في أعلى مراتبه ... وطالما غاب عنها وهي لم تغب
ومانعته كمعشوق تمنعه ... أحلى من الشهد أو أشهى من الضرب
فمر عنها بلا غيظ ولا حنق ... وسار عنها بلا حقد ولا غضب
تطوي البلاد وأهليها كتائبه ... طيا كما طوت الكتّاب للكتب
أرض الجزيرة لم تظفر ممالكها ... بمالك فطن أو سائس درب
ممالك لم يدبرها مدبرها ... إلا برأي خصي أو بعقل صبي
حتى أتاها صلاح الدين فانصلحت ... من الفساد كما صحت من الوصب
وقد حواها وأعطى بعضها هبة ... فهو الذي يهب الدنيا ولم يهب
ومذ رأت صده عن ربعها حلب ... ووصله لبلاد الغير بالحلب
غارت عليه ومدت كف مفتقر ... منها إليه وأبدت وجه مكتئب
واستعطفته فوافتها عواطفه ... وأكثب الصلح إذ نادته عن كثب
وحل منها بأفق غير منخفض ... للصاعدين وبرج غير منقلب
فتح الفتوح بلا مين وصاحبه ... ملك الملوك ومولاها بلا كذب
وقال ابن أبي طي: وكان كثير من الشعراء يحرضون السلطان على فتح حلب، منهم أبو الفضل بن حميد الحلبي له من قصيدة:
يابن أيوب لا برحت مدى الدهر ... رفيع المكان والسلطان
حلب الشام نحو مرآك ولهى ... وله الصب ريع بالهجران
وقال ابن سعدان الحلبي من قصيدة:
دونك والحسناء أم للقرى ... ونارها الأشهب والطود الأشم
واركب إلى العلياء كل صعبة ... أبيت لعنا وخلاك كل ذم
وارم فكل الصيد في جوف الفرا ... لا صارم السهم ولا نابي الحكم
مد إلى أخت السهاء زورة ... لا فرق يعقبها ولا ندم
فيا لها شماء مشمخرة ... تطارح البرق وساحات الديم
إيه صلاح الدين شدّ أزرها ... واعزم عليها فالزمان قد عزم
ودونك المنعة من قبابها ... وبابها المغلق في وجه الأمم
قال في الروضتين: وفي يوم الاثنين سابع عشر صفر ركب السلطان وصعد قلعة حلب، وكان صعوده إليها من باب الجبيل، وسمع وهو صاعد إلى قلعة حلب يقرأ {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ} الآية، وقال: والله ما سررت بفتح مدينة كسروري بفتح هذه المدينة، والآن قد تبينت أنني أملك البلاد وعلمت أن ملكي قد استقر وثبت. وقال: صعدت يوما مع نور الدين رحمه الله تعالى إلى هذه القلعة فسمعته يقرأ {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ} الآية، قال: ولما بلغ السلطان إلى باب عماد الدين قرأ {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيََارَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُهََا} ثم صار إلى المقام فصلى ركعتين ثم سجد فأطال السجود ثم خرج ودار في جميع القلعة، ثم عاد إلى المخيم وأطلق المكوس والضرائب وسامح بأموال عظيمة، وجلس للهناء بفتح حلب. وأنشده جماعة من الشعراء منهم يوسف البراعي له من قصيدة:(2/115)
شرفت بسامي مجدك الشهباء ... وتجللتها بهجة وضياء
ألقت إليك قيادها وبها على ... كل الملوك ترفع وإباء
ومنهم سعيد بن محمد الحريري له من قصيدة وتقدم بعضها:
وصبّحت شهباء العواصم مصلتا ... قواضب عزم لا يفل شهيرها
فأعطيت منها غاربا فيك راغبا ... وعاد يسيرا في يديك عسيرها
وأوطأت منها أخمصيك تنوفة ... يعز على الشعرى العبور عبورها
ورد إليها روح عدلك روحها ... وكان رميما لا يرجّى نشورها
قال: وقال والدي أبو طي النجار من قصيدة:
حلب شامة الشآم وقد زيد ... ت جلالا بيوسف وجمالا
هي أس الفخار من قال أعلا ... ها تعالى فخامة وتغالا
ومحل العلاء من حل فيها ... تاه كبرا وعزة وجلالا
من حواها مملكا ملك الأر ... ض اقتسارا سهولة وجبالا
فافترعها مهنأ بمحل ... سمك الأنجم الوضاء وطالا
قال: وحدثني جماعة من الحلبيين منهم الركن بن جهبل العدل قال: كان الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي الحلبي قد وقع إليه تفسير القرآن لأبي الحكم المغربي فوجد فيه عند قوله تعالى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} الآية أن أبا الحكم قال: إن الروم يغلبون في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ويفتح البيت المقدس ويصير دارا للإسلام إلى آخر الأبد، واستدل على ذلك بأشياء ذكرها في كتابه، فلما فتح السلطان حلب كتب إليه المجد بن جهبل ورقة يبشره بفتح البيت المقدس على يديه ويعيّن فيه الزمان الذي يفتحه فيه، وأعطى الورقة للفقيه عيسى، فلما وقف الفقيه عيسى عليها لم يتجاسر على عرضها على السلطان، وحدث بما في الورقة لمحيي الدين بن الزكي القاضي الدمشقي، وكان ابن زكي الدين واثقا بعقل ابن جهبل وأنه لا يقدم على هذا القول حتى يحققه ويثق به، فعمل قصيدة مدح السلطان بها حين فتح حلب في صفر وقال فيها:
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... قضى لكم بافتتاح القدس في رجب
ولما سمع السلطان ذلك تعجب من مقالته، ثم حين فتح بيت المقدس خرج إليه المجد بن جهبل مهنئا له ففتحه وحدثه حديث الورقة فتعجب السلطان من قوله وقال: قد سبق إلى ذلك محيي الدين بن زكي الدين، غير أني أجعل لك حظا لا يزاحمك فيه أحد، ثم جمع له من في العسكر من الفقهاء وأهل الدين ثم أدخله إلى القدس بعدما خرج الفرنج منه وأمره أن يذكر درسا من الفقه على الصخرة، فدخل وذكر درسا هناك وحظي بما لم يحظ به غيره.(2/116)
وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... قضى لكم بافتتاح القدس في رجب
ولما سمع السلطان ذلك تعجب من مقالته، ثم حين فتح بيت المقدس خرج إليه المجد بن جهبل مهنئا له ففتحه وحدثه حديث الورقة فتعجب السلطان من قوله وقال: قد سبق إلى ذلك محيي الدين بن زكي الدين، غير أني أجعل لك حظا لا يزاحمك فيه أحد، ثم جمع له من في العسكر من الفقهاء وأهل الدين ثم أدخله إلى القدس بعدما خرج الفرنج منه وأمره أن يذكر درسا من الفقه على الصخرة، فدخل وذكر درسا هناك وحظي بما لم يحظ به غيره.
قال ابن خلكان في ترجمة محمد بن أبي الحسن علي الملقب محيي الدين المعروف بابن زكي الدين: لما فتح السلطان صلاح الدين رحمه الله مدينة حلب أنشده القاضي محيي الدين المذكور قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها بيت وهو متداول بين الناس وهو:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال: فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وقيل لمحيي الدين: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان (1)
ولما وقفت أنا على هذا البيت وهذه الحكاية لم أزل أتطلب تفسير ابن برجان حتى وجدته على هذه الصورة، لكن كان هذا الفصل مكتوبا في الحاشية بخط غير الأصل، ولا أدري هل كان من أصل الكتاب أم هو ملحق به، وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك حتى قرره من قوله بضع سنين اه.
وقال في الروضتين: وقد رأيت أنا ذلك في كتابه ذكر في تفسير أول سورة الروم أن البيت المقدس استولت عليه الروم عام سبع وثمانين وأربعمائة، وأشار أنه يبقى بأيديهم إلى تمام سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. قال: ونحن في عام اثنين وعشرين وخمسمائة، وهذا الذي ذكره أبو الحكم الأندلسي في تفسيره من عجائب ما اتفق لهذه الأمة المرحومة، ثم ذكر ما تكلم عليه شيخه أبو الحسن علي بن محمد في تفسيره.
__________
(1) تقدم أن الذي وقف على ذلك في تفسير ابن برجان هو الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي الحلبي وكتب بذلك ورقة إلى عيسى الفقيه هذا ولم يوصلها إلى صلاح الدين، وحدث بما فيها لمحيي الدين بن الزكي في قوله تعالى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}.(2/117)
ذكر فتح صلاح الدين لحارم
قال ابن الأثير: لما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم بعض المماليك النورية واسمه سرخك، وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين، فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين فراسله صلاح الدين في التسليم وقال له: اطلب من الإقطاع ما أردت، ووعده الإحسان، فاشتط في الطلب وترددت الرسل بينهما، فراسل الفرنج ليحتمي بهم فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج فخافوا أن يسلمها، فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام فأجابهم إلى ما طلبوا وسلموا إليه الحصن فرتب به دزدارا بعض خواصه.
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: كاتب الوالي بحارم الفرنج واستدعاهم إليه مطمعا لهم في الاستيلاء على حارم بشرط أن يعصموه من الملك الناصر، وعلم الأجناد بقلعة حارم بما عزم عليه فتآمروا بينهم في القبض عليه، وكان هذا الوالي ينزل من القلعة ويصعد إليها في أموره ولذاته، فاتفق أنه نزل منها لبعض شأنه فوثب أهل القلعة لما خرج وأغلقوا بابها ونادوا بشعار السلطان، وكان السلطان راسل والي حارم، وبذل له في تسليم حارم إليه في أشياء كثيرة منها ولاية بصرى وضيعة يملكه إياها ودار العقيقي التي كان نجم الدين أيوب والد السلطان يسكنها وحمام العقيقي بدمشق وثلاثون ألف دينار عينا ولأخيه عشرة آلاف دينار، فاشتط في السوم وتغالى في العوض، فأنفذ إليه السلطان وتوعده وتهدده فكاتب الفرنج يطلب نجدتهم، وقيل إن نقيب القلعة أراد أن تنفق سوقه عند السلطان ويتحصل منه شيئا فكاتب السلطان بالعمل على الوالي فكتب إليه السلطان بتتميم ذلك ووعده بأشياء سكن إليها، وجرى الأمر على ما ذكرناه من إغلاق الباب في وجه الوالي. وقيل إن النقيب وأهل القلعة لما أغلقوا الباب في وجهه شنعوا عليه بمكاتبة الفرنج ولم يكن فعل ذلك إقامة لعذرهم وقذفوه بالحجارة ونادوا بشعار السلطان، ولما اتصل بالسلطان هذه الأحوال أنفذ تقي الدين إلى حارم ليتسلمها فامتنع النقيب وأهل القلعة من تسليمها إليه، فرحل السلطان إليها بنفسه جريدة، فلما أشرف عليها نزل إليه النقيب ووجوه القلعيين وسلموها إليه في تاسع عشر صفر، ولما حضروا عند السلطان حدثوه بكيفية الحال، وكان بدر الدين
حسن بن الداية حاضرا فقال للسلطان: يا مولانا لا تلتفت إلى هؤلاء فإنهم آذوا هذا الوالي وكذبوا عليه حتى فوتوه ما كان السلطان وعده به، وما قلت هذا إلا عن تجربة، فإنني لما كنت متوليا لهذه القلعة جرى من كذبهم في حقي وتخرصهم عليّ أمور كدت بها أهلك مع نور الدين، وهم كانوا سبب خروجي من هذه القلعة، وأنا أرى أن السلطان يقرهم في القلعة على هذه التجربة، فضحك السلطان وأمر لهم بما كان وعدهم به وأفضل عليهم وولى في القلعة إبراهيم بن شروه وقال لابن الداية: إن بين أيدينا أمكنة نريد أخذها ومتى لم نف ونجزل العطاء لم يثق بنا أحد. وبات السلطان بقلعة حارم ليلتين وعاد إلى حلب في ثالث ربيع الأول، ثم أعطى العساكر دستورا فسار كل منهم إلى بلده وأقام يقرر قواعد حلب ويدبر أمورها. ورجفت أنطاكية بعد ذلك رعبا فأرسل صاحبها جماعة من أسارى المسلمين وانقاد وسارع إلى أمان السلطان.(2/118)
قال في الروضتين: قال ابن أبي طي: كاتب الوالي بحارم الفرنج واستدعاهم إليه مطمعا لهم في الاستيلاء على حارم بشرط أن يعصموه من الملك الناصر، وعلم الأجناد بقلعة حارم بما عزم عليه فتآمروا بينهم في القبض عليه، وكان هذا الوالي ينزل من القلعة ويصعد إليها في أموره ولذاته، فاتفق أنه نزل منها لبعض شأنه فوثب أهل القلعة لما خرج وأغلقوا بابها ونادوا بشعار السلطان، وكان السلطان راسل والي حارم، وبذل له في تسليم حارم إليه في أشياء كثيرة منها ولاية بصرى وضيعة يملكه إياها ودار العقيقي التي كان نجم الدين أيوب والد السلطان يسكنها وحمام العقيقي بدمشق وثلاثون ألف دينار عينا ولأخيه عشرة آلاف دينار، فاشتط في السوم وتغالى في العوض، فأنفذ إليه السلطان وتوعده وتهدده فكاتب الفرنج يطلب نجدتهم، وقيل إن نقيب القلعة أراد أن تنفق سوقه عند السلطان ويتحصل منه شيئا فكاتب السلطان بالعمل على الوالي فكتب إليه السلطان بتتميم ذلك ووعده بأشياء سكن إليها، وجرى الأمر على ما ذكرناه من إغلاق الباب في وجه الوالي. وقيل إن النقيب وأهل القلعة لما أغلقوا الباب في وجهه شنعوا عليه بمكاتبة الفرنج ولم يكن فعل ذلك إقامة لعذرهم وقذفوه بالحجارة ونادوا بشعار السلطان، ولما اتصل بالسلطان هذه الأحوال أنفذ تقي الدين إلى حارم ليتسلمها فامتنع النقيب وأهل القلعة من تسليمها إليه، فرحل السلطان إليها بنفسه جريدة، فلما أشرف عليها نزل إليه النقيب ووجوه القلعيين وسلموها إليه في تاسع عشر صفر، ولما حضروا عند السلطان حدثوه بكيفية الحال، وكان بدر الدين
حسن بن الداية حاضرا فقال للسلطان: يا مولانا لا تلتفت إلى هؤلاء فإنهم آذوا هذا الوالي وكذبوا عليه حتى فوتوه ما كان السلطان وعده به، وما قلت هذا إلا عن تجربة، فإنني لما كنت متوليا لهذه القلعة جرى من كذبهم في حقي وتخرصهم عليّ أمور كدت بها أهلك مع نور الدين، وهم كانوا سبب خروجي من هذه القلعة، وأنا أرى أن السلطان يقرهم في القلعة على هذه التجربة، فضحك السلطان وأمر لهم بما كان وعدهم به وأفضل عليهم وولى في القلعة إبراهيم بن شروه وقال لابن الداية: إن بين أيدينا أمكنة نريد أخذها ومتى لم نف ونجزل العطاء لم يثق بنا أحد. وبات السلطان بقلعة حارم ليلتين وعاد إلى حلب في ثالث ربيع الأول، ثم أعطى العساكر دستورا فسار كل منهم إلى بلده وأقام يقرر قواعد حلب ويدبر أمورها. ورجفت أنطاكية بعد ذلك رعبا فأرسل صاحبها جماعة من أسارى المسلمين وانقاد وسارع إلى أمان السلطان.
تقرير الملك صلاح الدين لقواعد حلب وترتيب أمورها وتوليته عليها ولده الملك الظاهر غازي
قال في الروضتين: لما عاد صلاح الدين من حارم إلى حلب في ثالث ربيع الأول رتبها وقرر ولده الظاهر غازي سلطانا بها وقرر له في كل شهر أربعة آلاف درهم وعشرين كمة وقباء وما يحتاج إليه من الطعام وغيره، وجعل معه واليا سيف الدين أزكش الأسدي، وولى حسام الدين بميرك الخليفتي شحنة حلب، وولى الديوان ناصح الدين إسماعيل بن العميد الدمشقي ودار الضرب، فضرب الدرهم الناصري الذي سكته خاتم سليمان، ونقل الخطابة من بني العديم إلى أبي البركات بن الخطيب هاشم بسفارة القاضي الفاضل، وولى القضاء لمحيي الدين بن زكي الدين الدمشقي فاستناب فيه ابن عمته أبا البيان نبأ بن البانياسي، وولى الجامع والوقوف لأبي علي بن العجمي، وولى قلعتها سيف الدين يازكوج وأقر عين تاب على صاحبها وأعطى تل خالد وتل باشر بدر الدين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق، وأعطى قلعة عزاز علم الدين سليمان بن جندر، وكشف السلطان عن حلب المظالم وأزال المكوس.
وفي توقيع إسقاط المكوس بحلب من كلام القاضي الفاضل عن السلطان: وانتهى إلينا أن بمدينة حلب رسوما استمرت الأيدي على تناولها والألسنة على تداولها وفيها بالرعاة
إرفاق وبالرعايا إضرار، ولها مقدار إلا عند من كل شيء عنده بمقدار منها ما هو في المعايش المطلوبة، وقد رأينا بنعمة الله أن نبطلها ونضعها ونعطلها وندعها ونضرب عليها بأقلامنا ونسلك ما هو أهدى سبيلا ونقول ما هو أقوم قيلا ونكره ما كره الله ونحظر ما حظر الله ونتأجره سبحانه، فإنه من ترك شيئا لله عوضه الله أمثاله وأربح متجره في الرعية اليوم بما يوضع عنهم من إصرها، ولنا غدا بمشيئة الله ما يرفع من أجرها، فعلى كافة أوليائنا والمتصرفين من قبلنا أن لا يهووا إليها يدا ولا يردوا ولو بلغ الظمأ منهم موردا ولا يثقلوا ميزان المال فتخف ميزان الأعمال، ولا يرغبوا في كثير الحرام فإن الله يغني عنه بقليل الحلال، وليعلم أن ذلك من الأمر المحكم والقضاء المبرم والعزم المتمم.(2/119)
وفي توقيع إسقاط المكوس بحلب من كلام القاضي الفاضل عن السلطان: وانتهى إلينا أن بمدينة حلب رسوما استمرت الأيدي على تناولها والألسنة على تداولها وفيها بالرعاة
إرفاق وبالرعايا إضرار، ولها مقدار إلا عند من كل شيء عنده بمقدار منها ما هو في المعايش المطلوبة، وقد رأينا بنعمة الله أن نبطلها ونضعها ونعطلها وندعها ونضرب عليها بأقلامنا ونسلك ما هو أهدى سبيلا ونقول ما هو أقوم قيلا ونكره ما كره الله ونحظر ما حظر الله ونتأجره سبحانه، فإنه من ترك شيئا لله عوضه الله أمثاله وأربح متجره في الرعية اليوم بما يوضع عنهم من إصرها، ولنا غدا بمشيئة الله ما يرفع من أجرها، فعلى كافة أوليائنا والمتصرفين من قبلنا أن لا يهووا إليها يدا ولا يردوا ولو بلغ الظمأ منهم موردا ولا يثقلوا ميزان المال فتخف ميزان الأعمال، ولا يرغبوا في كثير الحرام فإن الله يغني عنه بقليل الحلال، وليعلم أن ذلك من الأمر المحكم والقضاء المبرم والعزم المتمم.
وفي منشور أهل الرقة بمثل ذلك: إن أشقى الأمراء من سمن كيسه وأهزل الخلق وأبعدهم من الحق من أخذ الباطل من الناس وسماه الحق. ومن ترك لله شيئا عوضه ومن أقرض الله قرضا حسنا وفاه ما أقرضه. ولما انتهى أمرنا إلى فتح الرقة أشرفنا منها على سحت يؤكل وظلم مما أمر الله به أن يقطع وأمر الظالمون أن يوصل، فأوجبنا على أنفسنا وعلى كافة الولاة من قبلنا أن يضعوا هذه الرسوم بأسرها، ويلقوا الرعايا من بشائر أيام ملكنا بأسرها، ونعتق بلد الرقة من رقها. ونثبت أحكام المعدلة فيها بمحو هذه الرسوم ومحقها. وقد أمرنا بأن تسد هذه الأبواب وتعطل، وتنسخ هذه الأسباب وتبطل، وستمطر سحائب الخصب بالعدل وتستنزل ويعفي خبر هذه الضرائب من الدواوين ويسامح بها جميعها جميع الأغنياء والمساكين مسامحة ماضية الأحكام مستمرة الأيام دائمة الخلود خالدة الدوام تامة البلاغ بالغة التمام موصولة على الأحقاب مسنونة في الأعقاب ملعونا من يطمح إليها ناظره وتتناولها يده أو يمسك عنها اليوم على طمع لا يوصله إليه غده.
الكتب التي أرسلها السلطان صلاح الدين إلى الجهات يعلم بها استيلاءه على حلب
قال في الروضتين: ومن كتب فاضلية [أي من إنشاء القاضي الفاضل عن لسان السلطان]: تسلمنا مدينة حلب وقلعتها بسلم وضعت بها الحرب أوزارها وبلغت بها الهمم أوطارها وعوض صاحبها بما لم يخرج عن اليد لأنه مشترط عليه به الخدمة بنفسه وعسكره ومختلط بالجملة، فهو أحد الأولياء في مغيبه ومحضره وعوض عماد الدين عنها من بلاد الجزيرة
سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فهو صرف بالحقيقة أخذنا فيه الدينار وأعطينا الدراهم، ونزلنا عن المنيحات وأحرزنا العواصم، وسرنا أنها انجلت والكافر المحارب والمسلم هو المسالم. واشترطنا على عماد الدين الخدمة والمظاهرة والحضور في مواقف الغزو والمصابرة، فانتظم الشمل الذي كان نثيرا وأصبح المؤمن بأخيه كثيرا، وزال الشغب وأخمد اللهب واتصل السبب وأخذت للغزاة الأهب ووصلت إلى غاية همة الطلب، والألفة واقعة والمصلحة جامعة وأشعة أنوار الاتفاق شائعة.(2/120)
قال في الروضتين: ومن كتب فاضلية [أي من إنشاء القاضي الفاضل عن لسان السلطان]: تسلمنا مدينة حلب وقلعتها بسلم وضعت بها الحرب أوزارها وبلغت بها الهمم أوطارها وعوض صاحبها بما لم يخرج عن اليد لأنه مشترط عليه به الخدمة بنفسه وعسكره ومختلط بالجملة، فهو أحد الأولياء في مغيبه ومحضره وعوض عماد الدين عنها من بلاد الجزيرة
سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فهو صرف بالحقيقة أخذنا فيه الدينار وأعطينا الدراهم، ونزلنا عن المنيحات وأحرزنا العواصم، وسرنا أنها انجلت والكافر المحارب والمسلم هو المسالم. واشترطنا على عماد الدين الخدمة والمظاهرة والحضور في مواقف الغزو والمصابرة، فانتظم الشمل الذي كان نثيرا وأصبح المؤمن بأخيه كثيرا، وزال الشغب وأخمد اللهب واتصل السبب وأخذت للغزاة الأهب ووصلت إلى غاية همة الطلب، والألفة واقعة والمصلحة جامعة وأشعة أنوار الاتفاق شائعة.
كتاب آخر:
فتحنا مدينة حلب بسلم ما كشفت بحرمتها قناعا وتسلمنا قلعتها التي ضمنت أن نتسلم بعدها بمشية الله قلاعا وعوض صاحبها من بلاد الجزيرة ما اشترط عليه به الخدمة في الجهاد بالعدة الموفورة فهي بيدنا بالحقيقة، لأن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها وأن يعظم في العدو الكافر نكايتها لا أن تعذق بالولي المسلم ولايتها، والأوامر بحلب نافذة والرايات بأطراف قلعتها آخذة. وجاء أهل المدينة يستبشرون وقد بلغوا ما كانوا يؤملون وأمنوا ما كانوا يحذرون، وعوض صاحبها ببلاد من الجزيرة على أن تكون العساكر مجتمعة على الأعداء مرصدة للاستدعاء. فالبلاد بأيدينا لنا مغنمها ولغيرنا مغرمها، وفي خدمتنا ما لا نسمح به وهو عسكرنا، وفي يده ما لا نضن به وهو درهمنا، شرطنا على عماد الدين النجدة في أوقاتها والمظاهرة على العداة عند ملاقاتها فلم يخرج منا بلد إلا عاد إلينا عسكره، وإنما استنبنا فيه من يحمل عنا مؤنته ويدبره وتكون عساكره إلى عساكرنا مضافة ونتمثل قوله سبحانه وتعالى {وَقََاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمََا يُقََاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.
كتاب آخر:
نشعر الأمير بما من به من فتح مدينة حلب التي هي مفتاح البلاد وتسلم قلعتها التي هي أحد ما رست به الأرض من الأوتاد، فلله الحمد وأين يقع الحمد من هذه المنة ونسأل الله الغاية المطلوبة بعد هذه الغاية وهي الجنة، وصدرت هذه البشرى والموارد قد مضت إلى مصادرها والأحكام في مدينة حلب نافذة في باديها وحاضرها، وقلعتها قد أناف لواؤنا على أنفها وقبضت على عقبه بكفها واعتذرت من لقائه أمس برشقها، ورأينا أن نتشاغل بما بورك لنا فيه من الجهاد وأن نوسع المجال فيما نضيق به تقلب الذين كفروا في البلاد.(2/121)
كتاب آخر حين فتح تل خالد:
نزلنا تل خالد يوم الثلاثاء ثاني عشر المحرم، وكان قد تقدمنا الأجل تاج الملوك إليها وأناخ عليها وقابلها وقاتلها وعالجها ولو شاء لعاجلها، ولما أطلت عليها راياتنا ألقى من فيها بيده وأنجز النصر صادق وعده، وأرسلتها حلب مقدمة لفتحها، وقد أنعم الله علينا بنعم لا نحصيها تعدادا ولا نستقصيها اعتدادا ولا نستوعبها ولو كان النهار طرسا والبحر مدادا.
ورايتنا المنصورة قد صارت مغناطيس البلاد تجذبها بطبعها وسيوفنا قد صارت مفاتح الأمصار تفتحها بنصر الله لا بحدها ولا بقطعها.
من كتاب آخر إلى الخليفة في بغداد:
قال في الروضتين: قال العماد: ورد على السلطان وهو نازل على حلب بشارتان إحداهما أن الأسطول المصري غزا في خامس عشر المحرم ورجع بعد تسعة أيام وقد ظفر ببطسة مقلعة من الشام فيها ثلثمائة وخمسة وسبعون علجا من خيالة وتجار. والثانية أن فرنج الداروم نهضوا فنذر بهم والي الشرقية فخرج إليهم فالتقوا على ماء يعرف بالعسيلة فاستولى عليهم المسلمون بعد أن كادوا يهلكون عطشا، لأن الفرنج كانوا قد ملكوا الماء فأرواهم الله بماء السماء. قلت: وكتب الفاضل عن السلطان إلى بغداد بهاتين البشارتين وبفتح حلب وحارم كتابا شافيا أوله: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت منازل مملكته منازل التقديس والتطهير، والوقوف بأقصى المطارح من أبوابه موجبا للتقديم والتصدير، والأمة مجموعة الشمل بإمامته جمع السلامة لا جمع التكسير. الخادم ينهي أن الذي يفتتحه من البلاد ويتسلمه إما بسكون التغمد أو بحركة ما في الأغماد إنما يعده طريقا إلى الاستنفار إلى بلاد الكفار، ويحسبه جناحا يمكنه به المطار إلى ما يلابسه الكفار من الأقطار. [وبعد أن ذكر البشارتين] ذكر تسلمه حلب وأنه لا يؤثر إلا أن تكون كلمة الله هي العليا لا غير وثغور المسلمين لها الرعاية ولا ضير، ولا نختار إلا أن تغدو جيوش المسلمين متحاشدة على عدوها لا متحاسدة بعتوها، ولو أن أمور الحرب تصلحها الشركة لما عز عليه أن يكون كثير المشاركين ولا أساءه أن تكون الدنيا كثيرة المالكين، وإنما أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة، فإذا صح التدبير لم يحتمل في اللقاء إلا العدة، فعوض عماد الدين من بلاد الجزيرة سنجار وخابورها ونصيبين والرقة وسروج على أن المظالم تموت فلا ينشر
مقبورها، والعساكر تنشر راية غزوها فلا يطوى منشورها، وأجاب الخادم عماد الدين إلى ما سأل فيه من أن يصالح المواصلة مهما استقاموا لعماد الدين لأنه لم يثق بهم وإن كان لهم أخا، ولم يطمئن إلى مجاورتهم إلى أن يضرب بينه وبينهم من عنايته برزخا. فليلح الآن عذر الأجنبي إذا لم يثق ولتكن هذه نصيحة من عوتب في شكره بحسن الظن فلم يفق. ومن شرطه على المواصلة المعونة بعسكرهم في غزواته والخروج من المظالم فما زاد على أن قال:(2/122)
قال في الروضتين: قال العماد: ورد على السلطان وهو نازل على حلب بشارتان إحداهما أن الأسطول المصري غزا في خامس عشر المحرم ورجع بعد تسعة أيام وقد ظفر ببطسة مقلعة من الشام فيها ثلثمائة وخمسة وسبعون علجا من خيالة وتجار. والثانية أن فرنج الداروم نهضوا فنذر بهم والي الشرقية فخرج إليهم فالتقوا على ماء يعرف بالعسيلة فاستولى عليهم المسلمون بعد أن كادوا يهلكون عطشا، لأن الفرنج كانوا قد ملكوا الماء فأرواهم الله بماء السماء. قلت: وكتب الفاضل عن السلطان إلى بغداد بهاتين البشارتين وبفتح حلب وحارم كتابا شافيا أوله: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زالت منازل مملكته منازل التقديس والتطهير، والوقوف بأقصى المطارح من أبوابه موجبا للتقديم والتصدير، والأمة مجموعة الشمل بإمامته جمع السلامة لا جمع التكسير. الخادم ينهي أن الذي يفتتحه من البلاد ويتسلمه إما بسكون التغمد أو بحركة ما في الأغماد إنما يعده طريقا إلى الاستنفار إلى بلاد الكفار، ويحسبه جناحا يمكنه به المطار إلى ما يلابسه الكفار من الأقطار. [وبعد أن ذكر البشارتين] ذكر تسلمه حلب وأنه لا يؤثر إلا أن تكون كلمة الله هي العليا لا غير وثغور المسلمين لها الرعاية ولا ضير، ولا نختار إلا أن تغدو جيوش المسلمين متحاشدة على عدوها لا متحاسدة بعتوها، ولو أن أمور الحرب تصلحها الشركة لما عز عليه أن يكون كثير المشاركين ولا أساءه أن تكون الدنيا كثيرة المالكين، وإنما أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة، فإذا صح التدبير لم يحتمل في اللقاء إلا العدة، فعوض عماد الدين من بلاد الجزيرة سنجار وخابورها ونصيبين والرقة وسروج على أن المظالم تموت فلا ينشر
مقبورها، والعساكر تنشر راية غزوها فلا يطوى منشورها، وأجاب الخادم عماد الدين إلى ما سأل فيه من أن يصالح المواصلة مهما استقاموا لعماد الدين لأنه لم يثق بهم وإن كان لهم أخا، ولم يطمئن إلى مجاورتهم إلى أن يضرب بينه وبينهم من عنايته برزخا. فليلح الآن عذر الأجنبي إذا لم يثق ولتكن هذه نصيحة من عوتب في شكره بحسن الظن فلم يفق. ومن شرطه على المواصلة المعونة بعسكرهم في غزواته والخروج من المظالم فما زاد على أن قال:
سالموا مسلما وحاربوا كافرا واسكنوا لتكون الرعية ساكنة واظهروا ليكون حزب الله ظاهرا وهذه المقاصد الثلاثة الجهاد في سبيل الله والكف عن مظالم عباد الله والطاعة لخليفة الله هي مراد الخادم من البلاد إذا فتحها ومغنمه من الدنيا إذا منحها، والله العالم أنه لا يقاتل لعيش ألين من عيش ولا لغضب يملأ العيان من نزق ولا طيش، ولا يريد إلا هذه الأمور التي قد توسم أنها تلزم، ولا ينوي إلا هذه النية التي هي خير ما يسطر في الصحيفة ويرقم.
وكتب الخادم هذه الخدمة بعد أن بات بحلب ليلة، وخرج منها إلى حارم، وكانت استحفظت مملوكا لا يملكه دين ولا عقل غرّ ما هذبته نفس ولا أهل، فاعتقد أن يسلمها إلى صاحب أنطاكية يسر الله فتحها اعتقادا صرح بفعله وشهره بكتبه ورسله، وواطأ على ذلك نفرا من رجال يعرفون بالسيمة ولا يعرفون خالقا إلا من عرفوه رازقا، ولا يسجدون إلا لمن يرونه في نهر النهار سابحا وفي بحر الظلام غارقا، فشعر به من فيها من الأجناد المسلمين فشردوه ومن تابعه على فعله، وظفر به المملوك عمر ابن أخيه في ضواحي البلد فأخذه وأرسله إلى قلعة حلب، وسار الخادم إليها فتسلمها ورتب بها حامية ورابطة، ولم يعمل على أنها للعمل طرف بل أنها للعقد واسطة. والخادم كما طالع بماضيه الذي حازه الأمس المذكور يطالع بمستقبله الذي ينجزه بمشيئة الله الغد المشكور، فهو متأهب للخروج نحو الكفار لا تسأم رايته النصب ولا جبهة سيره الرفع ولا جيشه الجر، ولا يصغي إلى قول خاطر الراحة المفند: لا تنفروا في الحر، ولا يجيب دعوة الفراش الممهد ولا يعرج على الظل الممدد ولا دمية القصر المشيد، ولا يعطف على ريحانة فؤاد يفارقه حولا ويلقاه يوما، ولا يقيم على زهرة ولد استهل فمتى ذكره الفطر على راحته قال: إني نذرت للرحمن صوما اه.
رجوع السلطان صلاح الدين من حلب إلى دمشق
قال في الروضتين: قال القاضي ابن شداد: لم يقم السلطان في حلب إلا إلى يوم
السبت الثاني والعشرين من ربيع الآخر، وأنشأ عزما على الغزاة، فخرج ذلك اليوم إلى الوضيحي مبرزا نحو دمشق واستنهض العساكر فخرجوا يتبعونه، ثم رحل في الرابع والعشرين منه إلى حماة فوصلها، ثم رحل في بقية يومه ولم يزل يواصل بين المنازل حتى دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى، فأقام بها متأهبا إلى السابع والعشرين. ثم ذكر غزوته لعين جالوت وبسط القول في ذلك.(2/123)
قال في الروضتين: قال القاضي ابن شداد: لم يقم السلطان في حلب إلا إلى يوم
السبت الثاني والعشرين من ربيع الآخر، وأنشأ عزما على الغزاة، فخرج ذلك اليوم إلى الوضيحي مبرزا نحو دمشق واستنهض العساكر فخرجوا يتبعونه، ثم رحل في الرابع والعشرين منه إلى حماة فوصلها، ثم رحل في بقية يومه ولم يزل يواصل بين المنازل حتى دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى، فأقام بها متأهبا إلى السابع والعشرين. ثم ذكر غزوته لعين جالوت وبسط القول في ذلك.
ذكر تولية السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل أبا بكر بن أيوب على حلب
قال في الروضتين: كان الملك العادل نائبا بمصر، فلما فتح السلطان حلب كتب العادل إليه يطلبها منه مع أعمالها ويدع الديار المصرية، فكتب السلطان إليه أن يوافيه إلى الكرك فإنه سائر إلى فتحه، فأشار القاضي الفاضل على السلطان أن يستنيب في الديار المصرية موضع أخيه العادل ابن أخيه تقي الدين، فاستصحبه السلطان معه في رجب إلى الكرك هذه السنة، وحاز في طريقه قبل وصوله إليها غنائم وخيم على الربة، ثم حصر الكرك ورماه بالمجانيق صباحا ومساء، وتناوب عليه الأمراء حتى خرج شهر رجب وما حصل منه الطلب، لكن عظمت النكاية في الكفار بأخذ أموالهم وتخريب الديار، ووصل الخبر أن الفرنج قد استجمعوا وتجمعوا بالموضع المعروف بالواله على قصد المسلمين وخلاص الكرك من أيديهم، ورأى السلطان أن حصره يطول فعول على الرحيل إلى دمشق، ووصل العادل إلى السلطان وهو بعد على الكرك فجهز تقي الدين إلى الديار المصرية واليا عليها وقوى عضده بصحبة القاضي الفاضل له. وتولى العادل حلب وأعمالها ومنبج وجميع قلاعها، فسار إليها في رمضان ورجع منها إلى دمشق الملك الظاهر ونواب السلطان. قلت: وكتب العادل إلى الفاضل يستشيره في التعوض عن مصر بحلب فكتب إليه الفاضل كتابا فيه:
إنما أنت كغيث ماطر ... حيثما صرفه الله انصرف
قال ابن أبي طي: كان السلطان يعظم الملك العادل ويعمل برأيه في جميع أموره ويتيمن بمشورته، ولا يعلم بأنه أشار على السلطان بأمر فخالفه. حدثني قاضي اليمن جمال الدين قال: كان السلطان يجمع الأمراء للمشورة فإن كان العادل حاضرا سمع من رأيه وإن لم يكن حاضرا لم يقطع أمرا في المهمات حتى يكاتبه بجلية الأحوال ثم يسمع رأيه فيها،
قال: وحدثني أبي قال: حدثني جماعة قالوا: كان السلطان ليس له غناء عن العادل ولا عن رأيه، فلما حصل العادل بمصر وبعد عن السلطان هناك صار السلطان يتكلف بمكاتبته بالأخبار ويؤخر الأمور إلى أن يرد عليه جوابه فيفوته بذلك كثير من المنافع الحاصلة للدولة وللجهاد، فلما حصر الكرك في هذه السنة كاتبه بالحضور إليه بعياله وأمواله وجميع أصحابه وولى مصر تقي الدين، ولما حصل العادل عند السلطان وقع في نفسه أن يعوضه عن ولاية مصر، ثم حار في ولاية يوليه إياها، قال: وحدثني غيره قال: لما حصل العادل عند السلطان بأمواله وأثقاله كانت الأموال قد قلت على السلطان وقد حصلت عنده عساكر عظيمة، فأحضر العادل ليلا وقال: أريد أن تقرضني مائة وخمسين ألف دينار إلى الميسور فقال: السمع والطاعة، ثم قام وخرج من عنده وكتب إليه يقول: أموالي جميعها بين يديك وأنا مملوكك وأشتهي أن أحمل هذا المال إلى خدمة السلطان ويكون عوضا عنه مدينة حلب وقلعتها، فأجابه السلطان: إنني والله ما أقدمتك إلا لأوليك حلب، وإذ قد اقترحت ذلك فقد وافق ما عندي، فلما أصبح العادل أنفذ وسأل السلطان أن يكتب له بمدينة حلب كتابا ويجعله ككتاب البيع والشراء، فامتنع السلطان وقال: إنما تكون حلب إقطاعا والمال علي له، فاعتذر العادل إلى السلطان، ولما اجتمعا قال له السلطان: أظننت أن البلاد تباع؟ أو ما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها ونحن خزنة للمسلمين ورعاة للدين وحراس لأموالهم، أو ما علمت أن السلطان ملك شاه السلجوقي لما وقف طبرية على جامع خراسان لم يحكم به أحد من القضاة ولا من الفقهاء. ثم قرر السلطان ولاية العادل لحلب وأعمالها إلى رعبان إلى الفرات إلى حماة، وكتب له التوقيع وقرر عليه مالا يحمله برسم الزرد خانات وخزانة الجهاد ورجالة من الحلبيين. ورحل السلطان إلى دمشق واستدعى ولده الظاهر من حلب، فلما حضر أمره بالعود إلى حلب وتسليمها إلى عمه العادل، ففعل وعاد إلى دمشق وسار العادل إلى حلب فالتقيا بالرستن وباتا فيه، فكانت ولاية الظاهر بحلب في هذه النوبة نحو ستة أشهر.(2/124)
إنما أنت كغيث ماطر ... حيثما صرفه الله انصرف
قال ابن أبي طي: كان السلطان يعظم الملك العادل ويعمل برأيه في جميع أموره ويتيمن بمشورته، ولا يعلم بأنه أشار على السلطان بأمر فخالفه. حدثني قاضي اليمن جمال الدين قال: كان السلطان يجمع الأمراء للمشورة فإن كان العادل حاضرا سمع من رأيه وإن لم يكن حاضرا لم يقطع أمرا في المهمات حتى يكاتبه بجلية الأحوال ثم يسمع رأيه فيها،
قال: وحدثني أبي قال: حدثني جماعة قالوا: كان السلطان ليس له غناء عن العادل ولا عن رأيه، فلما حصل العادل بمصر وبعد عن السلطان هناك صار السلطان يتكلف بمكاتبته بالأخبار ويؤخر الأمور إلى أن يرد عليه جوابه فيفوته بذلك كثير من المنافع الحاصلة للدولة وللجهاد، فلما حصر الكرك في هذه السنة كاتبه بالحضور إليه بعياله وأمواله وجميع أصحابه وولى مصر تقي الدين، ولما حصل العادل عند السلطان وقع في نفسه أن يعوضه عن ولاية مصر، ثم حار في ولاية يوليه إياها، قال: وحدثني غيره قال: لما حصل العادل عند السلطان بأمواله وأثقاله كانت الأموال قد قلت على السلطان وقد حصلت عنده عساكر عظيمة، فأحضر العادل ليلا وقال: أريد أن تقرضني مائة وخمسين ألف دينار إلى الميسور فقال: السمع والطاعة، ثم قام وخرج من عنده وكتب إليه يقول: أموالي جميعها بين يديك وأنا مملوكك وأشتهي أن أحمل هذا المال إلى خدمة السلطان ويكون عوضا عنه مدينة حلب وقلعتها، فأجابه السلطان: إنني والله ما أقدمتك إلا لأوليك حلب، وإذ قد اقترحت ذلك فقد وافق ما عندي، فلما أصبح العادل أنفذ وسأل السلطان أن يكتب له بمدينة حلب كتابا ويجعله ككتاب البيع والشراء، فامتنع السلطان وقال: إنما تكون حلب إقطاعا والمال علي له، فاعتذر العادل إلى السلطان، ولما اجتمعا قال له السلطان: أظننت أن البلاد تباع؟ أو ما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها ونحن خزنة للمسلمين ورعاة للدين وحراس لأموالهم، أو ما علمت أن السلطان ملك شاه السلجوقي لما وقف طبرية على جامع خراسان لم يحكم به أحد من القضاة ولا من الفقهاء. ثم قرر السلطان ولاية العادل لحلب وأعمالها إلى رعبان إلى الفرات إلى حماة، وكتب له التوقيع وقرر عليه مالا يحمله برسم الزرد خانات وخزانة الجهاد ورجالة من الحلبيين. ورحل السلطان إلى دمشق واستدعى ولده الظاهر من حلب، فلما حضر أمره بالعود إلى حلب وتسليمها إلى عمه العادل، ففعل وعاد إلى دمشق وسار العادل إلى حلب فالتقيا بالرستن وباتا فيه، فكانت ولاية الظاهر بحلب في هذه النوبة نحو ستة أشهر.
ولما وصل الظاهر إلى دمشق أقبل على خدمة والده والتقرب إليه، إلا أن الانكسار لخروج حلب عنه ظاهر عليه وهو مع ذلك لا يظهر شيئا إلا الطاعة لوالده والانقياد إلى مرضاته.(2/125)
حدثني أبي عن مجد الدين بن الخشاب قال: حدثني الملك الظاهر قال: لما بلغني أن السلطان أعطى حلب للملك العادل جرى عليّ ما قدم وما حدث وأصابني من الهم ما لم أقدر على النهوض به، ووددت أني لم أكن رأيتها ولا دخلت إليها لأني قلبي أحبها وقبلها وطاب لي هواؤها، ولما فارقتها كنت أحن إليها وأشتاقها.
قال: ودخل العادل حلب في رمضان وخلع على المقدمين والأعيان، وكان قد قدم بين يديه كاتبه المعروف بالصنيعة لتسلم حلب وقلعتها من الملك الظاهر وولى القلعة صارم الدين بزغش وولى الديوان والإقطاعات شجاع الدين بن البيضاوي صباغ ذقنه، وولى الإنشاء وما يتعلق بأمور السر للصنيعة ابن النحال وكان نصرانيا ثم أسلم على يد العادل، فولى ابن النحال الوظائف لجماعة من النصارى، وفي ذلك يقول الشاعر:
فاق دين المسيح في دولة العا ... دل حتى علا على الأديان
ذا أمير وذا وزير وذا وا ... ل وذا مشرف على الديوان
وفي السيرة الصلاحية للقاضي ابن شداد قال: عاد السلطان صلاح الدين من الكرك إلى دمشق مستصحبا أخاه الملك العادل معه لإياسه عن الكرك بعد نزول الإفرنج عليها، فدخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان وأعطى أخاه الملك العادل حلب بعد مقامه بدمشق إلى ثاني يوم من شهر رمضان، وكان بها ولده الملك الظاهر ومعه سيف الدين يازكج يدبر أمره وابن العميد في البلد، وكان الملك الظاهر من أحب الأولاد إلى قلبه لما قد خصه الله به من الشهامة والفطنة والعقل وحسن السمت والشغف بالملك والظهور ذلك عليه، وكان أبر الناس بوالده وأطوعهم له، ولكن أخذ منه حلب لمصلحة رآها، فخرج من حلب لما دخل الملك العادل هو ويازكج سائرين إلى خدمة السلطان، فدخل دمشق الثامن عشر من شوال فأقام في خدمة أبيه لا يظهر إلا الطاعة والانقياد مع انكسار في باطنه لا يخفى عن نظر والده اه.
ومما يجدر ذكره هنا ما ذكره ابن خلكان في ترجمة محمد أبي السعادات المعروف بالمسعودي قال: حكى أبو البركات الهاشمي الحلبي قال: لما دخل السلطان صلاح الدين إلى حلب سنة تسع وسبعين وخمسمائة نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب وقعد في خزانة كتبها الوقف (وكان محلها في الشرقية) واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع، ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل اه.(2/126)
سنة 580
ذكر وصف الرحالة أبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي لما مرّ به من هذه الديار في هذه السنة
قال في وصفه لمدينة حران:
بلد لا حسن لديه ولا ظل يتوسط برديه، قد اشتق من اسمه هواؤه فلا يألف البرد ماؤه، ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه. ولا تجد فيه مقيلا ولا تنفس منه إلا نفسا ثقيلا. قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة. أستغفر الله كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنها البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة صلوات الله عليها ومتعبدا لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين ومثابة للسائحين المتبتلين، لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان ابن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب إليه، وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم، فوصلنا إلى الشيخ وهو قد نيف على الثمانين فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور من رجال الآخرة، ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة فلقينا رجلا من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس لا يغطي رأسه تواضعا لله عز وجل حتى عرف بذلك، ووصلنا إلى منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحا. وبهذه البلدة كثير من أهل الخير وأهلها هينون معتدلون محبون للغرباء مؤثرون للفقراء، وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة إلى الشام (1) على هذا السبيل من حب الغرباء وإكرام الفقراء، وأهل قراها كذلك فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا. لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة. وشأن أهل هذه البلاد في هذا السبيل عجيب والله ينفعهم بما هم عليه.
__________
(1) كان مجيئه من بغداد إلى الموصل إلى هذه البلاد.(2/127)
وأما عبادهم وزهادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم بمنه وكرمه.
ولهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام عجيبة الترتيب مسقفة كلها بالخشب، فلا يزال أهلها في ظل ممدود فتخترقها كأنك تخترق دارا كبيرة الشوارع قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك، ويتصل بهذه الأسواق جامعها المكرم وهو عتيق مجدد قد جاء على غاية الحسن، وله صحن كبير فيه ثلاث قباب مرتفعة على سواري رخام وتحت كل قبة بئر عذبة، وفي الصحن أيضا قبة رابعة عظيمة قد قامت على عشر سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبرا، وهذه القبة من بنيان الروم، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد، يقال إنه كان مخزنا لعدتهم الحربية والله أعلم.
والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا، وخشبه عظام طوال لسعة البلاط وسعته خمس عشرة خطوة، وهو خمسة أبلطة، وما رأينا جامعا أوسع حنايا منه، وجداره المتصل بالصحن الذي عليه المدخل مفتح كله أبوابا عددهم تسعة عشر بابا تسعة يمينا وتسعة شمالا، والتاسع عشر منها باب عظيم وسط هذه الأبواب يمسك قوسه من أعلى الجدار إلى أسفله بهي المنظر جميل الوضع كأنه باب من أبواب المدن الكبار، ولهذه الأبواب كلها أغلاق من الخشب البديع الصنعة والنقش تنطبق عليها على شبه أبواب مجالس القصور، فشاهدنا من حسن بناء هذا الجامع وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به مرأى عجيبا قل ما يوجد في المدن مثل انتظامه.
ولهذه البلدة مدرسة ومارستان، وهي بلدة كبيرة وسورها متين حصين مبني بالحجارة المنحوتة المرصوص بعضها على بعض في نهاية من القوة، وكذلك بنيان الجامع المكرم، ولها قلعة حصينة مما يلي الجهة الشرقية منها منقطعة عنها بفضاء واسع بينهما ومنقطعة أيضا عن سورها بحفير عظيم يستدير بها قد شيدت حافاته بالحجارة المركومة فجاء في نهاية الوثاقة والقوة. وسور القلعة وثيق الحصانة.
ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها ومصبه من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق واسع الرزق حاصل البركة كثير المساجد جم
المرافق على أحفل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين (له ذكر في حوادث سنة 578) وطاعته إلى صلاح الدين. وهذه البلاد كلها من الموصل إلى نصيبين إلى الفرات المعروفة بديار ربيعة وحدها من نصيبين إلى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين، فهم إلى طاعته وإن كانوا مستبدين، وفضله يبقى عليهم ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله، فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء منه، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين فلقيناه بمسجده، فرأينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر وكرم لقاء وبر، فآنسنا ودعا لنا وودعناه وانصرفنا حامدين لله عز وجل على ما منّ علينا من لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.(2/128)
ولهذه البلدة نهير مجراه بالجهة الشرقية أيضا منها بين سورها وجبانتها ومصبه من عين هي على بعد من البلد. والبلد كثير الخلق واسع الرزق حاصل البركة كثير المساجد جم
المرافق على أحفل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين (له ذكر في حوادث سنة 578) وطاعته إلى صلاح الدين. وهذه البلاد كلها من الموصل إلى نصيبين إلى الفرات المعروفة بديار ربيعة وحدها من نصيبين إلى الفرات مع ما يلي الجنوب من الطريق وديار بكر التي تليها في الجانب الجوفي كآمد وميافارقين وغيرها مما يطول ذكره ليس في ملوكها من يناهض صلاح الدين، فهم إلى طاعته وإن كانوا مستبدين، وفضله يبقى عليهم ولو شاء نزع الملك منهم لفعله بمشيئة الله، فكان نزولنا ظاهر البلد بشرقيه على نهيره المذكور، وأقمنا مريحين يوم الاثنين ويوم الثلاثاء منه، وإثر الظهر منه كان اجتماعنا بسلمة المكشوف الرأس الذي فاتنا لقاؤه يوم الاثنين فلقيناه بمسجده، فرأينا رجلا عليه سيما الصالحين وسمت المحبين مع طلاقة وبشر وكرم لقاء وبر، فآنسنا ودعا لنا وودعناه وانصرفنا حامدين لله عز وجل على ما منّ علينا من لقاء أوليائه الصالحين وعباده المقربين.
وفي ليلة الأربعاء التاسع لربيع المذكور كان رحيلنا بعد تهويم ساعة فأسرينا إلى الصباح ونزلنا مريحين بموضع يعرف بتل عبدة وهو موضع عمارة، وهذا التل مشرف متسع كأنه المائدة المنصوبة، وفيه أثر بناء قديم، وبهذا الموضع ماء جار، وكان رحيلنا منه عند المغرب، وأسرينا الليل كله واجتزنا على قرية تعرف بالبيضاء فيها خان كبير جديد وهو نصف الطريق من حران إلى الفرات ويقابلها على اليمين من الطريق في استقبالك الفرات إلى الشام مدينة سروج التي شهر ذكرها الحريري بنسبة أبي زيد إليها، وفيها البساتين والمياه المطردة حسبما وصفها في مقاماته، فكان وصولنا إلى الفرات ضحوة النهار، وعبرنا في الزوارق المقلة المعدة للعبور إلى قلعة جديدة على الشط تعرف بقلعة نجم، وحولها ديار بادية وفيها سويقة يوجد فيها المهم من علف وخبز، فأقمنا بها يوم الخميس العاشر لربيع الأول المذكور مريحين خلال ما تكمل القافلة بالعبور. وإذا عبرت الفرات حصلت في حد الشام وسرت في طاعة صلاح الدين إلى دمشق والفرات حد بين ديار الشام وديار ربيعة وبكر، وعن يسار الطريق في استقبالك الفرات إلى الشام مدينة الرقة وهي على الفرات، وتليها رحبة مالك بن طوق وتعرف برحبة الشام وهي من المدن الشهيرة، ثم رحلنا منها عند مضي ثلث الليل الأول وأسرينا ووصلنا مدينة منبج مع الصباح من يوم الجمعة الحادي عشر لربيع المذكور والثاني والعشرين ليونيه.(2/129)
وقال في وصفه لمدينة منبج:
بلدة فسيحة الأرجاء صحيحة الهواء يحف بها سور عتيق ممتد الغاية والانتهاء، جوها صقيل ومجتلاها جميل ونسيمها أرج النشر عليل، نهارها يندى ظله وليلها كما قيل فيه سحر كله، تحف بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار والماء يطرد فيها ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة شهدية العذوبة سلسبيلية المذاق تكون في كل دار منها البئر والبئران، وأرضها أرض كريمة تستنبط مياها كلها، وأسواقها وسككها فسيحة متسعة ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعا وكبرا، وأعالي أسواقها مسقفة وعلى هذا الترتيب أسواق أكثر مدن هذه الجهات. لكن هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب حتى أخذ منها الخراب، كانت من مدن الروم العتيقة ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها، ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها، ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية، وأهلها أهل فضل وخير سنيون شافعيون، وهي مطهرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة والعقائد الفاسدة كما تجده في الأكثر من هذه البلاد، فمعاملتهم صحيحة وأحوالهم مستقيمة وجادتهم الواضحة في دينهم من اعتراض بنيات الطريق سليمة، فكان نزولنا خارجها في أحد بساتينها، وأقمنا يوما مريحين، ثم رحلنا نصف الليل ووصلنا بزاعة ضحوة يوم السبت الثاني عشر لربيع المذكور.
وقال في وصفه لبلدة بزاعة:
بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر الحضرية، وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها، فأمر بثلم بنائها حتى غادرها عودة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة. ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب بين بزاعة وحلب، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددهم إلا الله، فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم وإضرارهم حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية وحركتهم الأنفة والحمية، فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصولهم عن آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم، وكفى الله
المسلمين عاديتهم وشرهم، وأحاق بهم مكرهم والحمد لله رب العالمين. وسكانها اليوم قوم سنيون، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين ورحلنا في الليل وأسرينا إلى الصباح، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول والرابع والعشرين ليونيه.(2/130)
بقعة طيبة الثرى واسعة الذرى، تصغر عن المدن وتكبر عن القرى، بها سوق تجمع بين المرافق السفرية والمتاجر الحضرية، وفي أعلاها قلعة كبيرة حصينة رامها أحد ملوك الزمن فغاظته باستصعابها، فأمر بثلم بنائها حتى غادرها عودة منبوذة بعرائها. ولهذه البلدة عين معينة يخترق ماؤها بسيط بطحاء ترف بساتينها خضرة ونضارة وتريك برونقها الأنيق حسن الحضارة. ويناظرها في جانب البطحاء قرية كبيرة تعرف بالباب بين بزاعة وحلب، وكان يعمرها منذ ثماني سنين قوم من الملاحدة الإسماعيلية لا يحصي عددهم إلا الله، فطار شرارهم وقطع هذه السبيل فسادهم وإضرارهم حتى داخلت أهل هذه البلاد العصبية وحركتهم الأنفة والحمية، فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصولهم عن آخرهم وعجلوا بقطع دابرهم وكومت بهذه البطحاء جماجمهم، وكفى الله
المسلمين عاديتهم وشرهم، وأحاق بهم مكرهم والحمد لله رب العالمين. وسكانها اليوم قوم سنيون، فأقمنا بها يوم السبت ببطحاء هذه البلدة مريحين ورحلنا في الليل وأسرينا إلى الصباح، ووصلنا مدينة حلب ضحوة يوم الأحد الثالث عشر لربيع الأول والرابع والعشرين ليونيه.
وقال في وصفه لحلب حرسها الله تعالى:
بلدة قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير، خطابها من الملوك كثير، محلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح وسلت عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء موضعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقة في الأزل حديثة وإن لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام وشيعت الخواص والعوام، هذه منازلها وديارها فأين سكانها قديما وعمّارها، وتلك دار مملكتها وفناؤها فأين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها، أجل فني جميعهم ولم يأن بعد فناؤها فيا عجبا للبلاد تبقى وتذهب أملاكها ويهلكون ولا يقضى هلاكها، تخطب بعدهم فلا يتعذر ملاكها وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها، هذه حلب كم أدخلت من ملوكها في خبر كان ونسخت ظرف الزمان بالمكان. أنّث اسمها فتحلت بزينة الغوان ودانت بالغدر فيمن خان وتجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان. هيهات هيهات سيهرم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها، وتتطرق جنبات الحوادث إليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا إله سواه سبحانه جلت قدرته، وقد خرج بنا الكلام عن مقصده فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول:
إن من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم بغنيمات له فيحلبها هناك ويتصدق بلبنها، فلذلك سميت حلب والله أعلم. وبها مشهد كريم يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه. ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر، والطعام يصبر فيها الدهر كله، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد، ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي إلى وصفه، وسورها الأعلى كله أبراج
منتظمة فيها العلالي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا، وكل برج منها مسكون، وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.(2/131)
إن من شرف هذه القلعة أنه يذكر أنها كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم بغنيمات له فيحلبها هناك ويتصدق بلبنها، فلذلك سميت حلب والله أعلم. وبها مشهد كريم يقصده الناس ويتبركون بالصلاة فيه. ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ أبد الدهر، والطعام يصبر فيها الدهر كله، وليس في شروط الحصانة أهم ولا آكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين المذكورين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد، ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه. وشأن هذه القلعة في الحصانة والحسن أعظم من أن ننتهي إلى وصفه، وسورها الأعلى كله أبراج
منتظمة فيها العلالي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا، وكل برج منها مسكون، وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.
وأما البلد فموضعه ضخم جدا حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها، متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقف بالخشب فكأنها في ظلال وارفة، فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجبا. وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا، مطيفة بالجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المرائي الرياضية، وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش، وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر، وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.
وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبوابا قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين بابا فيستوقف الأبصار حسن منظرها. وفي صحنه بئران معينتان، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح، وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره (1) فما أرى في بلد من البلاد منبرا على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسنا على تلك الصفة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم على المحراب وعلا حتى اتصل. بسمك السقف، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة دون أن يتبين بينهما انفصال فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا. وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف.
ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسنا واتقان صنعة، فيها في الحسن روضة تجاور أخرى، وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة. ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتا وغرفا لها طيقان يتصل بعضها ببعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا، فحصل لكل طاق
__________
(1) سيأتي الكلام على هذا المنبر والمنبر الذي حمل من حلب إلى القدس في حوادث سنة 583.(2/132)
من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا أمامها فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة.
وللبلدة سوى هذه المدرسة نحو أربع مدارس أو خمس، ولها مارستان، وأمرها في الاحتفال عظيم، فهي تليق بالخلافة وحسنها كله داخل لا خارج لها إلا نهير يجري من جوفيها إلى قبليها ويشق ربضها المستدير بها، فإن لها ربضا كبيرا فيه من الخانات ما لا يحصى عدده، وبهذا النهر الأرحاء وهي متصلة بالبلد وقائمة وسط ربضه، وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله، وكيفما كان الأمر فيه داخلا وخارجا فهو من بلاد الدنيا التي لا نظير لها والوصف فيه يطول، فكان نزولنا بربضه في خان يعرف بخان أبي الشكر، فأقمنا فيه أربعة أيام ورحلنا ضحوة يوم الخميس السابع عشر لربيع المذكور والثامن والعشرين ليونية ووصلنا (قنسرين) قبيل العصر، فأرحنا بها قليلا ثم انتقلنا إلى قرية تعرف (بتل تاجر) فكان مبيتنا بها ليلة الجمعة الثامن عشر منه.
كلامه على قنسرين والمعرة:
قال: وقنسرين هذه هي البلدة المشهورة في الزمان، لكنها خربت وعادت كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق إلا آثارها الدارسة ورسومها الطامسة، ولكن قراها عامرة منتظمة لأنها على محرث عظيم مد البصر عرضا وطولا، وتشبهها من البلاد الأندلسية جيّان، ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيّان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به مثل ما فعل في أكثر بلادها حسب ما هو معروف. ثم رحلنا من ذلك الموضع عند الثلث الماضي من الليل فأسرينا وسرنا إلى ضحوة من النهار، ثم نزلنا مريحين بموضع يعرف بياقدين في خان كبير يعرف بخان التركمان وثيق الحصانة، وخانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة، وأبوابها حديد، وهي من الوثاقة في غاية. ثم رحلنا من هذا الموضع وبتنا بموضع بتمني في خان وثيق على الصفة المذكورة. ثم أسحرنا منه يوم السبت التاسع عشر لربيع الأول المذكور وهو آخر يوم من يونية.
ورأينا عن يمين طريقنا بمقدار فرسخين يوم الجمعة المذكور بلاد (المعرة) وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي من أخصب بلاد الله وأكثرها رزقا.(2/133)
ذكر مجيء الخلع من الخليفة إلى السلطان صلاح الدين ونزول عسكر الموصل على إربل
قال القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية: في شهر جمادى الآخرة وصل رسول الخليفة ومعه الخلع فلبسها السلطان وألبس أخاه الملك العادل (كان عنده بدمشق) وابن أسد الدين خلعا جاءت لهم. وفي الرابع عشر من هذا الشهر خلع السلطان خلعة الخليفة على ابن قره أرسلان وأعطاه دستورا وأعطاه العساكر.
وفي هذا التاريخ وصلت رسل ابن زين الدين مستصرخا إلى السلطان يخبر أن عسكر الموصل وعسكر قزل نزلوا مع مجاهد الدين قايماز على إربل وأنهم نهبوا وأحرقوا وأنه نصر عليهم وكسرهم.
سنة 581
ذكر مجيء السلطان إلى حلب وتوجهه إلى حران ثم قصده نواحي الموصل
قال القاضي ابن شداد: ولما سمع السلطان ذلك رحل من دمشق يطلب البلاد، وتقدم إلى العساكر فتبعته وسار حتى أتى حران على طريق البيرة، والتقى مع مظفر الدين بالبيرة في الثاني عشر من محرم سنة إحدى وثمانين، وتقدم السلطان إلى سيف الدين المشطوب أن يسير في مقدمة العساكر إلى رأس العين، ووصل السلطان إلى حران الثاني والعشرين من صفر، وفي السادس والعشرين منه قبض على مظفر الدين بن زين الدين لشيء كان قد جرى منه وحديث كان بلغه عنه رسوله ولم يقف عليه وأنكره، فأخذ منه قلعة حران والرها، ثم أقام في الاعتقال تأديبا إلى مستهل ربيع الأول، ثم خلع عليه وطيب قلبه وأعاد إليه قلعة حران وبلاده التي كانت بيده وأعاده إلى قانونه في الإكرام والاحترام، ولم يتخلف له سوى قلعة الرها ووعده بها. ثم رحل السلطان ثاني ربيع الأول إلى رأس العين ووصله في ذلك رسول قليج أرسلان يخبره أن ملوك الشرق بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على قصد السلطان إن لم يعد عن الموصل وماردين وأنهم على ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك، فرحل السلطان يطلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدين بن قره أرسلان
ومعه عسكر نور الدين صاحب ماردين، فالتقاهم واحترمهم، ثم رحل من دنيسر حادي عشر نحو الموصل حتى نزل موضعا يعرف بالإسماعيليات قريب الموصل بحيث يصل من العسكر كل يوم نوبة جديدة تحاصر الموصل، فبلغ عماد الدين بن قره أرسلان موت أخيه نور الدين فطلب من السلطان دستورا طمعا في ملك أخيه فأعطاه دستورا. اه(2/134)
قال القاضي ابن شداد: ولما سمع السلطان ذلك رحل من دمشق يطلب البلاد، وتقدم إلى العساكر فتبعته وسار حتى أتى حران على طريق البيرة، والتقى مع مظفر الدين بالبيرة في الثاني عشر من محرم سنة إحدى وثمانين، وتقدم السلطان إلى سيف الدين المشطوب أن يسير في مقدمة العساكر إلى رأس العين، ووصل السلطان إلى حران الثاني والعشرين من صفر، وفي السادس والعشرين منه قبض على مظفر الدين بن زين الدين لشيء كان قد جرى منه وحديث كان بلغه عنه رسوله ولم يقف عليه وأنكره، فأخذ منه قلعة حران والرها، ثم أقام في الاعتقال تأديبا إلى مستهل ربيع الأول، ثم خلع عليه وطيب قلبه وأعاد إليه قلعة حران وبلاده التي كانت بيده وأعاده إلى قانونه في الإكرام والاحترام، ولم يتخلف له سوى قلعة الرها ووعده بها. ثم رحل السلطان ثاني ربيع الأول إلى رأس العين ووصله في ذلك رسول قليج أرسلان يخبره أن ملوك الشرق بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على قصد السلطان إن لم يعد عن الموصل وماردين وأنهم على ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك، فرحل السلطان يطلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدين بن قره أرسلان
ومعه عسكر نور الدين صاحب ماردين، فالتقاهم واحترمهم، ثم رحل من دنيسر حادي عشر نحو الموصل حتى نزل موضعا يعرف بالإسماعيليات قريب الموصل بحيث يصل من العسكر كل يوم نوبة جديدة تحاصر الموصل، فبلغ عماد الدين بن قره أرسلان موت أخيه نور الدين فطلب من السلطان دستورا طمعا في ملك أخيه فأعطاه دستورا. اه
قال في الروضتين: قال العماد: دخلت سنة إحدى وثمانين والسلطان مخيم بظاهر حماة فسار إلى حلب وتلقاه أخوه الملك العادل واجتمعت له بها العساكر، فخرج منها في صفر لقصد الموصل، فسار وقطع الفرات وأقام العسكر ثلاثة أيام للعبور بها، وكان السلطان قد سير إلى معاقل الفرات وقلاعه ونواحيه وضياعه وأمر أهلها بعمارة كل سفينة في الفرات وزورق ومركب وجمعها من كل مشرق ومغرب، ثم وصل إلى حران وفيها مظفر الدين بن زين الدين وهو أخو زين الدين يوسف صاحب إربل وقد كان أول من دخل في خدمة السلطان وأول ما قصد تلك البلاد في المرة الأولى، واقتدى به أخوه وغيره من أصحاب الأطراف في الانتماء إلى السلطان، وحضر معه حصار عدة بلاد كالموصل وسنجار وآمد وحلب وأظهر من المودة فوق ما كان في الحساب، وكان كثير الحث للسلطان على المسير إلى الموصل هذه المرة برسوله وكتابه، وقال رسوله للسلطان: إذا عبرتم الفرات فإن مظفر الدين يستدرك كل ما فات ويقوم بكل ما يحتاج إليه في تلك البلاد من النفقات والغرامات والأزواد ويقدم يوم الوصول إلى حران خمسين ألف دينار، وكتب خطه بذلك، فلما وصل السلطان إلى حران لم ير منه ما التزمه الرسول، فارتاب وظن أنه مال مع المواصلة ووشت الأعداء فيه بذلك وأن نيته قد تغيرت، فحلف للسلطان أنه لم يتغير وأن ما التزمه الرسول لم يكن بأمره وهو ابن ماهان، فانعزل عنده عن مرتبته وهان، فقبض السلطان على مظفر الدين ليتبين أمره وشاور فيه أصحابه فأشار بعضهم بإتلافه وبعضهم باستبقائه واستئلافه، فعفا السلطان عنه على أن يسلم إليه قلعتي الرها وحران ففعل ذلك وهو مسرور ببقاء نفسه، ثم أعيدت إليه القلعتان في آخر السنة لما رأى السلطان من حركاته المستحسنة اه.
ثم بسط في الروضتين الكلام على محاصرته للموصل ثم رحيله عنها إلى ميافارقين ومحاصرتها إلى أن ملكها ثم رحيله منها إلا خلاط ثم عوده إلى الموصل ونزوله بموضع قريب منها يقال له كفر زمار.(2/135)
قال ابن شداد: ومرض السلطان بكفر زمار مرضا شديدا خاف من غائلته، فرحل طالبا حران وهو مريض، وكان يتجلد ولا يركب محفته، فوصل وهو شديد المرض وبلغ إلى غاية الضعف وأيس منه وأرجف بموته، ووصل إليه أخوه العادل من حلب ومعه الأطباء.
وكان ذلك سببا للصلح مع المواصلة. وبسط في الروضتين ما تقرر بينه وبينهم من الأمور قال: ولما امتد زمان مرضه أمر ببناء دار عند سرادقه فبنيت في أربعة أو خمسة أيام، ثم آذن الله بالشفاء وسمى هذه الديار دار العافية للبرء فيها من سقامه، ثم أخلاها لمن ينزل بها ضيفا وجعلها للآوين إليها وقفا.
سنة 582
ذكر عود السلطان من حران إلى حلب وتوجهه منها إلى دمشق
قال القاضي ابن شداد: ولما وجد السلطان نشاطا من مرضه رحل يطلب جهة حلب، وكان وصوله إليها رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين، وكان يوما مشهودا لشدة فرح الناس بعافيته ولقائه، فأقام بها أربعة أيام ثم رحل نحو دمشق.
ذكر نقل الملك العادل من حلب إلى مصر وتولية حلب للملك الظاهر غازي وشرح أسباب ذلك
قال القاضي ابن شداد: وفي سابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وصل الملك الأفضل علي (ابن السلطان صلاح الدين ونائبه بمصر) إلى دمشق ولم يكن قد رأى قبل ذلك الشام، وكان السلطان رأى رواح الملك العادل إلى مصر فإنه كان آنس بأحوالها من الملك المظفر، فما زال يفاوضه بذلك وهو على حران مريض، وقد حصل ذلك في نفس الملك العادل، فإنه كان يحب الديار المصرية، فلما عاد السلطان إلى دمشق ومنّ الله بعافيته سير يطلب الملك العادل إلى دمشق، فأقام بها في خدمة السلطان فجرت بينهما أحاديث ومراجعات في قواعد تقرر إلى جمادى الآخرة، واستقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر وتسليم حلب إلى الظاهر. وكان الملك الظاهر والملك العزيز بدمشق في خدمة والدهما، فلما استقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر استقرت على أن يكون أتابك الملك العزيز ويسلمه ولده يربي أمره ويسلم الملك العادل حلب إلى الملك
الظاهر. ولقد قال لي الملك العادل: إنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز: يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير، وغدا فما نخلو ممن يقول ما لا يجوز عني ويخوفك مني، فإن كان لك عزم تسمع فقل لي حتى لا أجيء، فقال:(2/136)
قال القاضي ابن شداد: وفي سابع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وصل الملك الأفضل علي (ابن السلطان صلاح الدين ونائبه بمصر) إلى دمشق ولم يكن قد رأى قبل ذلك الشام، وكان السلطان رأى رواح الملك العادل إلى مصر فإنه كان آنس بأحوالها من الملك المظفر، فما زال يفاوضه بذلك وهو على حران مريض، وقد حصل ذلك في نفس الملك العادل، فإنه كان يحب الديار المصرية، فلما عاد السلطان إلى دمشق ومنّ الله بعافيته سير يطلب الملك العادل إلى دمشق، فأقام بها في خدمة السلطان فجرت بينهما أحاديث ومراجعات في قواعد تقرر إلى جمادى الآخرة، واستقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر وتسليم حلب إلى الظاهر. وكان الملك الظاهر والملك العزيز بدمشق في خدمة والدهما، فلما استقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر استقرت على أن يكون أتابك الملك العزيز ويسلمه ولده يربي أمره ويسلم الملك العادل حلب إلى الملك
الظاهر. ولقد قال لي الملك العادل: إنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز: يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير، وغدا فما نخلو ممن يقول ما لا يجوز عني ويخوفك مني، فإن كان لك عزم تسمع فقل لي حتى لا أجيء، فقال:
لا أسمع وكيف يكون ذلك، ثم التفت. وقلت للملك الظاهر: أنا أعرف ان أخاك ربما سمع في أقوال المفسدين وأنا فمالي إلا أنت، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه، فقال: مبارك وذكر كل خير.
ثم إن السلطان سير ولده الظاهر إلى حلب وأعادها إليه، وكان رحمه الله يعلم أن حلب هي أصل الملك وجرثومته وقاعدته ولهذا دأب في طلبها ذلك الدأب، ولما حصلت له أعرض عما عداها من بلاد المشرق وقنع منهم بالطاعة والمعونة على الجهاد فسلمها إليه علما منه بحذاقته وحزمه وحفظه، فسار حتى أتى العين المباركة وسير في خدمته الشحنة حسام الدين بشارة وواليا شجاع الدين عيسى بن بلاشوا، فنزل يوم الجمعة بعين المباركة وخرج الناس إلى لقائه في بكرة تاسع جمادى الآخرة، وصعد القلعة ضحوة نهاره وفرح الناس به فرحا شديدا، ومد على الناس من جناح عدله وأفاض عليهم وابل فضله.
قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة: وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام أن صلاح الدين لما مرض بحران على ما ذكرناه أرجف بمصر أنه قد مات فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك فأرسل الفقيه عيسى الهكاري (1)، وكان كبير القدر عنده مطاعا في الجند إلى مصر وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر، فسار مجدا فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيسى إلى داره بالقاهرة وأرسل إليه يأمره بالخروج منها، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز فلم يفعل وقال: تقيم خارج المدينة وتتجهز، فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب فقال له: اذهب حيث شئت، فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه، فسار إلى الشام فأحسن إليه ولم يظهر له شيئا مما كان لأنه كان حليما كريما صبورا رحمه الله.
__________
(1) عيسى هذا له ترجمة في ابن خلكان وهو فقيه وأمير كان يلبس ثياب الأجناد ويتعمم عمامة الفقهاء، وقد ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية في صحيفة 82.(2/137)
وأما أخذ حلب من العادل فإن السبب فيه أن كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر بينه وبين صلاح الدين صحبة قديمة قبل الملك، وكان صلاح الدين يعتمد عليه، وكان عاقلا ذا مكر ودهاء، فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب لم يفعل معه ما كان يظنه وقدم غيره عليه فتأثر بذلك، فلما مرض صلاح الدين وعوفي سار إلى الشام فسايره يوما سليمان بن جندر فجرى حديث مرضه، وكان صلاح الدين قد أوصى لكل واحد من أولاده بشيء من البلاد، فقال له: بأي رأي كنت تظن أن وصيتك تمضي كأنك كنت خارجا إلى الصيد فلا يخالفونك، بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة، قال: وكيف ذلك، وهو يضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشا لفراخه قصد أعالي الشجرة ليحمي فراخه، وأنت سلمت الحصون إلى أهلك وجعلت أولادك على الأرض، هذه حلب وهي أم البلاد بيد أخيك وحماة بيد ابن أخيك تقي الدين وحمص بيد ابن شيركوه وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد، فقال له: صدقت واكتم هذا الأمر، ثم أخذ حلب من أخيه وأخرج تقي الدين من مصر ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر لتبقى لأولاده فلم ينفعه ما فعل. لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكره اه.
وكانت وفاة الملك العادل سنة 615كما ذكره ابن الأثير في حوادث هذه السنة، وكان عمره خمسا وسبعين سنة. وقال: إنه كان عاقلا ذا رأي سديد ومكر شديد وخديعة صبورا حليما ذا أناة، يسمع ما يكره ويغض عليه، حتى كأنه لم يسمعه، كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا. وملك دمشق سنة 592من الأفضل ابن أخيه، وملك مصر منه سنة 596، وقسم الملك في حياته بين أولاده. وبسط ابن الأثير ذلك.
وقال ابن خلكان في ترجمته ما خلاصته: هو أبو بكر محمد بن أبي الشكر أيوب ابن شادي بن مروان الملقب بالملك العادل سيف الدين، ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب في حال غيبته في الشام ويستدعي منه الأموال للإنفاق في الجند وغيرهم.(2/138)
ولما ملك السلطان مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعطاها لولده الظاهر غازي، ثم أخذها منه وأعطاها للملك العادل، فانتقل إليها وقصد قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة، ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي بن السلطان لمصلحة وقع الاتفاق عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين، وخرج منها في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ليلة السبت الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، ثم أعطاه السلطان قلعة الكرك، وتنقل في الممالك في حياة السلطان وبعد وفاته، وآخر الأمر أنه استقل بمملكة الديار المصرية وخطب له بحلب يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وملك معها البلاد الشامية والشرقية وصفت له الدنيا، ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وكان ملكا عظيما ذا رأي ومعرفة تامة قد حنكته التجارب، حسن السيرة جميل الطوية وافر العقل حازما في الأمور صالحا محافظا على الصلوات في أوقاتها متبعا لأرباب السنة مائلا إلى العلماء، حتى صنف له فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس وذكر اسمه في خطبته وسيره إليه من بلاد خراسان، وكان بالغالب يصيف بالشام لأجل الفواكه والثلج والمياه الباردة ويشتي في الديار المصرية لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد. وعاش في أرغد عيش، وكان يأكل كثيرا خارجا عن المعتاد، حتى يقال إنه كان يأكل وحده خروفا لطيفا مشويا، وكان له في النكاح نصيب وافر، وحاصل الأمر أنه كان ممتعا في دنياه، وكانت ولادته بدمشق سنة أربعين وخمسمائة وتوفي سنة خمس عشرة وستمائة، ودفن بالقلعة ثاني يوم وفاته، ثم نقل إلى مدرسته المعروفة به (هي التي اتخذها الآن المجمع العلمي العربي بدمشق مقرا له وأسس فيها مكتبة ومتحفا) ودفن في التربة التي بها، وقبره على الطريق يراه المجتاز من الشباك المركب هناك رحمه الله.
سنة 583
ذكر فتح البيت المقدس وحمل المنبر إليه من حلب
في هذه السنة في رجب فتح السلطان صلاح الدين رحمه الله البيت المقدس، وقد كان أخذ من المسلمين سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فيكون مدة بقائه في أيديهم إحدى وتسعين سنة. وبسط ابن الأثير وصاحب الروضتين الأخبار في ذلك.
قال ابن الأثير: وصلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين محمد بن أبي الحسن بن الزكي قاضي
دمشق (1)، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر فقيل له إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده رحمه الله اه.(2/139)
قال ابن الأثير: وصلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين محمد بن أبي الحسن بن الزكي قاضي
دمشق (1)، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر فقيل له إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده رحمه الله اه.
وقال في الروضتين نقلا عن العماد الكاتب ما خلاصته: أنه كان بحلب نجار يعرف بالأختريني من ضيعة تعرف بأخترين لم يلف له في براعته وصنعته قرين، فأمره نور الدين بعمل منبر لبيت الله المقدس وقال له: اجتهد أن تأتي به على النعت المهندم والنحت المهندس، فجمع الصناع وأحسن الإبداع، وأتمه في سنين واستحق بحق إحسانه التحسين، واتفق أن جامع حلب في الأيام النورية احترق فاحتيج إلى منبر ينصب فنصب ذلك المنبر وحسن المنظر، وتولى حينئذ النجار عمل المحراب على الرقم وشابه المحراب المنبر في الرسم، ومن رأى حلب شاهد منه على مثال المنبر القدسي الإحسان.
وفي كراسة عندي تكلم فيها على الجامع الأعظم (ويظهر أنها من كنوز الذهب لأبي ذر) قال فيها: قرأت في تاريخ الإسلام [للذهبي]: وقد كان نور الدين أنشأ منبرا برسم الأقصى قبل فتح بيت المقدس طمعا في أن يفتحه، ولم تزل نفسه تحدثه بفتحه، وكان بحلب نجار فائق الصنعة فعمل لنور الدين هذا المنبر على أحسن نعت وأبدعه، فاحترق جامع حلب فنصب فيه، ثم عمل النجار المذكور ويعرف بالأختريني منبرا آخر شبه ذلك المنبر، فلما افتتح السلطان بيت المقدس أمر بنقل المنبر فنصب إلى جانب محراب الأقصى. انتهى.
وقال قبل نقل كلام الذهبي: وأما المنبر الذي هو الآن به فعمل في أيام السلطان الملك الناصر محمد وصانعه محمد بن علي الموصلي بتولي محمد بن عثمان بن الحداد (2)،
__________
(1) وخطبته مذكورة في الروضتين وفي ابن خلكان في ترجمة ابن الزكي وهي طويلة بديعة.
(2) والملك الناصر محمد تولى الملك في الديار المصرية ثلاث مرات والمرة الثالثة كانت سنة 709وبقي إلى سنة 741.(2/140)
وهذا المنبر غير المنبر الذي كنت سمعت أن صانعه كان فلاحا من قرية الأخترين من قرى حلب، وأنه مات قبل تركيبه وعجز الناس عن تركيبه، فرآه ولده في النوم فقال له: عجزتم عن تركيبه؟ قال: نعم، فأراهم كيفية التركيب فأصبح ولده وركبه اه.
أقول: وقد تقدم في حوادث سنة 580وصف ابن جبير للمنبر القديم، وهذا قد احترق حينما دخل صاحب سيس إلى الجامع وأحرق الجانب القبلي منه وذلك سنة 684كما سيأتي، وبقي إلى أن جدد في أيام الملك الناصر محمد في أوائل القرن الثامن وهو الموجود إلى الآن، وهو من خشب الآبنوس بديع الصنعة قد تخلل أجزاءه قطع رقاق صغار من العاج يدلك على براعة صانعه ورقي تلك الصنعة في ذلك العهد. لكنه على مقتضي وصف ابن جبير له لم يأت مثل المنبر القديم.
ومكتوب على تاج بابه: (عمل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عز نصره). وتحت ذلك: (عمل العبد الفقير إلى الله محمد بن علي الموصلي).
وعلى مصراعي الباب: (بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان الحداد). وكتب وراء المنبر في أعلى الجدار: (أمر بعمله المقر العالي الأمير الشمسي قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري عز نصره).
وأما المنبر الذي حمل إلى القدس الذي هو نظير السابق فإنه لم يزل باقيا فيها إلى وقتنا هذا، وعزمت على أخذه بالمصور الشمسي وإثباته هنا لتعلم منه صنعة ذلك المنبر فلم يتسهل لي ذلك، وقد كتب لي بالواسطة ما هو مكتوب على ذلك المنبر، قال: مكتوب في الجهة الشرقية عن يسار المنبر في أطرافه الأربع بعد البسملة: (أمر بعمله العبد الفقير إلى رحمته الشاكر لنعمته المجاهد في سبيله المرابط لإعلاء دينه العادل نور الدين ركن الإسلام والمسلمين منصف المظلومين من الظالمين أبو القاسم محمود بن زنكي بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز الله أنصاره وأدام اقتداره وأعلى مناره في الخافقين ألويته وأعلامه وأعز أولياء دولته وأذل كفار نعمته وفتح له وعلى يديه وأقر بالنصر والزلفا عيناه) (هكذا كتب لي) برحمتك يا رب العالمين وذلك في شهور أربعة وستين وخمسمائة.
ومكتوب على المصراع الأيمن من الباب: (عمله سليمان معالي رحمه الله) وعلى المصراع الأيسر: (عمله حميد بن ظافر رحمه الله).(2/141)
ومكتوب على الجهة الغربية وهي اليمنى في أطرافه الأربع: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} إلخ الآية. وقوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللََّهِ} إلى قوله {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً}.
ومكتوب على تاج المنبر في الجهة اليمنى في أطرافه الأربع بعد البسملة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللََّهُ} إلخ الآية. وفي الجهة اليسرى أي الملاصقة للمحراب في الأطراف الأربع أيضا بعد البسملة: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ} إلخ الآية. وكتب ثمة: (صنعه حميد بن ظافر الحلبي رحمه الله.
وصنعه فضائل وأبو الحسن ولدي يحيى الحلبي رحمه الله). ويظهر أن الكتابة على طرفي التاج والكاتب لم يوضح لي ذلك.
سنة 584
اتصال القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد بالسلطان صلاح الدين وفتح جبلة واللاذقية
قال القاضي في السيرة الصلاحية المسماة بالنوادر اليوسفية في فصل نزول السلطان على كوكب: إني كنت حججت سنة ثلاث وثمانين، ثم اتفق لي العود من الحج على الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلّى الله عليه وسلم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل [لأنه موصلي الأصل] في حديث، فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام، ولما ودعته ذاهبا إلى القدس، خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إليّ بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس، فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل، وانصرفت إلى القدس يوم رحيله عن كوكب إلى دمشق، وكان دخوله إليها سادس ربيع الأول، وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائدا من القدس، فأقام رحمه الله في دمشق خمسة أيام وكان له غائبا عنها ستة عشر شهرا، وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم قصدوا جبيلا واغتالوها، فخرج مسرعا ساعة بلوغه الخبر، وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب، وسار يطلب جبيلا، فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك، وكان بلغه وصول عماد الدين زنكي وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب
قاصدين الخدمة للغزاة، فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني.(2/142)
قال القاضي في السيرة الصلاحية المسماة بالنوادر اليوسفية في فصل نزول السلطان على كوكب: إني كنت حججت سنة ثلاث وثمانين، ثم اتفق لي العود من الحج على الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلّى الله عليه وسلم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل [لأنه موصلي الأصل] في حديث، فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام، ولما ودعته ذاهبا إلى القدس، خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إليّ بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس، فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل، وانصرفت إلى القدس يوم رحيله عن كوكب إلى دمشق، وكان دخوله إليها سادس ربيع الأول، وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائدا من القدس، فأقام رحمه الله في دمشق خمسة أيام وكان له غائبا عنها ستة عشر شهرا، وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم قصدوا جبيلا واغتالوها، فخرج مسرعا ساعة بلوغه الخبر، وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب، وسار يطلب جبيلا، فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك، وكان بلغه وصول عماد الدين زنكي وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب
قاصدين الخدمة للغزاة، فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني.
ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد، ثم سير إلى الملك الظاهر (ولده) والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتيزين قبالة أنطاكية لحفظ ذلك الجانب.
وسارت عساكر الشرق حتى اجتمعت بخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه رحمه الله بهذه المنزلة على عزم المسير إلى الموصل متجهزا لذلك، فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتابا في الجهاد (1) بدمشق مدة مقامي فيها يجمع آدابه وأحكامه، فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته، وما زلت أطلب دستورا في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل. ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف لي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي، وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل. وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده. ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبرا يقارب العيان. ثم ذكر خبر فتحه إلى أنطرسوس وما حولها ثم قال:
وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة، فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتيزين، ووصل إلى جبلة في الثامن عشر من جمادى الأولى، وما استتم نزول العسكر حتى أخذ البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وقاض يحكم بينهم، وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة ونزل العسكر محدقا بالبلد، وقد دخله المسلمون واشتغل بقتال القلعة فقاتلت قتالا يقيم عذرا لمن كان فيها، وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين. وسار عنها يطلب اللاذقية.
وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة: لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد أتاه قاضي جبلة وهو منصور بن نبيل يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند صاحب أنطاكية وجبلة مسموع الكلمة له الحرمة الوافرة والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين بجبلة ونواحيها وعلى ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان
__________
(1) انظر ترجمة المؤلف في القسم الثاني وفي وفيات سنة 632.(2/143)
وتكفل له بفتح جبلة واللاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى فنزل بأنطرسوس (ثم ذكر خبر أخذها وخربها). قال: ورحل عنها وأتى مرقية وقد أخلاها أهلها ورحلوا عنها وساروا إلى المرقب وهي من حصونهم التي لا ترام ولا تحدث أحدا نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للاسبتار والطريق تحته فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد، فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر تحت المرقب في شوانيهم ليمنعوا من يجتاز بالسهام، فلما رأى صلاح الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات فصفت على الطريق مما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم، فاجتاز المسلمون عن آخرهم حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى وتسلمها وقت وصوله، وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل، فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم حتى استنزلهم بشرط الأمان وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الإفرنج رهائنهم من المسلمين من أهل جبلة. وكان بيمند صاحبها قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الإفرنج وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكا، وفيه حصن يعرف ببكسرايل بين جبلة ومدينة حماة فملكه المسلمون، وصار الطريق عليه في هذا الوقت من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها اه.
ذكر فتح اللاذقية
قال القاضي ابن شداد: سار السلطان عن جبلة يطلب اللاذقية، وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين. وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور، وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد، فنزل محدقا بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيهما إلا من ناحية البلد، واشتد القتال وعظم الزحف
وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور، وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة، فإنه كان بلد التجار، ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلا مجتهدا في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكى لي من ذرعه ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع، واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد، فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر، وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك، وكان رحمه الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقا، فعاد الناس عنهم إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب فباتوا إلى صبيحة السبت، ودخل قاضي جبلة إليهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب، وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم، وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين اه.(2/144)
قال القاضي ابن شداد: سار السلطان عن جبلة يطلب اللاذقية، وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين. وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور، وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد، فنزل محدقا بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيهما إلا من ناحية البلد، واشتد القتال وعظم الزحف
وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور، وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة، فإنه كان بلد التجار، ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلا مجتهدا في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكى لي من ذرعه ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع، واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد، فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر، وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك، وكان رحمه الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقا، فعاد الناس عنهم إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب فباتوا إلى صبيحة السبت، ودخل قاضي جبلة إليهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب، وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم، وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين اه.
قال ابن الأثير: وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه، فخرب المسلمون كثيرا منها ونقلوا رخامها وشعثوا كثيرا من بيعها التي قد غرم على كل واحدة منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر فعمرها وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها ينكرها فلا يظن أن هذه تلك. وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها كما فعل بقلعة حماة اه.
ذكر فتح صهيون
قال القاضي ابن شداد: رحل السلطان عن اللاذقية طالبا صهيون، واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى، ونصب عليها ستة مجانيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل، خنادقها أودية هائلة واسعة عميقة، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعا أو أكثر، وهو نقر في حجر، ولها ثلاثة أسوار: سور دون ربضها وسور دون القلعة وسور القلعة. وكان على قلعتها علم منصوب، فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح. واشتد القتال عليها من الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب، وكان نصب منجنيقا قريبا من سورها فقطع الوادي، وكان
صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها. ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب، وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل، وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهاجم المسلمون الربض. ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون، وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي، واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة، ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان، ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران. وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعيد وفيحة وبلاطينوس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب اه.(2/145)
قال القاضي ابن شداد: رحل السلطان عن اللاذقية طالبا صهيون، واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى، ونصب عليها ستة مجانيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل، خنادقها أودية هائلة واسعة عميقة، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعا أو أكثر، وهو نقر في حجر، ولها ثلاثة أسوار: سور دون ربضها وسور دون القلعة وسور القلعة. وكان على قلعتها علم منصوب، فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح. واشتد القتال عليها من الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب، وكان نصب منجنيقا قريبا من سورها فقطع الوادي، وكان
صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها. ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب، وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل، وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهاجم المسلمون الربض. ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون، وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي، واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة، ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان، ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران. وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعيد وفيحة وبلاطينوس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب اه.
وقال ابن الأثير: رحل صلاح الدين عن اللاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء صعبة المرتقى على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق فيه ضيق في بعض المواضع بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقا عميقا لا يرى قعره وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها ونصب عليه المنجنيقات ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر صاحب حلب فنزل على المكان الضيق من الوادي ونصب عليه المنجنيقات أيضا فرمى الحصن منه، وكان معه من الرجّالة الحلبيين كثير وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد والجرخ والزنبورك والزيار، فجرح أكثر من بالحصن وهم يظهرون التجلّد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها فتسلقوا منها بين الصخور حتى التحقوا بالسور الأول فملكوا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان فلم يجبهم صلاح الدين عليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له منكو برس صاحب قلعة أبي قبيس فحصنه وجعله من أحصن الحصون.(2/146)
ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي فملكوا حصن بلاطينوس وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفا ورعبا، وملك أيضا حصن العيد وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد لأن الطريق السهلة كانت غير مسلوكة لأن بعضها بيد الإسماعيلية وبعضها بيد الفرنج اه.
ذكر فتح بكاس والشّعر وسرمانية
قال القاضي ابن شداد: ثم رحل وسرنا حتى أتينا سادس جمادى الآخرة بكاس، وهي قلعة حصينة على جانب العاصي ولها نهر يخرج من تحتها، وكان النزول على شاطىء العاصي، وصعد السلطان جريدة إلى القلعة، وهي على جبل يطل على العاصي فأحدق بها من كل جانب وقاتلها قتالا شديدا بالمنجنيقات والزحف المضايق إلى تاسع الشهر، ويسر الله فتحها عنوة وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم وغنم جميع ما كان فيها، وكان له قلعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة ليس إليها طريق، فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في الثالث عشر، وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان من بأنطاكية فأذن لهم في ذلك. وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني عليها يوم الجمعة سادس عشر.
ثم عاد السلطان إلى الثقل وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية فقاتلها قتالا شديدا وضايقها مضايقة عظيمة وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر، فاتفقت فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجمع وهي علامة قبول دعاء الخطباء المسلمين وسعادة السلطان حيث يسر الله له الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات، وهذا من نوادر الفتوحات في الجمع المتوالية ولم يتفق مثلها في تاريخ اه.
وقال ابن الأثير: سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى الآخرة فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى اللاذقية وجبلة والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية، فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام
ولا يوصل إليها بطريق من الطرق، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب المنجنيق عليهم ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون أياما لا يرون فيه طمعا وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم وبلاء ينزل عليهم، فبينما صلاح الدين جالس وعنده أصحابه وهم في ذكر القلعة وإعمال الحيلة في الوصول إليها فقال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى {فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً} فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح، فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك ونزل رسول وسأل انتظارهم ثلاثة أيام فإن جاءهم من يمنعهم وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه واتفق أنه يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة. وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند صاحب أنطاكية وكان هذا الحصن له يعرفونه أنهم محصورون ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمون، فإن فعل وإلا سلموها. وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد ولا بلغ المسلمون منه غرضا، فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج وأمره بعمارته ورحل عنه.(2/147)
وقال ابن الأثير: سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى الآخرة فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى اللاذقية وجبلة والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية، فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام
ولا يوصل إليها بطريق من الطرق، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب المنجنيق عليهم ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون أياما لا يرون فيه طمعا وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم وبلاء ينزل عليهم، فبينما صلاح الدين جالس وعنده أصحابه وهم في ذكر القلعة وإعمال الحيلة في الوصول إليها فقال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى {فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً} فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح، فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك ونزل رسول وسأل انتظارهم ثلاثة أيام فإن جاءهم من يمنعهم وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه واتفق أنه يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة. وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند صاحب أنطاكية وكان هذا الحصن له يعرفونه أنهم محصورون ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمون، فإن فعل وإلا سلموها. وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد ولا بلغ المسلمون منه غرضا، فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج وأمره بعمارته ورحل عنه.
ولما كان صلاح الدين مشغولا بهذه القلاع والحصون سير ولده الظاهر غازي صاحب حلب، فحصر سرمينية وضيق على أهلها واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة هدم الحصن وعفى أثره وعالى بنيانه، وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة. وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمانية مع كثرتها كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل. وهي جميعها من أعمال أنطاكية ولم يبق لها سوى القصير وبغراس ودرب ساك وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى اه.
ذكر فتح برزية (1)
قال ابن الأثير: رحل صلاح الدين من قلعة الشغر إلى قلعة برزية وكانت قد وصفت
__________
(1) ضبطها في معجم البلدان: برزويه وقال: والعامة تقول برزيه.(2/148)
له، وهي تقابل حصن أفامية وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره. قال القاضي ابن شداد: ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزية، وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق يضرب بها المثل في جميع بلاد الفرنج والمسلمين، تحيط بها أودية من سائر جوانبها، وذرع علوها كان خمسمائة ذراع ونيفا وسبعين ذراعا، ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثقل، وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر. وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعّد السلطان جريدة مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها وركب القتال من كل جانب وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلا ونهارا. وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام ورتب كل قسم يقاتل شطرا من النهار ثم يستريح ويسلم القتال للقسم الآخر بحيث لا يفتر القتال عنها، وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالا شديدا حتى استوفى نوبته وضرس الناس من القتال وتراجعوا، واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وركب وتحرك خطوات وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد وصاحوا صيحة الرجل الواحد، وقصدوا السور من كل جانب، فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقي الناس على الأسوار وهجموا القلعة وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا الأمان، وقد تمكنت الأيدي منهم {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} ونهب جميع ما فيها وأسر من فيها، وكان قد أوى إليها خلق عظيم، وكانت من قلاعهم المذكورة، وكان يوما عظيما، وعاد الناس إلى خيامهم غانمين وعاد السلطان إلى الثقل فرحا مسرورا وأحضر بين يديه صاحب القلعة، وكان رجلا كبيرا منهم، وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفسا، فمنّ عليهم ورقّ لهم وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله اه.
وبسط ابن الأثير خبر فتحها بأكثر من ذلك وقال في الآخر: وأما صاحب برزية فإنه أسر هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض، فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية وكانت تراسل صلاح الدين وتعلمه كثيرا من الأحوال التي تؤثر فأطلق هؤلاء لأجلها اه.(2/149)
ذكر فتح درب ساك
قال ابن الأثير: لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد فأتى جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد، فلما نزل عليها نصب المنجنيقات وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئا يسيرا فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقّابون فنقبوا منها برجا وعلقوه فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد، وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه فصبروا وأظهروا الجلد وهم ينتظرون جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم وخافوا هجوم المسلمين عليها وأخذهم بالسيف وقتلهم وأسرهم ونهب أموالهم طلبوا الأمان فأمّنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح ولا أثاث بيت ولا دابة ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيّرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
وقال القاضي ابن شداد: كان فتحها في الثاني والعشرين منه، وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها في الثالث والعشرين منه اه.
ذكر فتح بغراس
قال ابن الأثير: ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس فحصرها بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار ومنهم من نهى عنه. وقال: هو حصن حصين وقلعة منيعة وهو بالقرب من أنطاكية ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها ويتعذر الوصول إليها، فاستخار الله تعالى وسار إليها وجعل أكثر عسكره يزكا مقابل أنطاكية يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المنجنيقات فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها
وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض وأمر بحمل الماء إليها فخفف الأمر عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة وخرج منه إنسان يطلب الأمان فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة على المسلمين فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره فجدد عمارته وأتقنه وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد فتأذى بهم السواد الذي لحلب وهو الآن بأيديهم اه.(2/150)
قال ابن الأثير: ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس فحصرها بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار ومنهم من نهى عنه. وقال: هو حصن حصين وقلعة منيعة وهو بالقرب من أنطاكية ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها ويتعذر الوصول إليها، فاستخار الله تعالى وسار إليها وجعل أكثر عسكره يزكا مقابل أنطاكية يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المنجنيقات فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها
وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض وأمر بحمل الماء إليها فخفف الأمر عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة وخرج منه إنسان يطلب الأمان فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة على المسلمين فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره فجدد عمارته وأتقنه وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد فتأذى بهم السواد الذي لحلب وهو الآن بأيديهم اه.
ذكر الهدنة بين صلاح الدين وصاحب أنطاكية
قال القاضي ابن شداد: كان فتح بغراس ثاني شعبان، وفي بقية ذلك اليوم عاد السلطان رحمه الله إلى المخيم الأكبر وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وقوة قلق عماد الدين صاحب سنجار في طلب الدستور. وعقد الصلح بيننا وبين أنطاكية من بلاد الفرنج لا غير على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم، وكان إلى سبعة أشهر، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان.
ورحل يطلب دمشق فسأله ولده الملك الظاهر أن يجتاز به فأجابه، وسار حتى أتى حلب حادي عشر شعبان وأقام بقلعتها ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام، ولم يبق للعسكر إلا من ناله من نعمته منال، وأكثر ظني أنه أشفق عليه والده. وسار من حلب يريد دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة واصطنع له طعاما حسنا وأحضر له سماع الصوفية، وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية، وسار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها ودخل إلى حمامها، ثم أتى دمشق فأقام بها حتى دخل شهر رمضان، وما كان يرى تخلية وقته عن الجهاد مهما أمكنه، وكان قد بقي له من القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها وصفد وكوكب، فرأى أن يشغل الوقت بفتح المكانين في الصوم.(2/151)
وقال ابن الأثير بعد أن ذكر خبر الهدنة على نحو ما قدمناه: وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان فدخلها وسار منها إلى دمشق وفرق العساكر الشرقية كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور وعسكر الموصل وغيرها، ثم رحل من حلب إلى دمشق وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي، وكان مقيما هناك وكان من عباد الله الصالحين وله كرامات ظاهرة، وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني وهو أمير مدينة النبي صلّى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده وشهد معه مشاهده وفتوحه، وكان صلاح الدين قد تبرك برؤيته وتيمن بصحبته، وكان يكرمه كثيرا وينبسط معه ويرجع إلى قوله في أعماله كلها، ودخل دمشق أول شهر رمضان فأشير عليه بتفريق العساكر، فقال: إن العمر قصير والأجل غير مأمون وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون كوكب وصفد والكرك وغيرها ولا بد من الفراغ منها، فإنها في وسط بلاد الإسلام ولا يؤمن شر أهلها وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد اه.
سنة 587
ذكر وفاة الأمير حسام الدين
قال في الروضتين: في هذه السنة توفي الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت السلطان صلاح الدين بدمشق تاسع عشر رمضان ودفن بالتربة الحسامية المنسوبة إليه.
آثاره بحلب:
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: [المدرسة الحدادية] أنشأها الأمير حسام الدين محمد بن عمر ابن أخت صلاح الدين، وهي من الكنائس الأربع التي قدم ذكرها التي صيّرها ابن الخشاب مساجد، فهدمها وبناها بناء وثيقا، فلم يزل يتولاها المدرسون إلى أن وصلت إلي ونزلت عنها لولديّ وهي الآن بيدهما. وقال بعده: إنها الآن معطلة.
قال ابن شداد: أول من درس بها الفقيه الإمام الحسين بن محمد بن أسعد، ثم تولاها فخر الدين يوسف ولم يزل إلى أن قتله التتر عند استيلائهم على حلب.(2/152)
ذكر وفاة الأمير علم الدين
قال في الروضتين: وفي هذه السنة في أواخر ذي الحجة توفي الأمير علم الدين سليمان بن جندر من أكابر أمراء حلب، وكان في خدمة السلطان في القدس، وهو شيخ الدولة وكبيرها وظهيرها ومشيرها، وهو الذي أشار بتخريب عسقلان لتتوفر العناية والاهتمام بالقدس، ثم مرض بالقدس وطلب المسير إلى الوطن فأدركته المنية بقرية غباغب على مرحلة من دمشق.
سنة 588
وصية السلطان صلاح الدين لولده الملك الظاهر غازي عند عوده إلى حلب بعد عقد الهدنة بين السلطان والفرنج في بلاد الساحل والإذن بعود العساكر إلى أوطانهم
قال ابن الأثير: في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر. وساق سبب الصلح. قال القاضي ابن شداد: ولما انقضى هذا الأمر واستقرت القواعد أعطى السلطان دستورا في عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم (وكان من جملة عساكره ولده الملك الظاهر غازي) قال: ولما كانت بكرة التاسع والعشرين من رمضان توجه الملك الظاهر عز نصره بعد أن ودعه نزل إلى الصخرة فصلى عندها وسأل الله تعالى ما شاء، ثم ركب وركبت في خدمته فقال لي:
تذكرت أمرا أحتاج فيه إلى مراجعة السلطان مشافهة، فأنفذ من استأذن له في العود إلى خدمته فأذن له في ذلك فحضر واستحضرني وأخلى المكان ثم قال موميا لولده:
«أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله
يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم». وكان ذلك بعد أن انصرفنا من خدمته، ومضى من الليل ما شاء الله أن يمضي، وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه، ولم يزل بين يديه إلى قرب السحر، ثم أذن له في الانصراف ونهض له ليودعه فقبل وجهه ومسح على رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان، وكنا نجلس عنده في الأحيان إلى بكرة، وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله اه.(2/153)
«أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله
يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم». وكان ذلك بعد أن انصرفنا من خدمته، ومضى من الليل ما شاء الله أن يمضي، وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه، ولم يزل بين يديه إلى قرب السحر، ثم أذن له في الانصراف ونهض له ليودعه فقبل وجهه ومسح على رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان، وكنا نجلس عنده في الأحيان إلى بكرة، وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله اه.
ثم قال بعد ذلك: وعاد السلطان بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها إلى دمشق، وكان دخوله إليها في السادس والعشرين من شوال.
سنة 589
ذكر وفاة السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى
كان ابتداء مرضه سادس عشر صفر. وذكر القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية تفاصيل ذلك (ثم قال): وكانت وفاته بدمشق بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ولما وصل القارىء الذي كان يقرأ عنده إلى قوله تعالى {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} تبسّم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه.
وكان يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم، وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس.
ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص والأمراء والمعممين، وكان يوما عظيما، قد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة في أن ينظر إلى غيره، وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يلت به الطين. وغسله الدولعي الفقيه، ونهضت إلى الوقوف على غسله ولم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر. وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما أحتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه، وارتفعت الأصوات عند مشاهدته
وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالا. وكان أول من أمّ بالناس القاضي محيي الدين بن الزكي، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضا بها، ودفن في الصفة الغربية منها.(2/154)
ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص والأمراء والمعممين، وكان يوما عظيما، قد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة في أن ينظر إلى غيره، وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يلت به الطين. وغسله الدولعي الفقيه، ونهضت إلى الوقوف على غسله ولم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر. وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما أحتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه، وارتفعت الأصوات عند مشاهدته
وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالا. وكان أول من أمّ بالناس القاضي محيي الدين بن الزكي، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضا بها، ودفن في الصفة الغربية منها.
قال في الروضتين ما خلاصته: لما توفي السلطان رحمه الله دفن بالقلعة في منزله، وما زال الأفضل بن صلاح الدين يتروى موضعا ينقله إليه، ثم استقرأ حدود الجامع ليجعل التربة فيها فوفق لدار كانت لبعض الصالحين وهي في حد المكان الذي زاده الأجل الفاضل في المسجد، فاشتراها منه وأمر بعمارتها قبة فعمرت، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وتسعين.
ثم قال نقلا عن محمد بن القادسي المؤرّخ: إنه دفن معه سيفه الذي كان معه في الجهاد، وكان ذلك برأي الفاضل.
ومن كلام بعضهم في وفاة السلطان: أفلت الشمس عند الصباح، وذهبت روح الدنيا الذي ذهب بذهابها كثير من الأرواح، وتلك الساعة ظلت لها الألباب حائرة، وتمثلت فيها السماء مائرة والجبال سائرة، وأغمد سيف الله الذي كان على أعدائه دائم التجريد، وخفت الأرض من جبلها الذي كان يمنعها أن تميد، وأصبح الإسلام وقد فقد ناصره ثاكلا لوحيد، فهو أعظم فاقد لأعظم فقيد، وليس أحد من الناس إلا وقد صم عن الخبر وأصيب في سواد القلب والبصر اه.
ترجمته:
هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب الملك الناصر صلاح الدين صاحب الديار المصرية والشامية والفراتية واليمنية.
قال ابن خلكان في ترجمته: اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين [بضم الدال وكسر الواو] وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وأنهم أكراد روادية [بفتح الراء وكسر الدال] وهي قبيلة كبيرة من الأكراد. وقال لي رجل فقيه عارف بما يقول وهو من أهل دوين: إن على باب دوين قرية يقال لها أجد انقان وجميع أهلها أكراد روادية، ومولد أيوب والد صلاح الدين بها.(2/155)
وشاذي (جد صلاح الدين) أخذ ولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وخرج بهما إلى بغداد، وهناك خدم ولداه مجاهد الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنة العراق، فرأى مجاهد الدين في نجم الدين أيوب عقلا ورأيا حسنا وحسن سيرة فجعله دزدار تكريت (1) فسار إليها هو ووالده وأخوه أسد الدين، ومات أبوه شاذي بها، وعلى قبره قبة داخل البلد.
ثم حصلت وقعة بين الإمام المسترشد وبين مسعود بن محمد ملكشاه السلجوقي وعماد الدين زنكي صاحب الموصل، فأرسل المسترشد إلى قراجا الساقي وهو صاحب بلاد فارس وخوزستان يستنجده، فأتاه وكبس عسكرهما وانهزما بين يديه، فوصل زنكي إلى تكريت فخدمه نجم الدين أيّوب وأقام له السفن، فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه، فأحسن نجم الدين إليهم، وبلغ ذلك مجاهد الدين بهروز فسير إليه وأنكر عليه وقال له:
كيف ظفرت بعدونا فأحسنت إليه وأطلقته. ثم إن أسد الدين قتل إنسانا بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما فأخرجهما من تكريت فقصدا عماد الدين زنكي، وكان إذ ذاك صاحب الموصل، فأحسن إليهما وعرف لهما خدمتهما وأقطع لهما إقطاعا حسنا وصارا من جملة جنده، فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك وذلك في أوائل سنة أربع وثلاثين وخمسمائة جعل نجم الدين دزدارها.
