قال: ويعرف الصواب في هذه الأجوبة من العربية فلذلك وغيره أخّرنا شرحه لنذكره في الإعراب. قال أبو جعفر: أما قول من قال: معناه منتظرة فخطأ. سمعت علي بن سليمان يقول: نظرت إليه بمعنى انتظرته وإنما يقال: نظرته وهو قول إبراهيم بن محمد بن عرفة وغيره ممن يوثق بعلمه وأما من قال: إن المعنى إلى ثواب ربّها فخطأ أيضا على قول النحويين الرؤساء لأنه لا يجوز عندهم ولا عند أحد علمته نظرت زيدا أي نظرت ثوابه. ونحن نذكر الاحتجاج في ذلك من قول الأئمة والعلماء وأهل اللغة إذا كان أصلا من أصول السنة، ونذكر ما عارض به أهل الأهواء ونبدأ بالأحاديث الصحيحة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان المبين عن الله جلّ وعزّ. كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن إسحاق بن راهويه ثنا بقيّة بن الوليد ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود أن قتادة بن أبي أمية حدثهم عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني حدّثتكم عن المسيح الدجّال حتى خفت ألّا تعقلوه إنه قصير أفحج جعد أعور مطموس العين اليسرى ليست بناتئة ولا جحرا فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم
ليس بأعور إنكم لن تروا ربّكم جلّ ثناؤه حتى تموتوا» (1). قال أحمد بن شعيب: ثنا محمد بن بشار قال: ثنا أبو عبد الصمد ثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ ثناؤه إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» (2). وقرئ على أبي القاسم عبد الله بن محمد البغويّ عن هدبة بن خالد عن حمّاد بن سلمة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ}
[يونس: 26] قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنّة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنّة ويجرنا من النار فيكشف لهم عن الحجاب، فينظرون إلى الله عزّ وجلّ فما شيء أعطوه أحبّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» (3). قال أبو القاسم وحدّثني جدّي قال: ثنا يزيد بن هارون إن حماد بن سلمة بإسناده مثله. قال أبو القاسم وحدّثني هارون بن عبد الله، قال: سمعت يزيد يعني ابن هارون لما حدّث بهذا الحديث قال: من كذّب بهذا الحديث فهو زنديق أو كافر. قال أبو القاسم: حدثنا عبد الله بن عمر وأبو عبد الرّحمن الكوفي عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة ثنا بيان البجليّ عن قيس بن أبي حازم قال: حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (4) يعني القمر. قال حسين الجعفي: على رغم أنف جهيم والمريسي. قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن إبراهيم العبدي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدّثنا عبد الله بن إدريس ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قلنا يا رسول الله أنرى ربّنا جلّ ثناؤه قال:
«أتضارون في رؤية الشمس في الظهيرة في غير سحاب؟» قلنا لا. قال: أفتضارّون في رؤية القمر ليلة البدر في غير سحاب؟» قلنا: لا قال: «فإنكم لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارّون في رؤيتهما». قال أبو القاسم: وحدّثت عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش. قال: قال الأعمش: لا تضارّون يعني لا تمارون. قال أبو القاسم: وحدّثنا هدبة بن خالد ثنا وهيب بن خالد ثنا مصعب بن محمد عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أكلنا يرى ربه جل ذكره يوم القيامة؟ قال:
__________
(1) انظر تيسير الداني 176 (قرأ الكوفيون ونافع «تحبون» و «تذرون» بالتاء والباقون بالياء).
(2) انظر حلية الأولياء 5/ 157، ومشكاة المصابيح (5485).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 181، ومسلم في صحيحه، الإيمان 296، وابن ماجة في سننه 186، والحديث في إتحاف السادة المتقين 10/ 524، وتفسير ابن كثير 4/ 115.
(4) أخرجه الترمذي في سننه 11/ 269.(5/56)
«أكلّكم يرى الشّمس نصف النهار وليس في السماء سحابة؟» قالوا نعم. قال: «أفكلكم يرى القمر ليلة البدر وليس في السماء سحابة؟» قالوا: نعم. قال: «فو الذي نفسي بيده لترونّ ربكم جلّ وعزّ يوم القيامة لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارون في رؤيتهما» قال أبو القاسم: وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة: ثنا الأعمش أخبرني خيثمة بن عبد الرّحمن عن عديّ بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد منكم إلّا سيكلّمه ربه جلّ وعزّ ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب يحجبه فينظر أيمن منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أمامه فلا يرى شيئا إلّا النار فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة» (1) لم يقل في هذا الحديث عن الأعمش: ولا حاجب يحجبه، إلا أبو أسامة وحده. ومن ذلك ما حدّثناه أحمد بن علي بن سهيل ثنا زهير يعني ابن حرب ثنا إسماعيل عن هشام الدستوائي عن قتادة عن صفوان بن محرّر قال:
قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف فيقول: ربّ أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم قال فيعطى صحيفة حسابه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» (2). قال أبو جعفر: وهذا الباب عن أنس وعن أبي رزين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه عن الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر الصديق وحذيفة عن التابعين إلا إنّا كرهنا الإطالة إذ كان ما ذكرناه من الحديث كفاية. وقد حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام سمعت محمد بن يحيى النيسابوري يقول:
السّنّة عندنا وهو قول أئمتنا مالك بن أنس وأبي عبد الرّحمن بن عمر، والأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وأحمد بن حنبل وعليه عهدنا أهل العلم أنّ الله جلّ وعزّ يرى في الآخرة بالأبصار يراه أهل الجنة، فأما سواهم من بني آدم فلا قال: والحجة في ذلك أحاديث مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قيل له: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وذكر الحديث. قال محمد بن يحيى: وإن الإيمان بهذه الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رؤية الربّ في القيامة والقدر والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والدّجال والرجم ونزول الربّ تبارك وتعالى في كلّ ليلة بعد النصف أو الثلث الباقي والحساب والنار والجنة أنّهما مخلوقتان غير فانيتين، وأنه ليس أحد سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ونحوها من الأحاديث،
__________
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره 8/ 305. وابن أبي عاصم في السنة 1/ 196، والبغوي في شرح السنة 2/ 224، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 10/ 553.
(2) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 9/ 252، وابن ماجة باب 13حديث 185.(5/57)
والتصديق بها لازم للعباد أن يؤمنوا بها وإن لم تبلغه عقولهم ولم يعرفوا تفسيرها فعليهم الإيمان بها والتسليم بلا كيف ولا تنفير ولا قياس لأن أفعال الله لا تشبّه بأفعال العباد.
قال أبو جعفر: فهذا كلام العلماء في كل عصر المعروفين بالسّنة حتى انتهى ذلك إلى أبو جعفر محمد بن جرير، فذكر كلام من أنكر الرؤية واحتجاجه وتمويهه وردّ ذلك عليه وبيّنه ونحن نذكر كلامه (1) نصا إذ كان قد بلغ فيه المراد إن شاء الله فذكر اعتراضهم بقوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ} [الأنعام: 103] فأما قوله جلّ وعزّ {قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قََالَ لَنْ تَرََانِي} [الأعراف: 143] فمما لا يحتاج إلى حجّة لأن فيه دليلا على النظر إذ كان موسى صلّى الله عليه وسلّم مع محلّه لا يجوز أن يسأل ما لا يكون فدلّ على أن هذا جائز أن يكون، وكان الوقت الذي سأله في الدنيا، فالجواب أنه لا يراه في الدنيا أحد واحتجّ في تمويههم بقوله عزّ وجلّ لا تدركه الأبصار بقول عطية العوفي في قول الله جلّ وعزّ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} قال: هم ينظرون إلى الله عزّ وجلّ لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} قال: واعتلّ قائلو هذه المقالة بقوله جلّ وعزّ: {حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس: 90] والغرق غير موصوف بأنه رآه قالوا: فمعنى «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه بعيدا لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه مثل «حتّى إذا أدركه الغرق» فكذا قد يرى الشيء الشيء ولا يدركه ومثله: {قََالَ أَصْحََابُ مُوسى ََ إِنََّا لَمُدْرَكُونَ}
[الشعراء: 61] وقد كان أصحاب فرعون رأوهم ولم يدركوهم وقد قال جلّ ثناؤه {لََا تَخََافُ دَرَكاً} [طه: 77] فإذا كان الشيء قد يرى الشيء لا يدركه ويدركه ولا يراه علم أنّ «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. والمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم جلّ وعزّ ولا تدركه أبصارهم بمعنى لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يكون يوصف الله بأن شيئا يحيط به ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط به. قال تبارك وتعالى: {وَلََا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلََّا بِمََا شََاءَ} [البقرة: 255] ومعنى العلم هنا المعلوم فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء نفي عن أن يعلموه وإنما هو نفي الإحاطة به، كذا ليس في نفي إدراك الله جلّ وعزّ البصر في رؤيته له نفي رؤيته له فكما جاز أن يعلم الخلق شيئا ولا يحيطون به علما كذا جاز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم إذ كان معنى الرؤية غير معنى الإدراك، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية لأن معنى الإدراك الإحاطة كما قال ابن عباس: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها. فإن قيل: وما أنكرتم أن يكون معنى «لا تدركه الأبصار» لا
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 13الحديث 183.(5/58)
تراه؟ قلنا له: أنكرنا ذلك لأن الله أخبر في كتابه أن وجوها في القيامة إلى الله سبحانه ناظرة، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيرون ربهم جلّ وعزّ يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر وكما يرون الشمس ليس دونها سحابة. فكتاب الله يصدّق بعضه بعضا، فعلم أن معنى {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} غير معنى {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ}. قال: وقيل المعنى لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا وتدركه في الآخرة فجعلوا هذا مخصوصا. قال (1): وقيل:
المعنى لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، وقيل: «لا تدركه الأبصار» بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم، وقيل: لا تدركه الأبصار كإدراكه الخلق، لأن أبصارهم ضعيفة، وقال آخرون: الآية على العموم ولن يدرك الله جلّ ثناؤه بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله جلّ وعزّ يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها. والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم سترون ربكم فالمؤمنون يرونه والكافرون عند يومئذ محجوبون» (2). ولأهل هذه المقالة أشياء يلبسون بها فمنهم من يدفع الحديث مكابرة وطعنا على أهل الإسلام، ومنهم من يأتي بأشياء نكره ذكرها. قال محمد بن جرير: وإنما ذكرنا هذا ليعرف من نظر نعني فيه أنهم لا يرجعون من قولهم إلّا إلى ما لبّس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، ولا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل، ولا رواية عن الرسول صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلماء يخبطون وفي العمياء يترددون نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. قال أبو جعفر: فأما شرح «تضارون» واختلاف الرواية فيه فنمليه. فيه ثمانية أوجه: يروى «تضارون» بالتخفيف و «تضامون» مخففا، ويجوز تضامّون وتضامّون بضم التاء وتشديد الميم والراء، ويجوز تضامّون على أن الأصل تتضامّون حذفت التاء كما قال جلّ وعزّ {وَلََا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ويجوز تضّامّون تدغم التاء في الضاد، ويجوز تضارّون على حذف التاء، ويجوز تضّارّون على إدغام التاء في الضاد والذي رواه المتقنون مخفّف تضامون وتضارون. سمعت أبا إسحاق يقول: معناه لا ينالكم ضيم ولا ضير في رؤيته أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يضيم بعضكم بعضا، ولا يضير بعضكم بعضا وقال أهل اللغة قولين آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء، ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء، وقال بعضهم: بفتح التاء وتشديد الراء والميم على معنى تتضامّون وتتضارّون، ومعنى هذا أنه لا يضار بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال ضاررت فلانا أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته أنه لا يضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرنيه كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 7/ 299.
(2) انظر تفسير الطبري 7/ 302.(5/59)
قال أبو جعفر: الذي ذكرناه من تفسير الأعمش أن معناه لا تضارّون يوجب أن تكون روايته لا تضارّون والأصل لا تضارون ثم أدغمت الراء في الراء، ومن قال معناه لا تضارّون فالأصل عنده لا تضارون ثم أدغم، وهذا كله من ضارّه إذا خالفه كما حكاه أبو إسحاق وخالفه وما رآه واحد. ويقال: نضر وجهه نضرا ونضارة ونضرة ونضره الله ينضره وأنضره ينضره من الإشراق والنعمة وحسن العيش والغنى.
[سورة القيامة (75): آية 24]
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بََاسِرَةٌ (24)}
مبتدأ وخبره.
[سورة القيامة (75): آية 25]
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهََا فََاقِرَةٌ (25)}
ولا يجوز رفع يفعل وجاز في {وَحَسِبُوا أَلََّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] لأن «لا» عوض، والفاقرة الداهية والأمر العظيم.
[سورة القيامة (75): الآيات 26الى 27]
{كَلاََّ إِذََا بَلَغَتِ التَّرََاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رََاقٍ (27)}
{كَلََّا} تكون بمعنى حقا، وتكون مبتدأ على هذا هاهنا. وزعم محمد بن جرير (1)
أن التمام هنا «كلا» وأن المعنى ليس الأمر كما يقول المشركون من أنهم لا يجازون على شركهم ومعصيتهم {إِذََا بَلَغَتِ التَّرََاقِيَ} يكون العامل في إذا «باسرة» أو «بلغت» فإذا كان العامل فيها «بلغت» كان الجواب فيما بعد وحذفت الياء من {مَنْ رََاقٍ} (2) لسكونها وسكون التنوين وأثبتت في التراقي لأنه لا تنوين فيه.
[سورة القيامة (75): آية 30]
{إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسََاقُ (30)}
في موضع جواب إذا.
[سورة القيامة (75): الآيات 31الى 32]
{فَلاََ صَدَّقَ وَلاََ صَلََّى (31) وَلََكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلََّى (32)}
{فَلََا صَدَّقَ وَلََا صَلََّى} {لََا} هاهنا نفي، وليست بعاطفة، ولا يجوز عند النحويين:
ضربت زيدا لا ضربت عمرا، والعلّة في ذلك أنه كره أن يشبه الثاني الدعاء. وفي الآية المعنى لم يصدّق ولم يصلّ يدل على هذا {وَلََكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلََّى}.
[سورة القيامة (75): آية 33]
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلى ََ أَهْلِهِ يَتَمَطََّى (33)}
أي ذهب معرضا عن طاعة الله جلّ وعزّ متهاونا بالموعظة و {يَتَمَطََّى} في موضع نصب على الحال.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 29/ 162.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 381.(5/60)
[سورة القيامة (75): الآيات 34الى 35]
{أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ (34) ثُمَّ أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ (35)}
يقال لمن وقع في هلكة أو قاربها.
[سورة القيامة (75): آية 36]
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)}
في موضع نصب أيضا على الحال، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى «أن يترك سدّى» يقول مهملا.
[سورة القيامة (75): آية 37]
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ََ (37)}
على تذكير المني، وهو أقرب إليه و «تمنى» (1) للنطفة.
[سورة القيامة (75): آية 38]
{ثُمَّ كََانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوََّى (38)}
أي فخلقه الله جلّ وعزّ فسوّاه بشرا ناطقا سميعا بصيرا.
[سورة القيامة (75): آية 39]
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ (39)}
قيل: المعنى فجعل من الإنسان أولادا ذكورا وإناثا، الذكر والأنثى على البدل من الزوجين.
[سورة القيامة (75): آية 40]
{أَلَيْسَ ذََلِكَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ (40)}
فدلّ جلّ وعزّ دلالة بيّنة أنّ إحياءه إيّاه بعد الموت ليس بأكثر من خلقه إياه من نطفة ثم سوّاه إنسانا إلى أن ولد له، وأجاز الفراء (2) {عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ} بقلب حركة الياء الأولى على الحاء ويدغم الياء في الياء. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (3)
والعلّة في ذلك، وهو معنى كلام أبي إسحاق أنك إذا قلت: «يحيي» لم يجز الإدغام بإجماع النحويين لئلا يلتقي ساكنان فإذا قلت: أن يحيي لم يجز الإدغام أيضا لأن الياء وإن كانت قد تحركت فحركتها عارضة وأيضا فكيف يجوز أن يكون حرف واحد يدغم في موضع لعامل دخل عليه غير ملازم، ولا يجوز أن يدغم وهو في موضع رفع، والرفع الأصل.
__________
(1) انظر تيسير الداني 176.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 213.
(3) انظر الكتاب 4/ 540.(5/61)
76 - شرح إعراب سورة هل أتى [الإنسان]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الإنسان (76): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنََاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)}
الإنسان الأول عند أهل التفسير يراد به آدم عليه السّلام، وقد يجوز أن يراد به الجنس والثاني للجنس لا غير. والنطفة عند العرب الماء القليل في وعاء {أَمْشََاجٍ} من نعت نطفة على غير حذف، في قول من قال: الأمشاج العروق التي تكون في النطفة كما تقول: الإنسان أعضاء مجموعة، ومن قال: الأمشاج ماء الرجل وماء المرأة فهو على هذا أيضا سماها جميعا نطفة، وهما يختلطان ويخلق الإنسان منهما. ومن قال:
الأمشاج العلقة والمضغة فالتقدير عنده من نطفة ذات أمشاج. وواحدتهما مشيج مثل شريف وأشراف، ويقال: مشج مثل عدل وأعدال {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنََاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} قال الفراء:
هو على التقديم والتأخير، والمعنى عنده جعلنا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه أي لنختبره. وقال من خالفه في هذا: هو خطأ من غير جهة فمنها أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، ومنها أن الإنسان إنما يبتلى أي يختبر ويؤمر وينهى إذا كان سوي العقل كان سميعا بصيرا ولم يكن كذلك، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال: وليس في الكلام لام كي، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه.
[سورة الإنسان (76): آية 3]
{إِنََّا هَدَيْنََاهُ السَّبِيلَ إِمََّا شََاكِراً وَإِمََّا كَفُوراً (3)}
منصوبان على الحال أي إنّا خلقنا الإنسان شاكرا أو كفورا. ومعنى إمّا أو وإن كانت تجيء في أول الكلام ليدلّ على المعنى ويدلك على ذلك قول أهل التفسير أن المعنى إنّا هديناه السبيل إما شقيّا وإما سعيدا والشقاء والسعادة بفرع منهما وهو في بطن أمه وهكذا خبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي حال مقدرة، وأجاز الفراء (1) أن يكون «ما»
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 389.(5/62)
هاهنا زائدة وتكون «أن» للشرط والمجازاة على أن يكون المعنى إنّا هديناه السبيل إن شكر أو كفر. قال أبو جعفر: وهذا القول ظاهره خطأ لأن «إن» التي للشرط لا تقع على الأسماء وليس في الآية إما شكر إنما فيها إما شاكرا وإما كفورا. فهذان اسمان، ولا يجازى بالأسماء عند أحد من النحويين.
[سورة الإنسان (76): آية 4]
{إِنََّا أَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ سَلاََسِلَ وَأَغْلاََلاً وَسَعِيراً (4)}
هذه قراءة أبي عمرو وحمزة بغير تنوين إلّا أن الصحيح عن حمزة أنه كان يقف «سلاسلا» (1) بالألف اتباعا للسواد لأنها في مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة بالألف، وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة غير حمزة «إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» والحجّة لأبي عمرو وحمزة أن «سلاسل» لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع فثقل فمنع الصرف، والوقوف عليه بالألف والحجة فيه أن الرؤاسي والكسائي حكيا عن العرب الوقوف على ما لا ينصرف بالألف لبيان الفتحة فقد صحّت هذه القراءة من كلام العرب. والحجّة لمن لوّن ما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين أن العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. فهذه حجة وحجة أخرى أن بعض أهل النظر يقول: كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام لأن الشعر أصل كلام العرب فكيف نتحكّم في كلامها ونجعل الشعر خارجا عنه؟ وحجة ثالثة أنه لما كان إلى جانبه جمع ينصرف فأتبع الأول الثاني.
[سورة الإنسان (76): آية 5]
{إِنَّ الْأَبْرََارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كََانَ مِزََاجُهََا كََافُوراً (5)}
واحد الأبرار برّ ربّما غلط الضعيف في العربية فقال: هو جمع فعل شبّه بفعل وذلك غلط. إنما هو جمع فعل يقال: بررت والدي فأنا بارّ وبرّ فبرّ فعل مثل حذرت فأنا حذر، وفعل وأفعال قياس صحيح. وقيل: إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الله جلّ وعزّ بطاعته في أداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل: معنى {كََانَ مِزََاجُهََا كََافُوراً} في طيب ريحها.
[سورة الإنسان (76): آية 6]
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهََا عِبََادُ اللََّهِ يُفَجِّرُونَهََا تَفْجِيراً (6)}
{عَيْناً} في نصبها غير وجه أني سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: نظرت في نصبها فلم يصحّ لي فيه إلا أنها منصوبة بمعنى أعني، وكذا الثانية فهذا وجه، ووجه ثان أن يكون بمعنى الحال من المضمر في مزاجها، ووجه رابع يكون مفعولا بها، والتقدير يشربون عينا يشرب بها عباد الله كان مزاجها كافورا. وفي
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 387.(5/63)
يشرب بها وجهان: قال الفراء (1): يشرب بها ويشربها واحد. قال أبو جعفر: وأحسن من هذا أن يكون المعنى يروى بها. وقد ذكرته {يُفَجِّرُونَهََا تَفْجِيراً} مصدر. ويروى أن أحدهم إذا أراد أن ينفجر له الماء شق ذلك الموضع بعود يجري فيه الماء.
[سورة الإنسان (76): آية 7]
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخََافُونَ يَوْماً كََانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)}
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخََافُونَ} وهو كل ما وجب على الإنسان أن يفعله نذره أو لم ينذره، قال جلّ وعزّ: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]. قال عنترة: [الكامل] 514 الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم القهما دمي (2)
وقول الفراء (3): كان فيه إضمار «كان» أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا، وكذا {يَخََافُونَ يَوْماً كََانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}.
[سورة الإنسان (76): آية 8]
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعََامَ عَلى ََ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)}
اختلف العلماء في الأسير هاهنا، فقال بعضهم: هو من أهل الحرب لأنه لم يكن في ذلك الوقت أسير إلّا منهم، وقال بعضهم: هو لأهل الحرب وللمسلمين، وهذا أولى بعموم الآية فلا يقع فيها خصوص إلا بدليل قاطع فيكون لمن كان في ذلك الوقت ولمن بعد، كما كان {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}.
[سورة الإنسان (76): آية 9]
{إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ لاََ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزََاءً وَلاََ شُكُوراً (9)}
{إِنَّمََا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللََّهِ} أي يقولون لا نريد منكم جزاء ولا شكورا يكون جمع شكر، ويكون مصدرا.
[سورة الإنسان (76): آية 10]
{إِنََّا نَخََافُ مِنْ رَبِّنََا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}
قال الفراء: القمطرير والقماطر الشديد وأنشد: [الطويل] 515 بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر (4) (5)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 215.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 222، والأغاني 9/ 212، وشرح التصريح 2/ 69، والشعر والشعراء 1/ 259، والمقاصد النحوية 3/ 551، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 225، وشرح الأشموني 2/ 309.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 216.
(4) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (قمطر)، وتاج العروس (قمطر)، وديوان الأدب 2/ 57، ومعاني الفراء 3/ 216، وتفسير الطبري 29/ 21.
(5) انظر البحر المحيط 8/ 388.(5/64)
[سورة الإنسان (76): آية 11]
{فَوَقََاهُمُ اللََّهُ شَرَّ ذََلِكَ الْيَوْمِ وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)}
{فَوَقََاهُمُ اللََّهُ شَرَّ ذََلِكَ الْيَوْمِ} نعت لذلك وإن شئت كان بدل. {وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب.
[سورة الإنسان (76): آية 12]
{وَجَزََاهُمْ بِمََا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)}
قال قتادة: بما صبروا عن المعاصي. فهذا أصحّ قول يقال لمن صبر عن المعاصي صابر مطلقا فإن أردت لغير المعاصي قلت صابر على كذا.
[سورة الإنسان (76): آية 13]
{مُتَّكِئِينَ فِيهََا عَلَى الْأَرََائِكِ لاََ يَرَوْنَ فِيهََا شَمْساً وَلاََ زَمْهَرِيراً (13)}
{مُتَّكِئِينَ فِيهََا عَلَى الْأَرََائِكِ} قال الفراء: نصب. {مُتَّكِئِينَ} على القطع وهو عند البصريين منصوب على الحال من التاء والميم، والعامل فيه جزاء ولا يجوز أن يعمل فيه صبروا لأن {مُتَّكِئِينَ} إنما هو في الجنة، والصبر في الدنيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه نعت لجنة، ولذلك حسن لأنه قد عاد الضمير عليها {لََا يَرَوْنَ فِيهََا شَمْساً وَلََا زَمْهَرِيراً} القول فيه كالقول في «متكئين»، ويكون معناه غير رائعين.
[سورة الإنسان (76): الآيات 14الى 15]
{وَدََانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاََلُهََا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهََا تَذْلِيلاً (14) وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوََابٍ كََانَتْ قَوََارِيرَا (15)}
{وَدََانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلََالُهََا} فيه ستة أوجه يجوز أن يكون معطوفا على {جَنَّةً} أقيمت الصفة مقام الموصوف أي وجزاهم جنّة دانية عليهم ظلالها، ويجوز أن يكون معطوفا على متكئين، ويجوز أن يكون معطوفا على لا يرون لأن معناه غير رائين ويجوز أن يكون منصوبا على المدح مثل {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ} [النساء: 162] وإن كان نكرة فهو يشبه المعرفة فهذه أربعة أوجه. وفي قراءة ابن مسعود «ودانيا عليهم ظلالها» (1) على تذكير الجمع، وفي قراءة أبيّ «ودان عليهم ظلالها» «دان» في موضع رفع أصله داني استثقلت الحركة في الياء فحذفت الضمة، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين، ولم تستثقل الحركة في ودانيا لخفة الفتحة {ظِلََالُهََا} مرفوع بالدنو من قول من نصب الأول، ومن قال: «ودان ظلالها» عنده مرفوع بالابتداء، ودان خبره. كما تقول: مررت بزيد جالس أبوه أي أبوه جالس. {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهََا تَذْلِيلًا} عطف جملة على جملة فذلك صلح أن يأتي بالماضي وقبله اسم الفاعل، وبعده {وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوََابٍ} أهل التفسير منهم مجاهد: يقولون: الكوب الكوز الذي لا عروة له إلا قتادة فإنه قال: هو
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.(5/65)
القدح {كََانَتْ قَوََارِيرَا} (1) قراءة أبي عمرو الثاني بغير ألف وفرق بينهما لجهتين: أحداهما أنه كذا في مصاحف أهل البصرة، والثانية أن الأولى رأس آية فحسن إثبات الألف فيها.
فأما حمزة فقرأ «كانت قوارير قوارير من فضّة» لأنهما لا ينصرفان فهذا شيء بيّن لولا مخالفة السواد، وقرأ المدنيون فيهما جميعا، والذي يحتجّ به لهم لا يوجد إلا من قول الكوفيين وهو أن الكسائي والفراء أجازا صرف ما لا ينصرف إلّا أفعل منك واحتجّ الفراء بكثرة ذلك في الشعر.
[سورة الإنسان (76): آية 16]
{قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهََا تَقْدِيراً (16)}
{قَدَّرُوهََا تَقْدِيراً} عن الشّعبي وقتادة وابن أبزى وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا {قَدَّرُوهََا} (2) أي قدّروا عليها أي على قدر ربّهم لا يزيد ذلك ولا ينقص.
[سورة الإنسان (76): آية 17]
{وَيُسْقَوْنَ فِيهََا كَأْساً كََانَ مِزََاجُهََا زَنْجَبِيلاً (17)}
{وَيُسْقَوْنَ فِيهََا كَأْساً} قال أبو الحسن بن كيسان: لا يقال للقدح: كأس حتّى تكون فيه الخمر وكذا لا يقال: مائدة للخوان حتى يكون عليه طعام، وكذا الظعينة {كََانَ مِزََاجُهََا زَنْجَبِيلًا} أي كالزّنجبيل في لذعه وكانوا يستطيبون ذلك فخوطبوا على ما يعرفون.
[سورة الإنسان (76): آية 18]
{عَيْناً فِيهََا تُسَمََّى سَلْسَبِيلاً (18)}
{عَيْناً} قد تقدّم ما يغني عن الكلام في نصبها {تُسَمََّى سَلْسَبِيلًا} فعلليل من السّلاسة، ومن قال: هو اسم العين صرف ما لا يجب أن ينصرف.
[سورة الإنسان (76): آية 19]
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ إِذََا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)}
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} أي بما يحتاجون إليه. {إِذََا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أهل التفسير على أن المعنى في هذا التشبيه لكثرتهم وحسنهم، وقال عبد الله بن عمر: ما أحد من أهل الجنة إلّا له إلف غلام كلّ غلام على عمل ليس عليه صاحبه.
[سورة الإنسان (76): آية 20]
{وَإِذََا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)}
{وَإِذََا رَأَيْتَ ثَمَّ} لأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: فأكثر البصريين يقول: «ثمّ» ظرف، ولم تعدّ رأيت كما تقول: ظننت في الدار فلا تعدّى ظننت على قول سيبويه (3)، وقال الأخفش، وهو أحد قولي الفراء (4): «ثمّ» مفعول بها أي فإذا نظرت ثمّ وقول آخر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 217، والبحر المحيط 8/ 389.
(2) انظر الكتاب 1/ 180.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 218.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 13، والطبري في تفسيره 19/ 120، وابن كثير في تفسيره 8/ 305.(5/66)
للفراء قال: التقدير: وإذا رأيت ما ثمّ وحذف «ما». قال أبو جعفر: «وثمّ» عند جميع النحويين مبنيّ غير معرب لتنقّله وحذف «ما» خطأ عند البصريين لأنه يحذف الموصول ويبقى الصلة فكأنه جاء ببعض الاسم {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} جواب «إذا»، ويبيّن لك معنى هذا كما حدّثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدّثنا زهير يعني ابن حرب ثنا محمد بن حازم ثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي عام ينظر أزواجه وسرره وخدمه وإنّ أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله جلّ وعزّ في كل يوم مرتين» (1).
[سورة الإنسان (76): آية 21]
{عََالِيَهُمْ ثِيََابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسََاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقََاهُمْ رَبُّهُمْ شَرََاباً طَهُوراً (21)}
{عََالِيَهُمْ ثِيََابُ سُندُسٍ} مبتدأ وخبره، والأصل عاليهم حذفت الضمة لثقلها. وهذه قراءة بيّنة، وهي قراءة أبي جعفر ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عبد الرّحمن والحسن وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وعاصم {عََالِيَهُمْ} بالنصب على أنه ظرف، ومثّله الفراء (2) بقوله: زيد داخل الدار. قال أبو جعفر: أما عاليهم فبيّن أنه منصوب على الظرف، وفي معناه قولان: أحدهما أن الخضرة تعلو ثياب أهل الجنة، والقول الآخر أن هذه النبات الخضر فوق حجالهم لا عليهم وأما زيد داخل الدار فلا يجوز عند جماعة من النحويين كما لا يقال: زيد الدار، ولكن لو قلت: زيد خارج الدار جاز، وروى عبد الوارث عن حميد عن مجاهد أنه قرأ «عليهم ثياب سندس» قال أبو جعفر: وهذا لا يحتاج إلى تفسير، وفي قراءة ابن مسعود «عاليتهم ثياب سندس» (3) على تأنيث الجماعة، وقرأ الحسن ونافع «ثياب سندس خضر وإستبرق» (4) وقرأ الأعمش وحمزة «ثياب سندس خضر وإستبرق» بخفضهما، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «ثياب سندس خضر وإستبرق» برفع «خضر» وخفض «إستبرق»، وقرأ ابن كثير وعاصم «ثياب سندس خضر وإستبرق» قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وبغير تنوين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى حسنة متّصل الرفع بعضه ببعض فخضر نعت للثياب وإستبرق معطوف عليها:
وانصرف لأنه نكرة وقطعت الألف لأنه اسم ولو سمّيت رجلا باستكبر لقلت:
جاءني استكبر. هذا قول الخليل وسيبويه والقراءة الثانية على أن من قرأ بها نعت سندسا بخضر. وفي ذلك بعد لأنه إنّما يقال: هذا سندس أخضر كما يقال. هذا حرير أخضر إلا أن ذلك جائز لأنه جنس والجنس يؤدّي عن الجميع كقولك:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 219.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 219.
(3) انظر تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 391.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 219.(5/67)
سندس وسندسات واحد، وعطف وإستبرق على سندس أي وثياب وإستبرق، والقراءة الثالثة حسنة أيضا جعله {خُضْرٌ} نعتا للثياب، وهو الوجه البين الحسن، وخفض إستبرق نسقا على سندس أيضا. والقراءة الرابعة خفض فيها خضر على أنها نعت لسندس كما مر ورفع وإستبرق لأنه عطف على ثياب، وقراءة ابن محيصن عند كل من ذكر القراءات ممن علمناه من أهل العربية لحن لأنه منع إستبرق من الصرف وهو نكرة، ولا يخلو منعه إياه من إحدى وجهين: إما أن يكون منعه من الصرف لأنه أعجمي، وإما أن يكون ذلك لأنه على وزن الفعل، والعجمي وما كان على وزن الفعل ينصرفان في النكرة، وأيضا فإنه وصل الألف، وذلك خطأ عند الخليل وسيبويه لما ذكرنا ونصب «إستبرق» وإن كان هذا يتهيّأ أن يحتال في نصبه فهذا ما فيه مما قد ذكر بعضه. قال أبو جعفر: ولو احتيل فيه فقيل: هو فعل ماض أي وبرق هذا الجمع لكان ذلك عندي شيئا يجوز وإن كنت لا أعلم أحدا ذكره. {وَحُلُّوا أَسََاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وقد طعن في هذا بعض الملحدين. إما لجهله باللغة وإما لقصده الكفر اجتراء على الله عزّ وجلّ وأخذ شيء من حطام الدنيا وذلك أن الجنة لا بيع فيها ولا شراء ولا معنى لطعنه لقلة قيمة الفضة، ولأن هذا لا يحسن للرجال فجهل معنى التفسير لأن في التفسير أن هذا يكون لأزواجهن، ولو كان لهم ما دفع حسنه، وقد طعن في الإستبرق ولم يدر معناه أو داره وتعمّد الكفر. والإستبرق عنه العرب ما كان متينا وغلظ في نفسه لا غلظ خيوطه.
قال أبو جعفر: فقد ذكرنا أن هذا الإستبرق يكون فوق حجالهم {وَسَقََاهُمْ رَبُّهُمْ شَرََاباً طَهُوراً} أي طاهرا من الأقذار والأدناس والأوساخ.
[سورة الإنسان (76): آية 22]
{إِنَّ هََذََا كََانَ لَكُمْ جَزََاءً وَكََانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}
{إِنَّ هََذََا كََانَ لَكُمْ جَزََاءً} ويجوز رفع جزاء على خبر «إنّ» وتكون «كان» ملغاة {وَكََانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} خبر «كان» ولو كان مرفوعا جاز أن يكون اسم كان فيها مضمرا ولا تغلى إذا كانت مبتدأة لأن الكلام مبنيّ عليها.
[سورة الإنسان (76): آية 23]
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)}
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} يكون «نحن» في موضع نصب صفة لاسم إنّ، ويجوز أن تكون فاصلة لا موضع لها، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «نزّلنا» {تَنْزِيلًا} مصدر جيء به للتوكيد.
[سورة الإنسان (76): آية 24]
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاََ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)}
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر على أذاهم، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأطأنّ عنقه {وَلََا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} قال
الفراء (1) «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر: و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا». قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر: فالقول الأول صواب على قول سيبويه، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت: لا تكلّم زيدا أو عمرا، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت: لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور.(5/68)
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر على أذاهم، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأطأنّ عنقه {وَلََا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} قال
الفراء (1) «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر: و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا». قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر: فالقول الأول صواب على قول سيبويه، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت: لا تكلّم زيدا أو عمرا، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت: لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور.
[سورة الإنسان (76): آية 25]
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25)}
{بُكْرَةً} يكون معرفة فلا ينصرف ويكون نكرة فينصرف. فهي هاهنا نكرة فلذلك صرفت لأن بعدها {وَأَصِيلًا} وهو نكرة ولا تكون معرفة إلا أن تدخل فيه الألف واللام.
[سورة الإنسان (76): آية 26]
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} التقدير فاسجد له من الليل {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} قيل: هو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل، وقيل: هو على الندب وقيل: هو خاص للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الإنسان (76): آية 27]
{إِنَّ هََؤُلاََءِ يُحِبُّونَ الْعََاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرََاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}
{إِنَّ هََؤُلََاءِ يُحِبُّونَ الْعََاجِلَةَ} أي يحبون خير الدنيا. {وَيَذَرُونَ وَرََاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} قال سفيان: يعني الآخرة. قال أبو جعفر: وقيل: وراء بمعنى قدّام ومن يمنع من الأضداد يجيز هذا لأن وراء مشتقّ من توارى فهو يقع لما بين يديك وما خلفك. وقيل:
التقدير: ويذرون وراءهم عمل يوم ثقيل. أي لا يعملون للآخرة.
[سورة الإنسان (76): آية 28]
{نَحْنُ خَلَقْنََاهُمْ وَشَدَدْنََا أَسْرَهُمْ وَإِذََا شِئْنََا بَدَّلْنََا أَمْثََالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)}
{نَحْنُ خَلَقْنََاهُمْ وَشَدَدْنََا أَسْرَهُمْ} عن أبي هريرة قال: المفاصل. وقال ابن زيد:
القوة، وقيل: هو موضع الحديث. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: أسرهم خلقهم. قال أبو جعفر: يكون من قولهم: ما أحسن أسر هذا الرجل أي خلقه ومن هذا أخذه بأسره أي بجملته وخلقته لم يبق منه شيئا {وَإِذََا شِئْنََا بَدَّلْنََا أَمْثََالَهُمْ تَبْدِيلًا} قال ابن زيد يعني بني آدم الذين خالفوا طاعة الله جلّ وعزّ وأمثالهم من بني آدم أيضا.
__________
(1) قرأ الكوفيون ونافع بالتاء والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 177.(5/69)
[سورة الإنسان (76): آية 29]
{إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلاً (29)}
{إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ} قيل: أي هذه الأمثال والقصص {فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا} أي فمن شاء اتّخذ إلى رضاء ربه طريقا بطاعة الله عزّ وجلّ والانتهاء عن معاصيه.
[سورة الإنسان (76): آية 30]
{وَمََا تَشََاؤُنَ إِلاََّ أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)}
{وَمََا تَشََاؤُنَ} (1) اتّخاذ السبيل إلا بأن يشاء الله ذلك لأن المشيئة إليه، وحذفت الباء فصارت «أن» في موضع نصب ومن النحويين من يقول: هي في موضع خفض.
{إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً} أي بما يشاء أن يتّخذ إلى رضاه طريقا {حَكِيماً} في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عنه.
[سورة الإنسان (76): آية 31]
{يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً (31)}
{يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي بأن يوفّقه للتوبة فيتوب فيدخل الجنة. {وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} نصب الظالمين عند سيبويه بإضمار فعل يفسره ما بعده أي ويعذّب الظالمين. وأما الكوفيون فقالوا: نصبت لأن الواو ظرف للفعل أي ظرف لأعدّ. قال أبو جعفر: وهذا يحتاج إلى أن يبيّن ما الناصب، وقد زاد الفراء (2) في هذا إشكالا فقال:
يجوز رفعه وهو مثل {وَالشُّعَرََاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغََاوُونَ} [الشعراء: 224]. قال أبو جعفر:
وهذا لا يشبه من ذلك شيئا إلا على بعد. لأن قبل هذا فعلا فاختير فيه النصب ليضمر فعلا ناصبا فيعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، والشعراء ليس يليهم فعل، وإنما يليهم مبتدأ وخبره. قال جلّ وعزّ:
{وَأَكْثَرُهُمْ كََاذِبُونَ} [الشعراء: 223] وهاهنا يدخل من يشاء في رحمته ويجوز الرفع على أن يقطعه من الأول. قال أبو حاتم حدثني الأصمعي. قال: سمعت من يقرأ:
«والظّالمون أعدّ لهم عذابا أليما» بالرفع، وفي قراءة عبد الله «وللظّالمين أعدّ لهم عذابا أليما» (3) بتكرير اللام.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 220.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 220، والبحر المحيط 8/ 393.
