الأصداف التي قال فيها الحلية من الدرّ وغيره، ومن المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون وقال محمد بن يزيد قولا ثالثا هو أحسنها قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة، وليس هذا عنده لأنهما مختلطان ولكن جمعا ثم خبّر عن أحدهما كما قال جلّ وعزّ {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}
[يونس: 67] وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجّاج لرأيت خيرا وشرا، وكما تقول:
لو رأيت الأصمعيّ وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا، فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فيصيح كثير فكذا. {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا} فاجتمع في الأول وانفرد الملح بالثاني فصارا مجتمعين في كل هذا. قال: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوََاخِرَ} أي في الملح خاصة، ولولا ذلك لقال: فيهما وقد مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا شقّت الماء، كما قال طرفة: [الطويل] 354 يشقّ حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التّرب المفايل باليد (1)
وقيل: الأجل المسمّى هاهنا القيامة لأنها عند الله جلّ وعزّ مسمّاة لوقت معلوم {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مََا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: القطمير جلد النواة.
[سورة فاطر (35): آية 14]
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لاََ يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجََابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاََ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لََا يَسْمَعُوا دُعََاءَكُمْ} شرط ومجازاة. {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجََابُوا لَكُمْ} فيه معنى الأول وإن كانت لولا يجازى بها. قال قتادة {مَا اسْتَجََابُوا لَكُمْ} ما تبعوكم ولا قبلوا منكم. {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}. قال أبو إسحاق: أي يقولون: ما كانوا إيّانا يعبدون. {وَلََا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} قال قتادة: الله جلّ وعزّ أخبر أنه يكون هذا منكم يوم القيامة.
[سورة فاطر (35): آية 15]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ وَاللََّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ} بتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل رحمه الله ويجوز تخفيف الأولى وحذفها وتخفيفها جميعا وتحقيقهما جميعا. {وَاللََّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} تكون «هو» زائدة فلا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 20، ولسان العرب (حبب) و (فيل)، وكتاب العين 3/ 32، ومقاييس اللغة 2/ 28، والمخصّص 9/ 149، وتهذيب اللغة 4/ 10، وتاج العروس (فأل)، و (حبب) و (فيل).(3/249)
[سورة فاطر (35): آية 16]
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)}
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} شرط ومجازاة وفيه حذف تستعمله العرب كثيرا. والتقدير:
إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم وحذفت من «يشأ» الضمة التي كانت على الهمزة فلما سكنت حذفت الألف التي قبلها. {وَيَأْتِ} معطوف على يذهبكم.
[سورة فاطر (35): آية 18]
{وَلاََ تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى ََ حِمْلِهََا لاََ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ إِنَّمََا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقََامُوا الصَّلاََةَ وَمَنْ تَزَكََّى فَإِنَّمََا يَتَزَكََّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللََّهِ الْمَصِيرُ (18)}
{وَلََا تَزِرُ} مقطوع مما قبله والأصل توزر حذفت الواو اتباعا ليزر. {وََازِرَةٌ} نعت لمحذوف أي نفس وازرة، وكذا {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} قال الفراء (1): أي نفس مثقلة أو دابة قال: وهذا يقع للمذكّر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا {إِلى ََ حِمْلِهََا} والحمل ما كان على الظهر، وحمل المرأة وحمل النخلة حكاهما الكسائي بالفتح لا غير، وحكى ابن السكيت: إنّ حمل النخلة يفتح ويكسر {وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ} التقدير على قول الأخفش ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى، وأجاز الفراء (2): ولو كان ذو قربى قال أبو جعفر: وهذا جائز عند سيبويه، ومثله {وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] وتكون «كان» بمعنى وقع أو يكون الخبر محذوفا أي وإن كان فيمن تطلبون ذو عسرة، وحكى سيبويه: الناس مجزيّون بأعمالهم إن خير فخير، على هذا، وإن خيرا فخيرا، على الأول وحكى الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: بلغني أنّ اليهوديّ والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا ألم أكن قد أحسنت إليك فيقول: بلى فيقول: انفعني فلا يزال المسلم ينقص من عذابه، وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا وعليك مشفقا وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمل عني سيئة فيقول: إن الذي سألتني يسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيردّ عليه نحوا من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك فتحملي عني خطيئة لعلي أنجو فتقول: إنّ ذلك ليسير ولكنّي أخاف مما تخاف منه ثم تلا عكرمة {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى ََ حِمْلِهََا لََا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كََانَ ذََا قُرْبى ََ}. {إِنَّمََا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وهو ينذر الخلق كلهم فخصّ الذين يخشون ربّهم لأنهم الذين ينتفعون بالنذارة.
[سورة فاطر (35): الآيات 19الى 21]
{وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمََاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 368.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 368.(3/250)
{وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ} روي عن ابن عباس قال: المؤمن والكافر، قال:
و {الظُّلُمََاتُ} الضلالة و {النُّورُ} الهدى و {الظِّلُّ} الجنّة و {الْحَرُورُ} النار. قال الأخفش سعيد: «لا» زائدة والمعنى: ولا الظلمات والنور ولا الظل والحرور. وقيل: الحرور لا يكون إلّا بالليل، والسموم يكون بالنهار. وقيل: الحرور يكون فيهما. وهذا أصحّ القولين، لأن الحرور فعول من الحرّ، وفيه معنى التكثير أي الحرّ المؤذي.
وقرأ الحسن {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1) تحذف التنوين تخفيفا أي هم بمنزلة أهل القبول في أنّهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
[سورة فاطر (35): آية 25]
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتََابِ الْمُنِيرِ (25)}
{بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ} وفي موضع آخر {الزُّبُرِ} * [آل عمران: 184] بغير باء والمعنى واحد، غير أنّ الكثير في كلام العرب بغير باء وما بعده بالباء أيضا فتكون الباء إذا دخلت توكيدا أو عطف جملة على جملة وحذف الفعل لدلالة الأول عليه.
[سورة فاطر (35): آية 27]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ ثَمَرََاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهََا وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا وَغَرََابِيبُ سُودٌ (27)}
نصبت {مُخْتَلِفاً} لأنه نعت لثمرات و {أَلْوََانُهََا} مرفوع بمختلف وصلح أن يكون نعتا لثمرات لما عاد عليه من ذكره، ويجوز رفعه في غير القرآن ومثله: رأيت رجلا خارجا أبوه. {وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ} جمع جدّة. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقيل جدد مثل رغيف ورغف. {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا} رفع «مختلف» هاهنا ونصب ثمّ لأن ما قبله هاهنا مرفوع فهو نعت له، ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء والخبر.
[سورة فاطر (35): آية 28]
{وَمِنَ النََّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعََامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ كَذََلِكَ إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
فقيل هاهنا {أَلْوََانُهُ} وثمّ {«أَلْوََانُهََا»} لأن تقديره وخلق مختلف ألوانه. ومختلف نعت أقيم مقام المنعوت. والكاف في موضع نعت لأنها نعت لمصدر محذوف. {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} قال مجاهد: إنما العالم من يخشى الله جلّ وعزّ وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله جلّ وعزّ علما وبالاغترار به جهلا.
[سورة فاطر (35): آية 29]
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتََابَ اللََّهِ وَأَقََامُوا الصَّلاََةَ وَأَنْفَقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلاََنِيَةً يَرْجُونَ تِجََارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 295، ومختصر ابن خالويه 123.(3/251)
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتََابَ اللََّهِ} قال أحمد بن يحيى خبر «إنّ». {يَرْجُونَ تِجََارَةً لَنْ تَبُورَ}.
[سورة فاطر (35): الآيات 32الى 33]
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ بِإِذْنِ اللََّهِ ذََلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبََاسُهُمْ فِيهََا حَرِيرٌ (33)}
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا} هذه الآية مشكلة لأنه قال جلّ وعزّ {اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا} ثم قال جلّ وعزّ {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ} وقد كنا ذكرناها إلّا أنا نبيّنها هاهنا بغاية البيان وقد تكلم جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فمن أصحّ ما روي في ذلك ما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر ابن الإمام عن يوسف بن موسى عن وكيع بن الجراح قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس {«فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ»} قال: الكافر، وقرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حبيب عن الفضل بن موسى عن حسين عن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس (1) في قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتََابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنََا مِنْ عِبََادِنََا فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سََابِقٌ بِالْخَيْرََاتِ بِإِذْنِ اللََّهِ} قال: نجت فرقتان. فهذا قول: ويكون التقدير في العربية «فمنهم» فمن عبادنا «ظالم لنفسه» أي كافر، وقال الحسن: أي فاسق، ويكون الضمير الذي في يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. فأما معنى «الذين اصطفينا من عبادنا» ففيه قولان: أحدهما أن الذين اصطفوا هم الأنبياء صلوات الله عليهم أي اختيروا للرسالة، وقيل: المعنى الذين اصطفوا لإنزال الكتاب عليهم فهذا عام، وقيل الضمير في {يَدْخُلُونَهََا} يعود على الثلاثة الأصناف على أن لا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا، فمن روى عنه هذا القول أعني أنّ الذين يدخلونها هذه الثلاثة الأصناف عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم. ولولا كراهة الإطالة لذكرنا ذلك بأسانيده وإن كانت ليست مثل الأسانيد الأولى في الصحة وهذا القول أيضا صحيح عن عبيد بن عمرو وكعب الأحبار وغيرهما من التابعين والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر، والمقتصد: قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدّنيا حقّها، والآخرة حقّها فيكون «جنّات عدن يدخلونها» عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين. وفي الآية قول ثالث يكون «الظالم» صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته. فيكون «جنّات عدن يدخلونها» الذين سبقونا بالخيرات لا غير. وهذا قول
__________
(1) انظر تفسير الطبري 22/ 135.(3/252)
جماعة من أهل النظر قالوا: لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقد ذكرنا (1)
قول العلماء المتقدمين قبل هذا {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وقد حكي أنه يقال: أسوار وجمع إسوار أساوير (2)، وقد حكي أن في حرف أبي «أساوير» وحذف الياء من مفاعل هذا جائز غير أن المعروف أن الأسوار هو الرجل الجيّد الرمي من الفرس. {وَلُؤْلُؤاً} (3) قراءة أهل المدينة. قال أبو إسحاق:
لأن معنى من أساور ومعنى أساور واحد، والخفض قراءة أهل الكوفة، وهو أبين في العربية لأنه مخفوض معطوف على مخفوض. وقرأ عاصم الجحدري {جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا} (4) بكسر التاء تكون في موضع جرّ على البدل من الخيرات، ويجوز أن يكون في موضع نصب على لغة من قال: زيدا ضربته وزعم بعض أهل النظر أن قوله جلّ وعزّ: {يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ} للنساء لأن قوله جلّ وعزّ: {مِنْ عِبََادِنََا} مشتمل على الذكور والإناث. وهذا خطأ بيّن، لأنه لو كان للنساء لكان يحلّين ولكن هو للرجال لا غير إلّا أنه يجوز أن يحلّى به النساء فإذا حلّي به النساء فهو لأزواجهنّ.
[سورة فاطر (35): آية 34]
{وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنََا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}
{وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} عن ابن عباس قال: النار. وقال سعيد عن قتادة قال: كانوا يعملون في الدّنيا وينصبون ويلحقهم الحزن وقال شمر بن عطيّة في قول الله جلّ وعزّ {وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال: همّ الطّعام. قال:
{إِنَّ رَبَّنََا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} غفر لهم الذّنوب التي عملوها، وشكر لهم الخير الذي دلّهم عليه فعملوه.
[سورة فاطر (35): آية 35]
{الَّذِي أَحَلَّنََا دََارَ الْمُقََامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاََ يَمَسُّنََا فِيهََا نَصَبٌ وَلاََ يَمَسُّنََا فِيهََا لُغُوبٌ (35)}
{الَّذِي أَحَلَّنََا دََارَ الْمُقََامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} يكون «الذي» في موضع نصب نعت لاسم «إنّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أو على خبر بعد خبر إن، وعلى البدل من غفور، أو على البدل من المضمر الذي في «شكور» ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لاسم الله جلّ وعزّ قال الكسائي والفراء: {الْمُقََامَةِ}: الإمامة والمقامة: المجلس الذي يقام فيه. {لََا يَمَسُّنََا فِيهََا نَصَبٌ} أي تعب والنّصب الشرّ والنصب ما ينصب لذبح أو غيره وقرأ أبو عبد الرحمن {وَلََا يَمَسُّنََا فِيهََا لُغُوبٌ} (5) بفتح اللام يكون مصدرا كالوقود والطّهور وقيل هو ما يلغب منه.
__________
(1) انظر إعراب الآية 23سورة الرعد.
(2) انظر إعراب الآية 31سورة الكهف.
(3) انظر تيسير الداني 127.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 299، ومختصر ابن خالويه 123.
(5) انظر مختصر ابن خالويه 124، والبحر المحيط 7/ 300.(3/253)
[سورة فاطر (35): آية 36]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نََارُ جَهَنَّمَ لاََ يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاََ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذََابِهََا كَذََلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ والخبر {لَهُمْ نََارُ جَهَنَّمَ} ويجوز أن يكون الخبر {لََا يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (1) وحذفت النون لأنه جواب النفي. وقرأ الحسن يقضى عليهم فيموتون على العطف قال الكسائي {وَلََا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] بالنون في المصحف لأنه رأس آية، و {لََا يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} بغير نون لأنه ليس برأس آية ويجوز في كلّ واحد منهما ما جاز في صاحبه.
[سورة فاطر (35): آية 37]
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهََا رَبَّنََا أَخْرِجْنََا نَعْمَلْ صََالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنََّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مََا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجََاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهََا} الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه لأنهما مطبقتان، ويقال: اصطرخ إذا استغاث {رَبَّنََا أَخْرِجْنََا} أي يقولون {نَعْمَلْ صََالِحاً} جواب المسألة أي إن أخرجتنا عملنا صالحا غير الذي كنا نعمل {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} أي فيقال لهم، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عمّر ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» (2)، وكذلك روى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثل معناه وقال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مََا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال ستين سنة. {وَجََاءَكُمُ النَّذِيرُ} أي المنذر وفي فعيل معنى المبالغة. قيل: يعني به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو من أنذرهم، وقيل: يعني به الشيب والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة فاطر (35): آية 38]
{إِنَّ اللََّهَ عََالِمُ غَيْبِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (38)}
إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل والحال، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.
[سورة فاطر (35): آية 39]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاََئِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاََ يَزِيدُ الْكََافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاََّ مَقْتاً وَلاََ يَزِيدُ الْكََافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاََّ خَسََاراً (39)}
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ فِي الْأَرْضِ} جمع خليفة أي تخلفون من كان قبلكم وفي هذا معنى التنبيه والاعتبار أي فتحذرون أن تنزل بكم العقوبة، كما نزلت بمن كان قبلكم {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي عقوبة كفره.
__________
(1) وهذه قراءة عيسى أيضا، انظر البحر المحيط 7: 301، والمحتسب 2/ 201.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 405والمتقي في كنز العمال (42668)، وأبو نعيم في الحلية 3/ 258.(3/254)
{وَلََا يَزِيدُ الْكََافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلََّا مَقْتاً} مفعولان، وكذا {وَلََا يَزِيدُ الْكََافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلََّا خَسََاراً}.
[سورة فاطر (35): آية 40]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكََاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَرُونِي مََا ذََا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمََاوََاتِ أَمْ آتَيْنََاهُمْ كِتََاباً فَهُمْ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظََّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاََّ غُرُوراً (40)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكََاءَكُمُ} منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيد أبو من هو لأن زيدا في المعنى يستفهم عنه، ولو قلت:
أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السّموات أم خلقوا من الأرض شيئا أم آتيناهم كتابا بهذا أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشّركة أو بأنا أمرناهم بعبادتهم فكان في هذا ردّ على كل من عبد غير الله جلّ وعزّ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أنّ الله جلّ وعزّ أمر أن يعبد غيره.
على بيّنات منه (1) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم والكسائي، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والأعمش وحمزة {عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْهُ} (2) قال أبو جعفر: والمعنيان متقاربان إلّا أن القراءة «بيّنات» أولى لأنه لا يخلو من قرأ «على بيّنة» أن يكون خالف السواد الأعظم أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحة، فوقف بالتاء. وهذه لغة شاذّة قليلة.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظََّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً} «إن» بمعنى «ما» فلذلك رفعت الفعل. {بَعْضُهُمْ بَعْضاً} «بعضهم» {إِلََّا غُرُوراً} أي إلّا غرورا بالباطل.
[سورة فاطر (35): آية 41]
{إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولاََ وَلَئِنْ زََالَتََا إِنْ أَمْسَكَهُمََا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كََانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)}
{إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا} «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة أو يحمل على المعنى لأن المعنى إنّ الله يمنع السّموات والأرض من أن تزولا {وَلَئِنْ زََالَتََا إِنْ أَمْسَكَهُمََا مِنْ أَحَدٍ} قال الفراء: (3) أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد من بعده و «أان» بمعنى «ما» قال: وهو مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنََا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51].
[سورة فاطر (35): آية 42]
{وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ جََاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى ََ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمََّا جََاءَهُمْ نَذِيرٌ مََا زََادَهُمْ إِلاََّ نُفُوراً (42)}
{وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ} قال أبو إسحاق: كانوا حلفوا واجتهدوا. قال أبو
__________
(1) انظر تيسير الداني 148.
(2) انظر تيسير الداني 148.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 370.(3/255)
جعفر: فاليمين وقعت على {لَيَكُونُنَّ أَهْدى ََ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} قال الأخفش: فأنّث إحدى لتأنيث أمة {فَلَمََّا جََاءَهُمْ نَذِيرٌ مََا زََادَهُمْ إِلََّا نُفُوراً} أي عن الحقّ.
[سورة فاطر (35): آية 43]
{اسْتِكْبََاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاََ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاََّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاََّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَحْوِيلاً (43)}
{اسْتِكْبََاراً} مفعول من أجله أي تكبّرا عن الحقّ. {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} معطوف عليه.
قال سعيد عن قتادة: أي ومكر الشرك. قال أبو جعفر: أصل المكر السّيّئ في اللغة الكذب والخديعة بالباطل. وقرأ الأعمش وحمزة ومكر السّيئ ولا يحق المكر السيّئ إلا بأهله (1) فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال أبو إسحاق: وهو لحن لا يجوز. قال أبو جعفر: وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه، وزعم محمد بن يزيد: أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها لأنها دخلت للفروق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحلّه يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف عليه فغلط من ادّعى عنه قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وإن الثاني لمّا لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتجّ بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره: [الرجز] 355 إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ... بالدوّ أمثال السّفين العوّم (2)
وقال الآخر: [السريع] 356 فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل (3)
وهذا لا حجّة فيه لأن سيبويه لم يجزه وإنما حكاه بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجّة فكيف وإنما جاء به على الشذوذ، وضرورة الشعر، قد خولف فيه. وزعم أبو إسحاق أن أبا العباس أنشده: [الرجز] 357 إذا اعوججن قلت صاح قوّم (4)
وأنه أنشده «فاليوم فاشرب» بالفاء. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي إنما ينظرون العقاب الذي نزل بالكفار الأولين {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَحْوِيلًا} أي أجرى الله جلّ وعزّ العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنّة فيهم فهو يعذب بمثله من
__________
(1) انظر تيسير الداني 148، وكتاب السبعة لابن مجاهد 535، والبحر المحيط 7/ 305.
(2) مرّ الشاهد رقم (22).
(3) مرّ الشاهد رقم (212).
(4) مرّ الشاهد رقم (22).(3/256)
استحقّه لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك، ولا يحوّله.
[سورة فاطر (35): آية 44]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلاََ فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)}
قال أبو إسحاق: {لِيُعْجِزَهُ} لتفوته
[سورة فاطر (35): آية 45]
{وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِعِبََادِهِ بَصِيراً (45)}
{وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا} مهموز لأن العرب تقول: أخذت فلانا بكذا وكذا، ولا يقال: وأخذت، ولكن إن خفّفت الهمزة في يؤاخذ جاز فقلت يؤاخذ تقلبها واوا. فإن قال قائل: فلم لا يقلبها ألفا وهي مفتوحة؟ قلت: هذا محال لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدا إلا مفتوحا. {عَلى ََ ظَهْرِهََا} يعود على الأرض وقد تقدّم ذكرها.
{فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِعِبََادِهِ بَصِيراً} لا يجوز أن يكون العامل في إذا بصيرا، كما لا يجوز: اليوم أنّ زيدا خارج، ولكن العامل فيها جاء لشبهها بحروف المجازاة، وقد يجازى بها، كما قال: [الطويل] 358 إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب (1)
__________
(1) الشاهد لقيس بن الخطيم الأنصاري في ديوانه 88، وخزانة الأدب 7/ 25، والكتاب 3/ 69، وشرح أبيات سيبويه 2/ 137، وشرح المفصّل 7/ 47، وللأخنس بن شهاب في خزانة الأدب 5/ 28، وشرح اختيارات المفضّل ص 937، ولكعب بن مالك في فصل المقال 442، وليس في ديوانه، ولشهم بن مرّة في الحماسة الشجرية 1/ 186، ولعمران بن حطان في شعر الخوارج ص 406، وبلا نسبة في شرح المفصل 4/ 97، والمقتضب 2/ 57.(3/257)
36 - شرح إعراب سورة يس
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة يس (36): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يس (1)}
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لكلّ شيء قلب، وقلب القرآن «يس» من قرأها نهارا كفي همّه، ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. قال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة «طه» و «يس» فقط. قال أبو جعفر: في {يس} (1) أوجه من القراءات. قرأ أهل المدينة والكسائي {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} بإدغام النون في الواو، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} بإظهار النون، وقرأ عيسى بن عمر يسين والقرآن الحكيم، وذكر الفراء قراءة رابعة ياسين والقرآن. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية لأنّ النون تدغم في الواو لشبهها بها، ومن بيّن قال:
سبيل حروف التهجي أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج، وذكر سيبويه (2)
النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا لا يصرفه، لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل. والتقدير: اذكر ياسين، وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل «كيف» و «أين»، وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لأفعلن وجير لا أفعل (3).
[سورة يس (36): آية 2]
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)}
{وَالْقُرْآنِ} قسم والواو مبدلة من ياء لشبهها بها، كما أبدلوها من ربّ، {الْحَكِيمِ} من نعت القرآن. قال أبو إسحاق: لأنه أحكم بالأمر والنهي والأمثال وأقصيص الأمم.
[سورة يس (36): آية 3]
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}
جواب القسم، وإن مكسورة لأن في خبرها اللام ولو حذفت اللام لكانت أيضا
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 148، والبحر المحيط 7/ 310، ومعاني الفراء 2/ 371.
(2) انظر الكتاب 3/ 286.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 371.(3/258)
مكسورة إلّا في قول الكسائي فإنّه يجيز فتحها لأن في الكلام معنى: أقسم.
[سورة يس (36): آية 4]
{عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}
قال الضحاك: أي على طريقة مستقيمة. قال قتادة: أي على دين مستقيم. قال أبو إسحاق: {عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر، قال: ويجوز أن يكون من صلة المرسلين أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم.
[سورة يس (36): آية 5]
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)}
هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون وعبد الله بن عامر اليحصبي {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (1) بالنصب وحكي الخفض. قال أبو جعفر: فالرفع على إضمار مبتدأ أي الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم، والنصب على المصدر، والخفض على البدل من القرآن.
[سورة يس (36): آية 6]
{لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أُنْذِرَ آبََاؤُهُمْ فَهُمْ غََافِلُونَ (6)}
{لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أُنْذِرَ آبََاؤُهُمْ} {مََا} لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير لأنها نافية، وعلى قول عكرمة موضعها النصب لأنه قال: أي قد أنذر آباؤهم فتكون على هذا مثل قوله: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً} [فصلت: 13] أي بصاعقة. {فَهُمْ غََافِلُونَ} ابتداء وخبر.
[سورة يس (36): آية 7]
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى ََ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (7)}
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى ََ أَكْثَرِهِمْ} أي حقّ القول عليهم بالعذاب لكفرهم، ومثله {وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ} [الزمر: 71].
[سورة يس (36): آية 8]
{إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلاََلاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}
{إِنََّا جَعَلْنََا فِي أَعْنََاقِهِمْ أَغْلََالًا} عن ابن عباس أنه قال: إن أبا جهل أقسم لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم يصلّي لأدمغنّه فأخذ حجرا والنبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي ليرميه به. فلما أومأ به إليه جفّت يده على عنقه، والتصق الحجر بيده فهو على هذا تمثيل أي بمنزلة من غلّت يده إلى عنقه. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قرأ ابن عباس إنّا جعلنا في أيمانهم (2) أغلالا فهي إلى الأذقان قال أبو إسحاق وقرئ إنّا جعلنا في أيديهم أغلالا قال أبو جعفر: هذه القراءة على التفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، وفي
__________
(1) انظر تيسير الداني 149، ومختصر ابن خالويه 124.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 373.(3/259)
الكلام حذف على قراءة الجماعة فالتقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره {سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] فتقديره: وسرابيل تقيكم البرد فحذف لأن ما وقى الحرّ وقى البرد، ولأنّ الغل إذا كان في العنق فلا بد من أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال جلّ وعزّ: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقََانِ} فقد أعلم الله جلّ وعزّ أنها يراد بها الأيدي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أجلّ ما روي فيه ما حكاه عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الأقماح فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال أبو جعفر: وكان هذا مأخوذا مما حكاه الأصمعي قال: يقال أكمحت الدّابّة إذا جذبت لجامها لترف رأسها. قال أبو جعفر: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها، كما يقال:
قهرته وكهرته. قال الأصمعي: ويقال: أكفحت الدابة إذا تلقّيت فاها باللجام لتضربه به. مشتقّ من قولهم: لقيته كفاحا أي وجها لوجه، وكفحت الدابّة بغير ألف إذا جذبت عنانها لتقف ولا تجري.
[سورة يس (36): آية 9]
{وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنََاهُمْ فَهُمْ لاََ يُبْصِرُونَ (9)}
قال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأميّة بن خلف يراصدون النبي صلّى الله عليه وسلّم ليبلغوا من أذاه فخرج عليهم يقرأ أول «يس» وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ {وَجَعَلْنََا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قيل إن هذا تمثيل كما يقال: فلان حمار أي لا يبصر الهدى، كما يقال: [البسيط] 359 لهم عن الرشد أغلال وأقياد (1)
وقراءة ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر وعمر بن عبد العزيز {فَأَغْشَيْنََاهُمْ} (2)
قال أبو جعفر: القراءة بالغين أشبه بنسق الكلام، ويقال: غشيه الأمر وأغشيته إياه فأما فأغشيناهم فإنّما يقال لمن ضعف بصره حتى لا يبصر بالليل، أو لمن فعل فعله، كما قال: [الطويل] 360 متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد (3)
قال قتادة: {فَهُمْ لََا يُبْصِرُونَ} الهدى.
__________
(1) الشاهد للأفوه الأودي في ديوانه ص 10.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 312.
(3) مرّ الشاهد رقم (69).(3/260)
[سورة يس (36): آية 10]
{وَسَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (10)}
{وَسَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} قيل: المعنى لا يكترثون بذلك ولا يعبئون به ولا يؤمنون.
قال ابن عباس: فما آمن منهم أحد.
[سورة يس (36): آية 11]
{إِنَّمََا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
{إِنَّمََا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إنّما ينتفع بالإنذار. قال أبو إسحاق: ومعنى {وَخَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ} خاف الله جلّ وعزّ من حيث لا يراه أحد إلّا الله عزّ وجلّ.
{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} قال الضحاك عن ابن عباس في معنى كريم: أي حسن، وقيل: يراد به الجنة والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة يس (36): آية 12]
{إِنََّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ََ وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ فِي إِمََامٍ مُبِينٍ (12)}
الأصل في {إِنََّا} إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات {نُحْيِ} حذفت منه الضمة لثقلها، ولا يجوز إدغام الياء في الياء هاهنا لئلّا يلتقي ساكنان. {وَنَكْتُبُ مََا قَدَّمُوا وَآثََارَهُمْ} أي ذكر ما قدّموا، وأقيم المضاف إليه مقام المضاف، وتأوله ابن عباس بمعنى خطاهم إلى المساجد. وهو أولى ما قيل فيه لأنه قال: إنّ الآية نزلت في ذلك لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد. وفي حديث عمرو بن الحارث عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكتب له برجل حسنة، ويحطّ عنه برجل سيئة ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد» (1) وتأوّله غير ابن عباس «ونكتب ما قدّموا وآثارهم» يعني نكتب ما قدّموا من خير وما سنّوا من سنة حسنة يعمل بها بعدهم. وواحد الآثار:
أثر، ويقال: إثر. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنََاهُ} منصوب على إضمار فعل، ويجوز رفعه بالابتداء إلّا أنّ نصبه أولى ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهذا قول الخليل وسيبويه رحمهما الله. قال مجاهد: {فِي إِمََامٍ مُبِينٍ} في اللوح المحفوظ.
[سورة يس (36): آية 13]
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحََابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جََاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحََابَ الْقَرْيَةِ} قال أبو إسحاق: أي اذكر لهم مثلا، والضرب هو المثال والجنس، يقال: هذا من ضرب هذا، أي من مثال هذا وجنسه والمعنى: ومثّل لهم مثلا. {أَصْحََابَ الْقَرْيَةِ} بدل من مثل فالمعنى مثل أصحاب القرية. {إِذْ جََاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أي جاء أهلها المرسلون.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه المساجد 1/ 254، والترمذي في سننه 3/ 83، وأحمد في مسنده 4/ 156.(3/261)
[سورة يس (36): آية 14]
{إِذْ أَرْسَلْنََا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ فَقََالُوا إِنََّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}
{إِذْ أَرْسَلْنََا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمََا فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ} وقرأ عاصم {فَعَزَّزْنََا} (1) وربما غلط في هذا بعض الناس فتوهّم أنه من عز يعزّ، وليس منه إنما هو من قول العرب: عازّني فلان فعززته أعزّه أي غلبته وقهرته وله نظائر في كلامهم، وتأول الفراء (2) {فَعَزَّزْنََا بِثََالِثٍ} أنّ الثالث أرسل قبل الاثنين وأنه شمعون وإنّ معنى فعزّزنا به أنّه غلبهم.
والظاهر يدلّ على خلاف ما قال، ولو كان كما قال لكان الأولى في كلام العرب أن يقال: بالثالث إذ كان قد أرسل قبل، كما يقال: في أول الكتاب سلام عليك وفي آخره والسلام، وكما يقال: مررت برجل من قصّته كذا فقلت للرّجل.
[سورة يس (36): آية 15]
{قََالُوا مََا أَنْتُمْ إِلاََّ بَشَرٌ مِثْلُنََا وَمََا أَنْزَلَ الرَّحْمََنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاََّ تَكْذِبُونَ (15)}
{قََالُوا مََا أَنْتُمْ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} مبتدأ وخبره.
[سورة يس (36): آية 18]
{قََالُوا إِنََّا تَطَيَّرْنََا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنََّا عَذََابٌ أَلِيمٌ (18)}
قال الفراء: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي لنقتلنّكم قال: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل.
[سورة يس (36): آية 19]
{قََالُوا طََائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}
{قََالُوا طََائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} فيه سبعة أوجه من القراءات (3): قرأ أهل المدينة أين ذكرتم بتخفيف الهمزة الثانية، وقرأ أهل الكوفة {أَإِنْ} بتحقيق الهمزتين، والوجه الثالث أاإن بهمزتين بينهما ألف، أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين، والوجه الرابع أاإن بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة، والقراءة الخامسة أان ذكرتم بهمزتين إلا أنّ الثانية همزة مخففة، والوجه السادس أأن بهمزتين محققتين مفتوحتين. حكى الفراء (4): أنّ هذه قراءة أبي رزين. وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري قالوا طائركم معكم أين ذكّرتم بمعنى حيث والمعنى: أين ذكّرتم تطيّركم معكم. ومعنى أأن ألأن، وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة ذكرتم (5)
__________
(1) انظر تيسير الداني 149، وكتاب السبعة لابن مجاهد 539.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 373.
(3) انظر القراءات في البحر المحيط 7/ 314، ومختصر ابن خالويه 125، وكتاب السبعة لابن مجاهد 540.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 374.
(5) انظر المحتسب 2/ 205، والبحر المحيط 7/ 314.(3/262)
بالتخفيف وزعم الفراء أن معنى {طََائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي رزقكم وعملكم و {بَلْ} لخروج من كلام إلى كلام {أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ابتداء وخبر.
[سورة يس (36): آية 20]
{وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ قََالَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)}
{وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ} وفي موضع آخر {رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ََ} [القصص: 20] والمعنى واحد إلّا أن حقّ الظروف أن تكون في آخر الكلام، وتقديمها مجاز. ألا ترى أن معنى: إنّ في الدار زيدا، إن زيدا في الدار، {قََالَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}.
[سورة يس (36): آية 21]
{اتَّبِعُوا مَنْ لاََ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}
{اتَّبِعُوا مَنْ لََا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً} هذا يدلّ على إعادة الفعل {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} محمول على معنى «من».
[سورة يس (36): آية 22]
{وَمََا لِيَ لاََ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}
وقرأ الأعمش وحمزة {وَمََا لِيَ لََا أَعْبُدُ} بإسكان الياء وهذه ياء النفس تفتح وتسكّن، إذا كان ما قبلها متحرّكا فالفتح لأنها اسم فكره أن يكون اسم على حرف واحد ساكنا، والإسكان لاتصالها بما قبلها، وموضع {لََا أَعْبُدُ} موضع نصب على الحال.
[سورة يس (36): آية 23]
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمََنُ بِضُرٍّ لاََ تُغْنِ عَنِّي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاََ يُنْقِذُونِ (23)}
{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمََنُ بِضُرٍّ} شرط ومجازاة، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من الدال وحذفت الياء التي قبل الدال لالتقاء الساكنين. والقول في الياء التي بعد النون كما تقدّم من الفتح والإسكان إلّا أنك إذا أسكنتها حذفتها في الإدراج لالتقاء الساكنين وجواب الشرط {لََا تُغْنِ عَنِّي}.
[سورة يس (36): آية 25]
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}
فأما ما روي عن عاصم أنه قرأ {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} بفتح النون فلحن لأنه في موضع جزم فإذا كسرت النون جاز لأنها النون التي تكون مع الياء لا نون الإعراب. قال أبو إسحاق: أشهد الرسل على إيمانه فقال: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
[سورة يس (36): آية 26]
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)}(3/263)
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} في الكلام حذف لعلم السامع والتقدير: فقتلوه فقيل: ادخل الجنة فلمّا رأى ما هو فيه من النعيم. {قََالَ يََا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}.
[سورة يس (36): آية 27]
{بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}
{بِمََا غَفَرَ لِي رَبِّي} فيه ثلاثة أوجه: تكون «ما» مصدرا، وتكون بمعنى «الذي»، والثالث استفهاما، وهذا ضعيف لأن الأكثر في الاستفهام: بم غفر لي ربّي؟ بغير ألف {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} قال أبو مجلز: أي بإيماني وتصديقي الرسل. قال أبو إسحاق:
{مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي أدخلني الجنة.
[سورة يس (36): آية 28]
{وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا كُنََّا مُنْزِلِينَ (28)}
{وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمََاءِ} أي لم ينزل جندا من السماء ينتصرون له.
[سورة يس (36): آية 29]
{إِنْ كََانَتْ إِلاََّ صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ خََامِدُونَ (29)}
{إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً} في «كانت» مضمر أي أن كانت عقوبتهم أو بليتهم إلّا صيحة. قرأ أبو جعفر إن كانت إلّا صيحة واحدة بالرفع. قال أبو حاتم: ينبغي ألا يجوز لأنه إنما يقال: ما جاءني إلّا جاريتك، ولا يقال: ما جاءتني إلّا جاريتك، لأن المعنى ما جاءني أحد إلا جاريتك أي فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: إن كان إلا صيحة واحدة. قال أبو جعفر: لا يمتنع من هذا شيء، يقال: ما جاءتني إلّا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية. والتقدير: بالرفع في القراءة ما قاله أبو إسحاق، قال:
المعنى إن كانت عليهم صيحة إلّا صيحة واحدة وقدّره غيره بمعنى: ما وقعت إلّا صيحة واحدة «وكان» بمعنى: وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن الأسود، ويقال: إنه في حرف عبد الله كذلك: إن كانت إلّا زقية واحدة (1). قال أبو جعفر: هذا مخالف للمصحف، وأيضا فإن اللغة المعروفة: زقا يزقو إذا صاح فكان يجب على هذا أن يكون إلّا زقوة. قال قتادة: {فَإِذََا هُمْ خََامِدُونَ} أي هالكون.
[سورة يس (36): آية 30]
{يََا حَسْرَةً عَلَى الْعِبََادِ مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاََّ كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)}
{يََا حَسْرَةً} منصوب لأنه نداء نكرة لا يجوز فيه إلا النصب عند البصريين، وزعم الفراء أنّ الاختيار النصب وأنها لو رفعت النكرة الموصولة بالصفة لكان صوابا، واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب: يا مهمّ بأمرنا لا تهتمّ. وأنشد: [الكامل]
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 375، ومختصر ابن خالويه 125.(3/264)
361 - يا دار غيّرها البلى تغييرا (1)
قال أبو جعفر: في هذا بطلان باب النداء أو أكثره لأنه يرفع النكرة المحضة ويرفع ما هو منزلة المضاف في طوله ويحذف التنوين متوسطا ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه، لأن تقدير:
يا مهتمّ بأمرنا لا تهتمّ، على التقديم والتأخير، والمعنى: يا أيّها المهتم لا تهتمّ بأمرنا.
وتقدير البيت: يا أيّها الدار، ثم حوّل المخاطبة أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى، كما قال جلّ وعزّ: {حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]. وكان أبو إسحاق يقول: بأن قوله جلّ وعزّ: {يََا حَسْرَةً عَلَى الْعِبََادِ} من أصعب ما في القرآن من المسائل، وإنما قال هذا لأن السؤال فيه أن يقال: ما الفائدة في نداء الحسرة؟ قال أبو جعفر: وقد شرح هذا سيبويه بأحسن شرح، ومذهبه أن المعنى إذا قيل: يا عجباه فمعناه يا عجب هذا من أبانك، ومن أوقاتك التي يجب أن تحضرها والمعنى على قوله إنه يجب أن تحضر الحسرة لهم على أنفسهم لاستهزائهم بالرسل، وفي معنى الآية قول غريب إسناده جيد رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: لمّا رأى الكفار العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، يعنون بالعباد الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم تحسروا على فواتهم إن لم يحضروا حتى يؤمنوا. قال الله تعالى: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلََّا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} [الحجر: 11].
[سورة يس (36): آية 31]
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاََ يَرْجِعُونَ (31)}
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ} قال الفراء (2): «كم» في موضع نصب من وجهين: أحدهما بيروا، واستشهد على هذا القول بأنه في قراءة عبد الله بن مسعود الم يروا من أهلكنا، والوجه الآخر أن تكون «كم» في موضع نصب بأهلكنا. قال أبو جعفر: القول الأول محال لأن «كم» لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيّز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبرا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل «أنّهم» بدلا من «كم»، وقد ردّ عليه محمد بن يزيد هذا أشدّ ردّ، وقال: «كم» في موضع نصب بأهلكنا «وأنّهم» في موضع نصب. والمعنى عنده:
بأنهم أي ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون بالاستئصال.
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 376، وقد ذكر سيبويه في الكتاب 2/ 203البيت للأحوص الأنصاري باختلاف بسيط:
«يا دار حسّرها البلى تحسيرا ... وسفت عليها الريح بعدك مورا»
(2) انظر معاني الفراء 2/ 376.(3/265)
[سورة يس (36): آية 32]
{وَإِنْ كُلٌّ لَمََّا جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ (32)}
هذه إن الثقيلة في الأصل خفّفت فزال عملها في أكثر اللغات، ولزمتها اللام فرقا بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما». وقرأ الكوفيون (1) {وَإِنْ كُلٌّ لَمََّا} وفيه قولان:
أحدهما أنّ «لمّا» بمعنى إلا و «إن» بمعنى «ما». حكى ذلك سيبويه (2) في قولهم:
سألتك بالله لمّا فعلت، وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. والقول الآخر أن المعنى:
وإن كلّ لمن ما، وهذا قول الفراء (3). قال وحذفت ما، كما يقال علماء بنو فلان، أراد به: على الماء بنو فلان.
[سورة يس (36): آية 33]
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنََاهََا وَأَخْرَجْنََا مِنْهََا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)}
{وَآيَةٌ} رفع بالابتداء، والخبر {«لَهُمُ»}، ويجوز أن يكون الخبر {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}.
قال أبو إسحاق: ويقال: الميتة، والتخفيف أكثر.
[سورة يس (36): آية 35]
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاََ يَشْكُرُونَ (35)}
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} «ما» في موضع خفض على العطف أي ومما عملته أيديهم، ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها أي ولم تعمله أيديهم فإذا كان بحذف الهاء كانت «ما» في موضع خفض، وحذف الهاء لطول الاسم، ويبعد أن تكون نافية.
[سورة يس (36): آية 36]
{سُبْحََانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوََاجَ كُلَّهََا مِمََّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمََّا لاََ يَعْلَمُونَ (36)}
قال أبو إسحاق: أي الأجناس من الحيوان والنبات.
[سورة يس (36): آية 37]
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهََارَ فَإِذََا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} وعلامة دالّة على توحيد الله.
[سورة يس (36): آية 38]
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهََا ذََلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي} ويكون تقديره وآية لهم الشمس، ويجوز أن تكون الشمس مرفوعة بإضمار فعل يفسّره الثاني، ويجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء.
[سورة يس (36): آية 39]
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ حَتََّى عََادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 319، ومعاني الفراء 2/ 376.
(2) انظر الكتاب 3/ 123.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 376.(3/266)
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنََاهُ مَنََازِلَ} يكون تقديره: وآية لهم القمر، ويجوز أن يكون القمر مرفوعا بالابتداء. وقرأ الكوفيون {وَالْقَمَرَ} بالنصب على إضمار فعل. وهو اختيار أبي عبيد، قال: لأن قبله فعلا وبعده فعلا مثله قبله «نسلخ» وبعده «قدّرناه» قال أبو جعفر:
أهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال، منهم الفراء (1)، قال: الرفع أعجب إليّ، وإنما كان الرفع عندهما أولى لأنه معطوف على ما قبله فمعناه: وآية القمر والذي قاله: من أنّ قبله «نسلخ» فقبله ما أقرب إليه منه وهو يجري وقبله: والشمس بالرفع، والذي ذكره بعده وهو «قدّرناه» قد عمل في الهاء. ووجه ثان في الرفع يكون مرفوعا بالابتداء، ويقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال: قدّرنا منازل؟ ففي هذا جوابان:
أحدهما أن تقديره: قدرناه ذا منازل مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. والتقدير الآخر: قدّرنا له منازل ثمّ حذف اللام، وكان حذفها حسنا لتعدّي الفعل إلى مفعولين مثل {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155].
[سورة يس (36): آية 40]
{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهََا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}
رفعت الشمس بالابتداء، (2) ولا يجوز أن تعمل «لا» في معرفة. وقد تكلّم العلماء في معنى هذه الآية فقال: بعضهم معناها أن الشّمس لا تدرك القمر فيبطل معناه، وقيل: القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه. وأحسن ما قيل في معناه وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع فالشمس لا تدركه في السير.
{وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ} مما قد تكلموا فيه أيضا، وقال بعضهم: هذا يدلّ على أن النهار مخلوق قبل الليل وأن الليل لم يسبقه بالخلق، وقيل: لا يجوز أن يتقدّم أحدهما صاحبه لأن وجود هذا عدم هذا ولا يقع فيهما القبل والبعد. وهذا قول أهل النظر، وقيل: كل واحد منهما يجيء في وقته لا يسبق أحدهما صاحبه. قال أبو جعفر: حدّثنا محمد بن الوليد وعلي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ} فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار فحذفت التنوين لأنه أخفّ. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون النهار منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين.
[سورة يس (36): آية 41]
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنََّا حَمَلْنََا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}
هذه الآية من أشكل ما في السورة لقوله جلّ وعزّ {حَمَلْنََا ذُرِّيَّتَهُمْ} لأنهم هم المحمولون. فسمعت علي بن سليمان يقول: الضميران مختلفان والمعنى: وآية لأهل
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 378.
(2) انظر تيسير الداني 149، وكتاب السبعة لابن مجاهد 540.(3/267)
مكة أنّا حملنا ذريات قوم نوح في الفلك. وفيها قول آخر حسن، وهو أن يكون المعنى أن الله جلّ وعزّ خبّر بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذريات والصغار، ويكون الضميران على هذا متفقين.
[سورة يس (36): الآيات 42الى 43]
{وَخَلَقْنََا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مََا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاََ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاََ هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}
{وَخَلَقْنََا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مََا يَرْكَبُونَ} والأصل: يركبونه حذفت الهاء لطول الاسم، وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير أنّ معنى «من مثله» للإبل، والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب، والقول الثالث أنه للسفن، وهذا أصحّها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس رواه محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَخَلَقْنََا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مََا يَرْكَبُونَ} قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وبغير هذا الإسناد أن ابن عباس احتجّ في أن هذا ليس للإبل بأن بعده {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلََا صَرِيخَ لَهُمْ} وهو حسن لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع لأنّه معرفة وهو {وَلََا هُمْ يُنْقَذُونَ} والنحويون يختارون: لا رجل في الدار ولا زيد.
[سورة يس (36): آية 44]
{إِلاََّ رَحْمَةً مِنََّا وَمَتََاعاً إِلى ََ حِينٍ (44)}
{إِلََّا رَحْمَةً مِنََّا} قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء، وقال أبو إسحاق: نصب لأنه مفعول له أي للرحمة {وَمَتََاعاً} معطوف عليه. قال قتادة: {إِلى ََ حِينٍ} أي إلى الموت.
[سورة يس (36): آية 49]
{مََا يَنْظُرُونَ إِلاََّ صَيْحَةً وََاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)}
وفي قوله جلّ وعزّ {مََا يَنْظُرُونَ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات (1): قرأ أبو عمرو وابن كثير وهم يخصّمون بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد، وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فإنهم رووا عنه وهم يخصّمون بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين وقرأ عاصم والكسائي {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} بكسر الخاء وتشديد الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وهم يخصمون بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، وفي حرف أبيّ وهم يختصمون. قال أبو جعفر: القراءة الأولى وهم يخصّمون أبينها والأصل: يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فقلبت حركتها إلى الهاء، وإسكان الخاء
__________
(1) انظر تيسير الداني 149، ومعاني الفراء 2/ 379، وكتاب السبعة لابن مجاهد 541.(3/268)
لا يجوز لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مدّ ولين وإنما يجوز في مثل هذا إخفاء الحركة فلم يضبط كما لم يضبط عن أبي عمرو {فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ} [البقرة:
54] إلّا من رواية من يضبط اللغة، كما روى سيبويه عنه أنه كان يختلس الحركة. فأما «يخصّمون» فالأصل فيه أيضا يختصمون فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء (1): أن هذه القراءة أجود وأكثر، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة. قال عكرمة في قوله جلّ وعزّ {إِنْ كََانَتْ إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً} * [يس: 29] قال: هي النفخة الأولى في الصّور.
[سورة يس (36): آية 50]
{فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاََ إِلى ََ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}
{فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ينفخ في الصور والناس في أسواقهم فمن جالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلََا إِلى ََ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} وذكر الفراء (2) فيه قولين أحدهما لا يرجعون إلى أهليهم قولا، والقول الآخر لا يرجعون من أسواقهم إلى أهليهم.
[سورة يس (36): آية 51]
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذََا هُمْ مِنَ الْأَجْدََاثِ إِلى ََ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)}
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} في معناه قولان: قال قتادة: «الصّور» جمع صورة أي نفخ في الصّور الأرواح، وصورة وصور مثل سورة البناء وسور. قال العجاج: [الرجز] 362 فربّ ذي سرادق محجور ... سرت إليه في أعالي السّور (3)
وقد روي عن ابن هرمز أنه قرأ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} (4) فهذا لا إشكال فيه. فأما «الصّور» بإسكان الواو فالصحيح فيه أنه القرن جاء بذلك الحديث والتوقيف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة (5): [الرجز] 363 نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضّابخات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصّورين
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 379.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 380.
(3) الشاهد للعجاج في ديوانه 341، والكتاب 4/ 162، وشرح الشواهد للشنتمري 2/ 232.
(4) انظر المحتسب 2/ 212.
(5) البيت الأول والثالث بلا نسبة في لسان العرب (صور)، وديوان الأدب 3/ 315، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة 26.(3/269)
[سورة يس (36): آية 52]
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)}
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا} منصوب على أنه نداء مضاف أي من أيّامك ومن ابّانك، ويجوز أن يكون منصوبا على معنى المصدر، ويكون المنادى محذوفا على أن الكوفيين يقدّرونه «وي لنا» منفصلة فإذا قيل لهم فلم قلتم: ويل زيد؟ ففتحتم اللام وهي لام خفض ولم قلتم ويل له؟ فضممتم اللام ونونتموها ثم حكيتم: ويل زيد بالضم غير منوّن اعتلّوا بعلل لا تصحّ. قال أبو جعفر: وسنذكرها إن شاء الله فيما يستقبل. {مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا} يقال: كيف قالوا هذا وهم من المعذّبين في قولكم في قبورهم؟ فالجواب أن أبيّ بن كعب قال: ناموا نومة. وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة فذلك قولهم: {مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا}. قال مجاهد: أي فيقول لهم المؤمنون {هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ} وقال قتادة: فقال لهم من هدى الله {هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ} وقال الفراء: أي فقال لهم الملائكة {هََذََا مََا وَعَدَ الرَّحْمََنُ}. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله وقرأ مجاهد ويروى عن ابن عباس {يََا وَيْلَنََا مَنْ بَعَثَنََا}. قال أبو جعفر: وعلى هذا يتأوّل قول الله جلّ وعزّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] وكذا الحديث «المؤمن عند الله خير من كلّ ما خلق» (1)
ويجوز أن يكون الملائكة صلّى الله عليهم وغيرهم من المؤمنين قالوا «هذا ما وعد الرحمن»، والتمام على هذا «من مرقدنا» «وهذا» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ما وعد الرحمن» ويجوز أن يكون «هذا» في موضع خفض على النعت لمرقدنا فيكون التمام «من مرقدنا هذا» ويكون «ما وعد الرحمن» في موضع رفع من ثلاث جهات ذكر أبو إسحاق منها اثنتين، قال: يكون بإضمار «هذا»، والثانية: أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن، وقال أبو جعفر: والثالثة: أن يكون بمعنى بعثكم ما وعد الرحمن.
[سورة يس (36): آية 53]
{إِنْ كََانَتْ إِلاََّ صَيْحَةً وََاحِدَةً فَإِذََا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنََا مُحْضَرُونَ (53)}
{فَإِذََا هُمْ جَمِيعٌ} مبتدأ وخبره وجميع نكرة و {مُحْضَرُونَ} من نعته.
[سورة يس (36): آية 55]
{إِنَّ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فََاكِهُونَ (55)}
قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: شغلهم بافتضاض العذارى، وقال أبو قلابة:
بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول: أنا مع أهلي مشغول فيقال له: تحوّل أيضا إلى أهلك، وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 6الحديث رقم (3947).(3/270)
من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار وما هم فيه من أليم العذاب وإن كانوا أقوياء هم وأهليهم. وقرأ الكوفيون {فِي شُغُلٍ} (1) بضم الشين والغين، وعن مجاهد {فِي شُغُلٍ} وحكى أبو حاتم: أنّ هذا يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ به وهي لغات بمعنى واحد ويقال: شغل بفتح الشين وإسكان الغين {فََاكِهُونَ} خبر إنّ، وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ فاكهين (2) نصبه على الحال.
[سورة يس (36): آية 56]
{هُمْ وَأَزْوََاجُهُمْ فِي ظِلاََلٍ عَلَى الْأَرََائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56)}
مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون هم توكيدا {وَأَزْوََاجُهُمْ} عطفا على المضمر و {مُتَّكِؤُنَ} نعتا لقوله فاكهون.
[سورة يس (36): آية 57]
{لَهُمْ فِيهََا فََاكِهَةٌ وَلَهُمْ مََا يَدَّعُونَ (57)}
الدال الثانية مبدلة من تاء لأنه يفتعلون من دعاء.
[سورة يس (36): آية 58]
{سَلاََمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}
{سَلََامٌ} مرفوع عن البدل من «ما»، ويجوز أن يكون «ما» نكرة و «سلام» نعتا لها أي ولهم ما يدّعون مسلّم ويجوز أن يكون «ما» رفعا بالابتداء {سَلََامٌ} خبرا عنها. وفي قراءة عبد الله بن مسعود سلاما (3) يكون مصدرا. وإن شئت في موضع الحال أي ولهم الذي يدّعون مسلّما و {قَوْلًا} مصدر أي نقوله قولا يوم القيامة، ويجوز أن يكون معناه قال الله جلّ وعزّ هذا قولا.
[سورة يس (36): آية 59]
{وَامْتََازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}
ويقال: تميّزوا وانمازوا.
[سورة يس (36): آية 60]
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يََا بَنِي آدَمَ أَنْ لاََ تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)}
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} ويقال: أعهد بكسر الهاء يكون من عهد يعهد. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون عهد يعهد مثل حسب يحسب. {أَنْ لََا تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ} قال الكسائي: «لا» للنهي.
[سورة يس (36): آية 61]
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 149، والبحر المحيط 7/ 327.
(2) وهذه قراءة الأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 7/ 327.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 327.(3/271)
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} من كسر النون فعلى الأصل، من ضم كره كسرة بعدها ضمة.
[سورة يس (36): آية 62]
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} هذه قراءة أهل المدينة والعاصمين، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وعبد الله بن عبيد بن عمير والنضر بن أنس {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} (1)
بضم الجيم والباء وتشديد اللام، قرأ ابن كثير والكوفيون إلا عاصما {جِبِلًّا} (2) بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو {جِبِلًّا} (3) بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي {جِبِلًّا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. قال أبو جعفر: فهذه خمس قراءات أبينها القراءة الأولى الدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184] ويكون جبل جمع جبلّة. والاشتقاق فيه كلّه واحد، وإنما هو من: جبل الله الخلق أي خلقهم وقد ذكرت قراءة سادسة وهي {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً} (4) بالياء. {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي قد كنتم تعقلون، وهذا على جهة التوبيخ، وكذا «ألم أعهد» أي قد عهدت.
[سورة يس (36): آية 66]
{وَلَوْ نَشََاءُ لَطَمَسْنََا عَلى ََ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرََاطَ فَأَنََّى يُبْصِرُونَ (66)}
{وَلَوْ نَشََاءُ لَطَمَسْنََا عَلى ََ أَعْيُنِهِمْ} أي لو شئنا لأعميناهم في الدنيا عقوبة على عصيان الله جلّ وعزّ، ولكنا أخّرنا عقوبتهم إلى يوم القيامة. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرََاطَ} أي فبادروا الطريق إلى منازلهم في أول ما يعمون ليلحقوا بأهليهم.
[سورة يس (36): آية 67]
{وَلَوْ نَشََاءُ لَمَسَخْنََاهُمْ عَلى ََ مَكََانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطََاعُوا مُضِيًّا وَلاََ يَرْجِعُونَ (67)}
{وَلَوْ نَشََاءُ لَمَسَخْنََاهُمْ عَلى ََ مَكََانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم في الموضع الذي اجترءوا فيه على معصية الله عزّ وجلّ. {فَمَا اسْتَطََاعُوا مُضِيًّا} أي فلم يستطيعوا أن يهربوا. {وَلََا يَرْجِعُونَ} إلى أهليهم، وحكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. {وَلَوْ نَشََاءُ لَمَسَخْنََاهُمْ} على مكانتهم يقال: مكان ومكانة ودار ودارة. وحكى ابن الأعرابي أنّ العرب تقول: في جمع مكان أمكنة ومكنات وأنّ منه حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أقرّوا الطير على مكناتها» (5). قال أبو جعفر: مكنات جمع مكنة، ومكنة ومكان بمعنى واحد. وقد تكلّم الناس في معنى هذا الحديث فقال: بعض الناس لا تنفروها بالليل ولا تصطادوها إلّا أن الشافعي رحمه الله فسّره لسفيان بن عيينة على غير هذا، قال: كانت العرب تزجر
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 328، وقال هي قراءة علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين.
(5) انظر اللسان (مكن).(3/272)
الطير في مكناتها إذا أرادوا الحاجة يتفاءلون بها ويتطيّرون فنهاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «أقروا الطّير على مكناتها» أي لا تزجروها فإن الأمور تجري على ما قضى الله جلّ وعزّ. وقد روي عن عبد الله بن سلام غير هذا في تأويل هذه الآية وتأولها على أنها يوم القيامة. قال: إذا كان يوم القيامة ومدّ الصراط نادى مناد ليقم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته فيقومون برّهم وفاجرهم فيتبعونه ليجاوزوا الصراط فإذا صاروا عليه طمس الله جلّ وعزّ أعين فجارهم فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه ثم ينادي ليقم عيسى صلّى الله عليه وسلّم وأمته فيقومون برهم وفاجرهم فتكون سبيلهم تلك السبيل، وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم.
[سورة يس (36): آية 68]
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاََ يَعْقِلُونَ (68)}
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} (1) قال أبو إسحاق: يبدل من القوة ضعفا، ومن الشباب هرما. وعاصم والأعمش وحمزة يقرءون {نُنَكِّسْهُ} (2) على التكثير والتخفيف يقع للقليل والكثير بمعنى واحد.
[سورة يس (36): آية 69]
{وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ وَمََا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاََّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)}
{وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ} وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: [الرجز] 364 أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب
فتكلّم العلماء في هذا فقال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب فإن كانت بالإعراب لم تكن شعرا لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمّها أو نوّنها وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر، وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. قال أبو جعفر:
وهذا مكابرة العيان لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. ومن حسن ما قيل في هذا قول أبي إسحاق: إنّ معنى {وَمََا عَلَّمْنََاهُ الشِّعْرَ} أي وما علّمناه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر، وقد قيل إنما خبر الله عزّ وجلّ ما علّمه الشعر، ولم يخبر أنّه لا ينشد شعرا، وهذا ظاهر الكلام. وقد قيل فيه قول بين زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر، وهذا قول بيّن. {وَمََا يَنْبَغِي لَهُ} قال أبو إسحاق: أي وما يتسهّل له، وتأويله على معنى وما يتسهّل قول الشعر لا الإنشاد {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ} أي ما الذي أنزلنا إليك {إِلََّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.
[سورة يس (36): آية 70]
{لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكََافِرِينَ (70)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 150.
(2) انظر تفسير الطبري 10/ 102.(3/273)
لتنذر من كان حيّا هذه قراءة أهل المدينة (1)، ومال إليها أبو عبيد، قال:
والشاهد لها «إنّما أنت منذر» وقراءة أبي عمرو وأهل الكوفة {لِيُنْذِرَ} يكون معناها لينذر الله جلّ وعزّ، أو لينذر القرآن، أو لينذر محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ محمد بن السميفع اليماني {لِيُنْذِرَ مَنْ كََانَ حَيًّا} قال جويبر عن الضحاك: «من كان حيّا» أي من كان مؤمنا أي لأن المؤمن بمنزلة الحيّ في قبوله ما ينفعه {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكََافِرِينَ} أي يحقّ عليهم أن الله جلّ وعزّ يعذّبهم وإنما يحقّ عليهم هذا بعد كفرهم. وحكى بعض النحويين:
«لتنذر من كان حيّا» أي لتعلم من قولهم: نذرت بالقوم أنذر إذا علمت بهم فاستعددت لهم وحكي: ويحق القول على الكافرين بمعنى يوجب الحجة عليهم.
[سورة يس (36): آية 71]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ (71)}
إن جعلت «ما» بمعنى الذي حذفت الهاء لطول الاسم، وإن جعلت «ما» مصدرا لم يحتج إلى إضمار الهاء. وواحد الأنعام نعم والنّعم مذكّر.
[سورة يس (36): آية 72]
{وَذَلَّلْنََاهََا لَهُمْ فَمِنْهََا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهََا يَأْكُلُونَ (72)}
{فَمِنْهََا رَكُوبُهُمْ} روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قرأت فمنها ركوبتهم (2) قال أبو جعفر: حكى النحويون الكوفيون أنّ العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء، ويقولون: شاة حلوبة، وناقة ركوبة لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه فحذفوا الهاء مما كان فاعلا، وأثبتوها فيما كان مفعولا، كما قال عنترة: [الكامل] 365 فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم (3)
فيجب على هذا أن يكون «ركوبتهم» فأما أهل البصرة فيقولون:
حذفت الهاء على النسب والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلّا للجماعة. فعلى هذا يكون على تذكير الجمع. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز «فمنها ركوبهم» بضم الراء لأنه مصدر والرّكوب ما يركب وأجاز الفراء (4): «فمنها ركوبهم» بضم الراء، كما تقول:
فمنها أكلهم، ومنها شربهم.
[سورة يس (36): آية 73]
{وَلَهُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَمَشََارِبُ أَفَلاََ يَشْكُرُونَ (73)}
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 544، وتيسير الداني 150.
(2) مرّ الشاهد رقم (274).
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 165.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 381.(3/274)
{وَلَهُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَمَشََارِبُ} لم ينصرفا، لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد ولا يجمع.
[سورة يس (36): آية 74]
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)}
هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يأتي بأن فيقول: لعلّه أن ينصر.
[سورة يس (36): آية 75]
{لاََ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}
{لََا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} يعني الآلهة، وجمعوا على جمع الآدميين لأنه أخبر عنهم بخبرهم {وَهُمْ} يعني الكفار {لَهُمْ} الآلهة {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم، وقال قتادة: يغضبون لهم.
[سورة يس (36): آية 76]
{فَلاََ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنََّا نَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ (76)}
{فَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} هذه هي اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول: يحزنك {إِنََّا} بكسر الهمزة فيما بعد القول لأنه مستأنف.
[سورة يس (36): الآيات 78الى 79]
{وَضَرَبَ لَنََا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}
{قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} حذفت الضمة من الياء لثقلها، ولا يجوز الإدغام لئلا يلتقي ساكنان وكذا {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
[سورة يس (36): الآيات 80الى 81]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً فَإِذََا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى ََ وَهُوَ الْخَلاََّقُ الْعَلِيمُ (81)}
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً} فذكّر الشجر ومن العرب من يقول:
الشجر الخضراء كما قال جلّ وعزّ: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمََالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 52، 53].
وحكي أن سلاما أبا المنذر قرأ {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى ََ} (1) أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم (2).
[سورة يس (36): آية 82]
{إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 333.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 544.(3/275)
وقرأ الكسائي إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون بالنصب عطفا على يقول.
[سورة يس (36): آية 83]
{فَسُبْحََانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
قال سعيد عن قتادة: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} مفاتح كل شيء. قال أبو جعفر: ملكوتي وملكوت في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: «جبروتي خير من رحموتي».(3/276)
37 - شرح إعراب سورة الصّافات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الصافات (37): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالصَّافََّاتِ صَفًّا (1) فَالزََّاجِرََاتِ زَجْراً (2) فَالتََّالِيََاتِ ذِكْراً (3)}
هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ حمزة (1) بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لمّا سمعها. قال أبو جعفر: هي بعيدة في العربية من ثلاث جهات:
إحداهنّ أن التاء ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الذال، ولا هي من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال الظاء والثاء، والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى، والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت فقلت: والصافات صفّا فجمعت بين ساكنين من كلمتين فإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة نحو دابّة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف «والصافات» خفض بواو القسم والواو بدل من الباء والتقدير: أحلف بالصّافات، وحقيقته بربّ الصافات فالزاجرات عطف، وكذا «فالتاليات».
[سورة الصافات (37): آية 4]
{إِنَّ إِلََهَكُمْ لَوََاحِدٌ (4)}
جواب القسم وأجاز الكسائي فتح أن في القسم.