ثم قال: اتفق أرباب التواريخ أن صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها، والظاهر أنهم ما أقاموا بها بعد ولادة صلاح الدين إلا مدة يسيرة. ولما قتل زنكي حصر صاحب دمشق مجير الدين أبق بن بوري بعلبك، فأرسل نجم الدين أيوب إلى سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وقد قام بالملك بعد والده ينهي إليه الحال ويطلب منه عسكرا ليرحل صاحب دمشق عنه، وكان سيف الدين في ذلك الوقت في أول ملكه وهو مشغول بإصلاح ملوك الأطراف المجاورين له فلم يتفرغ له، وضاق الأمر على من في بعلبك من الحصار، فلما رأى نجم الدين أيوب الحال وخاف أن تؤخذ قهرا أرسل في تسليم القلعة وطلب إقطاعا ذكره فأجيب إلى ذلك، وحلف له صاحب دمشق عليه وسلم له القلعة ووفى له صاحب دمشق بما حلف عليه من
__________
(1) قال ابن خلكان: دزدار بضم الدال وسكون الزاي وفتح الدال وهو لفظ أعجمي معناه حافظ القلعة وهو الوالي. ودز بالعجمي القلعة ودار الحافظ.(2/156)
الإقطاع والتقدم وصار عنده من أكبر الأمراء، واتصل أخوه أسد الدين بخدمة نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب، فقربه نور الدين وأقطعه وكان يرى منه في الحرب آثارا يعجز عنها غيره لشجاعته وجراءته فصارت له حمص والرحبة وغيرهما وجعله مقدم عسكره.
ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة لازم نجم الدين خدمته وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد حتى تجهز للمسير مع عمه شيركوه إلى الديار المصرية وذلك سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ثم توجه إليها سنة أربع وستين وصار إليها بنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله ومعه ابن أخيه صلاح الدين وهو كاره للخروج مع عمه ولم يخرج معه باختياره {وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ولما علم الفرنج بوصول أسد الدين إلى مصر على اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين على أعقابهم ناكصين، وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور (وزير مصر) في الأحيان، ثم تحقق أسد الدين أنه لا سبيل لاستيلائه على البلاد مع بقاء شاور فأعمل الحيلة في القبض عليه وقتله تلك السنة وصار وزير مصر بدله، والسلطان صلاح الدين يباشر الأمور مقررا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته. وفي الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة مات أسد الدين وكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام، ولما مات أسد الدين استوزر العاضد صاحب مصر صلاح الدين يوسف واستقرت الأمور بعده وتمهدت القواعد، ولما تم له ذلك سير بطلب والده نجم الدين أيوب ليتم له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف الصديق عليه السلام، فوصل والده إليه في جمادى الآخرة سنة خمس وستين.
وفي المحرم من سنة سبع وستين وخمسمائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وكان السبب في ذلك ضعف أمر العاضد وتفرق العساكر في أهليهم، وكان نور الدين محمود قد كتب له يأمره بذلك، وفي أثناء ذلك توفي العاضد آخر ملوك العبيديين فاستولى صلاح الدين على قصره وأمواله وذخائره، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة ما لم يكن عند الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت
وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد، وباع السلطان صلاح الدين جميع ذلك. واستقل حينئذ صلاح الدين بأمر مصر ومهد أمورها وجرى أمره فيها على السداد. ولما توفي الملك العادل نور الدين بدمشق كما تقدم وعلم صلاح الدين أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام، فنهض حينئذ إليها واستولى عليها وعاد إلى مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ثم خرج منها إلى الشام في سنة ثمان وسبعين واستمر على الجهاد في سبيل الله إلى أن توفي في التاريخ المتقدم رحمه الله.(2/157)
وفي المحرم من سنة سبع وستين وخمسمائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وكان السبب في ذلك ضعف أمر العاضد وتفرق العساكر في أهليهم، وكان نور الدين محمود قد كتب له يأمره بذلك، وفي أثناء ذلك توفي العاضد آخر ملوك العبيديين فاستولى صلاح الدين على قصره وأمواله وذخائره، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفيسة ما لم يكن عند الملوك قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف والحبل الياقوت
وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد، وباع السلطان صلاح الدين جميع ذلك. واستقل حينئذ صلاح الدين بأمر مصر ومهد أمورها وجرى أمره فيها على السداد. ولما توفي الملك العادل نور الدين بدمشق كما تقدم وعلم صلاح الدين أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض بأعباء الملك واختلفت الأحوال بالشام، فنهض حينئذ إليها واستولى عليها وعاد إلى مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، ثم خرج منها إلى الشام في سنة ثمان وسبعين واستمر على الجهاد في سبيل الله إلى أن توفي في التاريخ المتقدم رحمه الله.
وقال القاضي ابن شداد في القسم الأول من كتابه السيرة الصلاحية الذي ذكر فيه مولده ومنشأه وخصائصه وأوصافه وأخلاقه المرضية ما خلاصته: اتفق لوالده الانتقال من تكريت إلى الموصل وانتقل ولده المذكور معه وأقام بها إلى أن ترعرع، ثم أعطي بعلبك وأقام بها مدة فنقل ولده إليها وأقام بها في خدمة والده يتربى تحت حجره ويرتضع ثدي محاسن أخلاقه، حتى بدت منه أمارات السعادة ولاحت لوائح التقدم والسيادة فقدمه الملك العادل نور الدين محمود رحمه الله وعول عليه ونظر إليه وقرّبه وخصّصه، ولم يزل كلما تقدم قدما تبدر منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه.
وكان رحمه الله حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى، قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها للصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر. وكان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى إنه ذكر يوما أن له سنين ما صلى إلا جماعة. وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح. ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائما وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه. وأما الزكاة فإنه مات رحمه الله ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة. وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية جرما واحدا ذهبا، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك. وكان رحمه الله تعالى يحب
سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالما بعلم القرآن العظيم متقنا لحفظه. وكان يستقرىء من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وكان رحمه الله خاشع القلب رقيقه عزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته. وكان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالا له. وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه، وتردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية وروى عنه أحاديث كثيرة. وكان يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئا من كتب الحديث ويقرؤها هو، فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.(2/158)
وكان رحمه الله حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى، قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها للصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر. وكان شديد المواظبة على الصلاة بالجماعة، حتى إنه ذكر يوما أن له سنين ما صلى إلا جماعة. وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل، وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح. ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائما وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه. وأما الزكاة فإنه مات رحمه الله ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة. وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصرية جرما واحدا ذهبا، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك. وكان رحمه الله تعالى يحب
سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالما بعلم القرآن العظيم متقنا لحفظه. وكان يستقرىء من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزأين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وكان رحمه الله خاشع القلب رقيقه عزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته. وكان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالا له. وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه، وتردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية وروى عنه أحاديث كثيرة. وكان يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئا من كتب الحديث ويقرؤها هو، فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.
وكان رحمه الله كثير التعظيم لشعائر الدين، يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار، مصدقا بجميع ما وردت به الشرائع منشرحا بذلك صدره مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة.
ولقد كان رحمه الله عادلا رؤوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا. على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل ولم يرد قاصدا للحوادث والحكومات.
وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل وإما في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصدا أبدا ولا منتحلا ولا طالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة.
وكرمه قدّس الله روحه كان أظهر من أن يسطر وأشهر من أن يذكر، وكان يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حالة السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب، فكأنه أراد بذلك نفسه رحمه الله.(2/159)
وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب، فما سمعته قط يقول أعطينا، وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا. وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته ذلك، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره. وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس، ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر.
وكان رحمه الله من عظماء الشجعان، قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات ولا يهوله أمر، ولقد رأيته يعطي دستورا في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عددهم الكثير. وكان لابد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريبا منهم، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركبا على عكا وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو لا يزداد إلا قوة نفس.
وكان إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد وعلى يده جنيبة ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ويرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره.
ولقد قرىء عليه جزآن من الحديث بين الصفين، وذلك أني قلت له: قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ولم ينقل أنه سمع بين الصفين، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسنا، فأذن في ذلك فأحضر جزءا كما أحضر من له به سماع فقرىء عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين نمشي تارة ونقف أخرى.
وما رأيته استكثر العدو أصلا ولا استعظم أمرهم، وكان مع ذلك في حال الفكر والتدبير تذكر بين يديه الأقسام كلها ويرتب على كل قسم بمقتضاه من غير حدة ولا غضب يعتريه، ولقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكؤس والعلم وهو رضي الله عنه ثابت القدم في نفر يسير، حتى انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم.
ولقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به ولو حلف حالف إنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارا ولا درهما إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر في
يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب فيها الرياح يمنة ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماما.(2/160)
ولقد كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد عظيم الاهتمام به ولو حلف حالف إنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارا ولا درهما إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر في
يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب فيها الرياح يمنة ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماما.
ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال: لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مجانيق، ورتب لكل منجنيق قوما يتولون نصبه، وكنا طوال الليل في خدمته في ألذ مفاكهة وأرغد عيش، والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا ومن المنجنيق الفلاني كذا، حتى أتى الصباح وقد فرغ منها ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها، وكانت من أطول الليالي وأشدها بردا ومطرا.
وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة، حافظا لأنساب العرب ووقائعهم، عارفا بسيرهم وأحوالهم، حافظا لأنساب خيلهم، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.
وكان طاهر المجلس، لا يذكر بين يديه أحد إلا بخير، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير، وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط. وكان حسن العهد والوفاء فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفيه وجبر قلبه وأعطاه وجبر مصابه، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكلفها.
فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة اه.
أقول: وقد اختصرت كثيرا مما ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية من أحواله، ولو ذكرت الجميع لطال الكلام جدا، ومن أحب الاستزادة من أحوال هذا الرجل العظيم فعليه بهذا الكتاب وبكتاب الروضتين، وقد ذكر ابن خلكان في آخر ترجمته ما بناه في مصر والقدس والشام من المدارس والخانقاهات وغير ذلك، ولم أر فيما رأيته أن له شيئا من الآثار في حلب، ويظهر أن السبب في ذلك أنه لم يقم هنا مدة يتسنى له فيها
تشييد شيء من المدارس أو غيرها بل كانت إقامته فيها في قدماته إليها أياما قلائل رحمه الله.(2/161)
أقول: وقد اختصرت كثيرا مما ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية من أحواله، ولو ذكرت الجميع لطال الكلام جدا، ومن أحب الاستزادة من أحوال هذا الرجل العظيم فعليه بهذا الكتاب وبكتاب الروضتين، وقد ذكر ابن خلكان في آخر ترجمته ما بناه في مصر والقدس والشام من المدارس والخانقاهات وغير ذلك، ولم أر فيما رأيته أن له شيئا من الآثار في حلب، ويظهر أن السبب في ذلك أنه لم يقم هنا مدة يتسنى له فيها
تشييد شيء من المدارس أو غيرها بل كانت إقامته فيها في قدماته إليها أياما قلائل رحمه الله.
ذكر حال أولاد صلاح الدين بعده
قال ابن الأثير: لما مات صلاح الدين كان معه بها ولده الأكبر الأفضل نور الدين علي، وكان قد حلف له العساكر جميعهم غير مرة في حياته، فلما مات ملك دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال إلى الداروم، وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها واستقر ملكه بها.
وكان ولده الظاهر غازي بحلب فاستولى عليها وعلى جميع أعمالها مثل حارم وتل باشر وأعزاز وبرزية ودرب ساك ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل.
سنة 590
ذكر إلحاق جبلة واللاذقية بمملكة حلب
قال ابن الأثير: في هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وهو صاحب مصر إلى مدينة دمشق فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكنت حينئذ بدمشق، فنزل بنواحي ميدان الحص فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهو صاحب الديار الجزرية يستنجده، وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه، وقد سبق ما يدل على ذلك، فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقي الدين صاحب حماة وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعسكر الموصل وغيرها، كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق واتفقوا على حفظها علما منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم، فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد، فترددت الرسل حينئذ في الصلح فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضل على ما كانت عليه وأن يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة واللاذقية وأن يكون الملك العادل بمصر إقطاعه الأول، واتفقوا على ذلك وعاد العزيز إلى مصر ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده.(2/162)
سنة 595و 596
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب مصر وحصر الأفضل والظاهر عمهما العادل في دمشق ثم رجوعهما وملك العادل مصر والصلح بين الظاهر وعمه العادل
قال أبو الفداء: ليلة السابع والعشرين من المحرم توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، وكان الغالب على دولة الملك العزيز فخر الدين جهاركس، فأقام في الملك ولد الملك العزيز الملك المنصور محمد واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل، فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثا ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وشهورا، ولما وصل إلى بلبيس لقيه إخوته وجماعة الأمراء المصرية وجميع الأعيان، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعودا صنع له طعاما وصنع له فخر الدين جهاركس مملوك أبيه طعاما، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافا عنه وسوء اعتقاد فيه فتغيرت نيته [هذان السطران من ابن الأثير] وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل وهو محاصر ماردين.
وأرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر
صاحب حلب فعاد إلى مضايقة دمشق ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند الملك العادل وعلى أهل البلد وأشرف الأفضل والظاهر من الخلف وخرجت السنة وهم على ذلك.(2/163)
وأرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل مسيره إلى دمشق فترك على حصار ماردين ولده الملك الكامل، وسار العادل وسبق الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل عليها بيومين، ونزل الملك الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان من هذه السنة، وزحف من الغد على البلد وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر
صاحب حلب فعاد إلى مضايقة دمشق ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند الملك العادل وعلى أهل البلد وأشرف الأفضل والظاهر من الخلف وخرجت السنة وهم على ذلك.
ثم دخلت سنة 596والملكان الأفضل والظاهر محاصران لمدينة دمشق واتفق وقوع الخلف بين الأخوين الأفضل والظاهر، وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد ووجد عليه الملك الظاهر وجدا عظيما وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل من تكشف خبره وأطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له: إن محمود بن الشكري أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن الشكري فظهر المملوك عنده فتغير الظاهر على أخيه الأفضل وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصفّر إلى أواخر صفر، ثم سارا إلى رأس الماء ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب على القريتين، ولما تفرقا خرج الملك العادل من دمشق وسار في إثر الأفضل إلى مصر، ولما وصل الأفضل إلى مصر تفرقت عساكره في بلادهم لأجل الربيع فأدركه عمه العادل فخرج الأفضل بمن بقي عنده من العسكر وضرب معه مصافا بالسايح فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة. ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام فأجاب الأفضل إلى تسليمها على أن يعوض عنها ميافارقين وحاني وسميساط فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به. (ثم قال): ولما استقرت المملكة للملك العادل أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه مما وقع منه بسبب أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره وأمره برد بعرين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضا عن بعرين، فرضي ابن المقدم بذلك لأنهما خير من بعرين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم وكان له أيضا فامية (1) وكفر طاب وخمس وعشرون ضيعة من المعرة.
وكذلك كاتب الملك الظاهر عمه الملك العادل وصالحه وخطب له بحلب وبلادها وضرب السكة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل كلما خرج إلى البيكار، والتزم صاحب حلب بذلك اه.
__________
(1) هي أفامية، وقال في معجم البلدان: ويسميها بعضهم فامية بعير همزة.(2/164)
سنة 597
ذكر أخذ الظاهر منبج وأفامية وغيرها
قال أبو الفداء: لما دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة كان بالديار المصرية الملك العادل وعنده ابنه الملك الكامل محمد وهو نائبه بها، وبحلب الملك الظاهر وهو مجد في تحصين حلب خوفا من عمه الملك العادل، وبدمشق الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل نائب أبيه بها، وبالشرق الملك إبراهيم بن الملك العادل، وبميافارقين الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل. (وفي هذه السنة) توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن المقدم وصارت البلاد بعده وهي منبج وقلعة نجم وأفامية وكفر طاب لأخيه شمس الدين عبد الملك.
ولما استقر شمس الدين بمنبج سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها وملك منبج وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم وبها نائب ابن المقدم فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة. وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها واستولى على كفر طاب وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر من أحضر عبد الملك بن المقدم من حلب وكان معتقلا بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم أفامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربا شديدا وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد وشعث التربة التقوية وبعض البساتين وزحف من جهة الباب الغربي وقاتل قتالا شديدا، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان وجرى فيه قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون
ألف دينار صورية، ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل ويتسلمها الملك الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب بحيث تبقى مصر للملك الأفضل ويصير الشام جميعه للملك الظاهر. وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجة، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجة، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقّابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر ذلك حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقال له:(2/165)
ولما استقر شمس الدين بمنبج سار إليها الملك الظاهر صاحب حلب وحصرها وملك منبج وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة، فحصره ونزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم وبها نائب ابن المقدم فحصرها وملكها في آخر رجب من هذه السنة. وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على الملك العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للملك العادل، فلما أيس الملك الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها واستولى على كفر طاب وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر من أحضر عبد الملك بن المقدم من حلب وكان معتقلا بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم أفامية، فامتنع قراقوش، فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربا شديدا وبقي يستغيث، فأمر قراقوش فضربت النقارات على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان من هذه السنة، ونزل شمالي البلد وشعث التربة التقوية وبعض البساتين وزحف من جهة الباب الغربي وقاتل قتالا شديدا، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان وجرى فيه قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون
ألف دينار صورية، ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل وانضم إليهما فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من الملك العادل ويتسلمها الملك الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب بحيث تبقى مصر للملك الأفضل ويصير الشام جميعه للملك الظاهر. وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجة، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجة، ونقل الملك الأفضل والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين دمشق فخرج بعساكر مصر وأقام بنابلس ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقّابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر ذلك حسد أخاه الملك الأفضل على دمشق وقال له:
أريد أن تسلم إلي دمشق الآن، فقال له الأفضل: إن حريمي حريمك وهم على الأرض وليس لنا موضع نقيم فيه، وهب هذه البلدة لك فاجعله لي إلى حين تملك مصر وتأخذه، فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما كان لأجل الأفضل فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر فأنتم وإياه، فقالوا: إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال.
(قال ابن الأثير): وكان الناس كلهم يريدون الأفضل فقالوا: ما نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك، فأذن لهم في العود فهرب فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا الذي أعطاه الأفضل صرخد، فمنهم من دخل دمشق ومنهم من عاد إلى إقطاعه، فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة من المعرة، ويكون للأفضل سميساط وسروج ورأس العين وحملين، ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين.
سنة 598
قال أبو الفداء: في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه أعزاز، وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفا من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك
عماد الدين أحمد بن يوسف الدين علي بن أحمد المشطوب (1)، وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعا يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك عصى بالراوندان فسار إليه الظاهر واستنزله منها وأبعده فلحق عبد الملك بالملك العادل فأحسن إليه.(2/166)
قال أبو الفداء: في هذه السنة بعد رحيل الملك الأفضل والظاهر عن دمشق كما ذكرنا، قدم إليها الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه أعزاز، وفيها خرب الملك الظاهر قلعة منبج خوفا من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك
عماد الدين أحمد بن يوسف الدين علي بن أحمد المشطوب (1)، وفيها أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسليم فامية بشرط أن يعطي شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعا يرضاه، فأقطعه الملك الظاهر الراوندان وكفر طاب ومفردة المعرة وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك عصى بالراوندان فسار إليه الظاهر واستنزله منها وأبعده فلحق عبد الملك بالملك العادل فأحسن إليه.
وفيها سار الملك العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه الملك العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته حلب، فاستعد للحصار بحلب وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه ووقعت بينهما مراسلات ووقع الصلح وانتزعت منه مفردة المعرة واستقرت للملك المنصور صاحب حماة، وأخذت من الملك الظاهر أيضا قلعة نجم وسلمت إلى الملك الأفضل، وكان له سروج وسميساط، وسلم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد ابن الملك العادل وبقلعة جعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل. ولما استقر الصلح بين الملك العادل والظاهر رجع الملك العادل إلى دمشق وأقام بها وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه، وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه اه.
سنة 599
ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من أخيه الأفضل
قال ابن الأثير: في هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل، وكانت في جملة ما أخذ من العادل لما صالحه سنة سبع وتسعين، فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وجملين ورأس العين وبقي بيده سميساط وقلعة نجم، فأرسل إليه
__________
(1) قال ابن الوردي في تتمة المختصر: وكان ذلك بواسطة وزيره بمنبج البرهان ابن أبي شيبة وعمل موضع القلعة مارستانا وحمامين متلاصقتين وخان سبيل فقال أهل منبج عنه: هتك الحريم وصان الحمير اه.(2/167)
الظاهر يطلب منه قلعة نجم وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه، فلم يعطه، فتهدده بأن يكون إلبا عليه، ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان وطلب منه أن يعوضه قرى أو مالا فلم يفعل، وهذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها وكثرة بلاده هو وعدمها لأخيه. وأما العادل فإنه لما أخذ سروج ورأس العين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في ردهما فلم يشفعها وردها خائبة، ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي، فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عم نور الدين يسألانه أن يعود فلم يشفعها، فجرى لأولاده هذا وردت زوجته خائبة كما فعل، ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب ملطية وقونية وما بينهما من البلاد يبذل له الطاعة وأن يكون في خدمته ويخطب له ببلده ويضرب السكة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، فأرسل له خلعة فلبسها الأفضل وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته اه.
سنة 600
قال أبو الفدا: في هذه السنة نازل بن لاوون ملك الأرمن أنطاكية، فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاوون من أنطاكية على عقبه اه.
سنة 602
ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلب
قال ابن الأثير: في هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني صاحب الدروب على ولاية حلب، فنهب وحرق وأسر وسبى، فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب عساكره واستنجد غيره من الملوك فجمع كثيرا من الفارس والراجل وسار عن حلب نحن ابن ليون، وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريق لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة ومضايق صعبة، فلا يقدر غيره على الدخول إليها لا سيما من ناحية حلب، فإن الطريق منها متعذر جدا، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حلب وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه يعرف بميمون القصري ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر، لأن أباه
منهم أخذه، فأنفذ الظاهر ميرة وسلاحا إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون اسمه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك وسيّر جماعة كثيرة من عسكره وبقي في قلة، فبلغ الخبر إلى ابن ليون فجد فوافاه وهو مخف من العسكر، فقاتله واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه وكان بعيدا عنه، فطالت الحرب بينهم وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن، فانهزم المسلمون ونال العدو منهم فقتل وأسر، وكذلك أيضا فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل، وظفر الأرمن بأثقال المسلمين فغنموها وساروا بها، فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك فلم يشعروا بالحال، فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم المسلمون أيضا وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم اه.(2/168)
قال ابن الأثير: في هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني صاحب الدروب على ولاية حلب، فنهب وحرق وأسر وسبى، فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب عساكره واستنجد غيره من الملوك فجمع كثيرا من الفارس والراجل وسار عن حلب نحن ابن ليون، وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريق لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة ومضايق صعبة، فلا يقدر غيره على الدخول إليها لا سيما من ناحية حلب، فإن الطريق منها متعذر جدا، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حلب وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه يعرف بميمون القصري ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر، لأن أباه
منهم أخذه، فأنفذ الظاهر ميرة وسلاحا إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون اسمه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك وسيّر جماعة كثيرة من عسكره وبقي في قلة، فبلغ الخبر إلى ابن ليون فجد فوافاه وهو مخف من العسكر، فقاتله واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه وكان بعيدا عنه، فطالت الحرب بينهم وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن، فانهزم المسلمون ونال العدو منهم فقتل وأسر، وكذلك أيضا فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل، وظفر الأرمن بأثقال المسلمين فغنموها وساروا بها، فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك فلم يشعروا بالحال، فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم المسلمون أيضا وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم اه.
سنة 605
قدوم الأشرف إلى حلب متوجها إلى بلاده الشرقية
قال أبو الفدا: في هذه السنة توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل (ابن عم الظاهر) من دمشق راجعا إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله في القلعة وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلوى والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة وهي غلالة وقباء وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش وخمس خلع لأصحابه، وأقام على ذلك خمسة وعشرين يوما وقدم له تقدمة وهي مائة ألف درهم ومائة بقجة من مائة مملوك. فمنها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس وثوبان خطاي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها عشر في كل واحدة منها عشرة أثواب عتابي خوارزمي وعلى كل بقجة جلد قندس كبير، ومنها عشر في كل واحدة خمسة أثواب عتابي بغدادي وموصلي وعليها عشرة جلود قندس صغار، ومنها عشرون في كل واحدة خمس قطع مرسوسي ودبيقي، ومنها أربعون في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها وعشرين إكديشا وأربعة قطر بغال وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفنة وقطارين من الجمال، وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة وقاد إلى أكثرهم بغلات وأكاديش، ثم سار الأشرف إلى بلاده اه.(2/169)
وفي هذه السنة وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش لقصد بلاد ابن لاوون الأرمني وأرسل إليه الملك الظاهر، نجدة فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاوون وعاث فيها ونهب وفتح حصنا يعرف بفرقوس اه.
الكلام على نهر حلب المسمى بقويق وعلى قناة حلب وإصلاح مجراها من حيلان إلى حلب في هذه السنة
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة أمر الملك الظاهر صاحب حلب بإجراء القناة من حيلان إلى حلب وغرم على ذلك أموالا كثيرة وبقي البلد يجري الماء فيه اه.
ويجدر أن نتكلم هنا على نهر حلب وأصل منبعه ونتبع ذلك بالكلام على قناتها، ثم نذكر تفاصيل الأعمال التي قام بها الملك الظاهر غازي في إجراء القناة من حيلان إلى حلب في هذه السنة فنقول:
قال في الدر المنتخب: قال ابن شداد: أما نهرها فاسمه نهر قويق (1)، وله مخرجان شاهدتهما وبين حلب وبينهما أربعة وعشرون ميلا، أحدهما في قرية يقال لها الحسينية بالقرب من أعزاز يخرج الماء منها من عين كبيرة فتجري في نهر، ويخرج بين جبلين حتى يقع في الوطأة التي قبلي الجبل الممتد من بلد أعزاز شرقا وغربا، والمخرج الأخير يجتمع من عيون ماء من سنياب ومن بعض قرى حولها من بلد الراوندان، فتجمع مياه تلك الأعين وتجري في نهر خارج من فم فج سنياب فيقع في الوطأة المذكورة، ويجتمع النهران فيصيران نهرا واحدا في بلد أعزاز وهو نهر قويق، ثم يجري إلى دابق ويمر بمدينة حلب ويمده عيون قبل وصوله إليها، وتدور به الأرحاء بقرية مالد من شمالي حلب، ثم يمده عيون أخر بعد أن يتجاوز حلب أيضا منها عين المباركة فيقوى بها ويزيد ويسقي في طريقه مواضع كثيرة حتى ينتهي إلى قنسرين، ثم يمر في المطخ فيغيض في الأجم. وحكى جماعة أن نهر قويق يغيض في المطخ ويخرج إلى بحيرة أفامية، وأن قويقا إذا مد في الشتاء احمر ماء أفامية، فاستدلوا بذلك على ما ذكروه. والمسافة بين مغيضه وأفامية مقدار أربعة عشر ميلا.
قال: وقال أبو الحسين بن المناري في كتابه المسمى بالحافظ: مخرج قويق نهر حلب من قرية تدعى سنياب على سبعة أميال من دابق يمر إلى حلب ثمانية عشر ميلا ثم إلى قنسرين اثني عشر ميلا ثم إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلا، ثم يفيض في الأجمة،
__________
(1) (يعني تصغير قاق). إضافة من الدر المنتخب.(2/170)
فمن مخرجه إلى مغيضه اثنان وأربعون ميلا. والمرج الأحمر هذا هو المعروف الآن بمرج تل السلطان، وإنما عرف بذلك لأن السلطان ألب أرسلان السلجوقي خيم به مدة فنسب إليه.
وقال ابن الخطيب: إن نهر حلب كان يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف، ومنبعه من بلاد عينتاب وغوره في المطخ. قلت (القائل ابن الشحنة): ورأيت له منبعا بقرية يقال لها أرقيق بين حلب وعينتاب، والظاهر أنه من منابع كثيرة.
وقال ياقوت: قويق نهر مدينة حلب، مخرجه من قرية تدعى سبتات (صوابه سنياب كما تقدم) وسألت عنها بحلب فقالوا لا نعرف هذا الاسم، إنما مخرجه من شناذر قرية على ستة أميال من دابق، ثم يمر في رساتيق حلب. وبعد أن ذكر ما قاله أبو الحسين بن المناري قال: وماؤه أعذب ماء وأصحه (على قوله) إلا أنه في الصيف ينشف فلا يبقى إلا نزور قليلة. وأما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر. وقد وصفه شعراء حلب بما ألحقوه بنهر الكوثر، ومن أمثال عوام بغداد: يفرح بفلس مطلي من لم ير دينارا. وقد أحسن القيسراني محمد بن صغير في وصفه في قوله:
رأيت نهر قويق ... فساءني ما رأيت
فلو ظمئت وأسقي ... ت ماءه ما رويت
ولو بكيت عليه ... بقدره ما اشتفيت
وقال في السالنامة: هذا النهر ينبع من قرية يقال لها جاغد يغين من أعمال عينتاب ويجري إلى حلب، وقبل وصوله إليها بنحو ثلاث ساعات عند قرية تعرف بحيلان اقتطع منه قدر ثلثيه واتخذ له مجرى مخصوص بقناة مغطاة وأدخل إلى البلدة. وبعد حيلان يتصل بالبقية الباقية من النهر عين يقال لها عين التل وعين يقال لها عين البيضاء، ويسقي الجميع بساتين حلب، وما فضل منه يمر بقرية يقال لها خان طومان، وبعد ذلك يغيض في أراضي المطخ.
وفي زمن الشتاء حين كثرة الماء وفيضانه تجتمع المياه بعد قرية يقال لها تل الطوكان وهي بعد قرية خان طومان وتشكل هناك بحيرة، ومتى أقبل الصيف تجف. واسم هذا النهر
في القديم شالوس. وسبب تسميته بقويق أن أحد رؤساء عشائر التركمان واسمه قويق من أهل القرن الرابع أصلح مجاري هذا النهر في محال متعددة فنسب إليه (1).(2/171)
وفي زمن الشتاء حين كثرة الماء وفيضانه تجتمع المياه بعد قرية يقال لها تل الطوكان وهي بعد قرية خان طومان وتشكل هناك بحيرة، ومتى أقبل الصيف تجف. واسم هذا النهر
في القديم شالوس. وسبب تسميته بقويق أن أحد رؤساء عشائر التركمان واسمه قويق من أهل القرن الرابع أصلح مجاري هذا النهر في محال متعددة فنسب إليه (1).
الكلام على قناة حلب
قال في الدر المنتخب: وهذه القناة تأتي من حيلان قرية شمالي حلب وفيها أعين جمع ماؤها وسيق إلى المدينة. وقيل إن الملك الذي بنى حلب وزن ماءها إلى وسط المدينة وبنى المدينة عليها، وهي تأتي إلى مشهد العافية تحت بعادين وتركب بعد ذلك على بناء محكم رفع لها لا نخفاض الأرض في ذلك الموضع، ثم تمر إلى أن تصل إلى قرية بابلّى وهي ظاهرة في مواضع، ثم تمر في جباب قد حفرت لها إلى أن تنتهي إلى باب القناة وتظهر في ذلك المكان، ثم تمشي تحت الأرض إلى أن تدخل باب الأربعين وتنقسم في طرق متعددة إلى البلد. (قال): ولأهل حلب صهاريج في دورهم يأتي إليها الماء من القناة، إلا ما كان من الأماكن المرتفعة من البلد كالعقبة وقلعة الشريف فإن صهاريجهم من المطر، وكان الذي حفرها أجراها إلى الكنيسة التي جددتها هيلانة التي هي المدرسة الحلاوية. قال: وقيل إن هذه القناة دثرت وإن عبد الملك بن مروان جددها في ولايته، والذي أدخلها إلى حلب الشيخ الأمين ابن العصيصي الذي تغلب على قنسرين، ولم يدخلها داره حتى لا يقال عنه إنه فعل ذلك لحظ نفسه، وقيل إن هذه القناة إسلامية، والصحيح أنها رومية وكانت لا تدخل في قديم الزمان إلا إلى الجامع فقط.
قال ابن شداد: وفي أيام نور الدين محمود بن زنكي أخرج منها قطعة إلى المطهرة التي هي غربي الجامع بسوق السلاح. قلت (القائل ابن الشحنة): هذا السوق الآن سوق أمتعة وجانبه الغربي وقف على المدرسة الحلاوية وجانبه الشرقي وقف على الجامع.
قال: وعمل منها قسطل إلى رأس الشعيبية، وأخرج نور الدين قطعة أخرى منها إلى الخشابين وساق منها إلى الرحبة الكبيرة داخل باب قنسرين، ثم انقطع ذلك كله بعد وفاة نور الدين ولم ندرك من القناة شيئا سوى قسطل الخشابين فقط.
__________
(1) سيأتي في حوادث سنة 731ذكر اتصال نهر الساجور بنهر حلب.(2/172)
قال: وكان يدخل إلى حلب قناة من جهة باب قنسرين، ولما عمل الشيخ منتخب الدين بن الإسكافي المصنع الذي في المسجد الذي هو شمالي مسجد المحصب رأيت هذا الطريق وقد نسيت، فاستدللت بذلك على صحة ما قيل. ورأيت جماعة من الصناع يقولون إن القناة إسلامية جلبها إلى حلب ابن العصيصي حين حبس في حلب. وكانت هذه القناة قد سد طريقها لطول المدة ونقص منابع عيونها فكثرها الملك الظاهر وحرر طريقها إلى البلد وسد مخارج الماء منها فكثر ماؤها وجرى في القنوات والقساطل.
إصلاح الملك الظاهر غازي لمجرى قناة حلب
قال: لما كانت سنة خمس وستمائة سيّر الملك الظاهر غياث الدين غازي إلى دمشق فأحضر صناعا وخرج بنفسه وأوقفهم على أصل هذه القناة التي تخرج من حيلان، وأمرهم باعتبار الماء الخارج منها واعتبار ما يصل منه إلى حلب، فاختبروا ذلك فرأوا أن مقدار الخارج من أصل القناة مائة وستون إصبعا ومقدار الداخل إلى حلب عشرون إصبعا لا غير، وضمنوا له أن يكفوا جميع سكك حلب وشوارعها ودورها ومدارسها وربطها وحماماتها، ويفضل منه كثير يصرف إلى البساتين والأراضي. فشرع الملك الظاهر في ذلك وبدأ أولا بإصلاح المجرى من حيلان إلى حلب، وباشر ذلك بنفسه وأحضر إليها جميع الأمراء فضربوا خيامهم على حافتها، ثم أمر بذرعها من حيلان إلى باب حلب فكانت المسافة خمسة وثلاثين ألف ذراع بذراع النجّارين وهو ذراع ونصف. قلت (القائل ابن الشحنة): ولعله كان في ذلك الحين كذلك، وأما الآن فهو ذراع وسدس. قال: ثم قسم ذلك قطعا على الأمراء وعيّن لكل أمير صناعا وفعلة وحمل إليهم الكلس والزيت والأحجار والآجر فأصلحت جميعها وجدد طريقها إلى البلد، وكلّس مخارج الماء فيه فكثر، وكانت منكشفة لا سقف لها فقطع لها الطوابق من الصخور الصلبة وطبقها جميعها إلا مواضع جعلها برسم تنقيتها وشرب الماء منها، وأجرى جميع المجرى إلى باب حلب في ثمانية وخمسين يوما، ولما اتصلت بالبلد أمر ببناء القساطل وأجرى الماء فيها حتى عمت أكثر البلد، واتخذ البرك في الدور، ووصل ماء القناة في أيامه إلى مواضع من البلد لم يسمع بوصولها إليها حتى إنها سيقت إلى الحاضر السليماني (الكلّاسة والمغاير وما بينهما وما كان عامرا في تلك النواحي). فقال أبو المظفر محمد بن محمد الواسطي المعروف بابن سنينير يمدحه لما فعل من هذه المكرمة التي عم نفعها وشاع برها وصنعها:(2/173)
روّى ثرى حلب فعادت روضة ... أنفا وكانت قبله تشكو الظما
أحيا موات ترابها فكأنه ... عيسى بإذن الله أحيا الأعظما
لا غرو إن أجرى القناة جداولا ... فلطالما بقناته أجرى الدما
ذكر القساطل التي بنيت في حلب على إثر ذلك
قال ابن شداد: لما اتصلت القناة بالبلد أمر ببناء القساطل، فأول قسطل بني القسطل الذي بباب الأربعين تحت الرباط الذي بناه شهاب الدين طغريل الأتابك من رأس خندق الروم، وصورته حوض طوله عشرون ذراعا ورأساه المشرق والمغرب قبتان، وفيه أنبوبان مقدار الإصبع، ثم ساق هذه القناة إلى باب النصر وعمل حوضا كبيرا قريبا من عشرين شبرا بثلاثة أنابيب ومن القسطل إلى بحسيتا وعمل فيها قسطلين، وهناك تنتهي إلى المعقلية، ثم ساق من أصل القناة من باب الأربعين إلى الطريق الآخذ إلى البلد وما يليه، وهذا الطريق الآخذ إلى بلاط فيه قسطل في رأس العقبة قدام درب الملك، ثم يسير إلى رأس درب الديلم، وهناك قسطل ثم إلى الدرب المعروف بالبازيار ثم إلى رأس درب بني الزهرة والطيوريين، وهناك قسطل ثم إلى درب شراحيل، وهناك قسطل ثم إلى عند حمام أوران، وهناك قسطل (الظاهر موغان وهي حمام البيلوني التي خربت سنة 1335لتعريض الجادة) ثم إلى وسط أسد الله، وهناك قسطل ثم إلى باب الجنان إلى عند مسجد القصير، وهناك قسطل ثم يعود إلى الطريق الآخذ إلى سويقة اليهود ثم إلى باب النصر. وعمل حوضا كبيرا يفيض ثم إلى السويقة عند دار الصبغ وعمل قسطل وبني المسجد المعلّق وهناك انتهى.
ثم ساق من أصل الماء من المقسم الذي تحت القلعة ثم إلى أسواق حلب وقصبة البلد مصنعة في الأرض وجعل ماء القناة جميعها تجتمع في تلك المصنعة، ثم جعل فيها مقاسم يخرج الماء على السوية فيتفرق في حلب على السواء، فأخرج منها طريقا إلى الجامع وما يضاف إليه وطريقا إلى باب الأسود وما يليه وطريقا إلى باب العراق وما يليه وطريقا إلى القطيعة (لعله القصيلة) وما يليها.
وأما طريق الجامع فبنى عليه في رأس دار العدل قسطلا ثم إلى رأس الصاغة تحت المسجد المعلق قسطلا وأخذ منه إلى حمّام العفيف التي عند حبس الدلبة، ثم أخذ من
قسطل راس الصاغة إلى رأس سوق النطاعين، ثم إلى شرقي الجامع، وبني هناك قسطل وفيه ينقسم الماء ثلاثة أقسام:(2/174)
وأما طريق الجامع فبنى عليه في رأس دار العدل قسطلا ثم إلى رأس الصاغة تحت المسجد المعلق قسطلا وأخذ منه إلى حمّام العفيف التي عند حبس الدلبة، ثم أخذ من
قسطل راس الصاغة إلى رأس سوق النطاعين، ثم إلى شرقي الجامع، وبني هناك قسطل وفيه ينقسم الماء ثلاثة أقسام:
قسم منه فوارة الجامع، وقسم يشق وسط الجامع ويصير إلى المطهرة الغربية وما يتصل بها، وقسم يأخذ إلى باب قنسرين وما يليه، فإنه يخرج إلى رأس سوق العطّارين العتيق وراس المربعة، وينقسم هناك قسمين قسم يأخذ إلى الخشابين، وقسم يأخذ إلى الدركاه، فأما قسم الدركاه فيصير إلى المطهرة الصغيرة المعروفة بتل فيروز ورأس سوق العطر.
وأما قسم باب قنسرين فينقسم إلى الزجّاجين فيصير إلى رأس درب أسد الدين الآخذ شمالي سوق الأساكفة والبز، وهناك قسطل ثم إلى عند مسجد المجن ثم إلى درب البيمارستان، وهناك قسطل يفيض فيه ثلاثة أنابيب ليلا ونهارا.
وأما طريق باب قنسرين فيصير إلى رأس درب ابن أبي الأسود، وهناك قسطل ثم يصير إلى عند المسجد المعروف بابن الإسكافي، وهناك قسطل ثم يصير إلى الرحبة التي عند المسجد المحصب وهناك قسطل.
ثم ينقسم الماء هناك ثلاثة أقسام: قسم يأخذ إلى الطيريرة قدام المسجد المعروف بصفي الدين طارق (قبل جامع الرومي) في رأس درب المساسيخ (لعله المسالخ) (3)
وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق.
وقسم يأخذ إلى باب قنسرين، وقسم يأخذ إلى جرن الأصفر عند المسجد وهناك قسطل (1).
وأما القسم الذي يأخذ إلى باب قنسرين قسطل يفيض الماء منه بثلاثة أنابيب، ثم يخرج منه الماء إلى ظاهر البلد لتحت برج الغنم مقابل سوق الأعلى وهو بعد عدة قساطل وهو آخر الطريق، ثم يدخل منه هناك إلى درب البنات وهناك قسطل وهو آخر هذا الطريق اه (2).
__________
(1) رفع هذا القسطل سنة 1338حينما بني خان آل الجلبي وله حجرتان كبيرتان من الحجر الأصفر طول الواحدة أزيد من ذراعين ونصف وعرضها ذراع لم يزالا ملقاتين على قارعة الطريق.
(2) بعض هذه الأسماء قد تغيرت الآن إنما بالتأمل القليل تعرف أماكنها.
(3) العبارة في الأعلاق الخطيرة ط المعهد الفرنسي بدمشق: 1953على النحو التالي:
وينقسم الماء هناك ثلاثة أقسام قسم يأخذ إلى ربع بني الطريرة قدام المسجد المعروف بالرئيس صفي الدين طارق في رأس درب الماسح(2/175)
قال ابن الخطيب: إن الملك الظاهر وقف عليها أوقافا لعمارتها وإصلاحها ولكن هذا الوقف لا يعرف اليوم. (قال): وسيق الماء منها في زماننا إلى خارج باب المقام إلى القرب من المدرسة الجمالية وانقطع بعد الفتنة التيمورية أو قبلها بقليل. قلت: وقد أجريته أنا إلى تربة آشق تمر في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة اه.
سنة 609
قال أبو الفداء: في سنة ثمان وستمائة أرسل الملك الظاهر القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون ابنة الملك العادل فزوجها من الملك الظاهر وزال ما كان بينهما من الإحن. وفي هذه السنة في المحرم عقد الملك الظاهر العقد وكان المهر خمسين ألف دينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب فاحتفل الملك الظاهر لملتقاها وقدم لها أشياء كثيرة نفيسة.
سنة 610
ذكر بناء باب اليهود وتسميته باب النصر
قال في الزبد والضرب: وفي سنة عشر وستمائة أتم الملك الظاهر بناء باب اليهود بحلب، وكان قد شرع في هدمه وحفر خندقه وتوسعته وبناه بناء حسنا وغيّره عن صورته التي كان عليها، وبنى عليه برجين عظيمين وسماه باب النصر.
قلت: وقد ذكر ابن شداد أنه كان يعرف قديما بباب اليهود لأن اليهود تجاوره بدورهم ومنه يخرجون إلى مقابرهم.
وفيها في خامس عشر ذي الحجة ولد له الملك العزيز محمد من ابنة عمه الخاتون ضيفة خاتون، فضربت البشائر وزينت حلب وعقدت القباب اه.
قال أبو الفداء: في هذه السنة في رمضان توفي بحلب فارس الدين ميمون القصري وهو آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء بمصر كان قد أخذه السلطان صلاح الدين من هناك اه.(2/176)
سنة 611
قال أبو الفداء: في هذه السنة توفي دلدرم بن ياروق صاحب تل باشر وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين.
سنة 613
ذكر وفاة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين
قال الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة: فيها توفي الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب، مولده بالقاهرة سنة ثمان وستين وخمسمائة، وكان ملكا مهيبا له سياسة وفطنة، ودولته معمورة بالعلماء والفضلاء مزينة بالملوك والأمراء، وكان محسنا إلى الرعية، وحضر معظم فتوحات والده، وكان محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، ودفن بقلعة حلب، ثم بنى له الطواشي طغريل مدرسة تحت القلعة وعمّر فيها تربة ونقله إليها اه.
وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة: فيها في جمادى الآخرة توفي الملك الظاهر غازي. وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام. وكان مرضه إسهالا، وكان شديد السيرة ضابطا لأموره كلها كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة عظيم العقوبة على الذنب لا يرى الصفح، وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد والشعراء وأهل الدين وغيرهم فيكرمهم ويجري عليهم الجاري الحسن، ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد ولقبه الملك العزيز غياث الدين عمره ثلاث سنين، وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعهد بالملك له ليبقي عمه البلاد عليه ولا ينازعه فيها. ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر قبل مرضه أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر يطلب منه أن يحلف لولده الصغير، فقال العادل: سبحان الله أي حاجة إلى هذه اليمين، الملك الظاهر مثل بعض أولادي، فقال الرسول: قد طلب هذا واختاره ولا بد من إجابته إليه، فقال العادل: كم من كبش في المرعى وخروف عند القصّاب. وحلف فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق، ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا اسمه طغريل ولقبه شهاب الدين، وهو من خيار
عباد الله كثير الصدقة والمعروف، ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس وعدل فيهم وأزال كثيرا من السنن الجارية وأعاد أملاكا كانت قد أخذت من أربابها، وقام بتربية الطفل أحسن قيام وحفظ بلاده، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه، فمن ذلك تل باشر كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه، فلما توفي ملكها كيكاوس السلجوقي ملك الروم كما نذكره انتقلت إلى شهاب الدين. وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة وأعف عن أموال الرعية وأقرب إلى الخير منهم، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه، فالله يبقيه ويدفع عنه، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل اه.(2/177)
وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة: فيها في جمادى الآخرة توفي الملك الظاهر غازي. وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام. وكان مرضه إسهالا، وكان شديد السيرة ضابطا لأموره كلها كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة عظيم العقوبة على الذنب لا يرى الصفح، وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد والشعراء وأهل الدين وغيرهم فيكرمهم ويجري عليهم الجاري الحسن، ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد ولقبه الملك العزيز غياث الدين عمره ثلاث سنين، وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعهد بالملك له ليبقي عمه البلاد عليه ولا ينازعه فيها. ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر قبل مرضه أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر يطلب منه أن يحلف لولده الصغير، فقال العادل: سبحان الله أي حاجة إلى هذه اليمين، الملك الظاهر مثل بعض أولادي، فقال الرسول: قد طلب هذا واختاره ولا بد من إجابته إليه، فقال العادل: كم من كبش في المرعى وخروف عند القصّاب. وحلف فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق، ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا اسمه طغريل ولقبه شهاب الدين، وهو من خيار
عباد الله كثير الصدقة والمعروف، ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس وعدل فيهم وأزال كثيرا من السنن الجارية وأعاد أملاكا كانت قد أخذت من أربابها، وقام بتربية الطفل أحسن قيام وحفظ بلاده، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه، فمن ذلك تل باشر كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه، فلما توفي ملكها كيكاوس السلجوقي ملك الروم كما نذكره انتقلت إلى شهاب الدين. وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة وأعف عن أموال الرعية وأقرب إلى الخير منهم، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه، فالله يبقيه ويدفع عنه، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل اه.
وقال أبو الفداء: لما كانت صبيحة يوم السبت وهو الخامس والعشرون من جمادى الأولى من هذه السنة ابتدأ الملك الظاهر المذكور حمّى حادة، ولما اشتد مرضه أحضر القضاة والأكابر وكتب نسخة يمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير الملك العزيز، ثم بعده لولده الكبير الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين، وحلف الأمراء والأكابر على ذلك وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم وأعذق به جميع أمور الدولة، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقطع الملك الظافر خضر المعروف بالمستمر كفر سودا، وأخرج من حلب في ليلة بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائبا. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر ومنع الناس الدخول إليه، وتوفي في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة، وكان مولده بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة، فكان عمره أربعا وأربعين سنة وشهورا، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء، ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكيا فطنا اه.
وقال ابن خلكان في ترجمته: كان الظاهر يكنى أبا الفتح وأبا منصور أيضا ويلقب بغياث الدين، وكان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل فنزل عنها، وتعوض عنها غيرها كما قد شهر. ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة، منها أنه
جلس يوما لعرض العسكر وديوان الجيش بين يديه، وكان كلما حضر أحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه، حتى حضر واحد فسألوه عن اسمه فقبل الأرض فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعاودوا سؤاله فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى التطويل فيه.(2/178)
وقال ابن خلكان في ترجمته: كان الظاهر يكنى أبا الفتح وأبا منصور أيضا ويلقب بغياث الدين، وكان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء، أعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل فنزل عنها، وتعوض عنها غيرها كما قد شهر. ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة، منها أنه
جلس يوما لعرض العسكر وديوان الجيش بين يديه، وكان كلما حضر أحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه، حتى حضر واحد فسألوه عن اسمه فقبل الأرض فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعاودوا سؤاله فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقا لاسم السلطان وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير لا حاجة إلى التطويل فيه.
وفي الزبد والضرب: لما مات الظاهر كتم خبر موته حتى دفن في الحجرة التي جنب داره الكبيرة التي أنشأها بالقلعة، وكان له في كل دار بحلب مأتم وعزاء.
والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار أنّه وزفير
قال ابن خلكان: ورثاه شاعره الشرف راجح بن إسماعيل بن أبي القاسم الأسدي الحلي وكنيته أبو الوفاء بهذه القصيدة ومدح ولديه السلطان الملك العزيز محمدا وأخاه الملك الصالح صاحب عين تاب وما قصر فيها، وهي:
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه
نشدتك عاتبه على نائباته ... وإن كان ينأى السمع عمن يعاتبه
لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة ... إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه
فمالي أرى الشهباء قد حال صبحها ... علي دجى لا تستنير غياهبه
أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف ... أبيح وعادت خائبات مواكبه
نعم كورت شمس المدائح وانطوت ... سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه
فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت ... قواعده أم لان للخطب جانبه
أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت ... بريح المنايا العاصفات مناكبه
وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت ... وطمّت لغيبان البلاد غواربه
فشلت يمين الخطب أي مهند ... برغم العلا سلت وفلت مضاربه
لئن حبس الغيث الغياثي قطره ... فقد سحبت في كل قطر سحائبه
فأنّى يلذ العيش بعد ابن يوسف ... أخو أمل أكدت عليه مطالبه
فلا أدركت نيل العلا طالباته ... ولا بركت في أرض يمن ركائبه
ولا انتجعت إلا بعيش حقيبة ... من الجدب لا تثني عليه حقائبه
مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب عقاربه
فكم من حمى صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه
فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فوآدي بالوجيب يجاوبه
فكم من ندوب في قلوب نضيجة ... بنار كروب أججتها نوادبه
أسلم ولم تحطم صدور رماحه ... بذب ولم تثلم بضرب قواضبه
ولا اصطدمت عند الحتوف كماته ... ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه
ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة ... تشق مثار النقع فيها سلاهبه
فيا ملبسي ثوبا من الحسن مسبلا ... أيحسن بي أن التسلي سالبه
خدمتك روض المجد تضفو ظلاله ... عليّ وحوض الجود تصفو مشاربه
وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي ... لمفروض مدح ما تعداك واجبه
فما بال إذني قد تمادى ولم يكن ... إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه
أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها ... فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه
فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا ... جواد من الحزم الذي أنت راكبه
فمن لليتامى يا غياث يغيثهم ... إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبه
ومن لملوك كنت ظلا عليهم ... ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه
أيا تاركي ألقى العدو مسالما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
سقت قبرك الغر الغوادي وجاده ... من الغيث ساريه الملثّ وساربه
فإن يك نور من شهابك قد خبا ... فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه
فقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنا زمانا نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجده ... إباء وجد غالبا من يغالبه
ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طالبه
وبالصالح استعلى صلاح رعية ... لها منه رعي ليس يقلع راتبه
فحسب الورى من أحمد ومحمد ... مليكان من عاداهما ذل جانبه
هما أحرزا علياء غازي بن يوسف ... وما ضيّعا المجد الذي هو كاسبه
فأفق الورى لولاهما كان أظلمت ... مشارقه من بعده ومغاربه
ستحمي على رغم الليالي حماهما ... عوالي قنا تردي الأسود ثعالبه
فكم من ملم جل موقع خطبه ... فساءت مباديه وسرت عواقبه
فيا قمري سعد أطلا على الدجا ... فولى وما ألوى على الأرض هاربه
أيمكث في الشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل نجائبه
فإن شئتما بعد الغياث أغثتما ... مصاب سهام فوّقتها مصائبه
كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه ... وتضحك في وجه الأماني مواهبه
فهنئتما ما نلتما وبقيتما ... لإعلاء ملك ساميات مراتبه(2/179)
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه
نشدتك عاتبه على نائباته ... وإن كان ينأى السمع عمن يعاتبه
لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة ... إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه
فمالي أرى الشهباء قد حال صبحها ... علي دجى لا تستنير غياهبه
أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف ... أبيح وعادت خائبات مواكبه
نعم كورت شمس المدائح وانطوت ... سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه
فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت ... قواعده أم لان للخطب جانبه
أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت ... بريح المنايا العاصفات مناكبه
وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت ... وطمّت لغيبان البلاد غواربه
فشلت يمين الخطب أي مهند ... برغم العلا سلت وفلت مضاربه
لئن حبس الغيث الغياثي قطره ... فقد سحبت في كل قطر سحائبه
فأنّى يلذ العيش بعد ابن يوسف ... أخو أمل أكدت عليه مطالبه
فلا أدركت نيل العلا طالباته ... ولا بركت في أرض يمن ركائبه
ولا انتجعت إلا بعيش حقيبة ... من الجدب لا تثني عليه حقائبه
مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب عقاربه
فكم من حمى صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه
فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فوآدي بالوجيب يجاوبه
فكم من ندوب في قلوب نضيجة ... بنار كروب أججتها نوادبه
أسلم ولم تحطم صدور رماحه ... بذب ولم تثلم بضرب قواضبه
ولا اصطدمت عند الحتوف كماته ... ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه
ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة ... تشق مثار النقع فيها سلاهبه
فيا ملبسي ثوبا من الحسن مسبلا ... أيحسن بي أن التسلي سالبه
خدمتك روض المجد تضفو ظلاله ... عليّ وحوض الجود تصفو مشاربه
وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي ... لمفروض مدح ما تعداك واجبه
فما بال إذني قد تمادى ولم يكن ... إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه
أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها ... فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه
فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا ... جواد من الحزم الذي أنت راكبه
فمن لليتامى يا غياث يغيثهم ... إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبه
ومن لملوك كنت ظلا عليهم ... ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه
أيا تاركي ألقى العدو مسالما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
سقت قبرك الغر الغوادي وجاده ... من الغيث ساريه الملثّ وساربه
فإن يك نور من شهابك قد خبا ... فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه
فقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنا زمانا نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجده ... إباء وجد غالبا من يغالبه
ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طالبه
وبالصالح استعلى صلاح رعية ... لها منه رعي ليس يقلع راتبه
فحسب الورى من أحمد ومحمد ... مليكان من عاداهما ذل جانبه
هما أحرزا علياء غازي بن يوسف ... وما ضيّعا المجد الذي هو كاسبه
فأفق الورى لولاهما كان أظلمت ... مشارقه من بعده ومغاربه
ستحمي على رغم الليالي حماهما ... عوالي قنا تردي الأسود ثعالبه
فكم من ملم جل موقع خطبه ... فساءت مباديه وسرت عواقبه
فيا قمري سعد أطلا على الدجا ... فولى وما ألوى على الأرض هاربه
أيمكث في الشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل نجائبه
فإن شئتما بعد الغياث أغثتما ... مصاب سهام فوّقتها مصائبه
كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه ... وتضحك في وجه الأماني مواهبه
فهنئتما ما نلتما وبقيتما ... لإعلاء ملك ساميات مراتبه(2/180)
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه ... بمن علقت أنيابه ومخالبه
نشدتك عاتبه على نائباته ... وإن كان ينأى السمع عمن يعاتبه
لي الله كم أرمي بطرفي ضلالة ... إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه
فمالي أرى الشهباء قد حال صبحها ... علي دجى لا تستنير غياهبه
أحقا حمى الغازي الغياث بن يوسف ... أبيح وعادت خائبات مواكبه
نعم كورت شمس المدائح وانطوت ... سماء العلا والنجح ضاقت مذاهبه
فمن مخبري عن ذلك الطود هل وهت ... قواعده أم لان للخطب جانبه
أجل ضعضعت بعد الثبات وزعزعت ... بريح المنايا العاصفات مناكبه
وغيض ذاك البحر من بعد ما طمت ... وطمّت لغيبان البلاد غواربه
فشلت يمين الخطب أي مهند ... برغم العلا سلت وفلت مضاربه
لئن حبس الغيث الغياثي قطره ... فقد سحبت في كل قطر سحائبه
فأنّى يلذ العيش بعد ابن يوسف ... أخو أمل أكدت عليه مطالبه
فلا أدركت نيل العلا طالباته ... ولا بركت في أرض يمن ركائبه
ولا انتجعت إلا بعيش حقيبة ... من الجدب لا تثني عليه حقائبه
مضى من أقام الناس في ظل عدله ... وآمن من خطب تدب عقاربه
فكم من حمى صعب أباحت سيوفه ... ومن مستباح قد حمته كتائبه
أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا ... أما فيكم من مخبر أين صاحبه
فمن سائلي عن سائل الدمع لم جرى ... لعل فوآدي بالوجيب يجاوبه
فكم من ندوب في قلوب نضيجة ... بنار كروب أججتها نوادبه
أسلم ولم تحطم صدور رماحه ... بذب ولم تثلم بضرب قواضبه
ولا اصطدمت عند الحتوف كماته ... ولا ازدحمت بين الصفوف جنائبه
ولا سيم أخذ الثار يوم كريهة ... تشق مثار النقع فيها سلاهبه
فيا ملبسي ثوبا من الحسن مسبلا ... أيحسن بي أن التسلي سالبه
خدمتك روض المجد تضفو ظلاله ... عليّ وحوض الجود تصفو مشاربه
وقد كنت تدنيني وترفع مجلسي ... لمفروض مدح ما تعداك واجبه
فما بال إذني قد تمادى ولم يكن ... إذا جئت يثنيني عن الباب حاجبه
أرى الشمس أخفت يوم فقدك نورها ... فلا كان يوم كاسف الوجه شاحبه
فكيف نبا سيف اعتزامك أو كبا ... جواد من الحزم الذي أنت راكبه
فمن لليتامى يا غياث يغيثهم ... إذا الغيث لم ينقع صدى العام ساكبه
ومن لملوك كنت ظلا عليهم ... ظليلا إذا ما الدهر نابت نوائبه
أيا تاركي ألقى العدو مسالما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
سقت قبرك الغر الغوادي وجاده ... من الغيث ساريه الملثّ وساربه
فإن يك نور من شهابك قد خبا ... فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه
فقد لاح بالملك العزيز محمد ... صباح هدى كنا زمانا نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجده ... إباء وجد غالبا من يغالبه
ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طالبه
وبالصالح استعلى صلاح رعية ... لها منه رعي ليس يقلع راتبه
فحسب الورى من أحمد ومحمد ... مليكان من عاداهما ذل جانبه
هما أحرزا علياء غازي بن يوسف ... وما ضيّعا المجد الذي هو كاسبه
فأفق الورى لولاهما كان أظلمت ... مشارقه من بعده ومغاربه
ستحمي على رغم الليالي حماهما ... عوالي قنا تردي الأسود ثعالبه
فكم من ملم جل موقع خطبه ... فساءت مباديه وسرت عواقبه
فيا قمري سعد أطلا على الدجا ... فولى وما ألوى على الأرض هاربه
أيمكث في الشهباء عبد أبيكما ... ومادحه أم تستقل نجائبه
فإن شئتما بعد الغياث أغثتما ... مصاب سهام فوّقتها مصائبه
كأن لم أقف أجلو التهاني أمامه ... وتضحك في وجه الأماني مواهبه
فهنئتما ما نلتما وبقيتما ... لإعلاء ملك ساميات مراتبه
آثار الملك الظاهر غازي بحلب المدرسة الظاهرية وهي المشهورة بالسلطانية
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: المدرسة الظاهرية وهي المعروفة الآن بالسلطانية تجاه القلعة مشتركة بين الشافعية والحنفية، وكان الملك الظاهر قد أسسها وتوفي سنة ثلاث عشرة وستمائة ولم تتم، وبقيت مدة بعد وفاته حتى شرع فيها شهاب الدين طغريل أتابك الملك العزيز فعمرها وكملها سنة ثلاثين وستمائة، ومنقوش على بابها أنها وقف على الطائفتين الشافعية والحنفية اه.
قال ابن شداد: درّس بها القاضي بهاء الدين بن شداد وهو أول مدرس بها وولي نظرها القاضي زين الدين أبو محمد عبد الله الأسدي قاضي القضاة بحلب، وكان يدرس بها المذهبين اه.
المكتوب على بابها:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، هذه المدرسة قد أمر بعمارتها وإنشائها في أيام السلطان الملك العزيز غياث الدنيا والدين محمد بن السلطان الملك المظفر غازي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين منقذ بيت الله المقدس من أيدي الكافرين، أسكنه محال رضوانه وفسائح جنانه وخلد سلطان الملك العزيز وألهمه العدل والإنصاف، وأنشأها تكية وتربة ولي أمره وكافل دولته القائم بقوانين حفظه العبد الفقير إلى رحمة ربه الجليل شهاب الدين أبو سعيد طغرل بن عبد الله الملكي الظاهري عفى الله عنه، وجعلها مدرسة للفريقين ومقرئا للمشتغلين بعلوم الشريعة من الطائفتين الشافعية والحنفية والمجتهدين في الاشتغال، السالكين طريقة الأخيار الأمثال، الذين يعينهم المدرس بها من الفريقين،
مشتملة على مسجد لله تعالى ومشيّد فيه مدفن السلطان الملك الظاهر قدّس الله روحه ليناله ثواب قراءة العلم ودراسته وبركة القرآن وتلاوته، فجزاه الله أفضل الأجر عليه، وشرط فيها أثابه الله تعالى أن يكون المدرس بها شافعي المذهب والإمام للصلاة في مسجدها شافعي المذهب، وكذا المؤذن، غفر الله لهم أجمعين سنة ستماية وعشرين.(2/181)
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، هذه المدرسة قد أمر بعمارتها وإنشائها في أيام السلطان الملك العزيز غياث الدنيا والدين محمد بن السلطان الملك المظفر غازي بن السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين منقذ بيت الله المقدس من أيدي الكافرين، أسكنه محال رضوانه وفسائح جنانه وخلد سلطان الملك العزيز وألهمه العدل والإنصاف، وأنشأها تكية وتربة ولي أمره وكافل دولته القائم بقوانين حفظه العبد الفقير إلى رحمة ربه الجليل شهاب الدين أبو سعيد طغرل بن عبد الله الملكي الظاهري عفى الله عنه، وجعلها مدرسة للفريقين ومقرئا للمشتغلين بعلوم الشريعة من الطائفتين الشافعية والحنفية والمجتهدين في الاشتغال، السالكين طريقة الأخيار الأمثال، الذين يعينهم المدرس بها من الفريقين،
مشتملة على مسجد لله تعالى ومشيّد فيه مدفن السلطان الملك الظاهر قدّس الله روحه ليناله ثواب قراءة العلم ودراسته وبركة القرآن وتلاوته، فجزاه الله أفضل الأجر عليه، وشرط فيها أثابه الله تعالى أن يكون المدرس بها شافعي المذهب والإمام للصلاة في مسجدها شافعي المذهب، وكذا المؤذن، غفر الله لهم أجمعين سنة ستماية وعشرين.
حالتها الحاضرة:
لم يزل باب المدرسة قائما على حاله وعليه الكتابة المتقدمة، وفوق الباب منارة صغيرة طولها نحو أربعة أذرع، والدرج الذي يصعد به إليها خرب وموقف المؤذن كذلك، وعن يمين الباب ويساره خمس حجر صغيرة بعضها جدد في أوائل هذا القرن، ورممت جميعها منذ ثلاث سنوات، يسكنها الآن بعض فقراء المغاربة.
وكان عن يمين المدرسة ويسارها حجر للطلبة علوية وسفلية أدركناها وهي مشرفة على الخراب، والآن قد خربت بالكلية، والحائط الشرقي خرب بتاتا وصار الناس يدخلون إلى المدرسة منه، ومنذ سنتين صار بعض أهل الطريقة الرشيدية يقيمون الذكر في قبلية المدرسة، فجمعوا من بعضهم ومن بعض أهل الخير نحو ثلاثين ألفا أقاموا فيه هذا الحائط من أنقاض المدرسة وأصلحوا الدرج الذي ينزل منه إلى باب المدرسة، لأنه أصبح منخفضا لتعلية الأرض التي حول المدرسة.
وكان في وسط المدرسة حوض مركب من ثمانية أحجار بديع الشكل وقد خرب، وبعض أحجاره لم تزل ملقاة في أرض المدرسة. وأما القبلية فقد كان جدارها المشرف على صحن المدرسة أصابه الوهن فاهتم جميل باشا منذ أربعين سنة في إصلاحه.
ومحراب المدرسة بديع جدا، وهو مؤلف من ثلاث عشرة حجرة من الرخام الملون، وفي طرفي المحراب عمودان من الرخام الأزرق، ويعلو المحراب أحجار ملونة مشتبكة ببعضها على أجمل وضع قد استفرغت فيه الصنعة جهدها، ولسان حال هذا المحراب ناطق بما وصل إليه فن العمارة في ذلك العصر من الإتقان، وهذا المحراب لم يزل على حاله كأن بانيه قد فرغ منه الآن، وهو من أهم الآثار العربية القديمة في حلب.
وعن يمين القبلية حجرة واسعة لعلها كانت موضع إلقاء الدروس، وعن يسارها حجرة واسعة أيضا، وهناك في وسطها أربعة قبور يتلو بعضها بعضا اثنان يعلوان عن
الأرض شبرا والآخران بعض أصابع. وأحد هذه القبور قبر السلطان الملك الظاهر غازي.(2/182)
وعن يمين القبلية حجرة واسعة لعلها كانت موضع إلقاء الدروس، وعن يسارها حجرة واسعة أيضا، وهناك في وسطها أربعة قبور يتلو بعضها بعضا اثنان يعلوان عن
الأرض شبرا والآخران بعض أصابع. وأحد هذه القبور قبر السلطان الملك الظاهر غازي.
لكن لا يعلم أي قبر هو، كما أني لم أقف على اسم من دفن في القبور الثلاثة.
وللتربة باب من صحن الجامع ولها شباكان واحد للجهة الشرقية وواحد للجهة الجنوبية، وقد سد الآن لتعلية الأرض حول المدرسة كما قدمنا، ومكتوب على باب التربة وعلى هذين الشباكين:
هذه تربة السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين منقذ بيت المقدس من أيدي الكافرين قدّس الله روحهما ورحم من ترحم عليهما.
وأوقاف هذه المدرسة كانت كثيرة لكنها ذهبت وتغلبت عليها الأيدي، وليس لها الآن من العقارات المقيّدة في دائرة الأوقاف سوى دكان واحدة في محلة القصيلة وارداتها نحو ليرة ونصف عثمانية ذهبا، وأرض تحت القلعة.
وتنوي الآن دائرة الأوقاف أن تعيد بناء الحجر التي كانت عن اليمين والشمال وتسكن فيها الطلبة وتفرش أرضها بالرخام وتعيد إليها بهجتها الأولى، حقق الله ذلك.
المسجد الكبير في القلعة
ومن آثاره المسجد الكبير بالقلعة وهو قريب من المنارة ومكتوب عليه (بسم الله أمر بعمله مولانا السلطان الملك الظاهر العالم العادل المجاهد المؤيد المظفر المنصور غياث الدنيا والدين أوب المظفر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب خلد الله ملكه سنة 610).
وللملك الظاهر غير ذلك من الآثار في القلعة خصوصا في أبوابها. ومكتوب على وسط بابها الأول المصفح بالحديد (أمر بعمارته مولانا الملك الظاهر غازي بن يوسف سنة ثمان وستمائة) ومثل ذلك على الباب الرابع، غير أن تاريخ هذا سنة 606، وحروف الكتابة من حديد ولها مسامير أدخلت في الخشب ودقت من الطرف الآخر، ولو تأمل فيها أهل ذاك العصر قليلا لاهتدوا منها إلى فن الطباعة.
المدرسة الظاهرية
قال في الدر المنتخب في الكلام على مدارس الشافعية التي بظاهر حلب: أولها المدرسة الظاهرية أنشأها السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب
صاحب حلب، وانتهت عمارتها في سنة ستة عشر وستمائة (أي بعد وفاته) وأنشأ إلى جانبها تربة أرصدها ليدفن بها من يموت من الملوك والأمراء اه.(2/183)
قال في الدر المنتخب في الكلام على مدارس الشافعية التي بظاهر حلب: أولها المدرسة الظاهرية أنشأها السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب
صاحب حلب، وانتهت عمارتها في سنة ستة عشر وستمائة (أي بعد وفاته) وأنشأ إلى جانبها تربة أرصدها ليدفن بها من يموت من الملوك والأمراء اه.
قال ابن شداد بعد العبارة المتقدمة: وفوض النظر في المدرسة إلى القاضي بهاء الدين ابن شداد وشرف الدين أبي طالب العجمي، وحضر السلطان يوم درس بها وعمل دعوة عظيمة حضرها الفقهاء اه.
أقول: وهذه المدرسة الآن خربة وحجرها التي كانت عن اليمين والشمال تهدمت، وعواميدها العظيمة مع كثير من أنقاضها ملقاة في أرض المدرسة، ولم يبق من آثار عمرانها سوى محرابها مع عمودين من الرخام وليس على بابها شيء من الكتابة، وفي وسطها حوض مثمن بديع الصنعة. وحالتها الحاضرة تعرب عن عظمة شأنها وجلالة قدر بانيها، وإذا أجلت النظر في أطرافها ونظرت إليها نظر معتبر سالت منك العبرات واشتعلت في فؤادك نيران الحسرات، ولو كانت هي الخربة وحدها لهان الأمر، لكن تجد خارج باب المقام كثيرا من المدارس والرباطات والخانقاهات قد أخنى عليها الزمان وجارت عليها الأيام وأصبحت أطلالا ورسوما وكلها تنبيك عن تقدم العمران في ذلك العصر وتدلك على ارتقاء العلم في الشهباء ورواج سوقه وأنها كانت محط الرحال ومنتهى الآمال.
ولا ندري هل يسمح الزمان في عمران ما هنالك من الآثار القديمة من مدارس وغيرها على شكل تستفيد منه الأمة، ولا ريب أن ذلك خير من أن تبقى على هذه الحالة المؤدية إلى ذهاب تلك الآثار بتاتا، فإن أهل تلك المحلة لفقرهم قد تسلطوا على أحجار تلك الآثار وهم يسرقون منها شيئا بعد شيء، وإذا طال الحال ولم يتلاف ذلك تصبح هذه الأماكن التي هي مفاخر الآباء والأجداد أثرا بعد عين.
المدرسة الهروية
قال في الدر المنتخب: المدرسة الهروية أنشأها الشيخ أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي السائح قبلي حلب، ولم تزل إلى أن كانت فتنة التتر فدثر بعضها ولم يبق بها ساكن، وخرب وقفها لأنه كان سوقا بالحاضر اه.
أقول: نسبة إنشائها إلى الهروي سهو، والذي أنشأها إنما هو الملك الظاهر غازي، ففي تاريخ ابن خلكان في ترجمة أبي الحسن علي الهروي المذكور أن أبا الحسن كان فيه
فضيلة وله معرفة بعلم السيمياء، وبه تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب واقام عنده وكان كثير الرعاية له وبنى له مدرسة بظاهر حلب، وفي ناحية منها قبة وهو مدفون فيها، وفي تلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت منها ما يليق به، ورأيته كتب على باب الميضاة: بيت المال في بيت الماء، ورأيت في قبته معلقا عند رأسه غصنا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة وهو أعجوبة، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب منه من يراه اه.(2/184)
أقول: نسبة إنشائها إلى الهروي سهو، والذي أنشأها إنما هو الملك الظاهر غازي، ففي تاريخ ابن خلكان في ترجمة أبي الحسن علي الهروي المذكور أن أبا الحسن كان فيه
فضيلة وله معرفة بعلم السيمياء، وبه تقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب واقام عنده وكان كثير الرعاية له وبنى له مدرسة بظاهر حلب، وفي ناحية منها قبة وهو مدفون فيها، وفي تلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت منها ما يليق به، ورأيته كتب على باب الميضاة: بيت المال في بيت الماء، ورأيت في قبته معلقا عند رأسه غصنا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة وهو أعجوبة، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب منه من يراه اه.
أقول: هي الآن خربة كما قال، ولم يبق من المدرسة سوى أحجار بابها والمكان المدفون فيه أبو الحسن المذكور وحجرة بجانبه متوهنة والمدرسة داخل كرم أيضا ومكتوب على أحجار القبر {لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ} إلخ الآية، والكتابات التي كانت عليها ذهب أكثرها، والمكان كان قد خرب وأعيد بصورة بسيطة، وبنوا بعضا من الكتابات في أماكن من الجدر كيفما اتفق فتشوهت وذهب رونقها، وجميع المكان مشرف الآن على الخراب.
سنة 615
ذكر قصد كيكاوس حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس
قال ابن الأثير: في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب قصدا للتغلب عليها ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف، وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيهما شر كثير وسعاية بالناس، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر ابن صلاح الدين عن رعيته، فأوغرا صدره فلقي الناس منهما شدة، فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل فعلهما وسد هذا الباب على فاعليه ولم يطرق إليه أحد من أهله، فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما وثار بهما الناس وآذوهما وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر، فخافا ففارقا حلب وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه وأنه يملكها ويهون عليه ملك ما بعدها، فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه وقالوا له: لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه، وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك والمصلحة أنك تستصحبه معك وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد.
فأحضر الأفضل من سميساط إليه وحمل إليه شيئا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل وهو في طاعة كيكاوس والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصدون ديار الجزيرة فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل حران والرها من البلاد الجزرية تكون لكيكاوس، وجرت الأيمان على ذلك.(2/185)
قال ابن الأثير: في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب قصدا للتغلب عليها ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف، وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيهما شر كثير وسعاية بالناس، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر ابن صلاح الدين عن رعيته، فأوغرا صدره فلقي الناس منهما شدة، فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل فعلهما وسد هذا الباب على فاعليه ولم يطرق إليه أحد من أهله، فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما وثار بهما الناس وآذوهما وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر، فخافا ففارقا حلب وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه وأنه يملكها ويهون عليه ملك ما بعدها، فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه وقالوا له: لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه، وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك والمصلحة أنك تستصحبه معك وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد.
فأحضر الأفضل من سميساط إليه وحمل إليه شيئا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل وهو في طاعة كيكاوس والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصدون ديار الجزيرة فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل حران والرها من البلاد الجزرية تكون لكيكاوس، وجرت الأيمان على ذلك.
وجمعوا العساكر وساروا فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل فمال الناس حينئذ إليهما، ثم سار إلى قلعة تل باشر وفيها صاحبها ابن بدر الدين دلدرم الياروقي فحصروه وضيقوا عليه وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسه ولم يسلمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضل من ذلك وقال: هذا أول الغدر، وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره، ففترت نيته وأعرض عما كان يفعله، وكذلك أيضا أهل البلاد فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها فيسهل عليهم الأمر، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا.
وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر صاحب حلب فإنه ملازم قلعة حلب لا ينزل منها ولا يفارقها البتة، وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر خوفا من ثائر يثور به، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه، فأرسل إلى الملك الأشرف بن الملك العادل صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها يستدعيه لتكون طاعتهم له ويخطبون له ويجعل السكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار، ولأن ولد الظاهر ابن أخته فأجاب إلى ذلك وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر العرب من طيىء وغيرهم ونزل بظاهر حلب، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا، فعاد عن ذلك وصار يقول:
الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء، قصدا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء، فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدم الأشرف نحوهم وسارت العرب في مقدمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس نحو ألف فارس قد سبقت مقدمة له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي فاقتتلوا فانهزم عسكر كيكاوس وعادوا إليه منهزمين، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم، فلما وصل إليه
أصحابه منهزمين لم يثبت بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفا يترقب، فلما وصل إلى أطرافها أقام، وإنما فعل هذا لأنه صبي وغر لا معرفة له بالحرب، وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض، فسار حينئذ الأشرف فملك رعبان وحصر تل باشر وبها جمع من عسكر كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا، فعظم ذلك على الناس كافة واستقبحوه واستضعفوه، لا جرم لم يمهله الله تعالى وعجل عقوبته للؤم قدرته وشدة عقوبته ولعدم الرحمة في قلبه، ومات عقيب هذه الحادثة. وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك صاحب حلب وكان عازما على اتباع كيكاوس ويدخل بلاده، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل فاقتضت المصلحة العود إلى حلب لأن الفرنج بديار مصر، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه فعاد إليها وكفى كل منها أذى صاحبه.(2/186)
الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء، قصدا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء، فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدم الأشرف نحوهم وسارت العرب في مقدمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس نحو ألف فارس قد سبقت مقدمة له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي فاقتتلوا فانهزم عسكر كيكاوس وعادوا إليه منهزمين، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم، فلما وصل إليه
أصحابه منهزمين لم يثبت بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفا يترقب، فلما وصل إلى أطرافها أقام، وإنما فعل هذا لأنه صبي وغر لا معرفة له بالحرب، وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض، فسار حينئذ الأشرف فملك رعبان وحصر تل باشر وبها جمع من عسكر كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا، فعظم ذلك على الناس كافة واستقبحوه واستضعفوه، لا جرم لم يمهله الله تعالى وعجل عقوبته للؤم قدرته وشدة عقوبته ولعدم الرحمة في قلبه، ومات عقيب هذه الحادثة. وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك صاحب حلب وكان عازما على اتباع كيكاوس ويدخل بلاده، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل فاقتضت المصلحة العود إلى حلب لأن الفرنج بديار مصر، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه فعاد إليها وكفى كل منها أذى صاحبه.
زيادة بيان لهذه الحوادث
قال أبو الفدا: لما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة وكان طفلا طمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف بن الملك العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الملك الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل وأخذها كيكاوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد ووصل إليه بها الأمير مانع ابن حديثة أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا ووقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاوس، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاوس وأخذ من عسكر كيكاوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر لها، ولما بلغ ذلك كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما مرعوبا وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها، وكذلك استرجع رعبان وغيرها. وتوجه الملك الأفضل إلى
سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه اه.(2/187)
قال أبو الفدا: لما مات الملك الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز في المملكة وكان طفلا طمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، فاستدعى الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف بن الملك العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الملك الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها ابن دلدرم ففتحها ولم يسلمها إلى الملك الأفضل وأخذها كيكاوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد ووصل إليه بها الأمير مانع ابن حديثة أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا ووقع بعض عسكره مع مقدمة عسكر كيكاوس، فانهزمت مقدمة عسكر كيكاوس وأخذ من عسكر كيكاوس عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر لها، ولما بلغ ذلك كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما مرعوبا وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها، وكذلك استرجع رعبان وغيرها. وتوجه الملك الأفضل إلى
سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وعاد الملك الأشرف إلى حلب وقد بلغه وفاة أبيه اه.
سنة 619
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة فوض الأتابك طغريل الخادم مدبر مملكة حلب إلى الملك الصالح أحمد ابن الملك الظاهر أمر الشغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليها وأضاف إليه سروج ومعرة مصرين.
عجائب المخلوقات
قال ياقوت في معجم البلدان في الكلام على كلّز: جرى في هذه الناحية في أيامنا هذه شيء عجيب كنت قد ذكرت مثله في أخبار سد يأجوج ومأجوج، وكنت مرتابا فيه ومقلدا لمن حكاه فيه، حتى إذا كان في أواخر ربيع الآخر سنة 619شاع بحلب وأنا كنت بها يومئذ ثم ورد بصحته كتاب والي هذه الناحية أنهم رأوا هناك تنّينا عظيما في طول المنارة وغلظها أسود اللون وهو ينساب على الأرض والنار تخرج من فيه ودبره، فما مر على شيء إلا وأحرقه، حتى إنه أتلف عدة مزارع وأحرق أشجارا كثيرة من الزيتون وغيره، وصادف في طريقه عدة بيوت وخركاهات للتركمان فأحرقها بما فيها من الماشية والرجال والنساء والأطفال، ومر كذلك نحو عشرة فراسخ والناس يشاهدونه من بعد، حتى أغاث الله أهل تلك النواحي بسحابة أقبلت من قبل البحر وتدلت حتى اشتملت عليه ورفعته وجعلت تعلو قبل السماء والناس يشاهدون النار تخرج من قبله ودبره وهو يحرك ذنبه ويرتفع حتى غاب عن أعين الناس، قالوا: ولقد شاهدناه والسحابة ترفعه وقد لف بذنبه كلبا، فجعل الكلب ينبح وهو يرتفع، وكان قد أحرق في ممره نحو أربعمائة شجرة لوز وزيتون.
سنة 622
وفاة الملك الأفضل علي بن صلاح الدين بسميساط ونقله إلى مدينة حلب
قال ابن الأثير: في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة، وقد ذكرنا سنة
تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام، وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه، ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر، وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه، وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الآن، فتوفي بها، وكان رحمه الله من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله، كان خيرا عادلا فاضلا حليما قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالبا، وكان يكتب خطا حسنا وكتابة جيدة، وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل خلق جميل وفعل حميد، فرحمه الله ورضي الله عنه.(2/188)
قال ابن الأثير: في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة، وقد ذكرنا سنة
تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام، وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه، ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر، وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه، وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الآن، فتوفي بها، وكان رحمه الله من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله، كان خيرا عادلا فاضلا حليما قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالبا، وكان يكتب خطا حسنا وكتابة جيدة، وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل خلق جميل وفعل حميد، فرحمه الله ورضي الله عنه.
ورأيت من كتابته أشياء حسنة، فمما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى أصحابه لما أخذت دمشق منه كتابا من فصوله:
وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم وسبب ذلك أني
أي صديق سألت عنه ففي ... الذل وتحت الخمول في الوطن
وأي ضد سألت حالته ... سمعت مالا تحبه أذني
فتركت السؤال عنهم. وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال عنهم. ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر اه.
وقال ابن خلكان في ترجمته: كان الأفضل أكبر أولاد أبيه وإليه كانت ولاية عهده، وفيه فضيلة ومعرفة وكتابة ونباهة، وكان يحب العلماء ويعظم حرمتهم. سمع بالإسكندرية من الإمام أبي الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف الزهري، وبمصر من العلامة أبي محمد عبد الله بن بري النحوي، وأجاز له أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي السلمي وأبو عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيرهما من الشاميين، وأجاز له أبو القاسم هبة الله بن علي ابن مسعود وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد وغيرهما من المصريين. وله شعر، فمن المنسوب إليه أنه كتب إلى الإمام الناصر يشكو من عمه العادل أبي بكر وأخيه العزيز عثمان لما أخذا منه دمشق:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقي من الأول
فجاءه جواب الإمام الناصر وفي أوله وكان الناصر يتشيع:(2/189)
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقي من الأول
فجاءه جواب الإمام الناصر وفي أوله وكان الناصر يتشيع:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبا عليا حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فابشر فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر
قال أبو الفدا: ومن شعره يعرض إلى سوء حظه قوله:
يا من يسوّد شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنه لا ينصل
ثم قال ابن خلكان: وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس وستين وخمسمائة بالقاهرة ووالده يومئذ وزير المصريين، وتوفي في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة فجأة بسميساط رحمه الله تعالى ونقل إلى حلب ودفن بتربة بظاهر حلب بالقرب من مشهد الهروي.
أقول: هذه التربة غربي الكرم الذي فيه ضريح الهروي بينهما الطريق، وهناك قبلية لا صحن لها وهي مشرفة على الخراب، وأمام القبلية قبر لا أدري إن كان هو قبر الملك الأفضل علي أو قبر أمه إذ لا كتابة عليه. ومكتوب على جدار القبلية من الخارج في الجهة الجنوبية والجهة الغربية بعد البسملة:
هذه تربة العبدة الفقيرة إلى رحمة ربها (جهة) مولانا الغازي المجاهد المرابط المناع العادل الزاهد الملك الناصر صلاح الدنيا والدين منقذ القدس من أيدي المشركين مطهر قبور الأنبياء والمرسلين. من دحض الكافرين مانع الطراز الأخضر من بني الأصفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والدة ولده المولى الملك الأفضل علي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. وكان الفراغ في شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة اه.
وسميساط بضم السين المهملة وفتح الميم، وهي قلعة في بر الشام على الفرات في ناحية بلاد الروم بين قلعة الروم وملاطية اه.(2/190)
ذكر وفاة الأمير سيف الدين علي بن الأمير علم الدين سليمان بن جندر
قال ابن كثير في تاريخه في حوادث هذه السنة: وتوفي فيها الأمير سيف الدين علي ابن الأمير علم الدين سليمان بن جندر، وكان من أكابر الأمراء بحلب وله الصدقات الكثيرة، ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والأخرى على الحنفية، وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات وغزا غزوات اه.
آثاره بحلب نقلا عن الدر المنتخب
قال فيه: (المدرسة السيفية) أنشأها الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان ابن جندر، انتهت سنة سبع عشرة وستمائة مشتركة بين الشافعية والحنفية، وهي خراب داثر. وفيه في باب ذكر ما بحلب من مدارس المالكية والحنابلة: [مدرسة] أنشأها الأمير سيف الدين علي تحت القلعة لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل، وهذه المدرسة كانت قد نسيت وأغلق بابها ففتحته وما أدري ما فعل الله بها بعد خروجي من حلب. وقال في باب الخانقاهات والربط: [رباط] أنشأه الأمير سيف الدين علي بالرحبة الكبيرة وكانت في دار تعرف ببدر الدين محمود بن شكري الذي خنقه الملك الظاهر غازي اه.
ومن آثاره جامع خارج محلة الكلاسة، قال بيشوف: مكتوب عليه: بسم الله، أنشأ هذا المسجد المبارك في أيام مولانا السلطان الملك الظاهر غازي خلد الله ملكه العبد الفقير إلى رحمة ربه علي بن سليمان بن جندر غفر الله له ولوالديه سنة 606.
سنة 624
قال ابن الأثير: فيها ظفر جمع من التركمان كانوا بأطراف أعمال حلب بفارس مشهور من الفرنج الداوية بأنطاكية فقتلوه، فعلم الداوية بذلك فساروا وكبسوا التركمان فقتلوا منهم وأسروا وغنموا من أموالهم، فبلغ إلى أتابك المتولي لأمور حلب فراسل الفرنج وتهددهم بقصد بلادهم، واتفق أن عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضا، فأذعنوا بالصلح وردوا إلى التركمان كثيرا من أموالهم وحريمهم وأسراهم اه.(2/191)
قال ابن كثير في حوادث هذه السنة: وممن توفي فيها من الأعيان جنكز خان ملك التتار وجد ملوكهم، وساق له ترجمة طويلة حافلة تدل على حسن سيرته وعدله في رعيته، ومما جاء فيها أنه أهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكز خان، فوهّن أمره عنده بعض خواصه وقال: خوند هذا زجاج لا قيمة له، فقال: أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما، أعطوه مائتي بالس اه.
سنة 626
وصف ياقوت لحلب في هذه السنة في كلامه على حلب في كتابه معجم البلدان
قال: شاهدت من حلب وأعمالها ما استدللت على أن الله تعالى خصها بالبركة وفضلها على جميع البلاد، فمن ذلك أنه يزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكرم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذيا لا يسقى إلا بماء المطر، ويجيء مع ذلك رخصا غضا طريا ويفوق ما يسقى بالمياه والسيح في جميع البلاد، وهذا لم أره فيما طوفت من البلاد في غير أرضها.
ومن ذلك أن مسافة ما بيد مالكها في أيامنا هذه وهو الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب ومدبر مملكته والقائم بجميع أموره شهاب الدين طغرل وهو خادم رومي زاهد متعبد حسن العدل والرأفة برعيته لا نظير له في أيامه في جميع أقطار الأرض، حاشا الإمام المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بن الناصر لدين الله [الخليفة في بغداد] من المشرق إلى المغرب مسيرة خمسة أيام، ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك، وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية مشتركة بين الرعية والسلطان، أوقفني الوزير الصاحب القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي، وهو يومئذ وزير صاحبها ومدبر دواوينها، على الجريدة بذلك وأسماء القرى وأسماء ملاكها، وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مراخي الغلة موسع عليهم.
قال لي الوزير الأكرم: لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بأرزاق سبعة آلاف فارس، لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف فارس
يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم، ويمكن أن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس.(2/192)
قال لي الوزير الأكرم: لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بأرزاق سبعة آلاف فارس، لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف فارس
يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم، ويمكن أن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس.
وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ما ذكرناه وهو جملة أخرى كثيرة، ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الإقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم، وقد ارتفع إليها في العام الماضي وهو سنة 625من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضم ولا مهتضم، وهذا من بركة العدل وحسن النية.
وأما قلعتها فبها يضرب المثل في الحسن والحصانة، لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض، وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره، والقلعة مبنية في رأسه، ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء، وفي وسط هذه القلعة مصانع تصل إلى الماء المعين، وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد اعتنى بها بهمته العالية فعمرها (بعمارة) (1) عادية وحفر خندقها وبنى رصيفها بالحجارة المهندمة فجاءت عجبا للناظرين إليها، لكن حالت المنية بينه وبين تتمتها.
ولها في أيامنا هذه ثمانية أبواب باب الأربعين وباب اليهود، وكان الملك الظاهر قد جدد عمارته وسماه باب النصر، وباب الجنان وباب أنطاكية وباب قنسرين وباب العراق وباب النيرب (2).
وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء، ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقل ما ترى من ناشئتها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك، فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.
وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها، وأنا أقتنع من ذلك بقصيدة لأبي بكر محمد بن الحسن بن مراد الصنوبري وقد أجاد فيها ووصف منتزهاتها وقراها القريبة فقال:
__________
(1) زيادة من معجم البلدان.
(2) في معجم البلدان: وباب السر (بدل باب النيرب)، على أن الأبواب التي ذكرها ياقوت سبعة لا ثمانية، فلعله أخل بباب النيرب.(2/193)
احبسا العيس احبساها ... واسألا الدار اسألاها
واسألا أين ظباء ال ... دار أم أين مهاها
أين قطّان محاهم ... ريب دهر ومحاها
وهي طويلة جدا وقد تقدم منها وصفه لجامع حلب الأعظم.
سنة 627
قال أبو الفداء: فيها ولد الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب اه.
سنة 628
قال ابن الأثير: في هذه السنة قلت الأمطار بديار الجزيرة والشام لا سيما حلب وأعمالها، فإنها كانت قليلة بالمرة وغلت الأسعار بالبلاد، وكان أشدها غلاء حلب، إلا أنه لم يكن بالشديد مثل ما تقدم في السنين الماضية، فأخرج أتابك شهاب الدين وهو والي الأمر بحلب والمرجع إلى أمره ونهيه وهو المدبر لدولة سلطانها الملك العزيز ابن الملك الظاهر والمربي له من المال والغلات كثيرا، وتصدق صدقات دارة وساس سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء أثر، فجزاه الله خيرا.
وفيها قصد الفرنج الذين بالشام مدينة جبلة وهي بين جملة المدن المضافة إلى حلب ودخلوا إليها وأخذوا منها غنيمة وأسرى، فسير أتابك شهاب الدين إليهم العساكر مع أمير كان أقطعها فقاتل الفرنج وقتل منهم كثيرا واسترد الأسرى والغنيمة. اه (1).
سنة 629
ذكر استقلال الملك العزيز بالملك
قال ابن خلكان في ترجمة القاضي ابن شداد: في أول سنة تسع وعشرين توجه القاضي ابن شداد إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك
__________
(1) أقول: وإلى هذه السنة انتهى تاريخ ابن الأثير.(2/194)
العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد نكاحه عليها، وجاء بها في رمضان من السنة، ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشبان الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه فلازم داره إلى حين وفاته اه.
سنة 630
ذكر استيلاء الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر
قال أبو الفداء: وكانت شيزر بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية، وكان سابق الدين عثمان بن الداية المذكور وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الشهيد سابق الدين عثمان ابن الداية وشمس الدين أخاه، فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك وجعله حجة لقصد الشام وانتزاعه من الملك الصالح إسماعيل، فاتصل أولاد الداية بخدمة السلطان صلاح الدين وصاروا من أكبر أمرائه. وكانت شيزر إقطاع سابق الدين المذكور فأقره السلطان صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس لما قتل صاحبها حمار دكن، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان حتى مات وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر الملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم إليه وهو على حصارها الملك المظفر محمود صاحب حماة مساعدا له، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلى خدمته فتسلمها في هذه السنة. وهنّأ الملك العزيز يحيى بن خالد بن القيسراني بقوله:
يا مالكا عم أهل الأرض نائله ... وخص إحسانه الداني مع القاصي
لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي
ثم ولى الملك العزيز على شيزر وأحسن إلى الملك المظفر محمود صاحب حماة ورحل كل منهما إلى بلده.(2/195)
وفاة الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل
قال أبو الفداء في حوادث هذه السنة: وفيها توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كجك.
آثاره وآثار أبيه بحلب
قال في الدر المنتخب: خانقاه الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك صاحب إربل بالسهيلة، وهي الآن معروفة بسويقة حاتم بالقرب من الجامع الكبير اه.
أقول: موقع هذه الخانقاه في أوائل الزقاق المعروف الآن بزقاق الفرن وهي عن يمينك إذا قدمت من جهة الجامع الكبير داخل بوابة طويلة ينزل إليها بعدة درجات ولذا قل من يعرفها. ولها قبلية صغيرة أمامها قبو وأمام القبو صحن طوله مع القبو تسعة أمتار وعرضه ثمانية. وفي الجهة الشرقية ثلاث حجر في داخل الوسطى منهن حجرة صغيرة فيها قبر لم أعلم صاحبه، وفي الجهة الشمالية حجرة مستطيلة، وفي الغربية حجرتان والجميع مقبو، ومنذ سنين غير معلومة تغلب الجيران فبنوا فوق هذه الحجر بيوتا ومطابخ حتى فوق القبلية، وقد كان المكان المنخفض من البوابة ممتلئا ترابا إلى باب الخانقاه بحيث سد الباب، فسعى منذ 15سنة الشيخ عمر ابن الشيخ عبد الرؤوف الكيالي وأزال تلك الأتربة وفتح باب الخانقاه ورمم بعضها وصار يسكنها بعض الفقراء، لكنها لا تصلح لشيء لأنك لا تجد في هذه الحجر ولا في القبلية إلا بعض المنافذ، والشمس لا تعرفها مطلقا. وقد تمكنت بعد عناء من قراءة الكتابة التي على بابها وهي:
(البسملة) جدد في دولة مولانا الملك الظاهر غياث الدنيا والدين أبو المظفر الغازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب خلد الله ملكه وقدس روح الواقف الأمير الكبير المجاهد زين الدين علي بن بكتكين وأبقا ولده الملك المعظم مظفر الدين أدام الله أيامه في سنة (التاريخ ذاهب) وذلك بتولي الجابي الفقير إلى ربه محمد بن سليمان التيزيني رحمه الله.
من هذه الكتابة ومما قاله في الدر المنتخب ظهر لي أن الباني الأول هو زين الدين علي بن بكتكين المتوفى سنة 563والمجدد هو ولده الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري المتوفى
في هذه السنة وهي سنة 630. وليس لهذه الخانقاه شيء من الأوقاف سوى بعض أراض عشرية.(2/196)
من هذه الكتابة ومما قاله في الدر المنتخب ظهر لي أن الباني الأول هو زين الدين علي بن بكتكين المتوفى سنة 563والمجدد هو ولده الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري المتوفى
في هذه السنة وهي سنة 630. وليس لهذه الخانقاه شيء من الأوقاف سوى بعض أراض عشرية.
ترجمة الباني الأول:
قال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث وستين وخمسمائة: في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار إلى إربل، وكان هو الحاكم في الدولة وأكثر البلاد بيده، منها إربل وفيه بيته وأولاده وخزائنه، ومنها شهزور وجميع القلاع التي معها وجميع بلاد الهكارية، وقلاعه منه العمادية وغيرها، وبلد الحميدية وتكريت وسنجار وحران وقلعة الموصل هو بها، وكان قد أصابه طرش وعمي أيضا، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وبقي معه إربل ولم يزل بها إلى أن مات بهذه السنة.
وقال ابن خلكان: هو زين الدين علي المعروف بكجك صاحب إربل، رزق أولادا كثيرة، وكان قصيرا ولهذا قيل له كجك، وأصله من التركمان، وملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي وفرقها على أولاد أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل ولم يبق له سوى إربل، ويقال إنه جاوز مائة سنة وعمي في آخر عمره وانقطع بإربل إلى أن توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وخمسمائة ودفن في تربته المعروفة به المجاورة للجامع العتيق داخل البلد.
وكان موصوفا بالقوة المفرطة والشهامة، وله بالموصل أوقاف كثيرة مشهورة من مدارس وغيرها.
قال في الروضتين: وكان خيرا عادلا حسن السيرة جوادا محافظا على حسن العهد وأداء الأمانة قليل العذر بل عديمه، وكان إذا وعد بشيء لابد له من أن يفعله وإن كان خطيرا، وكان حاله من أعجب الأحوال بينما يبدو منه ما يدل على سلامة صدره وغفلته، حتى يبدو منه ما يدل على إفراط الذكاء وغلبة الدهاء، بلغني أنه أتاه بعض أصحابه بذنب فرس ذكر أنه نفق له فأمر له بفرس، فأخذ ذلك الذنب أيضا غيره من الأجناد فأحضره وذكر أنه نفق له دابة فأمر له بفرس، وتداول ذلك الذنب اثنا عشر رجلا كلهم يأخذ
فرسا، فلما أحضره آخرهم قال لهم: أما تستحون مني كما أستحي أنا منكم، قد أحضر هذا عندي اثنا عشر رجلا وأنا أتغافل لئلا يخجل أحدكم، أتظنون أنني لا أعرفه، بلى والله وإنما أردت أن يصلكم عطائي بغير منّ ولا تكدير فلم تتركوني.(2/197)
قال في الروضتين: وكان خيرا عادلا حسن السيرة جوادا محافظا على حسن العهد وأداء الأمانة قليل العذر بل عديمه، وكان إذا وعد بشيء لابد له من أن يفعله وإن كان خطيرا، وكان حاله من أعجب الأحوال بينما يبدو منه ما يدل على سلامة صدره وغفلته، حتى يبدو منه ما يدل على إفراط الذكاء وغلبة الدهاء، بلغني أنه أتاه بعض أصحابه بذنب فرس ذكر أنه نفق له فأمر له بفرس، فأخذ ذلك الذنب أيضا غيره من الأجناد فأحضره وذكر أنه نفق له دابة فأمر له بفرس، وتداول ذلك الذنب اثنا عشر رجلا كلهم يأخذ
فرسا، فلما أحضره آخرهم قال لهم: أما تستحون مني كما أستحي أنا منكم، قد أحضر هذا عندي اثنا عشر رجلا وأنا أتغافل لئلا يخجل أحدكم، أتظنون أنني لا أعرفه، بلى والله وإنما أردت أن يصلكم عطائي بغير منّ ولا تكدير فلم تتركوني.
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
قال: وكان يعطي كثيرا ويخلع عظيما، وكان له البلاد الكثيرة فلم يخلف شيئا بل أنفده جميعه في العطايا والإنعام على الناس، وكان يلبس الغليظ ويشد على وسطه كل ما يحتاج إليه من سكين ودوفش ومطرقة ومسلة وخيوط ودسترك وغير ذلك.
وكان أشجع الناس ميمون النقيبة لم يهزم له راية، وكان يقوم المقام الخطير فيسلم منه بحسن نيته. وكان تركيا أسمر اللون خفيف العارضين قصيرا جدا. وبنى مدارس وربطا بالموصل وغيرها. وبلغني أنه مدحه الحيص بيص، فلما أراد الإنشاد قال له: أنا لا أدري ما تقول لكن أعلم أنك تريد شيئا، فأمر له بخمسمائة دينار وأعطاه فرسا وخلعا وثيابا يكون مجموع ذلك ألف دينار.
ترجمة ولده الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل المجدد لبناء هذه الخانقاه:
قال ابن خلكان: أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، ولما توفي والده ولي موضع أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قايماز، فأقام مدة ثم تعصب مجاهد الدين عليه وكتب محضرا أنه ليس أهلا لذلك، وشاور الديوان العزيز (أي الخليفة في بغداد) في أمره واعتقله وأقام أخاه زين الدين أبا المظفر يوسف مكانه، وكان أصغر منه، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد فتوجه إلى بغداد فلم يحصل له بها مقصود، فانتقل إلى الموصل ومالكها يومئذ سيف الدين غازي بن مودود فاتصل بخدمته وأقطعه مدينة حران، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين وحظي عنده وتمكن منه وزاده في الإقطاع الرها في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأخذ صلاح الدين الرها من ابن الزعفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني، ثم أعطاه سميساط وزوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب. وشهد مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة
وقوة نفس وعزمة، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنه تواريخ العماد الأصفهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه. ولو لم يكن إلا وقعة حطين لكفته فإنه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين وهو يومئذ صاحب إربل، فأقام قليلا ثم مرض وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة، فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط ويعوضه إربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور فتوجه إليها في هذه السنة. هذه خلاصة أمره.(2/198)
قال ابن خلكان: أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، ولما توفي والده ولي موضع أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قايماز، فأقام مدة ثم تعصب مجاهد الدين عليه وكتب محضرا أنه ليس أهلا لذلك، وشاور الديوان العزيز (أي الخليفة في بغداد) في أمره واعتقله وأقام أخاه زين الدين أبا المظفر يوسف مكانه، وكان أصغر منه، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد فتوجه إلى بغداد فلم يحصل له بها مقصود، فانتقل إلى الموصل ومالكها يومئذ سيف الدين غازي بن مودود فاتصل بخدمته وأقطعه مدينة حران، فانتقل إليها وأقام بها مدة، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين وحظي عنده وتمكن منه وزاده في الإقطاع الرها في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وأخذ صلاح الدين الرها من ابن الزعفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني، ثم أعطاه سميساط وزوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب. وشهد مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة
وقوة نفس وعزمة، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنه تواريخ العماد الأصفهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه. ولو لم يكن إلا وقعة حطين لكفته فإنه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين وهو يومئذ صاحب إربل، فأقام قليلا ثم مرض وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة، فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط ويعوضه إربل، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور فتوجه إليها في هذه السنة. هذه خلاصة أمره.
سيرته وآثاره: (اقرأ وتأمل)
قال: وأما سيرته فلقد كان له في فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله. لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد يجتمع في كل يوم خلق كثير ويفرق عليهم في أول النهار. وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار جمع كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف أو غير ذلك، ومع الكسوة شيء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر. وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه في كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم ويدخل إلى كل واحد في بيته ويتفقده بشيء من النفقة ويسأله عن حاله، وينتقل إلى الآخر وهكذا حتى يدور على جميعهم وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم. وبنى دارا للنساء الأرامل ودارا للصغار الأيتام ودارا للملاقيط ورتب بها جماعة من المراضع وكل مولود يلتقط يحمل إليهم فيرضعنه، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهن ويعطيهن النفقات زيادة على المقرر لهن، وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه. وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها ولهم الراتب في الدار في الغداء والعشاء، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطوه نفقة على ما يليق بمثله.(2/199)
وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية، وكان كل وقت يأتيها بنفسه ويعمل السماط ويبيت بها ويعمل السماع، وإذا طاب خلع شيئا من ثيابه وسير للجماعة بكرة شيئا من الإنعام، ولم يكن له لذة سوى السماع فإنه كان لا يتعاطى المنكر ولا يمكّن من إدخاله إلى البلد.
وبنى للصوفية خانقاهين فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين ويجتمع في أيام المواسم فيهما من الخلق ما يعجب الإنسان من كثرتهم، ولهما أوقاف كثيرة بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق، ولا بد عند سفر كل واحد من نفقة يأخذها. وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات.
وكان يسيّر في كل سنة دفعتين جماعة من أمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يفتكّ بها أسرى المسلمين من أيدي الفرنج، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئا، وإن لم يصلوا فالأمناء يعطونهم بوصية منه في ذلك.
وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج ويسيّر معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه في الطريق ويسيّر صحبته أمينا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب، وله بمكة حرسها الله تعالى آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء فإن الحاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة أيضا هناك.
احتفاله بمولد النبي الكريم:
قال: وأما احتفاله بمولد النبي صلّى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به لكن نذكر طرفا منه. وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل مثل بغداد والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر منها قبة له والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة وما يبقى
لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر وسنة في ثاني عشره لأجل الاختلاف الذي فيه. فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير وفي جملتها شمعتان من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه، فإذا كان صبيحة المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم، ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا دأبه في كل سنة. وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة.(2/200)
قال: وأما احتفاله بمولد النبي صلّى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به لكن نذكر طرفا منه. وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل مثل بغداد والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر منها قبة له والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة وما يبقى
لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها ويسمع غناءهم ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع فيها، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر وسنة في ثاني عشره لأجل الاختلاف الذي فيه. فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير وفي جملتها شمعتان من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه، فإذا كان صبيحة المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ويخلع على كل واحد منهم، ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا دأبه في كل سنة. وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة.
وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله
لكتاب التنوير في مولد السراج المنير لما رأى من اهتمام مظفر الدين به وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة.(2/201)
وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب بن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله
لكتاب التنوير في مولد السراج المنير لما رأى من اهتمام مظفر الدين به وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة.
(ثم قال): وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة، لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئا إلا تكلفا. وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه، فما كان يضيع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بره. وكان يميل إلى علم التاريخ وعلى خاطره منه شيء يذاكر به. ولم يزل رحمه الله تعالى مؤيدا في مواقفه ومصافاته مع كثرتها لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط، ولو استقصيت في تعداد محاسنه لطال الكتاب وفي شهرة معروفة غنية عن الإطالة.
(ثم قال): وكانت ولادته بقلعة الموصل سنة تسع وأربعين وخمسمائة وتوفي في رمضان سنة ثلاثين وستمائة بداره في البلد، ثم نقل إلى قلعة إربل ودفن بها، ثم نقل إلى الكوفة ودفن بالقرب من المشهد رحمه الله.
سنة 631
ذكر وفاة الأتابك شهاب الدين طغريل الخادم
قال الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة: فيها توفي أتابك طغريل مملوك الملك الظاهر غازي صاحب حلب، كان صالحا عفيفا زاهدا كثير الصدقات والإحسان، وكان واسطة خير يحب الصالحين، ولما توفي الظاهر قام بأمر ولده العزيز أحسن قيام واستمال الأشرف وحفظ عليه البلاد، وكان قد طهر حلب من الفسق والفجور والمكوس والخمور، وكان الأشرف يقول: إن كان لله تعالى ولي في الأرض فهو هذا الخادم، فلما كبر العزيز ابن الظاهر تحدث عليه أقوام قصدهم أذى الخادم وقالوا له: قد رضيت لنفسك أن تكون تحت حجر هذا الخادم، وكان له تل باشر فأخذها منه وأزال الحجر عنه، وأقام الأتابك لا ينفذ له أمر فمرض ومات في هذه السنة ودفن بباب الأربعين اه.
وذكره العلامة ابن خلكان في آخر ترجمة القاضي بهاء الدين بن شداد قال: وتوفي الأتابك شهاب الدين طغريل ليلة الاثنين الحادي عشر من محرم سنة إحدى وثلاثين
وستمائة بحلب ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين، وكان خادما أرمني الجنس أبيض حسن السيرة محمود الطريقة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه رحمه الله تعالى.(2/202)
وذكره العلامة ابن خلكان في آخر ترجمة القاضي بهاء الدين بن شداد قال: وتوفي الأتابك شهاب الدين طغريل ليلة الاثنين الحادي عشر من محرم سنة إحدى وثلاثين
وستمائة بحلب ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين، وكان خادما أرمني الجنس أبيض حسن السيرة محمود الطريقة، وحضرت الصلاة عليه ودفنه رحمه الله تعالى.
آثاره بحلب
المدرسة الأتابكية:
قال في الدر المنتخب: (المدرسة الأتابكية) أنشأها شهاب الدين طغريل عتيق الملك الظاهر غياث الدين غازي نائب السلطنة بالقلعة الحلبية ومدبر الدولة بعد وفاة معتقه، انتهت عمارتها في سنة ثمان عشرة وستمائة، وأول من درس بها الشيخ الإمام العالم جمال الدين خليفة بن سليمان بن خليفة القرشي الحوارني الأصل، ولم يزل بها إلى أن خرج من حلب فرارا من أيدي التتر أسوة من خرج من أهل بلده مع من كتب عليه الجلاء من أهل حلب، وأحرقت في زمن التتر وهي داثرة الآن.
(قلت): رممت بعد ذلك وكملت عمارتها واستقر في تدريسها العلامة شهاب الدين أحمد بن البرهان وكان مجتهدا في مذهب أبي حنيفة، ولم تزل بيده إلى أن نزل عنها لجدي العلامة كمال الدين أبي الفضل محمد بن الشحنة، وهي الآن باسم ولديّ المشار إليهما (هما أبو اليمن وعبد البر) ولكن ليس لها وقف إلا حصة كمنون ومتحصلها يسير جدا لا يقوم بمعلوم القائم والإمام، وهي ملاصقة لدارنا من جهة القبلة.
قال أبو اليمن البتروني في حواشي الدر المنتخب: هذه المدرسة لا تكاد تذكر الآن أعني في سنة خمس وثلاثين وألف، ولكن أخبرني بعض الناس أنها المدرسة الداثرة التي لدثورها رمها بعض الفقراء وجعلها مسكنا الكائنة بالقرب من الجامع الحادث المعروف بالعادلية بالجانب الشرقي منه قبلي الخان الموقوف على الجامع المذكور، وبين الخان المذكور وبينها زقاق، كما أن بينها وبين الجامع المذكور زقاق، والآن قد صارت مسكنا يسكنها بعض الناس، وقد سد بابها وجعل له باب آخر يدخل منه إليها، ودور ذرية المصنف (أي بني الشحنة) قريبة إليها، إلا أن الدور المذكورة في الجانب الشرقي من الزقاق الذي بينها وبين المدرسة وهي الآن بيد ولد أخي وهو مولانا القاضي عبد الرحمن بن شيخ الإسلام أبي الجود أفندي تولاها بعد أن عزل عن قضاء حماة، والذي أدركناه من قرية كمنون أنها جميعها وقف المدرسة ولها محصول وافر اه.(2/203)
أقول: قبلي الخان المذكور المسمى الآن بخان الفرّايين وأمام باب جامع العادلية وباب قايسارية العلبية عرصة واسعة نصفها الشمالي أو أكثر من النصف هو هذه المدرسة ودور بني الشحنة. المدرسة من جهة الغرب أمام باب الجامع والدور من جهة الشرق.