(3) مرّ الشاهد رقم (51).(5/70)
77 - شرح إعراب سورة المرسلات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المرسلات (77): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالْمُرْسَلاََتِ عُرْفاً (1) فَالْعََاصِفََاتِ عَصْفاً (2) وَالنََّاشِرََاتِ نَشْراً (3)}
{وَالْمُرْسَلََاتِ عُرْفاً} (1) قال أبو جعفر: قد ذكرنا في هذه الآيات أقوالا، ونزيد ذلك شرحا وبيانا. قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله عزّ وجلّ: {وَالْمُرْسَلََاتِ عُرْفاً} (1) قال: الرياح {فَالْعََاصِفََاتِ عَصْفاً} (2) قال: الريح {وَالنََّاشِرََاتِ نَشْراً} (3) قال: الريح. قال أبو جعفر: وقد روي عن ابن مسعود أنه قال {الْمُرْسَلََاتِ} الملائكة: والقول بأنها الرياح قول ابن عباس وأبي صالح ومجاهد وقتادة و {فَالْعََاصِفََاتِ} الرياح وذلك عن ثلاثة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم {وَالنََّاشِرََاتِ} قد روي عن ابن مسعود أنها الملائكة والرواية الأولى أنها الريح قول ابن عباس، وعن أبي صالح أن {النََّاشِرََاتِ} المطر.
[سورة المرسلات (77): آية 4]
{فَالْفََارِقََاتِ فَرْقاً (4)}
عن ابن مسعود وابن عباس أنها الملائكة، وروى سعيد عن قتادة {فَالْفََارِقََاتِ فَرْقاً} قال القرآن فرّق بين الحقّ والباطل، والتقدير على هذا: فالآيات الفارقات.
[سورة المرسلات (77): آية 5]
{فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً (5)}
عن ابن مسعود وابن عباس قالا: الملائكة. قال قتادة: الملائكة تلقي الذّكر إلى الأنبياء عليهم السّلام، وعن أبي صالح في بعض هذه، قال الأنبياء. قال أبو جعفر: قد ذكرنا أن الصفة في هذا أقيمت مقام الموصوف فلهذا وقع الاختلاف فإذا كان التقدير:
وربّ المرسلات فالمعنى واحد والقسم بالله جلّ وعزّ، وإذا زدنا هذا شرحا قلنا قد ذكرنا ما قيل إنها الرياح وأنها الملائكة وأنها الرسل عليهم السّلام ولم نجد حجّة قاطعة تحكم لأحد هذه الأقوال فوجب أن يردّ إلى عموم الظاهر فيكون عاما لهذه الأشياء
كلها. {عُرْفاً} منصوب على الحال إذا كان معناه متتابعة وإذا كان معناه والملائكة المرسلات بالعرف أي بأمر الله جلّ وعزّ وطاعته وكتبه، فالتقدير بالعرف فحذف الباء فتعدّى الفعل، كما أنشد سيبويه: [البسيط] 516 أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (1)
{عَصْفاً} و {نَشْراً} و {فَرْقاً} مصادر تفيد التوكيد {فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً} مفعول به.(5/71)
وربّ المرسلات فالمعنى واحد والقسم بالله جلّ وعزّ، وإذا زدنا هذا شرحا قلنا قد ذكرنا ما قيل إنها الرياح وأنها الملائكة وأنها الرسل عليهم السّلام ولم نجد حجّة قاطعة تحكم لأحد هذه الأقوال فوجب أن يردّ إلى عموم الظاهر فيكون عاما لهذه الأشياء
كلها. {عُرْفاً} منصوب على الحال إذا كان معناه متتابعة وإذا كان معناه والملائكة المرسلات بالعرف أي بأمر الله جلّ وعزّ وطاعته وكتبه، فالتقدير بالعرف فحذف الباء فتعدّى الفعل، كما أنشد سيبويه: [البسيط] 516 أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (1)
{عَصْفاً} و {نَشْراً} و {فَرْقاً} مصادر تفيد التوكيد {فَالْمُلْقِيََاتِ ذِكْراً} مفعول به.
[سورة المرسلات (77): آية 6]
{عُذْراً أَوْ نُذْراً (6)}
قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل الحرمين وابن عامر وعاصم {عُذْراً} بإسكان الذال «أو نذرا» بضم الذال، ويروى عن زيد بن ثابت والحسن «عذرا أو نذرا» (2) بضم الذالين فإسكانهما جميعا على أنهما مصدران كما تقول: شكرته شكرا، ويجوز أن يكون الأصل فيهما الضمّ فحذفت الضمة استثقالا لها، وضمهما جميعا على أنهما جمع عذير ونذير، ويجوز أن يكونا مصدرين مثل شغلته شغلا. وعذير بمعنى اعذار كما قال: [الوافر] 517 أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد (3)
أي إعذارك وكما قال: [الهزج] 518 نذير الحيّ من عدوان ... كانوا حيّة الأرض (4)
قال أبو جعفر: هكذا ينشد هذان البيتان بالنصب، وأنشد سيبويه: [الطويل] 519 عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم ... يقول الخنا أو تعتريك زنابره (5)
أي عذيرك من هذا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 222، والبحر المحيط 8/ 396، وتيسير الداني 177.
(2) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه 107، والكتاب 1/ 332، والأغاني 10/ 26، وحماسة البحتري 74، والحماسة الشجرية 1/ 40، وخزانة الأدب 6/ 361، والدرر 3/ 8، وسمط اللآلي 63، وشرح أبيات سيبويه 1/ 295، وعجزه لعلي بن أبي طالب في لسان العرب (عذر)، وبلا نسبة في شرح المفصّل 2/ 26، وهمع الهوامع 1/ 169.
(3) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه 46، والاشتقاق 269، والأغاني 3/ 85، وأمالي الزجاجي 1/ 221، والحيوان 4/ 233، وخزانة الأدب 5/ 286، وشرح أبيات سيبويه 1/ 298، والشعر والشعراء 2/ 712، ولسان العرب (عذر) و (جيا)، والمقاصد النحوية 4/ 364، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 303، ولسان العرب (عدا)، وأمالي المرتضى 1/ 250.
(4) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 374، وشرح الشواهد للشنتمري 1/ 158.
(5) انظر الكتاب 3/ 119.(5/72)
[سورة المرسلات (77): آية 7]
{إِنَّمََا تُوعَدُونَ لَوََاقِعٌ (7)}
أي من البعث والحساب والمجازاة. وهذا جواب القسم و «ما» هاهنا بمعنى الذي مفصولة من «إنّ»، ولا يجوز أن تكون هاهنا فاصلة و «لا» زائدة ألا ترى أن في خبرها اللام المؤكدة لخبر إنّ وحذفت الهاء لطول الاسم، والتقدير أن الذي توعدونه لواقع من الحساب والثواب والعقاب.
[سورة المرسلات (77): آية 8]
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)}
رفعت النجوم بإضمار فعل مثل هذا لأن إذا هاهنا بمنزلة حروف المجازاة فإن قال قائل: قد قال سيبويه (1) في قول الله جلّ وعزّ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] «إذا» جواب بمنزلة الفاء، وإنما صارت جوابا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها كما لا يبتدأ بالفاء. فقد ابتدئ بها هاهنا، وأنت تقول: إذا قمت قمت مبتدأ. قال أبو جعفر: فلم أعلم أحدا غلط سيبويه في هذا، والحجة له أنّ «إذا» كانت للمفاجأة لم يبتدأ بها نحو قوله: {إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ} وإذا كانت بمعنى المجازاة ابتدئ بها ولكن قد عوض سيبويه بأن الفاء تدخل عليها فكيف تكون عوضا منها؟
فالجواب أنها إنما تدخل توكيدا، وجواب {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقيل الفاء محذوفة، وقيل الجواب محذوف.
[سورة المرسلات (77): آية 11]
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)}
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (2) بهمزة وتشديد القاف، وقرأ عيسى بن عمر النحوي وخالد بن إلياس {أُقِّتَتْ} بهمزة وتخفيف القاف، وقرأ أبو عمرو «وقّتت» بواو وتشديد القاف، وقرأ الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو وتخفيف القاف. قال أبو جعفر: الأصل فيها الواو لأنه مشتق من الوقت قال جلّ وعزّ: {كََانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتََاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] فهذا من وقتت مخففة إلّا أن الواو تستثقل فيها الضمة فتبدل فيها همزة، وقد ذكر سيبويه اللغتين وقّتت وأقّتت فلم يقدّم إحداهما على الأخرى فإذا كانتا فصيحتين فالأولى اتباع السواد.
[سورة المرسلات (77): الآيات 12الى 13]
{لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)}
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} قيل: حذف الفعل الذي تتعلق به اللام والتمام لأي يوم أجّلت ثم أضمر فعل أجلت ليوم الفصل، وقيل: ليوم الفصل بدل وأعدت اللام مثل {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} وقيل: اللام بمعنى إلى.
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 396، ومعاني الفراء 3/ 222.
(2) انظر البحر المحيط: 8/ 397.(5/73)
[سورة المرسلات (77): آية 14]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)}
«ما» الأولى والثانية في موضع رفع بالابتداء.
[سورة المرسلات (77): آية 15]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}
أي الذين يكذبون بيوم القيامة وما فيه.
[سورة المرسلات (77): الآيات 16الى 17]
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)}
وقرأ الأعرج {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} (1) جزم {نُتْبِعُهُمُ} لأنه عطف على نهلك قال أبو جعفر: هذا لحن، وقال أبو حاتم: هذا لحن، وذكر إسماعيل أنه لا يجوز. قال أبو جعفر: «ثم» من حروف العطف وإنما معناه من جهة المعنى وهو في المعنى غير مستحيل لأنه قد قيل في معنى {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} أنهم قوم نوح وعاد وثمود، وأن الآخرين قوم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب مدين وفرعون. قال أبو جعفر: فعلى هذا تصحّ القراءة بالجزم.
[سورة المرسلات (77): آية 18]
{كَذََلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)}
أي كذلك سنتي فيمن أقام على الإجرام أن أهلكه بإجرامه.
[سورة المرسلات (77): آية 19]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}
أي لمن كذّب بما أخبر الله جلّ وعزّ وبقدرته على ما يشاء.
[سورة المرسلات (77): الآيات 20الى 23]
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مََاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنََاهُ فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (21) إِلى ََ قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنََا فَنِعْمَ الْقََادِرُونَ (23)}
ويجوز إدغام القاف في الكاف وعن ابن عباس «مهين» ضعيف. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة {فَقَدَرْنََا} (2) مخفّفة، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والكسائي {فَقَدَرْنََا} مشددة والأشبه التخفيف لأن بعده {فَنِعْمَ الْقََادِرُونَ} وليس بعده المقدّرون على أن القراءة بالتشديد حسنة لأنه قد حكي أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: قدر وقدره. وقد قال: {نَحْنُ قَدَّرْنََا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60] ولا ينكر أن تأتي لغتان بمعنى واحد في موضع واحد، قال: {فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] وقال الشاعر: [البسيط] 520 وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (3)
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) مرّ الشاهد رقم (218).
(3) انظر مختصر ابن خالويه 167.(5/74)
وقد قيل: معنى فقدرنا النطفة والعلقة والمضغة، وقال الضحاك: فقدرنا فملكنا.
{فَنِعْمَ الْقََادِرُونَ} رفع بنعم، والتقدير: فنعم القادرون نحن.
[سورة المرسلات (77): آية 24]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)}
بقدرة الله جلّ وعزّ على هذه الأشياء وغيرها.
[سورة المرسلات (77): آية 25]
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفََاتاً (25)}
يقال: كفته إذا جمعه وأحرزه فالأرض تجمع الناس على ظهرها أحياء وفي بطنها أمواتا. واشتقاق هذا من الكفتة وهي وعاء الشيء وكذا الكفتة.
[سورة المرسلات (77): آية 26]
{أَحْيََاءً وَأَمْوََاتاً (26)}
نصب على الحال أي نكفتهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه أي تكفت الأحياء والأموات.
[سورة المرسلات (77): آية 27]
{وَجَعَلْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ شََامِخََاتٍ وَأَسْقَيْنََاكُمْ مََاءً فُرََاتاً (27)}
{وَجَعَلْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ شََامِخََاتٍ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول جبالا مشرفات، قال: و {مََاءً فُرََاتاً} عذبا وروى عنه عكرمة «ماء فراتا» سيحان وجيحان والفرات والنيل، قال: وكل ماء عذب في الدنيا فمن هذه الأنهار الأربعة.
[سورة المرسلات (77): الآيات 28الى 29]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ََ مََا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)}
{انْطَلِقُوا إِلى ََ مََا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (29) أي يقال لهم، وزعم يعقوب الحضرمي أن بعض القراء قرأ «انطلقوا» بفتح اللام على أنه فعل ماضي، وأما الأول فلم يختلف فيها.
[سورة المرسلات (77): آية 31]
{لاََ ظَلِيلٍ وَلاََ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)}
{لََا ظَلِيلٍ} نعت لظلّ أي غير ظليل من الحرّ ولا يقي لهب النار.
[سورة المرسلات (77): آية 32]
{إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)}
{إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ} لغة أهل الحجاز كما قال: [الوافر] 521 وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كلّ مجمعة لواء (1)
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 85، ولسان العرب (جمع)، وتاج العروس (جمع)، وديوان المفضليات 56.(5/75)
ولغة بني تميم شرار، {كَالْقَصْرِ} (1) يقرأ على ثلاثة أوجه فقراءة العامة {كَالْقَصْرِ}، وعن ابن عباس وجماعة من أصحابه {كَالْقَصْرِ} بفتح الصاد، وعن سعيد بن جبير روايتان في إحداهما {كَالْقَصْرِ} والأخرى {كَالْقَصْرِ} كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال نصر بن علي قال: ثنا يزيد بن زريع ثنا يونس عن الحسن أنها ترمي بشرر {كَالْقَصْرِ} بكسر القاف. قال نصر: وحدّثنا أبي ثنا يونس عن الحسن {بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: أصول النخل. قال أبو جعفر: والقصر بفتح القاف وإسكان الصاد في معناه قولان. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {كَالْقَصْرِ} قال: يقول: كالقصر العظيم وكذا قال محمد بن كعب هو القصر من القصور. وقال أبو عبيد عن حجاج عن هارون قال: القصر الخشب الجزل مثل جمرة وجمر وتمر وتمر. قال أبو جعفر: وأصحّ من هذا عن الحسن كما قرئ على إبراهيم ابن موسى عن إسماعيل عن نصر قال: ثنا يزيد ثنا يونس عن الحسن قال: «كالقصر» واحد القصور. قال أبو جعفر: فهذا قول بيّن والعرب تشبه الناقة والجمل بالقصر كما قال: [البسيط] 522 كأنها برج روميّ يشيّده ... بان بجصّ وآجرّ وأحجار (2)
فأما القصر فقال مجاهد وقتادة: هو أصول النخل، وروى عبد الرّحمن بن عابس عن ابن عباس قال: القصر الخشبة تكون ثلاثة أذرع أو أكثر ودون ذلك. قال أبو جعفر: وهذا أصح ما قيل فيه ومنه قيل: قصّار لأنه يعمل بمثل هذا الخشب، والقصر بهذا المعنى يكون جمع قصرة وقد سمع من العرب حاجة وحوج، ويجوز أن يكون جمع قصرة وقد سمع حلقة وحلق فقال: الشرر جماعة والقصر واحد فكيف شبهت به؟
الجواب أن يكون واحدا يدلّ على جمع أو جمع قصرة أو يراد به الفعل أي كعظيم القصر وتكلم الفراء (3) في أن الأولى أن يقرأ «كالقصر» بإسكان الصاد لأن الآيات على هذا. ألا ترى أن بعده «صفر»، واحتجّ بقراءة القراء: {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6] بضم الكاف لأن الآيات كذا، وفي موضع آخر {فَحََاسَبْنََاهََا حِسََاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنََاهََا عَذََاباً نُكْراً} [الطلاق: 8] بإسكان الكاف فقال: فقد أجمع القراء على تحريك الأولى وإسكان الثانية قال أبو جعفر: وهذا غلط قبيح قد قرأ عبد الله بن كثير {يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ} بإسكان الكاف. وهذا الذي جاء به من اتفاق الآيات لا يستتب ولا ينقاس.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 398.
(2) الشاهد للأخطل التغلبي في ديوانه 76، وتفسير الطبري 19/ 30.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 224.(5/76)
[سورة المرسلات (77): آية 33]
{كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ (33)}
قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بن عيسى وطلحة وحمزة والكسائي «كأنه جماله صفر» (1) وعن ابن عباس «جمالات صفر» (2)
بضم الجيم فالقراءة الأولى تكون جمع جمال أو جمالة وجمالة جمع جمل كحجر وحجارة، وجمالات يجوز أن يكون بمعنى جمال كما يقال: رخل ورخال وظئر وظؤار والتاء لتأنيث الجماعة إلا أن أهل التفسير يقولون: هي حبال السفن منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلّا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس، قال: قطع النحاس ويجوز أن يكون مشتقا من الشيء المجمل.
[سورة المرسلات (77): آية 35]
{هََذََا يَوْمُ لاََ يَنْطِقُونَ (35)}
مبتدأ وخبره، وزعم الفراء (3) أن القراء اجتمعت على رفع يوم. قال أبو جعفر:
وهذا قريب مما تقدّم. روي عن الأعرج والأعمش أنهما قرءا {هََذََا يَوْمُ لََا يَنْطِقُونَ} بالنصب وفي نصبه قولان: أحدهما أنه ظرف أي هذا الذي ذكرنا في هذا اليوم، والقول الآخر ذكره الفراء يكون «يوم» مبنيا. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (4) لا تبنى الظروف عندهما مع الفعل المستقبل لأنه معرب وإنما يبنى مع الماضي، كما قال: [الطويل] 523على حين عاتبت المشيب على الصّبا (5)
[سورة المرسلات (77): آية 36]
{وَلاََ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}
عطف، وزعم الفراء (6) أنه اختير فيه الرفع لتتفق الآيات.
[سورة المرسلات (77): آية 38]
{هََذََا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنََاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)}
مبتدأ وخبره {جَمَعْنََاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} نسق على الكاف والميم.
[سورة المرسلات (77): آية 39]
{فَإِنْ كََانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)}
حذفت الياء لأن النون صارت عوضا منها لأنها مكسورة وهو رأس آية.
[سورة المرسلات (77): آية 41]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاََلٍ وَعُيُونٍ (41)}
ومن كسر العين كره الضمة مع الياء.
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 398، ومعاني الفراء 3/ 225.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 225.
(4) انظر الكتاب 3/ 136.
(5) مرّ الشاهد رقم (129).
(6) انظر معاني الفراء 3/ 226.(5/77)
[سورة المرسلات (77): آية 42]
{وَفَوََاكِهَ مِمََّا يَشْتَهُونَ (42)}
الأصل يشتهونه حذفت الهاء الاسم.
[سورة المرسلات (77): آية 43]
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
أي يقال لهم هذا.
[سورة المرسلات (77): آية 44]
{إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)}
الكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك.
[سورة المرسلات (77): الآيات 45الى 46]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)}
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} متصل بما يليه أي قيل للمكذبين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} أي وقتا قليلا وتمتعا قليلا.
[سورة المرسلات (77): آية 48]
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاََ يَرْكَعُونَ (48)}
قال الفراء: وإذا قيل لهم صلّوا، وقال غيره: كان الركوع أشدّ الأشياء على العرب حتى أسلم بعضهم وامتنع من أن يركع.
[سورة المرسلات (77): آية 50]
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}
وقعت الباء قبل أي والاستفهام له صدر الكلام لأن حروف الخفض مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد. ألا ترى أن قولك: نظرت إلى زيد، ونظرت زيدا بمعنى واحد؟(5/78)
78 - شرح إعراب سورة عمّ يتساءلون (النبأ)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النبإ (78): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {عَمَّ يَتَسََاءَلُونَ (1)}
الأصل «عن ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر لأن المعنى: عن أي شيء يتساءلون، وحكى الفراء: أن المعنى لأي شيء يتساءلون. قال أبو جعفر: و «عن» بمعنى اللام لا يعرف والتقدير: يتساءلون عن النبأ العظيم، وحذف لدلالة الكلام.
[سورة النبإ (78): آية 3]
{الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)}
في موضع خفض.
[سورة النبإ (78): آية 4]
{كَلاََّ سَيَعْلَمُونَ (4)}
{كَلََّا} قيل: هو التمام أي ليس الأمر على ما زعم المشركون من إنكار البعث.
«ستعلمون» (1) تهديد لهم على قراءة الحسن التقدير قل لهم: ستعلمون. «ثم كلا ستعلمون» يعلمون معطوف عليه وقراءة العامة بالياء.
[سورة النبإ (78): آية 6]
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهََاداً (6)}
يكون واحدا، ويكون جمع مهده.
[سورة النبإ (78): آية 7]
{وَالْجِبََالَ أَوْتََاداً (7)}
معطوف عليه جمع وتد ومن أدغم قال ودّ. ولا يجوز الإدغام في الجميع لأن الألف قد فصلت بين الحرفين.
[سورة النبإ (78): آية 8]
{وَخَلَقْنََاكُمْ أَزْوََاجاً (8)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 227.(5/79)
نصب على الحال أي أصنافا أي ذكورا وإناثا وقصارا وطوالا فنبههم جلّ وعزّ على قدرته.
[سورة النبإ (78): الآيات 9الى 10]
{وَجَعَلْنََا نَوْمَكُمْ سُبََاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً (10)}
{وَجَعَلْنََا نَوْمَكُمْ سُبََاتاً} (9) مفعولان وكذا {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبََاساً} (10) أي يغشيكم ويغطيكم كالثياب أي فعلنا هذا لتناموا فيه وتسكنوا كما قال قتادة: لباسا سكنا.
[سورة النبإ (78): آية 11]
{وَجَعَلْنَا النَّهََارَ مَعََاشاً (11)}
أي ذا معاش أي جعلناه مضيئا ليعيشوا فيه ويتصرّفوا كما قال مجاهد: معاشا تتصرفون فيه وتبتغون من فضل الله جلّ وعزّ.
[سورة النبإ (78): آية 12]
{وَبَنَيْنََا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدََاداً (12)}
حذفت الهاء لأن اللغة الفصيحة تأنيث السماء {شِدََاداً} جمع شديدة ولا تجمع على فعلاء استثقالا للتضعيف.
[سورة النبإ (78): آية 13]
{وَجَعَلْنََا سِرََاجاً وَهََّاجاً (13)}
{وَجَعَلْنََا سِرََاجاً} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَهََّاجاً} أي مضيئا.
[سورة النبإ (78): آية 14]
{وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ مََاءً ثَجََّاجاً (14)}
{وَأَنْزَلْنََا مِنَ الْمُعْصِرََاتِ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا قولين لأهل التفسير: أن المعصرات الرياح والسحاب وأولاهما أن يكون السحاب لقوله جلّ وعزّ: {الْمُعْصِرََاتِ} ولم يقل: بالمعصرات، وكما قرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حريث قال:
حدّثني علي بن الحسين عن أبيه قال: حدّثني الأعمش عن المنهال عن قيس بن السكن عن ابن مسعود قال: يرسل الله سبحانه الرياح فتأخذ الماء فتجريه في السحاب فتدر كما تدرّ اللّقحة. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس {مََاءً ثَجََّاجاً} قال يقول: منصبّا، وقال ابن يزيد: ثجّاجا كثيرا. قال أبو جعفر: القول الأول المعروف في كلام العرب يقال: ثجّ الماء ثجوجا إذا انصبّ وثجّه فلان ثجا إذ صبّه صبّا متتابعا. وفي الحديث «أفضل الحجّ العجّ والثجّ» (1) فالعجّ رفع الصوت بالتلبية، والثجّ صبّ دماء الهدي.
[سورة النبإ (78): آية 15]
{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبََاتاً (15)}
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 224، وابن حجر في المطالب العالية 1200، وابن كثير في تفسيره 8/ 327، والزيلعي في نصب الراية 3/ 33، وابن حجر في تلخيص الحبير 2/ 239، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 388، والمتقي الهندي في كنز العمال (11883).(5/80)
فالحبّ كلّ ما كان قشر والنبات الحشيش والكلأ ونحوهما.
[سورة النبإ (78): آية 16]
{وَجَنََّاتٍ أَلْفََافاً (16)}
{وَجَنََّاتٍ} أي ثمر جنات. {أَلْفََافاً} قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من قال: هو جمع لفّ وقول من قال: هو جمع الجمع أراد أنه يقال لفّاء وألفّ مثل حمراء وأحمر ثم تقول: ألف كما يقال: حمر ثم يجمع لفّا ألفافا كما تقول: خفّ وأخفاف والقول الأول أولى بالصواب لأن أهل التفسير قالوا: {وَجَنََّاتٍ أَلْفََافاً} (16) أي جميعا، لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك فهذا جمع لفّ، ويقال: لفيف بمعناه، ونخلة لفّاء معناه غليظة فلهذا قلنا الأول أولى بالصواب.
[سورة النبإ (78): آية 17]
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كََانَ مِيقََاتاً (17)}
خبر {كََانَ} ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على إلغاء كان.
[سورة النبإ (78): آية 18]
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوََاجاً (18)}
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل. {فَتَأْتُونَ أَفْوََاجاً} على الحال، ويقال: فوج وفوجة.
[سورة النبإ (78): الآيات 19الى 20]
{وَفُتِحَتِ السَّمََاءُ فَكََانَتْ أَبْوََاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبََالُ فَكََانَتْ سَرََاباً (20)}
{وَفُتِحَتِ السَّمََاءُ فَكََانَتْ أَبْوََاباً} (19) في معناه قولان: قيل: معناه انشقّت فكانت طرقا، وقيل: تقطّعت فكانت قطعا كالأبواب ثم حذفت الكاف، كما تقول: رأيت فلانا أسدا أي كالأسد، وكذا {وَسُيِّرَتِ الْجِبََالُ فَكََانَتْ سَرََاباً} (20).
[سورة النبإ (78): آية 21]
{إِنَّ جَهَنَّمَ كََانَتْ مِرْصََاداً (21)}
أي ترصد من عصى الله سبحانه وترك طاعته. وقال الحسن: لا يدخل أحد الجنة حتى يرد النار ومرصاد في العربية من رصدت فأنا راصد ومرصاد على التكثير. وقال «كانت» ولم يقل مرصادة لأنه غير جار على الفعل فصار على النّسب.
[سورة النبإ (78): آية 22]
{لِلطََّاغِينَ مَآباً (22)}
أي مرجعهم إليها. وآب يؤوب رجع كما قال: [مخلّع البسيط] 524 وكلّ ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يؤوب (1)
[سورة النبإ (78): الآيات 23الى 24]
{لاََبِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً (23) لاََ يَذُوقُونَ فِيهََا بَرْداً وَلاََ شَرََاباً (24)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (379).(5/81)
{لََابِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً} (23) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة «لبثين» (1) بغير ألف. وقد اعترض في هذه القراءة فقيل: هي لحن لا يجوز: هو حذر زيدا، وإن كان سيبويه قد أجازه وأنشد: [الكامل] 525 حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار (2)
وأنشد الفراء: [الكامل] 526 أو مسحل عمل عضادة سمحج ... بسراته ندب لها وكلوم (3)
إلّا أن سيبويه أنشده «أو مسحل شنج»، وقال قوم: هو لحن لأنه إنما يقال:
حذر، وكذا باب فعل لمن كان في خلقته الحذر، فأما اللّابث فليس من ذلك في شيء.
قال أبو جعفر: أما القول الأول فغلط ولا يشبه هذا قولك: حذر زيدا لأن أحقابا ظرف وما لا يتعدّى يتعدى إلى الظرف، وأما الثاني فهو يلزم إلّا أنه يجوز على بعد.
والقراءة بلابثين بيّنة حسنة. فأما حجة من احتجّ بلبثين بما رواه شعبة عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله «لبثين» فلا حجة فيه لأن أبا إسحاق لم يلق عبد الله، ولو كان إسناده متصلا كانت فيه حجة، وهذه الأشياء تؤخذ من قراءة عبد الله بما لا تقوم به حجة من إسناد منقطع أو من صحف قد يكتب لابثين بغير ألف فيتوهّم قارئه أنه «لبثين». وفي هذه الآية إشكال لقوله جلّ وعزّ: {لََابِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً} وهم لا يخرجون منها. فمن أحسن ما قيل فيها أن قتادة قال: {لََابِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً} لا انقطاع لها فعلى هذا التقدير يكون الجمع وحقبة حقب، وأحقاب جمع الجمع كما قال: [الطويل] 527 وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا (4)
ويجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير في معناه.
فأما أهل اللغة فقولهم إن الحقب والحقبة يقعان للقليل من الدهر والكثير. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سألنا أبا العباس محمد بن يزيد عن قول الله جلّ وعزّ: {لََابِثِينَ فِيهََا أَحْقََاباً} فقال: ما معنى هذا التحديد؟ ونحن إذا حددنا الشيء فقلنا: أنا أقيم عندك يوما، كان في قوة الكلام أنك لا تقيم بعد اليوم ثم لم يجبنا عنها مذ نيف وثلاثون سنة ونظرت فيها فوقع لي أنه يعني به الموحدون العصاة ثم نظرت فإذا
__________
(1) انظر تيسير الداني 177.
(2) مرّ الشاهد رقم (120).
(3) الشاهد للبيد في ديوانه 125، وخزانة الأدب 8/ 169وشرح أبيات سيبويه 1/ 24، وشرح المفصل 6/ 72، ولسان العرب (عضد)، و (عمل)، والمقاصد النحوية 3/ 513، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 167.
(4) الشاهد لمتمم بن نويرة في ديوانه 111، وتاج العروس (حبر) و (صدع)، وديوان المفضليات 535، والكامل (1237).(5/82)
بعده أنهم كانوا لا يرجون حسابا فعلمت أن ذلك ليس هو الجواب قال: فالجواب عندي أن المعنى لابثين في الأرض أحقابا، فعاد الضمير على الأرض لأنه قد تقدم ذكرها والضمير في {لََا يَذُوقُونَ فِيهََا بَرْداً وَلََا شَرََاباً} يعود على النار لأنه قد تقدّم أيضا ذكرها.
قال: ولم أعرف لأبي العباس فيها جوابا. قال أبو جعفر: فسألت أبا إسحاق عنها فقال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: المعنى لابثين فيها أحقابا هذه صفتها أي يعذبون بهذا العذاب في هذه الأحقاب لا يذوقون فيها إلا الحميم والغسّاق ويعذبون بعد هذا العذاب بأصناف من العذاب غير هذا. وهذا جواب نظري بيّن، وهو قول ابن كيسان يكون «لا يذوقون» من نعت الأحقاب، واختلف العلماء في قوله جلّ وعزّ: {لََا يَذُوقُونَ فِيهََا بَرْداً} فقيل أي لا يذوقون فيها بردا يبرد عنهم السعير، وقيل: نوما كما قال الشاعر: [الكامل] 528 بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن قبلاتها البرد (1)
أي النوم والنعاس وقد يكون البرد الهدو والثبات، كما قال الشاعر: [الرجز] 529اليوم يوم بارد سمومه (2)
وقد يكون البرد ما ليس فيه شدة كما روي «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» (3)
وهي التي ليس فيها حرّ السلاح. ويقال: بردت حرّه كما قال: [الطويل] 530 وعطّل قلوصي في الرّكاب فإنّها ... ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا (4)
وأصحّ هذا الأقوال القول الأول لأن البرد ليس باسم من أسماء النوم وإنما يحتال فيه فيقال للنوم: برد لأنه يهدي العطش، والواجب أن يحمل تفسير كتاب الله جلّ وعزّ على الظاهر والمعروف من المعاني إلّا أن يقع دليل على غير ذلك.
[سورة النبإ (78): آية 25]
{إِلاََّ حَمِيماً وَغَسََّاقاً (25)}
قال أبو رزين وإبراهيم: الغسّاق ما يسيل من صديد، وقال عبد الله بن بردة:
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في جمهرة اللغة 295، والاشتقاق ص 478والأزمنة والأمكنة 2/ 15، وهو في ديوان امرئ القيس 231.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (برد) وتاج العروس (سمم)، وتهذيب اللغة 12/ 320، وجمهرة اللغة 294، مقاييس اللغة 1/ 243، ومجمل اللغة 1/ 260، المخصص 17/ 23. وبعده:
«من جزع اليوم فلا تلومه»
(3) انظر اللسان (برد).
(4) الشاهد لمالك بن الريب في ديوانه ص 47، ولسان العرب (برد)، والتنبيه والإيضاح 2/ 9، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 295، ومقاييس اللغة 1/ 242، ومجمل اللغة 1/ 260، وأساس البلاغة (برد) و (قود).(5/83)
الغساق المنتن، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الغساق الزمهرير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يكون ما يسيل من جلودهم منتنا شديد البرد وسمعت علي بن سليمان يقول: غساق بالتشديد أولى، لأنه يقال: غسقت عينه أي دمعت، فغساق مثل سيّال تكثير غاسق، وقال غيره: من هذا قيل لليل: غاسق، لتغطيته وهجومه كما يهجم السيل، وقيل الحميم مستثنى من الشراب، والغسّاق مستثنى من البرد.
[سورة النبإ (78): آية 26]
{جَزََاءً وِفََاقاً (26)}
{جَزََاءً} مصدر دلّ على فعله ما قبله. {وِفََاقاً} من نعته.
[سورة النبإ (78): آية 27]
{إِنَّهُمْ كََانُوا لاََ يَرْجُونَ حِسََاباً (27)}
قيل: يرجون بمعنى يخافون لأن من رجا شيئا يلحقه خوف من فواته فغلب إحدى الخيفتين كما قال: [الطويل] 531 إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل (1)
وقيل: الرجاء هاهنا على بابه أي لا يرجون ثواب الحساب.
[سورة النبإ (78): آية 28]
{وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا كِذََّاباً (28)}
مصدر، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه {وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا كِذََّاباً} (2) بتخفيف الأول والثاني، وهي رواية شاذّة ولكنه قد صحّ عن الكسائي أنه قرأ الثانية بالتخفيف كما قال: [مجزوء الكامل] 532 فصدقتهم وكذّبتهم ... والمرء ينفعه كذابه (3)
وكذّاب التشديد على قول بعض الكوفيين لغة يمنية وهذا ما لا يحصل منه كثير فائدة ولكن قول سيبويه (4) أنه مصدر كذّب على الحقيقة وأن كان الكلام يكذّب تكذيبا كثيرا. وفيه من النحو ما يدق من المجيء بهذه التاء في تكذيب وليس لها في الفعل أصل ويقال: ما الدليل على أن الأصل كذّاب؟ ونحن نشرحه على مذهب سيبويه إن شاء الله. سبيل الفعل إذا كان رباعيا أن يزاد على ماضيه ألف في المصدر فتقول: أكرم
__________
(1) الشاهد لأبي ذؤيب الهذليّ في ديوان الهذليين 1/ 143، وشرح أشعار الهذليين 1/ 144، واللسان (رجا).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 229.
(3) الشاهد للأعشى في شرح شواهد الإيضاح 606، ولسان العرب (صدق)، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في شرح المفصل 6/ 44.
(4) انظر الكتاب 4/ 193.(5/84)
إكراما وانطلق انطلاقا فهذا قياس مستتب وكذا كذّب كذّابا وتكلم كلاما ثم إنهم قالوا كذب تكذيبا فقال سيبويه: أبدلوا من العين الزائدة تاء وقلبوا الألف ياء فغيّروا أوله كما غيّروا آخره. قال أبو جعفر: فأما تكلّم تكلما فجاؤوا بالماضي ولم يزيدوا ألفا لكثرة حروفه وضموا اللام قال سيبويه: لأنه ليس في الأسماء تفعل.
[سورة النبإ (78): الآيات 29الى 30]
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ كِتََاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاََّ عَذََاباً (30)}
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ} نصب كلّ بإضمار فعل ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل كما قال (1): [مخلع البسيط] 533 أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا ... والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا
ويجوز الرفع بالابتداء والكوفيون يقولون: بالعائد عليه. {كِتََاباً} مصدر فمن النحويين من يقول: العامل فيه مضمر أي كتبناه كتابا أي كتبنا عدده ومبلغه ومقداره فلا يغيب عنا منه شيء كتابا. وقيل: العامل فيه «أحصيناه» لأن أحصيناه وكتبناه واحد. قال الحسن: سألت أبا بردة عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال: تلا رسول الله {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلََّا عَذََاباً} (30) فقال: أهلك القوم بمعصيتهم لله جلّ وعزّ، وقال عبد الله ابن عمر: ولم ينزل على أهل النار أشدّ من قوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلََّا عَذََاباً} (30).
[سورة النبإ (78): الآيات 31الى 32]
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفََازاً (31) حَدََائِقَ وَأَعْنََاباً (32)}
{حَدََائِقَ} بدل من «مفاز» والمفاز الظفر بما يحبّه الإنسان. قال ابن عباس:
الحدائق الشجر الملتفّ، وقال الضحاك: الذي عليه الحيطان. قال أبو جعفر: وكذلك هو في اللغة وقد حدق بالقوم كما قال: [الخفيف] 534وقد حدقت بي المنيّة (2)
[سورة النبإ (78): آية 33]
{وَكَوََاعِبَ أَتْرََاباً (33)}
معطوف الواحدة كاعب وكواعب للجمع والمؤنث.
[سورة النبإ (78): آية 34]
{وَكَأْساً دِهََاقاً (34)}
أي ممتلئة. مشتقّ من دهقه إذا تابع عليه الشدّة.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (113).
(2) الشاهد مقطع من بيت للأخطل التغلبي في ديوانه 83، واللسان (حدق)، وتمامه:
«المنعمون بنو حرب وقد حدقت ... بي المنيّة واستبطأت أنصاري»(5/85)
[سورة النبإ (78): آية 35]
{لاََ يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً وَلاََ كِذََّاباً (35)}
وقرأ الكسائي «كذابا» (1) وهي خارجة من قراءة الجماعة يجوز أن يكون مصدرا من كاذب كذابا ويجوز أن يكون مصدرا من كذب كما تقول: صام صياما، وهذا أشبه أي لا يسمعون فيها باطلا يلغى ولا كذبا.
[سورة النبإ (78): آية 36]
{جَزََاءً مِنْ رَبِّكَ عَطََاءً حِسََاباً (36)}
{جَزََاءً} مصدر، وكذا {عَطََاءً} {حِسََاباً} من نعته أي عطاء كافيا كما قال:
[الطويل] 535 ونغني وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع (2)
وقال مجاهد: حسابا بأعمالهم.
[سورة النبإ (78): آية 37]
{رَبِّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا الرَّحْمََنِ لاََ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطََاباً (37)}
(3)
قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم بخفضهما جميعا، وقرأ ابن محيصن ويحيى بن وثاب وحمزة بخفض الأول ورفع الثاني، وهو اختيار أبي عبيد لقرب الأول وبعد الثاني، وخالفه قوم من النحويين قالوا ليس بعده مما يوجب الرفع لأنه لم يفرق بينهما ما يوجب هذا فرفعهما جميعا على أن يكون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني نعت له والخبر {لََا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطََاباً}، ويجوز أن يكون الأول مرفوعا بإضمار هو، ومن خفض الاثنين جعلهما نعتا أو بدلا من الاسم المخفوض، ومن خفض الأول ورفع الثاني جعل الثاني مبتدأ أو أضمر مبتدأ.
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلََائِكَةُ صَفًّا لََا يَتَكَلَّمُونَ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَقََالَ صَوََاباً} (38) {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الروح ملك عظيم الخلق، وروى عنه غيره قال: الروح أرواح الناس تقوم مع الملائكة في ما بين النفختين من قبل أن ترد إلى الأبدان. وقال الشعبي والضحاك: الروح جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم، وقال الحسن وقتادة: الروح بنو آدم، وقال ابن زيد: الروح القرآن، وقال مجاهد: الروح على صور بني آدم وليسوا منهم. قال أبو جعفر: لا دليل فعلمه يدلّ على أصحّ هذه الأقوال يكون
__________
(1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 406.
(2) الشاهد لامرأة من بني قشير في التنبيه والإيضاح 1/ 63، ومقاييس اللغة 2/ 60، وتاج العروس (حسب) ولسان العرب (حسب)، وبلا نسبة في لسان العرب (قفا)، ومجمل اللغة 2/ 64، والمخصص 14/ 57، وأساس البلاغة (قفو) وتاج العروس (قفا).
(3) انظر تيسير الداني 178.(5/86)
قاطعا من توقيف من الرسول أو دلالة بينة، وهو شيء لا يضرّ الجهل به ولو قال قائل:
هذه الأشياء التي ذكرها العلماء ليست بمتناقضة ويجوز أن يكون هذا كلها لها لما عنّف. {وَالْمَلََائِكَةُ صَفًّا} نصب على الحال، وكذا {لََا يَتَكَلَّمُونَ} في موضع نصب.
{إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ} يكون «من» في موضع رفع على البدل من الواو، وفي موضع نصب على الاستثناء أي إلا من أذن له الرّحمن في الكلام {وَقََالَ صَوََاباً} من الحق وتأوّل عكرمة المعنى على غير هذا. قال أبو جعفر: وقال صوابا في الدنيا أي قال: لا إله إلا الله.
[سورة النبإ (78): آية 39]
{ذََلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ مَآباً (39)}
{ذََلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} نعت لليوم أي ذو الحقّ. {فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ مَآباً} أي نجاء مآب أي عملا صالحا في الدنيا.
[سورة النبإ (78): آية 40]
{إِنََّا أَنْذَرْنََاكُمْ عَذََاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ وَيَقُولُ الْكََافِرُ يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً (40)}
{إِنََّا أَنْذَرْنََاكُمْ عَذََاباً قَرِيباً} نعت لعذاب أو لظرف أي وقتا قريبا {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ} الجملة في موضع خفض أي يوم نظره {وَيَقُولُ الْكََافِرُ يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً} خبر كنت، وأجاز بعض النحويين: ليتني قائما. قال: لأن «كان» تنثر بعد ليت فحذفت.(5/87)
79 - شرح إعراب سورة النازعات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النازعات (79): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالنََّازِعََاتِ غَرْقاً (1)}
{وَالنََّازِعََاتِ} خفض بواو القسم، وقيل التقدير وربّ النازعات، وروى شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله و «النازعات» قال: الملائكة وروى شعبة عن السّدّي عن أبي صالح عن ابن عباس و {النََّازِعََاتِ} قال: ينزع نفسه فصار التقدير والملائكة النازعات {غَرْقاً} مصدر. قال سعيد بن جبير: تنزع نفوسهم ثم تغرق ثم تحرق ثم يلقى بها في النار. والتقدير ورب النازعات والمعنى: فتغرق النفوس فتغرق غرقا، {وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} [نوح: 17].
[سورة النازعات (79): آية 2]
{وَالنََّاشِطََاتِ نَشْطاً (2)}
{وَالنََّاشِطََاتِ} معطوف على النازعات أي الجاذبات الأرواح بسرعة يقال: نشطه إذا جذبه بسرعة إلا أن الفراء (1) حكى نشطه إذا ربطه، وأنشطه حلّه وحكي عن العرب:
كأنما أنشط من عقال وخولف في هذا واستشهد مخالفه بقوله: [الرجز] 536أضحت همومي تنشط المناشطا (2)
[سورة النازعات (79): آية 3]
{وَالسََّابِحََاتِ سَبْحاً (3)}
معطوف أي: والملائكة السابحات أي السريعات، وقال عطاء: {السََّابِحََاتِ} السفن {سَبْحاً} مصدر.
[سورة النازعات (79): آية 4]
{فَالسََّابِقََاتِ سَبْقاً (4)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 230.
(2) الشاهد لهيمان بن قحافة في تفسير الطبري 30/ 29، واللسان (نشط)، وتمامه:
«أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا»(5/88)
{فَالسََّابِقََاتِ} معطوف أي: والملائكة السابقات الشياطين بالوحي، وقال عطاء:
السابقات الخيل {سَبْقاً} مصدر.
[سورة النازعات (79): آية 5]
{فَالْمُدَبِّرََاتِ أَمْراً (5)}
{فَالْمُدَبِّرََاتِ} عطف أي والملائكة. قال: ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا أنه يراد به الملائكة وهو مجاز لأن الله جلّ وعزّ هو المدبر الأشياء. قال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمََاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] فلما كانت الملائكة صلوات الله عليهم ينزلون بالوحي والأحكام وتصريف الأمطار قيل لهم مدبرات على المجاز. قال الفراء (1): كما قال {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ} [البقرة: 97] فنسب التنزيل إلى جبرائيل عليه السّلام والله الذي نزله، وكذا {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]. {أَمْراً} منصوب على المصدر، ويجوز أن يكون التقدير فالمدبّرات بأمر من الله حذفت الباء فتعدى الفعل، وأنشد سيبويه: [البسيط] 537 أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (2)
فأما جواب القسم ففيه أربعة أقوال أصحها وأحسنها أنه محذوف دلّ عليه دلالة واضحة، والمعنى والنازعات لتبعثنّ فقالوا: أنبعث إذا كنا عظاما نخرة فقولهم: {أَإِذََا كُنََّا} يدلّ على ذلك المحذوف، وقيل: الجواب {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ََ} (26) وهذا بعيد لأنه قد تباعد ما بينهما، وقيل حذفت اللام فقط. والتقدير: ليوم ترجف الراجفة وهذا أيضا أبعد من ذاك لأن اللام ليست مما يحذف لأنها تقع على أكثر الأشياء فلا يعلم من أين حذفت ولو جاز حذفها لجاز والله زيد منطلق، بمعنى اللام. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {الرََّاجِفَةُ} النفخة الأولى، و {الرََّادِفَةُ} الثانية روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما أربعون.
[سورة النازعات (79): آية 8]
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وََاجِفَةٌ (8)}
مبتدأ وخبر. قال عطاء: واجفة متحركة، وقال غيره: خائفة.
[سورة النازعات (79): آية 9]
{أَبْصََارُهََا خََاشِعَةٌ (9)}
مبتدأ وخبره أنهم أذلاء لفضيحتهم يوم القيامة من معاصيهم وتم الكلام.
[سورة النازعات (79): آية 10]
{يَقُولُونَ أَإِنََّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحََافِرَةِ (10)}
{يَقُولُونَ} أي في الدنيا. {أَإِنََّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحََافِرَةِ} روى ابن أبي طلحة عن ابن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 230.
(2) مرّ الشاهد رقم (51).(5/89)
عباس {فِي الْحََافِرَةِ} قال: يقول في الحياة، وقال ابن زيد: في النار، وقال مجاهد:
في الأرض والتقدير على قول مجاهد في الأرض المحفورة أي في القبر مثل {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] أي مدفوق، وحقيقته في العربية من ماء ذي دفق وعلى قول ابن عباس {فِي الْحََافِرَةِ} نحيا كما حيينا أو لا مرة.
[سورة النازعات (79): آية 11]
{أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً نَخِرَةً (11)}
صحيحة عن ابن عباس رواها ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وصحيحة عن ابن الزبير ومروية عن عمر، وابن مسعود، فهؤلاء أربعة من الصحابة وهي مع هذا قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وهي أشبه برءوس الآيات التي قبلها وبعدها. وقراءة {نَخِرَةً} (1) أهل الحرمين والحسن وأبو عمرو فالقراءتان حسنتان لأن الجماعة نقلتهما.
[سورة النازعات (79): آية 12]
{قََالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خََاسِرَةٌ (12)}
قيل: المعنى رجعة وردة وجعلوها خاسرة لأنهم وعدوا فيها بالنار.
[سورة النازعات (79): الآيات 13الى 14]
{فَإِنَّمََا هِيَ زَجْرَةٌ وََاحِدَةٌ (13) فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ (14)}
{فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ} (14) قال سفيان: الساهرة أرض بالشام، وقال سعيد عن قتادة:
الساهرة جهنم، قال أبو جعفر: والساهرة في كلام العرب الأرض الواسعة المخوفة التي يسهر فيها للخوف، وزعم أبو حاتم: أن التقدير فإذا هم بالسّاهرة والنّازعات. وهذا غلط بيّن، لأن الفاء لا يبتدأ بها والنازعات أول السورة وهذا القول الرابع في جواب القسم.
[سورة النازعات (79): آية 15]
{هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ (15)}
تكون {هَلْ} بمعنى «قد» وقد حكى ذلك أهل اللغة وقد تكون على بابها.
[سورة النازعات (79): آية 16]
{إِذْ نََادََاهُ رَبُّهُ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16)}
{طُوىً} بالتنوين وضم الطاء قراءة ابن عامر والكسائي، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو بغير تنوين وبضم الطاء، وقراءة الحسن {طُوىً} (2) بكسر الطاء والتنوين ومعناه عنده بالوادي الذي قدّس مرتين ونودي فيه. والقراءة بضم الطاء والتنوين على أنه اسم للوادي وليس بمعدول إنما هو مثل قولك: حطم فلذلك صرف، ومن لم يصرفه جعله كعمر معدولا إلا أن الفراء (3) ينكر ذلك لأنه زعم أنه لا يعرف في كلام العرب اسما من
__________
(1) انظر تيسير الداني 178.
(2) انظر تيسير الداني 122، والبحر المحيط 8/ 413.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 233.(5/90)
ذوات الياء والواو معدولا من فاعل إلى فعل. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون ترك الصرف على أنه اسم للبقعة فيكون على غير ما تأول، وقد قرأ به غير منوّن من تقوم الحجة بقوله.
{اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ} (17) من قال في المستقبل: يطغى قال: طغيت وهو الطغيان ومن قال: يطغو قال: طغوت.
[سورة النازعات (79): آية 18]
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى ََ أَنْ تَزَكََّى (18)}
قراءة أهل المدينة وقراءة أبي عمرو {تَزَكََّى} (1) بتخفيف الزاي، والمعنى والتقدير في العربية واحد. لأن أصل تزكى تتزكى فحذفت التاء. ومن قال: تزّكّى أدغمها. ولا يعرف التفريق بينهما. قال ابن زيد: «تزكّى» تسلم، قال: وكلّ تزكية في القرآن إسلام.
[سورة النازعات (79): آية 19]
{وَأَهْدِيَكَ إِلى ََ رَبِّكَ فَتَخْشى ََ (19)}
{وَأَهْدِيَكَ إِلى ََ رَبِّكَ} عطف وكذا {فَتَخْشى ََ} أي فتخشى عقابه بترك معاصيه.
[سورة النازعات (79): آية 20]
{فَأَرََاهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ََ (20)}
مما لا يجوز حذف الألف واللام منه ولا يؤتى به نكرة.
[سورة النازعات (79): آية 21]
{فَكَذَّبَ وَعَصى ََ (21)}
معنى الفاء أنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول. والواو للاجتماع. هذا أصلها.
[سورة النازعات (79): آية 22]
{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ََ (22)}
في موضع الحال.
[سورة النازعات (79): الآيات 23الى 24]
{فَحَشَرَ فَنََادى ََ (23) فَقََالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ََ (24)}
{فَحَشَرَ} وحذف المفعول أي وحشر قومه ما قال ابن زيد: جمع قومه {فَنََادى ََ} فيهم {فَقََالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ََ} (24).
[سورة النازعات (79): آية 25]
{فَأَخَذَهُ اللََّهُ نَكََالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ََ (25)}
قال الفراء: أي فأخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى.
[سورة النازعات (79): آية 26]
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ََ (26)}
أي يخشى عقاب الله كما نزل بغيره لما عصى؟
[سورة النازعات (79): آية 27]
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمََاءُ بَنََاهََا (27)}
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمََاءُ} أي لم تنكرون البعث وخلق السماء أشد من بعثكم.
[سورة النازعات (79): آية 28]
{رَفَعَ سَمْكَهََا فَسَوََّاهََا (28)}
أي سقفا للأرض.
__________
(1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 413.(5/91)
[سورة النازعات (79): آية 29]
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهََا وَأَخْرَجَ ضُحََاهََا (29)}
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهََا} إضافة مجاز لأن معنى اللّيل ذهاب الشمس فلمّا كانت تغيب في السماء قيل ليلها كما يقال: سرج الدّابة، وكذا {وَأَخْرَجَ ضُحََاهََا}.
[سورة النازعات (79): آية 30]
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا (30)}
{وَالْأَرْضَ} منصوب بإضمار فعل أي ودحا الأرض، وزعم الفراء (1): أن النصب والرفع جائزان وأنه مثل {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ} [يس: 39] يعني في الرفع والنصب.
قال أبو جعفر: بينهما فرق. لأن قوله: {الْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ} الرفع فيه حسن لأن تقديره وآية لهم القمر. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (30) الرفع فيها بعد لأن قبلها ما عمل فيه الفعل ولا يتعلق بشيء مرفوع فهذا فرق بيّن ولا نعلم أحدا قرأ «والأرض» بالرفع «والقمر» بالرفع قرأ به الأئمة. وفي الآية إشكال لأنه قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصّلت: 9] وبعده {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ} *
فدلّ على خلق السماء كان بعد خلق الأرض وهاهنا {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (30) فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: خلق الله جلّ وعزّ الأرض قبل السماء فقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدها، وقال مجاهد والسديّ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} أي مع ذلك دحاها، كما قال جلّ وعزّ {عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] قال أبو جعفر: القول الأول أولى أن يكون الشيء على بابه. ومعنى الدّحو في اللغة البسط، يقال: دحوت أدحو ودحيت أدحي ومن الثاني سمي دحية.
[سورة النازعات (79): آية 32]
{وَالْجِبََالَ أَرْسََاهََا (32)}
على إضمار فعل أيضا.
[سورة النازعات (79): آية 33]
{مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ (33)}
قال الفراء (2) أي خلق ذلك منفعة لكم ومتعة قال: ويجوز الرفع مثل {مَتََاعٌ قَلِيلٌ} * [آل عمران: 197].
[سورة النازعات (79): آية 34]
{فَإِذََا جََاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ (34)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: القيامة عظم الله أمرها وحذّر منه. قال أبو جعفر: العرب إذا عظّمت الشيء وصفته بالطامة.
[سورة النازعات (79): آية 35]
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسََانُ مََا سَعى ََ (35)}
أي إذا قرأ كتابه ورأى محلّه تذكّر عمله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 233.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 223.(5/92)
[سورة النازعات (79): آية 36]
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ََ (36)}
أنّث الجحيم لمعنى النار، وهو نعت لها هاهنا.
[سورة النازعات (79): الآيات 37الى 39]
{فَأَمََّا مَنْ طَغى ََ (37) وَآثَرَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ََ (39)}
{مَنْ} في موضع رفع بالابتداء وخبره {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ََ} (39) والتقدير عند الكوفيين فهي مأواه، والألف بدل من الضمير والتقدير عند البصريين هي المأوى له.
[سورة النازعات (79): آية 40]
{وَأَمََّا مَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ََ (40)}
{وَأَمََّا مَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ} أي مقام الحساب على معاصيه. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ََ} وهو الميل إلى ما لا يحسن.
[سورة النازعات (79): آية 41]
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ََ (41)}
كالذي تقدّم.
[سورة النازعات (79): آية 42]
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا (42)}
قال الفراء (1): يقال إنما الإرساء للسفينة والجبال وما أشبههن فكيف وصفت الساعة بالإرساء؟ فالجواب أنها كالسفينة إذا جرت ثم رست ورسوها قيامها وليس كقيام القائم على رجله ونحوه ولكن كما تقول: قام العدل، وقام الحقّ أي ظهر وثبت.
[سورة النازعات (79): آية 43]
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرََاهََا (43)}
أي ليس إليك ذكرها لأنك لم تعرف وقتها. والأصل «في ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر فإنّ قبل ما حرفا خافضا، والوقوف عليه فيمه لا يجوز غيره لئلا تذهب الألف وحركة الميم، والصواب أن لا يوقف عليه لئلا يخالف السواد في زيادة الهاء أو يلحن إن وقف عليه بغير الهاء.
[سورة النازعات (79): آية 44]
{إِلى ََ رَبِّكَ مُنْتَهََاهََا (44)}
في موضع رفع بالابتداء أي منتهى علمها.
[سورة النازعات (79): آية 45]
{إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا (45)}
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وطلحة {مُنْذِرُ مَنْ يَخْشََاهََا} (2) بالتنوين وهو الأصل وإنما يحذف تخفيفا.
[سورة النازعات (79): آية 46]
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهََا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاََّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحََاهََا (46)}
أي زال عنهم ما كانوا فيه فلم يفكروا في ما مضى وقلّ عندهم، وكان في هذا معنى التنبيه لمن اغتر بالدنيا وسلامته فيها في أنه سيتركها عن قليل ويذهب عنه ما كان يجد فيها من اللّذة والسرور فكأنه لم يلبث فيها إلا عشيّة أو ضحاها.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 234.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 416.(5/93)
80 - شرح إعراب سورة عبس
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة عبس (80): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {عَبَسَ وَتَوَلََّى (1)}
ويقال في التكثير: عبّس.
[سورة عبس (80): آية 2]
{أَنْ جََاءَهُ الْأَعْمى ََ (2)}
{أَنْ} في موضع نصب أي لأن، ومن النحويين من يقول:
موضعها خفض على إضمار اللام، ومنهم من يقول: «أن» بمعنى «إذ».
[سورة عبس (80): آية 3]
{وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكََّى (3)}
والأصل يتزكّى أدغمت التاء في الزاي.
[سورة عبس (80): آية 4]
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ََ (4)}
الأصل يتذكر أدغمت التاء في الذال لقربها منها {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ََ} وزعم الفراء (1) أنه يجوز النصب ولم يقرأ به. قال أبو جعفر: الرواية معروفة عن عاصم أنه قرأ {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ََ} (2) بالنصب، والكوفيون يقولون: هو جواب لعلّ ولا يعرف البصريون جواب لعلّ بالنصب، وقد حكوا هم والكوفيون وإيجاب النصب وهو الأمر والنهي والنفي والتمني والاستفهام، وزاد الكوفيون الدعاء، ولم يذكروا جواب لعل مع هذه الأجوبة. وسألت عنها أبا الحسن علي بن سليمان فقال: ما أعرف للنصب وجها وإن كان عاصم مع جلالته قد قرأ به إلا أن «أو» يجوز أن تنصب ما بعدها كما قال: [الطويل] 538 فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (3)
فقد يجوز أن يعطفه على ما ينتصب بعد «أو».
[سورة عبس (80): الآيات 5الى 6]
{أَمََّا مَنِ اسْتَغْنى ََ (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدََّى (6)}
{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدََّى} قراءة المدنيين، والأصل تتصدّى ثم أدغم، وقراءة الكوفيين وأبي عمرو {تَصَدََّى} (4) بحذف التاء لئلا يجمع بين تاءين.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 235.
(2) انظر تيسير الداني 178.
(3) مرّ الشاهد رقم (148).
(4) انظر البحر المحيط 8/ 419، وتيسير الداني 178.(5/94)
[سورة عبس (80): آية 7]
{وَمََا عَلَيْكَ أَلاََّ يَزَّكََّى (7)}
والأصل يتزكّى.
[سورة عبس (80): آية 8]
{وَأَمََّا مَنْ جََاءَكَ يَسْعى ََ (8)}
في موضع نصب على الحال وكذا
[سورة عبس (80): آية 9]
{وَهُوَ يَخْشى ََ (9)}
ويجوز أن تكون الجملة خبرا آخر.
[سورة عبس (80): آية 10]
{فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهََّى (10)}
والأصل تتلهّى أي تتشاغل وفعل هذا صلّى الله عليه وسلّم طلبا منه لإسلام المشرك.
[سورة عبس (80): آية 11]
{كَلاََّ إِنَّهََا تَذْكِرَةٌ (11)}
خبر «إنّ».
[سورة عبس (80): آية 12]
{فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ (12)}
لأنه تأنيث غير حقيقي.
[سورة عبس (80): الآيات 13الى 15]
{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)}
قيل: يعني به اللوح المحفوظ. هذا على تفسير ابن عباس لأن سعيد بن جبير روي عنه في معنى {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} (15) أنهم الملائكة. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم الكتبة، وقال قتادة: هم القراء. والصحيح القول الأول، ومعروف في كلام العرب أنه يقال: سفر الرجل بين القوم إذا ترسّل بينهم بالصلح. والملائكة سفرة لأنهم رسل الله تعالى إلى أنبيائه صلوات الله عليهم، وهم أيضا كتبة يكتبون أفعال العباد. فهذا كله غير متناقض إلّا أن وهب بن منبّه قال: السّفرة الكرام البررة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبررة جمع بار، وأبرار جمع بر.
[سورة عبس (80): آية 17]
{قُتِلَ الْإِنْسََانُ مََا أَكْفَرَهُ (17)}
قال مجاهد: إذا قال الله تعالى: قتل الإنسان أو فعل به فهو الكافر. ومعنى قتل أهلك لأن المقتول مهلك، وقيل: قتل لعن ما أكفره الأولى أن تكون «ما» استفهاما أي ما الذي أكفره مع ظهور آيات الله جلّ وعزّ وانعامه عليه، وقيل هو تعجب.
[سورة عبس (80): الآيات 18الى 20]
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)}
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} أي وإنما خلق من قذر، وإنما ينبل بطاعة الله. وأولى ما قيل في معنى {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} (20) قول عبد الله بن الزبير رحمه الله أنّه يسّره أي سهل عليه حتى خرج من الرحم، والتقدير في العربية: ثم للسبيل وحذف اللام لأنه ممّا يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف.
[سورة عبس (80): آية 21]
{ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)}
أي صيّره ذا قبر أي أن نقبر، وأما الدافن فيقال له: قابر كما قال: [السريع]
539 - لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم يتنقل إلى قابر (1)(5/95)
أي صيّره ذا قبر أي أن نقبر، وأما الدافن فيقال له: قابر كما قال: [السريع]
539 - لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم يتنقل إلى قابر (1)
[سورة عبس (80): آية 22]
{ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ (22)}
أي أحياه، والتقدير: إذا شاء أنشره. يقال أنشره الله فنشر فهو منشر وناشر كما قال: [السريع] 540 حتّى يقول النّاس ممّا رأوا ... يا عجبا للميّت النّاشر (2)
[سورة عبس (80): آية 23]
{كَلاََّ لَمََّا يَقْضِ مََا أَمَرَهُ (23)}
من النحويين من يجعل «كلّا» تماما في جميع القرآن أي كلا ليس الأمر كما يقول الكافر قد قضيت ما عليّ، ومن النحويين من يجعلها في جميع القرآن مبتدأة، ومنهم من يفصلها وهذا يمرّ في التمام مشروحا إن شاء الله.
[سورة عبس (80): الآيات 24الى 26]
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ إِلى ََ طَعََامِهِ (24) أَنََّا صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)}
تمام على قراءة المدنيين وأبي عمرو وعلى قراءة الكوفيين ليس بتمام لأنهم يقرءون {أَنََّا} (3) بمعنى لأنّا، ولا يجوز أن يكون بدلا من طعام على ما تأوّله أبو عبيد لأن وجوه البدل قد بينها النحويون ولا يدخل فيها هذا.
ومعنى {صَبًّا} و {شَقًّا} التوكيد، وكذا هذه المصادر.
[سورة عبس (80): الآيات 27الى 31]
{فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدََائِقَ غُلْباً (30) وَفََاكِهَةً وَأَبًّا (31)}
وعن ابن عباس أنه قال بين يدي عمر: نبات الأرض السبعة فقال له ما أفهم ما تقول، فقال {فَأَنْبَتْنََا فِيهََا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدََائِقَ غُلْباً} (30) أي ملتفة {وَفََاكِهَةً وَأَبًّا} (31) أي مرعى الأنعام. قال عمر: هكذا فتكلّموا كما تكلّم هذا الفتى وروى عنه ابن أبي طلحة الأب ما لأن من الثمار.
[سورة عبس (80): آية 32]
{مَتََاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعََامِكُمْ (32)}
نصب على المصدر.
[سورة عبس (80): آية 33]
{فَإِذََا جََاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال القيامة، وقال عكرمة النفخة الأولى، وقال الحسن: يصيخ لها كلّ شيء أي يصمت لها كلّ شيء.
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 189، ومقاييس اللغة 5/ 47والبحر المحيط 8/ 420، وتفسير الطبري 30/ 56، والخزانة 2/ 110.
(2) مرّ الشاهد رقم (58).
(3) انظر تيسير الداني 178.(5/96)
[سورة عبس (80): الآيات 34الى 36]
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصََاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}
قيل: يفرون لما بينهم من المطالبة فيخافون ذلك، وقيل: يفرّون لأن بعضهم يستحي من بعض فيكره أن يرى ما ينزل به من الفضيحة.
[سورة عبس (80): آية 37]
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}
أي يشغله عن غيره.
[سورة عبس (80): آية 38]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)}
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} رفع بالابتداء وإن كان نكرة للفائدة التي فيه، والخبر {مُسْفِرَةٌ}.
[سورة عبس (80): آية 39]
{ضََاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)}
نعت. قال ابن زيد: القترة (1) ما علا من الغبار، ويروى أنه إذا قيل للبهائم: كوني ترابا صار ذلك التراب غبرة في وجوه الكفار.
[سورة عبس (80): آية 42]
{أُولََئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
تكون هم فاصلة أو مبتدأة و {الْفَجَرَةُ} خبر والجملة خبر أولئك.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 421 (قرأ الجمهور «قترة» بفتح التاء وابن أبي عبلة بإسكانها).(5/97)
81 - شرح إعراب سورة إذا الشمس كورت (التكوير)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة التكوير (81): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}
رفعت الشّمس بإضمار فعل مثل الثاني لأن {إِذَا} بمنزلة حروف المجازاة لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مضمرا. وعن أبيّ بن كعب {كُوِّرَتْ} ذهب ضوءها، وعن ابن عباس أظلمت. قال أبو جعفر: يقال: كوّر الشيء وكبّر الشيء إذا لفّ ورمي به، وفي الحديث «نعوذ بك من الحور بعد الكون» (1) أي من الرجوع بعد أن كان أمرنا ملتئما، ويروى «بعد الكور».
[سورة التكوير (81): آية 2]
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)}
رفعت النجوم بإضمار فعل أيضا. قال أبيّ: {انْكَدَرَتْ} تناثرت، وقال ابن عباس: بعثرت.
[سورة التكوير (81): آية 3]
{وَإِذَا الْجِبََالُ سُيِّرَتْ (3)}
بإضمار فعل أيضا.
[سورة التكوير (81): آية 4]
{وَإِذَا الْعِشََارُ عُطِّلَتْ (4)}
(2)
{عُطِّلَتْ} قال: أي أهملت. قال الأصمعي: العشراء النّاقة إذا أتى عليها من حملها عشرة أشهر، وقال أبو عبيدة: الناقة إذا أتى عليها من حملها ستة أشهر إلى أن تضع وبعد ذلك وهم يتفقدونها وتعزّ عليهم.
[سورة التكوير (81): آية 5]
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)}
فيه قولان: أحدهما حشرت يوم القيامة ليعوّضها الله مما لحقها من الألم في الدنيا وقال قتادة: حشرت جمعت.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه الباب 20الحديث رقم (3888)، والدارمي في سننه 2/ 87، والترمذي، الدعاء 1/ 526.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 423 (قرأ الجمهور بتشديد الطاء، ومضر عن اليزيدي بتخفيفها).(5/98)
[سورة التكوير (81): آية 6]
{وَإِذَا الْبِحََارُ سُجِّرَتْ (6)}
وقرأ أبو عمرو {سُجِّرَتْ} (1) مخففا واحتجّ بالبحر المسجور وخالفه جماعة من أهل العلم من أهل اللغة قالوا: البحر المسجور واحد، والبحار جمع الجمع أولى بالتكثير والتشديد قالوا: والبحر المسجور بحر هذه صفته، وليس هذا مثل {وَإِذَا الْبِحََارُ سُجِّرَتْ}. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معناه ومعروف في اللغة أن يقال: سجرت الشيء ملأته كما قال: [الكامل] 541 فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا ... مسجورة متجاورا قلّامها (2)
وقال: [المتقارب] 542 إذا شاء طالع مسجورة ... يرى حولها النّبع والسّاسما (3)
أي مملوءة، وقيل: هذه بحار في جهنم إذا كان يوم القيامة. سجّرت أي ملئت بأنواع العذاب إلّا أن أبا العالية قال: إذا الشمس كوّرت إلى ستّ منها يراها الناس قبل أن تقوم القيامة وستّ في الآخرة بعد قيام القيامة، قال: وحدثني أبيّ بن كعب قال:
بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينا هم على ذلك تناثرت النجوم، وبيناهم على ذلك إذ وقعت الجبال وتزلزلت الأرض وهربت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن وعطلت العشار أي أهملها أهلها، واختلطت الوحوش بالناس فذلك حشرها، وقالت الجن للإنس نحن نعرف لكم الخبر فمضوا إلى البحار فوجدوها قد سعّرت نيرانا ثم تصدّعت الأرض إلى الأرض السفلى إلى السماء العليا ثم أرسلت عليهم الريح فأماتتهم.
[سورة التكوير (81): الآيات 7الى 8]
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8)}
أي قرّبت الصالح مع الصالح هذا معنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ} (8) يقال: وأدها يئدها وأدا فهو وائد وهي موءودة إذا دفنها حية وألقى عليها التراب. واشتقاقه من وأده إذا أثقله قال هارون القارئ في حرف أبيّ {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ} (4) قال أبو عبيد: هذا أبين معنى. قال أبو جعفر: خولف في هذا
__________
(1) انظر تيسير الداني 179.
(2) الشاهد للبيد في ديوانه 307، ولسان العرب (سجر) و (عرض) و (صدع)، و (قلم)، وتهذيب اللغة 9/ 181، وجمهرة اللغة 747، وتاج العروس (عرض) و (صدع)، وكتاب العين 1/ 276، ومقاييس اللغة 4/ 275، ومجمل اللغة 3/ 470، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 457.
(3) الشاهد للنمر بن تولب في ديوانه 380، ولسان العرب (سمسم)، وتاج العروس (سمسم) وبلا نسبة في جهرة اللغة 457، والمخصّص 10/ 37.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 424، ومعاني الفراء 3/ 240.(5/99)
لأنها قراءة شاذّة مخالفة للمصحف مشكلة. لأنه يجوز أن يكون التقدير سألت ربها جلّ وعزّ، وسألت قاتلها. فهذا معنى مستغلق فكيف يكون بيّنا وفي معنى سئلت قولان:
أحدهما أن المعنى طلب منها من قتلها توبيخا له فقيل لها: من قتلك؟ والمعنى الآخر أنها سئلت فقيل لها لم قتلت بغير ذنب توبيخا لقاتلها؟ كما يقال لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله. وزعم الفراء (1) أن مثل هذا قوله: [الكامل] 543 الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي (2)
ليس المعنى أنهما إذا لقياه فعلا هذا، وإنما المعنى والنادرين يقولان إذا لقيناه قتلناه، وصحّ عن ابن عباس أنه استدلّ بهذه الآية على أن الأطفال كلّهم في الجنة قال:
لأن الله جلّ وعزّ قد انتصر لهم ممن ظلمهم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
[سورة التكوير (81): آية 10]
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}
كذا قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم (3)، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي {نُشِرَتْ} والحجة لهم {صُحُفاً مُنَشَّرَةً}
[المدثر: 52] وهذا ليس من الحجج الموجبة لترك ما قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة لأن نشرت يقع للقليل والكثير عند النحويين والقراءتان صحيحتان.
[سورة التكوير (81): آية 11]
{وَإِذَا السَّمََاءُ كُشِطَتْ (11)}
وقال الفراء: نزعت وطويت قال: وكذا قشطت كما تقول: كافور وقافور.
[سورة التكوير (81): آية 12]
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)}
قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وقراءة أبي عمرو والكوفيين {سُعِّرَتْ} (4) ويحتجّ لهم بأن الجحيم واحد ويحتج عليهم بأن الجحيم وإن كان واحدا فالتكثير أولى به لكثرة سعّرت. قال أحمد بن عبيد يقال: جحمت النار أي أكثرت وقودها، وقال الفراء:
جحمت الجمر جعلت بعضه على بعض ورجل جاحم بخيل ضنين.
[سورة التكوير (81): الآيات 13الى 14]
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ (14)}
بإضمار فعل كالثاني، وجواب «إذا» {عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ} (14) قيل: معناه ما وجدته حاضرا كما تقول: أحمدت فلانا أي أصبته محمودا قال قتادة: ما أحضرت من عمل.
[سورة التكوير (81): آية 15]
{فَلاََ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)}
«لا» زائدة للتوكيد أي فأقسم بالخنس وفي معنى الخنس ثلاثة أقوال قد مر منها ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنها النجوم الخمسة، وروى سعيد عن سماك
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 240.
(2) مرّ الشاهد رقم (514).
(3) انظر البحر المحيط 8/ 425.
(4) انظر تيسير الداني 179 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها).(5/100)
قال: سمعت خالد بن عرعرة يقول: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
«الخنّس» النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. فظاهر هذا القول عام لجميع النجوم، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وعبد الرّحمن بن زيد. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الخنّس الظباء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقال جابر بن زيد وإبراهيم النخعي: الخنس بقر الوحش. قال أبو جعفر: إذا كان التقدير:
فأقسم بربّ الخنس، فالمعنى واحد إلا أن القول الأول أجلها وأعرفها، وإنما يقال لبقر الوحش والظباء خنّس الواحد أخنس وخنساء كما قال: [الكامل] 544 خنساء ضيّعت الغرير فلم ترم ... عرض الشّقائق طرفها ويغامها (1)
وواحد الخنس خانس والجمع خنس وخناس.
[سورة التكوير (81): آية 16]
{الْجَوََارِ الْكُنَّسِ (16)}
«الجواري» في موضع خفض حذفت الكسرة من الياء لثقلها فإن كان بغير ألف ولام حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين إذ كان جمع جارية وكذا إن سمّيت به على قول الخليل وسيبويه (2)، وأما الكوفيون ويونس فيقولون إذا سمّيت رجلا بجوار لم تصرفها في النصب والخفض فقلت: رأيت بواري ومررت بجواري، وقيل في الرفع هؤلاء جواري بإسكان الياء. قال الخليل: هذا خطأ لأنه كان يجب أن يقال على هذا:
هذا جواري فأعلم بضم الياء، قال: ولا يكون أثقل من فواعل إذا سميت به. قال سيبويه (3): سألت الخليل عن امرأة تسمى بقاض فقال: هي مجراة في الرفع والخفض، تقول: مررت بقاض وهذه قاض. قال أبو جعفر: وقول يونس والكوفيين: مررت بقاضي وهذا قاضي فاعلم {الْكُنَّسِ} جمع كانس ويقال: كنّاس.
[سورة التكوير (81): الآيات 17الى 18]
{وَاللَّيْلِ إِذََا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ (18)}
{وَاللَّيْلِ} عطف على «الخنس»، وليست الواو واو قسم {إِذََا عَسْعَسَ} قال الفرّاء:
أجمع المفسرون على أنه إذا أقبل، وهذا غلط. روى مجاهد عن ابن عباس «إذا عسعس» إذا أدبر. قال الضحّاك {إِذََا تَنَفَّسَ} إذا أضاء وأقبل.
[سورة التكوير (81): آية 19]
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}
جواب القسم، وأجاز الكسائي «أنه» بالفتح أي أقسم أنه وتابعه على ذلك محمد بن يزيد النحويّ.
__________
(1) الشاهد للبيد في ديوانه 308، ولسان العرب (بغم)، وتاج العروس (خنس) و (شفق) و (بغم) ومقاييس اللغة 3/ 172، والمخصّص 8/ 41، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 199.
(2) انظر الكتاب 3/ 344.
(3) انظر الكتاب 3/ 344.(5/101)
[سورة التكوير (81): آية 20]
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}
{ذِي قُوَّةٍ} نعت لرسول أي ذي قوة على أمر الله جلّ وعزّ وطاعته {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} نعت أيضا أي ذي منزلة رفيعة.
[سورة التكوير (81): آية 21]
{مُطََاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}
{مُطََاعٍ ثَمَّ} أي مطاع في السموات {أَمِينٍ} على وحي الله جلّ وعزّ ورسالاته فهذا التمام.
[سورة التكوير (81): آية 22]
{وَمََا صََاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)}
أي ليس خطابه ولا بيانه ولا فعله فعل مجنون.
[سورة التكوير (81): آية 23]
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)}
والهاء تعود على الرسول وهو جبريل صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن يزيد بن هارون ثنا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} (23) فقالت أنا أول من سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ذاك جبريل صلّى الله عليه وسلّم لم أره على صورته التي خلق عليها إلا مرتين قد هبط من السماء قد سدّ عظم خلقه ما بين السماء والأرض» (1).
[سورة التكوير (81): آية 24]
{وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)}
قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى والأعمش وحمزة، ويقال: إنها في حرف أبيّ بن كعب كذلك وقرأ ثلاثة من الصحابة «بظنين» (2) كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله المديني عن سفيان عن عمرو، قال: سمعت ابن عباس يقرأ «بظنين» بالظاء، وروى شعبة عن مغيرة عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ بظنين بالظاء، وقال عروة سمعت عائشة تقرأ بالظاء. وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، ولا اختلاف بين أهل التفسير واللغة أن معنى «بظنين» بمتّهم و «بضنين» ببخيل فالقراءتان صحيحتان قد رواهما الجماعة إلّا أنه في السواد بالضاد، وعدل أبو عمرو والكسائي وهما نحويا القراءة إلى القراءة. «بظنين» لأنه يقال: فلان ظنين على كذا أيّ متّهم عليه، وظنين بكذا وإن كانت حروف الخفض يسهل فيها مثل هذا، وعدل أبو عبيد أيضا إليها لأنه ذكر أنه جواب لأنهم كذّبوه. وهذا الّذي احتجّ به لا نعلم أحدا من أهل العلم يعرفه ولا يرى أنه جواب، ولا هو عندهم
__________
(1) مرّ في إعراب الآيات 1311من سورة النجم.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 426، وتيسير الداني 179.(5/102)
إلا مبتدأ وخبر، وقد قلنا: إن القراءتين صحيحتان ومجاز «ضنين» أنّ من العلماء من يضن بعلمه، وفي الحديث «من كتم علما لجمه الله بلجام من نار» (1) فأخبر الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بضنين بشيء من أمر الدين، وأنه لا يخصّ به أحدا دون أحد على خلاف ما يقول قوم أنه خصّ الإمام بما لم يلقه إلى غيره.
[سورة التكوير (81): آية 25]
{وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ (25)}
لو حذفت الباء لنصبت لشبه «ما» بليس.
[سورة التكوير (81): آية 26]
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}
ذكر الفرّاء (2) أن المعنى فإلى أين تذهبون وحذفت «إلى» كما يقال: ذهبت الشام وذهبت إلى الشام، وانطلقت إلى السوق وانطلقت السّوق، وخرجت الشام وإلى الشام، وحكى الكسائي: انطلق به الغور، والتقدير عنده: إلى الغور فحذفت «إلى» فجعل الكوفيون هذه الأفعال الثلاثة انطلق وذهب وخرج يجوز معها حذف إلى، وقاسوا على ما سمعوا من ذلك زعموا. فأما سيبويه فحكى منها واحدا ولا يجيز غيره وهو ذهبت الشام، ولا يجيز ذهبت مصر، وعلى هذا قول البصريين لا يقيسون من هذا شيئا.
وروى أبو العباس على هذا شيئا فزعم أن قولهم: ذهبت الشام ومعناه الإبهام أي ذهبت شامة الكعبة، غير أن هذا إنما يرجع فيه إلى قول من حكى ذلك عن العرب ولم يحكه سيبويه إلا على أنه الشام بعينها.
[سورة التكوير (81): آية 27]
{إِنْ هُوَ إِلاََّ ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ (27)}
أي ما في القرآن إلا عظة وتذكرة للعالمين.
[سورة التكوير (81): آية 28]
{لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)}
{لِمَنْ} بدل من العالمين على إعادة اللام، ولو كان بغير لام لجاز. قال مجاهد:
{لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (28) أي أن يتبع الحق.
[سورة التكوير (81): آية 29]
{وَمََا تَشََاؤُنَ إِلاََّ أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ (29)}
{وَمََا تَشََاؤُنَ} في معناه قولان أحدهما وما تشاؤون أن تستقيموا أي تتّبعوا الحقّ {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} والقول الآخر أنه منهم أي ما تشاؤون يشاء من الطاعة والمعصية {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} ذلك منكم، ولو لم يشأ لحال بينكم وبينه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 24الحديث (261) والدارمي في سننه 1/ 73، وأبو داود في سننه الحديث (3658).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 243.(5/103)
82 - شرح إعراب سورة انفطرت (الانفطار)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الانفطار (82): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ (3)}
{إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} (1) لتأنيث السماء على اللغة الفصيحة، وقد حكى الفرّاء (1)
فيها التذكير، فمن أنثها صغرها سميّة وإن كانت رباعية في الأصل لأنه قد حذف منها حرف، والسماء مرفوعة بإضمار فعل، وكذا {وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ} (2) وكذا {وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ} (3) ولا يجوز أن تكون مرفوعة بالفعل الآخر إلا على شيء حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن يحيى ثعلب، قال: زيد قام مرفوع بفعله ينوى به التأخير قيل:
معنى {وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ} (3) فجر بعضها إلى بعض لاضطراب الأرض بزوال الجبال والزلازل فاختلط بعض البحار ببعض.