[سورة الصافات (37): آية 5]
{رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَرَبُّ الْمَشََارِقِ (5)}
{رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من واحد، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، وحكى الأخفش: {رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَرَبُّ الْمَشََارِقِ} بالنصب على النعت لاسم «إنّ».
[سورة الصافات (37): آية 6]
{إِنََّا زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِزِينَةٍ الْكَوََاكِبِ (6)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 150.(3/277)
هذه قراءة الحسن وأهل المدينة ويحيى بن وثاب وهي المعروفة من قراءة أبي عمرو، وحكى يعقوب القارئ أن أبا عمرو والأعمش قرءا بزينة الكواكب (1) بتنوين زينة ونصب الكواكب. وهي المعروفة من قراءة عاصم، وأما حمزة فقرأ {بِزِينَةٍ الْكَوََاكِبِ} (2) بتنوين زينة وخفض الكواكب، وقراءة رابعة تجوز وهي بزينة الكواكب (3) بتنوين زينة ورفع الكواكب فالقراءة الأولى {بِزِينَةٍ الْكَوََاكِبِ} بحذف التنوين من زينة للإضافة، وهي قراءة بيّنة حسنة أي إنّا زيّنّا السماء الدنيا بتزيين الكواكب أي بحسنها، وقرأه عاصم بتنوين زينة ونصب الكواكب فيها ثلاثة أقوال: أحداهنّ أن تكون الكواكب منصوبة بوقوع الفعل عليها أي بأنا زينا الكواكب، كما تقول: عجبت من ضرب زيدا. وقال الله عزّ وجلّ: {أَوْ إِطْعََامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14] إلّا أن هذا أحسن للتفريق، والقول الثاني أن يكون التقدير: أعني الكواكب، والقول الثالث ذكره أبو إسحاق أن يكون الكواكب بدلا من زينة على الموضع لأن موضعها نصب وقراءة حمزة {بِزِينَةٍ الْكَوََاكِبِ} على بدل المعرفة من النكرة.
[سورة الصافات (37): آية 7]
{وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ مََارِدٍ (7)}
{وَحِفْظاً} نصب على المصدر والفعل محذوف، وهو معطوف على «زينا». {مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ مََارِدٍ} نعت لشيطان. وكلّ عات من الجنّ والإنس فهو شيطان، فالعرب تسميه شيطانا.
[سورة الصافات (37): آية 8]
{لاََ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ََ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جََانِبٍ (8)}
{لََا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ََ} هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين لا يسمعون (4) على أن الأصل: يتسمّعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها. ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة واحتجّ في ذلك أنّ العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه، ولكن تسمعت إليه، قال: فلو كان «يسّمّعون الملأ» بغير «إلى» لكان مخفّفا. قال أبو جعفر: يقال: سمعت منه كلاما وسمعت إليه يقول كذا ومعنى سمعت إليه: أملت سمعي إليه. فأما قوله: لو كان يسمعون الملأ، فكأنه غلط، لأنه لا يقال: سمعت زيدا، وتسكت إنما تقول: سمعت زيدا يقول كذا وكذا فيسمعون إلى الملأ على هذا أبين. وقد روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس: {لََا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ََ} قال: هم لا يسمعون وهم يتسمّعون. وهذا قول بيّن {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جََانِبٍ}.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338.
(4) انظر تيسير الداني 151.(3/278)
[سورة الصافات (37): آية 9]
{دُحُوراً وَلَهُمْ عَذََابٌ وََاصِبٌ (9)}
{دُحُوراً} مصدر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {دُحُوراً} (1) بفتح الدال يجعله مصدرا على فعول بمنزلة القبول وأما الفراء فقدّره على أنه اسم الفاعل أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء والكوفيون يستعملون هذا كثيرا، كما أنشدوا لجرير:
[الوافر] 366 تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام (2)
قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير «مررتم بالديار».
[سورة الصافات (37): آية 10]
{إِلاََّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ ثََاقِبٌ (10)}
{إِلََّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فيه لغات قد قرئ ببعضها، وهي غير مخالفة للخطّ يقال:
إذا أخذ الشيء بسرعة خطف وخطف وخطّف وخطّف وخطّف والأصل المشدّدات اختطف فأدغمت التاء في الطاء لأنها أختها وفتحت الخاء، لأن حركة التاء ألقيت عليها ومن كسرها فلالتقاء الساكنين، ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر. {فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ ثََاقِبٌ} نعت لشهاب. قال أبو إسحاق: يقال: تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وشهاب وشهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من العرب، وحكى الأخفش سعيد: في الجمع شهب ثقب وثواقب وثقاب، وحكى الكسائي: ثقب يثقب ثقابة وثقوبا.
[سورة الصافات (37): آية 11]
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنََا إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِنْ طِينٍ لاََزِبٍ (11)}
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنََا} «من» بمعنى الذين والمعنى: أم الذين خلقناهم وقد تقدّم ذكر الملائكة وغيرهم {إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِنْ طِينٍ لََازِبٍ}. وحكى الفراء عن العرب طين لاتب (3) بمعناه أي لازق.
[سورة الصافات (37): آية 12]
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)}
هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما {بَلْ عَجِبْتَ} (4) بضم التاء وإليها يذهب أبو عبيد، واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ {وَإِنْ تَعْجَبْ}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 339، ومعاني الفراء 2/ 833.
(2) مرّ الشاهد رقم (263).
(3) انظر معاني الفراء 2/ 384.
(4) انظر تيسير الداني 151، وكتاب السبعة لابن مجاهد 547.(3/279)
{فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] ولا حجة فيه. ومعناه على ما قاله أبو حاتم: وإن تعجب فلك في قولهم عجب ولمن سمعه وفيه عجب. والقراءة بضم التاء مروية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن ابن مسعود رحمه الله رواها شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ {بَلْ عَجِبْتَ} بضم التاء ويروى عن ابن عباس قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل: يا محمد بل عجبت لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بالقرآن، وهذا قول حسن. {وَيَسْخَرُونَ} بالسين في السواد، ويجوز في غير القرآن عند الخليل رحمه الله أن يقال: «صخرت منه» بالصاد، ولغة شاذة «سخرت به» بالياء.
[سورة الصافات (37): آية 14]
{وَإِذََا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)}
أي يستدعون السّخريّ و «إذا» في موضع نصب بإضمار فعل قبلها، ولا يعمل فيها ما بعدها. وحكى الكسائي: دخر يدخر دخورا.
[سورة الصافات (37): آية 19]
{فَإِنَّمََا هِيَ زَجْرَةٌ وََاحِدَةٌ فَإِذََا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}
{فَإِنَّمََا هِيَ زَجْرَةٌ وََاحِدَةٌ} والجمع زجرات بتحريك الجيم فرقا بين الاسم والنعت.
[سورة الصافات (37): آية 20]
{وَقََالُوا يََا وَيْلَنََا هََذََا يَوْمُ الدِّينِ (20)}
{وَقََالُوا يََا وَيْلَنََا} منصوب على أنه مصدر عند البصريين، وزعم الفراء أن تقديره يا وي لنا. ووي بمعنى: حزن ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلّا متصلا فزاد الكوفيون على هذا، فحكى بعضهم لغات شتّى أنه يقال: ويل للشيطان، وويلا للشيطان، وويل للشيطان، وويل الشيطان، وويل الشيطان، وويل الشيطان. فأما ويل للشيطان فبيّن لا نظر فيه، وويلا للشيطان جائز بمعنى: ألزمه الله ويلا، وأما ويل للشيطان فشاذّ وهو مشبّه بالأصوات. فأما ويل الشيطان فهو عند البصريين منصوب على معنى ألزمه الله ويلا أيضا، وقال الفراء: لمّا كثر استعمالهم إيّاه جعلوه بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم، كما قالوا: يا لبكر، وهي لام الخفض، ومن قال: ويل الشيطان جاء به على الأصل، ومن قال: ويل الشيطان فالأصل عنده ويل للشيطان ثم حذف لكثرة اللامات كما قرئ {إِنَّ وَلِيِّيَ اللََّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتََابَ} [الأعراف: 196] بمعنى إنّ وليّي الله فحذف لكثرة الياءات. قال أبو جعفر:
لا تعرف هذه القراءة ولكن قرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب بمعنى إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب جبريل صلّى الله عليه وسلّم الذي نزّل الكتاب ثمّ أقيم النعت مقام المنعوت. {هََذََا يَوْمُ الدِّينِ} ابتداء وخبر. قال أبو جعفر: قال الضحاك وعطية العوفي: أي هذا يوم الحساب.(3/280)
[سورة الصافات (37): آية 21]
{هََذََا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}
«الذي» في موضع رفع على النعت لليوم ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت للفصل.
[سورة الصافات (37): الآيات 22الى 23]
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوََاجَهُمْ وَمََا كََانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللََّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ (23)}
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوََاجَهُمْ} معطوف على «الذين». وواحدهم زوج قال سفيان عن سماك عن النعمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: {وَأَزْوََاجَهُمْ} قرناؤهم وهو مبيّن في حديث شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول في قول الله جلّ وعزّ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوََاجَهُمْ} قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال سفيان عن أبيه عن المسيب بن رافع عن ابن عباس «احشروا الذين ظلموا وأزواجهم» قال:
أشباههم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال لا تدفع لجلالة قائلها وأنها معروفة في اللغة يقال: هذا زوج هذا أي قرينه وشبهه، ومن هذا قيل للرجل: زوج المرأة وللمرأة زوج الرجل وقيل للخفّين: زوجان لأن كل واحد منهما زوج لصاحبه، ولا يقال للاثنين إلا زوجان. وقال سعيد عن قتادة {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوََاجَهُمْ}، قال: الكفار مع الكفار. {وَمََا كََانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} قال الأصنام {فَاهْدُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْجَحِيمِ} يقال: هديته إلى الطريق وهديته الطريق أي دللته عليه، وأهديت الهديّة وهديت العروس ويقال أهديتها أي جعلتها بمنزلة الهدية.
[سورة الصافات (37): آية 24]
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)}
وحكى عيسى بن عمر أنهم بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم.
[سورة الصافات (37): آية 25]
{مََا لَكُمْ لاََ تَنََاصَرُونَ (25)}
في موضع نصب على الحال.
[سورة الصافات (37): آية 26]
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}
قال قتادة مستسلمون في عذاب الله.
[سورة الصافات (37): الآيات 27الى 28]
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ (27) قََالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنََا عَنِ الْيَمِينِ (28)}
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ} فربما توهم الجاهل أن هذا من قول جلّ وعزّ: {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلََا يَتَسََاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وليس منه في شيء لأن قوله جلّ وعزّ {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلََا يَتَسََاءَلُونَ} إنما هو لا يتساءلون بالأرحام فيقول أحدهم:
أسألك بالرحم التي بيني وبينك إمّا نفعتني أسقطت حقّا لك عليّ أو وهبت لي حسنة لأن قبله: فلا أنساب بينهم أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم كما جاء بالحديث «إنّ الرجل يوم القيامة ليسرّ بأن يصحّ له على أبيه أو على ابنه حقّ فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات» (1)، وفي حديث آخر «رحم الله امرأ كانت لأخيه عنده مظلمة في مال أو عرض فأتاه فاستحلّه قبل أن يطلبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب» (2) و «يتساءلون» هاهنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبّخه في أنه أضلّه أو فتح له بابا من المعصية يبيّن ذلك أنّ بعده {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنََا عَنِ الْيَمِينِ} قال سعيد عن قتادة: أي تأتونا عن طريق الخير وتصدّوننا، وعن ابن عباس نحو منه، وقيل: تأتوننا عن اليمين من الجهة التي نحبّها وننقاد إليها وتغرّونا بذاك. والعرب تتفاءل لما كان على اليمين، وتسميه السانح وقيل: تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدّقناه.(3/281)
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ} فربما توهم الجاهل أن هذا من قول جلّ وعزّ: {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلََا يَتَسََاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وليس منه في شيء لأن قوله جلّ وعزّ {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلََا يَتَسََاءَلُونَ} إنما هو لا يتساءلون بالأرحام فيقول أحدهم:
أسألك بالرحم التي بيني وبينك إمّا نفعتني أسقطت حقّا لك عليّ أو وهبت لي حسنة لأن قبله: فلا أنساب بينهم أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم كما جاء بالحديث «إنّ الرجل يوم القيامة ليسرّ بأن يصحّ له على أبيه أو على ابنه حقّ فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات» (1)، وفي حديث آخر «رحم الله امرأ كانت لأخيه عنده مظلمة في مال أو عرض فأتاه فاستحلّه قبل أن يطلبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب» (2) و «يتساءلون» هاهنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبّخه في أنه أضلّه أو فتح له بابا من المعصية يبيّن ذلك أنّ بعده {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنََا عَنِ الْيَمِينِ} قال سعيد عن قتادة: أي تأتونا عن طريق الخير وتصدّوننا، وعن ابن عباس نحو منه، وقيل: تأتوننا عن اليمين من الجهة التي نحبّها وننقاد إليها وتغرّونا بذاك. والعرب تتفاءل لما كان على اليمين، وتسميه السانح وقيل: تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدّقناه.
[سورة الصافات (37): آية 29]
{قََالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)}
قال قتادة: هذا قول للشياطين لهم.
[سورة الصافات (37): آية 30]
{وَمََا كََانَ لَنََا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طََاغِينَ (30)}
{سُلْطََانٍ} في موضع رفع لأن «من» زائدة للتوكيد. {بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طََاغِينَ} أي متزايدين في الكفر، وطغى الماء إذا زاد.
[سورة الصافات (37): آية 31]
{فَحَقَّ عَلَيْنََا قَوْلُ رَبِّنََا إِنََّا لَذََائِقُونَ (31)}
{فَحَقَّ عَلَيْنََا قَوْلُ رَبِّنََا} أي فحقّ علينا ما كتبه الله جلّ وعزّ، وما أعلم به ملائكته صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا موافق للحديث «إنّ الله جلّ وعزّ كتب للنار أهلا وللجنّة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم» (3).
[سورة الصافات (37): آية 32]
{فَأَغْوَيْنََاكُمْ إِنََّا كُنََّا غََاوِينَ (32)}
أي كنا سببا لغيّكم.
[سورة الصافات (37): آية 33]
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذََابِ مُشْتَرِكُونَ (33)}
أي الضالّ والمضلّ، ولو كان في غير القرآن لجاز نصب مشتركين.
[سورة الصافات (37): آية 34]
{إِنََّا كَذََلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)}
الكاف من كذلك في موضع نصب نعت لمصدر.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 15/ 74.
(2) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 9/ 254.
(3) أخرجه الترمذي في سننه في التفسير 11/ 195، وابن ماجة في سننه في المقدمة الحديث رقم (82).(3/282)
[سورة الصافات (37): آية 35]
{إِنَّهُمْ كََانُوا إِذََا قِيلَ لَهُمْ لاََ إِلََهَ إِلاَّ اللََّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}
يكون يستكبرون في موضع نصب على خبر كان، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر «إنّ» وكان ملغاة.
[سورة الصافات (37): آية 38]
{إِنَّكُمْ لَذََائِقُوا الْعَذََابِ الْأَلِيمِ (38)}
الأصل لذائقون حذفت النون استخفافا، وخفضت للإضافة، ويجوز النصب، كما أنشد سيبويه: [المتقارب] 367 فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا (1)
وأجاز سيبويه {وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ} [الحج: 35] على هذا.
[سورة الصافات (37): آية 40]
{إِلاََّ عِبََادَ اللََّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}
نصب على الاستثناء.
[سورة الصافات (37): آية 42]
{فَوََاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)}
{فَوََاكِهُ} بدل من رزق.
[سورة الصافات (37): آية 44]
{عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ (44)}
قال عكرمة: لا ينظر بعضهم في قفا بعض، ويجوز سرر لثقل الضمة مع التضعيف.
[سورة الصافات (37): آية 45]
{يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)}
روي عن ابن عباس قال: الخمر، وعن مجاهد قال: هي خمر بيضاء، وقال الضحاك: كل كأس في القرآن فهي خمر، وحكي من يوثق به من أهل اللغة أنّ العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس فإن لم يكن فيه خمر فهو قدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة فإن لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان: ومثله ظعينة للهودج إذا كانت فيه امرأة. قال أبو إسحاق: بكأس من معين:
خمر تجري العيون على وجه الأرض.
[سورة الصافات (37): آية 46]
{بَيْضََاءَ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ (46)}
قال: و {لَذَّةٍ} بمعنى ذات لذّة.
[سورة الصافات (37): آية 47]
{لاََ فِيهََا غَوْلٌ وَلاََ هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ (47)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (73).(3/283)
{لََا فِيهََا غَوْلٌ} ويقال بمعناه: غيلة وغائلة، وهو ما يؤذي الإنسان من الصداع أو غيره {وَلََا هُمْ عَنْهََا يُنْزَفُونَ} قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين إلّا عاصما {يُنْزَفُونَ} (1) بكسر الزاي. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى أبين وأصحّ في المعنى لأن معنى «ينزفون» عند جلّة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم فنفى الله جلّ وعزّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. فأما معنى «ينزفون» فالصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهذا يبعد أن يوصف به شراب أهل الجنة، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفذ أبدا.
[سورة الصافات (37): آية 48]
{وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)}
عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب قالوا: قصرن طرفهنّ على أزواجهن فلا يبغين غيرهم، وقال عكرمة: قاصرات الطرف أي محبوسات على أزواجهن والتفسير الأول أبين لأنه ليس في الآية مقصورات موضع آخر {حُورٌ مَقْصُورََاتٌ} [الرحمن:
72] من قول العرب امرأة قصيرة ومقصورة إذا حبست على زوجها. {عِينٌ} جمع عيناء والأصل فيه فعل فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا.
[سورة الصافات (37): آية 49]
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}
قال مطر الوراق: أي بيض محضون أي لم توسّخه الأيدي. قال أبو جعفر:
هكذا تقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النّعام المغطّى بالريش.
[سورة الصافات (37): الآيات 50الى 52]
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ (50) قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كََانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)}
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ} وإدغام التاء في السين جائز في العربية. قال الأخفش: إنما سأل عن صاحبه ثم أخبر فقال {إِنِّي كََانَ لِي قَرِينٌ} قال سعد بن مسعود:
وشريكه قرينه، وهما رجلان من بني إسرائيل اشتركا في تجارة فربحا ستة آلاف دينار، فأخذ كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فافترقا فلقي أحدهما صاحبه فقال له: هل علمت أني تزوجت امرأة من أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى صاحبه فأخذ ألف دينار تصدّق بها على المساكين والفقراء وقال: اللهمّ إنّ صاحبي تزوّج امرأة يموت عنها، ويكبر وتفارقه، وأني أسألك أن تنكحني امرأة من نساء أهل الجنّة بهذه الألف،
__________
(1) انظر تيسير الداني 151، وكتاب السبعة لابن مجاهد 547.(3/284)
ثم إنّ صاحبه لقيه فقال له: هل علمت أني اشتريت مسكنا من أفضل مساكن بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى صاحبه فتصدّق بألف دينار على الفقراء والمساكين وقال:
اللهم إني اشتريت منك مسكنا من مساكن أهل الجنّة بهذه الألف دينار، ثمّ لقي صاحبه فقال: هل علمت أني اشتريت جنة من أفضل جنة بني إسرائيل بألف دينار فصرت من أفضلهم بزوجتي ومسكني وجنتي؟ فمضى صاحبه فتصدّق بالألف الباقي على الفقراء والمساكين وقال: اللهم إنّي قد اشتريت منك جنة الخلد بهذا الألف، ثمّ إنّ صاحبه الذي اكترى أجراء لجنّته فإذا هو بصاحبه فيهم فعرفه فدعا به فقال له أشحّ هذا أم أفسدت ملكك فحدّثه بالقصة، فقال له: أتتوهّم أنك ستبعث ثم تدان بما علمت أنك لمغرور وإنّ هذا لباطل، ففيهما أنزل الله جلّ وعزّ {«قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كََانَ لِي قَرِينٌ»} إلى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ}.
قال أبو جعفر: التقدير {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} بأنّا مدينون أي محاسبون مجاوزون بأعمالنا ثم حذفت الياء وكسرت «إنّ»، لأن في خبرها اللام، ولا يجوز أنك لمن المصدّقين لأنه لا معنى للصدقة هاهنا.
[سورة الصافات (37): آية 54]
{قََالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}
وحكي {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} (1). قال أبو إسحاق: يقال: طلع، وأطلع بمعنى واحد، وقد حكي: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} بكسر النون وهي لحن لا يجوز لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعيّ، وإن كان سيبويه والفراء حكيا مثله، وأنشدا: [الطويل] 368 هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما (2)
وإنشاد الفراء «والفاعلونه» وأنشد سيبويه وحده: [الطويل] 369 ولم يرتفق والنّاس محتضرونه ... جميعا وأيدي المعتفين رواهقه (3)
وأنشد الفراء وحده: [الوافر] 370 وما أدري وظنّي كلّ ظنّ ... أمسلمني إلى قومي شراح (4)
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 344، والمحتسب 2/ 219.
(2) البيت بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 392، والكتاب 1/ 247، وخزانة الأدب 4/ 266، والدرر 6/ 235، وشرح المفصّل 2/ 125، ولسان العرب (طلع)، و (حين)، و (ها)، ومجالس ثعلب 1/ 150، وهمع الهوامع 2/ 157.
(3) البيت بلا نسبة في الكتاب 1/ 248، وخزانة الأدب 4/ 266، وشرح المفصّل 2/ 125، والمقرّب 1/ 125، والكامل 371.
(4) الشاهد ليزيد بن محرم الحارثي في شرح شواهد المغني 2/ 770، والدرر 1/ 212، والمقاصد النحوية 1/ 385، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 243، وتذكرة النحاة 422، ورصف المباني 363، ولسان العرب (شرحل)، والمحتسب 2/ 220، ومغني اللبيب 2/ 345، والمقرّب 1/ 125، وهمع الهوامع 1/ 65.(3/285)
أما البيتان اللذان أنشدهما سيبويه وشركه الفراء في أحدهما فلا يعرف من قالهما ولا تثبت بهما حجّة، ولو عرف من قالهما لكانا شاذين خارجين عن كلام العرب وما كان هكذا لم يحتجّ به في كتاب الله جلّ وعزّ، ولا يدخل في الفصيح.
وأما البيت الذي أنشده الفراء فالقول فيه ما حكاه أبو إسحاق قال: أنشدنا محمد بن يزيد «أأسلمني» وزعم الفراء أنه يريد بشراح شراحيل. وهذا من أقبح الضرورات أن يرخّم في غير النداء وإنما لم يجز «هل أنتم مطلعون» بكسر النون لأنه جاء إلى ما لا ينفصل مما قبله بالنون وهذا ما لا وجه له، وهذا قول من يوثق به من النحويين منهم محمد بن يزيد، وهو أيضا قول الفراء غير أنه أفسده بعد ذلك فقال: ضاربني مشبّه بيضربني.
[سورة الصافات (37): آية 55]
{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ (55)}
وحكي {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} (1) وفيه قولان: أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا أي فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام، والقول الثاني على أن يكون فعلا ماضيا ويكون أطلع واطلع واحدا {فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ} عن عبد الله بن مسعود قال: في وسطها والحسك حواليه.
[سورة الصافات (37): آية 56]
{قََالَ تَاللََّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)}
قال الكسائي: أي لثهّلكني، وقال محمد بن يزيد: لو قيل: لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا.
[سورة الصافات (37): آية 57]
{وَلَوْلاََ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}
ما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا.
[سورة الصافات (37): الآيات 58الى 59]
{أَفَمََا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاََّ مَوْتَتَنَا الْأُولى ََ وَمََا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)}
{إِلََّا مَوْتَتَنَا الْأُولى ََ} يكون استثناء ليس من الأول، ويكون مصدرا لأنه منعوت.
[سورة الصافات (37): آية 60]
{إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)}
يكون هو مبتدأ، وما بعده خبرا عنه، والجملة خبر «إنّ» ويجوز أن يكون هو فاصلا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 345، ومعاني الفراء 2/ 386.(3/286)
[سورة الصافات (37): آية 61]
{لِمِثْلِ هََذََا فَلْيَعْمَلِ الْعََامِلُونَ (61)}
والأصل ليعمل بكسر اللام، فحذفت الكسرة لثقلها. والتقدير والله جلّ وعزّ أعلم فليعمل العاملون لمثل هذا فإن قال قائل: فالفاء في العربية تدلّ على أن الثاني بعد الأول فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أنّ التقديم كمثل التأخير لأنّ حقّ حروف الخفض وما معها أن تكون متأخرة.
[سورة الصافات (37): آية 62]
{أَذََلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}
{أَذََلِكَ خَيْرٌ} مبتدأ وخبره {نُزُلًا} على البيان والمعنى أنعيم أهل الجنة خير نزلا أم شجرة الزقوم خير نزلا والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة وكذا النّزل والنزل إلّا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة، ويجوز أن يكون أصله النّزل فحذفت الضمة لثقلها، ومنه: أقيم للقوم نزلهم. واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه، ويقيموا فيه. وشجرة الزقوم مشتقّة من التزقّم، وهو البلع على الجهد والشدّة، فقيل لها شجرة الزقوم لأنهم يبتلعونها على جهد وتقف في حلوقهم لكراهيتها ونتنها.
[سورة الصافات (37): آية 63]
{إِنََّا جَعَلْنََاهََا فِتْنَةً لِلظََّالِمِينَ (63)}
مفعولان.
[سورة الصافات (37): آية 64]
{إِنَّهََا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)}
{إِنَّهََا شَجَرَةٌ} خبر «إن» ولا يجوز حذف الألف من «إنها» كما حذفت الواو من إنه لثقل الواو وخفة الألف. {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} خبر بعد خبر مثل {كَلََّا إِنَّهََا لَظى ََ نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ} [المعارج: 16] ويجوز أن يكون تخرج نعتا للشجرة.
[سورة الصافات (37): آية 65]
{طَلْعُهََا كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّيََاطِينِ (65)}
{طَلْعُهََا} مبتدأ، وخبره في الجملة أو تجعل الكاف بمعنى مثل فتكون خبرا.
[سورة الصافات (37): الآيات 66الى 68]
{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهََا فَمََالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهََا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}
{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهََا} دخلت اللام للتوكيد، وكذا {لَشَوْباً} حكى الفراء شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء سواهما يشوبهما شوبا وشابة.
[سورة الصافات (37): آية 70]
{فَهُمْ عَلى ََ آثََارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}
قال الفراء (1): الإهراع الإسراع فيه شبيه بالرعدة، وقال محمد بن يزيد: المهرع
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 387.(3/287)
المستحب يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثّه البرد إليها، وحكى أبو إسحاق:
هرع وأهرع جميعا.
[سورة الصافات (37): آية 75]
{وَلَقَدْ نََادََانََا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}
{وَلَقَدْ نََادََانََا نُوحٌ} من النداء الذي هو استغاثة ودعاء. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} قال الكسائي: فلنعم المجيبون له كنا.
[سورة الصافات (37): آية 76]
{وَنَجَّيْنََاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}
{وَنَجَّيْنََاهُ وَأَهْلَهُ} عطف على الهاء.
[سورة الصافات (37): آية 77]
{وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبََاقِينَ (77)}
{وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ} مفعول أول و {هُمُ} زائدة تسمّى فاصلة {الْبََاقِينَ} مفعول ثان. فأما معنى {وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبََاقِينَ} فمن أحسن ما روي فيه ما ذكر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيّب في قوله جلّ وعزّ {وَجَعَلْنََا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبََاقِينَ} أنّ الناس كلّهم من ولد نوح صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم كلّهم من ثلاثة أولاد لنوح سام وحام ويافث فالعرب يعني يمنيها ونزارها والروم والفرس من ولد سام، والسودان يعني أجناسهم من السند والهند والزغاوة وغيرهم والبربر والقبط من ولد حام، والصقالب والترك ويأجوج ومأجوج من ولد يافث. والخير في ولد سام. قال أبو جعفر: صرفت نوحا وساما وإن كانت أسماء أعجمية لأنها على ثلاثة أحرف فخفّت. هذا الصحيح، وقد قيل إنها عربية مشتقة.
[سورة الصافات (37): الآيات 78الى 79]
{وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلاََمٌ عَلى ََ نُوحٍ فِي الْعََالَمِينَ (79)}
زعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال: سلام على نوح أي تركنا عليه هذا الثناء، وهذا مذهب أبي العباس، قال: والعرب تحذف القول كثيرا. والقول الآخر أن يكون المعنى: وألقينا عليه وتمّ الكلام ثم ابتدأ فقال: سلام على نوح. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاما (1) منصوب بتركنا أي تركنا عليه ثناء حسنا.
[سورة الصافات (37): آية 80]
{إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)}
أي يبقى عليهم الثناء الحسن، والكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك.
[سورة الصافات (37): آية 82]
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 349.(3/288)
الواحد: آخر والأصل فيه أن يكون معه «من» إلا أنها حذفت لأن المعنى معروف لا يكون آخر ومعه شيء من جنسه.
[سورة الصافات (37): آية 83]
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرََاهِيمَ (83)}
نصب بإنّ.
[سورة الصافات (37): آية 84]
{إِذْ جََاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)}
قال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله في خلقه.
[سورة الصافات (37): آية 85]
{إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا ذََا تَعْبُدُونَ (85)}
تكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» خبره، ويجوز أن تكون «ما» و «ذا» في موضع نصب بتعبدون.
[سورة الصافات (37): آية 86]
{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللََّهِ تُرِيدُونَ (86)}
{أَإِفْكاً} نصب بتعبدون. قال أبو العباس محمد بن يزيد: والإفك أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض، {آلِهَةً} بدل من إفك.
[سورة الصافات (37): آية 87]
{فَمََا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعََالَمِينَ (87)}
{فَمََا ظَنُّكُمْ} مبتدأ وخبره.
[سورة الصافات (37): آية 88]
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)}
يكون جمع نجم، ويكون واحدا مصدرا، وهذا قول الخليل أي فيما نجم له من الرأي.
[سورة الصافات (37): آية 89]
{فَقََالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}
عن ابن عباس قال: مريض، وقال الضحاك: أي مطعون فينحّوا عنه لئلا يعديهم. وصدق إبراهيم في هذا لأن كلّ أحد سيسقم بالموت، كما قال جلّ وعزّ {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهّموا أنه سقيم الساعة.
قال أبو جعفر: وهذا من معاريض الكلام.
[سورة الصافات (37): آية 90]
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}
نصب على الحال.(3/289)
[سورة الصافات (37): الآيات 91الى 94]
{فَرََاغَ إِلى ََ آلِهَتِهِمْ فَقََالَ أَلاََ تَأْكُلُونَ (91) مََا لَكُمْ لاََ تَنْطِقُونَ (92) فَرََاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)}
{فَرََاغَ إِلى ََ آلِهَتِهِمْ فَقََالَ أَلََا تَأْكُلُونَ} فخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة في عبادتهم إياها، وكذا «قال ألا تأكلون» متعجبا منها، وكذا {مََا لَكُمْ لََا تَنْطِقُونَ} وكذا {فَرََاغَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: عليها ولا عليهنّ {ضَرْباً} مصدر، وقرأ مجاهد ويحيى بن وثاب والأعمش {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} (1) بضم الياء وزعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبّهها بقولهم: أطردت الرجل، أي صيّرته إلى ذلك وطردته نحّيته. وأنشد هو وغيره: [الطويل] 371 تمنّى حصين أن يسود جذاعه ... فأضحى حصين قد أذلّ وأقهرا (2)
أي صيّر إلى ذلك فكذا «يزفّون» يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد:
الزفيف: الإسراع، وقال أبو إسحاق: الزفيق: أول عدو النعام. قال أبو حاتم: وزعم الكسائي أنّ قوما قرءوا {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} (3) من وزف يزف مثل وزن يزن فهذه حكاية أبي حاتم، وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء (4) وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف «يزفون» مخفّفة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق:
وقد عرفها غيرهما أنه يقال: وزف يزف إذا أسرع، ولا أعلم أحدا قرأ «يزفون».
[سورة الصافات (37): آية 95]
{قََالَ أَتَعْبُدُونَ مََا تَنْحِتُونَ (95)}
ويقال: نحت ينحت وينحت لأنه فيه حرف من حروف الحلق.
[سورة الصافات (37): آية 96]
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ وَمََا تَعْمَلُونَ (96)}
«ما» في موضع نصب أي: وخلق ما تعلمون، ويجوز أن يكون في موضع نصب بيعملون أي: وأيّ شيء تعملون.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلمّا صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
[سورة الصافات (37): آية 99]
{وَقََالَ إِنِّي ذََاهِبٌ إِلى ََ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)}
والأصل إنّني حذفت لاجتماع النونات.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 351.
(2) الشاهد للمخبل السعدي في ديوانه 294، ولسان العرب (قهر) و (جذع)، وتهذيب اللغة 5/ 395، وتاج العروس (قهر) و (جذع)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 35، ومجمل اللغة 4/ 128، وديوان الأدب 2/ 299، والمخصّص 3/ 130.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 389.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 389.(3/290)
[سورة الصافات (37): آية 100]
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصََّالِحِينَ (100)}
أي صالحا من الصالحين وحذف مثل هذا كثير.
[سورة الصافات (37): آية 101]
{فَبَشَّرْنََاهُ بِغُلاََمٍ حَلِيمٍ (101)}
أي إنه يكون حليما في كبره.
[سورة الصافات (37): آية 102]
{فَلَمََّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قََالَ يََا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ قََالَ يََا أَبَتِ افْعَلْ مََا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شََاءَ اللََّهُ مِنَ الصََّابِرِينَ (102)}
قال أبو جعفر: فاختلف العلماء في المأمور بذبحه، فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق فممن قال ذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ذلك الصحيح عنه ورواه الثوري عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: المفديّ إسحاق. وروى الثوري وابن جريج عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
الذبيح إسحاق، وهذا هو الصحيح عن عبد الله بن مسعود رواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود: أن رجلا قال: أنا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، وقد روى حمّاد ابن زيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين» (1). وروى أبو الزبير عن جابر قال: الذّبيح إسحاق، وذلك مرويّ أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عمر أنّ الذبيح إسحاق عليه السلام، فهؤلاء ستة من الصحابة ومن التابعين وغيرهم منهم علقمة والشّعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس وكعب الأحبار قالوا: الذبيح إسحاق صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو جعفر: أما من قال: هو إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فأبو هريرة، وهو يروي عن ابن عمر ثم تكلّم العلماء بعد ذلك فمنهم من قال: نصّ التأويل يدلّ على أنه إسماعيل عليه السلام لأن الله جلّ وعزّ قال: {وَبَشَّرْنََاهُ بِإِسْحََاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا فهذا قد قيل، وليس بقاطع والله جلّ وعزّ أعلم لأن البشارة بنبوته في ما روي بشارة ثابتة بعد الأمر بذبحه ثوابا على ما كان منه. فأمّا وعده بأن يكون من إسحاق ابن، فكيف يأمره بذبحه فقد يجوز أن يكون ولد لإسحاق غير ولد لأنه قد بلغ السعي، فظاهر التنزيل يدلّ على أن الذبيح إسحاق لأنه أخبر جلّ وعزّ أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين قال: {هَبْ لِي مِنَ الصََّالِحِينَ} فإذا كان
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 8/ 86.(3/291)
المفدّى هو المبشّر به وقد بيّن أن الذي بشر به هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وأن كلّ موضع من القرآن ذكر بتبشيره إياه بولد فهو إسحاق نبيا أي بتبشيره إياه بقوله فبشرناه بغلام حليم إنما هو إسحاق، فأما اعتلال من اعتلّ بأن قرني الكبش كانا معلّقين في الكعبة فليس يمتنع أن يكون حمل من الشام إلى مكّة على أن جماعة من العلماء قد قالوا كان الأمر بالذبح. فأما قوله: {إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ} فمن المشكل وقد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم: كان إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أمر إذا رأى رؤيا فيها كذا وكذا أن يذبح ابنه واستدلّ صاحب هذا القول بأنها في قراءة ابن مسعود إنّي أرى في المنام أفعل ما أمرت به فهذه قراءة على التفسير دالّة على أنه أمر بهذا قبل إذ كان مما لا يؤتى مثله برؤيا، وقال صاحب هذا القول: وقد ذبحه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وليس هذا مما يجوز أن ينسخ بوجه. واستدلّ عليه بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم عليهما السلام: لا تنظر إلى وجهي وترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض فأخذ إبراهيم السكين فأمرّها على خلفة فانقلبت فقال له: ما لك؟ فقال: انقلبت السكين، قال: اطعنّي بها طعنة ففعل، ثم فداه الله جلّ وعزّ. قال ابن عباس: فداه الله بكبش قد رعى في الجنّة أربعين سنة. وقال الحسن: ما فدى الله إسماعيل إلّا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. قال أبو إسحاق: يقال إنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبليّ وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. {فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ} أي ماذا تأتي به من رأيك. وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما {فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ} (1).
قال الفراء (2): المعنى: فانظر ماذا تري من صبرك أو جزعك، وأما غيره فقال: معناه ماذا تشير وأنكر أبو عبيد «تري»، وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصّة، وكذا قال أبو حاتم. قال أبو جعفر: وهذا غلط هذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور يقال: أريت فلانا الصواب، وأريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. {قََالَ يََا أَبَتِ افْعَلْ مََا تُؤْمَرُ} والقول الآخر في رؤيا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يعزم على ذبحه من أجل الرّؤيا، وإنما أضجعه ينظر الأمر ألا ترى أنه قال: يا أبت افعل ما تؤمر أي إن أمرت بشيء فافعله.
[سورة الصافات (37): الآيات 103الى 105]
{فَلَمََّا أَسْلَمََا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنََادَيْنََاهُ أَنْ يََا إِبْرََاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)}
{فَلَمََّا أَسْلَمََا} قال قتادة: أسلم أحدهما لله جلّ وعزّ نفسه وأسلم الآخر ابنه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يقال: كبه وحوّل وجهه إلى القبلة، وجواب لمّا محذوف عند البصريين أي فلمّا أسلما سعدا وأجزل لهما الثواب. وقال الكوفيون: الجواب {نََادَيْنََاهُ} والواو زائدة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 151، والبحر المحيط 7/ 355.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 390.(3/292)
قال أبو جعفر: والواو من حروف المعاني فلا يجوز أن تزاد. وفي قراءة ابن مسعود فلما سلّما وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا (1) أي فعلت ما أمرت به، وما رأيته في النوم.
{إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة.
[سورة الصافات (37): آية 106]
{إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْبَلاََءُ الْمُبِينُ (106)}
أي النعمة الظاهرة يقال: أبلاه الله بلاء وإبلاء إذا نعم عليه، وقد يقال: بلاه قال زهير: [الطويل] 372 جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو (2)
فزعم قوم أنه جاء باللغتين، وقال آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره ولا يقال في الاختبار إلّا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء بلاه. وأصل هذا كلّه من الاختبار لأن الاختبار يكون بالخير والشرّ. قال جلّ وعزّ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
[الأنبياء: 35] وقال ابن زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه، قال: وهذا من البلاء المكروه.
[سورة الصافات (37): آية 107]
{وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}
الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح، والذبح بالفتح المصدر.
وروى الثوري عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ {وَبَشَّرْنََاهُ بِإِسْحََاقَ نَبِيًّا مِنَ الصََّالِحِينَ} قال: بشّر بنبوّته، وذهب إلى أنّ البشارة به كانت مرتين.
[سورة الصافات (37): آية 113]
{وَبََارَكْنََا عَلَيْهِ وَعَلى ََ إِسْحََاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمََا مُحْسِنٌ وَظََالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}
{وَبََارَكْنََا عَلَيْهِ وَعَلى ََ إِسْحََاقَ} أي ثبتنا عليهما النعمة.
[سورة الصافات (37): آية 115]
{وَنَجَّيْنََاهُمََا وَقَوْمَهُمََا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)}
قال أبو إسحاق: في معنى {وَنَجَّيْنََاهُمََا وَقَوْمَهُمََا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الغرق الذي لحق آل فرعون.
[سورة الصافات (37): آية 116]
{وَنَصَرْنََاهُمْ فَكََانُوا هُمُ الْغََالِبِينَ (116)}
{وَنَصَرْنََاهُمْ} موسى وهارون وقومهما، وذهب الفراء (3) إلى أنه لموسى وهارون وحدهما واعتلّ بأن الاثنين جمع.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 355، والمحتسب 2/ 222.
(2) انظر ديوانه ص 109، واللسان (بلا).
(3) انظر معاني الفراء 2/ 390.(3/293)
[سورة الصافات (37): آية 123]
{وَإِنَّ إِلْيََاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)}
روى أبو إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال: إسرائيل هو يعقوب وإلياس: هو إدريس، وقيل: هو الخضر قال الفراء: إن أخذت إلياس من الأليس صرفته.
[سورة الصافات (37): آية 125]
{أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخََالِقِينَ (125)}
روى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {أَتَدْعُونَ بَعْلًا}.
قال صنما، وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس {«أَتَدْعُونَ بَعْلًا»} قال: ربّا. قال أبو جعفر: القولان صحيحان أي تدعون صنما عملتموه ربّا. {«أَتَدْعُونَ»} بمعنى أتسمّون، حكى ذلك سيبويه {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخََالِقِينَ}.
[سورة الصافات (37): آية 126]
{اللََّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبََائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)}
بالنصب قراءة الربيع بن خثيم والحسن وابن أبي إسحاق ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم، وحكى أبو عبيد: أنها على النعت. قال أبو جعفر: وهذا غلط وإنما هو البدل ولا يجوز النعت هاهنا لأنه ليس بتحلية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع الله ربكم بالرفع.
قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربّكم. قال أبو جعفر: وأولى مما قال إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف، ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع أولى وأحسن لأن قلبه رأس آية فالاستئناف أولى.
[سورة الصافات (37): آية 130]
{سَلاََمٌ عَلى ََ إِلْ يََاسِينَ (130)}
قراءة الأعرج وشيبة ونافع وفيها قراءتان أخريان: قرأ عكرمة وأبو عمرو وحمزة والكسائي سلام على إلياسين (1) وقرأ الحسن سلام على الياسين (2) بوصل الألف كأنها «ياسين» دخلت عليها الألف واللام للتعريف. فمن قرأ سلام على آل ياسين كأنه والله أعلم جعل اسمه «الياس» و «ياسين» ثم سلّم على آله أي أهل دينه ومن كان على مذهبه وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلّ على آل أبي أوفى» (3) وقال جلّ وعزّ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذََابِ}
[غافر: 46] فأما «الياسين» فللعلماء فيها غير قول روى هارون عن ابن أبي إسحاق
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 358، وكتاب السبعة لابن مجاهد 549، وتيسير الداني 151.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 358، وكتاب السبعة لابن مجاهد 549، وتيسير الداني 151.
(3) أخرجه أبو داود في سننه الزكاة رقم الحديث (1590)، وابن ماجة في سننه الزكاة رقم الحديث (1796).(3/294)
قال: إلياسين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له وأبو عبيد (1) يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل مذهبه يسلّم عليهم، وأنشد: [الرجز] 373 قدني من نصر الخبيبين قدي (2)
وإنما يريد أبا خبيب عبد الله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه، وغير أبي عبيدة يرويه «الخبيبين» على التثنية يريد عبد الله ومصعبا. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا الشرح، قال: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم فيقولون: المهالبة على أنهم سمّوا كلّ واحد بالمهلّب، قال: فعلى هذا «سلام على الياسين» سمّى كل رجل منهم الياس. وقد ذكر سيبويه «في كتابه» (3) شيئا من هذا إلّا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على وجه النسبة فيقولون: الأشعرون يريدون به النسب، واحتجّ أبو عبيدة في قراءته «سلام على الياسين» وأن اسمه كما أن اسمه الياس لأنه ليس في السورة «سلام على آل» لغيره من الأنبياء صلّى الله عليه، وكما سمّي الأنبياء، كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو بن العلاء وهو غير لازم لأنّا قد بيّنا قول أهل اللغة أنّه إذا سلم على آله من أجله فهو مسلم عليه والقول بأنّ اسمه الياس والياسين يحتاج إلى دليل ورواية فقد وقع في الأمر إشكال كان الأولى اتباع الخط الذي في المصحف وفي المصحف «سلام على آل ياسين» بالانفصال فهذا ما لا إشكال فيه. وللفراء (4) في هذا قول حسن ليس بالمشروع سنذكره ونشرحه إن شاء الله، وذلك أنه شبهه بقول الله جلّ وعزّ {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنََاءَ} [المؤمنون: 20] وقال جلّ وعزّ: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]. قال وهما بمعنى واحد وموضوع واحد وشرح هذا أن الياس اسم أعجمي والأسماء الأعجمية إذا وقعت إلى العرب غيّرتها بضروب من التغيير فيقولون إبراهيم وإبراهيم وإبرهام هكذا أيضا سيناء وسنين والياس والياسين ويس في قراءة «سلام على آل ياسين» بمعنى واحد.
[سورة الصافات (37): الآيات 135الى 137]
{إِلاََّ عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)}
{إِلََّا عَجُوزاً} نصب على الاستثناء و {مُصْبِحِينَ} نصب على الحال.
[سورة الصافات (37): آية 138]
{وَبِاللَّيْلِ أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (138)}
{وَبِاللَّيْلِ} عطف على المعنى أي في الصبح وفي الليل.
[سورة الصافات (37): آية 139]
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)}
لم ينصرف لأنه اسم أعجميّ ولو كان عربيا لانصرف، وإن كانت في أوله الياء لأنه
__________
(1) انظر مجاز القرآن 2/ 172.
(2) مرّ الشاهد رقم (279).
(3) انظر الكتاب 3/ 454.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 391.(3/295)
ليس في الأفعال يفعل، كما أنك إذا سمّيت بيعفر صرفته وإن سمّيته بيعفر لم تصرفه.
[سورة الصافات (37): آية 140]
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)}
{إِذْ أَبَقَ} قال محمد بن يزيد: أصل أبق تباعد ومنه: غلام آبق وأبق وقال غيره:
إنما قيل يونس أبق لأنه خرج لغير أمر الله جلّ وعزّ مستترا من الناس. {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} قال الفراء: (1) الفلك يذكّر ويؤنّث ويذهب به إلى معنى الجميع، وقال غيره:
إذا ذهب به إلى معنى الجمع فهو جمع فلك مثل: وثن ووثن.
[سورة الصافات (37): آية 141]
{فَسََاهَمَ فَكََانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)}
{فَسََاهَمَ} قال محمد بن يزيد: فقارع قال: وأصله من السّهام التي تجال {فَكََانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي من المغلوبين به. قال الفراء (2): يقال: دحضت حجّته وأدحضها الله وأصله من الزلق.
[سورة الصافات (37): آية 142]
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}
من ألام إذا أتى بما يجب أن يلام عليه مثل: أحمق فهو محمق، فأما الملوم فهو الذي يلام استحق ذلك أو لم يستحق.
[سورة الصافات (37): الآيات 143الى 144]
{فَلَوْلاََ أَنَّهُ كََانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}
قال الكسائي: لم يكسر «أنّ» لدخول اللام لأن اللام ليست لها. قال أبو جعفر:
والأمر كما قال إنما اللام في جواب لولا وعن ابن مسعود وابن عباس «فلولا أنه كان من المسبحين» قالا أي من المصلين. قال قتادة: كان يصلّي قبل ذلك فحفظ الله جل وعز له ذلك فنجاه. قال الربيع بن أنس: لولا أنه كان قبل ذلك له عمل صالح {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قال: ومكتوب في الحكمة أن العمل الصالح يرفع ربّه إذا عشر.
قال سعيد بن جبير: لما قال لا إله إلا أنت سبحانك أنّي كنت من الظالمين قذفه الحوت.
[سورة الصافات (37): آية 145]
{فَنَبَذْنََاهُ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)}
مما يسأل عنه يقال: خبّر الله جلّ وعزّ هاهنا أنه نبذ بالعراء وقال جلّ وعزّ {لَوْلََا أَنْ تَدََارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] فالجواب أن الله جلّ وعزّ خبّر هاهنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا نعمة الله جلّ وعزّ عليه لنبذه بالعراء وهو مذموم. وحكى الأخفش في جمع سقيم: سقمي وسقامى وسقام.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 393.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 393.(3/296)
[سورة الصافات (37): آية 146]
{وَأَنْبَتْنََا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)}
جمع يقطينة قال محمد بن يزيد: يقال لكلّ شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض: يقطينة نحو الدبّاء والبطيخ والحنظل فإن كان لها ساق يقلّها فهي شجرة فقط، وإن كانت قائمة أي بغير ورق مفترش فهي نجمة وجمعها نجم.
[سورة الصافات (37): آية 147]
{وَأَرْسَلْنََاهُ إِلى ََ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)}
قال أبو جعفر: قد ذكرت حديث ابن عباس أنه قال: كانت الرسالة بعد ما نبذه الحوت وليس له طريق إلّا عن شهر بن حوشب، وأجود منه إسنادا، وأصحّ ما حدّثناه علي بن الحسين قال: حدّثنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا عمرو العنقريّ قال: حدّثنا إسرائيل عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: حدّثنا عبد الله في بيت المال عن يونس النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ يونس صلّى الله عليه وسلّم وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا وجأروا إلى الله جلّ وعزّ، واستغفروا فكفّ الله جلّ وعزّ عنهم العذاب، وهذا يونس صلّى الله عليه وسلّم ينتظر العذاب فلم ير شيئا. وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فخرج يونس صلّى الله عليه وسلّم مغاضبا فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت السفينة، والسفن تسير يمينا وشمالا، فقالوا: ما لسفينتكم؟
قالوا: لا ندري، فقال يونس صلّى الله عليه: إنّ فيها عبدا آبقا من ربّه جلّ وعزّ وإنها لن تسير حتى تلقوه، قالوا: أما أنت يا نبيّ الله فإنّا لا نلقيك، قال: فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه فأبوا أن يدعوه قالوا: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله جلّ وعزّ به حوتا فابتلعه فمرّ يهوي به إلى قرار الأرض فسمع يونس صلّى الله عليه تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال: ظلمة اللّيل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت قال: {فَنَبَذْنََاهُ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش قال: وأنبت الله جلّ وعزّ عليه شجرة من يقطين فنبتت، فكان يستظلّ بها، فيبست، فبكى عليها، فأوحى الله جلّ وعزّ إليه أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟ قال: وخرج يونس صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو بغلام يرعى فقال: يا غلام من أنت؟ قال: من قوم يونس، قال: فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال له: إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم يكن له بيّنة فمن يشهد لي قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فمرهما فقال لهما يونس صلّى الله عليه: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، وكان في منعة، وكان له إخوة فأتى الملك، فقال: إنّي قد لقيت يونس، وهو يقرأ عليكم السلام قال: فأمر به أن يقتل،
فقالوا: إنّ له بينة فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما بالله جلّ وعزّ أشهدكما يونس صلّى الله عليه وسلّم قالتا: نعم، قال: فرجع القوم مذعورين. يقولون: شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا، قال عبد الله: فتناول الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه فقال: أنت أحقّ بهذا المكان منّي، قال عبد الله: فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. فقد تبيّن في هذا الحديث أن يونس صلّى الله عليه كان قد أرسل قبل أن يلتقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس صلّى الله عليه آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كلّ والدة وولدها، والفاء في اللغة تدلّ على أن الثاني يلي الأول فكان حكم الله جلّ وعزّ فيهم كحكمه في غيرهم في قوله جلّ وعزّ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} [غافر: 85]، وقال جلّ ثناؤه {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 18] الآية وقد قال بعض العلماء: إنهم رأوا مخايل العذاب فتابوا. قال أبو جعفر: وهذا لا يمتنع فأما قوله عزّ وجلّ: {إِلََّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] فهو استثناء ليس من الأول. وقد ذكرنا معنى {أَوْ يَزِيدُونَ} وقول الفراء (1) أنها بمعنى «بل»، وقول غيره أنها بمعنى الواو. وأنه لا يصحّ هذان القولان، لأن «بل» ليس هذا من مواضعها، لأنها للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده. وتعالى الله عز وجل عن ذلك أو الخروج من شيء إلى شيء، وليس هذا موضع ذلك. والواو معناها خلاف معنى «أو» فلو كانت إحداهما بمعنى الأخرى لبطلت المعاني، ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائة ألف أخصر، وفي الآية قولان سوى هذين: أحدهما أنّ المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر، وإنّما خوطب العباد على ما تعرفون، والقول الآخر أنه كما تقول: جاءني زيد أو عمرو، وأنت تعرف من جاءك منهما إلّا أنك أبهمت على المخاطب.(3/297)
قالوا: لا ندري، فقال يونس صلّى الله عليه: إنّ فيها عبدا آبقا من ربّه جلّ وعزّ وإنها لن تسير حتى تلقوه، قالوا: أما أنت يا نبيّ الله فإنّا لا نلقيك، قال: فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه فأبوا أن يدعوه قالوا: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله جلّ وعزّ به حوتا فابتلعه فمرّ يهوي به إلى قرار الأرض فسمع يونس صلّى الله عليه تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال: ظلمة اللّيل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت قال: {فَنَبَذْنََاهُ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش قال: وأنبت الله جلّ وعزّ عليه شجرة من يقطين فنبتت، فكان يستظلّ بها، فيبست، فبكى عليها، فأوحى الله جلّ وعزّ إليه أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟ قال: وخرج يونس صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو بغلام يرعى فقال: يا غلام من أنت؟ قال: من قوم يونس، قال: فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال له: إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم يكن له بيّنة فمن يشهد لي قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فمرهما فقال لهما يونس صلّى الله عليه: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، وكان في منعة، وكان له إخوة فأتى الملك، فقال: إنّي قد لقيت يونس، وهو يقرأ عليكم السلام قال: فأمر به أن يقتل،
فقالوا: إنّ له بينة فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما بالله جلّ وعزّ أشهدكما يونس صلّى الله عليه وسلّم قالتا: نعم، قال: فرجع القوم مذعورين. يقولون: شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا، قال عبد الله: فتناول الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه فقال: أنت أحقّ بهذا المكان منّي، قال عبد الله: فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. فقد تبيّن في هذا الحديث أن يونس صلّى الله عليه كان قد أرسل قبل أن يلتقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس صلّى الله عليه آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كلّ والدة وولدها، والفاء في اللغة تدلّ على أن الثاني يلي الأول فكان حكم الله جلّ وعزّ فيهم كحكمه في غيرهم في قوله جلّ وعزّ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا} [غافر: 85]، وقال جلّ ثناؤه {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ حَتََّى إِذََا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 18] الآية وقد قال بعض العلماء: إنهم رأوا مخايل العذاب فتابوا. قال أبو جعفر: وهذا لا يمتنع فأما قوله عزّ وجلّ: {إِلََّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] فهو استثناء ليس من الأول. وقد ذكرنا معنى {أَوْ يَزِيدُونَ} وقول الفراء (1) أنها بمعنى «بل»، وقول غيره أنها بمعنى الواو. وأنه لا يصحّ هذان القولان، لأن «بل» ليس هذا من مواضعها، لأنها للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده. وتعالى الله عز وجل عن ذلك أو الخروج من شيء إلى شيء، وليس هذا موضع ذلك. والواو معناها خلاف معنى «أو» فلو كانت إحداهما بمعنى الأخرى لبطلت المعاني، ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائة ألف أخصر، وفي الآية قولان سوى هذين: أحدهما أنّ المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر، وإنّما خوطب العباد على ما تعرفون، والقول الآخر أنه كما تقول: جاءني زيد أو عمرو، وأنت تعرف من جاءك منهما إلّا أنك أبهمت على المخاطب.
[سورة الصافات (37): الآيات 148الى 149]
{فَآمَنُوا فَمَتَّعْنََاهُمْ إِلى ََ حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنََاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)}
وفي قراءة ابن مسعود فآمنوا فمتعناهم حتى حين (2) والمعنى واحد.
{فَاسْتَفْتِهِمْ} قال أبو إسحاق: أي فاسألهم سؤال توبيخ وتقرير {أَلِرَبِّكَ الْبَنََاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} لأن معنى «فاستفتهم» فقل لهم.
[سورة الصافات (37): آية 150]
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاََئِكَةَ إِنََاثاً وَهُمْ شََاهِدُونَ (150)}
{إِنََاثاً} جمع أنثى. قال أبو إسحاق: «أم» بمعنى: أبل. {وَهُمْ شََاهِدُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 393.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 393.(3/298)
[سورة الصافات (37): آية 151]
{أَلاََ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)}
{أَلََا إِنَّهُمْ} «إنّ» بعد «ألا» مكسورة لأنها مبتدأة، وحكى سيبويه أنّها تكون بعد «أما» تكون مفتوحة ومكسورة فالفتح على أن تكون أما بمعنى حقا، والكسر على أن يكون أما بمعنى ألا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز فتحها بعد «ألا» تشبيها بأما، فأمّا في الآية فلا يجوز إلّا كسرها لأن بعدها اللام.
[سورة الصافات (37): الآيات 153الى 154]
{أَصْطَفَى الْبَنََاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)}
{أَصْطَفَى الْبَنََاتِ عَلَى الْبَنِينَ} استفهام فيه معنى التوبيخ. فأما ما روي (1) عن أبي جعفر وشيبة ونافع أنّهم قرءوا {وَإِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنََاتِ} بوصل الألف فلا يصحّ عنهم، وزعم أبو حاتم أنه لا وجه له لأن بعده {مََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فالكلام جار على التوبيخ. قال أبو جعفر: هذه القراءة وإن كانت شاذة فهي تجوز من وجهتين إحداهما أن تكون تبيينا لما قالوا ويكون {مََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} منقطعا مما قبله، والجهة الأخرى أنه قد حكى النحويون منهم الفراء أنّ التوبيخ يكون استفهاما وبغير استفهام، كما قال جلّ وعزّ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبََاتِكُمْ فِي حَيََاتِكُمُ الدُّنْيََا} [الأحقاف: 20] وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا أكثر أهل التفسير على أن الجنّة هاهنا الملائكة وقال أهل الاشتقاق: قيل لهم: جنّة لأنهم لا يرون، وثم قول آخر غريب رواه إسرائيل عن السّدّي عن أبي مالك قال: إنما قيل للملائكة جنّة لأنهم على الجنان، والملائكة كلهم جنّة.
[سورة الصافات (37): آية 158]
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)}
كسرت إنّ لدخول اللام.
[سورة الصافات (37): آية 160]
{إِلاََّ عِبََادَ اللََّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}
{إِلََّا عِبََادَ اللََّهِ} نصب على الاستثناء. {الْمُخْلَصِينَ} من نعتهم.
[سورة الصافات (37): الآيات 161الى 162]
{فَإِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ (161) مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفََاتِنِينَ (162)}
أهل التفسير مجمعون فيما علمته على أن المعنى: ما أنتم بمضلّين أحدا إلّا من قدّر الله جلّ وعزّ عليه أن يضلّ، فروى فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم قال:
ليس بتابعكم على عبادة آلهتكم وعبادتكم إلّا من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يصلى الجحيم. وروى عمر بن ذر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما أنتم بمضلّين {إِلََّا مَنْ}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 361، ومعاني الفراء 2/ 394.(3/299)
{هُوَ صََالِ الْجَحِيمِ}. وعن ابن عباس: ما أنتم بمضلّين إلّا من قدّر عليه أن يضلّ.
وروى أبو الأشهب جعفر بن حيان عن الحسن قال: يا بني إبليس ما أنتم بمضلّين أحدا من الناس إلّا من قدّر الله عليه أن يضلّ. قال أبو جعفر: ففي هذه الآية ردّ على القدرية من كتاب الله جلّ وعزّ، وفيها من المعاني أنّ الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلّا من كتب الله جلّ وعزّ عليه أنه لا يهتدي، ولو علم الله جلّ وعزّ أنّه يهتدي لحال بينه وبينهم. وعلى هذا قوله جلّ وعزّ {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] أي لست تصل منهم إلى شيء إلّا إلى ما في علمي. قال الفراء (1): أهل الحجاز يقولون: فتنته، وأهل نجد يقولون: أفتنته.
[سورة الصافات (37): آية 163]
{إِلاََّ مَنْ هُوَ صََالِ الْجَحِيمِ (163)}
وعن الحسن أنه قرأ {إِلََّا مَنْ هُوَ صََالِ الْجَحِيمِ} (2) بضم اللام فجماعة من أهل العربية يقولون: لحن لأنه لا يجوز: هذا قاض فاعلم. قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت من عليّ بن سليمان يقول. هو محمول على المعنى لأن معنى «من» جماعة فالتقدير: فيه صالون، فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وفيهما قول آخر: أن يكون على القلب فإذا قلب قيل: صايل ثم يحذف الياء فيقال:
صال كما يقال: شاك.
[سورة الصافات (37): آية 164]
{وَمََا مِنََّا إِلاََّ لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ (164)}
فيه تقديران عند أهل العربية: أحدهما وما منا إلّا من له وحذفت من وهذا مذهب الكوفيين، وفيه ما لا خفاء فيه من حذف الموصول، والقول الآخر أنّ المعنى: وما منّا ملك إلّا لهم مقام معلوم، وهذا قول البصريين. فأما اتصال هذا بما قبله فإنه فيما يروى أن الملائكة تبرّأت ممّن يعبدها، وتعجبت من ذلك لاجتهادها فقال: وما منا إلّا له مقام معلوم.
[سورة الصافات (37): الآيات 165الى 166]
{وَإِنََّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنََّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}
وفي الحديث عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المسجد فقال: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربهم. فقلنا يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمّمون الصفوف ويتراصون في الصفّ» (3).
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 394.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 362، ومعاني الفراء 2/ 394.
(3) أخرجه أبو داود في سننه، الصلاة رقم (661) وابن ماجة في سننه رقم (992).(3/300)
[سورة الصافات (37): آية 167]
{وَإِنْ كََانُوا لَيَقُولُونَ (167)}
لمّا خففت «إن» دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب.
والكوفيون يقولون «إن» بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا.
[سورة الصافات (37): الآيات 168الى 169]
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنََا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنََّا عِبََادَ اللََّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)}
أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة.
[سورة الصافات (37): آية 170]
{فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}
{فَكَفَرُوا} أي بالذكر، والفراء (1) يقدره على حذف أي فجاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن فكفروا به. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} قال أبو إسحاق: أي فسوف يعلمون مغبّة كفرهم.
[سورة الصافات (37): آية 171]
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)}
قال الفراء: بالسعادة، وقال غيره: التقدير: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين.
[سورة الصافات (37): آية 172]
{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)}
فلمّا دخلت اللام كسرت «إن».
[سورة الصافات (37): آية 173]
{وَإِنَّ جُنْدَنََا لَهُمُ الْغََالِبُونَ (173)}
على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان هو الغالب مثل قوله: {جُنْدٌ مََا هُنََالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزََابِ} [ص: 11]. وقال الكسائي: جاء هاهنا على الجمع من أجل أنه رأس آية.
[سورة الصافات (37): آية 174]
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ (174)}
قال قتادة: أي إلى الموت، وقال أبو إسحاق: أي الوقت الذي أمهلوا إليه.
[سورة الصافات (37): آية 177]
{فَإِذََا نَزَلَ بِسََاحَتِهِمْ فَسََاءَ صَبََاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)}
{فَإِذََا نَزَلَ بِسََاحَتِهِمْ} أي العذاب، قال أبو إسحاق: وكان عذاب هؤلاء بالقتل.
وساء بمعنى: بئس، ورفع {صَبََاحُ} بها.
[سورة الصافات (37): آية 180]
{سُبْحََانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمََّا يَصِفُونَ (180)}
{سُبْحََانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} على البدل قال أبو إسحاق: ويجوز النصب على المدح والرفع بمعنى: هو رب العزة.