وقد حفر منذ عهد قريب أمام شبابيك الحمام المعروفة بحمام ميخان فوجد أثر باب كبير وقد رأيته ويغلب على الظن أنه باب المدرسة وهي آخذة إلى الشمال، وبين هذا الباب ومدفن كوهر ملك شاه السلطانة الواقع قبلي العرصة مقدار ستة أذرع.
المدرسة الأتابكية أيضا:
قال في الدر المنتخب: [المدرسة الأتابكية]: أنشأها الأتابك شهاب الدين طغريل الظاهري المقدم ذكره وتمت في سنة عشرين وستمائة، وأول من درس بها صفي الدين عمر الحموي وبعده نظام الدين محمد بن محمد بن عثمان البلخي الأصل، ولم يزل بها إلى أن توفي بحلب، فوليها بعده ولده تقي الدين أحمد، ولم يزل بها إلى أن قتل في فتنة التتر، ثم وليها في الأيام الظاهرية الفقيه فخر الدين عبد الرحمن بن إدريس، ثم خرج عنها إلى ديار مصر اه.
وقال أيضا: خانقاه أنشأها خارج باب الأربعين بالجبيل.
أقول: موقع هذه المدرسة والخانقاه في محلة الجبيلة في الزقاق الكائن عن يسار الداخل من باب الحديد، وهما متلاصقتان على مكان مرتفع ولهما بابان بجانب بعضهما بينهما أربعة أذرع مكتوب على باب المدرسة:
هذا ما تقدم بإنشائه العبد الفقير إلى رحمة الله وكرمه الشاكر لما أفاض عليه رحماته أبو سعيد طغرل بن عبد الله الملكي الظاهري تقبل الله منه وأثابه مسجدا لله تعالى تقام فيه الصلوات الخمس في أوقاتها ويسكنه المدرس والفقهاء الحنفية على ما شرطه في كتاب الوقف، وإن قدر الله وفاته خارج مدينة حلب يدفن فيه في الموضع المعد له ويلازمه القراء للقرآن العظيم على ما شرطه، فلا يحل لأحد يغيره عما وضع له، ومن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، وذلك في شهور سنة عشرين وستمائة.
وفي صدر المدرسة قبلية في طرفها الأيمن إيوان في وسطه ضريح هو قبر الواقف طغرل، والكتابة التي كانت على الباب الآخر وهو باب الخانقاه محيت، وعليه الآن كتابة
حديثة كتبت سنة 1286خلاصتها أنه جدد هذا المكان بإشارة الإلهام الشيخ الهمام مربي المريدين الشيخ محمد بن أحمد المكي القرشي من خلفاء محمد جان النقشبندي.(2/204)
وفي صدر المدرسة قبلية في طرفها الأيمن إيوان في وسطه ضريح هو قبر الواقف طغرل، والكتابة التي كانت على الباب الآخر وهو باب الخانقاه محيت، وعليه الآن كتابة
حديثة كتبت سنة 1286خلاصتها أنه جدد هذا المكان بإشارة الإلهام الشيخ الهمام مربي المريدين الشيخ محمد بن أحمد المكي القرشي من خلفاء محمد جان النقشبندي.
والذي تحقق عندي أن هذا الرجل من أهالي مرعش كان حضر إلى حلب قبل التاريخ المتقدم بقليل وتوجه منها إلى مكة وبقي فيها مدة وجيزة، ثم عاد إلى حلب وهو على زي أهل مكة من العمامة والجبة وادعى أنه مكي قرشي.
وكان في الخانقاه في جهاتها الثلاث الشرقية والغربية والشمالية حجر صغيرة ويسكن هناك رجل مصري كفيف حافظ لكتاب الله تعالى فسعى في إخراجه وسكن هو وكتب ما كتب على باب الخانقاه وصار يقيم الذكر في قبلية المدرسة، وصار بعض موظفي الأتراك يترددون إليه ويعتقدون عليه ويبرونه، وكان باب القبلية متوهنا فسعى في تجديده في سنة 1302وكتب على جداره: هذا المقام للسيد علي جواد ابن سيدنا الإمام الباقر رضي الله عنه. وقد اتخذ هذه الكتابة وسيلة لجر مغنم إليه خصوصا من النساء، وهذا محض افتراء منه لأن الضريح الذي في إيوان القبلية هو ضريح الواقف رحمه الله كما تقدم لك نقله عن الصلاح الصفدي وابن خلكان. ثم إنه لم يقف عند هذا الحد بل خرب الحجر الصغيرة التي في الخانقاه وبنى موضعها بيتين وصارت الخانقاه على هيئة دار وطيّن باب الخانقاه لتخفى الكتابة التي كتبها على الباب، وادعى حينئذ أن الدار له وحاول تسجيلها في الحكومة على أنها ملكه، فعندئذ قام أهل المحلة ورفعوا الأمر للمحكمة الشرعية، وأخيرا أزيلت يده وأخرج من المكان.
ومنذ عشرين سنة وضعت دائرة المعارف يدها على المدرسة والخانقاه ورفعت الجدار الذي كان بينهما، ولم يزل أثره باقيا إلى الآن وصار المكانان مكانا واحدا، وبنت فيه تحت وفوق غرفا للطلبة واتخذته مدرسة ابتدائية تسمى الآن مدرسة النجاة، والباقي في المدرسة من الحجر القديمة التي كانت للطلاب هي الحجر الثلاث الشرقية كما يظهر لك بالتأمل قليلا.
والقبلية محتاجة إلى الترميم جدا، يتوالى نزول الأتربة من سقفها، وسألت عن سبب بقائها مشعثة فعلمت أن دائرة الأوقاف مهملة لشأنها لوضع دائرة المعارف يدها على المكان جميعه واتخاذه مدرسة. وتقول دائرة المعارف إن أمر القبلية يرجع إلى دائرة الأوقاف. وهكذا ضاع هذا المكان بين هاتين الدائرتين ولله الأمر. والباقي لهذا المكان من الأوقاف أراض عشرية يبلغ ريعها ثلاثين ليرة عثمانية ذهبا وقد فقد الكثير من أوقافها.(2/205)
ذكر بناء قلعة المعرة
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة استتم بناء قلعة المعرة وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني على الملك المظفر صاحب حماة ببنائها فبناها وتمت الآن وشحنها بالرجال والسلاح، ولم يكن ذلك مصلحة لأن الحلبيين حاصروها فيما بعد وأخذوها وخربت المعرة بسببها اه.
سنة 632
ذكر وفاة الملك الزاهر داود صاحب البيرة
قال أبو الفداء: في هذه السنة توفي الملك الزاهر داود صاحب البيرة ابن السلطان صلاح الدين، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضا وتوفي بها.
وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز محمد صاحب حلب، وكان الزاهر المذكور شقيق الظاهر صاحب حلب اه.
وقال الصلاح الصفدي في حوادث هذه السنة بعد أن ذكر وفاته: مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكان فاضلا أديبا وشاعرا مجيدا، ومن شعره رحمه الله:
يا راحلين ولم يقدموا ... لقد بان صبري مذ بنتم
وعدتم بأن تبعثوا طيفكم ... فهلّا وفيتم بما قلتم
وفارقتموني على أنكم ... تعودون نحوي فما عدتم
فشوقي شديد إلى قربكم ... وصبري ضعيف ولم تعلموا
يجدّد لي كل يوم بكم ... غرام فأظهر ما أكتم
وأذكر عصرا مضى وانقضى ... وقد نلت فيه المنى منكم
وأرتقب البرق من نحوكم ... وأسأل ريح الصبا عنكم
بحرمة ما بيننا سالفا ... من العهد إلا تعطفتم
فأين مواثيق تلك العهود ... وأنتم على العهد ما خنتم
ذكر استيلاء كيقباذ بن كيخسرو على حران والرها
قال أبو الفداء: وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية قصد كيقباذ بن كيخسرو
صاحب بلاد الروم حران والرها وحاصرهما واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل اه.(2/206)
قال أبو الفداء: وفيها لما تفرقت العساكر الكاملية قصد كيقباذ بن كيخسرو
صاحب بلاد الروم حران والرها وحاصرهما واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل اه.
ذكر وفاة القاضي بهاء الدين بن شداد
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة توفي القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد في صفر وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، وصحب السلطان صلاح الدين وكان قاضي عسكره، ولما توفي صلاح الدين كان عمر القاضي المذكور نحو خمسين سنة.
ونال القاضي بهاء الدين المذكور من المنزلة عند أولاد صلاح الدين وعند الأتابك طغريل ما لم ينلها أحد. وأصله من الموصل، وكان فاضلا دينا، وكان إقطاعه على الملك العزيز ما يزيد على مائة ألف درهم في السنة اه.
(أقول): وهو مؤلف السيرة الصلاحية المسماة بالنوادر اليوسفية، وهي مطبوعة في مصر، وقد مر بك نقول كثيرة عنها وصاحب الروضتين قد أتى على معظمها. وقد ذكرناه في القسم الثاني بأبسط من هذا.
سنة 633
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة سار السلطان الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية واسترجع حران والرها من يد كيقباذ صاحب بلاد الروم وأمسك كيقباذ ونوابه الذين كانوا بهما وقيدهم وأرسلهم إلى مصر فلم يستحسن ذلك منه.
سنة 634
ذكر وفاة الملك العزيز محمد صاحب حلب وولاية ابنه الملك الناصر يوسف
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمي البندق، واغتسل بماء بارد فحم، ودخل إلى حلب وقد قويت به الحمى واشتد مرضه وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا. وكان حسن السيرة
في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لولو الأرمني وعز الدين عمر بن مجلي وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل اه.(2/207)
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة كان قد خرج الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى حارم للصيد ورمي البندق، واغتسل بماء بارد فحم، ودخل إلى حلب وقد قويت به الحمى واشتد مرضه وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا. وكان حسن السيرة
في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد وعمره نحو سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لولو الأرمني وعز الدين عمر بن مجلي وجمال الدولة إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل اه.
وقال صلاح الدين الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث هذه السنة: فيها توفي الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي. ولد في ذي الحجة سنة تسع وستمائة، وتوفي والده وهو طفل ونشأ في حجر شهاب الدين طغريل الخادم، فرتب أموره أحسن ترتيب وقام بدولته القيام العجيب إلى أن ترعرع واستقل بالأمر وفك عن نفسه الحجر، توفي بحلب ودفن بالقلعة، وكان حسن الصورة كريما عفيفا ولم يبلغ أربعا وعشرين سنة، وملك حلب بعده ولده الملك الناصر الذي قتله التتر رحمهما الله تعالى.
وقال في الزبد والضرب: دفن بالقلعة ودفنت والدته بالحجرة تجاه الصفة التي دفن فيها ولدها الملك العزيز اه.
وفي المختار من الكواكب المضية نقلا عن العلامة الذهبي في تاريخ الإسلام أنه دفن في مشهد الفردوس شمالي قبة الشيخ علي الهروي وغربي جبانة الصالحين وقبلي جبانة القلعيين، وهو مشهد مبارك تقام فيه الجمعة اه.
(أقول): لعله بعد أن دفن في القلعة نقل إلى مشهد الفردوس.
ذكر توجه عسكر حلب مع تورانشاه لمحاصرة بغراس
قال أبو الفداء: في هذه السنة توجه عسكر حلب مع الملك المعظم تورانشاه عم الملك العزيز فحاصروا بغراس، وكان قد عمرها الداوية بعد ما فتحها السلطان صلاح الدين وخربها وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض درب ساك وهي حينئذ لصاحب حلب فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر، وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجلّ الوقائع اه.(2/208)
سنة 635
ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة
قال أبو الفداء: في هذه السنة توفي الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بدمشق، ولما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة لموافقته الملك الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد الملك المظفر صاحب حماة وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة حينئذ عن ملك الملك المظفر صاحب حماة. ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم تورانشاه بن صلاح الدين إلى حماة بعد استيلائهم على المعرة ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفر، ونهب العسكر الحلبي بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة.
ذكر الخطبة بحلب إلى كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة عقد لسلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد صاحب حلب وهي صغيرة حينئذ، وتولى القبول عن ملك الروم قاضي دوقات، ثم عقد للملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز صاحب حلب العقد على أخت كيخسرو وهي ملكة خاتون بنت كيقباذ ابن كيخسرو بن قليج أرسلان، وأم ملكة خاتون المذكورة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وقد كان زوجها الملك المعظم عيسى صاحب دمشق بكيقباذ المذكور وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب اه.
سنة 638
ذكر عود العساكر الحلبية عن محاصرة حماة
قال أبو الفداء: في هذه السنة نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر وبالس وسلمها إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك أعزاز وبلادا معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك
الحافظ المذكور أصابه فالج وخشي من أولاده وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه اه.(2/209)
قال أبو الفداء: في هذه السنة نزل الملك الحافظ أرسلان شاه ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب عن قلعة جعبر وبالس وسلمها إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك أعزاز وبلادا معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك
الحافظ المذكور أصابه فالج وخشي من أولاده وتغلبهم عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة إلى حلب لا يمكنهم التعرض إليه اه.
ذكر عيث الخوارزمية في البلاد الحلبية والقتال بينهما
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة كثر عيث الخوارزمية القاطنين في بلاد حران وفسادهم بعد مفارقة الملك الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب فخرج إليهم عسكر حلب مع الملك المعظم تورانشاه بن صلاح الدين ووقع بينهم القتال فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير منهم الملك الصالح ابن الملك الأفضل ابن السلطان صلاح الدين، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين وأسروا منهم عدة كثيرة، ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم بماله فأخذوا بذلك شيئا كثيرا، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على حيلان وكثر عيثهم وفسادهم ونهبهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد ودخلوا مدينة حلب واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الفواحش والقتل ما ارتكبه التتر. ثم سارت الخوارزمية إلى منبج وهجموها بالسيف يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الأول من هذه السنة وفعلوا من القتل والنهب مثل ما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم وهي حران وما معها بعد أن أخربوا بلد حلب.
ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة ووصلوا إلى الجبّول ثم إلى تل عزاز ثم إلى سرمين ثم إلى المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان ولحقتهم العرب فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل فقطع
الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطعوا الفرات منها وقصدوا الخوارزمية والتقوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لولو صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانتا للخوارزمية فاستولى عليهما وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين أسيرا في بلدة دارا من حين أسروه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لولو إلى الموصل وقدم له ثيابا وتحفا وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور. ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو الملك الموحد عبد الله ابن المعظم تورانشاه ابن الصالح أيوب مالكا لحصن كيفا إلى أيام التتر وطالت مدته بها اه.(2/210)
ثم إن الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقة ووصلوا إلى الجبّول ثم إلى تل عزاز ثم إلى سرمين ثم إلى المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها الملك المظفر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية ثم إلى الرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان ولحقتهم العرب فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب وسيبوا الأسرى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان في هذه السنة ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفين، فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل فقطع
الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطعوا الفرات منها وقصدوا الخوارزمية والتقوا قريب الرها لتسع بقين من رمضان هذه السنة، فولى الخوارزمية منهزمين، وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها وهربت الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لولو صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانتا للخوارزمية فاستولى عليهما وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين أسيرا في بلدة دارا من حين أسروه في كسرة الحلبيين، فحمله بدر الدين لولو إلى الموصل وقدم له ثيابا وتحفا وبعث به إلى عسكر حلب، واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج ورأس عين وما مع ذلك، واستولى صاحب حمص المنصور إبراهيم على بلد الخابور. ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم وحاصروا الملك المعظم ابن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم، ولم يزل ذلك بيده حتى توفي أبوه الملك الصالح أيوب بمصر وسار إليها المعظم المذكور على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وبقي ولد المعظم وهو الملك الموحد عبد الله ابن المعظم تورانشاه ابن الصالح أيوب مالكا لحصن كيفا إلى أيام التتر وطالت مدته بها اه.
سنة 639
وفاة الملك الحافظ أرسلان صاحب أعزاز ونقله إلى حلب
قال أبو الفداء: في هذه السنة في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه ابن الملك العادل بن أيوب بأعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب قلعة أعزاز وأعمالها اه.
سنة 640
ذكر القتال بين الحلبيين والخوارزمية وانهزام الخوارزمية
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص مصاف قريب
الخابور عند المجدل يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى المظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة ونهب منهم عسكر حلب شيئا كثيرا ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضا، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي واحتوى على خزائنه ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.(2/211)
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة كان بين الخوارزمية ومعهم الملك المظفر غازي صاحب ميافارقين وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص مصاف قريب
الخابور عند المجدل يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى المظفر غازي والخوارزمية منهزمين أقبح هزيمة ونهب منهم عسكر حلب شيئا كثيرا ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم أيضا، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة الملك المظفر غازي واحتوى على خزائنه ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين.
ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة في ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى، ودفنت بقلعة حلب. وكان مولدها سنة إحدى أو اثنتين وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين ويعطيها ابنه الظاهر غازي، فاتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها الملك العادل ضيف فسماها ضيفة فكانت مدة عمرها نحو تسع وخمسين سنة. وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون بأختها غازية وتوفيت، فلما توفيت غازية تزوج بأختها ضيفة خاتون المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها الملك العزيز وتصرفت في الملك تصرف السلاطين وقامت بالملك أحسن قيام، وكانت مدة ملكها نحو ست سنين ولما توفيت كان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ وحكم واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني اه.
وقال في الزبد والضرب: دفنت في الحجرة بالقلعة تجاه الصفة التي دفن فيها ولدها الملك العزيز.
آثارها بحلب
خانقاه:
داخل باب الأربعين تجاه مسجد الشيخ الحافظ عبد الرحمن ابن الأستاذ (در المنتخب).(2/212)
الفردوس:
هي خارج باب المقام. قال في الزبد والضرب: جعلتها تربة ومدرسة ورباطا ورتبت فيه خلقا من القراء والصوفية والفقهاء، وهي معدودة في تاريخ ابن شداد من مدارس الشافعية، وها هو اسمها مكتوب عليها في سطر حسن الخط جدا، وما أحسن ما قيل في هذا المكان:
في باب فردوس حلب ... سطر من الخط عجب
فيه صحاف من ذهب ... هن صحاف من ذهب
يشير الشاعر بما ذكره إلى ما كتب هناك من الآية التي فيها ذكر صحاف الذهب التي يطاف بها على أهل الجنة.
أقول: هذه المدرسة لم تزل عامرة إلى الآن بل هي المدرسة الوحيدة التي حفظتها لنا الأيام في الجملة في تلك الأماكن، وفي زماننا هذا لا قراء فيها ولا فقهاء غايته أنه تقام فيها الجمعة ويكثر المصلون فيها يوم الجمعة أيام الربيع. أما محرابها وعموداه وما فوقه فهو مما يستوقف الناظر إليه لحسن صنعته وبداعة هندسته وإحكام بنائه، ولعله أعظم أثر عربي موجود في الشهباء، ويتجلى لك فيه ما وصل إليه فن البناء في ذلك العصر من الرقي.
وعن يمين القبلية حجرة واسعة فيها ثمانية قبور لم تعلم أصحابها على التعيين لأن الكتابة التي على ألواح القبور كادت تكون ممحوة، وقد تقدم وسيأتي لنا ذكر أشخاص من ملوك بني أيوب وغيرهم قلنا إنهم دفنوا في الفردوس.
وعن يسار القبلية حجرة كذلك وفي وسطها ضريحان بجانب بعضهما وعلى أحدهما ستار أخضر كتب عليه: هذا قبر علي بن أبي طالب نقله إلى هنا سيف الدولة بن حمدان. وهذا كذب لا أصل له ولا أدري من كتبه ولا زمن ذلك، فإن قبر علي كرم الله وجهه في الكوفة في قصر الإمارة في مكان لا يعرف على التحقيق، ولم نر مؤرخا قال إن عليا رضي الله عنه نقل إلى حلب مع شدة اعتناء المؤرخين خصوصا الشيعة بأخبار علي
وآله رضي الله عنهم أجمعين. وأرى أن من الواجب على دائرة الأوقاف أن تمحو هذه الكتابة.(2/213)
وعن يسار القبلية حجرة كذلك وفي وسطها ضريحان بجانب بعضهما وعلى أحدهما ستار أخضر كتب عليه: هذا قبر علي بن أبي طالب نقله إلى هنا سيف الدولة بن حمدان. وهذا كذب لا أصل له ولا أدري من كتبه ولا زمن ذلك، فإن قبر علي كرم الله وجهه في الكوفة في قصر الإمارة في مكان لا يعرف على التحقيق، ولم نر مؤرخا قال إن عليا رضي الله عنه نقل إلى حلب مع شدة اعتناء المؤرخين خصوصا الشيعة بأخبار علي
وآله رضي الله عنهم أجمعين. وأرى أن من الواجب على دائرة الأوقاف أن تمحو هذه الكتابة.
وفي صحن المدرسة حوض مركب من ثمانية أحجار كبيرة بديعة الصنعة جدا، غير أن الماء لا يأتيه في هذه الأزمنة، وفيه عواميد ضخمة جدا خمسة منها لم تزل مرفوعة، وثلاث منها وهي عواميد الجهة الغربية ملقاة على الأرض مع عدة قواعد لها، وعن يمين الصحن ويساره بيتان كبيران قد امتلئا من القبور ثلاث منها أو أربع قديم والباقي حادث ولا نعلم أصحابها، والذي علمته أن المتولين على هذه المدرسة من أهل تلك المحلة كانوا يدفنون هناك مع بعض أهليهم وذراريهم حتى ملؤوا المكانين على سعتهما ويظهر أنهما محل الرباط قديما.
وفي شماليها إيوان كبير جدا مبني بالحجارة الضخمة كتب على يمينه فوق مدخل المدرسة: بسم الله الرحمن الرحيم لله در أقوام إذا جن عليهم الليل سمعت لهم أنين وألحان وإذا أصبحوا رأيت عليهم تغير ألوان. إذا ما الليل أقبل [وداخل الإيوان من الأيمن] كابدوه. ويسفر عنهم وهم ركوع. أطار الشوق نومهم فقاموا. وأهل الأمن في الدنيا هجوع. أجسادهم تصبر على التعبد، وأقدامهم ليلها تقيم على التهجد. لا يرد لهم صوت ولا دعاء، تراهم في ليلهم سجدا ركعا قد ناداهم النادي وأطرابهم الشادي. يا رجال الليل (وفي صدره) جدوا. رب صوت لا يرد. ما يقوم الليل إلا. من له حزم وجد. لو أرادوا في ليلهم ساعة أن يناموا أقلقهم الشوق إليه فقاموا، وجذبهم الوجد والغرام فهاموا، وأنشدهم بريد الحضرة وبثهم، وحملهم على المناجاة وحثهم. حثوا مطاياكم وجدوا. إن كان لي في القلوب وجد. قد آن أن تظهر الخبا [وفي يساره] يا. وتنشر الصحف فاستعدوا.
الفرش مشتقاته إليهم والوسائد متأسفة عليهم، النوم قرم إلى عيونهم والراحة مرتاحة إلى جنوبهم. الليل عندهم أجل الأوقات في المراتب ومسامرهم عند تهجده يرعى الكواكب.
وزارني طيفك حتى [وفي الجانب الأيسر خارج الإيوان] إذا أراد أن يمضي تعلقت به.
فليت ليلي لم يزل سرمدا والصبح لم أنظر إلى كوكبه. هجروا المنام في الظلام، وتلذذوا بطول المقام، وناجوا ربهم بأطيب كلام. [وفي الجدار الغربي] وأنسوا بقرب الملك العلام. لو
احتجبوا عنه في ليلهم لذابوا ولو تغيبوا عنه لحظة لما طابوا. يديمون التهجد إلى السحر ويتوقعون ثمر اليقظة والسهر. بلغنا أن الله تبارك وتعالى يتجلى للمحبين فيقول لهم: من أنا فيقولون: أنت مالك رقابنا فيقول: أنتم أحبتي أنتم أهل ولايتي وعنايتي، ها وجهي فشاهدوه ها كلامي فاسمعوه ها كأسي فاشربوه، وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إذا شربوا طابوا ثم طربوا إذا طربوا قاموا، إذا قاموا هاموا، إذا هاموا طاشوا، إذا طاشوا عاشوا، لما حملت ريح الصبا قميص يوسف لم يفضض ختامه إلا يعقوب، ما عرفه أهل كنعان ومن عندهم خرج ولا يهودا وهو الحامل (1) اه.(2/214)
فليت ليلي لم يزل سرمدا والصبح لم أنظر إلى كوكبه. هجروا المنام في الظلام، وتلذذوا بطول المقام، وناجوا ربهم بأطيب كلام. [وفي الجدار الغربي] وأنسوا بقرب الملك العلام. لو
احتجبوا عنه في ليلهم لذابوا ولو تغيبوا عنه لحظة لما طابوا. يديمون التهجد إلى السحر ويتوقعون ثمر اليقظة والسهر. بلغنا أن الله تبارك وتعالى يتجلى للمحبين فيقول لهم: من أنا فيقولون: أنت مالك رقابنا فيقول: أنتم أحبتي أنتم أهل ولايتي وعنايتي، ها وجهي فشاهدوه ها كلامي فاسمعوه ها كأسي فاشربوه، وسقاهم ربهم شرابا طهورا، إذا شربوا طابوا ثم طربوا إذا طربوا قاموا، إذا قاموا هاموا، إذا هاموا طاشوا، إذا طاشوا عاشوا، لما حملت ريح الصبا قميص يوسف لم يفضض ختامه إلا يعقوب، ما عرفه أهل كنعان ومن عندهم خرج ولا يهودا وهو الحامل (1) اه.
وعلى الجدار الشرقي:
البسملة، هذا ما أنشأته الستر الرفيع والحجاب المنيع عصمة الدنيا والدين ضيفة
__________
(1) يلاحظ القارىء أن هذه الكتابة فيها أربعة مقاطع شعرية كل مقطع مكون من بيتين، هي:
إذا ما الليل أقبل كابدوه ... ويسفر عنهم وهم ركوع
أطار الشوق نومهم فقاموا ... وأهل الأرض في الدنيا هجوع
يا رجال الليل جدوا ... رب صوت لا يرد
ما يقوم الليل إلا ... من له حزم وجد
حثوا مطاياكم وجدوا ... إن كان لي في القلوب وجد
قد آن أن تظهر الخبايا ... وتنشر الصحف فاستعدوا
وزارني طيفك حتى إذا ... أراد أن يمضي تعلقت به
فليت ليلي لم يزل سرمدا ... والصبح لم أنظر إلى كوكبه(2/215)
خاتون بنت السلطان الملك العادل والدة السلطان الملك العزيز بن الملك الظاهر في أيام مولانا السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن غازي ابن يوسف ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه.
وعلى الجدار الشرقي من خارج المدرسة:
البسملة، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون، يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (1). هذا ما أمر بإنشائه الستر الرفيع والجناب المنيع الملكة الرحيمة عصمة الدنيا والدين ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته، وذلك في أيام مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز نصره.
بتولي العبد الفقير عبد المحسن العزيزي الناصري رحمه الله
في سنة ثلاثة وثلاثين وستمائة.
وقد كان للمدرسة باب قديم فيه شيء من الصنعة فقلعته إدارة الأوقاف من نحو ثماني سنين وألقته في رواق إدارتها في خان الكمرك بين ما يوضع هناك من الأخشاب العتيقة التي يقل الفائدة منها، وعملت للمدرسة بابا جديدا ويا ليتها أبقت القديم على قدمه.
وإذا شاهدت محراب هذه المدرسة وصحنها وما فيه من العواميد العظيمة وإيوانها وقنطرته المبنية من الأحجار الضخمة وقفت خاضعا خاشعا وتجلت لك عظمة البانين وما كانوا عليه من العناية والاهتمام في شأن العلم وأهله والعناية في رفع مناره وتشييد الأبنية الضخمة له ورصد الأوقاف الكثيرة لأجله، فلا غرابة إذا انتشر العلم في ذلك العصر وراجت أسواقه وتهافت الناس عليه، وقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا
__________
(1) سورة الزخرف.(2/216)
الشهوات ولم يبق للأمراء والأغنياء في عصرنا الحاضر عناية إلا بتثمير أموالهم والعكوف على ملذاتهم وإنفاق أموالهم في غير ما يرضي الله تعالى وفيما لا يعود بشيء من النفع على الأمة، فلا تستغرب إذا حل بهم البلاء وأحاط بهم الشقاء {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ}. وهذا الأثر العظيم هو البقية الباقية من الآثار القديمة في حلب وهو في حاجة كبرى إلى الترميم في عدة أماكن، ولعل إدارة الأوقاف تمد له يد الاهتمام والعناية ليحافظ على حالته الحاضرة وتعود إليه بهجته الأولى. والباقي له الآن من الأوقاف أراض عشرية يبلغ ريعها عشرين ليرة عثمانية ذهبا.
ونختم الكلام على هذا المكان بلطيفة ذكرها الصلاح الصفدي في تاريخه الوافي بالوفيات في ترجمة الشيخ كمال الدين محمد بن علي الزملكاني قال: لما توجه إلى قضاء حلب نزل في مكان يعرف بالفردوس، وكان معه شمس الدين محمد الخياط الشاعر المشهور الدمشقي فأنشده لنفسه وأنشدني من لفظه غير مرة:
يا حاكم الحكام يا من به ... قد شرفت رتبته الفاخره
ومن سقى الشهباء مذ حلّها ... بحار علم وندى زاخره
نزلت في الفردوس فابشر به ... دارك في الدنيا وفي الآخره
اه. وكانت وفاة الزملكاني في سنة 727وله في فوات الوفيات ترجمة حافلة.
سنة 641
قال أبو الفرج الملطي في تاريخه مختصر الدول: في سنة إحدى وأربعين غزا يساورنوين الشام ووصل إلى موضع يسمى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفى أصاب خيول المغول، واجتاز بملطية وخرب بلدها ورعى غلاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالا عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة بالذهب والفضة، ثم رحل عنها اه.
سنة 644
ذكر محاصرة الخوارزمية دمشق ثم اقتتالهم مع العساكر الحلبية عند بحيرة حمص وانكسارهم وتشتت شملهم
ذكر الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث سنة 643أن في هذه السنة حضر معين الدين ابن الشيخ (أحد الأمراء) والخوارزمية إلى دمشق وحاصروها
وضايقوها، وقطعت الخوارزمية الطريق على الناس وزحفوا إلى البلد من كل ناحية. وبعد أن ذكر ما ارتكبه الخوارزميون من فظيع الأعمال ثمة من النهب والإحراق قال: ولما علم الصالح أيوب بأن الصالح إسماعيل قد اتفق مع الخوارزمية استمال المنصور صاحب حمص فأجابه وكتب إلى الحلبيين يقول: هؤلاء الخوارزمية قد أخربوا البلاد والمصلحة أن نتفق عليهم، فأجابوه، وخرج الأمير شمس الدين لولو بالعساكر من حلب في سنة أربع وأربعين وجمع صاحب حمص العرب والتركمان وخرج إليهم عسكر دمشق واجتمعوا كلهم على حمص، واتفق الصالح أسماعيل والخوارزمية وعز الدين أيبك والناصر داود واجتمعوا على مرج الصفرّ ولم ينزل إليهم الناصر من الكرك بل بعث إليهم عساكره، وساروا والتقوا على بحيرة حمص، فكانت الدائرة على الخوارزمية. قال أبو الفداء: انهزموا هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وحمل رأسه إلى حلب وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام وخدموا به وكفى الله الناس شرهم.(2/217)
ذكر الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث سنة 643أن في هذه السنة حضر معين الدين ابن الشيخ (أحد الأمراء) والخوارزمية إلى دمشق وحاصروها
وضايقوها، وقطعت الخوارزمية الطريق على الناس وزحفوا إلى البلد من كل ناحية. وبعد أن ذكر ما ارتكبه الخوارزميون من فظيع الأعمال ثمة من النهب والإحراق قال: ولما علم الصالح أيوب بأن الصالح إسماعيل قد اتفق مع الخوارزمية استمال المنصور صاحب حمص فأجابه وكتب إلى الحلبيين يقول: هؤلاء الخوارزمية قد أخربوا البلاد والمصلحة أن نتفق عليهم، فأجابوه، وخرج الأمير شمس الدين لولو بالعساكر من حلب في سنة أربع وأربعين وجمع صاحب حمص العرب والتركمان وخرج إليهم عسكر دمشق واجتمعوا كلهم على حمص، واتفق الصالح أسماعيل والخوارزمية وعز الدين أيبك والناصر داود واجتمعوا على مرج الصفرّ ولم ينزل إليهم الناصر من الكرك بل بعث إليهم عساكره، وساروا والتقوا على بحيرة حمص، فكانت الدائرة على الخوارزمية. قال أبو الفداء: انهزموا هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وحمل رأسه إلى حلب وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام وخدموا به وكفى الله الناس شرهم.
سنة 646
ذكر استيلاء الحلبيين على حمص
قال أبو الفداء: في هذه السنة أرسل الملك الناصر يوسف صاحب حلب عسكرا مع الأمير شمس الدين لولو الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم إليهم حمص وتعوض عنها بتل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر والرحبة، ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين، وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه، ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكرا إلى حمص مع حسام الدين بن أبي علي فخر الدين بن الشيخ فنازلوا حمص وحاصروها ونصبوا عليها منجنيقا مغربيا يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلا بالشامي مع عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قويا، واستمر الحصار عليها، واتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح وهو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط، وكان أيضا قد قوي مرضه، ووصل أيضا نجم الدين الباذراي رسول الخليفة وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها.(2/218)
سنة 647
استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على نصيبين وقرقيسيا
قال أبو الفداء: في هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لولو وبين الملك الناصر صاحب حلب، فأرسل إليه الملك الناصر عسكرا والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين، فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة واستولى الحلبيون على أثقال لولو صاحب الموصل وخيمه، وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب.(2/219)
دولة الأتراك بمصر والشام
سنة 648
ذكر قتل الملك المعظم تورانشاه وخروج الملك عن بني أيوب في مصر وسلطنة أيبك التركماني
قال أبو الفداء في حوادث سنة 647ما خلاصته: في هذه السنة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في شعبان ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجر الدر وهي جارية الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ والطواشي وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفا من الفرنج، وجمعت شجر الدر الأمراء وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم تورانشاه المقيم بحصن كيفا وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر.
وبعد أن حلفوا أرسل فخر الدين قاصدا لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا فسار منها إلى مصر.
ثم قال في حوادث سنة 648: وفي يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب الملك ابن الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، وسبب ذلك أن المذكور اطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا،
وكانوا أطرافا أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطانا فيما بعد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكو على ما تقدم ذكره، فأطلقوا في البرج النار فخرج الملك المعظم من البرج هاربا طالبا البحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في يوم الاثنين المذكور. وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما، ولما جرى ذلك اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجر الدر زوجة الملك الصالح في المملكة وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكبر الصالحي المعروف بالتركماني أتابك العسكر وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدر على المنابر وضربت السكة باسمها وكان نقش السكة (المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل) وكانت شجر الدر قد ولدت من الملك الصالح ولدا ومات صغيرا وكان اسمه خليل، فسميت والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع (والدة خليل).(2/220)
ثم قال في حوادث سنة 648: وفي يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الصالح أيوب الملك ابن الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، وسبب ذلك أن المذكور اطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه وكل منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا،
وكانوا أطرافا أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد نزوله بفارسكور وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطانا فيما بعد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكو على ما تقدم ذكره، فأطلقوا في البرج النار فخرج الملك المعظم من البرج هاربا طالبا البحر ليركب في حراقته، فحالوا بينه وبينها بالنشاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في يوم الاثنين المذكور. وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما، ولما جرى ذلك اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجر الدر زوجة الملك الصالح في المملكة وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكبر الصالحي المعروف بالتركماني أتابك العسكر وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدر على المنابر وضربت السكة باسمها وكان نقش السكة (المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل) وكانت شجر الدر قد ولدت من الملك الصالح ولدا ومات صغيرا وكان اسمه خليل، فسميت والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع (والدة خليل).
ثم إن كبراء الدولة اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى في السلطنة لأنه إذا استقر أمر المملكة في امرأة على ما هو الحال تفسد الأمور، فأقاموا أيبك المذكور وركب بالسناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر من هذه السنة ولقب الملك المعز وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجر الدر.
ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق
قال أبو الفداء وابن كثير: بعد أن وقع ما وقع بالديار المصرية من قتل الأمراء الملك المعظم تورانشاه أرسل المصريون رسولا إلى الأمراء القيمرية الذين بدمشق يطلبون منهم موافقتهم على عملهم فلم يجيبوهم إلى ذلك، وكاتب الأمراء القيمرية الملك الناصر يوسف صاحب حلب فركب الحلبيون معهم ابن أستأذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب، منهم الصالح إسماعيل بن العادل وكان أحق الموجودين بالملك من حيث السن والقدر والحرمة والرياسة، ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل والأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه الذي كان صاحب حمص وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصروها وملكوها سريعا، ونهبت دار ابن يغمور وحبس بالقلعة وذلك لثمان مضين من ربيع الآخر من هذه السنة، ولما استقر الناصر
المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين ابن يغمور وعلى الأمراء القيمرية وأحسن إليهم واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح، وعصت عليه بعلبك وعجلون وسميس مدة مديدة، ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.(2/221)
قال أبو الفداء وابن كثير: بعد أن وقع ما وقع بالديار المصرية من قتل الأمراء الملك المعظم تورانشاه أرسل المصريون رسولا إلى الأمراء القيمرية الذين بدمشق يطلبون منهم موافقتهم على عملهم فلم يجيبوهم إلى ذلك، وكاتب الأمراء القيمرية الملك الناصر يوسف صاحب حلب فركب الحلبيون معهم ابن أستأذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب، منهم الصالح إسماعيل بن العادل وكان أحق الموجودين بالملك من حيث السن والقدر والحرمة والرياسة، ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل والأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه الذي كان صاحب حمص وغيرهم، فجاؤوا إلى دمشق فحاصروها وملكوها سريعا، ونهبت دار ابن يغمور وحبس بالقلعة وذلك لثمان مضين من ربيع الآخر من هذه السنة، ولما استقر الناصر
المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين ابن يغمور وعلى الأمراء القيمرية وأحسن إليهم واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح، وعصت عليه بعلبك وعجلون وسميس مدة مديدة، ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين.
مسير الملك الناصر يوسف صاحب حلب إلى الديار المصرية وكسرته وعوده إلى الشام
قال أبو الفداء: ثم سار الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز بعساكره من دمشق وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب والأشرف موسى صاحب حمص وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم تورانشاه ابن السلطان صلاح الدين وأخو المعظم المذكور نصرة الدين والأمجد حسن والظاهر شاذي أبناء الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى وتقي الدين عباس بن العادل ومقدم الجيش شمس الدين لولو الأرمني وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق منتصف رمضان، ولما بلغ المصريين ذلك اهتموا لقتاله ودفعه وبرزوا إلى السايح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك التركماني حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل وهما المنصور إبراهيم والملك السعيد عبد الملك وكانا معتقلين من حين استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسية عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت الكسرة أولا على عسكر مصر، فخامر جماعة من المماليك الترك العزيزية على الملك الناصر وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة قليلة من البحرية فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني، ولما انكسرت المصريون وتبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعز التركماني بمن معه عليه فولى الملك الناصر منهزما طالبا جهة الشام، ثم حمل أيبك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لولو فهزمهم وأخذ شمس الدين لولو أسيرا فضربت عنقه بين يديه، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري فضربت عنقه، وأسر يومئذ الملك الصالح إسماعيل والأشرف صاحب حمص والمعظم تورانشاه بن صلاح الدين بن
أيوب وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسية وضربوا بها دهليز الملك الناصر وهم لا يشكون أن الهزيمة تمّت على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر اختلفت آراؤهم، فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به وكان هرب، فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام وكان معهم تاج الملوك بن المعظم وهو مجروح، ووصل المنهزميون من المصريين إلى القاهرة في غد الواقعة نهار الجمعة فلم يشك أهل مصر في ملك الملك الناصر ديار مصر وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل ومصر، وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد، ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحرية ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط وغيره من المعتقلين، فحبسوا بقلعة الجبل، وعقيب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة وزير الصالح وأستاذ داره يغمور وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة.(2/222)
قال أبو الفداء: ثم سار الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز بعساكره من دمشق وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب والأشرف موسى صاحب حمص وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر والمعظم تورانشاه ابن السلطان صلاح الدين وأخو المعظم المذكور نصرة الدين والأمجد حسن والظاهر شاذي أبناء الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى وتقي الدين عباس بن العادل ومقدم الجيش شمس الدين لولو الأرمني وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق منتصف رمضان، ولما بلغ المصريين ذلك اهتموا لقتاله ودفعه وبرزوا إلى السايح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك التركماني حينئذ عن ولدي الصالح إسماعيل وهما المنصور إبراهيم والملك السعيد عبد الملك وكانا معتقلين من حين استيلاء الملك الصالح أيوب على بعلبك وخلع عليهما ليتوهم الناصر يوسف صاحب دمشق من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسية عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت الكسرة أولا على عسكر مصر، فخامر جماعة من المماليك الترك العزيزية على الملك الناصر وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة قليلة من البحرية فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الملك الناصر إلى أيبك التركماني، ولما انكسرت المصريون وتبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية مع جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعز التركماني بمن معه عليه فولى الملك الناصر منهزما طالبا جهة الشام، ثم حمل أيبك التركماني المذكور على طلب شمس الدين لولو فهزمهم وأخذ شمس الدين لولو أسيرا فضربت عنقه بين يديه، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري فضربت عنقه، وأسر يومئذ الملك الصالح إسماعيل والأشرف صاحب حمص والمعظم تورانشاه بن صلاح الدين بن
أيوب وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الملك الناصر في إثر المنهزمين إلى العباسية وضربوا بها دهليز الملك الناصر وهم لا يشكون أن الهزيمة تمّت على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر اختلفت آراؤهم، فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها ولو فعلوه لما كان بقي مع أيبك التركماني من يقاتلهم به وكان هرب، فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام وكان معهم تاج الملوك بن المعظم وهو مجروح، ووصل المنهزميون من المصريين إلى القاهرة في غد الواقعة نهار الجمعة فلم يشك أهل مصر في ملك الملك الناصر ديار مصر وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل ومصر، وأما القاهرة فلم يقم فيها في ذلك النهار خطبة لأحد، ثم وردت إليهم البشرى بانتصار البحرية ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط وغيره من المعتقلين، فحبسوا بقلعة الجبل، وعقيب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة وزير الصالح وأستاذ داره يغمور وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة.
وليلة السابع والعشرين منه هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل بن أيوب وهو يمص قصب السكر وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة فقتلوه ودفن هناك وعمره قريب من خمسين سنة اه.
سنة 653
ذكر الصلح بين المصريين والشاميين
قال أبو الفداء: في هذه السنة مشى نجم الدين الباذراي في الصلح بين المصريين والشاميين واتفق الحال أن يكون للملك الناصر الشام جميعه إلى العريش ويكون الحد بئر القاضي وهو بين الواردة والعريش، وبيد المعز أيبك الديار المصرية. وانفصل الحال على ذلك ورجع كل إلى بلده اه.
سنة 654
توجه الكمال بن العديم رسولا من طرف الناصر إلى الخليفة
قال أبو الفداء: في هذه السنة توجه كمال الدين المعروف بابن العديم رسولا من الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم وصحبته تقدمة جليلة وطلب
خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز أيبك التركماني صاحب مصر شمس الدين سنقر الأقرع وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبقي الخليفة متحيرا، ثم إنه أحضر سكينا من اليشم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين رسول صاحب الشام علامة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكنني، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة اه.(2/223)
قال أبو الفداء: في هذه السنة توجه كمال الدين المعروف بابن العديم رسولا من الملك الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم وصحبته تقدمة جليلة وطلب
خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من جهة المعز أيبك التركماني صاحب مصر شمس الدين سنقر الأقرع وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة وسعى في تعطيل خلعة الناصر يوسف صاحب دمشق، فبقي الخليفة متحيرا، ثم إنه أحضر سكينا من اليشم كبيرة، وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين رسول صاحب الشام علامة مني في أن له خلعة عندي في وقت آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكنني، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة اه.
سنة 655
ذكر قتل المعز أيبك التركماني
قال أبو الفداء: في هذه السنة قتل الملك المعز أيبك التركماني وهو أول ملوك الأتراك في مصر، قتلته امرأته شجر الدر، واتفقت كلمة الأمراء على إقامة ولده نور الدين علي ولقبوه الملك المنصور وعمره خمس عشرة سنة، ثم قتلت شجر الدر ودفنت في تربة كانت قد عملتها اه. باختصار.
ذكر وصول الخلعة من الخليفة إلى الملك الناصر
وفي هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز.
سنة 656
ذكر استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية
قال أبو الفداء ما خلاصته: في هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها في العشرين من المحرم وقتل الخليفة المستعصم ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوما، ثم نودي بالأمان.
ويجمل بنا أن نذكر هنا أصل التتر ومنشأهم والأسباب التي دعتهم إلى الخروج من بلادهم وهي في أقصى الشرق إلى أواسطه ثم قصدهم بغداد ثم هذه الديار.(2/224)
قال ابن الأثير في حوادث سنة سبع عشرة وستمائة: في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام وهم نوع من كثير من الترك ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: أرض التتر بأطراف بلاد الصين، وهم سكان براري ومشهورون بالشر والغدر.
(أقول): بلادهم هي المشهورة الآن بكتب جغرافيا الجديدة ببلاد المغول.
قال في النخبة الأزهرية في تعداد ولايات المملكة الصينية: ومن جملة ولاياتها بلاد المغول (وهي في الجبهة الشمالية الصينية) ومن مدنها الشهيرة كامي وباركول في سفح جبال تيان شان ثم أورجا، وأهمية هذه المدن قليلة وهي في قتال مستمر مع سكان الصحراء، حتى إن كثيرا من شبيهاتها من المدن انقرض من جراء ذلك، ولا تزال خرائبها قائمة إلى اليوم ومن ضمنها مدينة كراكوروم التي كانت عاصمة لجنكيز خان ملك المغول.
قال الجلال السيوطي في تاريخ الخلفاء: وسبب ظهور التتر أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر وهو ست ممالك ولهم ملك حاكم على الممالك الست وهو دوش خان قد تزوج بعمة جنكز خان فحضر زائرا لعمته وقد مات زوجها، وكان قد حضر مع جنكز خان كشلو خان فأعلمتهما أن الملك لم يخلف ولدا وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه فقام وانضم إليه خلق من المغول. ثم سير التقادم إلى القان الأكبر فاستشاط غيظا وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت وطردها وقتل الرسول لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة بتملك إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكز خان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد وأظهرا الخلاف للقان وأتتهما أمم كثيرة من التتار وعلم القان قوتهم وشرهم فأرسل يؤانسهم ويظهر مع ذلك أنه ينذرهم ويهددهم، فلم يغن ذلك شيئا، ثم قصدهم وقصدوه فوقع بينهم ملحمة عظيمة فكسروا القان الأعظم وملكوا بلاده واستفحل شرهم واستمر الملك بين جنكز خان وكشلو خان فقام مقامه ولده فاستضعفه جنكز خان فوثب عليه وظفر به، واستقل جنكز خان ودانت له التتار وانقادت له واعتقدوا فيه الألوهية وبالغوا في طاعته، ثم كان أول خروجهم في سنة ست وستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان فأمر أهل فرغانة والمشاش وكاسان وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والجفل إلى سمرقند وغيرها، ثم خربها جميعا خوفا من التتار
أن يملكوها لعلمه أنه لا طاقة له بهم، ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة.(2/225)
قال الجلال السيوطي في تاريخ الخلفاء: وسبب ظهور التتر أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر وهو ست ممالك ولهم ملك حاكم على الممالك الست وهو دوش خان قد تزوج بعمة جنكز خان فحضر زائرا لعمته وقد مات زوجها، وكان قد حضر مع جنكز خان كشلو خان فأعلمتهما أن الملك لم يخلف ولدا وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه فقام وانضم إليه خلق من المغول. ثم سير التقادم إلى القان الأكبر فاستشاط غيظا وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت وطردها وقتل الرسول لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة بتملك إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكز خان وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد وأظهرا الخلاف للقان وأتتهما أمم كثيرة من التتار وعلم القان قوتهم وشرهم فأرسل يؤانسهم ويظهر مع ذلك أنه ينذرهم ويهددهم، فلم يغن ذلك شيئا، ثم قصدهم وقصدوه فوقع بينهم ملحمة عظيمة فكسروا القان الأعظم وملكوا بلاده واستفحل شرهم واستمر الملك بين جنكز خان وكشلو خان فقام مقامه ولده فاستضعفه جنكز خان فوثب عليه وظفر به، واستقل جنكز خان ودانت له التتار وانقادت له واعتقدوا فيه الألوهية وبالغوا في طاعته، ثم كان أول خروجهم في سنة ست وستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش صاحب خراسان فأمر أهل فرغانة والمشاش وكاسان وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والجفل إلى سمرقند وغيرها، ثم خربها جميعا خوفا من التتار
أن يملكوها لعلمه أنه لا طاقة له بهم، ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنة خمس عشرة.
قال ابن خلدون: وفي هذه السنة أي سنة 615لما استقر السلطان محمد بن تكش الخوارزمي بنيسابور وفدت عليه رسل جنكز خان بهدية من المعدنين ونوافج المسك وحجر اليشم والثياب الطائية التي تنسج من وبر الإبل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما يليها من بلاد الترك ويسأل الموادعة والإذن للتجار من الجانبين في التردد في متاجرهم، وكان في خطابه إطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده، فاستنكف السلطان من ذلك واستدعى محمودا الخوارزمي من الرسل واصطنعه ليكون عينا له على جنكز خان واستخبره على ما قاله في كتابه من ملكه الصين واستيلائه على مدينة طمغاج، فصدق ذلك وأنكر عليه الخطاب بالولد، وسأله عن مقدار العساكر فغشه وقللها، وصرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة والإذن للتجار، فوصل بعض التجار من بلادهم إلى إنزار وبها ينال خان ابن خال السلطان في عشرين ألفا من العساكر فشره إلى أموالهم وخاطب السلطان بأنهم عيون وليسوا بتجار، فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية وأخذ أموالهم، وفشى الخبر إلى جنكز خان فبعث بالنكير إلى السلطان في نقض العهد وإن كان فعل ينال افتياتا، فبعث إليه يتهدده على ذلك فقتل السلطان الرسل، وبلغ الخبر إلى جنكز خان فسار في العساكر واعتزم السلطان أن يحصن سمرقند بالأسوار فجبى لذلك خراج سنتين وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان، وسار إلى أحياء جنكز خان فكبسهم وهو غائب عنها في محاربة كشلوخان فغنم ورجع، واتبعهم ابن جنكز خان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين، ولجأ خوارزم شاه إلى جيحون فأقام عليه ينتظر شأن التتر، ثم عاجله جنكز خان فأجفل وتركها وفرق عساكره في مدن ما وراء النهر إنزار وبخارى وسمرقند وترمذ وجند وأنزل آبنايخ من كبراء أمرائه وحجاب دولته في بخارى، وجاء جنكز خان إلى إنزار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها ينال خان الذي قتل التجار وأذاب الفضة في أذنيه وعينيه، ثم حاصر بخارى وملكها على الأمان وقاتلوا معه القلعة حتى ملكوها، ثم غدر بهم وقتلهم وسلبهم وخربها، ورحل جنكز خان إلى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة وستمائة.
ثم ذكر ابن خلدون وابن الأثير وغيره تقلبهم في البلاد واكتساحهم لها وتخريبها وقتلهم لأهاليها وارتكابهم لفظائع تنفطر منها القلوب وتبكي منها العيون دماء.(2/226)
وفي هذه السنة كان وصولهم إلى بغداد وهدموا منها أركان الخلافة العباسية ونثروا عقدها وطمسوا محاسن بغداد ومدنيتها الزاهرة ومدارسها العامرة وقضوا على حياة بني العباس وشتتوا شمل من بقي منهم وهو القليل، ووصل منهم إلى مصر المستنصر بالله أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد كما سيأتي.
سنة 657
رسالة هولاكو ملك التتر إلى الملك الناصر صاحب حلب
قال أبو الفرج الملطي في تاريخه مختصر الدول: وفي سنة سبع وخمسين وستمائة أرسل هولاكو إيلجية إلى الملك الناصر صاحب حلب برسالة يقول فيها:
يعلم الملك الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة وفتحناها بسيف الله تعالى وأحضرنا مالكها وسألناه مسألتين فلم يجب لسؤالنا فلذلك استوجب منا العذاب كما قال في قرآنكم {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ} وصان المال فآل الدهر به إلى ما آل، واستبدل النفوس النفسية بنقوش معدنية خسيسة، وكان ذلك ظاهر قوله تعالى {وَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً} لأننا قد بلغنا بقوة الله الإرادة ونحن بمعونة الله تعالى في الزيادة، ولا شك أنّا نحن جند الله في أرضه خلقنا وسلطنا على من حل عليه غضبه، فليكن لكم فيما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. فالحصون بين أيدينا لا تمنع، والعساكر للقائنا لا تضر ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب ولا يسمع، فاتعظوا بغيركم وسلموا إلينا أموركم قبل أن ينكشف الغطا ويحل عليكم الخطا، فنحن لا نرحم من شكا ولا نرق لمن بكى، قد أخربنا البلاد وأفنينا العباد وأيتمنا الأولاد وتركنا في الأرض الفساد. فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من سهامنا مناص. فخيولنا سوابق وسهامنا خوارق وسيوفنا صواعق. وعقولنا كالجبال وعددنا كالرمال. فمن طلب منا الأمان سلم. ومن طلب الحرب ندم. فإن أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم أمرنا وفي غيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم يا ظالمين فهيئوا للبلايا جلبابا وللرزايا أترابا، فقد أعذر من أنذر وأنصف من حذر، لأنكم أكلتم الحرام وخنتم الأيمان وأظهرتم البدع واستحسنتم الفسق بالصبيان، فأبشروا بالذل
والهوان، فاليوم تجدون ما كنتم تعملون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فقد ثبت عندكم أننا كفرة وثبت عندنا أنكم فجرة، وسلطنا عليكم من بيده الأمور مقدرة والأحكام مدبرة، فعزيزكم عندنا ذليل وغنيكم لدينا فقير. ونحن مالكون الأرض شرقا وغربا وأصحاب الأموال نهبا وسلبا وأخذنا كل سفينة غصبا. فميزوا بعقولكم طرق الصواب قبل أن تضرم الحرب نارها وترمي بشرارها، فلا تبقي منكم باقية وتبقى الأرض منكم خالية.(2/227)
يعلم الملك الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة وفتحناها بسيف الله تعالى وأحضرنا مالكها وسألناه مسألتين فلم يجب لسؤالنا فلذلك استوجب منا العذاب كما قال في قرآنكم {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ} وصان المال فآل الدهر به إلى ما آل، واستبدل النفوس النفسية بنقوش معدنية خسيسة، وكان ذلك ظاهر قوله تعالى {وَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً} لأننا قد بلغنا بقوة الله الإرادة ونحن بمعونة الله تعالى في الزيادة، ولا شك أنّا نحن جند الله في أرضه خلقنا وسلطنا على من حل عليه غضبه، فليكن لكم فيما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. فالحصون بين أيدينا لا تمنع، والعساكر للقائنا لا تضر ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب ولا يسمع، فاتعظوا بغيركم وسلموا إلينا أموركم قبل أن ينكشف الغطا ويحل عليكم الخطا، فنحن لا نرحم من شكا ولا نرق لمن بكى، قد أخربنا البلاد وأفنينا العباد وأيتمنا الأولاد وتركنا في الأرض الفساد. فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من سهامنا مناص. فخيولنا سوابق وسهامنا خوارق وسيوفنا صواعق. وعقولنا كالجبال وعددنا كالرمال. فمن طلب منا الأمان سلم. ومن طلب الحرب ندم. فإن أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم أمرنا وفي غيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم يا ظالمين فهيئوا للبلايا جلبابا وللرزايا أترابا، فقد أعذر من أنذر وأنصف من حذر، لأنكم أكلتم الحرام وخنتم الأيمان وأظهرتم البدع واستحسنتم الفسق بالصبيان، فأبشروا بالذل
والهوان، فاليوم تجدون ما كنتم تعملون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فقد ثبت عندكم أننا كفرة وثبت عندنا أنكم فجرة، وسلطنا عليكم من بيده الأمور مقدرة والأحكام مدبرة، فعزيزكم عندنا ذليل وغنيكم لدينا فقير. ونحن مالكون الأرض شرقا وغربا وأصحاب الأموال نهبا وسلبا وأخذنا كل سفينة غصبا. فميزوا بعقولكم طرق الصواب قبل أن تضرم الحرب نارها وترمي بشرارها، فلا تبقي منكم باقية وتبقى الأرض منكم خالية.
فقد أنصفناكم حين راسلناكم وأعذرنا كم إذ أنذرناكم، فسارعوا إلينا برد الجواب بتة قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم تعلمون اه.
فطلبه ليحضر عنده، ولما شاور الأمراء لم يمكنوه من المشي إلى هولاكو وبقي متحيرا خائفا مذعورا لم يدر ما يصنع، غير أنه استخار الله وسيّر ولده الملك العزيز وصحبته الأموال الكثيرة والهدايا والتحف، وبقي هناك من أوائل الشتاء إلى الربيع، ثم عاد إلى أبيه قائلا: قد قال ملك الأرض نحن للملك الناصر طلبنا لا لولده، فالآن إن كان قلبه صحيحا معنا يجيء إلينا وإلا فنحن نمشي إليه. فلما سمع الملك الناصر ذلك بقي مترددا في رأيه لأن الأمراء لم يمكنوه من المشي إليه وهو فقد وقع عنده الخوف والجزع ولم يطمئن على القعود اه.
صورة الجواب من الملك الناصر صاحب حلب إلى هولاكو
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، قل اللهم مالك الملك إلخ الآية. وقفنا والحمد لله والصلاة على رسول الله محمد وآله وسلم على كتاب من الحضرة الأيلخانية والسدة السلطانية بصّرها الله رشدها وصيّر الحق والصواب مقبولا عندها، فعرفنا من تفصيله وجملته ما أبان أنكم مخلوقون من سخط الله ونقمته وأنكم مسلطون على من حل عليه غضبه في محنته، لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك كله من جملة عيوبكم، ولقد كشفتم عن الأمر الخفي لأنه لا ينتزع الرحمة إلا من قلب شقي، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين، وكفى بهذا لكم واعظا شافيا وبما وصفتم به أنفسكم رادعا كافيا {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} ففي كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل نبي أهنتم وبكل بيان بالقبيح عرفتم ووصفتم، وعندنا خبركم من حيث خلقتم وأنتم الكفرة الظلمة كما زعمتم {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} وقلتم عنا إننا أظهرنا البدع في الإيمان واستحلينا الفسوق والعصيان، لا غرو أن كان فرعون مذكرا والظالم
ناهيا منكرا، وكل من تمسك بالأصول لا يبالي بالفروع، بالإيمان ندرأ فعل العصيان ونحن المؤمنون حقا، لا يداخلنا عيب ولا يخامرنا ذم ولا ريب، والقرآن علينا نزل وربنا رحيم بنا لم يزل، قد تحققنا تنزيله وعرفنا أسراره وتأويله، والجنة لنا زخرفت والجحيم لكم خلقت ولخلودكم فيها سعرت، إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت، ومن أعجب العجب تهديد الرتوت باللتوت والسباع بالضباع، خيولنا عربية وسهامنا يمينة ولتوتنا صعيدية وسيوفنا مصرية، وهي شديدة المضارب موصوفة في المشارق والمغارب، وإنا لا يصدع قلوبنا التهديد وجمعنا لا يخاف التفرقة والتبديد، ولو أننا نستف الصعيد فإنا لا نميل ولا نبيد، وذلك بتأييد العزيز الحميد، إن عصيناكم فتلك الطاعة وإن قاتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلنا أو قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة. وأما قولكم قلوبنا كالجبال وعديدنا كالرمال فإن القصّاب لا يبالي بكثرة الغنم، وكثير من الحطب يحرقه قليل من الضرم، والفرار من الدنايا لا من المنايا، وهجوم المنية هي عندنا غاية الأمنية، وإنا إن عشنا عشنا سعداء وإن متنا متنا شهداء. أبعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين تطلبون منا الطاعة، لا سمع لكم ولا طاعة، لا نعطى الذلة وبأيدينا سيوف حداد وبين أيدينا رجال شداد، وزعمتم أن نلقي إليكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطا وينزل علينا منكم الخطا، هذا كلام فيه لحن وتمكيك وفي نظمه تبديل وتركيك، فسوف ينكسر منكم المطا وتقصر منكم الخطا، أكفر بعد إيمان أم تكذيب بعد تبيان أم طاعة صلب وأوثان أم تدعون مع الله إلها ثان {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} فقولوا لكاتبكم الذي رصف رسالته وصفف مقالته ما قصرت، أوجزت وأبلغت واختصرت، ووصل إلينا كتابك وفهمنا ما تضمنه خطابك، فكان عندنا كصرير الباب أو كطنين الذباب، ما كان الغرض إلا إعلان فصاحتك وإظهار محض نصيحتك، وقد يستفيد الظنة المتنصح.(2/228)
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، قل اللهم مالك الملك إلخ الآية. وقفنا والحمد لله والصلاة على رسول الله محمد وآله وسلم على كتاب من الحضرة الأيلخانية والسدة السلطانية بصّرها الله رشدها وصيّر الحق والصواب مقبولا عندها، فعرفنا من تفصيله وجملته ما أبان أنكم مخلوقون من سخط الله ونقمته وأنكم مسلطون على من حل عليه غضبه في محنته، لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك كله من جملة عيوبكم، ولقد كشفتم عن الأمر الخفي لأنه لا ينتزع الرحمة إلا من قلب شقي، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين، وكفى بهذا لكم واعظا شافيا وبما وصفتم به أنفسكم رادعا كافيا {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} ففي كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل نبي أهنتم وبكل بيان بالقبيح عرفتم ووصفتم، وعندنا خبركم من حيث خلقتم وأنتم الكفرة الظلمة كما زعمتم {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} وقلتم عنا إننا أظهرنا البدع في الإيمان واستحلينا الفسوق والعصيان، لا غرو أن كان فرعون مذكرا والظالم
ناهيا منكرا، وكل من تمسك بالأصول لا يبالي بالفروع، بالإيمان ندرأ فعل العصيان ونحن المؤمنون حقا، لا يداخلنا عيب ولا يخامرنا ذم ولا ريب، والقرآن علينا نزل وربنا رحيم بنا لم يزل، قد تحققنا تنزيله وعرفنا أسراره وتأويله، والجنة لنا زخرفت والجحيم لكم خلقت ولخلودكم فيها سعرت، إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت، ومن أعجب العجب تهديد الرتوت باللتوت والسباع بالضباع، خيولنا عربية وسهامنا يمينة ولتوتنا صعيدية وسيوفنا مصرية، وهي شديدة المضارب موصوفة في المشارق والمغارب، وإنا لا يصدع قلوبنا التهديد وجمعنا لا يخاف التفرقة والتبديد، ولو أننا نستف الصعيد فإنا لا نميل ولا نبيد، وذلك بتأييد العزيز الحميد، إن عصيناكم فتلك الطاعة وإن قاتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلنا أو قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة. وأما قولكم قلوبنا كالجبال وعديدنا كالرمال فإن القصّاب لا يبالي بكثرة الغنم، وكثير من الحطب يحرقه قليل من الضرم، والفرار من الدنايا لا من المنايا، وهجوم المنية هي عندنا غاية الأمنية، وإنا إن عشنا عشنا سعداء وإن متنا متنا شهداء. أبعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين تطلبون منا الطاعة، لا سمع لكم ولا طاعة، لا نعطى الذلة وبأيدينا سيوف حداد وبين أيدينا رجال شداد، وزعمتم أن نلقي إليكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطا وينزل علينا منكم الخطا، هذا كلام فيه لحن وتمكيك وفي نظمه تبديل وتركيك، فسوف ينكسر منكم المطا وتقصر منكم الخطا، أكفر بعد إيمان أم تكذيب بعد تبيان أم طاعة صلب وأوثان أم تدعون مع الله إلها ثان {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} فقولوا لكاتبكم الذي رصف رسالته وصفف مقالته ما قصرت، أوجزت وأبلغت واختصرت، ووصل إلينا كتابك وفهمنا ما تضمنه خطابك، فكان عندنا كصرير الباب أو كطنين الذباب، ما كان الغرض إلا إعلان فصاحتك وإظهار محض نصيحتك، وقد يستفيد الظنة المتنصح.
الآن قد استوجبت النقم كما استخففت بالنعم وسوف تقع في الندم وتزل بك القدم.
والسلام على من اتبع الهدى إنه قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى، والحمد لله وحده والصلاة على محمد وآله وصحبه وسلم (1).
__________
(1) أقول: ظفرت بهذا الجواب في كراسة خطية قديمة عند السيد أسعد العينتابي مدير دائرة تسجيل الأملاك الآن وقد كتب معها الكتاب الذي أرسله هولاكو إلى الملك الناصر صاحب حلب، غير أنه يختلف عما نقلناه عن مختصر الدول في بعض الألفاظ والمآل واحد. وهذا الجواب نادر الوجود ولعلك لا تجده في غير هذا الكتاب.(2/229)
سنة 657
ذكر سلطنة قطز وتوجه الكمال بن العديم إلى مصر رسولا من طرف الملك الناصر يوسف يستنجده على التتر
قال أبو الفداء: في أواخر هذه السنة قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك وخلعه من السلطنة، وكان علم الدين الغتمي وسيف الدين بهادر وهما من كبار المعزية غائبين في رمي البندق، فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك، ولما قدم الغتمي وبهادر المذكوران قبض عليهما قطز أيضا واستقر قطز في ملك الديار المصرية وتلقب بالملك المظفر. وكان رسول الملك الناصر يوسف صاحب الشام وهو كمال الدين المعروف بابن العديم قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك مستنجدا على التتر، واتفق خلع المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين بن العديم، ولما استقر قطز في السلطنة أعاد جواب الملك الناصر يوسف أنه ينجده ولا يقعد عن نصرته، وعاد ابن العديم بذلك اه.
وقال ابن كثير في حوادث هذه السنة: فيها قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر ابن أبي جرادة المعروف با بن العديم إلى الديار المصرية رسولا من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار بأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام وقد استولوا على بلاد الجزيرة وحران وغيرها في هذه السنة، وقد جاز أشموط بن هولاكو الفرات واقترب من مدينة حلب، فعقد عند ذلك مجلس بالديار المصرية بين يدي المنصور بن المعز التركماني وحضر قاضي الديار المصرية بدر الدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام وأفاضوا في الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكان العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، فكان حاصله إذا لم يبق في بيت المال شيء وأنفقتم الحوائص الذهب وغيرها من الزينة وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب ولم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو وجب على الناس كافة أن يدفعوهم بأموالهم وأنفسهم(2/230)
ذكر ما كان من الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب عند قصد التتر حلب
قال أبو الفداء: لما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب قصد التتر حلب برز من دمشق إلى برزة في أواخر هذه السنة وجفل الناس من بين يدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة، وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري من حين هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر، فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمة من العساكر والجفال، ثم دخلت سنة 658والملك الناصر ببرزة فبلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به، فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهربوا على حمية إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى جهة غزة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر، وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد لشهامته، ولما جرى ذلك هرب الملك الظاهر المذكور خوفا من أخيه الملك الناصر، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر أمهما أم ولد تركية، ووصل الملك الظاهر غازي إلى غزة واجتمع عليه من بها من العسكر وأقاموه سلطانا، ولما جرى ذلك كاتب بيبرس البندقداري الشاميين وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها اه.
استيلاء التتر على البلاد الجزرية ونزولهم إلى ظاهر حلب
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده أشموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان الحاكم في حلب الملك المعظم تورانشاه ابن السلطان صلاح الدين نائبا عن ابن أخيه الملك الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج الملك المعظم، ولم يكن من رأيه قتالهم، وأكمن لهم التتر في (بابلّا) وتقاتلوا عند بانقوسا، فاندفع التتر
قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى أعزاز فتسلموها بالأمان، ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة اه.(2/231)
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده أشموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان الحاكم في حلب الملك المعظم تورانشاه ابن السلطان صلاح الدين نائبا عن ابن أخيه الملك الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج الملك المعظم، ولم يكن من رأيه قتالهم، وأكمن لهم التتر في (بابلّا) وتقاتلوا عند بانقوسا، فاندفع التتر
قدامهم حتى خرجوا عن البلد، ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى أعزاز فتسلموها بالأمان، ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة اه.
سنة 658
ذكر مسير هولاكو بجيوشه إلى الديار الحلبية
قال أبو الفرج الملطي: وفي سنة ثمان وخمسين وستمائة دخل هولاكو أيلخان الشام ومعه من العساكر أربعمائة ألف، ونزل بنفسه على حران وتسلمها بالأمان وكذلك الرها، ولم يدن لأحد فيهما سوء، وأما أهل سروج فإنهم أهملوا أمر المغول فقتلوا عن أقصاهم، وتقدم هولاكو فنصب جسرا على الفرات قريبا من مدينة ملطية وآخر عند قلعة الروم وآخر عند قرقيسيا وعبرت العساكر جملتها وقتلوا عند منبج مقتلة عظيمة، ثم تفرقت العساكر على القلاع والمدن ونفر قليل من العسكر طلب حلب، فخرج إليهم الملك العظيم بن صلاح الدين الكبير فالتقاهم وانكسر قدام المغول ودخل المدينة منهزما، وطرف منهم وصل المعرة وخربوها وتسلموا حماة بالأمان وحمص أيضا، فلما بلغ ذلك الملك الناصر أخذ أولاده ونساءه وجميع ما يعز عليه وتوجه منهزما إلى برية الكرك والشوبك، وعندما وصلت المغول إلى دمشق خرج أعيانها إليهم وسلموخا لهم بالأمان ولم يحلق بأحد منهم أذى.
وأما هولاكو فإنه بنفسه نزل على حلب وبنى عليها سيبا ونصب المنجنيقات واستضعف في سورها موضعا عند باب العراق وأكثر القتال والزحف عليه، وفي أيام قلائل ملكوها ودخلوها يوم الأحد الثالث والعشرين من كانون الثاني من هذه السنة وقتل فيها أكثر من الذي قتل ببغداد، وبعد ذلك أخذوا القلعة في أسرع ما يكون وقتا اه.
استيلاء التتر على حلب ثم على قلعتها
قال أبو الفداء: في هذه السنة يوم الأحد تاسع صفر كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب، وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم تورانشاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الملك الناصر فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة ونتوجه نحن إلى العسكر،
فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف. وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم، فتعجب من هذا الجواب وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك. وأحاط التتر بحلب ثاني صفر وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر ابن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتر للبلد وهجموه من عند حمام حمدان (حمام بزي) في ذيل قلعة الشريف في يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من يوم الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف ونودي بالأمان ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين ودار البازيار ودار علم الدين قيصر الموصلي والخانقاه التي فيها زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت في أيديهم.(2/232)
قال أبو الفداء: في هذه السنة يوم الأحد تاسع صفر كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب، وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم تورانشاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الملك الناصر فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة ونتوجه نحن إلى العسكر،
فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف. وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم، فتعجب من هذا الجواب وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك. وأحاط التتر بحلب ثاني صفر وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر ابن صلاح الدين، واشتدت مضايقة التتر للبلد وهجموه من عند حمام حمدان (حمام بزي) في ذيل قلعة الشريف في يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من يوم الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف ونودي بالأمان ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين ودار البازيار ودار علم الدين قيصر الموصلي والخانقاه التي فيها زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت في أيديهم.
وقيل إنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس، ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها.
أما قلعة حلب فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة رئيس حلب وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز بن أحمد بن القاضي نجم الدين ابن أبي عصرون فقتلوهما لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر، واستمر الحصار على القلعة واشتدت مضايقة التتر لها نحو شهر، ثم سلمت بالأمان في يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول.
ولما نزل أهلها بالأمان وكان فيها جماعة من البحرية الذين حبسهم الملك الناصر، فمنهم سكز وبرامق وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكو وباقي الترك إلى رجل من التتر يقال له سلطان حق وهو رجل من أكابر القبجاق هرب من التتر لما غلبت على القبجاق وقدم إلى حلب فأحسن إليه الملك الناصر فلم تطب له تلك البلاد فعاد إلى التتر.
وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره ملكه وأن لا يعارض، وجعل النائب بحلب عماد الدين القزويني، وأمر هولاكو بخرب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها.(2/233)
ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب، فأحضره هولاكو وسلموها إليه فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبى النساء.
قال أبو الفرج الملطي في تاريخه مختصر الدول: إن هولاكو رحل عن حلب وأحاط بقلعة حارم واختار أن يسلموها إليه ويؤمنهم على أنفسهم، فلم يطمئنوا إلى قوله وإنما طلبوا منه رجلا مسلما يحلف لهم ويكون صاحب شريعة يطمأن إليه حيث يحلف لهم بالطلاق والمصحف أن لا يدنو لأحد منهم سوء وينزلوا ويسلموا إليه القلعة، فسألهم هولاكو: من تريدون يحلف لكم؟ قالوا: فخر الدين الوالي بقلعة حلب فإنه رجل صادق مؤمن خير، فتقدم هولاكو إليه فدخل إليهم وحلف لهم على جميع ما يريدون، فحينئذ فتحوا الأبواب ونزل الناس خلائق كثيرة وتسلم المغول القلعة. ثم إن هولاكو تقدم بقتل فخر الدين الوالي أولا ثم بقتل جميع من كان في القلعة من الصغار والكبار الرجال منهم والنساء حتى الطفل الصغير في المهد اه.
ثم ملك هولاكو بلاد الشام واحدة واحدة وهدم أسوارها وولي عليها. ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص موسى بن إبراهيم بن شيركوه، وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن المسلمين لما توجه الملك الناصر إلى جهة مصر ووصل إلى هولاكو بحلب فأكرمه وأعاد عليه حمص وكان قد أخذها منه الملك الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وستمائة وعوضه عنها تل باشر، فعادت إليه في هذه السنة واستقر ملكه بها، وقدم أيضا هولاكو وهو نازل على حلب محيي الدين بن الزكي من دمشق فأقبل عليه هولاكو وخلع عليه وولاه قضاء الشام، ولما عاد ابن الزكي المذكور إلى دمشق لبس خلعة هولاكو وكانت مذهبة وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو واستقر في القضاء.
ذكر ما كان من أمر الملك الناصر بعد أخذ حلب
قال أبو الفداء: ولما بلغ الملك الناصر بدمشق أخذ حلب رحل من دمشق بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، وأقام بنابلس أياما ورحل عنها وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكريا والأمير علي بن شجاع ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله،
وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي وانضم إليه، وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها وقتلوا مجير الدين والأمير علي بن شجاع، ولما بلغ الناصر ذلك رحل من غزة إلى العريش وسير القاضي برهان الدين بن الخضر رسولا إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة والعسكر ووصلوا إلى قطية فجرى بها فتنة بين التركمان والأكراد الشهرزورية ووقع نهب في الجفال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر فيقبض عليه فتأخر في قطية ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيرة منهم أخوه الظاهر غازي والملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل، ولما وصل إلى التيه تحير إلى أين يتوجه وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبردار اسمه حسين فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيرا، وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية، فأمرهم الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها، وأرسل كتبغا الملك الناصر إلى هولاكو فوصل إلى دمشق ثم إلى حماة ثم سار إلى حلب، فلما عاينها الملك الناصر وما قد حل بها وبأهلها تضاعف تألمه وأنشد:(2/234)
قال أبو الفداء: ولما بلغ الملك الناصر بدمشق أخذ حلب رحل من دمشق بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة، وأقام بنابلس أياما ورحل عنها وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكريا والأمير علي بن شجاع ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله،
وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي وانضم إليه، وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها وقتلوا مجير الدين والأمير علي بن شجاع، ولما بلغ الناصر ذلك رحل من غزة إلى العريش وسير القاضي برهان الدين بن الخضر رسولا إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والملك المنصور صاحب حماة والعسكر ووصلوا إلى قطية فجرى بها فتنة بين التركمان والأكراد الشهرزورية ووقع نهب في الجفال، وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر فيقبض عليه فتأخر في قطية ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيرة منهم أخوه الظاهر غازي والملك الصالح بن شيركوه صاحب حمص وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل، ولما وصل إلى التيه تحير إلى أين يتوجه وعزم على التوجه إلى الحجاز، وكان له طبردار اسمه حسين فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيرا، وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الملك الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه وأحضره إلى عجلون وكانت بعد عاصية، فأمرهم الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها، وأرسل كتبغا الملك الناصر إلى هولاكو فوصل إلى دمشق ثم إلى حماة ثم سار إلى حلب، فلما عاينها الملك الناصر وما قد حل بها وبأهلها تضاعف تألمه وأنشد:
يعز علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى
ثم سار إلى الأردو فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته.
قال أبو الفداء وابن خلدون: ثم إن هولاكو أمر عماد الدين القزويني (الذي ولاه على حلب) بالرحيل إلى بغداد وجعل مكانه بحلب رجلا أعجميا، ثم قفل هولاكو إلى العراق لاختلاف بين إخوته واستخلف على الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثني عشر ألفا من العساكر وتقدم إليه بمطالعة الأشرف موسى بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشام، واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها، فهون عليه الأمر وقللهم في عينه فجهز كتبغا ومن معه.(2/235)
استيلاء كتبغا نائب هولاكو على قلعة دمشق
قال ابن خلدون: ثم سار كتبغا إلى قلعة دمشق وهي ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيّم بمرج دمشق، وجاءه من ملوك الإفرنج بالساحل، ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله، وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه، وبعث كتبغا إلى المظفر قطز صاحب مصر بأن يقيم طاعة هولاكو فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشام.
ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا
قال ابن أياس في تاريخه لمصر المسمى (ببدائع الزهور): لما وصلت الأخبار إلى الديار المصرية بما فعله هولاكو في بغداد وحلب وباقي البلاد من القتل والنهب والتخريب اضطربت مصر وماجت بأهلها، ثم إن أميرا من أمراء هولاكو يقال له كتبغا بعد أن استولى على دمشق حضر (1) إلى الملك قطز (صاحب مصر) وصحبته أربعة من التتر ومعهم كتاب من عند هولاكو، وكان مضمونه: من ملك الملوك شرقا وغربا القان الأعظم، ونعت فيه نفسه بألفاظ معظمة وذكر في الكتاب شدة سطوته وكثرة عساكره وما جرى على البلاد منه ولا سيما ما فعله في بغداد وما جرى على أهلها منه، وأرسل يقول: يا أهل مصر أنتم قوم ضعاف فصونوا دماءكم مني ولا تقاتلوني أبدا فتندموا، وشرع يذكر في كتابه أشياء كثيرة من هذه الألفاظ الفاحشة، فلما أن سمع الملك المظفر قطز مضمون ما في كتاب هولاكو أحضر الأمراء واستشارهم فيما يكون من أمر هولاكو، فقال الأمراء:
تجمع العساكر من سائر البلاد ونخرج إليه ونقاتله أشد ما يكون من القتال.
ثم إن الملك المظفر نادى في القاهرة النفير العام إلى الغزو في سبيل الله، ثم إنه عرض العساكر وأرسل خلف عربان الشرقية والغربية فاجتمع من العساكر ما لا يحصى، ثم إنه أخذ في أسباب جمع الأموال فأخذ من أهل مصر والقاهرة على كل رأس من الناس من ذكر وأنثى دينارا واحدا، وأخذ من أجرة الأملاك والأوقاف شهرا واحدا، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلا، وأخذ من التركات الأهلية الثلث من المال، وأخذ على
__________
(1) الصواب أن كتبغا لم يتوجه بنفسه ولعل الرسول اسمه كتبغا أيضا.(2/236)
الغيطان والسواقي أجرة شهر، وأحدث من أبواب هذه المظالم أشياء كثيرة، فبلغ جملة ما جمعه من المال في هذه الحركة ستمائة ألف دينار، فأنفق على العسكر والعربان وبرز خيامه إلى الريدانية، فلما كان أواخر شهر شعبان سنة ثمان وخمسين وستمائة نزل السلطان الملك المظفر قطز من قلعة الجبل في موكب عظيم، فلما نزل بالريدانية أمر بتوسيط كتبغا فويز بك أمير هولاكو ومن كان معه من التتار، ثم رحل من الريدانية ونزل بمنزلة الصالحية وأقام بها إلى أن تكامل العسكر، ثم رحل من الصالحية وجد في السير إلى أن وصل إلى عين جالوت من أرض كنعان، فتلاقى هناك عسكر هولاكو وعسكر السلطان قطز فكانت بينهما ساعة تشيب فيها النواصي وقتل من الفريقين ما لا يحصى عدده، فكانت الكسرة على التتار فكسروهم وشتتوهم إلى بيسان، وكان ذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من السنة المذكورة، ثم وقعت بينهما وقعة ثانية على بيسان أعظم من الأولى، فقتل من التتر نحو النصف وغنم عسكر السلطان منهم غنيمة عظيمة من خيول وسلاح وغير ذلك.
وقال أبو الفداء: في سنة ثمان وخمسين وستمائة كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان على عين جالوت، وكان من حديثها أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه الملك الأفضل علي، وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام ومقدم التتر مسير العساكر الإسلامية إليه صحبة الملك المظفر قطز جمع من في الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين، وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل ابن أيوب صحبة كتبغا، وتقارب الجمعان في الغور والتقوا يوم الجمعة المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه، وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال وتبعتهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم منهم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية، وكان أيضا في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب الأمان من المظفر قطز فأمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو حمص ومضافاتها. وأما الملك السعيد صاحب
الصبيبة فإنه أمسك أسيرا وأحضر بين يدي الملك المظفر قطز فأمر به فضربت عنقه بسبب ما كان المذكور قد اعتمده من السفك والفسق.(2/237)
وقال أبو الفداء: في سنة ثمان وخمسين وستمائة كانت هزيمة التتر في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان على عين جالوت، وكان من حديثها أنه لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه الملك الأفضل علي، وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا وهو نائب هولاكو على الشام ومقدم التتر مسير العساكر الإسلامية إليه صحبة الملك المظفر قطز جمع من في الشام من التتر وسار إلى لقاء المسلمين، وكان الملك السعيد صاحب الصبيبة ابن الملك العزيز ابن الملك العادل ابن أيوب صحبة كتبغا، وتقارب الجمعان في الغور والتقوا يوم الجمعة المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه، وتعلق من سلم من التتر برؤوس الجبال وتبعتهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم منهم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في إثرهم فتبعتهم المسلمون إلى أطراف البلاد الشرقية، وكان أيضا في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب الأمان من المظفر قطز فأمنه ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو حمص ومضافاتها. وأما الملك السعيد صاحب
الصبيبة فإنه أمسك أسيرا وأحضر بين يدي الملك المظفر قطز فأمر به فضربت عنقه بسبب ما كان المذكور قد اعتمده من السفك والفسق.
ترجمة قائد التتار كتبغا وتفصيل قتله وزيادة بيان في الوقعة المتقدمة:
قال ابن الخطيب في الدر المنتخب: كتبغا نوين مقدم عساكر التتار يوم عين جالوت كان عظيما عندهم يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره، وكان بطلا شجاعا مقداما خبيرا بالحروب والحصارات وافتتاح الحصون والمعاقل، وكان هولاكو عظيم التتار يثق به ولا يخالفه فيما يشير به. ويحكى عنه العجايب في حروبه وحصاراته، فمنها أنه كان إذا فتح حصنا ساق أهله إلى الحصن الذي يليه فإن مكنهم من الدخول إليه ضيّقوا عليهم في المأكول والمشروب، وإن منعوهم من الدخول همّ بضرب أعناقهم فيمكنونهم، وإن أصروا على المنع ضرب أعناقهم، فإذا فتح الحصن الآخر فعل به كذلك إلى أن استكمل الحصون، وكان شيخا مسنا أدرك جنكز خان جد هولاكو. وكان عنده ميل إلى دين النصرانية لكنه لا يظهر الميل إليهم لتمسكه بما سنه جنكز خان لأن من أحكامها أن سائر الأديان عنده سواء، وهو الذي حصل المصاف بينه وبين السلطان الملك المظفر قطز بعين جالوت، وذلك أن هولاكو لما أخذ حلب قدم كتبغا على جيش كثير من التتار وجهزه إلى جهة دمشق، فجاء إلى دمشق وأخذها وعاث التتار في بلاد حوران ونابلس وغزة بالإفساد. ثم توجه كتبغا بعساكره إلى بعلبك وحاصر القلعة ونصب عليها عدة مجانيق في يوم واحد وجميعها تضرب في برج واحد، ففتحت المجانيق فيه طاقة كبيرة كالباب، فأذعن أهل القلعة بتسليمها فطلبوا الأمان فأمنهم كتبغا على أنفسهم وأن يخرج كل إنسان بما يستطيع أن يحمله من ماله، فخرجوا على هذه الصفة ووفى لهم ولم يرق لأحد محجمة دم، ثم بعد خروج الناس من القلعة دخلها كتبغا فرآها وصعد قلعتها ونهبها التتار ورحلوا.
ثم إن كتبغا نزل مرج برغوث ثم نزل البقاع، فلما كان بالبقاع بلغه أن السلطان الملك المظفر قطز خرج بعساكر الديار المصرية ومن انضوى إليه من عساكر الشام لقتال التتار ودفعم عن البلاد الإسلامية، فاستدعى كتبغا الملك الأشرف موسى صاحب حمص وكان قد ولاه هولاكو الشام بأسره وألبسه خلعة بذلك وقاضي القضاة محيي الدين بن الزكي
وكان هولاكو قد ولاه قضاء قضاة الشام من العريش إلى قنسرين وعظمه وألبسه الخلعة بذلك، فاستدعاهما كتبغا من الشام إلى البقاع واستشارهما في ذلك، فمنهم من أشار بعدم الملتقى والاندفاع بين يدي الملك المظفر إلى أن يجيئه مدد من هولاكو، ومنهم من أشار بغير ذلك فاقتضى رأي كتبغا الملتقى وتوجه على فوره على كره ممن أشار بالاندفاع لما أراد الله من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، فحصل التقاء العساكر على عين جالوت في يوم الجمعة خامس عشرين رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، فانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة فحمل الملك المظفر رحمه الله في طائفة عظيمة من أول البصاير (هكذا) فكسرهم كسرة شنيعة أتت على أكثر أعيانهم وأصيب كتبغا نوين وقتل، قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي على ما قيل ولم يعرفه، فولوا الأدبار ولا يلوون على شيء، واعتصم طائفة منهم بالجبل المجاور لمكان الوقعة فأحدقت بهم العساكر وصابروهم حتى أفنوهم قتلا، ونجا من نجا بحشاشته وأهل البلاد يتخطفونهم، ولما تمت الكسرة قيل للملك المظفر إن كتبغا قد هرب وكان قد أحضر ولده أسيرا فقال قطز: أبوك هرب، فقال: لا أبي ما يهرب أبصروه في القتلى، فأحضرت عدة رؤوس وعرضوها على ولده وهو يقول ما هو هذا إلى أن أحضروا رأسه فقال: هذا هو، وبكى، ثم قال للملك المظفر وهو بين يديه ما معناه: نم طيبا ما بقي لك عدو تخاف منه، هذا هو كان سعادة التتار به يهزمون الجيوش وبه يفتحون الحصون، وكذا كان لم يفلحوا بعده ولله الحمد والمنة. وكان مقتل كتبغا يوم المصاف الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة اه.(2/238)
ثم إن كتبغا نزل مرج برغوث ثم نزل البقاع، فلما كان بالبقاع بلغه أن السلطان الملك المظفر قطز خرج بعساكر الديار المصرية ومن انضوى إليه من عساكر الشام لقتال التتار ودفعم عن البلاد الإسلامية، فاستدعى كتبغا الملك الأشرف موسى صاحب حمص وكان قد ولاه هولاكو الشام بأسره وألبسه خلعة بذلك وقاضي القضاة محيي الدين بن الزكي
وكان هولاكو قد ولاه قضاء قضاة الشام من العريش إلى قنسرين وعظمه وألبسه الخلعة بذلك، فاستدعاهما كتبغا من الشام إلى البقاع واستشارهما في ذلك، فمنهم من أشار بعدم الملتقى والاندفاع بين يدي الملك المظفر إلى أن يجيئه مدد من هولاكو، ومنهم من أشار بغير ذلك فاقتضى رأي كتبغا الملتقى وتوجه على فوره على كره ممن أشار بالاندفاع لما أراد الله من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، فحصل التقاء العساكر على عين جالوت في يوم الجمعة خامس عشرين رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، فانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة فحمل الملك المظفر رحمه الله في طائفة عظيمة من أول البصاير (هكذا) فكسرهم كسرة شنيعة أتت على أكثر أعيانهم وأصيب كتبغا نوين وقتل، قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي على ما قيل ولم يعرفه، فولوا الأدبار ولا يلوون على شيء، واعتصم طائفة منهم بالجبل المجاور لمكان الوقعة فأحدقت بهم العساكر وصابروهم حتى أفنوهم قتلا، ونجا من نجا بحشاشته وأهل البلاد يتخطفونهم، ولما تمت الكسرة قيل للملك المظفر إن كتبغا قد هرب وكان قد أحضر ولده أسيرا فقال قطز: أبوك هرب، فقال: لا أبي ما يهرب أبصروه في القتلى، فأحضرت عدة رؤوس وعرضوها على ولده وهو يقول ما هو هذا إلى أن أحضروا رأسه فقال: هذا هو، وبكى، ثم قال للملك المظفر وهو بين يديه ما معناه: نم طيبا ما بقي لك عدو تخاف منه، هذا هو كان سعادة التتار به يهزمون الجيوش وبه يفتحون الحصون، وكذا كان لم يفلحوا بعده ولله الحمد والمنة. وكان مقتل كتبغا يوم المصاف الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة اه.
ذكر ما كان بعد انتهاء هذه الوقعة
قال أبو الفداء: ولما انقضى أمر المصاف أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة وأقره على حماة وبارين وأعاد إليه المعرة وكانت في أيدي الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سلمية منه وأعطاها أمير العرب. وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى
الشام. وفي يوم دخوله دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر، وكان من جملتهم حسين الكردي طبر دار الملك الناصر يوسف وهو الذي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر. (إلى أن قال): ثم جهز الملك المظفر قطز عسكرا إلى حلب لحفظها، ثم فوض نيابة السلطنة بدمشق إلى علم الدين سنجر الحلبي وبحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لولو صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ودخل مع العساكر إلى مصر وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لولو قد صار صاحب الموصل بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر. ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية اه.(2/239)
قال أبو الفداء: ولما انقضى أمر المصاف أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة وأقره على حماة وبارين وأعاد إليه المعرة وكانت في أيدي الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سلمية منه وأعطاها أمير العرب. وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه ولا عسكرا إلا هزموه، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى
الشام. وفي يوم دخوله دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر، وكان من جملتهم حسين الكردي طبر دار الملك الناصر يوسف وهو الذي أوقع الملك الناصر في أيدي التتر. (إلى أن قال): ثم جهز الملك المظفر قطز عسكرا إلى حلب لحفظها، ثم فوض نيابة السلطنة بدمشق إلى علم الدين سنجر الحلبي وبحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لولو صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ودخل مع العساكر إلى مصر وصار مع المظفر قطز، ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن أخاه الملك الصالح بن لولو قد صار صاحب الموصل بعد أبيه، فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر. ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية اه.
ذكر القبض على الملك السعيد علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب حلب وعود التتر إليها
قال القطب اليونيني في تاريخه ذيل مرآة الزمان: قد أشرنا إلى سوء سيرة الملك السعيد مع الجند والرعية فأجمع رأي الأمراء بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي. فبيناهم على ذلك وردت عليهم بطاقة والي البيرة يخبر أن التتر قد قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر، وكان التتر قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها، فجرد الملك السعيد عسكرا إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له: هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو، ونخاف أن يحصل القتال بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سببا لخروجنا منها، فلم يقبل فخرجوا من عنده وهم مستاؤون، وسار العسكر المسير إلى البيرة من حلب، فلما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتر وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل. وورد الخبر إلى حلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل من الناس، وندم الملك السعيد على مخالفته الأمراء فيما أشاروا به عليه وقوي بذلك غضبهم عليه وقاطعوه وباينوه. ووقعت بطاقة من البيرة فيها أن طائفة من التتر توجهوا إلى جهة منبج وهم على عزم كبس العسكر بحلب فانثنى عزم الأمراء عن القبض عليه لئلا يطمع العدو فيهم
وأخذ يتذلل للأمراء ويعتذر إليهم من مخالفتهم وطلب أن يشيروا عليه بما يعتمدون، فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة التتر وأن يضرب دهليزه ببابلّا وهي شرقي حلب وأن يكون العسكر حوله وأن يجمع إليه العرب والتركمان ويكون على أهبة لقائهم، فأجابهم إلى ذلك وضرب دهليزه ببابلّا، ونزل العسكر حوله وأخذ في تجهيز عصيه وهو أحد الأمراء بحلب إلى منبج للكشف واستطلاع أخبار العدو، فوقع التتر عليه وقاتلوه فقتلوه، وورد الخبر بذلك إلى حلب فاشتد خوف الملك السعيد من غائلة هذا الأمر. وبعد يومين وصل الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي وكان قطز رحمه الله (1) قد رتبه نائبا باللاذقية وجبلة فقصد خوشداشيته بحلب، فلما قرب منها ركبت العزيزية والناصرية فالتقوه فأخبرهم بأن الملك المظفر قتل وأن ركن الدين البندقداري ملك الديار المصرية وتلقب بالملك الظاهر وأن الأمير علم الدين سنجر الحلبي قد خطب له بالسلطنة في دمشق وصار مالكا لها ولبلادها، قال: ونحن نعمل أيضا مثل عمل أولئك ونقيم واحدا من الجماعة مقدما ونقبض على هذا المدبر يعني ابن صاحب الموصل ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا، فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أن حال وصولهم إلى المخيم يمضي إليه الأمراء حسام الدين الجوكندار وسيف الدين بكتمر وبدر الدين أزدمر الدوادار، وكان الملك السعيد نازلا ببابلّا في دار القاضي بهاء الدين ابن الأستاذ قاضي حلب وهو فوق سطحها والعساكر حوله، وكانت الإشارة بين هؤلاء الأمراء وبين بقية الأمراء أنهم متى شاهدوا هؤلاء المذكورين معه على السطح يشرعون في نهب وطاقه والذين عنده يقبضون عليه، فلما حضر المذكورون بابه وطلبوا الإذن للدخول عليه أذن لهم، فلما حضروا عنده على السطح وأعين الباقين من الخوشداشية ممتدة إليهم شرعوا في نهب وطاقه وخيله وأصحابه، فسمع الضجة فاعتقد أن التتر قد كبست العسكر، ثم شاهد نهب العزيزية والناصرية لوطاقه، ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال، ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلا فتهددوه وقالوا: أين الأموال التي حصلتها، وطلبوا قتله والمال، (2) فقام إلى ساحة باب الدار المذكورة وحفر تحت أشجار نارنج هناك وأخرج أموالا كثيرة ذكر أنها كانت تزيد على أربعين ألف دينار، ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم ورسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى شغر(2/240)
قال القطب اليونيني في تاريخه ذيل مرآة الزمان: قد أشرنا إلى سوء سيرة الملك السعيد مع الجند والرعية فأجمع رأي الأمراء بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي. فبيناهم على ذلك وردت عليهم بطاقة والي البيرة يخبر أن التتر قد قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر، وكان التتر قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها، فجرد الملك السعيد عسكرا إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له: هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو، ونخاف أن يحصل القتال بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سببا لخروجنا منها، فلم يقبل فخرجوا من عنده وهم مستاؤون، وسار العسكر المسير إلى البيرة من حلب، فلما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتر وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل. وورد الخبر إلى حلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل من الناس، وندم الملك السعيد على مخالفته الأمراء فيما أشاروا به عليه وقوي بذلك غضبهم عليه وقاطعوه وباينوه. ووقعت بطاقة من البيرة فيها أن طائفة من التتر توجهوا إلى جهة منبج وهم على عزم كبس العسكر بحلب فانثنى عزم الأمراء عن القبض عليه لئلا يطمع العدو فيهم
وأخذ يتذلل للأمراء ويعتذر إليهم من مخالفتهم وطلب أن يشيروا عليه بما يعتمدون، فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة التتر وأن يضرب دهليزه ببابلّا وهي شرقي حلب وأن يكون العسكر حوله وأن يجمع إليه العرب والتركمان ويكون على أهبة لقائهم، فأجابهم إلى ذلك وضرب دهليزه ببابلّا، ونزل العسكر حوله وأخذ في تجهيز عصيه وهو أحد الأمراء بحلب إلى منبج للكشف واستطلاع أخبار العدو، فوقع التتر عليه وقاتلوه فقتلوه، وورد الخبر بذلك إلى حلب فاشتد خوف الملك السعيد من غائلة هذا الأمر. وبعد يومين وصل الأمير بدر الدين أزدمر الدوادار العزيزي وكان قطز رحمه الله (1) قد رتبه نائبا باللاذقية وجبلة فقصد خوشداشيته بحلب، فلما قرب منها ركبت العزيزية والناصرية فالتقوه فأخبرهم بأن الملك المظفر قتل وأن ركن الدين البندقداري ملك الديار المصرية وتلقب بالملك الظاهر وأن الأمير علم الدين سنجر الحلبي قد خطب له بالسلطنة في دمشق وصار مالكا لها ولبلادها، قال: ونحن نعمل أيضا مثل عمل أولئك ونقيم واحدا من الجماعة مقدما ونقبض على هذا المدبر يعني ابن صاحب الموصل ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا، فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أن حال وصولهم إلى المخيم يمضي إليه الأمراء حسام الدين الجوكندار وسيف الدين بكتمر وبدر الدين أزدمر الدوادار، وكان الملك السعيد نازلا ببابلّا في دار القاضي بهاء الدين ابن الأستاذ قاضي حلب وهو فوق سطحها والعساكر حوله، وكانت الإشارة بين هؤلاء الأمراء وبين بقية الأمراء أنهم متى شاهدوا هؤلاء المذكورين معه على السطح يشرعون في نهب وطاقه والذين عنده يقبضون عليه، فلما حضر المذكورون بابه وطلبوا الإذن للدخول عليه أذن لهم، فلما حضروا عنده على السطح وأعين الباقين من الخوشداشية ممتدة إليهم شرعوا في نهب وطاقه وخيله وأصحابه، فسمع الضجة فاعتقد أن التتر قد كبست العسكر، ثم شاهد نهب العزيزية والناصرية لوطاقه، ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال، ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلا فتهددوه وقالوا: أين الأموال التي حصلتها، وطلبوا قتله والمال، (2) فقام إلى ساحة باب الدار المذكورة وحفر تحت أشجار نارنج هناك وأخرج أموالا كثيرة ذكر أنها كانت تزيد على أربعين ألف دينار، ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم ورسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى شغر
__________
(1) قطز قتل قبل هذه المدة بقليل قتله الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وتسلطن مكانه.
(2) لعل الصواب: فطلبوا قتله أو المال.(2/241)
وبكاس معتقلا وبقي في الاعتقال أياما، ثم أخرجوه بعد أن اندفعوا بين يدي التتر كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال القطب اليونيني وأبو الفداء: وبعد أيام قلائل دهم التتر حلب في أواخر هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة وملكوها وأخرجوا أهلها بعائلاتهم وأولادهم إلى قرنبيا، واسمها مقر الأنبياء فسماها العامة قرنبيا، ولما اجتمع المسلمون بقرنبيا أحاط بهم التتر في ذلك المكان ووضعوا فيهم السيف فأفنوا غالبهم وسلم القليل منهم، فدخلوا إلى حلب في أسوأ حال، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة فضيفهم الملك المنصور محمد صاحب حماة وهو مستشعر خائف من غدرهم، ثم رحلوا من حماة إلى حمص، فلما قارب التتر حماة خرج منها الملك المنصور صاحبها وصحبته أخوه الملك الأفضل علي والأمير مبارز الدين وباقي العسكر واجتمعوا بحمص مع باقي العساكر إلى أن خرجت هذه السنة.
قال ابن خطيب الناصرية في الدر المنتخب في ترجمة الملك السعيد علي بن بدر الدين لؤلؤ: لما تقدم التتار إلى جهة حماة وقربوا منها رحل الملك المنصور والجوكندار بعسكرهما إلى حمص ووصلت التتار إلى حماة ونازلوها فأغلقت أبوابها، فطلبوا منهم فتح الأبواب وأنهم يؤمنونهم كالمرة الأولى فلم يجيبوهم، ولم يكن مع التتار خسرو شاه ولم يكن يثقون إلا إليه (1)، واندفعوا عن حماة طالبين لقاء العسكر، وأجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، ثم وصل التتار إلى حمص وبها الأمير حسام الدين الجوكندار وصاحب حماة فاقتتلوا فانكسر التتار كسرة شديدة وكان مقدمهم بيدرا وذلك في أوائل المحرم سنة تسع وخمسين وستمائة اه.
سنة 659
قال القطب اليونيني دخلت السنة التاسعة والخمسون وستمائة والمستولى على حلب وأعمالها الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزي وهو في طاعة الملك الظاهر.
__________
(1) انظر سبب ثقتهم به في أبي الفدا في حوادث سنة 658.(2/242)
ذكر كسرة التتر على حمص والغلاء في حلب
قال أبو الفداء: في يوم الجمعة خامس المحرم من هذه السنة كانت كسرة التتر على حمص، وكان من حديثها أن التتر لما قدموا في آخر السنة الماضية إلى الشام اندفعت العزيزية والناصرية من بين أيديهم وكذلك الملك المنصور صاحب حماة ووصلوا إلى حمص واجتمع بهم الملك الأشرف صاحب حمص ووقع اتفاقهم على ملتقى التتر، وسارت التتر إليهم والتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكورة، وكان التتر أكثر من المسلمين بكثير ففتح الله تعالى على المسلمين بالنصر وولى التتر منهزمين وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون منهم كيف شاؤوا، ووصل الملك المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم وكانوا نازلين قرب سلمية واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها الملك المنصور وأخوه الملك الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوما واحدا ثم رحلوا عن حماة، وأراد الملك المنصور بعد رحيل التتر المسير إلى دمشق فمنعه العامة من ذلك حتى استوثقوا منه أنه يعود إليهم عن قريب، فسافر هو وأخوه الملك الأفضل في جماعة قليلة وبقي الطواشي مرشد في باقي العسكر بحماة، ووصل المنصور بمن معه إلى دمشق، وكذلك توجه الملك الأشرف صاحب حمص إلى دمشق.
وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي فتوجه أيضا بمن في صحبته ولم يدخل دمشق ونزل بالمرج، ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق في دورهما والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالسلطان الملك المجاهد وقد اضطرب أمره، ولذلك أقام صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق ولم يدخلا في طاعته لضعفه وتلاشي أمره. وأما التتر فساروا عن حماة إلى أفامية وكان قد وصل إلى أفامية سيف الدين الدنبلي الأشرفي ومعه جماعة فأقام بقلعة أفامية وبقي يغير على التتر، فرحلوا عن أفامية وتوجهوا إلى الشرق اه.
وقال القطب اليونيني في حوادث هذه السنة: وفيها في أوائل المحرم كانت كسرة التتار على حمص وكانوا في ستة آلاف فارس، فلما وصلوا حمص وجدوا عليها الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ومن معه والملك المنصور صاحب حماة والملك الأشرف صاحب حمص في ألف وأربعمائة فارس، فحملوا على التتار حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأتى القتل على معظمهم، وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد رضي الله
عنه، ولما عاد فلّ التتار إلى حلب أخرجوا من فيها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من اختفى خوفا على نفسه، ثم نادوا من كان من أهل حلب فليعتزل، فاختلط على الناس أمرهم ولم يعلموا المراد، فاعتزل بعض الغرباء مع أهل حلب وبعض أهل حلب مع الغرباء، فلما تميز الفريقان أخذوا الغرباء وساروا بهم إلى ناحية بابلّا فضربوا رقابهم، وكان فيهم من أهل حلب جماعة من أقارب الملك الناصر رحمه الله، ثم عدوا من بقي من أهل حلب وسلموا كل طائفة منهم إلى رجل من الأكابر ضمنوهم له، ثم أذنوا لهم في العود إلى البلد وأحاطوا بها ولم يمكنوا أحدا من الخروج منها ولا من الدخول إليها أربعة أشهر، فغلت الأسعار وبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهما ورطل السمك ثلاثين درهما ورطل اللبن خمسة عشر درهما ورطل الشيرج سبعين درهما ورطل الأرز عشرين درهما ورطل حب الرمان ثلاثين درهما ورطل السكر خمسين درهما والحلوى كذلك ورطل العسل ثلاثين درهما ورطل الشراب ستين درهما والجدي الرضيع أربعين درهما والدجاجة خمسة دراهم والبيضة درهما ونصفا والبصلة نصف درهم والخسة نصف درهم وباقة البصل درهما والبطيخة أربعين درهما والتفاحة خمسة دراهم، حتى أكلت الميتة من شدة الغلاء اه.(2/243)
وقال القطب اليونيني في حوادث هذه السنة: وفيها في أوائل المحرم كانت كسرة التتار على حمص وكانوا في ستة آلاف فارس، فلما وصلوا حمص وجدوا عليها الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزي ومن معه والملك المنصور صاحب حماة والملك الأشرف صاحب حمص في ألف وأربعمائة فارس، فحملوا على التتار حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأتى القتل على معظمهم، وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد رضي الله
عنه، ولما عاد فلّ التتار إلى حلب أخرجوا من فيها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من اختفى خوفا على نفسه، ثم نادوا من كان من أهل حلب فليعتزل، فاختلط على الناس أمرهم ولم يعلموا المراد، فاعتزل بعض الغرباء مع أهل حلب وبعض أهل حلب مع الغرباء، فلما تميز الفريقان أخذوا الغرباء وساروا بهم إلى ناحية بابلّا فضربوا رقابهم، وكان فيهم من أهل حلب جماعة من أقارب الملك الناصر رحمه الله، ثم عدوا من بقي من أهل حلب وسلموا كل طائفة منهم إلى رجل من الأكابر ضمنوهم له، ثم أذنوا لهم في العود إلى البلد وأحاطوا بها ولم يمكنوا أحدا من الخروج منها ولا من الدخول إليها أربعة أشهر، فغلت الأسعار وبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهما ورطل السمك ثلاثين درهما ورطل اللبن خمسة عشر درهما ورطل الشيرج سبعين درهما ورطل الأرز عشرين درهما ورطل حب الرمان ثلاثين درهما ورطل السكر خمسين درهما والحلوى كذلك ورطل العسل ثلاثين درهما ورطل الشراب ستين درهما والجدي الرضيع أربعين درهما والدجاجة خمسة دراهم والبيضة درهما ونصفا والبصلة نصف درهم والخسة نصف درهم وباقة البصل درهما والبطيخة أربعين درهما والتفاحة خمسة دراهم، حتى أكلت الميتة من شدة الغلاء اه.
ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة جهز الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر عسكرا مع علاء الدين أيدكين البندقداري لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر واستولوا عليها وقبضوا على سنجر الحلبي وحمل إلى الديار المصرية، فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الملك الظاهر بيبرس وأقيمت له الخطبة بها وبغيرها من الشام مثل حماة وحلب وحمص وغيرها واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها اه. باختصار.
نقل رأس يحيى عليه السلام من القلعة إلى الجامع الأعظم
قدمنا في حوادث سنة 435خبر نقل رأس يحيى عليه السلام من بعلبك إلى حلب وأنه دفن في مقام إبراهيم عليه السلام الذي في القلعة في جرن من الرخام الأبيض.
قال في الدر المنتخب: ذكر الكمال بن العديم في تاريخه أن الملك العادل نور الدين ابن عماد الدين زنكي جدد عمارة المقام، وفي سنة تسع وستمائة في أيام الملك الظاهر
غياث الدين غازي احترق بنار وقعت فيه كان به من الخيم والسلاح وآلات الحرب شيء كثير فاحترق الجميع ولم يسلم من الحريق إلا الجرن المذكور ودفع الله سبحانه عنه النار.(2/244)
قال في الدر المنتخب: ذكر الكمال بن العديم في تاريخه أن الملك العادل نور الدين ابن عماد الدين زنكي جدد عمارة المقام، وفي سنة تسع وستمائة في أيام الملك الظاهر
غياث الدين غازي احترق بنار وقعت فيه كان به من الخيم والسلاح وآلات الحرب شيء كثير فاحترق الجميع ولم يسلم من الحريق إلا الجرن المذكور ودفع الله سبحانه عنه النار.
وهذا مما يدل على أن الرأس الذي وضع فيه رأس يحيى عليه السلام لأن النار لم تصل إليه وحمي منها. (ثم قال): ولما تسلم التتر قلعة حلب صلحا سنة ثمان وخمسين وستمائة في تاسع ربيع الأول أخربوها وأخربوا الجامع المذكور مع أماكن أخر، ثم لما عادوا ثانيا وجدوا أهل حلب قد بنوا بالقلعة برجا للحمام فأنكروا عليهم بناءه وكملوا هدم القلعة حتى لم يبقوا لها أثرا، ولما اشتملت عليه من أثر وأحرقوا المقامين (الفوقاني والتحتاني) حريقا لا يمكن جبره وذلك في أحد الربيعين من سنة تسع وخمسين وستمائة، ولما أحرق المقام الذي هو الجامع عمد سيف الدولة أبو بكر بن إيليا الشحنة بالقلعة المذكورة والناظر على الذخائر وشرف الدين أبو حامد بن النجيب الدمشقي الأصل الحلبي المولد إلى رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام فنقلاه من القلعة إلى المسجد بحلب ودفناه غربي المنبر وقيل شرقيه (الصحيح الأول) وعمل له مقصورة وهو يزار اه.