[سورة الانفطار (82): آية 4]
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول بحثرت وتأوّله الفرّاء على أنّ الأرض بحثرت فألقت ما فيها من الكنوز والموتى، واحتجّ الحديث «تلقي الأرض أفلاذ كبدها» (2). قال أبو جعفر: وهذا غلط وليس في القرآن وإذا الأرض وفيه خصوص القبور «وتلقي أفلا كبدها» لا اختلاف بين أهل العلم أنه في آخر الزمان وليس هو يوم القيامة.
[سورة الانفطار (82): آية 5]
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}
تمام الكلام، وهو جواب «إذا» وفي معناه قولان: قال ابن زيد ما قدمت ما عملت وما أخّرت تركت وضيّعت وأخرت مما أمرت بتقديمه من أمر الله جلّ وعزّ، والقول الآخر أن معنى ما أخّرت ما سنّت من سنّة فعمل بها بعدها. قال أبو جعفر: هذا عن ابن عباس، وهو أولى، وبه يقول أصحاب الحديث، وينكره بعض أهل الأهواء.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 128.
(2) انظر أمالي المرتضى 1/ 95.(5/104)
والدليل على صحته أن الإنسان إذا ضيع ما أمر به وأخره كان ذلك مما قدم من الشرّ لا مما أخّره.
[سورة الانفطار (82): آية 6]
{يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ مََا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)}
{مََا} في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام والكاف في موضع نصب بغرّ.
[سورة الانفطار (82): آية 7]
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوََّاكَ فَعَدَلَكَ (7)}
قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة وأهل الشام، وقرأ الكوفيون {فَعَدَلَكَ} (1)
مخففا، واستبعدها الفرّاء وإن كانت قراءة أصحابه لأنه إنما يقال: عدلته إلى كذا وصرفته إليه، ولا يكاد يقال: عدّلته في كذا ولا صرّفته. قال أبو جعفر فيه: وهذا غلط لأن الكلام تام عند «فعدلك» و «في» متعلقة بركّبك لا بعدلك فيكون كما قال. ومعنى عدلك في اللغة خلقك معتدلا لا يزيد رجل على رجل، وكذا سائر خلقك. وقد يكون عدّلك تكثير عدلك فيكونان بمعنى واحد كما قال ابن الزبعرى: [الرمل] 545وعدلنا مثل بدر فاعتدل (2)
أي قتلنا منهم مثل من قتلوا منا، وقد قيل: عدلك أمالك إلى ما شاء من حسن وقبيح وقبح وصحة وسقم.
[سورة الانفطار (82): آية 8]
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مََا شََاءَ رَكَّبَكَ (8)}
{مََا} زائدة قال مجاهد: في صورة أب أو أمّ أو عمّ أو خال.
{كَلََّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحََافِظِينَ (10)}
[سورة الانفطار (82): آية 9]
{كَلاََّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)}
وحكى الفرّاء (3) عن بعض أهل المدينة «بل يكذبون» وردّها لأن بعدها
[سورة الانفطار (82): آية 10]
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحََافِظِينَ (10)}
قال أبو جعفر: ولا أعرف ما حكاه عن بعض أهل المدينة، ولا أعلم أحدا رواه غيره.
[سورة الانفطار (82): الآيات 11الى 12]
{كِرََاماً كََاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مََا تَفْعَلُونَ (12)}
{كِرََاماً كََاتِبِينَ} (11) نعت لحافظين وكذا {يَعْلَمُونَ مََا تَفْعَلُونَ} (12).
[سورة الانفطار (82): آية 13]
{إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 428.
(2) الشاهد عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه 93، وبلا نسبة في لسان العرب (عدل)، وتهذيب اللغة 2/ 211، وتاج العروس (عدل). وصدره:
«ليت أشياخي ببدر شهدوا»
(3) انظر معاني الفراء 3/ 244.(5/105)
أي الذين برّوا بطاعة الله واجتناب معاصيه، وقال الحسن: الأبرار الذين لا يؤذون الذرّ.
[سورة الانفطار (82): الآيات 14الى 15]
{وَإِنَّ الْفُجََّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهََا يَوْمَ الدِّينِ (15)}
على تأنيث النار وإن كان الجحيم مذكرا.
[سورة الانفطار (82): آية 16]
{وَمََا هُمْ عَنْهََا بِغََائِبِينَ (16)}
قال الفرّاء (1): أي إذا أدخلوها فليسوا بخارجين منها. قال قتادة: يوم يدان الناس بأعمالهم.
[سورة الانفطار (82): آية 17]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الدِّينِ (17)}
قيل: ليس هذا تكريرا. والمعنى: وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب والنكال للفجار ثم ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار.
[سورة الانفطار (82): آية 19]
{يَوْمَ لاََ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ (19)}
{يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وقال الفرّاء (2): «في كتابه في المعاني» اجتمع القرّاء على نصب «يوم لا تملك». قال أبو جعفر. وهذا غلط. قرأ أبو عمرو وعبد الله بن أبي إسحاق وعبد الرّحمن الأعرج وهو أحد أستاذي نافع {يَوْمَ لََا تَمْلِكُ} (3) بالرفع فمن رفع فتقديره هو {يَوْمَ لََا تَمْلِكُ}، ويجوز أن يكون بدلا مما قبله {ثُمَّ مََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} ومن نصب فتقديره: الدين يوم لا تملك ومثله {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْقََارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النََّاسُ} [القارعة: 3، 4] أي القارعة يوم يكون الناس، ويجوز أن يكون التقدير: يصلونها يوم الدين {يَوْمَ لََا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} فهذان قولان الأول أولاهما، وللفرّاء قول ثالث أجاز أن يكون «يوم» في موضع رفع فبناه كما قال: [الطويل] 546على حين عاتبت المشيب على الصّبا (4)
قال أبو جعفر: وهذا غلط لا يجوز أن يبنى الظروف عند الخليل وسيبويه مع شيء معرب والفعل المستقبل معرب فأما الكسائي فأجاز ذلك في الشعر على الاضطرار ولا يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على مثل هذا، ولكن تبنى ظروف الزمان مع الفعل الماضي كما مرّ في البيت لأن ظروف الزمان منقضية غير ثابتة فلك أن تبنيها مع ما
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 244.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 244.
(3) انظر تيسير الداني 179.
(4) مرّ الشاهد رقم (129).(5/106)
بعدها إذا كان غير معرب، وأن تعربها على أصلها نحو قول الله جلّ وعزّ {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] بإعراب يوم، وإن شئت {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} وعلى هذا تبنى يوم مع «إذ» في موضع الرفع والخفض والنصب على الفتح، وكذا {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ}.(5/107)
83 - شرح إعراب سورة المطففين
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المطففين (83): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}
رفعت ويلا بالابتداء «للمطففين» خبره أي تأنيب، ويجوز النصب في غير القرآن لأن ويلا بمعنى المصدر، وكان الاختيار الرفع لأنه لا ينطق منه بفعل إلا شيئا شاذا أنشده محمد بن الوليد وهو: [الهزج] 547 فما وال ولا واح ... ولا واس أبو هند (1)
فإن كان مشتقا من فعل فالاختيار النصب عند النحويين نحو: بؤسا له، وإن لم يأت بالخبر في الأول نصبت فقلت: ويله وويحه.
[سورة المطففين (83): آية 2]
{الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)}
{الَّذِينَ} في موضع خفض نعت للمطففين أو نصب على الذمّ وهو أولى بالآية وربما توهّم الضعيف في العربية أن معنى اكتلت عليه واكتلت منه واحد وتقديرهما مختلف فمعنى اكتلت عليه أخذت ما عليه، ومعنى اكتلت منه استوفيت منه.
[سورة المطففين (83): آية 3]
{وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}
اختلف النحويون في موضع الهاء والميم فقال جلتهم أبو عمرو بن العلاء والكسائي والأخفش وغيرهم: موضع الهاء والميم موضع نصب، وهو مذهب سيبويه قياسا على قوله: كلتك وصدتك ولا يجيز وهبتك لأنه يشكل فإن قلت: وهبتك دينارا جاز. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع، وعبرّ عنه أبو حاتم بأن المعنى عنده: هم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون لأن عيسى قال: الوقف «وإذا كالوا» ثم تبتدئ «هم أو وزنوا»، وعبرّ غيره: أن «هم» توكيد كما تقول: قاموا هم. قال أبو
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في شرح التصريح 1/ 330، والممتع في التصريف 2/ 567، والمنصف 2/ 198 وشرح مشكلات الحماسة 312.(5/108)
جعفر: والصواب أن الهاء والميم في موضع نصب لأنه في السواد بغير ألف، ونسق الكلام يدل على ذلك لأن قبله {إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ} فيجب أن يكون بعده وإذا كالوا لهم، وحذفت اللام كما قال، أنشده أبو زيد: [الكامل] 548 ولقد جنيتك أكموءا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (1)
وحرف الخفض يحذف فيما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف كما قال:
[البسيط] 549 أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (2)
وقال آخر: [الطويل] 550 نبّيت عبد الله بالجوّ أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها (3)
وقال الآخر: [البسيط] 551 أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل (4)
[سورة المطففين (83): آية 4]
{أَلاََ يَظُنُّ أُولََئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)}
أنّ وما عملت فيه في موضع المفعولين.
[سورة المطففين (83): الآيات 5الى 6]
{لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ (6)}
{يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (6) في نصبه أقوال: يكون التقدير: لمبعوثون يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، وقال الأخفش سعيد هو مثل قولك: الآن وجعله الفرّاء (5) مبنيا.
قال أبو جعفر: وذلك غلط أن يبنى مع الفعل المستقبل، ويجوز في العربية خفضه على البدل، ورفعه بإضمار مبتدأ فهذا ما فيه من الإعراب. وقرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف عن عيسى بن يونس عن ابن عون عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الاشتقاق ص 402، والإنصاف 1/ 319، وأوضح المسالك 1/ 180، وتخليص الشواهد 167، وجمهرة اللغة 331، والخصائص 3/ 58، ورصف المباني ص 78، وسرّ صناعة الإعراب 366، وشرح الأشموني 1/ 85، وشرح التصريح 1/ 151، وشرح شواهد المغني 1/ 166 وشرح ابن عقيل 96، ولسان العرب (جوت) و (حجر) و (سور) و (وبر) و (جحش)، والمحتسب 2/ 224ومغني اللبيب 1/ 52، والمقاصد النحوية 1/ 498والمقتضب 4/ 28، والمنصف 3/ 134.
(2) مرّ الشاهد رقم (51).
(3) مرّ الشاهد رقم (321).
(4) الشاهد بلا نسبة في أدب الكاتب 524، والكتاب 1/ 71، والأشباه والنظائر 4/ 16، وأوضح المسالك 2/ 283، وتخليص الشواهد 405وخزانة الأدب 3/ 111، والدرر 5/ 186، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، وشرح التصريح 1/ 394وشرح المفصّل 7/ 63، والصاحبي في فقه اللغة 181، ولسان العرب (غفر)، والمقاصد النحوية 3/ 226، والمقتضب 2/ 321، وهمع الهوامع 2/ 82.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 246.(5/109)
قول الله تعالى {يَوْمَ يَقُومُ النََّاسُ لِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (6) قال: «يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم» (1) قال أبو جعفر: فهذا حديث مجمل صحيح الإسناد، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروحا قال: «تدنو الشمس يوم القيامة من الأرض فمن الناس من يغرق إلى كعبيه ومنهم من يغرق إلى أنصاف ساقيه ومنهم من يغرق إلى منكبيه ومنهم من يغرق إلى عنقه ومنهم من يغرق إلى نصف فمه ملجما به ومنهم يشتمله الغرق».
[سورة المطففين (83): آية 7]
{كَلاََّ إِنَّ كِتََابَ الفُجََّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)}
من قال: إنّ {كَلََّا} تمام في كل القرآن، قال: المعنى ليس الأمر كما يذهب إليه الكافرون من أنهم لا يبعثون ولا يعذّبون، وتكلم العلماء في معنى سجّين فقال أبو هريرة: {سِجِّينٍ} جبّ في جهنم مفتوح، وقال سعيد بن جبير: «سجين» تحت حد إبليس، وقيل «سجين» من السجل والنون مبدلة من اللام أي في ما كتب عليهم، وقال أبو عبيدة: في سجين في حبس فقيل من السجن، وقال بعض النحويين: «سجين» الصخرة التي تحت الأرض السفلى، وزعم أن هذا يروى وأنه صفة لأنه لو كان اسما للصخرة لم ينصرف، قال: ويجوز أن تجعله اسما للحجر فتصرفه. قال أبو جعفر:
وأولى ما قيل في سجين، ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل وأبي معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ العبد الكافر أو الفاجر إذا مات صعد بروحه إلى السّماء الدنيا فيقول الله جلّ وعزّ اكتبوا كتابه في {سِجِّينٍ} (2) قال:
وهي الأرض السفلى.
[سورة المطففين (83): آية 8]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا سِجِّينٌ (8)}
على التعظيم، وهو مبتدأ وخبره.
[سورة المطففين (83): آية 9]
{كِتََابٌ مَرْقُومٌ (9)}
إضمار مبتدأ أي هو كتاب مرقوم.
[سورة المطففين (83): الآيات 10الى 11]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)}
نعت للمكذبين ويجوز النصب على ما مرّ.
[سورة المطففين (83): آية 12]
{وَمََا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاََّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}
قال الحسن بن واقد: أي معتد في قوله أثيم عند ربّه.
[سورة المطففين (83): آية 13]
{إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا قََالَ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)}
__________
(1) انظر تفسير الطبري 30/ 92.
(2) انظر تفسير القرطبي 17/ 255.(5/110)
على إضمار مبتدأ.
[سورة المطففين (83): آية 14]
{كَلاََّ بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (14)}
بإدغام اللام في الراء وترك الإمالة قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي بإدغام غير أنهم أمالوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {بَلْ رََانَ} (1) بغير إدغام. قال أبو جعفر: والإدغام في هذا أولى لقرب اللام من الراء وترك الإمالة أولى لأنه لا ياء فيه ولا كسرة، وإنما الإمالة محمولة على المعنى لأنه من ران يرين مشتق من الرّين كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن عارم قال: سألت الأصمعي عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة» (2) فقال: التوقي في الكلام في حديث رسول الله كالتوقي في القرآن ولكن العرب تسمي الغيم إذا كان دون الغيم رقيقا الغين والرّين. قال أبو جعفر: فهذا الإعراب والاشتقاق فأما المعنى فقال فيه مجاهد: للقلب أصابع فإذا أذنب عبد انقبض منها إصبع ثم إن أذنب انقبضت منها أخرى حتى تنقبض كلّها، ويطبع على قلبه فلا ينفع فيه موعظة. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في هذا ما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن قتيبة عن الليث عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال: «إذا أخطأ العبد خطيئة وكت في قلبه وكتة يعني سوداء فإن نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتّى يعلو قلبه فذلك الرين الذي ذكره جلّ وعزّ {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (14) (3).
[سورة المطففين (83): آية 15]
{كَلاََّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)}
في معناه قولان: أحدهما أنه دلّ بهذا على أنّ المؤمنين لا يحجبون عن النظر إليه جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قاله مالك بن أنس في ذلك وسئل الشافعي رحمه الله عن النظر إلى الله جلّ وعزّ يوم القيامة فقال: يدل عليه {كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (15) والقول الآخر أنّ التقدير: عن كرامة ربّهم مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:
82]. قال أبو جعفر: وهذا خطأ على مذهب النحويين منهم الخليل وسيبويه، ولا يجوز عندهما ولا عند غيرهما من النحويين: جاءني زيد، بمعنى جاءني غلامه وجاءتني كرامته.
[سورة المطففين (83): آية 16]
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصََالُوا الْجَحِيمِ (16)}
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصََالُوا الْجَحِيمِ} لأنه للمستقبل فمن حذف النون تخفيفا قال: لصالو الجحيم بالخفض على الإضافة ومن حذفها لالتقاء الساكنين نصب.
__________
(1) انظر تيسير الداني 179.
(2) انظر إتحاف السادة المتقين 8/ 517.
(3) انظر مستدرك الحاكم 1/ 5، وتفسيري الطبري 30/ 62، وكنز العمال (1288).(5/111)
[سورة المطففين (83): آية 17]
{ثُمَّ يُقََالُ هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}
اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه (1) في الجملة وكذا قال في {ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] في موضع الفاعل. وهذا عند أبي العباس خطأ لأن الجملة لا تقوم مقام الفاعل ولكن الفعل دلّ على المصدر، وقام المصدر مقام الفاعل.
[سورة المطففين (83): الآيات 18الى 19]
{كَلاََّ إِنَّ كِتََابَ الْأَبْرََارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ (19)}
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ} (19) فيه خمسة أقوال وفي إعرابه قولان فأكثر أهل التفسير منهم كعب ومجاهد وزيد بن أسلم يقولون: علّيّون السماء السابعة، وحكى الفرّاء (2) إنه السماء الدنيا، وقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال الضحّاك: علّيّون سدرة المنتهى وقيل: علّيّون الملائكة. قال أبو جعفر. القول الأول عليه الجماعة فأما الإعراب فالقولان اللذان فيه أحدهما أن عليين أشبه عشرين وما أشبهها لأنه لا واحد له، وإنما هو بمعنى من علوّ إلى علو فأعرب كإعراب عشرين. قال أبو جعفر: فهذا قول موافق لتأويل الذين قالوا علّيّون السماء السابعة، والقول الآخر أن عليين صفة للملائكة فلذلك جمع بالواو والنون.
[سورة المطففين (83): آية 20]
{كِتََابٌ مَرْقُومٌ (20)}
أي ذلك الكتاب كتاب أي مكتوب وفسّر ذلك الضحّاك قال: إذا خرج روح المؤمن أخذه الملك فصعد به إلى السماء الدنيا فتبعه الملائكة المقربون ثم كذلك من سماء إلى سماء حتى ينتهي به إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى فيوافيهم كتاب من الله جلّ وعزّ مختوم فيه أمان من الله لفلان ابن فلان من عذاب النار يوم القيامة وبالفوز بالجنة. قال ابن زيد: المقربون الملائكة.
[سورة المطففين (83): آية 22]
{إِنَّ الْأَبْرََارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)}
قيل: سمّوا أبرارا لكثرة ما يأتونه من الصدق لأن الصدق يقال له برّ.
[سورة المطففين (83): الآيات 23الى 24]
{عَلَى الْأَرََائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)}
{عَلَى الْأَرََائِكِ يَنْظُرُونَ} (23) أي إلى ما لهم من القصور والحور وغير ذلك. قال أبو جعفر: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (24) وأجاز الفرّاء (3) يعرف لأنه تأنيث غير حقيقي.
[سورة المطففين (83): آية 25]
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)}
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 124.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 247.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 248.(5/112)
{مِنْ رَحِيقٍ} في موضع نصب على خبر ما لم يسمّ فاعله على غير قول الأخفش.
[سورة المطففين (83): آية 26]
{خِتََامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذََلِكَ فَلْيَتَنََافَسِ الْمُتَنََافِسُونَ (26)}
{خِتََامُهُ مِسْكٌ} مبتدأ وخبره. هذه قراءة أكثر الناس. وقرأ الكسائي رواه عنه أبو عبيد «خاتمه مسك» (1) وزعم أن هذه القراءة قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه لم يجد أحدا يعرف هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرّحمن السلميّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ «خاتمه مسك» (2) قال أبو جعفر: ختامه بمعنى واحد إلا أن ختاما مصدر وخاتم اسم الفاعل، وأكثر كلام العرب في الناس وما أشبههم هو خاتمهم كما قال جلّ وعزّ {وَلََكِنْ رَسُولَ اللََّهِ وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وكذا خاتم وفي غير الناس ختام كما قال: [الكامل] 552 أغلي السّباء بكلّ أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفضّ ختامها (3)
{وَفِي ذََلِكَ فَلْيَتَنََافَسِ الْمُتَنََافِسُونَ} أي فليحرص وليطلب. وأصل هذا من نفست عليه بالشيء أي أردت أن يكون لي دونه، واشتقاقه من النّفس أي الذي تفرح به النفس وتميل إليه.
[سورة المطففين (83): الآيات 27الى 28]
{وَمِزََاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (28) في نصب عين خمسة أقوال: قول الأخفش إنها منصوبة بيسقون، وقال محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان: لا يصحّ لي أن تكون منصوبة إلّا بمعنى أعني، وقال الفرّاء (4): أي من تسنيم عين ثم نوّنت فتنصب مثل {أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذََا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14] والقول الرابع «تسنيم عينا»، والقول الخامس أن يكون تسنيم اسما للماء معرفة وعين نكرة فنصب لذلك. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأنه صحيح على قول أهل التأويل، كما قرأ محمد بن جعفر عن حفص بن يوسف بن موسى ثنا سلمة ثنا نهشل عن الضحّاك قال:
«تسنيم» عين تتسنّم من أعلى الجنة ليس في الجنة عين أشرف منها. قال أبو جعفر:
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248.
(2) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248.
(3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه 314، وأسرار العربية 303، وخزانة الأدب 3/ 105، وسرّ صناعة الإعراب 632، وشرح المفصّل 8/ 92ولسان العرب (قدح) و (عتق)، و (دكن)، والمعاني الكبير 1/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 125، وأساس البلاغة (سبأ)، وكتاب العين 7/ 315، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 402، ورصف المباني ص 411.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 249.(5/113)
وقول مجاهد أيضا يدلّ على هذا قال: تسنيم علو وكذا الاشتقاق يقال: تسنّمت الماء أتسنّمه تسنيما إذا أجريته من موضع عال، وقبر مسنم أي مرتفع، ومن هذا سنام البعير فإن قال قائل فلم انصرف تسنيم وهو معرفة اسم للمؤنث؟ قيل: تقديره أنه اسم لمذكّر للماء الجاري من ذلك الموضع العالي ومعنى عينا جاريا فقد صارت في موضع الحال.
[سورة المطففين (83): آية 29]
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كََانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)}
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} أي اكتسبوا الإثم. يقال: جرم وأجرم إذا اكتسب إلا أنّ الأكثر في اكتساب الإثم أجرم وفي غيره جرم. {الَّذِينَ} اسم إنّ {أَجْرَمُوا} صلته {كََانُوا} خارج من الصلة لأنه خبر «إن» أي كانوا في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ} صدقوا بتوحيد الله {يَضْحَكُونَ} استهزءوا بهم ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه.
[سورة المطففين (83): آية 30]
{وَإِذََا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغََامَزُونَ (30)}
استهزءوا بهم.
[سورة المطففين (83): آية 31]
{وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى ََ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)}
(1)
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فاكهين يقول معجبين. قال أبو جعفر: أي معجبين بما يفعلون مسرورين به، وقال ابن زيد: فاكهين ناعمين، وزعم الفرّاء (2) أن فاكهين بمعنى واحد وحكى أبو عبيد أن أبا زيد الأنصاري حكى عن العرب أن الفكه الضحوك الطيب النفس. قال محمد بن يزيد: كان الأصمعي يرفع بأبي زيد في اللغة ويذكر محلّه وتقدّمه ويذكر صدقه وأمانته قال: وكان خلف بن حيان أبو محرز على جلالته يحضر حلقته.
[سورة المطففين (83): آية 32]
{وَإِذََا رَأَوْهُمْ قََالُوا إِنَّ هََؤُلاََءِ لَضََالُّونَ (32)}
هذا قول الكفار في الدنيا أي لضالّون عن طريق الصواب.
[سورة المطففين (83): آية 33]
{وَمََا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حََافِظِينَ (33)}
أي لم يرسلوا ليحفظوا عليهم أعمالهم وإنما أمروا بطاعة الله تعالى.
[سورة المطففين (83): الآيات 34الى 36]
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفََّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرََائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفََّارُ مََا كََانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفََّارِ يَضْحَكُونَ} (34) وذلك بعد دخولهم الجنة. قال ابن عباس: يفتح لهم أبواب إلى النار فينظرون إلى الذين كانوا يسخرون في الدنيا
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 435.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 249.(5/114)
ويضحكون بهم فإذا رأوهم في النار سرّوا بانتقام الله تعالى من أعدائه وضحكوا بهم إذ ذاك {عَلَى الْأَرََائِكِ يَنْظُرُونَ} (35) إليهم. وقال غيره: على الأرائك ينظرون إلى قصورهم وأزواجهم، ويقول بعضهم لبعض {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفََّارُ مََا كََانُوا يَفْعَلُونَ} (36) وقيل {هَلْ} مبتدأة منقطعة مما قبلها أي هل جزي الكفار بأعمالهم، و {مََا} في موضع نصب على هذا المعنى.(5/115)
84 - شرح إعراب سورة انشقت (الانشقاق)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الانشقاق (84): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ (1)}
{إِذَا} في موضع نصب وقد ذكرنا قول النحويين في جواب «إذا»، وقد قيل:
المعنى: اذكروا إذا السّماء انشقّت، فعلى هذا لا تحتاج إلى جواب أي اذكر خبر ذلك الوقت.
[سورة الانشقاق (84): آية 2]
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ (2)}
قال سعيد بن جبير: حقّ لها أن تأذن. قال أبو جعفر: حقيقة هذا أن المعنى حقّق الله جلّ وعزّ عليها فانقادت إلى أمره وانشقت أي تصدّعت فصارت أبوابا.
[سورة الانشقاق (84): آية 3]
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)}
رفعت الأرض بإضمار فعل يفسره الثاني.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 4الى 5]
{وَأَلْقَتْ مََا فِيهََا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ (5)}
{وَأَلْقَتْ مََا فِيهََا وَتَخَلَّتْ} (4) معطوف على الأول، وكذا {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} (5).
[سورة الانشقاق (84): آية 6]
{يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ إِنَّكَ كََادِحٌ إِلى ََ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاََقِيهِ (6)}
{يََا أَيُّهَا الْإِنْسََانُ} نعت لأي، والأخفش يقول صلة لأنه لا بدّ منه {إِنَّكَ كََادِحٌ إِلى ََ رَبِّكَ كَدْحاً} مصدر فيه معنى التوكيد {فَمُلََاقِيهِ} في موضع رفع والأصل ضمّ الياء فحذفت الضمة لثقلها. فهذا قول، وقيل: حذفت لأن الياء هاهنا حرف مد ولين فأشبهت الألف فحذفت منه الضمة والكسرة، ومن العرب من يحذف منها الفتحة فيجريها مجرى الألف فلا يحركها بحال.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 7الى 8]
{فَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحََاسَبُ حِسََاباً يَسِيراً (8)}
{فَسَوْفَ يُحََاسَبُ حِسََاباً يَسِيراً} (8) أي يثاب بحسناته ويتجاوز عن سيئاته.
[سورة الانشقاق (84): آية 9]
{وَيَنْقَلِبُ إِلى ََ أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)}
نصب على الحال.(5/116)
نصب على الحال.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 10الى 11]
{وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ وَرََاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11)}
{فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً} (11) مفعول به أي يقول يا ثبوراه. قال سيبويه: في نظير هذا أي احضر فهذا من إبانك.
[سورة الانشقاق (84): آية 12]
{وَيَصْلى ََ سَعِيراً (12)}
(1)
من صلي يصلى ويصلى من صلاه يصليه إذا أحرقه، وكذا أصلاه.
[سورة الانشقاق (84): آية 13]
{إِنَّهُ كََانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13)}
خبر كان، ويبعد أن يكون منصوبا على الحال إلّا أنه جائز كما نقول: زيد في أهله ضاحكا.
[سورة الانشقاق (84): آية 14]
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)}
{أَنْ} وما بعدها تقوم مقام المفعولين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {أَنْ لَنْ يَحُورَ} قال: يقول: أن لن يبعث، وقال مجاهد: أن لن يرجع إلينا. يقال: حار يحور إذا رجع وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اللهمّ إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» (2) قيل:
معناه أعوذ بك من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، وقيل أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة.
[سورة الانشقاق (84): آية 15]
{بَلى ََ إِنَّ رَبَّهُ كََانَ بِهِ بَصِيراً (15)}
أي بلى ليحورنّ وليبعثنّ أنّ ربه كان به بصيرا بعمله وبما يصير إليه لأنه كان يرتكب المعاصي مجترئا عليها إذ كان عنده أنه لا يبعث.
[سورة الانشقاق (84): آية 16]
{فَلاََ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)}
الباء هي الأصل في القسم، وتبدل منها الواو.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 17الى 18]
{وَاللَّيْلِ وَمََا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)}
{وَاللَّيْلِ} واو عطف لا واو قسم {وَمََا وَسَقَ}. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} (18) كلّه معطوف.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 19الى 20]
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَمََا لَهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (20)}
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (19) مفتوحة الباء صحيحة عن ابن عباس كما قرئ على
__________
(1) انظر تيسير الداني 179 (قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو «ويصلى» بفتح الياء وإسكان الصاد مخفّفا والباقون بضمّ الياء وفتح الصاد وتشديد اللام).
(2) انظر تفسير الطبري 30/ 75، والقرطبي 19/ 273.(5/117)
إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله عن سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ {لَتَرْكَبُنَّ} (1) بفتح الباء، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والشعبي ومجاهد والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون {لَتَرْكَبُنَّ} بضم الباء، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو، وقال الفرّاء: وقرئت «ليركبنّ» قال أبو جعفر: القراءة الأولى مخاطبة للواحد وبني الفعل مع النون على الفتح لخفّته، وأكثر أهل التفسير يقول: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول المخاطبة لجميع الناس، والمعنى: يا أيّها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا. {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (19) أي حالا بعد حال، وقيل: سماء بعد سماء إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم. والكادح العامل وقد كدح لأهله إذا اكتسب لهم، وأنشد سيبويه: [الطويل] 553 وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (2)
و «لتركبنّ» بضم الباء مخاطبة للجماعة والضمة تدلّ على الواو المحذوفة، وليركبن إخبار عن جماعة لأن بعده
[سورة الانشقاق (84): آية 20]
{فَمََا لَهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (20)}
وقبله ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتاه كتابه من وراء ظهره: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (20) في موضع نصب على الحال.
[سورة الانشقاق (84): آية 21]
{وَإِذََا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاََ يَسْجُدُونَ (21)}
أهل التفسير على أن المعنى لا يخضعون ولا يذلّون بالانتهاء إلى طاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة الانشقاق (84): آية 22]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)}
بالخروج من حديث إلى حديث يقع بعد الإيجاب والنفي عند البصريين.
[سورة الانشقاق (84): آية 23]
{وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُوعُونَ (23)}
من أوعى الشيء إذا جمعه، ووعى حفظه.
[سورة الانشقاق (84): الآيات 24الى 25]
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
{الصََّالِحََاتِ} {الَّذِينَ} في موضع نصب استثناء من الهاء والميم، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، كما روى عكرمة عن ابن عباس {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، قال الشيخ الكبير إذا كبر وضعف وقد كان يعمل شيئا من الخير وقت قوته كتب له مثل أجر ما كان يعمل قال: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لا يمنّ به عليهم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 440، ومعاني الفراء 3/ 251.
(2) مرّ الشاهد رقم (52).(5/118)
85 - شرح إعراب سورة البروج
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة البروج (85): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ (1)}
{وَالسَّمََاءِ} خفض بواو القسم {ذََاتِ الْبُرُوجِ} نعت للسماء، واختلف النحويون في جواب القسم فمنهم من قال: هو محذوف، ومنهم من قال: التقدير لقتل أصحاب الأخدود وحذفت اللام، ومنهم من قال: الجواب {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (12)، وقال أبو حاتم: التقدير قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. قال أبو جعفر: وهذا غلط بيّن وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز والله قام زيد بمعنى قام زيد والله وأصل هذا في العربية أنّ القسم إذا ابتدئ به لم يجز أن يلغى ولا ينوى به التأخير، وإذا توسّط أو تأخّر جاز أن يلغى، وفيها جواب خامس أن يكون التقدير {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ} (1) {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} [الآية: 10] وما اعترض بينهما معطوف وتوطئة للقسم قال محمد بن يزيد: واعلم أن القسم قد يؤكد بما يصدّق الخبر قبل ذكر المقسم عليه ثم يذكر ما يقع عليه القسم فمن ذلك {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْبُرُوجِ} (1) ثم ذكر قصّة أصحاب الأخدود، وإنما وقع القسم على قوله {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (12).
[سورة البروج (85): الآيات 2الى 3]
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشََاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} (2) واو عطف لا واو قسم، وكذا {وَشََاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (3) قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه، وقد قيل: لا يخلو الناس يوم القيامة من شاهد ومشهود فالمعنى وربّ الناس.
[سورة البروج (85): الآيات 4الى 5]
{قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ (4) النََّارِ ذََاتِ الْوَقُودِ (5)}
{النََّارِ ذََاتِ الْوَقُودِ} (5) خفض على بدل الاشتمال. وفيه تقديران: أحدهما نارها والألف واللام عوض من المضمر، والآخر النار التي فيها، وهذا بدل الاشتمال. وفي معنى {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (4) قولان: أحدهما أنهم المؤمنون قتلهم الكفار، والآخر أنهم الكفار، ويكون معنى قتلوا أو لعنوا أو أهلكوا. وأجاز «النحويون» قتل أصحاب
الأخدود النار ذات الوقود، بالرفع كما قرأه أبو عبد الرّحمن السلمي {وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]. قال أبو جعفر: وهذا باب من النحو دقيق قد ذكره سيبويه وذلك أنه يجوز: ضرب زيد عمرو لأنك إذا قلت:(5/119)
{النََّارِ ذََاتِ الْوَقُودِ} (5) خفض على بدل الاشتمال. وفيه تقديران: أحدهما نارها والألف واللام عوض من المضمر، والآخر النار التي فيها، وهذا بدل الاشتمال. وفي معنى {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (4) قولان: أحدهما أنهم المؤمنون قتلهم الكفار، والآخر أنهم الكفار، ويكون معنى قتلوا أو لعنوا أو أهلكوا. وأجاز «النحويون» قتل أصحاب
الأخدود النار ذات الوقود، بالرفع كما قرأه أبو عبد الرّحمن السلمي {وَكَذََلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلََادِهِمْ شُرَكََاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]. قال أبو جعفر: وهذا باب من النحو دقيق قد ذكره سيبويه وذلك أنه يجوز: ضرب زيد عمرو لأنك إذا قلت:
ضرب زيد، دل على أنه له ضاربا، والتقدير ضربه عمرو، وكذا {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ} (4) قتلتهم النار، وأنشد سيبويه: [الطويل] 554 ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح (1)
أي يبكيه ضارع. قال الأخفش: الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم الفعل:
يريد المصدر أي الإيقاد.
[سورة البروج (85): آية 6]
{إِذْ هُمْ عَلَيْهََا قُعُودٌ (6)}
قال قتادة: المؤمنون، وهذا على أحد التّأويلين.
[سورة البروج (85): آية 7]
{وَهُمْ عَلى ََ مََا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)}
أي ليس هم بغيب.
[سورة البروج (85): آية 8]
{وَمََا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاََّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)}
{وَمََا نَقَمُوا مِنْهُمْ} ويقال: نقموا أي وما وجدوا عليهم في شيء إلا في إيمانهم بالله العزيز الحميد بانتقامه {الْحَمِيدِ} أي المحمود عند عباده بأفعاله الجميلة.
[سورة البروج (85): آية 9]
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} نعت فيه معنى المدح في موضع خفض، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح، ورفع على إضمار مبتدأ. {وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي قد شهد على فعلهم وفعل غيرهم وعلمه ليجازيهم عليه.
[سورة البروج (85): آية 10]
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذََابُ الْحَرِيقِ (10)}
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} قال قتادة: أحرقوهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي من فعلهم ذلك {فَلَهُمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذََابُ الْحَرِيقِ} قال محمد بن إسحاق احترقوا في الدنيا، وكذا قال أبو العالية ولهم عذاب جهنم في الآخرة.
[سورة البروج (85): آية 11]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ ذََلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي أمروا بتوحيد الله سبحانه. {وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} انتهوا إلى أمر الله ونهيه. {لَهُمْ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} وهي أنهار الماء وأنهار الخمر واللبن والعسل {ذََلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي الظفر بما طلبوا.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (132).(5/120)
[سورة البروج (85): آية 12]
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)}
أي كما بطش بأصحاب الأخدود تحذيرا منه عقابه.
[سورة البروج (85): الآيات 13الى 14]
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)}
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} (13) في معناه قولان قال ابن زيد: يبتدئ خلق الخلق ثم يعيدهم يوم القيامة، وعن ابن عباس يبدئ العذاب في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة. قال أبو جعفر: وهذا أشبه بالمعنى لأن سياق القصة أنهم أحرقوا في الدنيا ولهم عذاب جهنم فإن قيل: كيف يوافق هذا الحديث من عوقب في الدنيا فإن الله أكرم من أن يعيد عليه العقوبة؟ فالجواب عن هذا أنه ينقص من عقوبته يوم القيامة بمقدار ما لحقه في الدنيا لا أنّ الكلّ يزال عنه يوم القيامة، ويدلّ على ذلك الجواب المروي عن ابن عباس أن بعده {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (14) مبتدأ وخبره.
[سورة البروج (85): آية 15]
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)}
(1)
بالرفع قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} بالخفض فبعض النحويين يستبعد الخفض لأن المجيد معروف من صفات الله جلّ وعزّ فلا يجوز الجواب في كتاب الله بل على مذهب سيبويه (2) لا يجوز في كلام ولا شعر وإنما هو غلط في قولهم: هذا جحر ضبّ خرب، ونظيره في الغلط الإقواء، ولكن القراءة بالخفض جائزة على غير الجوار على أن يكون التقدير إنّ بطش ربك {الْمَجِيدُ} نعت.
[سورة البروج (85): آية 16]
{فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ (16)}
يكون خبرا بعد خبر كما حكى سيبويه (3): هذا حلو حامض، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ولا يكون نعتا لأنه نكرة: ولكن يجوز أن يكون بدلا أيضا.
[سورة البروج (85): آية 17]
{هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)}
أي الذين تجنّدوا على عصيان الله جلّ وعزّ والردّ على رسله.
[سورة البروج (85): آية 18]
{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)}
بدل.
[سورة البروج (85): آية 19]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)}
مبتدأ وخبره، وكذا
[سورة البروج (85): آية 20]
{وَاللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ (20)}
وكذا
[سورة البروج (85): الآيات 21الى 22]
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 179.
(2) انظر الكتاب 1/ 500.
(3) انظر الكتاب 1/ 500.(5/121)
بالخفض قراءة أبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وعاصم ويحيى وحمزة والكسائي، وهو المعروف في الحديث والروايات إنه اللوح المحفوظ أي المحفوظ من أن يزاد فيه أو ينقص منه مما رسمه الله فيه، وقرأ نافع وابن محيصن {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (1) بالرفع على أنه نعت لقرآن أي بل هو قرآن مجيد محفوظ من أن يغير ويزاد فيه أو ينقص منه قد حفظه الله جلّ وعزّ من هذه الأشياء. فقد صحّت القراءة أيضا بالرفع ولهذا قال كثير من العلماء: من زعم أن القرآن قد بقي شيء منه فهو رادّ على الله كافر بذلك، والنص الذي لا اختلاف فيه {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ}
[الحجر: 9] فنظير هذا «محفوظ» بالرفع.
__________
(1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 446.(5/122)
86 - شرح إعراب سورة الطارق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الطارق (86): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالسَّمََاءِ وَالطََّارِقِ (1)}
{وَالسَّمََاءِ} خفض بواو القسم. {وَالطََّارِقِ} عطف عليها من قولهم طرق طروقا إذا أتى ليلا.
[سورة الطارق (86): الآيات 2الى 3]
{وَمََا أَدْرََاكَ مَا الطََّارِقُ (2) النَّجْمُ الثََّاقِبُ (3)}
{النَّجْمُ} بمعنى هو النجم الثاقب، ويجوز أن يكون {الثََّاقِبُ} نعتا للطارق، وأصحّ ما قيل في معنى الثاقب ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس الثاقب قال:
يقول: المضيء، وحكى الفراء: ثقب أي ارتفع وأنه زحل، قيل له: الثاقب لارتفاعه، وقال غيره: لطلوعه من المشرق كأنه يثقب موضعه.