[سورة الصافات (37): الآيات 181الى 182]
{وَسَلاََمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (182)}
ولو كان في غير القرآن لجاز النصب على المصدر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 395.(3/301)
38 - شرح إعراب سورة ص
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة ص (38): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}
بإسكان الدال لأنها حروف تهجّ، والأجود عند سيبويه (1) فيها الإسكان. ولا تعرب لأن حكمها الوقوف عليها وقراءة الحسن صاد (2) بكسر الدال بغير تنوين ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارض، ومنه {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدََّى} [عبس: 6] فالمعنى صادي القرآن بعملك أي قابلة به. وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسّر به قراءته رواية صحيحة عنه أنّ المعنى: اتله وتعرّض لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقراءة عيسى بن عمر (صاد) بفتح الدال، له فيها ثلاثة مذاهب:
أحداهنّ أن يكون بمعنى اتل صاد. والثاني أن يكون فتح لالتقاء الساكنين، واختار الفتح للإتباع، الثالث أن يكون منصوبا على القسم بغير حروف. وقراءة ابن أبي إسحاق (صاد) بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم. قال أبو جعفر:
وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله، ويجوز أن يكون مشبّها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وصاد إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف كما أنك إذا سمّيت مؤنثا بمذكّر لم ينصرف وإن قلّت حروفه. {وَالْقُرْآنِ} خفض بواو القسم بدل من الباء. {ذِي الذِّكْرِ} نعت وعلامة الخفض الياء، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوي على فعل.
[سورة ص (38): آية 2]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقََاقٍ (2)}
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع رفع بالابتداء. {فِي عِزَّةٍ} خبره أي في تكبّر وامتناع من قبول الحقّ، كما قال جلّ وعزّ: {وَإِذََا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللََّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة:
206]. {وَشِقََاقٍ} من شاقّ يشاقّ إذا خالف، واشتقاقه أنه صار في شقّ غير الشقّ الآخر.
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 294.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 396.(3/302)
[سورة ص (38): آية 3]
{كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنََادَوْا وَلاََتَ حِينَ مَنََاصٍ (3)}
{كَمْ} في موضع نصب بأهلكنا. {فَنََادَوْا} قال قتادة: فنادوا في غير نداء. قال أبو جعفر: ومعناه على قوله في غير نداء ينجي، كما قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين توبة ولا ينفع العمل. وهذا تفسير من الحسن لقوله جلّ وعزّ {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ}، قال ليس حين. فأما إسرائيل فيروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} قال: ليس بحين نزو ولا فرار، قال ضبط القوم جميعا. قال أبو جعفر:
وأصله من ناص ينوص إذا تأخّر، ويقال: ناص ينوص إذا تقدّم. وأما «ولات حين» فقد تكلّم النحويون فيه وفي الوقوف عليه، وكثّر فيه أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب القراءات»، وكلّ ما جاء به فيه إلّا يسيرا مردود. قال سيبويه (1): لات مشبّهة بليس، والاسم فيها مضمر أي ليست أحياننا حين مناص، وحكي أنّ من العرب من يرفع بها فيقول {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} (2)، وحكي أنّ الرفع قليل، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب أي ولات حين مناص لنا. والوقوف عليها عند سيبويه والفراء (3)، وهو قول أبي الحسن بن كيسان وأبي إسحاق، ولات بالتاء ثم تبتدئ حين مناص. قال أبو الحسن بن كيسان: والقول كما قال سيبويه لأنه شبّهها بليس فكما تقول ليست تقول: لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه، وهو قول محمد ابن يزيد، كما حكى لنا عنه علي بن سليمان، وحكي عنه أنّ الحجّة في ذلك أنها «لا» دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال: ثمّة وربّة. وأما أبو عبيد فقال: اختلف العلماء فيها فقال بعضهم: لات ثم تبتدئ فتقول: حين. ثم لم يذكر عن العلماء غير هذا القول وكلامه يوجب غير هذا ثم ذكر احتجاجهم بأنها في المصاحف كلّها كذا ثم قال: وهذه حجّة لولا أنّ ثمّ حججا تردّها ثم ذكر حججا لا يصحّ منها شيء، وسنذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين ما يردّها. قال: والوقوف عندي بغير تاء ثم تبتدئ بحين مناص ثم ذكر الحجج فقال: إحداهنّ أنّا لم نجد في كلام العرب لات إنما هي «لا». قال أبو جعفر: لو لم يكن في هذا من الردّ إلا اجتماع المصاحف على ما أنكره فكيف وقد روي خلاف ما قال جميع النحويين المذكورين من البصريين والكوفيين، فقال سيبويه: «لات» مشبهة بليس، وقال الفراء عن الكسائي أحسبه أنه سأل أبا السمّال فقال: كيف تقف على ولات؟ فوقف عليها بالهاء. قال أبو عبيد: والحجة الثانية أنّ تفسير ابن عباس يدلّ على ذلك لأن ابن عباس قال: ليس حين نزو ولا فرار. قال أبو جعفر: تفسير ابن عباس يدلّ على أن الصحيح غير قوله، ولو كان على قوله لقال ابن عباس ليس تحين مناص، ولم يرو هذا أحد. قال أبو عبيد: والحجة الثالثة أنّا لم نجد
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 101.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 368.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 398.(3/303)
العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن، وأنشد لأبي وجزة السعدي: [الكامل] 374 العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم (1)
وأنشد لأبي زبيد الطائي: [الخفيف] 375 طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء (2)
وأنشد: [الخفيف] 376 نولّي قبل يوم بيني جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا (3)
قال أبو جعفر: وإنشاد أهل اللغة جميعا على غير ما قال. قال الفراء: أنشدني المفضل:
377 - تذكّر حبّ ليلى لات حينا ... وأضحى الشّيب قد قطع القرينا (4)
قال أبو جعفر: فأما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فقرأه العلماء باللغة على أربعة أوجه كلّها على خلاف ما أنشده، وفي أحدها تقديران. رواه أبو العباس محمد بن يزيد «العاطفون ولات ما من عاطف»، والرواية الثانية «العاطفون ولات حين تعاطف»، والرواية الثالثة رواها أبو الحسن بن كيسان «العاطفونه حين ما من عاطف» جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبّهت بهاء التأنيث، والرواية الرابعة هي «العاطفونه حين ما من عاطف». وفي هذه الرواية تقديران: أحدهما، وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق، أن الهاء في موضع نصب كما تقول: الضاربون زيدا، فإذا كنّيت قلت: الضاربوه، وأجاز سيبويه (5) الضاربونه في الشعر، فجاء إسماعيل بالبيت
__________
(1) الشاهد لأبي وجزة السعدي في الأزهية 264، والإنصاف 1/ 108، وخزانة الأدب 4/ 175، والدرر 2/ 115، ولسان العرب (ليت) و (عطف) و (أين) و (حين) و (ما)، وبلا نسبة في الجنى الداني 487، وخزانة الأدب 9/ 383، والدرر 2/ 122، ورصف المباني ص 163، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 163، وشرح الأشموني 3/ 882، ومجالس ثعلب 1/ 270، والممتع في التصريف 1/ 273، وهمع الهوامع 1/ 126.
(2) الشاهد لأبي زبيد الطائي في ديوانه 30، والإنصاف 109، وتخليص الشواهد 295، وتذكرة النحاة 734، وخزانة الأدب 4/ 183، والدرر 2/ 119، وشرح شواهد المغني ص 640، والمقاصد النحوية 2/ 156، وبلا نسبة في جواهر الأدب 249، وخزانة الأدب 4/ 169، والخصائص 2/ 370، ورصف المباني 169، وسرّ صناعة الإعراب 509، وشرح الأشموني 1/ 126، وشرح المفصّل 9/ 32، ولسان العرب (أون) و (لات)، ومغني اللبيب 255، وهمع الهوامع 1/ 126.
(3) الشاهد لجميل بثينة في ديوانه 196، ولسان العرب (تلن)، وبلا نسبة في الإنصاف 110، وتذكرة النحاة 735، والجنى الداني 487، ورصف المباني 173، وسرّ صناعة الإعراب 166، ولسان العرب (أين) و (حين)، والممتع في التصريف 1/ 273.
(4) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 397، وتفسير الطبري 2/ 144.
(5) انظر الشاهد رقم 368.(3/304)
على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر «العاطفونه» على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه، في الوقف ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف. كما قرأ أهل المدينة {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} [الحاقة: 29].
وأما البيت الثاني فلا حجّة له فيه لأنه يوقف عليه ولات أوان غير أنّ فيه شيئا مشكلا لأنه روي «ولات أوان» بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا ومنصوبا، وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ ولات حين مناص (1) بكسر التاء من «لات» والنون من «حين» فإن الثّبت عنه أنه قرأ {وَلََاتَ حِينَ مَنََاصٍ} فبنى لات على الكسر ونصب حين فأما «ولات أوان» ففيه تقديران: قال الأخفش: فيه مضمر أي ولات حين أوان.
قال أبو جعفر: وهذا القول بيّن الخطأ، والتقدير الآخر عن أبي إسحاق، قال تقديره:
ولات حين أواننا فحذف المضاف إليه فوجب ألّا يعرب فكسره لالتقاء الساكنين، وأنشد محمد بن يزيد «ولات أوان» بالرفع.
وأما البيت فبيت مولّد لا يعرف قائله، ولا يصح به حجّة على أن محمد بن يزيد رواه «كما زعمت الآن» وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن، فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث عبد الله بن عمر لما ذكر للرجل مناقب عثمان رضي الله عنه. قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك، فلا حجّة فيه لأن المحدّث إنما يروي هذا على المعنى، والدليل على هذا أنّ مجاهدا روى عن عمرو بن عمر هذا الحديث، وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك، ورواه آخر اذهب بها الآن معك فأمّا احتجاجه بأنه وجدها في الإمام «تحين» فلا حجة فيه لأن معنى الإمام أنه إمام للمصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلّها ولات. فلو لم يكن في هذا إلّا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص.
[سورة ص (38): آية 5]
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ (5)}
{وَعَجِبُوا أَنْ} في موضع نصب، والمعنى من أن جاءهم.
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً} مفعولان.
[سورة ص (38): آية 6]
{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى ََ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ يُرََادُ (6)}
{وَانْطَلَقَ} في موضع نصب، والمعنى: بأن امشوا. و {الْمَلَأُ} الأشراف، وقد سمّوا، في رواية محمد بن إسحاق، أنهم أبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأميّة بن خلف والعاصي بن وائل وأبو معيط جاءوا إلى أبي طالب، فقالوا
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 368.(3/305)
له: أنت سيدنا فانصفنا في قومنا وأنفسنا فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه قد تركوا آلهتنا وطعنوا في ديننا، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إنّ قومك يدعونك إلى السواء والنصفة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إني أدعوهم إلى كلمة واحدة، فقال أبو جهل: وعشرا، فقال: يقولون: لا إله إلّا الله فقاموا، وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا الآيات. قال أبو جعفر: وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى ََ آلِهَتِكُمْ} أي على عبادة آلهتكم {إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ يُرََادُ} أي إن هذا الذي جاء به محمد عليه السلام لشيء يراد به زوال نعم قوم وغير تنزل بهم.
[سورة ص (38): الآيات 7الى 8]
{مََا سَمِعْنََا بِهََذََا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هََذََا إِلاَّ اخْتِلاََقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنََا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمََّا يَذُوقُوا عَذََابِ (8)}
أي تكذيب وابتداع. يقال: خلق واختلق أي ابتدع، وخلق الله الخلق من هذا أي ابتدعهم على غير مثال، ثم بيّن أنهم حساد لقولهم {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنََا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} وهو القرآن {بَلْ لَمََّا يَذُوقُوا عَذََابِ} والأصل إثبات الياء، وجاز الحذف لأنه رأس آية.
[سورة ص (38): الآيات 9الى 10]
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزََائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهََّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبََابِ (10)}
قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما أنعم الله به عليه، وكذا {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} فإن ادعوا ذلك {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبََابِ} أي في أسباب السموات، وقيل: في الأسباب التي ذكرت التي لا تكون إلّا لله جلّ وعزّ. والأصل فليرتقوا، حذفت الكسرة لثقلها، يقال: رقي يرقى، وارتقى يرتقي، إذا صعد، ورقّى يرقي رقيا رمى يرمي رميا، من الرقية ثم وعد الله نبيه النصر فقال جلّ ذكره: {جُنْدٌ مََا هُنََالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزََابِ} فهزم الله جلّ وعزّ الأحزاب كما وعده. و «ما» زائدة للتوكيد، وتأول الفراء معنى مهزوم أنه مغلوب على أن يصعد إلى السماء.
[سورة ص (38): آية 12]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتََادِ (12)}
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أنّث «قوم» على معنى الجماعة، ولو جاء مذكّرا لجاز على معنى الجميع. وصرف نوح وإن كان أعجميا، لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ، ومنع {فِرْعَوْنُ} من الصرف لأنه قد جاوز ثلاثة أحرف فلم يصرف لعجمته وأنّه معرفة وزعم محمد بن إسحاق اسم فرعون الوليد بن مصعب، قال: وقد قيل: إن اسمه مصعب بن الربان، وقال غيره: كان يسمّى من ملك مصر فرعون، كما يسمّى من ملك
اليمن تبّعا، وهم التبابعة، ومن ملك فارس كسرى، وقال محمد بن يزيد: كسرى بفتح الكاف، ومن ملك الروم قيصر وهرقل و {ذُو الْأَوْتََادِ} نعت.(3/306)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أنّث «قوم» على معنى الجماعة، ولو جاء مذكّرا لجاز على معنى الجميع. وصرف نوح وإن كان أعجميا، لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ، ومنع {فِرْعَوْنُ} من الصرف لأنه قد جاوز ثلاثة أحرف فلم يصرف لعجمته وأنّه معرفة وزعم محمد بن إسحاق اسم فرعون الوليد بن مصعب، قال: وقد قيل: إن اسمه مصعب بن الربان، وقال غيره: كان يسمّى من ملك مصر فرعون، كما يسمّى من ملك
اليمن تبّعا، وهم التبابعة، ومن ملك فارس كسرى، وقال محمد بن يزيد: كسرى بفتح الكاف، ومن ملك الروم قيصر وهرقل و {ذُو الْأَوْتََادِ} نعت.
[سورة ص (38): آية 14]
{إِنْ كُلٌّ إِلاََّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ (14)}
{إِنْ كُلٌّ} بمعنى ما كلّ {إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ} الأصل إثبات الياء، وحذفت لأنه رأس آية والكسرة دالّة عليها.
[سورة ص (38): آية 15]
{وَمََا يَنْظُرُ هََؤُلاََءِ إِلاََّ صَيْحَةً وََاحِدَةً مََا لَهََا مِنْ فَوََاقٍ (15)}
{وَمََا يَنْظُرُ هََؤُلََاءِ} بمعنى ما ينتظر ومنه {انْظُرُونََا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:
13] {إِلََّا صَيْحَةً وََاحِدَةً} قال عبد الله بن عمر: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله جلّ وعزّ على أهل الأرض. {مََا لَهََا مِنْ فَوََاقٍ} (1) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم، ومن فواق بضم القاف قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وأصحّ ما قيل فيهما أنهما لغتان بمعنى واحد، وحكى ذلك الكسائي والفراء.
[سورة ص (38): آية 16]
{وَقََالُوا رَبَّنََا عَجِّلْ لَنََا قِطَّنََا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسََابِ (16)}
{وَقََالُوا رَبَّنََا عَجِّلْ لَنََا قِطَّنََا} من أحسن ما قيل في معناه ما قاله سعيد بن جبير قال:
قالوا: ربّنا عجّل لنا نصيبنا في الآخرة قبل يوم الحساب. وهو مشتقّ من قططت الشيء أي قطعته. فالنصيب قطعة تقطع للإنسان، وذلك معروف في كلام العرب أن يقال في النصيب: قطّ ويقال للكتاب المكتوب بالجائزة قطّ كما قال الأعشى: [الطويل] 378 ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بإمّته يعطي القطوط ويأفق (2)
«بإمّته» أي بنعمته وحاله الجليلة، و «يافق» يصلح «القطوط» جمع قطّ وهو الكتاب بالجائزة، ويقال في جمعه: قططة، وفي القليل أقطّ وأقطاط.
[سورة ص (38): آية 17]
{اصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنََا دََاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوََّابٌ (17)}
{وَاذْكُرْ عَبْدَنََا دََاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} نعت. والأيد والآد كما يقال: العيب والعاب، ومنه رجل أيّد. {إِنَّهُ أَوََّابٌ} قال الضحاك: أي ثواب، وعن غيره أنه كان كلّما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لاستغفر في اليوم والليلة مائة
__________
(1) انظر تيسير الداني 15، والبحر المحيط 7/ 373.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 269، ولسان العرب (قطط) و (أفق)، وتهذيب اللغة 8/ 264، وكتاب الجيم 3/ 66، ومقاييس اللغة 1/ 116، وجمهرة اللغة 150، وكتاب العين 5/ 227، ومجمل اللغة 4/ 115، وتاج العروس (قطط) و (أفق)، وبلا نسبة في المخصص 4/ 102.(3/307)
مرّة» (1) ويقال: آب يؤوب إذا رجع، كما قال: [مخلع البسيط] 379 وكلّ ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب (2)
[سورة ص (38): آية 18]
{إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ (18)}
{إِنََّا سَخَّرْنَا الْجِبََالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} في موضع نصب على الحال. ويروى أنها كانت تجيبه بالتسبيح، وقيل: سخّرها الله جلّ وعزّ لتسير معه فذلك تسبيحها لأنها دالّة على تنزيه الله جلّ وعزّ عن شبه المخلوقين. {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرََاقِ} من أشرقت الشمس إذا أضاءت وصفت. وعن ابن عباس قال: صلاة الضحى مذكورة في كتاب الله جلّ وعزّ، وقرأ «يسبّحن بالعشيّ والإشراق».
[سورة ص (38): الآيات 19الى 20]
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوََّابٌ (19) وَشَدَدْنََا مُلْكَهُ وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطََابِ (20)}
{إِنََّا سَخَّرْنَا} معطوف على الجبال. قال الفراء (3): ولو قرئ (والطّير محشورة) لجاز لأنه لم يظهر الفعل، وكذا لو قرئ (وشددنا ملكه) {وَآتَيْنََاهُ الْحِكْمَةَ} فعولان {وَفَصْلَ الْخِطََابِ} معطوف عليه.
[سورة ص (38): آية 21]
{وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرََابَ (21)}
{وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} وبعده {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرََابَ} لأنّ الخصم يؤدّي عن الجمع وهو مصدر في الأصل من خصمته خصما. وحقيقته في العربية إذا قلت: القوم خصم له، معناه ذوو خصم ثم أقمت المضاف إليه مقام المضاف، وقد يقال: خصوم كما يقال: عدول.
[سورة ص (38): آية 22]
{إِذْ دَخَلُوا عَلى ََ دََاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قََالُوا لاََ تَخَفْ خَصْمََانِ بَغى ََ بَعْضُنََا عَلى ََ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنََا بِالْحَقِّ وَلاََ تُشْطِطْ وَاهْدِنََا إِلى ََ سَوََاءِ الصِّرََاطِ (22)}
{إِذْ دَخَلُوا عَلى ََ دََاوُدَ} فجاءت إذ مرتين لأنهما فعلان، وزعم الفراء (4) إحداهما بمعنى «لمّا». وقول آخر أن تكون الثانية وما بعدها تبيينا لما قبلها. {قََالُوا لََا تَخَفْ} حذفت الضمة من الفاء للجزم، وحذفت الألف المنقلبة من الواو لئلا يلتقي ساكنان {خَصْمََانِ} وقبل هذا {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرََابَ} لأن اثنين جمع. قال الخليل رحمه الله:
كما تقول: نحن فعلنا، إذا كنتما اثنين، وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا فلما انقضى
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه الصلاة رقم الحديث (1515)، وابن ماجة في سننه الحديث رقم (3815).
(2) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 16، ولسان العرب (أوب)، وتهذيب اللغة 15/ 608، ومقاييس اللغة 1/ 153.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 401.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 401.(3/308)
الخبر وجاءت المخاطبة خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا «خصمان». قال أبو إسحاق: أي نحن خصمان، وقال غيره: القول محذوف أي يقول خصمان. قال أبو إسحاق: ولو كان بالنصب خصمين لجاز أي أتيناك خصمين. {بَغى ََ بَعْضُنََا عَلى ََ بَعْضٍ} قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز، وقال غيره: بغى بعضنا يجوز أن يراد به داود صلّى الله عليه وسلّم {فَاحْكُمْ بَيْنَنََا بِالْحَقِّ وَلََا تُشْطِطْ} وقرأ الحسن وأبو رجاء {وَلََا تُشْطِطْ} (1) بفتح التاء وضم الطاء الأولى، وقال أبو حاتم لا يعرف هذا في اللغة. قال أبو جعفر: يقال أشطّ يشطّ إذا جار في الحكم أو القول، وشطّ يشطّ ويشطّ إذا بعد فيشطط في الآية أبين ويشطط يجوز أي لا تبعد عن الحق، كما قال: [المتقارب] 380 تشطّ غدا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد (2)
[سورة ص (38): آية 23]
{إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ فَقََالَ أَكْفِلْنِيهََا وَعَزَّنِي فِي الْخِطََابِ (23)}
وقرأ الحسن تسع وتسعون نعجة (3) بفتح التاء فيها، وهي لغة شاذة وهي الصحيحة من قراءة الحسن. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة. وعن عبد الله بن مسعود رحمه الله أنه قرأ وعازّني في الخطاب (4).
[سورة ص (38): آية 24]
{قََالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطََاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَقَلِيلٌ مََا هُمْ وَظَنَّ دََاوُدُ أَنَّمََا فَتَنََّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رََاكِعاً وَأَنََابَ (24)}
{قََالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ إِلى ََ نِعََاجِهِ} فيقال: إن هذه خطيّة داود صلّى الله عليه وسلّم لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبيت بيّنة، ولا إقرار من الخصم ولا سؤال لخصمه هل كان هذا كذا أم لم يكن؟ هذا قول، فأما قول العلماء المتقدّمين الذين لا يدفع قولهم، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس رحمهما الله فإنهم قالوا: ما زاد داود صلّى الله عليه وسلّم على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله جلّ وعزّ على هذا، ونبهه عليه. وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن يخطئ إلى غير هذا، فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ويلحقه فيه الإثم العظيم. {بِسُؤََالِ نَعْجَتِكَ} إضافة على المجاز أي بسؤال نعجتك. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطََاءِ} جمع خليط، وهو الشريك فهذا جمع ما لم يكن في واو، ولا يجوز في طويل طولاء لثقل الحركة في الواو {وَظَنَّ دََاوُدُ أَنَّمََا فَتَنََّاهُ} قال أبو عمر والفراء (5): ظنّ بمعنى
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 376.
(2) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 300، وبلا نسبة في لسان العرب (شطط) وتهذيب اللغة 11: 264، وتاج العروس (شطط).
(3) انظر البحر المحيط 7/ 376.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 404.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 404.(3/309)
أيقن إلّا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاني أن يكون الظنّ بمعنى اليقين. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ {أَنَّمََا فَتَنََّاهُ} (1) بتشديد التاء والنون على التكثير، وعن قتادة أنه قرأه. إنما فتناه بتخفيفهما. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رََاكِعاً} على الحال.
[سورة ص (38): آية 25]
{فَغَفَرْنََا لَهُ ذََلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنََا لَزُلْفى ََ وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}
{فَغَفَرْنََا لَهُ ذََلِكَ} في موضع نصب بغفرنا، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي الأمر ذلك {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنََا لَزُلْفى ََ}. قال مجاهد عن عبيد بن عمر قال: الزلفى الدنو من الله جلّ وعزّ يوم القيامة.
[سورة ص (38): آية 26]
{يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النََّاسِ بِالْحَقِّ وَلاََ تَتَّبِعِ الْهَوى ََ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ (26)}
{يََا دََاوُدُ إِنََّا جَعَلْنََاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أي مكّنّاك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} بفتح الياء بلا اختلاف فيها، وهو فعل لازم ولو ضممت الياء كان متعدّيا {بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} أي تركوا العمل. يقال: نسي الشيء إذا تركه.
[سورة ص (38): الآيات 27الى 28]
{وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلاً ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النََّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ (28)}
وشرح هذا أنهم كانوا يقولون: ليست ثمّ عقوبة ولا نار فالكافر والعاصي يسعدان باللذات وغصب الأموال، والمظلوم يشقى، لأنهما يصيران إلى شيء واحد، فرد الله جل وعز هذا عليهم بأنه ما خلق السّماء والأرض وما بينهما باطلا لأن الذين ادعوه باطل وذلك منهم ظنّ وبيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} فكان في هذا ردّ على المرجئة لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد كالمصلح أو أرفع درجة منه، وبعده أيضا {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجََّارِ}.
[سورة ص (38): آية 29]
{كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ (29)}
{كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ} بمعنى هذا كتاب. {مُبََارَكٌ} من نعته.
[سورة ص (38): آية 30]
{وَوَهَبْنََا لِدََاوُدَ سُلَيْمََانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ (30)}
{نِعْمَ الْعَبْدُ} مرفوع بنعم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 377.(3/310)
[سورة ص (38): آية 31]
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصََّافِنََاتُ الْجِيََادُ (31)}
{الْجِيََادُ} جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر، كما يقال للإنسان: جواد إذا كان سريع العطيّة غزيرها غير أنه يقال: قوم أجواد وخيل جياد وقد قيل: جياد جمع جائد. وقائل هذا يحتجّ بأنه لو كان جمع جواد لقيل جواد، كطويل وطوال. ويقال في جمع جواد: جوداء وأجوداء وجود بإسكان الواو وجوود بضمها.
[سورة ص (38): الآيات 32الى 33]
{فَقََالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتََّى تَوََارَتْ بِالْحِجََابِ (32) رُدُّوهََا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنََاقِ (33)}
{فَقََالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} الفراء (1) يقدّره مفعولا أي آثرت حبّ الخيل، وغيره يقدره مصدرا وهو يقدّر الخيل بمعنى الخير، وغيره يقول: معنى {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار إليها بيده لأنه يصلّي حتّى توارت الخيل، وسترها جدر الإصطبلات فلمّا فرغ من صلاته قال: {رُدُّوهََا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً} (2) أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان: أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها، وليري أن الجليل لا يقبح به أن يفعل مثل هذا بخيله.
وقال قائل هذا القول: كيف يقتلها وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له؟ وقيل المسح هاهنا القطع أذن له في قتلها. والسّوق جمع ساق مثل دار ودور، وفي أقلّ العدد أسوق. والساق مؤنّثة.
[سورة ص (38): آية 34]
{وَلَقَدْ فَتَنََّا سُلَيْمََانَ وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنََابَ (34)}
{وَلَقَدْ فَتَنََّا سُلَيْمََانَ} أي اختبرناه بما يثقل عليه {وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً} قيل يعني به ولدا له ميّتا. وذلك أنه طاف على جواريه، وقال: أرجو أن تلد كلّ واحدة منهم ذكرا، وفي الحديث أنه لم يقل إن شاء الله فلم تحمل إلّا واحدة منهن، ومات الولد وألقي على كرسيّه فتنة على محبّة الدّنيا، والرغبة فيها، واستدعاء الولد، وأنه لا ينبغي أن يكون كذا {ثُمَّ أَنََابَ} أي رجع عما كان عليه. وقد قيل: جسد شيطان.
[سورة ص (38): آية 35]
{قََالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاََ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهََّابُ (35)}
{قََالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} قيل: ليس في هذا دليل على أنّ ذلك الفعل منه ذنب، لأنه قد يكون له أن يستغفر مما عمله قبل النبوة أو يستغفر مما يعرض له.
[سورة ص (38): آية 40]
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنََا لَزُلْفى ََ وَحُسْنَ مَآبٍ (40)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 405.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 380.(3/311)
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنََا لَزُلْفى ََ} أي قرين. {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي مرجع.
[سورة ص (38): آية 41]
{وَاذْكُرْ عَبْدَنََا أَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ (41)}
{وَاذْكُرْ عَبْدَنََا أَيُّوبَ} على البدل. {إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ} وقرأ عيسى ابن عمر (إنّي) (1) بكسر الهمزة. قال الفراء (2): واجتمعت القراء على أن قرءوا «بنصب» بضم النون والتخفيف. وهذا غلط ويعدّ مناقضة أيضا، لأنه قال: اجتمعت القراء على هذا، وحكي بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ (بنصب) (3) بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنّما قرأ أبو جعفر (بنصب) بضم النون والصاد، كذا حكاه أبو عبيد وغيره، وهو يروى عن الحسن فأما (بنصب) فهو قراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي وقد رويت هذه القراءة أيضا عن الحسن، وقد حكي (بنصب). وهذا كلّه عند أكثر النحويين بمعنى النّصب. فنصب ونصب كحزن وحزن، وقد يجوز أن يكون نصّب جمع نصب كوثن ووثن، ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة فأما {وَمََا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] فقيل: إنه جمع نصاب ونصب على أصل المصدر. وقد قيل في معنى {مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ}: أنه ما يلحقه من وسوسته لا غير، والله أعلم.
[سورة ص (38): آية 42]
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هََذََا مُغْتَسَلٌ بََارِدٌ وَشَرََابٌ (42)}
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} قال الكسائي: أي قلنا، وقال محمد بن يزيد: الرّكض التحريك ولهذا قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة ولا يقال: ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها برجليه ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت هي مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن.
[سورة ص (38): آية 43]
{وَوَهَبْنََا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنََّا وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ (43)}
{وَوَهَبْنََا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} تأوّل هذا مجاهد على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه أهله فأعطاه مثلهم في الآخرة فصار له أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة. فأما ما يروى عن عبد الله بن مسعود لمّا بلغه أن مروان قال: إنّما أعطي عوضا من أهله ولم يعطهم بأعيانهم فقال: ليس كما قال بل أعطي أهله ومثلهم معهم، فتأول هذا القول بعض العلماء على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه من غاب من أهله، وولد له مثل من مات وأعطي من نسلهم مثلهم {رَحْمَةً} بالنصب على المصدر. قال أبو إسحاق: هو مفعول له
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 383.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 405.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 405، البحر المحيط 7/ 384.(3/312)
{وَذِكْرى ََ} معطوف على الرحمة. قال أبو إسحاق: معنى {وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} أنّ ذا العقل إذا ابتلي ذكر بلاء أيّوب صلّى الله عليه وسلّم صبر.
[سورة ص (38): آية 44]
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاََ تَحْنَثْ إِنََّا وَجَدْنََاهُ صََابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ (44)}
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} أي وقلنا له وخذ بيدك ضغثا. قال: وهي الحزمة من الحشيش وما أشبه ذلك.
[سورة ص (38): آية 45]
{وَاذْكُرْ عِبََادَنََا إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصََارِ (45)}
{وَاذْكُرْ عِبََادَنََا إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ} على البدل، وقراءة ابن عباس واذكر عبدنا (1)
بإسناد صحيح، رواها ابن عيينة عن عمر عن عطاء عنه، وهي قراءة ابن كثير. فعلى هذه القراءة يكون {إِبْرََاهِيمَ} بدلا من عبدنا، وإسحاق ويعقوب على العطف. والقراءة بالجمع أبين، وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا أبين، وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا، فزيد وعمرو وخالد بدل منهم، فزيد وحده بدل، وهو الصاحب، وعمرو وخالد عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلّا بدليل غير هذا غير أنه قد علم أن قوله جلّ وعزّ «وإسحاق ويعقوب» داخل في العبودية {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصََارِ} فأما {وَالْأَبْصََارِ} فمتّفق على تأويلها أنها البصائر في الدين، وأما {الْأَيْدِي} (2) فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون:
إنها القوة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم أي الذين أنعم الله عليهم، وقيل: هم أصحاب النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا.
[سورة ص (38): آية 46]
{إِنََّا أَخْلَصْنََاهُمْ بِخََالِصَةٍ ذِكْرَى الدََّارِ (46)}
{ذِكْرَى} في موضع خفض إلّا أن فيها ألف التأنيث وخفضها بالإضافة وقراءة الكوفيين {بِخََالِصَةٍ ذِكْرَى الدََّارِ} (3) على البدل. وهذا بدل المعرفة من النكرة {أَخْلَصْنََاهُمْ} جعلناهم مخلصين ومخلصين من الأدناس قد أخلصوا العمل لله جلّ وعزّ يذكرون الدار، وهي الآخرة، ويذكرونها لا يريدون بذلك الدنيا ولا التعمّل لأهلها.
[سورة ص (38): آية 47]
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنََا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيََارِ (47)}
أي من الذين اصطفيناهم من الأدناس ومصطفين جمع مصطفى زدت على
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 406، والبحر المحيط 7/ 385.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 385.
(3) انظر البحر المحيط 7: 385، وتيسير الداني 152.(3/313)
مصطفى ياء ساكنة ونونا، والألف من مصطفى ساكنة حذفت الألف لالتقاء الساكنين وكانت أولى بالحذف لأن قبلها فتحة. والأخيار جمع خيّر وكأنه جمع على حذف الزائد كأنك جمعت خيّرا، كما تقول: ميّت وأموات. ويقال: رجل خيّر وخير كما يقال:
هيّن وهين وليّن ولين.
[سورة ص (38): الآيات 49الى 50]
{هََذََا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنََّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوََابُ (50)}
{هََذََا ذِكْرٌ} مبتدأ وخبره. والمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع يوم القيامة ثم بيّن بقوله جلّ وعزّ: {جَنََّاتِ عَدْنٍ} والعدن في اللغة الإقامة يقال: عدن بالمكان إذا أقام به غير أن عبد الله بن عمر قال: جنّة عدن: قصر في الجنّة، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف خيّرة لا يدخله إلّا نبيّ أو صديق أو شهيد {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوََابُ} رفعت الأبواب لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله، وأجاز الفراء «مفتحة لهم الأبواب» على أن مفتّحة للجنات، وأنشد هو وسيبويه: [الوافر] 381 وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا (1)
قال الفراء: أي مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين ونصبت وأنشد سيبويه: [الوافر] 382 ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام (2)
[سورة ص (38): آية 51]
{مُتَّكِئِينَ فِيهََا يَدْعُونَ فِيهََا بِفََاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرََابٍ (51)}
{مُتَّكِئِينَ فِيهََا} نصب لأنه نعت للجنات.
[سورة ص (38): آية 52]
{وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ أَتْرََابٌ (52)}
نعت لقاصرات لأن قاصرات نكرة وإن كان مضافا إلى معرفة، والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه، كما قال الشاعر: [الطويل] 383 من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (3)
وزعم الفراء (4) أن المعنى مفتّحة لهم أبوابها وأنّ الألف واللام بدل من الهاء
__________
(1) الشاهد للحارث بن ظالم في الأغاني 11/ 119، وشرح أبيات سيبويه 1/ 259، والكتاب 1/ 263، والمقاصد النحوية 3/ 609، والمقتضب 4/ 161، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 492، وشرح المفصل 6/ 79.
(2) مرّ الشاهد رقم (179).
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 68، ولسان العرب (قصر) و (حول)، ومقاييس اللغة 1/ 53، وتاج العروس (قصر) و (حول)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 8/ 359.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 408.(3/314)
والألف، وأجاز: مررت برجل حسنة العين المعنى حسنة عينه. قال أبو إسحاق: ولا يجوز أن تكون الألف واللام بدلا من الهاء واللام لأن الألف واللام محرف جاء لمعنى والهاء والألف اسم ومحال أن يقوم أحدهما مقام صاحبه. وإنما المعنى: مفتّحة لهم الأبواب منها.
[سورة ص (38): آية 55]
{هََذََا وَإِنَّ لِلطََّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)}
{هََذََا وَإِنَّ لِلطََّاغِينَ} والتقدير الأمر هذا {لَشَرَّ مَآبٍ} اسم إن.
[سورة ص (38): آية 56]
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمِهََادُ (56)}
{جَهَنَّمَ} بدل من شرّ.
[سورة ص (38): آية 57]
{هََذََا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسََّاقٌ (57)}
{هََذََا} في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم على التقديم والتأخير أي هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. ويجوز أن يكون «هذا» في موضع رفع بالابتداء وفليذوقوه في موضع الخبر. ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا فرفعهما على معنى: هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى هو حميم وغساق، وأنشد:
[البسيط] 384 حتّى إذا ما أضاء الصّبح في غلس ... وغودر البقل ملويّ ومحصود (1)
ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل، كما تقول: زيدا أضربه، والنصب في هذا أولى. {وَغَسََّاقٌ} بالتخفيف قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين. فأما يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي فقرؤوا {وَغَسََّاقٌ} بالتشديد. فأما معناه فقال عبد الله بن عمر: وفيه هو قيح غليظ لو وقع شيء منه بالمشرق لأنتنّ ممن في المغرب، ولو وقع منه شيء بالمغرب لأنتن من في المشرق.
قال مجاهد: غسّاق بارد، وعن غير مجاهد أنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره.
وقال قتادة: هو ما يسيل من بين جلودهم ولحمهم. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يقال: غسقت عينه إذا سالت، فغسّاق بالتشديد أولى، كما تقول:
سيّال. قال أبو جعفر: وقد خالف في هذا غيره من رؤساء النحويين لأنه إذا قال:
غسّاق جعله نعتا لغير معروف بعينه، وهذا بعيد في العربية فإذا قال: غسّاق فهو اسم، وهو أولى من أن يقام النعت مقام المنعوت ويحذف المنعوت.
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 1/ 193، وتفسير الطبري 23/ 176.(3/315)
[سورة ص (38): الآيات 59الى 60]
{هََذََا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لاََ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صََالُوا النََّارِ (59) قََالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاََ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنََا فَبِئْسَ الْقَرََارُ (60)}
{هََذََا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} ابتداء وخبره أي مقتحم معكم النار. والتقدير: يقال لهم:
هذا فوج يدخل معكم النار فيقول الذين في النار {لََا مَرْحَباً بِهِمْ} و «مرحبا» منصوب على المصدر وبمعنى لا أصبت رحبا أي سعة. قال الفوج: {بَلْ أَنْتُمْ لََا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنََا} أي دعوتمونا إلى العصيان. {فَبِئْسَ الْقَرََارُ} أي استقرارنا.
[سورة ص (38): آية 61]
{قََالُوا رَبَّنََا مَنْ قَدَّمَ لَنََا هََذََا فَزِدْهُ عَذََاباً ضِعْفاً فِي النََّارِ (61)}
{قََالُوا رَبَّنََا مَنْ قَدَّمَ لَنََا هََذََا} (1) قال الفراء (2): أي من شرّع لنا هذا وسنّه، وقال غيره:
أي من قدّم لنا هذا العذاب بدعائه إيّانا إلى المعاصي. {فَزِدْهُ عَذََاباً ضِعْفاً فِي النََّارِ} أي عذابا بكفره وعذابا بدعائه إيّانا فصار ذلك ضعفا.
[سورة ص (38): آية 62]
{وَقََالُوا مََا لَنََا لاََ نَرى ََ رِجََالاً كُنََّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرََارِ (62)}
{وَقََالُوا مََا لَنََا لََا نَرى ََ رِجََالًا} (ما) في موضع رفع و {لََا نَرى ََ} في موضع نصب على الحال.
[سورة ص (38): آية 63]
{أَتَّخَذْنََاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زََاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصََارُ (63)}
{أَتَّخَذْنََاهُمْ سِخْرِيًّا} بضم السين قراءة الحسن ومجاهد وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر على الاستفهام وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها، وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي اتّخذناهم على أنها ألف وصل في اتّخذناهم، يكون «اتخذناهم» نعتا للرجال، وأبو عبيد وأبو حاتم يميلان إلى هذه القراءة واحتجّا جميعا بأن الذين قالوا هذا قد علموا أنهم اتّخذوهم سخريّا فكيف يستفهمون فالا وقد تقدم الاستفهام. قال أبو جعفر: هذا الاحتجاج لا يلزم، ولو كان واجبا لوجب في مالنا، ولكن الاستفهام هاهنا على ما قاله الفراء (3) (4) فيه. قال: هو بمعنى التوبيخ والتعجب {الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخََاءً حَيْثُ أَصََابَ} إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا كانت بغير استفهام فهي بمعنى أبل.
[سورة ص (38): آية 64]
{إِنَّ ذََلِكَ لَحَقٌّ تَخََاصُمُ أَهْلِ النََّارِ (64)}
بمعنى هو تخاصم، ويجوز أن يكون بدلا من الحقّ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع.
__________
(1) انظر تيسير الداني 152.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 411.
(3) انظر تيسير الداني 152.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 411.(3/316)
[سورة ص (38): آية 65]
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا مُنْذِرٌ وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلاَّ اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ (65)}
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا مُنْذِرٌ} مبتدأ وخبره وكفّت «ما» «أن» عن العمل {وَمََا مِنْ إِلََهٍ إِلَّا اللََّهُ} «من» زائدة للتوكيد. قال أبو إسحاق: ولو قرئ بالنصب {إِلَّا اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ} جاز على الاستثناء.
[سورة ص (38): آية 66]
{رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفََّارُ (66)}
على النعت، وأن نصبت الأول نصبت، ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح.
[سورة ص (38): آية 67]
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)}
أي القرآن خبر جليل، وقيل: المعنى عظيم المنفعة، وقال أبو إسحاق: هذا الخبر نبأ عظيم.
[سورة ص (38): آية 68]
{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}
أي لا تقبلونه.
[سورة ص (38): آية 69]
{مََا كََانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى ََ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)}
قال أبو جعفر: قد بينا معناه (1).
[سورة ص (38): آية 70]
{إِنْ يُوحى ََ إِلَيَّ إِلاََّ أَنَّمََا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}
«أنّ» في موضع رفع لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى إلّا لأنما.
[سورة ص (38): آية 72]
{فَإِذََا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سََاجِدِينَ (72)}
{فَإِذََا سَوَّيْتُهُ} إذا تردّ الماضي إلى المستقبل لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه {سََاجِدِينَ} على الحال.
[سورة ص (38): آية 75]
{قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعََالِينَ (75)}
{أَسْتَكْبَرْتَ} على التوبيخ، ومن وصل الألف جعله خبرا {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعََالِينَ}. قال ابن عباس: كان في علم الله من الكافرين.
__________
(1) انظر إعراب الآية السادسة من السورة.(3/317)
[سورة ص (38): آية 76]
{قََالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)}
{قََالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} مبتدأ وخبره. قال الفراء: ومن العرب من يقول: أنا أخير منه وأشرّ منه. وهذا هو الأصل إلّا أنه حذفت الألف منه لكثرة الاستعمال.
[سورة ص (38): آية 77]
{قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)}
{قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا} قيل: يعني من الجنة. {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مرجوم بالكواكب والشهب.
[سورة ص (38): الآيات 79الى 81]
{قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)}
{قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهو يوم القيامة فلم يجب إلى ذلك وأخّر {إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو يوم يموت الخلق فيه فأخّر إليه تهاونا به وأنه لا يصل إلّا لي الوسوسة، ولا يفسد إلّا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه.
[سورة ص (38): آية 82]
{قََالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)}
أي لاستدعينّهم إلى المعاصي التي يغوون من أجلها أي يخيبون.
[سورة ص (38): الآيات 84الى 87]
{قََالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمََا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاََّ ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ (87)}
قال الحقّ (1) والحقّ أقول هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي، وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة {قََالَ فَالْحَقُّ} [2] وَالْحَقَّ أَقُولُ برفع الأول وفتح الثاني، وأجاز الفراء (3) «قال فالحقّ والحقّ أقول» بخفض الأول ولا اختلاف في الثاني أنه منصوب بأقول ونصب الأول على الإغراء أي فاتّبعوا الحق واستمعوا الحق. وقيل بمعنى أحقّ أي أفعله، وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون الحقّ منصوبا بمعنى حقّا {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وذلك عند جماعة من النحويين خطأ لا يجوز: زيدا لأضربنّ لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها. ومن رفع الحق رفعه بالابتداء أي فأنا الحقّ أو والحقّ منّي ورويا جميعا عن مجاهد يجوز أن يكون التقدير: هذا الحق. وفي الخفض قولان: أحدهما أنه على حذف حرف القسم، هذا قول الفراء، قال كما تقول:
__________
(1) انظر تيسير الداني 152، والبحر المحيط 7/ 393.
(2) انظر تيسير الداني 152، والبحر المحيط 7/ 393.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 413.(3/318)
الله لأفعلنّ، وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلّطه في أبو العباس، ولم يجز إلّا النصب لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر: أن تكون الفاء بدلا من القسم، كما أنشدوا:
[الطويل] 385 فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فالهيتها عن ذي تمائم محول (1)
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: من سئل عمّا لا يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلّف فإنّ قوله لا أعلم علم. وقد قال الله جلّ وعزّ لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمََا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} {إِنْ هُوَ إِلََّا ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ}.
[سورة ص (38): آية 88]
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي نبأ القرآن حق بعد حين. قال أبو إسحاق: أي بعد الموت.
وقال الفراء: بعد الموت وقبله أي سيتبيّن ذلك.
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 12، والأزهيّة 244، والجنى الداني ص 75، وجواهر الأدب 63، وخزانة الأدب 1/ 334، والدرر 4/ 193، وشرح أبيات سيبويه 1/ 450، والكتاب 2/ 164، وشرح شواهد المغني 1/ 402، ولسان العرب (رضع) و (غيل)، والمقاصد النحوية 3/ 336، وتاج العروس (غيل)، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 73، ورصف المباني 387، وشرح الأشموني 2/ 299، وشرح ابن عقيل ص 372، ومغني اللبيب 1/ 136، وهمع الهوامع 2/ 36.(3/319)
فهرس المحتويات
شرح إعراب سورة مريم 3 شرح إعراب سورة طه 22 شرح إعراب سورة الأنبياء 45 شرح إعراب سورة الحج 60 شرح إعراب سورة المؤمنين 77 شرح إعراب سورة النور 88 شرح إعراب سورة الفرقان 105 شرح إعراب سورة الشعراء 119 شرح إعراب سورة النمل 135 شرح إعراب سورة القصص 155 شرح إعراب سورة العنكبوت 168 شرح إعراب سورة الروم 178 شرح إعراب سورة لقمان 192 شرح إعراب سورة السجدة 199 شرح إعراب سورة الأحزاب 206 شرح إعراب سورة سبأ 227 شرح إعراب سورة فاطر 244 شرح إعراب سورة يس 258 شرح إعراب سورة الصافات 277 شرح إعراب سورة ص 302(3/320)
الجزء الرابع
39 - شرح إعراب سورة الزّمر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الزمر (39): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
{تَنْزِيلُ الْكِتََابِ} رفع بالابتداء، وخبره {مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي أنزل من عند الله جلّ وعزّ، ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى: هذا تنزيل الكتاب. وأجاز الكسائي والفراء {تَنْزِيلُ} [1] الْكِتََابِ بالنصب على أنه مفعول. قال الكسائي: أي اتّبعوا واقرءوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: على الإغراء مثل {كِتََابَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي الزموا كتاب الله.
[سورة الزمر (39): آية 3]
{أَلاََ لِلََّهِ الدِّينُ الْخََالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلاََّ لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ إِنَّ اللََّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مََا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي مَنْ هُوَ كََاذِبٌ كَفََّارٌ (3)}
{أَلََا لِلََّهِ الدِّينُ الْخََالِصُ} أي الذي لا يشوبه شيء، وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنّي أتصدّق بالشّيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله جلّ وعزّ وثناء الناس. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله جلّ ثناؤه شيئا شورك فيه ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {أَلََا لِلََّهِ الدِّينُ الْخََالِصُ}» (2). {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ} في موضع رفع بالابتداء، والتقدير: والذين اتّخذوا من دونه أولياء قالوا: {مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} ويجوز أن يكون «الذين» في موضع رفع بفعلهم أي وقال «زلفى» في موضع نصب بمعنى المصدر أي تقريبا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 414.
(2) انظر تفسير الطبري 23/ 190.(4/3)
[سورة الزمر (39): آية 4]
{لَوْ أَرََادَ اللََّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى ََ مِمََّا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ سُبْحََانَهُ هُوَ اللََّهُ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ (4)}
{لَوْ أَرََادَ اللََّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى ََ مِمََّا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ} أي لو أراد ذلك أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله إليهم. {سُبْحََانَهُ} مصدر أي تنزيها له من الولد.
[سورة الزمر (39): آية 5]
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهََارِ وَيُكَوِّرُ النَّهََارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاََ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفََّارُ (5)}
قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. قال أبو جعفر: وهذا معنى التكوير في اللغة. وقد روي عن ابن عباس غير هذا في معنى الآية، قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل.
[سورة الزمر (39): آية 6]
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعََامِ ثَمََانِيَةَ أَزْوََاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمََاتٍ ثَلاََثٍ ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَأَنََّى تُصْرَفُونَ (6)}
أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين.
[سورة الزمر (39): آية 7]
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاََ يَرْضى ََ لِعِبََادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاََ تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ ثُمَّ إِلى ََ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (7)}
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشكر لكم أن تشكروا يدلّ على الشكر.
[سورة الزمر (39): آية 8]
{وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذََا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مََا كََانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلََّهِ أَنْدََاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ (8)}
{دَعََا رَبَّهُ مُنِيباً} على الحال.
[سورة الزمر (39): آية 9]
{أَمَّنْ هُوَ قََانِتٌ آنََاءَ اللَّيْلِ سََاجِداً وَقََائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاََ يَعْلَمُونَ إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ (9)}
{أَمَّنْ} [1] هُوَ قََانِتٌ قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وعاصم والكسائي. وقرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 153.(4/4)
نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {أَمَّنْ هُوَ} (1) وحكى أبو حاتم عن الأخفش قال: من قرأ في الزمر {أَمَّنْ هُوَ} بالتخفيف فقراءته ضعيفة لأنه استفهام ليس معه خبر. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم وقد أجمعوا جميعا على أن قرءوا «أفمن شرح الله صدره للإسلام» وهو مثله. وفي القراءة بالتخفيف وجهان حسنان في العربية، وليس في القراءة الأخرى إلا وجه واحد. فأحد الوجهين أن يكون نداء، كما يقال: يا زيد أقبل، ويقال: أزيد أقبل. حكى ذلك سيبويه وجميع النحويين كما قال: [الكامل] 386 أبني لبينى لستم بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد (2)
وكما يقال: فلان لا يصلّي ولا يصوم أمن يصلّي ويصوم أبشر، والوجه الآخر أن يكون في موضع رفع بالابتداء والمعنى معروف أي: أمن هو قانت اناء الليل أفضل أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير: الّذي هو قانت. ومن قرأ {أَمَّنْ هُوَ} فتقديره أم الذي هو قانت أفضل ممّن ذكر و «أم» بمعنى «أبل». فأما معنى قانت فيما رواه عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة لله جلّ وعزّ» (3) وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أنه قال:
«سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت» (4) فتأوّله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت قال: ما أعرف القنوت إلّا طول القيام وقراءة القرآن، وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع، وغضّ البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضّوا أبصارهم وخضعوا، ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا، ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلّا ناسين. قال أبو جعفر:
أصل هذا أن القنوت الطاعة، وكل ما قيل فيه فهو طاعة الله جلّ وعزّ وهذه الأشياء كلّها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها، كما قال نافع وقال لي ابن عمر: قم فصلّ فقمت أصلّي وكان عليّ ثوب حلق فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجّهتك في حاجة وراء الجدار أكنت تمضي هكذا، فقلت: لا كنت أتزيّن، قال: فالله أحقّ أن يتزيّن له.
قال الحسن: {آنََاءَ اللَّيْلِ} ساعاته أوّله وأوسطه واخره.
وعن ابن عباس قال: {آنََاءَ اللَّيْلِ} جوف الليل. قال سعيد بن جبير: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} أي عذاب الآخرة. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} قال أبو إسحاق: أي
__________
(1) البحر المحيط 7/ 402.
(2) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ص 21، وشرح أبيات سيبويه 2/ 68، ولطرفة بن العبد في ديوانه ص 45، وشرح المفصّل 2/ 90، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 328، وأمالي ابن الحاجب ص 441، والمقتضب 4/ 421، ومعاني الفراء 1/ 317.
(3) مرّ الحديث في إعراب الآية 26الروم.
(4) أخرجه الترمذي في سننه الصلاة 2/ 178، وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم (1421).(4/5)
كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذا لا يستوي الطائع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذي ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فبمنزلة من لم يعلم. {إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ} أي إنما ينتفع بذكره وينتفع به ويعتبر أولو العقول الذين ينتفعون بعقولهم فهؤلاء ينتفعون ويمدحون بعقولهم لأنهم انتفعوا بها.
[سورة الزمر (39): الآيات 10الى 13]
{قُلْ يََا عِبََادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللََّهِ وََاسِعَةٌ إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)}
{قُلْ يََا عِبََادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} قيل معناه اتّقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا حَسَنَةٌ} يجوز أن يكون في الدنيا داخلا في الصلة أي لهم حسنة في الآخرة وإن لم يكن داخلا في الصلة فالمعنى للذين أحسنوا حسنة في الدنيا.
فالحسنة التي لهم في هذه الدنيا موالاة الله جلّ وعزّ إيّاهم وثناؤه عليهم وتسميته إياهم بالأسماء الحسنة. {وَأَرْضُ اللََّهِ وََاسِعَةٌ} في معناه قولان: أحدهما أنه يراد بها أرض الجنة، والآخر أن معناه أن أرض الله واسعة فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي.
{إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} صابر يمدح به، إنّما هو لمن صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المعصية قلت صابر على كذا. {بِغَيْرِ حِسََابٍ} قيل: بغير تقدير، وقيل: يراد على الثواب، لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب، وقيل معنى «بغير حساب» بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعم الدنيا.
[سورة الزمر (39): آية 14]
{قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)}
{قُلِ اللََّهَ أَعْبُدُ} نصب بأعبد، وسيبويه يجيز الرفع على حذف الهاء، ولا نعلم أحدا من النحويين وافقه على ذلك في الاسم العلم.
[سورة الزمر (39): آية 15]
{فَاعْبُدُوا مََا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخََاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَلاََ ذََلِكَ هُوَ الْخُسْرََانُ الْمُبِينُ (15)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع على خبر {إِنَّ} و {أَهْلِيهِمْ} في موضع نصب معطوفون على أنفسهم وعلامة النصب الياء. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلّا وقد خلق الله جلّ وعزّ له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.
[سورة الزمر (39): آية 16]
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النََّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذََلِكَ يُخَوِّفُ اللََّهُ بِهِ عِبََادَهُ يََا عِبََادِ فَاتَّقُونِ (16)}
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النََّارِ} الواحدة ظلّة وهو ما ارتفع فوقهم من النار وثبت.
{وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} مجاز أي مثل ذلك من تحتهم، وقيل: هو حقيقة أي من تحتهم ظلل
لمن هو أسفل منهم من أهل النار. {ذََلِكَ} في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الذي ذكرناه من العذاب يخوّف الله به عباده {يََا عِبََادِ فَاتَّقُونِ} بحذف الياء من عبادي لأن النداء موضع حذف، ويجوز إثباتها على الأصل، ويجوز فتحها.(4/6)
{وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} مجاز أي مثل ذلك من تحتهم، وقيل: هو حقيقة أي من تحتهم ظلل
لمن هو أسفل منهم من أهل النار. {ذََلِكَ} في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الذي ذكرناه من العذاب يخوّف الله به عباده {يََا عِبََادِ فَاتَّقُونِ} بحذف الياء من عبادي لأن النداء موضع حذف، ويجوز إثباتها على الأصل، ويجوز فتحها.
[سورة الزمر (39): الآيات 17الى 19]
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطََّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهََا وَأَنََابُوا إِلَى اللََّهِ لَهُمُ الْبُشْرى ََ فَبَشِّرْ عِبََادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولََئِكَ الَّذِينَ هَدََاهُمُ اللََّهُ وَأُولََئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبََابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذََابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النََّارِ (19)}
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطََّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهََا} قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحدة مؤنّثة.
[سورة الزمر (39): آية 20]
{لََكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهََا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَعْدَ اللََّهِ لاََ يُخْلِفُ اللََّهُ الْمِيعََادَ (20)}
{وَعْدَ اللََّهِ} نصب على المصدر لأن معنى {لَهُمْ غُرَفٌ} وعدهم الله جلّ وعزّ ذلك وعدا، ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله.
[سورة الزمر (39): آية 21]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ (21)}
{فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ} واحدها ينبوع، ويقال: ينبع وجمعه ينابيع وقد نبع الماء ينبع وينبع. وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر: [الكامل] 387 ينباع من ذفرى غضوب جسرة (1)
إنّ معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا. {ثُمَّ يَهِيجُ} قال محمد بن يزيد: قال الأصمعي يقال: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً} قال: من تحطيم العود إذا تفتّت من اليبس. {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} واحدها ذو، وهو اسم للجمع، وزيد في كتابها واو عند بعض أهل اللغة فرقا بينها وبين إلى.
[سورة الزمر (39): آية 22]
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاََمِ فَهُوَ عَلى ََ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللََّهِ أُولََئِكَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (22)}
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللََّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ} قال أبو إسحاق: هذه الفاء فاء المجازاة. {فَوَيْلٌ لِلْقََاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}
__________
(1) الشاهد لعنترة في ديوانه 204، والإنصاف 1/ 26، وخزانة الأدب 1/ 122، والخصائص 3/ 121، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 338، وشرح شواهد الشافية ص 24، ولسان العرب (غضب) و (نع) و (زيف)، والمحتسب 1/ 258، وبلا نسبة في الخصائص 3/ 193، ورصف المباني 11، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 70، ولسان العرب (بوع)، و (تنف)، و (دوم)، (خظا)، ومجالس ثعلب 2/ 539، والمحتسب 1/ 78.(4/7)
قال محمد بن يزيد: يقال: قسا إذا صلب، قال: وكذلك عتا وعسا مقاربة لها، وقلب قاس أي صلب لا يرقّ ولا يلين. {أُولََئِكَ} في موضع رفع بالابتداء أي أولئك الذين قست قلوبهم {فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ}.
[سورة الزمر (39): آية 23]
{اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ (23)}
{اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} على البدل من أحسن. {مَثََانِيَ} نعت لكتاب.
ولم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} في موضع نصب على أنه نعت لكتاب {ذََلِكَ} في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الخوف والرجاء ولين القلوب {هُدَى اللََّهِ}.
[سورة الزمر (39): الآيات 24الى 25]
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذََابِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَقِيلَ لِلظََّالِمِينَ ذُوقُوا مََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتََاهُمُ الْعَذََابُ مِنْ حَيْثُ لاََ يَشْعُرُونَ (25)}
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذََابِ} حذف الجواب. قال الأخفش سعيد: أي أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد.
[سورة الزمر (39): آية 26]
{فَأَذََاقَهُمُ اللََّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (26)}
{فَأَذََاقَهُمُ اللََّهُ} قال محمد بن يزيد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته أي قد وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى ذائقهما، قال: والخزي المكروه والخزاء إفراط الاستحياء.
[سورة الزمر (39): الآيات 27الى 28]
{وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}
{قُرْآناً عَرَبِيًّا} نصب على الحال. قال الأخفش: لأن قوله جلّ وعزّ في هذا القرآن معرفة. وقال علي بن سليمان: «عربيا» نصب على الحال وقرانا توطئة الحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. قال أبو إسحاق: «قرانا عربيا» على حال، وقال: «قرانا» توكيد. {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} نعت. أحسن ما قيل فيه ما قاله الضحاك قال مختلف.
[سورة الزمر (39): آية 29]
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (29)}
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ} قال الفراء: أي مختلفون. قال محمد بن
يزيد: أي متعاسرون، من شكس يشكس فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر.(4/8)
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكََاءُ مُتَشََاكِسُونَ} قال الفراء: أي مختلفون. قال محمد بن
يزيد: أي متعاسرون، من شكس يشكس فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر.
{وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ} هذه قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير. {وَرَجُلًا سَلَماً} فسّرها ابن عباس قال:
خالصا. قال أبو جعفر: ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة قال: لأن السالم ضد المشرك، والسلم ضد الحرب ولا معنى للمحارب هاهنا. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج لا يلزم لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلّا على أولاهما فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع أخر، كما يقال: كان لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك ويلزمه أيضا في سالم ما لزمه في غيره لأنه يقال: شيء سالم لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قد قرأ بهما الأئمة.
[سورة الزمر (39): آية 30]
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}
وقراءة ابن محيصن وابن أبي إسحاق وعيسى إنّك مائت وإنّهم مائتون. قال أبو جعفر: وهي قراءة حسنة ومثل هذه الألف تحذف في السواد. ومائت في المستقبل كثير في كلام العرب، ومثله: ما كان مريضا وإنّه لمارض من هذا الطعام. وميّت جائز أيضا وتخفيفه جائز عند غير أبي عمرو بن العلاء فإنه كان لا يجيز التخفيف في المستقبل.
[سورة الزمر (39): آية 31]
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
قيل: يعني في المظالم، وفي الحديث المسند «أول ما تقع فيه الخصومات الدماء» (1).
[سورة الزمر (39): آية 32]
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللََّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جََاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكََافِرِينَ (32)}
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكََافِرِينَ} {مَثْوىً} في موضع رفع ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. وهو مشتق من ثوى يثوي، ولو كان من أثوى لكان مثوى، وهذا يدلّ على أنّ ثوى هو اللغة الفصيحة. وقد حكى أبو عبيدة أثوى، وأنشد: [الكامل] 388 أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في الديات 6/ 173.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 277، ولسان العرب (خلف) و (ثوا)، وجمهرة اللغة ص 615، ومقاييس اللغة 1/ 393، ومجمل اللغة 2/ 213، وديوان الأدب 4/ 109، وتهذيب اللغة 15/ 167، وتاج العروس (خلف)، و (ثوى)، وبلا نسبة في المخصّص 13/ 262. وعجزه:
«فمضت وأخلف من قتيله مواعدا»(4/9)
والأصمعي لا يعرف إلّا ثوى ويرويه أثوى.
[سورة الزمر (39): الآيات 33الى 35]
{وَالَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولََئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذََلِكَ جَزََاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللََّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ (35)}
{وَالَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ} في موضع رفع بالابتداء، وخبره {أُولََئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وتأوّله إبراهيم النخعي على أنه للجماعة، وقال: {الَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ} المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون هذا الذي أعطيتمونا قد اتّبعنا ما فيه، فيكون الذي على هذا بمعنى جمع كما يكون «من» بمعنى جمع. وقيل بل حذفت النون لطول الاسم. وتأوله الشّعبي على أنه واحد، وقال: الذي جاء بالصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والصحابة فيكون على هذا خبره جماعة كما يقال لمن يعظّم: هم فعلوا كذا وكذا. وجواب أخر أن يكون له ولمن اتّبعه صلّى الله عليه وسلّم وفي قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به فهذه قراءة على التفسير، وفي قراءة أبي صالح الكوفي {وَالَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} (1) (2) مخفّفا يكون معناه والله أعلم وصدق فيه كما يقال: فلان بمكّة وفي مكّة.
[سورة الزمر (39): الآيات 36الى 37]
{أَلَيْسَ اللََّهُ بِكََافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللََّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقََامٍ (37)}
{أَلَيْسَ اللََّهُ بِكََافٍ عَبْدَهُ} حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين بعدها، وكان الأصل ألّا تحذف في الوقف لزوال التنوين إلّا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل، ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي عبده.
[سورة الزمر (39): آية 38]
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ أَرََادَنِيَ اللََّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كََاشِفََاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرََادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكََاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)}
{هَلْ هُنَّ كََاشِفََاتُ ضُرِّهِ} (3) بغير تنوين قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم {هَلْ هُنَّ كََاشِفََاتُ ضُرِّهِ} و {مُمْسِكََاتُ رَحْمَتِهِ} بالتنوين على الأصل لأنه لما لم يقع بعد ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين. وحذف التنوين على التخفيف فإذا حذف التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 419.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 412.
(3) انظر تفسير الداني 154.(4/10)
كثير في كلام العرب موجود حسن. قال الله جلّ وعزّ: {هَدْياً بََالِغَ الْكَعْبَةِ}، [المائدة:
95] وكذا {هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا} [الأحقاف: 24]، وكذا {إِنََّا مُرْسِلُوا النََّاقَةِ} [القمر: 27].
قال سيبويه: مثل ذلك كثير مثله {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] لأن معناه كمعنى {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرََامَ} [المائدة: 2]، وأنشد سيبويه: [البسيط].
389 - هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق (1)
وقال النابغة: [البسيط] 390 واحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد (2)
معناه وارد الثّمد فحذف التنوين مثل «كاشفات ضرّه».
[سورة الزمر (39): الآيات 39الى 40]
{قُلْ يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذََابٌ مُقِيمٌ (40)}
{قُلْ يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ} على مكانتي أي على جهتي التي تمكّنت عندي.