ذكر نزوح التتر عن حلب ونيابة فخر الدين بها ثم تغلب آقوش البرلي عليها
قال القطب اليونيني: كان الملك الظاهر جهز الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي والأمير حسام الدين لاجين العينتابي في عسكر لترحيل التتار عن حلب، فلما وصلوا غزة كتب الفرنج من عكا إلى التتار يخبرونهم، فرحلوا عنها في أوائل جمادى الأولى، فتغلب عليها جماعة من أحداثها وشطارها منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر وعلي بن الأنصاري وأبو الفتح ويوسف بن معاني فقتلوا ونهبوا ونالوا أغراضهم، ثم وصل إليها فخر الدين الحمصي والعينتابي بمن معهما من العسكر فخرجوا هاربين، ولما دخلها العينتابي صادر أهلها وعذبهم حتى استخرج منهم ألف ألف وستمائة ألف دراهم بيروتية، وأقام بها إلى أن وصل إليها الأمير شمس الدين اقوش البرلي في جمادى الآخرى فخرج لتلقيه ظنا منه أنه جاء نجدة له، وكان قد خرج من دمشق هاربا لما استشعر من الملك الظاهر، فلما دخلها تغلب عليها فخافه فخر الدين الحمصي فأعمل الحيلة في الخلاص منه بأن طلب السفر إلى الملك الظاهر ليستميله إليه فمكنه من الخروج، فلما توجه أخذ البرلي في
مصادرة من كان في صحبة الحمصي وأبقى على العينتابي وأمر وأقطع، ووفد عليه زامل بن علي بن حذيفة في أصحابه ففرق عليهم تسعة ألف مكوكا (1) مما احتاط عليه من الغلال التي كانت مطمورة بحلب وفرق في التركمان أربعة ألف مكوكا (2) أخرى اه.(2/245)
قال القطب اليونيني: كان الملك الظاهر جهز الأمير فخر الدين الطنبا الحمصي والأمير حسام الدين لاجين العينتابي في عسكر لترحيل التتار عن حلب، فلما وصلوا غزة كتب الفرنج من عكا إلى التتار يخبرونهم، فرحلوا عنها في أوائل جمادى الأولى، فتغلب عليها جماعة من أحداثها وشطارها منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر وعلي بن الأنصاري وأبو الفتح ويوسف بن معاني فقتلوا ونهبوا ونالوا أغراضهم، ثم وصل إليها فخر الدين الحمصي والعينتابي بمن معهما من العسكر فخرجوا هاربين، ولما دخلها العينتابي صادر أهلها وعذبهم حتى استخرج منهم ألف ألف وستمائة ألف دراهم بيروتية، وأقام بها إلى أن وصل إليها الأمير شمس الدين اقوش البرلي في جمادى الآخرى فخرج لتلقيه ظنا منه أنه جاء نجدة له، وكان قد خرج من دمشق هاربا لما استشعر من الملك الظاهر، فلما دخلها تغلب عليها فخافه فخر الدين الحمصي فأعمل الحيلة في الخلاص منه بأن طلب السفر إلى الملك الظاهر ليستميله إليه فمكنه من الخروج، فلما توجه أخذ البرلي في
مصادرة من كان في صحبة الحمصي وأبقى على العينتابي وأمر وأقطع، ووفد عليه زامل بن علي بن حذيفة في أصحابه ففرق عليهم تسعة ألف مكوكا (1) مما احتاط عليه من الغلال التي كانت مطمورة بحلب وفرق في التركمان أربعة ألف مكوكا (2) أخرى اه.
ذكر إقامة خليفة عباسي في مصر وخليفة عباسي في حلب
قال الجلال السيوطي في تاريخ الخلفاء: لما أخذت التتار بغداد هرب المستنصر بالله أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد وصار إلى عرب العراق، فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس وفد عليه في رجب ومعه عشرة من بني مهارش، فركب السلطان للقائه ومعه القضاة والدولة فشق القاهرة ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم بويع بالخلافة، فأول من بايعه السلطان ثم قاضي القضاة تاج الدين ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الكبار على مراتبهم، وذلك في ثالث عشر رجب، ونقش اسمه على السكة وخطب له ولقب بلقب أخيه، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة وصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس. وبعد أن ذكر الاحتفال الذي عمل له وما رتبه له السلطان قال: وأما صاحب حلب الأمير شمس الدين آقوش فإنه أقام بحلب خليفة ولقبه الحاكم بأمر الله وخطب له ونقش اسمه على الدراهم.
ثم إن المستنصر هذا عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان يشيعه إلى أن دخلوا دمشق، ثم جهز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل وغرم عليه وعليهم من الذهب ألف ألف دينار وستة وستين ألف درهم، فسار الخليفة ومعه ملوك الشرق وصاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة، فاجتمع به الخليفة (الحلبي) (3) الحاكم ودان له ودخل تحت طاعته، ثم سار ففتح الحديثة ثم هيت فجاءه عسكر من التتار فتصافوا له فقتل من المسلمين جماعة، وعدم الخليفة المستنصر فقيل: قتل وهو الظاهر وقيل: سلم وهرب فأضمرته البلاد، وذلك في الثالث من المحرم سنة ستين، فكانت خلافته ستة أشهر. وتولى
__________
(1) هكذا ولعله تسعة آلاف مكوك.
(2) هكذا ولعله أربعة آلاف مكوك.
(3) إضافة من تاريخ الخلفاء ليست في الأصل(2/246)
بعده بسنة الحاكم الذي كان بويع بحلب في حياته وهو الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن القبّي ابن علي بن أبي بكر بن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر بالله، كان اختفى وقت أخذ بغداد ونجا، ثم خرج منها وفي صحبته جماعة فقصد حسين بن فلاح أمير بني خفاجة فأقام عنده مدة، ثم توصل مع العرب إلى دمشق وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا مدة، فطالع به الناصر صاحب دمشق فأرسل يطلبه فبغته مجيء التتار، فلما جاء الملك المظفر دمشق سيّر في طلبه الأمير قلج البغدادي فاجتمع به وبايعه بالخلافة وتوجه في خدمته جماعة من أمراء العرب فافتتح الحاكم عانة بهم والحديثة وهيت والأنبار، وصافّ (1) التتار وانتصر عليهم، ثم كاتبه علاء الدين طيبرس نائب دمشق يومئذ والملك الظاهر يستدعيه، فقدم دمشق في صفر فبعثه إلى السلطان، وكان المستنصر بالله قد سبقه بثلاثة أيام إلى القاهرة، فما رأى أن يدخل إليها خوفا من أن يمسك، فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها منهم عبد الحليم بن تيمية وجمع خلقا كثيرا وقصد عانة، فلما رجع المستنصر وافاه بعانة فانقاد الحاكم له ودخل تحت طاعته، فلما عدم المستنصر في الوقعة المذكورة في ترجمته قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى بن مهنا فكاتب الملك الظاهر بيبرس فيه فطلبه فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعة، فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة وامتدت أيامه، وكانت خلافته نيفا وأربعين سنة، وأنزله الملك الظاهر بالبرج الكبير بالقلعة وخطب بجامع القلعة مرات.
قال الشيخ قطب الدين: في يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى وستين جلس السلطان مجلسا عاما وحضر الحاكم بأمر الله راكبا إلى الإيوان بقلعة الجبل وجلس مع السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه، فأقبل عليه السلطان وبايعه بإمرة المؤمنين، ثم أقبل هو على السلطان وقلده الأمور، ثم بايعه الناس على طبقاتهم، فلما كان من الغد يوم الجمعة خطب خطبة ذكر فيها الجهاد والإمامة وتعرض إلى ما جرى من هتك حرمة الخلافة، ثم قال: وهذا السلطان الملك الظاهر قد قام بنصرة الإمامة عند قلة الأنصار وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار. وأول الخطبة: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا وظهيرا. ثم كتب بدعوته إلى الآفاق اه.
__________
(1) في الأصل وصافى، والصواب ما أثبتناه نقلا عن تاريخ الخلفاء.(2/247)
ذكر رضاء الملك الظاهر على علم الدين سنجر الحلبي وتوليته على حلب وطرد آقوش البرلي منها
قدمنا أن آقوش البرلي عصى على الملك الظاهر بيبرس وقدم إلى حلب وتغلب عليها وأن علاء الدين أيدكين البندقدار استقر بدمشق. قال أبو الفدا: لما استقر بها جهز عسكرا صحبة فخر الدين الحمصي للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها، فلما قدم شمس الدين آقوش البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي فقال له البرلي: نحن في طاعة الملك الظاهر فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف ونكون تحت طاعته من غير أن يكلفني وطء بساطه، فسار الحمصي إلى جهة مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار عن حلب تمكن البرلي واحتاط على ما في حلب من الحواصل واستبد بالأمر وجمع العرب والتركمان واستعد لقتال عسكر مصر، ولما توجه فخر الدين الحمصي لذلك التقى في الرمل جمال الدين المحمدي الصالحي متوجها بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي وإمساكه، فأرسل الحمصي عرف الملك الظاهر بما طلبه البرلى، فأرسل الملك الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي المذكور ويأمره بالانضمام إلى المحمدي والمسير إلى قتال البرلي، فعاد من وقته، ثم رضي الملك الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر ثم أردفه بعز الدين الدمياطي في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي وساروا إلى حلب وطردوه عنها وانقضت السنة والأمر على ذلك اه.
وقال القطب اليونيني: لما خرج فخر الدين الحمصي من حلب كما قدمنا ذكره وبلغ الرمل كتب إليه الملك الظاهر يأمره بالعود، وكان البرلي لما تغلب على حلب خرج منها في حشد من التركمان والعربان لشن الغارة على عيسى بن مهنا، وكان على حمص، فلما مر البرلي بحماة طلب من صاحبها موافقته فأبى وأغلق دونه أبواب البلد، فأحرق غلالا للعشر
بالباب الغربي وعاث في نواحيها وأفسد، وذلك في نصف رجب، وبلغ الملك الظاهر فولى علم الدين سنجر الحلبي نيابة السلطنة بحلب وأقطعه ما يقوم بوظائف المملكة ورتب معه علاء الدين بن نصر الله مدبر الأمور وبعث معه عسكرا لمحاربة البرلي، وقدم عليه الأمير جمال الدين آقوش المحمدي فسار الحلبي ومن معه في شعبان، فلما قرب من حلب والبرلي على تل السلطان رحل بمن معه وقصد الرقة ودخل الحلبي حلب وسار المحمدي وتبع البرلي فأدركه بالرقة، فركب ودخل على المحمدي في خيمته وقال: أنا مملوك السلطان وما هربت إلا خوفا منه، وقد رغبت إليك في أن تستعطفه بحيث يبقي علي حران، فإني طردت نواب التتر عنها ووليت فيها، ومتى لم يسمح بالإبقاء علي لم أجد بدا من التجائي إلى التتار.(2/248)
وقال القطب اليونيني: لما خرج فخر الدين الحمصي من حلب كما قدمنا ذكره وبلغ الرمل كتب إليه الملك الظاهر يأمره بالعود، وكان البرلي لما تغلب على حلب خرج منها في حشد من التركمان والعربان لشن الغارة على عيسى بن مهنا، وكان على حمص، فلما مر البرلي بحماة طلب من صاحبها موافقته فأبى وأغلق دونه أبواب البلد، فأحرق غلالا للعشر
بالباب الغربي وعاث في نواحيها وأفسد، وذلك في نصف رجب، وبلغ الملك الظاهر فولى علم الدين سنجر الحلبي نيابة السلطنة بحلب وأقطعه ما يقوم بوظائف المملكة ورتب معه علاء الدين بن نصر الله مدبر الأمور وبعث معه عسكرا لمحاربة البرلي، وقدم عليه الأمير جمال الدين آقوش المحمدي فسار الحلبي ومن معه في شعبان، فلما قرب من حلب والبرلي على تل السلطان رحل بمن معه وقصد الرقة ودخل الحلبي حلب وسار المحمدي وتبع البرلي فأدركه بالرقة، فركب ودخل على المحمدي في خيمته وقال: أنا مملوك السلطان وما هربت إلا خوفا منه، وقد رغبت إليك في أن تستعطفه بحيث يبقي علي حران، فإني طردت نواب التتر عنها ووليت فيها، ومتى لم يسمح بالإبقاء علي لم أجد بدا من التجائي إلى التتار.
فتكفل له المحمدي بما التمسه ورحل عائدا وعبر البرلي إلى حران وكان ذلك خديعة منه.
ذكر أخذ آقوش البرلي البيرة وعوده إلى حلب وأخذها
قال القطب اليونيني: كان الأمير علم الدين سنجر الحلبي قد كاتب الأسد حاجب حلب الجوكندار واليها على أن يسلمها إليه (هكذا والقصد أنه كاتب صاحب البيرة ليسلمها إليه) وكان ولاه بها علاء الدين ابن صاحب الموصل، فطلب ذهبا تقرر وعينه، فأجابه الحلبي وسيّر إليه المال ولم يسلمها، ثم استدعى البرلي من حران فسار إليه وتسلمها، ثم قصد حلب، فلما كان بتل باشر خرج عن طاعة الحلبي أكثر من كان معه ولحقوا بالبرلي، فخرج الحلبي من حلب ليلا، فلما علم البرلي بذلك بعث إليها علم الدين طقصبا الناصري وسيف الدين كيكلدي الحلبي فتسلماها، ثم دخلها في أوائل شهر رمضان وبعث طائفة ممن كان معه في إثر الحلبي فلم يدركوه اه.
ذكر مقتل الملك الناصر يوسف صاحب حلب والشام وترجمته
قال أبو الفداء: في هذه السنة ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وعقد عزاه بجامع دمشق في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، وصورة الحال في
قتله أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره وعده برده إلى ملكه وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت وقتل كتبغا ثم كسرة عسكره على حمص ثانيا غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت إن عسكر الشام في طاعتك فغدرت بي وقتلت المغل، فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفى هولاكو لعنه الله ناصجا وضربه به فقال الملك الناصر يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه بفردة ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر والملك الصالح ابن صاحب حمص والجماعة الذين كانوا معهم واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر لأنه كان صغيرا فبقي عندهم مدة طويلة وأحسنوا إليه ثم مات.(2/249)
قال أبو الفداء: في هذه السنة ورد الخبر بمقتل الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وعقد عزاه بجامع دمشق في سابع جمادى الأولى من هذه السنة، وصورة الحال في
قتله أنه لما وصل إلى هولاكو على ما قدمنا ذكره وعده برده إلى ملكه وأقام عند هولاكو مدة، فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره بعين جالوت وقتل كتبغا ثم كسرة عسكره على حمص ثانيا غضب من ذلك وأحضر الملك الناصر المذكور وأخاه الملك الظاهر غازي وقال له: أنت قلت إن عسكر الشام في طاعتك فغدرت بي وقتلت المغل، فقال الملك الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف، ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفى هولاكو لعنه الله ناصجا وضربه به فقال الملك الناصر يا خوند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت، ثم رماه بفردة ثانية فقتله، ثم أمر بضرب رقاب الباقين فقتلوا الظاهر أخا الملك الناصر والملك الصالح ابن صاحب حمص والجماعة الذين كانوا معهم واستبقوا الملك العزيز ابن الملك الناصر لأنه كان صغيرا فبقي عندهم مدة طويلة وأحسنوا إليه ثم مات.
ترجمته:
قال القطب اليونيني في ترجمته: ولد الملك الناصر سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب بقلعتها، ولما ولد زيّن البلد ولبس العسكر أحسن زي وأظهر من السرور والابتهاج بمولده ما جاوز الحد. وكان عمره لما أفضى إليه الملك بعد وفاة والده نحو سبع سنين، وقام بتدبير مملكته الأمير شمس الدين لولو الأرمني والأمير عز الدين عمر بن مجلي ووزير الدولة جمال الدين القفطي ويحضر معهم جمال الدولة إقبال الخاتوني في المشورة، فإذا اتفق رأيهم على شيء دخل جمال الدولة إلى الصاحبة ضيفة خاتون بنت الملك العادل والدة الملك العزيز وعرفها ما اتفق عليه الجماعة، فكانت الأمور منوطة بها. وفي سنة أربعين توفيت الصاحبة ضيفة خاتون فاستقل ابن ابنها الملك الملك ناصر بالسلطنة وأشهد على نفسه بالبلوغ وله نحو ثلاث عشرة سنة وأمر ونهى وقطع ووصل وجلس في دار العدل والإشارة للأمير شمس الدين لولو ولجمال الدولة إقبال الخاتوني وللوزير القاضي الأكرم جمال الدين القفطي.
وكان ملكا جليلا جوادا كريما كثير المعروف غزير الإحسان حليما صفوحا حسن الأخلاق كامل الأوصاف جميل العشرة طيب المحادثة والمفاكهة قريبا من الرعية، يؤثر العدل ويكره الظلم، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك بلاد الجزيرة وحران والرها والرقة ورأس عين وما معها من البلاد وملك حمص كما ذكرنا، ثم ملك الشام كما ذكرنا بعد قتل الملك المعظم وصفا له الشام والبلاد الشرقية وأطاعه صاحب الموصل وصاحب ماردين
وعظم شأنه جدا، ثم دخل بعساكره إلى الديار المصرية سنة ثمان وأربعين فكسر عساكرها وخطب له بمصر وقلعة الجبل، وكاد يملك الإقليم ويستولي على الممالك الصلاحية كلها لولا ما قدره الله من ظهور طائفة من عسكر مصر وانهزامه إلى الشام ومقتل مدبر دولته الأمير شمس الدين لولو.(2/250)
وكان ملكا جليلا جوادا كريما كثير المعروف غزير الإحسان حليما صفوحا حسن الأخلاق كامل الأوصاف جميل العشرة طيب المحادثة والمفاكهة قريبا من الرعية، يؤثر العدل ويكره الظلم، وزاد ملكه على ملك أبيه وجده، فإنه ملك بلاد الجزيرة وحران والرها والرقة ورأس عين وما معها من البلاد وملك حمص كما ذكرنا، ثم ملك الشام كما ذكرنا بعد قتل الملك المعظم وصفا له الشام والبلاد الشرقية وأطاعه صاحب الموصل وصاحب ماردين
وعظم شأنه جدا، ثم دخل بعساكره إلى الديار المصرية سنة ثمان وأربعين فكسر عساكرها وخطب له بمصر وقلعة الجبل، وكاد يملك الإقليم ويستولي على الممالك الصلاحية كلها لولا ما قدره الله من ظهور طائفة من عسكر مصر وانهزامه إلى الشام ومقتل مدبر دولته الأمير شمس الدين لولو.
وأقام الملك الناصر بدمشق عشر سنين حاكما على الشام والشرق إلى أن قدر الله تعالى ما قدره من استيلاء التتر على البلاد وذهابه إليهم ومقتله رحمه الله. ولم يكن لأحد من الملوك قبله مثل ما كان له من التجمل بكثرة العظام وغيره، فإنه كان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس من الغنم، وكان نفقة مطبخه في كل يوم عشرين ألف درهم.
وكان الملك الناصر رحمه الله حليما إلى الغاية عظيم العفو عن الزلّات، لا يرى المؤاخذة والانتقام، بل سجيته الصفح والتجاوز. اعترضه شخص يوما بورقة فأمر بأخذها منه وقرأها فوجد فيها الوقيعة فيه وذمه، فقال لبعض غلمانه: قل له يخرج من دمشق إلى حيث شاء فأنا ما أوذيه ولا أقابله على فعله.
وكان رحمه الله حسن المباسطة مع جلسائه، وكان في خدمته جماعة كثيرة من الفضلاء والعلماء والأدباء والشعراء وغيرهم ولهم عليه الرواتب السنية. وكان حسن العقيدة والظن بالصالحين يكرمهم ويبرهم ويجري عليهم الرواتب اه باختصار.
وقال أبو الفداء أيضا في ترجمته: كان حليما وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، وانقطعت الطرق في أيامه وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، وكثرت الحرامية وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا حضر القاتل إلى بين يدي الملك الناصر المذكور يقول:
الحي من الميت أفضل ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين.
وكان على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها:
فو الله لو قطّعت قلبي تأسفا ... وجرعتني كاسات دمعي دما صرفا
لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا
وقدمنا أن مولده سنة سبع وعشرين وستمائة فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريبا اه.(2/251)
فو الله لو قطّعت قلبي تأسفا ... وجرعتني كاسات دمعي دما صرفا
لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا
وقدمنا أن مولده سنة سبع وعشرين وستمائة فيكون عمره اثنتين وثلاثين سنة تقريبا اه.
سنة 660
ذكر طاعة البرلي للملك الظاهر وإرسال سنقر الرومي إلى حلب
قدمنا دخول البرلي إلى حلب في شهر رمضان من السنة الماضية. قال القطب اليونيني في الذيل: لما دخل البرلي حلب أظهر طاعة الملك الظاهر وأقام بها إلى أن كتب إليه الملك الصالح صاحب الموصل يعلمه بنزول التتر عليه ويستنجده، فكتب إلى الملك الظاهر يستأذنه في التوجه لنصرته، فأجابه وأمره بالتربص بحّران إلى أن يصل إليه عسكر من جهته ينجد به صاحب الموصل، فلما وصل حران أقام بها، ثم خاف من العسكر الواصل من مصر أن يقبض عليه فتوجه إلى سنجار.
وأما الملك الظاهر فتقدم إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومي بالمسير إلى حلب ثم الموصل وجهز معه عسكرا، وكتب إلى الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة بدمشق وإلى الأمير علاء الدين البندقدار يأمرهما أن يكونا معه بعسكرهما إذا وصل إليهما حيث توجه، فلما وصلت العساكر تل السلطان واتصل بهم توجه البرلي إلى سنجار وبعثوا إلى حلب من تسلمها نيابة عن البندقدار. ثم عادت العساكر إلى أنطاكية فنزلوا عليها وشنوا الغارات على نواحيها فداراهم من بها بإقامة وضيافة وسألوهم أن يرحلوا عنهم على أن يحملوا إليهم مالا مصانعة، فوقع الخلف في تقرير المال بين الأمير علاء الدين طيبرس والأمير شمس الدين سنقر، فرحلا بالعسكر ونزلا على تل السلطان، فأتاهم أمر السلطان أن يتوجه البندقدار إلى حلب ويعود طيبرس وسنقر الرومي إلى دمشق.
ذكر قصد التتر الموصل واستنجاد صاحبها بالبرلي وانهزامهما من التتر
قال القطب اليونيني ما خلاصته: في هذه السنة قصدت التتر الموصل ومقدمهم صيدعون صاحب ماردين وغيرهم فاستصرخ الملك الصالح صاحبها بالبرلي فخرج من حلب وسار إلى سنجار، فلما اتصل بالتتر وصوله عزموا على الهرب واتفق وصول الزين
الحافظي إليهم من عند هولاكو فعرفهم أن الجماعة التي مع البرلي قليلة والمصلحة أن تلاقوهم، فقوى عزمهم الحافظي قاتله الله، فسار صيدعون بطائفة ممن كان على حصار الموصل عدتها عشرة آلاف وقصد سنجار وبها البرلي ومعه ألف وخمسمائة فارس عن ألف وأربعمائة من التركمان ومائة من العرب، فخرج إليهم بعد أن تردد في ملتقاهم، فكانت الكرة عليه وقتل الكثير من جماعته ونجا الأمير شمس الدين البرلي في جماعة يسيرة من العزيزية والناصرية، ولما وصل البيرة فارقه أكثرهم ودخلوا الديار المصرية اه.(2/252)
قال القطب اليونيني ما خلاصته: في هذه السنة قصدت التتر الموصل ومقدمهم صيدعون صاحب ماردين وغيرهم فاستصرخ الملك الصالح صاحبها بالبرلي فخرج من حلب وسار إلى سنجار، فلما اتصل بالتتر وصوله عزموا على الهرب واتفق وصول الزين
الحافظي إليهم من عند هولاكو فعرفهم أن الجماعة التي مع البرلي قليلة والمصلحة أن تلاقوهم، فقوى عزمهم الحافظي قاتله الله، فسار صيدعون بطائفة ممن كان على حصار الموصل عدتها عشرة آلاف وقصد سنجار وبها البرلي ومعه ألف وخمسمائة فارس عن ألف وأربعمائة من التركمان ومائة من العرب، فخرج إليهم بعد أن تردد في ملتقاهم، فكانت الكرة عليه وقتل الكثير من جماعته ونجا الأمير شمس الدين البرلي في جماعة يسيرة من العزيزية والناصرية، ولما وصل البيرة فارقه أكثرهم ودخلوا الديار المصرية اه.
ذكر عود البرلي إلى الديار المصرية وما كان من أمره
قال القطب اليونيني: لما حل الأمير شمس الدين البرلي بالبيرة وصله قونور خاله وزين الدين قراجا الجمدار الناصري وكان أخذ أسيرا من حلب رسلا من هولاكو يطلبونه إليه ليقطعه البلاد، فقال: أنا مملوك السلطان الملك الظاهر وما يمكنني مفارقته واختيار هولاكو عليه، ثم سيّر الكتب إلى الملك الظاهر وكتب يطلب منه أمانا بما سأل ويسأله المصير إلى مصر، فتوجه من البيرة في تاسع عشر شهر رمضان واجتمع بالبندقدار [نائب حلب] بعد أن توثق كلاهما بالأيمان، ودخل البرلي إلى مصر غرة ذي الحجة فأنعم عليه الملك الظاهر وعيّن له سبعين فارسا اه.
وقال أبو الفداء: لما ضاقت على آقوش البرلي البلاد وأخذت منه حلب ولم يبق بيده غير البيرة دخل في طاعة الملك الظاهر وسار إليه، فكتب الملك الظاهر إلى النواب بالإحسان إليه وترتيب الإقامات له في الطرقات، حتى وصل إلى الديار المصرية في ثاني ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ستين، فتلقاه الملك الظاهر وبالغ في الإحسان إليه وأكثر له العطاء، فسأل آقوش البرلي من الملك الظاهر أن يقبل منه البيرة فلم يفعل، وما زال يعاوده حتى قبلها، وبقي آقوش البرلي العزيزي المذكور مع الملك الظاهر إلى أن تغير عليه وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وستمائة فكان آخر العهد به اه.
ذكر ولاية علاء الدين أيدكين حلب
قال القطب اليونيني: في هذه السنة في شوال ولي الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نيابة السلطنة بحلب.(2/253)
وفيها اشتد الغلاء بالشام فبيع رطل اللحم بالدمشقي بستة دراهم وسبعة دراهم والغرارة من القمح بأربعمائة وخمسين درهما والشعير بمائتين وخمسين درهما والمكوك القمح بحماة وبحلب بأربعمائة درهم واللحم الرطل بالحلبي بثمانية دراهم ورطل الخبز بثلاثة دراهم، ثم بلغ خمسة، ثم اشتد الغلاء في جميع الأصناف ومات خلق كثير من الجوع بحلب وحماة وغيرهما اه.
ذكر وفاة الكمال بن العديم صاحب تاريخ حلب
قال أبو الفداء: في هذه السنة في ذي الحجة توفي الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد المعروف بابن العديم، انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة، وكان فاضلا كبير القدر ألف تاريخ حلب وغيره من المصنفات، وكان قد قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر، ثم عاد بعد خراب حلب إليها، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب وقتل أهلها بعد تلك العمارة قال في ذلك قصيدة منها:
هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم ... وإن رمت إنصافا لديه فتظلم
أباد ملوك الفرس جمعا وقيصرا ... وأصمت لدى فرسانها منه أسهم
وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم ... وما منهم إلا مليك معظم
وملك بني العباس زال ولم يدع ... لهم أثرا من بعدهم وهم هم
وأعتابهم أضحت تداس وعهدها ... تباس بأفواه الملوك وتلثم
وعن حلب ما شئت قل من عجائب ... أحل بها يا صاح إن كنت تعلم
ومنها:
فيالك من يوم شديد لغامه ... وقد أصبحت فيه المساجد تهدم
وقد درست تلك المدارس وارتمت ... مصاحفها فوق الثرى وهي ضخّم
وهي طويلة وآخرها:
ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم
وسنذكر في القسم الثاني من الكتاب ترجمته بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرناه هنا تبعا لأبي الفداء بمناسبة القصيدة المتقدمة لعلاقتها بأخبار التتار، وبحثت كثيرا عن بقية القصيدة لأثبتها جميعها فلم أعثر عليها (1).(2/254)
ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم
وسنذكر في القسم الثاني من الكتاب ترجمته بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرناه هنا تبعا لأبي الفداء بمناسبة القصيدة المتقدمة لعلاقتها بأخبار التتار، وبحثت كثيرا عن بقية القصيدة لأثبتها جميعها فلم أعثر عليها (1).
قال ابن الوردي في تتمة المختصر في حوادث هذه السنة: رأيت مقامة مرصعة وضعها الشيخ جمال الدين عمر بن إبراهيم بن الحسين الرسعني وذكر فيها وقعة حلب، ولعلها من أحسن ما قيل في ذلك (فمنها):
__________
(1) ذكر المرحوم الدكتور سامي الدهان في مقدمة تحقيقه لزبدة الحلب أنه قد عثر على القصيدة في مخطوطة «عقد الجمان» للعيني، ثم أورد بعضا منها وهو:
وعن حلب ما شئت قل من عجائب ... أحل بها يا صاح إن كنت تعلم
غداة أتاها للمنية بغتة ... من المغل جيش كالسحاب عرمرم
أحاطوا كأسراب القطا بربوعها ... على سبق جرد من الخيل طهّم
أتوها كأمواج البحار زواخرا ... ببيض وسمر والقتام مخيم
وقد عطلت تلك العشار وأذهلت ... مراضع عما أرضعت وهي هيّم
فيالك من يوم شديد لغامه ... وقد أصبحت فيه المساجد تهدم
وقد درست تلك المدارس وارتمت ... مصاحفها فوق الثرى وهي ضخّم
وقد جززت تلك الشعور وضمخت ... وجبن بأمواه الدما وهي تلطم
وكل مهاة قد أهينت سبية ... وقد طالما كانت تعز وتكرم
تنادي إلى من لا يجيب نداءها ... وتشكو إلى من لا يرق ويرحم
فيا حلبا أنى ربوعك أقفرت ... وأعيت جوابا فهي لا تتكلم
وأين شموس كن بالأمس طلّقا ... فأين استقلوا بالركاب ويمموا
فها أنا ذو وجد يجن بأضلعي ... عليك وعيشي في البلاد يذمم
أنوح على أهليك في كل منزل ... وأبكي الدجى شوقا وأسأل عنهم
ولكنما لله في ذا مشيئة ... فيفعل فينا ما يشاء ويحكم(2/255)
هذا وقد نزلت فنون البلاء بالشام، وهملت عيون العناء كالغمام، وصار وشام الإسلام كالوشام، وعرام الأنام في غرام، وخفيت آثار المآثر ودرست، وطفئت أنوار المنابر وطمست، وحلبت العيون ماءها على حلب، وسكبت الجفون دماءها من الصبب، والتف عليها الختل والاختلال، واحتف بها القتل والوبال، واختطف من أعيانها الشموس والأقمار، واقتطف من أغصانها نفائس النفوس والأعمار، فستر سفور السرور، ونشر ستور الشرور، وتخربت الدور والقصور، ونحرت الحور في النحور، وجرت عيونها على أعيانها، وهمت جفونها على شبانها، بدموع جرت نجيعا، لفظوع طرت سريعا.
ونمى الطغيان والغش في روضة الشام، وسما العدوان في عش بيضة الإسلام، ورفعت الصلبان على المساجد، ووضعت الأديان والمعابد، حتى بكى على الوجود الجلمد، وشكى إلى المعبود السرمد، ولما تعظم العدو، وتكبر وتقدم بالعتو وتجبر، وبسط سيفه على الخافقين، وهبط خوفه على المشرقين، أطلع الله طلائع اللواء المظفر، وأبدع مطالع السناء الأنور، وخفقت الرايات والبنود، وشرقت الآيات والسعود، بانجذاب الكفار إلى كنعان، وانسحاب الفجار إلى الهوان. وهي طويلة اه.
ذكر طرد التتر من نواحي الفرات عند البيرة
قال ابن كثير: في هذه السنة جهز السلطان الملك الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة، فلما سمعوا بالعساكر الظاهرية قد أقبلت تولوا على أعقابهم منهزمين والحمد لله رب العالمين، فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة، وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد بها والخوف فعمرت وأمنت ولله الحمد اه.
ذكر تولية قضاة من المذاهب الأربعة
قال القطب اليونيني وابن كثير: في هذه السنة ولي من كل مذهب قاضي قضاة مستقل بالديار المصرية، وسبب ذلك كثرة توقف قاضي القضاة تاج الدين في تنفيذ الأحكام وكثرت الشكاوي منه في يوم الاثنين ثاني عشر ذي الحجة، فأشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضي قضاة، وكان يحب رأيه ومشورته، فأجاب إلى ذلك ففعل كما ذكرنا، وكان الأمير جمال الدين يكره القاضي
تاج الدين، فقال له الأمير جمال الدين: نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضيا، وذكر أسماء القضاة الأربعة الذين عيّنوا.(2/256)
قال القطب اليونيني وابن كثير: في هذه السنة ولي من كل مذهب قاضي قضاة مستقل بالديار المصرية، وسبب ذلك كثرة توقف قاضي القضاة تاج الدين في تنفيذ الأحكام وكثرت الشكاوي منه في يوم الاثنين ثاني عشر ذي الحجة، فأشار الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضي قضاة، وكان يحب رأيه ومشورته، فأجاب إلى ذلك ففعل كما ذكرنا، وكان الأمير جمال الدين يكره القاضي
تاج الدين، فقال له الأمير جمال الدين: نترك مذهب الشافعي لك ونولي معك من كل مذهب قاضيا، وذكر أسماء القضاة الأربعة الذين عيّنوا.
سنة 664
ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة بعد فراغ الملك الظاهر من فتوح صفد سار إلى دمشق، فلما دخلها واستقر فيها جرد عسكرا ضخما، وقدم عليهم الملك المنصور وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن، فسارت العساكر صحبة الملك المنصور ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك هيثوم بن قسطنطين بن باسيل قد حصن الدربندات بالرجّالة والمناجق وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات لقتال العسكر الإسلامي ومنعه، فداستهم العساكر الإسلامية وأفنوهم قتلا وأسرا، وقتل ابن صاحب سيس الواحد وأسر ابنه الآخر وهو ليفون بن هيثوم المذكور. وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس وفتحوا قلعة العامودين وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم.
ولما وصل خبر هذا الفتح العظيم إلى الملك الظاهر بيبرس رحل من دمشق ووصل إلى حماة ثم إلى فامية فالتقى عساكره وقد عادت منصورة وأمر بتسليم الأسرى وفيهم ليفون ابن صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر سلمه الملك المنصور إلى أخيه الملك الأفضل فاحترز عليه وحفظه حتى أحضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك فتقنطر بالملك الظاهر المذكور فرسه عند بركة زيزا وانكسرت فخذه وحمل في محفة إلى قلعة الجبل اه.
سنة 666
ذكر مسير الملك الظاهر إلى أنطاكية وبغراس وفتحها
قال القطب اليونيني وابن كثير وأبو الفداء: في هذه السنة في مستهل جمادى الأولى توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أنطاكية وكان نزوله عليها في مستهل شهر
رمضان فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان وشرطوا شروطا عليهم، فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب، ومن وجد معه شيء أخذ منه وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفا وغنم منها شيئا كثيرا وأطلق للأمراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين خلقا كثيرا كل هذا في أربعة أيام، وقد كان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس من أشد الناس أذية للمسلمين حين ملك التتار حلب وفرّ الناس منها، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند وله معها طرابلس وكان مقيما بطرابلس لما فتحت أنطاكية.(2/257)
قال القطب اليونيني وابن كثير وأبو الفداء: في هذه السنة في مستهل جمادى الأولى توجه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر المذكور وأخذها من الفرنج، ثم سار إلى أنطاكية وكان نزوله عليها في مستهل شهر
رمضان فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان وشرطوا شروطا عليهم، فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، وزحف عليها فملكها يوم السبت رابع الشهر ورتب على أبوابها من الأمراء جماعة لئلا يخرج أحد من الحرافشة بشيء من النهب، ومن وجد معه شيء أخذ منه وحصر من قتل فيها فكانوا فوق الأربعين ألفا وغنم منها شيئا كثيرا وأطلق للأمراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين خلقا كثيرا كل هذا في أربعة أيام، وقد كان الإبرنس صاحبها وصاحب طرابلس من أشد الناس أذية للمسلمين حين ملك التتار حلب وفرّ الناس منها، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند وله معها طرابلس وكان مقيما بطرابلس لما فتحت أنطاكية.
قال أبو الفداء: وفيها في ثالث عشر رمضان استولى الملك الظاهر على بغراس، وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خاليا، فأرسل من استولى عليها في التاريخ المذكور وشحنه بالرجال والعدد وصار من الحصون الإسلامية. وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين للحصن المذكور وتخريبه ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه.
تتمة حوادث سنة 666
قال أبو الفداء: وفيها في شوال وقع الصلح بين الملك الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس على أنه إذا أحضر صاحب سيس سنقر الأشقر من التتر وكانوا قد أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو كما تقدم ذكره وسلم مع ذلك بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان وشيخ الحديد يطلق له ابنه ليفون، فدخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر وطلب منه سنقر الأشقر فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الملك الظاهر، وكذلك سلم دربساك وغيرها من المواضع المذكورة خلا بهسنا، وأطلق الملك الظاهر ابن صاحب سيس ليفون بن هيثوم وتوجه إلى والده اه.
سنة 668
ذكر مجيء الملك الظاهر بيبرس إلى حلب
قال أبو الفداء: فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك مستهل المحرم عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة وتوجه من يومه ووصل إلى حماة في خامس المحرم وتوجه
من ساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو في الموكب معهم، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر المحرم المذكور، ثم توجه إلى القدس ثم إلى القاهرة فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة اه.(2/258)
قال أبو الفداء: فيها توجه الملك الظاهر بيبرس من الكرك مستهل المحرم عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة وتوجه من يومه ووصل إلى حماة في خامس المحرم وتوجه
من ساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو في الموكب معهم، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر المحرم المذكور، ثم توجه إلى القدس ثم إلى القاهرة فوصل إليها في ثالث صفر من هذه السنة اه.
سنة 669
ذكر ترتيب الملك الظاهر بيبرس خيل البريد بين البلاد المصرية والبلاد الشامية
قال ابن إياس: في هذه السنة رتب السلطان خيل البريد بسبب سرعة أخبار البلاد الشامية، فكانت أخبار البلاد الشامية ترد عليه في الجمعة مرتين، وقيل إنه أنفق على ذلك جملة مال حتى تم له ترتيب ذلك. وكان خيل البريد عبارة عن مراكز بين القاهرة ودمشق وفيها عدة خيول جيدة وعندها رجال يعرفون بالسواقين، ولا يقدر أحد أن يركب من خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، وكان عند كل مركز ما يحتاج إليه المسافرون من زاد وعلف وغير ذلك، وهذا كله لأجل سرعة مجيء أخبار البلاد الشامية وغيرها من البلاد. وقيل إن الملك الظاهر بيبرس هذا كان يعمل موكبا بمصر وموكبا بالشام، وكانت خيل البريد مرصودة بسبب ذلك، حتى لقد قال القائل في المعنى:
يوما بمصر ويوما بالشآم ويو ... ما بالفرات ويوما في قرى حلب
واستمر هذا الأمر باقيا بعد الملك الظاهر بيبرس مدة طويلة، ثم تلاشى أمره قليلا قليلا حتى بطل في دولة الملك الناصر فرج بن برقوق عند ما قدم تيمور لنك إلى الشام وأخرب البلاد الشامية وذلك في سنة ثلاث وثمانمائة، فعند ذلك بطل أمر خيل البريد مع جملة ما بطل من شعائر مملكة الديار المصرية اه.
سنة 670
ذكر إغارة التتر على عينتاب ورجوعهم عنها وانهزامهم من الملك الظاهر على الفرات
قال ابن كثير: في هذه السنة في ربيع الأول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار وجفل خلق كثير من أهل دمشق.(2/259)
وفي ربيع الاخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الأخضر بها، وكان سبب ذلك أن عسكر التتار جمعوا نحوا من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم، فلما سمع التتار بوصول السلطان رجعوا على أعقابهم.
قال ابن إياس: وفيها جاءت الأخبار بأن التتار قد تحركوا على البلاد ووصلوا إلى الفرات وملكوا البيرة، فخرج إليهم السلطان ومعه سائر الأمراء، وكان جاليش العسكر الأمير قلاوون الألفي والأمير بيسري، فتلاقوا مع التتار على الفرات فكان بينهم وقعة عظيمة فقتل منهم ما لا يحصى عدده وأسر منهم جماعة كثيرة، فلما دخل السلطان البيرة خلع على نائبها وأقره على حاله وفرق جملة من المال على من بها من الرعية لأنهم قاتلوا التتار قتال الموت حتى كسروهم كسرة قوية، فأقام السلطان في البيرة أياما ثم رجع إلى الشام فأقام بها شهرا ثم توجه إلى الديار المصرية فدخلها في موكب عظيم وزينت له وحملت القبة والطبر على رأسه اه.
وقال القطب اليونيني في حوادث هذه السنة: وفي خامس جمادى الأولى اتصل بالملك الظاهر وهو بدمشق أن فرقة من التتار قصدت الرحبة، فبرز إلى القصير بالعساكر فبلغه أنهم عادوا عن الرحبة ونزلوا على البيرة، فسار إلى حمص وأخذ مراكب الصيادين بالبحيرة على الجمال للجسور، ثم رحل حتى وصل إلى الباب من أعمال حلب وبعث جماعة من المماليك والعربان لكشف أخبارهم وسار إلى منبج، فعادوا وأخبروا أن طائفة من التتر مقدارها ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات مما يلي الجزيرة، فرحل من منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى ووصل شط الفرات وتقدم إلى العسكر بخوضها، فخاض الأمير سيف الدولة قلاوون والأمير بدر الدين بيسري في أول الناس، ثم تبعهما بنفسه وتبعته العساكر فوقعوا على التتر فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا مقدار مائتي نفس ولم ينج منهم إلا القليل، وتبعهم الأمير بدر الدين بيسري إلى قرب سروج ثم عاد، والذين كانوا على البيرة شرف الدين بن الخطير وأتابك أرسلان دغمش وأمين الدين ميكائيل النائب بقونية وأمر الروم تقديرا ثلاثة آلاف فارس (1) ومقدم المغل [التتار] درباي، ولما اتصل بهم خبر
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل القصد أن ميكائيل جاء نجدة من طرف ملك الروم السلجوقي ومعه ثلاثة آلاف فارس.(2/260)
الوقعة رحلوا عن البيرة بعد أن أشرفوا على أخذها وتركوا مالهم من الأسلحة والعدد والمجانيق والأمتعة ونجوا بأنفسهم، فسار الملك الظاهر إلى البيرة ووصلها في الثاني والعشرين من الشهر وصعدها وخلع على مستحفظها وفرق في أهلها مائة ألف درهم وأنعم عليهم ببعض ما تركه التتر عند هربهم، ثم رحل قاصدا دمشق.
وقد ذكر خوض الفرات المولى شهاب الدين محمود الكاتب في قصيدة أولها:
سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الأقطار
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الأعادي ثار
ومنها:
لما تراقصت الرؤوس وحركت ... من مطربات قسيّك الأوتار
خضت الفرات بسابح أقصى منى ... هوج الصبا من نعله الآثار
حملتك أمواج الفرات ومن رأى ... بحرا سواك تقله الأنهار
وتقطعت فرقا ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جيشك الجرار
ومنها:
رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر ... منهم على الجيش الصعيد غبار
شكرت مساعيك المعاقل والورى ... والترب والآساد والأطيار
هذي منعت وهؤلاء حميتهم ... وسقيت تلك وعم ذي الإيثار
فلأملأن الدهر فيك مدائحا ... تبقى بقيت وتذهب الأعصار
وقال ناصر الدين حسن بن النقيب الكناني رحمه الله في واقعة الفرات وأظنه حضرها:
ولما ترامينا الفرات بخيلنا ... سكرناه منا بالقوى والقوادم
فأوقفت التيار عن جريانه ... إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وقال صاحبنا موفق الدين عبد الله بن عمر رحمه الله:
الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل
اقتحم الماء ليطفي به ... حرارة القلب من المغل
انتهى ما في القطب اليونيني.(2/261)
وقال ابن شاكر الكتبي في تاريخه فوات الوفيات في ترجمة الملك الظاهر المذكور قال محيي الدين بن عبد الظاهر:
تجمع جيش الشرك من كل فرقة ... وظنوا بأنا لا نطيق لهم غلبا
وجاؤوا إلى شط الفرات ومادروا ... بأن جياد الخيل تقطعها وثبا
وجاءت جنود الله في العدد التي ... تميس لها الأبطال يوم الوغى عجبا
فعمنا بسد من حديد سباحة ... إليهم فما اسطاع العدو له نقبا
وقال: قال بدر الدين يوسف بن المهمندار:
لو عاينت عيناك يوم نزولنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وقد اطلخمّ الأمر واحتدم الوغى ... ووهى الجبان وساء ظن المجتري
لرأيت سدا من حديد ما يرى ... فوق الفرات وفوقه نار تري
طفرت وقد منع الفوارس مدها ... تجري ولولا خيلنا لم تطفر
ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى ... ومن الفوارس أسجرا في أبحر
لما سبقنا أسهما طاشت لنا ... منهم إلينا بالخيول الضمّر
لم يفتحوا للرمي منهم أعينا ... حتى كحلن بكل لدن أسمر
فتسابقوا هربا ولكن ردهم ... دون الهزيمة رمح كل غضنفر
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برؤوسهم لم تعثر
كم قد فلقنا صخرة من صخرة ... ولقد ملأنا محجرا من محجر
وجرت دماؤهم على وجه الثرى ... حتى جرت منها مجاري الأنهر
والظاهر السلطان في آثارهم ... يذري الرؤوس بكل عضب أبتر
ذهب الغبار مع النجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يشهر
سنة 673
ذكر دخول السلطان الملك الظاهر إلى بلاد سيس
قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة: لما كانت سنة ثلاث وسبعين عزم مولانا السلطان على قصد سيس، وذلك أن هيثوم مات وولي بعده ولده ليفون، فأخذ في إفساد ما كان بين أبيه وبين السلطان بمكاتبة التتر والتعرض للقفول الواردة من بلاد الروم وأخذ
ما فيها من البضايع والفتك بأربابها، فخرج من القاهرة نحو الشام وصحبته العساكر المنصورة وترك نائبا عنه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، فوصل إلى دمشق وحلب، ثم توجه ولم يشعر أحد أين يتوجه فنزل بقرب (سرمين) ورتب العساكر وطلب من كل جندي قربة وحبلا برسم الكلك (هكذا) وفرقهم على الأمراء، ثم رحل ونزل حارم مخفا، ثم رحل وخاض النهر الأسود ونزل تحت درب ساك وجعل كل ألف فارس إلى مقدم وأمرهم بدخول سيس، فكان أول من دخلها الأمير بيليك الخزندار نائب المملكة ومعه جماعة من الأمراء، فوصل إلى إسكندرونة فقتل وسبى، وقصد المصيصة فباكرها فوجد الأرمن يريدون أن يحرقوا الجسر الذي هو على نهر جيحان فعاجلهم وقد أخذت النار فيه فأطفأها وعبر ومكن سيفه فيمن لقي من الأرمن ولم يبق إلا النساء والأطفال، ثم ردفه مولانا بمن بقي معه من العساكر، فلما عبر الجسر قطعه ثم رحل وقصد سيس، فوجد ليفون وقد خرج منها هاربا، فسار خلفه ليدركه ففاته، فعاد إلى سيس فحاصر قلعتها فامتنعت عليه فأحرق البلد وعفاها وطمس معالمها وأخفاها وبث عساكره في أعمالها وأمرهم بإحراق ضياعها ومزارعها، إلى أن وصلوا إلى ساحل البحر فنهبوا من كان بأياس (1) من التجار، ثم عاد السلطان ورحل ونزل على قلعة تسمى سن الفار فحاصرها أياما، ثم رحل بسبب أن العلوفات والأقوات قلت، وكان قد استأمن السلطان عند توغله في بلاد سيس عشرون ألف بيت من التركمان وخلق كثير من العرب كانوا قد ركبوا إلى هيثوم لما استولت التتر على بلاد حلب، فأمّر جماعة منهم وأقطعهم الأخباز وأخذ منهم العداد. فلله عزمات أضرمت في صدر الأعداء نارا وأكسبتهم بالفرار عارا وشنارا وأخلتهم عن ديار أهدت إليهم درها كبارا وغذتهم بدرها صغارا وأمكنت منهم سيوفا ألبستهم على مدى الأيام ذلا وصغارا. وجرت على عزمات من تقدم من الملوك ذيل الفخر باغتنام الأجر، وطلعت في السير طلوع الفجر، فإنها أزاحت علة الخوف من الأرمن بفتكاتها المبيدة وأرحت من جاوز بلادهم من حرب يحتاج فيه إلى ختل ومكيدة، وأصارت صياصيها موطوءة بالحوافر، محبوة بالتطهير ممن كان يستوطنها من الكوافر اه.(2/262)
قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة: لما كانت سنة ثلاث وسبعين عزم مولانا السلطان على قصد سيس، وذلك أن هيثوم مات وولي بعده ولده ليفون، فأخذ في إفساد ما كان بين أبيه وبين السلطان بمكاتبة التتر والتعرض للقفول الواردة من بلاد الروم وأخذ
ما فيها من البضايع والفتك بأربابها، فخرج من القاهرة نحو الشام وصحبته العساكر المنصورة وترك نائبا عنه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني، فوصل إلى دمشق وحلب، ثم توجه ولم يشعر أحد أين يتوجه فنزل بقرب (سرمين) ورتب العساكر وطلب من كل جندي قربة وحبلا برسم الكلك (هكذا) وفرقهم على الأمراء، ثم رحل ونزل حارم مخفا، ثم رحل وخاض النهر الأسود ونزل تحت درب ساك وجعل كل ألف فارس إلى مقدم وأمرهم بدخول سيس، فكان أول من دخلها الأمير بيليك الخزندار نائب المملكة ومعه جماعة من الأمراء، فوصل إلى إسكندرونة فقتل وسبى، وقصد المصيصة فباكرها فوجد الأرمن يريدون أن يحرقوا الجسر الذي هو على نهر جيحان فعاجلهم وقد أخذت النار فيه فأطفأها وعبر ومكن سيفه فيمن لقي من الأرمن ولم يبق إلا النساء والأطفال، ثم ردفه مولانا بمن بقي معه من العساكر، فلما عبر الجسر قطعه ثم رحل وقصد سيس، فوجد ليفون وقد خرج منها هاربا، فسار خلفه ليدركه ففاته، فعاد إلى سيس فحاصر قلعتها فامتنعت عليه فأحرق البلد وعفاها وطمس معالمها وأخفاها وبث عساكره في أعمالها وأمرهم بإحراق ضياعها ومزارعها، إلى أن وصلوا إلى ساحل البحر فنهبوا من كان بأياس (1) من التجار، ثم عاد السلطان ورحل ونزل على قلعة تسمى سن الفار فحاصرها أياما، ثم رحل بسبب أن العلوفات والأقوات قلت، وكان قد استأمن السلطان عند توغله في بلاد سيس عشرون ألف بيت من التركمان وخلق كثير من العرب كانوا قد ركبوا إلى هيثوم لما استولت التتر على بلاد حلب، فأمّر جماعة منهم وأقطعهم الأخباز وأخذ منهم العداد. فلله عزمات أضرمت في صدر الأعداء نارا وأكسبتهم بالفرار عارا وشنارا وأخلتهم عن ديار أهدت إليهم درها كبارا وغذتهم بدرها صغارا وأمكنت منهم سيوفا ألبستهم على مدى الأيام ذلا وصغارا. وجرت على عزمات من تقدم من الملوك ذيل الفخر باغتنام الأجر، وطلعت في السير طلوع الفجر، فإنها أزاحت علة الخوف من الأرمن بفتكاتها المبيدة وأرحت من جاوز بلادهم من حرب يحتاج فيه إلى ختل ومكيدة، وأصارت صياصيها موطوءة بالحوافر، محبوة بالتطهير ممن كان يستوطنها من الكوافر اه.
__________
(1) قال ابن شداد في «الدر المنتخب»: أياس: هي على حصن على شاطىء البحر، وتسمى الآن أيار وهي فرضة سيس.(2/263)
سنة 674
ذكر مجيء التتار إلى البيرة وانكسارهم عليها
قال ابن كثير: لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل من المغول [وكان اسم مقدمهم أقطاي كما في أبي الفداء] وخمسة عشر ألفا من الروم والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتر ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقا، فخرج أهل البيرة بالليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئا كثيرا ورجعوا إلى بيوتهم سالمين، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.
ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، ثم ركب سريعا وفي صحبته ولده السعيد، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق اه.
سنة 675
ذكر انكسار التتار على البلستين وفتح قيسارية
قال أبو الفداء وابن كثير وابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار بأن التتار زحفوا على البلاد، فجاء الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وكان خروجه من مصر في العشرين من رمضان ودخل دمشق في سابع عشر شوال فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار حتى دخل حلب فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المعابر، وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة، وصعد العسكر الجبال فأشرفوا على وطاة البلستين عاشر ذي القعدة فرأوا التتار قد رتبوا عساكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم، فلما تراءى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت صناجق السلطان ودخلت طائفة بينهم
فشقوها وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد كادت تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بإردافها، ثم حمل بالعسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وصبر المسلمون صبرا عظيما، فأنزل الله نصره على المسلمين فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل مقدمهم تناون وغالب كبرائهم وأسر منهم جماعة كثيرة صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الوقعة سيف الدين قبجق وسيف الدين أرسلان. وقتل من المسلمين أيضا جماعة فكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير وسيف الدين قيماز وسيف الدين بنجو الجاشنكير وعز الدين أيبك الثقفي. وهرب البرواناه (من أمراء الروم الذين كانوا مع التتار) فنجا بنفسه ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأعلم أمراء الروم وملكهم بكسرة التتر على البلستين وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها.(2/264)
قال أبو الفداء وابن كثير وابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار بأن التتار زحفوا على البلاد، فجاء الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وكان خروجه من مصر في العشرين من رمضان ودخل دمشق في سابع عشر شوال فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار حتى دخل حلب فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المعابر، وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة، وصعد العسكر الجبال فأشرفوا على وطاة البلستين عاشر ذي القعدة فرأوا التتار قد رتبوا عساكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم، فلما تراءى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت صناجق السلطان ودخلت طائفة بينهم
فشقوها وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الميسرة قد كادت تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بإردافها، ثم حمل بالعسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وصبر المسلمون صبرا عظيما، فأنزل الله نصره على المسلمين فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل مقدمهم تناون وغالب كبرائهم وأسر منهم جماعة كثيرة صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الوقعة سيف الدين قبجق وسيف الدين أرسلان. وقتل من المسلمين أيضا جماعة فكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير وسيف الدين قيماز وسيف الدين بنجو الجاشنكير وعز الدين أيبك الثقفي. وهرب البرواناه (من أمراء الروم الذين كانوا مع التتار) فنجا بنفسه ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأعلم أمراء الروم وملكهم بكسرة التتر على البلستين وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها.
وأما الملك الظاهر فإنه بعد فراغه من هذه الوقعة سار إلى قيسارية واستولى عليها، وكان الحاكم بالروم يومئذ معين الدين سليمان البرواناه وكان يكاتب الملك الظاهر في الباطن، وكان يظن الملك الظاهر أنه إذا وصل إلى قيسارية يصل إليه البرواناه على ما كان اتفق معه في الباطن، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله من هلاكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ودخل الملك الظاهر قيسارية سابع عشر ذي القعدة بعد أن حاصر أهلها، وأرسلوا إليه يطلبون الأمان فأرسل لهم الأمان على يد الأمير بيسري فسلموا المدينة، وكان دخوله إلى المدينة يوما مشهودا، فنزل بدار السلطنة وصلى بها الجمعة وخطب له بها وأقام عليها سبعة أيام، ثم رحل عن قيسارية في الثاني والعشرين من ذي القعدة. وحصل للعسكر شدة عظيمة من نفاد القوت والعلف وعدمت غالب خيولهم، ووصلوا إلى عمق حارم وأقاموا به شهرا، ثم رحلوا وتوجهوا إلى دمشق وسارت بذلك البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله.
ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا بن هولاكو ساق في جموع المغول حتى وصل إلى البلستين وشاهد مكان المعركة وشاهد عسكره صرعى ولم يشاهد أحدا من عسكر الروم مقتولا، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أن أمر الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية فقتل منهم قريبا
من مائتي ألف إنسان، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، ثم سار أبغا إلى الأردو وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو أمر بقتل البرواناه فقتل وقتل معه نيفا وثلاثين نفسا من مماليكه وخواصه. واسم البرواناه المذكور سليمان، والبرواناه لقب وهو الحاجب بالعجمي، وكان مقتله بألاطاغ وكان البرواناه حازما بتدبير المملكة ذا مكر ودهاء.(2/265)
ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا بن هولاكو ساق في جموع المغول حتى وصل إلى البلستين وشاهد مكان المعركة وشاهد عسكره صرعى ولم يشاهد أحدا من عسكر الروم مقتولا، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أن أمر الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية فقتل منهم قريبا
من مائتي ألف إنسان، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، ثم سار أبغا إلى الأردو وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو أمر بقتل البرواناه فقتل وقتل معه نيفا وثلاثين نفسا من مماليكه وخواصه. واسم البرواناه المذكور سليمان، والبرواناه لقب وهو الحاجب بالعجمي، وكان مقتله بألاطاغ وكان البرواناه حازما بتدبير المملكة ذا مكر ودهاء.
سنة 676
ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس وآثاره بهذه البلاد
قال ابن إياس: في هذه السنة دخل السلطان إلى حلب [بعد رجوعه من محاربة التتار] فتوعك جسده وأخذته الحمى وسلسل في المرض، فأسقاه الحكماء دواء مسهلا فأفرط في الإسهال وثقل في المرض، فرحل من حلب وقصد الدخول إلى دمشق فمات في بعض ضياع دمشق، فلما مات كتم موته عن العسكر وحمل في محفة إلى أن دخل دمشق فدفن هناك ليلا. وكان موته يوم الخميس في الثامن والعشرين من المحرم وله من العمر نحو ستين سنة، وكان ملكا عظيما جليلا مهيبا كثير الغزوات خفيف الركاب يحب السفر والحركة في الشتاء والصيف، وكان مشهورا بالفروسية في الحرب وله إقدام وعزم وقت القتال وله ثبات عند التقاء الجيوش في الحرب.
قال ابن كثير: لما مات الظاهر جعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور فجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده بعد موته وهي دار العقيقي تجاه العادلية ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة (1).
قال: وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة وكذلك ابن شداد الحلبي أيضا وذكر ثمة آثاره في البلاد المصرية وغيرها، وله في تاريخ ابن شاكر المسمى بفوات الوفيات ترجمة حافلة مطولة وذكر ماله من الآثار في هذه البلاد، وهي مصطبة كبيرة مرخمة بالميدان الأخضر شمالي حلب. جسر القلعة. جامع بأنطاكية مكان الكثيب. جامع في
__________
(1) وتربته معروفة مشهورة وفيها الآن المكتبة المعروفة بالمكتبة الظاهرية وقبره رحمه الله في وسط هذا المكان.(2/266)
بغراس. وأنشأ قلعة البيرة وبنى بها الأبرجة ووسع خندقها وجدد جامعها. بناء ما تهدم من قلعة عين تاب. إصلاح قلعة شيزر. وبعد وفاة الظاهر أقيم في الملك ولده الملك السعيد بركة وكان ذلك في أوائل ربيع الأول.
سنة 677
ذكر وصول العساكر إلى بلد سيس
قال ابن شداد في الأعلاق الخطيرة: كان الملك السعيد خرج من مصر إلى الشام، فعند وصوله جرد الأمير بيسري الشمسي إلى حلب وأغار على قلعة الروم، ثم كتب إلى الملك السعيد بأن صاحب سيس وصلتني رسله وهو يتضرع ويسأل أن يحمل إلى الخزائن المعمورة مائتي ألف درهم ويعفى من طروق العساكر المنصورة بلاده، فخرج الأمير سيف الدين قلاوون الألفي وصحبته العسكر وهو المقدم عليهم وعلى من بالشام من العسكر المتقدم فسار إلى أن وصل إلى حلب، ثم رحل ودخل أنطرسوس وصحبته الأمير بدر الدين بيسري فشن الغارة عليها ونهب بلدها وغنم العسكر غنيمة صالحة وعاد إلى دمشق، ثم ملك الديار المصرية والشامية ونعت نفسه بالملك المنصور اه.
سنة 678
ذكر خلع الملك السعيد بركة ابن الملك الظاهر وإقامة أخيه سلامش ثم خلعه
في هذه السنة خلع الملك السعيد بركة وأرسل إلى الكرك وأقيم أخوه بدر الدين سلامش ابن الملك الظاهر ولقبوه الملك العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، وكان القائم بتدبير دولته قلاوون الألفي، تم خلعه وتسلطن مكانه.
ذكر سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي
قال ابن إياس: هو السابع من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصريه، تسلطن بعد خلع الملك العادل سلامش يوم الأحد ثاني عشر شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة وتلقب بالملك المنصور. وكان أصله من مماليك آق سنقر الكاملي.(2/267)
قال أبو الفداء: ولما تولى السلطنة أقام منار العدل وأحسن السياسة وقام بتدبير المملكة أحسن قيام.
ذكر خروج سنقر الأشقر عن الطاعة وسلطنته بالشام
قال أبو الفداء: في الرابع والعشرين من ذي القعدة جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة وحلف له الأمراء والعسكر الذين عنده بدمشق وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر.
سنة 679
ذكر وفاة آقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب وتولية علم الدين سنجر
قال أبو الفداء: في هذه السنة توفي آقوش الشمسي نائب السلطنة بحلب وولى السلطان الملك المنصور قلاوون على حلب علم الدين سنجر الباشغردي اه.
ذكر كسرة سنقر الأشقر الخارج على السلطان قلاوون
قال أبو الفداء ما خلاصته: لما عصى سنقر الأشقر بدمشق وتسلطن بها جهز الملك المنصور قلاوون إليه عساكر ديار مصر مع علم الدين سنجر الحلبي، والتقى الفريقان بظاهر دمشق فولى الشاميون وسنقر الأشقر منهزمين، وأتى سنقر إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد، وكان عيسى بن مهنا ملك العرب مع سنقر الأشقر وقاتل معه وكتب بذلك إلى أبغا أيضا موافقة له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى من هذه السنة واستولى عليها وعلى برزية وبلاطنس والشغر وبكاس وعكار وشيزر وفامية وصارت هذه الأماكن له.
ذكر مجيء التتار إلى حلب وعودهم ثم رجوعهم
قال ابن كثير: إن السلطان الملك المنصور قلاوون أرسل طائفة من الجيش لحصار شيزر (وقد قدمنا أنها صارت بيد سنقر الأشقر) فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتر من كل فج لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من أيديهم من سائر البلاد إلى الشام
ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب وقتلوا خلقا كثيرا ونهبوا شيئا كثيرا وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على الملك المنصور قلاوون، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر أن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين والمصلحة أنا نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا.(2/268)
قال ابن كثير: إن السلطان الملك المنصور قلاوون أرسل طائفة من الجيش لحصار شيزر (وقد قدمنا أنها صارت بيد سنقر الأشقر) فبينما هم كذلك إذ أقبلت التتر من كل فج لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين، فانجفل الناس من أيديهم من سائر البلاد إلى الشام
ومن الشام إلى مصر، فوصلت التتار إلى حلب وقتلوا خلقا كثيرا ونهبوا شيئا كثيرا وظنوا أن جيش سنقر الأشقر يكون معهم على الملك المنصور قلاوون، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الأشقر أن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين والمصلحة أنا نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم، وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا أحدا.
فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة، وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب، ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار. وخرج الملك من مصر في أواخر جمادى الأولى ومعه العساكر.
وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الآخرة قرىء على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد بالملك إلى ابنه علي ولقب بالملك الصالح، فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتر من حلب إلى بلادهم وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين، ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد.
وقال أبو الفداء في حوادث هذه السنة: إن الملك المنصور أرسل عسكرا إلى شيزر وهي لسنقر الأشقر وجرى بينهم مناوشة، ثم إنه ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر الأشقر واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر ووقع بينهم الصلح على أن يسلم شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الأشقر الشغر وبكاس وكانتا قد ارتجعتا منه، فتسلم نواب السلطان شيزر وتسلم الشغر وبكاس سنقر الأشقر وحلفا على ذلك واستقر الصلح بينهما اه. وتقدم أنه على إثر هذا الصلح عاد التتر من حلب.
وقال ابن إياس في حوادث هذه السنة: فيها جاءت الأخبار أن ملك التتار زحف على البلاد وأرسل أخاه منكوتمر في جاليش العسكر وقد وصلوا إلى حلب وملكوا ضياعها وأشرفوا على أخذ المدينة، فلما بلغ الملك المنصور قلاوون الألفي ذلك خرج بنفسه هو والأمراء على جرائد الخيل، فلما وصل إلى غزة جاءت الأخبار بأن منكوتمر أخا أبغا لما بلغه مجيء السلطان نهب البلاد وأحرق الضياع وقتل الرعية وآذى البرية ثم رجع إلى بلاده، فلما بلغ السلطان رجع من غزة إلى القاهرة فجاءت الأخبار بأن التتار رجعوا إلى حلب وأفحشوا في حق الرعية أعظم ما فعلوا في الأول، فخرج إليهم السلطان ثانيا وجد في السير فتلاقى مع عسكر التتار على المرج الأصفر فكان بينهما واقعة عظيمة وذلك في سنة ثمانين وستمائة.(2/269)
سنة 680
ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص وانكسارهم عليها
قال أبو الفداء: في هذه السنة أعني سنة ثمانين وستمائة في شهر رجب كان المصاف العظيم بين المسلمين وبين التتار بظاهر حمص، فنصر الله المسلمين بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار، وكان من حديث هذا المصاف العظيم أن أبغا بن هولاكو حشد وجمع وسار بهذه الحشود طالبا الشام، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم وسار إلى الرحبة وسيّر جيوشه وجموعه إلى الشام وقدم عليها أخاه منكوتمر بن هولاكو وسار إلى جهة حمص.
قال ابن كثير: لما اقترب مجيء التتار كتب السلطان المنصور قلاوون إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش، فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الأعراب، وجاء صاحب الكرك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل جانب، وجاءته التركمان والأعراب وكثرت الأراجيف بدمشق وكثرت العساكر بها وانجفل الناس من بلاد حلب وتلك النواحي وتركوا الغلات والأموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار، ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا، ونازلت التتر بالرحبة في أواخر جمادى الآخرة طائفة من الأعراب وكان فيهم ملك التتار أيضا مختفيا ينظر ماذا يصنع أصحابه وكيف يقاتلون أعداءه، ثم خرج الملك المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والأئمة بالجوامع والمساجد وغيرها في الصلوات وغيرها، ولما انتهى السلطان الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الأشقر يطلبه إليه نجدة، فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الإقامات وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك. واجتمع الناس بعد خروج السلطان في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الإسلام وأهله على الأعداء، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى يدعون ويبتهلون ويبكون، وأقبلت التتار قليلا قليلا، فلما وصلوا حماة أحرقوا بستان الملك وقصره وما هناك من المساكن والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الأتراك والتركمان وغيرهم في جحفل كثير جدا،
فأقبلت التتر في مائة ألف مقاتل أو يزيدون [في أبي الفداء كان عدتهم ثمانين ألفا] ولما كان يوم الخميس رابع عشر شهر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيدون قليلا والجمع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن، فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا، وانكسر جناح القلب الأيسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين والتتر في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص، ووصلوا إلى حمص وهي مغلقة الأبواب فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الأشقر وبيسري وطيبرس الوزيري وأمير سلاح وأيتمش السعدي وحسام الدين لاجين وحسام الدين طرنطاي والدواداري وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر وخرج منكوتمر، وجاءهم الأمير عيسى بن مهنا ناحية العرض فصدم التتر فاضطربت الجيوش لصدمته وتمت الهزيمة ولله الحمد وقتلوا من التتر مقتلة عظيمة جدا، ورجعت الطائفة من التتر الذين اتبعوا المسلمين المنهزمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون والسلطان ثابت في مكانه تحت الصناجق والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا نحو ألف فارس، فطمعوا فيه فقاتلوه، فثبت لهم ثباتا عظيما فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم، وكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتر قبل الغروب، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية والأخرى إلى ناحية حلب والفرات، فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب، فدقت البشائر وزينت البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس. فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري والحالق وغيرهم فأخبروا الناس بما شاهدوا من الهزيمة في أول الأمر ولم يكونوا شاهدوا ما بعد ذلك، فبقي الناس في قلق عظيم وخوف شديد وتهيأ ناس كثير للهرب فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية وأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الأمر وآخره، فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد، ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الجمعة الثاني والعشرين(2/270)
قال ابن كثير: لما اقترب مجيء التتار كتب السلطان المنصور قلاوون إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش، فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الأعراب، وجاء صاحب الكرك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخرة وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل جانب، وجاءته التركمان والأعراب وكثرت الأراجيف بدمشق وكثرت العساكر بها وانجفل الناس من بلاد حلب وتلك النواحي وتركوا الغلات والأموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار، ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عين تاب وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا، ونازلت التتر بالرحبة في أواخر جمادى الآخرة طائفة من الأعراب وكان فيهم ملك التتار أيضا مختفيا ينظر ماذا يصنع أصحابه وكيف يقاتلون أعداءه، ثم خرج الملك المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والأئمة بالجوامع والمساجد وغيرها في الصلوات وغيرها، ولما انتهى السلطان الملك المنصور إلى حمص كتب إلى الملك الكامل سنقر الأشقر يطلبه إليه نجدة، فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الإقامات وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك. واجتمع الناس بعد خروج السلطان في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الإسلام وأهله على الأعداء، وخرجوا كذلك والمصحف على رؤوسهم إلى المصلى يدعون ويبتهلون ويبكون، وأقبلت التتار قليلا قليلا، فلما وصلوا حماة أحرقوا بستان الملك وقصره وما هناك من المساكن والسلطان المنصور مخيم بحمص في عساكر من الأتراك والتركمان وغيرهم في جحفل كثير جدا،
فأقبلت التتر في مائة ألف مقاتل أو يزيدون [في أبي الفداء كان عدتهم ثمانين ألفا] ولما كان يوم الخميس رابع عشر شهر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيدون قليلا والجمع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن، فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة، فاستظهر التتار أول النهار وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا، وانكسر جناح القلب الأيسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين والتتر في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص، ووصلوا إلى حمص وهي مغلقة الأبواب فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم، وأشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك، ثم إن أعيان الأمراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الأشقر وبيسري وطيبرس الوزيري وأمير سلاح وأيتمش السعدي وحسام الدين لاجين وحسام الدين طرنطاي والدواداري وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة، ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر وخرج منكوتمر، وجاءهم الأمير عيسى بن مهنا ناحية العرض فصدم التتر فاضطربت الجيوش لصدمته وتمت الهزيمة ولله الحمد وقتلوا من التتر مقتلة عظيمة جدا، ورجعت الطائفة من التتر الذين اتبعوا المسلمين المنهزمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا والعساكر في آثارهم يقتلون ويأسرون والسلطان ثابت في مكانه تحت الصناجق والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا نحو ألف فارس، فطمعوا فيه فقاتلوه، فثبت لهم ثباتا عظيما فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم، وكان ذلك تمام النصر، وكان انهزام التتر قبل الغروب، وافترقوا فرقتين أخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية والأخرى إلى ناحية حلب والفرات، فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب، فدقت البشائر وزينت البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس. فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري والحالق وغيرهم فأخبروا الناس بما شاهدوا من الهزيمة في أول الأمر ولم يكونوا شاهدوا ما بعد ذلك، فبقي الناس في قلق عظيم وخوف شديد وتهيأ ناس كثير للهرب فبينما الناس في ذلك إذ أقبلت البريدية وأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الأمر وآخره، فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد، ثم دخل السلطان إلى دمشق يوم الجمعة الثاني والعشرين
من رجب
وبين يديه الأسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى منهم. وكان يوما مشهودا، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الأشقر منهم علم الدين الدواداري، فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا وقد كثرت له المحبة والأدعية، وكان سنقر الأشقر قد ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون.(2/271)
من رجب
وبين يديه الأسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤوس القتلى منهم. وكان يوما مشهودا، ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الأشقر منهم علم الدين الدواداري، فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا وقد كثرت له المحبة والأدعية، وكان سنقر الأشقر قد ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون.
وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوأ حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب ويقتلون في كل فج، حتى وصلوا إلى الفرات فغرق أكثرهم ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا منهم آخرين والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس. وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الأمراء منهم الأمير الكبير الحاج عز الدين أزدمر الجمدار وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر، فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه الله تعالى ودفن بالقرب من مشهد خالد، وخرج السلطان من دمشق قاصدا الديار المصرية يوم الأحد ثاني شعبان والناس يدعون له، ودخل مصر في ثاني عشر شعبان.
قال أبو الفداء: كان عدة التتر ثمانين ألف فارس منهم خمسون ألفا من المغل والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم. ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها رحل عنها على عقبه منهزما وكتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الإسلامية فزينت لذلك. (ثم قال): ومات منكوتمر بن هولاكو بن طلو ابن جنكز خان بجزيرة ابن عمر مكمودا عقيب كسرته على حمص، وكان موته من جملة هذا الفتح العظيم.
سنة 681
قال أبو الفداء: فيها ولى السلطان مملوكه شمس الدين قرا سنقر نيابة السلطنة بحلب فسار إليها واستقر.
سنة 682
قال ابن الوردي: فيها تسلم عسكر حلب لكحنا بمكاتبة حكامها قراسنقر وصارت من أعظم الثغور نفعا.(2/272)
سنة 684
ذكر تجديد المحراب الكبير في الجامع الأعظم
قال في كراسة عندي تكلم فيها على الجامع الأعظم: وأما المحراب الكبير فقد جدد بعد حريقه في أيام السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون في شهر رجب سنة أربع وثمانين وستمائة في كفالة قراسنقر المنصوري وفيه انحراف اه.
تاريخ حريقه:
قال في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: لما استولى التتار المخذولون على حلب يوم الأحد عاشر صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة دخل صاحب سيس إلى الجامع وقتل به خلقا كثيرا وأحرق الجانب القبلي منه، وأخذ الحريق قبلة وغربا إلى المدرسة الحلاوية واحترق سوق البزازين، فعرف عماد الدين القزويني لهولاكو ما اعتمده السيسيون من الإحراق للجامع وإعفائهم كنائس النصارى، فأمر هولاكو برفع ذلك وإطفاء النار وقتل السيسيين فقتل منهم خلقا كثيرا ولم يقدروا على إطفاء النار، فأرسل الله عزّ وجل مطرا عظيما فأطفأها.
ثم اعتنى نور الدين يوسف بن أبي بكر بن عبد الرحمن السلماسي الصوفي بتنظيف الجامع ودفن ما كان فيه من قتلى المسلمين في جباب كانت بالجامع للغلة في شماليه. ولما مات عز الدين أحمد أحد البتكجية، وليس معناه الكاتب مطلقا إنما معناه الذي يكتب الكتب (1)، خرج عن ماله جميعه لله تعالى فقبضه أخوه وتصدق ببعضه وعمر حائط الجامع منه فأصرف عليه عشرين ألف درهم منها ثمانية عشر ألفا لبنائه وألفان لحصره ومصابيحه.
(قلت): ولما ملك السلطان الملك الظاهر حلب أمر بتكليس الحائط الذي بني وعقد الجملون على الحائط القبلي وكذا الحائط الغربي من جهة الصحن وعمل له سقفا متقنا اه.
أقول: يظهر أنه لم يبن جميع الحائط القبلي وبقي محل المحراب إلى أن أمر بعمارته الملك المنصور قلاوون في هذه السنة في ولاية قراسنقر كما هو محرر على الجدار فوق المحراب ونص ذلك: (أمر بعمارته بعد حريقه مولانا السلطان الأعظم الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون أعز الله تعالى نصره).
__________
(1) قلت: فعلى هذا يقتضي أن تكون هذه الكلمة الكتبجية(2/273)
وكتب تحت ذلك فوق المحراب ما نصه: (بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري). وكتب على الجدار تحت المنبر: (أمر بعمله المقر العالي الأميري قراسنقر الجوكندار المنصوري عز نصره).
سنة 689
ذكر وفاة السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي وسلطنة ولده الأشرف خليل
قال أبو الفداء ما خلاصته: في هذه السنة في ذي القعدة توفي الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحي، وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر، ولما توفي جلس في الملك بعده ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل.
سنة 690
ذكر عمارة قلعة حلب بعد خرابها
قال أبو الفداء: وفي أوائل هذه السنة أعني سنة تسعين تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام السلطان الملك المنصور فتمت في أيام الملك الأشرف فكتب اسمه عليها، وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة فكان لبثها على التخريب نحو ثلاثة وثلاثين سنة بالتقريب اه.
قال بيشوف في تاريخه: مكتوب جانب الباب الأوسط في القلعة:
(بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار المنصوري الأشرفي كافل المملكة الحلبية أعز الله نصره) وعلى ظاهر القصر فوق باب القلعة: (أمر بعمارته بعد إهماله وإشرافه على الدثور في أيام مولانا السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين ناصر الإسلام والمسلمين عماد الدولة ركن الملة مجير الأمة ظهير الخلافة نصير الإمامة سيد الملوك والسلاطين سلطان جيوش الموحدين ناصر الحق بالبراهين محيي العدل في العالمين).(2/274)
وعلى الباب الوسطاني في القلعة: (أمر بعمارته بعد دثوره السلطان الأعظم الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين خليل محيي الدولة الشريفة العباسية ناصر الملة المحمدية عز نصره).
سنة 691
ذكر فتوح قلعة الروم وعزل قراسنقر عن حلب وتولية سيف الدين بلبان الطباخي
قال أبو الفداء: في هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام وجمع عساكره المصرية والشامية، وسار الملك المظفر محمود وعمه الملك الأفضل إلى خدمته والتقياه بدمشق وسارا في خدمته وسبقاه، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل السلطان إلى حماة (إلى أن قال): وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم فصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة الروم في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة ونصب عليها المجانيق (عند ابن كثير أن المجانيق كانت تزيد على ثلاثين منجنيقا) وهذا الحصار من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها وكنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها ودام حصارها وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب من هذه السنة وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم كيناغيلوس خليفة الأرمن المقيم بها في القلة وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس الجبل المطل على القلة فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم طلبوا الأمان من السلطان فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك وأخذ كيناغيلوس وجميع من كان بقلة القلعة أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة وإصلاح ما خرب منها وجرد معه لذلك جماعة من العسكر وأقام الشجاعي وعمرها وحصنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب ثم إلى حماة وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق وأعطى الملك المظفر الدستور فأقام ببلده، وسار السلطان إلى دمشق وصام بها
رمضان وعيّد بها ثم سار إلى الديار المصرية. وعند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب واستصحبه معه وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان المعروف بالطباخي.(2/275)
قال أبو الفداء: في هذه السنة سار السلطان الملك الأشرف من مصر إلى الشام وجمع عساكره المصرية والشامية، وسار الملك المظفر محمود وعمه الملك الأفضل إلى خدمته والتقياه بدمشق وسارا في خدمته وسبقاه، فاهتم الملك المظفر صاحب حماة في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل السلطان إلى حماة (إلى أن قال): وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم فصل السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة الروم في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة ونصب عليها المجانيق (عند ابن كثير أن المجانيق كانت تزيد على ثلاثين منجنيقا) وهذا الحصار من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها وكنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها ودام حصارها وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب من هذه السنة وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم كيناغيلوس خليفة الأرمن المقيم بها في القلة وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس الجبل المطل على القلة فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم طلبوا الأمان من السلطان فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك وأخذ كيناغيلوس وجميع من كان بقلة القلعة أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة وإصلاح ما خرب منها وجرد معه لذلك جماعة من العسكر وأقام الشجاعي وعمرها وحصنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب ثم إلى حماة وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق وأعطى الملك المظفر الدستور فأقام ببلده، وسار السلطان إلى دمشق وصام بها
رمضان وعيّد بها ثم سار إلى الديار المصرية. وعند عود السلطان إلى حلب من قلعة الروم عزل قراسنقر المنصوري عن نيابة السلطنة بحلب واستصحبه معه وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان المعروف بالطباخي.
سنة 692
ذكر استيلاء الملك الأشرف على قلعة بهنسى وقلعة مرعش وتل حمدون
قال ابن إياس: في هذه السنة توجه الملك الأشرف من مصر إلى دمشق فعرض عليه العسكر بدمشق وعين جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية ليتوجهوا إلى نحو سيس، فلما وصلوا إلى سيس أرسل صاحبها يطلب الأمان، فأرسل الأمراء يكاتبون السلطان بذلك فعاد الجواب من السلطان: إن كان صاحب سيس يسلم هذه القلاع الثلاث وهي قلعة بهسنى وقلعة مرعش وتل حمدون فأعطوه الأمان، وإن لم يسلم هذه القلاع الثلاث فحاصروه. فلما وصلت مراسيم السلطان بذلك سلم صاحب سيس تلك القلاع الثلاث وحصل الصلح ورجع العسكر من سيس.
سنة 693
ذكر مقتل الملك الأشرف خليل وسلطنة أخيه
قال أبو الفداء: في أوائل المحرم قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وساق سبب ذلك، وأقيم في السلطنة مكانه أخوه الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون.
سنة 694
ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة
قال أبو الفداء: في هذه السنة في تاسع المحرم جلس الأمير زين الدي كتبغا المنصوري على سرير المملكة ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا واستحلف الناس على ذلك، وخطب له بمصر والشام ونقشت السكة باسمه، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل وحجب عنه الناس، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور جعل
نائبه في السلطنة حسام الدين لاجين الذي كان مستترا بسبب قتل السلطان الملك الأشرف.(2/276)
قال أبو الفداء: في هذه السنة في تاسع المحرم جلس الأمير زين الدي كتبغا المنصوري على سرير المملكة ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا واستحلف الناس على ذلك، وخطب له بمصر والشام ونقشت السكة باسمه، وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل وحجب عنه الناس، ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور جعل
نائبه في السلطنة حسام الدين لاجين الذي كان مستترا بسبب قتل السلطان الملك الأشرف.
ذكر إسلام قازان خان ملك التتر
قال أبو الفداء: في هذه السنة في ذي الحجة استقر قازان خان بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن طلو بن جنكز خان في المملكة.
قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته: غازان واسمه بالعربي محمود، ولي أمر الملك بالبلاد الشرقية في سنة أربع وتسعين وستمائة عوضا عن القان بيدو بن طرغاي بن هولاكو، وكان وزيره ومدبر مملكته زوج عمته الأمير نوروز التركي فحرضه على الإسلام فأسلم في شعبان من هذه السنة بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ عبد الله بن حموية الجويني وذلك بقرب الري بعد خروجه من الحمام، وجلس مجلسا عاما فتلفظ بشهادة الحق وهو يبتسم ووجهه يستنير ويتهلل، وكان شابا أشقر مليحا له إذ ذاك بضع وعشرون سنة، وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجة عظيمة من المغل والعجم وغيرهم ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ وكان يوما مشهودا، وفشا الإسلام في حاشيته بتحريض الأمير نوروز المذكور، فإنه كان مسلما خيرا صحيح الإسلام يحفظ كثيرا من القرآن والرقايق والأذكار، ثم شرع نوروز يلقن الملك غازان شيئا من القرآن ويجتهد عليه ودخل رمضان فصامه، ولولا هذا الفوز الذي حصل له في الإسلام وإلا كان قد استباح الشام لما غلب عليه فلله الحمد والمنة اه. وسيأتيك خبر مجيئه إلى هذه البلاد سنة 699.
وقال ابن كثير: في هذه السنة ملك التتار قازان بن أرغون فأسلم وأظهر الإسلام على يد الأمير نوروز رحمه الله تعالى ودخلت التتر أو أكثرهم في الإسلام ونثر الذهب واللؤلؤ والفضة على رؤوس الناس يوم إسلامه، وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد، وظهرت السبح والهياكل مع التتر والحمد لله وحده اه.(2/277)
سنة 696
ذكر خلع الملك العادل كتبغا واستيلاء حسام الدين لاجين على المملكة
قال أبو الفداء ما خلاصته: في هذه السنة حصلت وقعة بين الملك العادل كتبغا وبين نائبه في السلطنة حسام الدين لاجين في دمشق أدت إلى خلع الملك كتبغا نفسه وطلب الأمان، وأقيم في السلطنة حسام الدين لاجين وبايعه الأمراء ولقب بالملك المنصور، وشرط عليه الأمراء شروطا منها أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا، فأجابهم لاجين إلى ذلك ثم رحل بالعساكر المصرية إلى مصر وأعطى للعادل كتبغا صرخد.
ذكر قتل الأمير نوروز
قال ابن كثير: في هذه السنة قتل قازان نوروز الذي كان إسلامه على يديه، كان نوروز هو الذي استسلمه ودعاه إلى الإسلام فأسلم وأسلم معه أكثر التتر، فإن التتر شوشوا خاطر قازان عليه واستمالوه منه وعنه، فلم يزل به حتى قتله وقتل جميع من ينسب إليه، وكان نوروز هذا من خيار أمراء التتر عند قازان ولقد أسلم على يديه خلق كثير لا يعلمهم إلا الله واتخذوا السبح والهياكل وحضروا الجماعات وقرؤوا القرآن انتهى.
سنة 697
ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب ثم دخولهم ثانيا وما فتحوه
قال أبو الفداء: في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور جيشا كثيفا من الديار المصرية مع بدر الدين بكتاش الفخري المعروف بأمير سلاح ومع علم الدين سنجر الدواداري ومع شمس الدين كريته ومع حسام الدين لاجين الرومي المعروف بالحسام أستاذدار، فساروا إلى الشام ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب
السلطنة بالشام وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص، وسارت العساكر إلى حلب وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وسابع نيسان، ثم ساروا إلى بلاد سيس فعبر صاحب حماة والدواداري ومن معهما من العساكر من دربندمري وعبر باقي العساكر من جهة بغراس من باب إسكندرونة واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من شهر رجب، وكسبوا وغنموا وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة الموافق لرابع أيار، وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى جهة قصطون فورد مرسوم لاجين بعود العساكر واجتماعهم بحلب ودخولهم إلى بلاد سيس ثانيا، وهذه الغزاة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب وأقمنا، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان من هذه السنة الموافق للعشرين من حزيران وأقام على حموص (1) بدر الدين بكتاش أمير سلاح والملك المظفر صاحب حماة ومن انضم إليهما من عسكر دمشق مثل ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ومضافيه من عسكر دمشق وحاصرنا حموص وضايقناها، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص في الوطاة، واستمر الحال على ذلك وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير فهلك غالبهم في العطش.(2/278)
قال أبو الفداء: في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور جيشا كثيفا من الديار المصرية مع بدر الدين بكتاش الفخري المعروف بأمير سلاح ومع علم الدين سنجر الدواداري ومع شمس الدين كريته ومع حسام الدين لاجين الرومي المعروف بالحسام أستاذدار، فساروا إلى الشام ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد، ثم بعد مدة سار سيف الدين قبجق نائب
السلطنة بالشام وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص، وسارت العساكر إلى حلب وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره، ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وسابع نيسان، ثم ساروا إلى بلاد سيس فعبر صاحب حماة والدواداري ومن معهما من العساكر من دربندمري وعبر باقي العساكر من جهة بغراس من باب إسكندرونة واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من شهر رجب، وكسبوا وغنموا وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة الموافق لرابع أيار، وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى جهة قصطون فورد مرسوم لاجين بعود العساكر واجتماعهم بحلب ودخولهم إلى بلاد سيس ثانيا، وهذه الغزاة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتها من أولها إلى آخرها، فعدنا إلى حلب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب وأقمنا، ثم رحلنا من حلب ثالث رمضان من هذه السنة الموافق للعشرين من حزيران وأقام على حموص (1) بدر الدين بكتاش أمير سلاح والملك المظفر صاحب حماة ومن انضم إليهما من عسكر دمشق مثل ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ومضافيه من عسكر دمشق وحاصرنا حموص وضايقناها، وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص في الوطاة، واستمر الحال على ذلك وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش، وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها وكذلك اجتمع فيها من الدواب شيء كثير فهلك غالبهم في العطش.
ولما اشتد بهم الحال وهلكت النساء والأطفال أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان وهو سابع عشر يوما من نزولنا عليها من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان فتقاسمهم العسكر وغنموهم، فكان قسمي جاريتين ومملوكا، وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز ضباب قوي ومطر، وحصل للملك المظفر وهو نازل على حموص قليل مرض ولم يكن صحبته طبيبه فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته، وكانت خيمته المنصوبة على حموص خيمة ظاهرها أحمر قد عملها من أكسية مغربية وداخلها منقوش بالخام الرفيع المصبغ، وكانت الأمراء الذين لم ينازلوا حمص وهم مقيمون في الوطاة إذا
__________
(1) هي من قلاع بلاد الأرمن.(2/279)
عرض لهم ما يقتضي المشاورة يطلعون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة، واستمر الحال على ذلك إلى أن فتحت حموص وغيرها على ما سنذكره.
ثم قال: ولما دخلت العساكر إلى سيس ونازلت حموص كان ملك الأرمن سنباط، ولما ضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون نسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين ابن ليفون في المملكة والقبض على سنباط، واجتمع الأرمن على دندين فأحس سنباط بذلك فهرب إلى جهة قسطنطينية وتملك دندين، ويقال له كسيندين أيضا، فلما تملك دندين المذكور أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام وأنه نائب السلطان بهذه البلاد، فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حدا بين المسلمين والأرمن وأن يسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحون من الحصون والبلاد، فأجاب دندين المذكور إلى ذلك وسلم جميع البلاد التي جنوب نهر جيحان المذكور إلى المسلمين، منها حموص وتل حمدون وكويرا والنفير وحجر شغلان وسرفندكار ومرعش، وهذه جميعها حصون منيعة ما ترام، وكذلك سلم غيرها من البلاد، وكان تسليم حموص يوم الجمعة تاسع عشر شوال من هذه السنة ووافق ذلك ثامن شهر آب، وسلمت تل حمدون بعدها، ثم سلمت باقي الحصون والبلاد المذكورة، وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلاد، وكان ذلك رأيا فاسدا على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن عند دخول قازان البلاد. (ثم قال):
وعدنا من بلاد سيس ودخلنا حلب تاسع ذي القعدة.
ولما أقمنا بها ورد مرسوم حسام الدين لاجين إلى سيف الدين بلبان الطباخي [نائب حلب] بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيما بحمص مستشعرا خائفا من لاجين المذكور فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد وكان من جملة العسكر المجردين على حلب، وكذلك هرب السلحدار وبورلار وغراز ووصلوا إلى حمص واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان. ولما هربوا ساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب مع جماعة من العسكر
المجردين ليقطعوا عليهم الطريق، ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات واتصلوا بقازان ملك التتر فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(2/280)
ولما أقمنا بها ورد مرسوم حسام الدين لاجين إلى سيف الدين بلبان الطباخي [نائب حلب] بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر، فعلموا بذلك، وكان قبجق مقيما بحمص مستشعرا خائفا من لاجين المذكور فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد وكان من جملة العسكر المجردين على حلب، وكذلك هرب السلحدار وبورلار وغراز ووصلوا إلى حمص واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان. ولما هربوا ساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب مع جماعة من العسكر
المجردين ليقطعوا عليهم الطريق، ففاتهم قبجق ومن معه وعبروا الفرات واتصلوا بقازان ملك التتر فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
سنة 698
ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين وسلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون
في هذه السنة قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين، قتله جماعة من المماليك الصبيان الذين اصطفاهم لنفسه ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر. وأقيم في السلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون وهي سلطنته الثانية.
ما احتج به قازان ملك التتر في قصده هذه البلاد أيضا
قال أبو الفداء: في هذه السنة أرسل سيف الدين بلبان الطباخي [نائب السلطنة بحلب] عسكرا إلى ماردين فنهبوا ربض ماردين حتى نهبوا الجامع وعملوا الأفعال الشنيعة، وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره.
في هذه السنة في رمضان الموافق لحزيران من شهور الروم جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب بسبب حركة التتر إلى جهة الشام، فسرنا من حماة إلى المعرة. وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار، فعدنا من المعرة إلى حماة فورد كتابه بطلبنا فأعادنا الملك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان وحزيران فسرنا ودخلنا حلب في الثاني والعشرين من رمضان من هذه السنة، ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستورا فسرت إلى حماة إلى خدمة ابن عمي الملك المظفر واستمر أخواي وغيرهما من الأمراء والعسكر مقيمين بحلب، وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة اه.
ثم قال: وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة وأقام بها حتى خرجت هذه السنة.(2/281)
سنة 699
ذكر المصاف العظيم الذي كان بين المسلمين والتتر واستيلاء التتر على دمشق وخروجهم منها وعزل سيف الدين بلبان عن حلب وتوليتها إلى قراسنقر للمرة الثانية
قال ابن إياس في حوادث هذه السنة: فيها جاءت الأخبار من حلب بأن قازان ملك التتار قد زحف على البلاد ووصل أوائل عسكره إلى الفرات وهو في عسكر ثقيل لا يحصى، وغازان هذا هو ابن أرغون بن أبغا بن هولاكو الذي أخرب بغداد وقتل الخليفة وجرى منه ما جرى.
وكان سبب مجيء قازان وزحفه على البلاد هو أن قبجق نائب الشام لما بلغه أن الملك المنصور لاجين أرسل بالقبض عليه أخذ أولاده وعياله وبركه وماله وخرج من الشام وتوجه هاربا إلى القان قازان، وحسن له أن الملك الناصر صغير وأن الأمراء والعسكر بينهم الخلف وأنه إذا زحف القان غازان على البلاد لا يجد من يرده عنها، فعند ذلك جمع القان غازان عساكر عظيمة نحو مائتي ألف مقاتل، ولما وصل الخبر إلى الديار المصرية اضطربت الأرض واجتمعت الأمراء بالقلعة وضربوا مشورة فوقع الاتفاق على أن الأتابكي بيبرس الجاشنكير يتوجه إلى حلب ومعه خمسمائة مملوك قبل خروج السلطان، وخرج الأتابكي بيبرس على جرائد الخيل مع العسكر، ثم خرج الملك الناصر محمد بعده في خامس عشر صفر، وكان صحبته الخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله والقضاة الأربعة، وكان قاضي القضاة الشافعي حينئذ شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد، وخرج مع السلطان وسائر الأمراء والعساكر فجدّ السلطان في المسير حتى وصل إلى دمشق في ثامن ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة، ثم خرج من دمشق فتلاقى مع جاليش غازان في مكان يعرف بسلمية قرب بعلبك، فوقع بينهما واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها وقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم، فانكسر عسكر السلطان وهرب الملك الناصر إلى بعلبك ونهب بركه وسائر برك العسكر ولم يبق معه من العسكر إلا طائفة يسيرة.
ثم إن القان غازان زحف على ضياع الشام ونهب ما فيها وسبى أهلها، فلما بلغ أهل الشام ذلك خافوا على أنفسهم من غازان فيما فعله في أهل الضياع فتشاوروا مع جماعة
من العلماء الذين كانوا بدمشق وخرجوا إلى غازان يطلبون منه الأمان، فخرج قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعي والشيخ زين الدين الفارقي والشيخ تقي الدين بن تيمية الحراني والقاضي نجم الدين ابن الصرصري والقاضي عز الدين بن تركي والشيخ عز الدين ابن القلانسي والقاضي جلال الدين القزويني وغير هؤلاء جماعة العلماء الصلحاء، فلما دخلوا على غازان ووقفوا بين يديه وقف الترجمان وتكلم مع القان غازان في أمرهم وأنهم جاؤوا يطلبون الأمان منه، فقال له غازان: قل لهم إني قد أرسلت لهم الأمان قبل حضورهم عندي، فرجعوا إلى دمشق واجتمع في جامع بني أمية الجم الغفير وقرؤا على الناس الأمان الذي أرسله القان غازان إلى أهل دمشق، فلما قرىء عليهم ذلك الأمان وسمعوه فرح الناس بذلك وحصل عندهم سكون بعدما كانوا في اضطراب من أمر غازان. ثم حضر الأمير قبجق الذي كان نائب الشام وهرب إلى غازان ونزل بالميدان الأخضر وأرسل يقول إلى نائب قلعة الشام: سلم إلينا القلعة ولا تحوجنا أن نحاصرك وتغلب بعد ذلك، فأرسل نائب القلعة يقول لقبجق: ليس لك عندي إلا السيف، وكيف أسلم القلعة والملك الناصر على قيد الحياة.(2/282)
ثم إن القان غازان زحف على ضياع الشام ونهب ما فيها وسبى أهلها، فلما بلغ أهل الشام ذلك خافوا على أنفسهم من غازان فيما فعله في أهل الضياع فتشاوروا مع جماعة
من العلماء الذين كانوا بدمشق وخرجوا إلى غازان يطلبون منه الأمان، فخرج قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعي والشيخ زين الدين الفارقي والشيخ تقي الدين بن تيمية الحراني والقاضي نجم الدين ابن الصرصري والقاضي عز الدين بن تركي والشيخ عز الدين ابن القلانسي والقاضي جلال الدين القزويني وغير هؤلاء جماعة العلماء الصلحاء، فلما دخلوا على غازان ووقفوا بين يديه وقف الترجمان وتكلم مع القان غازان في أمرهم وأنهم جاؤوا يطلبون الأمان منه، فقال له غازان: قل لهم إني قد أرسلت لهم الأمان قبل حضورهم عندي، فرجعوا إلى دمشق واجتمع في جامع بني أمية الجم الغفير وقرؤا على الناس الأمان الذي أرسله القان غازان إلى أهل دمشق، فلما قرىء عليهم ذلك الأمان وسمعوه فرح الناس بذلك وحصل عندهم سكون بعدما كانوا في اضطراب من أمر غازان. ثم حضر الأمير قبجق الذي كان نائب الشام وهرب إلى غازان ونزل بالميدان الأخضر وأرسل يقول إلى نائب قلعة الشام: سلم إلينا القلعة ولا تحوجنا أن نحاصرك وتغلب بعد ذلك، فأرسل نائب القلعة يقول لقبجق: ليس لك عندي إلا السيف، وكيف أسلم القلعة والملك الناصر على قيد الحياة.
قال أبو الفداء: وكاتب النائب بالقلعة الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها وأحرق الدور التي حوالي القلعة والمدارس، فاحترقت دار السعادة التي كانت مقر نواب السلطنة، وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة. وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقية ثم عاد إلى بلاده الشرقية وقرر في دمشق قبجق وجرد صحبته عدة من المغل.
قال ابن إياس: كان رحيل قازان عن دمشق يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى وترك بها أميرا من التتار يقال له الأمير قطلو شاه ومعه عسكر من التتار، هذا ما كان من أمر القان قازان. وأما ما كان من أمر الملك وأمر عسكره فإنه لما انكسر ودخل إلى بعلبك أقام بها أياما ثم قصد التوجه إلى الديار المصرية وجد في السير حتى وصل إلى القاهرة، فدخل على حين غفلة وطلع القلعة وقد نهب جميع ما كان معه من البرك وكذلك الأمراء والعساكر، فلما طلع القلعة فتح الزردخانة وفرق ما كان فيها من الملبوس والسلاح على العسكر، ثم فتح خزائن المال وأنفق على العسكر فأعطى كل مملوك ثمانين دينارا وجماعة منهم أعطاهم خمسة وسبعين دينارا وجماعة منهم خمسة وستين دينارا، وأعطى مماليك
الأمراء كل واحد خمسين دينارا، ثم أنفق على عسكر الشام الذي حضروا بصحبته فأعطى كل واحد منهم عشرة دنانير ذهبا وعشرة أرادب شعيرا وعشرة أرادب قمحا، ثم أنفق على سائر الأمراء والمقدمين والطبلخاناه والعشروات لكل واحد منهم على قدر مقامه. وكان القائم في تدبير مملكته الأمير سلار نائب السلطنة والأتابكي بيبرس الجاشنكير.(2/283)
قال ابن إياس: كان رحيل قازان عن دمشق يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى وترك بها أميرا من التتار يقال له الأمير قطلو شاه ومعه عسكر من التتار، هذا ما كان من أمر القان قازان. وأما ما كان من أمر الملك وأمر عسكره فإنه لما انكسر ودخل إلى بعلبك أقام بها أياما ثم قصد التوجه إلى الديار المصرية وجد في السير حتى وصل إلى القاهرة، فدخل على حين غفلة وطلع القلعة وقد نهب جميع ما كان معه من البرك وكذلك الأمراء والعساكر، فلما طلع القلعة فتح الزردخانة وفرق ما كان فيها من الملبوس والسلاح على العسكر، ثم فتح خزائن المال وأنفق على العسكر فأعطى كل مملوك ثمانين دينارا وجماعة منهم أعطاهم خمسة وسبعين دينارا وجماعة منهم خمسة وستين دينارا، وأعطى مماليك
الأمراء كل واحد خمسين دينارا، ثم أنفق على عسكر الشام الذي حضروا بصحبته فأعطى كل واحد منهم عشرة دنانير ذهبا وعشرة أرادب شعيرا وعشرة أرادب قمحا، ثم أنفق على سائر الأمراء والمقدمين والطبلخاناه والعشروات لكل واحد منهم على قدر مقامه. وكان القائم في تدبير مملكته الأمير سلار نائب السلطنة والأتابكي بيبرس الجاشنكير.
ثم إن الملك الناصر قصد العود إلى محاربة قازان فبرز بخيامه في الريدانية وخرج من القاهرة ثانيا وكان صحبته الخليفة الإمام أحمد والقضاة الأربعة وسائر الأمراء والعساكر، فلما أقام في الريدانية وجدّ في السير فتقدم في جاليش العسكر الأمير سلار نائب السلطنة والأتابكي بيبرس الجاشنكير، فلما وصل الجاليش إلى دمشق تلقاهم الأمير قبجق وأظهر الطاعة للسلطان واجتمع بالأمراء وأشار عليهم بأن السلطان يرجع إلى القاهرة ولا يدخل دمشق وسيجيئه الأمر كما يختار، فعند ذلك رجع السلطان إلى القاهرة، وكان رجوعه إليها في ثامن عشر شهر رمضان من سنة تسع وتسعين وستمائة.
قال أبو الفداء: لما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية ومسير سلار وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام، فسار المذكوران بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا إلى جهة ديار مصر، وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية وخلا الشام منهم، ووصل قبجق والألبكي والسلحدار إلى الأبواب السلطانية فأحسن إليهم السلطان.
ووصل سلار وبيبرس الجاشنكير إلى دمشق وقررا أمور الشام ورتّبا في نيابة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم على عادته، ورتّبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها وإعطائه إقطاعا بديار مصر. (ثم قال):
وسار قراسنقر إلى حلب ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية.
قال ابن إياس: قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير قبجق بعد أن جرى ما جرى ورجع إلى القاهرة وتلاقى عسكر السلطان مع عسكر غازان فكاد غازان ينكسر وهمّ بالهرب، فطلبني ليضرب عنقي لأني كنت السبب في مجيئه إلى دمشق، فلما حضرت بين يديه قال لي: ما هذا الحال؟ فقلت: ما ثمّ إلا الخير والسلامة فأنا أخبر
بعساكرنا فإن لهم أول صدمة ثم يولون عن القتال، فالقان يصبر ساعة فما يبقى قدّامه أحد منهم. فصبر ساعة فكان ما قاله صحيحا، ولما انكسر عسكر مصر أراد أن يزحف عليهم بما معه من العسكر، فقلت في نفسي: متى زحف عليهم لم يبق منهم أحد فقلت له: القان يصبر ساعة فإن عسكر مصر لهم حيل وخداع وربما يكون لهم كمين وراء الجبل فيخرج علينا فتنكسر، فسمع لي ثم وقف ساعة حتى أبعدتم عنا ولم يبق منكم أحد قدامه، فلو زحف عليكم ما بقي منكم أحد فلولا أنا ما سلم منكم أحد فكان الأمر كما قيل:(2/284)
قال ابن إياس: قال القاضي محيي الدين بن فضل الله: حكى لي الأمير قبجق بعد أن جرى ما جرى ورجع إلى القاهرة وتلاقى عسكر السلطان مع عسكر غازان فكاد غازان ينكسر وهمّ بالهرب، فطلبني ليضرب عنقي لأني كنت السبب في مجيئه إلى دمشق، فلما حضرت بين يديه قال لي: ما هذا الحال؟ فقلت: ما ثمّ إلا الخير والسلامة فأنا أخبر
بعساكرنا فإن لهم أول صدمة ثم يولون عن القتال، فالقان يصبر ساعة فما يبقى قدّامه أحد منهم. فصبر ساعة فكان ما قاله صحيحا، ولما انكسر عسكر مصر أراد أن يزحف عليهم بما معه من العسكر، فقلت في نفسي: متى زحف عليهم لم يبق منهم أحد فقلت له: القان يصبر ساعة فإن عسكر مصر لهم حيل وخداع وربما يكون لهم كمين وراء الجبل فيخرج علينا فتنكسر، فسمع لي ثم وقف ساعة حتى أبعدتم عنا ولم يبق منكم أحد قدامه، فلو زحف عليكم ما بقي منكم أحد فلولا أنا ما سلم منكم أحد فكان الأمر كما قيل:
ولو شئت قابلت المسيء بفعله ... ولكنني أبقيت للصلح موضعا
وقد بسط ابن كثير في حوادث هذه السنة ما لاقته دمشق من الفظائع والشدائد.
قال أبو الفداء: وحينما كان قازان بجموعه في البلاد الشامية طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها، فاستولى الأرمن عليها وارتجعوا حموص وتل حمدون وكوبر وسرفندكار والنقير وغيرها، ولم يبق مع المسلمين من جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان.
سنة 700سبعمائة عود التتر إلى بلاد الشام
قال أبو الفداء: في هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وعبروا الفرات في ربيع الآخر وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب، وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة، وبرز زين الدين كتبغا وعساكر حماة إلى ظاهر حماة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة وسادس كانون الأول، وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بحماة وأقامت التتر ببلاد سرمين والمعرة وتيزين والعمق وغيرها ينهبون ويقتلون (1)،
__________
(1) قال ابن خطيب الناصرية في ترجمة غازان: لما كان سنة سبعمائة جمع أيضا غازان عسكره وحشد وقدم إلى بلاد الشام فجفل الناس وخلت البلاد الحلبية وأخذ التتار في الإفساد على عادتهم وحاصروا قلعة حلب ولم يحصلوا منها على طائل ولا أخذوها إلا أنهم نهبوا قراها.(2/285)
وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجا. واتفق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكر عن المقام على تلك الحال، فرحل السلطان والعساكر وعادوا إلى الديار المصرية فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة.
وأما التتر فإنهم أقاموا ينتقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر، ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه ورد التتر على أعقابهم بقدرته، فعادوا إلى بلادهم وعبروا الفرات في أواخر جمادى الآخرة من هذه السنة الموافق لأوائل آذار من شهور الروم ورجع عسكر حلب مع قراسنقر إلى حلب وتراجعت الجفال إلى أماكنهم. وفي هذه السنة توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائبا بحلب ودفن بأرض الرملة وورثه السلطان بالولاء.
سنة 701
ذكر الإغارة على سيس
قال أبو الفداء: في هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح وأيبك الخزندار معهما العساكر فساروا إلى حماة، وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس، فخرج كتبغا المذكور من حماة وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من حزيران من شهور الروم، وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور ودخلنا حلب مستهل ذي القعدة ودخلنا دربند بغراس سابع ذي القعدة من الشهر المذكور، وانتشرت العساكر في بلاد سيس فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئا كثيرا من جفال الأرمن، وعدنا من الدربند إلى مرج أنطاكية ووصلنا إلى حلب تاسع عشر ذي القعدة وسرنا إلى حماة ودخلناها في السابع والعشرين من الشهر المذكور اه.
سنة 702
ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى
قال ابن إياس في حوادث سنة اثنتين وسبعمائة: فيها جاءت الأخبار بأن أميرا من
أمراء القان غازان يقال له قطلوشاه قد دخل إلى حلب على حين غفلة من أهلها ومعه طائفة من عسكر التتار، وذكروا أن بلادهم قد اضمحلت هذه السنة وقصدهم الإقامة بحلب حتى يشتروا لهم مغلا، وكل ذلك حيل وخداع، ثم بعد أيام دخل منهم جماعة إلى مرعش فأرسل نائب حلب يكاتب السلطان بذلك، فلما جاء هذا الخبر عين السلطان جماعة من الأمراء المقدمين عدتهم ستة من الأمراء وعيّن ألف مملوك من المماليك السلطانية، فخرجوا من القاهرة على الفور مسرعين، فلما وصلوا إلى غزة تواترت الأخبار بوصول غازان إلى الرحبة وأن نائب الرحبة تلطف به وأرسل له بالإقامة مع ولده ومنعه من محاصرة المدينة، فلما أن بلغ السلطان ذلك أحضر الأمير سلار النائب والأتابكي بيبرس الجاشنكير وضربوا مشورة في ذلك، فأشاروا على السلطان بالخروج قبل أن يتمكن العدو من البلاد، فنادى السلطان في جميع أماكن القاهرة للعسكر بالرحيل من كبير وصغير.(2/286)
قال ابن إياس في حوادث سنة اثنتين وسبعمائة: فيها جاءت الأخبار بأن أميرا من
أمراء القان غازان يقال له قطلوشاه قد دخل إلى حلب على حين غفلة من أهلها ومعه طائفة من عسكر التتار، وذكروا أن بلادهم قد اضمحلت هذه السنة وقصدهم الإقامة بحلب حتى يشتروا لهم مغلا، وكل ذلك حيل وخداع، ثم بعد أيام دخل منهم جماعة إلى مرعش فأرسل نائب حلب يكاتب السلطان بذلك، فلما جاء هذا الخبر عين السلطان جماعة من الأمراء المقدمين عدتهم ستة من الأمراء وعيّن ألف مملوك من المماليك السلطانية، فخرجوا من القاهرة على الفور مسرعين، فلما وصلوا إلى غزة تواترت الأخبار بوصول غازان إلى الرحبة وأن نائب الرحبة تلطف به وأرسل له بالإقامة مع ولده ومنعه من محاصرة المدينة، فلما أن بلغ السلطان ذلك أحضر الأمير سلار النائب والأتابكي بيبرس الجاشنكير وضربوا مشورة في ذلك، فأشاروا على السلطان بالخروج قبل أن يتمكن العدو من البلاد، فنادى السلطان في جميع أماكن القاهرة للعسكر بالرحيل من كبير وصغير.