[سورة الطارق (86): آية 4]
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمََّا عَلَيْهََا حََافِظٌ (4)}
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمََّا} [1] عَلَيْهََا حََافِظٌ قراءة أبي عمرو ونافع والكسائي، وقرأ أبو جعفر والحسن {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمََّا عَلَيْهََا حََافِظٌ} (4) قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة في العربية تكون ما زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة هذا مذهب سيبويه، وهو جواب القسم، والقراءة الثانية تكون «لمّا» بمعنى إلا عليها. قال أبو جعفر: حكى سيبويه (2)، أقسمت عليك لمّا فعلت، بمعنى ألا فعلت.
[سورة الطارق (86): آية 5]
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ (5)}
من نظر القلب والأصل فلينظر حذفت الكسرة لثقلها وجزم الفعل بلام الأمر وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. {مِمَّ خُلِقَ} الأصل مما حذفت الألف لأنها استفهام، وتم الكلام.
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 448.
(2) انظر الكتاب 3/ 122.(5/123)
[سورة الطارق (86): آية 6]
{خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ (6)}
قال أبو جعفر: قول الكسائي والفراء أن معنى دافق مدفوق قال: وأهل الحجاز أفعل الناس لهذا يأتون بفاعل بمعنى مفعول إذا كان نعتا مثل «ماء دافق» وسرّ كاتم أي مكتوم. قال أبو جعفر: فاعل بمعنى مفعول فيه بطلان البيان، ولا يصح ولا ينقاس، ولو جاز هذا لجاز ضارب بمعنى مضروب، والقول عند البصريين أنه على النسب، كما قال: [الطويل] 555كليني لهم يا أميمة ناصب (1)
وكما قال: [الطويل] 556 وليس بذي سيف فيقتلني به ... وليس بذي رمح وليس بنبّال (2)
[سورة الطارق (86): آية 7]
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرََائِبِ (7)}
وقرأ عيسى {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} وحكى الأصمعي: الصّلب بمعنى الصلب.
{وَالتَّرََائِبِ} جمع تربية، ويقال: تريب واختلف العلماء في معناه فمن أصح ما قيل فيه ما رواه عطيّة عن ابن عباس قال: الترائب موضع القلادة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الترائب بين ثدي المرأة، وقال سعيد بن جبير: الترائب الأضلاع إلى أسفل الصلب وقال مجاهد: ما بين المنكبين والصدر، وقال الضحاك: الترائب اليدان والرجلان والعينان، وقال قتادة: الترائب نحو الصلب وروى الليث بن سعد عن معمر بن أبي حبيبة قال: الترائب غضارة القلب ومنه يكون الولد، قال أبو جعفر: هذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يروى أن الماء يخرج من البدن كلّه حتى من كل شعره إلا أن القول الأول مستعمل في كلام العرب كما قال: [الوافر] 557 ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون (3)
وكما قال: [الطويل] 558 مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسّجنجل (4)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (226).
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 33، وشرح أبيات سيبويه 3/ 221، والكتاب 3/ 422، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصّل 6/ 14، ولسان العرب (نبل)، والمقاصد النحوية 4/ 540، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 745، ومغني اللبيب 1/ 111، والمقتضب 3/ 162.
(3) الشاهد للمثقب العبد في شعره ص 32، وديوان المفضليات 579، وتفسير الطبري 30/ 145.
(4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 15، ولسان العرب (سجل)، وتهذيب اللغة 5/ 377، وتاج العروس (ترب) و (فيض)، و (هفف)، و (سجل) وبلا نسبة في لسان العرب (ترب) و (هفف) وديوان الأدب 2/ 86.(5/124)
وزعم الفراء (1) أن معنى بين الصلب والترائب من الصلب والترائب لا يجعل بين زائدة ولكن كما يقول: فلان هالك بين هذين.
[سورة الطارق (86): آية 8]
{إِنَّهُ عَلى ََ رَجْعِهِ لَقََادِرٌ (8)}
اختلف العلماء في هذا الضمير. فمن أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: على بعثه وإعادته فالضمير على هذا للإنسان. قال أبو جعفر: وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن مندل بن علي عن ليث عن مجاهد {إِنَّهُ عَلى ََ رَجْعِهِ لَقََادِرٌ} قال على ردّ الماء في الإحليل. وهو مذهب ابن زيد قال على رجعه لقادر على حبسه حتى لا يخرج. هذان قولان، وعن الضحاك كمعناهما، وعنه قول ثالث: على رجعه لقادر قال: على رجعه بعد الكبر إلى الشباب وبعد الشباب إلى الصبا وبعد الصبا إلى النطفة. قال أبو جعفر: والقول الأول أبينهما واختاره محمد بن جرير غير أنه احتجّ بحجة لتقويته هي خطأ في العربية. زعم أن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرََائِرُ} من صلة رجعه يقدره أنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر. قال أبو جعفر:
وهذا غلط، ولو كان كذا لدخل في صلته رجعه ولفرقت بين الصلة والموصول بخبر «إن»، وذلك غير جائز ولكن يعمل في «يوم» ناصر.
[سورة الطارق (86): الآيات 9الى 10]
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرََائِرُ (9) فَمََا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاََ نََاصِرٍ (10)}
أي تختبر وتظهر. قيل: يعني الصلاة والصيام وغسل الجنابة.
{فَمََا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ} قال قتادة: من قوة تمنعه من الله عزّ وجلّ: {وَلََا نََاصِرٍ} ينصره منه، وقال الثوري: {مِنْ قُوَّةٍ} من عشيرة {وَلََا نََاصِرٍ} حليف.
[سورة الطارق (86): آية 11]
{وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ (11)}
قال أبو جعفر: أهل التفسير على أنه المطر لأنه يرجع كل عام إلا ابن زيد فإنه قال: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الرَّجْعِ} شمسها وقمرها ونجومها. وجمع رجع رجعان سماع من العرب على غير قياس، ولو قيس لقيل أرجع ورجوع.
[سورة الطارق (86): آية 12]
{وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ (12)}
لأنها تصدع بالنبات.
[سورة الطارق (86): الآيات 13الى 14]
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمََا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)}
جواب القسم الثاني أي ذو فصل وكذا {وَمََا هُوَ بِالْهَزْلِ} (14).
[سورة الطارق (86): آية 15]
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)}
أي للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين.
[سورة الطارق (86): آية 16]
{وَأَكِيدُ كَيْداً (16)}
أمهلهم.
[سورة الطارق (86): آية 17]
{فَمَهِّلِ الْكََافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)}
نعت لمصدر أي إمهالا رويدا. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «رويدا» قال: يقول: قريبا، وقال الحسن: قليلا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 255.(5/125)
87 - شرح إعراب سورة سبّح (الأعلى)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الأعلى (87): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}
قال الفراء (1): سبّح اسم ربك وسبّح باسم ربّك كلّ صواب. قال أبو جعفر: إن كان قدّر هذا على حذف الباء فلا يجوز: مررت زيدا، وإن كان قدّره مما يتعدّى بحرف وغير حرف فالمعنى واحد فليس كذلك لأن معنى سبّح باسم ربّك ليكن تسبيحك باسم ربّك وقد تكلّم العلماء في معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} بأجوبة كلّها مخالف لمعنى ما فيه الباء. فمنهم من قال: معناه نزّه اسم ربك الأعلى وعظّمه عن أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون لأنه الأعلى أي القاهر لكلّ شيء أي العالي عليه، ومنهم من قال: أي لا تقل العزّى لأنها مشتقّة من العزيز، ولا اللات لأنهم اشتقوا من قولهم الله، ومنهم من قال: معنى سبّح اسم ربّك أي اذكر اسم ربك وأنت معظم له خاشع متذلّل ومنهم من قال معناه سبح اسم ربّك في صلاتك متخشعا مشغولا بها. قال أبو جعفر: والجواب الأول أبينها كما قرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى عن وكيع ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) قال: سبحان ربي الأعلى.
{الْأَعْلَى} في موضع خفض نعت لربك أو لاسم، والأولى أن يكون نعتا لما عليه.
[سورة الأعلى (87): آية 2]
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوََّى (2)}
{الَّذِي خَلَقَ} في موضع جرّ نعت للأعلى وإن شئت لربك، وجاز أن ينعت النعت، لأنه المنعوت في المعنى وعلى هذا جاز: يا يزيد الكريم ذو الجمّة. ومعنى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوََّى} الذي خلق الخلق فعدّل خلقه فصار كلّه حسنا في المفعول.
{وَالَّذِي قَدَّرَ} (2) أي قدر صورهم وأرزاقهم وأعمالهم {فَهَدى ََ} قيل: فبيّن لهم،
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 256.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 453 (وقرأ الكسائي «قدر» مخفّف الدال من القدرة).(5/126)
وقيل: المعنى: فهدى وأضل، وقيل: فهداهم إلى مصالحهم.
[سورة الأعلى (87): آية 4]
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ََ (4)}
في موضع خفض عطف والمرعى ما تأكله البهائم.
[سورة الأعلى (87): آية 5]
{فَجَعَلَهُ غُثََاءً أَحْوى ََ (5)}
مفعولان وفيه قولان: أحدهما والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر يضرب إلى السواد فجعله غثاء، والقول الآخر والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أسود. وهذا أولى بالصواب، وإنما يقع التقديم والتأخير إذا لم يصحّ المعنى على غيره ولا سيما وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فجعله غثاء أحوى يقول: هشيما متغيّرا.
[سورة الأعلى (87): آية 6]
{سَنُقْرِئُكَ فَلاََ تَنْسى ََ (6)}
فيه قولان أحدهما فلا تترك، والآخر أن يكون من النسيان. فهذا أولى لأن عليه أهل التأويل. قال مجاهد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في نفسه لئلا ينسى، وقال عبد الله بن وهب: حدّثني مالك بن أنس في قوله {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ} قال: تحفظ «إلّا ما شاء الله» والمعنى في القولين جميعا فليس تنسى، وهو خبر وليس بنهي، ولا يجوز عند أكبر أهل اللغة أن ينهى إنسان عن أن ينسى لأن النسيان ليس إليه.
[سورة الأعلى (87): آية 7]
{إِلاََّ مََا شََاءَ اللََّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمََا يَخْفى ََ (7)}
{إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ} في موضع نصب على الاستثناء، وفي معناه أقوال فعلى الجواب الأول لست تترك شيئا مما أمرك الله به إلا ما شاء الله جلّ وعزّ أن ننسخه فيأمرك بتركه فتتركه، وقيل: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه ولا يشاء الله أن تنسى منه شيئا.
وهذا قول الفراء وشبهه بقوله {خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} * [هود: 107] وقيل المعنى فلست تنسى إلا ما شاء الله مما يلحق الآدميين، وقيل: لست تنسى إلا ما شاء الله أن يرفعه ويرفع تلاوته فهذه أربعة أجوبة، وجواب خامس أن يكون المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله والله أعلم بما أراده. {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} أي ما ظهر وعلن {وَمََا يَخْفى ََ} ما كتم وما ستر أي فلا تعملوا بمعاصيه فإنه يعلم ما ظهر وما بطن.
[سورة الأعلى (87): آية 8]
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ََ (8)}
أي للحال اليسرى.
[سورة الأعلى (87): آية 9]
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ََ (9)}
فيه قولان أحدهما فذكّر في كل حال إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع مثل {سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] والجواب الآخر أن الذكرى تنفع بكلّ حال فيكون المعنى كما تقول: فذكّر إن كنت تفعل ما أمرت به.(5/127)
[سورة الأعلى (87): آية 10]
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ََ (10)}
قال الحسين بن واقد: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال:
[سورة الأعلى (87): آية 11]
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)}
قال: عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف.
[سورة الأعلى (87): آية 12]
{الَّذِي يَصْلَى النََّارَ الْكُبْرى ََ (12)}
قال: جهنم، وقال الفراء: السفلى من أطباق النار.
[سورة الأعلى (87): آية 13]
{ثُمَّ لاََ يَمُوتُ فِيهََا وَلاََ يَحْيى ََ (13)}
في معناه أقوال: قيل: نفوس أهل النار في حلوقهم لا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها من أجسادهم فيحيوا، وقيل: لا يموتون فيستريحوا ولا يحيون حياة ينتفعون بها، وقيل: هو من قول العرب إذا كان في شدة شديدة ليس بحيّ ولا ميت كما قال: [الخفيف] 559 ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء (1)
[سورة الأعلى (87): آية 14]
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكََّى (14)}
في معناه قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من تزكّى من الشرك أي تطهر، وقال الحسن (2): من تزكى من كان عمله زاكيا والقول الآخر عن قتادة قال:
من تزكّى أدّى زكاة ماله.
[سورة الأعلى (87): آية 15]
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلََّى (15)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال وحده قال: {فَصَلََّى} يقول: فصلى الصلوات الخمس، وقال غيره صلّى هاهنا دعا، والصواب عند محمد بن جرير أن يكون المعنى صلّى فذكر اسم ربّه في صلاته بالتحميد والتمجيد. قال أبو جعفر: وهذا غلط على قول أهل العربية لأنه جعل ما قبل الفاء بعدها، وهذا عكس ما قاله النحويون، والصواب قول ابن عباس.
[سورة الأعلى (87): آية 16]
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا (16)}
وإن شئت أدغمت اللام في التاء، وفي قراءة أبيّ «بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا» (3) وهذه قراءة على التفسير وقرأ أبو عمرو «بل يؤثرون» بالياء على أنه مردود على الأشقى.
[سورة الأعلى (87): آية 17]
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ (17)}
مبتدأ وخبره.
[سورة الأعلى (87): آية 18]
{إِنَّ هََذََا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ََ (18)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (352).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 454.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 257، والبحر المحيط 8/ 455.(5/128)
في معناه ثلاثة أقوال: أحدها أن قوله جلّ وعزّ والآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى، وهذا كأنه مذهب قتادة، وقيل الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى في الصحف الأولى، والقول الثالث أنه يعني به السورة كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن وكيع عن شريك عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سبّح اسم ربّك الأعلى من صحف إبراهيم وموسى والله أعلم بما أراد إلا أن قول قتادة حسن لأنه لما يليه، وسبيل الشيء أن يكون لما يليه إلّا أن تأتي حجة قاطعة تغير ذلك.
[سورة الأعلى (87): آية 19]
{صُحُفِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ (19)}
على البدل والصحيفة الكتاب.(5/129)
88 - شرح إعراب سورة الغاشية
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الغاشية (88): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْغََاشِيَةِ (1)}
أهل التفسير على أن معنى حديث وخبر واحد، ودلّ هذا على أن معنى حدثنا وأخبرنا واحد، ويدلّ على هذا {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبََارَهََا} [الزلزلة: 4] لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ولأهل التأويل في الغاشية قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الغاشية النار. قال أبو جعفر: والقولان متقاربان لأن القيامة تغشى الناس بأهوالها والنار في القيامة تغشى الناس بما فيها.
[سورة الغاشية (88): الآيات 2الى 3]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ (2) عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ (3)}
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ} (2) مبتدأ وخبره. قال قتادة: خاشعة في النار يعني ذليلة.
واختلف أهل التأويل في قوله جلّ وعزّ: {عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ} (3) فمنهم من قال: عاملة ناصبة في الدنيا، وهذا يتأول لأنه قول عمر رضي الله عنه وتقديره في العربية وجوه يومئذ خاشعة وتمّ الكلام ثم قال: عاملة أي هي في الدنيا «عاملة ناصبة»، ويجوز أن يكون التقدير: وجوه عاملة ناصبة يومئذ خاشعة أي يوم القيامة {خََاشِعَةٌ} خبر الابتداء، وجاز أن يبدأ بنكرة لأن المعنى للكفار وإن كان الخبر جرى عن الوجوه، وقال عكرمة:
عاملة في الدنيا بمعاصي الله جلّ وعزّ ناصبة في النار. التقدير على هذا أن يكون التمام عاملة. وقول الحسن وقتادة إن هذه الوجوه في القيامة خاشعة عاملة ناصبة وإنها لما لم تعمل في الدنيا أعملها الله في النار وأنصبها. فعلى هذا يكون عاملة ناصبة من نعت خاشعة أو يكون خبرا، وهو جواب حسن لأنه لا يحتاج فيه إلى إضمار ولا تقديم ولا تأخير.
[سورة الغاشية (88): آية 4]
{تَصْلى ََ نََاراً حََامِيَةً (4)}
قراءة الجماعة إلا أبا عمرو فإنه قرأ {تَصْلى ََ} (1) لا نعلم غيره قرأ به واحتجّ بتسقى والمعنيان واحد لأنها تصلى فتصلي.(5/130)
قراءة الجماعة إلا أبا عمرو فإنه قرأ {تَصْلى ََ} (1) لا نعلم غيره قرأ به واحتجّ بتسقى والمعنيان واحد لأنها تصلى فتصلي.
[سورة الغاشية (88): آية 5]
{تُسْقى ََ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)}
قال عطاء: قد انتهى حرّها، وقال ابن زيد: آنية حاضرة. قال أبو جعفر.
والمعروف القول الأول وآنية هاهنا مخالفة للتقدير لقوله: {يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ}
[الإنسان: 15] وإن كان اللفظ بها واحدا لأن بآنية الألف الثانية فيها بدل من الهمزة والألف في غير الآنية زائدة، ووزنها فاعلة ووزن تلك أفعلة.
[سورة الغاشية (88): آية 6]
{لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلاََّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)}
اختلف أهل التأويل في تفسير الضريع فروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
الضريع شجر من نار، وقال ابن زيد: الضريع الشوك من النار. وهو عند العرب شوك يابس لا ورق فيه وعن عكرمة الضريع الحجارة. وعن الحسن قولان: أحدهما الضريع الزقوم، والآخر أن الضريع الذي يضرع ويذلّ من أكله لمرارته وخشونته. قال أبو جعفر: وهذا القول جامع للأقوال كلها وقد قال عطاء: الضريع الشبرق. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي حكاه أهل اللغة. الشبرق: شجر كثير الشوك تعافه الإبل.
[سورة الغاشية (88): آية 7]
{لاََ يُسْمِنُ وَلاََ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}
أي لا يشبع.
[سورة الغاشية (88): آية 8]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ (8)}
مبتدأ وخبره، وجاء بغير واو ولو كان بالواو كان عطف جملة على جملة.
[سورة الغاشية (88): آية 9]
{لِسَعْيِهََا رََاضِيَةٌ (9)}
قال أبو جعفر: يكون التقدير: بثواب عملها راضية يجوز النصب في راضية.
[سورة الغاشية (88): آية 10]
{فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ (10)}
أي بستان رفيع.
[سورة الغاشية (88): آية 11]
{لاََ تَسْمَعُ فِيهََا لاََغِيَةً (11)}
قال أبو جعفر: فيها أربع قراءات (2) إحداها شاذة وأربعة أقوال أحدها شاذ. قرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 457.
(2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 458.(5/131)
ابن كثير ونافع {لََا تَسْمَعُ فِيهََا لََاغِيَةً} بالتاء ورفع لاغية وقرأ ابن محيصن «لا يسمع فيها لاغية» بالياء والرفع وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي {لََا تَسْمَعُ فِيهََا لََاغِيَةً} بفتح التاء، والقراءة الشاذة {لََا تَسْمَعُ فِيهََا لََاغِيَةً} بمعنى لا تسمع الوجوه فيها والمراد أصحابها، وقد تقدم ذكر الوجوه والقراءة الأولى أجمعها للمعاني، والقراءة الثانية بالتذكير لأن لاغية ولغوا واحد، والقراءة الثالثة لا تسمع الوجوه والأقوال الأربعة منها عن ابن عباس لاغية أذى وباطل، وقال مجاهد: لاغية شتم، وقال قتادة لاغية باطل وتأثم، وقال أبو جعفر: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعاني أي كله لغو باطل، وقيل: لاغية على المجاز: قال الأخفش سعيد: كما قال الحطيئة: [مجزوء الكامل] 560 وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابن بالصّيف تامر (1)
وقال الفراء (2) لاغية أي حالفا بكذب. قال أبو جعفر: وهذا القول شاذ لأنه خارج عن قول أهل التفسير ولا يطلق لأحد أن يخرج عن جملتهم في ما قالوه وإن كان قوله محتملا.
[سورة الغاشية (88): آية 12]
{فِيهََا عَيْنٌ جََارِيَةٌ (12)}
العين مؤنّثة، وقد حكى تذكيرها، كما قال: [البسيط] 561والعين بالإثمد الحاريّ مكحول (3)
ولا يعرف الأصمعي في العين إلا التأنيث. قال أبو جعفر: وهو الصحيح، وفي هذا البيت قولان: قال محمد بن يزيد: ما لم يكن فيه علامة التأنيث وكان غير حقيقي التأنيث فلك تذكيره نحو: هذا نار وذاك دار، وأما الأصمعي فقال: مكحول للحاجب لأنه قد تقدّم ذكره.
[سورة الغاشية (88): آية 13]
{فِيهََا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)}
أي لينظروا إلى الله من فوق سريره إلى ما خوّله الله جلّ وعزّ من نعمه.
__________
(1) الشاهد للحطيئة في ديوانه 33، والكتاب 3/ 420، وأدب الكاتب 327، والخصائص 3/ 282، وشرح أبيات سيبويه 2/ 230، وشرح المفصّل 6/ 13، ولسان العرب (لبن)، وبلا نسبة في رصف المباني ص 72، والصاحبي في فقه اللغة 181.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 257.
(3) الشاهد لطفيل الغنويّ في ديوانه ص 55، والكتاب 2/ 43، وشرح أبيات سيبويه 1/ 187، وشرح شواهد الإيضاح 342، ولسان العرب (صرخد)، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 669، وشرح المفصّل 1/ 18، ولسان العرب (هجج)، وصدره:
«إذ هي أحوى من الرّبعيّ حاجبه»(5/132)
[سورة الغاشية (88): آية 14]
{وَأَكْوََابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)}
قيل: على جوانب العين مملوءة.
[سورة الغاشية (88): آية 15]
{وَنَمََارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)}
أي بعضها إلى جنب بعض.
[سورة الغاشية (88): الآيات 16الى 17]
{وَزَرََابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلاََ يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}
{وَزَرََابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (16) الواحد زريبة. قال الفراء (1): هي الطنافس التي لها خمل، قال: مبثوثة كثيرة. {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (17) في معناها قولان: أحدهما أنها السحاب والصحيح أنها الجمال وذلك المعروف في كلام العرب. قال قتادة: لمّا نعت الله نعيم الجنة عجب أهل الضلالة من ذلك فأنزل الله جلّ وعزّ: {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (17) وكانت الإبل من عيش العرب ومرجوّهم. قال أبو جعفر:
المعنى: أفلا يفكرون فيعلموا أن من خلق هذه الأشياء قادر على خلق ما يريد.
[سورة الغاشية (88): آية 18]
{وَإِلَى السَّمََاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)}
أي كيف رفعت فوقهم بغير عمد يرونها ليستدلّوا على عظيم قدرته.
[سورة الغاشية (88): آية 19]
{وَإِلَى الْجِبََالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)}
أي أقيمت منتصبة لا تسقط.
[سورة الغاشية (88): الآيات 20الى 21]
{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمََا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)}
قال قتادة: بسطت.
{فَذَكِّرْ} وحذف المفعول لعلم السامع أي فذكّر عبادي حججي وآياتي {إِنَّمََا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أي ليس عليك إلا التذكير.
[سورة الغاشية (88): آية 22]
{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}
(2)
قال ابن زيد: أي لست تردّهم إلى الإيمان، وعن ابن عباس بمسيطر بجبار
قال أبو جعفر: أصله السين مشتق من السطر لأن معنى السطر هو الّذي لا يخرج عن الشيء قد منع من ذلك. ويقال: تسيطر إذا تسلّط وتبدل من السين صاد لأن بعدها طاء، وقيل: إنها منسوخة بقوله جلّ وعزّ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
[التوبة: 5]، وقيل: ليست منسوخة لأنهم إذا أظهروا الإسلام تركوا على جملتهم ولم يتسلّط عليهم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن منصور عن أبي نعيم عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله» ثم تلا {إِنَّمََا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (22) بمسيطر» (3).
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 258.
(2) انظر تيسير الداني 180.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 13، ومسلم في الإيمان 32، 33، والنسائي في سننه 7/ 77، والترمذي في سننه (2606)، وأحمد في مسنده 1/ 11، 19.(5/133)
[سورة الغاشية (88): آية 23]
{إِلاََّ مَنْ تَوَلََّى وَكَفَرَ (23)}
{إِلََّا مَنْ تَوَلََّى} في موضع نصب استثناء ليس من الأول أي لكن من تولى وأعرض عن ذكر الله {وَكَفَرَ} يعذّبه الله ويجوز أن يكون في موضع نصب استثناء من المفعول المحذوف أي فذكر عبادي إلا من تولّى وكفر كما تقول: عظ الناس إلا من تولّى عنك ولم يقبل منك، ويجوز أن يكون استثناء بمعنى أنت مذكّر الناس إلا من تولّى، وقول رابع أن يكون من في موضع خفض على البدل من الهاء والميم في عليهم.
[سورة الغاشية (88): آية 24]
{فَيُعَذِّبُهُ اللََّهُ الْعَذََابَ الْأَكْبَرَ (24)}
وهو عذاب جهنّم.
[سورة الغاشية (88): آية 25]
{إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ (25)}
وقرأ أبو جعفر {إِنَّ إِلَيْنََا إِيََابَهُمْ} بالتشديد، وقيل: هو لحن لأنه من آب يئوب فلو كان مشددا كان إوّابهم وكان يكون إيوابهم كما يقال: ديوان الأصل دوّان فالدليل على ذلك قولهم في الجمع دواوين.
[سورة الغاشية (88): آية 26]
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا حِسََابَهُمْ (26)}
أي حسابهم على كفرهم ليجازيهم على ذلك.(5/134)
89 - شرح إعراب سورة الفجر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفجر (89): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالْفَجْرِ (1)}
خفض بواو القسم وعن ابن عباس في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه فجر السنة المحرّم، وإنه النهار، وأنه صلاة الفجر، وأما مسروق فقال: هو فجركم هذا، قال:
واختلف العلماء في الفجر فأهل الكوفة يقولون: هو البياض، وأهل المدينة يقولون:
هو الحمرة، وقد حكي عن العرب: ثوب مشفق ومشفّق أي مصبوغ بالحمرة.
{وَلَيََالٍ} عطف والأصل فيها ليالي ولو جاء على الأصل لقلت: وليالي يا هذا، لا ينصرف كما قال الشاعر: [الرجز] 562قد عجبت منّي ومن يعيليا (1)
فكره أن يختلف المعتلّ فجيء بالتنوين بعد أن حذفت الياء عوضا منها، وقيل:
من الحركة {عَشْرٍ} نعت لليال.
[سورة الفجر (89): آية 3]
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)}
قراءة (2) أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قال أبو جعفر: هو اختيار أبي عبيد واحتجّ بأشياء منها أنه الأكثر في عادة الناس وأنّ المحدّثين كذا يقولونه. قال أبو جعفر:
لو قال قائل: الأكثر في عادة الناس الفتح لكان أشبه وإن كان له حجة في كليهما ولا في
__________
(1) الرجز للفرزدق في الدرر 1/ 102، وشرح التصريح 2/ 228، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 348، والخصائص 1/ 6، وشرح الأشموني 2/ 541، ولسان العرب (علا) و (قلا)، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 114، والمقتضب 1/ 142، والممتع في التصريف 2/ 557، والمنصف 2/ 68، وهمع الهوامع 1/ 36.
(2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 463.(5/135)
قول المحدثين لأن المحدث لا يضبط مثل هذا، ولا يحتاج إلى ضبطه. ولو قال قائل:
إنّ الفتح أولى لأن قبله والشفع وهو مفتوح لكان قد قال قولا يشبه الاحتجاجات، ولكنهما لغتان حسنتان كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال:
قرأت على أبي عثمان المازني وأبي إسحاق الزيادي عن الأصمعي قال: كل فرد وتر أهل الحجاز يفتحون الوتر ويكسرون الوتر من الذّحل، ومن تحتهم من قيس وتميم يسوّون بينهما. قال أبو جعفر: وقد بيّن الأصمعي أنهما لغتان وفي حديث عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الذي تفوته صلاة العصر كأنّما وتر أهله وماله» (1) يجوز أن يكون مشتقا من الوتر وهو الذحل فيكون المعنى فكأنما سلب أهله وماله بما فاته من الفضل بأن فاتته صلاة. يقال: وتره يتره وترا وترة إذا سلبه، والاسم الوتر، ويجوز أن يكون مشتقا من الوتر أي الفرد فيكون المعنى كأنما نقص أهله وماله أي بقي فردا. وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العصر بهذا في ما قيل لأنها كانت وقت أشغالهم ومبايعاتهم فكان حضورها يصعب عليهم وقال: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} [البقرة: 238] الصحيح أنها صلاة العصر وذلك موافق للحديث.
[سورة الفجر (89): آية 4]
{وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ (4)}
والأصل يسري حذفت الياء في الخط لأنها رأس آية، ومن أثبتها في الإدراج جاء بها على الأصل وحذفت في الوقف اتّباعا للمصحف الذي لا يحلّ خلافه، وحسن ذلك لأن كل ما يوقف عليه يسقط إعرابه ومن حسن ما قيل في معنى يسري أنه إذا أقبل عند إدبار النهار.
[سورة الفجر (89): آية 5]
{هَلْ فِي ذََلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}
قيل: أي مقنع. ومن حسن ما قيل فيه أن المعنى هل في ذلك مما يقسم به أهل العقل تعظيما لما أقيم به وتوكيدا لما أقسم عليه، واستدلّ بعض العلماء بهذا وبتعظيمه على أن المعنى وربّ الفجر لأن أهل العقل والإيمان لا يقيمون إلا بالله جلّ وعزّ، وقد حظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أحد والكعبة بل خبر عن الله جلّ وعزّ كما روى عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (2) قال عمر فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا. وفي حديث آخر «من حلف بغير الله فقد أشرك» (3) وفي آخر «فقد كفر». قال أبو جعفر: قوله فما حلفت بها كناية عن
__________
(1) مرّ تخريجه في إعراب الآية 35محمد.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 33، ومسلم في الإيمان 1، 3، والترمذي في سننه (1534)، وأحمد في مسنده 1/ 18.
(3) مرّ تخريجه في إعراب الآية 4الأحقاف.(5/136)
اليمين ولم يتقدّم لها ذكر لعلم السامع، وقوله ذاكرا أي قائلا كما يقال: ذكر لي فلان كذا، ولا آثرا أي مخبرا ومعنى «من حلف بغير الله فقد أشرك» فعل فعل المشركين. وكذا فقد كفر. فهذا قول، وقيل: فقد أشرك فقد جعل لله شريكا في التعظيم، وقيل: معنى «فقد كفر» فقد غطّى وستر أمر الله لأنه أمر أن لا يحلف إلّا بالله.
[سورة الفجر (89): الآيات 6الى 7]
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ (6) إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ (7)}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ (6)} (1) صرف عادا جعله اسما للحقّ، وقراءة الضحاك {بِعََادٍ} بغير صرف جعله اسما للقبيلة، وفي قراءة الحسن {بِعََادٍ إِرَمَ} أضاف عاد إلى {إِرَمَ} ولم يصرف إرم. وهذه الآية مشكلة على كثير من أهل العربية يقول كثير من الناس إنّ إرم اسم موضع فكيف يكون نعتا لعاد أو بدلا منه؟ ويقال: كيف صرف عاد ولم يصرف إرم؟ فقد زعم محمد بن كعب القرطبيّ أن إرم الإسكندرية، وقال المقبريّ: إرم دمشق وكذا قال مالك بن أنس بلغني أنها دمشق رواه عنه ابن وهب، وقال مجاهد: إرم القديمة، وقد روي عنه غير هذا، وعن ابن عباس إرم الهالك، وعن قتادة إرم القبيلة. قال أبو جعفر: والكلام في هذا من جهة العربية أن أبين ما فيه قول قتادة: إن ارم قبيل من عاد فأما أن يكون إرم الإسكندرية أو دمشق فبعيد لقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخََا عََادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقََافِ} [الأحقاف: 21] والحقف ما التوى من الرمل، وليس كذا دمشق ولا الإسكندرية. وقد قيل {إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ} مدينة عظيمة موجودة في هذا الوقت فإن صحّ هذا فتلخيصه في النحو {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعََادٍ} صاحبة إرم مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] {ذََاتِ الْعِمََادِ} نعت لعاد على معنى القبيلة أو لأرم وكذا.
[سورة الفجر (89): آية 8]
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهََا فِي الْبِلاََدِ (8)}
وفي قراءة ابن الزبير {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهََا فِي الْبِلََادِ} أي لم يخلق ربّك مثل عاد في البلدان على عظم أجسادهم وقوتهم فلم يغن ذلك عنهم شيئا لمّا خالفوا أمر الله جلّ وعزّ فأهلكهم.
«وثمود» في موضع خفض، والتقدير وبثمود لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي، ومن خفضه بغير تنوين حذف التنوين لالتقاء الساكنين «الذين» في موضع خفض على النعت، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني، وفي موضع رفع بمعنى هم الذين جابوا الصخر بالوادي. وجابوا من ذوات الواو جاب
__________
(1) انظر القراءات في البحر المحيط 8/ 464، والمحتسب 2/ 359، والإتحاف 270.(5/137)
الشيء يجوبه إذا قطعه ودخل فيه، وحذفت الياء من الواو لأنه رأس آية والكسرة تدل عليها.
{وَفِرْعَوْنَ} في موضع خفض، والمعنى وبفرعون، ولم ينصرف لأنه اسم أعجمي {ذِي الْأَوْتََادِ} من نعته وعن ابن عباس {ذِي الْأَوْتََادِ} ذي الجنود. قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه غير هذا أي ذي الجنود الكثيرة المحتاجة لضرب الأوتاد في أسفارها.
{الَّذِينَ طَغَوْا} أي تجاوزوا أمر الله جلّ وعزّ في البلاد أي الذين كانوا فيه.
[سورة الفجر (89): آية 12]
{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسََادَ (12)}
على تأنيث الجماعة يكون جمع بلد، والتذكير جائز يراد به الجمع أو الواحد.
[سورة الفجر (89): آية 13]
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذََابٍ (13)}
ويجوز بالصاد لأن بعد السين طاء.
[سورة الفجر (89): آية 14]
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ (14)}
من أحسن ما قيل فيه إنه مجاز أي يرصد أعمال العباد أي لا يفوته شيء، وقال سفيان: المرصاد القنطرة الثالثة من جهنم.
[سورة الفجر (89): آية 15]
{فَأَمَّا الْإِنْسََانُ إِذََا مَا ابْتَلاََهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}
{فَأَمَّا الْإِنْسََانُ إِذََا مَا ابْتَلََاهُ رَبُّهُ} أي اختبره {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} في معنى هذا وما بعده قولان: أحدهما وهو قول قتادة أن الإنسان إذا أنعم الله عليه ووسع قال: أكرمني ربّي بهذا فإذا ضيق عليه رزقه قال: أهانني فزجر الله الإنسان عن هذا وعرفه أنه ليس التوسيع عليه من إكرامه ولا التضييق عليه من إهانته. قال قتادة: وإنما إكرامه إياه بطاعته وإهانته إليه بمعصيته، والقول الآخر إن الإنسان إذا واسع الله عليه حمد الله جلّ وعزّ فإذا ضيّق عليه لم يحمده فزجره الله، لأنه يجب أن يحمده في الحالين، والزجر في قوله: {كَلََّا} ويدلّ على صحة الجواب الأول ما بعد الآية {بَلْ لََا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} وما بعده أي فبهذا الإهانة وبضدّه الكرامة.
[سورة الفجر (89): آية 18]
{وَلاََ تَحَاضُّونَ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ (18)}
(1)
حذف المفعول لعلم السامع أي ولا تحضّون الناس، ومن قرأ {تَحَاضُّونَ} قدّره بمعنى تتحاضون، حذفت إحدى التائين كما قال {وَلََا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
__________
(1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 466.(5/138)
[سورة الفجر (89): آية 19]
{وَتَأْكُلُونَ التُّرََاثَ أَكْلاً لَمًّا (19)}
التاء مبدلة من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها {أَكْلًا} مصدر {لَمًّا} من نعته.
قال الفراء (1): شديدا.
[سورة الفجر (89): الآيات 20الى 21]
{وَتُحِبُّونَ الْمََالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاََّ إِذََا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)}
قال: كثيرا. قال أبو جعفر {كَلََّا} تماما في كلّ القرآن قال: المعنى: لا ينبغي أن يكونوا هكذا وانزجروا عن هذا الفعل. {إِذََا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا} عن ابن عباس أي حرّكت وهو مصدر مؤكّد، وكذا الذي بعده.
[سورة الفجر (89): آية 22]
{وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}
{وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا} يعني الملائكة {صَفًّا صَفًّا} مصدر في موضع الحال.
[سورة الفجر (89): آية 23]
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسََانُ وَأَنََّى لَهُ الذِّكْرى ََ (23)}
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} في موضع اسم ما لم يسمّ فاعله، ويجوز أن يكون الاسم المصدر {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسََانُ} ويجوز إدغام التاء في الذال {وَأَنََّى لَهُ الذِّكْرى ََ} قال الضحاك التوبة، وقيل: المعنى من أيّ جهة له منفعة الذّكرى.
{يَقُولُ يََا لَيْتَنِي} ومن العرب من يقول: ليتي يشبّهه بأنّي. قال الضحاك: {قَدَّمْتُ لِحَيََاتِي} في الآخرة. قال الحسن: علم أنّ ثمّ حياة لا نفاذ لها.
[سورة الفجر (89): آية 25]
{فَيَوْمَئِذٍ لاََ يُعَذِّبُ عَذََابَهُ أَحَدٌ (25)}
هذه قراءة أبي عبد الرّحمن السلمي والحسن وأبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة. وهي القراءة التي قامت بها الحجة من جهة الإجماع وقرأ الكسائي {فَيَوْمَئِذٍ لََا يُعَذِّبُ عَذََابَهُ أَحَدٌ وَلََا يُوثِقُ وَثََاقَهُ أَحَدٌ} (2) قال:
وهذا اختيار أبي عبيد، واحتج بحجتين واهيتين إحداهما الحديث زعم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو جعفر: والحديث لا يصحّ سنده حدّثناه محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: ثنا هشام وعبّاد بن عبّاد عن خالد عن أبي قلابة عمن أقرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم {فَيَوْمَئِذٍ لََا يُعَذِّبُ عَذََابَهُ أَحَدٌ. وَلََا يُوثِقُ وَثََاقَهُ أَحَدٌ} بفتح الذال والثاء. قال أبو جعفر: وهذا الحديث بيّن لأنه إذا وقع في الحديث مجهول لم يحتجّ به في غير القرآن فكيف في كتاب الله ومعارضته الجماعة الذين قراءتهم عن النبي؟ وحجته الأخرى
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 262.
(2) انظر تيسير الداني 180.(5/139)
أنه قد علم المسلمون أنه ليس أحد يوم القيامة يعذّب إلا الله فكيف يكون لا يعذّب أحد عذابه، هذه حجّته. قال أبو جعفر: وأغفل ما قاله العلماء في تأويل الآية لأنهم قالوا، منهم الحسن: لا يعذّب أحد في الدنيا بمثل عذاب الله يوم القيامة. وتأوّل أبو عبيد معنى {لََا يُعَذِّبُ عَذََابَهُ أَحَدٌ} لا يعذّب عذاب الكافر أحد. وخولف أيضا في هذا التأويل، وممن خالفه الفراء (1) ذهب إلى أن المعنى: لا يعذّب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة، وفيه قول ثالث أنه يراد به رجل بعينه.
[سورة الفجر (89): آية 27]
{يََا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)}
ويجوز يا أيّها لإبهام أيّ {النَّفْسُ} نعت لأيّ و {الْمُطْمَئِنَّةُ} نعت للنفس فإن جعلتها نعتا لأي جاز نصبها، لأن قد تمّ الكلام كما تقول: يا زيد الكريم أقبل.
والمعنى المطمئنة بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده.
[سورة الفجر (89): آية 28]
{ارْجِعِي إِلى ََ رَبِّكِ رََاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)}
{ارْجِعِي إِلى ََ رَبِّكِ} في معناه قولان قال سعيد بن جبير: إلى جسدك فالمعنى على هذا أن النفس خوطبت. قال الضحاك: إلى الله فالمعنى على هذا أن المخاطبة للإنسان وإليه يذهب الفراء، وإلى أنّ المعنى أنّ الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بأيمانهم هذا أي ارجعي إلى ثواب ربك.