[سورة الزمر (39): آية 41]
{إِنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ لِلنََّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)}
قيل: معناه لنبيّنه للناس بالحقّ الذي أمروا به فيه.
[سورة الزمر (39): الآيات 42الى 43]
{اللََّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهََا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنََامِهََا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى ََ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ََ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ شُفَعََاءَ قُلْ أَوَلَوْ كََانُوا لاََ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاََ يَعْقِلُونَ (43)}
{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى ََ عَلَيْهَا الْمَوْتَ} وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى ََ عَلَيْهَا الْمَوْتَ} (3) على ما لم يسمّ فاعله، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام لأنهم قد جمعوا على «ويرسل» ولم
__________
(1) الشاهد لجابر بن رألان أو لجرير أو لتأبط شرا، أو هو مصنوع في خزانة الأدب 8/ 215، ولجرير بن الخطفى أو لمجهول أو هو مصنوع في المقاصد النحوية 3/ 513، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 256، والدرر 6/ 192، والكتاب 1/ 227، وشرح أبيات سيبويه 1/ 395، وشرح الأشموني 2/ 344، والمقتضب 4/ 151، وهمع الهوامع 2/ 145.
(2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 23، والكتاب 1/ 223، وأدب الكاتب ص 25، والحيوان 3/ 221، والدرر 1/ 217، وشرح أبيات سيبويه 1/ 33، ولسان العرب (حكم) و (حمم)، وبلا نسبة في شرح التصريح 1/ 225.
(3) انظر تيسير الداني 154.(4/11)
يقرءوا ويرسل وقد مرّ في الكتاب الذي قبل هذا العلّة في فتح الواو في قوله جلّ وعزّ:
{أَوَلَوْ كََانُوا لََا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلََا يَعْقِلُونَ}.
[سورة الزمر (39): آية 44]
{قُلْ لِلََّهِ الشَّفََاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}
نصب على الحال، فإن قيل: جميع إنّما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة.
فالجواب أن الشفاعة مصدر، والمصدر يؤدّي عن الاثنين والجميع.
[سورة الزمر (39): آية 45]
{وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذََا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}
{وَإِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَحْدَهُ} نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه (1)، وعلى الحال عند يونس قال محمد بن يزيد: {اشْمَأَزَّتْ} أي انقبضت.
[سورة الزمر (39): آية 46]
{قُلِ اللََّهُمَّ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ عََالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبََادِكَ فِي مََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}
{قُلِ اللََّهُمَّ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} نصب لأنه نداء مضاف، وكذا {عََالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا.
[سورة الزمر (39): آية 47]
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذََابِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَبَدََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مََا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)}
من أجلّ ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهّموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقيل: عملوا أعمالا سيئة وتوهّموا أنهم يتوبون قبل الموت فأدركهم الموت، وقد كانوا ظنوا أنّهم ينجون بالتوبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، ويجوز أن يكونوا توهّموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، من دخول النار.
[سورة الزمر (39): آية 48]
{وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)}
{وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ} أي عقاب سيّئات أو ذكر سيئات.
[سورة الزمر (39): آية 49]
{فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََانََا ثُمَّ إِذََا خَوَّلْنََاهُ نِعْمَةً مِنََّا قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (49)}
{قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ} قال أبو إسحاق: أي على شرف وفضل يجب لي به هذا
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 442.(4/12)
الذي أعطيته فقد علمت أنّي سأعطى هذا {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} قال الفراء: أنّث لتأنيث الفتنة ولو كان بل هو فتنة لجاز. قال أبو جعفر: التقدير: بل أعطيته فتنة. {وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أنّ إعطاءهم المال اختبار، وقيل: عملهم عمل من لا يعلم.
[سورة الزمر (39): الآيات 50الى 52]
{قَدْ قََالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصََابَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هََؤُلاََءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَمََا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
{قَدْ قََالَهَا الَّذِينَ} على تأنيث الكلمة.
[سورة الزمر (39): آية 53]
{قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ لاََ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}
{قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} وإن شئت حذفت الياء لأن النداء موضع حذف. ومن أجلّ ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال:
لما اجتمعنا على الهجرة اتّعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السّهمي وعيّاش بن عتبة فقلنا الموعد أضاة غفر، وقلنا من تأخر منّا فقد حبس فأصبحت أنا وعيّاش بن عتبة بها، ولم يواف هشام وإذا به قد فتن ففتن. وكنا نقول بالمدينة هؤلاء قوم قد عرفوا الله جلّ وعزّ وآمنوا به وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم افتتنوا ببلاء لحقهم لا نرى لهم توبة وكانوا هم أيضا يقولون هذا فأنزل الله جلّ وعزّ {قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ لََا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللََّهِ} إلى أخر القصة. وروى عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فقالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعثوا إليه إنّ ما تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لنا توبة فأنزل الله جلّ وعزّ: {قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} إلى أخر الآيات، قال عبد الله بن عمر: هذه أرجى آية في القرآن فردّ عليه ابن عباس فقال:
بل أرجى آية في القرآن {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنََّاسِ عَلى ََ ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. وروى حمّاد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ:
{قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ لََا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ولا يبالي {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وفي مصحف ابن مسعود (1) إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا لمن يشاء وهاتان القراءتان على التفسير أي يغفر لمن يشاء، وقد عرّف الله جلّ وعزّ من يشاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم يكن له كبيرة ودلّ على أنه يريد التائب ما بعده.
[سورة الزمر (39): الآيات 54الى 55]
{وَأَنِيبُوا إِلى ََ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذََابُ ثُمَّ لاََ تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذََابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاََ تَشْعُرُونَ (55)}
{وَأَنِيبُوا إِلى ََ رَبِّكُمْ} فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا. يدل على ذلك {وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ} [طه: 82]. فهذا الإشكال فيه {وَأَنِيبُوا إِلى ََ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} قال الضحاك:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 421.(4/13)
أي «أنيبوا» ارجعوا إلى طاعته جلّ وعزّ وأمره. قال أبو جعفر: ثم تواعد ما لم يثب فقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذََابُ ثُمَّ لََا تُنْصَرُونَ} أي فلا يدفعه أحد عنكم.
[سورة الزمر (39): آية 56]
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يََا حَسْرَتى ََ عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ (56)}
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} في موضع نصب أي كراهة أن تقول، وعند الكوفيين بمعنى لئلا تقول نفس {يََا حَسْرَتى ََ} والأصل: يا حسرتي أي يا ندمي، فأبدل من الياء ألفا لأنها أخفّ فالفائدة في نداء الحسرة أنّ في ذلك معنى أنّها لازمة موجودة فهذا أبلغ من الخبر. وأجاز الفراء (1) في الوصل: يا حسرتاه على كذا: ويا حسرتاه على كذا، وذكر هذا القول في الآية وشبّهه بالندبة. وإثبات الهاء في الوصل خطأ عند جميع النحويين غيره، وليس هذا موضع ندبة ولا في السّواد هاء ولا قرأ به أحد {عَلى ََ مََا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللََّهِ} قال الضحاك: أي في ذكر الله قال: يعني القرآن والعمل به. وفي حديث ابن عجلان عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما جلس رجل مجلسا ولا مشى مشيا ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله جلّ وعزّ فيه إلّا كانت عليه ترة يوم القيامة» (2) أي حسرة. قال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله إيّاه يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه فعمل فيه بالحقّ، وكان له أجره، وعلى الآخر وزره. ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه جلّ وعزّ في الدنيا أقرب منزلة من الله جلّ وعزّ، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السََّاخِرِينَ} قال أبو إسحاق: أي ما كنت إلّا من المستهزئين.
[سورة الزمر (39): آية 57]
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللََّهَ هَدََانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)}
قيل: معناه لو هداني إلى النجاة من النار، وردّني إلى التكليف. {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} المعاصي. وقيل: لو أن الله هداني في الدنيا، فردّ عليه فقيل {بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي} أي قد هديتك بالبيّنات.
[سورة الزمر (39): آية 58]
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)}
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذََابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ} نصب على جواب التمني، فإن شئت كان معطوفا على كرة لأن معناه أن أكون كما قال: [الوافر] 391 للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (3)
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 422.
(2) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال (25461).
(3) مرّ الشاهد رقم (123).(4/14)
[سورة الزمر (39): آية 59]
{بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي فَكَذَّبْتَ بِهََا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ (59)}
{بَلى ََ قَدْ جََاءَتْكَ آيََاتِي} بفتح الكاف، والنفس مؤنّثة لأن المعنى للمذكر، وقرأ (1)
عاصم الجحدري بالكسر على تأنيث النفس والقراءة بالكسر تروى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الزمر (39): آية 60]
{وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)}
{وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} مبتدأ وخبره في موضع نصب، ويجوز النصب على أن تكون وجوههم بدلا من الذين. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معنى الكبر فقال: الكبر سفه الحقّ وغمس الناس أي احتقارهم. وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة كهيئة الذّرّ يلحقهم الصّغار حتّى يؤتى بهم إلى سجن في جهنّم» (2).
[سورة الزمر (39): آية 61]
{وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لاََ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاََ هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}
{وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} (61) {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ} هذه قراءة أكثر الناس على التوحيد لأنها مصدر.
وقرأ الكوفيون (بمفازاتهم) (3) وهو جائز كما تقول: بسعاداتهم وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: «يحشر الله جلّ وعزّ مع كلّ امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة فكلّما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به فإذا كثر ذلك عليه قال له: ما أحسنك فمن أنت؟
فيقول، أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فو الله لأحملنّك اليوم ولأدفعنّ عنك فهي التي قال: {وَيُنَجِّي اللََّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفََازَتِهِمْ لََا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ}» (4).
[سورة الزمر (39): آية 62]
{اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)}
أي هو حافظه والقائم به.
[سورة الزمر (39): آية 63]
{لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ (63)}
{لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} واحدها مقليد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ} مبتدأ {أُولََئِكَ هُمُ} مبتدأ ثان: {الْخََاسِرُونَ} خبر الثاني «وهم» فاصلة، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الذين و «هم» مبتدأ و «الخاسرون» خبره والجملة خبر الذين.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 419.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 178، والترمذي رقم الحديث (2492)، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/ 388انظر رقم 19والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين 1/ 309.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 420.
(4) ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 274.(4/15)
[سورة الزمر (39): آية 64]
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجََاهِلُونَ (64)}
غير نصب بأعبد، والكسائي يذهب إلى أن التقدير: أن أعبد ثم حذف أن فرفع الفعل، وهو أحد قولي سيبويه (1) في {أَعْبُدُ} هذا، وقوله الآخر أنّ التقدير «أفغير الله أعبد فيما تأمروني» وهذا قول بيّن أي أفغير الله أعبد أنتم تأمرونّي، وفي هذا معنى في أمركم. والأخفش سعيد يقول: تأمرونني ملغى كما تقول: قال ذلك زيد بلغني. وهذا هو قول سيبويه بعينه فأما أن يكون الشيء يعمل نصبا فإذا حذف كان عمله أقوى فعمل رفعا فبين الخطأ، ولو أظهرت «أن» هاهنا لم يجز وكان تفريقا بين الصلة والموصول، والأصل: تأمرونني أدغمت النون في النون فأما «تأمروني» بنون واحدة مخفّفة فإنما يجيء مثله شاذّا في الشعر، وأبو عمرو بن العلاء رحمه الله يقول لحن، وقد أنشد سيبويه في مثله: [الوافر] 392 ترعاه كالثّغام يعلّ مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني (2)
وسمعت علي بن سليمان يقول: كان النحويون من قبل يتعجّبون من فصاحة جرير وقوله على البديه إنهم يبدؤوني. فأما حذف الياء من «تأمروني» فسهل لأنّ النون كأنها عوض منها والكسرة دالّة عليها.
[سورة الزمر (39): آية 65]
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخََاسِرِينَ (65)}
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} قال محمد بن يزيد:
ليفسدنّ وذهب إلى أنّه من قولهم حبط بطنه يحبط وحبج يحبج إذا فسد من داء بعينه.
[سورة الزمر (39): آية 66]
{بَلِ اللََّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشََّاكِرِينَ (66)}
{بَلِ اللََّهَ فَاعْبُدْ} قال أبو جعفر: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله جلّ وعزّ منصوب بأعبد، قال: ولا اختلاف في هذا عند البصريين والكوفيين. قال أبو جعفر:
وقد قال الفراء (3): يكون نصبا بإضمار فعل لأنه أمر. فأمال الفاء فقال أبو إسحاق: إنها للمجازاة، وغيره يقول بأنها زائدة.
[سورة الزمر (39): آية 67]
{وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ (67)}
{وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قال محمد بن يزيد: أي عظّموه من قولك فلان عظيم
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 116.
(2) مرّ الشاهد رقم (134).
(3) انظر معاني الفراء 2/ 242.(4/16)
القدر. قال أبو جعفر: فالمعنى على هذا: وما عظّموا الله حقّ عظمته إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} مبتدأ وخبره، وأجاز الفراء (1): «قبضته» بالنصب بمعنى في قبضته. قال أبو إسحاق: لم يقرأ به، وهو خطأ عند البصريين لا يجوز لا يقولون: زيد قبضتك ولا المال قبضتك أي في قبضتك، قال: ولو جاز هذا لجاز: زيد دارك، أي في دارك. {وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ} مبتدأ وخبره، وأجاز الكسائي والفراء (2) وأبو إسحاق: «مطويّات» بكسر التاء، قال أبو إسحاق: على الحال.
[سورة الزمر (39): الآيات 68الى 70]
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاََّ مَنْ شََاءَ اللََّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ََ فَإِذََا هُمْ قِيََامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهََا وَوُضِعَ الْكِتََابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدََاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمََا يَفْعَلُونَ (70)}
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ََ فَإِذََا هُمْ قِيََامٌ يَنْظُرُونَ} وأجاز الكسائي: قياما بالنصب، كما تقول:
خرجت فإذا زيد جالسا. قال زيد بن أسلم في قوله جلّ وعزّ: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدََاءِ} الشهداء الحفظة.
[سورة الزمر (39): الآيات 71الى 73]
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا سَلاََمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ (73)}
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً} نصب على الحال. {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (3) جواب إذا. وفي قصّة أهل الجنة. {وَفُتِحَتْ} بالواو. فالكوفيون يقولون:
الواو زائدة، وهذا خطأ عند البصريين لأنها تفيد معنى وهي العطف هاهنا والجواب محذوف قال محمد بن يزيد: أي سعدوا. وحذف الجواب بليغ في كلام العرب وأنشد: [الطويل] 393 فلو أنّها نفس تموت سويّة ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا (4)
فحذف جواب «لو»، والتقدير: لكان أروح. فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول فقد تكلّم فيه بعض أهل العلم، يقول: لا أعلم أنه سبقه إليه
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 425.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 425.
(3) انظر تيسير الداني 154.
(4) مرّ الشاهد رقم (284).(4/17)
أحد، وهو أنه قال: لمّا قال الله جلّ وعزّ في أهل النار {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} دلّ بهذا على أنها كانت مغلقة، ولما قال في أهل الجنة {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} دلّ بهذا على أنها كانت مفتّحة قبل أن يجيئوها. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة الزمر (39): آية 74]
{وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي صَدَقَنََا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ (74)}
{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ} قد ذكرنا قول قتادة إنها أرض الجنة، وقد قيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير.
[سورة الزمر (39): آية 75]
{وَتَرَى الْمَلاََئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (75)}
{حَافِّينَ} قال الأخفش: واحدهم حافّ، وقال الفراء: لا يفرد لهم واحد لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلّا مجتمعين {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} أي يقول المؤمنون: الحمد لله الذي أثابنا فله الحمد على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا.(4/18)
40 - شرح إعراب سورة الطول (غافر)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة غافر (40): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1)}
بإسكان الميم الآخرة لأنها حروف هجاء فحكمها السكون لأنها يوقف عليها.
وأما قراءة عيسى بن عمر حاميم تنزيل (1) فمفتوحة لالتقاء الساكنين، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل ولم ينصرف لأنها اسم المؤنث، أو لأنها أعجمية مثل هابيل وقابيل.
[سورة غافر (40): آية 2]
{تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)}
{تَنْزِيلُ الْكِتََابِ} على إضمار مبتدأ و «تنزيل» في موضع منزّل على المجاز، ويجوز أن يكون تنزيل رفعا بالابتداء والخبر {مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
[سورة غافر (40): آية 3]
{غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ ذِي الطَّوْلِ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}
{غََافِرِ الذَّنْبِ وَقََابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقََابِ} قال الفراء (2): جعلتها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال أبو إسحاق: هي خفض على البدل. قال أبو جعفر: وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن غافر الذنب وقابل التوب يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين، ولا يجوز نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل، ويجوز النصب على الحال. فأما {شَدِيدِ الْعِقََابِ} فهو نكرة فيكون خفضه على البدل. والتواب: جمع توبة أو مصدر. وقال أبو العباس: الذي يسبق إلى القلب أن يكون مصدرا أي يقبل هذا الفعل، كما تقول: قال يقول قولا. وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. {ذِي الطَّوْلِ} على البدل لأنه نكرة وعلى النعت لأنه معرفة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 155.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 5.(4/19)
[سورة غافر (40): آية 4]
{مََا يُجََادِلُ فِي آيََاتِ اللََّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاََ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاََدِ (4)}
{مََا يُجََادِلُ فِي آيََاتِ اللََّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} مجاز أي في دفع آيات الله جلّ وعزّ. {فَلََا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلََادِ} قال أبو العباس: أي تصرّفهم، كما يقال: فلان يتقلب في ماله.
[سورة غافر (40): آية 5]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزََابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجََادَلُوا بِالْبََاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كََانَ عِقََابِ (5)}
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} على تأنيث الجماعة أي كذّبت الرسل. قال أبو العباس: {لِيُدْحِضُوا} ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة.
[سورة غافر (40): آية 6]
{وَكَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ (6)}
قال {وَكَذََلِكَ حَقَّتْ} وجبت ولزمت لأنه مأخوذ من الحقّ لأنه اللازم. {أَنَّهُمْ} قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم. قال أبو إسحاق: ويجوز «إنّهم» بكسر الهمزة {أَصْحََابُ النََّارِ} المعذبون بها.
[سورة غافر (40): آية 7]
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تََابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ (7)}
اتّصل هذا بذكر الكفار لأن المعنى والله أعلم الذين يحملون العرش ومن حوله ينزّهون الله جلّ وعزّ عمّا يقوله الكفار. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وقد غفر لهم لأن الله جلّ وعزّ يحبّ ذلك فهم مطيعون لله جلّ وعزّ بذلك {رَبَّنََا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} منصوبان على البيان. {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تََابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} ولا يجوز إدغام الراء في اللام لأن في الراء تكريرا.
[سورة غافر (40): آية 8]
{رَبَّنََا وَأَدْخِلْهُمْ جَنََّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبََائِهِمْ وَأَزْوََاجِهِمْ وَذُرِّيََّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)}
{مَنْ} في موضع نصب معطوف على الهاء والميم التي في {وَعَدْتَهُمْ}، أو على الهاء والميم في {أَدْخِلْهُمْ}.
[سورة غافر (40): آية 9]
{وَقِهِمُ السَّيِّئََاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئََاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
سمّى العقاب سيئات مجازا لأنه عقاب على السيئات.(4/20)
[سورة غافر (40): الآيات 10الى 11]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنََادَوْنَ لَمَقْتُ اللََّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمََانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قََالُوا رَبَّنََا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنََا بِذُنُوبِنََا فَهَلْ إِلى ََ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)}
قال الأخفش: {لَمَقْتُ} هذه لام الابتداء ووقعت بعد {يُنََادَوْنَ} لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره المعنى يقال لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة فأذعنوا عند ذلك وخضعوا، وطلبوا الخروج من النار فقالوا {رَبَّنََا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنََا بِذُنُوبِنََا فَهَلْ إِلى ََ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} و «من» زائدة للتوكيد.
[سورة غافر (40): الآيات 12الى 13]
{ذََلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذََا دُعِيَ اللََّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلََّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيََاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ رِزْقاً وَمََا يَتَذَكَّرُ إِلاََّ مَنْ يُنِيبُ (13)}
{ذََلِكُمْ} في موضع رفع أي الأمر ذلكم أي ذلكم العذاب {بِأَنَّهُ إِذََا دُعِيَ اللََّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي لأنه إذا وحّد الله كفرتم وأنكرتم، وإن أشرك به مشرك صدّقتموه وامنتم به والهاء كناية عن الحديث {فَالْحُكْمُ لِلََّهِ} أي لله جلّ وعزّ وحده لا لما تعبدونه من الأصنام {الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.
[سورة غافر (40): آية 14]
{فَادْعُوا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ (14)}
فادعوه أي من أجل ذلك ادعوه {مُخْلِصِينَ} على الحال.
[سورة غافر (40): آية 15]
{رَفِيعُ الدَّرَجََاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاََقِ (15)}
{رَفِيعُ الدَّرَجََاتِ ذُو الْعَرْشِ} على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: يجوز نصبه على المدح، وقرأ الحسن لتنذر يوم التلاق (1) وهي مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتأوّل أبو عبيد قراءة من قرأ لينذر بالياء أنّ المعنى: لينذر الله. وقال أبو إسحاق: الأجود أن يكون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه أقرب وحذفت الياء من «التلاق» لأنه رأس آية.
[سورة غافر (40): الآيات 16الى 17]
{يَوْمَ هُمْ بََارِزُونَ لاََ يَخْفى ََ عَلَى اللََّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ لاََ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللََّهَ سَرِيعُ الْحِسََابِ (17)}
{يَوْمَ هُمْ بََارِزُونَ} {هُمْ} في موضع رفع بالابتداء و {بََارِزُونَ} خبره، والجملة في موضع خفض بالإضافة فلذلك حذفت التنوين من يوم وإنما يكون في هذا عند سيبويه (2) إذا كان كان الظرف بمعنى «إذ» تقول: لقيتك يوم زيد أمير، فإذا كان بمعنى إذا لم يجز نحو: أنا ألقاك يوم زيد أمير {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ} أصحّ ما
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 437.
(2) انظر الكتاب 3/ 138.(4/21)
قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود، قال: يحشر النّاس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جلّ وعزّ عليها فيؤمر مناد أن ينادي لمن الملك اليوم؟ فهذا قول بيّن. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد لأنه لا فائدة فيه. والقول الأول صحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس، ولا بالتأويل والمعنى على قوله فينادي مناد يوم القيامة ليقرّر الناس لمن الملك اليوم فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: لله الواحد القهّار فيقول المؤمنون هذا سرورا وتلذاذا، ويقول الكافرون هذا رغما وانقيادا وخضوعا.
[سورة غافر (40): آية 18]
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنََاجِرِ كََاظِمِينَ مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاََ شَفِيعٍ يُطََاعُ (18)}
{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنََاجِرِ كََاظِمِينَ} نصبت كاظمين على الحال وهو محمول على المعنى. قال أبو إسحاق: المعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم، وأجاز الفراء (1) أن يكون التقدير: وأنذرهم كاظمين على أنه خبر القلوب، وقال: لأن المعنى إذ هم كاظمين. وقال الكسائي: يجوز رفع كاظمين على الابتداء {مََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي قريب {وَلََا شَفِيعٍ يُطََاعُ} من نعت شفيع أي ولا شفيع يسأل فيجاب.
[سورة غافر (40): آية 19]
{يَعْلَمُ خََائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمََا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)}
{يَعْلَمُ خََائِنَةَ الْأَعْيُنِ}. قال أبو إسحاق: أي من نظر ونيّته الخيانة، وقال الفراء: يعلم خائنة الأعين النظرة الثانية {وَمََا تُخْفِي الصُّدُورُ} النظرة الأولى.
[سورة غافر (40): آية 20]
{وَاللََّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاََ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللََّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}
{إِنَّ اللََّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} «هو» زائدة فاصلة، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر عنها والجملة خبر «إنّ».
[سورة غافر (40): الآيات 21الى 22]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ وََاقٍ (21) ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقََابِ (22)}
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} عطف على يسيروا في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. {كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ} اسم كان والخبر في كيف. {وََاقٍ} في موضع خفض معطوف على اللفظ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالّة عليها.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 6.(4/22)
[سورة غافر (40): آية 23]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا وَسُلْطََانٍ مُبِينٍ (23)}
في قوله جلّ وعزّ {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ تِسْعَ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ} [الإسراء: 101] «وسلطان مبين» «السلطان» الحجّة وهو يذكّر ويؤنّث.
[سورة غافر (40): آية 24]
{إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَقََارُونَ فَقََالُوا سََاحِرٌ كَذََّابٌ (24)}
{إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَقََارُونَ} أسماء أعجمية لا تنصرف وهي معارف، فإن نكّرتها انصرفت. {فَقََالُوا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} مرفوع على إضمار مبتدأ أي هو ساحر.
[سورة غافر (40): آية 25]
{فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنََا قََالُوا اقْتُلُوا أَبْنََاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسََاءَهُمْ وَمََا كَيْدُ الْكََافِرِينَ إِلاََّ فِي ضَلاََلٍ (25)}
{قََالُوا اقْتُلُوا أَبْنََاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} جمع ابن على الأصل والأصل فيه بني. وقال قتادة: هذا القتل الثاني فهذا على قوله إنه معاقبة لهم، والقتل الأول كان لأنه قيل لفرعون: إنّه يولد في بني إسرائيل ولد يكون زوال ملكك على يده فأمر بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ثم كان القتل الثاني عقوبة لهم ليمتنع الناس من الإيمان. قال الله جلّ وعزّ {مََا كَيْدُ الْكََافِرِينَ إِلََّا فِي ضَلََالٍ} أي إنّه لا يمتنع النّاس من الإيمان، وإن فعل بهم مثل هذا فكيف يذهب باطلا.
[سورة غافر (40): الآيات 26الى 27]
{وَقََالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ََ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسََادَ (26) وَقََالَ مُوسى ََ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاََ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسََابِ (27)}
{أَقْتُلْ} جزم لأنه جواب الأمر {وَلْيَدْعُ} جزم لأنه أمر و {ذَرُونِي} ليس بمجزوم وإن كان أمرا، ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني، وقيل: هذا يدلّ على أنّه قيل لفرعون: إنّا نخاف أن ندعو عليك فيجاب، فقال {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسََادَ} (1) هذه قراءة المدنيين وأبي عبد الرحمن وابن عامر وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسََادَ} (2) وكذا في مصاحف الكوفيين «أو» بألف وإليه يذهب أبو عبيد، قال: لأن «أو» قد تكون بمعنى الواو لأن في ذلك بطلان المعاني، ولو جاز أن يكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا هاهنا لأن معنى الواو إني أخاف الأمرين جميعا، ومعنى «أو» لأحد الأمرين أي إنّي أخاف أن يبدّل دينكم فإن أعوزه ذلك أفسد في الأرض.
__________
(1) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 441.
(2) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 441.
[سورة غافر (40): آية 28](4/23)
[سورة غافر (40): آية 28]
{وَقََالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمََانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ وَقَدْ جََاءَكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كََاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صََادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذََّابٌ (28)}
{أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ} في موضع نصب أي لأن يقول. {وَإِنْ يَكُ كََاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولو كان «يكن» جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه، ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس.
[سورة غافر (40): الآيات 29الى 30]
{يََا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظََاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنََا مِنْ بَأْسِ اللََّهِ إِنْ جََاءَنََا قََالَ فِرْعَوْنُ مََا أُرِيكُمْ إِلاََّ مََا أَرى ََ وَمََا أَهْدِيكُمْ إِلاََّ سَبِيلَ الرَّشََادِ (29) وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزََابِ (30)}
{ظََاهِرِينَ} نصب على الحال. وقد ذكرنا ما بعده {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزََابِ} يعني به من أهلك والله أعلم.
[سورة غافر (40): آية 31]
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعََادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللََّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبََادِ (31)}
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} على البدل. {وَعََادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} لم ينصرف ثمود لأنه اسم للقبيلة وصرفه جائز على أنه اسم للحيّ. {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} في موضع خفض على النسق.
[سورة غافر (40): آية 32]
{وَيََا قَوْمِ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنََادِ (32)}
وقراءة الضحاك {يَوْمَ التَّنََادِ} (1) بالتشديد، وقد رويت عن ابن عباس إلّا أنها من رواية الكلبي عن أبي صالح. قال أبو جعفر: يقال: ندّ البعير يندّ إذا نفر من شيء يراه ثم يستعار ذلك لغير البعير. وفي القراءة جمع بين ساكنين إلا أنه جائز.
[سورة غافر (40): آية 33]
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مََا لَكُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ عََاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ (33)}
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} على البدل من {يَوْمَ التَّنََادِ}. {مُدْبِرِينَ} على الحال. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ} في موضع خفض بمن ومن وما بعدها في موضع رفع، ورفع هاد وخفضه واحد.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 444، والمحتسب 2/ 243.(4/24)
[سورة غافر (40): آية 34]
{وَلَقَدْ جََاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمََّا جََاءَكُمْ بِهِ حَتََّى إِذََا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللََّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ (34)}
{وَلَقَدْ جََاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنََاتِ} من قبل موسى صلّى الله عليهما فذكر وهب بن منبّه أن فرعون موسى هو فرعون يوسف صلّى الله عليه وسلّم عمّر، وغيره يقول: هو أخر وليس في هذه الآية دليل على أنه هو لأنه إذا أتى بالبيّنات فهي لمن معه، ولمن بعده، وقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتََابٌ}.
[سورة غافر (40): آية 35]
{الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِ اللََّهِ بِغَيْرِ سُلْطََانٍ أَتََاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللََّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ (35)}
{الَّذِينَ يُجََادِلُونَ} في موضع نصب على البدل من «من»، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله أو على الابتداء. {مَقْتاً} على البيان أي كبر جدالهم مقتا. {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ} وقراءة أبي عمرو {عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ} (1) بالتنوين. قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق:
الإضافة أولى لأن المتكبّر هو الإنسان وقد يقال: قلب متكبر يراد به الإنسان.
[سورة غافر (40): الآيات 36الى 37]
{وَقََالَ فِرْعَوْنُ يََا هََامََانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبََابَ (36) أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى ََ إِلََهِ مُوسى ََ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كََاذِباً وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمََا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاََّ فِي تَبََابٍ (37)}
{أَسْبََابَ السَّمََاوََاتِ} بدل من «الأسباب». {فَأَطَّلِعَ} عطف على {أَبْلُغُ} وقرأ الأعرج فأطلع (2) بالنصب. قال أبو عبيد: على الجواب. قال أبو جعفر: معنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطّلعت ومعنى الرفع لعليّ أبلغ الأسباب ثم لعليّ أطّلع بعد ذلك إلا أنّ ثم أشدّ تراخيا من الفاء. {وَكَذََلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ} [3] عَنِ السَّبِيلِ وقراءة الكوفيين وصدّ (4) ويجوز على هذه القراءة وصدّ (5) تقلب كسرة الدال على الصاد، وقراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة وصدّ عن السبيل.
[سورة غافر (40): الآيات 38الى 42]
{وَقََالَ الَّذِي آمَنَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ (38) يََا قَوْمِ إِنَّمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا مَتََاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دََارُ الْقَرََارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاََ يُجْزى ََ إِلاََّ مِثْلَهََا وَمَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهََا بِغَيْرِ حِسََابٍ (40) وَيََا قَوْمِ مََا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجََاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النََّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللََّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مََا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفََّارِ (42)}
وقراءة معاذ {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشََادِ} (6). قال أبو جعفر: وقد ذكرناه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 155.
(2) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 446.
(3) انظر تيسير الداني 155.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 446، وهذه قراءة الجمهور.
(5) انظر البحر المحيط 7/ 446، وهذه قراءة الجمهور.
(6) انظر البحر المحيط 7/ 446.(4/25)
[سورة غافر (40): آية 43]
{لاََ جَرَمَ أَنَّمََا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيََا وَلاََ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنََا إِلَى اللََّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحََابُ النََّارِ (43)}
{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} قال أبو إسحاق: أي ليس له استجابة دعوة تنفع، وقال غيره:
ليس له دعوة توجب له الألوهة في الدنيا وفي الآخرة.
[سورة غافر (40): الآيات 44الى 45]
{فَسَتَذْكُرُونَ مََا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبََادِ (44) فَوَقََاهُ اللََّهُ سَيِّئََاتِ مََا مَكَرُوا وَحََاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذََابِ (45)}
{فَسَتَذْكُرُونَ مََا أَقُولُ لَكُمْ} أي في الآخرة. {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللََّهِ} قيل: هذا يدلّ على أنهم أرادوا قتله. قال الكسائي: يقال: حاق يحيق حيقا وحيوقا إذا نزل ولزم.
[سورة غافر (40): آية 46]
{النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذََابِ (46)}
{النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا} فيه ستة أوجه تكون النار بدلا من سوء، ويكون بمعنى هو النار، وتكون بالابتداء، وقال الفرّاء (1): تكون مرفوعة بالعائد فهذه أربعة أوجه وأجاز الفرّاء النصب لأن بعدها عائدا وقبلها ما تتّصل به وأجاز الأخفش: الخفض على البدل من العذاب، واحتجّ بعض أهل اللغة في تثبيت عذاب القبر بقوله جلّ وعزّ: {النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قال فهذا في الدنيا، وفي الحديث عن ابن مسعود قال: «إن أرواح ال فرعون ومن كان مثلهم من الكفار يعرضون على النار بالغداة والعشيّ فيقال هذه داركم» (2) وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشيّ ثم تلا {النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وإن المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنة بالغداة والعشي» (3). قال الفرّاء (4): في الغداة والعشيّ أي بمقادير ذلك في الدنيا. قال أبو جعفر: غدوّ مصدر جعل ظرفا على السعة {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ} نصبت يوما بقوله {أَدْخِلُوا} (5) وقراءة الحسن وأبي الحسن وأبي عمرو وعاصم ادخلوا آل فرعون أشد العذاب تنصب ال فرعون في هذه القراءة على النداء المضاف ومن قرأ أدخلوا ال فرعون نصبهم بوقوع الفعل عليهم و {آلَ فِرْعَوْنَ} من كان على دينه وعلى مذهبه وإذا كان من كان على دينه
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 9.
(2) انظر الطبري 24/ 46، وتفسير عبد الرزاق 3/ 192، والبغوي 4/ 99، وابن كثير 4/ 82، والدر المنثور 5/ 352.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 243، ومسلم في صحيحه 4/ 2199.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 9.
(5) انظر تيسير الداني 155.(4/26)
وعلى مذهبه في أشدّ العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى قتادة عن أبي حسّان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، منهم يحيى بن زكريا صلّى الله عليهما وسلّم ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا. وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا».
[سورة غافر (40): آية 47]
{وَإِذْ يَتَحََاجُّونَ فِي النََّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفََاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُنََّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنََّا نَصِيباً مِنَ النََّارِ (47)}
{فَيَقُولُ الضُّعَفََاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُنََّا لَكُمْ تَبَعاً} مصدر فلذلك لم يجمع، ولو جمع لقيل: أتباع.
[سورة غافر (40): آية 48]
{قََالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُلٌّ فِيهََا إِنَّ اللََّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبََادِ (48)}
{قََالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُلٌّ فِيهََا} قال الأخفش: كل مرفوع بالابتداء، وأجاز الفرّاء (1) والكسائي إنّا كلا فيها بالنصب على النعت. قال أبو جعفر: وهذا من عظيم الخطأ أن ينعت المضمر، وأيضا فإنّ «كلّا» لا تنعت ولا ينعت بها. هذا قول سيبويه نصا. وأكثر من هذا أنّه لا يجوز أن يبدل من المضمر هاهنا لأنه مخاطب، ولا يبدل من المخاطب ولا المخاطب لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما. هذا قول محمد بن يزيد نصا. {إِنَّ اللََّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبََادِ} أي حكم بينهم ألا يؤاخذ أحدا بذنب غيره.
[سورة غافر (40): الآيات 49الى 50]
{وَقََالَ الَّذِينَ فِي النََّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنََّا يَوْماً مِنَ الْعَذََابِ (49) قََالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ قََالُوا بَلى ََ قََالُوا فَادْعُوا وَمََا دُعََاءُ الْكََافِرِينَ إِلاََّ فِي ضَلاََلٍ (50)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع، ومن العرب من يقول: اللذون على أنه جمع مسلّم معرب ومن قال: الذين في موضع الرفع بناه، كما كان في الواحد مبنيا. وقال سعيد الأخفش: ضمّت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. وخزنة جمع خازن، ويقال: خزّان وخزّن. {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ} جواب مجزوم، وإذا كان بالفاء كان منصوبا إلّا أن الأكثر في كلام العرب في الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء، على هذا جاء القرآن بأفصح اللغات، كما قال: [الطويل] 394قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (2)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 10.
(2) مرّ الشاهد رقم (308).(4/27)
وفي الحديث عن أبي الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيأكلون فلا يغني عنهم شيئا فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة فيغصّون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم فيستغيثون بالملائكة فيقولون «ادعوا ربكم يخفّف عنا يوما من العذاب» (1) فيجيبونهم {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنََاتِ قََالُوا بَلى ََ قََالُوا فَادْعُوا وَمََا دُعََاءُ الْكََافِرِينَ إِلََّا فِي ضَلََالٍ}.
[سورة غافر (40): الآيات 51الى 53]
{إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهََادُ (51) يَوْمَ لاََ يَنْفَعُ الظََّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدََّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْهُدى ََ وَأَوْرَثْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ (53)}
{إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا} ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال: رسلنا. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب عطفا على الرسل. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ردّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّا على الله جلّ وعزّ أن يردّ عنه نار جهنّم» (2) ثم تلا {إِنََّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنََا وَالَّذِينَ آمَنُوا} وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله جلّ وعزّ ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من النار، ومن ذكر مسلما بشيء ليشينه به وقفه الله جلّ وعزّ على جسر جهنّم حتّى يخرج مما قال» (3). {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهََادُ} قال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الأشهاد فقال: الملائكة صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيد بن أسلم (4): الأشهاد: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. قال أبو إسحاق:
الأشهاد: جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، قال أبو جعفر: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعا أدّى كما سمع وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفرّاء (5): ويوم تقوم الأشهاد بالتاء على تأنيث الجماعة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير لا تنفع الظالمين معذرتهم (6) قال بعض أهل اللغة: كان الأولى به أن يقرأ ويوم تقوم الأشهاد لأن الفعل يلي الأسماء، وأن يقرأ
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه في صفة جهنم 10/ 54.
(2) أخرجه الترمذي في سننه البرّ والصلة 8/ 118.
(3) أخرجه أبو داود في سننه الأدب الحديث رقم (4883).
(4) زيد بن أسلم أبو أسامة، مولى عمر بن الخطاب، وردت عنه ال في حروف القرآن، أخذ عنه شيبة ابن نصاح (136هـ)، ترجمته في غاية النهاية 1/ 296.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 10.
(6) انظر تيسير الداني 155.(4/28)
{لََا يَنْفَعُ الظََّالِمِينَ} بالياء لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم لأن الأشهاد واحدهم شاهد مذكّر فتذكير الجميع فيهم حسن، ومعذرة مؤنّثة في اللفظ فتأنيثها حسن.
[سورة غافر (40): آية 54]
{هُدىً وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ (54)}
{هُدىً} في موضع نصب إلّا أنه يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. {وَذِكْرى ََ} معطوف عليه ونصبهما على الحال.
[سورة غافر (40): آية 55]
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكََارِ (55)}
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكََارِ} مصدر جعل ظرفا على السعة، والأبكار جمع بكر.
[سورة غافر (40): آية 56]
{إِنَّ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِ اللََّهِ بِغَيْرِ سُلْطََانٍ أَتََاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاََّ كِبْرٌ مََا هُمْ بِبََالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}
قال أبو إسحاق: المعنى أنّ الذين يجادلون في دفع آيات الله وقدره مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقال سعيد بن جبير {بِغَيْرِ سُلْطََانٍ} بغير حجة. والسلطان يذكّر ويؤنّث ولو كان بغير سلطان أتتهم، لكان جائزا. {أَتََاهُمْ} من نعت سلطان وهو في موضع خفض. {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلََّا كِبْرٌ مََا هُمْ بِبََالِغِيهِ} قال أبو إسحاق: المعنى:
ما في صدورهم إلّا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه فقدره على الحذف. وقال غيره:
المعنى ببالغي الكبر على غير حذف لأنّ هؤلاء قوم رأوا أنهم إن اتّبعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قلّ ارتفاعهم ونقصت أحوالهم وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أمّلوه بالتكذيب {فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ} أي من شرّهم.
[سورة غافر (40): آية 57]
{لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (57)}
{لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} مبتدأ وخبره وهذه لام التوكيد، وسبيلها أن تكون في أول الكلام لأنها تؤكّد الجملة إلّا أنها تزحلف عن موضعها. كذا قال سيبويه: تقول:
إن عمرا لخارج وإنما أخّرت عن موضعها لئلّا يجمع بينها وبين «إنّ» لأنهما يؤديان عن معنى واحد، كذلك لا يجمع بين إنّ وأنّ عند البصريين. وأجاز هشام: إنّ أنّ زيدا منطلق حقّ، فإن حذفت حقّا لم يجز عند أحد من النحويين علمته ومما دخلت اللام في خبره قوله جلّ وعزّ بعد هذا {إِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ لََا رَيْبَ فِيهََا}.(4/29)
[سورة غافر (40): آية 60]
{وَقََالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دََاخِرِينَ (60)}
{ادْعُونِي} أمر غير معرب ولا مجزوم عند البصريين إلّا أن تكون معه اللام، وعند الفراء مجزوم على حذف اللام «أستجب» مجزوم عند الجماعة لأنه بمعنى جواب الشرط وهذه الهمزة مقطوعة لأنها بمنزلة النون في نفعل، وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها.
[سورة غافر (40): الآيات 61الى 63]
{اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَشْكُرُونَ (61) ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَأَنََّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذََلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كََانُوا بِآيََاتِ اللََّهِ يَجْحَدُونَ (63)}
{جَعَلَ} هاهنا بمعنى خلق والعرب تفرق بين «جعل» إذا كانت بمعنى خلق وبين «جعل» إذا لم تكن بمعنى خلق، فلا تعديها إلّا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عديتها إلى مفعولين نحو قوله جلّ وعزّ: {إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] {وَالنَّهََارَ} عطف عليه {مُبْصِراً} على الحال.
[سورة غافر (40): آية 64]
{اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرََاراً وَالسَّمََاءَ بِنََاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ فَتَبََارَكَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ (64)}
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وتروى عن ابن رزين {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بكسر الصاد وقد بيّن هذا سيبويه (1)، وذكر أن الكسرة مجاورة للضمة لأن العرب تقول: ركبة وركبات ويحذفون الضمة فيقولون: ركبات وكذلك هند وهندات ويحذفون الكسرة فيقولون: هندات، فتجاورت الضمة والكسرة فجمعوا فعلة على فعل رشوة ورشى، فكذا عنده صورة وصور وهذا من أحسن كلام في النحو وأبينه، ونظيره أنهم يقولون (2): فخذ وفخذ وعضد وعضد، فيحذفون الكسرة والضمة ولا يقولون: في جمل جمل فيحذفون الفتحة لخفتها، ويقولون: سورة وسورة ولا يقولون: في فعلة مفتوحة اللام إلا فعال نحو: جفنة وجفان وفعلة مثل: فعلة يقولون: فيها فعل. ألا ترى إلى تجانس فعلة وفعلة ومباينة فعلة لهما.
[سورة غافر (40): آية 65]
{هُوَ الْحَيُّ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (65)}
{مُخْلِصِينَ} على الحال. {لَهُ الدِّينَ} بوقوع الفعل عليه، والتقدير: قولوا الحمد لله ربّ العالمين.
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 440.
(2) انظر 4/ 228.(4/30)
[سورة غافر (40): الآيات 67الى 70]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِ اللََّهِ أَنََّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتََابِ وَبِمََا أَرْسَلْنََا بِهِ رُسُلَنََا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)}
{ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} وهذا جمع الكثير، ويقال: شيوخا، وفي العدد القليل أشياخ والأصل: أشيخ مثل فلس وأفلس إلّا أن الحركة في الياء ثقيلة وقد كان فعل يجمع على أفعال وليست فيه ياء تشبيها بفعل، قالوا: زند وأزناد، فلما استثقلت الحركة في الياء شبّهوا فعلا بفعل فقالوا: شيخ أشياخ، وإن اضطرّ شاعر جاز أن يقول: أشيخ مثل: عين أعين إلّا أنه حسن في عين لأنها مؤنثة، والشيخ من جاوز أربعين سنة.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى مِنْ قَبْلُ} قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخا. قال أبو جعفر:
ولهذا الحذف ضمّت قبل، وقد ذكرنا العلة في اختيارهم الضمّ لها. قال مجاهد:
{وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} الموت للكلّ.
[سورة غافر (40): الآيات 71الى 74]
{إِذِ الْأَغْلاََلُ فِي أَعْنََاقِهِمْ وَالسَّلاََسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النََّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللََّهِ قََالُوا ضَلُّوا عَنََّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ الْكََافِرِينَ (74)}
{إِذِ الْأَغْلََالُ فِي أَعْنََاقِهِمْ وَالسَّلََاسِلُ} عطف على الأغلال. قال أبو حاتم {يُسْحَبُونَ} مستأنف على هذه القراءة، وقال غيره: هو في موضع نصب على الحال والتقدير: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل مسحوبين. وروى أبو الجوزاء (1) عن ابن عباس أنه قرأ {وَالسَّلََاسِلُ} (2) بالنصب {يُسْحَبُونَ} والتقدير في قراءته: ويسحبون السلاسل. قال أبو إسحاق: من قرأ {وَالسَّلََاسِلُ} (3) بالخفض فالمعنى عنده وفي السلاسل يسحبون وفي الحميم والسلاسل. وهذا في كتاب أبي إسحاق «في القرآن» كذا، والذي يبين لي أنه غلط لأن البيّن أنه يقدّره يسحبون في الحميم والسلاسل تكون السلاسل معطوفة على الحميم، وهذا خطأ لا نعلم أحدا يجيز: مررت وزيد بعمرو، وكذا المخفوض كلّه وإنما أجازوا ذلك في المرفوع أجازوا: قام وزيد عمرو، وهو بعيد في المنصوب نحو:
رأيت وزيدا عمرا، وفي المخفوض لا يجوز لأن الفعل غير دال عليه.
[سورة غافر (40): آية 75]
{ذََلِكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)}
أي ذلكم العذاب بما كنتم تفرحون بالمعاصي. وفي بعض الحديث لو لم يعذّب الله جلّ وعزّ إلّا على فرحنا بالمعاصي واستقامتها لنا. فهذا تأويل، وقيل: إن فرحهم
__________
(1) أبو الجوزاء: أوس بن عبد الله الربعي البصري، أخذ عن عائشة وابن عباس (ت 83هـ). ترجمته في (خلاصته تذهيب الكمال 35).
(2) انظر البحر المحيط 7/ 454.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 454.(4/31)
بما عندهم أنهم قالوا للرسل عليهم السلام: نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذّب. وكذا قال مجاهد في قوله جلّ وعزّ: {فَلَمََّا جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَرِحُوا بِمََا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال {بِمََا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بما كنتم تأشرون {وَبِمََا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أي تبطرون.
[سورة غافر (40): آية 76]
{ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} في موضع رفع أي قبحت مثوى المتكبرين.
[سورة غافر (40): الآيات 77الى 78]
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَإِمََّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنََا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنََا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ فَإِذََا جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}
{فَإِمََّا نُرِيَنَّكَ} في موضع جزم بالشرط و «ما» زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح لأنه بمنزلة الشيئين الذي يضمّ أحدهما، إلى الآخر {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} عطف عليه. {فَإِلَيْنََا يُرْجَعُونَ} الجواب {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنََا عَلَيْكَ} «من» في موضع رفع بالابتداء، وكذا {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}.
[سورة غافر (40): الآيات 79الى 80]
{اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعََامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهََا وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهََا حََاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)}
{اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعََامَ} قال أبو إسحاق: الأنعام هاهنا الإبل. {لِتَرْكَبُوا مِنْهََا وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ} فاحتجّ من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأنّ الله تعالى قال في الأنعام {وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ}، وقال في الخيل والبغال والحمير. {وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا} [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها.
[سورة غافر (40): آية 81]
{وَيُرِيكُمْ آيََاتِهِ فَأَيَّ آيََاتِ اللََّهِ تُنْكِرُونَ (81)}
{فَأَيَّ آيََاتِ اللََّهِ تُنْكِرُونَ} نصبت أيّا بتنكرون لأن الاستفهام يعمل فيه ما بعده، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار الرفع في أيّ، ولو كان الاستفهام بالألف أو بهل وكان بعدها اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب.
[سورة غافر (40): آية 82]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
{كََانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} خبر كان ولم ينصرف لأنه على أفعل وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف يجوز أن ينصرف إلّا أفعل من كذا لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه «من». قال أبو العباس: ولو كانت «من» المانعة لصرفه لوجب أن لا
تقول: مررت بخير منك وشر من عمرو، وكيف يجوز صرف ما لا ينصرف وفيه العلل المانعة من الصرف، وإذا كان ينصرف فما معنى قولنا لا ينصرف لعلة كذا.(4/32)
{كََانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} خبر كان ولم ينصرف لأنه على أفعل وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف يجوز أن ينصرف إلّا أفعل من كذا لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه «من». قال أبو العباس: ولو كانت «من» المانعة لصرفه لوجب أن لا
تقول: مررت بخير منك وشر من عمرو، وكيف يجوز صرف ما لا ينصرف وفيه العلل المانعة من الصرف، وإذا كان ينصرف فما معنى قولنا لا ينصرف لعلة كذا.
[سورة غافر (40): آية 83]
{فَلَمََّا جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَرِحُوا بِمََا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)}
في معناه ثلاثة أقوال: قول مجاهد: إنّ الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: نحن أعلم منهم لن نعذّب ولن نبعث وقيل: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو {يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} [الروم: 7]. وقيل: الذين فرحوا الرّسل لمّا كذبهم قومهم أعلمهم الله جلّ وعزّ أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ففرحوا بما عندهم من العلم بنجاء المؤمنين، وحاق بالكفار ما كانوا يستهزئون أي عقاب استهزائهم بما جاءت به الرسل.
[سورة غافر (40): الآيات 84الى 85]
{فَلَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا قََالُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنََا بِمََا كُنََّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمََانُهُمْ لَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا سُنَّتَ اللََّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبََادِهِ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْكََافِرُونَ (85)}
{فَلَمََّا رَأَوْا بَأْسَنََا قََالُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَحْدَهُ} {سُنَّتَ اللََّهِ} مصدر أي سنّ الله عزّ وجلّ في الكافرين أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. {وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْكََافِرُونَ} قال أبو إسحاق: وقد كانوا خاسرين قبل ذلك إلا أنه تبين لهم الخسران لمّا رأوا العذاب.(4/33)
41 - شرح إعراب سورة السجدة (فصّلت)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة فصلت (41): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ (2) كِتََابٌ فُصِّلَتْ آيََاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}
قال أبو إسحاق: {تَنْزِيلٌ} رفع بالابتداء وخبره {كِتََابٌ فُصِّلَتْ آيََاتُهُ} قال: وهذا قول البصريين. قال الفراء (1) يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا {قُرْآناً عَرَبِيًّا} قال الكسائي والفراء (2): يكون منصوبا بالفعل أي فصّلت كذلك قال: ويجوز أن يكون منصوبا على القطع. وقال أبو إسحاق يكون منصوبا على الحال أي فصّلت آياته في حال جمعه. وقول أخر: يكون منصوبا على المدح أي أعني قرانا عربيا.
[سورة فصلت (41): آية 4]
{بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاََ يَسْمَعُونَ (4)}
{بَشِيراً وَنَذِيراً} قال الكسائي والفراء (3): ويجوز قرآن عربي بالرفع يجعلانه نعتا لكتاب، قالا مثل {وَهََذََا كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ مُبََارَكٌ} [الأنعام: 92، 155] وقال غيرهما: دلّ قوله جلّ وعزّ: {قُرْآناً عَرَبِيًّا} على أنه لا يجوز أن يقال فيه شيء بالسريانية والنبطية، ودل أيضا على أنه يجب أن يطلب معانيه وغريبه من لغة العرب وكلامها، ودلّ أيضا على بطلان قول من زعم أن ثمّ معنيين معنى ظاهرا ومعنى باطنا لا يعرفه العرب في كلامها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فدلّ بهذا على أنه إنما يخاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من القرآن فيجب أن يسأل من يعلم. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لََا يَسْمَعُونَ} في معناه قولان: أحدهما لا يقبلون وكلّهم كذا إلّا من آمن والآخر يجتنبون سماع القرآن.
[سورة فصلت (41): آية 5]
{وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنََا عََامِلُونَ (5)}
{وَقََالُوا قُلُوبُنََا فِي أَكِنَّةٍ} جمع كنان أي عليها حاجز لا يصل إليها ما يقوله، وكذا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 11.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 12.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 465.(4/34)
{وَفِي آذََانِنََا وَقْرٌ} أي صمم والوقر الحمل. {وَمِنْ بَيْنِنََا وَبَيْنِكَ حِجََابٌ} قال أبو إسحاق: أي حاجز لا يجامعك على شيء مما تقوله {فَاعْمَلْ إِنَّنََا عََامِلُونَ} على الأصل، ومن قال: إنّا حذف النون تخفيفا.
[سورة فصلت (41): آية 6]
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى ََ إِلَيَّ أَنَّمََا إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)}
{يُوحى ََ إِلَيَّ أَنَّمََا} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله.
[سورة فصلت (41): آية 7]
{الَّذِينَ لاََ يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ (7)}
{الَّذِينَ} في موضع خفض نعت «للمشركين». {لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} في معناه أقوال: فمن أصحّ ما روي فيه وأحسنه استقامة إسناد ما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: التوحيد لله جلّ وعزّ. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة {لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} قال لا يقولون لا إله إلا الله. وقال الربيع بن أنس: لا يزكّون أعمالهم فينتفعون بها.
وروى إسماعيل بن مسلم عن الحسن {الَّذِينَ لََا يُؤْتُونَ الزَّكََاةَ}. قال: عظم الله جلّ وعزّ شأن الزكاة فذكرها فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون والمسلمون يصلّون والكفار لا يصلّون.
[سورة فصلت (41): آية 8]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}
قال محمد بن يزيد: في معناه قولان يكون {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع من قولهم مننت الحبل أي قطعته، وقد منّه السفر، أي قطعه ويكون معناه لا يمنّ عليهم.
[سورة فصلت (41): آية 9]
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ (9)}
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} قال عبد الله بن سلام وكعب: هما يوم الأحد ويوم الاثنين. وقال مجاهد: كلّ يوم بألف سنة مما تعدون. وقال غيره: لو أراد عزّ وجلّ أن يخلقها في وقت واحد لفعل، ولكنه أراد ما فيه الصلاح ليتبين ملائكته أثر صنعته شيئا بعد شيء فيزداد في بصائرها. الأصل: أإنّكم، فإن خفّفت الهمزة الثانية جعلتها بين بين، وكتابه بألفين لا غير لأن الهمزة الثانية مبتدأة، والمبتدأة لا تكون إلا ألفا، ودخلت عليها ألف الاستفهام. فقولك أإنّكم كقولك هل إنّكم وأم إنّكم لا تكتب إلّا بألف.
{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً} قال الضحاك: تتّخذون معه أربابا والهة. قال أبو جعفر: واحد الأنداد ندّ وهو المثل أي تجعلون له أمثالا لاستحقاق. {ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ} أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين والذي جعلتم له أندادا ربّ العالمين. قال الضحاك: العالمون
الجنّ والإنس والملائكة، وهذا من أحسن ما قيل في معناه لأن سبيل ما يجمع بالواو والنون والياء والنون أن يكون لما يعقل فهذا للملائكة والإنس والجن.(4/35)
{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً} قال الضحاك: تتّخذون معه أربابا والهة. قال أبو جعفر: واحد الأنداد ندّ وهو المثل أي تجعلون له أمثالا لاستحقاق. {ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ} أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين والذي جعلتم له أندادا ربّ العالمين. قال الضحاك: العالمون
الجنّ والإنس والملائكة، وهذا من أحسن ما قيل في معناه لأن سبيل ما يجمع بالواو والنون والياء والنون أن يكون لما يعقل فهذا للملائكة والإنس والجن.
[سورة فصلت (41): آية 10]
{وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ مِنْ فَوْقِهََا وَبََارَكَ فِيهََا وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ سَوََاءً لِلسََّائِلِينَ (10)}
{وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ مِنْ فَوْقِهََا} قال كعب: مادت الأرض فخلق الله فيها الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الرياح والماء الملح، وخلق من الملح العذب، وخلق الوحش والطير والهوام وغير ذلك يوم الأربعاء. قال أبو جعفر: واحد الرواسي راسية، ويقال: واحد الرواسي راس. وقيل للجبال: رواس لثباتها على الأرض. {وَبََارَكَ فِيهََا} أي زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبتها فيها والبركة: الخير الثابت {وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا} قال عكرمة: جعل في كلّ بلد ما يقوم به معيشة أهله فالسابري بسابور، والهروي بهراة، والقراطيس بمصر. {فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ} قال محمد بن يزيد: أي ذا وذاك في أربعة أيام. وقال أبو إسحاق: أي في تمام أربعة أيام. {سَوََاءً} مصدر عند سيبويه أي استوت استواء. قال سيبويه: وقد قرئ {سَوََاءً لِلسََّائِلِينَ} جعل سواء في موضع مستويات، كما تقول: في أربعة أيام تمام أي تامة، ومثله: رجل عدل أي عادل وسواء من نعت أيام، وإن شئت من نعت أربعة. والقراءة بالخفض مرويّة عن الحسن، وبالرفع عن أبي جعفر أي هي سواء. {لِلسََّائِلِينَ} فيه قولان: قال الضحاك: أي لمن سأل عن خلق هذا في كم كان هذا؟ والقول الآخر وقدّر فيها أقواتها للسائلين أي لجميع الخلق لأنّهم يسألون القوت.
[سورة فصلت (41): آية 11]
{ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ (11)}
{ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ} قالوا: في يوم الخميس {فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} وعن سعيد بن جبير أنه قرأ {ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أي أعطيا الطاعة. وقرأ {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (1) ولم يقل: طائعات ففي هذا ثلاثة أجوبة للكسائي قال: يكون أتينا بمن فينا طائعين يكون لما خبّر عنهن بالإتيان أجرى عليهن ما يجري على من يعقل من الذكور، والجواب الثالث أنه رأس آية.
[سورة فصلت (41): آية 12]
{فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى ََ فِي كُلِّ سَمََاءٍ أَمْرَهََا وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَحِفْظاً ذََلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
{فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} على قول من أنّث السماء، ومن ذكّر قال: سبعة سموات فأما قول بعض أهل اللغة أنه ما جمع بالتاء فهو بغير هاء، وإن كان الواحد
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 466، ومختصر ابن خالويه 133.(4/36)
مذكرا، وحكى أخذت منه أربع سجلّات، بغير هاء فخطأ لا يعرفه أهل الإتقان من أهل العربية وقد حكوا: هذه أربعة حمّامات لأن الواحد حمّام مذكر، هكذا قال الأخفش سعيد {وَأَوْحى ََ فِي كُلِّ سَمََاءٍ أَمْرَهََا} قيل: أمرها ملائكتها، وقيل: ما صنع فيها وعن حذيفة ما يدلّ على الجوابين، قال: وأوحى في كل سماء أمرها قال للسماء الدنيا:
كوني زمردة خضراء، وجعل فيها ملائكة يسبّحون. {وَزَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَحِفْظاً} قال الأخفش: أي وحفظناها حفظا.
[سورة فصلت (41): آية 13]
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ (13)}
وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي {صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ} ولم تأتهم الصاعقة لأنهم لم يعرضوا كلهم وأعرضوا للكل، وكل من خوطب بهذا أسلم إلّا من قتل منهم.
وقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن الوليد كما قرئ على أحمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح بن عبد الله عن الذيّال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل يوما، والملأ من قريش: إنه قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه عتبة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال له عتبة: يا محمّد أأنت خير أم هاشم؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ لم يأتوا بمثل ما أتيت به فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك اللواء بيننا بالرئاسة فكنت ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار هن من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلّم فلما فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» ثمّ قرأ إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} (13) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكفّ ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلّا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتوا عتبة فخرج إليهم فقال له أبو جهل والله يا عتبة ما نظنّك إلّا قد صبأت إلى محمد وأعجبك أمره، وما نرى ذلك إلّا من حاجة أصابتك فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلّم محمدا أبدا، وقال لهم: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكنّي أتيته فقصّ عليهم ما قال له: وما قال لرسول الله، ثم قال: جاءني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة قرأ علي «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} (13) فأمسكت على فيه، وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فناشدته الرحم أن يكفّ. قال الضحاك: {صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} أي عذابا وقال محمد بن يزيد: الصاعقة معناها في كلام العرب المبيدة المهلكة المخمدة فربّما استعملت للإخماد من غير إهلاك ومنه سمّي الصّعق بن حرب لأنه ضرب ضربة فخمد ثم أفاق.(4/37)
وقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن الوليد كما قرئ على أحمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح بن عبد الله عن الذيّال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل يوما، والملأ من قريش: إنه قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه عتبة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال له عتبة: يا محمّد أأنت خير أم هاشم؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ لم يأتوا بمثل ما أتيت به فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك اللواء بيننا بالرئاسة فكنت ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار هن من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلّم فلما فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» ثمّ قرأ إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} (13) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكفّ ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلّا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتوا عتبة فخرج إليهم فقال له أبو جهل والله يا عتبة ما نظنّك إلّا قد صبأت إلى محمد وأعجبك أمره، وما نرى ذلك إلّا من حاجة أصابتك فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلّم محمدا أبدا، وقال لهم: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكنّي أتيته فقصّ عليهم ما قال له: وما قال لرسول الله، ثم قال: جاءني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة قرأ علي «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} (13) فأمسكت على فيه، وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فناشدته الرحم أن يكفّ. قال الضحاك: {صََاعِقَةً مِثْلَ صََاعِقَةِ عََادٍ وَثَمُودَ} أي عذابا وقال محمد بن يزيد: الصاعقة معناها في كلام العرب المبيدة المهلكة المخمدة فربّما استعملت للإخماد من غير إهلاك ومنه سمّي الصّعق بن حرب لأنه ضرب ضربة فخمد ثم أفاق.
[سورة فصلت (41): الآيات 14الى 15]
{إِذْ جََاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاََّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللََّهَ قََالُوا لَوْ شََاءَ رَبُّنََا لَأَنْزَلَ مَلاََئِكَةً فَإِنََّا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كََافِرُونَ (14) فَأَمََّا عََادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقََالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنََّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يَجْحَدُونَ (15)}
{إِذْ جََاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} في معناه ثلاثة أقوال: مذهب الضحاك: أن الرسل الذين بين أيديهم من قبلهم، والذين من خلفهم الذين بحضرتهم.
قال أبو جعفر: فيكون الضمير الذي في خلفهم يعود على الرسل، هذا قول وهو مذهب الفراء. وقيل: من بين أيديهم الذين بحضرتهم، ومن خلفهم الذين من قبلهم. وقيل:
هما على التكثير أي جاءتهم الرسل من كلّ مكان بشيء واحد، وهو ألا يعبدوا إلّا الله.
[سورة فصلت (41): آية 16]
{فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذََابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ََ وَهُمْ لاََ يُنْصَرُونَ (16)}
قرأ أبو عمرو ونافع {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ} (1) بإسكان الحاء، وأكثر القراء بكسرها فيقول: {نَحِسََاتٍ} واحتجّ أبو عمرو في التسكين على إجماعهم بتسكين الحاء في قولهم: نحس وفي قوله جلّ وعزّ: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] وردّ عليه أبو عبيد هذا الاحتجاج لأن معنى {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} في يوم شؤم وأن معنى {فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ} في أيام مشؤومات، والقول كما قال أبو عبيد.
روى جويبر عن الضحّاك «في أيام نحسات» قال: مشؤومات عليهم، ويحتمل قراءة من قرأ {فِي أَيََّامٍ نَحِسََاتٍ} بإسكان الحاء أن يكون الأصل عنده نحسات ثم حذف الكسرة فيكون كمعنى نحسات، ويحتمل أن يكون وصفها بما هو فيها مجازا واتساعا.