ثم إن السلطان أحضر جماعة من عربان الشرقية ومن عربان الغربية ونادى بالنفير عاما وخرج مسرعا على جرائد الخيل وكان معه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان والقضاة الأربعة وسائر الأمراء والعسكر من كبير وصغير، فلما رحلوا من الريدانية تقدم الأتابكي بيبرس الجاشنكير مع جماعة من العسكر قدام السلطان. فلما وصلوا إلى الشام جاءت الأخبار بأن جاليش غازان قد وصل إلى قرب حماة، فأرسل الأتابكي بيبرس يستحث السلطان في سرعة الحضور، فجد السلطان في السير حتى وصل إلى الشام وبرز إلى قتال عسكر قازان فكان مع السلطان من العساكر المصرية والشامية وعربان جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان وكان مع غازان مثل ذلك أو أكثر، فتلاقى العسكران على مرج راهط تحت جبل غباغب فكان بين الفريقين هناك واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان، فكانت النصرة يومئذ للملك الناصر محمد بن قلاوون على القان غازان فقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم وأسر من عسكر غازان نحو الثلث وقتل من أمراء مصر الأمير حسام الدين لاجين استادار العالية والأمير أوليا بن قرمان والأمير سنقر الكافوري والأمير أيدمر الشمسي والأمير آقوش الشمسي الحاجب والأمير عز الدين نقيب الجيوش المنصورة والأمير علاء الدين بن التركماني والأمير حسام الدين بن ساخل والأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي، هؤلاء غير من قتل من أمراء دمشق الشام وحماة وحلب وطرابلس وغزة وغير ذلك من الأمراء. وقتل من المماليك السلطانية والأمراء نحو ألف وخمسمائة مملوك،
هذا خارجا عن العربان والمشاة والعبيد والغلمان وغير ذلك. فلما دخل الليل حالت الظلمة بين العسكرين فالتجأ عسكر غازان إلى أعلى الجبال وباتوا يوقدون النيران وبات عسكر السلطان محدقين بهم كالحلقة، فلما لاح الصباح من يوم الأحد رابع شهر رمضان عاين عسكر التتار الهلاك من العطش والجوع فصاروا يتسحبون من الأودية أولا بأول، فحمل عسكر السلطان عليهم فصيروهم رمما وأسروا منهم ما شاؤوا فامتلأت من قتلاهم القفار، فلما وصلت هذه النصرة للملك الناصر محمد أرسل الأمير بكتوت الفتاح بأخبار هذه النصرة إلى الديار المصرية.(2/287)
ثم إن السلطان أحضر جماعة من عربان الشرقية ومن عربان الغربية ونادى بالنفير عاما وخرج مسرعا على جرائد الخيل وكان معه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان والقضاة الأربعة وسائر الأمراء والعسكر من كبير وصغير، فلما رحلوا من الريدانية تقدم الأتابكي بيبرس الجاشنكير مع جماعة من العسكر قدام السلطان. فلما وصلوا إلى الشام جاءت الأخبار بأن جاليش غازان قد وصل إلى قرب حماة، فأرسل الأتابكي بيبرس يستحث السلطان في سرعة الحضور، فجد السلطان في السير حتى وصل إلى الشام وبرز إلى قتال عسكر قازان فكان مع السلطان من العساكر المصرية والشامية وعربان جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان وكان مع غازان مثل ذلك أو أكثر، فتلاقى العسكران على مرج راهط تحت جبل غباغب فكان بين الفريقين هناك واقعة عظيمة لم يسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان، فكانت النصرة يومئذ للملك الناصر محمد بن قلاوون على القان غازان فقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم وأسر من عسكر غازان نحو الثلث وقتل من أمراء مصر الأمير حسام الدين لاجين استادار العالية والأمير أوليا بن قرمان والأمير سنقر الكافوري والأمير أيدمر الشمسي والأمير آقوش الشمسي الحاجب والأمير عز الدين نقيب الجيوش المنصورة والأمير علاء الدين بن التركماني والأمير حسام الدين بن ساخل والأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي، هؤلاء غير من قتل من أمراء دمشق الشام وحماة وحلب وطرابلس وغزة وغير ذلك من الأمراء. وقتل من المماليك السلطانية والأمراء نحو ألف وخمسمائة مملوك،
هذا خارجا عن العربان والمشاة والعبيد والغلمان وغير ذلك. فلما دخل الليل حالت الظلمة بين العسكرين فالتجأ عسكر غازان إلى أعلى الجبال وباتوا يوقدون النيران وبات عسكر السلطان محدقين بهم كالحلقة، فلما لاح الصباح من يوم الأحد رابع شهر رمضان عاين عسكر التتار الهلاك من العطش والجوع فصاروا يتسحبون من الأودية أولا بأول، فحمل عسكر السلطان عليهم فصيروهم رمما وأسروا منهم ما شاؤوا فامتلأت من قتلاهم القفار، فلما وصلت هذه النصرة للملك الناصر محمد أرسل الأمير بكتوت الفتاح بأخبار هذه النصرة إلى الديار المصرية.
ثم إن السلطان رحل من المكان الذي وقعت فيه الواقعة ودخل إلى دمشق وصحبته الخليفة المستكفي بالله سليمان والقضاة الأربعة فنزل بالقصر الأبلق، وكان يوم دخوله إلى دمشق يوما مشهودا لم يسمع بمثله.
وقبل هذه الواقعة كانت وقعة أخرى ذكرها أبو الفداء في تاريخه فقال: في هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها (بساتينها) وسارت منهم طائفة تقدير عشرة آلاف فارس وأغاروا على القريتين وتلك النواحي، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة وكان مريضا من حين عاد من بلاد سيس، فلما اجتمعت العساكر عنده وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر إلى التتر الذي أغاروا على القريتين فجردوا أستدمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب وجماعة من عسكر حماة وجردوني أيضا من جملتهم، فسرنا من حماة سابع شعبان من هذه السنة وتواقعنا مع التتر على موضع يقال له الكوم قريبا من عرض، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان الموافق لسلخ آذار وصبر الفريقان، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين وترجّل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا وقاتلوا بالنشاب وعملوا سروج الخيل ستائر لهم وناوشهم العسكر القتال من الضحى إلى انفراك الظهر، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني، ثم عدنا مؤيدين منصورين ووصلنا حماة ثالث عشر شعبان الموافق لثاني نيسان. (ثم ذكر الواقعة الثانية بمعنى ما قدمناه عن ابن إياس إلى أن قال): لما أصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين انحدروا من الجبل يبتدرون الهرب وتبعهم
المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان في طريقهم أرض متوحلة فتوحل فيها عالم كثير من التتر فأخذ بعضهم أسرى وقتل بعضهم وجرّد من العسكر الإسلامي جمعا كثيرا مع سلار وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين، ووصل التتر إلى الفرات وهي في قوة زيادتها فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد فأنقطع أكثرهم على شاطىء الفرات وهلك من الجوع وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة. ولما حصل هذا النصر العظيم واجتمعت العساكر بدمشق أعطاهم السلطان الدستور فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم فدخلنا حماة مؤيدين منصورين يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة الموافق لرابع أيار من شهور الروم اه.(2/288)
وقبل هذه الواقعة كانت وقعة أخرى ذكرها أبو الفداء في تاريخه فقال: في هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها (بساتينها) وسارت منهم طائفة تقدير عشرة آلاف فارس وأغاروا على القريتين وتلك النواحي، وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائب بحماة وكان مريضا من حين عاد من بلاد سيس، فلما اجتمعت العساكر عنده وقع الاتفاق على إرسال جماعة من العسكر إلى التتر الذي أغاروا على القريتين فجردوا أستدمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب وجماعة من عسكر حماة وجردوني أيضا من جملتهم، فسرنا من حماة سابع شعبان من هذه السنة وتواقعنا مع التتر على موضع يقال له الكوم قريبا من عرض، واقتتلنا معهم يوم السبت عاشر شعبان الموافق لسلخ آذار وصبر الفريقان، ثم نصر الله المسلمين وولى التتر منهزمين وترجّل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا وقاتلوا بالنشاب وعملوا سروج الخيل ستائر لهم وناوشهم العسكر القتال من الضحى إلى انفراك الظهر، ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم، وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني، ثم عدنا مؤيدين منصورين ووصلنا حماة ثالث عشر شعبان الموافق لثاني نيسان. (ثم ذكر الواقعة الثانية بمعنى ما قدمناه عن ابن إياس إلى أن قال): لما أصبح الصباح وشاهد التتر كثرة المسلمين انحدروا من الجبل يبتدرون الهرب وتبعهم
المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وكان في طريقهم أرض متوحلة فتوحل فيها عالم كثير من التتر فأخذ بعضهم أسرى وقتل بعضهم وجرّد من العسكر الإسلامي جمعا كثيرا مع سلار وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين، ووصل التتر إلى الفرات وهي في قوة زيادتها فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك، فساروا على جانبها إلى جهة بغداد فأنقطع أكثرهم على شاطىء الفرات وهلك من الجوع وأخذ منهم العرب جماعة كثيرة وأخلف الله تعالى بهذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة تسع وتسعين وستمائة. ولما حصل هذا النصر العظيم واجتمعت العساكر بدمشق أعطاهم السلطان الدستور فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم فدخلنا حماة مؤيدين منصورين يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة الموافق لرابع أيار من شهور الروم اه.
سنة 703
ذكر الاستيلاء على تل حمدون
قال ابن كثير: يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا معهم نائب حمص الجوكندار ووصلوا إلى حماة فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عليها فانفرقوا فرقتين سارت طائفة صحبة قبجق إلى ناحية ملطية وقلعة الروم، والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل، فدقت البشائر لذلك بدمشق ووقع الاتفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيحان إلى حلب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم وأن يعجلوا حمل سنتين، ووقعت الهدنة على ذلك بعد قتل خلق من الأمراء الأرمن ورؤسائهم، وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدة منصورة، ثم توجهت العساكر المصرية إلى مصر اه. قال أبو الفداء: لما استولوا على تل حمدون هدموها إلى الأرض.(2/289)
سنة 705
ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيس
قال أبو الفداء: في أوائل المحرم من هذه السنة الموافق العشر الأخير من تموز أرسل قراسنقر نائب السلطنة بحلب مع قشتمر مملوكه عسكر حلب للإغارة على بلاد سيس فدخلوها في أول الشهر المذكور، وكان قشتمر المذكور ضعيف العقل قليل التدبير مشتغلا بالخمر ففرط في حفظ العسكر ولم يكشف أخبار العدو واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعا كثيرة من التتر وانضمت إليهم الأرمن والفرنج ووصلوا على غرة إلى قشتمر المذكور ومن معه من الأمراء وعسكر حلب والتقوا بالقرب من أياس، فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم فتولوا يبتدرون الطريق، وتمكنت التتر والأرمن منهم فقتلوا وأسروا غالبهم واختفى من سلم في تلك الجبال ولم يصل إلى حلب منهم إلا القليل عرايا بغير خيل. وكان صاحب سيس في هذه السنة هيثوم بن ليفون بن هيثوم.
سنة 708
مسير السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة في الخامس والعشرين من شهر رمضان خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية متوجها إلى الحجاز الشريف. ولما وصل إلى الكرك واستقر بها أمر جمال الدين آقوش نائب السلطنة بها والأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي، ولم يتركا للملك الناصر غير الاسم، فأنف من ذلك وترك الديار المصرية وأقام بالكرك، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك اتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير وأن يكون سلار مستمرا على نيابة السلطنة كما كان عليه وحلفوا على ذلك. وركب بيبرس من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل وجلس على سرير الملك في الثالث والعشرين من
شوال هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعمائة وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم، وكتب تقليدا لمولانا السلطان بالكرك ومنشورا بما عيّنه له من الإقطاع بزعمه وأرسلهما إليه واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة اه.(2/290)
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة في الخامس والعشرين من شهر رمضان خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية متوجها إلى الحجاز الشريف. ولما وصل إلى الكرك واستقر بها أمر جمال الدين آقوش نائب السلطنة بها والأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك، وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور وتجاوز الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي، ولم يتركا للملك الناصر غير الاسم، فأنف من ذلك وترك الديار المصرية وأقام بالكرك، ولما وصلت الأمراء إلى الديار المصرية وأعلموا من بها بإقامة السلطان بالكرك اتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير وأن يكون سلار مستمرا على نيابة السلطنة كما كان عليه وحلفوا على ذلك. وركب بيبرس من داره بشعار السلطنة إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل وجلس على سرير الملك في الثالث والعشرين من
شوال هذه السنة أعني سنة ثمان وسبعمائة وتلقب بالملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري، وأرسل إلى نواب السلطنة بالشام فحلفوا له عن آخرهم، وكتب تقليدا لمولانا السلطان بالكرك ومنشورا بما عيّنه له من الإقطاع بزعمه وأرسلهما إليه واستقر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة اه.
سنة 709
دعوة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك إلى دمشق ثم إلى مصر وإقامته في السلطنة وتولية حلب لسيف الدين قبجق
في هذه السنة عاد السلطان محمد بن قلاوون من الكرك إلى دمشق ثم إلى مصر وأعيد إلى السلطان لمكاتبات أتت له من أهالي دمشق وحلب، وخلع بيبرس الجاشنكير نفسه، واستقر الملك الناصر على سرير ملكهه مستهل شوال من هذه السنة وهي سلطنته الثالثة. وقد بسط أبو الفداء وابن إياس القول في ذلك.
ثم قال أبو الفداء: وأعطى نيابة السلطنة بحلب سيف الدين قبجق وقرر نيابة السلطنة بالشام لشمس الدين قراسنقر (النائب السابق بحلب).
سنة 710
ذكر وفاة سيف الدين قبجق وتولية حلب إلى أسندمر ثم القبض عليه
قال أبو الفداء: في هذه السنة أعطى مولانا السلطان نيابة السلطنة بالسواحل والفتوحات لأسندمر وتصدّق علي بحماة والمعرّة وبارين، وأرسل تقليد أسندمر بالسواحل مع منكوتمر الطباخي فوصل إلى دمشق في الثالث والعشرين من جمادى الأولى وسار إلى حماة فلم يجب أسندمر إلى المسير إلى الساحل وامتنع من قبول التقليد والخلعة ورد التقليد صحبة منكوتمر المذكور فعاد به إلى دمشق، واتفق عند ذلك موت سيف الدين قبجق نائب السلطنة بحلب في يوم السبت سلخ جمادى الأولى، فلما وصل خبر موته إلى الأبواب الشريفة أنعم السلطان بنيابة حلب على أسندمر موضع سيف الدين قبجق.(2/291)
قال ابن الخطيب في الدر المنتخب في ترجمته نقلا عن تاريخ شيخه الحسن بن حبيب قال: سنة عشره وسبعمائة وفيها توفي الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب السلطنة بحلب، كان عزيز الجانب مشحون الفلك والقارب، معظما في الدول مصدقا إن قال موفقا إن فعل، موصوفا بالإقدام والحماسة مشهورا بالمعرفة والخبرة والسياسة، ولي نيابة السلطنة بدمشق وحماة قبل حلب، وكانت وفاته بها ونقل إلى تربته بحماة تغمده الله برحمته.
قال أبو الفداء: وكان السلطان قد جرد عسكرا مع كراي المنصوري وشمس الدين سنقر الكمالي فساروا وأقاموا بحمص، ولما وصلت إلى حماة عائدا من الأبواب الشريفة ركبوا من حمص وساقوا ليكبسوا أسندمر بحلب ويبغتوه بها فإنه كان مستشعرا لما كان قد فعله من الجرائم، وأرسل كراي المذكور إلي يعلمني بمسيرهم وأن أسير بالعسكر الحموي وأجتمع بهم لهذا المهم، فخرجت من حماة يوم الخميس تاسع ذي الحجة وسقنا نهار الجمعة وبعض الليل ووصلنا إلى حلب بعد مضي ثلثي الليلة المسفرة عن نهار السبت حادي عشر ذي الحجة، واحتطنا بدار النيابة التي فيها أسندمر تحت قلعة حلب وأمسكناه بكرة السبت واعتقل بقلعة حلب وجهز إلى مصر مقيدا في يوم الأحد ثاني عشر ذي الحجة، ووصل إلى مصر فاعتقل بها، ثم نقل إلى الكرك وكان آخر العهد به، واحتيط على موجوده من الخيل والقماش والسلاح وكان شيئا كثيرا وحمل جميع ذلك إلى بيت المال، واستمر كراي والكمالي ومن معهما من العساكر والعبد الفقير إسماعيل بن علي مقيمين بحلب حتى خرجت هذه السنة.
سنة 711
ذكر نقل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب
قال أبو الفداء: في هذه السنة لما قبض على أسندمر سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية لأنه كان قد طال مقامه بها وألف سكنى حلب، فرسم له بذلك وحصر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري، وسار في صحبته من دمشق متوجها إلى حلب وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب لئلا يقبضوا عليه، وبقي المقر السيفي
أرغون الدودار الناصري المذكور يطيّب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه ويسكنه ويثبت جأشه حتى وصل إلى حلب وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه، فالتقيناه ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر محرم من هذه السنة واستقر في نيابة السلطنة بحلب وأعطى المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلا وسفره، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب يوم الأربعاء لعشرين من المحرم وتوجه إلى الديار المصرية، فأقمنا بعد ذلك مدة ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر عائدين إلى أوطاننا.(2/292)
قال أبو الفداء: في هذه السنة لما قبض على أسندمر سأل قراسنقر نائب السلطنة بدمشق من مولانا السلطان أن ينقله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية لأنه كان قد طال مقامه بها وألف سكنى حلب، فرسم له بذلك وحصر تقليده بولاية حلب مع الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري، وسار في صحبته من دمشق متوجها إلى حلب وحصل عند قراسنقر استشعار من العسكر المقيمين بحلب لئلا يقبضوا عليه، وبقي المقر السيفي
أرغون الدودار الناصري المذكور يطيّب خاطر قراسنقر ويحلف له على عدم توهمه ويسكنه ويثبت جأشه حتى وصل إلى حلب وركبت العساكر المقيمون بحلب لملتقاه، فالتقيناه ودخل حلب في يوم الاثنين ثامن عشر محرم من هذه السنة واستقر في نيابة السلطنة بحلب وأعطى المقر السيفي أرغون الناصري عطاء جزيلا وسفره، وسار المقر السيفي أرغون المذكور من حلب يوم الأربعاء لعشرين من المحرم وتوجه إلى الديار المصرية، فأقمنا بعد ذلك مدة ثم ورد الدستور إلى العساكر المقيمة بحلب فسرنا منها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر عائدين إلى أوطاننا.
ذكر مسير قراسنقر إلى الحجاز وإظهاره العصيان وقصده حلب
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة سأل قراسنقر دستورا إلى الحجاز الشريف لقضاء حجة الفرض، فرسم له السلطان بذلك فعمل شغله وسار من حلب في أوائل شوال من هذه السنة، ولم يسر على الطريق وسار على طرف البلاد من شرقيها حتى وصل إلى بركة زيزا فحصل عنده التخيّل والخوف من الركب المصري لئلا يقبضوا عليه في الحجاز، فعاد من بركة زيزا على البرية وسار على البر إلى أركة والسخنة ثم إلى بر حلب واجتمع مع مهنّا ابن عيسى أمير العرب، واتفقا على المشاققة والعصيان، وقصد قراسنقر حلب ليستولي عليها فاجتمع العسكر والأمراء الذين بها ومنعوه من الدخول إليها. ووصل من صدقات السلطان إلى قراسنقر ومهنّا ما يطيب خاطرهما فلم يرجعا عن ضلالهما وأصرّا على ذلك، فجرد السلطان عسكرا مع المقر السيفي أرغون الدوادار الناصري ومع الأمير حسام الدين قرالاجين بسبب قراسنقر المذكور بحيث إن رجع عن الشقاق والنفاق يقرر أمره في مكان يختاره وإن لم يرجع عن ذلك يقصده العسكر حيث كان. ووصل العسكر المذكور إلى حماة سادس ذي الحجة. وسرت بصحبتهم في عسكر حماة وتوجهنا إلى البرية بالخام بالقرب من الزرقا حادي عشر ذي الحجة، فاندفع قراسنقر إلى الفرات وأقام هناك وافترقت مماليكه، فبعضهم سار إلى التتر وبعضهم قدم إلى الطاعة. ثم توجه قراسنقر إلى جهة مهنّا فعادت العساكر من الخام إلى حلب، وكان دخولنا إليها رابع عشر ذي الحجة من السنة، ثم كان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(2/293)
ثم قال: وخرجت هذه السنة وقراسنقر قد أظهر الشقاق وانضم إلى مهنّا بن عيسى أمير العرب وهو متردد في البراري على شاطىء الفرات والحكم بحلب إلى المشدين والنظار وليس بها نائب.
سنة 712
ما كان من أمر قراسنقر والأفرم وسيرهما إلى التتر
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة قصد آقوش الأفرم نائب السلطنة بالفتوحات أن يحدث خلافا وأن يجمع الناس عليه، فهرب إليه حموه أيدمر الزمر الزردكاش من دمشق وانضم إليه من لايق به وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم فلم يوافقهم أحد، فلما رأى الأفرم ذلك هرب من الساحل وخرج على حمية وعبر على الغولة بين دمشق وحمص وسار إلى البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة. وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص فساق خلف الأفرم فلم يلحقه، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار. فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر وهم قريب سلمية وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الناصري والأمير حسام الدين قرالاجين ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، ووصلت باقي العسكر وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق الثامن والعشرين من أيّار ونزلنا بظاهر سلمية. وقصد قراسنقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين وأنهم يوافقونهم على ذلك، فلم يوافقهم أحد على ذلك، فرجعوا عن ذلك وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علي بعسكر حماة، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين (قلى) بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين والمقدمين الدماشقة، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة إلى القسطل ثم إلى قديم ثم إلى عرض ثم إلى قباقب ثم إلى الرحبة، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم. فلما وصلنا إلى الرحبة اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان قريب
عانة والحديثة فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم، فأقمنا بالرحبة ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان قد سار من سلمية إلى حمص، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة.(2/294)
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة قصد آقوش الأفرم نائب السلطنة بالفتوحات أن يحدث خلافا وأن يجمع الناس عليه، فهرب إليه حموه أيدمر الزمر الزردكاش من دمشق وانضم إليه من لايق به وسار من دمشق واجتمع بالأفرم بالساحل وقصدوا من عسكر الساحل ومن غيرهم الموافقة لهم على ضلالهم فلم يوافقهم أحد، فلما رأى الأفرم ذلك هرب من الساحل وخرج على حمية وعبر على الغولة بين دمشق وحمص وسار إلى البرية واجتمع بقراسنقر في شهر المحرم من هذه السنة. وكان بعض العساكر مع الأمير سيف الدين أركتمر على حمص فساق خلف الأفرم فلم يلحقه، وكان على حلب العسكر المقدم ذكره في السنة الماضية صحبة الأمير سيف الدين أرغون الدوادار. فلما بلغنا هروب الأفرم واجتماعه بقراسنقر وهم قريب سلمية وقع آراء الأمراء على الرحيل من حلب والمسير إلى جهة حمص وسلمية، فرحل الأمير سيف الدين أرغون الناصري والأمير حسام الدين قرالاجين ومؤلف هذا المختصر بعسكر حماة من حلب وسرنا ووصلنا إلى حماة في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، ووصلت باقي العسكر وسرنا من حماة في يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم الموافق الثامن والعشرين من أيّار ونزلنا بظاهر سلمية. وقصد قراسنقر والأفرم كبس العسكر بالليل لظنهما أن فيهم مخامرين وأنهم يوافقونهم على ذلك، فلم يوافقهم أحد على ذلك، فرجعوا عن ذلك وسار قراسنقر والأفرم ومن معهما إلى جهة الرحبة فاتفق آراء الأمراء على تجريد عسكر في إثرهم فجردوا العبد الفقير إسماعيل بن علي بعسكر حماة، وكذلك جردوا من المصريين الأمير سيف الدين (قلى) بمقدمته وغيره من المقدمين المصريين والمقدمين الدماشقة، فسرنا من سلمية في يوم الخميس سابع عشر المحرم من هذه السنة إلى القسطل ثم إلى قديم ثم إلى عرض ثم إلى قباقب ثم إلى الرحبة، ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم. فلما وصلنا إلى الرحبة اندفع قراسنقر ومن معه إلى جهة رومان قريب
عانة والحديثة فما أمكنا المضي خلفه إلى تلك البلاد بغير مرسوم، فأقمنا بالرحبة ثم رحلنا منها عائدين في مستهل صفر الموافق لثامن حزيران من هذه السنة وسرنا إلى المقر السيفي أرغون الدوادار، وكان قد سار من سلمية إلى حمص، فوصلنا إلى حمص في يوم الخميس ثامن صفر من هذه السنة.
ثم إن المقر السيفي رأى أن حماة قريبة وليس بمقامي بعسكر حماة على حمص فائدة فاقتضى رأيه سيري إلى حماة فسرت إليها ودخلتها ثاني عشر صفر. واستمر العسكر مقيمين بحمص، ثم إن قراسنقر والأفرم طال عليهما الحال وكثر ترداد الرسل إليهما في إطابة خواطرهما وهما لا يزدادان إلا عتوا ونفورا حتى سارا إلى التتر واتصلا بخدابندا في ربيع الأول من هذه السنة وكذلك أيدمر الزردكاش ومن انضم إليهم.
زيادة بيان في حوادث قراسنقر واحتمائه بأمير العرب مهنّا بن عيسى وقصد هذا حلب وتوجههما مع أمير حمص الأفرم إلى بلاد العراق
قال ابن بطوطة في رحلته: كان قراسنقر من كبار الأمراء وممن حضر قتل الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه، ولما تمهّد الملك للملك الناصر وقربه القرار واشتدت أواخي سلطانه جعل يتتبع قتلة أخيه فيقتلهم واحدا واحدا إظهارا للأخذ بثأره وخوفا أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه، وكان قراسنقر أمير الأمراء بحلب، فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم وجعل لهم ميعادا يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه، فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقر على نفسه وكان له ثمانمائة مملوك فركب فيهم وخرج على العساكر صباحا فاخترقهم وأعجزهم سبقا، وكانوا في عشرين ألفا، وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى وهو على مسيرة يومين من حلب، وكان مهنّا في قنص له فقصد بيته ونزل عن فرسه وألقى العمامة في عنق نفسه ونادى:
الجوار يا أمير العرب، وكانت هناك أم الفضل زوج مهنّا وبنت عمه فقالت: قد أجرناك وأجرنا من معك، فقال: إنما أطلب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب فانزل في جوارنا، ففعل ذلك وأتى مهنّا فأحسن نزله وحكمه في ماله فقال: إنما أحب أهلي ومالي
الذي تركته بحلب، فدعا مهنّا بأخوته وبني عمه فشاورهم في أمره، فمنهم من أجابه إلى ما أراد ومنهم من قال له: كيف نحارب الملك الناصر ونحن في بلاده بالشام؟ فقال لهم مهنّا:(2/295)
الجوار يا أمير العرب، وكانت هناك أم الفضل زوج مهنّا وبنت عمه فقالت: قد أجرناك وأجرنا من معك، فقال: إنما أطلب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب فانزل في جوارنا، ففعل ذلك وأتى مهنّا فأحسن نزله وحكمه في ماله فقال: إنما أحب أهلي ومالي
الذي تركته بحلب، فدعا مهنّا بأخوته وبني عمه فشاورهم في أمره، فمنهم من أجابه إلى ما أراد ومنهم من قال له: كيف نحارب الملك الناصر ونحن في بلاده بالشام؟ فقال لهم مهنّا:
فافعل لهذا الرجل ما يريده واذهب معه إلى سلطان العراق.
وفي أثناء ذلك ورد عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقر سيّروا على البريد إلى مصر، فقال مهنّا لقراسنقر: أما أولادك فلا حيلة فيهم وأما مالك فنجتهد في خلاصه، فركب فيمن أطاعه من أهله واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفا وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك، وقصدوا ملك العراق وصحبهم أمير حمص الأفرم ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان العراق وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ وهو ما بين السلطانية وتبريز فأكرم نزلهم وأعطى مهنّا عراق العرب، وأعطى قراسنقر مدينة مراغة من عراق العجم وتسمى دمشق الصغيرة، وأعطى الأفرم همدان. وأقاموا عنده مدة مات فيها الأفرم وعاد مهنّا إلى الملك الناصر بعد مواثيق وعهود أخذها منه، وبقي قراسنقر على حاله وكان الملك الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة، فمنهم من يدخل عليه داره فيقتل دونه ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه، وقتل بسببه من الفداوية جماعة (1)، وكان لا يفارق الدرع أبدا ولا ينام إلا في بيت العود والحديد، فلما مات السلطان محمد خدابنده وولي ابنه أبو سعيد وقع ما سنذكره من أمر الجوبان كبير أمرائه وفرار ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر، ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي سعيد واتفقا أن يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قراسنقر ويبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش، فبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش إلى أبي سعيد، فلما وصله أمر بحمل قراسنقر إليه، فلما عرف قراسنقر بذلك أخذ خاتما كان له مجوفا في داخله سم ناقع فنزع فصه وامتص ذلك السم فمات لحينه، فعرف أبو سعيد بذلك الملك الناصر ولم يبعث له برأسه.
ترجمة قراسنقر المنصوري وآثاره بحلب:
قال ابن خطيب الناصرية في الدر المنتخب: قراسنقر المنصوري الأمير شمس الدين ولي نيابة حلب من قبل أستاذه الملك المنصور قلاوون في سنة إحدى وثمانين وستمائة عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الباشقردي، وقدم إليها من مصر واستمر بها عشر سنين، ثم
__________
(1) انظر آخر حوادث سنة 727في الكلام على حصن القدموس.(2/296)
عزل منها في سنة إحدى وتسعين وستمائة بالأمير سيف الدين بلبان الطباخي، ثم وليها في سنة تسع وتسعين عوضا عن المذكور واستمر بها عشر سنين أيضا، ثم نقل إلى نيابة دمشق، ثم ولي نيابة حلب مرة ثالثة واستمر بها أياما، ثم تسحّب هو والأمير جمال الدين آقوش الأفرم الدواداري نائب السلطنة بطرابلس وذلك في سنة إحدى عشرة وسبعمائة إلى بلاد التتار خوفا على نفسهما فلحقا بخدابنده بن أرغون بن القان هولاكو ملك البلاد الشرقية على ما حكينا في ترجمة آقوش الأفرم.
وكان الأمير قراسنقر المذكور أميرا كبيرا شجاعا سعيدا حازما معرضا عن شرب الخمر ذا معرفة وخبرة ودهاء وتدبير، ولي نيابة السلطنة بمصر ودمشق وحماة وحلب وجمع أملاكا كثيرة وبنى بالقاهرة مدرسة مشهورة وبحلب رباطا معروفا به وله وقف كبير. وفيه يقول العلامة صدر الدين أبو عبد الله محمد الشهير بابن الوكيل الشافعي عند قدومه إلى حلب:
شمس سما فوق السماك محله ... وسبا سناه البدر في هالاته
بالسيف والعلم ارتقى فمضاء ذا ... لعدائه ومضى به لعداته
فالعلم بين بنانه وبيانه ... والحلم من أدواته ودواته
وكذا حديث الجود عنه مسند ... متواتر قد صح عند رواته
قد كان في حلب وفي سكانها ... شوق إليه يشب في لفحاته
فتباشروا فرحا بنيل مرامهم ... ودعوا بطول بقائه وثباته
وفيه يقول الرئيس بهاء الدين علي بن أبي سوادة الحلبي من أبيات:
وقائلة من أفرس الترك في الوغى ... وأثبتهم فوق الجياد السوابق
وافتكهم طعنا إذا اشتبك القنا ... وأضربهم بالسيف في كل مأزق
فقلت كفيل الملك والبطل الذي ... له صولة الآساد تحت السناجق
قراسنقر المنصور في كل موقف ... وحامي حمى الإسلام عند الحقائق
توفي الامير شمس الدين قراسنقر في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بمراغة وقد جاوز سبعين سنة تغمده الله تعالى برحمته اه.
أقول: وذكره المقريزي في تاريخه السلوك فيمن توفي في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة والله أعلم أيهما أصح.(2/297)
قال ثمة: وقد أعيا الملك الناصر قتله وبعث إليه كثيرا من الفداوية فصانه الله منهم بحيث قتل من الفداوية بسببه مائة وأربعة عشر فداويا، ولما بلغ السلطان موته قال: والله ما كنت أشتهي موته إلا من تحت سيفي وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي، ولكن الأجل حصين. وكانت له مع الفداوية أخبار طويلة ذكر منها المقريزي ما يطول به الكلام فاكتفينا بما نقلناه لك عن ابن بطوطة.
تولية حلب لسيف الدين سودي وقصد التتار الرحبة
قال أبو الفداء: وفي هذه السنة قرر السلطان سيف الدين سودي الجمدار الأشرفي ثم الناصري في نيابة السلطنة بحلب المحروسة موضع قراسنقر، فوصل سودي إلى حلب في ثامن ربيع الأول من هذه السنة واستقر في نيابة السلطنة بحلب.
مجيء التتر إلى الرحبة وتجريد العساكر إلى حلب
قال أبو الفداء: في يوم السبت سابع عشر رجب خرجت بعساكر حماة ودخلت حلب في يوم السبت الآخر الرابع والعشرين من رجب وأقمت بها، وكان النائب بها الأمير سيف الدين سودي، ثم وصل بعض عسكر دمشق مع سيف الدين بهادراص وقويت أخبار التتر وجفل أهل حلب وبلادها، ثم وصلت التتر إلى بلاد سيس وكذلك وصلوا إلى الفرات، فعندها رحل الأمير سيف الدين سودي وجميع العساكر المجردة من حلب ثامن رمضان ووصلنا إلى حماة سابع عشر رمضان وكان خدابندا نازل الرحبة بجموع المغل (التتر) في آخر شعبان من هذه السنة الموافق لأواخر كانون الأول، وقام سيف الدين سودي بعسكر حلب وغيره من العساكر المجردة بظاهر حلب ونزل بعضهم في الخانات، وكان البرد شديدا والجفال قد ملؤوا المدينة، واستمرينا مقيمين بحماة وكشافتنا تصل إلى عرض والسخنة وتعود إلينا بأخبار المخذول.
واستمر خدابندا محاصرا للرحبة وأقام عليها المجانيق وأخذ فيها النقوب ومعه قراسنقر والأفرم ومن معهما، وكانا قد أطمعا خدابندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة وهو بدر الدين بن أركشي الكردي، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة وأخذ له إمرة الطبلخاناة، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة، وحفظ المذكور دينه وما في عنقه من الأيمان للسلطان وقام بحفظ
القلعة أحسن قيام وصبر على الحصار وقاتل أشد قتال. ولما طال مقام خدابندا على الرحبة بجموعه وقع في عسكره الغلاء والفناء وتعذرت عليه الأقوات وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة وضجروا من الحصار ولم ينالوا شيئا ولا وجد خدابندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة، فرحل خدابندا عن الرحبة راجعا على عقبه في السادس والعشرين من رمضان بعد حصار نحو شهر وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة، ولما جرى ذلك رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيما بحماة مدة، ثم ورد لهم الدستور فساروا إلى دمشق اه.(2/298)
واستمر خدابندا محاصرا للرحبة وأقام عليها المجانيق وأخذ فيها النقوب ومعه قراسنقر والأفرم ومن معهما، وكانا قد أطمعا خدابندا أنه ربما يسلم إليه النائب بالرحبة قلعة الرحبة وهو بدر الدين بن أركشي الكردي، لأن الأفرم هو الذي كان قد سعى للمذكور في نيابة السلطنة بالرحبة وأخذ له إمرة الطبلخاناة، فطمع الأفرم بسبب تقدم إحسانه إلى المذكور أن يسلم إليه الرحبة، وحفظ المذكور دينه وما في عنقه من الأيمان للسلطان وقام بحفظ
القلعة أحسن قيام وصبر على الحصار وقاتل أشد قتال. ولما طال مقام خدابندا على الرحبة بجموعه وقع في عسكره الغلاء والفناء وتعذرت عليه الأقوات وكثرت منه المقفزون إلى الطاعة وضجروا من الحصار ولم ينالوا شيئا ولا وجد خدابندا لما أطمعه به قراسنقر والأفرم صحة، فرحل خدابندا عن الرحبة راجعا على عقبه في السادس والعشرين من رمضان بعد حصار نحو شهر وتركوا المجانيق وآلات الحصار على حالها، فنزلت أهل الرحبة واستولوا عليها ونقلوها إلى الرحبة، ولما جرى ذلك رحل سودي وعسكر حلب من حماة وعادوا إلى حلب واستمر بهادراص ومن معه من عسكر دمشق مقيما بحماة مدة، ثم ورد لهم الدستور فساروا إلى دمشق اه.
وذكر ابن إياس لرحيلهم عن الرحبة سببا آخر حيث قال: وفي هذه السنة حضر مملوك نائب حلب وأخبر السلطان بأن التتار قد تحركوا على البلاد، فلما تحقق السلطان ذلك عرض العسكر وأنفق عليهم فعبوا حالهم في سبعة أيام. ثم خرج السلطان من القاهرة في أوائل شهر رمضان وقصد التوجه إلى حلب بسبب التتار، فلما وصل إلى غزة وردت عليه الأخبار بأن التتار بلغهم مجيء السلطان فخافوا ورحلوا عن مدينة الرحبة وتوجهوا إلى بلادهم.
سنة 714
وفاة سيف الدين سودي وآثاره بحلب وتوليتها للأمير علاء الدين ألطنبغا
قال أبو الفداء: في هذه السنة في رجب توفي الأمير سيف الدين سودي نائب السلطنة بحلب، فولى السلطان نيابة السلطنة بحلب الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب، ووصل إلى حلب واستقر بها نائبا في أوائل شعبان من هذه السنة. اه.
قال ابن كثير: وممن توفي في هذه السنة سودي نائب حلب في رجب ودفن بتربته وهو الذي كان سببا في إجراء النهر إليها غرم عليه ثلثمائة ألف (1). وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله.
__________
(1) انظر حوادث سنة 731.(2/299)
وفي تتمة المختصر لابن الوردي: كان مشكور السيرة ودفن بالمقام وبنيت عليه تربة ورتب عليه قراء وما يليق به.
قال في الدرر الكامنة في ترجمته: كان رأس نوبة ومن أعيان الأمراء، وولي نيابة حلب في سنة 712وهو الذي أجرى النهر من الساجور إلى قويق وطوله أربعون ألف ذراع، وكان الغرامة عليه أربعمائة ألف درهم لم يظلم فيه أحدا، ولم يزل إلى أن مات في رجب سنة 714، وكانت مدة إمرته على حلب سنتين.
قال ابن الوردي في تتمة المختصر: ولي حلب بعد سودي الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحي الحاجب فانتفعت به حلب وبلادها وعمر جامعه بالميدان الأسود ونقل إليه أعمدة عظيمة من قورس، وعمرت بسبب هذا الجامع أماكن كثيرة حوله.
سنة 718
ذكر بناء ألطنبغا للجامع المسمى باسمه
قال في الدر المنتخب: ومن مشاهير جوامع حلب جامع ألطنبغا الصالحي نائب حلب ثم دمشق، بناه بطرف الميدان الأسود سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وهو أول جامع بني بحلب بعد الجامع الكبير داخل سورها على كتف خندق الروم شرقي المدينة، وجعل له بابين بابا غريبا يستطرق منه إلى حوش عظيم يعرف به ومنه إلى المدينة وهو بابه الكبير، وبنى إلى جانبه ميضاة كبيرة كثيرة النفع، وبابا شرقيا صغيرا يستطرق منه على جسر إلى ظاهر البلد وركب عليه باب قلعة النقير لما افتتحها وأخربها، وإليه تنسب محلته، وبه الآن مكان يخزن به ملح الجبول أظنه كان خانقاها للمسجد المذكور، وكرا المخزن يأخذه متوليه فيصرفه على مرتزقته، وبالقرب منه تربة هي الآن تحت يد بعض الناس تغلب عليها فجعلها بيتا وهي بناء عظيم.
سبب بنائه:
قال في كراسة عندي أظنها من (كنوز الذهب لأبي ذر): ونحن نذكر في كتابنا هذا ما تجدد بعده (بعد ابن شداد) من الجوامع من غير استيعاب فنبدأ بجامع ألطنبغا، إذ هو أول جامع بني بحلب بعد الأموي كما تقدم، وكملت عمارته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وهذا الجامع بصدر الميدان الأسود، وبلغني أن ألطنبغا كان يكره الخطيب ابن
العجمي خطيب الجامع الأعظم وهو مذكور مع أقاربه في فصله، وكان ألطنبغا لا يقابله بذلك، وصنع هذا الجامع ليصلي فيه ولا يصلي خلفه، وفي أول جمعة صليت فيه قرىء على أبي القاسم عمر بن حبيب المسلسل بالأولية تبركا بالحديث النبوي، وفيه مناسبة أخرى ظاهرة وفيه يقول ابن حبيب (1):(2/300)
قال في كراسة عندي أظنها من (كنوز الذهب لأبي ذر): ونحن نذكر في كتابنا هذا ما تجدد بعده (بعد ابن شداد) من الجوامع من غير استيعاب فنبدأ بجامع ألطنبغا، إذ هو أول جامع بني بحلب بعد الأموي كما تقدم، وكملت عمارته في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وهذا الجامع بصدر الميدان الأسود، وبلغني أن ألطنبغا كان يكره الخطيب ابن
العجمي خطيب الجامع الأعظم وهو مذكور مع أقاربه في فصله، وكان ألطنبغا لا يقابله بذلك، وصنع هذا الجامع ليصلي فيه ولا يصلي خلفه، وفي أول جمعة صليت فيه قرىء على أبي القاسم عمر بن حبيب المسلسل بالأولية تبركا بالحديث النبوي، وفيه مناسبة أخرى ظاهرة وفيه يقول ابن حبيب (1):
في حلب دار القرى جامع ... أنشأه ألطنبغا الصالحي
رحب الذرى يبدو لمن أمه ... لطف معاني (2) حسنه الواضح
مرتفع الرايات يروي الظما ... من مائه السارب والسارح
يهدي المصلي في ظلام الدجى ... من نوره اللامع واللايح
من حوله الروض يروي الورى ... من زهره بالفايق الفائح
لله بانيه الذي خصّه ... بالروح للغادي وللرائح
المكتوب على بابه الكبير الغربي:
1 - البسملة، إنما يعمر مساجد الله
2 - من آمن بالله واليوم الآخر. أنشأ هذا الجامع
3 - المبارك الفقير إلى الله تعالى المقر الأشرف العالي العلائي
4 - ألطنبغا الناصري تغمده الله برحمته وعفا عنه وذلك في أيام
5 - دولة مولانا السلطان المالك الملك الناصر محمد عز نصره
6 - في شهور سنة ثمانية عشر وسبعمائة من الهجرة النبوية والحمد لله.
وعلى يسار الداخل إليه باب يخرج منه إلى ساحة واسعة كانت قديما مخزنا للملح الذي يؤتى به من الجبول. والقبلية ذات أربع سوار في وسطها مبنية من الحجارة ولا أثر للعواميد هناك غير أن ثلاثة منها شكل بنائها يفيد أن تحت القواعد عواميد، وأخبرت أنه كان حصل هناك حريق فأصاب العواميد شيء من التوهّن فلف كل عمود بسارية من الحجر حفظا له.
__________
(1) الأبيات من الدر المنتخب ومن هذه الكراسة.
(2) في الأصل: لطف المعاني.(2/301)
والقبة التي فوق المحراب ذات هندسة بديعة حفظتها لنا الأيام مع ارتفاع بنائها وضخامة أحجارها. وقد كان بعض جدار القبلية الشمالي معمولا من الخشب فتوهن وصار يتطرق منه الهواء إلى القبلية فيتأذى به المصلون أيام الشتاء، فأزيل ذلك الخشب وبني عوضه من الحجر وذلك في سنة 1340. وحصل في الجامع في هذه السنة شيء من الترميم من طرف دائرة الأوقاف ومن بعض أهل الخير فعاد للجامع بعض رونقه.
وكان أحدث أمام الباب الصغير الشرقي ميضاة بحيث منعت الدخول إلى الجامع من هذا الباب وقد أزيلت سنة 1340، ومن هذا الباب تخرج إلى الخندق القديم الذي كان محيطا بسور البلد، وقد طم هذا الخندق وصار الآن جادة واسعة ووراء هذه الجادة المحلة المعروفة ببرية المسلخ.
وجدار القبلية الشرقي هو داخل في بناء السور ولذا كتب عليه من خارجه:
1 - البسملة، أمر بعمارة هذا السور في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي السعادات بن محمد بن الملك الأشرف قايتباي
2 - عز نصره المقر الكريم جان بلاط كافل حلب المحروسة وبتولي السيفي مصرباي نائب القلعة الحلبية بتاريخ جماد الآخر سنة ثلاث وتسعمائة.
والباقي له الآن من الأوقاف ثلث دار في محلة المزوّق، وإصطبل ونصف دار في محلة البستان، ومزرعتان في قرية السفيرة الواحدة اسمها الناعورة والأخرى مردغين، ويبلغ مجموع وارداته نحو ثلاثة آلاف قروش رائجة.
ذكر إغارة عسكر حلب على آمد
قال أبو الفداء: في هذه السنة في ربيع الآخر كانت الإغارة على آمد، وسبب ذلك أن نائب السلطنة بحلب جهز عدة كثيرة من عسكر حلب وغيرهم من التراكمين والعربان والطماعة وقدم عليهم شخصا تركمانيا من أمراء حلب يقال له ابن جاجا، وكان عدة المجتمعين المذكورين ما يزيد على عشرة آلاف فارس، فساروا إلى آمد وبغتوها ودخلوها ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى. ثم بعد ذلك أمر بإطلاق من كان مسلما فأطلقوا بعد أن ذهبت أموالهم. وبالغ المجتمعون المذكورون في النهب حتى نهبوا الجامع وأخذوا بسطه وقناديله وفعلوا بالمسلمين كل قبيح وعادوا سالمين وقد امتلأت أيديهم من الكسب الحرام الذي لا يحل ولا يجوز شرعا، وخلت آمد من أهلها وصارت كأنها لم تغن بالأمس اه.(2/302)
سنة 720
ذكر الإغارة على سيس وبلادها
قال أبو الفداء: في هذه السنة تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على بلاد سيس ورسم لمن عينه من العساكر الإسلامية الشامية، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس، وسار الأمير شهاب الدين قرطاي بعساكر الساحل وجردت من حماة أمراء الطبلخانات الذين بها، وسارت العساكر المذكورة من حماة في العشر الأول من ربيع الأول ووصلوا إلى حلب. ثم خرجت عساكر حلب صحبة المقر العلائي ألطنبغا نائب السلطنة بحلب، وسارت العساكر المذكورة عن آخرهم ونزلوا بعمق حارم وأقاموا به مدة، ثم رحلوا ودخلوا إلى بلاد سيس في منتصف ربيع الآخر من هذه السنة الموافق للرابع والعشرين من أيار وساروا حتى وصلوا إلى نهر جيحان، وكان زائدا فاقتحموه ودخلوا فيه فغرق من العساكر جماعة كثيرة، وكان غالب من غرق التراكمين الذين من عسكر الساحل، وبعد أن قطعوا جيحان المذكور ساروا ونازلوا قلعة سيس وزحفت العساكر عليها حتى بلغوا السور وغنموا منها وأتلفوا البلاد والزرع وساقوا المواشي وكانت شيئا كثيرا، وأقاموا ينهبون ويخربون، ثم عادوا وقطعوا جيحان وكان قد انحط فلم ينضر أحد به، ووصلوا إلى بغراس في التاسع والعشرين من ربيع الآخر ثم ساروا إلى حلب وأقاموا بها مدة يسيرة حتى وصل إليهم الدستور فسار كل عسكر إلى بلده اه.
سنة 724
قال ابن إياس: في هذه السنة برزت المراسيم الشريفة إلى نائب حلب بأن يروك البلاد الحلبية كما فعل في البلاد الشامية، فخرج أمير من الأمراء العشروات ومعه جماعة من المباشرين بسبب ذلك فتوجهوا من القاهرة إلى حلب وراكوا البلاد الحلبية حكم البلاد الشامية، فجميع البلاد المصرية والشامية والحلبية الآن في الروك الناصري اه.(2/303)
سنة 727
ذكر عزل علاء الدين ألطنبغا وتولية حلب لأرغون الدوادار
قال ابن كثير: في العشر من المحرم دخل مصر أرغون نائب مصر (قادما من الحجاز كما في روض المناظر) فمسك في حادي عشره وحبس أياما ثم أطلق، وبعثه السلطان نائبا إلى حلب فاجتاز بدمشق في الثاني والعشرين من المحرم فبات بها ليلة ثم سافر إلى حلب، وقد كان قبله بيوم قد سافر من دمشق الجاي الدوادار إلى مصر وفي صحبته نائب حلب علاء الدين معزولا عنها إلى حجوبة الحجاب بمصر. (ألطنبغا تولى حلب مرة ثانية سنة 731).
مرور الرحّالة أبي عبد الله محمد بن بطوطة بهذه البلاد في هذه السنة وذكره لنائب السلطنة بها ولقضاتها الأربعة
في هذه السنة مرّ الرحّالة ابن بطوطة بمدينة حلب، قال في رحلته:
وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار أكبر أمراء الملك الناصر وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل، والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة، فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني شافعي المذهب عالي الهمة كبير القدر كريم النفس حسن الأخلاق متفنن بالعلوم، وكان الملك الناصر قد بعث إليه ليوليه قضاة القضاة بحضرة ملكه فلم يقض له ذلك وتوفي ببلبيس وهو متوجّه إليها، ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر الدين بن العديم، حسن الصورة والسيرة أصيل مدينة حلب.
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ومنهم قاضي قضاة المالكية لا أذكره، كان من الموثقين بمصر وأخذ الخطة عن غير استحقاق، ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أذكر اسمه، وهو من أهل صالحية دمشق، ونقيب الأشراف بحلب بدر الدين بن الزهرة. ومن فقهائها شرف الدين بن العجمي وأقاربه كبراء مدينة حلب.(2/304)
ذكر وصفه لمدينة حلب
قال: وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض، وأسواقها مسقفة بالخشب فأهلها دائما في ظل ممدود، وقيسارياتها لا تماثل حسنا وكبرا، وهي تحيط بمسجدها، وكل سماط منها محاذ لباب من أبواب المسجد، ومسجدها الجامع من أجمل المساجد، في صحنه بركة ماء ويطيف به بلاط عظيم الاتساع، ومنبرها بديع العمل مرصّع بالعاج والآبنوس، وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له، وبها مارستان. وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب به منتظمة والبساتين على شاطىء نهرها وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي (هذا سهو منه) والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطا لا يكون في سواها، وهي من المدن التي تصلح للخلافة. قال ابن جزي (جامع رحلة ابن بطوطة) أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها، وفيها يقول أبو عبادة البحتري (1):
يا برق أسفر عن قويق فطرّتي ... حلب فأعلى القصر من بطياس
عن منبت الورد المعصفر صبغه ... في كل ضاحية ومجنى الآس
أرض إذا استوحشت ثم أتيتها ... حشدت عليّ فأكثرت إيناسي
وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري:
سقى حلب المزن مغنى حلب ... فكم وصلت طربا بالطرب
وكم مستطاب من العيش لذ ... بها إذ بها العيش لم يستطب
إذا نشر الزهر أعلامه ... بها ومطارفه والعذب
غدا وحواشيه من فضة ... تروق وأوساطه من ذهب
وقال فيها أبو العلاء المعري (2):
حلب للولي جنة عدن ... وهي للغادرين نار سعير
والعظيم العظيم يكبر في عينيه ... (منها) (3) قدر الصغير الصغير
__________
(1) من قصيدة مطلعها: ناهيك من حرق ابيت اقاسي. وهي في ديوانه المطبوع في الجوائب صحيفة 248.
(2) من قصيدة في ديوانه سقط الزند مطلعها: ابق في نعمة بقاء الدهور
(3) إضافة ليست في الأصل.(2/305)
فقويق في أنفس القوم بحر ... وحصاة منه مكان ثبير
وقال فيها أبو الفتيان بن حيّوس:
يا صاحبيّ إذا أعياكما سقمي ... فلقّياني نسيم الريح من حلب
من البلاد التي كان الصبا سكنا ... فيها وكان الهوى العذري من أربي
وقال فيها أبو الفتح كشاجم:
وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها
بها قد تجمّع ما تشتهي ... فزرها فطوبى لمن زارها
وفيها قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي:
حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سق فروحي من بعدهم في سياق
حلب إنها مقر غرامي ... ومرامي وقبلة الأشواق
لا خلا جوشن وبطياس وال ... سعديّ من كل وابل غيداق
كم بها مرتع لطرف وقلب ... فيه سقّى المنى بكأس دهاق
وتغنى طيورها لارتياح ... وتثنى غصونها للعناق
وعلو الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق
وقال بعد ذكره لما قاله الرحّالة ابن جبير في وصف قلعتها وقد قدمناه في حوادث سنة 580: وفي هذه القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة:
وخرقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصعب
يزر عليها الجو جيب غمامة ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب
إذا ما سرى برق بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السحب
فكم من جنود قد أماتت بغصة ... وذي سطوات قد أبانت على عقب
وفيها يقول أيضا وهو من بديع النظم:
وقلعة عانق العيّوق سافلها ... وجاز منطقة الجوزاء عاليها
لا تعرف القطر إذ كان الغمام لها ... أرضا توطّا قطريه مواشيها
إذا الغمامة راحت غاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها
يعد من أنجم الأفلاك مرقبها ... لو أنه كان يجري في مجاريها
ردت مكايد أقوام مكايدها ... وقصّرت بدواهيهم دواهيها
وقبل هذا البيت كما في تاريخ ابن شداد:(2/306)
وقلعة عانق العيّوق سافلها ... وجاز منطقة الجوزاء عاليها
لا تعرف القطر إذ كان الغمام لها ... أرضا توطّا قطريه مواشيها
إذا الغمامة راحت غاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها
يعد من أنجم الأفلاك مرقبها ... لو أنه كان يجري في مجاريها
ردت مكايد أقوام مكايدها ... وقصّرت بدواهيهم دواهيها
وقبل هذا البيت كما في تاريخ ابن شداد:
على ذرى شامخ وعر قد امتلأت ... كبرا به وهو مملوء بها تيها
له عقاب عقاب الجو حائمة ... من دونها فهي تخفى في خوافيها
وبعده:
أوطأت همتك العلياء هامتها ... لما جعلت العوالي من مراقيها
فلم تقس بك خلقا في البرية إذ ... رأت قسيّ الردى في كف باريها
وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي المنصور:
كادت لفرط سموها وعلوها ... تستوقف الفلك المحيط الدائرا
وردت قواطنها المجرة منهلا ... ورعت سوابقها النجوم زواهرا
ويظل صرف الدهر منها خائفا ... وجلا فما يمسي لديها حاضرا
وقال في وصفه للمعرة:
والمعرة مدينة صغيرة حسنة، أكثر شجرها التين والزيتون والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام، وبخارجها على فرسخ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولا زاوية عليه ولا خديم له، وسبب ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي الله عنهم ولعن ممبغضهم ويبغضون كل من اسمه عمر وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان من فعله في تعظيم علي رضي الله عنه.
وقال في وصفه لسرمين:
ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين، وهي حسنة كثيرة البساتين وأكثر شجرها الزيتون، وبها يصنع الصابون الآجري ويجلب إلى مصر والشام، ويصنع بها أيضا الصابون المطيّب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة، ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها، وأهلها سبابون يبغضون العشرة، ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة، وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع فإذا بلغوا العشرة قالوا: تسعة وواحد. وحضر بها بعض الأتراك يوما فسمع سمسارا ينادي: تسعة وواحد، فضربه بالدبوس على رأسه وقال: قل عشرة بالدبوس. وبها مسجد جامع فيه تسع قباب ولم يجعلوها عشرة قياما بمذهبهم القبيح اه.(2/307)
قال في وصفه لتيزين:
ثم سافرت منها (من حلب) إلى مدينة تيزين وهي على طريق قنسرين، وهي حديثة اتخذها التركمان، وأسواقها حسان ومساجدها في نهاية من الإتقان، وقاضيها بدر الدين العسقلاني.
قلت: قال في المعجم: (تيزين) ويقال لها توزين: قرية كبيرة من نواحي حلب كانت تعد من أعمال قنسرين، ثم صارت في أيام الرشيد من العواصم. وقال في الدر المنتخب: هي مدينة صغيرة قديمة كان لها سور قد تهدم وإليها تنسب الكورة وإن كان فيها ما هو أميز منها، ولم تزل في أيدي المسلمين إلى أن استولت الفرنج كما ذكرنا على أنطاكية ثم استعادها المسلمون منهم، وقصبتها الآن أرتاح.
وقال في وصفه لمدينة أنطاكية:
ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية وهي مدينة عظيمة أصلية، وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام، فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها.
وأنطاكية كثيرة العمارة ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه وبخارجها نهر العاصي. وبها قبر حبيب النجار رضي الله عنه وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، شيخها الصالح المعمر محمد بن علي سنه ينيف على المائة وهو ممتع بقوته، دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة.
ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والدا.
وقال في وصفه لحصن بغراس:
ثم سافرت إلى حصن بغراس وهو حصن منيع لا يرام، عليه البساتين والمزارع ومنه يدخل إلى بلاد سيس وهي بلاد الأرمن، وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا، ودراهمهم فضة خالصة تعرف بالبغلية، وبها تصنع الثياب الدبيزية، وأمير هذا الحصن صارم الدين بن الشيباني وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين فاضل كريم يسكن الموضع المعروف بالرصص ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.(2/308)
وقال في وصفه لحصن الشّغر:
ثم سافرت إلى حصن الشغر بكاس (1) وهو منيع في رأس شاهق، أميره سيف الدين الطنطاش فاضل وقاضيه جمال الدين بن شجرة من أصحاب ابن تيمية.
وقال في وصفه لمدينة صهيون:
ثم سافرت إلى مدينة صهيون وهي حسنة، بها الأنهار المطردة والأشجار المورقة، ولها قلعة جيدة، وأميرها يعرف بالإبراهيمي وقاضيها محي الدين الحمصي، وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر، وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله وقد زرت قبره.
وقال في وصفه لحصن القدموس ومصياف وغيره:
ثم سافرت منها فمررت بحصن القدموس ثم بحصن المنيقة ثم بحصن العليقة ثم بحصن مصياف ثم بحصن الكهف، وهذه الحصون لطائفة يقال لها الإسماعيلية ويقال لهم الفداوية، ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم وهم سهام الملك الناصر بهم يصيب من يعدو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها، ولهم المرتبات، وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى اغتيال عدو له أعطاه ديته فإن سلم بعد تأتي ما يراد منه فهي له وإن أصيب فهي لولده، ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من بعثوا إلى قتله، وربما لم تصح حيلهم فقتلوا كما جرى لهم مع الأمير قراسنقور، فإنه لما هرب إلى العراق بعث إليه الملك الناصر جملة منهم فقتلوا ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم.
سنة 731
ذكر وصول نهر الساجور إلى حلب
قال في روض المناظر: نهار الأربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور إلى حلب فزيد به نهر قويق (2) بساقية بناها الأمير أرغون الدوادار، وكان يوم وصوله يوما مشهودا خرج
__________
(1) بكاس: قلعة تقابل قلعة الشغر. قال ياقوت: بينهما واد كالخندق يقال له الشغر وبكاس، معطوف ولا يكادون يفردون واحدة منهما.
(2) انظر في حوادث سنة 1149.(2/309)
لتلقيه ملك الأمراء وسائر الناس مشاة مكبرين مهللين، ومنع أهل الذمة من الخروج معهم وكذلك المطربون، وكان قبله الأمير سودي نائب حلب قصد سوقه وشرع فيه فقيل له: من ساقه يموت في عامه، فتأخر عنه، وقيل مثل ذلك لأرغون فقال: لا أرجع عن خير عزمت عليه، فقدر الله أنه مرض قبل أربعين يوما ومات رحمه الله. وأنشد القاضي الفاضل شرف الدين الحسين بن ريان:
لما أتى نهر الساجور قلت له ... ماذا التأخر من حين إلى حين
فقال أخرني ربي ليجعلني ... من بعض معروف سيف الدين أرغون
وأنشد القاضي الفاضل بدر الدين الحسن بن حبيب رحمه الله فيه:
قد أضحت الشهباء تثني على ... أرغون في صبح وديجور
من نهر الساجور أجرى بها ... للناس بحرا غير مسجور
ودفن في تربته التي أنشأها بسوق الخيل بين بابي القوس، وكان عمره نحو الخمسين، اشتراه الملك المنصور قلاوون الصالحي صغيرا لولده الملك الناصر محمد وربي معه وكان معه بالكرك، ثم ولاه نيابة الملك بمصر وربي بعد بيبرس الدويدار ست عشرة سنة كما تقدم، ثم نقله إلى نيابة حلب، ثم طلب الحضور فحضر واجتمع بالسلطان ثم تباكيا، ثم عاد إلى حلب ومات بها، وكان فقيها حنفيا ورعا أذن له بالإفتاء على مذهبه، سمع صحيح البخاري على الشيخ أبي العباس أحمد بن الشحنة الحجّار ووزيرة بنت عمر بن أسعد بن المنجا بمصر في سنة خمس عشرة وسبعمائة بقراءة الشيخ أبي حيان وكتب بخطه مجلدا منه.
وقال أبو الفداء في حوادث هذه السنة: وفيها في صفر وصل نهر الساجور إلى نهر قويق وانصبا إلى حلب بعد غرامة أموال عظيمة، وتعب من العسكر والرعايا بتولية الأمير فخر الدين طمان. وفي ربيع الأول ماث بحلب الأمير سيف الدين أرغون الناصري نائبها وخرجت جنازته بلا تابوت وعلى النعش كساء بالفقيري من غير ندب ولا نياحة ولا قطع شعر ولا لبس جل ولا تحويل سرج حسبما أوصى به، ودفن بسوق الخيل تحت القلعة وعملت عليه تربة حسنة ولم يجعل على قبره سقف ولا حجرة بل التراب لا غير.
وكان متقنا لحفظ القرآن مواظبا على التلاوة، عنده فقه وعلم ويرد أحكام الناس إلى الشرع الشريف، حتى كان بعض الجهال ينكر عليه ذلك. وكتب صحيح البخاري بخطه بعد ما سمعه من الحجّار، واقتنى كتبا نفيسة، وكان عاقلا وفيه ديانة رحمه الله.(2/310)
أقول: قبلي حمام الناصري المعروفة الآن بحمّام اللبابيدية مسجد قديم بابه مؤلف من ثلاثة أحجار كبيرة بينه وبين الحمّام بضعة أذرع فيه قبلية وحجرات صغيرة مشرفة على الخراب يسكنها بعض الفقراء وحجرة واسعة فيها قبر أرغون المذكور عليه تابوت من حجارة كتب بعض الجهلة على الحجرة العليا منه (هذا ضريح الولي الزاهد العارف بالله تعالى صاحب الخيرات والمبرات الشيخ محمد بن عبد الله قويق الحافر المجري لنهر حلب الشهباء) والصواب أنه قبر أرغون الدوادار رحمه الله، وهذه تربته التي ذكرها ابن الشحنة في الكلام على الترب.
ترجمته أيضا:
قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: أرغون الدوادار اشتراه المنصور فرباه مع ولده الناصر محمد ولم يزل معه في خدمته حتى توجّه إلى الكرك وهو معه حتى عاد وهو ملازمه إلى أن ولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية سنة 712، فسار سيرة حسنة إلى الغاية، وكان يخلص الناس من شدائد يريد الناصر أن ينزلها بهم، وحج سنة 15وخلف السلطان لما حج سنة 19، ثم حج هو سنة عشرين ومشى من مكة إلى عرفة بمسكنة في هيئة الفقراء، ثم في سنة 26بلغ الناصر أن مهنا يجهز للحج فأسرّ إلى أرغون أن يحج ويقبض على مهنا (1)، فبلغ مهنا فتأخر عن الحج فاتهم الناصر أرغون بذلك، فلما عاد قبض عليه واعتقله ثم أخرجه لنيابة حلب، وكان قد اشتغل على مذهب الحنفية ومهر فيه إلى أن صار يعد من أهل الإفتاء، وكانت له عناية بالكتب عظيمة جمع منها جمعا ما جمعه أحد من أبناء جنسه، وكان الناس قد علموا رغبته في الكتب فهرعوا إليه بها. وكان خيرا ساكنا قليل الغضب حتى يقال إنه لم يسمع منه أحد في طول زمانه بمصر وحلب كلمة سوء. وكان للملك به جمال وكان له حضور على ابن الوكيل وعلى أبي حيان وابن سيد الناس وغيرهم. وأوصل بهمته نهر الساجور إلى البلد. قال الذهبي: كان تركيا فصيحا مليح الشكل شديد الحرص، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة 731اه.
__________
(1) أمير العرب في البلاد الشامية.(2/311)
سنة 733
دخول الأمير لؤلؤ القندشي لحلب وما أتاه من المظالم
قال ابن الوردي: في خامس عشر شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة دخل الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي إلى حلب شادا على المملكة وعلى يده تذاكر، وصادر المباشرين وغيرهم ومنهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني والقاضي جمال الدين سليمان بن ريان ناظر الجيش وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي والحاج علي بن السقا وغيرهم، واشتد به الخطب وانزعج به الناس كلهم حتى البريئون وقنت الناس في الصلوات. وقلت في ذلك:
قلبي لعمر الله معلول ... بما جرى للناس مع لولو
يا رب قد شرد عنا الكرى ... سيف على العالم مسلول
وما لهذا السيف من مغمد ... سواك يا من لطفه السول
وقال ابن خطيب الناصرية في الدر المنتخب: قرأت في تاريخ محمد بن حبيب في حوادث سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة قال: وفيها وصل الأمير بدر الدين القندشي إلى حلب من الديار المصرية متوليا شد الدواوين وصحبته الأمير سيف الدين جركتمر الناصر كاشفا أحوال المباشرين وعلى يده تذكرة واضحة الإبانة تشتمل على محاققتهم وأخذ ما ثبت عليهم من الخيانة، فبادر وصادر وتنمر وتجبر، وقام وقعد وبرق ورعد، ونهى وأمر وهمز وهمر، وأذل الرجال واستخرج الأموال، وأخذ ونقل وسجن واعتقل، وعزل وصرف وتزاعج وانحرف، وأهان الأكابر وروع الحرم والأصاغر، ونزع أبواب الإنصاف وسلط الأطراف على الأشراف، وضرب بالعصي والسياط وكلف الناس إدخال الجمل في سم الخياط، وأقام بين أظهرهم مدة وهم ينتظرون الفرج بعد الشدة، إلى أن رحل إلى الديار المصرية وانطفأ عن الشام شرر شر البرية، ثم رفع له المنار وعظم شأنه في تلك الديار، وولي بها الإمرة وأشد وما رجع عن الظلم ولا ارتد، ثم دارت الدوائر وانعكس حساب القدم الجائر، وعاد بعد حين إلى حلب وأوقعه الدهر في شرك من له عليه طلب، فرقم طرس جلده بقلم السياط وعوقب إلى أن هلك وطوت أيدي الردى ذلك البساط. وقلت فيه:(2/312)
لما اعتدى لولو (1) سقوه من طلا ... كاس العذاب علقم المشروب
وبالسياط ثقبوا جلدته ... تبا له من لؤلؤ مثقوب
وفاة الأمير بدر الدين لؤلؤ القندشي
قال ابن الوردي في حوادث 742سنة: وفيها في جمادى الأولى عوقب لؤلؤ القندشي بدار العدل بحلب حتى مات واستصفى ماله وشمت به الناس. قلت:
ألؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول
كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت سنة كل لولو
وقال المقريزي في السلوك في حوادث هذه السنة: ومات الأمير بدر الدين لولو الحلبي وكان ضامن حلب، فعاقبهم وأخذ أموالهم، ثم ولي شد الدواوين بحلب فكثر شاكوه فتسلمه الأكر مشد الجهات بديار مصر، ثم نقل إلى شد الدواوين بالقاهرة وعزل وأخرج بعد مجيئه إلى حلب شاد الدواوين، ثم ضرب بالمقارع حتى مات. وفيه قال ابن الوردي:
أشكو إلى الرحمن لؤلؤا الذي ... أضحى يصادر سادة وصدورا
نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤا منثورا
قال: وفيها دخل القاضي تاج الدين محمد بن الزين حلب متوليا كتابة السر ولبس الخلعة وباشر وأبان عن تعفف عن هدايا الناس اه.
سنة 735
ذكر عمارة قلعة جعبر
قال ابن الوردي: في هذه السنة وصل الأمير سيف الدين أبو بكر الباشري إلى حلب وصحب معه منها الرجال والصناع وتوجه إلى قلعة جعبر وشرع في عمارتها وكانت خرابا من زمن هولاكو، وهي من أمنع القلاع، تسبب في عمارتها الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، ولحق المملكة الحلبية وغيرها بسبب عمارتها ونفوذ ماء الفرات إلى أسفل منها كلفة كثيرة اه.
__________
(1) في الأصل: لؤلؤ.(2/313)
توجه العساكر الحلبية لاسترجاع مدينة سيس
قال ابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن الأرمن ملكوا مدينة سيس وطردوا من كان بها من المسلمين، فرسم السلطان لنائب حلب بأن يتوجه إليهم ومعه العساكر الحلبية، فخرج إليهم في سابع عشري رمضان فحاصر من كان بها من الأرمن وحرق الضياع التي حولها وأسر جماعة من الأرمن نحو ثلثمائة إنسان، فلما بلغ ذلك من كان من الأرمن بقلعة أياس ثاروا على من كان عندهم من المسلمين وحشروهم في خندق وأحرقوا الخندق فاحترق فيه من المسلمين نحو ألفي إنسان ما بين رجال ونساء وصغار وذلك في يوم العيد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال ابن الوردي: كان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل أياس بذلك [أي بما أحرق من الضياع وما أسر] أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم وحبسوهم في خان ثم أحرقوه فقل من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار البغاددة وغيرهم في يوم عيد الفطر، فلله الأمر اه.
وفاة مهنا أمير العرب وآثاره
وقال: وفيها مات حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب وحزن عليه آله وأقاموا مأتما بليغا ولبسوا السواد، أناف على الثمانين وله معروف، من ذلك مارستان جيد بسرمين، ولقد أحسن برجوعه إلى طاعة سلطان الإسلام قبل وفاته، وكانت وفاته بالقرب من سلمية اه.
وقال في حوادث السنة التي قبلها: وتوجه مهنا بن عيسى أمير العرب إلى طاعة السلطان بعد النفرة العظيمة عنه سنين ومعه صاحب حماة الملك الأفضل، فأقبل السلطان على مهنا وخلع عليه وعلى أصحابه مائة وستين خلعة ورسم له بمال كثير من الذهب والفضة والقماش وأقطعه عدة قرى وعاد إلى أهله مكرما اه.
سنة 736
العمل في نهر قلعة جعبر
قال ابن الوردي: في هذه السنة في المحرم نزل نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز بعسكر الشام إلى قلعة جعبر وتفقدها وقرر قواعدها.(2/314)
[وفيها] في صفر طلب من البلاد الحلبية رجال للعمل في نهر قلعة جعبر ورسم أن يخرج من كل قرية نصف أهلها وجلا كثير من الضياع بسبب ذلك، ثم طلب أيضا من أسواق حلب رجال واستخرجت أموال، وتوجه النائب بحلب إلى قلعة جعبر بمن حصل من الرجال وهم نحو عشرين ألفا.
سنة 737
ذكر وفاة الأمير خضر ابن نائب حلب ألطنبغا
قال ابن الوردي: فيها في ربيع الأول توفي الأمير الشاب الحسن جمال الدين خضر ابن ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا بحلب ودفن بالمقام، ثم عمل له والده تربة حسنة عند جامعه (1) خارج حلب ونقل إليها. وكان حسن السيرة ليس من إعجاب أولاد النواب في شيء. ومما قلت فيه تضمنيا:
أيبست أفئدة بالحزن يا خضر ... فالدمع يسقيك إن لم يسقك المطر
منها خلقت فلم يسمح زمانك أن ... يشين حسنك فيه الشيب والكبر
فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليك قد رد موسى قبل والخضر
وإن كان يتضمن هذا التضمين القول بموت الخضر عليه السلام.
قال: وفي هذه السنة باشر تاج الدين محمد بن عبد الكريم أخو الصاحب شرف الدين يعقوب نظر الجيوش المنصورة بحلب، فما هنىء بذلك واعترته الأمراض حتى مات في سابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة. قلت:
ما الدهر إلا عجب فاعتبر ... أسرار تصريعاته واعجب
كم باذل في منصب ماله ... مات وما هنّىء بالمنصب
وباشر مكانه في شعبان منها القاضي جمال الدين سليمان بن ريّان اه.
__________
(1) أقول: بالقرب من الجامع عرصة يبلغ طولها نحو 30ذراعا وعرضها نحو 12ذراعا فيها محراب قائم ظاهر منه نصفه الفوقاني والباقي تحت التراب، وفي آخر العرصة من الجهة الغربية قبر يقال إن هذا المكان هو التربة وهذا القبر هو قبر خضر المذكور والله أعلم.(2/315)
توجّه العساكر إلى بلاد سيس
قال المقريزي في تاريخه السلوك إلى معروفة الملوك (1): وفي خامس عشر شعبان توجهت التجريدة إلى بلاد سيس وخراب مدينة أياس، وسبب ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النجدة على الشيخ حسن وطغاي بن سوتاي وأولاد دمرداش (الطرفان من ملوك الشرق في فارس وتلك النواحي) ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد، فاستشار السلطان نائب الشام والأمراء فاستقر الرأي على تجريد العسكر نحو سيس فإن تكفور نقض الهدنة بقبضه على عدة مماليك وأرسلهم إلى مدينة أياس وقطع الحمل المرتب عليه فلم يعلم خبرهم ويكون في ذلك إجابة علي بادشاه إلى ما قصده من نزول العسكر قريبا من الفرات مع معرفة الشيخ حسن بأنّا لم نساعد علي بادشاه وإنما بعشا العسكر لغزو سيس وعمل مقدم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة ومقدمه الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطباخي ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساوي وقطلوبغا الطويل وجركتمر بن بهادر وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشام قطلوبغا الفخري مقدم الجيش الشامي، وكتب بخروج عسكر دمشق وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكر مصر إلى حلب عادت عساكر الشام ثم مضوا جميعا إلى سيس فيكون في ذلك صدق ما وعد به علي بادشاه وبلوغ الغرض من غزو سيس، فسار العسكر من القاهرة.
قال ابن الوردي: وفيها في رمضان المعظم وصل إلى حلب من مصر عسكر حسن الهيئة مقدمه الحاج أرقطاي وعسكر من دمشق مقدمهم قطلبغا الفخري وعسكر من طرابلس مقدمه بهادر بن عبد الله وعسكر من حماة مقدمه الأمير صارم الدين أزبك والمقدم على الكل ملك الأمراء بحلب علاء الدين ألطنبغا، ورحل بهم إلى بلاد الأرمن في ثاني شوال منها ونزل على مينا أياس وحاصرها ثلاثة أيام، ثم قدم رسول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم على أن يسلموا البلاد والقلاع التي شرقي نهر جيحان، فتسلموا
__________
(1) ظفرت بجزء من هذا التاريخ عند الخواجات بوخه العائلة المشهورة في حلب وهو مرتب على السنين وفيه حوادث من هذه السنة إلى سنة 753حوادث سبع عشرة سنة، وهو في 141ورقة وقد التقطت منه ماله علاقة بتاريخ هذه البلاد في هذه السنين وهو تاريخ لمصر. وأصل الكتاب فيه من حوادث سنة 577إلى سنة 844، فعلى هذا يكون مجموع هذا التاريخ في نحو عشرة مجلدات. انظر كشف الظنون.(2/316)
منهم ذلك، وهو ملك كبير وبلاد كثيرة كالمصيّصة وكوبرا والهارونية وسرفندكار وأياس وبيّاس ونجيمة والنقير التي تقدم ذكر تخريبها وغير ذلك، فخرب المسلمون برج أياس الذي في البحر واستنابوا بالبلاد المذكورة نوابا وعادوا في ذي الحجة منها والحمد لله اه.
ورود الأمر بالمسامحة عمّا يؤخذ على الأغنام الداخلة إلى حلب
قال في صبح الأعشى 13/ 36: هذه نسخة توقيع بالمسامحة في جميع المراكز بما يستأدي على الأغنام الدغالي الداخلة إلى حلب، وأن يكون ما يستخرج من تجار الغنم على الكبار منها خاصة من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله مما كتب به في شهور سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وهي:
الحمد لله ذي المواهب العميمة، والعطايا التي لا تجود بها يد كريمة، والمنن التي عوضنا منها على كل شيء بخير منه قيمة، والمسامحة التي ادخر لنا بها عن كل مال حسن مآل وبكل غنم غنيمة، نحمده على نعمه التي غدت على كثرة الإنفاق مقيمة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أكرم من سمح وسامح في أمور عظيمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة مستديمة، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فمنذ ملكنا الله لم نزل نرغب إليه ونعامله بما نهبه له ونربح عليه، ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال وسامينا فيها بنفع أرضها السحب الثقال، وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها، مشدودة النطاق بما يغل من الطلب يديها، مما هو على التركمان بها محسوب وإلى عديدهم عدده منسوب. ونحن نظنه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب، وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرؤوس الكبار، ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدواوين من الصغار. فلما اتصل بنا أن هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها، ولا رفع من الحساب عنهم قلمها، أكبرنا موقع بقائها وعلمنا أنها مدة مكتوبة لم يكن بد من المصير إلى انقضائها، واستجلبنا قلوب طوائف التركمان بها وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها لأمرين كلاهما عظيم، لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حق ولاء قديم، كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلوا لهم عروشا، وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيدة الإسلامية ردفا ومقدّمتهم في محاصرة جاليشا، وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدموا لهم رماحهم نعوشا، ومنهم أمراء وجنود ونزول ووفود، وهم وإن لم يكونوا أهل خباء
فهم أهل عمود، وذوو أنساب عريقة وأحساب حقيقة إلى القبجاق الخلص مرجعهم، والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم. فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة، وأن نتأسى منها ما هو في العدد كالنسيء في الكفر زيادة.(2/317)
وبعد، فمنذ ملكنا الله لم نزل نرغب إليه ونعامله بما نهبه له ونربح عليه، ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال وسامينا فيها بنفع أرضها السحب الثقال، وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها، مشدودة النطاق بما يغل من الطلب يديها، مما هو على التركمان بها محسوب وإلى عديدهم عدده منسوب. ونحن نظنه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب، وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرؤوس الكبار، ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدواوين من الصغار. فلما اتصل بنا أن هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها، ولا رفع من الحساب عنهم قلمها، أكبرنا موقع بقائها وعلمنا أنها مدة مكتوبة لم يكن بد من المصير إلى انقضائها، واستجلبنا قلوب طوائف التركمان بها وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها لأمرين كلاهما عظيم، لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حق ولاء قديم، كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلوا لهم عروشا، وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيدة الإسلامية ردفا ومقدّمتهم في محاصرة جاليشا، وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدموا لهم رماحهم نعوشا، ومنهم أمراء وجنود ونزول ووفود، وهم وإن لم يكونوا أهل خباء
فهم أهل عمود، وذوو أنساب عريقة وأحساب حقيقة إلى القبجاق الخلص مرجعهم، والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم. فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة، وأن نتأسى منها ما هو في العدد كالنسيء في الكفر زيادة.
فرسم بالأمر الشريف، لا زالت مواهبه تشمل الآفاق، وتزيد على الإنفاق، وتقدم ما ينفد إلى ما هو عند الله باق، أن يسامح جميع التراكمين الداخل عدادهم في ضمان عداد التركمان بالمملكة الحلبية المحروسة، بما يستأدي منهم على الأغنام الدغالي وأن يكون ما يستخرج منهم من العدد على الكبار خاصة وهو عن كل مائة رأس كبار ثلاثة أرؤس كبار خاصة لا غير، من غير زيادة على ذلك مسامحة مستمرة دائمة مستقرة باقية بقاء الليالي والأيام، لا تبدّل لها أحكام ولا تتغير بتغير حاكم من الحكام، نرجو أن نسر بها في صحائف أعمالنا يوم العرض، لا يتأول فيها حساب ولا تمتد إليها يد حسّاب ولا يبقى عليها سبيل للدواوين والكتاب، ولا تسيب أغنامهم ليرعاها منهم أولئك الذئاب، كلما مر على هذه المسامحة زمان أكد أسبابها وبيض في صحائف الدفاتر حسابها، لا تعارض ولا تناقض ولا يتأول فيها متأول في هذا الزمان، ولا فيما بعده من الزمان، ولا يدخل حكمها في النسيان، ولا ينقص أجرها المضمون، ولا تطلب أصحاب الدغالي عليها بعداد في قرن من القرون، ولا يستحقر بما يستأدي منها جليلة ولا حقيرة، ولا يسمح لنفسه من قال إنها صغيرة وهي عند الله كبيرة. لتطيب لأهلها ومن تسامع بما شملهم من إحساننا الشريف النفوس، ولا تصدع لهم بسبب هذا الطلب رؤوس، فمن تعرض في زماننا أمدّنا الله بالبقاء أو كشف في هذه الصدقة الجارية وجه تأويل، أو سكن فيها إلى مداومة بقليل، أو طلب من ظالم بعينه مداواة قوله العليل، فسيجد ما يصبح به مثلة ويتوب به مثله، ويكون لمن بعده عبرة بمن قدم قبله. ونحن نبرأ إلى الله ممن يتعرض بعدنا إلى نقضها، وهذه المسامحة عليه حجتنا التي لا يقدر عند الله على دحضها. ولتقرأ على المنابر وتعل كلمتها، وتمد في أقطار الأرض كما امتد السحاب ترجمتها، وسبيل كل واقف عليها من أرباب الأحكام أصحاب السيوف والأقلام، ومن يتناوب منهم على الدوام، العمل بما رسمنا به واعتماد ما حكم بموجبه بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى اه.(2/318)
سنة 738
عود العساكر من بلاد سيس وزيادة بيان لهذه الحوادث
قال في كتاب السلوك: وفي يوم الخميس ثالث عشر المحرم قدمت التجريدة من بلاد سيس، وكان من خبر ذلك أنهم لما ساروا من القاهرة في ثاني عشر شعبان وقدموا دمشق تلقاهم الأمير تنكز ولم يعبأ بالأمير أرقطاي مقدم العسكر لما في نفسه منه، ومضوا إلى حلب فقدموها في رابع عشرين رمضان وأقاموا بها يومين، فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعسكر الشام وقد وصل إلى جعبر، ثم ساروا جميعا يوم عيد الفطر حتى نزلوا على إسكندرونة أول بلاد سيس وقد تقدمهم الأمير مغلطاي العزي إليها بشهرين حتى جهز المجانيق والزحافات والجسورة الحديد والمراكب وغير ذلك لعبور نهر جيحان، فقدم عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعد بتسليم القلاع للسلطان فلترد المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس وليقم العسكر على مدينة أياس حتى يرد مرسوم السلطان بما يعتمد في أمرهم.
وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس ومعهم ابن قرمان فتركوها أوحش من بطن حمار، فبعث تكفور رسله في البحر إلى دمياط فلم يأذن السلطان لهم في القدوم عليه من أجل أنهم لم يعلموا نائب الشام بحضورهم، فعادوا إلى تكفور فبعث بهدية إلى نائب الشام وسأله منع العسكر من بلاده وأن يسلم القلاع التي من وراء نهر جيحان جميعها للسلطان، فكاتب السلطان بذلك وبعث أوحد المهمندار إلى نائب حلب بمنع القادة ورد الآلات إلى بغراس، فردها وركب بالعسكر إلى أياس فقدمها يوم الاثنين ثاني عشر شوال وقد تحصنّت، فبادر العسكر وزحف عليها بغير أمره فكان يوما مهولا جرح فيه جماعة كثيرة. واستمر الحصار إلى يوم الخميس خامس عشره أحضر نائب حلب خمسين نجارا وعمل زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوب للزحف، فاشتد القتال حتى وصلت الزحافات والرجال إلى قرب السور بعدما استشهد جماعة كثيرة، فترجل الأمراء عن خيولهم لأخذ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نائب الشام فعادوا إلى مخيمهم، فبلغهم أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحال على أن يسلموا أياس بعد ثمانية أيام. فلما كان اليوم الثامن أرسل تكفور مفاتيح القلاع على أن يرد ما سبى ونهب من بلاده، فنودي برد السبي فأحضر كثير منه وأخرب الجسر الذي نصب على نهر جيحان. وتوجّه الأمير مغلطاي العزي فتسلم قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع
الأرمن، مساحتها فدان وثلث وربع فدان وارتفاعها اثنان وأربعون ذراعا بالعمل، وأنفق تكفور على عمارتها أربع مائة ألف وستين ألف دينار، وتسلم العسكر أياس والبرج الأطلس وهدم في ثمانية أيام بعد ما عمل فيه أربعون حجّارا يومين وليلتين حتى خرج منه حجر واحد، ثم نقب وعلق على الأجسام (هكذا) وأضرمت فيه النار فسقط جميعه، وكان برجا عظيما بلغ ضمانه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابا عن كل يوم ألف دينار سوى خراج الأراضي. وكان بها أربعمائة خمارة وستمائة بغي، كان في ظاهرها ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانا يغرس فيها أنواع الفواكه ودور سورها فدانان وثلثا فدان.(2/319)
وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس ومعهم ابن قرمان فتركوها أوحش من بطن حمار، فبعث تكفور رسله في البحر إلى دمياط فلم يأذن السلطان لهم في القدوم عليه من أجل أنهم لم يعلموا نائب الشام بحضورهم، فعادوا إلى تكفور فبعث بهدية إلى نائب الشام وسأله منع العسكر من بلاده وأن يسلم القلاع التي من وراء نهر جيحان جميعها للسلطان، فكاتب السلطان بذلك وبعث أوحد المهمندار إلى نائب حلب بمنع القادة ورد الآلات إلى بغراس، فردها وركب بالعسكر إلى أياس فقدمها يوم الاثنين ثاني عشر شوال وقد تحصنّت، فبادر العسكر وزحف عليها بغير أمره فكان يوما مهولا جرح فيه جماعة كثيرة. واستمر الحصار إلى يوم الخميس خامس عشره أحضر نائب حلب خمسين نجارا وعمل زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوب للزحف، فاشتد القتال حتى وصلت الزحافات والرجال إلى قرب السور بعدما استشهد جماعة كثيرة، فترجل الأمراء عن خيولهم لأخذ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نائب الشام فعادوا إلى مخيمهم، فبلغهم أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحال على أن يسلموا أياس بعد ثمانية أيام. فلما كان اليوم الثامن أرسل تكفور مفاتيح القلاع على أن يرد ما سبى ونهب من بلاده، فنودي برد السبي فأحضر كثير منه وأخرب الجسر الذي نصب على نهر جيحان. وتوجّه الأمير مغلطاي العزي فتسلم قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع
الأرمن، مساحتها فدان وثلث وربع فدان وارتفاعها اثنان وأربعون ذراعا بالعمل، وأنفق تكفور على عمارتها أربع مائة ألف وستين ألف دينار، وتسلم العسكر أياس والبرج الأطلس وهدم في ثمانية أيام بعد ما عمل فيه أربعون حجّارا يومين وليلتين حتى خرج منه حجر واحد، ثم نقب وعلق على الأجسام (هكذا) وأضرمت فيه النار فسقط جميعه، وكان برجا عظيما بلغ ضمانه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابا عن كل يوم ألف دينار سوى خراج الأراضي. وكان بها أربعمائة خمارة وستمائة بغي، كان في ظاهرها ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانا يغرس فيها أنواع الفواكه ودور سورها فدانان وثلثا فدان.
ثم رحل العسكر عن أياس بعد ما أقاموا عليها اثنين وسبعين يوما، فمرّ نائب حلب على قلعة نجمة وقلعة أسفندكار وقد أخربهما مغلطاي العزي حتى عبر بالعسكر إلى حلب في رابع عشرين ذي الحجة، فعاد العسكر إلى مصر وقد مرض كثير منهم ومات جماعة، فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وخلع عليه، وبعث تشريفا إلى نائب حلب، وأقطع أراضي سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من أمراء الشام، وأمّر فيها جماعة من التركمان والأجناد فاستعملوا الأرمن في الفلاحة وحطوا عنهم من الخراج فعمرت ضياعها، وضمنت بعض عجائز الأرمن بها خمارة بألف درهم كل يوم فلم توافق على ذلك. وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب ورتب فيها عسكر. ثم قدمت رسل تكفور فخلع عليهم وكتب بترك الخراج عنهم ثلاث سنين ومهادنتهم عشر سنين.
وفيها كانت حرب بين خليل الطرفي وبين خليل بن دلغادر وانهزم الطرفي إلى حلب فقام معه نائبها وبعث بالإنكار على ابن دلغادر فانتمى إلى نائب الشام ووعد على نيابة الأبلستين بألفي إكديش وإقامة ثلاثين أمير طبلخاناه فعني به نائب الشام، حتى قدم إلى قلعة الجبل وخلع عليه في يوم وكتب له ثلاثين منشورا بأمريات جماعة منهم وخلع على جميع من معه وسار.
سنة 738
ذكر فتح الباب شرقي المحراب في الجامع الأعظم وظهور رأس سيدنا يحيى عليه السلام
قال ابن الوردي: في هذه السنة في صفر توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم
ابن الدقاق الدمشقي ناظر الوقف بحلب، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع شرقي المحراب الكبير لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فارتاب في ذلك فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهي عن ذلك، فوجد بابا عليه تأزير رخام أبيض ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض فوقه رخامة بيضاء مربعة، فرفعت الرخامة عن التابوت فإذا فيها بعض جمجمة فهرب الحاضرون هيبة لها، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه وسدّ عليه الباب ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة وابتلي بالصرع إلى أن عض لسانه فقطعه ومات، نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب اه.(2/320)
قال ابن الوردي: في هذه السنة في صفر توفي بدر الدين محمد بن إبراهيم
ابن الدقاق الدمشقي ناظر الوقف بحلب، وفي أيام نظره فتح الباب المسدود الذي بالجامع شرقي المحراب الكبير لأنه سمع أن بالمكان المذكور رأس زكريا النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فارتاب في ذلك فأقدم على فتح الباب المذكور بعد أن نهي عن ذلك، فوجد بابا عليه تأزير رخام أبيض ووجد في ذلك تابوت رخام أبيض فوقه رخامة بيضاء مربعة، فرفعت الرخامة عن التابوت فإذا فيها بعض جمجمة فهرب الحاضرون هيبة لها، ثم رد التابوت وعليه غطاؤه إلى موضعه وسدّ عليه الباب ووضعت خزانة المصحف العزيز على الباب، وما أنجح الناظر المذكور بعد هذه الحركة وابتلي بالصرع إلى أن عض لسانه فقطعه ومات، نسأل الله أن يلهمنا حسن الأدب اه.
أقول: المستفيض بين الناس والمشهور لديهم أن الموجود هنا هو رأس سيدنا زكريا عليه السلام، ويظهر أن هذه الاستفاضة مبنية على ما ذكره ابن الوردي هنا وعلى ما ذكره المرادي في ترجمة علي بن أسد الله مفتي حلب المتوفى سنة 1130والمتولي على الجامع من أنه في أيام توليته ظهر من أحد الحيطان لما قشروا عنه الكلس رائحة تفوق المسلك والعنبر، وإذا فيه صندوق من المرمر مكتوب عليه: هذا عضو من أعضاء نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام، فاتخذوا له هناك في ناحية القبلة في حجرة قبرا في مكانه الآن وذلك سنة 1120.
وقد قدمنا في حوادث 435ظهور رأس سيدنا يحيى عليه السلام في بعلبك ونقله إلى قلعة حلب، وقدمنا في حوادث سنة 659نقل الرأس الشريف من القلعة إلى الجامع للحريق الذي حصل هناك ووضعه شرقي المحراب، وهذا ما ذكره ابن الشحنة في الدر المنتخب نقلا عن ابن العظيمي ونقلا عن الكمال بن العديم عن أبي بكر الهروي السائح، ونقله ياقوت في معجمه في الكلام على حلب وابن شداد في كتاب الأعلاق الخطيرة، ولم ينقل خلاف من أحد منهم في هذا، وأقرّهم ابن الشحنة على ذلك وهو من أهل القرن التاسع وأبو اليمن البتروتي الذي قدمنا أن الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة هو له وهو من أهل القرن الحادي عشر، فهذه النقول أجدر بالقبول وأدعى أن نقول: إن الموجود هنا هو قطعة من رأس يحيى عليه السلام وأن ابن الوردي والمرادي قد سها قلمهما وحاد عن منهج الصواب.(2/321)
ذكر توسيع طرق الأسواق بحلب
قال ابن الوردي: في هذه السنة في شوال رسم ملك الأمراء بحلب ألطنبغا بتوسيع الطرق التي في الأسواق اقتداء بنائب الشام تنكز فيما فعله في أسواق دمشق، ولعمري قد توقعت عزله عن حلب لما فعل ذلك فقلت حينئذ:
رأى حلبا بلدا داثرا ... فزاد لإصلاحها حرصه
وقاد الجيوش لفتح البلاد ... ودق لقهر العدا فحصه
وما بعد هذا سوى عزله ... إذا تم أمر بدا نقصه
سنة 739
ذكر وفاة بدر الدين بن زهرة نقيب الأشراف بحلب وعزل علاء الدين ألطنبغا عن ولايتها وتعيين سيف الدين طرغاي
قال ابن الوردي: في هذه السنة في العشر الأوسط من ربيع الآخر توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني نقيب الأشراف ووكيل بيت المال بحلب، ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين ألطنبغا عن نيابة حلب وكان بينهما شحناء في الباطن، قلت:
قد كان كل منهما ... يرجو شفا أضغانه
فصار كل واحد ... مشتغلا بشانه
كان السيد رحمه الله حسن الشكل وافر النعمة معظما عند الناس شهما ذكيا، وجده الشريف أبو إبراهيم هو ممدوح أبي العلاء، كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها:
غير مستحسن وصال الغواني ... بعد ستين حجة وثمان
ومنها:
كل علم مفرق في البرايا ... جمعته معرة النعمان
فأجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفاني
ومنها:
يا أبا إبراهيم قصّر عنك الشع ... ر لما وصفت بالقرآن
وفي العشر الأول من جمادى الأولى قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائبا بها، وسرّ الناس بقدومه وأظهروا الزينة وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب السر مكان تاج الدين بن الزين خضر المتوجّه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا.(2/322)
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفاني
ومنها:
يا أبا إبراهيم قصّر عنك الشع ... ر لما وصفت بالقرآن
وفي العشر الأول من جمادى الأولى قدم الأمير سيف الدين طرغاي إلى حلب نائبا بها، وسرّ الناس بقدومه وأظهروا الزينة وصحبته القاضي شهاب الدين أحمد بن القطب كاتب السر مكان تاج الدين بن الزين خضر المتوجّه إلى مصر صحبة الأمير علاء الدين ألطنبغا.
وفي شعبان قدم الأمير صلاح الدين يوسف الداودار شادا بالمملكة الحلبية.
وفي تاسع شوال وصل إلى حلب قاضي القضاة زين الدين عمر بن شرف الدين محمد بن البلفيائي المصري الشافعي وباشر الحكم من يومه وخرج النائب والأكابر لتلقيه وسرّ به الناس لما سمعوا من ديانته بعد شغور المنصب نحو عشرة أشهر من حاكم شافعي.
قال في كتاب السلوك: وفيها توجه الأمير تنكز نائب الشام من دمشق يريد بلاد سيس لكشف البلاد التي أنعم بها عليه، فمرّ على حماة ونادى بها أن لا يقف أحد لملك الأمراء بقصة، ومن كانت له حاجة فعليه بصاحب حماة، وخلع على صاحب حماة ومضى إلى حلب ودخل بلاد سيس فأهدى إليه تكفور هدية سنية مع أخيه فقبلها وخلع عليه، وعمر تلك الضياع بالرجال والأبقار والغلال وعاد.
وفيها كانت وقعة بين ابن دلغادر نائب أبلستين وبين نائب الروم قتل فيها خمسمائة نفس ونهب من أموال الروم شيئا كثيرا رد منه بعد ما اصطلحا نحو عشرين ألف رأس ما بين غنم وجمال وخيل اه.
سنة 740
قال ابن الوردي: في هذه السنة في صفر عزل قاضي القضاة بحلب زين الدين عمر البلفيائي عنها لوحشة جرت بينه وبين طرغاي نائب حلب، فكاتب فيه فعزل، وهو فقيه كبير مقتصد في المأكل والملبس، قلت:
كان والله عفيفا نزها ... وله عرض عريض ما اتهم
وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم
وفي ربيع الأول عزل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار عن الشد على المال والوقف بحلب ونقل إلى طرابلس، فضاق طرغاي من جيرته فعمل عليه، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب فما قدر، قلت:
لقد قالت لنا حلب مقالا ... وقد عزم المشد على الرواح
إذا عم الفساد جميع وقفي ... فكيف أكون قابلة الصلاح
وفي جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب، بذل لطرغاي نائبها مالا فكاتب في ولايته وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال حتى يلوا، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته. ويعجبني قول القائل:(2/323)
كان والله عفيفا نزها ... وله عرض عريض ما اتهم
وهو لا يدري مداراة الورى ... ومداراة الورى أمر مهم
وفي ربيع الأول عزل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار عن الشد على المال والوقف بحلب ونقل إلى طرابلس، فضاق طرغاي من جيرته فعمل عليه، وكان قد عزم على تحرير الأوقاف بحلب فما قدر، قلت:
لقد قالت لنا حلب مقالا ... وقد عزم المشد على الرواح
إذا عم الفساد جميع وقفي ... فكيف أكون قابلة الصلاح
وفي جمادى الآخرة ولي القاضي برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني قضاء الشافعية بحلب، بذل لطرغاي نائبها مالا فكاتب في ولايته وهو أول من بذل في زماننا على القضاء بحلب، وكان القضاة قبله يخطبون ويعطون من بيت المال حتى يلوا، ولذلك لم يصادف راحة في ولايته. ويعجبني قول القائل:
فلان لا تحزن إذا ... نكبت واعرف ما السبب
فما تولى حاكم ... بفضة إلا ذهب
وفيها توفي طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، كانت تصدر منه في الدين ألفاظ منكرة. واشترى قبل وفاته دارا عند مدرسة الشاذبخت وعمل فيها تصاوير وكثر الطعن عليه بسببها، قلت:
ما حل فيها زحل ... إلا لنحس المشتري
فانعدمت صورته ... من شؤم تلك الصور
سنة 741
ذكر عزل طرغاي عن نيابة السلطنة بحلب وتولية طشتمر
قال ابن الوردي: في هذه السنة عزل طرغاي عن حلب، وكان على طمعه يصلي ويتلو كثيرا، ونقل طشتمر حمص أخضر من نيابة صفد الى نيابة حلب.
وفيها فتح الأمير علاء الدين أيد غدي الزراق ومعه بعض عسكر حلب قلعة خندروس من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات.
وفيها توفي بأياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي العزي، تقدمت له نكاية في الأرمن، ونقل إلى تربته بحلب. قال في كتاب السلوك بعد ذكر خبر وفاته: وكان مشكور السيرة.
قال في السلوك في حوادث هذه السنة: وقدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب، فكتب إلى نائب حلب
بتمكينهم من العبور إلى حيث شاؤوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم فملؤوا بلاد حلب وغيرها وقدم منهم إلى القاهرة نحو المائتي نفر.(2/324)
قال في السلوك في حوادث هذه السنة: وقدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب، فكتب إلى نائب حلب
بتمكينهم من العبور إلى حيث شاؤوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم فملؤوا بلاد حلب وغيرها وقدم منهم إلى القاهرة نحو المائتي نفر.
ذكر وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي وسلطنة ولده أبي بكر
قال ابن الوردي: وفيها توفي السلطان الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه الله وله ستون سنة بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه كما يضرب له بالشام ومصر، وحج مرات، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم، فإنه أبطل مكوسا، وكان يستحي أن يخيب قاصديه، وأيامه أيام أمن وسكينة، وبنى جوامع وغيرها لولا تسليط لؤلؤ والنشو على الناس في آخر وقته.
وعهد لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر فجلس على الكرسي قبل موت والده وضربت له البشائر في البلاد.
سنة 742
ذكر خلع الملك المنصور أبي بكر وتولية ابن الملك الأشرف كجك
قال ابن الوردي: في هذه السنة في صفر خلع السلطان الملك المنصور أبو بكر ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، احتج عليه قوصون الناصري (من كبار الأمراء بمصر) ولي نعمة أبيه بحجج ونسب إليه أمورا، وأخرجه إلى قوص إلى الدار التي أخرج الملك الناصر والده الخليفة المستكفي إليها جزاء وفاقا، ثم أمر قوصون والي قوص فقتله بها وأقام في الملك أخاه الملك الأشرف كجك وهو ابن ثماني سنين، فقلت في ذلك:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزعا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السول والسلطان ما بلغا
قتل الأمير ألطنبغا الصالحي بعد القبض عليه وترجمته
قال ابن الوردي ما خلاصته: في جمادى الآخرة جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكرا لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك. وسار ألطنبغا
نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب ألطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم واجتمع بصاحب الروم أرتنا. (إلى أن قال): ثم عاد ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون، فاتفق الأمراء هناك وقبضوا على قوصون ونهبت دياره وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها، وقبضوا على ألطنبغا وحبسوه بمصر ثم أعدم هو والمرقبي (أحد الأمراء).(2/325)
قال ابن الوردي ما خلاصته: في جمادى الآخرة جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكرا لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك. وسار ألطنبغا
نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب ألطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم واجتمع بصاحب الروم أرتنا. (إلى أن قال): ثم عاد ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون، فاتفق الأمراء هناك وقبضوا على قوصون ونهبت دياره وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها، وقبضوا على ألطنبغا وحبسوه بمصر ثم أعدم هو والمرقبي (أحد الأمراء).
وقال في روض المناظر: في هذه السنة توفي الأمير ألطنبغا الصالحي مقبوضا عليه بالإسكندرية، وكان ملكا جليلا خيرا دينا له عدة غزوات عديدة في بلاد سيس، ولي نيابة دمشق وولي حلب مرتين نحو عشرين سنة وعمر بظاهرها جامعه المعروف وعدة قصاطل وسبلانات.
قال الطبيب بيشوف الجرماني بعد أن ذكر ما هو مكتوب على باب الجامع: وبعد موت السيفي أرغون الناصري سنة 731رجع إلى حلب نائبا مرة ثانية الأمير علاء الدين ألطنبغا، واستقام نائبا في حلب إلى شهر ربيع الأول من سنة 737الذي مات بها ودفن بتربته جانب جامعه خارج باب المقام.
وهذا سهو منه فإن الذي مات في هذه السنة ودفن بتربته جانب جامعه هو ولده خضر كما قدمناه في حوادث سنة 737، وأما ألطنبغا فتوفي مقتولا بمصر هو والمرقبي في هذه السنة أعني سنة 742كما تقدم آنفا.
ذكر وفاة الأمير بدر الدين محمد وآثاره بحلب
قال ابن الوردي: وفي هذه السنة توفي الأمير بدر الدين محمد ابن الحاج أبي بكر أحد الأمراء بحلب، كان من رجال الدنيا، وله مارستان بطرابلس، وارتفع به الدهر وانخفض، ودفن بتربته في جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية اه.
أقول: موقع الجامع خارج باب أنطاكية بالقرب من الجسر، كان بينه وبين النهر دار وقد خربت منذ سنين قلائل وصار مكانها عرصة استولى عليها المجلس البلدي، والجامع لا زال معروفا ومشهورا عند أهل محلة الجسر بجامع أبناء أبي بكر. وفي الجهة الغربية منه صفّة على طول صحن الجامع فيها ستة قبور يغلب على الظن أن القبر المتوسط هو قبر الواقف، والجهة الشمالية من الصحن قدر أربعة أذرع تزرع خضرا، وقد ظهر لي أنها
كانت رواقا على طول الجامع. وقبليته صغيرة لها كوتان من جهة القبلة سدتا الآن لتعلية أرض الجادة، كما أنه بسبب ذلك سد نصف باب الجامع الذي من جهة القبلة، ويعلو هذا الباب منارة صغيرة مربعة الشكل يبلغ ارتفاعها أربعة أذرع. وليس في القبلية سوى شباكين من جهة الشمال، ولو فتح لها شباكان آخران من جهتي الشرق والغرب لزال ما تجده هناك من العفونة. وعن يسار القبلية عرصة يزرع فيها بعض الخضر أيضا. وهناك أيضا بعض قبور. وللجامع من هذه الجهة أعني الجهة الغربية باب آخر وتقام فيه الآن الصلوات الجهرية لا غير.(2/326)
أقول: موقع الجامع خارج باب أنطاكية بالقرب من الجسر، كان بينه وبين النهر دار وقد خربت منذ سنين قلائل وصار مكانها عرصة استولى عليها المجلس البلدي، والجامع لا زال معروفا ومشهورا عند أهل محلة الجسر بجامع أبناء أبي بكر. وفي الجهة الغربية منه صفّة على طول صحن الجامع فيها ستة قبور يغلب على الظن أن القبر المتوسط هو قبر الواقف، والجهة الشمالية من الصحن قدر أربعة أذرع تزرع خضرا، وقد ظهر لي أنها
كانت رواقا على طول الجامع. وقبليته صغيرة لها كوتان من جهة القبلة سدتا الآن لتعلية أرض الجادة، كما أنه بسبب ذلك سد نصف باب الجامع الذي من جهة القبلة، ويعلو هذا الباب منارة صغيرة مربعة الشكل يبلغ ارتفاعها أربعة أذرع. وليس في القبلية سوى شباكين من جهة الشمال، ولو فتح لها شباكان آخران من جهتي الشرق والغرب لزال ما تجده هناك من العفونة. وعن يسار القبلية عرصة يزرع فيها بعض الخضر أيضا. وهناك أيضا بعض قبور. وللجامع من هذه الجهة أعني الجهة الغربية باب آخر وتقام فيه الآن الصلوات الجهرية لا غير.
وله من الأوقاف خان وخمس دكاكين في سوق البهرمية ودكان في محلة الجلّوم وتقرب وارداتها من خمسين ليرة عثمانية ذهبا.
وفي شهر رمضان وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي المعروف بالقرع إلى حلب قاضي القضاة، ولاه الطاغية الفخري بالبذل، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله، فرفعت يده عن الحكم فسافر أياما ثم عاد بكتب فما التفتوا إليها، فسافر إلى مصر وحلب خالية عن قاض شافعي.
ذكر ولاية أيدغمش الناصري حلب
قال ابن الوردي: في ذي الحجة وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائبا بها في حشمة عظيمة وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس، وأقام بحلب إلى صفر، ثم نقل إلى دمشق وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت:
يعرف من تقبله أرضنا ... من لزم الأوسط من فعله
لا تقبل المسرف في جوره ... كلا ولا المسرف في عدله
سنة 743
ذكر ولاية طقزتمر نيابة السلطنة بحلب
قال ابن الوردي: ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب مكان أيدغمش ودخلها في عشرين صفر.(2/327)
ولاية علاء الدين ألطنبغا المارداني
قال ابن الوردي: وفيها في رجب وصل الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائبا إلى حلب.
ذكر التنديد بالقاضي ابن القرع ثم عزله
قال ابن الوردي: في هذه السنة وصل علاء الدين القرع إلى حلب قاضيا للشافعية، وأول درس ألقاه بالمدرسة قال فيه: كتاب الطهارة باب الميات، فأبدل الهاء بالتاء، فقلت أنا للحاضرين: لو كان باب الميات لما وصل القرع إليه ولكنه باب الألوف. ثم قال: قال الله تعالى: وجعلها كلمة باقية في عنقه، مكان في عقبه، فقلت أنا: لا والله ولكنها في عنق الذي ولاه، فاشتهرت عني هاتان التنديدتان في الآفاق. (ثم قال): وفي رجب اعتقل القرع بقلعة حلب معزولا، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر.
قال المقريزي في السلوك: وفيها استقر علاء الدين علي بن عثمان بن أحمد الزرعي في قضاء القضاة الشافعية بحلب عوضا عن البرهان إبراهيم الرسغني، ثم صرف ببدر الدين إبراهيم بن الصدر أحمد بن عيسى بن الخشاب المصري.
ذكر عزل أمير العرب سليمان بن مهنا
قال ابن الوردي: وفي ربيع الآخر عزل الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى عن إمارة العرب ووليها مكانه الأمير عيسى بن فضل بن عيسى، وذلك بعد القبض على فياض بن مهنا بمصر، وكان سليمان قد ظلم وصادر أهل سرمين وربط بعض النساء في الزناجير وهجم عبيده على المخدرات، فأغاثهم الله في وسط الشدة، ثم أعيد بعد مدة إلى الإمارة.
وفيها توفي بحلب طنبغا حجي، كان جهزه الفخري إليها نائبا عنه في أيام خروجه بدمشق، وهو الذي جبى أموالا من أهل حلب وحملها إلى الفخري وأخذ لنفسه بعضها وباء بإثم ذلك.(2/328)
سنة 744
ذكر وفاة علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب
قال ابن الوردي: في صفر توفي الأمير علاء الدين ألطنبغا المارداني نائب حلب ودفن خارج باب المقام، وله بمصر جامع عظيم، وكان شابا حسنا عاقلا ذا سكينة. وقد تكلم المقريزي في الخطط على هذا الجامع وذكر ما صرف عليه، ثم بعد ذلك ذكر ترجمته إلى أن قال في آخرها: وكان شابا طويلا رفيقا حلو الصورة لطيفا كريما صائب الحدس عاقلا اه.
ذكر تمزيق ابن الوردي كتاب فصوص الحكم
قال ابن الوردي: في هذه السنة مزقنا كتاب فصوص الحكم بالمدرسة العصرونية بحلب عقيب الدرس وغسلناه وهو من تصانيف ابن عربي تنبيها على تحريم قنيته ومطالعته.
وقلت فيه:
هذي فصوص لم تكن ... بنفيسة في نفسها
أنا قد قرأت نقوشها ... فصوابها في عكسها
ذكر نيابة الأمير يلبغا اليحياوي
قال ابن الوردي: وفي ربيع الأول وصل يلبغا اليحياوي إلى حلب نائبا، وهو شاب حسن عفيف عن مال الرعية ذو سطوة وحسن أخلاق في الخلوة.