{فَادْخُلِي فِي عِبََادِي (29)} أي في عبادي الصالحين أي كوني معهم. قال الفراء (2):
وقرأ ابن عباس وحده «فادخلي في عبدي» (3). قال أبو جعفر: وهذا غلط: أعني قوله وحده، هذه قراءة مجاهد وعكرمة وأبي جعفر والضحاك. وتقديرها في العربية على معنى الجنس أي لتدخل كلّ روح في عبد وقيل: هو واحد يدلّ على جمع وعلامة الجزم في ادخلي عند الكوفيين حذف النون، والبصريون يقولون: ليس بمعرب لأنه غير مضارع ولا عامل معه فيجزمه، وزعم الفراء أن العامل فيه اللام وهي محذوفة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 262.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 263.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 467.(5/140)
90 - شرح إعراب سورة البلد
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة البلد (90): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {لاََ أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ (1)}
في {لََا} ثلاثة أقوال: قال الأخفش: تكون صلة فهذا قول، وقيل: هي بمعنى ألا ذكره أيضا الأخفش، والقول الثالث قول أهل التأويل، روى الحسن (1) عن مجاهد قال: «لا» ردّ لكلامهم ثم ابتدأ {أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ}. قال أبو جعفر: في قوله جلّ وعزّ {الْبَلَدِ} ثلاثة أقوال: يكون نعتا لهذا، ويكون بدلا، وأولاها الثالث أن يكون عطف البيان والنحويون يذكرون عطف البيان على جملته وما علمت أن أحدا بيّنه والفرق بينه وبين البدل إلا ابن كيسان، قال: الفرق بينهما أن معنى البدل أن تقدّر الثاني في موضع الأول وكأنك لم تذكر الأول، ومعنى عطف البيان أن يكون تقدر أنك إن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول فجئت مبينا للأول قائما له مقام النعت والتوكيد. قال: وبيان هذا في النداء يا أخانا زيد أقبل على البدل كأنك رفعت الأول وقلت: يا زيد: فإن أردت عطف البيان قلت: يا أخانا زيدا أقبل.
[سورة البلد (90): آية 2]
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ (2)}
قال الأخفش: حلّ وحلال وحرم وحرام.
[سورة البلد (90): آية 3]
{وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ (3)}
{وَوََالِدٍ} واو عطف لا واو قسم، وكذا {وَمََا وَلَدَ} وقال أبو عمران الجوني:
{وَوََالِدٍ} إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وولده، وروي عن ابن عباس الوالد الذي ولد، {وَمََا وَلَدَ} ولده.
قال أبو جعفر: وهذا على أنه عام وكأنه أبين ما يقال: ويكون التقدير ووالد وولادته حتى يكون «ما» للمصدر.
__________
(1) انظر الطبري 30/ 195.(5/141)
[سورة البلد (90): آية 4]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ (4)}
قال أبو جعفر: قد ذكرناه، ومن أبين ما قيل في معناه قول عطاء قال: في كبد في مكابدة للأمور. قال الحسن: يكابد السرّاء والضرّاء، وليس أحد يكابد الأمور ما يكابد ابن آدم، وقال سعيد بن أبي الحسن: يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة وقال مجاهد: يكون نطفة وعلقة ولا يزال في مكابدة. فهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أبين ما قيل فيها أي يكابد الأمور ويعالجها. فهذا الظاهر من كلام العرب في معنى كبد. قال ذو الإصبع العدواني: [البسيط] 563 لي ابن عمّ لو أنّ النّاس في كبد ... لظلّ محتجرا بالنّبل يرميني (1)
وقال لبيد: [المنسرح] 564قمنا وقام الخصوم في كبدي (2)
[سورة البلد (90): آية 5]
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}
قيل يعني بهذا الكافر أي أيحسب أن لن يقدر الله عليه فيعاقبه فخبر جلّ ثناؤه بجهله.
[سورة البلد (90): آية 6]
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مََالاً لُبَداً (6)}
قيل: يدافع بهذا عن فعل الخيرات، وقيل: قال هذا تندّما، ويدلّ على هذا الجواب ما بعده. قال أبو جعفر: يكون لبد جمع لبدة، وقد يكون واحدا مثل حطم، وروي عن أبي جعفر أنه قرأ لبدا جمع لا بد، وعن مجاهد أنه قال قرأ لبدا جمع لبود، ولا نعلم اختلافا في معناه أنه الكثير.
[سورة البلد (90): آية 7]
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}
والأصل يرأه قلبت حركة الهمزة على الراء فانفتحت وسقطت الهمزة. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين تكلّم في علّة الهمزة لم تسقط إذا ألقيت حركتها على ما قبلها إلّا علي بن سليمان، سألته عنه قال: لمّا سقطت حركة الهمزة وسكنت وكانت الراء قبلها ساكنة فحرّكت حركة عارضة فكان حكمها حكم الساكن وبعدها ساكن فحذف ما بعدها وهو الهمزة.
__________
(1) الشاهد في ديوان المفضليات 326، والمقاصد النحوية 3/ 288.
(2) الشاهد للبيد في ديوانه 160، وتذكرة النحاة ص 118، والخصائص 3/ 318، ولسان العرب (كبد)، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 205ولسان العرب (عدل)، وصدره:
«يا عين هلّا بكيت أربد إذ»(5/142)
[سورة البلد (90): الآيات 8الى 9]
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسََاناً وَشَفَتَيْنِ (9)}
اللّسان يذكّر ويؤنّث فمن ذكره جمعه ألسنة، ومن أنّثه قال: ألسن. قال: وفي تصغيره لسيّن بتشديد الياء ولسينة بتخفيفها. والأصل في شفة شفهة، والدليل على ذلك جمعها وتصغيرها واشتقاق الفعل منها.
[سورة البلد (90): آية 10]
{وَهَدَيْنََاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
مفعول ثان حذفت منه إلى على قول البصريين، وكذا أنشد سيبويه: [الكامل] 565كما عسل الطّريق الثّعلب (1)
عنده أنه حذف منه الحرف، وعند الكوفيين أنه ظرف مثل أمام وقدام.
[سورة البلد (90): آية 11]
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}
يقال: سبيل «لا» في مثل هذا أن تأتي متكررة مثل {فَلََا صَدَّقَ وَلََا صَلََّى}
[القيامة: 31]، وأن سيبويه قد أجاز إفرادها، وأنشد: [مجزوء الكامل] 566 من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح (2)
وخالفه محمد بن يزيد وجعل هذا اضطرارا. فأما الآية ففيها معنى التكرير لأنه جلّ وعزّ قد بيّن معنى العقبة بما هو مكرّر. قال قتادة: النار عقبة دون الجنة.
[سورة البلد (90): الآيات 12الى 13]
{وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}
التقدير اقتحام العقبة أن يفكّ رقبة كما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أعتق رقبة أعتق الله سبحانه بكل عضو منها عضوا منه من النار» (3) قال أبو هريرة: حتّى ذكره بذكره، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عمرو وابن كثير والكسائي {فَكُّ} [4] رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثم تكلّم النحويون في هذا فاختار الفرّاء (5) هذه القراءة واحتج بأن بعده ثم كانّ أي فلمّا عطف بكان وهي فعل ماض على الأول وجب أن يكون «فكّ» ليعطف فعلا ماضيا على فعل ماض، واختار الأخفش وأبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأخرى. قال أبو جعفر: الديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة، ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال عليه السّلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» (6) فهما قراءتان حسنتان لا
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (145).
(2) مرّ الشاهد رقم (3).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 181، والترمذي في سننه 1541، والبغوي في شرح السنة 9/ 351، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 5/ 202.
(4) انظر تيسير الداني 181.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(6) أخرجه الترمذي في سننه القراءات 11/ 60وأبو داود الحديث رقم (1475).(5/143)
يجوز أن تقدّم إحداهما على الأخرى. فأما اعتراض الفرّاء (1) بكان وبالنسق على الأول فلا يلزم لأنه لا يجوز أن يكون معطوفا على المعنى: لأن المعنى فعل هذا، وقد نقض هو قوله بأن أجاز القراءة الأخرى على إضمار «أن»، وأنشد: [الطويل] 567 ألا أيّهذا اللّائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي (2)
يريد أن أحضر، ولو كان الأمر كما قال لنصب أحضر. وإضمار «أن» لا يجوز إلا بعوض لأنها بعض اسم. واعترض أبو عبيد فقال: الاختيار «فكّ رقبة» لأنه يتبين للعقبة، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال كلّ ما قال جلّ وعزّ وما أدراك فقد بيّنه، وما قال فيه وما يدريك فلم يبيّنه. قال أبو جعفر: فهذا غلط قد قال الله عزّ وجلّ {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْقََارِعَةُ} [القارعة: 3] وقال تعالى ذكره: {مََا أَدْرََاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] وليس بعد هذا يتبين. وروي عن الحسن وأبي رجاء أنهما قرءا «وأطعم في يوم ذا مسغبة» (3) قال الفرّاء (4) وإن كان لم يذكر من قرأ «ذا مسغبة» هو صفة ليتيم أي يتيما ذا مسغبة. قال أبو جعفر: والغلط في هذا بين جدا لأنه لا يجوز أن تتقدّم الصفة قبل الموصوف، ولست أدري كيف وقع هذا له حتى ذكره في كتاب «المعاني»؟ ولكن يكون «ذا مسغبة» منصوبا بأطعم ويتيما بدلا منه.
[سورة البلد (90): آية 17]
{ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}
{ثُمَّ كََانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ثبت على الإيمان، وقيل: ثم للإخبار {وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوََاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أعيد الفعل والباء توكيدا.
[سورة البلد (90): آية 18]
{أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ (18)}
أي يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وبأهل النار ذات الشمال إلى النار.
[سورة البلد (90): آية 20]
{عَلَيْهِمْ نََارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
(5)
من أخذه من أصد فسبيله أن يهمز، ومن أخذه من أوصد لم يجز همزه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 32، والكتاب 3/ 115، والإنصاف 2/ 560، وخزانة الأدب 1/ 119، والدرر 1/ 74، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 285، وشرح شواهد المغني 2/ 800، ولسان العرب (أنن) و (دنا)، والمقاصد النحوية 4/ 402، والمقتضب 2/ 85، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 463، والدرر 3/ 33، ورصف المباني 113، وشرح ابن عقيل ص 597، وشرح المفصل 2/ 7ومجالس ثعلب 383، ومغني اللبيب 2/ 383.
(3) انظر الإتحاف 271.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 265.
(5) انظر تيسير الداني 181.(5/144)
91 - شرح إعراب سورة الشمس
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الشمس (91): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا (1)}
المعروف في اللغة أن الضحى أول طلوع الشمس إذا أشرقت وإن كان مجاهد قد قال: الضحى النهار، وهو قول الفرّاء (1).
[سورة الشمس (91): آية 2]
{وَالْقَمَرِ إِذََا تَلاََهََا (2)}
المعروف في اللغة أن تلاها تبعها، وإن كان الفرّاء (2) قد حكى تلاها أخذ منها، يذهب إلى أن القمر أخذ من ضوء الشمس.
[سورة الشمس (91): آية 3]
{وَالنَّهََارِ إِذََا جَلاََّهََا (3)}
{وَالنَّهََارِ إِذََا جَلََّاهََا (3)} الظاهر من معناه والبيّن إذا جلّى الشّمس أي إذا أظهرها وأبداها لأن الشمس لا تكون إلّا فيه وإن كان الفرّاء قد قال: والنهار إذا جلّى الظلمة.
هو قول بعيد لأن الظلمة لم يتقدّم لها ذكر.
[سورة الشمس (91): آية 4]
{وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشََاهََا (4)}
يعود الضمير على الشمس أيضا.
[سورة الشمس (91): الآيات 5الى 6]
{وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا (5) وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا (6)}
{وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا (5)} {مََا} في موضع خفض أي وبنائها، وكذا {وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا (6)}. روى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي صالح طحاها بسطها، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس طحاها قسمها.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 266.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 266.(5/145)
[سورة الشمس (91): آية 7]
{وَنَفْسٍ وَمََا سَوََّاهََا (7)}
أي تسويتها. قال أبو جعفر: ومن قال: المعنى الذي سواها أراد الله جلّ وعزّ، ولو كان كما قال لكان ومن.
[سورة الشمس (91): آية 8]
{فَأَلْهَمَهََا فُجُورَهََا وَتَقْوََاهََا (8)}
مفعولان.
[سورة الشمس (91): آية 9]
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا (9)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قد أفلح من زكّى الله نفسه.
[سورة الشمس (91): آية 10]
{وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا (10)}
فأضلّها، وقال قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالعمل الصالح. قال أبو جعفر: في هذا شيء من النحو غامض لم يذكره الفرّاء وإن كان قد ذكر القولين في المعنى، وذلك أنه إذا كان الضمير يعود على الله جلّ وعزّ لم يعد على من من صلته شيء إلّا على حيلة بعيدة، وذلك أنك إذا قدّرت قد أفلح الإنسان الذي زكّى النفس لم يعد على الذي شي من صلته، وإن قدّرته قد أفلح الإنسان الذي زكّى الله نفسه لم يجز أن يكنّى عن النفس، لأنه لا يعود على النفس شيء، ولو قدّرت «من» للنفس كان بعيدا لأن من لا تكاد تقع في مثل هذا، والحيلة التي يجوز عليه أن يحمل على المعنى أن تؤنّث «من» بمعنى النفس أو يكون المعنى قد أفلحت الفرقة التي زكاها الله فيكون «من» للجميع ومعنى زكاها الله طهّرها بالتوفيق لطاعته، وزكّى فلان ماله، في اشتقاقه قولان: أحدهما أنه من زكا الزرع إذا زاد ونما أي كثر ماله بإخراجه الزكاة والقول الآخر بيّن حسن يكون زكى ماله طهّره وخلّصه بإخراج سهمان المساكين منه. ومنه: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}
[الكهف: 74] أي طاهرة مخلصة من الذنوب، ومنه عبد زكي أي طاهر «وقد خاب» أي لم يظفر بما يريد من دسى نفسه الله أي خذلها فارتكبت المعاصي. وعلى القول الآخر من دسّى نفسه أي سترها لركوب المعصية. فاشتقاقه من دسّ ودسس فأبدل، من أحد السينين ياء كما قال: [الطويل] 568رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت (1)
يريد أما.
[سورة الشمس (91): آية 11]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوََاهََا (11)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (11).(5/146)
الطّغوى الطغيان واحد إلا أن عطاء الخراساني روى عن ابن عباس قال: بطغواها بعذابها، والطّغوى اسم العذاب. قال أبو جعفر: وهذا يصحّ على حذف أي بعذاب طغواها مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
[سورة الشمس (91): آية 12]
{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقََاهََا (12)}
حكى الفرّاء أنهما اثنان، وأنشد: [الطويل] 569 ألا بكّر النّاعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد (1)
يريد أنه جعل خبر الاثنين، وشبهه بقولهم: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس. قال أبو جعفر: هذا الذي حكاه خلاف ما قال الله جلّ وعزّ، وقاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقاله أهل التأويل قال الله: أشقاها. فخبّر عن واحد فحكي أنهما اثنان وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انتدب لها رجل، ولم يقل رجلان، وقال أهل التأويل انتدب لها قدار بن سالف. قال أبو جعفر: وله نظير أو أعظم منه في سورة الرّحمن.
[سورة الشمس (91): آية 13]
{فَقََالَ لَهُمْ رَسُولُ اللََّهِ نََاقَةَ اللََّهِ وَسُقْيََاهََا (13)}
أي احذروا ناقة الله. قال الفرّاء (2): ولو قرأ قارئ «ناقة الله» بالرفع أي هذه ناقة الله لجاز. قال أبو جعفر: ولا يجوز الابتداع في القراءات.
[سورة الشمس (91): آية 14]
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهََا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوََّاهََا (14)}
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهََا} قال الفرّاء: أراد فعقروها فكذبوه. وهذا خطأ في الفاء لأنها تدلّ على أن ثانيا بعد الأول، وهذا عكس اللغة، ومع هذا فليست ثم حال يضطر إليه لأنهم كذّبوا صالحا بأن قال لهم: إن عقرتموها انتقم الله منكم فكذبوه في ما قال فعقروها، وقد قيل: «فكذبوه» كلام تام ثم عطف عليه فعقروها. قال أبو جعفر: وفي هذا من المشكل أن يقال: قد كانوا آمنوا وصدقوا، وجعلوا للناقة يوما ولهم يوما في الشرب فزعم الفرّاء (3) إن الجواب عن هذا أنهم أقروا به ولم يؤمنوا. وهذا القول الذي قاله مما لا يجب أن يجترأ عليه إلا برواية لأنه مغيّب، والرواية بخلافه. روى سعيد عن قتادة قال: توقّف أحيمر ثمود عن عقر الناقة حتى اجتمعوا كلّهم معه على تكذيب صالح صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فلهذا عمّم الله بالعذاب {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} قال الفرّاء (4): أي أرجف، وقال غيره: أي عذّبهم، {فَسَوََّاهََا} قال أبو جعفر:
__________
(1) الشاهد لسبرة بن عمرو الأسدي في التنبيه والإيضاح 2/ 119، وجمهرة اللغة 657، وسمط اللآلي 933، وبلا نسبة في لسان العرب (صمد) و (خير)، والمخصّص 12/ 301، وديوان الأدب 1/ 209 وتهذيب اللغة 12/ 150، وإصلاح المنطق 49، وأمالي القالي 2/ 288.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 268.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 269.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 269.(5/147)
سألت علي بن سليمان عن هذا الضمير فقال: يعود على الدمدمة التي دلّ عليها دمدم، وقال غيره: أي سوّى بينهم في العقوبة فأهلكهم جميعا.
[سورة الشمس (91): آية 15]
{وَلاََ يَخََافُ عُقْبََاهََا (15)}
هكذا قرأ أهل البصرة وأهل الكوفة وقرأ أهل الحجاز (1) {وَلََا يَخََافُ عُقْبََاهََا}، وزعم الفرّاء (2) أن الواو أجود. وهذا عظيم من القول أن يقال في ما قرأت به الجماعة ووقع للسواد المنقول عن الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجود أو خير.
والقراءتان جميعا نقلهما الجماعة عن الجماعة، فهما بمنزلة آيتين لأن معناهما مختلف.
قال أبو جعفر: سمعت إبراهيم بن محمد نفطويه يقول: من قرأ بالفاء فالمعنى لله لا غير، وهذا كما قال، وعليه أهل التأويل وهو صحيح عن ابن عباس قال إبراهيم بن محمد: ومن قرأ بالواو ذهب إلى أن المعنى للعاقر أي انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها أي وهذه حاله. والذي قال حسن غير أنه لا يجوز أن يكون بالواو لله جلّ وعزّ الذي قاله بيّن والله أعلم بما أراد.
__________
(1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ نافع وابن عامر بالفاء والباقون بالواو).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 270.(5/148)
92 - شرح إعراب سورة الليل
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الليل (92): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ (1)}
حذف المفعول كما يقال: ضرب زيد، ولا يجيء بالمضروب إمّا لمعرفة السامع وإمّا أن تريد أن تبهم عليه. قيل: المعنى والليل إذا يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء، وليس كذا النهار، وعلى هذا قول الذبياني: [الطويل] 570 فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (1)
[سورة الليل (92): آية 2]
{وَالنَّهََارِ إِذََا تَجَلََّى (2)}
خفض على العطف وليست بواو قسم.
[سورة الليل (92): آية 3]
{وَمََا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ (3)}
{مََا} مصدر أي وخلقه الذكر والأنثى، قيل «ما» بمعنى الذي، وأجاز الفرّاء:
وما خلق الذكر والأنثى بمعنى والذي خلق الذكر والأنثى. قال أبو جعفر: وجه بعيد أن تكون «ما» بمعنى «من» وأيضا لا نعرف أحدا قرأ به، ولكن روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «والنّهار إذا تجلّى وما خلق الذكر والأنثى» وهو عطف.
[سورة الليل (92): آية 4]
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتََّى (4)}
جواب القسم. قال محمد بن كعب: سعيكم عملكم.
[سورة الليل (92): الآيات 5الى 6]
{فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ (6)}
{مَنْ} في موضع رفع بالابتداء عند البصريين، وعند الكوفيين بالهاء العائدة
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 38، ولسان العرب (طور) و (نأى)، وكتاب العين 8/ 393، وتاج العروس (نأى)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 378، ومجمل اللغة 4/ 368.(5/149)
عليه. قال الحسين بن واقد: فأما من أعطى زكاته واتّقى ربّه. ومن أحسن ما قيل في معنى {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ} ما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص بن راشد عن يوسف بن موسى عن ابن عليّة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ} قال: بالحلف فهذا إسناد مستقيم، ومعنى ملائم لسياق الكلام.
[سورة الليل (92): آية 7]
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ََ (7)}
قال جويبر عن الضحّاك قال: للجنة.
[سورة الليل (92): آية 8]
{وَأَمََّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ََ (8)}
على ذلك القول بخل بزكاته واستغنى عن ثواب ربه جلّ وعزّ.
[سورة الليل (92): آية 10]
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ََ (10)}
قال الضحّاك: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ََ (10)} قال: النار، فإن قيل: التيسير إنما يكون للخير فكيف جاء للعسر؟ فالجواب أنه مثل {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} * [آل عمران: 21] أي اجعل ما يا قوم لهم مقام البشارة وأنشد سيبويه: [الوافر] 571تحيّة بينهم ضرب وجيع (1)
هذا قول البصريين، وقول الفرّاء إنه إذا اجتمع خير وشرّ فوقع للخير تبشير جاز أن يقع للشرّ مثله.
[سورة الليل (92): آية 11]
{وَمََا يُغْنِي عَنْهُ مََالُهُ إِذََا تَرَدََّى (11)}
{مََا} في موضع نصب بيغني أي وأيّ شيء يدفع عنه ماله إذا سقط في النار، وذهب مجاهد إذا هلك وإنما يقال في الهلاك. ردى يردي وتردّى إذا سقط وردؤ الرجل يردؤ رداءة وهو رديء مردئ.
[سورة الليل (92): آية 12]
{إِنَّ عَلَيْنََا لَلْهُدى ََ (12)}
لام توكيد دخلت على الهدى فحذف الألف لئلا يشبه «لا» التي للنفي ولاتصال اللام بما بعدها.
[سورة الليل (92): آية 13]
{وَإِنَّ لَنََا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ََ (13)}
وكذا {وَإِنَّ لَنََا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ََ} (13)
[سورة الليل (92): آية 14]
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نََاراً تَلَظََّى (14)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (405).(5/150)
فعل مستقبل الأصل تتلظّى وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ «تتلظّى» (1) وبعض الحفّاظ يروي عن ابن عيينة بهذا الإسناد إدغام التاء في التاء. قال أبو جعفر: ويجب أن يحرّك التنوين لالتقاء الساكنين. قال مجاهد: تلظّى توهج.
[سورة الليل (92): الآيات 15الى 16]
{لاََ يَصْلاََهََا إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلََّى (16)}
{لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} فيه قولان: قال أبو عبيدة {الْأَشْقَى} بمعنى الشقي، وقال الفرّاء (2): الأشقى الشقيّ في علم الله سبحانه، فالقول الآخر: فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلّا أشقى أهل النار، وأشقى أهل النار الكفار. ودلّ بهذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم. قال الفرّاء: {الَّذِي كَذَّبَ} أي قصّر أخذه من قول العرب: حمل فلان على فلان فما.
[سورة الليل (92): الآيات 17الى 18]
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مََالَهُ يَتَزَكََّى (18)}
أي يتطهّر من الذنوب.
[سورة الليل (92): آية 19]
{وَمََا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ََ (19)}
أي ليس يتصدّق ليكافئ إنسانا على نعمة أنعم بها عليه. وفي معناه قول آخر ذكره الفرّاء يكون للمستقبل أي ليس يتصدّق ليكافأ على صدقته. على أنّ الفراء (3) جعله من المقلوب بمعنى وما له عند أحد نعمة تجزى، وأنشد: [الطويل] 572 وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل (4)
وتأوّله بمعنى حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يحمل كتاب الله على القلب والاضطرارات البعيدة.
[سورة الليل (92): الآيات 20الى 21]
{إِلاَّ ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ََ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى ََ (21)}
{إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ََ (20)} منصوب لأنه استثناء ليس من الأول لم يذكر البصريون غير هذا. وأجاز الفرّاء (5) أن يكون التقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربّه، وأجاز
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 272، والبحر المحيط 8/ 478.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 272.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 272.
(4) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 144، وأما لي المرتضى 1/ 202، ومعجم ما استعجم 1026، وبلا نسبة في أما لي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 372، ولسان العرب (خوف)، ومجالس ثعلب ص 618والمقتضب 3/ 231.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 273.(5/151)
{إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} (1) بالرفع لأن المعنى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربّه. قال أبو جعفر: ولم يقرأ بهذا، وهو أيضا بعيد وإن كان النحويون قد أجازوه، كما قال: [الرجز] 573 وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس (2)
وأنشد بعضهم للنابغة (3): [البسيط] 574 وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد ... إلّا أواريّ لأيا ما أبيّنها ... والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
والرفع في هذا مثل و {مََا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ََ (19) إِلَّا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ََ (20)} وهذا مجاز أي إلّا طلب رضوانه. {وَلَسَوْفَ يَرْضى ََ (21)} أي بالثواب.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 479.
(2) مرّ الشاهد رقم (110).
(3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 14، 15، والكتاب 2/ 332، وخزانة الأدب 4/ 122والدرر 1/ 274، وجمهرة اللغة 934، وشرح أبيات سيبويه 2/ 54، والصاحبي في فقه اللغة 215، وشرح شواهد الإيضاح 191، والمقاصد النحوية 4/ 315، والمحتسب 1/ 251، والمقتضب 4/ 414، وبلا نسبة في رصف المباني 452، وشرح الأشموني 2/ 493، وشرح التصريح 1/ 140، ولسان العرب (سند)، وشرح المفصل 8/ 129.(5/152)
93 - شرح إعراب سورة الضحى
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الضحى (93): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالضُّحى ََ (1) وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ (2)}
قال الفرّاء (1) {وَالضُّحى ََ (1)} النهار كلّه. قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب ما رواه أبو روق عن الضحّاك قال: الضّحى ضحى النهار. قال أبو جعفر: قال محمد بن يزيد: والضّحى يكتب بالألف لا غير، لأنه من ضحا يضحو. قال أبو جعفر: وقول الكوفيين إنه بالياء لضمّ أوله، وهذا قول لا يصحّ في معقول ولا قياس لأنه إن كتب على اللفظ فلفظه الألف، وإن كتب على المعنى فهو راجع إلى الواو وعلى أنه قد حدثنا علي بن سليمان قال: سمعت محمد بن يزيد يقول لا يجوز أن يكتب شيء من ذوات الياء مثل رمى وقضى إلّا بالألف، والعلة في ذلك بيّنة من جهة المعقول والقياس واللغة لأنا قد عقلنا أن الكتابة إنما هي نقل ما في اللفظ كما أن اللفظ نقل ما في القلب فإذا قلنا رمى فليس في اللفظ إلّا الألف. فإن قيل: أصلها الياء فكتبها بالياء قيل: هذا خطأ من غير جهة فمنها أنه لو وجب أن تكتب على أصلها لوجب أن تكتب غزا بالواو لأن أصلها الواو، وأيضا فقد أجمعوا على أن كتبوا رماه بالألف والألف منقلبة من ياء. وهذه مناقضة، وأيضا فإن في هذا بابا من الإشكال لأنه يجوز أن يقال: رمي ثم نقضوا هذا كلّه فكتبوا ذوات الواو بالياء نحو ضحىّ وكسىّ جمع كسوة. قال أبو إسحاق: وهذا معنى كلامه، وما أعظم هذا الخطأ يعني قولهم:
يكتب ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالألف، فلا هم اتّبعوا اللفظ كما يجب في الخط، ولا هم اتبعوا المصحف فقد كتب في المصحف ما زكي بالياء. قال أبو إسحاق:
وأعظم من خطأهم في الخطّ خطؤهم في التثنية لأنهم يثنّون ربا ربيان، وهذا مخالف على كتاب الله جلّ وعزّ قال: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ النََّاسِ فَلََا يَرْبُوا عِنْدَ اللََّهِ} [الروم: 39] أي فجاء القرآن بالواو وجاءوهم بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 273.(5/153)
علي بن سليمان يقول: قلت لأبي العباس محمد بن يزيد لمّا احتجّ بهذه الحجج التي لا تدفع: ما هذا الذي قد وقع للكتّاب وأنس به الخاصّ والعامّ من كتب ذوات الياء بالياء حتى صار التعارف عليه فقال: الأصل في هذا أن أبا الحسن الأخفش كان رجلا محتالا لشيء يأخذه، فقال لأبي الحسن الكسائي: قد استغنى من نحتاج إليه من النحو فنحتاج أن نجتمع على شيء نضطرهم إليه فاتّفقا على هذا وأحدثاه، ولم يكن قبلهما، وشاع في الناس لتمكن الكسائي من السلطان. ولعلّ بعض من لا يحصّل يتوهّم أنّ هذا مذهب سيبويه لأنه أشكل عليه شيء من كلامه في مثله قوله الياء في مثل سكرى وإنما أراد سيبويه أنها تثنّى بالياء، وليس من كلام سيبويه الاعتلال في الخطوط. قال أبو جعفر: ثم رجعنا إلى الإمالة فحمزة يميل ما كان من ذوات الياء ويفخم ما كان من ذوات الواو، والكسائي يميل الكل وأبو عمرو بن العلاء يتبع بعض الكلام بعضا فإن كانت السورة فيها ذوات الياء وذوات الواو أمال الكل، والمدنيون يتوسطون فلا يميلون كلّ الميل ولا يفخمون كل التفخيم. قال أبو جعفر: وليس في هذه المذاهب خطأ لأن ذوات الواو في الأفعال جائز إمالتها لأنها ترجع إلى الياء فيجوز «والضحى» {وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ (2)} ممالا، وإن كان يقال: سجا يسجو لأنه يرجع إلى الياء في قولك: سجيت.
[سورة الضحى (93): آية 3]
{مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ (3)}
قال الضحّاك: وما قلاك. قال أبو جعفر: العرب تحذف من الثاني لدلالة الأولى. يقال: أعطيتك وأكرمت، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ما ودّعك ربّك وما قلى قال: يقول: ما تركك وما أبغضك وحكى أبو عبيدة (1): ودعك مخفّفا، ومنع سيبويه (2) أن يقال: ودع، قال: استغنوا عنه بترك. قال أبو جعفر: والعلّة عند غيره أن العرب تستثقل الواو في أول الكلمة لثقلها يدلّ على ذلك أنها لا توجد زائدة في أوّل الكلام، وتوجد أختها الياء نحو يعملة ويربوع، وأنك إذا صغّرت واصلا قلت: أو يصل لا غير، وفي الجمع أواصل، ويقال: قلاه يقلّيه إذا أبغضه، ويقال أيضا: يقلاه.
[سورة الضحى (93): آية 4]
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ََ (4)}
الأصل أخير ثم خفّف لكثرة الاستعمال.
[سورة الضحى (93): آية 5]
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ (5)}
__________
(1) انظر مجاز القرآن 2/ 302، والبحر المحيط 8/ 480.
(2) انظر الكتاب 1/ 50.(5/154)
وفي حرف عبد الله «وسيعطيك» (1) وهما واحد عند سيبويه، وقال الفرّاء:
حذفت الواو والفاء كما قالوا: أيش عندها وكما قالوا: لاب لشانئك، ولاب لك، يريدون: لا أب لشانئك ولا أب لك. قال أبو جعفر: حذف المفعول الثاني، كما تقول: أعطيت زيدا، ولا تبيّن العطية.
[سورة الضحى (93): الآيات 6الى 7]
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى ََ (7)}
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ (6)} مفعول لا يجد. ويجد في كلام العرب تنقسم أقساما منها أن يكون بمعنى يرى وتعلم وكذا {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ} (7).
[سورة الضحى (93): آية 8]
{وَوَجَدَكَ عََائِلاً فَأَغْنى ََ (8)}
وقد عال يعيل عيلة إذا افتقر وأعال يعيل إذا كثر عياله لا نعلم بين أهل اللغة فيه اختلافا.
[سورة الضحى (93): الآيات 9الى 10]
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاََ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السََّائِلَ فَلاََ تَنْهَرْ (10)}
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ} نصب بتقهر، ولو كان تقهره بالهاء لكان الاختيار النصب أيضا لأنه نهي، وكذا {وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ} (10)
[سورة الضحى (93): آية 11]
{وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
قيل أي بلّغ أي أظهرها واحمد الله عزّ وجلّ عليها فإن ذلك من الشكر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 247.(5/155)
94 - شرح إعراب سورة ألم نشرح (الشرح)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الشرح (94): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)}
{نَشْرَحْ} جزم بلم، وعلامة الجزم حذف الضمة. من النحويين من يقول: «ألم» من حروف الجزم، وذلك خطأ لأن الألف للاستفهام. والمعنى على الإيجاب لأن ألف الاستفهام هاهنا يؤدي عن معنى التقرير والتوقيف فيصير النفي إيجابا والإيجاب نفيا.
قال الفرّاء: أي ألم نلن لك قلبك، وقال الحسين بن واقد: ألم نوسّع لك صدرك. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن، ومنه يقال: فلان ضيّق الصدر، وصدره واسع وقد شرح الله صدور الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين ثوابا على أعمالهم الحسنة فصاروا يقبلون الحق ولا تضيق له صدورهم. ومن هذا الحديث المستقيم الإسناد، رواه يونس عن الزهري عن أنس عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم أتى بطست مملوءة حكمة وإيمانا فأقرّه في صدري ثم عرج بي إلى السّماء» (1) {لَكَ} الكاف في موضع جر باللام، وفتحت اللام على أصلها. ومن النحويين من يقول: أصلها الكسر ولكن فتحت في قولهم له لئلا يجمع بين كسرة وضمّة ثم أتبع «لك» له، وإن لم يكن فيه تلك العلّة {صَدْرَكَ} منصوب بنشرح. وقال العلماء: الصدر محل القرآن والعلم، واستدلّوا في ذلك بقول الله عزّ وجلّ {بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49].
[سورة الشرح (94): آية 2]
{وَوَضَعْنََا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)}
قال الحسن: وزره ذنبه في الجاهلية. يقال: وزر يزر وزرا والمفعول موزور، وفي الحديث «ارجعن موزورات غير مأجورات» (2) ومن أهل الحديث
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 97، ومسلم في الإيمان 263، وأحمد في مسنده 5/ 122، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 65، والمتّقي في كنز العمال 31839، وابن كثير في تفسيره 5/ 15.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه 1578، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 77، والبغوي في شرح السنة 5/ 465، والمتقي في كنز العمال 42581، والمنذري في الترهيب والترغيب 4/ 359.(5/156)
من يقول: «مأزورات» فإن صح نقله فهو اتباع.
[سورة الشرح (94): آية 3]
{الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)}
أهل التفسير يقولون: أثقله فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل وهو مغفور غير مطالب به؟ فالجواب أن سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين إذا ذكروا ذنوبهم أن يشتدّ غمّهم وبكاؤهم، فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل. قال أبو جعفر:
وهذا الجواب عن سؤال السائل: لم يغتمّ الصالحون إذا ذكروا ذنوبهم التي قد تابوا منها وقد علموا أن المغفرة بعد التوبة واجبة؟ وفي هذا جواب آخر وهو أنهم يخافون أن يكونوا قد بقي عليهم شيء يلزمهم من تمام التوبة.
[سورة الشرح (94): آية 4]
{وَرَفَعْنََا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}
بيان هذا في الحديث المسند عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال لي جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربّي وربّك عزّ وجلّ يقول لك كيف رفعت ذكرك؟ قال قلت الله أعلم، قال إذا ذكرت معي» (1).
[سورة الشرح (94): الآيات 5الى 6]
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)}
وقرأ عيسى بن عمر بضمّ السين فيهما. قيل: المعنى أن نعم الله تعالى، وهي اليسر أكثر من الشدائد، وهي العسر، وقيل: خوطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه سيظفر فذلك الظفر، وهو اليسر بالمشركين الذين لحقت منهم الشدة.
[سورة الشرح (94): آية 7]
{فَإِذََا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)}
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التكرير وما قيل في معنى {فَإِذََا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} (2) ومن أحسن ما قيل فيه، وهو جامع لجميع الأقوال، أنه ينبغي إذا فرغ الإنسان من شغله أن ينتصب لله جلّ وعزّ وأن يرغب إليه وأن لا يشتغل بما يلهيه عن ذكر الله سبحانه فهذا أدب الله عزّ وجلّ. وقد قال عبد الله بن مسعود: ما يعجبني الإنسان أراه فارغا لا يشتغل بأمر الدنيا، ولا بأمر الآخرة.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 2/ 106.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 484 (قرأ الجمهور بفتح الراء، وأبو السمال بكسرها).(5/157)
95 - شرح إعراب سورة التين
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة التين (95): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)}
أدغمت اللام في التاء والزاي لقربها منهما، ولا يجوز الإظهار مع لام التعريف لكثرتها في الكلام، ويجوز في غيرها وإن كانت هذه اللام قد قيل: إنها مع ما هي هاهنا اسم علم. قال محمد بن كعب: «التين» مسجد أصحاب الكهف، والزيتون «مسجد إيليا» فإن أصلها التعريف ثم وقعت التسمية وكذا قول من قال: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، وقول من قال: هما مسجدان أحدهما الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى صلّى الله عليه وسلّم. فأما داود بن أبي هند فروى عن عكرمة وعن ابن عباس قال: التين تينكم هذا، والزيتون زيتونكم، قال أبو جعفر: وهذه الأقوال إذا حصّلت آلت إلى معنى واحد لأن القسم إنما هو بربّ العالمين جلّ وعزّ فالتقدير: وربّ التين والزيتون.
[سورة التين (95): آية 2]
{وَطُورِ سِينِينَ (2)}
قيل: هو طور سينا بلغات، وقيل: غير هذا مما ذكرناه (1).
[سورة التين (95): آية 3]
{وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}
وهذه اللغة الفصيحة. والاسم منه ذا عند البصريين، وها للتنبيه، وعند الكوفيين الاسم الذال. ولم يعرب لأنه اسم غير متمكّن ينتقل فأشبه الحروف لأنه غير ثابت على مسمّى فوجب أن لا يعرب، وقال بعض النحويين: لأن في آخره ألفا والألف لا يتحرك. قال الفرّاء: ولو حرّكت صارت همزة، وقال الخليل رحمه الله: الألف حرف هوائي فمحال أن يحرك لأنه بمنزلة الحركة ولا تحرك الحركة. قال أبو جعفر: و «ذا» اسم ظاهر يدلّ على ذلك كسر اللام معه. وقد قال بعض النحويين جوابا لمن سأل لم
__________
(1) انظر إعراب الآية 130الصافات.(5/158)
حرّكت المضمرات ولم تحرّك المبهمة؟: إن المضمرات في مواضع الأسماء المعربة وكانت لها مزيّة فحرّكت. قال أبو جعفر: وسمعت أبا بكر بن شقير يحكي هذا، وهو جواب حسن محصّل فأما الفرّاء فخلط الجميع فقال: من قال: هو زيد، بإسكان الواو قال: هذا زيد، ومن قال: هو زيد، قال: هذا أي زيد، ومن قال: هو زيد، بتشديد الواو قال هذاه زيد. قال أبو جعفر: وبيان التخطيط في هذا بيّن لأن قولك: هو بإسكان الواو لغة شاذة، وقولك: هذا لغة بها جاء القرآن فكيف تحاذي إحداهما الأخرى إلا أن يتجازيا من جهة أخرى على قوله وذلك أن قولك: هو، الاسم منه عنده الهاء، والاسم من هذا الذال، وهذا قوله بلا اختلاف عنه. ومن التخليط أن قولك هذّاه الهاء عنده فيه لبيان الحركة وقد أثبتها في الوصل. وزعم الفرّاء: أن الدليل على أن الاسم الذال في هذا قول العرب في التثنية هذان فأسقطوا الألف. وهذا لا يلزم لأن الألف إنما سقطت في التثنية لالتقاء الساكنين ولم يجز قلبها فيقال: هذيان ولا هذوان لأنه لا يعلم أنها منقلبة من ياء، ولا واو فتقلب إلى إحداهما فلم يبق إلا الحذف. {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} نعت وإن شئت بدل، وإن شئت عطف البيان. وزعم الفرّاء (1) إن الأمين بمعنى الآمن، وأنشد: [الطويل] 575 ألم تعلمي يا أسم ويحك أنّني ... حلفت يمينا لا أخون أميني (2)
قال أبو جعفر: وخولف الفرّاء في هذا فقيل: أمين بمعنى مأمون في الآية والبيت جميعا.