[سورة فصلت (41): الآيات 17الى 18]
{وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ فَأَخَذَتْهُمْ صََاعِقَةُ الْعَذََابِ الْهُونِ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكََانُوا يَتَّقُونَ (18)}
{وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ} رفعت ثمود بالابتداء ولم تصرفه على أنه اسم للقبيلة
__________
(1) انظر تيسير الداني 156.(4/38)
والمعروف من قراءة الأعمش {وَأَمََّا ثَمُودُ} (1) بالصرف على أنه اسم للحيّ إلّا أن أبا حاتم روى عن أبي زيد عن المفضّل عن الأعمش وعاصم أنهما قرا وأمّا ثمودا بالنصب. وهذه القراءة معروفة عن عبد الله بن أبي إسحاق، والنصب بإضمار فعل على قول يونس قال: زيدا ضربته، وذلك بعيد عند سيبويه. وعلى ذلك أنشد: [المتقارب] 395 فأمّا تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما (2)
قال الضحاك: {وَأَمََّا ثَمُودُ فَهَدَيْنََاهُمْ} أخرجنا لهم الناقة تبيانا وتصديقا لصالح صلّى الله عليه وسلّم. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ََ عَلَى الْهُدى ََ} قال: أي استحبّوا الكفر على الإيمان.
[سورة فصلت (41): الآيات 19الى 22]
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدََاءُ اللََّهِ إِلَى النََّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا قََالُوا أَنْطَقَنَا اللََّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمََا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاََ أَبْصََارُكُمْ وَلاََ جُلُودُكُمْ وَلََكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللََّهَ لاََ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمََّا تَعْمَلُونَ (22)}
ويوم نحشر أعداء الله إلى النّار هذه قراءة نافع، وأما سائر القراء أبو عمرو وأبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي فقرؤوا {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدََاءُ اللََّهِ} (3)
على ما لم يسمّ فاعله. وهذا اختيار أبي عبيد وعارض نافعا في قراءته منكرا فقال بعده {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ولم يقل نزعهم أي يحشر أولى. قال أبو جعفر: وهذه المعارضة لا تلزم، والقراءتان حسنتان، والمعنى فيهما واحد غير أن قائلا لو قال قراءة نافع أولى بما عليها من الشواهد لأنه قد أجمع القراء على النون في قوله جلّ وعزّ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمََنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى ََ جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 85] ومن الدليل على أن معارضته لا تلزم قول الله جلّ وعزّ: {وَحَشَرْنََاهُمْ فَلَمْ نُغََادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف: 47] ولم يقل: وحشروا، وبعده {وَعُرِضُوا} لما لم يسمّ فاعله. فهذا مثل قراءة نافع ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون والإمالة في قوله جلّ وعزّ:
{إِلَى النََّارِ} حسنة لأن الراء مكسورة وكسرتها بمنزلة كسرتين لأن فيها تكريرا. هذا قول الخليل وسيبويه (4) فحسن معها إمالة الألف للمجانسة. فأما قول من يقول: تمال الراء وتمال الدال فلا تخلو من إحدى جهتين من الخطأ والتساهل: لأن الإمالة إنما تقع على الألف لأنها حرف هوائي فيتهيأ فيه ما لا يتهيأ في غيره. ويقال: وزعته أزعه والأصل أوزعه فحذفت الواو وفتحت لأن فيه حرفا من حروف الحلق. قال الضحاك:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 14، والبحر المحيط 7/ 47.
(2) الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 190، والأزهيّة ص 146، وجمهرة اللغة 1021، وشرح أبيات سيبويه 1/ 280، والكتاب 1/ 134، ولسان العرب (روب)، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 7، وأمالي ابن الحاجب 1/ 334، ومجالس ثعلب ص 230، والمحتسب 1/ 189، والمعاني الكبير 937.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 471.
(4) انظر الكتاب 4/ 575.(4/39)
{يُوزَعُونَ} يدفعون. وقال مجاهد وأبو رزين: {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على اخرهم.
ويروى عن ابن عباس {يُوزَعُونَ}، قال: يحبس أولهم على اخرهم حتّى يتتامّوا فيرمى بهم في النار. قال أبو جعفر: والدليل على هذا الجواب أنّ بعده {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} وهذا من معجز القرآن لأن فيه حذفا واختصارا قد دلّ عليه المعنى، والمعنى حتّى إذا جاءوا النار وصاروا بحضرتها سئلوا عن كفرهم ومعاصيهم فأنكروها بعد أن شهد عليهم النبيون والمؤمنون. {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} قال الفرّاء (1): الجلد هاهنا الذكر كنّى الله جلّ وعزّ عنه كما كنّى في قوله جلّ وعزّ {وَلََكِنْ لََا تُوََاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] أي نكاحا، وقال غيره: هي جلودهم بعينها جعل الله عزّ وجلّ فيها ما ينطق فشهدت عليهم، قال جلّ وعزّ: {وَمََا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلََا أَبْصََارُكُمْ وَلََا جُلُودُكُمْ} أي ما كنتم تقدرون على أن تستروا معاصيكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم لأنكم بهن تعملون المعاصي و «أن» في موضع نصب أي من أن.
[سورة فصلت (41): آية 23]
{وَذََلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدََاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخََاسِرِينَ (23)}
{وَذََلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدََاكُمْ} ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم و {أَرْدََاكُمْ} خبر ذلكم، وعلى الجواب الأول أرداكم خبر ثان فأما قول الفرّاء: يكون أرداكم في موضع نصب مثل: هذا زيد قائما، فغلط لأن الفعل الماضي لا يكون حالا. قال أبو العباس: أرداكم من الردى وهو الهلاك.
[سورة فصلت (41): آية 24]
{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنََّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمََا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}
{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنََّارُ مَثْوىً} في موضع جزم بالشرط، وجوابه الجملة الفاء وما بعدها، وكذا {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}.
[سورة فصلت (41): آية 25]
{وَقَيَّضْنََا لَهُمْ قُرَنََاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كََانُوا خََاسِرِينَ (25)}
{وَقَيَّضْنََا لَهُمْ قُرَنََاءَ} عن ابن عباس أن القرناء الشياطين. وهي آية مشكلة فمن الناس من يقول: معنى هذا التحلية للمحنة وقيل: قيضنا لهم قرناء من الشياطين في النار {فَزَيَّنُوا لَهُمْ} أعمالهم في الدنيا. فإن قيل: فكيف يصحّ هذا والفاء تدلّ على أن الثاني بعد الأول؟ قيل: يكون المعنى: قدّرنا عليهم هذا وحكمنا به. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى أحوجناهم إلى الإقرار والاقتران فأحوجنا الغنيّ إلى الفقير
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 16.(4/40)
ليستعين به وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، وكذا الزوجان كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه فهذا معنى الاقتران وحاجة بعضهم إلى بعض. قيض الله جلّ وعزّ لهم ذلك ليتعاونوا على طاعته فزيّن بعضهم لبعض المعاصي قال جلّ وعزّ {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ} فيه أقوال: يروى عن ابن عباس {مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} التكذيب بالآخرة والبعث والجنة والنار، {وَمََا خَلْفَهُمْ} الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي، وقيل {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي ما تقدّمهم من المعاصي {وَمََا خَلْفَهُمْ} ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم، وقيل: {مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما هم فيه {وَمََا خَلْفَهُمْ} ما عزموا أن يعملوه، وهذا من أبينها. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وهو أن الله جلّ وعزّ يعذّب من عمل مثل عملهم {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي هم داخلون في أمم قد حقّ عليهم هذا القول. فهذا قول بين، وقد قيل: «في» بمعنى مع كما قال: [الطويل] 396 وهل ينعمن من كان أخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال (1)
[سورة فصلت (41): الآيات 26الى 27]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاََ تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذََاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ (27)}
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَسْمَعُوا لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وهذا من لغي يلغى، وهي اللغة الفصيحة، ويقال: لغى يلغى لأن فيه حرفا من حروف الحلق، ولغا يلغو، وعلى هذه اللغة قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى {وَالْغَوْا فِيهِ} بضم الغين. قال محمد بن يزيد: اللغو في كلام العرب ما كان على غير وجهه، ومنه {وَإِذََا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ}
[القصص: 55] إنما هو ما يصدّ عن الخير ويدعو إلى الشر أي هو مما ينبغي أن يطّرح، ولا يعرّج عليه كما أن اللغو في الكلام ما لا يفيد معنى. ويروى عن عبد الله بن عباس في معنى {وَالْغَوْا فِيهِ} أن أبا جهل هو الذي قال هذا، قال: فإذا رأيتم محمدا يصلّي فصيحوا في وجهه، وشدّوا أصواتكم بما لا يفهم حتّى لا يدري ما يقول، ويروى أنهم إنّما فعلوا هذا لما أعجزهم القرآن، ورأوا من تدبّره آمن به لإعجازه بفصاحته وكثرة معانيه وحسنه ونظمه ورصفه فقالوا: إذا سمعتموه يقرأ فخلّطوا عليه القراءة بالهزء وما لا يحصل، وذلك اللغو لعلكم تغلبونه.
[سورة فصلت (41): الآيات 28الى 29]
{ذََلِكَ جَزََاءُ أَعْدََاءِ اللََّهِ النََّارُ لَهُمْ فِيهََا دََارُ الْخُلْدِ جَزََاءً بِمََا كََانُوا بِآيََاتِنََا يَجْحَدُونَ (28) وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنََا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاََّنََا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمََا تَحْتَ أَقْدََامِنََا لِيَكُونََا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}
{ذََلِكَ جَزََاءُ أَعْدََاءِ اللََّهِ النََّارُ} قال أبو إسحاق: النار بدل من جزاء قال: ويجوز أن يكون رفعها بإضمار مبتدأ أيضا تبيينا عن الجزاء.
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 27، وأدب الكاتب ص 518، وجمهرة اللغة 1315، وخزانة الأدب 1/ 62، والجنى الداني 252، وجواهر الأدب ص 230، وتاج العروس (حول) و (في)، والدرر 4/ 149، وشرح شواهد المغني 1/ 486، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 313، ورصف المباني ص 391، وشرح الأشموني 2/ 292، ولسان العرب (فيا) ومغني اللبيب 1/ 169، وهمع الهوامع 2/ 30.(4/41)
[سورة فصلت (41): آية 30]
{إِنَّ الَّذِينَ قََالُوا رَبُّنَا اللََّهُ ثُمَّ اسْتَقََامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاََئِكَةُ أَلاََّ تَخََافُوا وَلاََ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}
{إِنَّ الَّذِينَ قََالُوا رَبُّنَا اللََّهُ ثُمَّ اسْتَقََامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلََائِكَةُ} ويجوز في غير القرآن حذف إحدى التاءين ولا يجوز الإدغام للبعد. و «أن» في موضع نصب أي بأن لا تخافوا ولا تحزنوا. ويروى عن ابن عباس أن هذا في يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: هذا عند الموت قال: والبشارة في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث.
[سورة فصلت (41): آية 31]
{نَحْنُ أَوْلِيََاؤُكُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَدَّعُونَ (31)}
{نَحْنُ أَوْلِيََاؤُكُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ} أي نحوطكم ونحفظكم بأمر الله عزّ وجلّ، وفي الآخرة نطامنكم ونرشدكم. {وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهََا مََا تَدَّعُونَ}. قال عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أراد أحدهم الشيء واشتهاه في نفسه وجده حيث تناله يده.
[سورة فصلت (41): آية 32]
{نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}
{نُزُلًا} قال الأخفش: هو منصوب من جهتين: إحداهما أن يكون مصدرا أي أنزلهم الله ذاك نزلا، والأخرى أن يكون في موضع الحال أي منزلين نزلا.
[سورة فصلت (41): آية 33]
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} منصوب على البيان. وقد ذكرنا فيه أقوالا فمن أجمعها ما قاله الضحاك قال: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن اتّبعهم إلى يوم القيامة إلّا أن الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيه توقيف أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهي لا تقول إلّا ما تعلم أنّه كما قالت لأن مثل هذا لا يؤخذ بالتأويل إذا قيل نزل في كذا، كما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف القطّان قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد عن محمد بن نافع عن عائشة قالت: نزلت في المؤذنين يعني قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ}. وقرئ على أحمد بن محمد الحجاج عن يحيى بن سليمان عن وكيع قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصّافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ومحمد بن نافع عن عائشة في هذه الآية قالت: نزلت في المؤذّنين {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال يحيى بن سليمان:
وحدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة يرفعه قال: أول من يقضى له بالرحمة يوم القيامة المؤذّنون وأول المؤذّنين مؤذّنو مكّة، قال: والمؤذّنون أطول الناس
أعناقا يوم القيامة والمؤذّنون إذا خرجوا من قبورهم أذّنوا فنادوا بالأذان، والمؤذنون لا يدوّدون في قبورهم. قال عكرمة: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ما أبالي لو كنت مؤذّنا أن لا أحجّ ولا أعتمر ولا أجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: وقالت الملائكة عليهم السلام لو كنّا نزولا في الأرض ما سبقنا إلى الأذان أحد، وبإسناده عن عكرمة في قوله جلّ وعزّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ} يعني المؤذنين {وَعَمِلَ صََالِحاً} قال: صلّى وصام. قال يحيى بن سليمان: وحدّثنا جرير عن فضيل بن أبي رفيدة قال: قال لي عاصم بن هبيرة وكان من أصحاب ابن مسعود، وكنت مؤذنا: إذا فرغت من الأذان وقلت لا إله إلّا الله فقل وأنا من المسلمين ثم قرأ هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. إنّني على الأصل، ومن قال: «إنّي» حذف لاجتماع النونات، والتقدير عند جماعة من أهل العربية: وقال إنني مسلم من المسلمين، وكذا قال هشام في {وَقََاسَمَهُمََا إِنِّي لَكُمََا لَمِنَ النََّاصِحِينَ} أي ناصح من الناصحين. وقال بعض أهل النظر: دلّ هذا من قوله جلّ وعزّ أنه حسن أن يقول أنا مسلم بلا استثناء أي قد استسلمت لله جلّ وعزّ وقبلت أمره فحكم لي بأنّي مسلم.(4/42)
وحدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة يرفعه قال: أول من يقضى له بالرحمة يوم القيامة المؤذّنون وأول المؤذّنين مؤذّنو مكّة، قال: والمؤذّنون أطول الناس
أعناقا يوم القيامة والمؤذّنون إذا خرجوا من قبورهم أذّنوا فنادوا بالأذان، والمؤذنون لا يدوّدون في قبورهم. قال عكرمة: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ما أبالي لو كنت مؤذّنا أن لا أحجّ ولا أعتمر ولا أجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: وقالت الملائكة عليهم السلام لو كنّا نزولا في الأرض ما سبقنا إلى الأذان أحد، وبإسناده عن عكرمة في قوله جلّ وعزّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ} يعني المؤذنين {وَعَمِلَ صََالِحاً} قال: صلّى وصام. قال يحيى بن سليمان: وحدّثنا جرير عن فضيل بن أبي رفيدة قال: قال لي عاصم بن هبيرة وكان من أصحاب ابن مسعود، وكنت مؤذنا: إذا فرغت من الأذان وقلت لا إله إلّا الله فقل وأنا من المسلمين ثم قرأ هذه الآية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعََا إِلَى اللََّهِ وَعَمِلَ صََالِحاً وَقََالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. إنّني على الأصل، ومن قال: «إنّي» حذف لاجتماع النونات، والتقدير عند جماعة من أهل العربية: وقال إنني مسلم من المسلمين، وكذا قال هشام في {وَقََاسَمَهُمََا إِنِّي لَكُمََا لَمِنَ النََّاصِحِينَ} أي ناصح من الناصحين. وقال بعض أهل النظر: دلّ هذا من قوله جلّ وعزّ أنه حسن أن يقول أنا مسلم بلا استثناء أي قد استسلمت لله جلّ وعزّ وقبلت أمره فحكم لي بأنّي مسلم.
[سورة فصلت (41): آية 34]
{وَلاََ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)}
{وَلََا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} قال عطاء: الحسنة لا إله إلّا الله، والسيئة الشّرك {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالحال التي هي أحسن {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. قال أبو زيد:
«الحميم» عند العرب: القريب. وقال محمد بن يزيد: «الحميم» الخاص ومنه قول العرب عنده: الخاصة والعامة.
[سورة فصلت (41): آية 35]
{وَمََا يُلَقََّاهََا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمََا يُلَقََّاهََا إِلاََّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}
{وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الكناية عن الحال وعن هذه الكلمة.
[سورة فصلت (41): الآيات 36الى 38]
{وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيََاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهََارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاََ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاََ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُمْ لاََ يَسْأَمُونَ (38)}
{وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ} في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا. وقد ذكرنا {خَلَقَهُنَّ} وعلى أي شيء يعود الضمير.
قال محمد بن يزيد: {يَسْأَمُونَ} يملّون، وأنشد بيت زهير: [الطويل]
397 - ومن لا يزل يستحمل النّاس أمره ... ولا يعفها يوما من الدّهر يسأم (1)
أي يملّ.(4/43)
قال محمد بن يزيد: {يَسْأَمُونَ} يملّون، وأنشد بيت زهير: [الطويل]
397 - ومن لا يزل يستحمل النّاس أمره ... ولا يعفها يوما من الدّهر يسأم (1)
أي يملّ.
[سورة فصلت (41): آية 39]
{وَمِنْ آيََاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خََاشِعَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيََاهََا لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ إِنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
{إِنَّ} في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه: (2) وإن كان لا يجيز أن يكون «أن» في أول الكلام ولكن لمّا كان قبلها شيء صلح الابتداء بها والرفع عند المازني بإضمار فعل فيما لا يجوز أن يبتدأ به كما تقول: كيف زيد؟ والتقدير عنده: كيف استقرّ زيد.
«خاشعة» منصوبة على الحال: {فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} من ربا يربو فحذفت الألف لسكونها وسكون التاء بعدها، ويقال: في تثنية ربا ربوان كذا قال سيبويه (3)
نصا، والكوفيون يقولون: ربيان بالياء، ويكتبون ربا بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: ليس يكفيهم أن يغلطوا في الخطّ حتّى يتجاوزوا ذلك إلى التثنية. قال أبو جعفر: والقرآن يدلّ على ما قال البصريون قال الله جلّ وعزّ: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ النََّاسِ} [الروم: 39] وقراءة أبي جعفر اهتزّت وربأت وهو مأخوذ من الربيئة، يقال: ربأ يربأ فهو رابئ وربؤ يربؤ فهو ربيء وربيئة على المبالغة إذا ارتفع إلى موضع عال يرقب، فمعنى وربأت ارتفعت. {إِنَّ الَّذِي أَحْيََاهََا لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ} حذفت الضمة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين.
[سورة فصلت (41): آية 40]
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيََاتِنََا لاََ يَخْفَوْنَ عَلَيْنََا أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيََامَةِ اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)}
و {يُلْحِدُونَ} من ألحد وهي بالألف أكثر وأشهر.
[سورة فصلت (41): آية 41]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ (41)}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمََّا جََاءَهُمْ} في خبر «إنّ» هاهنا أقوال فمن مذاهب الكسائي أنه قد يقدم قبلها ما يدلّ على الخبر من قوله جلّ وعزّ: {أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ خَيْرٌ} وغيره، وقيل الخبر {أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} وقيل المعنى: إنّ الّذين كفروا بالذكر لما جاءهم قد كفروا بمعجز ودلّ على هذا أنّ بعده {وَإِنَّهُ لَكِتََابٌ عَزِيزٌ} وهذا مذهب الفراء (4) على معنى قوله، وقيل الخبر محذوف فمعناه أهلكوا.
__________
(1) الشاهد لزهير في ديوانه 32، والكتاب 3/ 99، وخزانة الأدب 9/ 90، والدرر 5/ 91، وشرح أبيات سيبويه 2/ 64، ولسان العرب (حمل)، وهمع الهوامع 2/ 63، وبلا نسبة في المقتضب 2/ 65.
(2) انظر الكتاب 3/ 141.
(3) انظر الكتاب 3/ 428.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 19.(4/44)
[سورة فصلت (41): آية 42]
{لاََ يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاََ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}
{لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ} مذهب الضحاك وسعيد بن جبير أن معناه لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده. قال أبو جعفر: والتقدير على هذا لا يأتيه الأمر بالباطل من هاتين الجهتين أو لا يأتيه البطول، ويكون فاعل بمعنى المصدر مثل عافاه الله جلّ وعزّ عافية، وقيل: الباطل هاهنا الشيطان وقد ذكرنا هذا القول {تَنْزِيلٌ} نعت لكتاب أو بإضمار مبتدأ.
[سورة فصلت (41): آية 43]
{مََا يُقََالُ لَكَ إِلاََّ مََا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقََابٍ أَلِيمٍ (43)}
{مََا يُقََالُ لَكَ إِلََّا مََا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} قال أبو صالح أي من الأذى.
[سورة فصلت (41): آية 44]
{وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلاََ فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ وَالَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولََئِكَ يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ (44)}
{وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا} جعلنا هاهنا متعدّية إلى مفعولين وقد ذكرنا هذه الآية {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ} «هدى» في موضع رفع على أنه خبر هو «وشفاء» معطوف عليه {وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد عن حجاج عن شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتّة عن ابن عباس رحمه الله ومعاوية وعمرو بن العاص رحمهم الله أنّهم قرءوا وهو عليهم عم (1) وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن أبي إسحاق قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس أنه قرأ وهو عليهم عم (2) هذه القراءة مخالفة للمصحف فإن قال قائل: الإسناد صحيح، قيل له: الإجماع أولى على أنّ الإسناد فيه شيء وذلك أنّ عمرو بن دينار لم يقل: سمعت ابن عباس فيخاف أن يكون مرسلا، وسليمان بن قتّة ليس بنظير عمرو بن دينار على أن يعقوب القارئ على محله من الضبط قد قال في هذا الحديث: ما أدري أقرءوا وهو عليهم عم أو {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} على أنه فعل ماض. ومع إجماع الجمع سوى من ذكرناه. والذي في المصحف أنّ المعنى بعمى أشبه لأنه قال جلّ وعزّ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ} فالأشبه بهذا أعمى، {وَالَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ فِي آذََانِهِمْ وَقْرٌ} «الذين» في موضع رفع بالابتداء وخبره في الجملة. ومن العرب من يقول: اللذون في موضع الرفع. والذين أكثر وقد ذكرنا
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 481، ومعاني الفراء 3/ 20.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 481، ومعاني الفراء 3/ 20.(4/45)
العلة (1) فيه. {وَشِفََاءٌ} في موضع رفع بالابتداء، والجملة خبره {يُنََادَوْنَ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} على التمثيل أي لا يتفهّمون ما يقال لهم والعرب تقول لمن يتّفهم: هو يخاطب من قريب. قال مجاهد: {مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} أي بعيد من قلوبهم.
[سورة فصلت (41): آية 45]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاََ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ} مفعولان. {فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} «كلمة» مرفوعة بالابتداء عند سيبويه (2)، والخبر محذوف لا يظهر. وبعض الكوفيين يقول: لولا من الحروف الرافعة. فأما معنى كلمة: فقيل: إنّها تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة وترك أخذهم على المعصية لمّا علم الله عزّ وجلّ في ذلك من الصلاح لأنهم لو أخذوا بمعاصيهم في وقت العصيان لانتهوا ولم يكونوا مثابين ولا ممتحنين على ذلك وفي الحديث المسند «لولا أنكم تذنبون لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم» (3)
أي أنتم تمتحنون وتؤخّر عقوبتكم لتتوبوا.
[سورة فصلت (41): آية 46]
{مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا وَمََا رَبُّكَ بِظَلاََّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)}
{مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ} شرط وجوابه الفاء وما بعدها.
[سورة فصلت (41): آية 47]
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السََّاعَةِ وَمََا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرََاتٍ مِنْ أَكْمََامِهََا وَمََا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ََ وَلاََ تَضَعُ إِلاََّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنََادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكََائِي قََالُوا آذَنََّاكَ مََا مِنََّا مِنْ شَهِيدٍ (47)}
{وَمََا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرََاتٍ} هذه قراءة أهل المدينة (4)، وقراءة أهل الكوفة من ثمرة (5)
وهو اختيار أبي عبيد لأنّ ثمرة تؤدّي عن ثمرات هذا احتجاجه فحمل ذلك على المجاز، والحقيقة أولى وأمضى. فإنه في المصاحف بالتاء. فالقراءة بثمرات أولى.
{مِنْ أَكْمََامِهََا} قال محمد بن يزيد: وهو ما يغطيها، قال: والواحد كمّ ومن قال في الجمع: أكمّة قال في الواحد: كمام. {وَيَوْمَ يُنََادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكََائِي} أي على قولكم {قََالُوا آذَنََّاكَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس «آذنّاك» يقول أعلمناك. {مََا مِنََّا مِنْ شَهِيدٍ} «من» زائدة للتوكيد أي ما منا شاهد يشهد أنّ معك إلها.
__________
(1) مرّ في إعراب الآية 49غافر.
(2) انظر الإنصاف مسألة (10).
(3) أخرجه الترمذي في سننه صفة الجنة 10/ 4.
(4) انظر تيسير الداني 157، وكتاب السبعة لابن مجاهد 577.
(5) انظر تيسير الداني 157، وكتاب السبعة لابن مجاهد 577.(4/46)
[سورة فصلت (41): الآيات 48الى 51]
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مََا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لاََ يَسْأَمُ الْإِنْسََانُ مِنْ دُعََاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ رَحْمَةً مِنََّا مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هََذََا لِي وَمََا أَظُنُّ السََّاعَةَ قََائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى ََ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ََ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمََا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذََابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذََا أَنْعَمْنََا عَلَى الْإِنْسََانِ أَعْرَضَ وَنَأى ََ بِجََانِبِهِ وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعََاءٍ عَرِيضٍ (51)}
{وَظَنُّوا مََا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} قال الأخفش: ظنّوا استيقنوا. قال: و «ما» حرف فلذلك لا تعمل فيه ظنوا فلذلك ألغي. قال أبو عبيدة (1): حاص يحيص إذا حاد، وقال غيره:
المحيص المذهب الذي ترجى فيه النجاة.
[سورة فصلت (41): آية 52]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقََاقٍ بَعِيدٍ (52)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} في الكلام حذف أي إن كان من عند الله ثم كفرتم به أمصيبون أنتم في ذلك؟
[سورة فصلت (41): آية 53]
{سَنُرِيهِمْ آيََاتِنََا فِي الْآفََاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}
{سَنُرِيهِمْ آيََاتِنََا فِي الْآفََاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} في معناه ثلاثة أقوال: منها سنريهم ما خبّرهم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم وفارس وغير ذلك من إخباره حتّى يتبيّن لهم أن كل ما أخبر به هو الحق، فذا قول، وقيل: المعنى: سنريهم اثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أنّ لها صانعا حكيما {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن بلغوا وعقلوا وميّزوا حتّى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدونه من دونه. والقول الثالث رواه الثوري عن عمرو بن قيس عن المنهال وبعض المحدثين يقول عن المنهال عن سعيد بن جبير أو غيره في قول الله جلّ وعزّ:
{سَنُرِيهِمْ آيََاتِنََا فِي الْآفََاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} قال: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الناس «وفي أنفسهم» قال: ظهوره عليهم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب هذا، ونسق الكلام يدلّ عليه، والقول الأول لا يصح لأنه لم يتقدم للأخبار ذكر فيكنّى عنها أعني {أَنَّهُ الْحَقُّ}. وفي المضمر ثلاثة أقوال سوى من قال: إنه للخبر: أحدها: أن يكون يعود على اسم الله جلّ وعزّ، والثاني: أن يكون يعود على القرآن فقد تقدّم ذكره في قوله جلّ وعز: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} والثالث: أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أشبهها بنسق الكلام. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى: أو لم يكف بربك بما دلّ به من حكمته وخلقه ففي ذلك كفاية، والثاني: أو لم يكف بربك في معاقبته هؤلاء الكفّار المعاندين ففي الله جلّ وعزّ كفاية منهم، والثالث: أن المعنى: أو لم يكفك يا محمّد ربك أنه شاهد على أعمال هؤلاء عالم بما يخفون فهذا يكفيك وهذا أشبه الأقوال بنسق الآية، والله جلّ وعزّ أعلم. وفي موضع «أنه» من الإعراب ثلاثة أقوال: يجوز أن يكون في موضعها رفعا
__________
(1) انظر مجاز القرآن 2/ 198.(4/47)
بمعنى أو لم يكف أنه على كلّ شيء شهيد على البدل من ربك على الموضع، والموضع موضع رفع بإجماع النحويين، ويجوز أن يكون موضعها خفضا على اللفظ، ويجوز أن يكون موضعها نصبا بمعنى لأنه على كل شيء شهيد.
[سورة فصلت (41): آية 54]
{أَلاََ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََاءِ رَبِّهِمْ أَلاََ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
{أَلََا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََاءِ رَبِّهِمْ} أي هم في شكّ من لقاء ما وعدوا به من العقاب «وألا» كلمة تنبيه يؤكد بها صحة ما بعدها {أَلََا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} أي قد أحاط به علما مما يشاهد ويغيب. والتقدير محيط بكلّ شيء جلّ وعزّ.
قال في الأصل تمّ الجزء الحادي عشر من أجزاء إعراب القرآن الذي عني بجمعه وتبيينه وشرحه أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس رحمه الله والحمد لله رب العالمين.(4/48)
42 - شرح إعراب سورة حم عسق (الشورى)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الشورى (42): الآيات 1الى 4]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) عسق (2) كَذََلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}
{حم عسق} {كَذََلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} {اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الكاف من «كذلك» في موضع نصب نعت لمصدر، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بيوحي. وأصح ما قيل في المعنى أنه كوحينا إليك وإلى الذين من قبلك يوحى إليك، وأبو عبيدة (1) يجيز أن يجعل ذلك بمعنى هذا ومن قرأ {يُوحِي إِلَيْكَ} (2) جعل الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة الخبر، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في يوحى، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بالابتداء أو بإضمار فعل أي يوحيه إليك الله جلّ وعزّ. ومن قرأ نوحي (3)
بالنون رفع اسم الله جلّ وعزّ بالابتداء و «العزيز الحكيم» خبره، ويجوز أن يكون العزيز الحكيم نعتا والخبر {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ}.
[سورة الشورى (42): آية 5]
{تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاََئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلاََ إِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}
{تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} (4) أصحّ ما قيل فيه أن المعنى من أعلاهن، وقيل: من فوق الأرضين. وسمعت علي بن سليمان يقول: الضمير للكفار أي يتفطرن من فوق الكفار لكفرهن. قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين أجاز في بني أدم رأيتهنّ إلّا أن يكون للمؤنث خاصة. فهذا يدلّ على فساد هذا القول، وأيضا فلم
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 28.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 486، وهذه قراءة مجاهد وابن كثير وعباس ومحبوب كلّهم عن أبي عمرو.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 486.
(4) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 486.(4/49)
يتقدّم للكفار ذكر يكنى عنهم. {وَالْمَلََائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} يراد به خاصّ، ولفظه عامّ أي للمؤمنين، ودلّ عليه {إِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
[سورة الشورى (42): آية 6]
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ اللََّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ} رفع بالابتداء {اللََّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} مبتدأ وخبره في موضع خبر «الذين».
[سورة الشورى (42): آية 7]
{وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاََ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}
{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا} «من» في موضع نصب والمعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي يوم يجمع فيه الناس {لََا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ} على الابتداء. وأجاز الكسائي والفراء (1) نصب فريق بمعنى وتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير يوم الجمع.
[سورة الشورى (42): آية 8]
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظََّالِمُونَ مََا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاََ نَصِيرٍ (8)}
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} أي مؤمنين قيل: المعنى لو شاء الله لألجأهم إلى الإيمان فلم يكن لهم ثواب فيه فامتحنهم بأن رفع عنهم الإلجاء {وَلََكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ} وهم المؤمنون {وَالظََّالِمُونَ} مرفوعون بالابتداء، وفي موضع أخر {وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] والفرق بينهما أنّ ذاك بعده أعدّ وليس بعد هذا فعل أي لما أضمر لذاك فعل وواعد الظالمين.
[سورة الشورى (42): آية 9]
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ فَاللََّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ََ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}
{فَاللََّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} تكون {هُوَ} زائدة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون اسما مرفوعا بالابتداء و {الْوَلِيُّ} خبرها.
[سورة الشورى (42): آية 10]
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللََّهِ ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)}
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللََّهِ} أي مردود إلى الله إمّا بنصّ وإمّا بدليل.
[سورة الشورى (42): آية 11]
{فََاطِرُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَمِنَ الْأَنْعََامِ أَزْوََاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
{فََاطِرُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} يكون مرفوعا بإضمار مبتدأ ويكون نعتا. قال الكسائي:
ويجوز {فََاطِرُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} بالنصب على النداء، وقال غيره: على المدح. ويجوز
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 22.(4/50)
الخفض على البدل من الهاء الّتي في عليه {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قال شعبة عن منصور: «يذرؤكم» يخلقكم، وقال أبو إسحاق: يذرؤكم يكثركم، وجعل «فيه» بمعنى به أي يكثركم بأن جعلكم أزواجا، وقال علي بن سليمان: «يذرؤكم» ينبتكم من حال إلى حال أي ينبتكم في الجعل. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب الذي رواه شعبة عن منصور لأن أهل اللغة المتقدمين منهم أبو زيد وغيره رووا عن العرب: ذرأ الله عزّ وجلّ الخلق يذرؤهم أي خلقهم، وقول أبي إسحاق وأبي الحسن على المجاز، والحقيقة أولى ولا سيّما مع جلالة من قال به، وإنه معروف في اللغة. ويكون فيه على بابها أولى من أن تجعل بمعنى به، وإن كان يقال: فلان بمكة فيكون المعنى فالله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يخلقكم في الأزواج، وذكر على معنى الجمع. ويكون التقدير: وجعل لكم من الأنعام أزواجا أي ذكرانا وإناثا. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي لا يقدر أحد على هذا غيره والكاف في {كَمِثْلِهِ} زائدة للتوكيد لا موضع لها من الإعراب لأنها حرف، ولكن موضع {كَمِثْلِهِ} موضع نصب. والتقدير: ليس مثله شيء. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
[سورة الشورى (42): آية 12]
{لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
{لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {لَهُ مَقََالِيدُ} يقول مفاتيح. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} خبر «إنّ» والتقدير: إنه عليم بكلّ شيء.
[سورة الشورى (42): آية 13]
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ وَمََا وَصَّيْنََا بِهِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسى ََ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاََ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مََا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللََّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مََا وَصََّى بِهِ نُوحاً} «ما» في موضع نصب بشرع. {وَالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} عطف عليها. {وَمََا وَصَّيْنََا} في موضع نصب أيضا أي وشرع لكم. {وَمََا وَصَّيْنََا بِهِ إِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسى ََ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلََا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} «أن» في موضع نصب على البدل من «ما» أي شرع لكم أن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو وأن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من الهاء أي شرع لكم أن تقيموا لله الدّين الّذي ارتضاه ولا تتفرّقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض فهذا الذي شرع لكم لجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أن يقيموا الدّين الذي ارتضاه، وهو الإسلام وأمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم مقتدون بهم. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر وعمر» (1) أي اعملوا كما يعملان من اتباع أمر الله جلّ وعزّ
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه المناقب رقم الحديث 3662، والبيهقي في السنن الكبرى (97)، وأحمد في مسنده 5/ 382، وأبو نعيم في الحلية 9/ 109، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 53، والمتقي في كنز العمال (3656).(4/51)
وترك خلاف ما أمروا به، وليس معناه في كلّ مسألة. {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} جاز أن يكون أقيموا وهو أمر داخلا في الصلة لأن معناه كمعنى الفعل المضارع. معناه أن تقيموا الدّين فلا تتفرّقوا فيه. ومذهب جماعة من أهل التفسير أنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وهذا القول داخل في معنى الأول. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مََا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي من إقامة الدّين لله جلّ وعزّ وحده.
{اللََّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشََاءُ} أي من يشاء أن يجتبيه ثم حذف هذا. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} حذفت الضمّة من يهدي لثقلها، وأناب رجع أي تاب.
[سورة الشورى (42): آية 14]
{وَمََا تَفَرَّقُوا إِلاََّ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاََ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتََابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}
{وَمََا تَفَرَّقُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي من بعد ما جاءهم القرآن. {بَغْياً} مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر.
[سورة الشورى (42): آية 15]
{فَلِذََلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنْ كِتََابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللََّهُ رَبُّنََا وَرَبُّكُمْ لَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ لاََ حُجَّةَ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ اللََّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنََا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}
{فَلِذََلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ} الفراء (1) يذهب إلى أنّ معنى اللام معنى «إلى» وإلى أن معنى «ذلك» هذا أي فإلى هذا فادع أي إلى أن تقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه.
قال أبو جعفر: واللام بمعنى إلى مثل قوله جلّ وعزّ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا}
[الزلزلة: 5] قال العجاج: [الرجز] 398 وحى لها القرار فاستقرّت (2)
قال أبو جعفر: وهو مجاز، وقد خولف الفراء فيه، وقيل: اللام على بابها.
والمعنى: للذي أوحى إليك من إقامة الدّين وترك التفرّق فيه من أجل ذلك فادع فأما أن يكون ذلك بمعنى هذا فلا يجوز عند النحويين الحذّاق. قال محمد بن يزيد: هذا لمن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 22.
(2) الرجز للعجاج في ديوانه 2/ 408، ولسان العرب (وحى) وتهذيب اللغة 5/ 296، وجمهرة اللغة ص 576، وكتاب العين 3/ 320، وتاج العروس (وحى)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 93، ومجمل اللغة 4/ 512. وعجزه:
«وشدّها بالرّاسيات الثّبّت»(4/52)
كان بالحضرة وذلك لمن تراخى ففي دخول أحدهما على الآخر بطلان البيان وذلك على بابه أي فإلى ذلك الذي تقدّم فادع، {وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ} جمع هوى مبني على فعل إلّا أنه اعتلّ لأن الياء قلبت ألفا لتحركها وتحرّك ما قبلها فجمع على أصله كما يقال:
جمل وأجمال {لََا حُجَّةَ بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ} نصب على التبرئة وقد ذكرنا العلّة فيه. وأجاز سيبويه الرفع فجعل «لا» بمعنى ليس. والمعنى أنه قد تبين الحقّ وأنتم معاندون وإنما تثبت الحجّة على من لم يكن هكذا.
[سورة الشورى (42): آية 16]
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مََا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دََاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ (16)}
{وَالَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء و {حُجَّتُهُمْ} ابتداء ثان، {دََاحِضَةٌ} خبر حجتهم والجملة خبر «الذين»، ويجوز أن تكون حجّتهم بدلا من الذين على بدل الاشتمال وفي المعنى قولان: أحدهما أن المعنى: والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتكون الهاء مكنيّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي من بعد ما دعا على أهل بدر فاستجيب له ودعا على أهل مكة ومصر بالقحط فاستجيب له ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله عزّ وجلّ من قريش فاستجيب له في أشياء غير هذه، والقول الآخر قول مجاهد، قال: الّذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له قوم من الكفار يجادلون المؤمنين في الله جلّ وعزّ أي في وحدانيته من بعد ما استجاب له المؤمنون فيجادلون، وهم مقيمون على الكفر ينتظرون أن تجيء جاهليته. وهذا القول أولى من الذي قبله بالصواب، وأشبه بنسق الآية لأنه لم يتقدم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر فيكنى عنه ولا لدعائه.
[سورة الشورى (42): آية 17]
{اللََّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزََانَ وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ (17)}
{اللََّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتََابَ} اسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالابتداء و {الَّذِي} خبره وليس نعت لأن الخبر لا بدّ منه والنعت يستغنى عنه {أَنْزَلَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} أي ذكر فيه ما يحقّ على الناس أن يعملوه: {وَالْمِيزََانَ} عطف على الكتاب أي وأنزل الميزان بالحق {وَمََا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السََّاعَةَ قَرِيبٌ} تهديد لهم لأنهم حاجّوا في الله عزّ وجلّ من بعد ما استجيب له. وقال قريب والساعة مؤنّثة على النسب، وقيل فرقا بينه وبين القرابة، فأما أبو إسحاق فيقول: لأن التأنيث ليس بحقيقي. والمعنى: لعلّ البعث قريب، وذكر وجها أخر قال: يكون لعلّ مجيء الساعة قريب.
[سورة الشورى (42): الآيات 18الى 19](4/53)
[سورة الشورى (42): الآيات 18الى 19]
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِهََا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهََا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاََ إِنَّ الَّذِينَ يُمََارُونَ فِي السََّاعَةِ لَفِي ضَلاََلٍ بَعِيدٍ (18) اللََّهُ لَطِيفٌ بِعِبََادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشََاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِهََا} وذلك نحو قولهم: {مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ} [يونس:
48] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهََا} وهكذا وصف أهل الإيمان يخافون من التفريط لئلا يعاقبوا عليه. {أَلََا إِنَّ الَّذِينَ يُمََارُونَ فِي السََّاعَةِ لَفِي ضَلََالٍ بَعِيدٍ} أي لفي ضلال عن الحقّ وإنما صار بعيدا لأنهم كفروا معاندة ودفعا للحقّ، ولو كان كفرهم جهلا لم يكن بعيدا لأنه كان يتبين لهم ويرون البراهين.
[سورة الشورى (42): الآيات 20الى 21]
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كََانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيََا نُؤْتِهِ مِنْهََا وَمََا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكََاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مََا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللََّهُ وَلَوْلاََ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظََّالِمِينَ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (21)}
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} شرط ومجازاة. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه أقوالا، ونذكر ما لم نذكره. وهو أن يكون المعنى: من كان يريد بجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بغزوه الغنيمة، وهو حرث الدّنيا على التمثيل، نؤته منها لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يمنع المنافقين من الغنيمة. وهذا قول بيّن إلّا أنه مخصوص وقول عامّ قاله طاوس قال: من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلّا ما كتب له، ومن كان يريد الآخرة جعل الله جلّ وعزّ غناه بين عينيه ونور قلبه، وأتاه من الدنيا ما كتب له.
[سورة الشورى (42): آية 22]
{تَرَى الظََّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا كَسَبُوا وَهُوَ وََاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي رَوْضََاتِ الْجَنََّاتِ لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذََلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}
{تَرَى الظََّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا كَسَبُوا} {الظََّالِمِينَ} نصب بترى و {مُشْفِقِينَ} نصب على الحال، والتقدير: من عقاب ما كسبوا. قال جلّ وعزّ: {وَهُوَ وََاقِعٌ بِهِمْ} أي العقاب {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي رَوْضََاتِ الْجَنََّاتِ} قال مجاهد: الروضة المكان المونق الحسن. وحكى بعض أهل اللغة أنها لا تكون إلّا في موضع مرتفع، كان أحسن لها وأشدّ، وإذا كانت خشنة ولم تكن رخوة كان ثمرها أحسن وألذّ، كما قال جلّ وعزّ: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] أي مرتفعة. قال الأعشى: [البسيط] 399 ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل (1)
فوصف أنها من رياض الحزن، والحزن: ما غلظ من الأرض، ويقال: الحزم بالميم، لما ذكرناه. {ذََلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الذي تقدّم ذكره للذين آمنوا.
و «ذلك» في موضع رفع بالابتداء و «هو» ابتداء ثان، ويجوز أن يكون زائدا بمعنى التوكيد «الفضل» الخبر و «الكبير» من نعته.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (337).(4/54)
[سورة الشورى (42): آية 23]
{ذََلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللََّهُ عِبََادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ قُلْ لاََ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهََا حُسْناً إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}
{ذََلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللََّهُ} مبتدأ وخبره وقراءة الكوفيين {يُبَشِّرُ} (1) وقد ذكرنا نظيره (2)
غير أن أبا عمرو بن العلاء قرأ هذا وحده {يُبَشِّرُ} (3) وقرأ غيره «يبشّر» (4) وأنكر هذا عليه قوم، وقالوا: ليس بين هذا وبين غيره فرق، والحجّة له ذلك أنه لم يقرأ بشيء شاذ ولا بعيد في العربية ولكن لما كانتا لغتين فصيحتين لم يقتصر على أحدهما فيتوهم السامع أنه لا يجوز غيرها فجاء بهما جميعا، وهكذا يفعل الحذّاق. وفي القرآن نظيره مما قد اجتمع عليه، وهو قوله جلّ وعزّ: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] من أملّ يمل وفي موضع أخر {فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] من أملى يملي. {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ}. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه مستقصى.
فأما الإعراب فهذا موضع ذكره «المودّة» في موضع نصب لأنه استثناء ليس من الأول، وسيبويه (5) يمثله بمعنى «لكن»، وكذا قال أبو إسحاق، قال: «أجرا» تمام الكلام كما قال جلّ وعزّ: {قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] ولو لم يكن استثناء ليس من الأول كانت المودة بدلا من أجر {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} شرط يقال: اقترف وقرف إذا كسب، وجواب الشرط. {نَزِدْ لَهُ فِيهََا حُسْناً}.
[سورة الشورى (42): الآيات 24الى 25]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئََاتِ وَيَعْلَمُ مََا تَفْعَلُونَ (25)}
اختلف العلماء في تفسير هذا فقال أبو إسحاق: معنى {يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ} يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله لا يشبه ظاهر الآية.
وقال غيره: فإن يشأ الله يختم على قلبك لو اقترفت واختلفوا في معنى {يَخْتِمْ} فقال بعضهم: أي يمنعك من التمييز. وقال بعضهم: معنى: ختم الله على قلبه جعل عليه علامة من سواد أو غيره تعرف الملائكة بها أنه معاقب، كما قال جلّ وعزّ: {كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] قال أبو جعفر: وفي التفسير أنه إذا عمل العبد خطيئة رين على قلبه فغطي منه شيء فإن زاد زيد في الرّين حتّى يسود قلبه فلا ينتفع بموعظة. {وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} منقطع من الأول في موضع رفع. ويجب أن يكتب بالواو
__________
(1) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493.
(2) انظر الآية 9الإسراء والكهف 2.
(3) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493.
(4) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493.
(5) انظر الكتاب 2/ 346.(4/55)
إلّا أنه وقع في السواد بغير واو كتب على اللفظ في الإدراج وإنما حذفت الواو في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها فإذا وقفت زالت العلّة في حذفها فعلى هذا لا ينبغي الوقوف عليه لأنه إن أثبت الواو خالف السواد وإن حذفها لحن ونظيره {وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ بِالشَّرِّ} [الإسراء: 11]، وكذا {سَنَدْعُ الزَّبََانِيَةَ} [العلق: 18] فأما معنى و «يمح الله الباطل» ففيه احتجاج عليهم لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن معناه أنّ الله جلّ وعزّ يزيل الباطل ولا يثبته، فلو كان ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم باطلا لمحاه الله جلّ وعزّ وأنزل كتابا على غيره، وهكذا جرت العادة في جميع المفترين أنّ الله سبحانه يمحو باطلهم بالحقّ والبراهين والحجج {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ} أي يبيّن الحقّ.
[سورة الشورى (42): آية 26]
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكََافِرُونَ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ (26)}
يجوز أن يكون {الَّذِينَ} في موضع رفع بفعلهم أي ويجيب الذين آمنوا ربّهم فيما دعاهم إليه. ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب أي ويستجيب الله الذين آمنوا، وحذف اللام من هذا جائز كثير، ومثله {وَإِذََا كََالُوهُمْ} [المطففين: 3] أي كالوا لهم.
قال أبو جعفر: هذا أشبه بنسق الكلام لأن الفعل الذي قبله والذي بعده لله جلّ وعزّ، وثمّ حديث عن معاذ بن جبل يدل على هذا قال: إنكم تدعون لهؤلاء الصناع غفر الله لك رحمك وبارك عليك، والله جلّ وعزّ يقول: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}. يكون على هذا «يزيدهم» على ما دعوا، وتمّ الكلام. {وَالْكََافِرُونَ} مبتدأ والجملة خبره.
[سورة الشورى (42): الآيات 27الى 29]
{وَلَوْ بَسَطَ اللََّهُ الرِّزْقَ لِعِبََادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلََكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ بِعِبََادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مََا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَثَّ فِيهِمََا مِنْ دََابَّةٍ وَهُوَ عَلى ََ جَمْعِهِمْ إِذََا يَشََاءُ قَدِيرٌ (29)}
{وَلَوْ بَسَطَ اللََّهُ الرِّزْقَ لِعِبََادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} وأجاز الخليل رحمه الله في السين إذا كانت بعدها طاء أن تقلب صادا لقربها منها، وزعم الفراء (1): أن قوله جلّ وعزّ: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَثَّ فِيهِمََا مِنْ دََابَّةٍ} أنه أراد جلّ وعزّ وما بثّ في الأرض دون السماء وأنّ مثله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح، وزعم أن هكذا جاء في التفسير. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يعرف في تفسير ولا لغة ولا معقول أي يخبر عن اثنين بخبر واحد، وهذا بطلان البيان والتجاوز إلى ما يحظره الدّين. والعرب تقول: لكل ما تحرّك من شيء دبّ فهو دابّ ثم تدخل الهاء للمبالغة فتقول: دابّة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: في دابّة لتأنيث الصيغة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 24.(4/56)
[سورة الشورى (42): آية 30]
{وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)}
{وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} هذه قراءة الكوفيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ المدنيون بما بغير فاء، وكذا في مصاحفهم فالقراءة بالفاء بيّنة لأنه شرط وجوابه. والقراءة بغير فاء فيها للنحويين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون «ما» بمعنى «الذي» فلا تحتاج إلى جواب بالفاء، وهذا مذهب أبي إسحاق. والقول الثاني:
أن يكون ما للشرط وتكون الفاء محذوفة كما قال: [البسيط] 400 من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان (1)
وهذا قول أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وزعم أن هذا يدلّ على أن حذف الفاء في الشرط جائز حسن لجلال من قرأ به. والقول الثالث: أن «ما» هاهنا للشرط إلّا أنه جاز حذف الفاء لأنها لا تعمل في اللفظ شيئا وإنما وقعت على الماضي، وهذا أولى الأقوال بالصواب. فأما أن يكون «ما» بمعنى الذي فبعيد لأنّه يقع مخصوصا للماضي، وأما أن يشبّه هذا بالبيت الذي ذكرناه فبعيد أيضا لأن حذف الفاء مع الفعل المستقبل لا يجوز عند سيبويه إلّا في ضرورة الشعر، ولا يحمل كتاب الله عزّ وجلّ إلّا على الأغلب الأشهر.
[سورة الشورى (42): آية 31]
{وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاََ نَصِيرٍ (31)}
{وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} قال محمد بن يزيد: أي بسابقين يقال: أعجز إذا عدا فسبق.
[سورة الشورى (42): آية 32]
{وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلاََمِ (32)}
«الجواري» جمع جارية، والجواري في موضع رفع حذفت الضمة من يائها لثقلها.
[سورة الشورى (42): الآيات 33الى 35]
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوََاكِدَ عَلى ََ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمََا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِنََا مََا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} شرط ومجازاة. {فَيَظْلَلْنَ} عطف، وكذا {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} وكذا {وَيَعْفُ} وكذا عند سيبويه (2) {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِنََا} هذا الاختيار عنده لأنه كلام معطوف بعضه على بعض، ومثله {يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ}
[البقرة: 284]، وكذا قول النابغة (3): [الوافر] 401 فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيس ... أجبّ الظّهر ليس له سنام
فجزم «ونمسك» على العطف. ويجوز رفعه ونصبه إلّا أن الرفع عند سيبويه
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (34).
(2) انظر إعراب الآية 284البقرة.
(3) مرّ الشاهد رقم (179).(4/57)
أجود، وهي قراءة المدنيين {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ} (1) على أنه مقطوع مما قبله مرفوع، والنصب عنده بعيد، وهي قراءة الكوفيين، والصحيحة من قراءة أبي عمرو، وشبّهه سيبويه في البعد بقول الشاعر: [الوافر] 402 سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا (2)
إلّا أن النصب في الآية أمثل لأنه شرط وهو غير واجب، وأنشد (3): [الطويل] 403 ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع أقوام مجرّا ومسحبا
وتدفن منه الصّالحات وإن يسيء ... يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا
فنصب «وتدفن» ولو رفع لكان أحسن. واختار أبو عبيد النصب وشبّهه بقوله جلّ وعزّ: {وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} [ال عمران: 142].
وهما لا يتجانسان ولا يشتبهان لأن «ويعلم» جواب لما فيه النفي فالأولى به النصب وقوله جلّ وعزّ: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ} ليس بجواب فيجب نصبه، وموضع الذين في قوله «ويعلم النّاس» موضع رفع بعلم.
[سورة الشورى (42): آية 36]
{فَمََا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَمََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)}
{وَمََا عِنْدَ اللََّهِ} مبتدأ و {خَيْرٌ} خبره {وَأَبْقى ََ} معطوف على خير {لِلَّذِينَ آمَنُوا} خفض باللام.
[سورة الشورى (42): آية 37]
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ وَإِذََا مََا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}
{وَالَّذِينَ} في موضع خفض معطوف على «للذين آمنوا» {يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ} هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {كَبََائِرَ الْإِثْمِ} (4) والقراءة الأولى أبين لأنه إذا قرأ كبير توهّم أنه واحد أكبرها، وليس المعنى على ذلك عند أحد من أهل التفسير إلّا شيئا قاله الفراء (5) فعكس فيه قول
__________
(1) انظر تيسير الداني 158، ومعاني الفراء 3/ 24.
(2) الشاهد للمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب 8/ 522، والدرر 1/ 240، وشرح شواهد الإيضاح ص 251، وشرح شواهد المغني 497، والمقاصد النحوية 4/ 390، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 39، والدرر 5/ 130، والردّ على النحاة ص 125، ورصف المباني ص 379، وشرح الأشموني 3/ 565، وشرح المفصّل 7/ 55، والمحتسب 1/ 197، ومغني اللبيب 1/ 175، والمقتضب 2/ 24، والمقرب 1/ 263.
(3) مرّ الشاهد رقم 317.
(4) انظر تيسير الداني 158، وكتاب السبعة لابن مجاهد 581.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 25.(4/58)
أهل التفسير، قال: «كبير الإثم» الشرك قال: وكبائر يراد بها كبير، وهذا معكوس إنما يقال: كبير يراد به كبائر. يكون واحدا يدلّ على جمع، وزعم أنه يستحبّ لمن قرأ «كبائر الإثم» أن يقرأ «والفواحش» فيخفض، والقراءة بهذا مخالفة بحجّة الإجماع وأعجب من هذا أنه زعم أنه يستحبّ القراءة به ثم قال: ولم أسمع أحدا قرأ به.
والأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر معروفة كثيرة وعن الصحابة وعن التابعين. ونحن نذكر من ذلك ما فيه كفاية لتبيين هذا. ونبيّن معنى الكبائر والاختلاف فيه إذا كان مما لا يسع أحدا جهله. ونبدأ بما صحّ فيها عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما لا مطعن في إسناده وتوليه من قول الصحابة والتابعين وأهل النظر بما فيه كفاية إن شاء الله. فمن ذلك ما حدّثناه محمد بن إدريس بن أسود عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثنا وهب بن جرير قال:
حدّثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين المسلمين وقتل النفس وشهادة الزّور أو قول الزور» (1) وقرئ على أحمد بن شعيب عن عبدة بن عبد الرحيم قال أخبرنا ابن شميل قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا فراس قال: سمعت الشّعبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» (2) قال أحمد: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ثنا بقيّة حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معد أن أبا رهم السّماعي حدّثه عن أبي أيوب وهو خالد بن زيد الأنصاري بدريّ عقبيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جاء لا يشرك بالله شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان واجتنب الكبائر فإنه في الجنة» (3) فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكبائر قال: فقال: «الإشراك بالله جلّ وعزّ وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف» قال أحمد: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله قال: قلت يا رسول الله أيّ الذنوب أعظم قال: «أن تجعل لله جلّ وعزّ ندّا وهو خلقك». قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك». قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تزني بحليلة جارك» (4) قال أبو جعفر: فهذه أسانيد مستقيمة وفي حديث أبي أمامة زيادة على ما فيها من الكبائر فيه: أكل مال اليتيم وقذف المحصنة والغلول والسحر وأكل الربا فهذا جميع ما نعلمه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر مفصلا مبينا فأما الحديث المجمل فالذي رواه أبو سعيد
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 495، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 20، وابن كثير في تفسيره 2/ 241، والطبري في تفسيره 5/ 28.
(2) أخرجه الترمذي في سننه البر والصلة 8/ 97، والدارمي في سننه الديات 2/ 191.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 413، والمتقي في كنز العمال 276.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 217، وابن ماجة في سننه الديات الحديث رقم (2618).(4/59)
وأبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنها سبع فليس بناقض لهذا لأن قذف المحصنة واليمين الغموس والسحر داخلان في قول الزور وحديث ابن مسعود الذي فيه «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» داخل في قتل النفس المحرمة ولم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تكون الكبائر إلا هذه فيجب التسليم. وقد روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال:
الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية. {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} [النساء: 31] فأولى ما قيل في الكبائر وأجمعه ما حدثناه علي بن الحسين قال: قال الحسين بن محمد الزعفراني قال: حدّثنا أبو قطن عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: سئل ابن عباس عن الكبائر فقال: كلّ ما نهى الله جلّ وعزّ عنه فهو من الكبائر حتّى ذكر الطرفة، وحدّثناه بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
الكبائر كل ما ختمه الله جلّ وعزّ بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال أبو جعفر: فهذا قول حسن بيّن لأن الله جلّ وعزّ قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} [النساء: 31] فعقل بهذا أن الصغائر لا يعذّب عليها من اجتنب الكبائر: فإذا أعلم الله جلّ وعزّ أنه يدخل على ذنب النار علم أنه كبيرة وكذا إذا أمر أن يعذّب صاحبه في الدنيا بالحد، وكذا قال الضحاك: كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب فهي كبيرة وكلّ ما يقام عليه الحدّ فهو كبيرة. فهذا المعنى الذي بيّنا بعد ذكر الأحاديث المسندة فهو شرح أيضا قول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وكل ما كان مثله.
[سورة الشورى (42): آية 38]
{وَالَّذِينَ اسْتَجََابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقََامُوا الصَّلاََةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى ََ بَيْنَهُمْ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}
{وَالَّذِينَ اسْتَجََابُوا لِرَبِّهِمْ} في موضع خفض والمعنى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا والذين استجابوا لربهم {وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ} أي أتمّوها بحدودها بركوعها وسجودها وخشوعها. {وَأَمْرُهُمْ شُورى ََ بَيْنَهُمْ} مبتدأ وخبره.
[سورة الشورى (42): آية 39]
{وَالَّذِينَ إِذََا أَصََابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)}
{وَالَّذِينَ إِذََا أَصََابَهُمُ الْبَغْيُ} في موضع خفض كالأول. {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} وهذا مدح لهم وصفوا أنهم إذا بغى عليهم باغ أو ظلمهم ظالم لم يستسلموا له لأنهم لو استسلموا له لم ينهوا عن المنكر وفعله ذلك بهم منكر. وفي حديث حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا يحلّ للمسلم أن يذلّ نفسه». قيل: كيف يذلّ نفسه؟ قال: «يتكلّف من البلاء ما لا يطيقه» (1).
[سورة الشورى (42): آية 40]
{وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ إِنَّهُ لاََ يُحِبُّ الظََّالِمِينَ (40)}
{وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} مبتدأ وخبره. والسيّئة الأولى سيّئة على الحقيقة والثانية
__________
(1) الحديث في تنزيه الشرائع لابن عراق 2/ 363، والفوائد المجموعة للشوكاني 378.(4/60)
على المجاز سمّيت سيّئة لأنها مجازاة على الأولى ليعلم أنه يقتصّ بمثل ما نيل منه {فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ} أي فلم يقتصّ فثوابه على الله جلّ وعزّ، كما روى الحسن ومحمد بن المنكدر وعطاء ومحمد يقول: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين من له وعد على الله عزّ وجلّ؟ فليقم، فيقوم من عفا» (1) وقرأ عطاء {فَمَنْ عَفََا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللََّهِ}.
[سورة الشورى (42): آية 41]
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولََئِكَ مََا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} مبتدأ {فَأُولََئِكَ} مبتدأ أيضا، والجملة خبر الأول.
[سورة الشورى (42): آية 42]
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النََّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (42)}
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النََّاسَ} أي سبيل العقوبة.
[سورة الشورى (42): آية 43]
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذََلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}
أي من أعاليها وأجلّها أن يعفو ويصفح ويتوقّى الشبهات وإن لم تكن محظورة ورعا وطلبا لرضاء الله عزّ وجلّ فهذه معالي الأمور، وهي من عزم الأمور أي التي يعزم عليها الورعون المتّقون. قال أبو جعفر: وفي إشكال من جهة العربية وهو أنّ «لمن صبر وغفر» مبتدأ ولا خبر له في اللفظ فالقول فيه: إن فيه حذفا، والتقدير: ولمن صبر وعفا أنّ ذلك منه لمن عزم الأمور، ومثل هذا في كلام العرب كثير موجود، حكاه سيبويه وغيره:
مررت ببرّ قفيز بدرهم أي قفيز منه، ويقال: السّمن منوان بدرهم بمعنى منه.
[سورة الشورى (42): آية 44]
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظََّالِمِينَ لَمََّا رَأَوُا الْعَذََابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى ََ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)}
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} أي من يضلّه عن الثواب فما له وليّ ولا ناصر يسأله الثواب. {وَتَرَى الظََّالِمِينَ لَمََّا رَأَوُا الْعَذََابَ يَقُولُونَ} في موضع نصب على الحال.
{هَلْ إِلى ََ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} «من» زائدة للتوكيد.
[سورة الشورى (42): آية 45]
{وَتَرََاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا خََاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقََالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخََاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ أَلاََ إِنَّ الظََّالِمِينَ فِي عَذََابٍ مُقِيمٍ (45)}
{وَتَرََاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا خََاشِعِينَ} على الحال وكذا {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال محمد بن كعب: يسارقون النظر إلى النار {وَقََالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخََاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ}
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 10/ 18.(4/61)
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هم الذين خلقوا للنّار وخلقت النار لهم خلّفوا أموالهم وأهاليهم في الدنيا وحرموا الجنة وصاروا إلى النار فخسروا الدنيا والآخرة.
[سورة الشورى (42): آية 46]
{وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيََاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}
{مِنْ أَوْلِيََاءَ} في موضع رفع اسم كان.
[سورة الشورى (42): آية 47]
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاََ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمََا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)}
{مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمََا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي من مخلص ولا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم.
[سورة الشورى (42): الآيات 48الى 49]
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمََا أَرْسَلْنََاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاََغُ وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهََا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسََانَ كَفُورٌ (48) لِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ (49)}
{وَإِنََّا إِذََا أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً} ثم قال بعد {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} فجاء الضمير لجماعة لأنّ الإنسان اسم للجنس بمعنى الجميع، كما قال جلّ وعزّ: {إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] فوقع الاستثناء لأن الإنسان بمعنى جمع.
{يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ} أي من الأولاد.
[سورة الشورى (42): آية 50]
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشََاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً} أي يجمع لهم هذا، كما قال محمد بن الحنفية: يعني به التوأم. وقال أبو إسحاق: يزوّجهم يقرن لهم. وكلّ قرينين زوجان. {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشََاءُ عَقِيماً} أي لا يولد له. وعقيم بمعنى معقوم. وقد عقمت المرأة إذا لم تحمل فهي امرأة عقيم ومعقومة.