وفيه وصل عسكران من حماة وطرابلس للدخول إلى بلاد سيس لتمرد صاحبها كنداصطيل الفرنجي ولمنعه الحمل. وفي جمادى الأولى عاد العسكر وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ آذنة وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة وجفال من الأرمن، فتبرطل أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن وثبط الجيش عن فتحها واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها. وتوفي أقسنقر المذكور بعد مدة يسيرة بحلب مذموما وأبى الله أن يتوفاه ببلاد سيس مغازيا اه.
وقال المقريزي في السلوك: في هذه السنة قدم البريد من حلب بأنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة أقسنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس
لمنعهم الطاعة، فلقيهم التركمان وأغاروا معهم وأثروا فيهم آثارا قبيحة حتى أذعنوا لحمل الخراج اه.(2/329)
وقال المقريزي في السلوك: في هذه السنة قدم البريد من حلب بأنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة أقسنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس
لمنعهم الطاعة، فلقيهم التركمان وأغاروا معهم وأثروا فيهم آثارا قبيحة حتى أذعنوا لحمل الخراج اه.
أقول: المقريزي من الواقفين على الحقايق أكثر من ابن الوردي لقربه من الأمراء المصريين وامتزاجه معهم.
ذكر الزلازل ببلاد حلب وخراب منبج
قال ابن الوردي: وفي منتصف شعبان وقعت الزلزلة العظيمة وخربت بحلب وبلادها أماكن ولا سيما منبج، فإنها أقلت ساكنها وأزالت محاسنها، وكذلك قلعة الراوندان، وعملت أنا في ذلك رسالة.
أقول: قد وصف فيها تلك الزلازل وما أثرته من الأضرار وما خربته من الأماكن وقد أثبتها في ديوانه المطبوع وهي:
نعوذ بالله من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها، ونستعينه في طلب الإقامة بها وحسن الرحلة عنها، ثم نستعيذ بالله ونستعين، من سم هذه السنة فهي أم أربعة وأربعين، ذات زلزال بث في بلاد الشام رجله وخيله. وجزم برفع الأرض لما جر ذيله، لا عاد من زلزال، زاغ به العقل وزال، قنت الناس لأجله في الصلوات وأسكنوا من خوفه الصحاري والفلوات:
إذا الدهر خان امرأ ... بهون أذاه يهن
فكم زخرف قد سبا ... إذا زلزلت لم يكن
جاوز ستين يوما، ووعظ بقوم قوما. فإن قيل كيف صبر الجدار على إمساك شهرين متتابعين وما اجتث من أصله، قلت هي كفارة عليه فإنه في نهار رمضان وقع على أهله:
نعوذ بالرحمن من مثلها ... زلزلة أسهرت الأعينا
قد واثبت بالهجم من لا عصى ... وعاقبت بالرجم من لا زنى
حكم عزيز قاهر قادر ... في كل حال لم يزل محسنا
عاينا لها أهوالا تقشعر منها الحجارة وتتفرق، وإن منها لما يشّقق، وإن منها لما يهبط من خشية الله ويغرق. فكم دخل الفاعل والصانع دارا صخرها يابس وذهبها غض، فوجدا
فيها جدارا يريد أن ينقض، وكم سماء قاعة سقط فلن يبرح الأرض، وبناء قصر في الطول إلى يوم العرض. وكم ليلة سهرناها سهر الليالي الهجر، ودعونا الله تعالى أنها سلام هي حتى مطلع الفجر. فنسأل الله أجرا بلا بلاء ونعوذ بالله من بلاء بلا أجر. وما حال من مني بالعكس والطرد، وامتد في كانون عن الكنّ فقصره البرد.(2/330)
نعوذ بالرحمن من مثلها ... زلزلة أسهرت الأعينا
قد واثبت بالهجم من لا عصى ... وعاقبت بالرجم من لا زنى
حكم عزيز قاهر قادر ... في كل حال لم يزل محسنا
عاينا لها أهوالا تقشعر منها الحجارة وتتفرق، وإن منها لما يشّقق، وإن منها لما يهبط من خشية الله ويغرق. فكم دخل الفاعل والصانع دارا صخرها يابس وذهبها غض، فوجدا
فيها جدارا يريد أن ينقض، وكم سماء قاعة سقط فلن يبرح الأرض، وبناء قصر في الطول إلى يوم العرض. وكم ليلة سهرناها سهر الليالي الهجر، ودعونا الله تعالى أنها سلام هي حتى مطلع الفجر. فنسأل الله أجرا بلا بلاء ونعوذ بالله من بلاء بلا أجر. وما حال من مني بالعكس والطرد، وامتد في كانون عن الكنّ فقصره البرد.
إنا نبذنا بالعرا ... ء لخوف زلزال طما
لا ما عليه منه في الص ... حرا سوى مطر السما
والحكيم يقول هذا بخار ريح احتبس، والمنجم يقول هو من حركة كوكب اقتبس وأما الفقيه فينشد فيه:
إني بفعل الله أول مؤمن ... وبما قضاه النجم أول كافر
كبت الحكيم فماله من قوة ... وذوو النجوم فمالهم من ناصر (1)
فالعلماء أحدّ وأحذق، والشريعة الشريفة أقصد وأصدق. ولو رأيت حلب، وقد أشرفت على سوء المنقلب، ووضح لجامعها فرؤي في أماكن، وتعلمت منارته باب الإمالة وتحريك الساكن، فلولا بركة النداء فيها لرخمت، ولكن الله سلم جمعها فسلمت، انتفع بأسها بشرف التذكير، وسلم جمعها الصحيح من التكسير. غير أن الدموع جرت على عقبة بني المنذر [محلة العقبة] كماء السماء، وبرزت المضمرات من الخدور لحركات البناء، وتعانقت حيطانها تعانق وداع، وفكت الرقاب واختلعت الأضلاع، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، وما يدعى بعاجز، من ضمن قول الراجز:
زلزلة قد وقعت في العقبه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبه
فخرج النائب بحلب لهذه النائبة، ماشيا متضرعا من نتيجة هذه الكلية السالبة، يأسى ويتأسف، وعلى رأسه المصحف، وهو:
أقسمت لو شاهدته ... يختال تحت المصحف
لرأيت صورة يوسف ... يمشي بسورة يوسف
__________
(1) في الأصل وفي الديوان: فماله، ولعل الصواب ما أثبتناه.(2/331)
ولو رأيت القلاع والحصون، وقد أزالت الزلازل منها كل مصون:
صارت لقلع القلاع زلزلة ... ما خشيت راميا ولا صائد
إذا درى الحصن من رماه بها ... خرّ له في أساسه ساجد
إن هربوا أدركوا وإن وقفوا ... خشوا تلاف الطريف والتالد
فالأمر لله رب مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
رمت الناس بعلة السدر والدوار، وجاورت دورا مرفوعة فخفضها على الجوار. ولو رأيت منبج منبت كل سريّ، ومهب النسيم السحريّ، وهي من شدة الطمس، كأن لم تغن بالأمس، قد كسف الردم بها كل بدر وشمس:
وليس وفاتهم بالردم نقصا ... لقدرهم ففي الشهداء صاروا
وما في سطوة الخلاق عيب ... ولا في ذلة المخلوق عار
فوا أسفاه على منبج من مدينة جليلة، أصبحت دمنة وكانت الألسن عن وصفها كليلة، غشيها قتر وظلمة، وركبتها ريح سوداء مدلهمة:
هلكوا هم وديارهم في لحظة ... فكأنهم كانوا على ميعاد
يبسوا وأوجههم تضيء من الثرى ... مثل السيوف بدت من الأغماد
وقد حكي أن منارتها، صارت تقذف نحو السماء حجارتها:
سكرت بخمر زلازل رقصت لها ... رقص القلوص براكب مستعجل
سقيا لسقياها فدمعي قاطر ... لمصاب منزلها وأهل المنزل
ولما سمعوا مهول ذلك الصوت، خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فاحمتهم هيبة هيبت ولا أقطار القاطر، ولا منعتهم قناطر الملوك إذ صرعتهم ملوك القناطر:
كم حائط فوق الكواعب طائح ... ماذا أقول له ولكن حائط
فلا جرم عظم وهني لها ولا وهن عظمي، وختمت ذلك ببيتين من نظمي:
منبج أهلها حكوا دود قز ... عندهم تجعل البيوت القبورا
رب نعّمهم فقد ألفوا من ... شجر التوت جنة وحريرا
قال: وفي شهر رمضان صارت الزلازل تعاود حلب وغيرها سنة وبعض أخرى اه.(2/332)
زيادة بيان لحوادث الزلازل في هذه السنة
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة: وقدم البريد بمحضر ثابت عند قضاة حلب يتضمن أنه لما كان يوم السبت سادس شعبان إذا برعد وبرق وأعقبه زلزلة عظيمة سمع حسها من نصف ميل عن حلب، وهو حس مزعج يرجف القلوب، فهدم من القلعة اثنان وثلاثون برجا سوى البيوت، وهدم من قلعة البيرة أكثر من نصفها، وكذلك من قلعة عين تاب وقلعة الراوندان وبهسنا وبلاد منبج وقلعة المسلمين [قلعة الروم] فخرج أهل حلب إلى ظاهرها وضربوا الخيم وغلقت سائر أسواقها، وفي كل ساعة يسمع دوي جديد، ثم إنهم تجمعوا عن آخرهم وكشفوا رؤوسهم ومعهم أطفالهم والمصاحف مرفوعة وهم يضجون بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى برفع هذا المقت، وأقاموا على ذلك اياما إلى خامس عشر منه حتى رفع الله عنهم ذلك بعد ما هلك بتلك البلاد تحت الردم خلائق لا يحصيها إلا خالقها، فكتب بتجديد ما هدم من القلاع من الأموال الديوانية.
قال في روض المناظر بعد أن ذكر حصول الزلازل بمصر وببلاد الشام، وأنشد:
زلزلت الأرض بنا زلزالها ... وقال كل من عليها ما لها
فقلت إذ فروا إلى صحرائها ... قد أخرجت أرضكم أثقالها
وفي شهر رمضان وصل إلى حلب قاضي القضاة نور الدين محمد بن الصائغ على قضاء الشافعية، وهو عفيف حسن السيرة عابد.
وفي شوال حاصر يلبغا النائب بحلب زين الدين قراجا بن دلغادر التركمان بجبل الدلدل وهو عسر إلى جانب جيحان، فاعتصم منه بالجبل وقتل في العسكر وأسر وجرح وما نالوا منه طائلا، فكبر قدره بذلك واشتهر اسمه وعظم على الناس شره، وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا.
وقال المقريزي في كتاب السلوك في بيان هذه الحادثة: وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكرا لقتال ابن دلغادر، فلقيهم وكسرهم كسرة قبيحة، فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه ففر منه على جبل وترك أثقاله فنهبها العسكر وقتلوا كثيرا من تركمانه وظفروا ببعض حرمه، وتبعوه إلى الجبل وصعدوه فقاتلهم ابن دلغادر وجرح أكثرهم، وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله وتقنطر عنه وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريمه وما
نهبوه له، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب وتعنيفه على ما فعله.(2/333)
وقال المقريزي في كتاب السلوك في بيان هذه الحادثة: وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكرا لقتال ابن دلغادر، فلقيهم وكسرهم كسرة قبيحة، فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه ففر منه على جبل وترك أثقاله فنهبها العسكر وقتلوا كثيرا من تركمانه وظفروا ببعض حرمه، وتبعوه إلى الجبل وصعدوه فقاتلهم ابن دلغادر وجرح أكثرهم، وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله وتقنطر عنه وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريمه وما
نهبوه له، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب وتعنيفه على ما فعله.
وفيها استقر موسى بن التاج إسحق في نظر حلب واستقر زين الدين محمد بن محمد ابن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر المعروف بابن الصايغ الأنصاري الدمشقي في قضاء القضاة الشافعية بحلب عوضا عن بدر الدين بن الخشاب، وعاد ابن الخشاب إلى القاهرة اه.
سنة 745
ذكر ابتداء دولة الدلغادرية في البستان ومرعش
قال ابن الوردي: في هذه السنة وصل إلى ابن دلغادر أمان من السلطان (الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر) وأفرج عن حريمه وكن بحلب واستقر في الأبلستين اه.
قال القرماني في تاريخه في الكلام على هذه الدولة: هم طائفة من التركمان توطنوا في نواحي البستان ومرعش، ثم كثروا واستفحل أمرهم حتى ملكوا مرعش والبستان وملطية وعينتاب وعزاز وخربوت وبهسنى ودرنده وقير شهري وقيسارية وحصن المنصور وقلعة الروم وبلاد سيس وقارص وضمانتي وأودية عمق وكوندزلي وغير ذلك، وهم يزعمون أن نسبهم ينتهي إلى كسرى أنوشروان العادل ملك فارس، ويعرفون من بين التركمان بالشهامة والشجاعة، وأول من ظهر منهم (قراجا) ابن ذي الغادر في نواحي البستان تأمر بين قومه اه.
وفاة الأمير صلاح الدين يوسف واقف المدرسة الصلاحية بحلب
قال ابن الوردي في حوادث سنة 737: في هذه السنة وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار داره النفيسة بحلب المعروفة أولا بدار ابن العديم مدرسة على المذاهب الأربعة، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدرسيها، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر منصرفا إلى منزله بطرابلس، ولقد كانت الدار المذكورة باكية لعدم بني العديم فصارت راضية بالحديث عن القديم، نزع الله عنها لباس البأس والحزن، وعوّضها بحلة يوسف عن شقة الكفن، فكمل رخامها وذهبها وجعل
ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها، وكملها بالفروع الموصولة والأصول المفرعة، وجملّها بالمرابع المذهبة والمذاهب الأربعة، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في ديوان صلاح الدين إلى يوم العرض، وتلا لسان حسنها اليوسفي {وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة تهلل وجهه وقال ما معناه: يا ليتك زدتنا من هذا اه.(2/334)
قال ابن الوردي في حوادث سنة 737: في هذه السنة وقف الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار داره النفيسة بحلب المعروفة أولا بدار ابن العديم مدرسة على المذاهب الأربعة، وشرط أن يكون القاضي الشافعي والقاضي الحنفي بحلب مدرسيها، وذلك عند عوده من بلد سيس صحبة العسكر منصرفا إلى منزله بطرابلس، ولقد كانت الدار المذكورة باكية لعدم بني العديم فصارت راضية بالحديث عن القديم، نزع الله عنها لباس البأس والحزن، وعوّضها بحلة يوسف عن شقة الكفن، فكمل رخامها وذهبها وجعل
ثمال اليتامى عصمة للأرامل مكتبها، وكملها بالفروع الموصولة والأصول المفرعة، وجملّها بالمرابع المذهبة والمذاهب الأربعة، وبالجملة فقد كتبها صلاح الدنيا في ديوان صلاح الدين إلى يوم العرض، وتلا لسان حسنها اليوسفي {وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}، ولما وقف الأمير صلاح الدين المذكور على هذه الترجمة تهلل وجهه وقال ما معناه: يا ليتك زدتنا من هذا اه.
وتقدم شيء من أخبار صلاح الدين هذا في حوادث سنة 740.
وقال ابن الوردي في حوادث هذه السنة أعني سنة 745: فيها توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدوادار أحد الأمراء بطرابلس وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء ذكيا فطنا معظما لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتبا ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجبا بها، ثم دواتدار الملك الناصر ثم نائبا بالإسكندرية ثم أميرا بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميرا بطرابلس رحمه الله تعالى.
أقول: موقع هذه المدرسة شمالي الخان المعروف بخان خير بك وأمام الخان المعروف بخان الكتان، وهي مدرسة صغيرة، وقد كانت أشرفت على الخراب فعمرها السيد بهاء الدين ابن السيد تقي الدين القدسي في حدود سنة 1260، ومن ذلك الحين صار الناس يسمونها البهائية، إلا أنها في الأوقاف لم تزل باقية على اسمها القديم. ولما عمرت سعى السيد بهاء الدين المذكور في تعيين الشيخ صالح المرتيني مدرسا لها، وقد كان أتى من إدلب وتوطن حلب فبقيت في يده إلى أن توفي، ثم آلت إلى حفيده الشيخ عمر المرتيني وهو مدرسها إلى الآن. ووقف عليها السيد بهاء الدين نحو سبعين كتابا خطيا هي موضوعة في غرفة التدريس العليا إلا أنها بحالة لا يستفاد منها، ووقفت زوجة السيد بهاء الدين [بنبه] على المدرسة دارا في محلة الفرافرة، ولها سوى هذه الدار أراض عشرية تبلغ وارداتها ثلاثين ليرة عثمانية ذهبا، وهي الآن في حوزة دائرة الأوقاف.
استرجاع ما بيع من أملاك بيت المال بحماة والمعرّة
قال ابن الوردي: وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماة والمعرة وبلادهما من أملاك بيت المال وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك
قد طرح على الناس غصبا، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر فقال بعض المعريين في ذلك:(2/335)
قال ابن الوردي: وفيها استرجع السلطان الملك الصالح ما باعه الملك المؤيد وابنه الأفضل بحماة والمعرة وبلادهما من أملاك بيت المال وهو بأموال عظيمة، وكان غالب الملك
قد طرح على الناس غصبا، وقد اشتريت به تقادم إلى الملك الناصر فقال بعض المعريين في ذلك:
طرحوا علينا الملك طرح مصادر ... ثم استردوه بلا أثمان
وإذا يد السلطان طالت واعتدت ... فيد الإله على يد السلطان
وكأنما كاشف هذا القائل فإن مدة السلطان لم تطل بعد ذلك.
سنة 746
ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل وسلطنة أخيه شعبان
قال ابن الوردي: وفي ربيع الآخر توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون وجلس مكانه أخوه السلطان الملك الكامل شعبان.
الحرب بين الأمير طرفوش وبين ابن دلغادر
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة: وقدم الخبر من حلب بوقعة كانت بين ابن دلغادر وبين أمير يقال له طرفوش أقامه الأمير يلبغا اليحياوي ضدا لابن دلغادر وأغراه به ووعده بإمرته على التركمان، فإلى أن يسير لمحاربته طلب يلبغا من حلب فسار عنها، واقتتل طرفوش وابن دلغادر فانتصر ابن دلغادر بعد عدة وقايع قتل فيها من الفريقين خلائق، فلما قدم الأمير أرقطاي إلى حلب تلطف بابن دلغادر حتى أعاده إلى الطاعة، وما زال يجتهد حتى أصلح بينه وبين طرفوش، ثم التفت إلى جهة الأمير فياض بن مهنا وقد كثر عيثه وفساده وأخذ قفول التجار وبذل جهده حتى قدم عليه حلب فتلقاه وأنزله وبالغ في إكرامه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالإقامة على الطاعة، ثم جهزه إلى بلاده وكتب بذلك إلى السلطان فسر به سرورا زائدا، فإنه كان في قلق من أخبار فياض وعلى عزم أن يجرد العسكر إليه ويوري بقصد سيس، وأخذ فياض في تجهيز القود إلى السلطان وسيره فقدم وفيه سبعون فرسا قامت عليه بألف ألف درهم وخمسون هجينا وعشر مهريات وعبي وغير ذلك، ثم قدم عقب قوده فأكرمه السلطان وأحسن إليه وأنزله اه.(2/336)
ذكر نقل يلبغا الناصري من نيابة حلب وتولية سيف الدين أرقطاي
قال ابن الوردي: وفي ربيع الآخر نقل يلبغا الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق مكان طقزتمر، وسافر طقزتمر إلى مصر بعد المبالغة في امتناعه من النقلة من دمشق فما أجيب إلى ذلك، وتوفي طقزتمر بمصر بعد مدة يسيرة وكان عنده ديانة.
وفيه وصل الأمير سيف الدين أرقطاي إلى حلب نائبا وأبطل الخمور والفجور بعد اشتهارها ورفع عن القرى الطرح وكثيرا من المظالم ورخص السعر.
وفيها في شهر رمضان وصل القاضي بهاء الدين حسين بن جمال الدين سليمان بن ريان إلى حلب ناظرا على الجيش على عادته عوضا عن القاضي بدر الدين محمد بن الشهاب محمود الحلبي، ثم ما مضى شهر حتى أعيد بدر الدين عوضا عن بهاء الدين، وهكذا صارت المناصب كلها بحلب قصيرة المدة كثيرة الكلفة، قلت:
ساكني مصر أين ذاك التأني ... والتأبي وما لكم عنه عذر
يخسر الشخص ماله ويقاسي ... تعب الدهر والولاية شهر
وفيها كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع نقرا في الحجر ما مضمونه مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال بعد وفاة الجندي والأمير، وذلك أحد عشر يوما وبعض يوم في كل سنة، وهذا التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية، وهذه مسامحة بمال عظيم.
قال المقريزي في كتاب السلوك: وفي شوال قدم من حلب ابن قرناص فبذل في نظر حلب نحو ألفي دينار حتى رسم له به عوضا عن ابن الموصلي، فبعث ابن الموصلي ابنه بهدية سنية فيها جوار حسان وزوج بسط حرير فقام (غرلو) معه وأوصله بالسلطان فقبل هديته وبسط البسط بالدهيشة وأقر ابن الموصلي على حاله فكانت مدة ابن قرناص عشرين يوما بألفي دينار.
وفيه قدم الخبر بأن قاصد نائب حلب توجه إلى سيس بطلب الحمل، وقد كان تكفور قد كتب في الأيام الصالحية بأن بلاده خربت فسومح بنصف الخراج، فلما وصل إليه قاصد نائب حلب جهز الحمل وحضر كبراء دولة تكفور ليحلفوه أنه ما بقي في مملكته أسير من المسلمين كما جرت العادة في كل سنة بتحليفه على ذلك، وكان في
أيديهم عدة من المسلمين أسرى، فبيت مع أصحابه قتلهم في الليلة التي تكون حلفه في صبيحتها فقتل كل أحد أسيره في أول الليل، فما هو إلا أن مضى ثلثا الليل خرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريح سوداء معها رعد وبرق أرعب القلوب، وكان من جملة الأسرى عجوز من أهل حلب في أسرى المنجنيقي ذبحها عند المنجنيق وهي تقول: اللهم خذ الحق منهم، وأقام يشرب الخمر بعد ذبحها مع أهله حتى غلبهم السكر وغابوا عن حسهم فسقطت الشمعة وأحرقت ما حولها حتى هبّت الريح فتطاير شرر ما احترق من البيت حتى اشتعل بما فيه، وتعلقت النيران بما حوله حتى بلغت موضع تكفور، ففر بنفسه، واستمرت النار مدة اثني عشر يوما فاحترق أكثر القلعة وتلف المنجنيق كله بالنار، وكان هو حصن سيس ولم يعمل مثله، واحترق المنجنيقي وأولاده الستة وزوجته واثنا عشر رجلا من أقاربه، وخربت سيس وهدم سورها ومساكنها وهلك كثير من أهلها وعجز تكفور عن بنائها.(2/337)
وفيه قدم الخبر بأن قاصد نائب حلب توجه إلى سيس بطلب الحمل، وقد كان تكفور قد كتب في الأيام الصالحية بأن بلاده خربت فسومح بنصف الخراج، فلما وصل إليه قاصد نائب حلب جهز الحمل وحضر كبراء دولة تكفور ليحلفوه أنه ما بقي في مملكته أسير من المسلمين كما جرت العادة في كل سنة بتحليفه على ذلك، وكان في
أيديهم عدة من المسلمين أسرى، فبيت مع أصحابه قتلهم في الليلة التي تكون حلفه في صبيحتها فقتل كل أحد أسيره في أول الليل، فما هو إلا أن مضى ثلثا الليل خرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريح سوداء معها رعد وبرق أرعب القلوب، وكان من جملة الأسرى عجوز من أهل حلب في أسرى المنجنيقي ذبحها عند المنجنيق وهي تقول: اللهم خذ الحق منهم، وأقام يشرب الخمر بعد ذبحها مع أهله حتى غلبهم السكر وغابوا عن حسهم فسقطت الشمعة وأحرقت ما حولها حتى هبّت الريح فتطاير شرر ما احترق من البيت حتى اشتعل بما فيه، وتعلقت النيران بما حوله حتى بلغت موضع تكفور، ففر بنفسه، واستمرت النار مدة اثني عشر يوما فاحترق أكثر القلعة وتلف المنجنيق كله بالنار، وكان هو حصن سيس ولم يعمل مثله، واحترق المنجنيقي وأولاده الستة وزوجته واثنا عشر رجلا من أقاربه، وخربت سيس وهدم سورها ومساكنها وهلك كثير من أهلها وعجز تكفور عن بنائها.
ذكر تزايد أمر ابن دلغادر
وفيها في أواخرها ملكت التركمان قلعة كابان وربضها بالحيلة وهي من أمنع قلاع سيس مما يلي الروم وقتلوا رجالها وسبوا النساء والأطفال، فبادر صاحب سيس الجديد لاستنقاذها فصادفه ابن دلغادر فأوقع بالأرمن وقتل منهم خلقا وانهزم الباقون.
وبعد فتحها قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكرا لهدمها، ثم أخذتها الأرمن منه بشؤم مخالفته لولي الأمر، وذلك في رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة.
سنة 747
ذكر عزل الحاج أرقطاي نائب حلب وتولية حلب لسيف الدين طقتمر الأحمدي
قال ابن الوردي: في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر، وفي ربيع الأول وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائبا نقل إليها من حماة. وفي جمادى الأولى سافر القاضي ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب وولي
كتابة السر بدمشق، وتولى كتابة السر بحلب مكانه القاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود الحلبي. وفي رجب سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام.(2/338)
قال ابن الوردي: في المحرم طلب الحاج أرقطاي نائب حلب إلى مصر، وفي ربيع الأول وصل إلى حلب الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي نائبا نقل إليها من حماة. وفي جمادى الأولى سافر القاضي ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب وولي
كتابة السر بدمشق، وتولى كتابة السر بحلب مكانه القاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود الحلبي. وفي رجب سافر طقتمر الأحمدي نائب حلب إلى الديار المصرية وسببه وحشة بينه وبين نائب الشام.
قال المقريزي في السلوك: وفي ذي القعدة قدم الأمير طقتمر الصلاحي من حلب وهو أحد خواص الكامل، ثم أخرج لنيابة حمص فمات بها.
ذكر تولية حلب لسيف الدين بيدمر البدري
قال ابن الوردي: وفي شعبان وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري نقل إليها من طرابلس.
واقعة غريبة
قال ابن الوردي: وفي ذي الحجة صدرت بحلب واقعة غريبة وهي أن بنتا بكرا من أولاد أولاد عمرو التيزيني كرهت زوجها ابن المقصوص فلقنت كلمة الكفر لينفسخ نكاحها قبل الدخول، فقالتها وهي لا تعلم معناها، فأحضرها البدري بدار العدل بحلب وأمر فقطعت أذناها وشعرها وعلق ذلك في عنقها وشق أنفها وطيف بها على دابة بحلب وبتيزين، وهي من أجمل البنات وأحياهن، فشق ذلك على الناس وعمل النساء عليها عزاء في كل ناحية بحلب حتى نساء اليهود، وأنكرت القلوب قبح ذلك وما أفلح البدري بعدها. قلت:
وضج الناس من بدر منير ... يطوف مشرعا بين الرجال
ذكرت ولا سواء بها السبايا ... وقد طافوا بهن على الجمال
وفيه ورد البريد بتولية السيد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب مكان ابن عمه الأمير شمس الدين حسن بن السيد بدر الدين محمد بن زهرة، وأعطي هذا إمارة طبلخانات بحلب.
زيادة بيان لحادثة المرأة وتعيين أرغون شاه لولاية حلب
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث سنة 748: واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء وعزل الولاة والمباشرين بعد ما أخذ تقادمهم
واستبدل بهم غيرهم بمال قاموا له به، واشتدت وطأة حاشيته على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلا من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها، فرغب بعض الناس في زواجها وبذل لأوليائها مالا كثيرا حتى زوجوها منه بغير رضاها، فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة حتى قالت لأهلها: إن لم تطلقوني منه وإلا كفرت، فأحضروها إلى بعض القضاة وجددوا إسلامها، فطلب الأمير بيدمر ابن عمها وضربه بالمقارع ضربا مبرحا وضرب المرأة أيضا ضربا شنيعا وقطع أنفها وأذنيها وشهرها بحلب، فتألم الناس لها ألما كثيرا، ووصل خبرها إلى أمراء مصر فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كثيرا في الإنكار على بيدمر. وصادف مع ذلك وصول كتاب نائب الروم بأن يتوجه إليه ويقيم عنده فظفر بقاصده واحد من الكتاب وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة فأجيب بالشكر والثناء، وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر بمائة ألف درهم وغير ذلك من الأصناف، فأعجبت السلطان وشكره، فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له وما فعله بالمرأة وابن عمها وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه، فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة ولم يقبل لأحد تقدمة وجلس للحكم بين الناس وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد، فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب وحضور الأمير بيدمر من حلب، فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق وأكرمه السلطان وخلع عليه تاسع عشر صفر بنيابة حلب عوضا عن بيدمر البدري، ورسم أن لا يكون لنائب الشام عليه حكم وأن يكون مكاتبا للسلطان، وكتب لنائب الشام بذلك.(2/339)
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث سنة 748: واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء وعزل الولاة والمباشرين بعد ما أخذ تقادمهم
واستبدل بهم غيرهم بمال قاموا له به، واشتدت وطأة حاشيته على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلا من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها، فرغب بعض الناس في زواجها وبذل لأوليائها مالا كثيرا حتى زوجوها منه بغير رضاها، فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة حتى قالت لأهلها: إن لم تطلقوني منه وإلا كفرت، فأحضروها إلى بعض القضاة وجددوا إسلامها، فطلب الأمير بيدمر ابن عمها وضربه بالمقارع ضربا مبرحا وضرب المرأة أيضا ضربا شنيعا وقطع أنفها وأذنيها وشهرها بحلب، فتألم الناس لها ألما كثيرا، ووصل خبرها إلى أمراء مصر فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كثيرا في الإنكار على بيدمر. وصادف مع ذلك وصول كتاب نائب الروم بأن يتوجه إليه ويقيم عنده فظفر بقاصده واحد من الكتاب وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة فأجيب بالشكر والثناء، وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر بمائة ألف درهم وغير ذلك من الأصناف، فأعجبت السلطان وشكره، فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له وما فعله بالمرأة وابن عمها وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه، فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة ولم يقبل لأحد تقدمة وجلس للحكم بين الناس وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد، فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب وحضور الأمير بيدمر من حلب، فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق وأكرمه السلطان وخلع عليه تاسع عشر صفر بنيابة حلب عوضا عن بيدمر البدري، ورسم أن لا يكون لنائب الشام عليه حكم وأن يكون مكاتبا للسلطان، وكتب لنائب الشام بذلك.
وتوجه الأمير أرغون شاه إلى حلب في يوم الخميس ثالث شهر ربيع الأول فقدم دمشق على البريد في سادس عشرة ونزل قصر معين الدين حتى قدم طلبه من صفد في أبهة زائدة وخيوله بسروج سنية مرصعة وكنابيش ذهب وقلائد مرصعة، وكان بيدمر قد رأى في منامه المرأة التي فعل بها ما فعل وهي تقول له: اخرج عنا، وكررت ذلك ثلاث مرات وقالت له: قد شكوتك إلى الله تعالى فعزلك، فانتبه مرعوبا وبعث إليها لتحالله وبذل لها مالا فلم تقبله وامتنعت من محاللته، فقدم خبر عزله بعد ثلاثة أيام من رؤياه، وقدم إلى القاهرة صحبة طنيرق وقد أوصل الأمير أرغون شاه إلى حلب وسر به أهل حلب سرورا كثيرا اه.(2/340)
ثم قال في آخر حوادث هذه السنة: ومات الأمير بيدمر مقتولا بغزة في أوائل جمادى الآخرة، وهو أحد المماليك الناصرية وإليه تنسب المدرسة الأيدمرية بالقاهرة قريبا من المشهد الحسيني.
سنة 748
ذكر تعيين قاض مالكي بحلب
قال ابن الوردي: في ثالث المحرم وصل إلى حلب القاضي شهاب الدين بن أحمد ابن الرياحي على قضاء المالكية بحلب، وهو أول مالكي استقضى بحلب، ولا بد لها من قاض حنبلي بعد مدة لتكمل به العدة أسوة مصر ودمشق.
وفيه ظهر بين منبج والباب جراد عظيم صغير من بزر السنة الماضية، فخرج عسكر من حلب وخلق من فلاحي النواحي الحلبية نحو أربعة آلاف نفس لقتله ودفنه، وقامت عندهم أسواق وصرفت عليهم من الرعية أموال، وهذه سنة ابتدأ بها ألطنبغا الحاجب من قبلهم. قلت:
قصد الشام جراد ... سنّ للغلات سنا
فتصالحنا عليه ... وحفرنا ودفنا
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة: وقدم البريد من حلب بأن صاحب سيس جهز مائتي أرمني إلى ناحية أياس، فلما قربوا من كوار ليهجموا على قلعتها قابلهم أربعون من المسلمين فنصرهم الله على الأرمن وقتلوا منهم خمسين وأسروا ثلاثين وهزموا باقيهم، فقتل بكوار عدة ممن أسر وحمل بقيتهم إلى حلب، فكتب بالإحسان إلى أهل بكوار والإنعام عليهم.
ذكر عزل الأمير بيدمر البدري نائب حلب
وفي منتصف ربيع الأول سافر بيدمر البدري نائب حلب إلى مصر معزولا، أنكروا عليه ما اعتمده في حق البنت من تيزين المقدم ذكرها وندم على ذلك حيث لا ينفعه الندم.(2/341)
ترجمته:
قال في الدرر الكامنة: بيدمر البدري أحد المماليك الناصرية، وتنقل حتى صار من الأمراء في آخر دولة الناصر، وولي نيابة طرابلس مدة يسيرة في أيام الكامل شعبان، ثم ولي نيابة حلب في سلطنة المظفر حاجي، ثم طلب إلى مصر، ثم أخرج إلى الشام على الهجن فقتل بغزة في جمادى الأولى سنة 748. وكان يجب العلماء وينسخ بيده، كتب عدة ربعات، وكان يتصدق في كل شهر بخمسة آلاف درهم وله ورد من الليل، لكنه سيىء السيرة في نيابة حلب اه.
ذكر تعيين أرغون شاه الناصري لولاية حلب
وفي ربيع الأول وصل إلى حلب نائبها أرغون شاه الناصري في حشمة عظيمة نقل إليها من صفد.
ذكر تعيين قاض حنبلي بحلب
وفي ربيع الآخر وصل تقليد القاضي شرف الدين موسي بن فياض الحنبلي بقضاء الحنابلة بحلب فصار القضاة أربعة، ولما بلغ بعض الظرفاء أن حلب تجدد بها قاضيان مالكي وحنبلي أنشد قول الحريري في الملحة:
ثم كلا النوعين جاء فضله ... منكرا بعد تمام الجمله
ذكر عزل أرغون شاه وشيء من أحواله
قال ابن الوردي: وفي جمادى الآخرة نقل أرغون شاه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، فسافر عاشر الشهر وبلغنا أنه وسّط في طريقه مسلمين. وهذا أرغون شاه في غاية السطوة مقدم على سفك الدماء بلا تثبت، قتل بحلب خلقا ووسّط وسمر وقطع بدويا سبع قطع بمجرد الظن بحضرته، وغضب على فرس له قيمة كثيرة مرح بالعلاقة فضربه حتى سقط ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه:
عقلت طرفك فيه ... أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولي ... على بني الناس مثلك
قال المقريزي في السلوك في حوادث سنة 750: فيها مات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام مذبوحا في ربيع الأول، رباه الناصر محمد حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية، ثم استقر بعد وفاته أستادارا أمير ماية مقدم ألف فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب ثم نيابة الشام. وكان قوي النفس شرس الأخلاق مهابا جائرا في أحكامه سفّاكا للدماء غليظا فحّاشا كثير المال، وأصله من بلاد الصين حمل إلى أبي سعيد بن خدابندا فأخذه دمشق خواجه بن جوبان ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتله وبعث به هدية إلى مصر اه.(2/342)
عقلت طرفك فيه ... أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولي ... على بني الناس مثلك
قال المقريزي في السلوك في حوادث سنة 750: فيها مات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام مذبوحا في ربيع الأول، رباه الناصر محمد حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية، ثم استقر بعد وفاته أستادارا أمير ماية مقدم ألف فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب ثم نيابة الشام. وكان قوي النفس شرس الأخلاق مهابا جائرا في أحكامه سفّاكا للدماء غليظا فحّاشا كثير المال، وأصله من بلاد الصين حمل إلى أبي سعيد بن خدابندا فأخذه دمشق خواجه بن جوبان ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتله وبعث به هدية إلى مصر اه.
ذكر تعيين فخر الدين أياز لنيابة حلب
وفي أواخرها وصل إلى حلب نائبا فخر الدين أياز نقل إليها من صفد.
ذكر قتل السلطان أمير حاج وسلطنة أخيه حسن
وفيها في رمضان قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج ابن الملك الناصر بن قلاوون وأقيم مكانه أخوه السلطان الملك الناصر حسن.
عزل فخر الدين أياز نائب حلب
وفيها في شوال طلب السلطان فخر الدين أياز نائب حلب إلى مصر، وخافت الأمراء أن يهرب فركبوا من أول الليل وأحاطوا به، فخرج من دار العدل وسلم نفسه إليهم فأودعوه القلعة، ثم حمل إلى مصر فحبس، وهو أحد الساعين في نكبة يلبغا، وأيضا فإنه من الجركس وهم أضداد لجنس التتار بمصر، وكان المظفر قد مال عن جنس التتار إلى الجركس ونحوهم فكان ذلك أحد ذنوبه عندهم، فانظر إلى هذه الدول القصار التي ما سمع بمثلها في الأعصار. قلت:
هذي أمور عظام ... من بعضها القلب ذائب
ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب
ذكر تعيين الحاج أرقطاي لنيابة حلب
قال ابن الوردي: وفي ذي الحجة وصل إلى حلب الحاج أرقطاي نائبا بعد أن
خطبوه إلى السلطنة والجلوس على الكرسي بمصر فأبى، وخطبوا قبله الخليفة الحاكم بأمر الله فامتنع، كل هذا خوفا من القتل، فلما جلس الملك الناصر حسن على الكرسي طلب الحاج أرقطاي منه نيابة حلب فأجيب وأعفى الناس من زينة الأسواق بحلب لأنها تكررت حتى سمجت. قلت:(2/343)
قال ابن الوردي: وفي ذي الحجة وصل إلى حلب الحاج أرقطاي نائبا بعد أن
خطبوه إلى السلطنة والجلوس على الكرسي بمصر فأبى، وخطبوا قبله الخليفة الحاكم بأمر الله فامتنع، كل هذا خوفا من القتل، فلما جلس الملك الناصر حسن على الكرسي طلب الحاج أرقطاي منه نيابة حلب فأجيب وأعفى الناس من زينة الأسواق بحلب لأنها تكررت حتى سمجت. قلت:
كم ملك جاء وكم نائب ... يا زينة الأسواق حتى متى
قد كرروا الزينة حتى اللحى ... ما بقيت تلحق أن تنبتا
سنة 749
ذكر استفحال أمر قراجا بن دلغادر التركماني في البستان ومرعش
قال ابن الوردي: دخلت سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقراجا بن دلغادر التركماني وجمائعه قد شغبوا واستطالوا ونهبوا، وتسمى بالملك القاهر وأبان عن فجور وحمق ظاهر، ودلاه بغروره الشيطان حتى طلب من صاحب سيس الحمل الذي يحمل إلى السلطان.
قال المقريزي في كتاب السلوك في حوادث هذه السنة: واستقر نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف في قضاء القضاة الشافعية بحلب عوضا عن نور الدين محمد بن الصايغ بعد وفاته.
ذكر وصول الوباء (الطاعون) إلى حلب واتصاله بالبلاد الشامية ثم المصرية
قال ابن الوردي: وفيها في شهر رجب وصل الوباء إلى حلب، قيل لنا إنه ابتدأ من الظلمات (أي من الشرق الأقصى) من خمس عشرة سنة متقدمة على تاريخه. وعملت فيه رسالة سميتها «النبا عن الوبا» (منها): ماصين عنه الصين، ولا منع منه حصن حصين.
سلّ هنديا في الهند، واشتد على السند. وقبض بكفبه وشبك، على بلاد أزبك. وكم قصم من ظهر، فيما وراء النهر. ثم ارتفع ونجم، وهجم على العجم. وأوسع الخطا إلى أرض الخطا. وقرم القرم ورمى الروم بجمر مضطرم. وجر الجرائر إلى قبرص والجزائر. ثم قهر خلقا بالقاهرة، وتنبهت عينه لمصر فإذاهم بالساهرة. وأسكن حركة الإسكندرية، فعمل شغل الفقراء مع الحريرية. ومنها:(2/344)
إسكندرية ذا الوبا ... سبع يمد إليك ضبعه
صبرا لقسمته التي ... تركت من السبعين سبعه
ثم تيمم الصعيد الطّيب، وأبرق على برقة منه صيّب. ثم غزا غزة، وهز عسقلان هزة. وعك إلى عكا، واستشهد بالقدس وزكا. فلحق من الهاربين الأقصى بقلب كالصخرة، ولولا فتح باب الرحمة لقامت القيامة في مرة. ثم طوى المراحل ونوى أن يحلق الساحل. فصاد صيدا وبغت بيروت كيدا. ثم سدد الرشق إلى جهة دمشق. فتربع ثم وتميّد، وفتك كل يوم بألف وأزيد. فأقل الكثرة وقتل خلقا ببثرة. (ومنها):
أصلح الله دمشقا ... وحماها عن مسبه
نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه
ثم أمر المزة وبرز إلى برزة. وركب تركيب مزج على بعلبك، وأنشد في قارة قفا نبك. ورمى حمص بجلل، وصرفها مع علمه أن فيها ثلاث علل. ثم طلق الكنة في حماة، فبردت أطراف عاصيها من حماه.
يا أيها الطاعون إن حماة من ... خير البلاد ومن أعز حصونها
لا كنت حين شممتها فسممتها ... ولثمت فاها آخذا بقرونها
ثم دخل معرة النعمان، فقال لها: أنت مني في أمان. حماة تكفيك فلا حاجة لي فيك:
رأى المعرة عينا زانها حور ... لكن حاجبها بالجور مقرون
ماذا الذي يصنع الطاعون في بلد ... في كل يوم له بالظلم طاعون
ثم سرى إلى سرمين والفوعة، فشعث على السنة والشيعة. فسن للسنة أسنته شرّعا وشيع في منازل الشيعة مصرعا. ثم أنطى أنطاكية بعض نصيب، ورحل عنها حياء من نسيانه ذكرى حبيب. ثم قال لشيزر وحارم: لا تخافا مني، فأنتما من قبل ومن بعد في غنى عني. فالأمكنة الردية تصح في الأزمنة الوبية. ثم أذل عزاز وكلّزة، وأصبح في بيوتهما الحارث ولا أعني ابن حلّزة. وأخذ من أهل الباب أهل الألباب. وباشر تل باشر ودلك دلوك وحاشر. وقصد الوهاد والتلاع وقلع خلقا من القلاع. ثم طلب حلب ولكنه ما غلب. (ومنها): ومن الأقدار أنه يتتبع أهل الدار. فمتى بصق أحد منهم دما تحققوا كلهم عدما. ثم يسكن الباصق الأجداث بعد ليلتين أو ثلاث.(2/345)
سألت بارىء النسم ... في دفع طاعون صدم
فمن أحس بلع دم ... فقد أحس بالعدم
(ومنها):
حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه
أصبحت حية سوء ... تقتل الناس ببزقه
فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية فلا رزقوا، وعاشوا بهذا الموسم وعرقوا من الحمل فلا عاشوا ولا عرقوا. فهم يلهون ويلعبون، ويتقاعدون على الزبون.
اسودت الشهباء في ... عيني من وهم وغش
كادت بنو نعش بها ... أن يلحقوا ببنات نعش
(ثم قال): وفي هذا كفاية ففي الرسالة طول.
وهذا الوباء كاد يكون عاما في القطعة الآسيوية وفي شمالي البلاد الإفريقية على ما فصله المقريزي في كتاب السلوك وأطال في ذكر البلاد التي دخلها وفتكه الذريع فيها، ذكر ذلك في ست ورقات، ومما قاله: وفي أول يوم من جمادى الأولى ابتدأ الوباء بأرض حلب فعم جميع بلاد الشام وبلاد ماردين وجبالها وسواحل عكا وصفد وبلاد القدس ونابلس والكرك وعربان البوادي وسكان الجبال والضياع، ولم يدخل الوبا من بلاد الشام معرة النعمان ولا بلد شيزر ولا حارم. وبلغ عدد من يموت بحلب في كل يوم خمسمائة إنسان.
(ثم قال): وقد أكثر الناس من ذكره في أشعارهم، ومما قاله الأديب زين الدين عمر ابن الوردي:
إن الوبا قد غلبا ... وقد بدا في حلبا
قالوا له على الورى ... كاف ورا قلت وبا
وقال:
الله أكبر من وباء قد سبا ... ويصول في العقلاء كالمجنون
سنت أسنته لكل مدينة ... فعجبت للمكروه في المسنون
وقال:
ألا إن هذا الوبا قد سبا ... وقد كاد يرسل طوفانه
ولا عاصم اليوم من أمره ... سوى رحمة الله عبدانه
وقال الأديب بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي:(2/346)
ألا إن هذا الوبا قد سبا ... وقد كاد يرسل طوفانه
ولا عاصم اليوم من أمره ... سوى رحمة الله عبدانه
وقال الأديب بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي:
إن هذا الطاعون يفتك في العا ... لم فتك امرىء ظلوم حقود
ويطوف البلاد شرقا وغربا ... ويسوق العباد نحو اللحود
قد أباح الدما وحرّم جمع الش ... مل قهرا وحل نظم العقود
كم طوى البشر من أخ عن أخيه ... وسبى عقل والد بوليد
أيتم الطفل أثكل الأم أبكى ال ... عين أجرى الدموع فوق الخدود
بسهام ترمي الأنام خفيا ... ت تشق الحلود قبل الجلود (1)
كلما قلت زدت في الثقل أقصر ... وتلبّث يقول هل من مزيد (2)
إن أعش بعده فإني شكور ... مخلص الحمد للولي الحميد
وإذا مت هيئوني وقولوا ... كم قتيل كما قتلت شهيد
وأطال المقريزي في تعداد من توفي تلك السنة من الأعيان.
ظهور أنوار على قبر النبي متّى وقبر حنظلة بن خويلد وغيرهم بمنبج
قال: وفي ذي القعدة ظهر بمنبج على قبر النبي متّى وقبر حنظلة بن خويلد أخي خديجة رضي الله عنها، وهذان القبران بمشهد النور خارج منبج، وعلى قبر الشيخ عقيل المنبجي وعلى قبر الشيخ نيبوب، وهما داخل منبج، وعلى قبر الشيخ علي وعلى مشهد المسيحات شمالي منبج أنوار عظيمة وصارت الأنوار تنتقل من قبر بعضهم إلى قبر بعض وتجتمع وتتراكم، ودام ذلك إلى ربع الليل حتى انبهر لذلك أهل منبج وكتب قاضيهم بذلك محضرا وجهزه إلى دار العدل بحلب، ثم أخبرني القاضي بمشاهدة ذلك وأكابر وأعيان من أهل منبج أيضا.
وفي السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة كانت وفاة ابن الوردي رحمه الله بالطاعون ولم يسلم من طعناته، واسمه عمر بن مظفر، وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الصواب نقلا عن كتاب السلوك ط 1958محمد مصطفى زيادة: تشق القلوب.
(2) في الأصل: أقصر ويبيت.(2/347)
سنة 750
ذكر نيابة قطليجا الحموي ثم نيابة أرغون الكاملي
قال في روض المناظر: وفي هذه السنة ولي الأمير أرغون الكاملي نيابة حلب عوضا عن قطليجا الحموي، وكان قد وليها نحو شهر ومات.
قال المقريزي: مات في هذه السنة الأمير قطليجا الحموي، أصله مملوك المؤيد صاحب حماة فبعثه إلى الناصر محمد وترقى حتى صار من جملة الأمراء، ثم ولي نيابة حماة ونقل إلى نيابة حلب فأقام بها أياما ومات، وكان سيىء السيرة.
وفيها توفي الحاج أرقطاي الناصري، باشر نيابة حمص ثم صفد ثم طرابلس ثم حلب ثم مصر ثم حلب ثم دمشق، فتوجه من حلب إليها ومات بعين المباركة وحمل إلى حلب ودفن بتربة سودي، وكان يحب حلب فأنشد فيه:
قالوا أرقطاي مات قلت فهل ... في الموت بعد الحياة من عجب
ما مات من فرحة بنقلته ... بل مات من حزنه على حلب
وكان عمره سبعين سنة.
قال المقريزي في حوادث هذه السنة: ومات الأمير أرقطاي المنصوري بظاهر حلب وهو متوجه إلى دمشق عن نحو ثمانين سنة يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى، وأصله من مماليك المنصور قلاوون رباه الطواشي فاخر أحسن تربية إلى أن توجه الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك كان معه، فلما عاد إليه ملكه جعله من جملة الأمراء، ثم سفّره صحبة الأمير تنكز نائب الشام وأوصاه ألا يخرج عن رأيه، فأقام عنده مدة ثم تنكر عليه فولاه نيابة حمص مدة سنتين ونصف، ثم نقله لنيابة صفد فأقام بها ثماني عشرة سنة، وقدم مصر فأقام بها عدة سنين وجرد إلى أياس، ثم ولي نيابة طرابلس ومات الناصر وهو بها، ثم قدم مصر وقبض عليه ثم أفرج عنه وأقام مدة، ثم ولي نيابة حلب، ثم طلب إلى مصر وصار رأس الميمنة، ثم ولي نيابة السلطنة نحو سنتين، ثم أخرج لنيابة حلب فأقام بها مدة، ثم نقل لنيابة الشام فمات في طريقه لدمشق فدفن بحلب، وكان مشكور السيرة اه.
قال: واستقر نجم الدين محمد الزرعي في قضاء القضاة الشافعية بحلب بعد وفاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح فيها.(2/348)
سنة 751
قال المقريزي في حوادث هذه السنة: في المحرم أوقع الأمير أرغون نائب حلب بكاتب سرها زين الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف ابن أبي السفاح وضربه وسجنه، فاستقر عوضه في كتابة السر بحلب الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد المعروف بابن قاضي العسكر.
وقدم الخبر بأن الأمير أرغون ركب إلى التركمان وقد كثر فسادهم فقبض على كثير منهم وأتلفهم وأوقع بالعرب حتى عظمت مهابته، ثم بعث موسى الحاجب على ألفي فارس في طلب نجمه أمير الأكراد، فلما قرب منه بعث صاحب ماردين يشعر بقوة العسكر خوفا من غير لقاء، فتنكر الأمير أرغون على موسى الحاجب وكتب يشكو منه. [ثم قال بعد ورقتين]: وأنعم على جركتمر باستقراره حاجبا بحلب عوضا عن موسى الحاجب لشكوى نائب حلب منه.
سنة 752
خلع السلطان حسن وسلطنة أخيه الملك الصالح صالح
قال ابن إياس: في هذه السنة قبضوا على السلطان الملك الناصر حسن وأقيم في السلطنة الملك الصالح صلاح الدين صالح ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون، وهو تمام العشرين من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، وهو الثامن من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون.
ذكر نيابة الأمير بيبغا أروس بحلب
قال ابن إياس: في هذه السنة أرسل السلطان الملك الصالح بالإفراج عن الأمير بيبغا أروس وكان بالسجن في قلعة الكرك، فلما حضر خلع عليه واستقر به نائب حلب، ثم خلع على الأمير أرغون الكاملي واستقر به نائب السلطنة بالديار المصرية.
قال المقريزي: وفي هذه السنة استقر في قضاء المالكية بحلب زين الدين عمر بن سعيد التلمساني عوضا عن الشهاب أحمد بن ياسين الرياحي، واستقر في قضاء الحنفية بها جمال الدين إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن الكمال عمر بن عبد العزيز بن العديم بعد
وفاة أبيه، واستقر في كتابة السر بحلب جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود عوضا عن الشريف شهاب الدين بن قاضي العسكر وقدم الشريف إلى القاهرة اه.(2/349)
قال المقريزي: وفي هذه السنة استقر في قضاء المالكية بحلب زين الدين عمر بن سعيد التلمساني عوضا عن الشهاب أحمد بن ياسين الرياحي، واستقر في قضاء الحنفية بها جمال الدين إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن الكمال عمر بن عبد العزيز بن العديم بعد
وفاة أبيه، واستقر في كتابة السر بحلب جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود عوضا عن الشريف شهاب الدين بن قاضي العسكر وقدم الشريف إلى القاهرة اه.
سنة 753
ذكر عصيان الأمير بيبغا أروس نائب حلب وقصده دمشق
قال في روض المناظر: في هذه السنة سار بيبغا أروس نائب حلب ومعه قراجا بن دلغادر التركماني (صاحب البستان ومرعش) إلى مصر طالبا للملك بنفسه، وانجرت معه عساكر عظيمة منها نائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد، فخرج إليه السلطان الملك الصالح بعساكره، فلما بلغه ذلك رجع من قبلي دمشق إلى جهة حلب فمنع عنها وتشتت شمله وتفرقوا أيادي سبا واستقر نائبا بحلب عوضه الأمير أرغون الكاملي اه.
وذكر ابن إياس في حوادث هذه السنة هذا الخبر بأبسط من هذا فقال: جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير بيبغا أروس قد خرج عن الطاعة وأظهر العصيان، وكذلك الأمير بكلمش نائب طرابلس، وكذلك الأمير أحمد نائب حماة، وكذلك الأمير ألطنبغا برقاق نائب صفد، فأرسل نائب الشام الأمير أرغون الكاملي يخبر السلطان بما قد جرى من النواب. ثم بعد ذلك بأيام يسيرة جاءت الأخبار بأن نائب حلب وصل إلى الشام وحاصر المدينة، فلما رأى نائب الشام عين الغلبة هرب تحت الليل هو ومماليكه وتوجه إلى نحو غزة فأقام بها وأرسل يعلم السلطان والأمراء بذلك، ثم جاءت الأخبار بأن بيبغا أروس لما دخل إلى الشام وقف تحت القلعة ومعه من تقدم ذكرهم من النواب فاستعرض هناك العسكر الشامي والعسكر الحلبي، فكان مع الأمير بيبغا أروس من النواب والأمراء نحو ستين أميرا غير العساكر الحلبية والشامية وغير ما التف عليه من العربان والعشائر فقويت شوكته، فلما فرغ من العرض نزل عند قبة بيبغا وأرسل إلى نائب قلعة دمشق وهو الأمير أياجي يطلب منه أميرا كان مسجونا بقلعة دمشق، فأرسل إليه الأمير أياجي يعتذر له عن ذلك بأن هذا في سجن السلطان ولا أقدر على إطلاقه من السجن إلا بمرسوم السلطان، ثم إن نائب قلعة دمشق حصن القلعة تحصينا عظيما وركب عليها المكاحل بالمدافع وأرسل يقول لأهل المدينة: لا تفتحوا دكانا ولا سوقا ولا تبيعوا على عسكر حلب شيئا، فلما بلغ الأمير بيبغا أروس ذلك اشتد به الغضب وأمر عسكره بأن ينهبوا ضياع دمشق والبساتين ويقطعوا
الأشجار، فلما سمعوا هذه المناداة ما اتقوا ممكنا من الأذى والفساد فنهبوا حتى النساء والبنات والقماش، وجرى على أهل دمشق من بيبغا أروس ما لم يجر عليهم من عسكر غازان لما دخل دمشق.(2/350)
وذكر ابن إياس في حوادث هذه السنة هذا الخبر بأبسط من هذا فقال: جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير بيبغا أروس قد خرج عن الطاعة وأظهر العصيان، وكذلك الأمير بكلمش نائب طرابلس، وكذلك الأمير أحمد نائب حماة، وكذلك الأمير ألطنبغا برقاق نائب صفد، فأرسل نائب الشام الأمير أرغون الكاملي يخبر السلطان بما قد جرى من النواب. ثم بعد ذلك بأيام يسيرة جاءت الأخبار بأن نائب حلب وصل إلى الشام وحاصر المدينة، فلما رأى نائب الشام عين الغلبة هرب تحت الليل هو ومماليكه وتوجه إلى نحو غزة فأقام بها وأرسل يعلم السلطان والأمراء بذلك، ثم جاءت الأخبار بأن بيبغا أروس لما دخل إلى الشام وقف تحت القلعة ومعه من تقدم ذكرهم من النواب فاستعرض هناك العسكر الشامي والعسكر الحلبي، فكان مع الأمير بيبغا أروس من النواب والأمراء نحو ستين أميرا غير العساكر الحلبية والشامية وغير ما التف عليه من العربان والعشائر فقويت شوكته، فلما فرغ من العرض نزل عند قبة بيبغا وأرسل إلى نائب قلعة دمشق وهو الأمير أياجي يطلب منه أميرا كان مسجونا بقلعة دمشق، فأرسل إليه الأمير أياجي يعتذر له عن ذلك بأن هذا في سجن السلطان ولا أقدر على إطلاقه من السجن إلا بمرسوم السلطان، ثم إن نائب قلعة دمشق حصن القلعة تحصينا عظيما وركب عليها المكاحل بالمدافع وأرسل يقول لأهل المدينة: لا تفتحوا دكانا ولا سوقا ولا تبيعوا على عسكر حلب شيئا، فلما بلغ الأمير بيبغا أروس ذلك اشتد به الغضب وأمر عسكره بأن ينهبوا ضياع دمشق والبساتين ويقطعوا
الأشجار، فلما سمعوا هذه المناداة ما اتقوا ممكنا من الأذى والفساد فنهبوا حتى النساء والبنات والقماش، وجرى على أهل دمشق من بيبغا أروس ما لم يجر عليهم من عسكر غازان لما دخل دمشق.
فلما جاءت الأخبار بذلك إلى السلطان علق الجاليش وتجهز للخروج إلى دمشق، ثم عين الأمير عمر شاه وهو صاحب القنطرة وعيّن محمد بن بكتمر الساقي والأمير قماري الحموي بأن يخرجوا إلى الصعيد قبل خروج السلطان لحفظ البلاد من فساد العربان وصون الغلال، فخرجوا من يومهم. ثم إن السلطان خرج من القاهرة قاصدا نحو البلاد الشامية فطلب طلبا عظيما وخرج معه من يذكر من الأمراء وهم الأمير طاز والأمير شيخو العمري والأمير صرغتمش والأمير أسندمر العمري وأخوه الأمير طاز والأمير جردمر والأمير قرابغا والأمير بنجاص والأمير قجا السلحدار والأمير طشتمر القاسمي والأمير سنقر المحمدي والأمير قطلوبغا الذهبي وبقية الأمراء المقدمين، وكان مع السلطان الطبلخانات والعشراوات نحو ثمانين أميرا. ثم إن السلطان ترك في القاهرة الأمير قبلاي نائب السلطنة ومعه ثلاثة أمراء لصون المدينة، ثم خرج السلطان من القاهرة سابع شهر شعبان وكان صحبته القضاة الأربعة والخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله ابن المستكفي بالله وسائر العسكر قاطبة، فكان وصول السلطان إلى دمشق في شهر رمضان فنزل بالقصر الأبلق الذي بالميدان وصلى الجمعة في جامع بني أمية، وكان الأمير بيبغا أروس لما بلغه وصول الملك الصالح إلى دمشق رحل عنها. ثم إن السلطان طلع إلى قلعة دمشق وأقام بها وأمر جماعة من الأمراء والعسكر بأن يتوجهوا خلف الأمير بيبغا ومن معه من النواب، فخرجوا إليهم وتقاتلوا معهم، فلما كان ثالث شهر شوال جاءت الأخبار من عند السلطان بأنه قد انتصر على الأمير بيبغا أروس وانكسر بيبغا وهرب إلى بلاد التراكمة وقبض على جميع من كان معه من النواب والعسكر ودخلوا بهم إلى دمشق وهم في جنازير وقيود وكان لهم في دمشق يوم مشهود لم يسمع بمثله، ثم ذكر من قتل من هؤلاء الأمراء ومن شفع فيه إلى أن قال: وعاد السلطان إلى الديار المصرية فدخل القاهرة في أواخر شوال.
ثم قال ابن إياس في حوادث سنة أربع وخمسين: وفيها حضروا برأس الأمير بكلمش نائب طرابلس ورأس الأمير بيبغا أروس نائب حلب ورأس الأمير أحمد نائب حماة وكانوا هربوا من الملك الصالح لما توجه إلى الشام كما تقدم، فلما هرب أولئك النواب توجهوا إلى
بلاد التركمان فقطعوا رؤوسهم وأرسلوها إلى السلطان فرسم بأن يعلقوا على باب زويلة فعلقوا عليه ثلاثة أيام اه.(2/351)
ثم قال ابن إياس في حوادث سنة أربع وخمسين: وفيها حضروا برأس الأمير بكلمش نائب طرابلس ورأس الأمير بيبغا أروس نائب حلب ورأس الأمير أحمد نائب حماة وكانوا هربوا من الملك الصالح لما توجه إلى الشام كما تقدم، فلما هرب أولئك النواب توجهوا إلى
بلاد التركمان فقطعوا رؤوسهم وأرسلوها إلى السلطان فرسم بأن يعلقوا على باب زويلة فعلقوا عليه ثلاثة أيام اه.
سنة 754
ذكر تولية حلب للأمير أرغون الكاملي وقبضه على قراجا بن ذي الغادر وقتل قراجا بمصر
قال ابن إياس: في هذه السنة خلع السلطان على الأمير أرغون الكاملي واستقر به نائب حلب عوضا عن بيبغا أروس، فلما توجه أرغون إلى حلب جرد إلى قراجا بن ذي الغادر أمير التركمان، وكان ذنب قراجا أنه وافق بيبغا أروس على العصيان، فلما وصل إليه الأمير أرغون هرب منه فتبعه الأمير أرغون إلى أطراف بلاد الروم فقبض عليه وأرسله إلى السلطان، فلما حضر إلى القاهرة ومثل بين يدي السلطان أمر بتسميره فسمّروه على جمل وطافوا به مصر والقاهرة ثم وسّطوه في الرميلة بسوق الخيل ثم دفنوه اه.
زيادة بيان لهذه الحوادث
وقال ابن خطيب الناصرية في ترجمة قراجا بن دلغادر أمير التركمان بالبلاد الشمالية:
إنه جاء إلى حلب إلى بيبغا أروس القاسمي نائب حلب ووافقه في العصيان على السلطان وتوجه معه إلى دمشق حين سار، فلما أحس بيبغا أروس بنزول السلطان (أي مجيئه من مصر) ولّى هاربا وهرب معه قراجا المذكور وتوجه إلى بلاده فتوجه في طلبه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي نائب حلب وصحبته العساكر الحلبية وذلك في سنة أربع وخمسين وسبعمائة، فوصلوا إلى أبلستين فهرب قراجا بن دلغادر فتبعوه إلى أن أدركوه بأطراف بلاد الروم، فلما أحس بهم هرب فنهب العسكر بيوته وبيوت التركمان الذين كانوا معه وأخذوا مواشيهم، واستمر قراجا هاربا إلى أن وصل إلى أرنتا صاحب الروم فقبض عليه ثم جهز إلى مصر فكان آخر العهد به.(2/352)
سنة 755
ذكر خلع الملك الصالح صالح وعود الملك الناصر حسن إلى السلطنة وتولية حلب للأمير طاز
قال في روض المناظر: في هذه السنة خلع الملك الصالح صالح واستقر عوضه الملك الناصر حسن وعاد إلى السلطنة واستقر عوضه طاز في نيابة حلب عوضا عن أرغون الكاملي.
قال بيشوف نقلا عن درة الأسلاك: في سنة 755ولي الأمير سيف الدين طاز الناصري نيابة السلطنة بحلب عوضا عن الأمير سيف الدين أرغون الكاملي. وفي هذه السنة أنشأ الأمير أرغون الكاملي البيمارستان المنسوب إليه داخل باب قنسرين واجتهد في أمره ورفل في أثواب ثوابه وأجره، وشيّد بنيانه ومهّد مجالسه وإيوانه، ورفع قواعده وهيّأ بيوته ومراقده، وأعدّ له الآلات والخدم ورتب لحفظ الصحة فيه أرباب الحكم، وأباحه للضعيف والسقيم وفتح بابه للراحل والمقيم، ورواه بالمياه الكثيرة وأنفق أموالا غزيرة، وأجرى عيونا معلومة وجرايته ووقف للقيام بمصالحه ما يزيد على كفايته اه.
ووجدت في مجموعة معظمها بخط المؤرخ أبي ذر قال: إن لأرغون الكاملي بحلب المارستان المشهور، وفي ذلك يقول ابن حبيب:
قولا لأرغون الذي معروفه ... بالعرف قد أحيا النفوس والأرج
أنزلك الرحمن خير منزل ... رحب ورقاك إلى أعلى الدرج
بنيت دارا للنجاة والشفا ... ليس بها على المريض من حرج
سنة 758
ذكر وفاة الأمير أرغون الكاملي
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي أرغون بن طيجو الكاملي بالقدس الشريف ودفن في تربته هناك وعمره دون الثلاثين سنة، تبنّاه الملك الصالح إسماعيل وزوّجه أخته من أمه، وكان يسمى أرغون الصغير، فلما مات الصالح وولي أخوه الكامل أعطى أرغون تقدمة ألف ونهى أن يسمى أرغون الصغير فسمي الكاملي، ولي نيابة حلب ثم نقل
إلى نيابة دمشق عوضا عن أيتميش وتوجّه في حركة بيبغا أروس إلى ملاقاة العساكر المصرية، وعاد مع طاز وسنجر إلى حلب وراء بيبغا أروس فاستمر في نيابة حلب ثانيا وحصر بيبغا أروس وحبسه بالقلعة وكان آخر العهد به، وحصر أحمد الساقي نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس وقراجا بن دلغادر، وعمر مارستانه بحلب داخل باب قنسرين ووقف عليه قرية بنّش العظمى من الغربيات، ثم طلب إلى مصر أميرا مقدما، ثم جهز إلى الإسكندرية مقبوضا عليه، ثم أفرج عنه وتوجه إلى القدس الشريف وكانت به وفاته رحمه الله اه.(2/353)
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي أرغون بن طيجو الكاملي بالقدس الشريف ودفن في تربته هناك وعمره دون الثلاثين سنة، تبنّاه الملك الصالح إسماعيل وزوّجه أخته من أمه، وكان يسمى أرغون الصغير، فلما مات الصالح وولي أخوه الكامل أعطى أرغون تقدمة ألف ونهى أن يسمى أرغون الصغير فسمي الكاملي، ولي نيابة حلب ثم نقل
إلى نيابة دمشق عوضا عن أيتميش وتوجّه في حركة بيبغا أروس إلى ملاقاة العساكر المصرية، وعاد مع طاز وسنجر إلى حلب وراء بيبغا أروس فاستمر في نيابة حلب ثانيا وحصر بيبغا أروس وحبسه بالقلعة وكان آخر العهد به، وحصر أحمد الساقي نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس وقراجا بن دلغادر، وعمر مارستانه بحلب داخل باب قنسرين ووقف عليه قرية بنّش العظمى من الغربيات، ثم طلب إلى مصر أميرا مقدما، ثم جهز إلى الإسكندرية مقبوضا عليه، ثم أفرج عنه وتوجه إلى القدس الشريف وكانت به وفاته رحمه الله اه.
أقول: تدخل إلى هذا البيمارستان فتجد عن يسارك حجرة هي الآن خربة، ثم تدخل الباب الثاني فتجد عن يمينك حجرة أخرى، كانت هاتان الحجرتان لقعود الأطباء ووضع ما يحتاجون إليه من الأدوية والأشربة، ثم تجد صحنا واسعا يحيط بطرفه القبلي والشمالي رواقان ضيقان مرفوعان على أعمدة عظيمة ووراءهما حجر صغيرة هي محل حبس المجانين فيها، ثم تدخل من الجهة الشمالية في دهليز، وبعد خطوات تجد دهليزين الذي عن اليمين يأخذك إلى باب آخر للمارستان تخرج منه إلى بوابة صغيرة وهو مغلق الآن، والدهليز الذي عن اليسار يأخذك إلى صحنين حولهما حجر صغيرة وهي معدة أيضا لحبس المجانين، وهناك تأخذك الخشية ويداخل قلبك الروع للظلمة المخيمة على هذه الأمكنة ولا منافذ لها وروائح العفونة والأقذار منتشرة فيها، وإنا لنعجب كيف كانوا يحبسون المجانين فيها، ولو قعد العاقل هناك بضع ساعات لذهب منه عقله وصار في عداد المجانين.
وقد بلغنا أنه كان في أطراف الصحن الخارجي وعلى أطراف الحوض الذي في وسطه توضع أنواع الرياحين ليناظرها المجانين، وكانوا يأتون بآلات الطرب وبالمغنين فيداوون المجانين بها أيضا. وكان أمره جاريا على الانتظام إلى أواخر القرن العاشر ومن ذلك الحين أهمل أمره وزالت تلك الأوضاع منه.
وكان بلاط الصحن متوهنا جدا فاهتم جميل باشا سنة 1302في تبليطه وتجديد حوضه وترميمه داخلا وخارجا، وكان يسكن في إيوانه الغربي رجل يقال له أبو حيدر هو وعائلته فكانوا يحافظون هؤلاء المجانين ويطعمونهم ويسقونهم ويرفعون الأقذار من عندهم، ومنذ نحو عشر سنوات أو أزيد بقليل أخذ من كان فيه من المجانين وكانوا قدر عشرين
شخصا إلى الأستانة، وهذا آخر العهد بهم. والآن يسكنه بعض الفقراء. وقد كان لبابه الكبير حلقتان كبيرتان جميلتا الشكل من النحاس الأصفر قلعتا منذ 15سنة وأخذتا إلى متحف الأستانة، ولا ندري وصلتا إليه أو لا.(2/354)
وكان بلاط الصحن متوهنا جدا فاهتم جميل باشا سنة 1302في تبليطه وتجديد حوضه وترميمه داخلا وخارجا، وكان يسكن في إيوانه الغربي رجل يقال له أبو حيدر هو وعائلته فكانوا يحافظون هؤلاء المجانين ويطعمونهم ويسقونهم ويرفعون الأقذار من عندهم، ومنذ نحو عشر سنوات أو أزيد بقليل أخذ من كان فيه من المجانين وكانوا قدر عشرين
شخصا إلى الأستانة، وهذا آخر العهد بهم. والآن يسكنه بعض الفقراء. وقد كان لبابه الكبير حلقتان كبيرتان جميلتا الشكل من النحاس الأصفر قلعتا منذ 15سنة وأخذتا إلى متحف الأستانة، ولا ندري وصلتا إليه أو لا.
ويعد هذا البيمارستان من جملة الآثار القديمة الباقية في حلب وهو يمثل لك داخلا وخارجا الهندسة الشرقية، غير أنه إذا بقي مهملا على حالته الحاضرة أدى ذلك إلى تداعيه وسقوطه وخرابه بتاتا.
وأما واردات البيمارستان من قرية بنّش فإنها حولت سنة 1284إلى أوقاف الجامع الكبير فكثروا بها واردات الجامع، وأحدث على إثر ذلك عدة وظائف للمدرسين لم تكن من قبل.
سنة 759
ذكر القبض على الأمير طاز نائب حلب وتولية حلب للأمير منجك اليوسفي
قال ابن إياس: في هذه السنة تزايدت عظمة المقر السيفي سيف الدين صرغتمش رأس نوبة النوب وصار في رتبة الأتابكي شيخو صاحب الحل والعقد بالديار المصرية، فأرسل بالقبض على الأمير طاز نائب حلب من غير علم السلطان وأرسله من هناك إلى السجن بالإسكندرية، فإنه كان بينه وبين الأمير طاز حظ نفسي من أيام الملك الصالح، وكان الأتابكي شيخو يرده عن الأمير طاز، فلما مات شيخو قضى منه الأمير صرغتمش أربه وقيده ونفاه إلى الإسكندرية، فلما جرى ذلك خلع السلطان على الأمير منجك اليوسفي واستقر به نائب حلب عوضا عن الأمير طاز.
ذكر تولية الأمير علي المارديني
قال في روض المناظر: في هذه السنة نقل الأمير منجك اليوسفي إلى دمشق واستقر عوضه بحلب الأمير علي المارديني.
ترجمة الأمير علي المارديني
قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته: الأمير علاء الدين المارديني الناصري نائب
السلطنة بحلب ثم بدمشق ثم بالقاهرة، ولي نيابة حلب في سنة تسع وخمسين وسبعمائة عوضا عن الأمير سيف الدين منجك الناصري واستمر بها مدة، ثم نقل إلى نيابة دمشق في أواخر هذه السنة، وكان أميرا كبيرا دينا عادلا يحب أهل العلم ويكرمهم وله ميل كبير إليهم، ويجري الأحكام السياسية على الأمور الشرعية. ذكره شيخنا أبو محمد بن حبيب في تاريخه فقال فيه: أمير ظهر علاؤه وفاج (1) بناؤه وامتدت أفياؤه واشتهر بالجميل أبناؤه. كان ديّنا عفيفا مترفقا لطيفا ملازما للخير حسن السراء والسير رفيع المنزلة محبا للمعدلة، منقادا إلى الشريعة الشريفة مشتغلا على مذاهب الإمام أبي حنيفة. منصرفا بالمعرفة والخبرة محترما بين ذوي الأمر والإمرة، قريبا من الرعية سالكا للطرق المرضية، يجتمع بأهل العلم ويكرمهم ويركن إلى أقوالهم ويعظمهم، باشر نيابة السلطنة بدمشق مدة طويلة وبحلب برهة زينها بما عنده من السيرة الجميلة، ثم انتقل إلى الديار المصرية مطلوبا واستمر إلى أن بلغ ما كان له من الأجل مكتوبا. انتهى.(2/355)
قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته: الأمير علاء الدين المارديني الناصري نائب
السلطنة بحلب ثم بدمشق ثم بالقاهرة، ولي نيابة حلب في سنة تسع وخمسين وسبعمائة عوضا عن الأمير سيف الدين منجك الناصري واستمر بها مدة، ثم نقل إلى نيابة دمشق في أواخر هذه السنة، وكان أميرا كبيرا دينا عادلا يحب أهل العلم ويكرمهم وله ميل كبير إليهم، ويجري الأحكام السياسية على الأمور الشرعية. ذكره شيخنا أبو محمد بن حبيب في تاريخه فقال فيه: أمير ظهر علاؤه وفاج (1) بناؤه وامتدت أفياؤه واشتهر بالجميل أبناؤه. كان ديّنا عفيفا مترفقا لطيفا ملازما للخير حسن السراء والسير رفيع المنزلة محبا للمعدلة، منقادا إلى الشريعة الشريفة مشتغلا على مذاهب الإمام أبي حنيفة. منصرفا بالمعرفة والخبرة محترما بين ذوي الأمر والإمرة، قريبا من الرعية سالكا للطرق المرضية، يجتمع بأهل العلم ويكرمهم ويركن إلى أقوالهم ويعظمهم، باشر نيابة السلطنة بدمشق مدة طويلة وبحلب برهة زينها بما عنده من السيرة الجميلة، ثم انتقل إلى الديار المصرية مطلوبا واستمر إلى أن بلغ ما كان له من الأجل مكتوبا. انتهى.
توفي سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة بالقاهرة عن بضع وستين سنة تغمده الله برحمته اه.
سنة 760
قال في روض المناظر: في هذه السنة نقل الأمير علي المارديني إلى نيابة دمشق واستقر عوضه بحلب الأمير بكتمر المؤمني، ثم أمسك واستقر عوضه الأمير بيدمر الخوارزمي.
سنة 761
قال في روض المناظر: في هذه السنة توجه الأمير بيدمر الخوارزمي بالعساكر الحلبية إلى غزو الأرمن بالبلاد السيسية وفتح آذنة وطرسوس والمصيّصة وعدة قلاع وعاد مؤيدا منصورا.
قال: وفي هذه السنة ولي الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري نيابة حلب عوضا عن بيدمر الخوارزمي.
__________
(1) هكذا في الأصل، وهي بمعنى انتشر.(2/356)
سنة 762
ذكر قتل الملك الناصر حسن واستقرار السلطنة للملك المنصور محمد وتولية حلب للأمير قطلوبغا
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي السلطان الملك الناصر حسن، قتله مملوكه يلبغا الخاصكي، واستقر في السلطنة ابن أخيه الملك المظفر حاجي، واستقر في نيابة حلب قطلوبغا الأحمدي عوضا عن ابن القشتمري.
سنة 763
ذكر تولية سيف الدين منكلي بغا
قال في روض المناظر: في هذه السنة استقر الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي في نيابة حلب عوضا عن قطلوبغا الأحمدي واستمر سنة كاملة.
وفيها توفي الأمير طاز بدمشق بعد أن أمسك حين عصى بحلب وخرج منها في حمية وأكحل ثم أطلق.
سنة 764
ذكر عود قطلوبغا الأحمدي لولاية حلب ووفاته بها وتولية حلب للأمير أشقتمر المارديني
قال في روض المناظر: في هذه السنة خلع السلطان الملك المنصور محمد واستقر عوضه في السلطنة ابن عمه الملك الأشرف شعبان بن حسين ابن الناصر محمد بن قلاوون، وعاد إلى نيابة حلب قطلوبغا الأحمدي ونقل منكلي بغا إلى دمشق نائبا، وبعد ثلاثة أشهر مات قطلوبغا الأحمدي بحلب واستقر عوضه الأمير أشقتمر المارديني في أوائل سنة خمس وستين وسبعمائة.
ترجمة قطلوبغا الأحمدي:
قال ابن خطيب الناصرية: قطلوبغا الأحمدي الأمير سيف الدين نائب حلب، ولي نيابة حلب في سنة اثنتين وستين وسبعمائة عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد بن
القشمري واستمر بها سنة وبضعة شهور، ثم عزل في سنة ثلاث وستين بالأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي، ثم وليها في سنة أربع وستين عوضا عن منكلي بغا المذكور واستمر بها متعللا نحو ثلاثة شهور.(2/357)
قال ابن خطيب الناصرية: قطلوبغا الأحمدي الأمير سيف الدين نائب حلب، ولي نيابة حلب في سنة اثنتين وستين وسبعمائة عوضا عن الأمير شهاب الدين أحمد بن
القشمري واستمر بها سنة وبضعة شهور، ثم عزل في سنة ثلاث وستين بالأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي، ثم وليها في سنة أربع وستين عوضا عن منكلي بغا المذكور واستمر بها متعللا نحو ثلاثة شهور.
قرأت في تاريخ الإمام البارع أبي محمد الحسن بن حبيب رحمه الله تعالى قال سنة خمس وستين وسبعمائة: وفيها توفي الأمير سيف الدين قطلوبغا الأحمدي نائب السلطنة بحلب، أمير ذكره جميل وباعه طويل، وطباعه لطيفة وأعلامه منيفة، كان مخصوصا بالتكريم مشارا إليه بالتقديم، معظما في مجالس الدولة ومحافلها معدودا من أعيان المملكة وأماثلها، ولي النيابة بحلب مرتين وظفر من ركوب شهبائها ورعاية دهمائها بمسرتين، لكن خانته الأيام واستولت عليه الأسقام، واستمر ملقى على فراش الضنى إلى أن أحالت المنية بينه وبين المنى، وكانت وفاته بحلب تغمده الله تعالى برحمته.
سنة 766
قال في روض المناظر: في هذه السنة تولى الأمير جرجي نيابة حلب عوضا عن أشقتمر.
سنة 767
قال ابن إياس: في هذه السنة رسم السلطان لنائب حلب بأن يأخذ العساكر الحلبية ويتوجه إلى حصار قلعة خرت برت من أعمال ديار بكر، فسار إليها وحاصرها نحوا من أربعة أشهر، فطلب أهلها الأمان ونزلوا طائعين، فأرسل نائب حلب يعلم السلطان بذلك، فأرسل إليه السلطان خلعة بأن يستقر بنيابة قلعة خرت برت على عادته ويحلفه أيمانا عظيمة بأنه لا يرجع يخامر ولا يعصي السلطان.
انكسار الإفرنج على أياس
قال بيشوف في آخر تحف الأنباء نقلا عن درة الأسلاك: توجه الأمير سيف الدين منكلي بغا نائب السلطنة بحلب وصحبته العساكر الحلبية إلى مدينة أياس حين بلغهم أن الإفرنج قصدوها في مائة قطعة من المراكب وأقبلوا عليها، فلما وصلوا وجدوهم قد برزوا إلى الساحل ودخلوا المدينة وانهزم أهلها ونهبوا الأمتعة والأقوات فتقدمت العساكر لقتالهم ومحوا
أثر من هجم على المدينة، وتواترت قدوم العساكر الإسلامية من القلاع وهرب الإفرنج إلى جهة البحر فأدركوا وجرحوا وقتل منهم جماعة وأخذت خيلهم وسلاحهم، وتألم كل الإفرنج بسبب ذلك، واستمرت العساكر في أياس إلى أن أيسوا من عود الإفرنج، ثم رجعوا بالعز والنصر مؤيدين اه.(2/358)
قال بيشوف في آخر تحف الأنباء نقلا عن درة الأسلاك: توجه الأمير سيف الدين منكلي بغا نائب السلطنة بحلب وصحبته العساكر الحلبية إلى مدينة أياس حين بلغهم أن الإفرنج قصدوها في مائة قطعة من المراكب وأقبلوا عليها، فلما وصلوا وجدوهم قد برزوا إلى الساحل ودخلوا المدينة وانهزم أهلها ونهبوا الأمتعة والأقوات فتقدمت العساكر لقتالهم ومحوا
أثر من هجم على المدينة، وتواترت قدوم العساكر الإسلامية من القلاع وهرب الإفرنج إلى جهة البحر فأدركوا وجرحوا وقتل منهم جماعة وأخذت خيلهم وسلاحهم، وتألم كل الإفرنج بسبب ذلك، واستمرت العساكر في أياس إلى أن أيسوا من عود الإفرنج، ثم رجعوا بالعز والنصر مؤيدين اه.
أقول: وسيأتيك فيما كتب على باب جامع منكلي بغا الإشارة إلى هذه الوقعة وأن ذلك كان في سنة 767
سنة 768
ذكر عود الأمير منكلي بغا الشمسي إلى نيابة حلب وعمارته للجامع داخل باب قنسرين المعروف بجامع الرومي
قال في روض المناظر: في هذه السنة عاد الأمير منكلي بغا الشمسي إلى نيابة حلب عوضا عن جرجي الناصري وأنشأ جامعه المعروف بحلب داخل باب قنسرين.
ترجمة جرجي الناصري:
قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: جرجي الناصري أصله من مماليك الناصر، ثم تنقل في الخدم إلى أن صار دويدارا صغيرا في أيام الصالح إسماعيل، ثم استقر دويدارا كبيرا في أيام المظفر، ثم أخرج إلى دمشق أمير عشرة بعد قتل المظفر، ثم ولي في أيام حسن الخزندارية، ثم جعل أمير أخور في أيام الأشرف، ثم ناب بحلب، ثم استقر من كبار الأمراء بدمشق إلى أن مات في صفر سنة 772.
قال ابن إياس: في هذه السنة أرسل المقر السيفي منكلي بغا نائب الشام (قبل توليته لحلب) يسأل السلطان عن الحضور إلى مصر زائرا ليرى وجه السلطان، فلما حضر إلى القاهرة أحضر صحبته تقادم كثيرة للسلطان حتى للأمراء والأتابكي يلبغا، فأكرمه السلطان غاية الإكرام وخلع عليه واستقر به نائب حلب وجعل حلب أكبر من الشام كما كانت على القاعدة القديمة، وعين معه عسكرا يقيمون بحلب عنده.
الكلام على جامع منكلي بغا المشهور الآن بجامع الرومي
قال في الدر المنتخب: ومنها جامع منكلي بغا الشمسي نائب حلب ثم دمشق داخل باب قنسرين، وهو من أحسن الجوامع وبني على أحسن الوجوه، وكانت عمارته في
سنة ثمان وسبعين وسبعمائة اه. وهو سهو من النساخ والصواب في سنة 768كما تقدم.(2/359)
قال في الدر المنتخب: ومنها جامع منكلي بغا الشمسي نائب حلب ثم دمشق داخل باب قنسرين، وهو من أحسن الجوامع وبني على أحسن الوجوه، وكانت عمارته في
سنة ثمان وسبعين وسبعمائة اه. وهو سهو من النساخ والصواب في سنة 768كما تقدم.
المكتوب على بابه:
1 - البسملة. أنشأ هذا الجامع المعمور المبارك الفقير إلى الله تعالى المقر الأشرف العالي المولوي.
2 - المالكي المخدومي السيفي أبو عبد الرحيم منكلي بغا الأشرفي كافل الممالك الحلبية حين كسر الإفرنج على أياس في غرة شهر صفر سنة سبع وستين وسبعمائة ويومئذ.
3 - أتابك الجيوش المنصورة بالديار المصرية أدام الله ملك مالكها مولانا السلطان الملك الأشرف أعز الله أنصاره.
وفوق تلك الحجر حجر أخرى صغيرة كتب عليها:
1 - البسملة. أنشأ هذا المعمور المبارك بعفو الله وعونه جانم.
2 - الحمزاوي بتاريخ رجب الفرد سنة سابع عشر وتسعمائة اه.
وهذا يفيد أن جانم الحمزاوي جدد في هذا الجامع بعض الأماكن.
وطول القبلية نحو 27ذراعا وعرضها نحو 14ذراعا ومحرابه من الرخام المرمر وعلى جانبيه عمودان منقوشان نقشا بديعا، والأحجار التي فوق المحراب من الرخام الملون مشتبك بعضها في بعض. والمنبر جميعه من حجر المرمر وهو منقوش أيضا نقشا متقنا دل على براعة في هذه الصنعة.
وله صحن واسع في وسطه حوض كبير، وعلى جانبي الصحن والقبلية رواقان عظيمان مرتفعان غاية الارتفاع على أربع سوار عظيمة، ويقال إن القبلية كانت ممتدة إلى المكان الفارغ الذي على الجانبين، ولعل الذي صغر القبلية هو جانم الحمزاوي الذي جدد بعض بنائه سنة 917كما هو مكتوب على بابه.
وللجامع منارة عظيمة الارتفاع تعد في جملة الآثار القديمة التي في حلب كتب على أسفلها عند آخر جدار الجامع من فوق من جهة الشمال بقلم عريض (أنشأه العبد الفقير إلى الله تعالى منكلي بغا الشمسي غفر الله له) ومثل ذلك من طرف الشرق.
وكان للجامع ميضاة أمام المنارة من جهة الشمال يبلغ طولها 14ذراعا وعرضها 9 أذرع، وكانت عامرة فسعى رجل يقال له الحاج أحمد الصابوني كان ممن أثرى من صنعة
الصابون في أخذ هذه الميضاة بدعوى أنها عرصة خالية لا ينتفع منها على أن يدفع لجهة الجامع حكرا قدره عشرة قروش مسانهة ليحفر موضعها دولابا للجنينة التابعة لدوره التي أنشأها أمام الجامع، وقد اطلعت على حجة التحكير وهي محررة سنة 1264، وقد أدخلت تلك الميضاة في الدار التي فيها الجنينة وعمر بدلها ميضاة أخرى داخل الجامع في غربيه داخل باب آخر للجامع قد سد بواسطة هذه الميضاة وبما عمر وراءه من الدور، ومكتوب على هذا الباب مثل الكتابة التي تقدمت إلا أنه طيّن فوقها الآن.(2/360)
وكان للجامع ميضاة أمام المنارة من جهة الشمال يبلغ طولها 14ذراعا وعرضها 9 أذرع، وكانت عامرة فسعى رجل يقال له الحاج أحمد الصابوني كان ممن أثرى من صنعة
الصابون في أخذ هذه الميضاة بدعوى أنها عرصة خالية لا ينتفع منها على أن يدفع لجهة الجامع حكرا قدره عشرة قروش مسانهة ليحفر موضعها دولابا للجنينة التابعة لدوره التي أنشأها أمام الجامع، وقد اطلعت على حجة التحكير وهي محررة سنة 1264، وقد أدخلت تلك الميضاة في الدار التي فيها الجنينة وعمر بدلها ميضاة أخرى داخل الجامع في غربيه داخل باب آخر للجامع قد سد بواسطة هذه الميضاة وبما عمر وراءه من الدور، ومكتوب على هذا الباب مثل الكتابة التي تقدمت إلا أنه طيّن فوقها الآن.
وكان جدار القبلية الشمالي قد توهن فجدده هذا الرجل، ومع هذا كله فإنه على إثر ذلك أخذت ثروته في التناقص وافتقر واضمحل أمره ودخل الشؤم في دوره حتى بيعت مرات بأبخس الأثمان وصارت تنتقل من شخص إلى آخر، وكل من اشتراها لا يفلح وتنتابه المصائب إما في نفسه أو في ماله أو في أهله. واشتهر بين جميع الناس شؤم هذه الدور لأخذه هذه الميضاة وإدخالها في ملكه.
والدار الكبيرة هي في منتهى الزخرفة، وكان الصابوني أحضر لها صناعا من الشام لدهن سقوف بيوتها وطليها بالذهب وصرف على ذلك مبالغ طائلة. وعلى سعتها وما فيها من النقوش بيعت منذ عشر سنوات بخمسة وثلاثين ألفا قروشا رائجة، ولولا ما اشتهرت من الشؤم لبيعت بألفي ليرة عثمانية.
وليس لهذا الجامع الآن شيء من الأوقاف، ومنذ سنتين عينت دائرة الأوقاف له إماما وخادما ومؤذنا. وفي سنة 1320حضر إلى حلب الشيخ رجب وهو رجل من الأتراك من أهالي طربزون منسوب إلى أهل الطريق فنزل عند تاجر يقال له باكير كامل أصله من أورفة، ثم عمر له حجرة واسعة في شمالي هذا الجامع في داخلها مخدع، فسكن فيها وصار يقيم الذكر في القبلية وصار له بعض المريدين، وتوطن حلب، وهو رجل ساكن مبارك ومن الأحياء إلى يومنا هذا، وبوجود هذا الرجل أصبح الجامع معمورا بالمصلين من أهل المحلة.
والرواقان على ارتفاعهما وضخامة بنائهما آخذان في الخراب، وإذا بقي أمرهما مهملا على هذه الحالة سيخربان بتاتا، ولو اهتمت دائرة الأوقاف أو دائرة المعارف وابتنت موضعهما مكتبا ابتدائيا ينتفع به أهل المحلة وغيرهم لأحسنت الصنع وازداد هذا الجامع عمرانا والله من وراء القصد.
وفي أرض الرواق الغربي جرن كبير قطعة واحدة كتب على طرفه [أنشأ هذه الحنفية المباركة الفقير إلى الله الحاج عبد الله بن الحاج يحيى وأوقف عليه الدكان الذي في جانب
الميضاة في سنة 960اه] واليوم لا أثر لهذه الدكان وقد دخلت مع الميضاة في دار الجنينة التي عمرها الصابوني كما قدمنا.(2/361)
وفي أرض الرواق الغربي جرن كبير قطعة واحدة كتب على طرفه [أنشأ هذه الحنفية المباركة الفقير إلى الله الحاج عبد الله بن الحاج يحيى وأوقف عليه الدكان الذي في جانب
الميضاة في سنة 960اه] واليوم لا أثر لهذه الدكان وقد دخلت مع الميضاة في دار الجنينة التي عمرها الصابوني كما قدمنا.
وأما شهرة الجامع بالرومي فإني لم أقف على سبب ذلك والله أعلم (1).
سنة 769
ذكر زيادة نهر حلب وتخريبه بيوتا كثيرة
قال في روض المناظر: في هذه السنة زاد نهر حلب زيادة عظيمة وأصبحت منها بيوت لا أثر لها وقلعت كثيرا من الأشجار. وأنشد فيه القاضي بدر الدين حسن بن عمر ابن حبيب الحلبي:
لما طما نهر قويق ولم ... يأت بسيب بل بسيل غزير
قالت الأشجار (2) من حوله ... مهلا فقد زدت علينا كثير
وفيها نقل منكلي بغا الشمسي إلى مصر أتابك الجيوش بها واستقر عوضه في نيابة حلب طنبغا الطويل.
ترجمة منكلي بغا:
قال في الدرر الكامنة: منكلي بغا الشمسي أحد مماليك الناصر حسن، ولي إمرة طبلخاناه بعد القبض على شيخو في ذي الحجة سنة 758ثم إمرة مائة بعد القبض على صرغتمش سنة 59، ثم ولي نيابة حلب سنة 63فباشر جيدا وتوخى العدل والإحسان وعمر الجامع بها، ثم ولي نيابة دمشق سنة 64عوضا عن قشتمر ففتح في سنة 65باب كيسان وعقد عليه قنطرة ومد جسرا يسلك عليه، وبنى هناك جامعا وكان مغلقا من أيام العادل محمود بن زنكي، ثم نقل إلى نيابة حلب في صفر سنة 68، ثم استقر نائب السلطنة بمصر في سنة 69، ثم استعفى من النيابة فاستقر أتابكا، وكان الأشرف بعد قتل يلبغا قرر في الأتابكية أسندمر ثم طقشتمر النظامي ثم ملكتمر المحمدي ويلبغا المنصوري
__________
(1) انظر الجزء الخامس في ترجمة المحدث إبراهيم بن محمد بن خليل المشهور بالبرهان الحلبي.
(2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: قالت له(2/362)
معا، ثم استقدم منكلي بغا من حلب فقرره في النيابة ثم في الأتابكية وذلك في ربيع الأول سنة 69وولي نظر البيمارستان فلم يزل على حاله حتى مات في جمادى الأولى سنة 774. وكان مهابا عاقلا عارفا يتكلم في عدة فنون.
(أقول): وفي هامش النسخة المنقول منها هذه الترجمة ما نصه: حدثني القاضي محب الدين محمد بن الشحنة كاتب السر الشريف بمملكة مصر أن المذكور كان مجازا بالإفتاء والتدريس، وذكر عنه فوائد منها أنه ذكر عنده (الولد سر أبيه) فقال للقائل: ما معنى ذلك؟ فقال: المعنى أنه يكون على طريقة أبيه ونحو هذا، فقال: ما هكذا سمعنا من الأشياخ، بل المعنى الولد ما يسره أبوه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم قال: ما إعراب إن خيرا فخير إلخ يا فقيه؟ فقال له: المخاطب مولانا ملك الأمراء أعلم، وأما العبد فرجل من آحاد الشهود لا يعلم ذلك. وحدثنا أنه لما استعرض وظائف الجامع الكبير بحلب حسن له المباشرون أن ينقص معاليم أرباب الوظائف فأقر كل أحد على ما هو عليه وزاد معلومه من المدرسين وغيرهم، ثم قال: بقي المباشرون، فلما قرئت أسماؤهم ومقادير معاليمهم قال: كان إقطاعي يعمل في مصر أكثر من متحصل وقف الجامع وكان له مباشر واحد وفيه كفاية ثم منع المباشرين إلا واحدا.
وحدثني أنه لما بنى جامعه الذي بحلب منع أن يقف على العمال فيه أحد من جماعته يحثهم على العمل، وكان إذا حضر وقت الصلاة حضر إليهم وأمرهم بالوضوء والصلاة في وقتها، وربما قال إنه يصلي بهم إماما، وكان إذا رأى فيهم شيخا أو ضعيفا أعطاه جميع أجره وأمره بالانصراف إلى عياله ليأكل معهم ويستريح عندهم فيذهب فإن شاء حضر وإن شاء لم يحضر رحمه الله.
سنة 770
وفاة طنبغا الطويل وتولية حلب لأستنبغا الأبو بكري ثم لقشتمر المنصوري ثم لسيف الدين أشقتمر
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي طنبغا الطويل نائب حلب قيل بسم دسّه إليه المصريون حين بلغهم أنه قصد المخامرة، واستقر في نيابة حلب أستنبغا الأبو بكري، ثم طلب إلى مصر واستقر عوضه بحلب قشتمر المنصوري. وفي آخر السنة خرج إلى العربان
فقتل هو وولده وجماعة من العسكر وأعيد إلى نيابة حلب الأمير سيف الدين أشقتمر في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.(2/363)
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي طنبغا الطويل نائب حلب قيل بسم دسّه إليه المصريون حين بلغهم أنه قصد المخامرة، واستقر في نيابة حلب أستنبغا الأبو بكري، ثم طلب إلى مصر واستقر عوضه بحلب قشتمر المنصوري. وفي آخر السنة خرج إلى العربان
فقتل هو وولده وجماعة من العسكر وأعيد إلى نيابة حلب الأمير سيف الدين أشقتمر في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
ترجمته وزيادة بيان في هذه الوقعة:
قال ابن خطيب الناصرية في ترجمته: قشتمر المنصوري الأمير سيف الدين، ولي نيابة السلطنة بحلب في سنة سبعين وسبعمائة عوضا عن الأمير سيف الدين أستنبغا الأبي بكري واستمر بها قليلا، ثم توجه في السنة المذكورة وصحبته طائفة من العسكر الحلبي لردع العرب من بني كلاب وغيرهم حين ترصدوا لقطع الطريق بين حماة وحلب ونهبوا المسافرين وبعض المتوجهين إلى الحجاز الشريف، فلما وصل العسكر إلى تل السلطان بالقرب من حلب وجدوا هناك عدة من بيوت العرب ومضاربهم ومواشيهم فاستاقوا كثيرا من مواشيهم وجمالهم ودخلوا إلى بيوتهم فنهبوها، فنهض العرب واستنجدوا بمن كان نازلا هناك من آل مهنا وجرى بينهم قتال شديد، وقتل في المعركة نائب السلطنة المذكور وولده وعدة من العسكر وكسروا كسرة شنيعة وولوا هاربين، وتبعهم العرب يأخذون ما قدروا عليه منهم من الخيل والعدة وسلموا ولم ينج من السلب إلا القليل، ودخلوا البلد دخولا فاحشا وذلك لطمعهم. وفيهم يقول بعض أهل الأدب:
تبا لجيش طمعوا فوقعوا ... في شرك العراب والأعراب
وعاد كل منهم مجردا ... من الثواب ومن الأثواب
وكان الأمير قشتمر المذكور أميرا كبيرا خبيرا حسن الشكل فصيحا كاتبا كريما، ولي نيابة السلطنة بمصر ودمشق وحلب وطرابلس وصفد، وكانت وفاته بالمكان المذكور مقتولا في السنة المذكورة عن نيف وستين سنة تغمده الله برحمته.
قال ابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن نائب حلب قشتمر المنصوري قد قتل هو وولده محمد (1)، وسبب ذلك أن شخصا من آل فضل يسمى الأمير
__________
(1) أقول: وهما مدفونان في جامع المقامات بظاهر حلب داخل القبلية على يمين المنبر ومكتوب على قبر قشتمر ما نصه: 1هذا قبر المقر المرحوم السيفي قشتمر المنصوري مولانا 2ملك الأمراء بحلب المحروسة كان توفي إلى رحمة الله (3عند رجليه) تعالى في يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة 4الحرام سنة سبعين وسبعمائة رحمه الله اه.
وإلى جانبه قبر ولده محمد ومكتوب عليه (هذا قبر أمير محمد ولده).(2/364)
جبار وقع بينه وبين نائب حلب تشاجر، فخرج إليه نائب حلب مع العساكر الحلبية فتقاتل مع الأمير جبار فقويت العربان على نائب حلب فقتل هو وولده في المعركة. ثم إن السلطان خلع على الأمير آشقتمر واستقر به نائب حلب عوضا عن قشتمر المنصوري وأرسل خلعة إلى الأمير زامل من آل فضل بأن يكون عوضا عن الأمير جبار بن مهنا، فخرج الأمير آشقتمر وتوجه إلى حلب (وقد تقدم أن مجيئه كان في أول سنة 771وهذه للمرة الثانية).
سنة 773
ولاية عز الدين أيدمر
قال في روض المناظر: في هذه السنة ولي عز الدين أيدمر الدوادار نيابة حلب عوضا عن آشقتمر ونقل إلى مكانه بطرابلس نائبا.
بناء آشقتمر جامعه في هذه السنة وذكر بقية آثاره
قال في الدر المنتخب في الباب الحادي والعشرين الذي ذكر فيه ما تجدد بعد ابن شداد من المساجد والمدارس: فمن ذلك مسجد آشق تمر داخل باب النيرب بناه في سنة [بياض في الأصول] وأنشأ بالقرب منه حماما وفرنا وخانا ومعصرة وحوانيت ووقفها عليه وعلى التربة التي أنشأها ظاهر باب المقام يمنة الظاهر من المدينة، وهي تربة عظيمة واسعة لها بوابة من الحجر النحيت الأبيض ذات عقد مصلب له ثلاث قناطر ومساطب رخام أصفر، وداخلها مدفن معقود عليه قبة كبيرة وحوش كبير به بركة كبيرة مرخمة الداير يصل إليها الماء من القناة، وبصدر هذا الحوش إيوان كبير ذو شبابيك أحدها مطل على قسطل كبير يجري إليه من فايض البركة، وللإيوان المذكور شباكان مكتنفان بمحرابه مطلان على جنينة وشباك غربي يقابل الشباك الشرقي المطل على القسطل، وللتربة حجر ومنافع ومرتفق، وبهذه التربة دفن سيدي الوالد (1)، ألزم الأمير نوروز الحافظي عمي قاضي القضاة فتح الدين بدفنه هنالك غصبا لتكون التربة المذكورة جارية تحت نظرنا اه.
__________
(1) هو أبو الوليد محمد بن الشحنة صاحب روض المناظر المتوفى سنة 815.(2/365)
أقول: اشتهر هذا الجامع الآن بجامع السكاكيني وهو في محلة القصيلة ومكتوب على قنطرة بابه [أنشأ هذا المسجد العبد الفقير إلى الله تعالى آشقتمر الأشرفي (1) غفر الله وللمسلمين في شهور سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة].
وفي الجامع في الجهة الشمالية منه مصطبة وراءها خمس حجر لطلبة العلم كان بناها السيد راجي بيازيد بعد سنة 1260بقليل للشيخ حسين الغزي البالي حينما جاء إلى حلب وتوطن فيها وصار مدرسا في هذا الجامع، وهو الآن تحت يد الأوقاف، والباقي له من العقارات فرن ودكان ومخزن يبلغ وارداتها نحو خمسين ليرة عثمانية ذهبا.
ذكر اتخاذ علامات خضر في رؤوس الأشراف
قال في روض المناظر: في هذه السنة رسم السلطان الملك الأشرف شعبان أن يكون للأشراف علامة خضراء في رؤوسهم تعظيما لهم واحتراما. وأنشدت:
شرفت الأشراف من سلطاننا ... الأشرف بالخضر من القبضات (2)
عزا وإبدالا بما قد ألبست ... أسلافهم في عالي الجنات
وأنشد الشيخ أبو عبد الله المغربي محمد بن جابر الهواري الأندلسي نزيل حلب:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم ... يغني الشريف عن الطراز الأخضر
قال ابن إياس: وقال الشيخ بدر الدين بن حبيب الحلبي:
عمائم الأشراف قد تميزت ... بخضرة رقت وراقت منظرا
وهذه إشارة أن لهم ... في جنة الخلد لباسا أخضرا
سنة 774
فيها أعيد الأمير أشقتمر لنيابة حلب وهذه ولايته للمرة الثالثة.
__________
(1) الشين من الكلمتين ذاهبة.
(2) هكذا في روض المناظر أيضا، ولعل الصواب: القبعات.(2/366)
سنة 775
ولاية بكتمر الخوارزمي ثم آشقتمر
قال في روض المناظر: في هذه السنة ولي الأمير بكتمر الخوارزمي نيابة حلب عوضا عن آشقتمر، وبعد أربعة أشهر نقل بكتمر إلى نيابة دمشق وأعيد آشقتمر إلى نيابة حلب اه.
وهذه ولايته للمرة الرابعة وبقي إلى سنة 780، وكانت وفاته بحلب سنة 791ودفن في تربته التي أنشأها.
سنة 776
ذكر فتح مدينة سيس
قال في روض المناظر: في هذه السنة توجه نائب حلب الأمير آشقتمر بالعساكر الحلبية بأمر السلطان الملك الأشرف لأخذ سيس وفتحها بعد حصار شهرين، وعاد سالما غانما صحبة تكفور الأرمني، وجهزه إلى مصر واستقر أقبغا الدوادار نائبا لها، ثم بعد قليل جعلت سيس مملكة برأسها للفتوحات الجاهانية، وأضيف إليها طرسوس وآذنة وأياس وغيرها، واستقر في كفالتها الأمير موسى بن شهري، واستقر بها حجاب وكاتب سر وأرباب الدولة على عادة الممالك وأقطعت جهاتها بمناشير، وتوفي بها رحمة الله.
سنة 778
تعيين أبي الوليد بن الشحنة لقضاء حلب
قال المحب أبو الوليد محمد بن الشحنة في روض المناظر: في هذه السنة كنت نزيلا بالقاهرة مقيما بالصرغتمشية، فطلبني الملك الأشرف شعبان بن حسين وولاني قضاء حلب شكوى من جهل ابن العديم (1) وطلبوا قاضيا من أهل العلم، فطلب السلطان من علماء
__________
(1) اسمه إبراهيم بن محمد وهذا تحامل منه نشأ من المعاصرة، وسيأتيك في حوادث سنة 787ما قاله ابن إياس في حقه، وستأتيك ترجمته الحافلة في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.(2/367)
مصر من يصلح فأشار الشيخ سراج الدين البلقيني والشيخ أكمل الدين محمد الحنفي بولايتي فكانت.
والخان الكائن أمام البيمارستان الأرغوني في محلة باب قنسرين المسمى خان القاضي منسوب إليه وذلك للكتابة التي على جدار الخان في مدخله من الطرف الأيسر، وبعد عناء حتى تمكنت من قراءتها وهي:
1 - لما كان بتاريخ مستهل سنة خمس المقر الكريم العالي القضائي المحبي القاضي محب الدين ابن الشحنة الحنفي
2 - أسبغ الله ظلاله قد أبطل ما على مدينة نصارا قارا من الموجب الذي على بضايعهم المباعة بمدينة حلب
3 - من القماش والثمار خارجا عن الفاكهة حسب المرسوم الشريف الذي بيدهم ملعون من يجددها
4 - أو يسعى في تجديدها عليه اللعنة إلى يوم الدين.
وقد أكد أمر إبطال هذه الرسوم بأمر آخر نقش على جدار البيمارستان على يسار الباب، ويظهر أن الكاتب واحد وصورته:
1 - لما كان بتاريخ ثاني عشرين ربيع الآخر سنة ستة وأربعين وثمانماية أبطل المقر الشريف العالي المولوي المخدو [مي]
2 - الزيني عمر السفاح الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الحلبية المحروسة أخذ موجب ما يجلبه نصارة مدينة قاره إ [لى]
3 - المحروسة من القماش والثمار خارجا عن الفاكهة في معلوم كتابة السر بحلب ابتغاء لوجه (الله)
4 - تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فانما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم اه. [الحروف الموضوعة بين هلالين ذاهبة من آخر السطور].
سنة 779
ذكر قتل الملك الأشرف شعبان وسلطنة ولده الملك المنصور علي
قال في روض المناظر ما خلاصته: في هذه السنة قتل الملك الأشرف شعبان واستقر في السلطنة ولده الملك المنصور علي ابن الملك الأشرف شعبان ابن الملك الأمجد حسين ابن
الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون. [قال ابن إياس]: وهو الثالث والعشرون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية.(2/368)
قال في روض المناظر ما خلاصته: في هذه السنة قتل الملك الأشرف شعبان واستقر في السلطنة ولده الملك المنصور علي ابن الملك الأشرف شعبان ابن الملك الأمجد حسين ابن
الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون. [قال ابن إياس]: وهو الثالث والعشرون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية.
سنة 780
ذكر تولية حلب للأمير منكلي بغا البلدي ثم لتمرباي
قال في روض المناظر: في هذه السنة استقر في نيابة حلب الأمير منكلي بغا البلدي عوضا عن آشقتمر، ثم أمسك واستقر عوضه سيف الدين تمرباي التمرداشي وتوجه إلى التركمان، وانكسر عسكر حلب كسرة لم تسبق مثلها من التركمان ومنها عظم شأن التركمان ومنعوا العداد اه.
وتوجه إلى محاربة التركمان في سنة سبعمائة وإحدى وثمانين. قال في تحف الأنباء: في هذه السنة سار الأمير سيف الدين التمرداشي المنصوري وصحبته العساكر الحلبية وطائفة من عسكر حماة ودمشق إلى جهة البلاد السيسية ليردع طوائف التركمان حين ظهر فسادهم واشتهر بغيهم وعنادهم، فلما وصل العسكر إلى القرب من مدينة أياس وبلغ التركمان خبرهم بادروا إلى الخضوع والطاعة وحضر منهم نحو أربعين من أكابرهم وأمرائهم واستصحبوا ما استطاعوا من الهدايا والتحف، فحين أقبلوا على النائب المشار إليه أظهروا الطاعة وطلبوا الأمان فلم يقبل منهم وأمر باعتقالهم في القيود، وركب بمن معه من العساكر إلى بيوتهم في الحال وأوقعوا بهم من النكال ما أحال منهم الحال، ونهبوا أموالهم وسبوا نساءهم وقتلوا رجالهم وتقووا على الضعيف، فعند ذلك احتال التركمان وجمعوا جموعهم وكمنوا للعسكر بمضيق في طريقهم يقال له باب الملك عند شاطىء البحر وأوقعوا بهم، فلم ينج منهم إلا طريح أو جريح أو سلمه القضاء والقدر فطار مع الريح، وسلبوا ما كان معهم وتشتت شملهم.
ونقل في درة الأسلاك في دولة الأتراك أنه حكى من كان حاضرا هذه الوقعة أن الذي أخذه التركمان فيها من الأموال والأثاث والخيل ما لا يحصى، فمن جملته ثلاثون ألف جمل بأحمالها وثلاثة عشر ألفا من الخيل بسروجها اه.(2/369)
سنة 782
ذكر عود منكلي بغا البلدي لنيابة حلب
قال في روض المناظر: في هذه السنة عاد منكلي بغا البلدي الأحمدي إلى نيابة حلب ورفع المكس عن عزاز ثم توفي بحلب اه.
وعبارة تحف الأنباء تفيد أنه عاد إليها في أواخر سنة 781.
ذكر ولاية الأمير إينال اليوسفي
قال في روض المناظر: بعد وفاة منكلي بغا استقر عوضه الأمير إينال اليوسفي في نيابة حلب.