[سورة التين (95): آية 4]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)}
تكلّم العلماء في معناه فعن ابن عباس قال: خلق كل شيء منكبّا إلّا الإنسان وقال عكرمة {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} الشباب والقوة والجلد، وقال مجاهد والنخعي {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في أحسن صورة. وهذا أحسن ما قيل فيه لأن التقدير في العربية: في تقويم أحسن تقويم أقيم مقام المنعوت أي في تقويم أعدل تقويم وصورة.
[سورة التين (95): آية 5]
{ثُمَّ رَدَدْنََاهُ أَسْفَلَ سََافِلِينَ (5)}
فيه اختلاف أيضا. فعن ابن عباس إلى أرذل العمر، وعن عكرمة إلى النار، وزعم محمد بن جرير: إن الصّواب إلى أرذل العمر أي إلى الهرم، ويكون هذا لخاص من الناس، واستدل على صواب هذا إن الله جلّ وعزّ إنما عدد ما شاهدوه من قدرته من
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 276.
(2) الشاهد بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 134، وتاج العروس (أمن)، ومعاني الفراء 3/ 276، وتفسير الطبري 30/ 241.(5/159)
خروج الإنسان من الشباب إلى الهرم ولا يعدّد عليهم ما لا يقرون به من دخول النار.
وقال غيره: هذا لا يلزم لأن حجج الله ظاهرة، وقد ظهرت آيات نبيه صلّى الله عليه وسلّم فوجب أن يكون كل ما أخبر به بمنزلة المعاين.
[سورة التين (95): آية 6]
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}
من قال: المعنى إلى أسفل سافلين إلى النار جعل {الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب استثناء من الهاء التي في رددناه لأنها بمعنى جمع، ومن قال إلى أسفل سافلين: إلى أرذل العمر جعل «الذين» استثناء ليس من الأول، وقيل في الكلام حذف الاستثناء منه.
والتقدير ثم رددناه إلى الهرم والخرف حتى صار لا يقدر على عبادة الله جلّ وعزّ وأداء فرائضه، ولا يكتب له شيء لهم مثل ما كانوا يعملون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال يقول غير منقوص.
[سورة التين (95): آية 7]
{فَمََا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)}
تكلّم النحويون في هذه الكلمة وفي بيانها واختلاف حركتها وتنوينها وغير تنوينها ببضعة عشر جوابا: فمن ذلك أن النحويين مجمعون على أن قبل وبعد إذا كانا غايتين فأصلهما إلا يعربا، وأجابوا في علّة ذلك بأجوبة فمن أصحّها أن سبيل تعريف الأسماء أن تكون الألف واللام أو بالإضافة إلى معرفة فلمّا كانتا قد عرّفتا بغير تعريف الأسماء وجب بناؤهما، وقال علي بن سليمان: لمّا كانتا متعلّقتين بما بعدهما، وقيل: لما لم يتصرّفا بوجوه الإعراب ولم يتمكّنا وجب لهما البناء، فهذه ثلاثة أجوبة فإن قيل: لم وجبت لهما الحركة؟ فالجواب أن سيبويه (1) قال: وأما المتمكن الذي جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن فقولهم: ابدأ بهذا أوّل، ويا حكم أقبل، وشرح هذا أن أول وقبل وبعد لما وجب ألا يعربن في موضع وقد كنّ يعربن في غيره كره أن يخلين من حركة فضممن فإن قيل: فلم لا فتحن أو كسرن؟ في هذا السؤال خمسة أجوبة منها أن الظروف يدخلها النصب والخفض إذا لم تعتلّ فلا يدخلها الرفع فلما اعتلّت ضمّت لأن الضمة من جنس الرفع الذي لا يدخلها في حال سلامتها، وقيل: لمّا أشبهت المنادى المفرد أعطيت حركته، وقيل: لما كانت غاية أعطيت غاية الحركات، فهذه ثلاثة أجوبة في الضم للبصريين لا نعلم لهم غيرها، والجوابان الآخران للكوفيين: قال الفرّاء (2): لما تضمّنت قبل وبعد معنيين ضمّتا. قال أبو جعفر: وشرح هذا أنهما تضمّنتا معناهما في أنفسهما ومعنى ما بعدهما فأعطيتا أثقل الحركات، وقال هشام: لم يجز أن يفتحا فيكونا كأنهما مضافتان إلى ما بعدهما ولا يكسران فيكونا كالمضاف إلى
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 319.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 321.(5/160)
المخاطب فلم يبق إلّا الضم. قال أبو جعفر: فهذه تسعة أجوبة، وأجاز الفرّاء آتيك بعد يا هذا، بالضم والتنوين وأنشد: [الطويل] 576 ونحن قتلنا الأزد أزد شنوءة ... فما شربوا بعد على لذّة خمرا (1)
قال أبو جعفر: وهذا خارج عما جاء به القرآن وكلام العرب والمعقول لا حجّة له في البيت إن كان يعرف قائله لأنه بغير تنوين جائز عند أهل العلم بالعروض، كما أنشدوا: [الطويل] 577 شاقتك أحداج سليمى بعاقل ... فعيناك للبين تجودان بالدّمع (2)
وأجاز أيضا رأيتك بعدا يا هذا. قال أبو جعفر: فهذا نظير. ذلك أن يكون أراد النكرة وأجاز هشام رأيتك بعد يا هذا، جعله منصوبا وأضمر المضاف إليه فكأنه زعم أن قد نطق به لما كان في النية، وزعم الفراء والأخفش: أنّ المعنى فمن يكذبك بعد بالدين. قال أبو جعفر: وهذا لا يعرج عليه، ولا تقع «ما» بمعنى «من» إلا في شذوذ، والمعنى هاهنا صحيح أي فما يحملك يا أيّها المكذب فأيّ شيء يحملك على التكذيب بعد ظهور البراهين والدلائل بالدين الذي جاء بخبره من أظهر البراهين.
[سورة التين (95): آية 8]
{أَلَيْسَ اللََّهُ بِأَحْكَمِ الْحََاكِمِينَ (8)}
أي في تدبيره وصنعه لا يدخل دينك فساد ولا تفاوت، وليس كذا غيره.
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في إصلاح المنطق 146، وأوضح المسالك 3/ 158، وخزانة الأدب 6/ 501، والدرر 3/ 109، وشرح الأشموني 2/ 322، وشرح التصريح 2/ 50، وشرح شذور الذهب 137، ولسان العرب (بعد) و (خفا) والمقاصد النحوية 3/ 436، وهمع الهوامع 1/ 209، ومعاني الفراء 2/ 321.
وفي رواية «الأسد أسد خفيّة».
(2) لم أعثر عليه في المراجع التي بين يديّ.(5/161)
96 - شرح إعراب سورة القلم (العلق)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة العلق (96): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} في موضع جزم على قول الكوفيين. والعامل فيه عند الفرّاء لام محذوفة، وعلامة الجزم حذف الضمة. وهو عند البصريين غير معرب لأنه لا يضارع الأسماء فيعرب، وحكى أبو زيد والكسائي «أقر» (1) على بدل الهمزة فيصير كقولك:
اخش، ومثل هذا قول زهير: [الطويل] 578وإن لا يبد بالظّلم يظلم (2)
وقد قيل: إن على هذا قراءة الجماعة {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى ََ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
[البقرة: 61] وأنه مأخوذ من الدناءة. {الَّذِي خَلَقَ} في موضع خفض نعت لربك أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ أو في موضع نصب بمعنى أعني.
[سورة العلق (96): آية 2]
{خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}
الإنسان بمعنى جماعة فلذلك قال: علّق وهو جمع علقة.
[سورة العلق (96): آية 3]
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}
وحذف المفعول أي اقرأ ما أنزل إليك وربك الأكرم لا يخليك من الثواب على قراءتك.
[سورة العلق (96): آية 4]
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}
نعت للذي الأول.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 488، والإتحاف 272.
(2) مرّ الشاهد رقم (16).(5/162)
[سورة العلق (96): الآيات 5الى 6]
{عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاََّ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَيَطْغى ََ (6)}
{عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ (5)} مفعولان. ومن قال: إن {كَلََّا} تمام في جميع القرآن قال: المعنى ليس يجب أن يدعوا التفكّر فيما بيّنه الله من خلقكم مما يدلّ على وحدانيته، وأنه لا شبه له. {إِنَّ الْإِنْسََانَ لَيَطْغى ََ} جاء على فعل يفعل لأنّ فيه الغين.
[سورة العلق (96): آية 7]
{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ََ (7)}
(1)
فجاء المفعول متصلا، ولم يستعمل رأى نفسه، لأنه من أخوات ظننت.
[سورة العلق (96): آية 8]
{إِنَّ إِلى ََ رَبِّكَ الرُّجْعى ََ (8)}
في موضع نصب ولم يتبيّن فيه الإعراب لأن في آخره ألفا.
[سورة العلق (96): الآيات 9الى 12]
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ََ (9) عَبْداً إِذََا صَلََّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كََانَ عَلَى الْهُدى ََ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ََ (12)}
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى ََ (9) عَبْداً إِذََا صَلََّى} (10) وحذف الجواب لعلم السامع، وكذا {أَرَأَيْتَ إِنْ كََانَ عَلَى الْهُدى ََ (11)} {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ََ} (12).
[سورة العلق (96): آية 13]
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلََّى (13)}
أي مع منعه من الصلاة إن كذّب الله ورسوله وتولّى عن طاعته.
[سورة العلق (96): الآيات 14الى 16]
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللََّهَ يَرى ََ (14) كَلاََّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ (15) نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ خََاطِئَةٍ (16)}
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللََّهَ يَرى ََ (14)} أي يراه ويعلم فعله فيعاقبه عليه ومن قال {كَلََّا} التمام قال:
المعنى: ليس الأمر على ما قدره من أنه يتهيّأ له أن يمنعه من الصلاة {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} حذفت الياء للجزم، ومن أثبتها في غير القرآن قدّرها متحركة {لَنَسْفَعاً} (2) الوقف عليه بالألف فرقا بينه وبين النون الثقيلة ولأنه بمنزلة قولك: رأيت زيدا، كما قال: [الطويل] 579ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا (3)
{بِالنََّاصِيَةِ} {نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ خََاطِئَةٍ} (16).
على البدل. والفراء (4) على التكرير، وأجاز {نََاصِيَةٍ كََاذِبَةٍ خََاطِئَةٍ} لأنها نكرة بعد معرفة.
[سورة العلق (96): آية 17]
{فَلْيَدْعُ نََادِيَهُ (17)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ قنبل بقصر الهمزة والباقون بمدّها).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 490.
(3) مرّ الشاهد رقم (173).
(4) انظر معاني الفراء 3/ 279، والبحر المحيط 8/ 491.(5/163)
حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه اتّساعا أي أهل ناديه.
[سورة العلق (96): آية 18]
{سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ (18)}
كتب بغير واو على الإدراج، ولا يجوز الوقف عليه.
[سورة العلق (96): آية 19]
{كَلاََّ لاََ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
{كَلََّا لََا تُطِعْهُ} أي في ما ينهاك عنه من الضلالة {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} إلى الله جلّ وعزّ بطاعته فإنه يعظّمك ويمنع منك. وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى إذا كان ساجدا فأكثروا من الدعاء في السجود فإنه قمن أن يستجاب لكم» (1).
__________
(1) ذكره البغوي في شرح السنة 3/ 151، والمتقي الهندي في كنز العمال (3328)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 2/ 690.(5/164)
97 - شرح إعراب سورة ليلة القدر (القدر)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القدر (97): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}
{إِنََّا} أصله إنّنا فحذفت النون لاجتماع النونات ولأنها زائدة {أَنْزَلْنََاهُ} النون والألف في موضع رفع بالفعل، وأسكنت اللام لاتصالها بالمضمر المرفوع اتباعا لما تتوالى فيه الحركات والهاء في موضع نصب، وحذفت الواو بعدها لسكونها وسكون الألف، وإن الهاء ليست بحاجز حصين لخفائها وبعدها، وقيل: لاجتماع حرفي مدّ ولين فحذف أحدهما، والهاء كناية عن القرآن، وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة، وأكثر النحويين يقولون: لأنه قد عرف المعنى، كما قال: [الطويل] 580ألا ليتني أفديك منها وأفتدي (1)
ومن العلماء من يقول: جازت الكناية في أول السورة لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة لأنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وسنذكر هذا بإسناده، وقول ثالث بيّن حسن وهو: إنّا أنزلناه يدلّ على الإنزال والمنزل، كما حكى النحويون (2): من كذب كان شرّا له، لأن كذب يدلّ على الكذب، وأخفيت ليلة القدر على الناس إلّا ما جاء في الحديث من أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقيل: إنما أخفيت لفضل العمل فيها لئلا يدع الناس العمل في غيرها والاجتهاد ويتّكلوا على فضل العمل فيها، وقيل: لأنها مختلفة تكون في سنة لثلاث وعشرين ثم يكون في غيرها. وأما الحديث في تنزيل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فصحيح غير مدفوع عند أهل السّنّة وإنّما يدفعه قول من أهل الأهواء كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 29، والدرر 2/ 269، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 96وصدره:
«على مثلها أمضي إذا قال صاحبي»
(2) انظر الكتاب 2/ 412.(5/165)
قوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فكان بموقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض فقالوا {لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. فأما تسميتها بليلة القدر ففيه قولان: أحدهما أنها ليلة الجلالة والتعظيم من قولهم: لفلان القدر، والقول الآخر، وهو الذي عليه العلماء المتقدمون، أنّها سمّيت ليلة القدر لأنها تقدّر فيها آجال العباد وأرزاقهم كما قال قتادة: يقدّر في ليلة القدر ما يكون إلى السنة الأخرى من الآجال والأرزاق.
[سورة القدر (97): آية 2]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)}
{مََا} في موضع رفع بالابتداء و {أَدْرََاكَ} فعل ماض في موضع الخبر والكاف في موضع نصب {مََا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} مبتدأ وخبره، فيه معنى التعظيم.
[سورة القدر (97): آية 3]
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}
مبتدأ وخبره أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
هذا البين، وإن كان قد روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: هي ألف شهر وليت فيها بنو أمية. قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أريهم على المنابر فهاله ذلك فأحصيت ولايتهم بعد ذلك فكانت كذلك. فهذا حديث مرويّ ليس في ظاهر التلاوة ما يدلّ عليه والله أعلم.
[سورة القدر (97): الآيات 4الى 5]
{تَنَزَّلُ الْمَلاََئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهََا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاََمٌ هِيَ حَتََّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
{تَنَزَّلُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهََا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الأصل تتنزّل فحذفت التاء لاجتماع تاءين، وقال أهل التفسير: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بأمر ربهم {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} هذا تمام الكلام عند النحويين منهم الفراء، والمعنى على قولهم: تنزّل الملائكة والروح فيها بأمر ربهم أي ينزلون بأمر الله الذي فيه الآجال والأرزاق إلى السماء الدنيا من كلّ أمر أي من كلّ أمر فيه الرزق والأجل والحجّ لمن يحجّ وغير ذلك، وحكى أبو عبيد أنه روي عن ابن عباس وعكرمة أنهما قرءا «من كلّ امرى» (1) قال إسماعيل بن إسحاق: لم يذكر أبو عبيد إسناده ولعلّه ضعيف. قال أبو جعفر: إسناده ضعيف بغير لعلّ: رواها الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد لا يعرّج عليه، وهو مخالف للمصحف الذي تقوم به الحجّة فمن جاء به هكذا قال التمام: من كل امرئ سلام، كما قال الشعبي من كل امرئ من الملائكة سلام على المؤمنين والمؤمنات، وقيل: المعنى من كل أمر مخيف سلام أي سلامة، وعلى قراءة الجماعة {سَلََامٌ} مرفوع على خبر هي كما تقول: قائم زيد أي هي
__________
(1) انظر البحر المحيط 2/ 368، والبحر المحيط 8/ 493.(5/166)
سلام أي دار سلامة أي ذات سلامة، كما قرئ على محمد بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدّثنا جرير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى «سلام هي» قال: لا تعمل فيها الشياطين، ولا يجوز فيها السّحر ولا يحدث فيها شيء إلى الفجر قال يوسف وحدّثنا تميم بن زياد قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية «سلام هي» قال: خير كلّها إلى مطلع الفجر، وروى الضحّاك عن ابن عباس قال تصفد فيها مردة الشّياطين، وتقبل فيها التوبة فهذه أقوال المتقدمين من أهل التفسير، وقال بعد المتأخرين: معنى «سلام هي» إنما يقضى فيها الخير من الأرزاق والحجّ والشرّ يقضى في غيرها يذهب إلى أن ليلة النصف من شعبان قد جاء فيها حديث من تقدير الأشياء فهذه أقوال المتقدمين والمتأخرين والله أعلم بما أراد.
{حَتََّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1) بفتح اللام قراءة العامة، وقال الفراء (2): وقرأ يحيى بن وثّاب وحده {حَتََّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. قال أبو جعفر: وهي قراءة أبي رجاء العطارديّ. وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه (3) قال: وقد كسروا المصدر قالوا: أتيتك عند مطلع الشمس أي عند طلوع الشمس. هذه لغة بني تميم، وأما أهل الحجاز فيقولون: مطلع والمطلع المكان.
قال أبو جعفر: شرح هذا أنه ما كان على فعل يفعل فالباب فيه أن يكون المصدر منه واسم المكان مفعلا بالفتح، وكان يجب أن يكون اسم المكان منه بالضم إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل فلم يكن بدّ من تحويله إلى الفتحة أو الكسرة فكانت الفتحة أولى لأنها أخفّ والدليل على ما قلناه أنه ما كان على فعل يفعل فالمصدر منه مفعل بالفتح، اسم المكان والزمان بالكسر قالوا: جلس مجلسا وهو في مجلسك، وفي الزمان أتت الناقة على مضربها بالكسر فهذا يبيّن لك أن الأصل مطلع في المكان ثم حوّل إلى الفتح ثم سمع من العرب أشياء تؤخذ سماعا بغير قياس قالوا: مطلع للمكان الذي تطلع فيه الشمس، وقال بعضهم: مطلع للمصدر والفتح أولى لأن الفتح في المصدر قد كان لفعل يفعل فكيف يكون في فعل يفعل وأيضا فإنّ قراءة الجماعة الذين تقوم بهم الحجة «حتّى مطلع» هذا في قوّته في العربية وشذوذ الكسر وخروجه من القياس. قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ «سلام هي إلى مطلع الفجر» قال أبو جعفر:
وهذه القراءة على التفسير، ولا يجوز لأحد أن يقرأ بها لمخالفتها السواد الأعظم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182، ومعاني الفراء 3/ 280.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 280.
(3) انظر الكتاب 4/ 205.(5/167)
98 - شرح إعراب سورة لم يكن (البيّنة)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة البينة (98): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتََّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}
{يَكُنِ} في موضع جزم بلم، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فإن قيل: قد تحرّكت النون فلم لأردت الواو؟ فالجواب أنها حركة عارضة، غير ثابتة فكأنها لم يكن ولا تعرّج على قول من قال: حذفت الواو والضمة للجزم، ولا يجوز عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء. حذف النون على لغة من قال:
لم يك زيد جالسا لأنها قد تحرّكت وأجاز غيرهم حذفها كما قال: [الطويل] 581ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (1)
{وَالْمُشْرِكِينَ} عطف على أهل، ولو كان عطفا على الذين لكان مرفوعا {مُنْفَكِّينَ} خبر يكن في معناه قولان: قال عطاء: منفكين بارحين، وبرح وزال في منهاج واحد.
وقال غيره: «منفكّين» متفرّقين. قال أبو جعفر: معنى القول الأول: لم يكن الكفار زائلين عما هم عليه حتى يجيئهم الرسول فيبيّن لهم ضلالتهم، ومعنى القول الثاني: لم يكن الكفار متفرّقين إلا من بعد أن جاءهم الرسول لأنهم فارقوا ما عندهم من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم فكفروا بعد البيان. وهذا القول في العربية أولى لأن منفكّين لو كان بمعنى زائلين لاحتاج إلى خبر ولكن يكون من انفكّ الشيء من الشيء أي فارقه، كما قال ذو الرمّة: [الطويل] 582 قلائص ما تنفكّ إلّا مناخة ... على الخسف أو يرمي بها بلدا قفرا (2)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (55).
(2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 173، والكتاب 3/ 52، وتخليص الشواهد 270، وخزانة الأدب 9/ 247، وشرح شواهد المغني 1/ 219، ولسان العرب (فكك)، والمحتسب 1/ 329، وهمع الهوامع 1/ 120، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 142، والأشباه والنظائر 5/ 173، والجنى الداني 521، وشرح الأشموني 1/ 121، ومغني اللبيب 1/ 73وهمع الهوامع 1/ 230.(5/168)
وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في هذا. قال أبو جعفر: تأول الأصمعي «ما تنفكّ» ما تزال، والصواب ما قال المازني قال: أخطأ الأصمعيّ وما تنفكّ كلام تامّ ثم قال: إلّا مناخة على الاستثناء المنقطع {حَتََّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
[سورة البينة (98): آية 2]
{رَسُولٌ مِنَ اللََّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2)}
{رَسُولٌ مِنَ اللََّهِ} على البدل، ويجوز أن يكون بمعنى هي رسول من الله. قال الأخفش سعيد: وفي حرف أبيّ «رسولا من الله» (1) على الحال. قال الضحاك:
الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم {يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً} قال: القرآن.
[سورة البينة (98): آية 3]
{فِيهََا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
قال ابن زيد: مستقيمة معتدلة.
[سورة البينة (98): آية 4]
{وَمََا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ إِلاََّ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)}
يدلّ على أن الجواب الثاني في منفكين.
[سورة البينة (98): آية 5]
{وَمََا أُمِرُوا إِلاََّ لِيَعْبُدُوا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفََاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُؤْتُوا الزَّكََاةَ وَذََلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
{وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا اللََّهَ} من القراء من يقول: هذه لام أن أي إلّا أن يعبدوا الله وأصل هذا للفراء. فأما البصريون فهي عندهم لام كي أي أمروا بهذا كي يعبدوا الله مخلصين له الدين {حُنَفََاءَ} على الحال. قال قتادة: الحنفيّة الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمّات والمناسك. قال الضحاك: الحجّ. قال أبو جعفر: أصل هذا أن الحنف الميل: فقيل: حنيف للمائل إلى الإسلام ميلا لا خلل فيه ولا رجوع {وَيُقِيمُوا الصَّلََاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكََاةَ وَذََلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وهذا دليل قاطع على أن الإسلام قول وعمل. قال جل وعز: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللََّهِ الْإِسْلََامُ} [آل عمران: 19] ويبيّن أن إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة دين القيّمة. قال الفراء (2): وفي حرف ابن مسعود «الدين القيّمة» وزعم أنه إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك محال عند البصريين لأنك إنما تضيف الشيء إلى ما تبيّنه به فتضمه إليه فمحال أن تبيّنه بنفسه أو تضمه إلى نفسه فالتقدير عندهم دين الجماعة القيمة، وقيل: دين الملّة القيمة، ولهذا وقع التأنيث.
[سورة البينة (98): الآيات 6الى 7]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نََارِ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أُولََئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 495، ومعاني الفراء 3/ 282.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 282.(5/169)
{وَالْمُشْرِكِينَ} في موضع خفض عطف على أهل، ويجوز النصب عطفا على الذين {فِي نََارِ جَهَنَّمَ} في موضع الخبر {خََالِدِينَ فِيهََا} على الحال {أُولََئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الجملة خبر «إن» مثل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} بغير همز قراءة الجماعة، وهو المعروف من كلام العرب، وقرأها نافع بالهمز. أخذها من برأ الله الخلق، ومن لم يهمزها أخذها من البرا، وهو التراب وترك الهمز، وهو الأصل عنده، والبريّة الخلق كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن أبي كريب ثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا خير البريّة فقال: «ذلك إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم» (1). قال أبو جعفر: ولا معنى لاحتجاج من احتجّ بأن الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين أفضل من الملائكة صلوات الله عليهم بهذه الآية لأن الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
[سورة البينة (98): آية 8]
{جَزََاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
{جَزََاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ} مبتدأ وخبره. قال ابن مسعود: {جَنََّاتُ عَدْنٍ} بطنان الجنة أي وسطها. قال أبو جعفر: يقال: عدن بالمكان إذا أقام به {خََالِدِينَ فِيهََا} حال {أَبَداً} ظرف {رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} من ذوات الواو انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والرضى بالألف والتثنية بالواو ورضوان، ولا معنى لحكاية من حكى رضيان.
{ذََلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} قيل: أي لمن اتّقى الله في الدنيا في سرّه وعلانيته فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم (4672).(5/170)
99 - شرح إعراب سورة إذا زلزلت (الزلزلة)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الزلزلة (99): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزََالَهََا (1)}
{إِذََا} في موضع نصب ظرف زمان، والعامل فيها زلزلت {زِلْزََالَهََا} مصدر كما قال: أكرمتك كرامتك والمعنى كرامة، وكذا المعنى زلزلت زلزالا. وحسنت الإضافة لتتفق الآيات. والكسائي والفراء (1) يذهبان إلى أن الزلزال مصدر والزلزال اسم وأنه يقال: وسوسة وسواسا، والوسواس الاسم. وقرأ عاصم الجحدري {وَزُلْزِلُوا زِلْزََالًا شَدِيداً} [الأحزاب: 11] بالفتح، وقرأ {إِذََا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزََالَهََا} (2).
[سورة الزلزلة (99): آية 2]
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقََالَهََا (2)}
جمع ثقل والثقل في الأذن.
[سورة الزلزلة (99): آية 3]
{وَقََالَ الْإِنْسََانُ مََا لَهََا (3)}
{مََا} في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام.
[سورة الزلزلة (99): آية 4]
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبََارَهََا (4)}
قال أبو جعفر: لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ودل هذا على أن معنى حدّثنا وأخبرنا واحد.
[سورة الزلزلة (99): آية 5]
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا (5)}
ويقال: وحى له وإليه فيهما.
[سورة الزلزلة (99): آية 6]
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النََّاسُ أَشْتََاتاً لِيُرَوْا أَعْمََالَهُمْ (6)}
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النََّاسُ أَشْتََاتاً} نصب على الحال. قال الفراء (3): اجتمع القراء على {لِيُرَوْا أَعْمََالَهُمْ} (4) قال أبو جعفر: حكى أبو حاتم أن عبّاد بن كثير قال: بلغني أنّ
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 283.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 496.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 248.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 498.(5/171)
النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ {لِيُرَوْا أَعْمََالَهُمْ} (1). قال أبو جعفر: في الكلام تقديم وتأخير عند النحويين أي يومئذ تحدّث أخبارها ليروا أعمالهم.
[سورة الزلزلة (99): الآيات 7الى 8]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
{فَمَنْ} في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام. ويعمل جزم بالشرط و {خَيْراً} منصوب على البيان أو بدل من مثقال «يره» جواب الشرط حذف الألف منه للجزم، وكذا {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (8) فدلّ ظاهر الكلام على أنّ كلّ من عمل شيئا رآه من مؤمن وكافر، وأنّ الكافر يجازى على عمله الحسن في الدنيا من دفع مكروه، وكذا الأحاديث على هذا. أن الكافر يجازى على حسن عمله في الدنيا، ولا يكون له في الآخرة خير، وأن المؤمن على الضدّ من ذلك نصيبه المصائب في الدنيا وأجره موفّر عليه في الآخرة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182 («يره» قرأ هشام بإسكان الهاء والباقون بصلتها).(5/172)
100 - شرح إعراب سورة العاديات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة العاديات (100): الآيات 1الى 5]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
} {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)}
{وَالْعََادِيََاتِ} خفض بواو القسم. وللعلماء في معناها قولان: روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس أنها الخيل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها الإبل وكذا قال ابن مسعود، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس سألني رجل عن {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1)} فقلت: هي الخيل، فمضى إلى علي بن أبي طالب فأخبره فبعث لي فأحضرني فقال لي: أتتكلّم في كتاب الله بغير علم؟ والله إن أول غزوة كانت لبدر، وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود إنّما العاديات من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منّى. ونظير هذا ما حدّثناه البهلول بن إسحاق بن البهلول بن حسان ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا كثير بن عبد الله المزنيّ قال: كنت عند محمد بن كعب القرظيّ فجاءه رجل فقال: يا أبا حمزة إني رجل صرورة لم أحجج قطّ فعلّمني مما علّمك الله سبحانه. قال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاستفتح فاقرأ {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} خمس آيات {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) أتدري ما هذا؟ قال: لا. قال: «والعاديات ضبحا» الرفع من عرفة {فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} (2) إلى المزدلفة {فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً} (3) لا تغير حتى تصبح {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) يوم منى. قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى {فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} فمذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود أنها الإبل، وروى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس قال: الناس يورون النار ليراها غيرهم، وروى غيرهما عن ابن عباس الخيل، وقال قتادة: الخيل تشعل الحرب، وقال عكرمة: الموريات الألسن. قال أبو جعفر: ولا دليل يدلّ على تخصيص شيء من هذه الأقوال فالصواب أن يقال ذلك لكل من أورى على أن المعنى واحد إذا كان التقدير: وربّ العاديات ونصبت {ضَبْحاً} لأنه مصدر في موضع الحال. وعن ابن عباس الضّبح نفخها
بمشافرها. ونصبت {قَدْحاً} على المصدر لأن معنى «فالموريات» فالقادحات «فالمغيرات» عن ابن عباس أنها الخيل وعن ابن مسعود أنها الإبل «ضبحا» ظرف زمان {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} (4) قال الفراء: الهاء كناية عن الوادي، ولم يتقدّم له ذكر لأنه قد عرف المعنى، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: النقع الغبار. وسطن ووسّطن وتوسّطن واحد. وعن ابن عباس {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) من العدو. عن ابن مسعود «جمعا» المزدلفة.(5/173)
{وَالْعََادِيََاتِ} خفض بواو القسم. وللعلماء في معناها قولان: روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس أنها الخيل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها الإبل وكذا قال ابن مسعود، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس سألني رجل عن {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1)} فقلت: هي الخيل، فمضى إلى علي بن أبي طالب فأخبره فبعث لي فأحضرني فقال لي: أتتكلّم في كتاب الله بغير علم؟ والله إن أول غزوة كانت لبدر، وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود إنّما العاديات من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منّى. ونظير هذا ما حدّثناه البهلول بن إسحاق بن البهلول بن حسان ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا كثير بن عبد الله المزنيّ قال: كنت عند محمد بن كعب القرظيّ فجاءه رجل فقال: يا أبا حمزة إني رجل صرورة لم أحجج قطّ فعلّمني مما علّمك الله سبحانه. قال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاستفتح فاقرأ {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} خمس آيات {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) أتدري ما هذا؟ قال: لا. قال: «والعاديات ضبحا» الرفع من عرفة {فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} (2) إلى المزدلفة {فَالْمُغِيرََاتِ صُبْحاً} (3) لا تغير حتى تصبح {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) يوم منى. قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى {فَالْمُورِيََاتِ قَدْحاً} فمذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود أنها الإبل، وروى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس قال: الناس يورون النار ليراها غيرهم، وروى غيرهما عن ابن عباس الخيل، وقال قتادة: الخيل تشعل الحرب، وقال عكرمة: الموريات الألسن. قال أبو جعفر: ولا دليل يدلّ على تخصيص شيء من هذه الأقوال فالصواب أن يقال ذلك لكل من أورى على أن المعنى واحد إذا كان التقدير: وربّ العاديات ونصبت {ضَبْحاً} لأنه مصدر في موضع الحال. وعن ابن عباس الضّبح نفخها
بمشافرها. ونصبت {قَدْحاً} على المصدر لأن معنى «فالموريات» فالقادحات «فالمغيرات» عن ابن عباس أنها الخيل وعن ابن مسعود أنها الإبل «ضبحا» ظرف زمان {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} (4) قال الفراء: الهاء كناية عن الوادي، ولم يتقدّم له ذكر لأنه قد عرف المعنى، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: النقع الغبار. وسطن ووسّطن وتوسّطن واحد. وعن ابن عباس {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} (5) من العدو. عن ابن مسعود «جمعا» المزدلفة.
[سورة العاديات (100): آية 6]
{إِنَّ الْإِنْسََانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)}
أهل التفسير على أن معناه لكفور أي كفور لنعمه. قال الحسن: يتسخّط على ربه جلّ وعزّ ويلومه فيما يلحقه من المصائب، وينسى النعم.
[سورة العاديات (100): آية 7]
{وَإِنَّهُ عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ (7)}
{وَإِنَّهُ} أي وإنه ربه {عَلى ََ ذََلِكَ لَشَهِيدٌ}.
[سورة العاديات (100): آية 8]
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}
{وَإِنَّهُ} أي وإن الإنسان {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} في معناه أقوال: قيل: لشديد القوى، وقول الفراء (1): أن المعنى أن الإنسان للخير لشديد الحب فالتقدير عنده إنه لحبّ الخير لشديد الحب ثم حذف ما بعد شديد، والقول الثالث سمعت علي بن سليمان يقول كما تقول: أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك أي وإنه من أجل حبّ الخير أي المال لشديد أي لبخيل.
[سورة العاديات (100): آية 9]
{أَفَلاََ يَعْلَمُ إِذََا بُعْثِرَ مََا فِي الْقُبُورِ (9)}
لا يجوز أن يعمل في «إذا» «يعلم»، ولا «لخبير»، ولكن العامل فيها عند محمد بن يزيد «بعثر»، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
[سورة العاديات (100): آية 10]
{وَحُصِّلَ مََا فِي الصُّدُورِ (10)}
يقول أبرز.
[سورة العاديات (100): آية 11]
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
كسرت «إنّ» من أجل اللام. حكى علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه يجوز فتحها مع اللام لأنها زائدة، دخولها كخروجها إلّا أنها أفادت التوكيد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 285.(5/174)
101 - شرح إعراب سورة القارعة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القارعة (101): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الْقََارِعَةُ (1)}
مرفوعة بالابتداء والخبر في الجملة وقيل: هي مرفوعة بإضمار فعل والتقدير:
ستأتي القارعة. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {الْقََارِعَةُ} من أسماء القيامة عظّم الله وحذّر منه.
[سورة القارعة (101): آية 3]
{وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْقََارِعَةُ (3)}
قال أبو جعفر: {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْقََارِعَةُ} (3) تعظيم لها ونصب {يَوْمَ}: ستأتي على قول من أضمره، ومن لم يضمره فالتقدير عنده: القارعة.
[سورة القارعة (101): الآيات 4الى 5]
{يَوْمَ يَكُونُ النََّاسُ كَالْفَرََاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبََالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)}
{يَوْمَ يَكُونُ النََّاسُ كَالْفَرََاشِ الْمَبْثُوثِ} (4) الكاف في موضع نصب خبر يكون، وكذا: {وَتَكُونُ الْجِبََالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (5) وفي قراءة عبد الله (كالصوف) والعهن جمع عهنة.
[سورة القارعة (101): آية 6]
{فَأَمََّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوََازِينُهُ (6)}
{مَنْ} في موضع رفع بالابتداء والجملة الخبر. قال الفراء (1): موازينه أي وزنه.
[سورة القارعة (101): آية 7]
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ (7)}
قال مجاهد: يرضى بها. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: ذات رضى على النسب.
[سورة القارعة (101): الآيات 8الى 9]
{وَأَمََّا مَنْ خَفَّتْ مَوََازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هََاوِيَةٌ (9)}
قول الأخفش: إن معنى أمّه مستقرّه، وهاوية نار وأنشد: [الطويل]
__________
(1) انظر معاني الفرّاء 3/ 287.(5/175)
583 - هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يؤدّي اللّيل حين يؤوب (1)
وقال غيره: «فأمّه هاوية» أصله هاو أي هالك لأن أمّ الشيء أصله ومعظمه ومنه قيل للحمد: أمّ القرآن، ومنه قول الشاعر: [الوافر] 584 لأمّ الأرض ويل ما أجنّت ... غداة أضرّ بالحسن السّبيل (2)
[سورة القارعة (101): آية 10]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا هِيَهْ (10)}
جيء بالهاء لأن من العرب من يقول: هي بإسكان الياء فتثبت الهاء على لغة من حرّكها ليفرق بينها وبين لغة من أسكن فإن وصلت لم يجز إثبات الهاء لأن الحركة قد ثبتت، والصواب أن يوقف عليه يتّبع السواد ولا يلحن، وسمعت علي بن سليمان يقول: من قال: أصل وأريد الوقوف فقد أخطأ لأنه يلزمه أن لا يعرب الأسماء في الأدراج ويريد الوقوف. قال أبو جعفر: وهذا حجّة بيّنة صحيحة.
[سورة القارعة (101): آية 11]
{نََارٌ حََامِيَةٌ (11)}
بإضمار مبتدأ.
__________
(1) الشاهد لكعب بن سعد الغنويّ في الأصمعيات ص 95، ولسان العرب (أمم) و (هوا)، وتهذيب اللغة 15/ 602، وجمهرة اللغة 229، والأصمعيات 95، وسمط اللآلي ص 773، وجمهرة أشعار العرب 703، وتاج العروس (أم) و (هوى)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 492، والمخصّص 12/ 182، ولسان العرب (هبل).
(2) الشاهد لعبد الله بن عنمة الضبيّ في لسان العرب (ضرر) و (حسن)، والتنبيه والإيضاح 2/ 153، وتهذيب اللغة 4/ 316، وجمهرة اللغة 535، ولعنمة بن عبد الله الضبيّ في تاج العروس (حسن)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 122، ومقاييس اللغة 2/ 58، ومجمل اللغة 2/ 62، وأساس البلاغة (سلف).(5/176)
102 - شرح إعراب سورة التكاثر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة التكاثر (102): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ (1) حَتََّى زُرْتُمُ الْمَقََابِرَ (2)}
أصوب ما قيل في معناه أنّ المعنى: ألهاكم التكاثر عن طاعة الله جلّ وعزّ إلى أن صرتم إلى المقابر فدفنتم، ودلّت هذه الآية على عذاب القبر لا بعدها {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3) أي إذا صرتم إلى المقابر. وروي عن زرّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نزل في عذاب القبر ألهاكم التكاثر، وقرأ إلى {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3) قال الفراء:
واحد المقابر مقبرة ومقبرة وبعض أهل الحجاز يقول: مقبرة، وقد سمعت مشرقة ومشرقة ومشرقة.
[سورة التكاثر (102): الآيات 3الى 4]
{كَلاََّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاََّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}
{ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (4) تكرير عند الفراء. وأحسن منه ما قاله الضحاك قال:
الأولى للكفار، وذهب إلى أن الثانية للعصاة من المؤمنين.
[سورة التكاثر (102): الآيات 5الى 6]
{كَلاََّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}
{كَلََّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (5) مصدر، وحذف جواب لو. والتقدير: لو تعلمون أنكم ترون الجحيم لمّا تكاثرتم في الدنيا بالأموال وغيرها. قال الكسائي: جواب {لَوْ} في أول السورة أي لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر. وقرأ الكسائي {لَتَرَوُنَّ} (1) بضمّ التاء. حكاه أبو عبيد عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن أبي عبد الرّحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قرأ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهََا} (2) الأولى بضمّ التاء والثانية بفتحها. قال أبو جعفر:
والأولى عند الفرّاء (3) وأبي عبيد فتحها، لأن التكرير يكون متفقا. قال أبو جعفر:
والأحسن ألا يكون تكريرا، ويكون المعنى لترونّ الجحيم في موقف القيامة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 506.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 288.(5/177)
[سورة التكاثر (102): آية 7]
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهََا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهََا} إذا دخلتم النار {عَيْنَ الْيَقِينِ} مصدر لأن المعنى لتعايننّها عيانا.
[سورة التكاثر (102): آية 8]
{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
قيل: أي عن النعيم الذي يشغل عن طاعة الله جلّ وعزّ. وظاهر الكلام يدلّ على أنه عام، وأنّ الإنسان مسؤول عن كل نعيم تنعّم به في الدنيا من أين اكتسبه؟ وما قصد به؟ وهل فعل ما غيره أولى منه؟ ويسند الظاهر للأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عبد الملك قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عمّار بن أبي عمّار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جاءني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخرجنا أو قدمنا إليه رطبا أو بسرا وماء فقال: «هذا من النّعيم الذي تسألون عنه» (1). وحدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا داود بن مهران عن داود بن عبد الرّحمن عن محمد بن عيثم عن ابن عباس ثم {لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: الأمن والصحّة.