[سورة الشورى (42): آية 51]
{وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلاََّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}
{أَنْ} في موضع رفع اسم كان و {وَحْياً} يكون مصدرا في موضع الحال، كما تقول: جاء فلان مشيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر {أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} هذه قراءة أكثر الناس، وقرأ نافع {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (1)
__________
(1) انظر تيسير الداني 158، وكتاب السبعة لابن مجاهد 582.(4/62)
بالرفع {فَيُوحِيَ} بإسكان الياء، ولا نعلمه يروى إلّا عن نافع إلّا أنه قال: لم أقرأ حرفا يجتمع عليه رجلان من الأئمة فلهذا قال عبد الله بن وهب: قراءة نافع سنّة. قال أبو جعفر: فأما القول في نصب «يرسل» و «يوحي» ورفعهما فقد جاء به سيبويه عن الخليل بما فيه كفاية لمن تدبّره ونمليه نصا كما قال ليكون أشفى. قال سيبويه (1): سألت الخليل عن قول الله جلّ وعزّ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ} فزعم أن النصب محمول على «أن» سوى هذه ولو كانت هذه الكلمة على «أن» هذه لم يكن للكلام وجه، ولكنه لما قال: {إِلََّا وَحْياً} كان في معنى إلّا أن يوحي وكان «أو يرسل» فعلا لا يجري على «إلّا» فأجري على «أن» هذه كأنه قال: إلّا أن يوحي أو يرسل لأنه لو قال: إلّا وحيا وإلا أن يرسل كان حسنا: وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال فحملوه على «أن» إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل فكأنه قال: إلّا وحيا أو أن يرسل. وقال الحصين بن حمام المرّي: [الطويل] 404 ولولا رجال من رزام أعزّة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما (2)
يضمر «أن» وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر «أن» كأنه قال:
لولا ذاك أو لولا أن أسؤك. وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} فكأنه والله أعلم قال الله لا يكلّم البشر إلّا وحيا أو يرسل رسولا أي في هذه الحال. وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيّتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل، قال عمرو بن معدي كرب: [الوافر] 405 وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع (3)
وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى: [البسيط] 406 إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل (4)
فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا ما كان موضعها لو قال
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 55.
(2) الشاهد للحصين في خزانة الأدب 3/ 324، والكتاب 3/ 55، والدرر 4/ 78، وشرح اختيارات المفضّل 334، وشرح التصريح 2/ 244، وشرح المفصّل 3/ 50، والمقاصد النحوية 4/ 411، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 272، والمحتسب 1/ 326، وهمع الهوامع 2/ 10.
(3) الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه 149، وخزانة الأدب 9/ 252، والكتاب 2/ 335، وشرح أبيات سيبويه 2/ 200، ونوادر أبي زيد 150، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 345، والخصائص 1/ 368، وشرح المفصل 2/ 80، والمقتضب 2/ 20.
(4) مرّ الشاهد رقم (156).(4/63)
فيه: أتركبون، لم ينتقض المعنى صار بمنزلة «ولا سابق شيئا» (1) وأما يونس فقال:
أرفعه على الابتداء كأنه قال: أو أنتم نازلون، وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية كأنه قال: أو هو يرسل رسولا، كما قال طرفة: [الطويل] 407 أو أنا مفتدى (2)
وقول يونس أسهل.
[سورة الشورى (42): آية 52]
{وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلا الْإِيمََانُ وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشََاءُ مِنْ عِبََادِنََا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}
{وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنََا} الكاف في موضع نصب أي: أوحينا إليك وحيا كذلك الذي قصصنا عليك {مََا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتََابُ وَلَا الْإِيمََانُ} «ما» في موضع رفع بالابتداء و «الكتاب» خبره والجملة في موضع نصب بتدري. ويجوز في الكلام أن تنصب الكتاب وتجعل «ما» زائدة كما روي: هذا «باب علم ما الكلم من العربية» (3)
فنصب «الكلم» {وَلََكِنْ جَعَلْنََاهُ نُوراً} ولم يقل: جعلناهما فيكون الضمير للكتاب أو للتنزيل أو الإيمان. وأولاهما أن يكون للكتاب ويعطف الإيمان عليه ويكون بغير حذف {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال الضحاك: الصراط الطريق والهدى. ويقرأ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} (4) وفي حرف أبيّ {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5).
[سورة الشورى (42): آية 53]
{صِرََاطِ اللََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ أَلاََ إِلَى اللََّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
{صِرََاطِ اللََّهِ} على البدل. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع والنصب. {أَلََا إِلَى اللََّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} وهي أبدا إليه تعالى. قال الأخفش: يتولّى الله الأمور يوم القيامة دون خلقه، وقد كان بعضها إلى خلقه في الدنيا من الفقهاء والسلاطين وغيرهم.
__________
(1) يشير إلى قول زهير:
تبيّنت أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيا إذا كان جاثيا
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 36، والكتاب 3/ 54، وشرح أبيات سيبويه 2/ 48:
«ولكن مولاي امرؤ هو خالقي ... على الشكر والتساؤل أو أنا مفتدى»
(3) انظر الكتاب 1/ 40.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 505، ومختصر ابن خالويه 134.
(5) انظر البحر المحيط 7/ 505، ومختصر ابن خالويه 134.(4/64)
43 - شرح إعراب سورة الزخرف
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الزخرف (43): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ (2) إِنََّا جَعَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}
{الْكِتََابِ} مخفوض بواو القسم، وهي بدل من الباء لقربها منها ولشبهها بها {الْمُبِينِ} نعت. وجواب القسم {إِنََّا جَعَلْنََاهُ} الهاء التي في جعلناه مفعول أول وقرآنا مفعول ثان فهذه جعلنا التي تتعدى إلى مفعولين بمعنى صيّرنا وليست وجعلنا التي بمعنى خلقنا لأن تلك لا تتعدى إلّا إلى مفعول واحد، نحو قوله جلّ وعزّ: {وَجَعَلَ الظُّلُمََاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وفرقت العرب بينهما بما ذكرنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تعقلون أمر الله جلّ وعزّ ونهيه إذ أنزل القرآن بلسانكم.
[سورة الزخرف (43): آية 4]
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ لَدَيْنََا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتََابِ} أي القرآن في اللوح المحفوظ. {لَعَلِيٌّ} أي عال رفيع.
وقيل: علي أي قاهر معجز لا يؤتى بمثله {حَكِيمٌ} محكم في أحكامه ورصفه.
[سورة الزخرف (43): آية 5]
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)}
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} قال الفرّاء (1) يقال: أضربت عنك وضربت عنك أي أعرضت عنك وتركتك. وفي نصب صفح أقوال منها أن يكون معنى {أَفَنَضْرِبُ} أفنصفح، كما يقال: هو يدعه تركا لأن معنى يدعه يتركه، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى صافحين، كما تقول: جاء زيد مشيا أي ماشيا، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى ذوي صفح، كما يقال: رجل عدل أي عادل وكذا رضى. وهذا جواب حسن واختلف العلماء في معنى {الذِّكْرَ} هاهنا فروى جويبر عن الضحّاك {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ}، قال: القرآن. وقال أبو صالح: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ} فقال: أفنذر عنكم الذكر
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 28.(4/65)
فنجعلكم سدى كما كنتم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال، وإن كانت مختلفة الألفاظ فإنّ معانيها متقاربة فمن قال: الذّكر العذاب قدّره بمعنى ذكر العذاب وذكر العذاب إذا أنزل قرآن. ومن قال: معناه أفنذر عنكم الذّكر فنجعلكم سدى قدّره أفنترك أن ينزل عليكم الذكر الذي فيه الأمر والنهي فنجعلكم مهملين، قال أبو جعفر: وهذا قول حسن صحيح بيّن أي أفنهملكم فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نعاقبكم على كفركم بعد أن ظهرت لكم البراهين لأن كنتم قوما مسرفين. وهذا على قراءة من فتح «أن» (1) وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وابن كثير وعاصم، وسائر القراء على كسر «إن» أي متى أسرفتم فعلنا بكم هذا.
[سورة الزخرف (43): الآيات 6الى 7]
{وَكَمْ أَرْسَلْنََا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمََا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاََّ كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7)}
{كَمْ} في موضع نصب وهي عقيبة ربّ في الخبر، فمن العرب من يحذف «من» وينصب، ومنهم من يخفض وإن حذف «من» كما قال: [السريع] 408 كم بجود مقرف نال العلى ... وكريم بخله قد وضعه (2)
وأفصح اللّغات إذا فصلت أن تأتي بمن، وهي اللغة الّتي جاء بها القرآن، وكذا كلّ ما جاء به القرآن وربما وقع الغلط من بعض أهل اللغة فيما يذكرون من فصيح الكلام.
فأما المحققون فلا يفعلون ذلك فمما ذكر بعضهم في الفصيح من الكلام من زعم أنه يقال: أضربت عن الشّيء بالألف، وزعم أنها اللغة الفصيحة. سمعت علي بن سليمان يقول: هذا غلط والفصيح. ضربت عن الشيء، لأن إجماع الحجة في قراءة الفرّاء {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} بفتح النون، وذكر بعضهم أنّ الفصيح: عظّم الله أجرك، وإجماع الحجّة في قراءة القراء {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 2] في حروف كثيرة.
[سورة الزخرف (43): آية 8]
{فَأَهْلَكْنََا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى ََ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}
{فَأَهْلَكْنََا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى ََ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} (8) {فَأَهْلَكْنََا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} منصوب على البيان. {وَمَضى ََ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قال قتادة:
أي عقوبة يجوز أن تكون «مثل» هاهنا بمعنى صفة أي صفتهم بأنهم أهلكوا لمّا كذّبوا، ويجوز أن يكون مثل على بابه.
[سورة الزخرف (43): آية 10]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهََا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} (3) «الذي» في موضع رفع على النعت للعزيز أو على إضمار مبتدأ لأنه أول آية.
__________
(1) انظر تيسير الداني 158.
(2) مرّ الشاهد رقم 45.
(3) انظر تيسير الداني 151.(4/66)
[سورة الزخرف (43): آية 11]
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذََلِكَ تُخْرَجُونَ (11)}
الكاف في موضع نصب أي تخرجون خروجا مثل ذلك. وبيّن معنى هذا عبد الله بن مسعود، وهو مما لا يؤخذ به إلا بالتوقيف، قال: يرسل الله جلّ وعزّ ماء مثل منيّ الرجال وليس شيء خلق من الأرض إلّا وقد بقي منه شيء فتنبت بذلك الجسمان واللحوم تنبت من الثرى والمطر ثم تلا عبد الله {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذََلِكَ تُخْرَجُونَ}.
[سورة الزخرف (43): آية 12]
{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوََاجَ كُلَّهََا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعََامِ مََا تَرْكَبُونَ (12)}
{وَالَّذِي} في موضع رفع على العطف. {خَلَقَ الْأَزْوََاجَ} جمع زوج جمع على أفعال. وسبيل فعل من غير هذا الجنس أن يجمع على أفعل فكرهوا أن يقولوا: أزوج لأن الحركة في الواو ثقيلة فحوّل إلى جمع فعل لأنّ عدد الحروف واحد فشبّهوا فعلا بفعل كما شبّهوا فعلا بفعل فقالوا: زمن وأزمن {كُلَّهََا} توكيد ويسميه بعض النحويين صفة. وباب كلّها الجمع الكثير، والجمع القليل كلهن. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعََامِ مََا تَرْكَبُونَ} إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالضمير محذوف لطول الموسم ولو ظهر الضمير لجاز مما تركبونه على لفظ «ما» ومما تركبونها على تأنيث الجماعة، وإن جعلت «ما» مصدرا لم تحتج إلى حذف.
[سورة الزخرف (43): آية 13]
{لِتَسْتَوُوا عَلى ََ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)}
{لِتَسْتَوُوا عَلى ََ ظُهُورِهِ} قال الفرّاء (1): ولم يقل ظهورها لأنه بمعنى: كثر الدرهم أي هو بمعنى الجنس. قال أبو جعفر: وأولى من هذا أن يكون يعود على لفظ «ما» لأن لفظها مذكر موحد، وكذا {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ} جاء على التذكير.
[سورة الزخرف (43): آية 14]
{وَإِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
معطوف على ما قبله من القول.
[سورة الزخرف (43): آية 15]
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبََادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسََانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)}
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبََادِهِ جُزْءاً} ذكر معناه في ثلاثة أقوال روى ابن أبي نجيح عن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 28.(4/67)
مجاهد «جزءا» قال: ولدا وبنات وقال عطاء: يعني نصيبا شركا. وقال زيد بن أسلم:
إنّها الأصنام، فهذان قولان. وذكر أبو إسحاق قولا ثالثا وهو أن جزءا للبنات خاصة وأنشد بيتا في ذلك أنشده زعم وهو: [البسيط] 409 إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا (1)
أي تلد إناثا. قال أبو جعفر: الذي عليه جماع الحجّة من أهل التفسير واللغة أنّ الجزء النصيب وهذا مذهب عطاء الذي ذكرناه ومجاهد والربيع بن أنس والضحّاك وهو معنى قول ابن عباس، وقال محمد بن يزيد: الجزء النصيب. وقول زيد بن أسلم جماع الحجّة على غيره أيضا، والرواية تدل على خلافه ونسق الكلام لأن بعده {وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً} وقيل: هذا أيضا يلي ذاك.
[سورة الزخرف (43): آية 16]
{أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ وَأَصْفََاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}
{أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ بَنََاتٍ} فهذا يدلّ على أنّ هذا ليس للأصنام.
[سورة الزخرف (43): آية 17]
{وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمََا ضَرَبَ لِلرَّحْمََنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)}
{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} اسم ظلّ وخبرها، ويجوز في الكلام ظلّ وجهه مسودّ على أن يكون في ظلّ ضمير مرفوع يعود على أحد، ووجهه مرفوع بالابتداء ومسودّ خبره والمبتدأ وخبره خبر الأول، ومثله مما حكاه سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» (2) وحكى سيبويه الرفع في اللّذين والنصب.
[سورة الزخرف (43): آية 18]
{أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصََامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)}
{أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ} (3) قال أبو إسحاق: «من» في موضع نصب والمعنى أو جعلتم من ينشأ، وقال الفرّاء (4): «من» في موضع رفع على الاستئناف، وأجاز النصب، قال: واذن رددته على أول الكلام على قوله جلّ وعزّ: {وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمََا ضَرَبَ لِلرَّحْمََنِ مَثَلًا} واختلف القراء في قراءة هذا الحرف فقرأ ابن عباس والكوفيون غير عاصم {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ} وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا} واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بقوله جلّ وعزّ: {إِنََّا أَنْشَأْنََاهُنَّ إِنْشََاءً} [الواقعة: 35]
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (جزأ) وتهذيب اللغة 11/ 145، وتاج العروس (جزأ) والبحر المحيط 8/ 10، وغريب القرآن 396، وروح المعاني 25/ 69، والكشاف 4/ 241.
(2) مرّ تخريج الحديث في إعراب الآية 58النحل.
(3) انظر تيسير الداني 158، ينشّأ: قراءة حفص وحمزة والكسائي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 29.(4/68)
قال أبو جعفر: وهما قراءتان مشهورتان قد روتهما الجماعة، وليس فيما جاء به حجّة لأنّا نعلم أنّه لا ينشأ حتّى ولو لزم ما قال لما قيل: مات فلان لقوله جلّ وعزّ: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28، والحج: 66، والروم: 40] فكان يجب أن يقال: أميت وكذا حيي، والفرق على خلاف ما قال عند النحويين وذلك أنّ معنى ينشّأ لمرّة بعد مرّة على التكثير.
[سورة الزخرف (43): الآيات 19الى 21]
{وَجَعَلُوا الْمَلاََئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهََادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقََالُوا لَوْ شََاءَ الرَّحْمََنُ مََا عَبَدْنََاهُمْ مََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاََّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنََاهُمْ كِتََاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}
{وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً} مفعولان أي وصفوا أنه هكذا، وحكموا أنه كذا. واختلف في قراءة هذا أيضا فقرأ عبد الله بن عباس والكوفيون وأبو عمرو {عِبََادُ الرَّحْمََنِ} (1) وقرأ أهل الحرمين والحسن وأبو رجاء عند الرحمن (2)
واحتجّ أبو عبيد لقراءة من قرأ {عِبََادُ الرَّحْمََنِ} بأن الإسناد فيها أعلى وأنها ردّ لقولهم:
الملائكة بنات الله فقال: ليسوا بنات هم عباد. قال أبو جعفر: وهما قراءتان مشهورتان معروفتان إلّا أن أولاهما «عند» من غير جهة والذي احتجّ به أبو عبيد لا يلزم لأنه احتجّ بأن الإسناد في القراءة بعباد أعلى. ولعمري أنّها صحيحة عن ابن عباس ولكن إذا تدبرت ما في الحديث رأيت الحديث نفسه قد أوجب أن يقرأ (عند) لأن سعيد بن جبير احتجّ على ابن عباس بالمصحف، فقال: في مصحفي «عند». وهذه حجّة قاطعة لأن جماع الحجّة من كتب المصاحف مما نقلته الجماعة على أنه «عند». ولو كان «عباد» لوجب أن يكتب بالألف، كما كتب {بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. واحتجاجه بأنه ردّ لقولهم بنات لا يلزم لأن عبادا إنما هو نفي لمن قال: ولد لأنه يقع للمذكّر والمؤنّث. والأشبه بنسق الآية قراءة من قرأ (عند) لأن المعنى فيه وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن أي لم يروهم إناثا فكيف قالوا هذا وهم عند الرحمن وليسوا عندهم؟ {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} (3) قراءة نافع وأما سائر القراء فيما علمنا فإنهم قرءوا أشهدوا وهما قراءتان حسنتان قد نقلتهما الجماعة. والمعنى فيهما متقارب لأنهم إذا شهدوا فقد أشهدوا، وقوله جلّ وعزّ: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلََائِكَةَ إِنََاثاً وَهُمْ شََاهِدُونَ}
[الصافات: 150] يدلّ على قراءة من قرأ أشهدوا والأخرى جائزة حسنة قال جلّ وعزّ {مََا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 51].
__________
(1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585.
(2) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 11.(4/69)
[سورة الزخرف (43): الآيات 22الى 26]
{بَلْ قََالُوا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذََلِكَ مََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاََّ قََالَ مُتْرَفُوهََا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قََالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى ََ مِمََّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبََاءَكُمْ قََالُوا إِنََّا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كََافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنََا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرََاءٌ مِمََّا تَعْبُدُونَ (26)}
{بَلْ قََالُوا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ} هذه القراءة التي عليها اجتماع الحجّة واللغة المعروفة. والأمّة: الدّين، ومنه {كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً} [البقرة: 213] أي على دين واحد. وقراءة مجاهد وعمر بن عبد العزيز رحمه الله {عَلى ََ أُمَّةٍ} (1) بكسر الهمزة.
{وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُهْتَدُونَ} والأصل إننا حذفت النون تخفيفا و {مُهْتَدُونَ} خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال، وكذا {مُقْتَدُونَ} وروى معمر عن قتادة {إِلََّا قََالَ مُتْرَفُوهََا} قال: رؤوسهم وأشرافهم. وقرأ يزيد بن القعقاع قل اولو جئناكم (2)
واستبعد أبو عبيد هذه القراءة، واحتجّ بأن قبله «قل» ولم يقل: قلنا والحجّة لهذه القراءة أنّ قبله {إِنََّا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كََافِرُونَ} فخاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بجئنا لهم عنه وعن الرسل عليهم السلام فقال: أو لو جئناكم. {بَرََاءٌ} القراءة التي عليها حجّة الجماعة والسواد، وعن ابن مسعود أنه قرأ {إِنَّنِي بَرِيءٌ} إلّا أن الفرّاء (3) قال: إنّ مثل هذا يكتب بالألف، وأجاز في كل همزة أن تكتب ألفا. قال أبو جعفر: هذا شاذّ بعيد يلزم قائله أن يكتب يستهزئ بالألف، وهذا فيه من الأشكال ومخالفة الجماعة أغلظ وأقبح من قرأ برآء قال: في الاثنين والجميع أيضا برآء، والتقدير: إنّني ذو برآء مثل {لََكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ} [البقرة: 177] ومن قال: بريء قال في جمعه برءاء أو برآء على وزن كرماء وكرام. وحكى الكوفيون جمعا ثالثا انفردوا به حكوا: برآء على وزن براع وزعموا أنه محذوف من برءاء.
[سورة الزخرف (43): آية 27]
{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)}
{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} في موضع نصب على الاستثناء من قول «ما تعبدون» ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
[سورة الزخرف (43): آية 28]
{وَجَعَلَهََا كَلِمَةً بََاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}
{وَجَعَلَهََا} الهاء والألف كناية عن قوله: «إنّني برآء» وما بعده أي وجعل تبرّؤه من كلّ ما يعبدون من دون الله جلّ وعزّ وإخلاصه التوحيد لله عزّ وجلّ.
{كَلِمَةً بََاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} والفاعل المضمر في «جعلها» يجوز أن يكون عائدا على قوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} أي وجعلها الله تعالى كلمة باقية في عقبه وأهل التفسير على هذا
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 12.
(2) انظر تيسير الداني 159.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 30.(4/70)
أنّه لا يزال من ولد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم موحدون. وقيل: الضمير عائد على إبراهيم أي وجعلها كلمة باقية في عقبه أي عرفهم التوحيد والتبرّؤ من كل معبود دون الله جلّ وعزّ فتوارثوه فصار كلمة باقية في عقبه ويقال: «في عقبه» بحذف الكسرة لأنها ثقيلة.
[سورة الزخرف (43): آية 31]
{وَقََالُوا لَوْلاََ نُزِّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}
{وَقََالُوا لَوْلََا نُزِّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلى ََ رَجُلٍ} على عطف البيان الذي يقوم مقام النعت لهذا، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: نعت {عَلى ََ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} نعت لرجل وليس الرجل يكون من القريتين، ولكن حقيقته في العربية على رجل من رجلي القريتين ثم حذف مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. فأما قوله جلّ وعزّ: {بَلْ مَتَّعْتُ هََؤُلََاءِ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى جََاءَهُمُ الْحَقُّ} فمعناه لم أهلكهم كما أهلك غيرهم من الكفار.
[سورة الزخرف (43): آية 32]
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنََا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَرَفَعْنََا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجََاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ (32)}
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} «هم» رفع على إضمار فعل لأن الاستفهام عن الفعل، ويجوز أن يكون موضعه مرفوعا بالابتداء. {نَحْنُ قَسَمْنََا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَرَفَعْنََا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجََاتٍ} أي فكذلك فضلنا بعضهم على بعض بالاصطفاء والاختيار. و {دَرَجََاتٍ} في موضع نصب مفعول ثان حذف منه «إلى»، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} أي فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق ليسخّر بعضهم لبعض. وكلّ من عمل لرجل عملا فقد سخّر له بأجرة كان أو بغير أجرة. وعن ابن عباس والضّحاك {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} (1) قال: العبيد، قال الفرّاء (2): يقال سخريّ وسخريّ بمعنى واحد هاهنا وفي {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] وفي «صاد» (3). قال أبو جعفر:
والأمر كما قال الفرّاء عند جميع أهل اللغة إلّا شيئا ذكره أبو عمرو.
[سورة الزخرف (43): الآيات 33الى 34]
{وَلَوْلاََ أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعََارِجَ عَلَيْهََا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوََاباً وَسُرُراً عَلَيْهََا يَتَّكِؤُنَ (34)}
{وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً} قال الفرّاء: «أن» في موضع رفع، {لَجَعَلْنََا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمََنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} «بيوتهم» فيه غير قول، منه أن المعنى أي على بيوتهم، وقيل: إنه بدل بإعادة الحرف مثل: {قََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 14.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 31.
(3) الآية 63.(4/71)
بالصواب لأن الحروف لا تنقل عن بابها إلّا بحجة يجب التسليم لها وسقف (1) على الجمع قراءة الحسن ومجاهد وأبي رجاء الأعرج وشيبة ونافع وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وأما قراءة أبي عمرو وأبي جعفر وابن كثير وشبل وحميد فسقف (2) على التوحيد. قال أبو جعفر: سقف فيما ذكر أبو عبيد جمع سقف مثل: رهن ورهن، ورأيت علي بن سليمان ينكر هذا لأنه ليس بجمع فعل مطرد. قال: ورهن جمع رهان مثل حمار وحمر، ورهان جمع رهن مثل عبد وعباد، وكذا «سقفا». وحكى الفرّاء: أن سقفا جمع سقيفة فأما قراءة من قرأ {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} فتأوّلها إسماعيل بن إسحاق على أنّ «من» لواحد، قال: والمعنى: لجعلنا لكل من كفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلا أنه استبعد هذه القراءة، وحكي أنّ هذا متناول بعيد، واستدلّ على أن القراءة بالجمع أولى لأن بعده ومعارج وسررا وأبوابا فكذا سقف بالجمع أولى. قال أبو جعفر: الذي تأوله بعيد وأولى منه أن يكون سقف بمعنى سقف كما قال جلّ وعزّ:
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] وكما قال الشاعر: [الوافر] 410 كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص (3)
والأحاديث تدلّ على أن القراءة سقف، وكذا نسق الكلام كما حدّثنا بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {وَلَوْلََا أَنْ يَكُونَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً} الآية والتي بعدها قال:
يقول سبحانه لولا أن جعل الناس كلّهم كفارا لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضّة ومعارج عليها من فضة وزخرفا قال: ذهبا، قال سعيد بن جبير والشعبي: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً} أي جذوعا فهذا كلّه يدل على الجمع.
[سورة الزخرف (43): آية 35]
{وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذََلِكَ لَمََّا مَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
{وَزُخْرُفاً} معطوف على سقف. وزعم الفرّاء: أنه يجوز أن يكون معناه سقفا من فضة ومن زخرف ثم حذفت من فنصب. والقول الأول أولى بالصواب. وزعم ابن زيد أن الزخرف متاع البيت فأما أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة فقالوا:
الزخرف الذهب، وقال الشعبي: الزخرف الذهب والفضة. قال أبو جعفر: والزخرف في اللغة، على ما حكاه محمد بن يزيد، الزينة قال: يقال: بنى داره فزخرفها أي زيّنها وحسّنها. {وَإِنْ كُلُّ ذََلِكَ لَمََّا مَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} فاللام للتوكيد عند البصريين، وعند الكوفيين
__________
(1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 15، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585.
(3) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 271، وأسرار العربية ص 323، وتخليص الشواهد 157، وخزانة الأدب 7/ 537، والدرر 1/ 152، وشرح المفصّل 5/ 8، والمقتضب 2/ 172، وهمع الهوامع 1/ 50.(4/72)
بمعنى إلّا و «ما» زائدة للتوكيد، وعند بعض النحويين نكرة بمعنى شيء. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} رفع بالابتداء والتقدير ثواب الآخرة عند ربّك للمتقين.
[سورة الزخرف (43): آية 36]
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ} قال محمد بن يزيد: يعش يتعامى، وأصله من الأعشى، وهو الذي قد ركب بصره ضعف وظلمة. ومنه جاء فلان يعشو، إذا جاءه ليلا لما يركب بصره من الظلمة. وقال غيره: عشي عن ذكر الرحمن لم ينتفع بالذكر كما أن الأعشى الذي لا يبصر في الضوء فهو لا ينتفع ببصره كما ينتفع غيره و {يَعْشُ} في موضع جزم بالشرط وعلامة الجزم فيه حذف الواو وهو مشتق من العشي إلّا أنه يقال:
عشي يعشى إذا صار أعشى، وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى. وهو من ذوات الواو، والياء في عشي منقلبة من واو، وكذا الألف في عشا الذي هو مصدر. ولهذا قال النحويون: العشا في البصر يكتب بالألف والدليل على ذلك أنه يقال: امرأة عشواء. {نُقَيِّضْ لَهُ} جواب الشرط.
[سورة الزخرف (43): آية 37]
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} محمول على المعنى لأن شيطانا يؤدّي عن معنى شياطين.
[سورة الزخرف (43): آية 38]
{حَتََّى إِذََا جََاءَنََا قََالَ يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)}
{حَتََّى إِذََا جََاءَنََا} قراءة نافع وعاصم وعبد الله بن عامر وهي البينة لأن الضمير يعود على «من» و «القرين»، وقراءة أبي عمرو والكوفيين غير عاصم {حَتََّى إِذََا جََاءَنََا} (1)
وهو بمعنى ذلك أي حتّى إذا جاءنا هو وقرينه والعرب تحذف مثل هذا، كما يقال:
كحلت عيني، يراد العينان. {قََالَ يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} اسم «ليت» وهي ظرف، كما يقال: يا ليت بيني وبينك بعدا. ويجوز بعد بمعنى ليت مقدار ذلك، فإن قلت:
ليت بيني وبينك متباعد رفعت.
[سورة الزخرف (43): الآيات 39الى 40]
{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذََابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كََانَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (40)}
«أنّ» في موضع رفع أي لن ينفعكم اشتراككم لأنّ الإنسان في الدنيا إذا أصيب بمصيبة هو وغيره سهلت عليه بعض السهولة وتأسّى به فحرم الله جلّ وعزّ ذلك أهل النار.
__________
(1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 586.(4/73)
[سورة الزخرف (43): الآيات 41الى 43]
{فَإِمََّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنََّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنََاهُمْ فَإِنََّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}
{فَإِمََّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} في موضع جزم بالشرط، والنون للتوكيد ولولا هي لكانت الباء ساكنة وكذا {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في موضع جزم، ولولا النون لحذفت الياء ولكنها بنيت معها على الفتح.
[سورة الزخرف (43): آية 44]
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)}
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إن القرآن لشرف لك ولقومك، وتأوّل هذا مجاهد على أنه شرف لقريش، قال يقال: ممّن الرجل؟ فيقال: من العرب فيقال: من أيّ العرب؟ فيقول: من قريش. وقال غيره:
قومه هاهنا من آمن به وكان على منهاجه. وقيل: معنى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} وإنّ الذي أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لذكر أي أنزل لتذكروا به وتعرفوا أمر دينكم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 45الى 48]
{وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنََا أَجَعَلْنََا مِنْ دُونِ الرَّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقََالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (46) فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِآيََاتِنََا إِذََا هُمْ مِنْهََا يَضْحَكُونَ (47) وَمََا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاََّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهََا وَأَخَذْنََاهُمْ بِالْعَذََابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)}
قال أبو جعفر: في هذه الآية إشكال لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يحتاج مسألة. وقد ذكرنا قول جماعة من العلماء فيها فمنهم من قال: في الكلام حذف، والتقدير: واسأل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا، قال: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد المشركون به. قال أبو جعفر:
أما حذف رسل هاهنا فجائز لأن من رسلنا يدلّ عليه، كما قال الشاعر: [الوافر] 411 كأنّك من جمال بني أقيش (1)
والتقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش، وأمّا حذف إليه فلا يجوز لو قلت:
مررت بالذي ضربت أو بالذي قام وأنت تقدّر حذف حرف الخفض والمضمر لم يجز وإنما يجوز حذف المضمر الذي في الصلة وقوله: المخاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به المشركون، كلام فيه نظر. والقول في الآية والله جلّ وعزّ أعلم ما قاله قتادة قال:
سل أهل الكتاب أأمر الله جلّ وعزّ إلّا بالتوحيد والإخلاص. وشرح هذا من العربية قل: يا محمد لمن عبد الأوثان سل أمم من قد أرسلنا من رسلنا أي من آمن منهم هل أمر الله جلّ وعزّ أن يعبد وثن أو يعبد معه غيره؟ فإنهم لا يجدون هذا في شيء من الكتب، ثم حذفت أمم وأقيمت «من» مقامها، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
[سورة الزخرف (43): الآيات 49الى 50]
{وَقََالُوا يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ ادْعُ لَنََا رَبَّكَ بِمََا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنََا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمََّا كَشَفْنََا عَنْهُمُ الْعَذََابَ إِذََا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)}
{وَقََالُوا يََا أَيُّهَا السََّاحِرُ} وقرأ ابن عامر {يََا أَيُّهَا} [2] السََّاحِرُ ادْعُ لَنََا رَبَّكَ «الساحر» نعت لأيّ على اللفظ، ولا يجوز النصب إلا في قول المازني على الموضع لأن موضع أي نصب. قال أبو إسحاق: إن قال قائل: كيف قالوا يا أيّها الساحر وقد زعموا أنهم
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (90).
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 583.(4/74)
مهتدون؟ فإنما وقع الخطاب على أنه كان عندهم مسمّى بهذا فقالوا: يا أيّها الساحر على ذلك. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا الجواب.
[سورة الزخرف (43): آية 51]
{وَنََادى ََ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قََالَ يََا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهََذِهِ الْأَنْهََارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاََ تُبْصِرُونَ (51)}
{وَنََادى ََ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} قيل: كان نداؤه كراهة أن يتّبع قومه موسى صلّى الله عليه وسلّم لأنه لمّا دعا كشف عنهم العذاب فتبيّن عجز فرعون عن كشفه فكره أن يتّبعوه فقال: أنا أولى بالاتّباع منه. {قََالَ يََا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} في موضع خفض، ولم ينصرف عند البصريين (1)
لأنها مؤنثة سميت بمذكر، وكذا لو سميت امرأة بزيد لم ينصرف وأجازوا صرف مصر على أن يكون اسما للبلد، وترك الصرف أولى لأن المستعمل في مثلها بلدة فأما الكوفيون فيذهبون إلى أن مصر بمنزلة امرأة سمّيت بهند فكان يجب أن ينصرف إلا أنها منعت من ذلك لقلتها في الكلام. {وَهََذِهِ الْأَنْهََارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} «تجري» في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذه {أَفَلََا تُبْصِرُونَ}.
[سورة الزخرف (43): آية 52]
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هََذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاََ يَكََادُ يُبِينُ (52)}
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هََذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قال الفرّاء: هو من الاستفهام الذي جاء بأم لاتصاله بكلام قبله قال: ويجوز أن تردّه على قوله «أليس لي ملك مصر». وقد شرحناه بأكثر من هذا. وزعم الفرّاء (2): أنه أخبره بعض المشيخة أنه يقرأ افلا تبصرون أما أنا خير (3) قال أبو جعفر: يقدّره «أما» التي بمعنى «ألا» وحقا، ويكون على هذا {أَفَلََا تُبْصِرُونَ} تمام الكلام. فهذه القراءة خارجة من حجّة الإجماع وكان يجب على هذا أن يكون «أما» بالألف «أنا» مبتدأ و {خَيْرٌ} خبره وكذا {هُوَ مَهِينٌ}. وفي معنى «مهين» قولان: قيل معناه الذي يمتهن نفسه في حاجاته ومعاشه ليس له من يكفيه. وقال الكسائي: المهين الضعيف الذليل، وقد مهن مهانة. وهذا أولى بالصواب.
[سورة الزخرف (43): آية 53]
{فَلَوْلاََ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جََاءَ مَعَهُ الْمَلاََئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}
فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب هذه قراءة (4) أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة إلا الحسن وقتادة وشيئا يروى عن عبد الله وأبيّ فأما الحسن وقتادة فقرأ لولا ألقي عليه أسورة (5) والذي روي عن عبد الله وأبيّ فلولا ألقي عليه أساوير قال أبو جعفر: أساورة جمع إسوار. وحكى الكسائي: أسوار وسوار وسوار بمعنى
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 266.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 35.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 23.
(4) انظر تيسير الداني 159، والبحر المحيط 8/ 24.
(5) انظر تيسير الداني 159، والبحر المحيط 8/ 24.(4/75)
واحد، وأساوير وأساورة واحد مثل زنادقة وزناديق إلّا أنه إذا كان بالهاء انصرف لأن الإعراب يقع عليها، وهي بمنزلة اسم ضم إلى اسم. وقال أبو إسحاق: إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيرا نحو علانية وعباقية ويجوز أن يكون أساور جمع أسورة {أَوْ جََاءَ مَعَهُ الْمَلََائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} على الحال.
[سورة الزخرف (43): الآيات 54الى 55]
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطََاعُوهُ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ (54) فَلَمََّا آسَفُونََا انْتَقَمْنََا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنََاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)}
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أي استخفّهم بذلك القول إلى الكفر بموسى صلّى الله عليه وسلّم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَلَمََّا آسَفُونََا} قال: يقول أسخطونا.
[سورة الزخرف (43): آية 56]
{فَجَعَلْنََاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)}
{فَجَعَلْنََاهُمْ سَلَفاً} (1) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {سَلَفاً} وهو جمع سليف، وقد سمع عن العرب سليف.
وروي عن حميد الأعرج أنه قرأ {سَلَفاً} بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وأبو حاتم لا يعرف معناه لشذوذه. وقال أبو إسحاق: سلفة أي فرقة متقدمة ومع إنكار أبي حاتم إياه فإن فيه مطعنا لأن الكسائي رواه عن ابن حميد فذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي عن علي بن المديني (2) قال: سألت ابن عيينة عن قراءة حميد {سَلَفاً} فلم يعرفه فقلت له: إنّ الكسائي رواه عنك فقال: لم نحفظه.
[سورة الزخرف (43): آية 57]
{وَلَمََّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذََا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)}
{وَلَمََّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} لم ينصرف مريم عليها السلام لأنها معرفة واسم مؤنث، ويجوز أن يكون اسما أعجميا فيكون ذلك علّة، ويجوز أن يكون عربيا مبنيا على مفعل جاء على الأصل من رام يريم. {إِذََا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (3) قراءة مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وأبي عمرو وعاصم وحمزة، ويروى عن ابن عباس بكسر الصاد.
و {يَصِدُّونَ} (4) بالضم قراءة الحسن وإبراهيم وأبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والكسائي، وتروى عن علي بن طالب رضي الله عنه وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيد بن عمير الليثي. قال أبو جعفر: حكى الكسائي والفراء (5) إنّ يصدّون ويصدّون لغتان بمعنى واحد، كما يقال: نمّ ينمّ وينمّ وشدّ يشدّ ويشدّ، وفرّق أبو عبيد القاسم بن
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 587، وتيسير الداني 159.
(2) علي بن المديني، محدّث، (ت 234هـ) ترجمته في الأعلام 5/ 118.
(3) انظر تيسير الداني 159.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 25.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 36.(4/76)
سلام بينهما فزعم أن معنى يصدّ يضجّ ومعنى يصدّ من الصدود عن الحق، وزعم أنها لو كانت يصدّ بالضم لكانت إذا قومك عنه يصدّون. قال أبو جعفر: وفي هذا ردّ على الجماعة الذين قراءتهم حجّة وقد خالف بقوله هذا الكسائي والفراء، والذي ذكره من الحجة ليس بواجب لأنه يقال: صددت من قوله أي لأجل قوله وعلى هذا معنى الآية والله جلّ وعزّ أعلم إنّما هو «يصدّون» من أجل ذلك القول، وقد يجوز أن يكون مع ذلك الصدود ضجيج فيقول المفسّر: معناه يضجّون.
[سورة الزخرف (43): آية 58]
{وَقََالُوا أَآلِهَتُنََا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مََا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاََّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
{وَقََالُوا أَآلِهَتُنََا خَيْرٌ} ابتداء وخبر «أم هو» معطوف على الهتنا {مََا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلََّا جَدَلًا} مفعول من أجله أي لم يقولوا هذا على جهة المناظرة ولا على جهة التثبت فهذا فرق بين الجدل والمناظرة لأن المتناظرين يجوز أن يكون كل واحد منهما يطلب الصواب والجدل الذي جادلوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما روي عن ابن عباس أنه لمّا أنزل الله جلّ وعزّ: {إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهََا وََارِدُونَ} [الأنبياء:
98] قالوا: أليس قد عبد عيسى صلّى الله عليه وسلّم وهو عندك رجل صالح فقد جعلته في النار معنا فهذا هو الجدل الذي كان منهم لأن الكلام لا يوجب هذا لأنه قال جلّ وعزّ: {إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ} ولم يقل من تعبدون و «ما» فإنما هي لغير بني أدم. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي كثير والخصومة فيما يدفعون به الحق.
[سورة الزخرف (43): آية 59]
{إِنْ هُوَ إِلاََّ عَبْدٌ أَنْعَمْنََا عَلَيْهِ وَجَعَلْنََاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ (59)}
{إِنْ هُوَ إِلََّا عَبْدٌ أَنْعَمْنََا عَلَيْهِ} أي أنعمنا عليه بظهور الآيات على يديه. {وَجَعَلْنََاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ} قال أبو إسحاق: يعني عيسى صلّى الله عليه وسلّم أي يدلّهم على نبوته، وقال غيره وصفناه لبني إسرائيل بأنه مثل لآدم عليه السلام. وقيل: مثل ومثل واحد أي هو بشر مثلهم.
[سورة الزخرف (43): آية 60]
{وَلَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََا مِنْكُمْ مَلاََئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول يخلف بعضهم بعضا. وفي أبي صالح عنه قال: لو نشاء لجعلناهم خلائف وأهلكناهم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 61الى 62]
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسََّاعَةِ فَلاََ تَمْتَرُنَّ بِهََا وَاتَّبِعُونِ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلاََ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطََانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسََّاعَةِ} قراءة أكثر الناس، ويروى عن ابن عباس وأبي هريرة أنّهما قرا {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسََّاعَةِ} (1) وزعم الفراء (2) أنهما متقاربتا المعنى. وحكي عن محمد بن
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 26.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 37.(4/77)
يزيد أنه قال: معنى «لعلم» لذكر وتنبيه وتعريف، ومعنى «لعلم» لدلالة وعلامة. قال أبو جعفر: فأما الضمير الذي في {وَإِنَّهُ} ففي معناه قولان: مذهب ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك ومجاهد والضحاك أنّ الضمير لعيسى صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: لنزوله، والقول الآخر، وهو قول الحسن، أن الضمير للقرآن أي وإن القرآن لعلم للساعة لأنه لا ينزل كتاب بعده، والقول الأول أبين وعليه أكثر الناس، وقد قيل: في هذا دليل على أنه إذا نزل عيسى صلّى الله عليه وسلّم رفعت المحنة ولم تقبل من أحد توبة. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما يدلّ على ذلك وهو قوله «فليكسرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» (1) ففي هذا دليل أنه لا أحد يأخذ من أحد زكاة، وأنّ المحنة قد ارتفعت وقربت الساعة {فَلََا تَمْتَرُنَّ بِهََا} قال أبو إسحاق: أي فلا تشكّوا {وَاتَّبِعُونِ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ} «مستقيم» نعت لصراط، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر.
[سورة الزخرف (43): الآيات 63الى 64]
{وَلَمََّا جََاءَ عِيسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ قََالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللََّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)}
{وَلَمََّا جََاءَ عِيسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ} قال أبو إسحاق: أي بالآيات المعجزات {قََالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} قال: أي بالإنجيل {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قال أبو عبيدة: بعض بمعنى كل وأنشد: [الكامل] 412 أو يخترم بعض النّفوس حمامها (2)
قال أبو جعفر: وهذا القول مردود عند جميع النحويين، ولا حاجة عليه من معقول أو خبر لأن بعضا معناها خلاف معنى «كلّ» في كل المواضع. قال أبو إسحاق: المعنى ولأبيّن لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه، وقال غيره: إنما بيّن لهم بعض الذي اختلفوا فيه على الحقيقة وذلك ما سألوه عنه أو كانت لهم في إخباره إياهم منفعة، وقد يجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك. والبيت الذي أنشده أبو عبيدة لا حجة فيه لأن معنى «أو يخترم بعض النفوس» أنه يعني نفسه وبعض النفوس.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ب 71رقم 243، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار 1/ 28، والآجري في الشريعة 380، والمتقي الهندي في كنز العمال 39722، والقرطبي في تفسيره 10/ 315، «لينزلن ابن مريم حكما ... عادلا فليكسرن الصليب»
(2) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 313، والخصائص 1/ 74، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 772، وشرح شواهد الشافية 415، والصاحبي في فقه اللغة ص 251، ومجالس ثعلب ص 63، والمحتسب 1/ 111، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 349، والخصائص 2/ 317. وصدره:
«تراك أمكنة إذا لم أرضها»(4/78)
[سورة الزخرف (43): الآيات 65الى 66]
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزََابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذََابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السََّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاََ يَشْعُرُونَ (66)}
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزََابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قال أبو إسحاق: الأحزاب اليهود والنصارى.
[سورة الزخرف (43): آية 67]
{الْأَخِلاََّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)}
{الْأَخِلََّاءُ} جمع خليل ولم يقل فيه فعلاء كراهة التضعيف {بَعْضُهُمْ} على البدل من الأخلاء، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الخبر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {الْأَخِلََّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (67) قال: فكلّ خلّة فهي عداوة يوم القيامة إلّا خلّة المتقين {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} نصب على الاستثناء من موجب.
[سورة الزخرف (43): آية 68]
{يََا عِبََادِ لاََ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاََ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)}
من حذف الياء، وهو أكثر في كلام العرب قال: النداء موضع حذف ومن أثبتها قال: هي اسم في موضع خفض فأثبتّها كما أثبت المظهر.
[سورة الزخرف (43): آية 69]
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا مُسْلِمِينَ (69)}
{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا} في موضع نصب على النعت لعبادي، ويدلّك على أنه نعت له. وتبيين ما رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: بينما الناس في الموقف إذ خرج مناد من الحجب فنادى {يََا عِبََادِ لََا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلََا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ففرحت الأمم كلّها، وقالت نحن عباد الله كلنا فخرج ثانية فنادى {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيََاتِنََا وَكََانُوا مُسْلِمِينَ} فيئست الأمم كلّها إلا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن كان مسلما.
[سورة الزخرف (43): آية 70]
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي يقال لهم ذلك {أَنْتُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ} عطف على المضمر في ادخلوا «وأنتم» توكيد {تُحْبَرُونَ} في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس «تحبرون» تكرمون.
[سورة الزخرف (43): آية 71]
{يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِصِحََافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوََابٍ وَفِيهََا مََا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (71)}
{يُطََافُ عَلَيْهِمْ بِصِحََافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوََابٍ} وحكي في الجمع كوبة وكيبان ويجوز كياب {وَفِيهََا مََا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} (1) هذه قراءة أهل المدينة وأهل الشام، وكذا في
__________
(1) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 588.(4/79)
مصاحفهم. وقراءة أهل العراق {تَشْتَهِي} بغير هاء، والقراءتان حسنتان فإثبات الهاء على الأصل وحذفها لطول الاسم غير أنه حكي عن محمّد بن يزيد أنه يختار إثبات الهاء ويقدمه على حذفها في مثل هذا، وعلته في ذلك أنّ الهاء إنما حذفت في الذي لطول الاسم، «وما» أنقص من الذي، وأيضا فإنك إذا حذفت الياء في «الذي» وفي «التي» فقد عرف المذكر من المؤنث، وليس هذا في «ما».
[سورة الزخرف (43): الآيات 72الى 73]
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهََا بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهََا فََاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهََا تَأْكُلُونَ (73)}
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ} نعت لتلك التي خبر الابتداء.
[سورة الزخرف (43): الآيات 74الى 75]
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذََابِ جَهَنَّمَ خََالِدُونَ (74) لاََ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذََابِ جَهَنَّمَ خََالِدُونَ} خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال، وكذا {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} قال الفراء: وفي قراءة عبد الله وهم فيها يريد جهنم.
ومن قال «فيه» أراد العذاب.
[سورة الزخرف (43): آية 76]
{وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا هُمُ الظََّالِمِينَ (76)}
خبر كان. و «هم» عند سيبويه فاصلة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة «ما» في قوله جلّ وعزّ {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ} * [النساء: 155والمائدة: 13] والكوفيون يقولون هم عماد. قال الفراء (1): وفي حرف عبد الله بن مسعود ولكن كانوا هم الظالمون (2). قال أبو جعفر: وعلى هذا يكون «هم» في موضع رفع بالابتداء و «الظالمون» خبر الابتداء وخبره خبر كان، كما تقول: كان زيد أبوه خارج.
[سورة الزخرف (43): آية 77]
{وَنََادَوْا يََا مََالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنََا رَبُّكَ قََالَ إِنَّكُمْ مََاكِثُونَ (77)}
{وَنََادَوْا يََا مََالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنََا رَبُّكَ} قال مجاهد: ما كنا ندري معنى «يا مالك» حتّى سمعنا في قراءة عبد الله ونادوا يا مال (3). قال أبو جعفر: هذا على الترخيم، والعرب ترخّم مالكا وعامرا كثيرا إلّا أن هذا مخالف للسواد، وفيه لغتان يقال: يا مال أقبل، هذا أفصح اللغتين، كما قال: [البسيط] 413 يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك (4)
ومن العرب من يقول: يا مال أقبل، فيجعلون ما بقي اسما على حاله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 37.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 27، ومعاني الفراء 3/ 37.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 27.
(4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 180.(4/80)
[سورة الزخرف (43): آية 80]
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنََّا لاََ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوََاهُمْ بَلى ََ وَرُسُلُنََا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنََّا لََا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوََاهُمْ بَلى ََ} والكوفيون يقرءون {يَحْسَبُونَ} يقال:
حسب يحسب وتحسب، لغتان، والقياس الفتح مثل حذر يحذر إلّا أن الكسر أكثر في كلام العرب. ويقال: إنّ لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكسر، وفتحت «أن» لأنها في موضع اسم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 81الى 83]
{قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ (81) سُبْحََانَ رَبِّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتََّى يُلاََقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}
إن جعلت «إن» للشرط فكان في موضع جزم وإن جعلتها بمعنى «ما» فلا موضع لكان. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ} قال: يقول: لم يكن للرحمن ولد. قال أبو جعفر: جعل «إن» بمعنى «ما» كما قال جلّ وعزّ: {إِنِ الْكََافِرُونَ إِلََّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي ما الكافرون إلّا في غرور.
[سورة الزخرف (43): الآيات 84الى 85]
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبََارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السََّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)}
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} قال أبو إسحاق: أي معبود في السماء ومعبود في الأرض. وفي حرف عبد الله وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله.
[سورة الزخرف (43): الآيات 86الى 87]
{وَلاََ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفََاعَةَ إِلاََّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ فَأَنََّى يُؤْفَكُونَ (87)}
{إِلََّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} في موضع نصب على الاستثناء.
[سورة الزخرف (43): الآيات 88الى 89]
{وَقِيلِهِ يََا رَبِّ إِنَّ هََؤُلاََءِ قَوْمٌ لاََ يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاََمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}
{وَقِيلِهِ يََا رَبِّ} هذه قراءة (1) المدنيين وأبي عمرو والكسائي، وقرأ الكوفيون غير الكسائي {وَقِيلِهِ} بالخفض، وزعم هارون القارئ أنّ الأعرج قرأ {وَقِيلِهِ} بالرفع.
قال أبو جعفر: {وَقِيلِهِ} بالنصب من خمسة أوجه: قال الأخفش سعيد: «وقيله» بالنصب من وجهين يكون بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم وقيله، الوجه الثاني: أن يكون مصدرا. وقال أبو إسحاق: المعنى وعنده علم الساعة ويعلم قيله لأن معنى وعنده علم الساعة ويعلم الساعة أي يعلم وقت الساعة وهو الغيب ويعلم قيله وهو الشهادة. والقول الرابع أن يكون المعنى إلّا من شهد بالحق وهم يعلمون الحقّ وقيله. والقول الخامس ورسلنا لديهم يكتبون ذلك وقيله. قال أبو إسحاق:
والخفض بمعنى وعنده علم الساعة وعلم قيله. قال أبو جعفر: والرفع بالابتداء. قال
__________
(1) انظر تيسير الداني 160، والبحر المحيط 8/ 30.(4/81)
الفراء (1): كما تقول نداؤه هذه الكلمة وقدّره غيره بمعنى وقيله يا ربّ ويقال: قال قولا وقيلا وقالا بمعنى واحد. والقراءة البينة بالنصب من جهتين: إحداهما: أن المعطوف على المنصوب يحسن أن يفرق بينهما وإن تباعد ذلك لانفصال العامل من المعمول فيه مع المنصوب وذلك في المخفوض إذا فرّقت بينهما قبيح، والجهة الأخرى أنّ أهل التأويل يفسرون الآية على معنى النصب، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يََا رَبِّ إِنَّ هََؤُلََاءِ قَوْمٌ لََا يُؤْمِنُونَ} قال: فأخبر الله جلّ وعزّ عن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروى معمر عن قتادة و «قيله يا رب» قال: قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون، فالهاء في «وقيله» على هذا عائدة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد قيل: إن الهاء راجعة إلى قوله: {وَلَمََّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] أي ويسمع قول عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم لمّا يئس من صلاح قومه وإيمانهم {إِنَّ هََؤُلََاءِ قَوْمٌ لََا يُؤْمِنُونَ} والأولى بالصواب القول الأول أن تكون الهاء عائدة على نبينا صلّى الله عليه وسلّم لجهتين: إحداهما أنّ ذكره أقرب إلى المضمر لأن المعنى: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين. والجهة الأخرى أن الذي بعده مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإجماع وهو {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم {وَقُلْ سَلََامٌ} أي مسالمة ومتاركة. والتقدير في العربية أمري سلام. زعم الفراء (2) أنّ التقدير سلام عليكم ثم حذف. وهذا خلاف ما قال المتقدمون، وقد ذكر مثل هذا سيبويه، وقال: نزل بمكة من قبل أن يؤمروا بالسلام، وأيضا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهى أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام، وحظر على المسلمين فصحّ أن معنى {وَإِذََا خََاطَبَهُمُ الْجََاهِلُونَ قََالُوا سَلََاماً} [الفرقان: 63] أنه ليس من التسليم في شيء، وإنما هو من المتاركة والتسليم. وكذا {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلََامٌ} فسوف تعلمون قراءة المدنيين (3)، وهو على هذا من كلام واحد وقراءة ابن كثير والكوفيين والبصريين {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياء على أنه قد تمّ الكلام عند {وَقُلْ سَلََامٌ}. والمعنى فسوف يعلمون العقوبة على التهديد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 38.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 38.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 30، وكتاب السبعة لابن مجاهد 589.(4/82)
44 - شرح إعراب سورة حم (الدخان)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن مهدي بن ميمون قال: حدّثنا عمران القصير عن الحسن قال: من قرأ سورة «الدخان» ليلة الجمعة غفر له.
[سورة الدخان (44): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) وَالْكِتََابِ الْمُبِينِ (2)}
{حم} (1) {وَالْكِتََابِ} مخفوض بالقسم. {الْمُبِينِ} من نعته.
[سورة الدخان (44): آية 3]
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ إِنََّا كُنََّا مُنْذِرِينَ (3)}
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ} قال أبو جعفر: وقد ذكرنا عن العلماء أنها ليلة القدر.
فأما البركة التي فيها فهي نزول القرآن، وقال أبو العالية: هي رحمة كلّها لا يوافقها عبد مؤمن يعمل إحسانا إلّا غفر له ما مضى من ذنوبه. وقال عكرمة: يكتب فيها الحاجّ حاجّ بيت الله جلّ وعزّ فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم أحد فقيل لها: مباركة لثبات الخير فيها ودوامه. والبركة في اللغة. الثبات والدوام.
[سورة الدخان (44): آية 4]
{فِيهََا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}
أي فيه الحكمة من فعل الله جلّ وعزّ.
[سورة الدخان (44): آية 5]
{أَمْراً مِنْ عِنْدِنََا إِنََّا كُنََّا مُرْسِلِينَ (5)}
{أَمْراً مِنْ عِنْدِنََا} في نصبه (1) خمسة أقوال: قال سعيد الأخفش: نصبه على الحال بمعنى أمرين. وقال محمد بن يزيد: نصبه نصب المصادر أي إنّا أنزلناه إنزالا، والأمر مشتمل على الأخبار. قال أبو عمر الجرميّ: هو حال من نكرة، وأجاز على هذا: هذا رجل مقبلا. وقال أبو إسحاق: «أمرا» مصدر، والمعنى فيها يفرق فرقا و «أمرا» بمعنى:
فرق، والقول الخامس أن معنى يفرق يؤمر ويؤتمر فصار مثل: هو يدعه تركا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 34.(4/83)
[سورة الدخان (44): آية 6]
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} في نصبه خمسة أقوال: قال الأخفش: هو نصب على الحال. وقدّره الفراء (1) مفعولا على أنه منصوب بمرسلين، وجعل الرحمة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو إسحاق:
يجوز أن يكون رحمة مفعولا من أجله. وهذا أحسن ما قيل في نصبها. وقيل: هي بدل من أمر، والقول الخامس: أنها منصوبة على المصدر. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يكون «هو» زائدا فاصلا، ويجوز أن يكون مبتدأ و «السميع» خبره و {الْعَلِيمُ} من نعته.
[سورة الدخان (44): الآيات 7الى 9]
{رَبِّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبََائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}
{رَبِّ السَّمََاوََاتِ} نعت للسميع، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ. وهذه قراءة المدنيين والبصريين سوى الحسن فإنه والكوفيين قرءوا رب السماوات (2) على البدل بمعنى رحمة من ربّك ربّ السّموات، وكذا ربكم ورب آبائكم الأولين بالرفع والخفض.
[سورة الدخان (44): آية 10]
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمََاءُ بِدُخََانٍ مُبِينٍ (10)}
وسمع من العرب في جمع دخان دواخن. وزعم القتبيّ أنه لم يأت على هذا إلّا دخان وعثان. قال أبو جعفر: وهذا القول ليس بشيء عند النحويين الحذاق وإنما دواخن جمع داخنة وهذا قول الفراء نصا وكلّ من يوثق بعلمه، وحكى الفراء: دخنت النار فهي داخنة إذا أتت بالدخان.
[سورة الدخان (44): الآيات 11الى 12]
{يَغْشَى النََّاسَ هََذََا عَذََابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذََابَ إِنََّا مُؤْمِنُونَ (12)}
قال أبو إسحاق: أي يقول الناس الذين أصابهم الجدب «هذا عذاب أليم».
[سورة الدخان (44): الآيات 13الى 14]
{أَنََّى لَهُمُ الذِّكْرى ََ وَقَدْ جََاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقََالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)}
{أَنََّى لَهُمُ الذِّكْرى ََ} في موضع رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول غيره بإضمار فعل. قال أبو الحسن بن كيسان: «أنّى» تجتذب معنى «أين» «وكيف» أي من أي المذاهب وعلى أي حال، ومنه {قََالَ يََا مَرْيَمُ أَنََّى لَكِ هََذََا} [ال عمران: 37] أي من أي المذاهب وعلى أي حال.
[سورة الدخان (44): آية 15]
{إِنََّا كََاشِفُوا الْعَذََابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عََائِدُونَ (15)}
{إِنََّا} أصله إنّنا فحذفت النون تخفيفا. {كََاشِفُوا الْعَذََابِ} الأصل كاشفون حذفت
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 39.
(2) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 592.(4/84)
النون تخفيفا، ومن يحذف النون لالتقاء الساكنين نصب العذاب {قَلِيلًا} نصب لأنه نعت لظرف أو لمصدر. قال أحمد بن يحيى: إنكم عائدون إلى الشرك. وقيل إلى عذاب الآخرة.
[سورة الدخان (44): الآيات 16الى 17]
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ََ إِنََّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنََّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجََاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)}
{يَوْمَ نَبْطِشُ} منصوب بمعنى اذكروا، ولا يجوز أن يكون منصوبا بمنتقمين لأن «أنّ» لا يجوز فيها مثل هذا. وقرأ أبو جعفر وطلحة {يَوْمَ نَبْطِشُ} (1) وهي لغة معروفة وقراءة أبي رجاء {يَوْمَ نَبْطِشُ} (2) بضم النون وكسر الطاء على حذف المفعول. يقال:
بطش وأبطشه. قال أحمد بن يحيى: {وَجََاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي عند ربه جلّ وعزّ، قال: وقال «كريم» من قومه.
[سورة الدخان (44): آية 18]
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبََادَ اللََّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)}
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبََادَ اللََّهِ} «أن» في موضع نصب والمعنى بأن ونصبت «عباد الله» بوقوع الفعل عليهم أي سلّموا إلى عباد الله أي اطلقوهم من العذاب ويجوز أن تنصب عباد الله على النداء المضاف، ويكون المعنى: أن أدّوا إليّ ما أمركم الله عزّ وجلّ به يا عباد الله.
[سورة الدخان (44): آية 19]
{وَأَنْ لاََ تَعْلُوا عَلَى اللََّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ (19)}
{وَأَنْ لََا تَعْلُوا عَلَى اللََّهِ} معطوفة على «أن» الأولى {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} قال أبو إسحاق: أي بحجّة واضحة بيّنة أني نبيّ.
[سورة الدخان (44): الآيات 20الى 21]
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)}
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} ويجوز إدغام الذال في التاء لقربها منها وأن التاء مهموسة {أَنْ تَرْجُمُونِ} قال الضحاك: أي أن تشتموني وحذفت الياء لأنها رأس آية، وكذا {فَاعْتَزِلُونِ}.
[سورة الدخان (44): آية 22]
{فَدَعََا رَبَّهُ أَنَّ هََؤُلاََءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)}
من قال: إنّ هؤلاء فالمعنى عنده قال: إنّ هؤلاء.
[سورة الدخان (44): آية 23]
{فَأَسْرِ بِعِبََادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)}
{فَأَسْرِ بِعِبََادِي} من سرى، ومن قال: أسرى قال: فأسر {لَيْلًا} ظرف.
[سورة الدخان (44): آية 24]
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} على الحال. قال محمد بن يزيد: يقال: عيش راه خفض وادع
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 35.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 35.(4/85)
فمعنى «رهوا» أي ساكنا حتّى يحصلوا فيه وهو ساكن ولا ينفروا منه. وقيل: الرهو المتفرق.
[سورة الدخان (44): آية 25]
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ (25)}
«كم» في كلام العرب للتكثير و «ربّ» للتقليل وزعم الكسائي أنّ أصل «كم» كما فإذا قلت: كم مالك؟ فالمعنى كأيّ شيء من العدد مالك، وحذفت الألف من «ما» كما تحذف مع حروف الخفض مثل {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] قيل له: فلم أسكنت الميم؟ قال: لكثرة الاستعمال كما تسكّن في الشعر، وأنشد: [البسيط] 414 فلم دفنتم عبيد الله في جدث ... ولم تعجّلتم ولم تروحونا (1)
وذكر أبو الحسن بن كيسان: هذا القول فاسد، واستدلّ على ذلك إنما تستعمله العرب في جواب «كم» لأنهم يقولون في جواب كم مالك؟ ثلاثون وما أشبهه، ولو كان كما قال لكان الجواب بالكاف لأن قائلا لو قال: كمن أخوك؟ لقلت: كمحمد، ولو قال: مثل ما مالك؟ لقلت: مثل الثياب، ولو قال: كأيّ شيء مالك؟ لقلت: كمال زيد. وهذا لا يقال في «كم» فصحّ أنها ليست «ما» دخلت عليها كاف التشبيه، وأنها مثل «من» و «ما» يستفهم بها عن العدد لأنك لو قلت: أمالك ثلاثون أم أربعون؟ لم ينتظم معنى «كم» لاشتماله على ذلك كله. وهي اسم غير معرب لأن فيها معنى الحروف. قال سيبويه: فبعدت عن المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكّنة.
[سورة الدخان (44): آية 26]
{وَزُرُوعٍ وَمَقََامٍ كَرِيمٍ (26)}
في أبي صالح عن ابن عباس: أنّ المقام الكريم المنازل الحسنة. قال أبو جعفر وهذا معروف في اللغة أن يقال للموضع الذي يقام فيه: مقام كريم، وفي الضحاك عن ابن عباس: أن المقام المنابر، وكذا قال سعيد بن جبير، وهو مروي عن عبد الله بن عمر، وقد ذكرناه بإسناده في سورة «الشعراء» (2).
[سورة الدخان (44): آية 27]
{وَنَعْمَةٍ كََانُوا فِيهََا فََاكِهِينَ (27)}
قال يعقوب بن السكّيت: النعمة التنعّم. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «فكهين» معجبين، وعنه فاكهين فرحين. وحكى أبو عبيد عن أبي زيد الأنصاري أنه يقال: رجل فكه إذا كان طيّب النفس ضحوكا، وزعم الفراء (3) أنّ فكها وفاكها بمعنى واحد، كما يقال: حذر وحاذر. فأما محمد بن يزيد ففرق بين فعل وفاعل في مثل هذا تفريقا لطيفا فقال: الحذر الّذي في خلقته الحذر، والحاذر المستعدّ. قال أبو
__________
(1) لم أجده في كتب الشواهد.
(2) انظر كتاب معاني القرآن للنحاس في تفسير الآية 58الشعراء.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 249.(4/86)
جعفر: وهذا قول صحيح بيّن يدلّ عليه أن حذرا لا يتعدّى عند النحويين.
[سورة الدخان (44): آية 28]
{كَذََلِكَ وَأَوْرَثْنََاهََا قَوْماً آخَرِينَ (28)}
الكاف في موضع رفع أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كذلك يفعل بمن يهلكه وينتقم منه.