سنة 783
وفاة الملك المنصور علي وسلطنة أخيه الملك الصالح حاجي
قال في روض المناظر: في هذه السنة توفي السلطان الملك المنصور علي بن شعبان واستقر في السلطنة أخوه الملك الصالح حاجي بن شعبان. قال: واستقر يلبغا الناصري في نيابة حلب عوضا عن إينال.(2/370)
دولة الجراكسة
سنة 784
خلع الملك الصالح حاجي وابتداء دولة الجراكسة
قال في روض المناظر: في هذه السنة تاسع عشر رمضان خلع السلطان الملك الصالح حاجي بن شعبان واستقر عوضه الأمير سيف الدين برقوق سلطانا ولقب بالملك الظاهر أبو سعيد. وقد بسط ابن إياس الحوادث والأسباب في ذلك.
قال: وكان أصل الملك الظاهر برقوق من مماليك الأتابكي يلبغا العمري الناصري جلبه إلى مصر الخواجا عثمان بن مسافر فاشتراه منه الأتابكي يلبغا وأقام عنده مدة ثم أعتقه، فلما مات يلبغا وجرى لمماليكه ما جرى هرب برقوق وتوجه نحو الشام فخدم عند منجك نائب الشام، فلما توفي منجك صار برقوق من جملة مماليك السلطان، فلما كانت دولة الأشرف شعبان بقي برقوق أمير عشرة ثم بقي أمير أربعين ثم بقي مقدم ألف ثم بقي أمير أخور كبير ثم بقي أتابك العساكر في دولة الملك المنصور علي بن الأشرف شعبان، ثم بقي سلطانا بمصر بعد خلع الملك الصالح أمير حاج، وكان برقوق من خلاصة الجراكسة.
سنة 786
قال في روض المناظر: في هذه السنة أرسل ألتون بغا الجوباني إلى الناصري يطلب أبياتا تنقش على سنان رمح مثلث، فأنشد فيه فضلاء دمشق وأنشد فيه الحلبية وأنشدت أنا:
أنا الأسمر الخطي أسمو إلى العلا ... تقصّر عني المرهفات وتقصر
حياض المنايا من قناتي قد جرت ... أنابيبها تهمي دماء وتهمر
وتجنى ثمار النصر مني جنية ... فعودي لعمري ذابل وهو مثمر(2/371)
أنا الأسمر الخطي أسمو إلى العلا ... تقصّر عني المرهفات وتقصر
حياض المنايا من قناتي قد جرت ... أنابيبها تهمي دماء وتهمر
وتجنى ثمار النصر مني جنية ... فعودي لعمري ذابل وهو مثمر
سنة 787
ذكر القبض على يلبغا الناصري وتولية حلب للأمير سودون المظفري
قال في روض المناظر: في هذه السنة أمسك يلبغا الناصري وحبس بالإسكندرية واستقر عوضه بحلب سودون المظفري، وأساء السيرة في أهل حلب وتخيل من أرباب المناصب أنهم لا يرونه بعين العظمة لكونه نشأ بحلب وضيعا اه.
قال ابن إياس: في هذه السنة أرسل السلطان الأمير بهادر المنجكي أستادار العالية إلى يلبغا الناصري نائب حلب فقال له: قم كلم السلطان، فلما خرج من حلب ووصل إلى غزة قبض عليه وقيّده وأرسله إلى السجن بثغر الإسكندرية، وكان سبب تغير خاطر السلطان على يلبغا الناصري أنه بلغه عنه أنه متواطىء مع الأمير سولي بن ذي الغادر أمير التركمان، وقد اتفقا على العصيان، فلما تحقق السلطان ذلك أرسل قبض على يلبغا الناصري وسجنه بثغر الإسكندرية، ثم إن السلطان عمل الموكب وخلع على الأمير سودون المظفري واستقر به نائب حلب عوضا عن يلبغا الناصري. ثم إن السلطان أرسل الأمير جمال الأمير محمود شاد الدواوين إلى حلب بسبب الحوطة على موجود يلبغا الناصري، وتوجه الأمير محمود إلى حلب بسبب ذلك.
آثاره بحلب
قال في الدر المنتخب: ومنها جامع يلبغا الناصري نائب حلب، بناه بدار العدل ملاصقا لتربة السيدة لما توحش خاطره من الملك الظاهر برقوق، فتوهم أنه ربما يهجم عليه في صلاة الجمعة اه (1). أقول: ولا أثر لهذا الجامع الآن.
__________
(1) وقع في النسخة المطبوعة من الدر المنتخب بعد قوله في صلاة الجمعة: وذلك في سنة ستة وستمائة، وهذا سهو من الناسخ ولا أثر لهذه الجملة في نسختي الخطية.(2/372)
قال: وفيها خلع السلطان على القاضي محب الدين بن الشحنة الحنفي (صاحب روض المناظر) واستقر به قاضي القضاة الحنفية بحلب عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين ابن العديم بحكم وفاته، وكان ابن العديم هذا من أعيان علماء الحنفية، وكانت وفاته بحلب، وعاش من العمر نحو ثمان وسبعين سنة اه.
سنة 788
ذكر وصول تمرلنك إلى مدينة قرباغ
قال ابن إياس: في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد القان أحمد بن أويس صاحب بغداد وأخبر أن الخارجي تمرلنك قد وصل إلى مدينة قرباغ ونهبها وسبى أهلها، فأرسل القان أحمد يعرف السلطان بذلك ليكون على حذر من أمره.
ذكر إعادة يلبغا الناصري لنيابة حلب وعصيان منطاش بملطية
قال في روض المناظر: في هذه السنة عصى منطاش بملطية وكان قد وصل إليه مقدم تمرلنك واتفق معه كما سيأتي قريبا، فاستضعف السلطان سودون عن إحضاره فعزله وأعاد السلطان يلبغا الناصري إلى نيابة حلب، وأهين سودون واستقر الناصري بحلب أميرا اه.
وسنذكر في حوادث السنة الآتية نقلا عن ابن خلدون الأسباب التي دعت منطاش إلى العصيان.
سنة 789
ذكر استعداد المصريين لمحاربة تمرلنك
قال ابن إياس: في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة الأمير طغاي، وكان قد توجه إلى بلاد الشرق لإخبار تمرلنك، فلما حضر أخبر السلطان أن جاليش تمرلنك قد وصل إلى الرها وكسر قرا محمد أمير التركمان وأن بوادر عساكر تمرلنك قد وصلت إلى ملطية، فلما تحقق السلطان ذلك أمر بعقد مجلس بالقصر الكبير وطلب القضاة الأربعة والخليفة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وأعيان المشايخ المفتين وحضر سائر الأمراء، فلما تكامل المجلس تكلم السلطان مع الخليفة والقضاة الأربعة في أمر تمرلنك. ثم
إن السلطان تكلم في أخذ مال الأوقاف من الجوامع والمدارس وغيرها فلم يوافق شيخ الإسلام على ذلك ولا القضاة الأربعة، فشكا لهم السلطان بأن الخزائن خالية من الأموال والعدو زاحف على البلاد وإن لم تخرج العساكر بسرعة وإلا وصل إلى حلب والشام، والعسكر لا تسافر بلا نفقة. فوقع في المجلس جدال عظيم ودافعوا السلطان وأغلظوا عليه في القول، فلما طال الأمر وقع الاتفاق بحضور الخليفة والقضاة الأربعة بأن يؤخذ من مال الأوقاف أجرة الأماكن وخراج الأراضي سنة كاملة وتبقى الأوقاف على حالها، وانفصل المجلس على ذلك.(2/373)
قال ابن إياس: في هذه السنة حضر إلى الأبواب الشريفة الأمير طغاي، وكان قد توجه إلى بلاد الشرق لإخبار تمرلنك، فلما حضر أخبر السلطان أن جاليش تمرلنك قد وصل إلى الرها وكسر قرا محمد أمير التركمان وأن بوادر عساكر تمرلنك قد وصلت إلى ملطية، فلما تحقق السلطان ذلك أمر بعقد مجلس بالقصر الكبير وطلب القضاة الأربعة والخليفة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وأعيان المشايخ المفتين وحضر سائر الأمراء، فلما تكامل المجلس تكلم السلطان مع الخليفة والقضاة الأربعة في أمر تمرلنك. ثم
إن السلطان تكلم في أخذ مال الأوقاف من الجوامع والمدارس وغيرها فلم يوافق شيخ الإسلام على ذلك ولا القضاة الأربعة، فشكا لهم السلطان بأن الخزائن خالية من الأموال والعدو زاحف على البلاد وإن لم تخرج العساكر بسرعة وإلا وصل إلى حلب والشام، والعسكر لا تسافر بلا نفقة. فوقع في المجلس جدال عظيم ودافعوا السلطان وأغلظوا عليه في القول، فلما طال الأمر وقع الاتفاق بحضور الخليفة والقضاة الأربعة بأن يؤخذ من مال الأوقاف أجرة الأماكن وخراج الأراضي سنة كاملة وتبقى الأوقاف على حالها، وانفصل المجلس على ذلك.
ورسم السلطان لمحتسب القاهرة بأن يتولى جبي الأموال من الناس فأخذوا في أسباب ذلك، ثم إن السلطان عين تجريدة وعين لها جماعة من الأمراء وهم ألطنبغا المعلم أمير سلاح وقردم الحسني رأس نوبة أمير كبير ويونس النوروزي الداودار وسودون باق أحد المقدمين، وعين من الأمراء والطبلخانات رأس نوبة كبير ثمانية ومن الأمراء العشروات عشرة، وعين من المماليك السلطانية ثلثمائة مملوك وأنفق عليهم، وأخذوا في أسباب السفر والتوجه إلى حلب والإقامة بها إلى حضور السلطان.
ثم إن السلطان رسم بأخذ زكاة الأموال من التجار وندب إلى ذلك القاضي الطرابلسي الحنفي. وفي رجب خرجت التجريدة من القاهرة في تجمل زائد واستمرت الأطلاب تنسحب من باكر النهار إلى قريب الظهر وكان يوما مشهودا. فلما خرجت التجريدة اشتد الأمر على الناس وجبيت الأموال منهم غصبا بالعصا، فجبوا ذلك من الناس في يوم واحد، ثم فرج الله عنهم وجاءت الأخبار بأن تمرلنك رجع إلى بلاده وأن ولده قد قتل، فسكن الاضطراب ورسم السلطان بإعادة ما أخذوه من الناس فتزايدت أدعيتهم له بالنصر.
ذكر الوقعة التي أشير إليها
قال في روض المناظر في حوادث هذه السنة: فيها وجه الناصري (نائب حلب) بمن معه من العساكر المصرية والشامية والحلبية إلى جهة منطاش، فالتجأ منطاش إلى القاضي برهان الدين صاحب سيواس، ووصل الناصري بمن معه إلى سيواس وحاصرها مدة وقارب أخذها، فأرسل القاضي برهان الدين يطلب الأمان وسأل الناصري أن يتأخر عن المدينة قليلا ليخرج إليه ويسلمه منطاش، فاتفق الناصري مع عساكره على أن يظهر الإجابة
لذلك ورحل من جانب النهر إلى الجانب الآخر فلم ينزل معه من الجانب الآخر من العساكر إلا القليل وطلبوا قدام، وتمت الحيلة على الناصري، وركب صاحب سيواس ومنطاش ومن معهما من التتر في نحو عشرين ألفا فثبت الناصري بمن معه وكانوا دون الألف وقاتلهم ونصر الله الناصري وكسر صاحب سيواس، فهرب هو ومنطاش إلى المدينة وقتل الناصري منهم نحو الألف وأسر مثل ذلك وعاد.(2/374)
قال في روض المناظر في حوادث هذه السنة: فيها وجه الناصري (نائب حلب) بمن معه من العساكر المصرية والشامية والحلبية إلى جهة منطاش، فالتجأ منطاش إلى القاضي برهان الدين صاحب سيواس، ووصل الناصري بمن معه إلى سيواس وحاصرها مدة وقارب أخذها، فأرسل القاضي برهان الدين يطلب الأمان وسأل الناصري أن يتأخر عن المدينة قليلا ليخرج إليه ويسلمه منطاش، فاتفق الناصري مع عساكره على أن يظهر الإجابة
لذلك ورحل من جانب النهر إلى الجانب الآخر فلم ينزل معه من الجانب الآخر من العساكر إلا القليل وطلبوا قدام، وتمت الحيلة على الناصري، وركب صاحب سيواس ومنطاش ومن معهما من التتر في نحو عشرين ألفا فثبت الناصري بمن معه وكانوا دون الألف وقاتلهم ونصر الله الناصري وكسر صاحب سيواس، فهرب هو ومنطاش إلى المدينة وقتل الناصري منهم نحو الألف وأسر مثل ذلك وعاد.
قال ابن خلدون: كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمهما، وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر، واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي حلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان، وذلك أنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي، واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم إلى الدربند، ثم كروا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق. وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين، وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية، ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان. وكان (سودون باق) من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبية، وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي، فرعى لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم، وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية، ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وبما داخل أمراء التركمان في ذلك، ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبد على صبي من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هولاكو وقد اعصوصب عليه بقية من أحياء التتر الذين كانوا حاميته هناك مع الشحنة فيها كما نذكره، ولما وصلت رسل منطاش وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه، فخرج منطاش إلى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا، فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرأ من منطاش وأقام دعوة السلطان بالبلد، وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس، فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار إلى مغالطة السلطان عمّا أتاه من مداخلة منطاش،
وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثمانين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة وألطنبغا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف، وأوعز إلى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكرهم وإلى إينال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا.(2/375)
قال ابن خلدون: كان منطاش هذا وتمرتاي الدمرداشي الذي مرّ ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاون وربيا في كفالة أمهما، وكان اسم تمرتاي محمدا وهو الأكبر واسم منطاش أحمد وهو الأصغر، واتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف وترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي حلب سنة ثمانين وكانت واقعته مع التركمان، وذلك أنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي، واجتمعوا فسار إليهم وأمده السلطان بعساكر الشام وحماة وانهزموا أمامهم إلى الدربند، ثم كروا على العساكر فهزموها ونهبوها في المضايق. وتوفي تمرتاي سنة اثنتين وثمانين، وكان السلطان الظاهر برقوق يرعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية، ولما قعد على الكرسي واستبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به ثم راجع ووفد وتنصل للسلطان. وكان (سودون باق) من أمراء الألوف خالصة للسلطان ومن أهل عصبية، وكان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي، فرعى لمنطاش حق أخيه وشفع له عند السلطان وكفل حسن الطاعة منه وأنه يخرج على التركمان المخالفين ويحسم علل فسادهم، وانطلق إلى قاعدة عمله بملطية، ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه وبما داخل أمراء التركمان في ذلك، ونمي الخبر إلى السلطان فطوى له وشعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم وبها قاض مستبد على صبي من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هولاكو وقد اعصوصب عليه بقية من أحياء التتر الذين كانوا حاميته هناك مع الشحنة فيها كما نذكره، ولما وصلت رسل منطاش وكتبه إلى هذا القاضي بادر بإجابته وبعث رسلا وفدا من أصحابه في إتمام الحديث معه، فخرج منطاش إلى لقائهم واستخلف على ملطية دواداره وكان مغفلا، فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة وتبرأ من منطاش وأقام دعوة السلطان بالبلد، وبلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب ثم استمر وسار مع وفد القاضي إلى سيواس، فلما قدم عليه وقد انقطع الحبل في يده أعرض عنه وصار إلى مغالطة السلطان عمّا أتاه من مداخلة منطاش،
وقبض عليه وحبسه وسرح السلطان سنة تسع وثمانين عساكره مع يونس الدوادار وقردم رأس نوبة وألطنبغا الرماح أمير سلاح وسودون باق من أمراء الألوف، وأوعز إلى الناصري فأتى وطلب أن يخرج معهم بعساكرهم وإلى إينال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق وساروا جميعا.
وكان يومئذ ملك التتار بما وراء النهر وخراسان تمر من نسب جغطاي قد زحف إلى العراقين وأذربيجان وملك توريز عنوة واستباحها وهو يحاول ملك بغداد، فسارت هذه العساكر تورّي بغزوه ودفاعه، حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس واقتحموا تخومها على حين غفلة من أهلها، فبادر القاضي إلى إطلاق منطاش لوقته وقد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان وممالأته، ولم يزل يفتل له في الذورة والغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن أريثا بن أول فسار إليهم واستجاشهم على عسكر السلطان وحذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن أريثا وبلده، ووصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياما وضيقوا عليها وكادت أن تلقى باليد، ووصل منطاش إثر ذلك بأحياء التتر فقاتلهم العساكر ودافعوهم ونالوا منهم، وجلا الناصري في هذه الوقائع، وأدرك العساكر الملل والضجر من طول المقام وبطء الظفر وانقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد وبعد الشقة، فتداعوا للرجوع ودعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفوا على تعبيتهم، وسار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم واستلحموهم وخلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور ونية العود ليحسموا علل العدو ويمحوا أثر الفتنة اه.
الزلازل في أنطاكية وحلب
قال الجلال السيوطي في كتابه الصلصلة في الزلزلة: وفي ذي القعدة في سنة تسع وثمانين وسبعمائة زلزلت أنطاكية زلزلة عظيمة ومات تحت الردم خلق كثير.
وقال بعد أسطر: وفي هذه السنة في ربيع الأول زلزلت حلب ست مرات أو أكثر زلزلة شديدة.(2/376)
ذكر عصيان يلبغا الناصري نائب حلب وقتله للأمير سودون النائب السابق واستيلائه على الشام ثم على مصر وخلعه للسلطان الملك الظاهر برقوق وإقامته في الملك للملك الصالح حاجي
قال ابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار بأن يلبغا الناصري نائب حلب خامر وخرج عن الطاعة وقتل الأمير سودون المظفري الذي كان نائب حلب قبله وقتل أربعة أنفس من مماليك سودون وأمسك حاجب الحجاب بحلب وجماعة من أمرائها، وسبب ذلك (1)
أنه كان قد وقع بينه وبين سودون المظفري تشاجر فأرسل سودون يشتكي من يلبغا الناصري إلى السلطان بما وقع منه في حقه، فلما بلغ السلطان ذلك أرسل الأمير تلكتمر المحمدي الدوادار الثاني إلى حلب ليصلح بين يلبغا الناصري وبين سودون المظفري، وقيل إن السلطان أرسل في الدس مراسيم على يد الأمير تلكتمر إلى سودون المظفري بأن يقبض على يلبغا الناصري نائب حلب، فلما وصل الأمير تلكتمر إلى حلب بلغ يلبغا الناصري أمر المراسيم التي جاء بها الأمير تلكتمر فخرج إلى تلقيه، وكان بين الأمير يلبغا الناصري وبين الأمير تلكتمر صحبة مؤكدة فما أمكنه أن يخفي عنه أمر المراسيم، فلما وقف عليها يلبغا الناصري أخذها وأخفاها ثم توجه إلى دار السعادة (دار العدل كما في روض المناظر) وطلب قضاة حلب والأمير سودون المظفري ليقرأ عليهم المراسيم التي جاءت بالأمر بالصلح بين يلبغا الناصري وسودون، فلما أرسل خلف سودون لم يحضر إلى دار السعادة، فأرسل خلفه أربع مرات والقضاة جالسون والأمير تلكتمر فما حضر سودون إلا بعد جهد كبير، فطلع سودون وهو لابس زردية من تحت ثيابه وكان يلبغا الناصري هيّأ جماعة من مماليكه في دار السعادة وهم لابسون آلة الحرب، فلما دخل سودون من باب دار السعادة تقدم إليه مملوك
__________
(1) ذكر ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس من تاريخه أسبابا أخر لخروج يلبغا الناصري عن الطاعة فراجعها إن شئت.(2/377)
من مماليك يلبغا وجس كتف سودون فرآه لابسها من تحت ثيابه فقال له: يا أمير سودون الذي يريد الصلح يدخل إلى دار السعادة وهو لابس آلة الحرب؟ فلكمه سودون فصاح على ذلك الكمين فخرجوا إلى سودون وقتلوه في دار السعادة وقتلوا معه أربعة مماليك من مماليكه.
إظهار يلبغا الناصري العصيان وتولية إينال اليوسفي على حلب
ثم إن يلبغا الناصري أظهر العصيان والتف عليه جماعة كثيرة من مماليك الأشرف شعبان، وكان من جملة من التف على يلبغا الناصري تمربغا الأفضلي المدعو منطاش مملوك الظاهر برقوق، وكان له مدة وهو منفي في المدن الشامية، فالتف على يلبغا الناصري، ثم إن الأمير تلكتمر لما جرى ما جرى بحلب رجع وأخبر السلطان بما وقع لسودون المظفري مع يلبغا، فلما تحقق السلطان عصيان يلبغا الناصري أرسل خلعة إلى الأمير إينال اليوسفي بأن يستقر نائب حلب عوضا عن يلبغا الناصري، وكان إينال أتابكي العساكر بدمشق ويلبغا الناصري في نفسه من الملك الظاهر برقوق عداوة قديمة كامنة في قلبه كما قيل:
الجرح يبرا ولكن كلما نظرت ... عين الجريح إليه جدد الوجعا
قال ابن إياس ما خلاصته: ثم انضم إلى يلبغا الناصري نائب طرابلس ثم نائب حماة سودون العثماني، ثم حضر قاصد من عند الأمير خليل بن قراجا بن ذي الغادر فأخبر أن الأمير سنقر نائب سيس قد خامر وخرج عن الطاعة ووافق يلبغا الناصري على العصيان ورحل من سيس وأتى إلى حلب، فلما تحقق السلطان أن النواب قد خامروا عليه أنفق على العسكر فخرجوا من القاهرة في عظمة زائدة، فلما خرجوا منها ووصلوا إلى دمشق جاءت الأخبار من هناك مع السعاة بأن العساكر لما وصلت إلى دمشق وجدوا يلبغا الناصري قد ملك الشام حتى قلعتها، فلما وصل العسكر إليه أوقعوا معه بظاهر دمشق واقعة عظيمة حتى جرى الدم بينهم وقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم، وآخر الأمر انكسر عسكر السلطان الذي أرسله وانتصر عليهم يلبغا الناصري، ثم توجه يلبغا إلى مصر وضايقها، وآخر الأمر طلب السلطان الأمان من يلبغا ثم اختفى، ودخل يلبغا إلى مصر، ثم وقع الاتفاق على عود الملك الصالح أمير حاج ابن الأشرف شعبان الذي خلعه برقوق من السلطنة ولقب بالملك المنصور. وقد بسط ابن إياس الحوادث في ذلك إلى أن قال:(2/378)
ذكر ولاية الأمير كمشبغا الحموي لنيابة حلب
وخلع على المقر السيفي كمشبغا الحموي واستقر به نائب حلب.
سنة 792
إطلاق الملك الظاهر برقوق والحرب بينه وبين منطاش بالقرب من دمشق
ذكر ابن إياس حوادث وأمورا يطول شرحها أدت إلى إطلاق الملك الظاهر برقوق من حبس الكرك. قال في روض المناظر: ولما أطلقوا السلطان برقوق من الكرك سار إلى دمشق بفرقة يسيرة وخرج إليه حنتمر بالعساكر الشامية فكسرهم ونزل بقبة يلبغا وحاصر دمشق، وتوجه إليه نائب حلب كمشبغا بعساكر حلب ناصرا له واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فخرج إليه منطاش من مصر بالسلطان والعساكر المصرية والخليفة والقضاة وقرب من الشام والتقى الجمعان بشقحب فانتصر بعض كل من الفريقين وانكسر البعض ولم يعلم أحد حال أحد، فولى كمشبغا هاربا نحو حلب وولى منطاش نحو دمشق، ولم يشعر الملك الظاهر برقوق بنفسه إلا وهو مخيم على الملك المنصور حاجي فنزل وأمسكه وجلس على الكرسي وجعل كل من يحضر من الفئتين يجده جالسا فلا يسعه إلا النزول وتقبيل الأرض. وفي ثاني يوم خرج منطاش والتقى الجمعان وتناوشا قليلا ورجع كل أحد منهما. وتوجه السلطان الظاهر من ليلته إلى مصر فوصل إليها ووجد مماليكه قد خرجوا من الحبس وأمسكوا خلفاء منطاش ومنطاش مقيم بدمشق فدخل السلطان مصر مطمئنا فرحا وأطلق الأمراء الذين حبسهم منطاش.
قال ابن إياس: لما استقر الملك الظاهر برقوق خلع على أمرائه ونوابه في البلاد ثم رسم بالإفراج عن المقر السيفي يلبغا الناصري الذي كان نائب حلب وخامر على السلطان وجرى منه ما جرى وكان سببا لزوال ملك الظاهر برقوق كما تقدم، فلما عاد الملك الظاهر برقوق في هذه المرة زال ما كان بينه وبين يلبغا الناصري من العداوة ورسم بالإفراج عنه.
إرسال منطاش تمنتمر إلى حلب نائبا ومحاصرة نائبها كمشبغا
قال في روض المناظر: وأما منطاش فإنه أرسل وهو بدمشق تمنتمر الموساي إلى
حلب نائبا وانضم إليه جماعة وحاصروا كمشبغا في قلعتها، وجهز السلطان برقوق عسكرا من مصر ومقدمهم الأمير يلبغا الناصري وأرسل معه الجوباني نائبا بدمشق وقرا دمرداش نائبا بطرابلس، وبلغ ذلك منطاش فهرب من دمشق، وبلغ ذلك تمنتمر فهرب من حلب، وخرج الناصري والجوباني ومن معهما من العساكر من دمشق في إثر منطاش وهو منضم إلى نعير وعنقا [أميران للعرب] وحصلت وقعة عظيمة على حمص قتل فيها الجوباني وجماعة من الأمراء وعاد الناصري إلى دمشق، فجاءه تقليد بنيابتها، وبلغ ذلك كمشبغا نائب حلب فأخذ في عمارة سورها فعمرت أحسن عمارة ولم تكن من عهد قازان عمرت، ووصل منطاش ونعير وعنقا بعساكر عظيمة ونازلوا حلب وحاصروها في شهر رمضان وانقلبوا خاسئين، وتوجه منطاش إلى شولي ابن دلغادر وقصدا عين تاب وكان بها الأمير ناصر الدين محمد بن عز الدين شهري بن شهري من أشار بوضع هذا التاريخ المشار إليه في أول الكتاب وحوصر فأجاد في رفعهم عنها وظهرت فروسيته وشكر على ذلك، وطلبه السلطان بعد ذلك وأنعم عليه وأكرمه.(2/379)
قال في روض المناظر: وأما منطاش فإنه أرسل وهو بدمشق تمنتمر الموساي إلى
حلب نائبا وانضم إليه جماعة وحاصروا كمشبغا في قلعتها، وجهز السلطان برقوق عسكرا من مصر ومقدمهم الأمير يلبغا الناصري وأرسل معه الجوباني نائبا بدمشق وقرا دمرداش نائبا بطرابلس، وبلغ ذلك منطاش فهرب من دمشق، وبلغ ذلك تمنتمر فهرب من حلب، وخرج الناصري والجوباني ومن معهما من العساكر من دمشق في إثر منطاش وهو منضم إلى نعير وعنقا [أميران للعرب] وحصلت وقعة عظيمة على حمص قتل فيها الجوباني وجماعة من الأمراء وعاد الناصري إلى دمشق، فجاءه تقليد بنيابتها، وبلغ ذلك كمشبغا نائب حلب فأخذ في عمارة سورها فعمرت أحسن عمارة ولم تكن من عهد قازان عمرت، ووصل منطاش ونعير وعنقا بعساكر عظيمة ونازلوا حلب وحاصروها في شهر رمضان وانقلبوا خاسئين، وتوجه منطاش إلى شولي ابن دلغادر وقصدا عين تاب وكان بها الأمير ناصر الدين محمد بن عز الدين شهري بن شهري من أشار بوضع هذا التاريخ المشار إليه في أول الكتاب وحوصر فأجاد في رفعهم عنها وظهرت فروسيته وشكر على ذلك، وطلبه السلطان بعد ذلك وأنعم عليه وأكرمه.
زيادة بيان في محاصرة تمنتمر الأشرفي لحلب ومحاصرة منطاش لعينتاب
قال ابن إياس: وفي رجب جاءت الأخبار من حلب بأن منطاش أرسل شخصا يسمى تمان تمر الأشرفي إلى مدينة حلب، وكان نائب حلب كمشبغا الحموي قد ثقل أمره على أهل حلب، فما صدقوا بهذه الحركة، فحاصروا نائب حلب أشد المحاصرة وتعصبوا إلى منطاش فنقبوا القلعة من ثلاثة مواضع، فصار كمشبغا نائب حلب يقاتلهم من داخل النقب على البرج، واستمروا على ذلك نحو ثلاثة شهور فانتصر كمشبغا نائب حلب على تمان تمر الأشرفي الذي ولاه منطاش على حلب، فانكسر تمان تمر وولى هاربا، ثم إن كمشبغا نائب حلب أخذ في أسباب عمارة ما تهدم من المدينة وزاد.
ثم قال: وبعد مدة جاءت الأخبار بأن منطاش توجه إلى عينتاب فالتف عليه جماعة كثيرة من التركمان فحاصر مدينة عينتاب أشد ما يكون من المحاصرة فملكها وهرب النائب الذي كان بها، فلما دخل الليل جمع نائب عينتاب جماعة كثيرة من التركمان وكبس منطاش فقتل من عسكره نحو مائتي إنسان وهرب منطاش نحو الفرات.(2/380)
ترجمة كمشبغا وزيادة بيان في الحرب بينه وبين البانقوسيين
قال ابن خطيب الناصرية: كمشبغا الحموي الأمير سيف الدين نائب حلب، هو من عتقاء الأمير يلبغا الخاصكي العمري، وكان عالي المنزلة عنده واستقر به أمير أربعين بالقاهرة، وكان أكبر رؤوس النواب عنده، ثم أخرج بعد وفاته إلى حلب وأقام بها بطالا إلى أن كانت أيام الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، فولاه نيابة السلطنة ونقله من صفد إلى حماة وإلى طرابلس وحلب ودمشق، ثم حبسه بقلعة دمشق، ثم ولي نيابة السلطنة بحلب فدخل إليها في السنة المذكورة. فلما ركب منطاش على الناصري وأمسكه وظهر برقوق من الكرك جمع الأمير كمشبغا عسكر حلب وحلفهم لبرقوق وذلك في رمضان من السنة، فلما انقضى رمضان ودخل شوال ركب البانقوسيون وصحبتهم بعض الأمراء على الأمير كمشبغا. وكان محبوسا بقلعة حلب الأمير طرنطاي الذي كان نائب دمشق وبكلمش أحد الأمراء المصريين كان الناصري قد أمسكهم بدمشق وحبسهم بقلعة حلب فأطلقهما الأمير كمشبغا وأحسن إليهما واتفقا معه وجد في قتال البانقوسيين، وكان في عسكر قليل وهم في عسكر كثير، واستمر القتال بينهم في البياضة ثلاثة أيام، ثم انتصر كمشبغا على البانقوسيين وقتل منهم جماعة، فلما حضر برقوق من الكرك إلى دمشق وأقام على قبة يلبغا ظاهر دمشق توجه إليه الأمير كمشبغا بمن معه من العسكر الحلبي وأمده بكثير من الخيم والخيل والماعون وغير ذلك وبالغ في ذلك، ولما كان يوم شقحب (مكان الوقعة وقدم تقدم ذكرها) توجه منهزما إلى جهة حلب لما حصلت الكسرة للميسرة التي كان هو مقدمها فلم يرد وجهه إلى أن دخل حلب ثم طلع إلى قلعتها، فلما علم البانقوسيون بهذا الأمر قاموا وجدوا في قتاله وحاصروه، وبعث إليهم منطاش نائبا إلى حلب هو أخوه الأمير تمنتمر وكان إنسانا حسنا وجدوا في حصار القلعة، وصبر الأمير كمشبغا على محاصرتهم له ولم يمكنهم من بلوغ الغرض، واستمر الحصار أربعة أشهر إلا يومين وذلك سنة اثنين وتسعين وسبعمائة ومنطاش يومئذ بدمشق بعد عود السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية من شقحب، فلما بلغ الأمير كمشبغا انهزام منطاش من دمشق فتح باب قلعة حلب بموافقة البانقوسيين له وهرب نائب حلب الذي كان من جهة منطاش فاستمر الصلح بينهم أياما قلائل جدا نحو ثلاثة، ثم وقع بينهم فقاتلهم الأمير كمشبغا وقاتلوه قتالا شديدا فانتصر عليهم وقتل من أعيانهم وجندهم جماعة كثيرة ونهب بانقوسا كما نهبها أولا، واجتهد
في تحصين حلب وأسوارها لما بلغه أن منطاش ونعيرا قاصداه إلى حلب فجد في ذلك بالرجال والمال، ثم حضر منطاش ونعير إلى ظاهر حلب فقاتلهم الأمير كمشبغا وأهل حلب معه وقاتلوا معه قتالا شديدا عدة أيام وذلك في رمضان من السنة إلى أن ردهم عنها خائبين، فلما نزحوا منها واطمأن خاطره اجتهد في تقرير أحوالها وعمارة أسوارها وعمل أبوابها مصفحة بالحديد وبذل همته في ذلك بحيث صار ذلك في أربعين يوما، وكانت من وقعة هولاكو بحلب خالية من الأبواب مخربة الأسوار إلى أن قيض الله تعالى الأمير كمشبغا فبنى بعض أسوارها وأصلحه وعمل لها أبوابا كما ذكرناه لا خيب الله سعيه.(2/381)
قال ابن خطيب الناصرية: كمشبغا الحموي الأمير سيف الدين نائب حلب، هو من عتقاء الأمير يلبغا الخاصكي العمري، وكان عالي المنزلة عنده واستقر به أمير أربعين بالقاهرة، وكان أكبر رؤوس النواب عنده، ثم أخرج بعد وفاته إلى حلب وأقام بها بطالا إلى أن كانت أيام الملك الظاهر أبي سعيد برقوق، فولاه نيابة السلطنة ونقله من صفد إلى حماة وإلى طرابلس وحلب ودمشق، ثم حبسه بقلعة دمشق، ثم ولي نيابة السلطنة بحلب فدخل إليها في السنة المذكورة. فلما ركب منطاش على الناصري وأمسكه وظهر برقوق من الكرك جمع الأمير كمشبغا عسكر حلب وحلفهم لبرقوق وذلك في رمضان من السنة، فلما انقضى رمضان ودخل شوال ركب البانقوسيون وصحبتهم بعض الأمراء على الأمير كمشبغا. وكان محبوسا بقلعة حلب الأمير طرنطاي الذي كان نائب دمشق وبكلمش أحد الأمراء المصريين كان الناصري قد أمسكهم بدمشق وحبسهم بقلعة حلب فأطلقهما الأمير كمشبغا وأحسن إليهما واتفقا معه وجد في قتال البانقوسيين، وكان في عسكر قليل وهم في عسكر كثير، واستمر القتال بينهم في البياضة ثلاثة أيام، ثم انتصر كمشبغا على البانقوسيين وقتل منهم جماعة، فلما حضر برقوق من الكرك إلى دمشق وأقام على قبة يلبغا ظاهر دمشق توجه إليه الأمير كمشبغا بمن معه من العسكر الحلبي وأمده بكثير من الخيم والخيل والماعون وغير ذلك وبالغ في ذلك، ولما كان يوم شقحب (مكان الوقعة وقدم تقدم ذكرها) توجه منهزما إلى جهة حلب لما حصلت الكسرة للميسرة التي كان هو مقدمها فلم يرد وجهه إلى أن دخل حلب ثم طلع إلى قلعتها، فلما علم البانقوسيون بهذا الأمر قاموا وجدوا في قتاله وحاصروه، وبعث إليهم منطاش نائبا إلى حلب هو أخوه الأمير تمنتمر وكان إنسانا حسنا وجدوا في حصار القلعة، وصبر الأمير كمشبغا على محاصرتهم له ولم يمكنهم من بلوغ الغرض، واستمر الحصار أربعة أشهر إلا يومين وذلك سنة اثنين وتسعين وسبعمائة ومنطاش يومئذ بدمشق بعد عود السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية من شقحب، فلما بلغ الأمير كمشبغا انهزام منطاش من دمشق فتح باب قلعة حلب بموافقة البانقوسيين له وهرب نائب حلب الذي كان من جهة منطاش فاستمر الصلح بينهم أياما قلائل جدا نحو ثلاثة، ثم وقع بينهم فقاتلهم الأمير كمشبغا وقاتلوه قتالا شديدا فانتصر عليهم وقتل من أعيانهم وجندهم جماعة كثيرة ونهب بانقوسا كما نهبها أولا، واجتهد
في تحصين حلب وأسوارها لما بلغه أن منطاش ونعيرا قاصداه إلى حلب فجد في ذلك بالرجال والمال، ثم حضر منطاش ونعير إلى ظاهر حلب فقاتلهم الأمير كمشبغا وأهل حلب معه وقاتلوا معه قتالا شديدا عدة أيام وذلك في رمضان من السنة إلى أن ردهم عنها خائبين، فلما نزحوا منها واطمأن خاطره اجتهد في تقرير أحوالها وعمارة أسوارها وعمل أبوابها مصفحة بالحديد وبذل همته في ذلك بحيث صار ذلك في أربعين يوما، وكانت من وقعة هولاكو بحلب خالية من الأبواب مخربة الأسوار إلى أن قيض الله تعالى الأمير كمشبغا فبنى بعض أسوارها وأصلحه وعمل لها أبوابا كما ذكرناه لا خيب الله سعيه.
طلب الأمير كمشبغا إلى مصر وتعيين قرادمرداش بحلب
ثم بعد تمام ما عزم عليه من ذلك طلبه السلطان الملك الظاهر برقوق إلى الديار المصرية واستقر به أتابك العساكر ورفع منزلته، وكان الأمير كمشبغا المذكور أميرا كبيرا كريما جدا مدبرا وشكلا حسنا عالي الهمة مجتهدا في عمل الخير وإسداء المعروف محسنا إلى الرعية، ولم يزل أتابك العساكر بالديار المصرية إلى أن حصل عند الملك الظاهر من جهته وحشة وتخيل ممن وشى به إليه، فأمسكه وجهزه إلى الاعتقال بثغر الإسكندرية في أوائل سنة إحدى وثمانمائة واستمر مقيما كذلك إلى أن توفي به ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة وقد جاوز ستين سنة تغمده الله برحمته اه.
قال في روض المناظر: لما طلب الأمير كمشبغا إلى مصر واستقر بها أميرا كبيرا استقر عوضه قرادمرداش بحلب.
سنة 793
ذكر استيلاء منطاش على حماة وحمص وبعلبك ومجيء السلطان الملك الظاهر برقوق إلى حلب وقتله الأمير يلبغا الناصري
قال ابن إياس ما خلاصته: وفي هذه السنة جاءت الأخبار بأن منطاش قد ملك حماة وحمص وبعلبك ولم يشوش على أحد من أهلها، فمال إليه الرعية وصاروا يسلمونه المدن من غير قتال، ثم إن منطاش توجه إلى الشام وحاصر المدينة. (إلى أن قال): ولما
بلغ السلطان ذلك نادى للعسكر بالعرض. وقوى عزمه على الخروج إلى منطاش، ولما وصل إلى الشام أقام بها أياما وتوجه إلى حلب.(2/382)
قال ابن إياس ما خلاصته: وفي هذه السنة جاءت الأخبار بأن منطاش قد ملك حماة وحمص وبعلبك ولم يشوش على أحد من أهلها، فمال إليه الرعية وصاروا يسلمونه المدن من غير قتال، ثم إن منطاش توجه إلى الشام وحاصر المدينة. (إلى أن قال): ولما
بلغ السلطان ذلك نادى للعسكر بالعرض. وقوى عزمه على الخروج إلى منطاش، ولما وصل إلى الشام أقام بها أياما وتوجه إلى حلب.
قال في روض المناظر: وأما منطاش فإنه لما بلغه توجه السلطان هرب نحو الشرق، ولما قدم السلطان دمشق استصحب معه يلبغا الناصري، ولما قدم حلب أقام بها شهورا ثم عاد، وليلة عوده قتل يلبغا الناصري وجماعة من الأمراء بقلعة حلب المحروسة.
قال ابن إياس: كان الذين قتلهم الملك الظاهر برقوق من الأمراء في حلب ثلاثة وعشرين أميرا، وكان سبب ذلك أن الأمير سالم الدوكاري أمير التركمان أرسل يعرف السلطان بأن يلبغا الناصري أرسل إليه كتابا وهو يقول فيه: خذ منطاش واهرب به إلى بلاد الروم، فإنه مادام منطاش موجودا فنحن موجودون. ثم إن الأمير سالم الدوكاري أرسل كتاب يلبغا الناصري على يد قاصده، فلما تحقق السلطان صحة ذلك طلب الأمراء، فلما حضروا قرأ عليهم كتاب يلبغا الناصري الذي أرسله إلى الأمير سالم الدوكاري. ثم إن السلطان وبخّ يلبغا الناصري بالكلام في ذلك المجلس فلم ينطق بحجة وانعقد لسانه عن الكلام. ثم إن السلطان قبض على يلبغا الناصري وعلى جماعة من الأمراء وسجنهم بقلعة حلب ثم أمر بقتلهم فقتلوا، ثم رجع إلى الديار المصرية فوصل إليها منتصف المحرم سنة 794.
عزل قرادمرداش وتعيين الأمير جلبان
قال ابن الخطيب: دخل الأمير قرادمرداش إلى حلب واستمر بها إلى سنة ثلاث، فلما جاء برقوق إلى حلب وتوجه إلى القاهرة في ذي الحجة من سنة ثلاث ولى نيابة حلب الأمير جلبان وصحب معه قرادمرداش ثم أمسكه، وتوفي مقتولا في سنة أربع وتسعين وسبعمائة في ذي الحجة منها، وكان أميرا كبيرا مهيبا شجاعا عفيفا عن الشرب عفا الله تعالى عنا وعنه.
وقال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة الأمير جلبان: استقر جلبان في نيابة حلب سنة ثلاث وتسعين وجرت له مع التركمان وقعة بالباب انتصر فيها عليهم ثم أخرى مع نعير انتصر فيها أيضا، ثم قبض عليه أستاذه سنة ست وتسعين وحبسه مدة بالقاهرة ثم أطلقه وجعله أتابكا بدمشق، ثم كان ممن عصى على ولده الناصر وقام مع تنم فأمسك وقتل بقلعة دمشق صبرا في رجب أو شعبان سنة 802وقد أناف على الثلاثين. وكان
جميلا كريما شجاعا سيوسا يحب العلماء ويعتقد الفقراء، ذكره ابن خطيب الناصرية وشيخنا اه.(2/383)
وقال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة الأمير جلبان: استقر جلبان في نيابة حلب سنة ثلاث وتسعين وجرت له مع التركمان وقعة بالباب انتصر فيها عليهم ثم أخرى مع نعير انتصر فيها أيضا، ثم قبض عليه أستاذه سنة ست وتسعين وحبسه مدة بالقاهرة ثم أطلقه وجعله أتابكا بدمشق، ثم كان ممن عصى على ولده الناصر وقام مع تنم فأمسك وقتل بقلعة دمشق صبرا في رجب أو شعبان سنة 802وقد أناف على الثلاثين. وكان
جميلا كريما شجاعا سيوسا يحب العلماء ويعتقد الفقراء، ذكره ابن خطيب الناصرية وشيخنا اه.
سنة 794
ذكر عود منطاش وحصره مدينة حلب
قال ابن إياس: في هذه السنة جاءت الأخبار بأن منطاش حضر إلى حلب مع جماعة من التركمان فحاصر المدينة، فخرج إليه عسكر حلب وأوقعوا معه واقعة فكسروه ورجع هاربا إلى الفرات. ثم حضر قاصد نعير بن جبار أمير آل فضل على يده كتاب من عند نعير فكان مضمونه أنه أرسل يطلب من السلطان أربع بلاد وهو يلتزم بالقبض على منطاش، فقال السلطان للأمير أبي يزيد الدوادار: اكتب له كتابا على لسانك أنك إن أمسكت منطاش نعطك جميع ما طلبته وزيادة على ذلك، فأرسل إليه الأمير أبو يزيد الدوادار بذلك.
سنة 795
ذكر مقتل منطاش وانتهاء فتنته
قال ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس: كان منطاش فرّ مع سالم الدوكاري إلى سنجار وأقام معه أياما ثم فارقه ولحق بنعير فأقام في أحيائه وأصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوجها وأقام معهم، ثم سار أول رمضان سنة أربع وتسعين وعبر الفرات إلى نواحي حلب وأوقعت به العساكر هناك وهزموهم وأسروا جماعة من أصحابه، ثم طال على نعير أمر الخلاف وضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان وأنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة، فكتب له الدوادار أبو يزيد على لسانه بالإجابة إلى ذلك، ثم وفد محمد ابن (1) سنة خمس وتسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه ومعه التركمان المقيمون بشيزر، فركبوا إليهم وهزموهم، وضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه وجرحه ولم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف والجفاء فأردفه ابن نعير ونجا به وقتل منهم جماعة منهم ابن بردعان وابن إينال وجيء برأسيهما إلى دمشق،
__________
(1) بياض بالأصل.(2/384)
وأوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر وينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم.
ثم زحف نعير ومنطاش في العساكر أول جمادى الآخرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب ونائب حماة فهزموهما ونهبوا حماة، وخالفهم نائب حلب إلى أحياء نعير فأغار عليها ونهب سوادها وأموالها واستاق نعمها ومواشيها وأضرم النار فيما بقي وأكمن لهم ينتظر رجوعهم، وبلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء وأثخنوا فيهم وهلك بين الفريقين خلق من العرب والأمراء والمماليك. ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان ومنابذا لعمه وذكوان بن نعير على طاعة السلطان وأنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم، فأقبل عليه السلطان وأثقل كاهله بالإحسان والمواعيد ودسّ معه إلى بني نعير بإمضاء ذلك ولهم ما يختارونه، فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا ورغبوهم فيما عند السلطان وذكروا ما هم فيه من الضنك وسوء العيش بالخلاف والانحراف عن الطاعة، وعرضوا على نعير أن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان ويفارقهم إلى حيث شاء من البلاد، فجزع لذلك ولم يسعه خلافهم وأذن لهم في القبض على منطاش وتسليمه إلى نواب السلطان، فقبضوا عليه وبعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه واستحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم ولأبيهم نعير، فخلف لهم وبعث إليهم بعض أمرائه فأمكنوه منه وبعثوا معه الفرسان والرجّالة حتى أوصلوه إلى حلب في يوم مشهود وحبس بالقلعة، وبعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه وقتله وحمل رأسه وطاف به في ممالك الشام وجاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس وتسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر والقاهرة وعلقت على باب زويلة، ثم دفعت إلى أهله فدفنوها في آخر رمضان من السنة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين اه.
بيان ما ذكره ابن إياس في هذه السنة من أخبار منطاش إلى أن قتل
قال: في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن منطاش ونعيرا توجهوا بمن معهم من العساكر إلى مدينة حماة، فخرج إليهم نائب حماة فأوقع معهم واقعة قوية، فانكسر نائب حماة وهرب فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار، فلما
بلغ نائب حلب ذلك ركب هو وعساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أمواله ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه ما لا يحصي عدده. [ثم قال]:(2/385)
قال: في هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن منطاش ونعيرا توجهوا بمن معهم من العساكر إلى مدينة حماة، فخرج إليهم نائب حماة فأوقع معهم واقعة قوية، فانكسر نائب حماة وهرب فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار، فلما
بلغ نائب حلب ذلك ركب هو وعساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أمواله ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه ما لا يحصي عدده. [ثم قال]:
وفيها حضر إلى الأبواب الشريفة مملوك نائب حلب وأخبر بأن نعيرا قبض على منطاش وسلمه إلى نائب حلب. وكان سبب إمساكه أن نعير بن جبار أرسل يطلب من نائب حلب أولاده ونساءه الذين أسرهم كما تقدم، فأرسل نائب حلب يقول له: ما أطلق نساءك وأولادك حتى تسلمنا منطاش، وكان منطاش قد تزوج من بنات نعير واستنسل منهم، فلما رأى نعير أن السلطان ونائب حلب عليه وقد نهبوا أمواله ومواشيه وأسروا أولاده ونساءه قصد أن يرضي السلطان بإمساك منطاش حتى يزول ما عنده مما جرى منه في حق السلطان كما تقدم، ثم إن نعيرا ندب إلى منطاش أربع عبيد غلاظ شداد، فلما أتوا إليه أحس بالشر، وكان راكبا على هجين فنزل عنه وركب على فرس، فأمسك بعض العبيد لجام الفرس وقال له: كلم الأمير نعيرا، فقال منطاش: وأيش يعمل بي نعير، فتكاثر عليه العبيد وأنزلوه عن فرسه وأخذوا سيفه منه، فقال لهم منطاش: دعوني حتى أبول، فقصد إلى جانب حائط وكان في تكته خنجر فشق به بطنه فغشي عليه فحمله العبيد وأتوا به إلى نعير فقيده وأرسله إلى نائب حلب وأرسل معه جماعة من العربان حتى أسلمه إلى نائب حلب وكان له يوم مشهود، فتسلمه نائب حلب وسجنه بالقلعة وكتب بذلك محضرا وأرسله إلى السلطان، فلما تحقق السلطان هذا الخبر خلع على القاصد خلعة عظيمة ودقت الكوسات وزينت له القاهرة سبعة أيام ونسي السلطان لما ظفر بمنطاش ما قاساه من التعب ومن القهر ومن المال الذي صرفه على التجاريد، فكان كما قيل:
إذا ظفرت من الدنيا بقربكم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور
ثم إن السلطان عين الأمير طولو بن علي شاه إلى حلب ليحضر منطاش، فلما وصل إلى حلب تسلم منطاش وجعل يعاقبه ويعصره ويقرره على الأموال التي غصبها من البلاد فلم يقر بشيء، ودخل عليه النزع فقطع الأمير طولو رأسه ووضعها في علبة، ثم خرج من حلب وجعل يطوف برأس منطاش في كل مدينة يدخلها حتى وصل إلى القاهرة، فكان يوم دخوله إلى القاهرة يوما مشهودا وزينت المدينة زينة عظيمة فشقوا برأس منطاش في القاهرة، ثم طلعوا بها إلى القلعة فرسم السلطان بأن تعلق على باب زويلة فعلقت ثلاثة أيام ثم دفنت وانقضى أمر منطاش.(2/386)
ثم إن السلطان أرسل إلى نعير خلعة وأقره على عادته أمير آل فضل اه.
وقتل الأمير نعير سنة 808كما سيأتي في ترجمته في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.
استيلاء تمرلنك على بغداد وهرب صاحبها السلطان أحمد بن أويس ومجيئه إلى حلب واستعداد المصريين
قال ابن إياس: إن الناس ما صدقوا أن فتنة منطاش قد خمدت حتى استأنفت لهم فتنة أخرى، وهي أنه عقب ذلك حضر طواشي رومي يسمى صفي الدين جوهر أرسله صاحب ماردين فأخبر بأن تمرلنك قد أخذ تبريز، ثم حضر عقب ذلك قاصد صاحب بسطام فأخبر بأن تمرلنك قد أخذ شيراز، ثم حضر قاصد نائب الرحبة وأخبر بأن القان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد وصل إلى الرحبة وهو هارب من تمرلنك، وقد احتاط على غالب بلاده وملكها. وكان سبب أخذ تمرلنك بلاد القان أحمد بن أويس أن تمرلنك أرسل إلى القان أحمد كتابا يترفق له فيه ويقول له: أنا ما جئتك محاربا وإنما جئتك خاطبا أتزوج بأختك وأزوجك بنتي، ففرح القان أحمد بذلك وظن أن هذا الكلام صحيح، فكان كما قيل في المعنى:
لا تركنن إلى الخريف فماؤه ... مستوخم وهواؤه خطاف
يمشي مع الأجسام مشي صديقها ... ومن الصديق على الصديق يخاف
وكان القان أحمد استعد لقتال تمرلنك وجمع له العساكر، فلما أتى قاصد تمرلنك بهذا الخبر ثنى عزمه عن القتال واستعاد من العسكر الذين قد جمعهم ما أعطاهم من آلة القتال وصرف همته عن القتال، فلم يشعر إلا وقد دهمته عساكر تمرلنك من كل مكان فضاق بهم رحب الفضاء، فخرج إليهم القان أحمد بمن بقي معه من العساكر، فبينما القان يقع مع عسكر تمرلنك إذ فتح أهل بغداد بقية أبواب المدينة وقد خافوا على أنفسهم مما جرى عليهم من هولاكو أيام الخليفة المستعصم بالله، فلما رأى تمرلنك أبواب المدينة مفتحة دخل إلى المدينة وملكها ولم يجد من يرده عنها، فلما بلغ القان أحمد ذلك ما أمكنه إلا الهرب، فأتى إلى جسر هناك فعدى من فوقه ثم قطعه، فلما بلغ عسكر تمرلنك تتبعوا القان أحمد وخاضوا خلفه الماء فهرب منهم فتبعوه مسيرة ثلاثة أيام، فلما حصلت له هذه الكسرة قصد التوجه إلى الديار المصرية، ثم حضر قاصد نائب حلب وأخبر بأن القان أحمد بن أويس قد وصل إلى حلب.(2/387)
فلما تحقق السلطان صحة هذا الخبر جمع الأمراء واستشارهم فيما يكون من أمر القان أحمد، فوقع الاتفاق من الأمراء على أن السلطان يرسل إليه الإقامات ويلاقيه، فعند ذلك عين السلطان الأمير أزدمر الساقي وصحبته الإقامات وما يحتاج إليه القان أحمد من مال وقماش وغير ذلك، فخرج الأمير أزدمر على جياد الخيل. ثم عقب ذلك حضر إلى الأبواب الشريفة قاصد أبي يزيد مراد بك بن عثمان ملك الروم على يده تقادم عظيمة للسلطان، وكان سبب مجيء قاصد ابن عثمان (رسول السلطان بايزيد رحمه الله) أنه أرسل يخبر السلطان بأمر تمرلنك ويحذره عن الغفلة في أمره. ثم حضر قاصد ماردين وأخبر بأن تمرلنك ملك بلاد الأكراد وأن تمرلنك حاصر البصرة ورجع عنها بخفي حنين بعد أن قتل من عسكره ما لا يحصى.
فلما تواترت الأخبار بذلك رسم السلطان للأمير علاء الدين بن الطبلاوي والي القاهرة بأن ينادي في القاهرة للعسكر بالعرض في الميدان بسبب تمرلنك الخارجي وجعل يكرر هذه المناداة ثلاثة أيام متوالية بأن لا يتأخر عن العرض لا كبير ولا صغير وعلق الجاليش، فاضطربت أحوال الديار المصرية وما صدق العسكر بأن فتنة منطاش قد خمدت فانتشبت لهم هذه الفتنة العظيمة فكان كما قيل في المعنى:
وثقيل ما برحنا ... نتمنى البعد عنه
غاب عنا ففرحنا ... جاءنا أثقل منه
سنة 796
وصول القان أحمد إلى الديار المصرية واستيلاء تمرلنك على ديار بكر والرها وخروج السلطان برقوق مع القان أحمد إلى دمشق
قال ابن خلدون في أواخر الجزء الخامس: لما استولى تمرلنك على بغداد وانهزم منه صاحبها القان أحمد بن أويس ونجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها وطالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتقليه (1) بالنفقات والأزواد وليستقدمه، فقدم به إلى
__________
(1) هكذا في الاصل وفي تاريخ ابن خلدون.(2/388)
حلب وأراح بها وطرقه مرض أبطأ به عن مصر، وجاءت الأخبار بأن تمرلنك عاث في مخلفه واستصفى ذخائره واستوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم حتى مستهم الحاجة وأقفرت جوانب بغداد من العيث.
ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست وتسعين مستصرخا به على طلب ملكه والانتقام من عدوه، فأجاب السلطان صريخه ونادى في عسكره بالتجهيز إلى الشام. وقد كان تمرلنك بعد ما استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين وعش الحرابة ورصد السابلة وأناخ عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه وقتل من قتل منهم ثم خربها وأقفرها، وانتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها ووقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها وانتسفوا نعمها وافترق أهلها، وبلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره وأفاض العطاء في مماليكه واستوعب الحشد من سائر أصناف الجند، واستخلف على القاهرة النائب سودون وارتحل على التعبية ومعه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه وسرب النفقات في تابعه وجنده، ودخل دمشق آخر جمادى الأولى وقد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات واستنفار العرب والتركمان للإقامة هناك رصدا للعدو، فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان وطالعه بمهماته وما عنده من أخبار القوم ورجع لإنفاذ أوامره والفصل فيما يطالعه فيه، وبعث السلطان على إثره العساكر مددا له مع كمشبغا الأتابك وتكلمش أمير سلاح وأحمد بن بيبغا، وكان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا وملكها وعاثت عساكره فيها واكتسحت نواحيها وامتنعت عليه قلعتها، فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم ومرّ بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها واكتسحت نواحيها، والسلطان لهذا العهد وهو شعبان سنة ست وتسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه والوثبة به متى استقبل جهته اه.
ذكر وصول السلطان برقوق إلى حلب ورجوع تمرلنك إلى بلاده ورجوع القان أحمد بن أويس إلى بلاده أيضا
قال ابن إياس: إن السلطان رحل من الريدانية وصحبته القان أحمد بن أويس وسائر الأمراء وجدّ في السير حتى وصل إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر،
فلما دخلها نزل بالقصر الأبلق الذي في الميدان وحكم بين الناس وأقام بالشام أياما ثم رحل عنها وتوجه إلى حلب، فلما أقام بحلب حضر إليه قاصد من عند ابن عثمان (السلطان بايزيد رحمه الله) وعلى يده مطالعات مضمونها أن يكون هو والسلطان يدا واحدة على دفع العدو الباغي تمرلنك، فأجابه السلطان إلى ذلك ورد له الجواب عن ذلك بما يطيب خاطره، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان، فأجابه السلطان كما أجاب ابن عثمان، فلما أقام السلطان بحلب بلغه أن جاليش عسكر تمرلنك قد وصل إلى البيرة، فصار جماعة من عسكر السلطان يعدون تحت الليل من الفرات ويكبسوا عليهم فغنموا من عسكر تمرلنك أشياء كثيرة، فقيل إن عسكر مصر كانوا ينفخون القرب ويجعلونها تحت بطون الخيل ويعدون من الفرات تحت الليل حتى يقعوا مع عسكر تمرلنك. ثم بلغ السلطان أن تمرلنك رجع إلى بلاده (1)، ولما تحقق السلطان ذلك قصد الرجوع إلى الديار المصرية، وكذلك القان أحمد بن أويس رجع إلى بلاده، ولم يقع بين السلطان وبين الملك الظاهر برقوق قتال في هذه المرة بل رجع كل من الفريقين إلى بلاده.(2/389)
قال ابن إياس: إن السلطان رحل من الريدانية وصحبته القان أحمد بن أويس وسائر الأمراء وجدّ في السير حتى وصل إلى دمشق يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر،
فلما دخلها نزل بالقصر الأبلق الذي في الميدان وحكم بين الناس وأقام بالشام أياما ثم رحل عنها وتوجه إلى حلب، فلما أقام بحلب حضر إليه قاصد من عند ابن عثمان (السلطان بايزيد رحمه الله) وعلى يده مطالعات مضمونها أن يكون هو والسلطان يدا واحدة على دفع العدو الباغي تمرلنك، فأجابه السلطان إلى ذلك ورد له الجواب عن ذلك بما يطيب خاطره، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان، فأجابه السلطان كما أجاب ابن عثمان، فلما أقام السلطان بحلب بلغه أن جاليش عسكر تمرلنك قد وصل إلى البيرة، فصار جماعة من عسكر السلطان يعدون تحت الليل من الفرات ويكبسوا عليهم فغنموا من عسكر تمرلنك أشياء كثيرة، فقيل إن عسكر مصر كانوا ينفخون القرب ويجعلونها تحت بطون الخيل ويعدون من الفرات تحت الليل حتى يقعوا مع عسكر تمرلنك. ثم بلغ السلطان أن تمرلنك رجع إلى بلاده (1)، ولما تحقق السلطان ذلك قصد الرجوع إلى الديار المصرية، وكذلك القان أحمد بن أويس رجع إلى بلاده، ولم يقع بين السلطان وبين الملك الظاهر برقوق قتال في هذه المرة بل رجع كل من الفريقين إلى بلاده.
تعيين الأمير تغري بردي إلى حلب
ثم إن السلطان رجع إلى الشام فأقام بها أياما وخلع على المقر السيفي تغري بردي بن يشبغا واستقر به نائب حلب. ثم قال في حوادث سنة 797: إن السلطان وصل إلى القاهرة ثالث عشر صفر ودخلها في موكب عظيم. وفي روض المناظر: كانت إقامة السلطان بحلب أربعين يوما.
بناء الأمير تغري بردي جامعه في محلة السفّاحية
قال في الدر المنتخب: ومنها جامع تغري بردي نائب حلب ثم دمشق بالقرب من الأسفريس وحارة التركمان، بناه حين كان نائبا بحلب سنة ست وتسعين وسبعمائة وكان قد أسسه ابن طومان اه.
__________
(1) أقول: يظهر أن سبب رجوعه استعداد الدولتين المصرية والعثمانية لملاقاته فكان كما يقوله بعض سياسيي العصر: الاستعداد للحرب يمنع الحرب.(2/390)
وقال ابن الخطيب في الدر المنتخب في ترجمة علي بن محمد الصرخدي: لما بنى الأمير تغري بردي جامعه المشهور بالأسفريس فوض إليه تدريس الشافعية به فحضره ودرس فيه بحضور ملك الأمراء المشار إليه يوم الجمعة بعد الصلاة اه.
أقول: موقع الجامع في المحلة المعروفة الآن بالسفّاحية وقد اشتهر بالموازيني، لأن المتولين عليه من نحو مائة سنة إلى الآن بنو الموازيني، وقد قام الحاج محمد الموازيني بأمر هذا الجامع أحسن قيام ورممه وبلط صحنه وعاد إلى حالته الأولى، وكذلك رمم أوقافه، وقد توفي في السنة الماضية وهي سنة 1341. وكان رحمه الله رجلا صالحا ورعا حافظا لكتاب الله تعالى يخطب بهذا الجامع بغير معلوم.
المكتوب على بابه:
أنشأ هذا الجامع المبارك في أيام مولانا الغازي المالكي الملك الظاهر أبي سعيد برقوق خلّد الله ملكه المقر الأشرفي العالي المولوي الكافلي المالكي الظاهري كافل المملكة الشريفة بحلب المحروسة أعزّ الله تعالى أنصاره وألبسه من التوفيق حلة وذلك سنة 797.
وفي جدار قبلية الجامع بجانب المحراب لوح من دف بديع الصنعة طوله أربعة أشبار وعرضه ثلاثة وقد كتب عليه تاريخ عمارة الجامع وهو:
1 - أنشأه المقر الأشرف العالي المولوي الأميري السيفي تغري بردي الملكي الظاهري عزّ نصره
2 - بتولي المقر الكريم شهاب الدين أحمد بن التيزيني وذلك في سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
وفي وسط اللوح وأطرافه كتابات بالخط الكوفي ومكتوب عليه أيضا: (عمل أحمد الليثي). ومكتوب على قنطرة المنبر:
منبر جامع محاسن فضل ... ذلك الجمع ماله من نظير
خص عزا بجمعة وخطاب ... عن رسول مبشر ونذير
قد بناه لله تغري بردي ... كي يجازي بجنة وحرير
وفي القبلية عمودان عظيمان من الحجر الأحمر السمّاقي وعمودان من الحجر الأسود، وسقف المحراب منقوش بالحجارة الصغيرة، وفوق المحراب حجر مكتوب بالخط
الكوفي من الجهات الأربعة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي وسطها (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).(2/391)
منبر جامع محاسن فضل ... ذلك الجمع ماله من نظير
خص عزا بجمعة وخطاب ... عن رسول مبشر ونذير
قد بناه لله تغري بردي ... كي يجازي بجنة وحرير
وفي القبلية عمودان عظيمان من الحجر الأحمر السمّاقي وعمودان من الحجر الأسود، وسقف المحراب منقوش بالحجارة الصغيرة، وفوق المحراب حجر مكتوب بالخط
الكوفي من الجهات الأربعة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي وسطها (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم).
ما أحدث في زمن تغري بردي في الجامع الكبير
في جدار الرواق الشمالي بجانب الحنفيات حجر مكتوب عليه:
1 - أمر بإنشائه مولانا المقام الأعظم السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق عزّ نصره
2 - في أيام المقر السيفي تغري بردي كافل المملكة الحلبية عزّ نصره بتولي العبد
3 - الفقير إلى الله تعالى حمزة الجعفري الحنفي في شهور سنة سبع وتسعين وسبعماية اه.
تحت هذه الكتابة باب كان يخرج منه إلى خلا أحدثه الشيخ حمزة المذكور في هذه السنة، إلا أن الرائحة كانت تخرج منه إلى الجامع، فسدّ هذا الباب وأبطل الخلا من هذا الموضع واتخذ غربي الباب الشمالي، ثم إنه أبطل من هذا المكان خوفا على المأذنة واتخذ موضعه مكتبا وفتح له باب في صحن الجامع وله وظيفة عثمانية، والآن هو سكن الإمام الحنفي الجهري (1)، ونقلت المطهرة إلى تجاه الباب الأصلي نقلها الحاج حسن ابن الأميري وجعلها في غاية السعة وجعل بابها من خارج الباب الشمالي وذلك سنة 1169، وجعل لها بابا آخر من داخل الجامع في قرنة الرواق الشمالي كي لا يمتنع دخول المجاورين بالمسجد ليلا إلى الخلا، ثم سدّ هذا الباب من آخر المدخل فصار حجرة صغيرة يوضع فيها لوازم الجامع وربما سكنها بعض الخدم.
سنة 799
ذكر تولية حلب للأمير أرغون شاه
قال في روض المناظر: في هذه السنة طلب الأمير تغري بردي إلى مصر واستقر بها أميرا كبيرا، واستقر عوضه بحلب أرغون شاه، نقل إليها من طرابلس وكان قبلها نائبا بصفد، وأقام بحلب شهورا ومات.
__________
(1) هي الحجرة التي عن يسار الداخل من باب الحلوية.(2/392)
قال ابن إياس: وفي هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن جاليش تمرلنك قد وصل إلى أطراف بلاد الروم وأخذ مدينة تسمى أرزنكان [آذربيجان] وقتل أهلها ونهب ما فيها، فلما سمع السلطان ذلك أرسل إلى سائر النواب بأن يتوجهوا إلى شاطىء الفرات ويحصنوا البلاد، فخرج سائر النوّاب إلى شاطىء الفرات وأقاموا هناك اه.
سنة 800
ذكر تعيين الأمير علاء الدين أقبغا لنيابة حلب
قال في روض المناظر: في هذه السنة استقر في نيابة حلب الأمير علاء الدين أقبغا الهذباني عوضا عن أرغون شاه.
سنة 801
وفاة الملك الظاهر برقوق بن أنص العثماني
قال ابن إياس: كانت وفاته خامس عشر شوال من سنة إحدى وثمانمائة، وكان مدة سلطنته ست عشرة سنة وأربعة أشهر، وعهد بالملك بعده لولده المقر الزيني فرج ولقب الملك الناصر أبو السعادات وله من العمر اثنتا عشرة سنة.
ذكر استيلاء السلطان با يزيد على ملطية وورود الأخبار بقصده حلب ثم رجوعه إلى بلاده
قال ابن إياس: في أواخر هذه السنة جاءت الأخبار من حلب بأن ابن عثمان ملك الروم قد تحرك على بلاد السلطان وقد وصل أوائل جاليشه إلى بلاد الأبلستين (البستان) وهو قاصد حلب، فلما بلغ السلطان والأمراء هذا الخبر أمر الأتابكي أيتمش بعقد مجلس بالقصر الكبير، فحضر أمير المؤمنين المتوكل والقضاة الأربعة وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني وسائر الأمراء وضربوا مشورة في أمر ابن عثمان، فوقع الاتفاق على محاربته والخروج إليه وأن يؤخذ من أجرة الأملاك شهر واحد يتقوى بها العسكر على دفع العدو. ثم بعد مدة جاءت الأخبار بأن ابن عثمان وصل إلى ملطية وملكها ولم يشوّش على أحد من أهلها وأمر عسكره بأن لا ينهبوا لأحد من الرعية شيئا، فأقام بملطية أياما ثم رجع إلى بلاده فطل أمر التجريد وسكن الحال.(2/393)
سنة 802
ذكر عصيان تنم نائب الشام وأقبغا الجمالي نائب حلب وبقية نواب البلاد الشامية ومحاربتهم للسلطان فرج وتعيين دمرداش الخاصكي لنيابة حلب
قال ابن إياس: لما توفي الملك الناصر فرج خرج تنم نائب الشام عن الطاعة وأظهر العصيان ووضع يده على البلاد الشامية، ووافقه على العصيان نائب حلب ونائب حماة ونائب صفد ونائب طرابلس، والتف عليه من العسكر والعربان ما لا يحصى عددهم، ثم انضم إليهم الأتابكي أيتمش بعد أن انكسر في محاربته للسلطان بمصر. وخلاصة الأمر أن السلطان خرج إليهم والتقى الجمعان بأرض فلسطين، وانكسر تنم وأمسك هو وجماعة من الأمراء وقتلوا، وعاد السلطان إلى الديار المصرية منصورا وقرر في نيابة دمشق خاله سودون وفي نيابة حلب الأمير دمرداش المحمدي الخاصكي.
ذكر مجيء مقدمة تمرلنك إلى نواحي ملطية وتوجّه عسكر حماة وحلب إلى محاربتهم وانكسار هذين
قال ابن إياس: في ذي القعدة حضر مملوك نائب حلب وأخبر بأن القان أحمد بن أويس صاحب بغداد وقرا يوسف أمير التركمان حضر إليهم جاليش تمرلنك فأوقعوا معهم واقعة عظيمة فانكسر جاليش تمرلنك، فلما انكسروا أتوا إلى ملطية وكانوا نحو سبعة آلاف، فأرسلوا إلى نائب حلب يقولون له: عيّن لنا مكانا ننزل به، فلما سمع نائب حلب بذلك ركب هو ونائب حماة وتوجهوا إلى عسكر تمرلنك فأوقعوا معهم واقعة عظيمة، فانكسر نائب حماة وقتل من عسكر حلب جماعة كثيرة، منهم جاني بك اليحياوي أتابك العساكر بحلب وأسر نائب حماة دقماق المحمدي حتى اشترى نفسه منهم بمال جزيل، ورجع نائب حلب إلى حلب وهو مكسور، وكانت هذه أول الفتن بين عسكر مصر وبين تمرلنك، فلما بلغ السلطان ذلك رسم لنائب الشام ونائب صفد ونائب طرابلس بأن يجمعوا العساكر ويتوجهوا إلى حلب يقيمون بها.(2/394)
أصل تمرلنك وشيء من أحواله إلى أن استفحل ملكه
والكتاب الذي أرسله إلى الملك الظاهر برقوق صاحب مصر وجواب هذا الكتاب
والأسباب التي دعته إلى الرجوع إلى هذه البلاد ومجيئه إلى سيواس والبستان ثم عينتاب وقلعة الروم ثم إلى حلب وما فعله بهذه البلاد ثم بحلب من الفظائع وعظيم الجرائم والأسئلة التي سأل عنها علماء الشهباء وأجاب عنها القاضي محب الدين أبو الوليد محمد بن الشحنة وتوجهه إلى الشام وعوده منها إلى أطراف حلب ثم رجوعه إلى بلاد الشرق ووفاته وما آل إليه أمر ملكه وملك بنيه.
قال العلامة الدحلاني في تاريخه الفتوحات الإسلامية: كان ظهور تمرلنك في أواخر القرن الثامن بالديار الهندية وخراسان والعراق، وكان ظهوره من أشد المحن والبلايا على هذه الأمة، أفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل، وهو وإن كان يدّعي الإسلام إلا أن قتاله مثل قتال الكفار لأنه فعل أفعالا مع المسلمين أكثر مما تفعله الكفار من القتل والأسر والتخريب، وكان رافضيا شديد الرفض.
وسبب خروجه أن ملوك التتر اقتسموا الممالك وانتشرت الفتن بينهم مع بعضهم وكثر عليهم الثوار والخارجون، وكان ذلك كله سببا لضعف دولة التتر وموجبا لقيام تيمور وغيره.
واختلفوا في نسب تيمور، فقيل إن نسبه ينتهي إلى جنكز خان ملك التتر. وفي تاريخ ابن خلدون أن تيمور ينسب هو وقومه إلى جغطاي بن جنكز خان، وجزم بعضهم بأن نسبه إلى جغطاي بن جنكز خان إنما هو من جهة أمه لا من جهة أبيه.
وكان أول ظهوره سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وأرّخه بعضهم بقوله [عذاب 773] وكان مبدأ أمره وأمر أبيه أنهما كانا فقيرين وكان أبوه أسكافيا من قرية من أعمال كش وهي مدينة من مدائن ما وراء النهر، ونشأ ولده تيمور جلدا قويا ذا جسم غليظ، فكان لشدة فقره يسرق كثيرا، فسرق في بعض الليالي شاة واحتملها فشعر به الراعي فرماه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه فأعابهما فكان أعرج اليمناوين، ولذلك كان يقال له نصف إنسان، ومع هذا لم يترك السرقة، وما زال كذلك حتى اشتهر أمره وإفساده، فظفر
به السلطان حسين ملك هراة فأمر بضربه ثم بصلبه، فضرب ثم تشفع في ترك صلبه الأمير غياث الدين ابن السلطان حسين المذكور، فقال له أبو حسين: هذا أصل مادة الفساد، لئن بقي ليهلكن العباد والبلاد، فقال له ابنه غياث الدين: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي، فما زال يراجع أباه حتى قبل شفاعته ووهبه له وعفا عنه. ثم إن غياث الدين اصطحبه معه وقرّبه وأدناه وجعله من خواصه وزوّجه أخته ورقّاه حتى صار من وزرائه، فلما صار الملك لغياث الدين بعد موت أبيه حسين ازدادت منزلة تيمور وصار مقدما على كثير من الجند فطغى وبغى على مولاه غياث الدين. ومبدأ ذلك أن زوجة تيمور وهي أخت السلطان غياث الدين وقع بينها وبين تيمور شيء أغضبه فقتلها ولم يراع حرمة مولاه، ثم لم يسعه الأمر إلا بالخروج على السلطان غياث الدين وخلع الطاعة واقتعد غارب التمرد والطغيان، فتملك بما كان تحت يده من الجند كثيرا من الممالك حتى استصفى ممالك ما وراء النهر وذلت لأوامره ملوك الدهر، وشرع في استخلاص بقية البلاد واسترقاق العباد، فكان يجري في جسد العالم مجرى الشيطان من بني آدم ويدب في البلاد دبيب السم في الأجساد، ثم أرسل إلى مخدومه سلطان هراة الملك غياث الدين يطلب منه الدخول في طاعته ليجازيه على إحسانه بإساءته فيتحقق بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم «كتب الله على كل نفس خبيثة أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء إلى من أحسن إليها».(2/395)
وكان أول ظهوره سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وأرّخه بعضهم بقوله [عذاب 773] وكان مبدأ أمره وأمر أبيه أنهما كانا فقيرين وكان أبوه أسكافيا من قرية من أعمال كش وهي مدينة من مدائن ما وراء النهر، ونشأ ولده تيمور جلدا قويا ذا جسم غليظ، فكان لشدة فقره يسرق كثيرا، فسرق في بعض الليالي شاة واحتملها فشعر به الراعي فرماه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه فأعابهما فكان أعرج اليمناوين، ولذلك كان يقال له نصف إنسان، ومع هذا لم يترك السرقة، وما زال كذلك حتى اشتهر أمره وإفساده، فظفر
به السلطان حسين ملك هراة فأمر بضربه ثم بصلبه، فضرب ثم تشفع في ترك صلبه الأمير غياث الدين ابن السلطان حسين المذكور، فقال له أبو حسين: هذا أصل مادة الفساد، لئن بقي ليهلكن العباد والبلاد، فقال له ابنه غياث الدين: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي، فما زال يراجع أباه حتى قبل شفاعته ووهبه له وعفا عنه. ثم إن غياث الدين اصطحبه معه وقرّبه وأدناه وجعله من خواصه وزوّجه أخته ورقّاه حتى صار من وزرائه، فلما صار الملك لغياث الدين بعد موت أبيه حسين ازدادت منزلة تيمور وصار مقدما على كثير من الجند فطغى وبغى على مولاه غياث الدين. ومبدأ ذلك أن زوجة تيمور وهي أخت السلطان غياث الدين وقع بينها وبين تيمور شيء أغضبه فقتلها ولم يراع حرمة مولاه، ثم لم يسعه الأمر إلا بالخروج على السلطان غياث الدين وخلع الطاعة واقتعد غارب التمرد والطغيان، فتملك بما كان تحت يده من الجند كثيرا من الممالك حتى استصفى ممالك ما وراء النهر وذلت لأوامره ملوك الدهر، وشرع في استخلاص بقية البلاد واسترقاق العباد، فكان يجري في جسد العالم مجرى الشيطان من بني آدم ويدب في البلاد دبيب السم في الأجساد، ثم أرسل إلى مخدومه سلطان هراة الملك غياث الدين يطلب منه الدخول في طاعته ليجازيه على إحسانه بإساءته فيتحقق بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم «كتب الله على كل نفس خبيثة أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء إلى من أحسن إليها».
فأرسل غياث الدين يقول له: أما كنت خادما لي وأحسنت إليك وأسبلت ذيل نعمتي عليك، وذلك بعد أن نجّيتك من الضرب والصلب، فإن لم تكن إنسانا يعرف الإحسان فكن كالكلب. فلم يصغ لذلك بل عبر جيحون بمن معه من الجند وتوجّه إلى محاصرة مولاه غياث الدين بهراة، ولم يكن لغياث الدين قوة إلى قتاله والوقوف بين يديه فحصّن نفسه في القلعة فحاصره وضيّق عليه ثم أمّنه وقبض عليه وحبسه ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات جوعا وعطشا، ثم عاد إلى خراسان فانتقم أولا من أهل سجستان فوضع السيف فيهم فأفناهم عن آخرهم، ثم خرب المدينة ورحل عنها، ولم يزل هذا دأبه حتى تخلص له جميع ممالك العجم ودانت له ملوكهم والأمم.
وقدمنا في حوادث سنة 795استيلاءه على بغداد وانهزام صاحبها السلطان أحمد بن أويس ومجيئه إلى حلب ثم توجهه منها إلى القاهرة، وخروج السلطان برقوق بالعساكر المصرية إلى حلب واستعداده تمام الاستعداد لملاقاته، فلما بلغ ذلك تيمور رجع إلى بلاده وكانت وفاة الملك الظاهر برقوق سنة 801.(2/396)
كتاب تيمرلنك إلى الملك الظاهر برقوق
قال القرماني في تاريخه: في ثالث عشر صفر سنة تسع وتسعين وسبعمائة حضرت رسل تمرلنك وهم أربعة ومعهم كتاب نسخته بعد البسملة الشريفة: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اعلموا أننا جند الله في أرضه مخلوقون من سخطه، مسلطون على من يحل عليه غضبه، لا نرق لشاك ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا، قد خرّبنا البلاد ويتّمنا الأولاد وأظهرنا في الأرض الفساد، خيولنا سوابق وسيوفنا صواعق وسهامنا خوارق، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، وجارنا لا يضام، من سالمنا سلم ومن رام حربنا ندم، فإن أنتم قبلتم شرطنا وأطعتم أمرنا فلكم مالنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلوموا إلا أنفسكم، وذلك بما كسبت أيديكم، فالحصون لا تمنع، والعساكر لا ترد ولا تدفع، لأنكم أكلتم الحرام وضيعتم الجمع، فأبشروا بالمذلة والهوان {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ بِمََا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} وتقولون إنه قد صح عندكم أننا كفرة فقد ثبت عندنا أنكم فجرة، وقد سلطنا عليكم من بيده أمور مدبرة وأحكام مقدرة، فعزيزكم عندنا ذليل وكثيركم لدينا قليل، وقد أوضحنا لكم الخطاب فأسرعوا برد الجواب، قبل أن ينكشف الغطا ويدخل علينا منكم الخطا، وترمي الحرب نارها وتلقي أوزارها، وتدهون منا بأعظم داهية ولا يبقى لكم باقية، وينادي عليكم منادي الفناء {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} الآن قد أنصفناكم إذ راسلناكم، فردوا رسلنا بجواب هذا الكلام والسلام.
جواب هذا الكتاب من الملك الظاهر برقوق
قال القرماني: فلما سمع السلطان هذا الكتاب اغتاظ غيظا عظيما وأمر بتوسيط الرسل [بقتلهم] فوسطوا وعلقوا وأمر بكتب جواب، فكتب ذلك بإنشاء ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى، ونسخته كما في القرماني وتاريخ تيمور لابن عربشاه: [بسم الله الرحمن الرحيم] {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حصل الوقوف على كتاب مجهز من الحضرة الإيلخانية والسدة العظيمة الكبيرة السلطانية، قولكم إنكم مخلوقون من سخطه مسلطون على من يحل عليه غضبه، وإنكم لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك،
وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك من أكبر عيوبكم، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} ففي كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل رسول بالسوء ذكرتم وبكل قبيح وصفتم، وعندنا العلم بكم من حين خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم، ألا لعنة الله على الكافرين، نحن المؤمنون حقا، لا يدخلنا عيب ولا يخامرنا ريب، القرآن على نبينا نزل والرب بنا رحيم لم يزل، إنما النار لكم خلقت ولجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت، ومن أعجب العجاب تهديد الرتوت باللتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع، ونحن خيولنا برقية وسهامنا يمنية، وسيوفنا شديدة المضارب، وذكرنا في المشارق والمغارب، إن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة، {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
وقولكم قلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالقصّاب لا يبالي بكثرة الغنم وكثير الحطب، يكفيه قليل من الضرم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ}
الفرار الفرار من الرزايا لا من المنايا، ونحن من الطمأنينة على عادة الأمنية، إن قتلنا فشهداء وإن عشنا كنا سعداء {فَإِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْغََالِبُونَ} أبعد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين [يعني الخليفة العباسي الذي كان إذ ذاك بمصر] تطلبون منا طاعة، لا سمعا لكم ولا طاعة، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطا ويدخل علينا منكم الخطا، هذا الكلام في نظمه تركيك وفي سلكه تفكيك، لو كشف لبان بعد التبيان، أكفر بعد إيمان واتخاذ رب ثان {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} قل لكاتبك الذي وضع رسالته ووصف مقالته وصل كتاب كصرير الباب أو كطنين الذباب {سَنَكْتُبُ مََا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذََابِ مَدًّا}
وما لكم عندنا إلا السيف بقوة الله تعالى (1).(2/397)
قال القرماني: فلما سمع السلطان هذا الكتاب اغتاظ غيظا عظيما وأمر بتوسيط الرسل [بقتلهم] فوسطوا وعلقوا وأمر بكتب جواب، فكتب ذلك بإنشاء ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى، ونسخته كما في القرماني وتاريخ تيمور لابن عربشاه: [بسم الله الرحمن الرحيم] {قُلِ اللََّهُمَّ مََالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشََاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشََاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشََاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشََاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حصل الوقوف على كتاب مجهز من الحضرة الإيلخانية والسدة العظيمة الكبيرة السلطانية، قولكم إنكم مخلوقون من سخطه مسلطون على من يحل عليه غضبه، وإنكم لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك،
وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك من أكبر عيوبكم، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} ففي كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل رسول بالسوء ذكرتم وبكل قبيح وصفتم، وعندنا العلم بكم من حين خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم، ألا لعنة الله على الكافرين، نحن المؤمنون حقا، لا يدخلنا عيب ولا يخامرنا ريب، القرآن على نبينا نزل والرب بنا رحيم لم يزل، إنما النار لكم خلقت ولجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت، ومن أعجب العجاب تهديد الرتوت باللتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع، ونحن خيولنا برقية وسهامنا يمنية، وسيوفنا شديدة المضارب، وذكرنا في المشارق والمغارب، إن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة، {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
وقولكم قلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالقصّاب لا يبالي بكثرة الغنم وكثير الحطب، يكفيه قليل من الضرم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللََّهِ وَاللََّهُ مَعَ الصََّابِرِينَ}
الفرار الفرار من الرزايا لا من المنايا، ونحن من الطمأنينة على عادة الأمنية، إن قتلنا فشهداء وإن عشنا كنا سعداء {فَإِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْغََالِبُونَ} أبعد أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين [يعني الخليفة العباسي الذي كان إذ ذاك بمصر] تطلبون منا طاعة، لا سمعا لكم ولا طاعة، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطا ويدخل علينا منكم الخطا، هذا الكلام في نظمه تركيك وفي سلكه تفكيك، لو كشف لبان بعد التبيان، أكفر بعد إيمان واتخاذ رب ثان {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} قل لكاتبك الذي وضع رسالته ووصف مقالته وصل كتاب كصرير الباب أو كطنين الذباب {سَنَكْتُبُ مََا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذََابِ مَدًّا}
وما لكم عندنا إلا السيف بقوة الله تعالى (1).
قال الدحلاني: فلما وصل الكتاب إلى تيمور غضب غضبا شديدا، وكأن الله ألقى الرعب في قلب تيمور من السلطان برقوق فرجع إلى بلاده.
__________
(1) يلاحظ التقارب والتشابه بين رسالة هولاكو إلى الملك الناصر وجواب الملك الناصر ورسالة تيمرلنك إلى الملك برقوق وجواب الملك برقوق.(2/398)
أقول: يستفاد من كلام ابن عربشاه في تاريخه عجائب المقدور أنه في هذه الأثناء وافته الأخبار أن سلطان الهند فيروز شاه توفي إلى رحمة الله ولم يكن له ولد يكون له خليفة، واضطربت أحوال بلاد الهند، وولى الأهلون وزيرا اسمه ملوا وصارت بلاد الهند فرقا وطوائف، فوجد أن توجهه إلى بلاد الهند والاستيلاء عليها لعظم الغنيمة أولى من مجيئه إلى الديار المصرية ومحاربة برقوق، فكرّ راجعا إلى بلاد الهند واستولى عليها. وبسط القول في ذلك.
قال ابن عربشاه: وبينما هو في الهند وقد استولى على كرسي الهند وأمصاره واحتوى على ممالكه وأقطاره، وبلغت مراسيمه ذرى أنجاده وأعماق أغواره، وانبثّ جيشه في ولايتها سهلا ووعرا وظهر فسادهم في رعاياها برا وبحرا، وفد عليه المبشر من جانب الشام (وذلك في سنة إحدى وثمانمائة) أن القاضي برهان الدين أحمد السيواسي والملك الظاهر أبا سعيد برقوق انتقلا إلى دار السلام، فسرّ بذلك صدره وانشرح، وكاد أن يطير إلى جهة الشام من الفرح، فنجز بسرعة أمور الهند ونقل إلى مملكته من فيها من العسكر والجند، بما أخذه من الأثقال ونفائس الأموال، ووزع ذلك على الجمهور وسائر الجند المأسور على أطراف ما وراء النهر من الحدود والثغور، وأقام في الهند نائبا ثم صدر عن سمرقند قاصدا إلى الشام ومعه من الهند رؤوس أجنادها ووجوه أعيانها.
قال في روض المناظر: وفي سنة ثلاث وثمانمائة شاعت الأخبار بأن تيمور لنك حين عاد من أخذ بلاد الهند بلغه وفاة السلطان الملك الظاهر برقوق فاستبشر لذلك وأنعم على مخبره بجملة مستكثرة، وكان في نفسه من قتله رسله ومن أخذ ابن عثمان (السلطان با يزيد رحمه الله) سيواس وملطية وأخذ السلطان أحمد بغداد، فقصد بلاد الشام ومعه من العساكر ما لا يحصى. أخبرني الحافظ الخوارزمي أن بديوان عسكره المختصة به ثمانمائة ألف وأنه اجتاز على سيواس وحاصرها وأخذها بعد أن حلف لأهلها أنه لا يضع فيهم السيف، فلما تمكن منهم حفر لهم حفائر ودفنهم فيها أحياء، قيل كانوا ثلاثة آلاف مسلم، ثم حرقها وخربها، وتوجه نحو البستان فوجد أهلها قد أخلوها فأحرقها وخربها، ثم توجه إلى ملطية فهرب من كان بها فأخذها وخربها، ثم اجتاز على بهسنى فحاصرها ونصب عليها المنجنيق وهدم بعض قلعتها ثم أخذها صلحا، وقصد قلعة المسلمين (1) وكان نائبها فارس المسلمين المقر
__________
(1) من هنا إلى قوله من السلالة الطاهرة العمرية غير موجود في النسخة المطبوعة من روض المناظر على هامش ابن الأثير، وقد وجدت هذه الزيادة في نسخة خطية منه وبتمامها سقطت من النسخة المطبوعة.(2/399)
الأشرف الناصري محمد ابن المرحوم الشرفي موسى بن شهري سبط مولانا السلطان المشار إليه في أول الكتاب، وكان قد بدع بجماعة تمرلنك وطواشيه مدة إقامته على بهسنى وقتل منهم جماعة وأرسل رؤوسهم إلى حلب وكسر قوما من الذين جهزهم إليه أقبح كسرة، حتى رمى غالب جماعته نفوسهم في الفرات. وجهز تمرلنك كتابا إلى المشار إليه يقول فيه: إنني خرجت من أقصى بلاد سمرقند ولم يقف أحد أمامي وسائر ملوك البلاد حضروا إلي وأنت سلطت على جماعتي من يشوش عليهم ويقتل من يظفر بهم، والآن قد مشينا عليك بعساكرنا، فإن أشفقت على نفسك ورعيتك فاحضر إلينا لترى من الرحمة والشفقة ما لا مزيد عليه، وإلا نزلنا عليك وخربنا بلدك، وقد قال الله تعالى {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} فاستعد لما يحيط بك إن أبيت الحضور.
فأمسك المشار إليه الرسول وحبسه ولم يلتفت إلى كتاب تمرلنك، فمشى عليه أوائل عسكره فبرز إليه المشار إليه وقابلهم وكسرهم. وفي اليوم الثاني حضر تمرلنك ونزل على قلعة المسلمين فبرز إليه المشار إليه وقاتله قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة، ولما رأى تمرلنك شدة حزمه رجع عن محاربته وأخذ في مخادعته وملاطفته وطلب الصلح وأن يرسل إليه خيلا ومالا لأجل حرمته، فلم ينخدع معه، وتنازل معه إلى أن طلب منه حاميا فلم يعطه وعاد خائبا، وأخذ المشار إليه في أواخره نهبا وقتلا وأسرا، كل ذلك وباب قلعته مفتوح ولم يغلقه يوما، وأنشد فيه لسان الحال:
هذا الأمير الذي صحت مناقبه ... ليث الوغى عمت الدنيا مفاخره
ولّى تمرلنك مكسورا أوائله ... منه فرارا (1) ومذعورا أواخره
وكان حصول تلك السعادة للمشار إليه دون غيره من الملوك وأصحاب الحصون لما كان فيه من العلم والديانة والإخلاص والصيانة ولكونه من السلالة الطاهرة العمرية.
__________
(1) في الأصل: مرارا، ولعل ما أثبتناه هو الصواب.(2/400)
قال ابن عربشاه: لما أتى تيمور إلى قلعة الروم كان نائبها الناصري محمد بن موسى ابن شهري، فأقام بها يوما ثم تركها ورحل عنها إلى عينتاب، وكان نائبها أركماش، فحصنّها واستعد وباشر القتال بنفسه، ثم لما علم أن لا طاقة له بتيمور هرب إلى حلب واستولى تيمور على عينتاب، ثم أرسل وهو في عينتاب رسولا إلى نائب حلب ومعه كتاب له طلب فيه منه أن يطيع أوامره وأن يكفّ عن القتال وأن يسلمه أطلاميش زوج بنت أخت تيمور، وكان هذا أسيرا في مصر كان أسره التركمان وأرسلوه إلى مصر قبل هذه المدة، فلم يجب إلى شيء مما طلبه، وقتل سودون نائب دمشق الذي كان وقتئذ موجودا في حلب مع بقية نواب البلاد الشامية رسول تمرلنك قبل أن يسمع كلامه وضرب رأسه على رؤوس الأشهاد وبئس ما فعل.
قال في روض المناظر: ولما كان يوم الخميس تاسع ربيع الأول نازل الملعون حلب وكان نائبها المقر السيفي دمرداش الخاصكي وقد حضرت إليه عساكر المملكة الشامية، عسكر دمشق مع نائبها سيدي سودون وعسكر طرابلس مع نائبها المقر السيفي شيخ الخاصكي وعسكر حماة مع نائبها دقماق وعسكر صفد وغزة.
قال ابن عربشاه ما خلاصة معناه: ثم إن النواب تشاوروا كيف يكافحون تيمور لنك، فقال البعض: الرأي أن نحصّن البلد ونكون على الأسوار، فإذا جاء العدو نحاربه من الأسوار، فقال له بعض الأمراء: هذا أمارة العجز، والرأي أن نحلق حواليها ونمنع العدو من الوصول إليها ويكون ذلك أفسح للمجال، ثم ذكر كل من الأمراء ما عنّ له في ذلك، ثم قال المقر السيفي شيخ الذي صار ملكا بعد ذلك وكان ذا رأي سديد وهو إذ ذاك نائب طرابلس: إن العدو عظيم أمره كثير عدده، لكنه وإن كان كذلك فهو أعمى لأنه غريب عن البلاد، والرأي عندي أن نحصّن المدينة ونكون خارجها في جانب واحد ثم نحفر حولنا خنادق ونطير إلى الآفاق أجنحة البطايق إلى الأعراب والأكراد والتراكمة وعشرات البلاد فيتسلطون على العدو من الجوانب ويصير بين قاتل وناهب، فإن أقام وأنّى له ذلك ففي شر مقام، وإن تقدم إلينا صافحناه، وإن رجع رجع بخيبة وهو المرام. ووافقه على هذا الرأي شاه منصور.
فقال دمرداش وهو إذ ذاك نائب المدينة: الأولى أن نناجزه والمناضلة خير من المطاولة، وإذا لم نناجزه آنس منّا الوهن وخور العزيمة، وأخذ يحرضهم على ذلك، ومما
قاله: إنا إذا كسرناهم فزنا بالمرام وكفينا عسكر المصريين المؤنة، وإذا كانت الكرة علينا نكون قد بذلنا المجهود وأقمنا عذرا لدى السلطان برقوق.(2/401)
فقال دمرداش وهو إذ ذاك نائب المدينة: الأولى أن نناجزه والمناضلة خير من المطاولة، وإذا لم نناجزه آنس منّا الوهن وخور العزيمة، وأخذ يحرضهم على ذلك، ومما
قاله: إنا إذا كسرناهم فزنا بالمرام وكفينا عسكر المصريين المؤنة، وإذا كانت الكرة علينا نكون قد بذلنا المجهود وأقمنا عذرا لدى السلطان برقوق.
قال ابن عربشاه: ولا زال دمرداش يحسن لهم هذا الرأي الفاسد حتى أجمعوا عليه واتفقوا على الخروج إلى تيمور لنك لأنه كان صاحب البلد وكان في الباطن موافقا لتيمور.
ثم إنهم حصنوا المدينة وأوصدوا أبوابها ووكلوا بكل حارة ومحلة أصحابها وفتحوا البابين المقابلين للجهة التي نزل فيها تيمور لنك وهما باب النصر وباب القناة.
ويوم وصوله وهو يوم الخميس تاسع ربيع الأول برز من عسكر تيمور لنك ألفا رجل فبرز إليهم من العساكر الشامية ثلثمائة فهزمهم هؤلاء.
ويوم الجمعة برز من عسكره نحو من خمسة آلاف فتقدم إليهم طائفة أخرى واشتبك بينهم القتال واشتد وأبلت العساكر الشامية بلاء حسنا، وبقي الحرب إلى المساء، فتراجع الفريقان وقد قتل من عسكر تيمور لنك ولم يقتل من العسكر الشامية سوى رجلين.
ويوم السب حادي عشر ربيع الأول برزت العساكر الشامية وتقدمت عساكر ذاك وكان قد عبأها تحت جنح الليل، فقابل مقدمتهم وشغلهم بأوائلهم وأحاط الباقون بهم فأتوهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمايلهم، فمشى عليهم مشي الموسى على الشعر وسعى سعي الدّبا على الزرع الأخضر، وكان هذا الجولان على قرية حيلان، ثم فرت ميمنة العساكر الشامية وكان رأسها دمرداش فلم يلبث الباقون ساعة من نهار حتى ولّوا الأدبار وعسكر تيمور لنك وراء ظهورهم، فقصدوا المدينة من الأبواب المفتوحة وازدحموا عندها والسيوف تشقهم والرماح تدقهم، فاستدت الأبواب بالقتلى ولم يتمكن الكثيرون من الدخول، فتشتتوا في البلاد، وكسر المماليك باب أنطاكية وخرجوا منه قاصدين بلاد الشام، وصعد النواب إلى القلعة وتحصنوا فيها.
قال ابن إياس: لما بلغ تيمور لنك أن رسوله قتل زحف إلى قرية من قرى حلب يقال لها حيلان واحتاط بمدينة حلب ونهب ما حولها من الضياع، ولما كان يوم السبت حادي عشر ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانمائة خرج عساكر حلب وسائر النوّاب بعساكرهم وأوقعوا مع تمرلنك، فكان بينهم ساعة تشيب منها النواصي وقد دهمتهم عساكر تمرلنك كأمواج البحار المتلاطمة ومالت عليهم كتائب الجنود المتزاحمة، فلم تثبت معهم عساكر حلب وولوا على أعقابهم مدبرين وأقبلوا نحو المدينة منهزمين، وقد داست حوافر الخيل أجساد العامة وحل بهم من البؤس كل داهية طامة. وكان قد احتمى بالمزارات
والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال فدخلوا إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال، وصارت الأبكار تفتض في المساجد ولم يراعوا حرمة المساجد، فلم يرثوا لبكاء الرضع ولم يخشوا دعاء الركّع، وقد صارت المساجد كالمجزرة من القتلى فلا حول ولا قوة إلا بالله.(2/402)
قال ابن إياس: لما بلغ تيمور لنك أن رسوله قتل زحف إلى قرية من قرى حلب يقال لها حيلان واحتاط بمدينة حلب ونهب ما حولها من الضياع، ولما كان يوم السبت حادي عشر ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانمائة خرج عساكر حلب وسائر النوّاب بعساكرهم وأوقعوا مع تمرلنك، فكان بينهم ساعة تشيب منها النواصي وقد دهمتهم عساكر تمرلنك كأمواج البحار المتلاطمة ومالت عليهم كتائب الجنود المتزاحمة، فلم تثبت معهم عساكر حلب وولوا على أعقابهم مدبرين وأقبلوا نحو المدينة منهزمين، وقد داست حوافر الخيل أجساد العامة وحل بهم من البؤس كل داهية طامة. وكان قد احتمى بالمزارات
والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال فدخلوا إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال، وصارت الأبكار تفتض في المساجد ولم يراعوا حرمة المساجد، فلم يرثوا لبكاء الرضع ولم يخشوا دعاء الركّع، وقد صارت المساجد كالمجزرة من القتلى فلا حول ولا قوة إلا بالله.
واستمر هذا الأمر الشنيع يتزايد من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء، فلما رأى دمرداش نائب حلب عين الغلب نزل من القلعة هو وبقية النواب وأخذوا في رقابهم مناديل وتوجهوا إلى تمرلنك يطلبون منه الأمان، فلما مثلوا بين يديه خلع عليهم أقبية مخمل أحمر وألبسهم تيجانا مذهبة وقال لهم: أنتم صرتم نوابي (1)، ثم أرسل معهم جماعة من أمرائه يتسلمون القلعة فاستنزلوا من كان بها وهم في قيود. واستمر مقيما على حلب نحو شهر وعسكره ينهبون القرى التي حول حلب ويقطعون الأشجار التي بها ويهدمون البيوت، وقد أسرفوا في القتل ونهب الأموال، وصارت الأرجل لا تطأ إلا على جثّة إنسان لكثرة القتلى، حتى قيل إنه بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن دور كل مأذنة عشرون ذراعا وصعودها في الهواء مثل ذلك، وجعلوا الوجوه فيها بارزة تسفو عليها الرياح، وتركوا أجساد القتلى في الفلاة تنهشها الكلاب والوحوش، فكان عدة من قتل في هذه الوقعة من أهل حلب من صغار وكبار ونساء ورجال نحوا من عشرين ألف إنسان، هذا خارج عمّا هلك من الناس تحت أرجل الخيول عند اقتحام أبواب المدينة وقت الهزيمة، وهلك من الجوع والعطش أكثر من ذلك.
فلما ملك تمرلنك مدينة حلب والقلعة نهب جميع ما في المدينة والقلعة، ثم رحل عنها بعدما جعلها خاوية على عروشها، وقد تعطلت في مدة هذه المحاصرة عن الأذان والإقامة وعن صلاة الجمعة.
__________
(1) الذي في تاريخ تيمور لابن عربشاه: لما نزل إليه النواب قبض على سيدي سودون وشيخ الخاصكي وألطنبغا العثماني نائب صفد وعمر بن الطحان نائب غزة وقيدهم وخلع على دمرداش فقط مكافأة له على مخامرته كما تقدم.(2/403)
ومما يحكى عن أخبار عسكر تمرلنك فيما فعلوه بعسكر حلب قيل: كانوا يطؤون الأبكار في محراب المساجد وآباؤهن يشاهدون ذلك بعينهم. ولقد حكى من أسر معهم أنهم من حين استولوا على حلب إلى حين رحلوا عنها لم يسمع في عسكرهم أذان وأنهم يجامعون النساء في المحيض ولا يعاودون الوطء إلا بعد اغتسال ولو كان في قلب الشتاء بالماء البارد. وقيل: إن تمرلنك كان يحتجب عن عسكره نحو أسبوعين فلا يجتمع على أحد من عسكره وينعكف على شرب الخمور، ففي مدة انعكافه تنهب عساكره البلاد ويفسقون في أهليها فلم يجدوا من يمنعهم عن ذلك ولا يردهم فيستمروا على ذلك.
أسئلة تيمور لنك والجواب عنها من القاضي ابن الشحنة
قال المحب أبو الوليد بن الشحنة في آخر تاريخه روض المناظر: وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول أخذ القلعة بالأمان والأيمان التي ليس معها إيمان، وفي ثاني يوم صعد إليها، وآخر النهار طلب علماءها وقضاتها فحضرنا إليه فأوقفنا ساعة ثم أمر بجلوسنا، وطلب من معهم من أهل العلم فقال لأمير عنده وهو المولى عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي والده من العلماء المشهورين بسمرقند: قل لهم إني سائلكم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وسائر البلاد التي افتتحتها ولم يوضحوا الجواب، فلا تكونوا مثلهم ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم، وليعرف ما يتكلم به فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة، ولي في طلب العلم طلب قديم. وكان بلغنا أنه يعنت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببا لقتلهم أو تعذيبهم.
فقال القاضي شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي عني: هذا شيخنا ومدرّس هذه البلاد ومفتيها، سلوه والله المستعان.
فقال لي عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قتل منا ومنكم، فمن الشهيد قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا هذا الذي بلغنا عنه من التعنت، فسكت القوم وفتح الله علي بجواب سريع بديع وقلت: هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وأنا مجيب بما أجاب به سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال لي صاحبي القاضي شرف الدين موسى الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة: والله العظيم، لما قلت هذا السؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأجاب عنه وإنه لمحدث
زماننا وعالمنا قد اختل عقلي (1) وهو معذور، فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك، وألقى تيمور لنك سمعه وبصره إلى، وقال لي عبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكيف أجاب؟ قلت: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليعرف مكانه، فأيّنا في سبيل الله؟ فقال عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ومن قاتل منا ومنكم لإعلاء كلمة الله فهو الشهيد. فقال تيمور لنك:(2/404)
فقال لي عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قتل منا ومنكم، فمن الشهيد قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقلنا في أنفسنا هذا الذي بلغنا عنه من التعنت، فسكت القوم وفتح الله علي بجواب سريع بديع وقلت: هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأجاب عنه، وأنا مجيب بما أجاب به سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال لي صاحبي القاضي شرف الدين موسى الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة: والله العظيم، لما قلت هذا السؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأجاب عنه وإنه لمحدث
زماننا وعالمنا قد اختل عقلي (1) وهو معذور، فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك، وألقى تيمور لنك سمعه وبصره إلى، وقال لي عبد الجبار يسخر من كلامي: كيف سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكيف أجاب؟ قلت: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليعرف مكانه، فأيّنا في سبيل الله؟ فقال عليه السلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ومن قاتل منا ومنكم لإعلاء كلمة الله فهو الشهيد. فقال تيمور لنك:
خوب، وقال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت، وانفتح باب المؤانسة. وقال تيمور لنك:
إني رجل نصف آدمي، وقد أخذت بلاد كذا وكذا، وعدّد سائر ممالك العجم والعراق والهند وسائر بلاد التتر، فقلت: اجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة ولا تقتل أحدا، فقال: والله إني لم أقتل أحدا قصدا وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب، وو الله لا أقتل منكم أحدا وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم.
وتكررت الأسئلة منه والأجوبة منّا وطمع كل أحد من الفقهاء والحاضرين وجعل يبادر إلى الجواب ويظنه أنه في المدرسة والقاضي شرف الدين ينهاهم ويقول لهم: اسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول: وآخر سؤال سأل عنه: ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد؟ فأسرّ إلي القاضي شرف الدين وكان إلى جانبي أن اعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي، فلم أفرغ من سماع كلامه إلا وقد قال القاضي علم الدين ابن القفصي الصيفي المالكي كلاما معناه أن الكل مجتهدون، فغضب تيمور لنك لذلك غضبا شديدا وقال: علي على الحق ومعاوية ظالم ويزيد فاسق، وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق وهم يزيدون قتلوا الحسين، فأخذت في ملاطفته بالاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فعاد إلى دون ما كان عليه من البسط، وأخذ عبد الجبار يسأل مني ومن شرف الدين فقال عني: هذا عالم مليح، وعن شرف الدين هذا رجل فصيح، فسألني تيمور لنك عن عمري فقلت: مولدي سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقد بلغت الآن أربعا وخمسين سنة، وقال للقاضي شرف الدين: كم عمرك؟ قال: أنا أكبر منه بسنة، فقال تيمور لنك: أنتم في عمر أولادي، أنا عمري اليوم خمسا وسبعين سنة.
وحضرت صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمّنا عبد الجبار وصلى تيمور لنك إلى جانبي قائما يركع ويسجد، ثم تفرقنا.
__________
(1) في الأصل: عقله، وفي روض المناظر: عقلي.(2/405)
وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة مما لا يحصى. أخبرني بعض كتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قط ما أخذ من هذه القلعة ولا ما يقاربه، وعوقب غالب المسلمين بأنواع العقوبات وحبسوا بالقلعة ما بين مقيد ومزنجر ومسجون ومرسم عليه.
ونزل تيمور لنك من القلعة بدار النيابة وصنع وليمة على زي المغل وقف سائر الملوك والنوابين في خدمته وأدار عليهم كؤوس الخمرة والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر، وجوامعهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش، إلى آخر شهر ربيع الأول طلبني ورفيقي القاضي شرف الدين وأعاد السؤال علينا، فقلت له: الحق كان مع علي وليس معاوية من الخلفاء، فإنه صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الخلافة بعدي ثلاثون، وقد تمت بعلي، فقال تيمورلنك: قل علي على الحق ومعاوية ظالم، فقلت: قال صاحب الهداية: يجوز تقلد القضاء من ولاة الجور، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية وكان الحق مع علي في نوبته، فانسر لذلك وطلب الأمراء الذين عيّنهم للإقامة بحلب وقال لهم: إن هذين الرجلين نزول عندكم بهذه البلدة فأحسنوا إليهما وإلى إلزامهما وأصحابهما ومن ينضم إليهما ولا تمكنوا أحدا من أذيتهما، ورتبوا لهما علوفة، ولا تدعوهما في القلعة بل اجعلوا إقامتهما بالمدرسة يعني السلطانية التي تجاه القلعة. وفعلوا ما وصّاهم به إلا أنهم لم ينزلونا من القلعة وقال لنا الذي ولي الحكم منهم بحلب الأمير موسى بن الحاجي طغاي إني أخاف عليكما والذي فهمته من نسق تيمور أنه إذا أمر بسوء فعل بسرعة ولا محيد عنه وإذا أمر بخير فالأمر فيه لمن وليه.
وفي أول يوم من ربيع الآخر برز إلى ظاهر البلد متوجها نحو دمشق، وثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد فرحنا إليه والمسلمون في أمر مريج وقطع رؤوس، فقلنا ما الخبر فقيل إن تيمور لنك يطلب من عساكره رؤساء من المسلمين على عادته التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها، فلما وصلنا إليه أرسلنا رسولا يقول له إننا قد حضرنا وهو قد حلف أن لا يقتل منا أحدا صبرا، فعاد إليه ونحن ننظره وبين يديه لحم سليق في طبق يأكل منه، فتكلم معه يسيرا، ثم جاء إلينا شخص بشيء من ذلك اللحم فلم نفرغ من أكله إلا وزعجة قائمة وتيمور لنك صوته عال وساق شخص هكذا وآخر هكذا، وجاءنا أمير ليعتذر ويقول إن سلطاننا لم يأمر بإحضار رؤوس المسلمين وإنما أمر بقطع رؤوس القتلى وأن يجعل
منها قبة إقامة لحرمته على جري عادته ففهموا عنه غير ما أراد، وإنه قد أطلقكم فامضوا حيث شئتم. وركب تيمورلنك من ساعته وتوجّه نحو دمشق فعدنا إلى القلعة ورأينا المصلحة في الإقامة بها، وأخذ الأمير موسى في الإحسان إلينا وقبول شفاعتنا وتفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب وقلعتها، وتأتينا الأخبار بأن سلطان المسلمين الملك الناصر فرج قد نزل إلى دمشق وأنه كسر تيمور لنك، ومرة نسمع بالعكس إلى أن انجلت القضية عن توجّه السلطان إلى مصر بعد أن قاتل مع تيمور لنك قتالا عظيما أشرف منه تيمور لنك على الكسر والهزيمة (1)، وإنما حصل من بعض أمرائه خيانة وكان ذلك سبب توجهه إلى مصر أخذا بالحزم. ودخل تمر لنك إلى دمشق ونهبها وحرقها وفعل فيها فوق ما فعل بحلب، ولم يدخل طرابلس بل أحضر له منها مال، ولا جاوز فلسطين وعاد نحو حلب راجعا طالبا بلاده.(2/406)
وفي أول يوم من ربيع الآخر برز إلى ظاهر البلد متوجها نحو دمشق، وثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد فرحنا إليه والمسلمون في أمر مريج وقطع رؤوس، فقلنا ما الخبر فقيل إن تيمور لنك يطلب من عساكره رؤساء من المسلمين على عادته التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها، فلما وصلنا إليه أرسلنا رسولا يقول له إننا قد حضرنا وهو قد حلف أن لا يقتل منا أحدا صبرا، فعاد إليه ونحن ننظره وبين يديه لحم سليق في طبق يأكل منه، فتكلم معه يسيرا، ثم جاء إلينا شخص بشيء من ذلك اللحم فلم نفرغ من أكله إلا وزعجة قائمة وتيمور لنك صوته عال وساق شخص هكذا وآخر هكذا، وجاءنا أمير ليعتذر ويقول إن سلطاننا لم يأمر بإحضار رؤوس المسلمين وإنما أمر بقطع رؤوس القتلى وأن يجعل
منها قبة إقامة لحرمته على جري عادته ففهموا عنه غير ما أراد، وإنه قد أطلقكم فامضوا حيث شئتم. وركب تيمورلنك من ساعته وتوجّه نحو دمشق فعدنا إلى القلعة ورأينا المصلحة في الإقامة بها، وأخذ الأمير موسى في الإحسان إلينا وقبول شفاعتنا وتفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب وقلعتها، وتأتينا الأخبار بأن سلطان المسلمين الملك الناصر فرج قد نزل إلى دمشق وأنه كسر تيمور لنك، ومرة نسمع بالعكس إلى أن انجلت القضية عن توجّه السلطان إلى مصر بعد أن قاتل مع تيمور لنك قتالا عظيما أشرف منه تيمور لنك على الكسر والهزيمة (1)، وإنما حصل من بعض أمرائه خيانة وكان ذلك سبب توجهه إلى مصر أخذا بالحزم. ودخل تمر لنك إلى دمشق ونهبها وحرقها وفعل فيها فوق ما فعل بحلب، ولم يدخل طرابلس بل أحضر له منها مال، ولا جاوز فلسطين وعاد نحو حلب راجعا طالبا بلاده.