__________
(1) أخرجه النسائي في سننه الوصايا ب 4، وأحمد في مسنده 3/ 338، وموارد الظمآن للهيثمي (2531)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 120، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 317.(5/178)
103 - شرح إعراب سورة العصر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة العصر (103): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالْعَصْرِ (1)}
التقدير: وربّ العصر، ويدخل فيه كلّ ما يسمى بالعصر لأنه لم يقع اختصاص تقوم به حجة فالعصر الدهر، والعصر العشي، والعصر الملجأ.
[سورة العصر (103): آية 2]
{إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}
الإنسان بمعنى الناس، والخسر دخول النار. فهو أكبر الخسران.
[سورة العصر (103): آية 3]
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
{الَّذِينَ} في موضع استثناء من موجب {آمَنُوا} صلته، وكذا {وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوََاصَوْا بِالصَّبْرِ} لأنه معطوف.(5/179)
104 - شرح إعراب سورة الهمزة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الهمزة (104): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
{وَيْلٌ} رفع بالابتداء ويجوز نصبه لأنه بمعنى المصدر كما يجوز قبوحا له منصوب إلّا أن الرفع في «ويل» أحسن لأنه غير مأخوذ من فعل والنصب في قبوح أجود لأنه مأخوذ من فعل. وفي نصب «ويل» قول آخر، يكون التقدير قولوا الزم الله ويلا لكل همزة، وهذا مذهب سيبويه (1). قال مجاهد: ليست هذه خاصّا لأحد. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح في العربية لأن سبيل كل أن تكون غير خاصة. قال أبو العالية: «الهمزة» الذي يعيب الناس في وجوههم، واللّمزة الذي يعيبهم من ورائهم.
وسمعت علي بن سليمان يستحسن هذا القول. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس ويضربهم بيده، واللّمز الذي يلمزهم ويعيبهم بلسانه.
[سورة الهمزة (104): آية 2]
{الَّذِي جَمَعَ مََالاً وَعَدَّدَهُ (2)}
{الَّذِي} في موضع رفع بمعنى هو الذي، ويجوز النصب بمعنى أعني الذي، ويجوز الخفض على البدل من كلّ. قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «جمع» (2) بالتشديد. وقرأ الحسن وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وشيبة ونافع {جَمَعَ}. قال أبو جعفر: «جمع» بالتخفيف يكون للقليل والكثير، وجمّع لا يكون إلا للكثير. وروي عن الحسن {وَعَدَّدَهُ} بالتخفيف، وهي قراءة شاذة إن كان يريد عدّه ثم أظهر التضعيف كما قال: [البسيط] 585إنّي أجود لأقوام وإن ضننوا (3)
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 396.
(2) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510.
(3) مرّ الشاهد رقم (176).(5/180)
وهو بعيد، وإنما يجوز في الشعر وإن كان يريد جمع مالا وجمع عدده على أنه مفعول أي أحصى عدده فهو جائز.
[سورة الهمزة (104): الآيات 3الى 4]
{يَحْسَبُ أَنَّ مََالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاََّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)}
{يَحْسَبُ أَنَّ مََالَهُ أَخْلَدَهُ} (3) يقال: هي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم بكسر السين جاء على فعل يفعل، وله نظائر يسيرة قد ذكرناها. «أنّ» وما عملت فيه في موضع المفعولين، والمعروف من قراءة الحسن «لينبذانّ في الحطمة» (1) بعينه وماله، وقد روي عنه (لينبذنّ) بضم الذال. فقيل لا يجوز لأنه إنما تقدّم ذكر اثنين، وقيل: هو للهمزة واللمزة والذي جمع مالا.
[سورة الهمزة (104): آية 5]
{وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)}
قال الفراء: اسم للنار، ولو كانت بغير ألف ولام لم تنصرف. قال أبو جعفر:
يقال: حطمه إذا كسّره كما قال: [الرجز] 586قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم (2)
ورجل حطم أي أكول.
[سورة الهمزة (104): الآيات 6الى 7]
{نََارُ اللََّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}
{نََارُ اللََّهِ} أي هي نار الله «الموقدة» نعت للنار، وكذا {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} (7) اطّلعت على فلان وطلعت أي بلغت وواحد الأفئدة فؤاد.
[سورة الهمزة (104): آية 8]
{إِنَّهََا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)}
خبر «إن» يقال: آصدت أوصد فمن قال: أوصدت قال: موصدة فلم يهمز، ومن قال: آصدت قال: مؤصدة، وجاز أن يخفّف الهمزة فيقول: موصدة واللغتان حسنتان كثيرتان، وكذا أكّدت ووكدت وهو التأكيد والتوكيد، وكذا أرّخت وورّخت وهو التأريخ والتوريخ، وأكفت وأوكفت وهو الاكاف والوكاف.
[سورة الهمزة (104): آية 9]
{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}
{فِي عَمَدٍ} هكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وزيد بن
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 510، ومختصر ابن خالويه 179، ومعاني الفراء 3/ 290.
(2) الشاهد لرشيد بن رميض في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 355، والأغاني 15/ 199، وللأغلب العجلي في الحماسة الشجرية 1/ 144، وللحطم القيسي في الكتاب 3/ 246، وشرح المفصّل 1/ 62، وله أو لأبي زغيبة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 2/ 286، وله أو لأبي زغبة الخزرجي أو لرشيد بن رميض في لسان العرب (حطم)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (حطم) وجمهرة اللغة 830، وسمط اللآلي 59، وشرح المفصّل 6/ 112.(5/181)
ثابت وهي قراءة عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون وأبو عمرو {فِي عَمَدٍ} (1) وإذا جاء الشيء على هذا الاجتماع حظر في الديانة أن يقال:
إحداهما أولى من الأخرى. وأجود ما قيل هكذا أنزل كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» (2) ولكن تلخّص القراءات من العربية فيقال: عمود وعمد فهكذا فعول وفعيل وفعال يجمعن على فعل نحو كتاب وكتب ورغيف ورغف، وقد قالوا: أديم وأدم، وهذا كعمود وعمد اسم للجميع لا جمع على الحقيقة وكذا أفيق وأفق وإهاب وأهب ونعيم ونعم، وقال: خادم وخدم فأما معنى «في عمد» فقد تكلّم فيه أهل التفسير وأهل العربية. قال عطاء الخراساني يعني عمدا من نار ممددة عليهم، وقال ابن زيد: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} أي هم مغلّلون بعمد من حديد قد احترقت فصارت نارا، وقيل: توصد عليهم الأبواب أي تطبق ويقام عليها عمد من حديد ليكون ذلك أشدّ ليأسهم من الخروج، وقيل «في عمد» أي بين عمد، كما تقول: فلان في القوم أي بينهم، وقيل مع عمد، كما قال: [الطويل] 587 وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال (3)
أي مع، وسمعت علي بن سليمان يقول: «في» على بابها أي ثلاثين شهرا داخلة في ثلاثة أحوال. قال أبو جعفر ومن أجلّ ما يروى في الآية ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: مثل أبوابنا هذه فقال: لا، إنّ بعضها فوق بعض «ممدّدة» بالخفض نعت لعمد، وبالرفع نعت لموصدة أو خبر بعد خبر.
__________
(1) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510ومعاني الفراء 3/ 290.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 232، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 150، وابن كثير في تفسيره 2/ 9، والهيثمي في موارد الظمآن (1779).
(3) مرّ الشاهد رقم (396).(5/182)
105 - شرح إعراب سورة الفيل
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفيل (105): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحََابِ الْفِيلِ (1)}
حذفت الألف من ترى للجزم، والأصل الهمزة فألقيت حركة الهمزة على الراء فحذفت الهمزة «كيف» في موضع نصب بفعل، وهي غير معربة لأنها في معنى الحروف وإن كانت اسما، وفتحت الفاء لالتقاء الساكنين.
[سورة الفيل (105): آية 2]
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}
أي في تضليل عما أرادوه.
[سورة الفيل (105): آية 3]
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبََابِيلَ (3)}
من أحسن ما روي فيه عن المتقدمين ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدثنا عفّان قال: حدّثنا حماد عن عاصم عن زرّ عن عبد الله {طَيْراً أَبََابِيلَ} قال: فرقا. وقرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا شهاب عن إبراهيم عن حميد عن أبي خالد عن أبي صالح «طيرا أبابيل» قال: جمعا بعد جمع. قال أبو جعفر: ومعروف في كلام العرب جاءوا أبابيل أي جماعة بعد جماعة عظيمة كثيرة بعد جماعة. مشتق من أبل عليه إذا كثر وجمع ومنه سمّيت الإبل لعظم خلقها، وقد قيل: إنّ معنى {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] أنها السحاب لعظمها وإن كان القتبي ردّ هذا التفسير بغير حجّة تثبت. وأصح ما قيل في واحد الأبابيل ما قاله محمد بن يزيد قال: واحدها ابّيل كسكّين وسكاكين.
[سورة الفيل (105): آية 4]
{تَرْمِيهِمْ بِحِجََارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
جمعه سجاجيل.
[سورة الفيل (105): آية 5]
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}
الكاف في موضع نصب مفعول ثان أي مأكول ما فيه، وهو قشر الحنطة، ويجوز أن يكون بمعنى مأكول للبهائم.(5/183)
106 - شرح إعراب سورة لإيلاف (قريش)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة قريش (106): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {لِإِيلاََفِ قُرَيْشٍ (1) إِيلاََفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتََاءِ وَالصَّيْفِ (2)}
{لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ} (1) مذهب الأخفش أن المعنى فعل بهم ذلك ليؤلف قريشا.
وهذا القول الخطأ فيه بين، ولو كان كما قال لكانت لإيلاف بعض آيات «الم تر» وفي إجماع المسلمين على الفصل بينهما ما يدلّ على غير ما قال، وأيضا فلو كان كما قال لم يكن آخر السورة تماما، وهذا غير موجود في شيء من السور، وقيل في الكلام حذف والمعنى أعجبوا لإيلاف قريش. {رِحْلَةَ الشِّتََاءِ وَالصَّيْفِ}. وتركهم عبادة رب هذا البيت وهذا أعني الحذف مذهب الفراء (1)، ويحتجّ له بأن العرب تقول: لله أبوك فيكون في اللام معنى التعجب وأصبح من هذين القولين، وهو قول الخليل بن أحمد، أن المعنى لأن يؤلف الله قريشا إيلافا.
[سورة قريش (106): آية 3]
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هََذَا الْبَيْتِ (3)}
أي لهذا فليعبدوه. قال أبو جعفر: فهذا لا حذف فيه وهو من حسن النحو ودقيقه، وإن كان أصحاب كتب المعاني قد أغفلوه. «إلفهم» مخفوض على البدل كما تقول: عجبت من إحسانك إحسانك إلى زيد، فأبدلت الثاني من الأول، وزدت في الفائدة للبيان وروي عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ «إلفهم» (2) وروي عنه «إلافهم» وهما مصدران من ألف يألف على فعل وفعال ففعل مثل قولهم: حلم حلما وعلم علما وسخر سخرا، وفعال مثل لقيته لقاء وصمت صياما وكتبت كتابا، أجاز الفراء (3)
{لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ إِيلََافِهِمْ} على المصدر. قال أبو جعفر: ويجوز النصب أيضا في إلفهم وإيلافهم بمعنى يألفون إلفا. {رِحْلَةَ الشِّتََاءِ وَالصَّيْفِ} منصوبة بإيلاف وأجاز الفراء إيلافهم
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 293.
(2) انظر تيسير الداني 182، ومختصر ابن خالويه 180.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 293.(5/184)
رحلة الشتاء والصّيف. قال أبو جعفر: يكون هذا على البدل، وتقديره: إيلافهم إيلاف رحلة الشتاء والصيف.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هََذَا الْبَيْتِ} (3) وإن شئت كسرت اللام على الأصل.
[سورة قريش (106): آية 4]
{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}
{الَّذِي} في موضع نصب نعت لربّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي هو الذي {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} صلة الذي {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} داخل في الصلة.(5/185)
107 - شرح إعراب سورة أرأيت (الماعون)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الماعون (107): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)}
هذه القراءة البيّنة، ويجوز أن تأتي الهمزة بين بين فتقول: أرأيت ويجوز أريت بحذف الهمزة، وعن عبد الله بن مسعود {أَرَأَيْتَكَ} (1) والكاف زائدة للخطاب وهمزة بين بين متحركة بوزنها مخففة، كذا قال سيبويه، فأما قول من قال: هي لا ساكنة ولا متحركة فمحال لأنها إذا لم تكن ساكنة فهي متحرّكة وإذا لم تكن متحرّكة فهي ساكنة فيجب على قوله أن تكون ساكنة متحرّكة. والدليل على أنها متحركة قوله: [البسيط] 588 أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر مفند خبل (2)
فلو قلت: أأن لكان الوزن واحدا. وهمزة بين بين كثيرا ما يغلط فيها، وهي من أصعب ما في النحو، ومن دليل ما قلنا قوله عزّ وجلّ {سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} * [البقرة:
6] فلو كانت همزة بين بين ساكنة لاجتمع ساكنان، وكذا أرأيت الياء ساكنة وهمزة بين بين متحركة، ومن أسكنها وكسر الياء فقد جاء بما لا يجوز وما لا وجه له ولا تقدير في العربية، ويجوز أن يكون «أرأيت» من رؤية العين فلا يكون في الكلام حذف وأن يكون من رؤية القلب فيكون التقدير: أرأيت الذي يكذّب بالدين بعد ما ظهر له من البراهين أليس مستحقا عذاب الله.
[سورة الماعون (107): آية 2]
{فَذََلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)}
وقرأ أبو رجاء {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} مخفّفة أي يتركه.
[سورة الماعون (107): آية 3]
{وَلاََ يَحُضُّ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ (3)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 517، ومعاني الفراء 3/ 294.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، والكتاب 3/ 176، وجمهرة اللغة 872، وشرح أبيات سيبويه 2/ 75، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 45، وشرح شواهد الإيضاح ص 262، وشرح شواهد الشافية 332، ولسان العرب (قبل) و (منن)، وبلا نسبة في شرح المفصّل 3/ 83، والمقتضب 1/ 155.(5/186)
قال الفراء: أي لا يحافظ على طعام المسكين ولا يأمر به.
[سورة الماعون (107): الآيات 4الى 5]
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاََتِهِمْ سََاهُونَ (5)}
قال أبو العالية: هو الّذي يسجد ويقول هكذا وهكذا أو التفت عن يمينه وشماله.
قال أبو جعفر: وأولى من هذا القول، لعلوّ من قال به ولصحّته في العربية، ما حدثناه علي بن الحسين عن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن طلحة بن مصرّف عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال له رجل: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلََاتِهِمْ سََاهُونَ} (5) أهو حديث النفس في الصلاة؟ قال: كلّنا نجد ذلك، ولكنه يضيّعها لوقتها. وفي غير رواية طلحة بن مصرف أن سعدا قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: الذين يؤخّرونها عن وقتها.
[سورة الماعون (107): آية 6]
{الَّذِينَ هُمْ يُرََاؤُنَ (6)}
أي لا يصلّون خوفا من عقاب ولا رجاء لثواب، ولكن لينظرهم المسلمون فلا يسفكون دماءهم وهم المنافقون.
[سورة الماعون (107): آية 7]
{وَيَمْنَعُونَ الْمََاعُونَ (7)}
قد تكلّم العلماء في معناه كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن الفراء (1) حدّثني قيس بن الربيع عن السدّي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه، قال: الماعون الزكاة، ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس باختلاف، وعن ابن عباس:
الماعون ما يتعاطاه الناس، وحكى الفراء عن بعض العرب الماعون الماء، وأنشد:
[الوافر] 589يمجّ صبيره الماعون صبّا (2)
صبيره: سحابه. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد، وإنما هو الظن بالشيء اليسير الذي يجب ألّا يضنّ به مشتقّ من المعن، وهو الشيء القليل. والله أعلم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 259.
(2) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 3/ 295، وتفسير الطبري 30/ 214.(5/187)
108 - شرح إعراب سورة الكوثر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الكوثر (108): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ (1)}
النون والألف الأوليان في موضع نصب اسم إن والأخريان في موضع رفع و {الْكَوْثَرَ} مفعول ثان وهي في اللغة فوعل من الكثرة وقد اختلف العلماء في معناه فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه الحوض ولما قال سعيد بن جبير: الكوثر الخير الكثير قيل له فقد قيل: إنه الحوض فقال: الحوض من الخير الكثير، وقال الحسن وقتادة: الكوثر القرآن، وقرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا عبيد الله بن موسى ثنا شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ»} (1) قال: النبوة والقرآن.
[سورة الكوثر (108): آية 2]
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}
اختلف العلماء في معناها فمن أجلّ ذلك ما حدّثنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: ثنا أبو بكر بن شيبة ثنا وكيع عن يزيد بن أبي زيادة بن أبي الجعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله جلّ وعزّ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. قال أبو جعفر: وقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه أنه قال: يضع اليمين على الساعد الأيسر على صدره، وعنه وعن أبي هريرة يجعلهما تحت السرّة وهذا مذهب الكوفيين، ويحتجّ للقول الأول أنه أشبه بالآية لأن معنى وانحر أي اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان لشعبة عن عاصم بن كليب عن ابنه عن وائل بن حجر. قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان وشعبة عن عاصم بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول فصلّ لربك أي الصلوات كلّها وانحر اجعل يدك نحو نحوك فهذا قول وعن أبي جعفر محمد بن علي {وَانْحَرْ} ارفع يدك نحو نحرك إذا كبّرت للإحرام، وقال الضحاك: {وَانْحَرْ} واسأل، وقول رابع «وانحر»
واستقبل القبلة بنحرك كما حكي عن العرب هما يتناحران أي يتقاتلان. قال أبو جعفر:(5/188)
اختلف العلماء في معناها فمن أجلّ ذلك ما حدّثنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: ثنا أبو بكر بن شيبة ثنا وكيع عن يزيد بن أبي زيادة بن أبي الجعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله جلّ وعزّ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. قال أبو جعفر: وقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه أنه قال: يضع اليمين على الساعد الأيسر على صدره، وعنه وعن أبي هريرة يجعلهما تحت السرّة وهذا مذهب الكوفيين، ويحتجّ للقول الأول أنه أشبه بالآية لأن معنى وانحر أي اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان لشعبة عن عاصم بن كليب عن ابنه عن وائل بن حجر. قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان وشعبة عن عاصم بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول فصلّ لربك أي الصلوات كلّها وانحر اجعل يدك نحو نحوك فهذا قول وعن أبي جعفر محمد بن علي {وَانْحَرْ} ارفع يدك نحو نحرك إذا كبّرت للإحرام، وقال الضحاك: {وَانْحَرْ} واسأل، وقول رابع «وانحر»
واستقبل القبلة بنحرك كما حكي عن العرب هما يتناحران أي يتقاتلان. قال أبو جعفر:
وليس هذا قول أحد من المتقدمين، وقول خامس عن أنس بن مالك قال: كان النبي ينحر ثم يصلّي حتى نزلت فصلّ لربك وانحر فصار يصلّي ثم ينحر، وقول سادس عليه أكثر التابعين، قال الحسن وعطاء أي صلّ العيد وانحر البدن. قال أبو جعفر: وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وبعض أهل النظر يميل إليه لأنه ظاهر المعنى أي انحر البدن، ولا تذبحها، وبعض الفقهاء يردّه لأن صلاة العيد ليست بفرض عند أحد من المسلمين، الضحية ليست بواجبة عنه أكثر العلماء كما روي أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيّان مخافة أن يتوهّم الناس أنّها واجبة، وكذا ابن عباس قال: ما ضحّيت إلا بلحم اشتريته، وفي الآية قول سابع، وهو أبينها، وهو مذهب محمد بن كعب قال: أخلص صلاتك لله وانحر له وحده. وهو قول حسن لأن الله جل وعز عرفه ما أكرمه به وأعطاه إياه فأمره أن يشكره على ذلك لئلا يفعل كما يفعل المشركون وأن تكون صلاته خالصة لله وحده ويكون نحره قاصدا به ما عنده الله جلّ وعزّ لا كما يفعل الكفار.
[سورة الكوثر (108): آية 3]
{إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
{إِنَّ شََانِئَكَ} قال ابن عباس: عدوك أبا جهل، وقيل العاصي بن وائل {هُوَ الْأَبْتَرُ} أي المنقطع الذّكر من الخير لا أحد يا قوم بدينه، ولا يذكره بخير. فكان هذا من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه خبر بما لم يقع فكان كما أخبر به، وقد قيل: لما أنزل الله {إِنَّ شََانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3) لم يولد له بعد ذلك، والأول أصحّ، وأصله من بتره أي قطعه.(5/189)
109 - شرح إعراب سورة الكافرين
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الكافرون (109): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ (1)}
{قُلْ} في موضع جزم عند الفراء على حذف اللام، وسمعت علي بن سليمان يقول: لو كان كما قال لكان بالتاء. وهو عند البصريين غير معرب {يََا أَيُّهَا} «يا» حرف نداء وضممت أيا لأنه منادى مفرد قد مرت العلة فيه {الْكََافِرُونَ} نعت لأي أو عطف البيان. قال محمد بن يزيد: ليس في هذا تكرير وإنما جهل من قال: إنه مكرّر اللغة، والمعنى {قُلْ يََا أَيُّهَا الْكََافِرُونَ} (1)
[سورة الكافرون (109): الآيات 2الى 5]
{لاََ أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ (2) وَلاََ أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ (3) وَلاََ أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ (4) وَلاََ أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ (5)}
{لََا أَعْبُدُ مََا تَعْبُدُونَ} (2) في هذا الوقت، وكذا {وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ} (3) انقضى هذا، ثم قال {وَلََا أَنََا عََابِدٌ مََا عَبَدْتُّمْ} (4) فيما استقبل {وَلََا أَنْتُمْ عََابِدُونَ مََا أَعْبُدُ} (5) مثله، وكان في هذا دلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن كل من خاطبه بهذا المخاطبة ثم لم يسلم منهم أحد، وكذا الذين خاطبهم بقولهم {سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} * [البقرة: 6]. {أَنْتُمْ عََابِدُونَ} مبتدأ وخبر، وكذا {أَنََا عََابِدٌ} على حذف الواو، ومعناها ولم تنصب «لا» كما تنصب «ما» لأن «ما» أدخل في شبه ليس فنصبت كما نصبت ليس.
[سورة الكافرون (109): آية 6]
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
{لَكُمْ دِينُكُمْ} مبتدأ، وكذا {وَلِيَ دِينِ} (1) وحذفت الياء من ديني لأنه رأس آية فحسن الحذف لتتفق الآيات، ومن فتح الياء في قوله «ولي» قال: هي اسم فكرهت أن أخلّ به، ومن أسكنها قال: قد اعتمدت على ما قبلها في موضع نصب.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 523 (قرأ سلام «ديني» بالياء وصلا ووقفا، وحذفها القرّاء السبعة).(5/190)
110 - شرح إعراب سورة إذا جاء نصر الله (النصر)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النصر (110): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ (1)}
{إِذََا} ظرف زمان نصب بجاء {نَصْرُ اللََّهِ} رفع بجاء ويجمع على أنصار، والقياس أنصر {وَالْفَتْحُ} عطف عليه.
[سورة النصر (110): آية 2]
{وَرَأَيْتَ النََّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللََّهِ أَفْوََاجاً (2)}
{وَرَأَيْتَ النََّاسَ يَدْخُلُونَ} «يدخلون» في موضع نصب على الحال أو على خبر رأيت {أَفْوََاجاً} نصب على الحال جمع فوج، والقياس فوج أفوج استثقل الحركة في الواو فشبّهوا فعلا بفعل.
[سورة النصر (110): آية 3]
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كََانَ تَوََّاباً (3)}
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي اجعل تسبيحك بالحمد {وَاسْتَغْفِرْهُ} وكان يقول صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة» (1) {إِنَّهُ كََانَ تَوََّاباً} خبر كان، والجملة خبر إنّ وكانت في هذه السورة دلالة على نبوّته صلّى الله عليه وسلّم لأنها نزلت قبل الفتح، قال ابن عباس: فعرف أنه إذا كان الفتح فعددنا أجله صلّى الله عليه وسلّم. قال قتادة: نزلت سورة الفتح {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ} بالمدينة.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 397، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 52، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 75.(5/191)
111 - شرح إعراب سورة تبّت (المسد)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المسد (111): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {تَبَّتْ يَدََا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
في «تبّ» الأولى قولان: أحدهما أنه دعاء، والآخر أنه خبر. وفي إسكان التاء قولان: أحدهما أنها لما كانت حرفا وجب لها السكون، والآخر أنه لم تبق لها حركة فأمسكت {يَدََا} فيه قولان: أحدهما أنه مجاز أي تبّ، والآخر أنه على الحقيقة كما يروى أن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله جلّ وعزّ من ذلك، وأنزل تبّت يدا أبي لهب، أي خسرت يدا أبي لهب، فيه قولان: أحدهما أن علامة الخفض الياء، والقول الآخر أنه معرب من جهتين هذا قول الكوفيين {وَتَبَّ} فيه قولان: أحدهما أن فيه قد مضمرة كما روي عن ابن مسعود أنه قرأ «تبّت يدا أبي لهب (1) وقد تب»، والقول الآخر أنه خبر وأن «قد» لا تضمر لأنها حرف معنى.
[سورة المسد (111): آية 2]
{مََا أَغْنى ََ عَنْهُ مََالُهُ وَمََا كَسَبَ (2)}
{مََا أَغْنى ََ عَنْهُ مََالُهُ} في «ما» قولان أحدهما أنها في موضع نصب بأغنى، والقول الآخر أنها لا موضع لها من الإعراب وأنها نافية. {وَمََا كَسَبَ} فيه قولان: أحدهما أنه يراد به ولده هذا قول ابن عباس، والقول الآخر ما كسبه من شيء.
[سورة المسد (111): آية 3]
{سَيَصْلى ََ نََاراً ذََاتَ لَهَبٍ (3)}
فيه قولان: أحدهما أن الوقوف عليه ذاه بالهاء لأن تأنيث الأسماء بالهاء، والآخر أن الوقوف ذات لأنه لا ينفصل مما بعده في المعنى.
[سورة المسد (111): آية 4]
{وَامْرَأَتُهُ حَمََّالَةَ الْحَطَبِ (4)}
{وَامْرَأَتُهُ} فيه قولان: أحدهما أنها مرفوعة لأنها معطوفة على المضمر الذي في سيصلى، وحسن العطف على المضمر لطول الكلام والقول الآخر أنها مرفوعة بالابتداء
__________
(1) انظر تيسير الداني 183 (قرأ ابن كثير «لهب» بإسكان الهاء والباقون بفتحها).(5/192)
{حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} (1) بالرفع فيه قولان أحدهما أنه نعت لامرأته والآخر أنه خبر الابتداء. وفي نعتها هذا قولان، وهي أم جمل أخت أبي سفيان بن حرب أحد القولين أنها نعتت بهذا تخسيسا لها عقوبة لإيذائها النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقول الآخر أن يكون له زوجات غيرها فنعتت بهذا للفرق بينها وبينهنّ وفي موضع الجملة قولان: أحدهما أنها في موضع الحال، والتقدير ما أغنى عنه ماله وما كسب وامرأته حمالة الحطب، والقول الآخر أنها خبر «ما» في موضع الحال، ومن قرأ {حَمََّالَةَ الْحَطَبِ} (2) ففي قراءته قولان: أحدهما أنه منصوب على الحال لأنه يجوز أن تدخل فيه الألف واللام فلما حذفتهما نصب على الحال، والقول الآخر أنه منصوب على الذمّ أي أعني حمالة الحطب كما قال: [الرجز] 590نحن بني ضبّة أصحاب الجمل (3)
وقال رؤبة: [الرجز] 591أنا ابن سعد أكرم السّعدينا (4)
[سورة المسد (111): آية 5]
{فِي جِيدِهََا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}
{فِي جِيدِهََا} فيه قولان: أحدهما أنه خبر بعد خبر عن «وامرأته»، والقول الآخر أن يكون خبرا منقطعا من الأول {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فيه قولان أحدهما أنه يراد به السلسلة التي تكون في عنقها في النار، والآخر أنه الحبل الذي كانت تحمل به الحطب.
__________
(1) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527.
(2) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527.
(3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ندس) و (جمل) و (قحل) وجمهرة اللغة 269، وتاج العروس (بجل) و (جمل) والكامل للمبرد 99.
(4) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه 191، والكتاب 2/ 155، وشرح المفصّل 1/ 47، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 460، وشرح المفصّل 1/ 46، والمقتضب 2/ 223.(5/193)
112 - شرح إعراب سورة قل هو الله أحد (الإخلاص)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الإخلاص (112): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ (1)}
{هُوَ} في موضع رفع بالابتداء كناية عن الحديث على قول أكثر البصريين والكسائي أي الحديث الذي هو الحق الله أحد.
[سورة الإخلاص (112): آية 2]
{اللََّهُ الصَّمَدُ (2)}
فيه ست تقديرات (1): أحسنها أن يكون قولك {اللََّهُ} رفعا بالابتداء {الصَّمَدُ} نعته وما بعده خبره، والقول الثاني أن يكون الصمد الخبر، والقول الثالث أن يكون على إضمار مبتدأ، والرابع أن يكون خبرا بعد خبر، والخامس أن يكون بدلا من أحد، والسادس أن يكون بدلا من قولك الله الأول فإن قيل: ما معنى التكرير؟ فالجواب أن فيه التعظيم هكذا كلام العرب كما قال: [الخفيف] 592 لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (2)
فعظّم أمر الموت لما كرره ولم يضمره، ومثله {وَاسْتَغْفِرُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} * [المزمل: 20] فلا يجيز الفراء أن يكون كناية عن الحديث إلا أن يكون قبلها شيء. وهذا تحكّم على اللغة، وقال الله جلّ وعزّ {يََا مُوسى ََ إِنَّهُ أَنَا اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] وإنّي الابتداء وإنّ إنما تدخل على المبتدأ بإجماع، وأيضا فإن «هو» إن لم يكن كناية عن الحديث فهي مبتدأة في أول السورة فإن قال القائل: فعلام تعود؟ فحجّته الحديث أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصف لهم ربّه جلّ وعزّ وينسبه فأنزل الله جلّ وعزّ: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}. قال أبو جعفر: وقد أمليت هذا الحديث ليعرف على ما سمعته، وفيه أشياء منها أنه من حديث جرير عن الضحاك لم يسمع عن ابن عباس، وقال أحمد بن شعيب جويبر بن سعيد خراساني يروي عن الضحاك متروك الحديث، وفيه إسماعيل بن زياد ضعيف، وذكرناه على ما فيه ليعرف وفيه البعلبكي
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 529.
(2) مرّ الشاهد رقم (70).(5/194)
على ما قال الشيخ والأجود البعلي، وهذا جائز عند الكوفيين وقد بيّنّا في قوله جلّ وعزّ: {عَلَيْهََا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] والأخفش سعيد قوله كقول الفراء في أنه كناية عن مفرد «الله» خبر قال الأخفش «أحد» بدل من «الله». قرأ نصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق {أَحَدٌ اللََّهُ} بغير تنوين، وكذا يروى عن أبان بن عثمان حذفوا التنوين لالتقاء الساكنين، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 593ولا ذاكر الله إلّا قليلا (1)
وأنشد الفراء (2): [الخفيف] 594 كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشّام غارة شعواء ... تذهل الشّيخ عن بنيه وتلوي ... عن خدام العقلة العذراء
يريد عن خدام العقيلة فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قرءوا {أَحَدٌ اللََّهُ} والأجود تحريك التّنوين لالتقاء الساكنين، لأنه علامة فحذفه قبيح، وقراءة الجماعة أولى. وفي «أحد» ثلاثة أقوال منها: أن يكون أحد بمعنى وحد، ووحد بمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 595 كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد (3)
فأبدل من الواو همزة. والقول الثاني أن يكون الأصل واحدا أبدل من الواو همزة، وحذفت الهمزة لئلا يلتقي همزتان، والقول الثالث أن أحدا بمعنى أوّل كما تقول: اليوم الأحد، واليوم الأول مسموع من العرب، وقال بعض أهل النظر في أحد من الفائدة ما ليس في واحد لأنك إذا قلت: فلان لا يا قوم له واحد، جاز أن يا قوم له اثنان وأكثر فإذا قلت. فلان لا يا قوم له أحد، تضمن معنى واحد وأكثر. قال أبو جعفر:
وهذا غلط لا اختلاف بين النحويين أن أحدا إذا كان كذا لم يقع إلا في النفي كما قال:
[البسيط] 596 وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد (4)
فإذا كان بمعنى واحد وقع في الإيجاب تقول: ما مرّ بنا أحد، أي واحد فكذا {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 73.
(2) الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيّات في ديوانه 95، وتاج العروس (شمل) و (شعى)، ولسان العرب (شمل) و (خدم) و (شعا)، ومقاييس اللغة 3/ 190، ومجمل اللغة 3/ 161، وأساس البلاغة (شعو)، والشعر والشعراء 546، وسمط اللآلي 1/ 294.
(3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 31، والخصائص 3/ 262، والخزانة 1/ 521.
(4) مرّ الشاهد رقم (574).(5/195)
[سورة الإخلاص (112): آية 3]
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)}
ثبتت الواو في الثاني، وحذفت في الأول لأنها في الأول وقعت بين ياء وكسرة، وفي الثاني وقعت بين ياء وفتحة.
[سورة الإخلاص (112): آية 4]
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}
وقراءة حمزة «كفوا» وزعم هارون القارئ أن سليمان بن علي الهاشمي قرأ «ولم يكن له كفئا أحد» (1) والمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 597 لا تقذفنّي بركن لا كفاء له ... وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد (2)
وكذا كفيّ وجمعها أكفية فإذا قلت: كفوءا وكفء فجمعها أكفاء. يقال: فلان يمنع بناته إلا من الأكفاء فيجوز أن يكون كفو وكفء لغتين بمعنى واحد، ويجوز أن يكون كفء مخففا من كفؤ كما يقال: رسل وكتب «كفوا» خبر يكن و «أحد» اسم يكن. هذا قول أكثر النحويين على أن محمد بن يزيد غلّط سيبويه في اختياره أن يكون الظرف خبرا إذا قدّم لأنه يختار: إنّ في الدار زيدا جالسا، فخطّأه بالآية لأنه لو كان «له» الخبر لم ينصب «كفوا» على أنه خبر يكن على أن سيبويه قد أجاز أن يقدّم الظرف ولا يكون خبرا، وأنشد: [الرجز] 598ما دام فيهنّ فصيل حيّا (3)
والقصيدة منصوبة، وفي نصب كفو قول آخر ما علمت أن أحدا من النحويين ذكره وهو أن يكون منصوبا على أنه نعت نكرة متقدّم فنصب على الحال كما تقول:
جاءني مسرعا رجل، وكما قال: [مجزوء الوافر] 599لميّة موحشا طلل (4)
ولكن ذكر الفراء أنه يقال: ما كان ثمّ أحد نظير لزيد، فإن قدّمت قلت: ما كان ثمّ نظيرا لزيد أحد، ولم يذكر العلّة التي أوجبت هذا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 530، وتيسير الداني 183.
(2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 26، ولسان العرب (أثف)، و (ركن)، ومقاييس اللغة 1/ 57، وجمهرة اللغة 1036، وتهذيب اللغة 10/ 190وتاج العروس (أثف) ومجمل اللغة 1/ 167، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 173، والمنصف 1/ 193، وبلا نسبة في شرح شواهد الإيضاح 612.
(3) مرّ الشاهد رقم (276).
(4) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه 506والكتاب 2/ 120، وخزانة الأدب 2/ 211وشرح التصريح 1/ 375، وشرح شواهد المغني 1/ 249، ولسان العرب (وحش)، والمقاصد النحوية 3/ 163، وبلا نسبة في أسرار العربية 147، وأوضح المسالك 2/ 310، وتمامه:
«لعزّة موحشا طلل ... يلوح كأنّه خلل»(5/196)
113 - شرح إعراب سورة الفلق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفلق (113): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}
قد اختلف العلماء في معناه فقال جابر بن عبد الله: هو الصبح، وقال أبو عبد الرّحمن الحبليّ هي جهنّم، وقيل: هو الخلق وقيل: هو واد في جهنم. قال أبو جعفر:
وإذا وقع الاختلاف وجب أن يرجع إلى اللسان الذي نزل به القرآن، والعرب تقول: هو أبين من فلق الصبح وفرقه، يعنون الفجر.
[سورة الفلق (113): آية 2]
{مِنْ شَرِّ مََا خَلَقَ (2)}
تكون {مََا} مصدرا فلا تحتاج إلى عائد، ويجوز أن تكون بمعنى الذي فتكون الهاء العائدة عليه محذوفة.
[سورة الفلق (113): آية 3]
{وَمِنْ شَرِّ غََاسِقٍ إِذََا وَقَبَ (3)}
تكلّم العلماء في معنى الغاسق فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه القمر وقد ذكرناه بإسناده. وروى عقيل عن الزهري قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت. قال أبو جعفر: وأكثر أهل التفسير أن الغاسق الليل، ومنهم من قال: الكواكب فإذا رجع إلى اللغة عرف منها أنه يقال: غسق إذا أظلم فاتّفقت الأقوال لأن الشمس إذا غربت دخل الليل، والقمر بالليل يكون، والكواكب لا يكاد يطلع إلّا ليلا. فصار المعنى ومن شرّ الليل إذا دخل بظلمته فغطّى كل شيء. يقال: وقب إذا دخل، وقول قتادة: وقب ذهب لا يعرف.
[سورة الفلق (113): آية 4]
{وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ فِي الْعُقَدِ (4)}
جمع نفّاثة وفي المكسّر نوافث يقال: أنّهنّ نساء سواحر كنّ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاستعاذة منهن لأنهنّ يوهمن أنهنّ ينفعن أو يضررن فربّما لحق الإنسان في دينه ما يأثم به. فأما السحر فباطل.(5/197)
[سورة الفلق (113): آية 5]
{وَمِنْ شَرِّ حََاسِدٍ إِذََا حَسَدَ (5)}
قال ابن زيد: هم اليهود، وقال غيره: هو لبيد بن أعصم وبناته هنّ السواحر.
قال أبو جعفر: أولى ما قيل في هذا قول قتادة قال: هو لكلّ من (1)
__________
(1) موضع النقط بياض في الأصل.(5/198)
114 - شرح إعراب سورة الناس
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الناس (114): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النََّاسِ (1)}
الأصل عند سيبويه أناس والألف واللام بدل من الهمزة.
[سورة الناس (114): آية 2]
{مَلِكِ النََّاسِ (2)}
نعت يقال: ملك بيّن الملك، ومالك بيّن الملك والملك.
[سورة الناس (114): آية 3]
{إِلََهِ النََّاسِ (3)}
نعت أو بدل.
[سورة الناس (114): آية 4]
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوََاسِ الْخَنََّاسِ (4)}
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوََاسِ} هو الذي يوسوس الصدور كما قال الأعشى: [البسيط] 600 تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل (1)
{الْخَنََّاسِ} عن ابن عباس روايتان إحداهما أنه يوسوس ويجثم على صدر الإنسان فإذا ذكر الله جلّ وعزّ يخنس، والرواية الأخرى أنه يوسوس فإذا أطيع انخنس، القولان متفقان.
[سورة الناس (114): آية 5]
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النََّاسِ (5)}
في موضع خفض على النعت ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ.
[سورة الناس (114): آية 6]
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ (6)}
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، ولسان العرب (وسس)، و (عشرق)، و (زجل)، وتهذيب اللغة 3/ 277، وتاج العروس (وسس) و (عشرق) و (زجل)، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه 239.(5/199)
يقال: جنّيّ وجنّ وجنّة الهاء لتأنيث الجماعة، مثل حجار وحجارة. قال أبو جعفر: وسألت علي بن سلمان عن قوله عزّ وجلّ {وَالنََّاسِ} فكيف يعطفون على {الْجِنَّةِ} وهم لا يوسوسون؟ فقال: هم معطوفون على الوسواس، والتقدير: قل أعوذ بربّ الناس من شرّ الوسواس والناس. والذي قال حسن لأن التقديم والتأخير في الواو جائز حسن كثير كما قال: [الطويل] 601 جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوي (1)
وقال حسّان (2): [الطويل] 602 وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم غرّ ما ترام ومفخر ... وهم جبل الإسلام والنّاس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر ... بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فبدأ اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعليّ ثم جاء بعده بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو المقدم على الحقيقة.
صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا تم كتاب شرح إعراب القرآن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلّم تسليما حسبنا الله وكفى ونعم الوكيل.
__________
(1) الشاهد ليزيد بن الحكم بن العاص في أمالي القالي 1/ 67، والخزانة 1/ 495، والمقاصد النحوية 3/ 86.
(2) الأبيات لحسان بن ثابت في ديوانه 180.(5/200)