[سورة الدخان (44): آية 29]
{فَمََا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ وَمََا كََانُوا مُنْظَرِينَ (29)}
{فَمََا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ} أكثر أهل التفسير على أنه حقيقة وأنها تبكي على المؤمن موضع مصلّاه من الأرض وموضع مصعده من السماء. وقيل: هو مجاز والمعنى: وما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض وقول ثالث نظير قول العرب: ما بكاه شيء، وجاء بكت على تأنيث السماء. وزعم الفراء (1): أنّ من العرب من يذكّرها.
[سورة الدخان (44): آية 30]
{وَلَقَدْ نَجَّيْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مِنَ الْعَذََابِ الْمُهِينِ (30)}
نعت للعذاب، وزعم الفراء أن في قراءة عبد الله {مِنَ الْعَذََابِ الْمُهِينِ} (2) وذهب إلى إضافة الشيء إلى نفسه مثل: {وَذََلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. قال أبو جعفر: وإضافة الشيء إلى نفسه عند البصريين (3) محال، والقراءة مخالفة للسواد، ولو صحّت كان تقديرها: من عذاب فرعون المهين ثم أقيم النعت مقام المنعوت ويكون الدليل على الحذف.
[سورة الدخان (44): آية 31]
{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كََانَ عََالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}
روي عن ابن عباس قال: من المشركين وعن الضحاك قال: من الفتّاكين.
[سورة الدخان (44): آية 32]
{وَلَقَدِ اخْتَرْنََاهُمْ عَلى ََ عِلْمٍ عَلَى الْعََالَمِينَ (32)}
{وَلَقَدِ اخْتَرْنََاهُمْ} الضمير يعود على بني إسرائيل أي اخترناهم للرسالة والتشريف {عَلى ََ عِلْمٍ} لأن من اخترناه منهم للرسالة يقوم بأدائها {عَلَى الْعََالَمِينَ} لكثرة الرسل فيهم وقيل: عالم أهل زمانهم.
[سورة الدخان (44): آية 33]
{وَآتَيْنََاهُمْ مِنَ الْآيََاتِ مََا فِيهِ بَلََؤُا مُبِينٌ (33)}
أصحّ ما قيل فيه أن البلاء هاهنا النعمة مثل وجميل بلائه لديك. قال الفراء (4):
وقد يكون البلاء هاهنا العذاب.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 41.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 41، والبحر المحيط 8/ 37.
(3) انظر الإنصاف المسألة رقم (61).
(4) انظر معاني الفراء 3/ 42.(4/87)
[سورة الدخان (44): الآيات 34الى 39]
{إِنَّ هََؤُلاََءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاََّ مَوْتَتُنَا الْأُولى ََ وَمََا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبََائِنََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنََاهُمْ إِنَّهُمْ كََانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لاََعِبِينَ (38)
} {مََا خَلَقْنََاهُمََا إِلاََّ بِالْحَقِّ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (39)}
{إِنَّ هََؤُلََاءِ لَيَقُولُونَ} {إِنْ هِيَ إِلََّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ََ} أي يقولون هذا على العادة بغير حجّة وقد تبيّنت لهم البراهين وظهرت الحجج لهم، ولهذا لم يحتجّ عليهم هاهنا وخوّفوا وهدّدوا فقيل {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} أي فقد علموا أنّهم كانوا أعزّ منهم. {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} عطف على قوم، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وما بعده خبره، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل دلّ عليه أهلكناهم {إِنَّهُمْ كََانُوا مُجْرِمِينَ}.
[سورة الدخان (44): آية 40]
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقََاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)}
وأجاز الكسائي والفرّاء {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقََاتُهُمْ} بالنصب. قال أبو إسحاق:
يكون يوما منصوب على الظرف، ويكون التقدير: أنّ ميقاتهم في يوم الفصل. قال أبو جعفر: يفرّق بين إنّ واسمها بالظرف فتقول: إنّ حذاءك زيدا، وإنّ اليوم القتال لأن الظرف معناه في الكلام وإن لم تلفظ به فهذا لا اختلاف بين النحويين فيه، واختلفوا في الحال فأجاز الأخفش: تقديمها ومنعه محمد بن يزيد. وأجاز الأخفش: إنّ قائمين فيها إخوتك تنصب قائمين على الحال. «أجمعين» في موضع خفض توكيد للهاء والميم.
[سورة الدخان (44): الآيات 41الى 42]
{يَوْمَ لاََ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلاََ هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاََّ مَنْ رَحِمَ اللََّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)}
{يَوْمَ لََا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً} نصبت يوما على البدل من يوم الأول. قال الضحّاك {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى} أي عن وليّ. {إِلََّا مَنْ رَحِمَ اللََّهُ} في إعراب (1) من أربعة أوجه: قال الأخفش سعيد: «من» في موضع رفع على البدل، تقديره بمعنى ولا ينصر إلا من رحم الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء أي إلّا من رحم الله فيعفى عنه.
وقال غيره «من» في موضع رفع بمعنى لا يغني إلّا من رحم الله أي لا يشفع إلّا من رحم الله. وهذا قول حسن لأنه قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يشفع لأمته حتّى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الإيمان، وصح عنه أن المؤمنين يشفعون. والقول الرابع في «من» أنها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وهذا قول الكسائي والفراء (2).
[سورة الدخان (44): الآيات 43الى 44]
{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعََامُ الْأَثِيمِ (44)}
وعن أبي الدرداء قال: طعام الفاجر، وهذا تفسير وليس بقراءة لأنه مخالف للمصحف.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 39.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 42.(4/88)
[سورة الدخان (44): الآيات 45الى 46]
{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}
كالمهل تغلي في البطون قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وقراءة ابن كثير {كَالْمُهْلِ يَغْلِي} (1) وهو اختيار أبي عبيد. وهو مخالف لحجّة الجماعة من أهل الأمصار. والمعنى فيه أيضا بعيد على ما تأوله أبو عبيد لأنه جعل يغلي للمهل لأنه أقرب إليه، وليس المهل الذي يغلي في البطون إنما المهل يغلي في القدور، كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ فضة من بيت المال فأذابها ثم وجّه إلى أهل المسجد فقال: هذا المهل. وعن ابن عباس قال: المهل: درديّ الزيت. قال أبو جعفر: إلّا أنه لا يكون لدرديّ الزيت إلّا أن يغلي بذلك على ظاهر الآية.
[سورة الدخان (44): آية 47]
{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى ََ سَوََاءِ الْجَحِيمِ (47)}
{خُذُوهُ فَاعْتُلُوهُ} قراءة أهل المدينة. وقرأ أهل الكوفة {فَاعْتِلُوهُ} (2) وهما لغتان إلا أنّ القياس الكسر لأنه مثل ضربه يضربه. وأجاز الخليل وسيبويه: «خذوهو فاعتلوهو» بإثبات الواو في الإدراج إلّا أنّ الاختيار حذفها، واختلف النحويون في ذلك فمذهب سيبويه أن الأصل: «خذوهو» بإثبات الواو إلّا أنها حذفت لاجتماع حرفين من حروف المدّ واللين. ومذهب غيره أنّها حذفت من أجل الساكنين. وقال جويبر عن الضحّاك: إنه نزل في أبي جهل «خذوه فاعتلوه» إذا أمر به يوم القيامة. قال الضحّاك:
{فَاعْتِلُوهُ} فادفعوه، {إِلى ََ سَوََاءِ الْجَحِيمِ} أي إلى وسط الجحيم.
[سورة الدخان (44): آية 48]
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذََابِ الْحَمِيمِ (48)}
روي عن ابن عباس: الحميم الحارّ الذي قد انتهى حرّه.
[سورة الدخان (44): آية 49]
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}
كسرت «إن» لأنها مبتدأة، ومن قرأ {ذُقْ إِنَّكَ} (3) جعله بمعنى لأنك وبأنك.
والقراءة بالكسر عليها حجّة الجماعة، وأيضا فإن الكفر أكثر من قوله: أنا العزيز الكريم لأن تأويل من قرأها بالفتح ذق لأنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم.
[سورة الدخان (44): آية 50]
{إِنَّ هََذََا مََا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}
قيل: دلّ بهذا على أنهم يعذبون على الشك وقيل: بل كانوا مع شكّهم يجحدون
__________
(1) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 592، والبحر المحيط 8/ 40.
(2) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 593.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 40.(4/89)
ما شكّوا فيه. ومن شك في شيء فجحده فهو عاص لله تعالى.
[سورة الدخان (44): الآيات 51الى 53]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقََامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقََابِلِينَ (53)}
(1)
قراءة الكوفيين وأبي عمرو، وقرأ المدنيون {فِي مَقََامٍ} بضم الميم. قال الفرّاء (2)
مقام أجود في العربية لأنه للمكان. قال أبو جعفر: وهذا ما ينكر على الفراء أن يقال للقراءات التي قد روتها الجماعة عن الجماعة: هذه أجود من هذه لأنها إذا روتها الجماعة عن الجماعة قيل: هكذا أنزل لأنهم لا يجتمعون على ضلالة فكيف تكون إحداهما أجود من الأخرى؟ ومقام بالضم معناه صحيح يكون بمعنى الإقامة كما قال: [الكامل] 415 عفت الدّيار محلّها فمقامها (3)
والمقام أيضا الموضع إذا أخذته من أقام، والمقام بالفتح الموضع أيضا إذا أخذته من قام. {أَمِينٍ} قال الضحّاك: أمنوا فيه الجوع والسقم والهرم والموت وأمنوا الخروج منه.
قال مجاهد: {عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} [الصافات: 44] لا يرى بعضهم قفا بعض.
[سورة الدخان (44): الآيات 54الى 55]
{كَذََلِكَ وَزَوَّجْنََاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهََا بِكُلِّ فََاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)}
{كَذََلِكَ} الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي كذلك يفعل بالمتقين. {وَزَوَّجْنََاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} قال الضحّاك: الحور البيض والعين الكبار الأعين. قال الأخفش: ومن العرب من يقول: بحير عين. قال أبو جعفر: هذا على إتباع الأول للثاني، ونظيره من روى «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (4) والفصيح البيّن ارجعن «موزورات» و «بحور» فأما «عين» فهو جمع عيناء وهو فعل كسرت منه فاء الفعل لأن بعدها ياء.
[سورة الدخان (44): آية 56]
{لاََ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى ََ وَوَقََاهُمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ (56)}
{لََا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ََ} نصب لأنه استثناء ليس من الأول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 160، قراءة نافع وابن عامر بضم الميم والباقين بفتحها.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 44.
(3) الشاهد للبيد في ديوانه 297، ولسان العرب (خرج)، و (أبد)، و (غول)، (وصل)، وجمهرة اللغة 961، وتاج العروس (خرج) و (غول) و (رجم) و (مني) و (قوم)، ومقاييس اللغة 1/ 34، والمخصّص 15/ 176، وبلا نسبة في لسان العرب (رجم)، وجمهرة اللغة 466، وديوان الأدب 1/ 189. وعجزه:
«بمنى تأبد غولها فرجامها»
(4) أخرجه أبو داود في سننه في الجنائز الحديث رقم (3167)، وابن ماجة في سننه باب 50الحديث رقم (1578).(4/90)
[سورة الدخان (44): آية 57]
{فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)}
{فَضْلًا} منصوب على المصدر، والعامل فيه المعنى، واختلف في ذلك المعنى، فقال أبو إسحاق فيه إنه {يَدْعُونَ فِيهََا بِكُلِّ فََاكِهَةٍ آمِنِينَ} قال: ويجوز أن يكون العامل فيه {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقََامٍ أَمِينٍ}، وقال غيره العامل فيه {وَوَقََاهُمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ}، وجواب رابع أن يكون هذا كلّه عاملا فيه لأن معناه كلّه تفضّل من الله جلّ وعزّ. وكلّه يحتاج إلى شرح. وذلك أن يقال: قد قال جلّ وعزّ {بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:
127، ويوسف: 12] و {بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] فما معنى التفضل هاهنا ففي هذا غير جواب منها أن تكليف الله جلّ وعزّ الأعمال ليس لحاجة منه إليها، وإنّما كلّفهم ذلك ليعملوا فيدخلوا الجنة فالتكليف وإدخالهم الجنة تفضّل منه جلّ وعزّ.
فأصحّ الأجوبة في هذا أنّ للمؤمنين ذنوبا لا يخلون منها، وإن كانت لكثير منهم صغائر فلو أخذهم الله جلّ وعزّ بها لعذّبهم غير ظالم لهم، فلما غفرها لهم وأدخلهم الجنة كان ذلك تفضلا منه جلّ وعزّ، وأيضا فإنّ لله جلّ وعزّ على عباده كلّهم نعما في الدنيا فلو قوبل بتلك النعم أعمالهم لاستغرقها فقد صار دخولهم الجنة تفضلا، كما قال صلّى الله عليه وسلّم «ما أحد يدخل الجنّة بعمله» قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أنا يتغمّدني الله منه برحمة».
[سورة الدخان (44): آية 58]
{فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}
{فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ} قيل: معنى يسّرناه علمناكه وحفّظناكه وأوحينا إليك لتتذكّروا به وتعتبروا.
[سورة الدخان (44): آية 59]
{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
{فَارْتَقِبْ} أي فارتقب أن يحكم الله جلّ وعزّ بينك وبينهم {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} فيه قولان: أحدهما أنه مجاز، وأن المعنى أنهم بمنزلة المرتقبين لأن الأمر حال بهم لا محالة، وقيل هو حقيقة أي أنهم مرتقبون ما يؤمّلونه.(4/91)
45 - شرح إعراب سورة الجاثية
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الجاثية (45): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)}
{تَنْزِيلُ} مرفوع بالابتداء وخبره {مِنَ اللََّهِ}، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر ابتداء محذوف أي هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر عن «حم»، {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} نعت وفيه معنى المدح.
[سورة الجاثية (45): آية 3]
{إِنَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)}
{لَآيََاتٍ} في موضع نصب، وكسرت التاء لأنه جمع مسلّم ليوافق المؤنّث المذكّر في استواء النصب والخفض. والتاء عند سيبويه (1) بمنزلة الياء والواو، وعند غيره الكسرة بمنزلة الياء، وقيل: التاء والكسرة بمنزلة الياء فأما الألف فزائدة للفرق بين الواحد والجمع.
[سورة الجاثية (45): الآيات 4الى 5]
{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلاََفِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}
{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} هذه قراءة المدنيين أبي عمرو، وكذا التي بعدها. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي آيات (2) مخفوضة في موضع نصب، وكذا التي بعدها. واحتج الكسائي لهذه القراءة بأنه في حرف أبيّ لآيات (3) فيهن كلّهنّ باللام فاستدلّ بهذا على أنه معطوف على ما قبله.
قال الفرّاء (4): وفي قراءة عبد الله وفي اختلاف اللّيل والنّهار على أن فيها
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 45.
(2) انظر تيسير الداني 161.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 45، والبحر المحيط 8/ 43.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 45.(4/92)
«في» واختيار أبي عبيد ما اختاره الكسائي. قال أبو جعفر: أما قوله جلّ وعزّ: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ} فلا اختلاف بين النحويين فيه أنّ النصب والرفع جيدان فالنصب على العطف أي وإنّ في خلقكم. والرفع من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفا على الموضع مثل {وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا}. والوجه الثاني: الرفع بالابتداء وخبره وعطفت جملة على جملة منقطعة من الأول كما تقول: إنّ زيدا خارج وأنا أجيئك غدا. والوجه الثالث: أن تكون الجملة في موضع الحال مثل {يَغْشى ََ طََائِفَةً مِنْكُمْ وَطََائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [ال عمران: 154] فأما قوله جلّ وعزّ: {وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ} فقد اختلف النحويون فيه فقال بعضهم: النصب فيه جائز وأجاز العطف على عاملين فممن قال هذا سيبويه والأخفش والكسائي والفرّاء، وأنشد سيبويه:
[المتقارب] 416 أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقّد باللّيل نارا (1)
وردّ هذا بعضهم ولم يجز العطف على عاملين وقال: من عطف على عاملين أجاز: في الدار زيد والحجرة عمرو. وقائل هذا القول ينشد «ونارا» بالنصب. ويقول من قرأ الثالثة «آيات» فقد لحن. وممن قال هذا محمد بن يزيد. وكان أبو إسحاق يحتجّ لسيبويه في العطف على عاملين بأن من قرأ «آيات» بالرفع فقد عطف أيضا على عاملين لأنه عطف «واختلاف» على «وفي خلقكم» وعطف «آيات» على الموضع فقد صار العطف على عاملين إجماعا. والقراءة بالرفع بيّنة لا تحتاج إلى احتجاج ولا احتيال. وقد حكى الفرّاء (2) في الآية غير ما ذكرناه، وذلك أنه أجاز «واختلاف الليل والنهار» بالرفع فيه وفي «آيات» يجعل الاختلاف هو الآيات. وقد كفي المؤونة فيه بأن قال: ولم أسمع أحدا قرأ به.
[سورة الجاثية (45): آية 6]
{تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللََّهِ وَآيََاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}
{تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ} مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون آيات الله بدلا من تلك ويكون
__________
(1) الشاهد لأبي دؤاد في ديوانه ص 353، والكتاب 1/ 110، والأصمعيات 191، وأمالي ابن الحاجب 1/ 134، وخزانة الأدب 9/ 592، والدرر 5/ 39، وشرح التصريح 2/ 56، وشرح شواهد الإيضاح ص 299، وشرح شواهد المغني 2/ 700، وشرح عمدة الحافظ 500، وشرح المفصل 3/ 26، والمقاصد النحوية 3/ 445، ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه 199، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 49، والإنصاف 2/ 473، وخزانة الأدب 4/ 417، ورصف المباني ص / 348، وشرح الأشموني 2/ 325، وشرح ابن عقيل 399، وشرح المفصل 3/ 79، والمحتسب 1/ 281، ومغني اللبيب 1/ 290، والمقرب 1/ 237، وهمع الهوامع 2/ 52.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 45.(4/93)
الخبر {نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللََّهِ وَآيََاتِهِ يُؤْمِنُونَ} قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون تؤمنون بالتاء ورد أبو عبيد قولهم بأن قبله {إِنَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}، وكذا «لقوم يوقنون» و «لقوم يعقلون» فوجب على هذا عنده أن يكون {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللََّهِ وَآيََاتِهِ يُؤْمِنُونَ} وردّ عليهم أيضا بأن قبله {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ} فكيف يكون بعده «فبأيّ حديث بعد الله تؤمنون» قال أبو جعفر:
وهذا الردّ لا يلزم لأن قوله جلّ وعزّ: {تِلْكَ آيََاتُ اللََّهِ نَتْلُوهََا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} وإن كان مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه مبلّغ عن الله عزّ وجلّ كل ما أنزل إليه، فلما كان ذلك كذلك كان المعنى قل لهم «فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون»، فهذا المعنى صحيح قال الله جلّ وعزّ {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23] أي يقولون.
[سورة الجاثية (45): الآيات 7الى 10]
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيََاتِ اللََّهِ تُتْلى ََ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا فَبَشِّرْهُ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذََا عَلِمَ مِنْ آيََاتِنََا شَيْئاً اتَّخَذَهََا هُزُواً أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرََائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاََ يُغْنِي عَنْهُمْ مََا كَسَبُوا شَيْئاً وَلاََ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ (10)}
روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في النّضر بن كلدة «ويل» مرفوع بالابتداء.
وقد شرحناه فيما تقدم (1).
[سورة الجاثية (45): آية 11]
{هََذََا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذََابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}
وقرأ أهل مكة وعيسى بن عمر عذاب من رجز أليم (2) بالرفع على أنه نعت لعذاب. قال محمد بن يزيد: الرّجز أغلظ العذاب وأشده وأنشد لرؤبة: [الرجز] 417 كم رامنا من ذي عديد مبزي ... حتّى وقمنا كيده بالرّجز (3)
[سورة الجاثية (45): آية 12]
{اللََّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
{اللََّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} مبتدأ وخبره.
[سورة الجاثية (45): آية 13]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}
{جَمِيعاً} نصب على الحال وروي عن ابن عباس أنه قرأ {جَمِيعاً مِنْهُ} (4) نصب على المصدر. وأجاز أبو حاتم {جَمِيعاً مِنْهُ} (5) بفتح الميم والإضافة على المصدر
__________
(1) تقدّم في إعراب الآية 79من سورة البقرة.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 45، وفيه: (قرأ طلحة وابن محيصن وأهل مكة وابن كثير وحفص أليم بالرفع نعتا لعذاب، والحسن وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وباقي السبعة بالجر نعتا لرجز).
(3) الرجز لرؤية بن العجاج في ديوانه 64، وتهذيب اللغة 10/ 608، وتفسير الطبري 8/ 223، وبعده:
«والصّقع من قاذفة وجرز»
(4) انظر مختصر ابن خالويه 138، والبحر المحيط 8/ 45.
(5) انظر المحتسب 2/ 262.(4/94)
أيضا بمعنى منّا منّه. ويروى عن مسلمة أنه قرأ {جَمِيعاً مِنْهُ} بالرفع على إضمار مبتدأ.
[سورة الجاثية (45): الآيات 14الى 15]
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاََ يَرْجُونَ أَيََّامَ اللََّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صََالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسََاءَ فَعَلَيْهََا ثُمَّ إِلى ََ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}
{يَغْفِرُوا} في موضع جزم. قال الفرّاء (1): هذا مجزوم بالتشبيه بالجزم والشرط كأنه كقولك: قم تصب خيرا. وليس كذلك. قال أبو جعفر: يذهب إلى أنه لما وقع في جواب الأمر كان مجزوما وإن لم يكن جوابا. وهذا غير محصّل والأولى فيه ما سمعت عليّ بن سليمان يحكيه عن محمد بن يزيد عن أبي عثمان المازني قال: التقدير قل للّذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا قول محصّل لا إشكال فيه، وهو جواب كما تقول:
أكرم زيدا يكرمك. وتقديره: إن تكرمه يكرمك. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم {لِيَجْزِيَ قَوْماً} (2) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي لنجزي قوما بالنون.
وقرأ أبو جعفر القارئ {لِيَجْزِيَ قَوْماً}. قال أبو جعفر: القراءة الأولى والثانية حسنتان معناهما واحد، وإن كان أبو عبيد يختار الأولى ويحتجّ بأن قبله {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لََا يَرْجُونَ أَيََّامَ اللََّهِ} فيختار «ليجزي قوما» ليعود الضمير على اسم الله جلّ وعزّ.
وهذا لا يوجب اختيارا لأنه كلام الله جلّ وعزّ ووحيه فقوله جلّ ثناؤه لنجزي إخبارا عنه جلّ وعزّ فأما {لِيَجْزِيَ قَوْماً} فقال أبو إسحاق: هو لحن عند الخليل وسيبويه وجميع البصريين وقال الفرّاء (3): هو لحن في الظاهر، وهو عند البصريين لحن في الظاهر والباطن، وإنما أجازه الكسائي على شذوذ بمعنى: ليجزي الجزاء قوما فأضمر الجزاء ولو أظهره ما جاز فكيف وقد أضمره؟ وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز.
ضرب الضرب زيدا، حتّى أنه قال بعضهم: لا يجوز: ضرب زيدا سوطا لأن سوطا مصدر، وإنما يقام المصدر مقام الفاعل مع حروف الخفض (4) (5) إذا نعت فإذا لم يكن منعوتا لم يجز. وهذا أعجب أن يقام المصدر مقام الفاعل غير منعوت مع اسم غير مصدر، وفيه أيضا علة أخرى أنه أضمر الجزاء ولم يتقدم له ذكر على أن «يجزي» يدلّ عليه. وهذا، وإن كان يجوز فإنه مجاز فأما إنشادهم: [الوافر] 418 ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا
فلا حجة فيه، ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن تقديره: ولو ولدت قفيرة الكلاب، و «جرو كلب» منصوب على النداء.
[سورة الجاثية (45): الآيات 16الى 18]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَفَضَّلْنََاهُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ (16) وَآتَيْنََاهُمْ بَيِّنََاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاََّ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنََاكَ عَلى ََ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهََا وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوََاءَ الَّذِينَ لاََ يَعْلَمُونَ (18)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 45.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 45.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 45.
(4) انظر تيسير الداني 160، قال: (حمزة وحفص والكسائي بالنصب والباقون بالرفع).
(5) انظر معاني الفراء 3/ 47.(4/95)
{وَلَقَدْ آتَيْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} قال مالك بن دينار: سألت مجاهدا عن الحكم فقال: اللبّ. قال محمد بن يزيد: الشريعة المنهاج والقصد. ومنه شريعة النهر، وطريق شارع أي واضح بيّن. وشرائع الدّين التي شرّعها الله جلّ وعزّ لعباده ليعرفوها. وجمع شريعة شرائع، وحكي أنه يقال: شرع، وحقيقته أن شرعا جمع شرعة.
[سورة الجاثية (45): الآيات 19الى 20]
{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظََّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَاللََّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هََذََا بَصََائِرُ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
{بَعْضُهُمْ} مرفوع بالابتداء وأولياء خبره والجملة خبر «إنّ» ويجوز نصب بعضهم على البدل من الظالمين {وَاللََّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} مبتدأ وخبره، ويجوز النصب بعطفه على «إنّ» قال الكسائي: قال {هََذََا بَصََائِرُ} ولم يقل: هذه بصائر لأنه أراد القرآن والوعظ.
[سورة الجاثية (45): آية 21]
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئََاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ (21)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع بحسب. {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} أن وصلتها بمعنى المفعولين، والهاء والميم في موضع نصب مفعول أول لنجعلهم، {كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} في موضع المفعول الثاني. {سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ} مبتدأ وخبره. هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ} بنصب سواء. قال أبو عبيد: وكذلك يقرؤها نصبا بوقوع «نجعلهم» عليها. قال أبو إسحاق: وأجاز بعض النحويين {سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ} (1) وقد قرئ به. قال أبو جعفر: القراءة الأولى {سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ} هي التي اجتمعت عليها الحجّة من الصحابة والتابعين والنحويين، كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدّد عن يحيى عن عبد الملك عن قيس عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ: {سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ} قال: المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وعن أبي الدرداء قال:
يبعث النّاس على ما ماتوا عليه ونحو هذا عن تميم وحذيفة فاجتمعت الحجة على أنه لا
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 47، وتيسير الداني 161.(4/96)
يجوز القراءة إلا بالرفع، وأنّ من نصب فقد خرج من هذه التأويلات و {سَوََاءً} مرفوع بالابتداء على هذا لا وجه لنصبه لأن المعنى أنّ المؤمنين مستوون في محياهم ومماتهم، والكافرون مستوون في محياهم ومماتهم، ثم يرجع إلى النصب فهو يكون من غير هذه الجهة وذلك من جهة ذكرها الأخفش سعيد، قال: يكون المعنى: أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعل محياهم ومماتهم مستويا كمحيا المؤمنين ومماتهم. فعلى هذا الوجه يجوز النصب، وعلى هذا الوجه الاختيار عند الخليل وسيبويه رحمهما الله الرفع أيضا، ومسائل النحويين جميعا على الرفع كلهم. تقول ظننت زيدا سواء أبوه وأمّه، ويجيزون النصب ومسائلهم على الرفع. وأعجب ما في هذا إذا كانت مسائل النحويين كذا فكيف قرأ به الكسائي واختاره أبو عبيد؟ فأما القراءة بالنصب «سواء محياهم ومماتهم» ففيها وجهان. قال الفرّاء (1): المعنى في محياهم وفي مماتهم ثم حذفت «في» يذهب إلى أنه منصوب على الوقت، والوجه الآخر أن يكون «محياهم ومماتهم» بدلا من الهاء والميم التي في «نجعلهم» بمعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ومماتهم. {سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ} إن جعلت «ما» معرفة فموضعها رفع وإن جعلتها نكرة فموضعها نصب على البيان.
[سورة الجاثية (45): آية 22]
{وَخَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُونَ (22)}
لام كي لا بدّ من أن تكون متعلّقة بفعل إما مضمر وإما مظهر، وهو هاهنا مضمر أي ولتجزى كلّ نفس بما كسبت فعل ذلك.
[سورة الجاثية (45): آية 23]
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللََّهِ أَفَلاََ تَذَكَّرُونَ (23)}
{مَنِ} في موضع نصب. وللعلماء في معناها ثلاثة أقوال فمن أجلها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} قال: الكافر اتّخذ دينه بغير هدى من الله جلّ وعزّ ولا برهان. وقال الحسن: هو الذي كلما اشتهى شيئا لم يمتنع منه. وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الشيء فإذا رأى غيره أحسن منه عبده وترك الآخر. قال أبو جعفر: قول الحسن على التشبيه كما قال جلّ وعزّ {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ} [التوبة: 31] والأشبه بنسق الآية أن يكون
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 47.(4/97)
للكفار. {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} فيه ثلاثة أقوال: منها أن المعنى أضلّه عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، والقول الثاني أن المعنى على علم منه بأنّ عبادته لا تنفعه. وهذان القولان لم يقلهما متقدّم وأولى ما قيل في الآية ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} قال: في سابق علمه. قال سعيد بن جبير: {وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} أي على علم قد علمه منه {وَخَتَمَ عَلى ََ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال أبو جعفر: قد ذكرناه (1) في سورة «البقرة». {وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} (2) وفي قراءة عبد الله {وَجَعَلَ عَلى ََ بَصَرِهِ غِشََاوَةً} مروية بفتح الغين، وهي لغة ربيعة فيما يظنّ الفرّاء. وقراءة عكرمة: غشاوة بضم الغين، وهي لغة عكل. قال أبو الحسن بن كيسان: ويحذف الألف منها فيكون فيها إذا حذفت الألف ثلاث لغات: غشوة وغشوة وغشوة. وأما المعنى فمتقارب، إنما هو تمثيل أي لا يبصر الحقّ فهو بمنزلة من على بصره غشاوة إلّا أن الأكثر في كلام العرب في مثل هذا أن يكون على فعالة وذلك في كل ما كان مشتملا على الشيء نحو عمامة وكذا ولاية.
[سورة الجاثية (45): آية 24]
{وَقََالُوا مََا هِيَ إِلاََّ حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا وَمََا يُهْلِكُنََا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاََّ يَظُنُّونَ (24)}
{وَقََالُوا مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا} قد ذكرناه إلّا أن علي بن سليمان قال: المعنى ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا على قولكم، واستبعد أن يكون المعنى نحيا ونموت على التقديم والتأخير، وقال: إنما يجوز هذا فيما يعرف معناه نحو {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [ال عمران: 43]. قال أبو جعفر: وأهل العربية يخالفونه في هذا، ويجيزون في الواو التقديم والتأخير في كل موضع. قال الفرّاء (3): معنى {وَمََا يُهْلِكُنََا إِلَّا الدَّهْرُ} أي طول الدهر ومرّ الأيام والليالي والشهور والسنين وتكلّم جماعة في معنى الآية فقال بعضهم: هؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ ولو عرفوه لعلموا أنه يهلكهم ويميتهم. وقال قوم: يجوز أن يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ وعندهم أنّ هذه الآفات التي تلحقهم إنّما هي بعلل ودوران فلك، يقولون هذا بغير حجّة ولا علم. وقال قوم:
هؤلاء جماعة من العرب يعرفون الله جلّ وعزّ يدلّ على قولهم {مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} [الزمر: 3] وفيهم من يؤمن بالبعث. قال زهير: [الطويل] 419 يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم (4)
__________
(1) مرّ في إعراب الآية 7البقرة.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 49، وتيسير الداني 161، ومختصر ابن خالويه 138.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 48.
(4) الشاهد لزهير في ديوانه ص 18.(4/98)
غير أنهم كانوا جهلة لا يعلمون أن الآفات مقدّرة من الله عزّ وجلّ. وهذا أصحّ ما روي في الآية وأشبه بنسقها، وقد قامت به الحجة بالظاهر ولأنه مرويّ عن ابن عباس أنّه قال في قوله جلّ وعزّ: {وَمََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ} قال: قالوا: لا نبعث، بغير علم فقال الله جلّ وعزّ: {وَمََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ}.
[سورة الجاثية (45): الآيات 25الى 26]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ مََا كََانَ حُجَّتَهُمْ إِلاََّ أَنْ قََالُوا ائْتُوا بِآبََائِنََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (25) قُلِ اللََّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ لاََ رَيْبَ فِيهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (26)}
{مََا كََانَ حُجَّتَهُمْ} خبر كان. {إِلََّا أَنْ قََالُوا} اسمها، ويجوز «ما كان حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان لأن الحجّة والاحتجاج واحد، ويكون الخبر {إِلََّا أَنْ قََالُوا} أي إلّا مقالتهم.
{قُلِ اللََّهُ يُحْيِيكُمْ} حذفت الضمة من الياء لثقلها. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عطف عليه وكذا {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ}. {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} قيل: أي بمنزلة من لا يعلم، وقيل: عليهم أن يعلموا.
[سورة الجاثية (45): آية 27]
{وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)}
{وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي فهو قادر على أن يحييكم. {وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ} ظرف منصوب بيخسر.
[سورة الجاثية (45): آية 28]
{وَتَرى ََ كُلَّ أُمَّةٍ جََاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى ََ إِلى ََ كِتََابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}
{وَتَرى ََ كُلَّ أُمَّةٍ جََاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ} على الابتداء، وأجاز الكسائي «كلّ أمة» على التكرير على كلّ الأولى. وقد ذكرنا معنى {تُدْعى ََ إِلى ََ كِتََابِهَا} وإنّ أولى ما قيل فيه أنه إلى ما كتب عليها من خير وشر، كما روي عن ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام على بني أدم فينسخ منه ما يجزى عليه من الخير والشر ويلغى سائره. فالمعنى على هذا كلّ أمة تدعى إلى ما كتب عليها وحصّل فتلزمه من طاعة أو معصية، وإن كان كفرا أوقف عليه وأتبع ما كان يعبد، كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا جلّ وعزّ يوم القيامة فقال:
«هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا: لا. قال: «فهل تضارّون في الظّهيرة ليس دونها سحاب» قالوا: لا. قال: «فو الذي نفس محمّد بيده لترونّه كما ترونها»، قال: «ويلقى العبد ربّه يوم القيامة، فيقول: أي قل ألم أكرمك وأسودك وأزوّجك وأسخّر لك الخيل والإبل وأدرك ترأس وتربع فيقول: بل أي ربّ، قال: فيقول هل كنت تعلم أنك ملاقيّ فيقول: لا يا ربّ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يقول للثاني مثل ذلك فيقول له مثل ذلك ويردّ عليه مثل ذلك، ثم يقول للثالث مثل ذلك فيقول: أي ربّ أمنت بك
وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدّقت. قال: فيقول: أفلا تبعث شاهدنا عليك قال: فيكفر في نفسه فيقول: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم الله جلّ وعزّ على فيه ويقول لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وعظامه ولحمه بما كان، وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط عليه وذلك المنافق. قال: ثم ينادي مناد ألا اتّبعت كلّ أمّة ما كانت تعبد فيتبع الشياطين والصّلب أولياؤهما، وبقينا أيّها المؤمنون. قال: فيأتينا ربّنا جلّ وعزّ فيقول: من هؤلاء؟ فيقولون:(4/99)
«هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا: لا. قال: «فهل تضارّون في الظّهيرة ليس دونها سحاب» قالوا: لا. قال: «فو الذي نفس محمّد بيده لترونّه كما ترونها»، قال: «ويلقى العبد ربّه يوم القيامة، فيقول: أي قل ألم أكرمك وأسودك وأزوّجك وأسخّر لك الخيل والإبل وأدرك ترأس وتربع فيقول: بل أي ربّ، قال: فيقول هل كنت تعلم أنك ملاقيّ فيقول: لا يا ربّ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يقول للثاني مثل ذلك فيقول له مثل ذلك ويردّ عليه مثل ذلك، ثم يقول للثالث مثل ذلك فيقول: أي ربّ أمنت بك
وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدّقت. قال: فيقول: أفلا تبعث شاهدنا عليك قال: فيكفر في نفسه فيقول: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم الله جلّ وعزّ على فيه ويقول لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وعظامه ولحمه بما كان، وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط عليه وذلك المنافق. قال: ثم ينادي مناد ألا اتّبعت كلّ أمّة ما كانت تعبد فيتبع الشياطين والصّلب أولياؤهما، وبقينا أيّها المؤمنون. قال: فيأتينا ربّنا جلّ وعزّ فيقول: من هؤلاء؟ فيقولون:
عبادك المؤمنون آمنّا بك ولم نشرك بك شيئا، وهذا مقامنا حتّى يأتينا ربنا جلّ وعزّ فيثيبنا.
قال: فينطلقون حتّى يأتوا الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف الناس فهناك حلّت الشفاعة أي اللهمّ سلّم فإذا جاوزوا الجسر فكلّ من أنفق زوجا مما يملك من المال في سبيل الله فكلّ خزنة الجنّة تدعوه يا عبد الله يا مسلم. هذا خير، فتعال. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ هذا العبد لا ترى عليه يدع بابا ويلج من أخر قال: فضرب كتفه وقال: «والذي نفسي بيده إنّي لأرجو أن تكون منهم» (1) وقرئ على أحمد بن شعيب بن عيسى بن حماد قال: أخبرنا الليث بن سعد عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال:
«قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا جلّ وعزّ يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تضارّون في الشّمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا. قال:
فكذلك ترونه» قال: يجمع الله جلّ وعزّ النّاس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتّبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس، ويتبع من يعبد القمر القمر، ويتبع من يعبد الطّواغيت الطّواغيت وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم الله جلّ وعزّ في الصور التي يعرفون فيقول: أنا ربّكم فيقولون: أنت ربّنا فيتّبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنّم فأكون أنا وأمّتي أول من يجيز ولا يتكلّم إلّا الرسل عليهم السلام. ودعوة الرسل يومئذ اللهمّ سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب كشوك السّعدان هل رأيتم السعدان؟ فإنه مثل شوك السعدان غير أنه لا يدري ما قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ، فيخطف الناس بأعمالهم، فإذا أراد الله جلّ وعزّ أن يخرج من النار برحمته من شاء أمر الملائكة أن يخرجوا من كان لا يشرك بالله شيئا. فمن يقول لا إله إلّا الله ممن أراد أن يرحمه فيعرفونهم في النار بآثار السجود حرّم الله عزّ وجلّ النار على ابن أدم أن تأكل اثار السجود، فيخرجونهم من النار، وقد امتحشوا فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل» قال أبو جعفر: فأمّا تفسير «تضارّون» فنمليه مما أخذناه عن أبي إسحاق بشرح كل فيه مما لا يحتاج إلى زيادة. قال: والذي جاء في الحديث مخفّف «تضارون وتضامون» وله وجه حسن في العربية. وهذا موضع يحتاج أن يستقصى تفسيره فإنه أصل في السّنّة والجماعة. ومعناه لا ينالكم ضير ولا ضيم في رؤيته أي ترونه حتّى تستووا في الرؤية فلا يضير بعضكم بعضا. قال: وقال أهل اللغة قولين
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 275، 293، 534، وذكره ابن حجر في فتح الباري 11/ 445.(4/100)
آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء. قال: وقال بعضهم بفتح التاء وبتشديد الراء والميم على معنى تتضارّون وتتضامّون. وتفسير هذا أنّه لا يضارّ بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال: ضاررت الرجل أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته، لا ينضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرينه، كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.
[سورة الجاثية (45): آية 29]
{هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنََّا كُنََّا نَسْتَنْسِخُ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)}
{هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} «ينطق» في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذا و «كتابنا» بدل من هذا.
[سورة الجاثية (45): آية 30]
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء وخبره {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}.
[سورة الجاثية (45): آية 31]
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيََاتِي تُتْلى ََ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)}
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} {الَّذِينَ} في موضع رفع أيضا، وحذف القول كما يحذف في كلام العرب كثيرا، فلما حذف حذفت الفاء معه لأنها تابعة له {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} الاستكبار في اللغة الأنفة من اتّباع الحقّ وقد بيّن الله جلّ وعزّ على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم حين سئل ما الكبر؟ كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن هشام عن محمد عن أبي هريرة «أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا جميلا فقال: يا رسول الله حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتّى ما أحبّ أن يفوقني أحد. إما قال: بشراك نعل وإمّا قال:
بشسع أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا ولكن الكبر من بطر الحقّ وغمص الناس» (1) قال إسحاق:
وحدّثنا الوليد بن شجاع قال: حدّثنا عطاء بن مسلم الخفّاف عن محمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون أحسبه قال في صور الذرّ»؟ (2) قال إسحاق: وحدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا إسماعيل يعني ابن عليّة عن عطاء بن السائب عن الأغرّ عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال جلّ وعزّ: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم» (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم 4092، وذكره الحاكم في المستدرك 4/ 181، 182.
(2) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 309، و 10/ 453، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5112، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 551.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 376، وذكره الحاكم في المستدرك 1/ 61، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 8/ 336، والبخاري في الأدب المفرد 253، والألباني في السلسلة الصحيحة 450، وأبو حنيفة في جامع المسانيد 1/ 88، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 151.(4/101)
[سورة الجاثية (45): آية 32]
{وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لاََ رَيْبَ فِيهََا قُلْتُمْ مََا نَدْرِي مَا السََّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاََّ ظَنًّا وَمََا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)}
{وَإِذََا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا} وقرأ الأعمش وحمزة {السََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا} (1) عطفا بمعنى وأنّ الساعة لا ريب فيها. والرفع بالابتداء، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع أي وقيل {السََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا}، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال. وزعم أبو عبيد أنه يلزم من قرأ بالرفع هاهنا أن يقرأ {وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وفي هذا طعن على جماع الحجّة لأنه قد قرأها هنا بالرفع وثم بالنصب من يقوم بقراءتهم الحجّة منهم نافع وعاصم قرا {وَالسََّاعَةُ لََا رَيْبَ فِيهََا} وقرا «والعين بالعين» بالنصب، وكذا ما بعده. وفيه أيضا طعن على عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء وأبي جعفر القارئ وعبد الله بن عامر لأنهم قرءوا «والساعة لا ريب فيها» وقرءوا {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} بالنصب، وكذا ما بعده إلّا «والجروح قصاص» والحديث المرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «والعين بالعين» لا يجوز أن يكون في موضع الحال. وقد ذكر أبو عبيد أنّ مثله {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان: 27] وهو مخالف له لأنّ والبحر أولى الأشياء به عند النحويين أن يكون في موضع الحال وأبعد الأشياء في «الساعة لا ريب فيها» أن يكون في موضع الحال. {قُلْتُمْ مََا نَدْرِي مَا السََّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلََّا ظَنًّا} وهذا من مشكل الإعراب وغامضه لأنه لا يقال: ما ضربت إلّا ضربا، وما ظننت إلّا ظنّا، لأنه لا فائدة فيه أن يقع بعد حرف الإيجاب لأنّ معنى المصدر كمعنى الفعل. فالجواب عن الآية عن محمد بن يزيد على معنيين: أحدهما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي إن نحن إلّا نظنّ ظنّا، وزعم أنّ نظيره من كلام العرب حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه (2): ليس الطّيب إلّا المسك أي ليس إلّا الطّيب المسك، والجواب الآخر أن يكون التقدير: إن نظنّ إلّا أنّكم تظنّون ظنّا.
[سورة الجاثية (45): الآيات 33الى 35]
{وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا عَمِلُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسََاكُمْ كَمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا وَمَأْوََاكُمُ النََّارُ وَمََا لَكُمْ مِنْ نََاصِرِينَ (34) ذََلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا فَالْيَوْمَ لاََ يُخْرَجُونَ مِنْهََا وَلاََ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)}
قال أبو العباس {وَحََاقَ بِهِمْ} نزل بهم.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الْيَوْمَ نَنْسََاكُمْ} قال: نترككم {كَمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} يكون من النسيان أي تشاغلتم عن يوم القيامة بلذاتكم وأمور دنياكم فوبّخهم
__________
(1) انظر تيسير الداني 161، وكتاب السبعة لابن مجاهد 595.
(2) انظر الكتاب 1/ 201.(4/102)
الله عزّ وجلّ على ذلك. ويجوز أن يكون المعنى كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا.
وحقيقته في العربية كما تركتم عمل لقاء يومكم مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
[سورة الجاثية (45): آية 36]
{فَلِلََّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمََاوََاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (36)}
على البدل، ويجوز أن يكون نعتا.
[سورة الجاثية (45): آية 37]
{وَلَهُ الْكِبْرِيََاءُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}
{وَلَهُ الْكِبْرِيََاءُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} قال محمد بن يزيد: الكبرياء الجلال والعظمة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مبتدأ وخبر.(4/103)
46 - شرح إعراب سورة الأحقاف
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الأحقاف (46): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتََابِ مِنَ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلاََّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمََّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء ومن العرب من يقول: اللّذون في غير القرآن إذا كان موضع رفع.
[سورة الأحقاف (46): آية 4]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَرُونِي مََا ذََا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمََاوََاتِ ائْتُونِي بِكِتََابٍ مِنْ قَبْلِ هََذََا أَوْ أَثََارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (4)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} قال الفراء (1): وفي قراءة عبد الله قل أريتم من تدعون من دون الله يعني بالنون، «أريتم» لغة معروفة للعرب كثيرة، وأرأيتم الأصل، ولغة ثالثة أن يخفف الهمزة التي بعد الراء فتجعل بين بين. ومن قرأ «ما تدعون» جاء به على بابه لأنه للأصنام. ومن قرأ من فلأنهم قد عبدوها فأنزلوها منزلة ما يعقل.
وعلى هذا أجمعت القراء على أن قرءوا {خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ} ولم يقرءوا خلقن ولا خلقت ولا لهنّ ولا لها. {ائْتُونِي بِكِتََابٍ مِنْ قَبْلِ هََذََا أَوْ أَثََارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ أو أثرة (2) وحكى الفراء (3) لغة ثالثة وهي (أثرة) بفتح الهمزة وحكى الكسائي لغة رابعة وهي «أو أثرة» بضم الهمزة والمعنى في اللغات الثلاث عند الفراء واحد، والمعنى عند بقيّة من علم. ويجوز أن يكون المعنى عنده شيئا مأثورا من كتب الأولين. فأثارة عنده مصدر كالسّماحة والشّجاعة، وأثرة عنده بمعنى أثر كقولهم: قترة وقتر، وأثرة كخطفة. فأما الكسائي فإنه قال: أثارة وأثرة وأثرة كلّ ذلك تقول العرب،
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 49.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 56، والمحتسب 2/ 264.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 50.(4/104)
والمعنى فيهن كلّهن عنده معنى واحد. بمعنى الشيء المأثور. قال أبو جعفر: ومعنى الشيء المأثور المتحدّث به. ومما صحّ سنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع عمر وهو يقول: وأبي، فقال:
«إنّ الله جلّ وعزّ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله جلّ وعزّ أو ليسكت» (1) قال عمر: فما حلفت بها بعد ذاكرا ولا أثرا. وفي بعض الحديث «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك» (2) وفي أخر «فقد كفر» فقوله «ذاكرا» معناه متكلّما بها، وقائلا بها، كما يقال: ذكرت لفلان كذا ومعنى «ولا أثرا» ولا مخبرا بها عن غيري أنه حلف بها. ومن هذا حديث مأثور، يقال: أثر الحديث يأثره، وأثر يفعل ذلك واثر فلان فلانا، إذا فضّله، وأثار التراب يثيره، ووثر الشيء ويؤثر إذا صار وطيئا ومنه قيل: ميثرة انقلبت الواو فيها ياء.
وفي معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك». أقوال:
أصحّها أنّ المعنى فقد أشرك في تعظيم الله جلّ وعزّ غير الله لأنه إنما يحلف الإنسان بما يعظّمه أكبر العظمة، وهذا لا ينبغي أن يكون إلّا لله جلّ وعزّ. وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فقد كفر» أقوال: فمن أصحّها أنّ الكفر هو التغطية. والمعنى: فقد غطّى وستر ما يجب أن يظهر من تعظيم الله جلّ وعزّ.
[سورة الأحقاف (46): آية 5]
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ مَنْ لاََ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعََائِهِمْ غََافِلُونَ (5)}
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ} أي ومن أضلّ عن الحقّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. قال الفراء (3): وفي قراءة عبد الله ما لا يستجيب له والقول فيه مثل ما تقدّم.
[سورة الأحقاف (46): آية 6]
{وَإِذََا حُشِرَ النََّاسُ كََانُوا لَهُمْ أَعْدََاءً وَكََانُوا بِعِبََادَتِهِمْ كََافِرِينَ (6)}
{وَإِذََا حُشِرَ النََّاسُ كََانُوا لَهُمْ أَعْدََاءً} أي يتبرؤون منهم ومن عبادتهم.
[سورة الأحقاف (46): آية 7]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ} نصب على الحال.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 33، 164، ومسلم في صحيحه الإيمان 1، 3، والترمذي في سننه (1534)، والنسائي في سننه 7، 4، 5، وأبو داود في سننه (3249)، وابن ماجة في سننه (2094)، وأحمد في مسنده 1/ 18، و 2/ 7، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 28.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 67، 87، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار 358، والتبريزي في مشكاة المصابيح 3419، وابن حجر في فتح الباري 10/ 516، والمتقي الهندي في كنز العمال (46328)، وابن كثير في تفسيره 4/ 342.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 50.(4/105)
[سورة الأحقاف (46): آية 8]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاََ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللََّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمََا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى ََ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)}
{هُوَ أَعْلَمُ بِمََا تُفِيضُونَ فِيهِ} قال محمد بن يزيد: أي بما تمضون فيه قال: ومنه حديث مستفيض ومستفاض فيه إذا شاع حتّى يتكلم النّاس فيه {كَفى ََ بِهِ شَهِيداً} نصب على الحال، ويجوز أن يكون نصبا على البيان والباء زائدة جيء بها للتوكيد لأن المعنى: اكتفوا به، قال: فإذا قلت: كفى بزيد، فمعناه كفى زيد.
[سورة الأحقاف (46): آية 9]
{قُلْ مََا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمََا أَدْرِي مََا يُفْعَلُ بِي وَلاََ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاََّ مََا يُوحى ََ إِلَيَّ وَمََا أَنَا إِلاََّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
{قُلْ مََا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} قال محمد بن يزيد: البدع والبديع الأول. يقال: ابتدع فلان كذا، إذا أتى بما لم يكن قبله، وفلان مبتدع من البدعة وهي التي لم يتقدّم لها شبه، وقال عزّ وجلّ {بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي مبتدئهما. {وَمََا أَدْرِي مََا يُفْعَلُ بِي وَلََا بِكُمْ} حذفت الضمّة من الياء لثقلها، وكذا وإن أدري.
[سورة الأحقاف (46): آية 10]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (10)}
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ} قيل: شاهد بمعنى شهود تشهد جماعة من بني إسرائيل ممن أسلم على أنهم قد قرءوا التوراة. وفيها تعريف نزول القرآن من عند الله جلّ وعزّ ومن أجّل ما روي في ذلك ما رواه مالك بن أنس عن أبي النّضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ففيه نزلت {وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال أبو جعفر: ومع هذا فقد عارض هذا الحديث علماء جلّة منهم مسروق والشّعبي فقالا: لم تنزل في عبد الله بن سلام لأن السورة مكّية وعبد الله بن سلام بالمدينة، وإنما نزلت في غيره. والحديث صحيح السند وقد احتجّ على من أنكر ذلك بأن السورة وإن كانت مكّية فإنه قد يجوز أن يضمّ إليها بعض ما أنزل بالمدينة لأن التأليف من عند الله جلّ وعزّ يأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أحبّ وأراد. فهذا قول بيّن، وقد قيل: إنّ قريشا وجّهت من مكّة إلى المدينة لأنه كان بها علماء اليهود يسألون عن أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فشهد عبد الله بن سلام بنبوته صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله جلّ وعزّ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ} الآية ومع هذا كلّه فإنّ الحديث، وإن كان صحيح السند فقد قيل: إنّ الذي في الحديث من قوله وفيه نزلت ليس من كلام سعد وإنما هو من كلام بعض المحدّثين خلط بالحديث ولم يفصل.(4/106)
[سورة الأحقاف (46): آية 11]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كََانَ خَيْراً مََا سَبَقُونََا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هََذََا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)}
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كََانَ خَيْراً مََا سَبَقُونََا إِلَيْهِ} روى ابن المبارك عن معمر عن قتادة قال: قال قوم من المشركين: نحن ونحن يفتخرون لو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عمّارا وبلالا وصهيبا وضروبهم فأنزل الله جلّ وعزّ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ} [البقرة: 105]. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} زعم سيبويه (1) أن «إذ» لا يجازى بها حتّى يضمّ إليها «ما»، وكذا «حيث». قال أبو جعفر: والعلّة في ذلك أن «ما» يفصلها من الفعل الذي بعدها فتعمل فيه، وإذا لم تأت بما كان متّصلا بها وهي مضافة إليه فلم تعمل فيه {فَسَيَقُولُونَ هََذََا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي تقدّم مثله في سالف الدهور.
[سورة الأحقاف (46): آية 12]
{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ إِمََاماً وَرَحْمَةً وَهََذََا كِتََابٌ مُصَدِّقٌ لِسََاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى ََ لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
{إِمََاماً} منصوب على الحال أي يؤتمّ به {وَرَحْمَةً} عطف على إمام أي ونعمة.
{وَهََذََا كِتََابٌ مُصَدِّقٌ لِسََاناً عَرَبِيًّا} منصوب على الحال والضعيف في العربية يتوهّم أنه حال من نكرة لأن الذي قبله نكرة والحال من النكرة ليس بجيد ولا يقال في كتاب الله جلّ وعزّ ما غيره أجود منه فلسانا منصوب على الحال من المضمر الذي في مصدّق، والمضمر معرفة وجاز نصب لسان على الحال لأنه بمعنى مبين وكان علي بن سليمان يقول: في هذا هو توطئة للحال و «عربيا» منصوب على الحال، كما تقول: هذا زيد رجلا صالحا لتنذر الّذين ظلموا بالتاء، هذه قراءة المدنيين، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (2) واختيار أبي عبيد لتنذر (3) بالتاء، واحتج بقوله جلّ وعزّ: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]. قال أبو جعفر: والمعنى في القراءتين واحد، ولا اختيار فيهما من قرأ «لينذر» جعله للقرآن أو لله جلّ وعزّ، وإذا كان للقرآن فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المنذر به وكذا إذا كان لله جلّ وعزّ فإذا عرف المعنى لم يقع في ذلك اختيار كما قال جلّ وعزّ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مََا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:
38] فقد علم أن الغافر هو الله جلّ وعزّ والقراءة نغفر ويغفر واحد، وكذا {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ} [البقرة: 58] و «يغفر» واحد ليس أحدهما أولى من الآخر. {وَبُشْرى ََ} في موضع رفع عطفا على «كتاب»، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المصدر {لِلْمُحْسِنِينَ} قال ابن عيينة: الإحسان التفضّل والعدل والإنصاف.
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 64.
(2) انظر تيسير الداني 161.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 596.(4/107)
[سورة الأحقاف (46): الآيات 13الى 14]
{إِنَّ الَّذِينَ قََالُوا رَبُّنَا اللََّهُ ثُمَّ اسْتَقََامُوا فَلاََ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاََ هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ خََالِدِينَ فِيهََا جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
{إِنَّ الَّذِينَ قََالُوا رَبُّنَا اللََّهُ ثُمَّ اسْتَقََامُوا} أي على طاعة الله جلّ وعزّ ثم أخبر جلّ ثناؤه بما لهم فقال: {فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي في الآخرة. {وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما خلفوا في الدنيا. كذا قال أهل التفسير، وبعده خبر أخر وهو {أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ خََالِدِينَ فِيهََا} نصب على الحال. {جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} مصدر.
[سورة الأحقاف (46): آية 15]
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ إِحْسََاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلاََثُونَ شَهْراً حَتََّى إِذََا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قََالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ إِحْسََاناً} هذه قراءة (1) المدنيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ حمزة والكسائي {إِحْسََاناً} (2) وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ حسنا بفتح الحاء والسين فأما «حسنى» بغير تنوين فلا يجوز في العربية لأن مثل هذا لا تنطق به العرب إلّا بالألف واللام الفضلى والأفضل والحسنى والأحسن. وإحسان مصدر أحسن وحسنا بمعناه، وحسن على إقامة النعت مقام المنعوت أي فعلا حسنا وينشد بيت زهير: [البسيط] 420 يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا (3)
أي فعلا حسنا. وهذا مثل هذه القراءة. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} هذه قراءة حمزة والكسائي (4)، وهي مروية عن الحسن، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ونافع كرها (5) بفتح الكاف. وعارض أبو حاتم السجستاني هذه القراءة بما لو صحّ لوجب اجتنابها لأنه زعم أنّ الكره الغضب والقهر، وأنّ الكره المكروه، واحتجّ بأنّ الجميع قرءوا {لََا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسََاءَ كَرْهاً} [النساء: 19]، وذكر أنّ بعض العلماء سمع رجلا يقرأ «حملته أمه كرها ووضعته كرها» فقال: لو حملته كرها لرمت به يذهب إلى أنّ الكره القهر والغضب. قال أبو جعفر: في هذا طعن على من تثبت الحجّة بقراءته، وحكايته عن بعض العلماء لا حجّة فيها لأنه لم يسمه ولا
__________
(1) انظر تيسير الداني 161.
(2) انظر تيسير الداني 161.
(3) مرّ الشاهد رقم (316).
(4) انظر تيسير الداني 161، وكتاب السبعة لابن مجاهد 596.
(5) انظر البحر المحيط 8/ 60.(4/108)
يعرف، ولو عرف لما كان قوله حجّة، إلّا بدليل وبرهان. والحجّة في هذا قول من يعرف ويقتدى به. إن الكره والكره لغتان بمعنى واحد بل قد روي عن محمد بن يزيد أنه قال: الكره أولى لأنه المصدر بعينه. وقد حكى الخليل وسيبويه رحمهما الله أنّ كلّ فعل ثلاثي فمصدره فعل، واستدلّا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحا نحو قام قومة، وذهب ذهبة، فإذا قلت: ذهب ذهابا فإنما هو عندهما اسم للمصدر لا مصدر، وكذلك الكره اسم للمصدر والكره المصدر. {وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً} التقدير: وقت حمله مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقرأ أبو رجاء وعاصم الجحدريّ {وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ} (1) فرويت عن الحسن بن أبي الحسن واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بالحديث «لا رضاع بعد فصال» (2) وأبين من هذه الحجّة أنّ فصالا مصدر مثل قتال. وهذا الفعل من اثنين لأن المرأة والصّبيّ كل واحد منهما ينفصل من صاحبه فهذا مثل القتال، وإن كان قد يقال: فصله فصلا وفصالا. {حَتََّى إِذََا بَلَغَ أَشُدَّهُ} جمع شدّة عند سيبويه مثل نعمة. وقد ذكرناه (3) بأكثر من هذا.
{إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات.
[سورة الأحقاف (46): آية 16]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مََا عَمِلُوا وَنَتَجََاوَزُ عَنْ سَيِّئََاتِهِمْ فِي أَصْحََابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كََانُوا يُوعَدُونَ (16)}
أولئك الّذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {أُولََئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ} بالنون وكذا «نتجاوز» بالنون أنها أخبار من الله جلّ وعزّ عن نفسه وإنما اختار هذه القراءة لقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} وقرأ الباقون يتقبّل بالياء، وكذا يتجاوز على ما لم يسمّ فاعله و {أَحْسَنَ مََا عَمِلُوا} ومن قرأ بالنون نصب أحسن لأنه مفعول به. {وَعْدَ الصِّدْقِ} منصوب على المصدر.
[سورة الأحقاف (46): آية 17]
{وَالَّذِي قََالَ لِوََالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمََا أَتَعِدََانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمََا يَسْتَغِيثََانِ اللََّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مََا هََذََا إِلاََّ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)}
{وَالَّذِي قََالَ لِوََالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمََا} قال الفراء (4): أي قذرا لكما. وقد ذكرنا (5) ما في
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 61.
(2) ذكره البيهقي في السنن الكبرى 7/ 319، والطبراني في المعجم الصغير 2/ 68، والزيلعي في نصب الرآية 3/ 219، وابن حجر في المطالب العالية (1707)، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 228.
(3) ذكره في إعراب الآية 32سورة يوسف.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 53.
(5) انظر إعراب الآية 23الإسراء.(4/109)
أفّ من اللغات. {أَتَعِدََانِنِي} وذكر بعض الرواة أنّ نافع بن أبي نعيم قرأ {أَتَعِدََانِنِي} (1)
بفتح النون الأولى، وذلك غلط غير معروف عن نافع وإنّما فتح نافع الياء فغلط عليه.
وفتح هذه النون لحن ولا يلتفت إلى ما أنشد وهو: [الرجز].
421 - أعرف منها الأنف والعينانا (2)
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: إن كان مثل هذا يجوز فليس بين الحق والباطل فرق. يتركون كتاب الله جلّ وعزّ ولغات العرب الفصيحة ويستشهدون بأعرابي بوال. {أَنْ أُخْرَجَ} وقرأ الحسن أن أخرج (3) وتقديره أن أخرج من قبري. {وَهُمََا يَسْتَغِيثََانِ اللََّهَ} أي يسألانه ويطلبان إليه أن يلطف لهما بما يؤمن به.
{وَيْلَكَ آمِنْ} يدلّك على أنهما احتجّا عليه ووعظاه، ونصب ويلك على المصدر.
وتوهّم القائل لهذا القول أن الأمم لمّا لم تخرج من قبورها أحياء في الدنيا أنّها لا تبعث فذلك قوله: {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}.
[سورة الأحقاف (46): آية 20]
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النََّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبََاتِكُمْ فِي حَيََاتِكُمُ الدُّنْيََا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهََا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ بِمََا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
{أَذْهَبْتُمْ} هذه القراءة مروية عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي. وقرأ يزيد بن القعقاع أذهبتم (4) وهذه القراءة مروية عن الحسن والقراءتان عند الفراء (5) بمعنى واحد.
قال الفراء: العرب تستفهم في التوبيخ ولا نستفهم، فيقولون: ذهبت ففعلت وفعلت، ويقولون: أذهبت ففعلت وفعلت، وكلّ صواب. قال أبو جعفر: فأما ما روي عن محمد بن يزيد فتحقيق هذا، وهو أن الصواب عنده ترك الاستفهام فيقرأ «أذهبتم» وفيه معنى التوبيخ، وإن كان خبرا. والمعنى عنده: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا فذوقوا العذاب. والاستفهام إذا قرأ «أذهبتم» فهو على التوبيخ والتقرير، وإنما اختار أذهبتم
__________
(1) انظر تيسير الداني 162.
(2) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه 187، ولرؤبة أو لرجل من ضبة في الدرر 1/ 139، والمقاصد النحوية 1/ 184، ولرجل في نوادر أبي زيد ص 15، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 64، وتخليص الشواهد 80، وخزانة الأدب 7/ 452، ورصف المباني ص 24، وسرّ صناعة الإعراب ص 489، وشرح الأشموني 1/ 39، وشرح التصريح 1/ 78، وشرح ابن عقيل ص 42، وشرح المفصل 3/ 129، وهمع الهوامع 1/ 49، وبعده:
«ومنخرين أشبها ظبيانا»
(3) وهذه قراءة ابن يعمر وابن مصرف والضحاك أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 62.
(4) انظر تيسير الداني 162.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 54.(4/110)
بغير استفهام لأن الاستفهام إذا كان فيه معنى التقرير صار نفيا إذا كان موجبا، كما قال جلّ وعزّ: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} [الواقعة: 58، 59] وإن كان نفيا صار موجبا لأن نفي النفي إيجاب كما قال: [الوافر].
422 - ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح (1)
إلا أنّه من قرأ «أذهبتم» فليس يحمل معناه عنده على هذا، ولكنّ تقديره: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا وتطلبون النّجاة في الآخرة. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذََابَ الْهُونِ} العامل في اليوم تجزون ينوى به التأخير. {بِمََا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمََا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} أي استكباركم وفسقكم وإذا كانت «ما» هكذا مصدرا لم تحتج إلى عائد.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 21الى 24]
{وَاذْكُرْ أَخََا عََادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقََافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاََّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللََّهَ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قََالُوا أَجِئْتَنََا لِتَأْفِكَنََا عَنْ آلِهَتِنََا فَأْتِنََا بِمََا تَعِدُنََا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (22) قََالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللََّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مََا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلََكِنِّي أَرََاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمََّا رَأَوْهُ عََارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قََالُوا هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهََا عَذََابٌ أَلِيمٌ (24)}
{وَاذْكُرْ أَخََا عََادٍ} صرف عاد لأنه اسم للحيّ ولو جعل اسما للقبيلة لم ينصرف وإن كان على ثلاثة أحرف، وكذا لو سمّيت امرأة بزيد لم ينصرف وإن سمّيتها بهند جاز الصرف عند الخليل وسيبويه (2) والكسائي والفراء إلّا أنّ الاختيار عند الخليل وسيبويه ترك الصرف، وعند الكسائي والفراء الأجود الصّرف. فأما أبو إسحاق فكان يقول: إذا سمّيت امرأة بهند لم يجز الصّرف البتّة. وهذا هو القياس لأنها مؤنّثة وهي معرفة.