ولما كان سابع عشر شهر شعبان من السنة المذكورة وصل تيمور لنك عائدا من الشام إلى الجبّول شرقي حلب، ولم يدخل حلب بل أمر المقيمين بها من جهته بتخريب القلعة وإحراق المدينة، ففعلوا ونزلوا من القلعة. وطلبني الأمير السيد عز الدين وكان من أكبر أمرائه وقال: إن الأمير تيمورقان يسلم عليك ويقول: إن عنده مثلك كثيرا، وهذه البلاد باب مكة وليس بها عالم، فلتكن أنت بها، وقد رسم بإطلاقك ومن معك من القضاة فاطلب من شئت وأكثر لأروح معكم إلى مشهد الحسين وأقيم عندكم حتى لا يبقى من عساكرنا أحد. وكان القاضي شرف الدين موسى لا يفارقني، وطلبنا من تأخر من القضاة بالقلعة واجتمع منا نحو ألفي مسلم وتوجهنا صحبة المشار إليه لمشهد الحسين وأقمنا به ننظر إلى حلب والنار تضرم في أرجائها، وبعد ثلاثة أيام لم يبق من التتار أحد، ونزلنا إلى بيوتنا بالمدينة فاستوحشنا منها ولم يقدر أحد منا على الإقامة ببيته من النتن والوحشة ولا يمكن السلوك في الأزقة من ذلك، كما قال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وكانت نواب الشام معه مأسورين فانفلتوا منه أولا بأول، وكان السيفي دمرداش الخاصكي حين انفلت منه من حماة حال توجهه إلى نحو دمشق توجه نحو السلطان واتفق
__________
(1) من قوله وإنما حصل إلى قوله طالبا بلاده سقط من النسخة المطبوعة على هامش الكامل وهي موجودة في نسخة خطية.(2/407)
على ما تقدم أولا، وجاءه تقليد شريف من السلطان باستمراره في نيابة حلب، فدخلها وأخذ في عمارتها ورمم دار النيابة وسكن بها، وتراجعت الناس. وأما نائب الشام فإنه مات مبطونا واستقر في نيابة دمشق الأمير تغري بردي.
قال الدحلاني: وفي سنة سبع وثمانمائة كان هلاك تيمور لنك بمدينة أنزار وحملوه إلى سمرقند ودفنوه بها وعمره قد جاوز ثمانين سنة ومدة ملكه نحو ست وثلاثين سنة، وتملك بعده حفيده خليل بن أمير شاه بن تيمور ومكث قليلا وهلك، وتفرق ملكهم بأيدي المتغلبين، وتغلب على بغداد ملوك التركمان إلى أن انتزعها منهم إسماعيل شاه سلطان العجم، ثم انتزعتها منه الدولة العثمانية، والبقاء لله وحده، وبقي لتيمور عقب كان منهم سلاطين في الهند اه.
سنة 804
ذكر تولية حلب للأمير دقماق المحمدي
قال ابن إياس: في هذه السنة أرسل السلطان إلى دقماق المحمدي نائب حماة بأن يستقر نائب حلب عوضا عن المقر السيفي دمرداش المحمدي، ورسم لدمرداش المحمدي بأن يحضر إلى القاهرة لما تقتضيه الآراء الشريفة. (ثم قال):
وفيها جاءت الأخبار من حلب بأن الأمير دقماق المحمدي لما استقر نائب حلب وتوجه إليها خرج إليه دمرداش نائب حلب وواقع معه واقعة قوية، فانكسر دمرداش ونهب بركه وهرب إلى ملطية. (وفي تحف الأبناء) أنه قبض عليه وأرسله إلى القاهرة وهو الأصح، لأنه عيّن سنة خمس لنيابة طرابلس كما في روض المناظر.
قال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة الأمير دقماق: إنه ولي حلب سنة أربع وثمانمائة وهرب منها في سنة ست لما استشعر بالقبض عليه، فقرر غيره في نيابتها فلم يلبث أن مات، فعاد دقماق إليها ففرّ منه حاجبها واستنجد بمن ساعده على محاصرته، فما نهض دقماق لمقاومته لغلبة من معه، ففرّ إلى جهة التركمان وأرسل يطلب الأمان فأجيب وأعطي نيابة حماة ثانيا إلى أن قتله جكم صبرا بظاهرها في رجب أو شعبان سنة ثمان ونفرت القلوب من قاتله، وكان أميرا جليلا كريما شجاعا ذا شكالة مليحة وخلق حسن متواضعا قريبا من الناس مع حشمة ورياسة وعدل في الرعية وعفة عن أموالهم، أنشأ تربة خارج حلب ووقف عليها وقفا.(2/408)
سنة 806
ذكر تولية حلب للأمير علاء الدين أقبغا ووفاته بها وعود دمرداش المحمدي لنيابة حلب
قال في روض المناظر: فيها استقر الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الهذباني نائب حلب عائدا إليها، فعاد وأقام قليلا، ومات بحلب ودفن بتربته التي أنشأها بسوق الخيل، واستقر في نيابة حلب السيفي دمرداش عائدا إليها.
قال السخاوي في الضوء اللامع: عاد الأمير علاء الدين أقبغا إلى حلب بعد دقماق واستمر على نيابتها أربعين يوما، ثم مات في ليلة الجمعة سابع عشري جمادى الثانية سنة ست ودفن قبل الصلاة بتربته التي أنشأها داخل جامعه، وكان ساكنا عاقلا قليل الشر مائلا إلى الخير، ذكره ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا اه.
أقول: كانت وفاته قبل إكمال عمارة الجامع، وأكمله دمرداش في ولايته سنة 811 وسيأتي الكلام عليه ثمة. وقبر أقبغا لا زال موجودا في تربته عن يمين الداخل إلى الجامع، وللتربة قبة مرتفعة البناء جدا وهي من الحجر المنحوت كتب في أعلاها بين الكوتين (صنعه جعفر بن أبي غانم رحمه الله) وللتربة أربع شبابيك اثنان من الجهة الشمالية واثنان من الجهة الغربية، واللذان من هذه الجهة عليهما من الخارج كتابات تعسّر علي قراءتها، ومكتوب في ذيل المنارة عن يسار قنطرة باب الجامع الغربي (أنشأه العبد الفقير إلى الله تعالى أقبغا الظاهري غفر الله له).
قال في روض المناظر: وفيها كانت زلزلة عظيمة بحلب وبلاد كثيرة وخربت منها أماكن كثيرة، وتبع ذلك زلازل عديدة أخف منها فاجتمعت الزلازل والفتن، وإنما تتكاثر الزلازل والفتن بين يدي الساعة، والظاهر أن الأمر قد قرب والدنيا على فراغ، فالزلازل يخوّف الله بها أهل المعاصي وتؤذن بزلزلة القيامة، تنشأ في بعض الأرض كما تنشأ الرعدة للمحموم. وزلزلة الأرض إما لأن الله تعالى يطلع عليها فتتزلزل هيبة وفزعا، وإما لأن الحوت
الذي عليه الأرض يتحرك بعضه (1)، وإما أن يعمل عليها المعاصي والخطايا فتتزلزل غضبا للرب والله أعلم (2).(2/409)
قال في روض المناظر: وفيها كانت زلزلة عظيمة بحلب وبلاد كثيرة وخربت منها أماكن كثيرة، وتبع ذلك زلازل عديدة أخف منها فاجتمعت الزلازل والفتن، وإنما تتكاثر الزلازل والفتن بين يدي الساعة، والظاهر أن الأمر قد قرب والدنيا على فراغ، فالزلازل يخوّف الله بها أهل المعاصي وتؤذن بزلزلة القيامة، تنشأ في بعض الأرض كما تنشأ الرعدة للمحموم. وزلزلة الأرض إما لأن الله تعالى يطلع عليها فتتزلزل هيبة وفزعا، وإما لأن الحوت
الذي عليه الأرض يتحرك بعضه (1)، وإما أن يعمل عليها المعاصي والخطايا فتتزلزل غضبا للرب والله أعلم (2).
سنة 807
ذكر عصيان الأمير جكم والأمير شيخ
قال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمة جكم: إنه اعتقل بقلعة المرقب، ثم نقل إلى حلب فحبس بدار العدل، ثم نقل إلى غيرها، ثم أطلق وآل أمره إلى أن ملك حلب (تغلّب على نائبها الأمير دمرداش)، ثم اتفق هو وجماعة من الأمراء على العصيان ووصلوا إلى الصالحية (بدمشق) فخرج الملك الناصر فكانت الكسرة على عسكره ورجع هاربا، ثم كرّ عليهم العسكر المصري ثانيا فكانت النصرة لهم، وآل أمر جكم إلى أن أخذ هو وشيخ دمشق ودخلاها واستمرا بها مدة، ثم أخذ أيضا حماة.
سنة 808
ذكر خلع الملك الناصر فرج وسلطنة أخيه أبي العز عبد العزيز ثم ظهور الملك الناصر وعوده إلى الملك وخلع أخيه
قال ابن إياس ما خلاصته: لما عصى الأمير جكم العوضي ومعه جماعة من الأمراء اضطربت أحوال الملك الناصر وضاقت عليه الأمور وآل الأمر إلى اختفائه وسلطنة أخيه أبي العز عبد العزيز، إلا أنه لم يتم أمره في السلطنة ولا ساعدته الأقدار، فبقي في السلطنة شهرين وعشرة أيام، ثم ظهر الملك الناصر وأعيد إلى كرسي السلطنة وخلع أبو العز عبد
__________
(1) يظهر أن ابن الشحنة ليس من أبناء هذا الفن حتى تسربت إلى فكره هذه الخرافة.
(2) أقول: بهذه العبارة نهاية تاريخ روض المناظر المطبوع على هامش ابن الأثير، وفي النسخة الخطية التي أمامنا زيادة ثماني ورقات بعد هذه العبارة فيها ذكر الملاحم والفتن وأشراط الساعة، وكلها أهملت في الطبع، ويظهر أن ذلك لانتهاء تاريخ ابن الأثير أو لأن للملاحم والفتن وأشراط الساعة ذكرا في كثير من كتب الحديث وغيرها، وكيفما كان فإن هذا ليس بصواب من أرباب المطابع.(2/410)
العزيز، وذلك رابع جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانمائة.
قال السخاوي في ترجمة جكم: بعد أن استولى جكم على حماة ظهر الملك الناصر فرج وتسلطن فجهز تقليدا لشيخ بنيابة دمشق وجكم بحلب، ثم أضيف إليه نيابة الرها وملك عدة قلاع اه.
ويستفاد من كلام السخاوي في ترجمة الأمير علان اليحياوي أنه كان نائبها في هذه السنة وخلفه جكم.
قال ابن إياس: لما توجه جكم إلى حلب واستقر بها نائبا أظهر العصيان والمخامرة على السلطان وباس له الأمراء الأرض وتلقب بالملك العادل وصار واضع اليد على البلاد الحلبية، وأخرج أوقاف الناس وجعلها إقطاعات وفرقها مثالات على عسكر حلب، وصار يحكم من الشام إلى الفرات فانتزعت يد الملك الناصر من البلاد الشامية والحلبية. قال السخاوي: قطع جكم الخطبة للناصر وخطب باسمه وضربت السكة باسمه.
ذكر عصيان فارس بن صاحب الباز التركماني سنة 806وما كان من أمره إلى أن قتل سنة 808
قال ابن الخطيب: فارس بن صاحب الباز التركماني أمير التركمان بناحية العمق، كان أبوه من أمراء التركمان بالناحية المذكورة ثم نشأ هو، فلما انزاح التتار عن البلاد كثر جمعه فاستولى على أنطاكية وتلك الناحية، ثم قوي أمره عند خلف العساكر بالشام ومصر واستولى على القصير وبلاده وديركوش، ثم إن الأمير دمرداش خرج إليه بعساكر حلب فوصل إلى جب العميان موضع بناحية العمق بين القصير وأنطاكية، والتقى الفريقان هناك يوم الاثنين ثامن أو تاسع المحرم سنة ست وثمانمائة، فكسر الأمير دمرداش وعسكر حلب وقتل منهم جماعة وبعض الأمراء المقدمين، ودخل الأمير دمرداش إلى حلب بكرة عيد الأضحى فقوي أمر ابن صاحب الباز جدا.
ثم إن الأمير دمرداش جمع العسكر وتوجه إلى أنطاكية لقتال ابن صاحب الباز ثانيا، وذلك في سنة سبع وثمانمائة، وكتب إلى الأمير علي باك بن ذي الغادر وإلى الأمير
أحمد بن رمضان مقدمي التركمان بالبلاد الشمالية يستنجد بهما على ابن صاحب الباز، فوافياه على أنطاكية، فدخل ابن صاحب الباز إلى أنطاكية ومعه الأمير جكم وتحصّن بها، فأقام العسكر عليها مدة ولم يظفروا منها بطائل، ثم رجع عنها الأمير دمرداش حين بلغه الخبر أن المصريين اختلفوا وهرب منهم جماعة من الأمراء الكبار ووصلوا إلى دمشق، ودخل الأمير دمرداش إلى حلب بالعسكر فاستفحل أمر فارس بن صاحب الباز وعظم شأنه واستولى على البلاد الغربية بأسرها ووصل إلى أطراف جبل سمعان وتوجه إلى جماعة من جند حلب وأقاموا عنده لأجل إقطاعاتهم، وكذلك استولى على جانب من بلاد طرابلس كصهيون وناحيتها وصار له من باب الملك صهيون وبرزية وأطراف بلد سرمين وأطراف جبل سمعان، وبقي نوّاب حلب ليس لهم حكم في تلك البلاد بالكلية وصاروا كالمحصورين، فإن هذه البلاد التي استولى عليها هي التي كانت عامرة من أعمال حلب وهي أنطاكية والقصير والشغر وديركوش وتيزين وحارم وبغراس والحلقة وسائر أعمالها وبرزية وصهيون واللاذقية وجبلة وتلك النواحي، وعجز النوّاب عن دفعه للخلف وقلة العسكر، وصار ابن صاحب الباز في عسكر عظيم إلى أن قدّر الله تعالى بتولية جكم نيابة حلب من قبل السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، فدخل حلب واستمر بها أياما ثم أخذته الأنفة والحمية، فجمع عسكر حلب وجماعة من غير العسكر من أهل حلب رجّالة وخيّالة، وخرج من حلب متوجها لقتال ابن صاحب الباز واستنقاذ البلاد منه بعد أن جهز يطلب منه البلاد، فلم يجب إلى ذلك وجمع وحشد وتوجّه نحو حلب فوصل إلى أرتاح، فوصل إليه الأمير جكم بعساكره وجمائعه وتصافا وتقاتلا، فانكسر ابن صاحب الباز وهزمه الله تعالى فولى هاربا نحو أنطاكية، وذلك في أوائل شوال سنة ثمان وثمانمائة، ونهب الأمير جكم والعسكر الحلبي جميع ما مع التركمان واستمر فارس هاربا إلى أن دخل أنطاكية، فتوجه إليه الأمير جكم بمن معه من العساكر وحاصره بأنطاكية مدة.(2/411)
ثم إن الأمير دمرداش جمع العسكر وتوجه إلى أنطاكية لقتال ابن صاحب الباز ثانيا، وذلك في سنة سبع وثمانمائة، وكتب إلى الأمير علي باك بن ذي الغادر وإلى الأمير
أحمد بن رمضان مقدمي التركمان بالبلاد الشمالية يستنجد بهما على ابن صاحب الباز، فوافياه على أنطاكية، فدخل ابن صاحب الباز إلى أنطاكية ومعه الأمير جكم وتحصّن بها، فأقام العسكر عليها مدة ولم يظفروا منها بطائل، ثم رجع عنها الأمير دمرداش حين بلغه الخبر أن المصريين اختلفوا وهرب منهم جماعة من الأمراء الكبار ووصلوا إلى دمشق، ودخل الأمير دمرداش إلى حلب بالعسكر فاستفحل أمر فارس بن صاحب الباز وعظم شأنه واستولى على البلاد الغربية بأسرها ووصل إلى أطراف جبل سمعان وتوجه إلى جماعة من جند حلب وأقاموا عنده لأجل إقطاعاتهم، وكذلك استولى على جانب من بلاد طرابلس كصهيون وناحيتها وصار له من باب الملك صهيون وبرزية وأطراف بلد سرمين وأطراف جبل سمعان، وبقي نوّاب حلب ليس لهم حكم في تلك البلاد بالكلية وصاروا كالمحصورين، فإن هذه البلاد التي استولى عليها هي التي كانت عامرة من أعمال حلب وهي أنطاكية والقصير والشغر وديركوش وتيزين وحارم وبغراس والحلقة وسائر أعمالها وبرزية وصهيون واللاذقية وجبلة وتلك النواحي، وعجز النوّاب عن دفعه للخلف وقلة العسكر، وصار ابن صاحب الباز في عسكر عظيم إلى أن قدّر الله تعالى بتولية جكم نيابة حلب من قبل السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، فدخل حلب واستمر بها أياما ثم أخذته الأنفة والحمية، فجمع عسكر حلب وجماعة من غير العسكر من أهل حلب رجّالة وخيّالة، وخرج من حلب متوجها لقتال ابن صاحب الباز واستنقاذ البلاد منه بعد أن جهز يطلب منه البلاد، فلم يجب إلى ذلك وجمع وحشد وتوجّه نحو حلب فوصل إلى أرتاح، فوصل إليه الأمير جكم بعساكره وجمائعه وتصافا وتقاتلا، فانكسر ابن صاحب الباز وهزمه الله تعالى فولى هاربا نحو أنطاكية، وذلك في أوائل شوال سنة ثمان وثمانمائة، ونهب الأمير جكم والعسكر الحلبي جميع ما مع التركمان واستمر فارس هاربا إلى أن دخل أنطاكية، فتوجه إليه الأمير جكم بمن معه من العساكر وحاصره بأنطاكية مدة.
ثم بلغ الأمير جكم أن الأمير نعير بن جبار متوجه إليه نجدة لابن صاحب الباز، فترك جكم أنطاكية وتوجه بعساكره إلى جهة نعير فوصل بلد سرمين، ثم نزل على قرية زيتان من نهريات حلب القبلية واتفق بينه وبين نعير وقعة حكيناها في ترجمة الأمير جكم. ثم لمّا فرغ الأمير جكم من قتالهم رجع من فوره إلى جهة أنطاكية ولم يدخل حلب، فوجد ابن صاحب الباز قد تجمع ونزل على جسر الحديد من جهة الغرب وقطع الجسر، فنزل
جكم من شرقي الجسر واستمر يحاصره أياما، وشرع الأمير جكم في حفر نهر ليحول العاصي ويدخل إليهم وأوهمهم بذلك، وكتب إلى ابن رمضان (صاحب مرعش) لينجده وكتب ابن صاحب الباز إلى ابن رمضان أيضا وهو شهاب الدين أحمد لينجده، فجاء ابن رمضان فخافه ابن صاحب الباز فهرب إلى جهة القصير وصعد القلعة وتحصّن بها هو وجماعته، فتوجه إليه الأمير جكم بعساكره وحاصره بقلعة القصير أياما. ثم إن ابن صاحب الباز طلب الأمان من جكم فأعطاه الأمان ونزل إليه من القلعة فاستمر عنده أياما ثم سلمه إلى الأمير غازي بن أوزر وكان بينه وبين ابن صاحب الباز عداوة وكان ابن صاحب الباز قد قتل بعض جماعة ابن أوزر فقتله غازي ابن أوزر وقتل معه ابنه وغيره من جماعته، وذلك في شوال أو ذي القعدة سنة ثمان وثمانمائة.(2/412)
ثم بلغ الأمير جكم أن الأمير نعير بن جبار متوجه إليه نجدة لابن صاحب الباز، فترك جكم أنطاكية وتوجه بعساكره إلى جهة نعير فوصل بلد سرمين، ثم نزل على قرية زيتان من نهريات حلب القبلية واتفق بينه وبين نعير وقعة حكيناها في ترجمة الأمير جكم. ثم لمّا فرغ الأمير جكم من قتالهم رجع من فوره إلى جهة أنطاكية ولم يدخل حلب، فوجد ابن صاحب الباز قد تجمع ونزل على جسر الحديد من جهة الغرب وقطع الجسر، فنزل
جكم من شرقي الجسر واستمر يحاصره أياما، وشرع الأمير جكم في حفر نهر ليحول العاصي ويدخل إليهم وأوهمهم بذلك، وكتب إلى ابن رمضان (صاحب مرعش) لينجده وكتب ابن صاحب الباز إلى ابن رمضان أيضا وهو شهاب الدين أحمد لينجده، فجاء ابن رمضان فخافه ابن صاحب الباز فهرب إلى جهة القصير وصعد القلعة وتحصّن بها هو وجماعته، فتوجه إليه الأمير جكم بعساكره وحاصره بقلعة القصير أياما. ثم إن ابن صاحب الباز طلب الأمان من جكم فأعطاه الأمان ونزل إليه من القلعة فاستمر عنده أياما ثم سلمه إلى الأمير غازي بن أوزر وكان بينه وبين ابن صاحب الباز عداوة وكان ابن صاحب الباز قد قتل بعض جماعة ابن أوزر فقتله غازي ابن أوزر وقتل معه ابنه وغيره من جماعته، وذلك في شوال أو ذي القعدة سنة ثمان وثمانمائة.
آثاره:
وكان ابن صاحب الباز أميرا كبيرا فارسا شجاعا، بنى بأنطاكية مدرسة بحضرة مقام سيدي حبيب النجار رضي الله عنه، ولما قتل عادت البلاد التي استولى عليها كل بلد إلى معاملته وانكسرت شوكة التركمان ولله الحمد اه.
ذكر تولية حلب للأمير جركس سيف الدين القاسمي
قال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمته: ولاه الملك الناصر نيابة حلب عوضا عن دمرداش في سنة تسع وثمانمائة ولم يقم بها إلا مدة إقامة الناصر بها يوما أو يومين ورجع معه إلى القاهرة خوفا من جكم اه.
وفي تحف الأنباء أن الملك الناصر توجه في هذه السنة إلى دمشق ثم منها إلى حلب، فلما دخلها قرر في نيابتها جركس القاسمي وجعله نائب السلطنة بها، فلما بلغ جكم مجيء السلطان إلى حلب أخذ نوروز الحافظي وتمربغا المشطوب وعدى الفرات، ولما توجه السلطان من حلب إلى دمشق رجع جكم ونوروز إلى حلب وملكاها وفرّ منها جركس وتسلطن جكم بها، ولما بلغه مسير السلطان من دمشق إلى مصر سار إلى دمشق فملكها وفرّ منها نائبها شيخ وتسلطن بها كما فعل بجلب وتلقب بالملك العادل أبي الفتوحات، فعند ذلك تحرّك عليه قرايلك وكثير من التركمان فتحسن ببال جكم مسيره إليهم، فسار إلى قرب ماردين وتحارب معهم فانكسر عسكر قرايلك وانهزم إلى أن أتى نحو آمد، فتبعه جكم
في عسكر قليل ودخل أرضا مضيقة لا يسعه الفرار منها فانحصر فيها وسقط عن فرسه فتقدم إليه بعض التركمان فقطع رأسه.(2/413)
وفي تحف الأنباء أن الملك الناصر توجه في هذه السنة إلى دمشق ثم منها إلى حلب، فلما دخلها قرر في نيابتها جركس القاسمي وجعله نائب السلطنة بها، فلما بلغ جكم مجيء السلطان إلى حلب أخذ نوروز الحافظي وتمربغا المشطوب وعدى الفرات، ولما توجه السلطان من حلب إلى دمشق رجع جكم ونوروز إلى حلب وملكاها وفرّ منها جركس وتسلطن جكم بها، ولما بلغه مسير السلطان من دمشق إلى مصر سار إلى دمشق فملكها وفرّ منها نائبها شيخ وتسلطن بها كما فعل بجلب وتلقب بالملك العادل أبي الفتوحات، فعند ذلك تحرّك عليه قرايلك وكثير من التركمان فتحسن ببال جكم مسيره إليهم، فسار إلى قرب ماردين وتحارب معهم فانكسر عسكر قرايلك وانهزم إلى أن أتى نحو آمد، فتبعه جكم
في عسكر قليل ودخل أرضا مضيقة لا يسعه الفرار منها فانحصر فيها وسقط عن فرسه فتقدم إليه بعض التركمان فقطع رأسه.
سنة 709
قتل جكم الذي تسلطن بحلب وحمل رأسه إلى مصر
في هذه السنة قتل جكم. قال ابن إياس: وكان سبب ذلك أن خارجا من التركمان من أولاد قرا يوسف خرج عليه، فخرج إليه جكم مع العساكر الحلبية فالتقى معه فكان بينهم واقعة عظيمة، فقتل من الفريقين ما لا يحصى عددهم وفقد جكم العوضي في المعركة ولا يعلم له خبر ولا عرف كيف قتل. وقال قبل ذلك: إنه قتل في المعركة بين بساتين آمد ولا يعلم من قتله وإن ابن نعير (أمير العرب) أرسل إلى السلطان رأس جكم العوضي الذي تسلطن بحلب فعلقت رأسه على باب زويلة وكان له يوم مشهود وكفى الملك الناصر شره.
قال السخاوي: كان قتل جكم في ذي القعدة سنة تسع، وكان مهابا شجاعا مقداما مدبرا له حرمة ومهابة، ممدحا مائلا لمجالسة العلماء ومذاكرتهم مصغيا لنظم الشعر محبا لسماعه، بل ويجيز عليه الجوائز السنية، ويحب الإنصاف ولا يتمكن أحد معه من الفساد، طوّل ابن خطيب الناصرية ثم شيخنا (ابن حجر) ترجمته وكذا المقريزي في عقوده اه.
سنة 710
ذكر تغلب تيمور بغا المشطوب على حلب
قال السخاوي في ترجمته: إن تيمور بغا المشطوب التف مع جكم وذهب معه إلى قرايلك وقاسى هناك شدة، ثم تخلص وجاء إلى حلب والتف عليه بعض الظاهرية وغيرهم، واستولى على حلب مدة ثم التحق بشيخ ونوروز حين توجههما إلى مصر للاستيلاء عليها فمات بأرض البلقاء من الشام وهو معهما.
سنة 711
ذكر إعادة دمرداش لنيابة حلب
قال ابن إياس ما خلاصته: لما توجه شيخ ونوروز إلى مصر آل الأمر إلى
انكسارهما. ثم إن السلطان أرسل تقليدا إلى شيخ بنيابة الشام وتقليدا إلى دمرداش بنيابة حلب، ثم عين نوروز إلى القدس بطالا، ثم كتب إلى دمرداش نائب حلب بالحضور.(2/414)
قال ابن إياس ما خلاصته: لما توجه شيخ ونوروز إلى مصر آل الأمر إلى
انكسارهما. ثم إن السلطان أرسل تقليدا إلى شيخ بنيابة الشام وتقليدا إلى دمرداش بنيابة حلب، ثم عين نوروز إلى القدس بطالا، ثم كتب إلى دمرداش نائب حلب بالحضور.
ذكر إكمال دمرداش لجامع الأطروش والكلام عليه
قال في الدر المنتخب: ومنها جامع آق بغا الأطروشي نائب حلب ثم دمشق بحضرة سوق الخيل، وكان مكانه سوق الغنم، ابتدأ بأساسه سنة واحد وثمانمائة وبنى حيطانه وقطع له عمدا من الرخام الأصفر البعاديني وهي عمد عظيمة، وبنى له تربة داخل باب الجامع ووقف عليها أوقافا، ثم صرف عن نيابة حلب وانتقل إلى طرابلس ودمشق، ثم عاد إلى حلب ثانيا ومات بها سنة ست وثمانمائة قبل أن يكمل عمارة الجامع المذكور، فكمل عمارته دمرداش نائب حلب ووقف عليه فهو الآن يعرف بكل منهما وهو جامع حسن وبه تصلي نواب حلب العيدين، وكانوا قديما يصلونهما بجامع ألطنبغا اه.
أقول: موقع الجامع في المحل المعروف بسوق الجمعة بين المحلة المعروفة بالقصيلة والمحلة المعروفة بساحة الملح ومشتهر بين الناس الآن بجامع الأطروش ولا يعرف بغير هذا الاسم، وله بابان عظيمان باب من جهة الغرب وباب من جهة الشمال.
المكتوب على الباب الأول:
1 - عمّر هذا الجامع المقر الأشرف العالي المولوي العالمي العادلي المخدومي الكافلي السيفي دمرداش الناصري
2 - مولانا ملك الأمراء أبو المساكين والفقراء كافل المملكتين الشريفتين الحلبية والطرابلسية أعزّ الله أنصاره وضاعف اقتداره بمحمد وآله
3 - ابتغاء لوجه الله تعالى في العشر الأخير من شوال المبارك سنة أحد عشر وثمانمائة من الهجرة النبوية.
والمكتوب على الباب الشمالي:
1 - عمّر هذا الجامع المبرور ابتغاء لوجه الله تعالى المقر الأشرف العالي المولوي المخدومي الكافلي
2 - السيفي دمرداش الناصري مولانا ملك الأمراء كافل المملكتين الشريفتين الحلبية والطرابلسية أعزّ الله أنصاره وضاعف اقتداره.(2/415)
3 - بمحمد وآله بتولي العبد الفقير إلى الله تعالى يوسف الأشرفي. وكان الفراغ منه سلخ شعبان المكرم من سنة اثني عشر وثمانماية.
طول صحن الجامع تسعة وعشرون ذراعا وعرضه ثمانية عشر ونصف ذراع، وطول القبلية خمسون ذراعا وعرضها مع السواري ثمانية عشر ذراعا، وفي آخرها من جهة الشرق مقصورتان معدتان لصلاة الأمراء، وله ثلاثة أروقة شرقا وغربا وشمالا، لها عشر أسطوانات عرض الأسطوانية نحو ثلاثة أذرع ومجموع محيطها أحد عشر ذراعا، وعلى الأسطوانتين اللتين عن يمين باب الجامع الشمالي رسم ربع دائرة فيها خطوط يعرف منها وقتا الظهر والعصر، وعرض الرواقين الشرقي والغربي عشرون ذراعا ونصف ذراع.
وكان المتولي عليه شخص يقال له السيد حسن، ثم انتقلت التولية منه إلى عبد الوهاب درويش، ثم إلى الشيخ محمد الهيراتي، ثم إلى الشيخ محمد الخيّاط، ثم إلى الحاج أحمد الجاموس، وذلك منذ نحو أربعين سنة، وفي زمنه أزال عن سطح القبلية أتربة عظيمة كانت عليه ولم يجعل له مزاريب تذهب بالماء فثقل التراب عليه فأدى إلى سقوط السقف جميعه. ثم ولي عليه الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب فلم يتمكن من إعادة السقف إلى ما كان عليه لاحتياجه إلى نفقة كثيرة لا تقوم بها واردات وقف الجامع، فأهمل أمره لهذا السبب فأدى ذلك إلى سقوط جداري القبلية القبلي والشمالي وامتلأ صحنه بالأتربة والأحجار وتعطلت إقامة الصلاة فيه، وفي القبلية أربعة عواميد ضخمة جدا طويلة، وحينما وقع السقف تكسر منها عمودان وبقي عمودان.
وفي السنة الماضية وهي سنة 1341اهتم بأمر هذا الجامع أهل محلة القصيلة ومحلة ساحة الملح وفي مقدمتهم الشيخ عبد اللطيف الخياط، وجمعوا له من أنفسهم ومن أهل الخير 165ألفا من القروش الرائجة وأقاموا جدار القبلية القبلي وأعادوه إلى ما كان عليه وبنوا مكان العمودين اللذين تكسرا ساريتين وأصلحوا المنارة حيث وضعوا لها سقفا ودرابزينا لأنها كانت بدون سقف، وبلغ مجموع النفقة إلى الآن 130ألفا، ولا زال العمل قائما فيه شكر الله سعيهم.
وبعد وفاة متوليه مفتي حلب في السنة الماضية أيضا استلمت دائرة الأوقاف الجامع مع أوقافه التي هي عبارة عن خمس دكاكين بين الجامع وبينها عرصة واسعة على طول قبلية الجامع تعود له يبلغ وارداتها 15ليرة عثمانية ذهبا، وله أحكار في سوق القصيلة وفي محلة
ألطنبغا والأعجام يبلغ ريعها 6ليرات، وأراض في سوق الجمعة. وقد عزمت دائرة الأوقاف على صرف مائتي ألف قرش لإكمال الجامع وإعادته إلى حالته الأولى، وعزم أهل المحلتين على بناء عشر دكاكين بين الجامع وبين الدكاكين الخمس التي أشرنا إليها واتخاذ خان وراء هذه الدكاكين وإضافة الجميع إلى أوقاف الجامع وفّقهم الله إلى تحقيق أمانيهم.(2/416)
وبعد وفاة متوليه مفتي حلب في السنة الماضية أيضا استلمت دائرة الأوقاف الجامع مع أوقافه التي هي عبارة عن خمس دكاكين بين الجامع وبينها عرصة واسعة على طول قبلية الجامع تعود له يبلغ وارداتها 15ليرة عثمانية ذهبا، وله أحكار في سوق القصيلة وفي محلة
ألطنبغا والأعجام يبلغ ريعها 6ليرات، وأراض في سوق الجمعة. وقد عزمت دائرة الأوقاف على صرف مائتي ألف قرش لإكمال الجامع وإعادته إلى حالته الأولى، وعزم أهل المحلتين على بناء عشر دكاكين بين الجامع وبين الدكاكين الخمس التي أشرنا إليها واتخاذ خان وراء هذه الدكاكين وإضافة الجميع إلى أوقاف الجامع وفّقهم الله إلى تحقيق أمانيهم.
وجدار الجامع الغربي الذي لم يزل محفوظا هو والمنارة من حين تأسيس الجامع يعدّ هو والشبابيك التي فيه وبابا الجامع في جملة الآثار العربية القديمة المهمة بالنظر لحسن بنائه وإحكامه ولطيف نقوشه، وهو موضع إعجاب الغربيين به، وقد أكثروا من أخذ صورته بالمصور الشمسي، والبنّاؤون والنجّارون في حلب معجبون به وهم يقتبسون من محاسن صنعته وبديع هندسته وسبحان الواحد الباقي.
سنة 712
ذكر تولية حلب للأمير نوروز
قال في تحف الأنباء: وفي هذه السنة في المحرم أرسل السلطان إلى نوروز بأن يكون نائبا بحلب. وفي شوال اصطلح نوروز مع نائب الشام شيخ وتحالفا على العصيان على الملك الناصر واستوليا على البلاد الحلبية والشامية حتى على أنطاكية.
سنة 813
ذكر تولية حلب للأمير قرقماش ثم لشيخ
قال في تحف الأنباء: وفي هذه السنة في ربيع الآخر توجه السلطان نحو الشام ومعه الخليفة المستعين بالله العباسي، فلما وصل إلى دمشق هرب منه نوروز وشيخ وقرر في نيابة حلب قرقماش، ووقع بين الشيخ ونوروز مصادرات وحروب إلى أن أعطي شيخ نيابة السلطنة بحلب ونوروز نيابة طرابلس وذلك في ذي القعدة وتحالفا على أن لا يخرجا عن الطاعة.
سنة 815
ذكر تولية حلب للأمير دمرداش ثم للأمير يشبك
في هذه السنة كان الوالي بحلب الأمير دمرداش كما يستفاد من تحف الأنباء في
حوادث هذه السنة حيث قال: وفي ربيع الآخر أتى نوروز إلى حلب فهرب منه دمرداش وعين لنيابتها يشبك بن أزدمر (1).(2/417)
في هذه السنة كان الوالي بحلب الأمير دمرداش كما يستفاد من تحف الأنباء في
حوادث هذه السنة حيث قال: وفي ربيع الآخر أتى نوروز إلى حلب فهرب منه دمرداش وعين لنيابتها يشبك بن أزدمر (1).
ترجمة دمرداش:
قال في الضوء اللامع: إن دمرداش قتل بالإسكندرية سنة ثمان عشرة، وكان معظما للعلماء كريما حييا حشما، لكن لم تكن لأملاك الناس ولا للأوقاف عنده حرمة، وابتنى بحلب جامعا. ثم قال: والجامع الذي له بحلب كان أسسه أقبغا الهذباني الأطروشي فكمله هو ووقف عليه وقفا جيدا اه. أقول: وقد تقدم الكلام على الجامع مستوفى.
سنة 816
ذكر تولية حلب للأمير إينال الصصلاني
قال السخاوي في ترجمته: إنه كان ممن انضم إلى الملك المؤيد شيخ فولاه نيابة حلب في شوال سنة ست عشرة، وكان فيمن حاصر معه نوروز إلى أن قتل نوروز ورجع إلى ولايته بحلب [وذلك سنة 817]. وكان شكلا حسنا عاقلا شجاعا عارفا بالأمور قليل الشر، ثم كان ممن عصى على المؤيد هو وقانيباي نائب الشام ونائب طرابلس ونائب حماة وآل أمرهم إلى أن انهزموا وأسروا، وقتل إينال بقلعة حلب في شعبان. قال: ورأيت الحلبيين يثنون عليه كثيرا، ولما حاصر على المؤيد لم يحصل لأحد من أهل بلده منه شر بل طلب أخذ القلعة فعصى عليه نائبها فحاصره أياما ثم تركه وتوجه إلى الشام.
سنة 718
ذكر تولية حلب للأمير أقباي المؤيدي
قال السخاوي في ترجمته: إن أستاذه ولاه الدوادارية الكبرى بالقاهرة ثم نيابة
__________
(1) ذلك بعد محاربة نوروز وشيخ للملك الناصر فرج وقتل الملك الناصر في دمشق وتولية السلطنة للخليفة العباسي ثم خلعه بعد ستة أشهر وتولية السلطنة لشيخ الملقب بالملك المؤيد كما بسطه ابن إياس في بدائع الزهور.(2/418)
السلطنة بحلب في سنة ثماني عشرة، يوم خرج منها بعد يسير مختفيا على الهجن بحيث وصل إلى القاهرة في اثني عشر يوما لكونه بلغه أنه تكلم في حقه عند السلطان، فأكرمه وولاه نيابة دمشق، فتوجه إليها في أوائل سنة عشرين. إلى أن قال: وله وقف على زاوية جلبان وذكره ابن خطيب الناصرية.
سنة 720
ذكر تولية حلب للأمير قجقار القردمي
قال ابن خطيب الناصرية: قجقار القردمي الأمير سيف الدين نائب حلب، كان في صحبة الملك المؤيد حين كان المؤيد نائبا بحلب، فلما تسلطن ولاه إمرة مائة فارس بالديار المصرية وصار من الأمراء الألوف، ثم ولاه نيابة حلب في سنة عشرين وثمانمائة عوضا عن الأمير سيف الدين أقباي، وجاء إلى حلب ودخلها، ثم جاء السلطان بعد قليل إلى حلب وتوجه إلى بلاد الروم وتوجه معه الأمير قجقار، ثم جاء إلى حلب وخلف الأمير قجقار وأقباي نائب دمشق لحصار كركر. ثم لما جاء قرا يوسف إلى جهة آمد خاف منه فرحل عن كركر وجاء إلى حلب فغضب عليه السلطان وأمسكه ساعة ثم أطلقه وجهزه معزولا إلى دمشق، فلما توجه السلطان إلى الديار المصرية أعاده مقدما واستقر بها، ثم جهزه السلطان صحبة الأمراء الذين جهزهم مع ابنه إبراهيم لأخذ البلاد القرمانية فجاء إلى حلب وتوجه صحبة ولد السلطان، ثم لما قضوا أربهم رجعوا ورجع قجقار صحبتهم إلى الديار المصرية واستمر مقدما إلى أن توفي السلطان الملك المؤيد، فهمّ بالركوب وادعى الأمر فعاجله الأمير سيف الدين ططر الذي صار سلطانا وأمسكه وحبسه قبل أن يدفن السلطان، وذلك في المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمائة. ثم قتل مقبوضا عليه في السنة المذكورة. وكان أميرا كبيرا كريما محترما محتشما عنده أدب، وكان من أبناء الستين أو يزيد عليها رحمه الله تعالى اه.
ذكر تولية حلب للأمير يشبك اليوسفي
وفي هذه السنة تولى نيابة حلب الأمير يشبك اليوسفي. قال السخاوي في الضوء اللامع: وكان يشبك شابا جاهلا فاسقا ظالما عسوفا طمّاعا اشتراه المؤيد وهو نائب
طرابلس بألف دينار كما سمعه العيني من المؤيد، ثم ترقى عنده إلى أن عمله شاد الشرابخاناه، ثم أعطاه تقدمة ثم نيابة طرابلس ثم نيابة حلب، ولم يشتهر عنه معروف.(2/419)
وفي هذه السنة تولى نيابة حلب الأمير يشبك اليوسفي. قال السخاوي في الضوء اللامع: وكان يشبك شابا جاهلا فاسقا ظالما عسوفا طمّاعا اشتراه المؤيد وهو نائب
طرابلس بألف دينار كما سمعه العيني من المؤيد، ثم ترقى عنده إلى أن عمله شاد الشرابخاناه، ثم أعطاه تقدمة ثم نيابة طرابلس ثم نيابة حلب، ولم يشتهر عنه معروف.
وذكره ابن خطيب الناصرية فقال: قدمه أستاذه فكان عنده حين نيابته بحلب شاد الشرابخاناه، فلما استقر في المملكة ولاه نيابة طرابلس، ثم نقله منها إلى حلب سنة عشرين، وكان شابا فارسا شهما شجاعا، بنى بحلب مسجدا بالقرب من الشاذبختية وجنينة بالقرب منه وتربة ومكتب أيتام، ثم قتل بعده في المحرم سنة أربع وعشرين، ونسبه بعضهم يوسفيا اه.
قال في الدر المنتخب: المدرسة اليشبكية براس سوق النشابين (المسمى الآن سوق الزرب (الضرب) لصيق القسطل بناها الأمير يشبك اليوسفي المؤيدي نائب حلب وجعل له بها مدفنا وبه دفن بعد قتله سنة أربع وعشرين وثمانمائة ووقف عليها سوقه الذي بناه بالقرب منها اه.
سنة 821
مجيء قرا يوسف التركماني إلى الديار الحلبية وعيثه فيها
قال السخاوي في الضوء اللامع في ترجمته: قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا التركماني ملك بغداد، وفي سنة إحدى وعشرين وثمانمائة كانت بين قرا يوسف وبين قرا يلك [من أمراء التركمان في نواحي الموصل وديار بكر وماردين] وقعات حتى فرّ قرايلك فقدم حلب، وانتقل الناس من حلب خوفا من قرا يوسف، وكان قد وصل إلى عينتاب وكتب إلى المؤيد يعتذر بأنه لم يدخل هذه البلاد إلا طلبا لقرايلك لكونه هجم على ماردين وهي من بلاد قرا يوسف، فأفحش في الأسر والقتل والسبي بحيث بيع صغير بدرهمين وحرق المدينة، فلما جاء قرا يوسف أحرق عينتاب وأخذ من أهلها مالا كثيرا مصالحة وتوجه إلى البيرة فنهبها، ثم بلغه أن ولده محمد شاه عصى عليه ببغداد، فتوجه إليه وحصره واستصفى أمواله وعاد إلى تبريز فمات في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين.
ذكر الأثمان المتعامل بها ومقدار الرطل والكيل في هذا العصر
ذكر العلامة القلقشندي المتوفى سنة 821في كتابه صبح الأعشى في صناعة
الإنشا (1) فصولا مهمة بيّن فيها الأثمان المتعامل بها ومقدار الرطل والكيل المستعمل في هذا العصر في مصر ودمشق وحلب وغير ذلك، فأحببنا إثبات تلك الفصول في تاريخنا وأن لا يكون خاليا منها لعلمنا أن كثيرا من النفوس تتطلع إلى معرفة ذلك فنقول:(2/420)
ذكر العلامة القلقشندي المتوفى سنة 821في كتابه صبح الأعشى في صناعة
الإنشا (1) فصولا مهمة بيّن فيها الأثمان المتعامل بها ومقدار الرطل والكيل المستعمل في هذا العصر في مصر ودمشق وحلب وغير ذلك، فأحببنا إثبات تلك الفصول في تاريخنا وأن لا يكون خاليا منها لعلمنا أن كثيرا من النفوس تتطلع إلى معرفة ذلك فنقول:
قال في الجزء الرابع منه في الكلام على نيابة حلب: أما الأثمان المتعامل بها من الدنانير والدراهم والصنجة فعلى ما تقدم في دمشق من غير فرق (سيأتيك بيان ذلك) ولم ترج الفلوس الجدد فيها إلى الآن وإنما يتعامل فيها بالفلوس القديمة.
ورطلها سبعمائة وعشرون درهما (2) وأواقيه اثنتا عشرة أوقية كل أوقية ستون درهما، وفي أعمالها ربما زاد الرطل على ذلك.
وتعتبر مكيلاتها بالمكوك في حاضرتها وسائر أعمالها، والمكوك المعتبر في حاضرتها سبع ويبات بالكيل المصري (سيأتي بيان ذلك).
وأما في نواحيها وبلادها فيختلف اختلافا متباينا في الزيادة والنقص. قال في مسالك الأبصار: والمعتدل منها أن يكون كل مكوكين ونصف غرارة وما بين ذلك كل ذلك تقريبا.
__________
(1) طبع في مصر سنة 1332في 14مجلدا وهو كتاب جليل في صناعة الإنشا والتاريخ وترتيب الممالك في ذلك العصر إلى غير ذلك من الفوائد.
(2) أقول: وفي أوائل القرن السابع كان الرطل بهذا المقدار ففي تاريخ ابن شداد في الكلام على بناء القلعة. وفي السنة الرابعة والعشرين وستمائة مهدت أرض الخندق الملاصق للقلعة فوجد فيها تسعة عشر لبنة ذهبا إبريزا كان وزنها تسعة وعشرين رطلا بالحلبي والرطل سبعمائة وعشرون درهما اه.
وقد هجر التعامل بالرطل الذي يزن هذا المقدار، ولا أدري متى هجر، غير أن النيل الهندي لا زال يباع بالرطل الذي يزن 720درهما إلى زمننا هذا، وعند باعة النيل أرطال بهذا الوزن ولا يوجد صنف من أصناف البضائع يباع بهذا الرطل غيره فهو الباقي من ذلك العصر إلى وقتنا هذا، إلا أن باعة هذا الصنف اصطلحوا الآن على أن كل عشرة أرطال من الرطل المسمى بالعتيق الذي يزن ثمانمائة درهم بأحد عشر رطلا، فعلى هذا صار رطل النيل 728درهما وهو اصطلاح حديث مضى عليه سنون قلائل.(2/421)
بيان الويبة والمكوك والغرارة
قال في صبح الأعضى: إن بمصر أقداحا مختلفة المقادير، والمستعمل منها بالحاضرة القدح المصري وهو قدح صغير تقديره من الحب المعتدل 232درهما وكل ستة عشر قدحا تسمى ويبة، فتكون الويبة 3712درهما والمكوك كما تقدم 7ويبات، فإذا ضربناها في 3712يكون الحاصل 25984درهما هي المكوك وقتئذ في حلب، وإذا كان كل مكوكين ونصف غرارة فإذا ضربنا 25984في 2ونصف يكون الحاصر 64960درهما هي الغرارة. والمكوك مكيال (راجع القاموس) والغرارة بالكسر شبه العدل والجمع غرائر.
ويقاس القماش بها بذارع يزيد على ذراع القماش المصري سدس ذراع وهو أربعة قراريط (سيأتي بيان ذلك).
وتعتبر أرض دورها بذراع العمل كما في الديار المصرية. وأرض زراعتها بالفدان الإسلامي والفدان الرومي كما في دمشق. وخراج أرض الزراعة بها كما في دمشق (1).
وأسعارها على نحو أسعار دمشق إلا في الفواكه فإنها في دمشق أرخص لكثرتها بها اه.
(سيأتي بيان الأسعار وقتئذ في دمشق ومصر).
إيضاح لما أجمل هنا بيان الأثمان المتعامل بها في دمشق
قال القلقشندي في الكلام على نيابة دمشق: أما الأثمان المتعامل بها فيها فعلى ما تقدم في الكلام على معاملات الديار المصرية من المعاملة بالدنانير المصرية ونحوها وزنا والدنانير الإفرنتية عدّا والدراهم النقرة وزنا.
بيان الأثمان المتعامل بها في الديار المصرية
قال القلقشندي في الجزء الثالث في الكلام على الدنانير المسكوكة مما يضرب بالديار المصرية أو يأتي إليها من المسكوك في غيرها من الممالك وهي ضربان:
الضرب الأول:
ما يتعامل به وزنا كالذهب المصري وما في معناه:
__________
(1) لم يبين القلقشندي الفدان الإسلامي والفدان الرومي وخراج أرض الزراعة في دمشق.(2/422)
والعبرة في وزنها بالمثاقيل، وضابطها أن كل سبعة مثاقيل زنتها عشرة دراهم من الدراهم الآتي ذكرها. والمثقال معتبر بأربعة وعشرين قيراطا. وقدر بثنتين وسبعين حبة شعير من الشعير الوسط باتفاق العلماء.
وقد كان الأمير صلاح الدين بن عرام في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين بعد السبعين والسبعمائة ضرب بالإسكندرية وهو نائب السلطنة بها يومئذ دنانير زنة كل دينار منها مثقال، على أحد الوجهين (محمد رسول الله) وعلى الوجه الآخر (ضرب بالإسكندرية في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عز نصره) ثم أمسك عن ذلك فلم تكثر هذه الدنانير ولم تشتهر، ثم ضرب الأمير يلبغا السالمي أستادار العالية في الدولة الناصرية فرج بن برقوق دنانير زنة كل واحد منها مثقال في وسط سكّته دائرة فيها مكتوب (فرج) وربما كان منها ما زنته مثقال ونصف أو مثقالان، وربما كان نصف مثقال أو ربع مثقال. إلا أن الغالب فيها نقص أوزانها وكأنهم جعلوا نقصها في نظير كلفة ضربها.
الضرب الثاني:
ما يتعامل به معادة:
وهي دنانير يؤتى بها من بلاد الإفرنجة والروم معلومة الأوزان، كل دينار منها معتبر بتسعة عشر قيراطا ونصف قيراط من المصري. واعتباره بصنج الفضة المصرية كل دينار زنة درهم وحبتي خرّوب يرجح قليلا. وهذه الدنانير مشخصة على أحد وجهيها صورة الملك الذي تضرب في زمنه، وعلى الوجه الآخر صورتا بطرس وبولس الحواريين الذين بعث بهما المسيح إلى رومية، ويعبر عنها بالإفرنتية جمع إفرنتي وأصله إفرنسي بسين مهملة بدل التاء المثناة فوق نسبة إلى إفرنسة: مدينة من مدنهم، وربما قيل إفرنجة وإليها تنسب طائفة الفرنج وهي مقرة الفرنسيس ملكهم. ويعبر عنه بالدوكات. وهذا الاسم في الحقيقة لا يطلق عليه إلا إذا كان ضرب البندقية من الفرنجة، وذلك أن الملك اسمه عندهم دوك، وكأن الألف والتاء في الآخر قائمان مقام النسب.
ثم ضرب الناصر فرج بن برقوق دنانير على زنة الدنانير الإفرنتية المتقدمة الذكر في أحد الوجهين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي الآخر اسم السلطان، وفي وسطه سفط مستطيل بين خطين. وعرفت بالناصرية وكثر وجدانها وصار بها أكثر المعاملات، إلا أنهم ينقصونها في الأثمان عن الدنانير الإفرنتية عشرة دراهم. ثم ضرب على نظيرها الإمام
المستعين بالله أبو الفضل العباس (أو أبو العباس) حين استبد بالأمر بعد الناصر فرج ولم يتغير فيها غير السكة باعتبار انتقالها من اسم السلطان إلى اسم أمير المؤمنين.(2/423)
ثم ضرب الناصر فرج بن برقوق دنانير على زنة الدنانير الإفرنتية المتقدمة الذكر في أحد الوجهين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي الآخر اسم السلطان، وفي وسطه سفط مستطيل بين خطين. وعرفت بالناصرية وكثر وجدانها وصار بها أكثر المعاملات، إلا أنهم ينقصونها في الأثمان عن الدنانير الإفرنتية عشرة دراهم. ثم ضرب على نظيرها الإمام
المستعين بالله أبو الفضل العباس (أو أبو العباس) حين استبد بالأمر بعد الناصر فرج ولم يتغير فيها غير السكة باعتبار انتقالها من اسم السلطان إلى اسم أمير المؤمنين.
ثم صرف الذهب بالديار المصرية لا يثبت على حاله بل يعلو تارة ويهبط أخرى بحسب ما تقتضيه الحال، وغالب ما كان عليه صرف الدينار المصري فيما أدركناه في التسعين والسبعمائة وما حولها عشرون درهما والإفرنتي سبعة عشر درهما وما قارب ذلك. أما الآن فقد زاد وخرج عن الحد خصوصا في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وإن كان في الدولة الظاهرية بيبرس قد بلغ المصري ثمانية وعشرين درهما ونصفا فيما رأيته في بعض التواريخ.
الدراهم النقرة:
قال في صبح الأعشى: أصل موضوعها أن يكون ثلثاها من فضة وثلثها من نحاس، وتطبع بدور الضرب بالسكّة السلطانية على نحو ما تقدم في الدنانير، ويكون منها دراهم ضحاح وقراضات مكسرة. والعبرة في وزنها بالدراهم وهو معتبر بأربعة وعشرين قيراطا وقدر بست عشرة حبة من حب الخروب، فتكون كل خروبتين ثمن درهم. وهنّ أربع حبات من حب البر المعتدل والدرهم من الدينار نصفه وخمسه، وإن شئت قلت سبعة أعشاره فيكون كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم.
الفلوس وهي صنفان: مطبوع بالسكة وغير مطبوع:
فأما المطبوع فكان في الزمن الأول إلى أواخر الدولة الناصرية حسن بن محمد بن قلاوون فلوس لطاف يعتبر كل ثمانية وأربعين فلسا منها بدرهم من النقرة على اختلاف السكة فيها، ثم أحدث في سنة تسع وخمسين وسبعمائة في سلطنة حسن أيضا فلوس شهرت بالجدد جمع جديد زنة كل فلس منها مثقال، وكل فلس منها قيراط من الدرهم مطبوعة بالسكة السلطانية، فجاءت في نهاية الحسن وبطل ما عداها من الفلوس، وهي أكثر ما يتعامل به أهل زماننا إلا أنها فسد قانونها في تنقيصها في الوزن عن المثقال حتى صار فيها ما هو دون الدرهم وصار تكوينها غير مستدير، وكانت توزن بالقبّان كل مائة وثمانية عشر رطلا بالمصري بمبلغ خمسمائة درهم، ثم أخذت في التناقص لصغر الفلوس ونقص أوزانها حتى صار كل مائة وأحد عشر رطلا بمبلغ خمسمائة. قلت (القائل القلقشندي): ثم استقر الحال فيها على ذلك، على أنه لو جعل كل أوقية فما دونها بدرهم لكان حسنا باعتبار غلو النحاس وقلة الواصل منه إلى الديار المصرية وحمل التجار الفلوس
المضروبة من الديار المصرية إلى الحجاز واليمن وغيرهما من الأقاليم متجرا. ويوشك إن دام هذا أن تنفد الفلوس من الديار المصرية ولا يوجد ما يتعامل به الناس.(2/424)
فأما المطبوع فكان في الزمن الأول إلى أواخر الدولة الناصرية حسن بن محمد بن قلاوون فلوس لطاف يعتبر كل ثمانية وأربعين فلسا منها بدرهم من النقرة على اختلاف السكة فيها، ثم أحدث في سنة تسع وخمسين وسبعمائة في سلطنة حسن أيضا فلوس شهرت بالجدد جمع جديد زنة كل فلس منها مثقال، وكل فلس منها قيراط من الدرهم مطبوعة بالسكة السلطانية، فجاءت في نهاية الحسن وبطل ما عداها من الفلوس، وهي أكثر ما يتعامل به أهل زماننا إلا أنها فسد قانونها في تنقيصها في الوزن عن المثقال حتى صار فيها ما هو دون الدرهم وصار تكوينها غير مستدير، وكانت توزن بالقبّان كل مائة وثمانية عشر رطلا بالمصري بمبلغ خمسمائة درهم، ثم أخذت في التناقص لصغر الفلوس ونقص أوزانها حتى صار كل مائة وأحد عشر رطلا بمبلغ خمسمائة. قلت (القائل القلقشندي): ثم استقر الحال فيها على ذلك، على أنه لو جعل كل أوقية فما دونها بدرهم لكان حسنا باعتبار غلو النحاس وقلة الواصل منه إلى الديار المصرية وحمل التجار الفلوس
المضروبة من الديار المصرية إلى الحجاز واليمن وغيرهما من الأقاليم متجرا. ويوشك إن دام هذا أن تنفد الفلوس من الديار المصرية ولا يوجد ما يتعامل به الناس.
وأما غير المطبوعة فنحاس مكسر من الأحمر والأصفر ويعبر عنها بالعتق، وكانت في الزمن الأول كل زنة رطل منها بالمصري بدرهمين من النقرة، فلما عملت الفلوس الجدد المتقدمة الذكر استقر كل رطل منها بدرهم ونصف وهي على ذلك إلى الآن. قلت: ثم نفدت هذه الفلوس من الديار المصرية لغلو النحاس وصار مهما وجد من النحاس المكسور خلط بالفلوس الجدد وراج معها على مثل وزنها اه.
تتمة لهذا البحث وذكر ما كان يتعامل به الناس في الديار المصرية والشامية من سنة 569إلى القرن التاسع
قال العلامة المقريزي في رسالته (النقود الإسلامية): لما زالت الدولة الفاطمية بدخول الفرس الشام ومصر على يد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة تسع وستين وخمسمائة قررت السكة بالقاهرة باسم المرتضي بأمر الله (الخليفة العباسي) وباسم الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب بلاد الشام، فرسم اسم كل منهما في وجه. ثم لما استبد الملك صلاح الدين بعد موت الملك العادل نور الدين أمر في شوال سنة 583بأن تبطل نقود مصر وضرب الدينار ذهبا مصريا وأبطل الدرهم الأسود وضرب الدراهم الناصرية وجعلها من فضة خالصة ومن نحاس نصفين بالسوي، فاستمر ذلك بمصر والشام إلى أن ملك الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبي بكر محمد بن أيوب فأبطل الدرهم الناصري وأمر في ذي القعدة من سنة 622بضرب دراهم مستديرة.
وتقدم أنه لا يتعامل الناس بالدراهم المصرية العتق وهي التي تعرف في مصر والإسكندرية بالزيوف وجعل الدرهم الكامل ثلاثة أثلاث ثلثاه من فضة وثلثه من نحاس، فاستمر ذلك بمصر والشام مدة أيام ملوك بني أيوب، فلما انقرضوا وقامت الأتراك من بعدهم أبقوا سائر شعائرهم واقتدوا بهم في جميع أحوالهم وأقرّوا نقدهم على حاله من أجل أنهم كانوا يفتخرون بالانتماء إليهم، حتى إني شاهدت المراسيم التي كانت تصدر عن الملك المنصور قلاوون وفيها بعد البسملة الملكي الصالحي، وتحت ذلك بخطه قلاوون، فلما ولى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي وكان من أعظم ملوك الإسلام وممن يتعين
على كل ملك معرفة سيرته ضرب دراهم ظاهرية وجعلها كل مائة درهم من سبعين درهما فضة خالصة وثلاثين نحاسا، وجعل رنكه على الدرهم وهو صورة سبع، فلم تزل الدراهم الظاهرية والكاملية بديار مصر والشام إلى أن فسدت في سنة 781بدخول الدراهم الحموية، فكثر تعنّت الناس منها، وكان ذلك في إمارة الظاهر برقوق، فلما وصل الأمر إليه وأقام الأمير محمود بن علي أستادارا أكثر من ضرب الفلوس وأبطل ضرب الدرهم فتناقصت حتى صارت عرضا ينادى عليه في الأسواق بحراج حراج، وغليت الفلوس إلى أن قدم الملك المؤيد شيخ عزّ نصره من دمشق في رمضان سنة 817بعد قتل الأمير نوروز الحافظي نائب دمشق فوصل مع العسكر وأتباعهم شيء كثير من الدراهم البندقية والدراهم النوروزية، فتعامل الناس بها وحسّن موقعها لبعد العهد بالدراهم، فلما ضرب الملك المؤيد شيخ عزّ نصره الدراهم المؤيدية في شوال منها نودي في القاهرة بالمعاملة بها في يوم السبت 24صفر سنة 818فتعامل الناس بها اه.(2/425)
وتقدم أنه لا يتعامل الناس بالدراهم المصرية العتق وهي التي تعرف في مصر والإسكندرية بالزيوف وجعل الدرهم الكامل ثلاثة أثلاث ثلثاه من فضة وثلثه من نحاس، فاستمر ذلك بمصر والشام مدة أيام ملوك بني أيوب، فلما انقرضوا وقامت الأتراك من بعدهم أبقوا سائر شعائرهم واقتدوا بهم في جميع أحوالهم وأقرّوا نقدهم على حاله من أجل أنهم كانوا يفتخرون بالانتماء إليهم، حتى إني شاهدت المراسيم التي كانت تصدر عن الملك المنصور قلاوون وفيها بعد البسملة الملكي الصالحي، وتحت ذلك بخطه قلاوون، فلما ولى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي وكان من أعظم ملوك الإسلام وممن يتعين
على كل ملك معرفة سيرته ضرب دراهم ظاهرية وجعلها كل مائة درهم من سبعين درهما فضة خالصة وثلاثين نحاسا، وجعل رنكه على الدرهم وهو صورة سبع، فلم تزل الدراهم الظاهرية والكاملية بديار مصر والشام إلى أن فسدت في سنة 781بدخول الدراهم الحموية، فكثر تعنّت الناس منها، وكان ذلك في إمارة الظاهر برقوق، فلما وصل الأمر إليه وأقام الأمير محمود بن علي أستادارا أكثر من ضرب الفلوس وأبطل ضرب الدرهم فتناقصت حتى صارت عرضا ينادى عليه في الأسواق بحراج حراج، وغليت الفلوس إلى أن قدم الملك المؤيد شيخ عزّ نصره من دمشق في رمضان سنة 817بعد قتل الأمير نوروز الحافظي نائب دمشق فوصل مع العسكر وأتباعهم شيء كثير من الدراهم البندقية والدراهم النوروزية، فتعامل الناس بها وحسّن موقعها لبعد العهد بالدراهم، فلما ضرب الملك المؤيد شيخ عزّ نصره الدراهم المؤيدية في شوال منها نودي في القاهرة بالمعاملة بها في يوم السبت 24صفر سنة 818فتعامل الناس بها اه.
بيان ذراع القماش في مصر
قال في صبح الأعشى: وأما الأقمشة فإنها تقاس بالقاهرة بذراع طوله ذراع بذراع اليد وأربع أصابع مطبوقة.
بيان ذراع الأراضي والدور
قال في صبح الأعشى: وقد اصطلحوا على قياسها بذراع يعرف بذراع العمل طوله ثلاثة أشبار بشبر رجل معتدل. ولعله الذراع الذي كان يقاس به أرض السواد بالعراق.
فقد ذكر الزجاجي أنه ذراع وثلث بذراع اليد، وكان ابتداء وضع الذراع لقياس الأرضين أن زياد ابن أبيه حين ولاه معاوية العراق وأراد قياس السواد جمع ثلاثة رجال، رجلا من طوال القوم ورجلا من قصارهم ورجلا متوسطا بين ذلك وأخذ طول ذراع كل منهم فجمع ذلك وأخذ ثلثه فجعله ذراعا لقياس الأرضين وهو المعروف بالذراع الزيادي لوقوع تقديره بأمر زياد. ولم يزل ذلك حتى صارت الخلافة لبني العباس فاتخذوا ذراعا مخالفا لذلك كأنه أطول منه فسمي بالهاشمي لوقوعه في خلافة بني العباس ضرورة كونهم من بني هاشم.
الأسعار في دمشق ومصر
قال في صبح الأعشى: وسعر اللحم بها (بدمشق) أرخص من مصر والدجاج
والإوزّ أغلى من مصر، وكذلك السكر، إلا أن الفاكهة فيها أرخص من مصر بالقدر الكثير، والقمح والشعير والباقلا نحو من سعر مصر وذلك كله عند اعتدال الأسعار.(2/426)
قال في صبح الأعشى: وسعر اللحم بها (بدمشق) أرخص من مصر والدجاج
والإوزّ أغلى من مصر، وكذلك السكر، إلا أن الفاكهة فيها أرخص من مصر بالقدر الكثير، والقمح والشعير والباقلا نحو من سعر مصر وذلك كله عند اعتدال الأسعار.
وقال في الكلام على الأسعار بمصر: قال ابن فضل الله في مسالك الأبصار:
وأوسط أسعارها في غالب الأوقات أن يكون الإردب القمح بخمسة عشر درهما والشعير بعشرة وبقية الحبوب على هذا الأنموذج، والأرز يبلغ فوق ذلك، واللحم أقل سعره الرطل بنصف درهم (رطل مصر 144درهما) وفي الغالب أكثر من ذلك، والدجاج يختلف سعره بحسب حاله، فجيّده الطائر منه بدرهمين إلى ثلاثة، والدون منه بدرهم واحد، والسكر الرطل بدرهم ونصف وربما زاد، والمكرر منه بدرهمين ونصف. قلت: وهذه الأسعار التي ذكرها قد أدركنا غالبها وبقيت إلى ما بعد الثمانين والسبعمائة فغلت الأسعار وتزايدت في كل صنف من ذلك وغيره وصار المثل إلى ثلاثة أمثاله وأربعة أمثاله.
العربان القاطنون حول حلب
قال في صبح الأعشى: إن ديار آل فضل من حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة آخذين على شقي الفرات وأطراف العراق (1). ثم قال: إن آل فضل تشعبوا شعبا كثيرة منهم آل عيسى وآل فرج وآل سميط وآل مسلم وآل علي، ثم ذكر من انضاف إليهم ودخل فيهم. ثم قال في الكلام على حلب: والمختص بأعمال حلب من العرب المشهورين قبيلتان:
القبيلة الأولى:
(بنو كلاب): قال في مسالك الأبصار: وهم عرب أطراف حلب والروم، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد، ولا تزال تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش، وهم من أشد العرب بأسا وأكثرهم ناسا. قال: ولإفراط نكايتهم في الروم صنفت السيرة المعروفة «بدلهمة والبطال» منسوبة إليهم بما فيها من ملح الحديث ولمح الأباطيل (2)،
__________
(1) قدمنا في حوادث سنة 735خبر وفاة مهنا بن عيسى من أمراء آل فضل، وسيأتيك في قسم التراجم ترجمة نعير بن جبار بن مهنا المتوفى سنة 808وترجمة ولده عجل بن نعير المتوفى سنة 816.
(2) في هامش صبح الأعشى: هي السيرة المشهورة الآن بذات الهمة، وقد طبعت أخيرا بالمطبعة الحسينية وانتشرت في أيدي العامة وهي في بابها لا بأس بها اه.(2/427)
ولكنهم لا يدينون لأمير منهم بجمع كلمتهم، ولو انقادوا لأمير واحد لم يبق لأحد من العرب بهم طاقة. وكان سلطاننا يعني الناصر محمد بن قلاوون لا يزال ملتفتا إلى تألف بني كلاب هؤلاء. وكان أحمد بن نصير المعروف بالتتري قد عاث في البلاد والأطراف واشتد في قطع الطريق فأمنه وخلع عليه وأقطعه فانقادت بنو كلاب للطاعة، وكان الملك الناصر قد أمّر عليهم سليمان بن مهنا وجعل عليه حفظ جعبر وما جاورها.
القبيلة الثانية:
(آل بشار): قال في مسالك الأبصار: وديارهم الجزيرة والأحصّ ببلاد حلب.
قال: والأحلاف منهم حالهم في عدم الانقياد لأمير واحد حال بني كلاب، ولو اجتمعوا لما أمن بأسهم نقيم على تفرق كلمتهم، وبسبب جماعتهم لا يزال آل فضل منهم على وجل، وطالما باتوا وقلوبهم منهم ملأى من الحذر وعيونهم وسنى من السهر وبينهم دماء، وهم وبنو ربيعة وبنو عجل جيران. وديارهم من سنجار وما يدانيها إلى البارة أو قريب الجزيرة العمرية إلى أطراف بغداد اه.
تمّ بتوفيقه تعالى طبع الجزء الثاني من إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ويليه الجزء الثالث أوله ترتيب مملكة حلب في عهد دولة الجراكسة(2/428)
الفهرست
صحيفة الفهرست
7 - ولاية نور الدين الشهيد على حلب سنة 541
10 - ملك نور الدين مدينة أرتاح وغيرها
10 - انهزامه في وقعة بينه وبين صاحب أنطاكية
11 - وقعة يغرى وانهزام الفرنج فيها
13 - وقعة إنّب وقتل البرنس صاحب أنطاكية وهزيمة الفرنج سنة 544
20 - استيلاء نور الدين على حصن أفامية سنة 545
22 - إنهزام نور الدين من جوسلين وأسر جوسلين بعد ذلك وفتح عين تاب وعزاز ودلوك ومرعش وغير ذلك
24 - الحرب بين نور الدين وبين الفرنج بدلوك سنة 547
25 - استيلاء نور الدين على دمشق وتل باشر سنة 549
26 - ذكر حصر حارم سنة 551
28 - الزلازل العظمى سنة 552
29 - ملك نور الدين شيزر بعد خرابها بالزلزلة
30 - أخبار بني منقذ أصحاب شيزر
33 - وصول ولد السلطان مسعود للنزول على أنطاكية ومجيء العادل نور الدين إلى حلب ومرضه وما جرى بسبب ذلك
36 - استيلاء الفرنج على حارم سنة 553
37 - مرض العادل نور الدين سنة 554وما جرى بسبب ذلك
39 - حصر نور الدين حارم سنة 557
40 - انهزام نور الدين من الفرنج سنة 558
41 - ذكر فتحه لحارم سنة 559
44 - عصيان غازي بن حسان صاحب منبج على نور الدين سنة 562
47 - ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر سنة 564
49 - ذكر الزلازل بالبلاد الشامية وغيرها سنة 565
51 - ذكر ملك نور الدين الموصل وإقرار سيف الدين عليها سنة 566
53 - إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العبيدية سنة 567
54 - اتخاذ نور الدين الحمام الهوادي(2/429)
55 - ذكر ظفر مليح بن ليون بالروم سنة 568
56 - إرسال نور الدين للخليفة يطلب تقليدا له
56 - قصده بلاد قليج أرسلان واستيلاؤه على مرعش
58 - وفاة العادل نور الدين الشهيد سنة 569وترجمته
63 - آثاره الجليلة في حلب
63 - المدرسة الحلوية
64 - مدرسو المدرسة الحلوية من حين بنائها إلى سنة 650ثم الكلام عليها
66 - الكلام على المدرسة العصرونية
67 - المدرسة النفرية (النورية)
67 - المدرسة الشعيبية
68 - خانقاه القصر
68 - البيمارستان النوري
68 - ومن آثاره تجديد بناء الجامع الأعظم والتوسيع فيه وهنا الكلام على الجامع من حين تأسيسه إلى زمن نور الدين
72 - نواب نور الدين بحلب وآثارهم فيها
73 - المدرسة المجدية الجوانية والبرانية دار الحديث المدرسة الشاذبختية
75 - ولاية الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين
75 - ملك سيف الدين صاحب الموصل البلاد الجزرية
76 - ما كان من الأمور بين صلاح الدين وبين أمراء دمشق بعد وفاة العادل نور الدين
77 - مجيء الملك الصالح إلى حلب وما جرى من الأمور سنة 570
78 - سبب قبض الخادم سعد الدين على أبناء الداية والفتنة بين أهل السنّة والشيعة
79 - ذكر قتل الرئيس ابن الخشاب
79 - مجيء السلطان صلاح الدين من مصر إلى الشام ثم حلب وحصره لها وعوده عنها
84 - ذكر الحرب بين سيف الدين غازي صاحب الموصل وبين صلاح الدين ومحاصرة صلاح الدين حلب
87 - الحرب بين هذين أيضا واستيلاء صلاح الدين على منبج وأعزاز ومحاصرته حلب
92 - وثوب الحشيشية على صلاح الدين قصد اغتياله
95 - إبقاء حلب وأعمالها للملك الصالح سنة 572
96 - ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم سنة 573
97 - محاصرة قليج أرسلان لرعبان وانهزامه من تقي الدين عمر سنة 575(2/430)
98 - قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني سنة 576
98 - وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين سنة 577وترجمته
101 - ولاية عز الدين مسعود بن مودود سنة 577. ثم ولاية عماد الدين زنكي بن مودود سنة 578
102 - حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومسير صاحبها مع صلاح الدين
103 - ذكر خروج السلطان صلاح الدين من مصر ومجيئه إلى الديار الحلبية واستيلائه على البلاد الجزرية سنة 578
109 - استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعينتاب وحلب سنة 579
118 - فتح صلاح الدين لحارم
119 - تقرير صلاح الدين لقواعد حلب وترتيب أمورها
120 - الكتب التي أرسلها إلى الجهات يعلم بها استلاءه على حلب
123 - رجوعه من حلب إلى الشام
124 - توليته أخاه الملك العادل أبا بكر على حلب
127 - وصف الرحالة ابن جبير لما مر به من هذه الديار سنة 580
134 - مجيء الخلع من الخليفة ونزول عسكر الموصل على إربل
134 - مجيء السلطان صلاح الدين إلى حلب وتوجهه إلى حران
136 - نقله الملك العادل من حلب إلى مصر سنة 582وتولية حلب لولده الظاهر غازي وشرح أسباب ذلك
139 - فتح البيت المقدس سنة 583وحمل المنبر إليه من حلب
142 - اتصال القاضي ابن شداد بصلاح الدين وفتح جبلة واللاذقية سنة 584
145 - ذكر فتح صهيون
147 - ذكر فتح بكاس والشغر وسرمانية
148 - ذكر فتح برزية ثم دربساك وبغراس
151 - الهدنة مع صاحب أنطاكية
152 - وفاة الأمير حسام الدين لاجين والأمير سليمان بن جندر وآثارهما بحلب
153 - وصية صلاح الدين لولده الظاهر غازي عند عوده إلى حلب سنة 588
154 - وفاة السلطان صلاح الدين سنة 589
155 - ترجمة السلطان صلاح الدين رحمه الله
162 - ذكر حال أولاده بعده
162 - ذكر إلحاق جبلة واللاذقية بحلب(2/431)
163 - وفاة الملك العزيز ابن صلاح الدين صاحب مصر وحصر ولديه عمهما العادل في دمشق
165 - ذكر أخذ الملك الظاهر منبج وأفامية
167 - أخذ الظاهر قلعة نجم من أخيه الأفضل
168 - ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلب سنة 602
169 - قدوم الملك الأشرف إلى حلب متوجها إلى بلاده الشرقية سنة 605
170 - الكلام على نهر حلب وعلى قناتها وإصلاح مجراها من حيلان إلى حلب في هذه السنة.
174 - ذكر القساطل التي بنيت في حلب
176 - بناء باب اليهود وتسميته باب النصر
177 - ذكر وفاة الملك الظاهر غازي سنة 613وترجمته وتولية ولده محمد الملقب بالملك العزيز
181 - آثار الملك الظاهر غازي بحلب
181 - الكلام على المدرسة الظاهرية المعروفة بالسلطانية
183 - المسجد الكبير في القلعة
183 - المدرسة الظاهرية خارج باب المقام
184 - المدرسة الهروية خارج باب المقام
185 - قصد كيكاوس حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس سنة 615
188 - عجائب المخلوقات: رؤية التنين العظيم في كلّز.
188 - وفاة الملك الأفضل علي بن صلاح الدين بسميساط ونقله إلى حلب
191 - وفاة الأمير سيف الدين علي بن جندر وآثاره بحلب: المدرسة السيفية رباط جامع
192 - وصف ياقوت لحلب سنة 626
194 - ذكر استقلال الملك العزيز بالملك سنة 629
195 - استيلاء العزيز على شيزر سنة 630
196 - وفاة الملك المعظم كوكبوري صاحب إربل وذكر آثاره وآثار أبيه بحلب وهي الخانقاه بالسهيلة (وراء الجامع)
197 - ترجمة الباني الأول للسهيلة علي بن بكتكين
198 - ترجمة الباني الثاني وهو ولده الملك المعظم كوكبوري (اقرأ. وتأمل)
200 - احتفاله بمولد النبي الكريم
202 - ذكر وفاة الأتابك طغريل الخادم سنة 631
203 - الكلام على المدرسة الأتابكية في محلة السفاحية(2/432)
204 - الكلام على المدرسة الأتابكية في محلة الجبيلة
206 - ذكر بناء قلعة المعرة
206 - وفاة الزاهر داود صاحب البيرة
206 - ذكر استيلاء كيقباذ بن كيخسرو على حران والرها
207 - ذكر وفاة القاضي بهاء الدين بن شداد
207 - ذكر وفاة الملك العزيز محمد صاحب حلب وولاية ابنه الملك الناصر يوسف سنة 634
208 - ذكر توجه عسكر حلب مع تورانشاه لمحاصرة بغراس
209 - ذكر استيلاء الحلبيين على المعرة وحصارهم حماة
209 - ذكر الخطبة بحلب إلى كيخسرو وبن كيقباذ وسببها
209 - عود العساكر الحلبية عن محاصرة حماة
210 - ذكر عيث الخوارزمية في البلاد الحلبية سنة 636
211 - وفاة الملك الحافظ أرسلان صاحب أعزاز ونقله إلى حلب سنة 639
211 - القتال بين الحلبيين والخوارزمية وانهزام هؤلاء سنة 640
212 - ذكر وفاة الملكة ضيفة خاتون صاحبة حلب سنة 640وآثارها بحلب
213 - الكلام على مدرسة الفردوس
217 - محاصرة الخوارزمية دمشق ثم اقتتالهم مع العساكر الحلبية عند بحيرة حمص وانكسارهم
218 - ذكر استيلاء الحلبيين على حمص سنة 646
219 - ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على نصيبين وقرقيسيا
دولة الأتراك بمصر والشام 220قتل الملك المعظم تورانشاه وخروج الملك عن بني أيوب في مصر وسلطنة أيبك التركماني سنة 648
221 - استيلاء الملك الناصر على دمشق
222 - مسيره إلى مصر وكسرته وعوده إلى الشام
223 - ذكر الصلح بين المصريين والشاميين
223 - توجه الكمال بن العديم رسولا من طرف الناصر إلى الخليفة سنة 654
224 - ذكر قتل المعز أيبك التركماني أول ملوك الأتراك في مصر سنة 655
224 - استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية وبيان أصل التتر
227 - رسالة هولاكو ملك التتر إلى الملك الناصر صاحب حلب سنة 657(2/433)
228 - صورة الجواب من الملك الناصر إلى هولاكو
230 - ذكر سلطنة قطز وتوجه الكمال ابن العديم إلى مصر رسولا من طرف الملك الناصر يستنجده على التتر
231 - ما كان من الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب عند قصد التتر حلب
231 - استيلاء التتر على البلاد الجزرية ونزولهم إلى ظاهر حلب
232 - ذكر مسير هولاكو بجيوشه إلى الديار الحلبية سنة 658
232 - استيلاء التتر على حلب ثم على قلعتها سنة 658
234 - ذكر ما كان من أمر الملك الناصر بعد أخذ حلب
236 - استيلاء كتبغا على قلعة دمشق
236 - ذكر هزيمة التتر وقتل كتبغا
238 - ترجمة قائد التتر كتبغا وتفصيل قتله وزيادة بيان في الوقعة المتقدمة
239 - ذكر ما كان بعد انتهاء هذه الوقعة
240 - القبض على الملك السعيد علي بن لؤلؤ صاحب حلب وعود التتر إليها
243 - ذكر كسرة التتر على حمص والغلاء في حلب سنة 659
244 - ذكر القبض على سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد
244 - نقل رأس يحيى عليه السلام من القلعة إلى الجامع الأعظم سنة 659
245 - نزوح التتر عن حلب ونيابة فخر الدين بها ثم تغلب آقوش البرلي عليها
246 - ذكر إقامة خليفة عباسي في مصر وخليفة عباسي في حلب
248 - ذكر رضاء الملك الظاهر على علم الدين سنجر الحلبي وتوليته على حلب وطرد آقوش البرلي منها
249 - ذكر أخذ آقوش البرلي البيرة وعوده إلى حلب وأخذها
249 - ذكر مقتل الملك الناصر يوسف صاحب حلب والشام
250 - ترجمة الملك الناصر
252 - طاعة البرلي للملك الظاهر وإرسال سنقر الرومي إلى حلب سنة 660
252 - ذكر قصد التتر الموصل واستنجاد صاحبها بالبرلي وانهزامهما من التتر
253 - عود البرلي إلى مصر وما كان منه
253 - ذكر ولاية علاء الدين أيدكين حلب
254 - ذكر وفاة الكمال بن العديم صاحب تاريخ حلب
255 - ذكر مقامة للشيخ عمر بن إبراهيم الرسغني يذكر فيها وقعة حلب
256 - ذكر طرد التتر من نواحي الفرات(2/434)
256 - ذكر تولية قضاة من المذاهب الأربعة وسبب ذلك
257 - ذكر دخول العساكر إلى بلاد الأرمن
257 - مسير الملك الظاهر إلى أنطاكية وبغراس وفتحها سنة 666
258 - ذكر مجيء الملك الظاهر بيبرس إلى حلب سنة 668
259 - ذكر ترتيب خيل البريد بين البلاد المصرية والبلاد الشامية سنة 669
259 - ذكر إغارة التتر على عينتاب ورجوعهم عنها وانهزامهم من الملك الظاهر على الفرات
262 - ذكر دخول الملك الظاهر إلى بلاد سيس سنة 673
264 - ذكر مجيء التتار إلى البيرة وانكسارهم عليها سنة 674
264 - ذكر انكسار التتار على البلستين (آلبستان) وفتح قيسارية
266 - ذكر وفاة الملك الظاهر بيبرس سنة 676وآثاره بهذه البلاد وتولية ولده الملك السعيد بركة
267 - خلع الملك السعيد وإقامة أخيه سلامش
267 - سلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي
268 - خروج سنقر الأشقر عن الطاعة
268 - وفاة آقوش الشمسي بحلب وتولية علم الدين سنجر سنة 679
268 - مجيء التتر إلى حلب وعودهم ثم رجوعهم
270 - ذكر الوقعة العظيمة مع التتر على حمص وانكسارهم عليها سنة 680
272 - تولية حلب لقراسنقر سنة 681
273 - تجديد المحراب الكبير في الجامع الأعظم سنة 684
274 - ذكر وفاة الملك المنصور قلاوون سنة 689وسلطنة ولده الأشرف
274 - ذكر عمارة القلعة سنة 690
275 - ذكر فتوح قلعة الروم وعزل قراسنقر عن حلب ونيابة بلبان الطباخي سنة 691
276 - ذكر استيلاء الملك الأشرف على قلعة بهسني وقلعة مرعش وتل حمدون سنة 692
276 - ذكر مقتل الأشرف خليل وسلطنة أخيه الملك الناصر محمد سنة 693
276 - ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة سنة 694
277 - ذكر إسلام قازان خان ملك التتر
278 - خلع العادل كتبغا واستيلاء حسام الدين لاجين على المملكة سنة 696
278 - ذكر قتل الأمير نوروز وزير قازان
278 - ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس
281 - ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين وإعادة الملك الناصر محمد بن قلاوون
للسلطنة سنة 698(2/435)
281 - ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين وإعادة الملك الناصر محمد بن قلاوون
للسلطنة سنة 698
281 - ما احتج به قازان ملك التتر في قصده هذه البلاد أيضا
282 - ذكر المصاف العظيم الذي كان بين المسلمين والتتر واستيلاء التتر على دمشق وخروجهم منها وعزل سيف الدين بلبان عن حلب وتوليتها إلى قراسنقر للمرة الثانية سنة 699
285 - عود التتر إلى بلاد الشام سنة 700
286 - الإغارة على بلاد سيس سنة 701
286 - ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى سنة 702
289 - ذكر الاستيلاء على تل حمدون سنة 703
290 - ذكر إغارة عسكر حلب على بلاد سيس سنة 705
290 - ذكر مسير السلطان محمد بن قلا؟ ون إلى الكرك واستيلاء بيبرس الجاشنكير على المملكة سنة 708
291 - ذكر دعوة الملك الناصر من الكرك إلى دمشق ثم مصر وإقامته في السلطنة وتولية حلب لسيف الدين قبجق سنة 709
291 - وفاة قبجق وتولية حلب إلى أسندمر سنة 710
292 - ذكر نقل قراسنقر من نيابة السلطنة بدمشق إلى حلب سنة 711
293 - مسيره إلى الحجاز وإظهاره العصيان وقصده حلب
294 - ذكر ما كان من أمر قراسنقر والأفرم وسيرهما إلى التتر
295 - زيادة بيان في حوادث قراسنقر واحتمائه بأمير العرب مهنا بن عيسى وقصد هذا حلب وتوجههما مع أمير حمص الأفرم إلى بلاد العراق
296 - ترجمة قراسنقر وآثاره بحلب
298 - تولية حلب لسيف الدين سودي
298 - مجيء التتر الرحبة وتجريد العساكر إلى حلب
299 - وفاة سيف الدين سودي وآثاره بحلب وتوليتها لعلاء الدين ألطنبغا
300 - ذكر بناء ألطنبغا جامعه المسمى باسمه والكلام عليه
302 - ذكر إغارة عسكر حلب على آمد
303 - الإغارة على سيس وبلادها سنة 720
304 - ذكر عزل ألطنبغا وتولية حلب لأرغون الدوادار سنة 727
304 - مرور الرحالة ابن بطوطة سنة 727بهذه البلاد ووصفه لها
309 - ذكر وصول نهر الساجور إلى حلب سنة 731. ووفاة أرغون
311 - ترجمة أرغون الدوادار(2/436)
312 - دخول الأمير لؤلؤ القندشي لحلب وما أتاه من المظالم سنة 733
313 - وفاة الأمير لؤلؤ القندشي
313 - ذكر عمارة قلعة جعبر سنة 735
314 - توجه العساكر الحلبية لاسترجاع مدينة سيس
314 - وفاة مهنا أمير العرب وآثاره في سرمين
314 - العمل في نهر قلعة جعبر سنة 736
315 - وفاة الأمير خضر ابن نائب حلب ألطنبغا سنة 737
316 - توجه العساكر إلى بلاد سيس
317 - ورود الأمر بالمسامحة عما يؤخذ على الأغنام الداخلة إلى حلب
319 - عود العساكر من بلاد سيس سنة 738وزيادة بيان لهذه الحوادث
320 - ذكر فتح الباب شرقي المحراب في الجامع الأعظم وظهور رأس سيدنا يحيى عليه السلام سنة 738
322 - ذكر توسيع طرق الأسواق بحلب
322 - وفاة بدر الدين بن زهرة نقيب الأشراف بحلب
323 - قدوم تنكز نائب الشام إلى حلب متوجها إلى بلاد سيس لتفقد أحوالها
323 - عزم الأمير صلاح الدين الدودار على تحرير الأوقاف بحلب وما قاله ابن الوردي في ذلك
324 - ذكر عزل طرغاي وتولية طشتمر وفتح خندروس ووفاة الأمير مغلطاي وغير ذلك سنة 741
325 - ذكر وفاة الناصر محمد بن قلا؟ ون وسلطنة ولده أبي بكر
325 - ذكر خلع الملك المنصور أبي بكر وتولية ابن الملك الأشرف كجك سنة 742
325 - قتل الأمير ألطنبغا وترجمته
326 - وفاة الأمير بدر الدين محمد وآثاره
326 - جامع بدر الدين محمد
327 - ذكر ولاية أيدغمش الناصري لحلب
327 - ذكر ولاية طقزتمر لحلب سنة 743
328 - ولاية علاء الدين ألطنبغا المارداني
328 - التنديد بالقاضي ابن القرع ثم عزله
328 - ذكر عزل أمير العرب سليمان بن مهنا
329 - ذكر وفاة علاء الدين ألطنبغا المارداني سنة 744
329 - تمزيق ابن الوردي كتاب فصوص الحكم(2/437)
329 - ذكر نيابة الأمير يلبغا اليحياوي
330 - ذكر الزلازل ببلاد حلب وخراب منبج
330 - وصف ابن الوردي هذه الزلازل في رسالة
333 - زيادة بيان لحوادث الزلازل في هذه السنة
334 - ذكر إبتداء دولة الدلغادرية في البستان ومرعش سنة 745
334 - وفاة الأمير صلاح الدين واقف المدرسة الصلاحية بحلب
335 - المدرسة الصلاحية
335 - استرجاع ما بيع من أملاك بيت المال بحماة والمعرة
336 - وفاة الملك الصالح إسماعيل وسلطنة أخيه شعبان سنة 746
336 - الحرب بين الأمير طرفوش وبين ابن دلغادر
337 - ذكر نقل يلبغا الناصري من نيابة حلب وتولية سيف الدين أرقطاي
338 - تزايد أمر ابن دلغادر
338 - عزل الحاج أرقطاي نائب حلب وتوليتها لسيف الدين طقتمر الأحمدي سنة 747
339 - تولية حلب لبيدمر البدري وذكر واقعة غريبة لبعض النساء
339 - زيادة بيان لحادثة المرأة وتعيين أرغون شاه الناصري
341 - تعيين قاض مالكي لحلب سنة 748
341 - عزل بيدمر نائب حلب
342 - ترجمة بيدمر البدري
342 - تعيين أرغون شاه الناصري
342 - ذكر تعيين قاض حنبلي بحلب
342 - عزل أرغون شاه وشيء من أحواله
343 - تعيين فخر الدين أياز لنيابة حلب ثم عزله
343 - ذكر قتل السلطان حاج وسلطنة أخيه حسن
343 - تعيين الحاج أرقطاي
344 - استفحال أمر قراجا بن دلغادر التركماني في البستان ومرعش
344 - وصول الطاعون إلى حلب سنة 749واتصاله بالبلاد الشامية والمصرية وفتكه فيها وذكر شيء من رسالة ابن الوردي التي سماها «النبا عن الوبا» وما قيل في ذلك من الشعر
347 - ظهور أنوار على قبر النبي متى وقبر حنظلة بن خويلد وغيرهم بمنبج
348 - نيابة قطليجا ثم أرغون الكاملي سنة 750ووفاة أرقطاي بحلب
349 - خلع السلطان حسن وسلطنة أخيه الملك الصالح صالح سنة 752(2/438)
349 - نيابة الأمير بيبغا أروس
350 - خبر عصيان بيبغا بحلب وقصده دمشق
352 - تولية حلب للأمير أرغون الكاملي سنة 754
353 - خلع الملك الصالح صالح وعود الملك الناصر حسن إلى السلطنة وتولية حلب للأمير طاز
353 - بناء الأمير أرغون الكاملي بيمارستانه وذكر وفاته والكلام على هذا البيمارستان
355 - القبض على الأمير طاز نائب حلب وتولية الأمير منجك سنة 759
355 - تولية الأمير علي المارديني
355 - ترجمة الأمير علي المارديني
357 - قتل الملك الناصر حسن واستقرار السلطنة للملك المنصور محمد وتولية حلب للأمير قطلوبغا سنة 762
357 - تولية الأمير منكلي بغا سنة 763
357 - عود قطلوبغا الأحمدي لولاية حلب ووفاته بها وتولية أشقتمر المارديني
357 - ترجمة قطلوبغا الأحمدي
358 - تولية الأمير جرجي الناصري
358 - انكسار الإفرنج على أياس سنة 767
359 - عود الأمير منكلي بغا لنيابة حلب وعمارته لجامعه في باب قنسرين سنة 768
359 - ترجمة جرجي الناصري
359 - الكلام على الجامع المعروف الآن بجامع الرومي
362 - ذكر زيادة نهر حلب وتخريبه بيوتا كثيرة سنة 769
362 - ترجمة منكلي بغا
363 - وفاة طنبغا الطويل سنة 770وتولية حلب لأستنبغا الأبوبكري ثم لقشتمر المنصوري ثم لأشقتمر
364 - ترجمة قشتمر المنصوري
365 - ولاية عز الدين أيدمر سنة 773
365 - بناء أشقتمر جامعه المعروف الآن بجامع السكاكيني
366 - اتخاذ علامات خضر في رؤوس الأشراف
367 - ولاية بكتمر الخوارزمي ثم أشقتمر سنة 775
367 - فتح مدينة سيس سنة 776
367 - تعيين أبي الوليد ابن الشحنة لقضاء حلب سنة 778
368 - ما كتب على جانب خان القاضى في محلة باب قنسرين(2/439)
368 - قتل الملك الأشرف شعبان وسلطنة ولده علي سنة 779
369 - تولية حلب للأمير منكلي بغا البلدي ثم لتمرباي
370 - عود منكلي بغاثم ولاية إينال اليوسفي
370 - سلطنة الملك الصالح حاجي وتولية حلب إلى يلبغا الناصري
دولة الجراكسة 371خلع الملك الصالح حاجي وابتداء دولة الجراكسة سنة 784
372 - القبض على يلبغا الناصري وتولية سودون المظفري وآثار يلبغا في حلب
372 - جامع يلبغا
373 - وصول تيمرلنك إلى مدينة قرباغ
373 - إعادة يلبغا لنيابة حلب وعصيان منطاش بملطية سنة 788
373 - استعداد المصريين لمحاربة تمرلنك سنة 789
374 - الحرب بين الظاهر برقوق وبين منطاش العاصي بملطية
376 - الزلازل في أنطاكية وحلب
377 - عصيان يلبغا الناصري نائب حلب وقتله للأمير سودون النائب السابق واستيلاؤه على الشام ومصر
378 - إظهار يلبغا العصيان وتولية إينال اليوسفي على حلب
379 - ولاية الأمير كمشبغا الحموي سنة 792
379 - إطلاق الملك الظاهر برقوق والحرب بينه وبين منطاش سنة 792
379 - إرسال منطاش تمنتمر إلى حلب نائبا ومحاصرة نائبها كمشبغا
381 - ترجمة كمشبغا وزيادة بيان في الحرب بينه وبين البانقوسيين
382 - تعيين دمرداش بحلب
382 - استيلاء منطاش على حماة وحمص ومجيء الظاهر برقوق إلى حلب وقتله الأمير يلبغا الناصري سنة 793
383 - عزل قرادمرداش وتعيين الأمير جلبان
384 - عود منطاش وحصره حلب سنة 794
384 - مقتل منطاش وانتهاء فتنته سنة 795
387 - استيلاء تمرلنك على بغداد وهرب صاحبها السلطان أحمد بن أويس ومجيئه إلى حلب واستعداد المصريين(2/440)
388 - وصول السلطان أحمد بن أويس إلى مصر سنة 796واستيلاء تمرلنك على ديار بكر والرها وخروج السلطان برقوق مع أحمد بن أويس إلى دمشق
389 - وصول السلطان برقوق إلى حلب
390 - تعيين الأمير تغري بردي إلى حلب
390 - بناؤه جامعه المعروف بالموازيني
392 - ما أحدث في زمن تغري بردي في الجامع الكبير
392 - تولية حلب للأمير أرغون شاه سنة 799
393 - تعيين علاء الدين أقبغا لنيابة حلب سنة 800
393 - وفاة الملك الظاهر برقوق
393 - استيلاء السلطان بايزيد العثماني على ملطية وورود الأخبار بقصده حلب
394 - عصيان تنم نائب الشام وأقبغا الجمالي نائب حلب سنة 802وتعيين دمرداش الخاصكي إليها
394 - مجيء مقدمة تمرلنك إلى نواحي ملطية
395 - أصل تمرلنك وشيء من أحواله إلى أن استفحل ملكه والكتاب الذي أرسله إلى الملك الظاهر برقوق وجواب هذا الكتاب
399 - الأسباب التي دعته إلى الرجوع إلى هذه البلاد سنة 803ومجيئه إلى سيواس ثم عينتاب ثم حلب وما فعله بهذه البلاد ثم بحلب من الفظايع
404 - أسئله تيمورلنك والجواب عنها من القاضي ابن الشحنة
406 - توجهه إلى الشام وعوده منها إلى أطراف حلب ثم رجوعه إلى الشرق ووفاته وما آل إليه أمره
408 - ذكر تولية حلب للأمير دقماق المحمدي سنة 804
408 - ترجمة دقماق المحمدي
409 - ذكر تولية الأمير علاء الدين أقبغا الأطروشي وشروعه ببناء جامعه ووفاته بحلب سنة 806
409 - جامع أقبغا
410 - ذكر عصيان جكم والأمير شيخ وتغلبهما على حلب ودمشق
410 - خلع الملك الناصر فرج وسلطنة أخيه عبد العزيز وعود الملك الناصر إلى الملك
411 - ذكر عصيان فارس بن صاحب الباز التركماني سنة 806
413 - تولية حلب للأمير جركس القاسمي
414 - قتل جكم الذي تسلطن بحلب وحمل رأسه إلى مصر سنة 809
414 - تغلب تيموربغا المشطوب على حلب سنة 810(2/441)
414 - إعادة دمرداش لنيابة حلب سنة 811وإكماله جامع الأطروش
415 - جامع الأطروش
417 - ذكر تولية حلب للأمير نوروز سنة 812
417 - توليتها للأمير قرقماش ثم لشيخ سنة 813وتوليتها للأمير دمرداش ثم للأمير يشبك سنة 815
418 - ترجمة دمرداش
418 - توليتها للأمير إينال الصصلاني سنة 816
418 - توليتها للأمير أقباي المؤيدي سنة 818
419 - توليتها للأمير قجقار القردمي سنة 820
419 - توليتها للأمير يشبك اليوسفي
420 - المدرسة اليشبكية
420 - مجيء قرا يوسف التركماني إلى الديار الحلبية وعيثه فيها سنة 821
420 - ذكر الأثمان المتعامل بها ومقدار الرطل والكيل في هذا العصر
422 - الأثمان المتعامل بها في دمشق ومصر وحلب وهي ضربان: الضرب الأول ما يتعامل به وزنا الضرب الثاني ما يتعامل به معادة
425 - تتمة لهذا البحث وذكر ما كان يتعامل به الناس من النقود في الديار المصرية والشامية من سنة 569إلى القرن التاسع
426 - بيان ذراع القماش في مصر
426 - بيان ذراع الأراضي والدور
426 - أسعار اللحم والسكر وغير ذلك في دمشق ومصر
427 - العربان القاطنون حول حلب:
427 - القبيلة الأولى بنو كلاب
428 - القبيلة الثانية آل بشار(2/442)
انتهى بعون الله الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث(2/444)
الجزء الثالث
ترتيب مملكة حلب في عهد دولة الجراكسة
تكلم صاحب صبح الأعشى المتوفى سنة 821على ترتيب مملكة حلب في هذا العصر، ولو نقلناه جميعه لطال الشرح وهو يصلح أن يكون كتابا مستقلا، فنكتفي بالإشارة إلى ذلك بصورة إجمالية ومن أحب الوقوف على التفصيل فليرجع إلى الكتاب المذكور، قال في الجزء الرابع في صحيفة 217:
الصنف الأول: وظائف أرباب السيوف وهي عدة وظائف:
منها (نيابة السلطنة) ومنها (نيابة القلعة) ومنها (الحجوبية) ومنها (شد الأوقاف) ومنها (المهمندارية) ومنها (شد الدواوين) ومنها (شد مراكز البريد) ومنها (ولاية المدينة) ومنها (شد الأقواد).
وأما الوظائف الديوانية بها لأرباب الأقلام فمنها (الوزارة) ومنها (كتابة السر) ومنها (نظر الجيش) ومنها (نظر المال) ومنها (نظر الأوقاف) ومنها (نظر الجامع الكبير) ومنها (نظر البيمارستان) ومنها (نظر الأقواد).
الصنف الثاني: الوظائف الدينية:
فمنها (القضاء) وبها أربعة قضاة من المذاهب الأربعة كما في دمشق، ومنها (قضاء العسكر) ومنها (إفتاء دار العدل) ومنها (وكالة بيت المال) ومنها (نقابة الاشراف) ومنها (مشيخة الشيوخ) ومنها (الحسبة) ومنها (الخطابة بالجامع الكبير) ومنها (التداريس والتصادير المعدوقة بنظر النائب).
الصنف الثالث: وظائف أرباب الصناعات:
فمنها (رياسة الطب ورياسة الكحالين ورياسة الجرائحية).
وتكلم في صحيفة 222/ 4عن ترتيب النيابة بها وكيفية خروج النائب في
المواكب. وقد بسط هذا البحث أيضا صاحب الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة وسيأتيك قريبا، ثم تكلم على النيابات التي هي داخل حدود البلاد الشامية *، قال:(3/7)
وتكلم في صحيفة 222/ 4عن ترتيب النيابة بها وكيفية خروج النائب في
المواكب. وقد بسط هذا البحث أيضا صاحب الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة وسيأتيك قريبا، ثم تكلم على النيابات التي هي داخل حدود البلاد الشامية *، قال:
وهي إحدى عشرة نيابة:
الأولى: (نيابة قلعة المسلمين المسماة في القديم بقلعة الروم) الثانية: (نيابة الكختا) الثالثة: (نيابة كركر) الرابعة: (نيابة بهسنى) الخامسة: (نيابة عينتاب) السادسة:
(نيابة الراوندان) السابعة: (نيابة الدّربساك) الثامنة: (نيابة بغراس) التاسعة: (نيابة القصير) العاشرة: (نيابة الشغر وبكاس) الحادية عشرة: (نيابة شيزر). ثم قال:
الصنف الثاني من أرباب السيوف بخارج حلب الولاة وولاية جميعها من نائب حلب بتواقيع كريمة، والمشهور منها 12ولاية: الأولى: (ولاية بر حلب) الثانية: (ولاية كفر طاب) الثالثة: (ولاية سرمين) الرابعة:
(ولاية الجبّول) الخامسة: (ولاية جبل سمعان) السادسة: (ولاية عزاز) السابعة: (ولاية تل باشر) الثامنة: (ولاية منبج) التاسعة: (ولاية تيزين) العاشرة: (ولاية الباب وبزاعا) الحادية عشرة: (ولاية دركوش) الثانية عشرة: (ولاية أنطاكية).
وتكلم في الجزء الثاني عشر على صور التقاليد التي كانت تكتب للأمراء وغيرهم، ونحن نكتفي بالإشارة إليها أيضا ويجدر بكل أديب وكاتب أن يقف عليها:
صحيفة 140: صورة تقليد شريف كتب به للأمير إستدمر من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي.
146: صورة تقليد شريف لنيابة حلب لشمس الدين قراسنقر بإعادته إليها عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون.
151: صورة تقليد بنيابة قلعة حلب.
153: صورة توقيع بشد الدواوين بحلب.
156: صورة توقيع لقاضي قضاة الشافعية.
160: صورة توقيع لكاتب السر.
165: صورة توقيع بنظر الجيش.(3/8)
296: صورة توقيع بنقابة الأشراف بحلب لأحمد بن محمد بن إبراهيم ابن الممدوح.
429: صورة توقيع بنقابة الأشراف كتب به للشريف عز الدين أحمد بن أحمد الحسينى.
431: توقيع بنقابة الجيوش بحلب كتب به لناصر الدين بن أيتبك.
432: توقيع بالمهمندارية كتب به لغرس الدين الطاخي (1).
433: توقيع بتقدمة البريدية بحلب كتب به لعماد الدين إسماعيل.
434: توقيع بنيابة عينتاب.
435: توقيع بإمارة الركب الحلبي المتوجه إلى الحجاز كتب به لأحمد بن ألطنبغا.
437: توقيع بقضاء القضاة كتب به لجمال الدين إبراهيم بن أبي جرادة.
440: توقيع بخطابة جامع كتب به لقاضي القضاة كمال الدين عمر بن إبراهيم بن العديم.
442: توقيع بتدريس بالجامع المذكور كتب به لعلاء الدين علي الصرخدي.
444: توقيع بتدريس بالجامع المذكور كتب به لشمس الدين محمد القرمي.
445: توقيع بإمامة وتصدير بجامع منكلي بغا الشمسي كتب به للشيخ شمس الدين محمد الإمام.
446: توقيع بكتابة الدست كتب به لبهاء الدين بن الفرفور ونظر بيت المال بحلب.
447: توقيع بصحابة ديوان الأموال بحلب من إنشاء ابن الشهاب محمود.
448: توقيع بنظر (بهسنى).
أحوال نواب حلب وقضاتها وأمرتها وأرباب وظائفها في ذلك العهد وكيفية استقبال نواب حلب
قال في الباب الخامس والعشرين من الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة: أما نائب حلب فيكون من أعيان مقدمي الألوف بالقاهرة، وتارة ينقل من نيابة طرابلس إليها، وربما نقل من حماة إليها، وقد نقل أشق تمر من دمشق إليها غير مرة، وقد يتناوب فيلي تارة دمشق وتارة حلب، لكن أكبر نواب المملكة نائب دمشق ثم نائب حلب ثم طرابلس ثم خماة ثم صفد.
__________
(1) في صبح الأعشى: الطناخي.(3/9)
وهذا النائب إذا قدم إلى حلب من عادته أن ينزل على عين مباركة بعد أن يخرج إلى لقائه القضاة والمقدمون إلى خان طومان، والمباشرون يلاقونه غالبا إلى حماة، ثم يصبح فيركب من عين مباركة لابسا تشريفه وتخرج إليه القضاة وجميع الجيش وأرباب المناصب وطوائف المشايخ وأهل الحارات متجملين ومتعددين. فإذا وصل إلى باب القلعة نزل عن فرسه ونزل لنزوله حاجب الحجاب وبقية الحجاب الأربعة، وتقدم إليه نائب القلعة ومتولي الحجر والنقيب فنزعوا سيفه وحلوا حياصته، فيصلي ركعتين وهو محلول الوسط وحياصته في عنقه وسيفه بيد والي الحجر، ثم يقدم إليه العلم السلطاني فيقبله ويقبل الأرض، ثم يركب ويدخل إلى دار النيابة فيقرأ تقليده بحضرة القضاة والمباشرين وهو واقف على قدميه، وكلما ذكر الاسم الشريف السلطاني أو ذكر ثناء السلطان عليه في التقليد يأمره حاجب الحجاب بتقبيل الأرض، ثم يفيض على أرباب المناصب خلعا سنية بحسب مراتبهم، وقارىء التقليد هو كاتب السر ويكون على كرسي منصوب له واقفا عليه، ثم في كل يوم اثنين وخميس يركب بالكلفتة والقبا ويركب معه المقدمون وأرباب المناصب من الترك والجند ويسير إلى قبة المارداني ومعه الجاوشية يزعقون بين يديه. ثم يعود فيقف تحت القلعة راكبا وتعرض عليه الخيول والأملاك ويجهر الندا بالأمان للرعية وإظهار العدل. ثم يتقدمه كتائب الأمراء من هناك إلى باب دار العدل وهو مدى طويل، والأمراء المقدمون ثمانية لكل واحد منهم مماليك عبرتهم أن يكونوا مائة، فإن موضوع هؤلاء الأمراء أن يكون كل منهم أمير مائة فارس ومقدم ألف، وقد صار مدة طويلة دوادار من قبل السلطان يكون قائما في خدمة النائب لكنه في الباطن عين عليه، وكان في الغالب من أمراء الطبلخانات وقد يكون من المقدمين.
وأما نائب القلعة فكان قديما من أصاغر الأمراء، ثم من فتنة الناصري قرر النائب بالقلعة أمير مائة مقدم ألف، واستمر الأمر كذلك إلى يومنا هذا، وليس في نواب قلاع القاهرة ودمشق وغيرها مقدم ألف إلا نائب قلعة حلب خاصة ولم يكن له عادة بحضور الموكب، ثم صار بعضهم ربما حضر المجلس فيجلس دون أمير الميسرة وأمير الميسرة يجلس إلى جانب حاجب الحجاب.
عودا إلى تمام كيفية الحال في يوم الموكب: فإذا وصل إلى تجاة القلعة اصطفت البحرية وقوفا له حتى يسلم عليهم، ثم يدخل الباب فيقدم حاجب الحجاب وعصاه في يده ويمشي في خدمته إلى قرب الإيوان الذي
يجلس عليه وهو تجاه الباب الكبير، وليس بين الباب وبين الإيوان حجاب ولا سترة، ويكون قد سبقه إليه قاضي القضاة فجلسوا سطرا واحدا عن يساره فإن يمينه خلاء. ثم يجلس إلى جانب قاضي القضاة قاضيا العسكر ومفتيا دار العدل وتجاههم كاتب السر وناظر الجيش، ثم إلى جانب ناظر الجيش الموقعون فتدور الحلقة ويقف الدوادار الكبير وراء كاتب السر وناظر الجيش خارج الحلقة، وإن كان الوزير متعمما جلس معهم وإن كان تركيا جلس بين يدي الترك، فيسلم عن يساره على القضاة ثم عن يمينه على الأمراء ثم تجاهه على بقية الجماعة. ثم يجلس على مكان مرتفع معد لجلوسه نحو نصف ذراع ويجلس حاجب الحجاب على درجة أسفل من ذلك المكان بحيث يكون رأسه متسامتا لتخت النائب الذي يجلس عليه، والمقدمون يجلسون على مساطب باب دار النيابة فيأخذ القصص نقباء الجيش ثم الحجاب الصغار فيوصلونها إلى حاجب الحجاب فيناولها حاجب الحجاب لكاتب السر فيعطي ما يتعلق بالجيش لناظر الجيش ويرمي بالبقية إلى الموقعين، ثم تقرأ بعض القصص الشرعية ثم يقوم الحاجب فيأذن للقضاة بالانصراف.(3/10)