فأما قول بعض النحويين: إنّك إذا سمّيت بفعل ماض لم ينصرف فقد ردّه عليه سيبويه بالسّماع من العرب خلاف ما قال، وأنّ له نصيرا من الأسماء، وكذا يقال: كتبت أبا جاد بالصرف لا غير {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقََافِ} قال مجاهد: الأحقاف أرض. وقال ابن أبين نعيم: الأحقاف: اسم أرض. وقال وهب بن منبّه: الأحقاف باليمن الأصنام والأوثان وقد قهروا الناس بكثرتهم وقوتهم. وقال محمد بن يزيد: واحد الأحقاف حقف وهو رمل مكتنز ليس بالعظيم وفيه اعوجاج، قال: ويقال: احقوقف الشيء إذا اعوجّ حتّى كاد يلتقي طرفاه، كما قال: [الرجز] 423 سماوة الهلال حتّى احقوقفا (3)
وانصرف الأحقاف وإن كان اسم أرض لأن فيه ألفا ولاما. قال سيبويه: واعلم أن كلّ ما لا ينصرف إذا دخلته ألف ولام أو أضيف انصرف. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} جمع نذير، وهو الرسول. ويجوز أن تكون النذر اسما للمصدر. قال الفراء: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 162.
(2) انظر الكتاب 3/ 265.
(3) الشاهد للعجاج في ديوانه 2/ 232، وشرح أبيات سيبويه 1/ 319، ولسان العرب (حقف) و (زلف) و (وجف)، و (سما) بلا نسبة في الكتاب 1/ 425، وجمهرة اللغة 553.(4/111)
من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} من بعده {أَلََّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللََّهَ} «أن» في موضع نصب أي بأن {إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} نعت لليوم ولو كان نعتا لعذاب لنصب. ولا يجوز الجوار في كتاب الله تعالى وإنما يقع في الغلط.
[سورة الأحقاف (46): آية 24]
{فَلَمََّا رَأَوْهُ عََارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قََالُوا هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهََا عَذََابٌ أَلِيمٌ (24)}
قال محمد بن يزيد: {فَلَمََّا رَأَوْهُ عََارِضاً} فيه جوابان: يكون التقدير فلمّا رأوا السحاب، وإن كان لم يتقدّم للسّحاب ذكر لأنّ الضمير قد عرف ودل عليه «عارضا»، والجواب الآخر أن يكون جوابا لقولهم {فَأْتِنََا بِمََا تَعِدُنََا} أي فلمّا رأوا ما يوعدون عارضا {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} يقدّر فيه التنوين، وكذا {قََالُوا هََذََا عََارِضٌ مُمْطِرُنََا} أو ممطر لنا، كما قال: [البسيط] 424 يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم (1)
أي غابط لنا. {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} قال الفراء (2): وفي حرف عبد الله: قل بل ما استعجلتم به هي ريح فيها عذاب أليم. قال: وهي وهو مثل {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ََ}
[القيامة: 37] ويمنى. من قال: هو، ذهب إلى العذاب، ومن قال هي، ذهب إلى الريح.
[سورة الأحقاف (46): آية 25]
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهََا فَأَصْبَحُوا لاََ يُرى ََ إِلاََّ مَسََاكِنُهُمْ كَذََلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}
فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو والكسائي (3)، وهي المعروفة من قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس.
وقرأ الأعمش وحمزة وعاصم {فَأَصْبَحُوا لََا يُرى ََ إِلََّا مَسََاكِنُهُمْ} وهي المعروفة من قراءة ابن مسعود ومجاهد، وقرأ الحسن وعاصم الجحدريّ فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم (4) بالتاء ورفع المساكن على اسم ما لم يسمّ فاعله. وهذه القراءة عند الفراء
__________
(1) الشاهد لجرير في ديوانه 163، والكتاب 1/ 492، والدرر 5/ 9، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 457، وشرح التصريح 2/ 28، وشرح شواهد المغني 2/ 712، ولسان العرب (عرض)، ومغني اللبيب 1/ 511، والمقاصد النحوية 3/ 364، والمقتضب 4/ 150، وهمع الهوامع 3/ 47، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 305، والمقتضب 3/ 227. وعجزه:
«لاقى مباعدة منكم وحرمانا»
(2) انظر معاني الفراء 3/ 55.
(3) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 598.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 65.(4/112)
بعيدة لأنّ فعل المؤنّث إذا تقدّم وكان بعده إيجاب ذكّرته العرب فيما زعم، وحكى:
لم يقم إلّا هند لأن المعنى عنده: لم يقم أحد إلّا هند.
[سورة الأحقاف (46): آية 26]
{وَلَقَدْ مَكَّنََّاهُمْ فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنََا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصََاراً وَأَفْئِدَةً فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاََ أَبْصََارُهُمْ وَلاََ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كََانُوا يَجْحَدُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)}
{وَلَقَدْ مَكَّنََّاهُمْ فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ} قال محمد بن يزيد: «ما» بمعنى الذي و «إن» بمعنى «ما» أي ولقد مكّنّاهم في الذي مكّنّاكم فيه. {وَجَعَلْنََا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصََاراً وَأَفْئِدَةً} فجاء السمع مفردا وما بعده مجموعا ففيه غير جواب منها أنّه مصدر فلم يجمع لذلك، ومنها أن يكون فيه محذوف أي وجعلنا لهم ذوات سمع، ومنها أن يكون واحدا يدلّ على جمع {فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلََا أَبْصََارُهُمْ وَلََا أَفْئِدَتُهُمْ} تكون «ما» نعتا لا موضع لها من الإعراب، وإن جعلتها استفهاما كان موضعها نصبا. قال الفراء (1): {وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي عاد، قال: وأهل التفسير يقولون: أحاط ونزل.
[سورة الأحقاف (46): آية 27]
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنََا مََا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ََ وَصَرَّفْنَا الْآيََاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنََا مََا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ََ} هذه لام توكيد. و «قد» عند الخليل وسيبويه بمعنى التوقّع مع الماضي فإذا كانت مع المستقبل أدّت معنى التقليل، تقول: قد يقوم أي يقلّ ذلك منه.
{فَلَوْلََا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ قُرْبََاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذََلِكَ إِفْكُهُمْ وَمََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} (28) {فَلَوْلََا نَصَرَهُمُ} لولا وهلّا واحد، كما قال: [الطويل] 425 بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا (2)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 56.
(2) الشاهد لجرير في ديوانه 907، وتخليص الشواهد ص 431، وجواهر الأدب ص 394، وخزانة الأدب 3/ 55، والخصائص 2/ 45، والدرر 2/ 240، وشرح شواهد الإيضاح 72، وشرح شواهد المغني 2/ 669، وشرح المفصل 2/ 38، والمقاصد النحوية 4/ 475، ولسان العرب (أمالا)، وتاج العروس (لو)، وللفرزدق في الأزهيّة 168، ولسان العرب (ضطر)، ولجرير أو للأشهب بن رميلة في شرح المفصّل 8/ 145، وبلا نسبة في الأزهية ص 170، والأشباه والنظائر 1/ 240، والجنى الداني ص 606، وخزانة الأدب 11/ 245، ورصف المباني 293، وشرح الأشموني 3/ 610، وصدره:
«تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم»
[سورة الأحقاف (46): آية 28](4/113)
[سورة الأحقاف (46): آية 28]
{فَلَوْلاََ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ قُرْبََاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذََلِكَ إِفْكُهُمْ وَمََا كََانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
أي هلّا: {قُرْبََاناً آلِهَةً} يكون «قربانا» مصدرا، ويكون مفعولا من أجله، ويكون مفعولا و «الهة» بدل منه {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} وإن شئت أدغمت اللّام في الضاد. وزعم الخليل وسيبويه (1) أن الضاد تخرج من الشقّ اليمين ولبعض النّاس من الشقّ الشمال.
{وَذََلِكَ إِفْكُهُمْ} «ذلك» في موضع رفع بالابتداء «إفكهم» خبره والهاء والميم في موضع خفض بالإضافة ومثله سواء في الإعراب والمعنى. قال الفراء (2): إفك وأفك مثل حذر وحذر أي هما بمعنى واحد. ويروى عن ابن عباس أنه قرأ أفكهم (3) على أنه فعل ماض والهاء والميم على هذه القراءة في موضع نصب، وفي إسنادها عن ابن عباس نظر ولكن قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عطاء بن السائب قال: سمعت أبا عياض يقرأ {وَذََلِكَ إِفْكُهُمْ} فعلى هذه القراءة يكون {وَمََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} في موضع رفع على أحد أمرين إما أن يكون معطوفا على المضمر الذي في «أفكهم» ويكون المعنى وذلك أرداهم وأهلكهم هو وافتراؤهم إلّا أنّ العطف على المضمر المرفوع بعيد في العربية إلّا أن يؤكّد ويطول الكلام لو قلت: قمت وعمرو، كان قبيحا حتّى تقول: قمت أنا وعمرو أو قمت في الدار وعمرو. والوجه الثاني أن يكون «وما كانوا يفترون» معطوفا على ذلك أي وذلك أهلكهم وأضلّهم وافتراؤهم أيضا أهلكهم وأضلّهم. والقراءة البيّنة التي عليها حجّة الجماعة «وذلك إفكهم» أي وذلك كذبهم وما كانوا يفترون على هذه القراءة معطوف على إفكهم أي وذلك إفكهم وافتراؤهم تكون ما والفعل مصدرا فلا تحتاج إلى عائد لأنها حرف فإن جعلتها بمعنى الذي لم يكن بدّ من عائد مضمر أو مظهر. فيكون التقدير والذي كانوا يفترونه ثم تحذف الهاء ويكون حذفها حسنا لعلل منها طول الاسم وأنه لا يشكل مذكّر بمؤنّث وأنه رأس آية وأنه ضمير متّصل، ولو كان منفصلا لبعد الحذف، وإن كان بعضهم قد قرأ {تَمََاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] بمعنى على الذي هو أحسن، وتأوّل بعضهم قول سيبويه (4) «هذا باب علم ما الكلم» بمعنى الّذي هو الكلم، وروى بعضهم «هذا باب علم ما الكلم» بغير تنوين على أنه حذف أيضا هو وفيه من البعد ما ذكرنا فإذا كان متصلا حسن الحذف كما قرئ وفيها ما تشتهي الأنفس [الزخرف: 71] وتشتهيه، وحكى أبو إسحاق «وذلك أأفكهم» أي أكذبهم.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 572.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 56.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 66، والمحتسب 2/ 267.
(4) انظر الكتاب 1/ 40.(4/114)
[سورة الأحقاف (46): آية 29]
{وَإِذْ صَرَفْنََا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمََّا حَضَرُوهُ قََالُوا أَنْصِتُوا فَلَمََّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى ََ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}
{وَإِذْ صَرَفْنََا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} «إذ» في موضع نصب قيل: مضى «صرفنا» وقفناهم لذلك فسمّي صرفا مجازا {فَلَمََّا قُضِيَ} أي فرغ من تلاوته {وَلَّوْا إِلى ََ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} أي مخوّفين من ترك قبول الحق ونصب «منذرين» على الحال.
[سورة الأحقاف (46): آية 30]
{قََالُوا يََا قَوْمَنََا إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى ََ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)}
{قََالُوا يََا قَوْمَنََا إِنََّا سَمِعْنََا كِتََاباً} وأجاز سيبويه (1) في بعض اللغات فتح «أنّ» بعد القول. {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ََ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} «يهدي» في موضع نصب لأنه نعت لكتاب، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال، وهو مرفوع لأنه فعل مستقبل.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 31الى 32]
{يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لاََ يُجِبْ دََاعِيَ اللََّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءُ أُولََئِكَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (32)}
{يََا قَوْمَنََا أَجِيبُوا دََاعِيَ اللََّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الأمر، وكذا {وَيُجِرْكُمْ}.
[سورة الأحقاف (46): آية 33]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقََادِرٍ عَلى ََ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ََ بَلى ََ إِنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} ليس من التعب وإنما يقال في التعب: أعيا يعيي وعيي بالأمر يعي وعيّ به إذا لم يتّجه له. بقدر (2) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وابن أبي إسحاق وعاصم الجحدري يقدر (3) وقد زعم بعض النحويين أن القراءة بيقدر أولى لأن الباء إنما تدخل في النفي وهذا إيجاب وتعجّب من أبي عمرو والكسائي كيف جاز عليهما مثل هذا حتّى غلطا فيه مع محلّهما من العربية قال أبو جعفر: وفي هذا طعن على من تقوم الحجّة بقراءته ومع ذلك فقد أجمعت الأئمة على أن قرءوا {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِقََادِرٍ} [يس:
81] ولا نعلم بينهما فرقا ولا تجتمع الجماعة على ما لا يجوز. وقد تكلّم النحويون في الآية التي أشكلت على قائل هذا فقال الكسائي: إنما دخلت الباء من أجل «لم» وهذا
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 178، و 3/ 163.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 67.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 68.(4/115)
قول صحيح وسمعت علي بن سليمان يشرحه شرحا بيّنا، قال الباء تدخل في النفي فتقول: ما زيد بقائم، فإذا دخل الاستفهام على النفي لم يغيره عمّا كان عليه فتقول: أما زيد بقائم، فكذا «بقادر» لأن قبله حرف نفي وهو «لم» وقال أبو إسحاق: الباء تدخل في النفي ولا تدخل في الإيجاب تقول: ظننت زيدا منطلقا، ولا يجوز: ظننت زيدا بمنطلق فإن جئت بالنفي قلت: ما ظننت زيدا بمنطلق، فكذا قوله جلّ وعزّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقََادِرٍ} والمعنى: أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر في رويّتهم وفي علمهم. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: لم صارت الباء في النفي ولا تكون في الإيجاب؟ فالجواب عند البصريين أنها دخلت توكيدا للنفي لأنه قد يجوز ألّا يسمع المخاطب «ما» أو يتوهّم الغلط فإذا جئت بالباء علم أنه نفي. وأما قول الكوفيين الباء في النفي حذاء اللام في الإيجاب.
[سورة الأحقاف (46): آية 34]
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النََّارِ أَلَيْسَ هََذََا بِالْحَقِّ قََالُوا بَلى ََ وَرَبِّنََا قََالَ فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النََّارِ} بمعنى واذكر يوما.
[سورة الأحقاف (46): آية 35]
{فَاصْبِرْ كَمََا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاََ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مََا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاََّ سََاعَةً مِنْ نَهََارٍ بَلاََغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفََاسِقُونَ (35)}
{بَلََاغٌ} في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى قليل. يقال: ما معه من الزاد إلّا بلاغ أي قليل، والقول الآخر: أن المعنى فيما وعظوا به بلاغ، كما قال الأخفش. قال بعضهم: البلاغ القرآن. وهو مرفوع على إضمار مبتدأ أي ذلك بلاغ، ومن نصبه جعله مصدرا أو نعتا لساعة. {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفََاسِقُونَ} أي من فسق في الدنيا. ويقال: إنّ هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلّا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنََّاسِ عَلى ََ ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].(4/116)
47 - شرح إعراب سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة محمد (47): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ أَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَآمَنُوا بِمََا نُزِّلَ عَلى ََ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بََالَهُمْ (2)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء وهو اسم ناقص. {كَفَرُوا} من صلته «وصدّوا» معطوف عليه {وَصَدُّوا} بزيادة ألف بعد الواو وللنحويين في ذلك ثلاثة أقوال: فمذهب الخليل رحمه الله أنّ هذه الألف زيدت في الخط فرقا بين واو والإضمار والواو الأصلية نحو «لو» فاختيرت الألف لأنها عند أخر مخرج الواو. وقال الأخفش:
لو كتب بغير ألف لقرئ «كفر وصدّ» ففرق بين هذه الواو وبين واو العطف. وقال أحمد بن يحيى: كتب بألف ليفرّق بين المضمر المتصل والمنفصل فيكتب صدّوهم عن المسجد الحرام بغير ألف ويكتب صدوا هم بألف، كما تقول: قاموا هم. قال أبو جعفر: فهذه ثلاثة أقوال أصحّها القول الأول لأن قول الأخفش يعارض بأنه قد يقال:
كفر وأفعل فيقع الأشكال أيضا وقول أحمد بن يحيى في الفرق إنما جعله بين المضمرين وليس يقع في قاموا مضمر منصوب فيجب على قوله أن يكتبه بغير ألف وهو لا يفعل هذا ولا أحد غيره. ومذهب الخليل رحمه الله مذهب صحيح. وهذا في واو الجمع خاصة فأما التي في الواحد نحو قولك: هو يرجو فبغير ألف لأنها ليست واو الإضمار وهي لام الفعل بمنزلة الواو من «لو» فكتابتها بالألف خطأ، وإن كان بعض المتأخرين قد ذكر ذلك بغير تحصيل ورأيت أبا إسحاق قد ذكره بالنقصان في النحو وذكر أنه خاطبه فيه. ومن العرب من يقول: اللّذون فيجعله جمعا مسلّما. فأما ما رواه مجاهد عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} أنّهم كفار أهل مكة فجعل الآية فيهم خصوصا، والظاهر يدلّ على العموم فيجوز أن تكون نزلت في قوم بأعيانهم ثم صارت عامة لكل من فعل فعلهم، وكذا {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} فقول ابن عباس أنّ هذا نزل في الأنصار خاصة وهو بمنزلة ما تقدّم «والذين» في موضع
رفع بالابتداء، والخبر {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بََالَهُمْ} قال مجاهد عن ابن عباس: أي أمرهم. وروى الضحاك عنه: أي شأنهم. قال أبو جعفر: والبال في اللغة يعبّر عنه بالأمر والشأن والحال. قال محمد بن يزيد: وقد يكون للبال موضع أخر يكون بمعنى القلب. يقال: ما يخطر هذا على بالي أي على قلبي.(4/117)
كفر وأفعل فيقع الأشكال أيضا وقول أحمد بن يحيى في الفرق إنما جعله بين المضمرين وليس يقع في قاموا مضمر منصوب فيجب على قوله أن يكتبه بغير ألف وهو لا يفعل هذا ولا أحد غيره. ومذهب الخليل رحمه الله مذهب صحيح. وهذا في واو الجمع خاصة فأما التي في الواحد نحو قولك: هو يرجو فبغير ألف لأنها ليست واو الإضمار وهي لام الفعل بمنزلة الواو من «لو» فكتابتها بالألف خطأ، وإن كان بعض المتأخرين قد ذكر ذلك بغير تحصيل ورأيت أبا إسحاق قد ذكره بالنقصان في النحو وذكر أنه خاطبه فيه. ومن العرب من يقول: اللّذون فيجعله جمعا مسلّما. فأما ما رواه مجاهد عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} أنّهم كفار أهل مكة فجعل الآية فيهم خصوصا، والظاهر يدلّ على العموم فيجوز أن تكون نزلت في قوم بأعيانهم ثم صارت عامة لكل من فعل فعلهم، وكذا {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} فقول ابن عباس أنّ هذا نزل في الأنصار خاصة وهو بمنزلة ما تقدّم «والذين» في موضع
رفع بالابتداء، والخبر {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بََالَهُمْ} قال مجاهد عن ابن عباس: أي أمرهم. وروى الضحاك عنه: أي شأنهم. قال أبو جعفر: والبال في اللغة يعبّر عنه بالأمر والشأن والحال. قال محمد بن يزيد: وقد يكون للبال موضع أخر يكون بمعنى القلب. يقال: ما يخطر هذا على بالي أي على قلبي.
[سورة محمد (47): آية 3]
{ذََلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبََاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ لِلنََّاسِ أَمْثََالَهُمْ (3)}
{ذََلِكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعده خبره. ويكون ذلك إشارة إلى الإضلال والهدى. والعرب قد تشير إلى شيئين بذلك فمنهم من يقول ذانك. وسمعت أبا إسحاق يقول في قول سيبويه: ظننت، ولم يعدها إلى مفعول أخر: إنّ ذلك إشارة إلى شيئين، كأن قائلا قال: ظننت زيدا منطلقا، فقال له أخر: قد ظننت ذلك.
[سورة محمد (47): الآيات 4الى 6]
{فَإِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقََابِ حَتََّى إِذََا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثََاقَ فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزََارَهََا ذََلِكَ وَلَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلََكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بََالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهََا لَهُمْ (6)}
{فَإِذََا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقََابِ} مصدر. أي فاضربوا الرقاب ضربا، وقيل: هو على الإغراء (1)، هذا قول الفراء. {حَتََّى إِذََا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثََاقَ} أي لئلا يهربوا أو يلحقكم منهم مكروه. والإثخان المبالغة بالضرب مشتق من قولهم: شيء ثخين أي متكاثف.
{فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً} مصدران وحذف الفعل لدلالة المصدر عليه ولأنه أمر. والفداء يمدّ ويقصر عند البصريين. وأما الفراء فحكى (2) أنه ممدود إذا كسر أوله ومقصور إذا فتح أوله وحكي: قم فدى لك. {حَتََّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزََارَهََا} أهل التفسير على أن المعنى حتّى يزول الشرك والضمير عند الفراء يحتمل معنيين: أحدهما حتّى تضع الحرب أوزارها أي آثامهم، والمعنى الآخر أن يعود على الحرب نفسها. قال أبو جعفر: الحرب في كلام العرب مؤنّثة، ويصغّرونها بغير هاء فيقولون: حريب، ومثلها قوس وذود يصغّران بغير هاء سماعا من العرب {ذََلِكَ وَلَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} «ذلك» في موضع رفع أي الأمر ذلك أنه لو شاء الله لانتصر منهم، ولكنه أراد أن يثيب المؤمنين، وكانت الحكمة في ذلك ليقع الثواب والعقاب. وقد بيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 57.
(2) انظر المنقوص والممدود 25، 26.(4/118)
{وَلََكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمََالَهُمْ} (1) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عاصم الجحدري {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (2) وقرأ أبو عمرو والأعرج {قُتِلُوا} وعن الحسن أنه قرأ قتلوا (3)
مشددة. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى عليها حجّة الجماعة، وهي أبين في المعنى وقد زعم بعض أهل اللغة أنه يختار أن يقرأ «قاتلوا» لأنه إذا قرأ «قتلوا» لم يكن الثواب إلا لمن قتل، وإذا قرأ قتلوا لم يكن الثواب إلا لمن قتل وإذا قرأ قاتلوا عم الجماعة بالثواب وهذه لعمري احتجاج حسن، غير أن أهل النظر يقولون: إذا قرئ الحرف على وجوه فهو بمنزلة آيات كل واحدة تفيد معنى، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أوتيت جوامع الكلم» (4).
[سورة محمد (47): آية 7]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ (7)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ} قيل: المعنى: إن تنصروا دين الله وأولياءه فجعل ذلك نصرة له مجازا ينصركم في الآخرة أي يدفع الشدائد عنكم. وروى الضحاك عن ابن عباس: ينصركم على عدوكم. {وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ} قيل: في موضع الحساب بأن يجعل الحجّة لكم.
[سورة محمد (47): آية 8]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ (8)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسّره {فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ} معطوف على الفعل المحذوف.
[سورة محمد (47): آية 9]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمََالَهُمْ (9)}
قال أبو إسحاق: كرهوا نزول القرآن ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة محمد (47): آية 10]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكََافِرِينَ أَمْثََالُهََا (10)}
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} في موضع نصب على أنه جواب، ويجوز أن يكون في موضع جزم على أنه معطوف، والجزم والنصب علامتهما حذف النون. {كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ} اسم كان ولم يقل: كانت لأنه تأنيث غير حقيقي وخبر «كان» في «كيف» {وَلِلْكََافِرِينَ أَمْثََالُهََا} روى الضحاك عن ابن عباس قال: عذاب ينزل من السّماء ولم يكن
__________
(1) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600.
(2) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600.
(3) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه، المساجد 7، 8، وأحمد في مسنده 2/ 250، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 72، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 113، وأبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 14، والمتقي الهندي في كنز العمال (32068).(4/119)
بعد. وقال أبو إسحاق في الضمير الذي في أمثالها أنه يعود على العاقبة.
[سورة محمد (47): آية 11]
{ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكََافِرِينَ لاََ مَوْلى ََ لَهُمْ (11)}
روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} قال: ناصرهم. قال الفراء (1) وفي قراءة عبد الله ذلك بأنّ الله وليّ الذين آمنوا وهذه قراءة على التفسير. وقال أبو إسحاق: في معنى ذلك بأن الله يتولّى الذين آمنوا في جميع أمورهم وهدايتهم والنصر على عدوهم. وهذه الأقوال متقاربة ومعروف في اللغة أنّ المولى الوليّ. وهو معنى ما قال ابن عباس: إنّ المولى الناصر، وعلى هذا تؤوّل قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (2) أي من كنت أتولاه وأنصره فعليّ يتولاه وينصره، وقيل: المعنى من كان يتولاني وينصرني فهو يتولّى عليّا وينصره.
ويبيّن ذلك ما حدّثناه علي بن سليمان عن أبي سعيد السكّري عن يونس، عن محمد بن المستنير قال: إن سأل سائل عن قول الله جلّ وعزّ: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكََافِرِينَ لََا مَوْلى ََ لَهُمْ} (11) فقال الله جلّ وعزّ: مولى كلّ أحد فكيف قال جلّ وعزّ وأن الكافرين لا مولى لهم؟ فالجواب أن المولى هاهنا الولي وليس الله جلّ وعزّ وليّ الكافرين، وأنشد:
[الكامل] 426 فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه ... مولى المخافة خلفها وأمامها (3)
أي وليّ المخافة.
[سورة محمد (47): آية 12]
{إِنَّ اللََّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمََا تَأْكُلُ الْأَنْعََامُ وَالنََّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)}
{وَالنََّارُ} مرفوعة بالابتداء، و «مثوى» في موضع رفع على أنه الخبر، وأجاز الفراء أن يكون {مَثْوىً} في موضع نصب ويكون الخبر لهم.
[سورة محمد (47): آية 13]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنََاهُمْ فَلاََ نََاصِرَ لَهُمْ (13)}
التقدير وكم من أهل قرية. وهي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه. قال الفراء (4):
في معنى «التي أخرجتك» التي أخرجك أهلها إلى المدينة {أَهْلَكْنََاهُمْ فَلََا نََاصِرَ لَهُمْ} قال
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 59.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 419، وذكره ابن أبي عاصم في السنة 2/ 605، وابن كثير في البداية والنهاية 7/ 339، والترمذي في سننه (3713).
(3) مرّ الشاهد رقم (151).
(4) انظر معاني الفراء 3/ 59.(4/120)
الفراء: جاء في التفسير فلم يكن لهم ناصر حتّى أهلكناهم، قال: فيكون «فلا ناصر لهم» اليوم من العذاب.
[سورة محمد (47): آية 14]
{أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ (14)}
{أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} على اللفظ ولو كان على المعنى لقيل: كانوا على بيّنة من ربهم، وكذا {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} ولم يقل: لهم سوء أعمالهم، وبعده {وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان واتّبع هواه.
[سورة محمد (47): آية 15]
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهََارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ وَأَنْهََارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهََا مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خََالِدٌ فِي النََّارِ وَسُقُوا مََاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعََاءَهُمْ (15)}
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وفي معناه أربعة أقوال: قال محمد بن يزيد: قال سيبويه (1): أي فيما يتلى عليكم ويقصّ عليكم مثل الجنة، وقال يونس: مثل بمعنى صفة ومثله فيما ذكرناه {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ} [إبراهيم: 18] قال محمد بن يزيد: وكلا القولين حسن جميل وقال الكسائي: مثل الجنّة كذا وفيها كذا ولهم فيها كذا {كَمَنْ هُوَ خََالِدٌ فِي النََّارِ} أي مثل هؤلاء في الخير كمثل هؤلاء في الشرّ أي هؤلاء كهؤلاء.
والقول الرابع عن أبي إسحاق قال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} تفسير لقوله جلّ وعزّ:
{إِنَّ اللََّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} [الحج: 14] ثم فسّر تلك الأنهار فالمعنى {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} مما قد عرفتموه في الدنيا من الجنات والأنهار جنّة {فِيهََا أَنْهََارٌ مِنْ مََاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} وفي قراءة أهل مكة فيما ذكره أبو حاتم {غَيْرِ آسِنٍ} (2) على فعل يقال: أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا فهو آسن وأسن يأسن أسنا فهو أسن، وتحذف الكسرة لثقلها، فيقال: أسن، إذا أنتن. فإن تغيّر قالوا أجن الماء يأجن ويأجن {وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ} نعت خمر بمعنى ذات لذة ويجوز لذّة نعت لأنهار، ويجوز النصب على المصدر، كما تقول: هو لك هبة. {كَمَنْ هُوَ خََالِدٌ فِي النََّارِ} الكاف في موضع رفع وهي مرافعة كمثل عند الكسائي كما بيّنّا، وأما الفراء (3) فالتقدير عنده: أمن هو في هذه الجنات كمن هو خالد في النار {وَسُقُوا مََاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعََاءَهُمْ} جمع معى وهو يذكّر ويؤنّث. وروى أبو أمامة الباهلي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ: {وَسُقُوا مََاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعََاءَهُمْ} قال: «إذا قرّب منه تكرّهه، وإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه فيه، فإذا شربه قطّع أمعاءه وخرج من دبره» (4).
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 196.
(2) انظر تيسير الداني 162.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 60.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 79.(4/121)
[سورة محمد (47): آية 16]
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتََّى إِذََا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قََالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مََا ذََا قََالَ آنِفاً أُولََئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ (16)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} على لفظ «من» {حَتََّى إِذََا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قََالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} على المعنى. قال عبد الله بن بريدة: قالوا ذلك لعبد الله بن مسعود {أُولََئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} على المعنى أيضا.
[سورة محمد (47): آية 17]
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ (17)}
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} أي قبلوا الهدى وعملوا به. {زََادَهُمْ هُدىً} قال أبو جعفر: قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في الضمير أن المعنى زادهم الله جلّ وعزّ هدى بما ينزل من الآيات والبراهين والدلائل والحجج على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيزداد المؤمنون بها بصيرة ومعرفة.
[سورة محمد (47): آية 18]
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السََّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جََاءَ أَشْرََاطُهََا فَأَنََّى لَهُمْ إِذََا جََاءَتْهُمْ ذِكْرََاهُمْ (18)}
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السََّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} هذه القراءة التي عليها حجّة الجماعة. وقد حكى أبو عبيد: أنّ في بعض مصاحف الكوفيين أن تأتيهم وقرئ على إبراهيم بن محمد بن عرفة عن محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: حدّثني أبو جعفر الرؤاسي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء ما هذه الفاء في قوله: {فَقَدْ جََاءَ أَشْرََاطُهََا} قال: هي جواب للجزاء. قلت إنما هي {أَنْ تَأْتِيَهُمْ} فقال: معاذ الله إنما هي «إن تأتهم» (1). قال الفراء: فظننته أخذها عن أهل مكة لأنه عليهم قرأ. قال: وهي في بعض مصاحف الكوفيين «إن تأتهم» بسنة واحدة ولم يقرأ بها أحد منهم. قال أبو جعفر: ولا يعرف هذا عن أبي عمرو إلّا من هذه الطريق. والمعروف عنه أنه قرأ «أن تأتيهم» وتلك ال مع شذوذها مخالفة للسواد، والخروج عن حجّة الجماعة. ومن جهة المعنى ما هو أكثر، وذلك أنه لو كان «إن تأتهم بغتة» لكان المعنى يمكن أن تأتي بغتة وغير بغتة، وقد قال الله جلّ وعزّ: {لََا تَأْتِيكُمْ إِلََّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]. {فَقَدْ جََاءَ أَشْرََاطُهََا} جمع شرط أي علاماتها. قال الحسن: موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من علاماتها، وقال غيره: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من علاماتها لأنه لا نبيّ بعده إلى قيام الساعة. وقال قال عليه السلام «أنا والسّاعة كهاتين» (2) قال محمد بن يزيد: وإنما قيل: شرط لأن لهم علامات وهيئات ليست للعامة. {فَأَنََّى لَهُمْ إِذََا جََاءَتْهُمْ ذِكْرََاهُمْ} قال الأخفش: أي فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 80، قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان».
(2) انظر تيسير الداني 69، والبحر المحيط 8/ 81.(4/122)
الساعة «ذكراهم» في موضع رفع بالابتداء على مذهب سيبويه، وبالصفة على قول الكوفيين.
[سورة محمد (47): الآيات 19الى 20]
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاََ إِلََهَ إِلاَّ اللََّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوََاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاََ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتََالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى ََ لَهُمْ (20)}
{فَاعْلَمْ} قال أبو إسحاق: الفاء جواب للمجازاة أي قد بيّنّا أن الله جلّ وعزّ واحد فاعلم ذلك. فأما مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذا، وهو عالم به ففي ذلك غير جواب. قال أبو إسحاق: مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، وعلى مذهب بعض النحويين أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مأمور أن يخاطب بهذا غيره مثل {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ} [يونس: 94] وقيل: فاعلم علما زائدا على علمك لأن الإنسان قد يعلم الشيء من جهات وجواب رابع أنّ المعنى تحذير له من المعاصي أي فاعلم أنه لا إله إلّا الله وحده لا يعاقب على العصيان غيره. ويدلّ على هذا أنّ بعده واستغفر لذنبك كما تقول للرجل تحذّره من المعصية: اعلم أنّك ميّت فلست تأمره أن يفعل العلم وإنما تحذّره من المعاصي. قال أبو إسحاق: {وَاللََّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} أي متصرّفكم. {وَمَثْوََاكُمْ} أي مقامكم في الدنيا والآخرة. قال: {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتََالُ} أي فرض {فَأَوْلى ََ لَهُمْ}.
[سورة محمد (47): آية 21]
{طََاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللََّهَ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ (21)}
{طََاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} فيه أجوبة فقال الخليل وسيبويه جوابان: أحدهما أن تكون {طََاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مرفوعين بالابتداء أي طاعة وقول معروف أمثل والثاني على خبر المبتدأ أي أمرنا طاعة وقول معروف. وقال غيرهما: التقدير منّا طاعة. وقول رابع أن يكون «طاعة» نعتا لسورة بمعنى ذات طاعة {فَإِذََا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي جدّ الأمر. وقيل:
هو مجاز أي أصحاب الأمر أي فإذا عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الحرب. {فَلَوْ صَدَقُوا اللََّهَ} في القتال. {لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ} من التعلّل والهرب، وقال أبو إسحاق: أي لكان صدقهم الله وإيمانهم به خيرا لهم.
[سورة محمد (47): آية 22]
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحََامَكُمْ (22)}
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [1] إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ هذه القراءة التي عليها الجماعة. قال أبو إسحاق: ولو جاز عسيتم لجاز عسى ربّكم فهي عنده لا تجوز البتة. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه أنه قرأ {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي تولّاكم النّاس على ما لم
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 140، والبحر المحيط 8/ 82.(4/123)
يسمّ فاعله. {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} (أن) في موضع نصب خبر عسيتم. وهذه اللغة الفصيحة، ومن العرب من يحذف «أن» من الخبر، كما قال: [الوافر] 427 عسى الهمّ الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب (1)
ومن العرب من يأتي بالاسم في خبرها فينصبه فيقول: عسى زيد قائما.
[سورة محمد (47): الآيات 23الى 24]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى ََ أَبْصََارَهُمْ (23) أَفَلاََ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا (24)}
{أُولََئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى ََ أَبْصََارَهُمْ} (23) ثم قال جلّ وعزّ بعد {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وقد تقدّم وصفهم بالصّمم والعمى، فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه أن المعنى: أولئك الذين لعنهم الله فلم ينلهم ثوابا فهم بمنزلة الصمّ لا يسمعون ثناء حسنا عليهم ولا يبصرون ما يسرّون به من الثواب، فهذا جواب بيّن. وقد قيل: إنه دعاء، وقد قيل: إنهم لا يسمعون أي لا يعلمون. وقد تأوّل بعض العلماء حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» (2) أي ليعلم. وتأويل حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أهل القليب الذين قتلوا يوم بدر حين خاطبهم فقال: «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا» (3)
ثمّ أخبر أنّهم يسمعون ذلك فتأول صاحب ذلك التأويل على أنّهم يعلمونه، واحتج بقول الله عزّ وجلّ: {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ} [النمل: 80] وهذا التأويل قد ردّه جماعة من العلماء على متأوليه لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المبين عن الله عزّ وجلّ، وهو القائل «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» والمخبر بعذاب القبر ومساءلة الميّت وكذا أكثر أصحابه على ذلك يخبرون بتأدية الأعمال إلى الموتى فالصواب من ذلك أن يقال: إنّ الله جلّ وعزّ يؤدّي إلى الموتى من بني أدم ما شاء على ما شاء ويعذب من شاء ممن يستحقّ بما يشاء فأما قوله جلّ وعزّ: {وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] و {إِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ} [النمل: 80].
__________
(1) الشاهد لهدبة بن خشرم في الكتاب 3/ 181، وخزانة الأدب 9/ 328، وشرح أبيات سيبويه 1/ 142، والدرر 2/ 145، وشرح التصريح 1/ 206، وشرح شواهد الإيضاح 97، وشرح شواهد المغني 443، واللمع 225، والمقاصد النحوية 2/ 184، وبلا نسبة في أسرار العربية 128، وتخليص الشواهد 326، وخزانة الأدب 9/ 316، والجنى الداني ص 462، وشرح ابن عقيل 165، وشرح عمدة الحافظ 816، والمقرب 1/ 98، وشرح المفصل 7/ 117، ومغني اللبيب ص 152، والمقتضب 3/ 70، وهمع الهوامع 1/ 130.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 445، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/ 46، والسيوطي في الدر المنثور 4/ 82، والقرطبي في تفسيره 7/ 377، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 54.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 97، 98، ومسلم في صحيحه، الجنة 76، والنسائي في سننه 4/ 101، وأحمد في مسنده 2/ 38، 130، و 3/ 104، 145، و 4/ 9، وذكره ابن أبي شيبة في مصنّفه 14/ 377، والبيهقي في دلائل النبوة 3/ 48، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 23.(4/124)
فليس فيه مخالفة لهذا: وإنما المعنى والله أعلم إنك لا تسمع الموتى بقدرتك ولا بقوتك، ولكن الله جلّ وعزّ يسمعهم كيف يشاء ويدلّ على هذا أنّ بعده {وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ} [النمل: 81] أي لست تهديهم أنت بقدرتك ولكن الله جلّ وعزّ يهدي من يشاء بلطفه وتوفيقه.
{أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} (24) {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي فيعملون بما فيه ويقفون على دلائله {أَمْ عَلى ََ قُلُوبٍ أَقْفََالُهََا} أي أقفال تمنعها من ذلك.
[سورة محمد (47): آية 25]
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى ََ أَدْبََارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطََانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى ََ لَهُمْ (25)}
قال أبو إسحاق: أي رجعوا بعد سماع الهدى وتبيينه إلى الكفر {الشَّيْطََانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى ََ لَهُمْ} هذه قراءة أكثر الأئمة، وقرأ أبو عمرو والأعرج وشيبة وعاصم الجحدري وأملي لهم (1) على ما لم يسمّ فاعله، وقرأ مجاهد وسلام ويعقوب وأملي لهم (2)
بإسكان الياء فالقراءة الأولى بمعنى وأملى الله جلّ وعزّ لهم، والقراءة الثانية تؤول إلى هذا المعنى لأنه قد علم أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي أملى لهم، والقراءة الثالثة بيّنة أخبر الله جلّ وعزّ أنه يملي لهم. والكوفيون يميلون {وَأَمْلى ََ لَهُمْ} لأن الألف منقلبة من الياء ومعنى أملى له مدّ له في العمر ولم يعاجله بالعقوبة وهو مشتق من الملاوة، وهي القطعة من الدهر ومنه ملاك الله جلّ وعزّ نعمته وتملّ حبيبك والملوان: الليل والنهار.
[سورة محمد (47): آية 26]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قََالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مََا نَزَّلَ اللََّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِسْرََارَهُمْ (26)}
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قََالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مََا نَزَّلَ اللََّهُ} قال أبو إسحاق: أي الأمر ذلك الإضلال فإنهم قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر أي في التضافر على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم {وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِسْرََارَهُمْ} (3) هذه قراءة أكثر الأئمة، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي والله يعلم إسرارهم وهذا مصدر من أسرّ، والأول جمع سرّ.
[سورة محمد (47): آية 27]
{فَكَيْفَ إِذََا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاََئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبََارَهُمْ (27)}
{فَكَيْفَ إِذََا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلََائِكَةُ} فيه حذف أي فكيف تكون حالهم {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبََارَهُمْ}
__________
(1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600.
(2) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 83، وتيسير الداني 163.(4/125)
قال مجاهد: أي وأستاههم ولكن الله جلّ وعزّ كريم يكنّى.
[سورة محمد (47): آية 28]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مََا أَسْخَطَ اللََّهَ وَكَرِهُوا رِضْوََانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمََالَهُمْ (28)}
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مََا أَسْخَطَ اللََّهَ} أي ذلك جزاؤهم بأنّهم اتّبعوا الشيء أسخط الله من ترك متابعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم {وَكَرِهُوا رِضْوََانَهُ} أي اتّباع شريعته والإيمان به {فَأَحْبَطَ أَعْمََالَهُمْ} أي فأحبط ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: فأحبط الله جلّ وعزّ ما عملوا من خير بكفرهم.
[سورة محمد (47): آية 29]
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللََّهُ أَضْغََانَهُمْ (29)}
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} عن ابن عباس قال: هم المنافقون قال:
والمرض الشكّ والتكذيب {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللََّهُ أَضْغََانَهُمْ} قال: عداوتهم للمؤمنين قال محمد بن يزيد: الضغن ما تضمره من المكروه وقد ضغنت عليه واضطغنت.
[سورة محمد (47): آية 30]
{وَلَوْ نَشََاءُ لَأَرَيْنََاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمََاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ أَعْمََالَكُمْ (30)}
{وَلَوْ نَشََاءُ لَأَرَيْنََاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمََاهُمْ} ويقال في معناه سيمياء {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} عن ابن عباس قال: فما رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منافقا فخاطبه إلا عرفه قال محمد بن يزيد: في لحن القول في فحواه وفي قصده من غير تصريح، قال: وقريب من معناه التعريض. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من صاحبه فأقضي له على قدر ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» (1) قال محمد بن يزيد: معنى «ألحن بحجّته» أقصد وأمضى فيها. قال: ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للسّعدين (2) حين وجّههما إلى بني قريظة «إن أصبتماهم على العهد فأعلنا ذلك وإن أصبتماهم على غير ذلك فالحنا لي لحنا أعرفه ولا تفتّا في أعضاد المسلمين» (3).
[سورة محمد (47): الآيات 31الى 33]
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتََّى نَعْلَمَ الْمُجََاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصََّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ََ لَنْ يَضُرُّوا اللََّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمََالَهُمْ (32) يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاََ تُبْطِلُوا أَعْمََالَكُمْ (33)}
الابتلاء في اللغة الاختبار فقيل: المعنى: لنشدّدنّ عليكم في التعبّد، وذلك في الأمر بالجهاد، والنهي عن المعاصي. يدلّ على ذلك حتّى نعلم المجاهدين منكم
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 235، و 9/ 32، ومسلم في الأقضية 4، وأحمد في مسنده 6/ 203، وذكره السيوطي في جمع الجوامع (7534)، والشافعي في مسنده 150، والمتقي الهندي في كنز العمال 14536.
(2) السعدان: هما سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
(3) انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 221.(4/126)
والصابرين. {وَنَبْلُوَا أَخْبََارَكُمْ} أي ما عملتم فيما تعبّدتم به.
[سورة محمد (47): آية 34]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ ثُمَّ مََاتُوا وَهُمْ كُفََّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ (34)}
دخلت الفاء في خبر «إنّ» لأن اسمها الذين وصلته فعل فأشبه المجازاة فدخلت فيه الفاء، ولو قلت: إنّ زيدا فمنطلق، لم يجز.
[سورة محمد (47): آية 35]
{فَلاََ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللََّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمََالَكُمْ (35)}
{فَلََا تَهِنُوا} الأصل توهنوا حذفت الواو تباعا {وَتَدْعُوا} عطف عليه، ويجوز أن يكون جوابا. قال محمد بن يزيد: السلم والسّلم والمسالمة واحد {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} قال مجاهد: الغالبون. {وَاللََّهُ مَعَكُمْ} أي ينصركم {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمََالَكُمْ} قال الضّحاك: أي لن يظلمكم وقدّره أبو إسحاق على حذف أي لن ينقصكم ثواب أعمالكم. وروى يونس عن الزهري عن سالم عن أبيه وعنبسة يقول: عن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (1) أي نقص وسلب. قال أبو جعفر: وفي اشتقاقه قولان: مذهب الفراء (2) أنه مشتقّ من الوتر، وهو الذّحل وهو قتل الرجل وأخذ ماله فالذي تفوته صلاة العصر لما فاته من الأجر والثواب بمنزلة من أخذ أهله وماله أي هو بمنزلة الذي وتر. والاشتقاق الآخر أن يكون من الوتر وهو الفرد كأنّه بمنزلة من قد بقي منفردا وخصّت بهذا، لأنها في وقت أشغالهم ومعائشهم والأصل في يتركم يوتركم حذفت إلى مفعولين مثل {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155] والتقدير عند الأخفش ولن يتركم في أعمالكم.
[سورة محمد (47): آية 36]
{إِنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاََ يَسْئَلْكُمْ أَمْوََالَكُمْ (36)}
{إِنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} مبتدأ وخبره {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا}. قال أبو إسحاق:
وقد عرّفهم أنّ أجورهم الجنة، قال: ويجوز {وَلََا يَسْئَلْكُمْ أَمْوََالَكُمْ} يريد على أن يجعله خبرا والجزم على العطف. قيل: المعنى: ولا يأمركم أن تنفقوا أموالكم كلّها في الجهاد ومواساة الفقراء.
[سورة محمد (47): آية 37]
{إِنْ يَسْئَلْكُمُوهََا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغََانَكُمْ (37)}
{فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} أي تمتنعوا مما يجب عليكم. قال أبو جعفر: وكذا البخل في اللغة {وَيُخْرِجْ أَضْغََانَكُمْ} قيل: أي ويخرج ذلك البخل أضغانكم أي ما تضمرونه من امتناع النفقة خوف الفقر.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 102.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 64.(4/127)
[سورة محمد (47): آية 38]
{هََا أَنْتُمْ هََؤُلاََءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمََا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللََّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاََ يَكُونُوا أَمْثََالَكُمْ (38)}
{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمََا} شرط وجوابه {فَإِنَّمََا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي إنما يعود الضرر عليه والعقوبة {وَاللََّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ} أي فلم يكلّفكم ذلك لمّا علمه منكم {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} قيل: إن تتولّوا عن نصرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأتي بقوم آخرين بدلا منكم {ثُمَّ لََا يَكُونُوا أَمْثََالَكُمْ} فيما فعلتموه.(4/128)
48 - شرح إعراب سورة الفتح
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفتح (48): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)}
الأصل إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات. والنون والألف في «إنّا» في موضع نصب، وفي «فتحنا» في موضع رفع وعلامات المضمر تتّفق كثيرا إذا كانت متصلة، والفتح هاهنا فتح الحديبيّة. وقد توهّم قوم أنه فتح مكّة ممّن لا علم لهم بالآثار. وقد صحّ عن ابن عباس والبرآء وسهل بن حنيف أنّهم قالوا: هو فتح الحديبيّة وهو صحيح عن أنس بن مالك كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا قتادة عن أنس بن مالك {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية. وصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عند منصرفه من الحديبيّة «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» ثمّ تلا {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} (1) (1) الآية فإن قيل:
لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحب الدنيا، فكيف قال في هذا الفضل العظيم الخطير أحبّ إليّ من الدنيا؟ وإنما تقول العرب: هذا في الشيء الجليل فيقولون: هو أسخى من حاتم طيّئ، والدنيا لا مقدار لها. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مرّ بشاة ميّتة «والله للدّنيا أهون على الله جلّ وعزّ من هذه على أهلها» (2) ففي ذلك غير جواب منها أنّ المعنى لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها لو كانت لي فأنفقتها في سبيل الله جلّ وعزّ. وقيل: خوطبوا بما يعرفون «فتحا» مصدر «مبينا» من نعته.
[سورة الفتح (48): آية 2]
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ مََا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمََا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرََاطاً مُسْتَقِيماً (2)}
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ} لام كي، والمعنى لأن. قال مجاهد {مََا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل النّبوة. {وَمََا تَأَخَّرَ} بعد النبوة، وقال الشعبي مثله إلّا أنه قال: إلى أن مات. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، الجهاد ب 34رقم 97، والقرطبي في تفسيره 16/ 259.
(2) أخرجه الترمذي في سننه الزهد 9/ 198، وابن ماجة في سننه رقم الحديث (4110).(4/129)
عطف قيل: يتم نعمته عليه في الدنيا بالنصر وفي الآخرة بالثواب {وَيَهْدِيَكَ صِرََاطاً مُسْتَقِيماً} قيل: طريق الجنة. قال محمد بن يزيد: الصراط المنهاج الواضح. قال أبو جعفر: التقدير: إلى صراط ثم حذفت إلى.
[سورة الفتح (48): آية 3]
{وَيَنْصُرَكَ اللََّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)}
{وَيَنْصُرَكَ اللََّهُ} عطف. {نَصْراً عَزِيزاً} مصدر «عزيزا» من نعته.
[سورة الفتح (48): آية 4]
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدََادُوا إِيمََاناً مَعَ إِيمََانِهِمْ وَلِلََّهِ جُنُودُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)}
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
السكينة الرحمة، قال محمد بن يزيد: السكينة فعيلة من السكون، ومن السكينة الحلم والوقار وترك ما لا يعني. وروى مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن الحسين وبعضهم يقول عن الحسين رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (1)، ومن الرحمة الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له الأقرع بن حابس: إنّ لي لعشرة أولاد ما قبّلت واحدا منهم قطّ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من لا يرحم لا يرحم» (2). وفي بعض الحديث «أرأيت إن كان الله سبحانه قلع الرحمة من قلبك فما ذنبي» (3). وفي ابن أبي طلحة عن ابن عباس {لِيَزْدََادُوا إِيمََاناً مَعَ إِيمََانِهِمْ} قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله ثم زاد الصلاة ثمّ زاد الصيام ثم أكمل لهم دينهم.
[سورة الفتح (48): الآيات 5الى 6]
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَكََانَ ذََلِكَ عِنْدَ اللََّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ الظََّانِّينَ بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً (6)}
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} مفعولان {خََالِدِينَ} على الحال {وَيُكَفِّرَ} عطف، كذا {وَيُعَذِّبَ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ الظََّانِّينَ} نعت.
وقرأ مجاهد وأبو عمرو دائرة السوء (4) بضم السين، وفتح السين، وإن كانت القراءة به أكثر فإنّ ضمّها فيما زعم الفراء في هذا أكثر. والسّوء اسم الفعل، والسّوء الشيء بعينه.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطّأ الحديث (3)، والترمذي في سننه الزهد 9/ 196.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170.
(4) انظر تيسير الداني 163، ومعاني الفراء 3/ 65.(4/130)
[سورة الفتح (48): آية 8]
{إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)}
حال مقدّرة.
[سورة الفتح (48): آية 9]
{لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا (1) مردودة على {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ليؤمنوا. والقراءة بالتاء على معنى قل لهم، وقيل إنّ المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، {وَتُعَزِّرُوهُ} على التكثير، ويقال عزره يعزره. قال الحسن والضحاك:
«وتعزّروه» أي تنصروه وتعظّموه. {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبّحوا الله عزّ وجلّ. وقال قتادة:
«تعزّروه» تعظّموه {وَتُوَقِّرُوهُ} تسوّدوه وتشرّفوه، وتأوّله محمد بن يزيد على أنه للمبالغة قال: ومنه عزّر السلطان الإنسان أي بالغ في أدبه فيما دون الحدّ. قال أبو جعفر:
ورأيت علي بن سليمان يتأوّله بمعنى المنع، قال: فعزّرت الرجل الجليل منعت منه ونصرته، وعزّرت الرجل ضربته دون الحدّ. واشتقاقه منعته من أن يعود إلى ما ضربته من أجله.
[سورة الفتح (48): آية 10]
{إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمََا يَنْكُثُ عَلى ََ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُبََايِعُونَكَ} اسم «إنّ» ويجوز أن يكون الخبر {إِنَّمََا يُبََايِعُونَ اللََّهَ} ويجوز أن يكون الخبر {يَدُ اللََّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقرأ ابن أبي إسحاق {وَمَنْ أَوْفى ََ بِمََا عََاهَدَ عَلَيْهُ اللََّهَ} (2) جاء به على الأصل ويجوز فسنؤتيه أجرا عظيما كالأول، فسنؤتيه بإثبات الواو في الإدراج، ويجوز فسنؤتيهي بإثبات الياء في الإدراج تبدل من الواو ياء. حكى هذا كلّه سيبويه وغيره.
[سورة الفتح (48): آية 11]
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ شَغَلَتْنََا أَمْوََالُنََا وَأَهْلُونََا فَاسْتَغْفِرْ لَنََا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مََا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرََادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كََانَ اللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)}
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ} ويجوز إدغام اللام وإن كان فيه جمع بين ساكنين لأن الأول منهما حرف مدّ ولين، ولا يجوز الإدغام في {فَاسْتَغْفِرْ لَنََا} عند الخليل وسيبويه لأن في الراء تكريرا فإن أدغمتها في اللام ذهب التكرير. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} جمع على أنّ اللسان مذكّر ومن أنّثه قال: ألسن. {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا} هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
__________
(1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 603.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 603.(4/131)
ضرا (1) ففرّق بينهما جماعة من أصحاب الغريب منهم أبو عبيد فقال: الضّرّ: ضدّ النفع والضرّ: البؤس كما قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] فعلى هذا يجب أن يكون الضرّ هنا أولى ولكن حكى النحويّون أنّ ضرّه ضرّا وضرّا جائز مثل شرب شربا وشربا.
[سورة الفتح (48): الآيات 12الى 14]
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى ََ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذََلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنََّا أَعْتَدْنََا لِلْكََافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)}
{وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} يقال: إنّ البور في لغة أزد عمان الفاسد، وحكى الفراء: أن البور في كلام العرب لا شيء، وأنه يقال: أصبحت أعمالهم بورا أي لا شيء.
[سورة الفتح (48): الآيات 15الى 16]
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى ََ مَغََانِمَ لِتَأْخُذُوهََا ذَرُونََا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاََمَ اللََّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونََا كَذََلِكُمْ قََالَ اللََّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنََا بَلْ كََانُوا لاََ يَفْقَهُونَ إِلاََّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرََابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقََاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللََّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمََا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذََاباً أَلِيماً (16)}
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى ََ مَغََانِمَ لِتَأْخُذُوهََا ذَرُونََا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلََامَ اللََّهِ} وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كلم الله (2) جمع كلمة، وقول سيبويه «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» يريد به جمع كلمة يريد ثلاثة أنحاء من الكلام اسما وفعلا وحرفا. والكلام اسم للجنس، وقد أجاز بعض النحويين أن يكون الكلام بمعنى التكليم، وأجاز: سمعت كلام زيد عمرا. قال أبو جعفر: وحقيقة الفرق بين الكلام والتكليم أن الكلام قد يسمع بغير متكلّم به، والتكليم لا يسمع إلّا من متكلّم به. {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونََا كَذََلِكُمْ قََالَ اللََّهُ مِنْ قَبْلُ} وهو قوله جلّ وعزّ: {وَلَنْ تُقََاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] ثم قال جلّ ثناؤه بعد هذا {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرََابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} يقال: كيف تدعون إلى القتال، وقد قال {وَلَنْ تُقََاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}
وردّ عليهم قولهم {ذَرُونََا نَتَّبِعْكُمْ}؟ فالجواب عن هذا أنه إنما قال: {لَنْ تُقََاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} وهؤلاء لم يدعوا في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدلك على ذلك أنّ بعده. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمََا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ويعضد هذا الجواب جماعة الحجّة أن أبا بكر وعمر رحمهما الله هما اللذان دعيا الأعراب إلى القتال، كما قال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال: إلى بني حنيفة أصحاب مسيلمة، قال: ويقال إلى فارس
__________
(1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 604.
(2) انظر تيسير الداني 163.(4/132)
والروم. قال مجاهد وعطية العوفي: {إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال: فارس. قال أبو جعفر: فكانت في هذه الآية دلالة على إمامة أبي بكر وعمر وفضلهما رضي الله عنهما وأنهما أخذا الإمامة باستحقاق لقول الله جلّ وعزّ {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللََّهُ أَجْراً حَسَناً} ولا يجوز أن يعطى الله جلّ وعزّ أجرا حسنا إلّا لمن قاتل على حقّ مع إمام عادل. قال الكسائي: {تُقََاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} على النسق. وقال أبو إسحاق: «أو يسلمون» مستأنف، والمعنى أو هم يسلمون. قال الكسائي: وفي قراءة أبيّ بن كعب أو يسلموا (1) بمعنى حتّى يسلموا، والبصريون يقولون: بمعنى إلى أن كما قال: [الطويل] 428 أو نموت فنعذرا (2)
[سورة الفتح (48): آية 17]
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلاََ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاََ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذََاباً أَلِيماً (17)}
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلََا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أصل الحرج في اللغة الضيق. وعن ابن عباس: أن هذا في الجهاد، وأنه كان في وقعة الحديبية فيمن تخلّف عنها.
[سورة الفتح (48): الآيات 18الى 19]
{لَقَدْ رَضِيَ اللََّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبََايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مََا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثََابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغََانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهََا وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)}
{لَقَدْ رَضِيَ اللََّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبََايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} قال جابر كنا ألفا وأربع مائة بايعنا على أن لا نفرّ. {وَأَثََابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} أكثر أهل التفسير على أنه خيبر كانت لأهل الحديبية، وقيل: هو فتح الحديبية. قال الزهري: وكان فتحا عظيما.
[سورة الفتح (48): آية 20]
{وَعَدَكُمُ اللََّهُ مَغََانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهََا فَعَجَّلَ لَكُمْ هََذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النََّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرََاطاً مُسْتَقِيماً (20)}
{فَعَجَّلَ لَكُمْ هََذِهِ} فأهل التفسير على أنها خيبر {وَكَفَّ أَيْدِيَ النََّاسِ عَنْكُمْ} عن ابن عباس والحسن قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم محاصر لهم فألقى في قلوبهم الرعب قال جلّ وعزّ: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وقيل: المعنى: ولتكون المغانم آية أي دلالة على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخباره بالغيب.
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 142، والبحر المحيط 8/ 94.
(2) مرّ الشاهد رقم 148.(4/133)
[سورة الفتح (48): آية 21]
{وَأُخْرى ََ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهََا قَدْ أَحََاطَ اللََّهُ بِهََا وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)}
{وَأُخْرى ََ} في موضع نصب أي وعدكم أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهََا قَدْ أَحََاطَ اللََّهُ بِهََا} أي علم أنها ستكون.
[سورة الفتح (48): آية 22]
{وَلَوْ قََاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبََارَ ثُمَّ لاََ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاََ نَصِيراً (22)}
{وَلَوْ قََاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبََارَ} عن ابن عباس والحسن أيضا أنه في عيينة وعوف.
[سورة الفتح (48): آية 23]
{سُنَّةَ اللََّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللََّهِ تَبْدِيلاً (23)}
{سُنَّةَ اللََّهِ} مصدر لأن معنى {لَوَلَّوُا الْأَدْبََارَ} سنّ الله عزّ وجلّ ذلك. قال أبو إسحاق: ويجوز «سنّة الله» بالرفع أي تلك سنة الله.
[سورة الفتح (48): الآيات 24الى 25]
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكََانَ اللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاََ رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََاباً أَلِيماً (25)}
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ولم تنصرف مكة لأنها معرفة اسم للمؤنث ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون وأخبر أنّهم كفار فقال: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَالْهَدْيَ} معطوف على الكاف والميم وصدّوا الهدي {مَعْكُوفاً} على الحال. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ} «أن» في موضع رفع بدل والمعنى ولولا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء، وقيل: لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك {لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ} من أهل مكة بالوطء، وقيل: المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال: إنّ على هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال الله جلّ وعزّ: {لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ}. فأما معنى {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة أي عيب فيقال: لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه: {لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل.(4/134)
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} ولم تنصرف مكة لأنها معرفة اسم للمؤنث ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون وأخبر أنّهم كفار فقال: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَالْهَدْيَ} معطوف على الكاف والميم وصدّوا الهدي {مَعْكُوفاً} على الحال. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال: {وَلَوْلََا رِجََالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسََاءٌ مُؤْمِنََاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ} «أن» في موضع رفع بدل والمعنى ولولا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء، وقيل: لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك {لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ} من أهل مكة بالوطء، وقيل: المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال: إنّ على هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال الله جلّ وعزّ: {لِيُدْخِلَ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشََاءُ}. فأما معنى {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة أي عيب فيقال: لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه: {لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل.
[سورة الفتح (48): آية 26]
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجََاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللََّهُ سَكِينَتَهُ عَلى ََ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ََ وَكََانُوا أَحَقَّ بِهََا وَأَهْلَهََا وَكََانَ اللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)}
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجََاهِلِيَّةِ} روي عن ابن عباس قال: هم المشركون صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي أن يبلغ محلّه فأما حقيقة الحميّة في اللغة فهي الأنفة والإنكار فإن كانت لما يجب فهي حسنة ويقال فاعلها حامي الذمار، كما قال: [الكامل] 429 حامي الذّمار على محافظة ... الجليّ أمين مغيّب الصّدر (1)
وإن كانت لما لا يجب فهي ضلال وغلوّ كما قال جلّ وعزّ: {حَمِيَّةَ الْجََاهِلِيَّةِ} فأما {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ََ} فللعلماء فيه قولان: روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ََ} «لا إله إلّا الله» وهي رأس كلّ تقوى وكذلك يروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع رحمهم الله قالوا: كلمة التقوى «لا إله إلا الله» وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور ومروان {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ََ} قال: يعني {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} قال الزهري: لمّا كتب الكتاب بالمقاضاة وأملاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (بسم الله الرحمن الرحيم) أنكروا ذلك، وقالوا: ما نعرف إلا «باسمك اللهمّ» فأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب كما قالوا. وهذان القولان ليسا بمتناقضين، لأن الله جلّ وعزّ قد ألزم المؤمنين التوحيد وبسم الله الرحمن الرّحيم. وقد كانوا أنكروا في هذا الكتاب «من محمد رسول الله» وقالوا من محمد عبد الله. {وَكََانُوا أَحَقَّ بِهََا} خبر كان أي أحقّ بها من غيرهم لأنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين اختارهم الله جلّ وعزّ له.
[سورة الفتح (48): آية 27]
{لَقَدْ صَدَقَ اللََّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيََا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاََ تَخََافُونَ فَعَلِمَ مََا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذََلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)}
{لَقَدْ صَدَقَ اللََّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيََا بِالْحَقِّ} ثم بيّن الرؤيا بقوله عزّ وجلّ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ} وتكلّم العلماء في معنى «إن شاء الله» هنا لأن الاستثناء لا يكون في البشارة فيكون فيه فائدة إنما الاستثناء من المخلوقين لأنهم لا يعرفون عواقب الأمور فقيل الاستثناء من امنين.
وقيل: إنما حكي ما كان من الرؤيا وقيل خوطب الناس بما يعرفون ومن حسن ما فيه
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 90.(4/135)
أن يكون الاستثناء لمن قتل منهم أو مات، وقد زعم بعض أهل اللغة أنّ المعنى لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله. وزعم أنه مثل قوله: {وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وأنّ مثله: وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. وهذا قول لا يعرّج عليه، ولا يعرف أحد من النحويين «إن» بمعنى «إذ» وإنّما تلك «أن» فغلط وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين {مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} نصب على الحال، وهي حال مقدرة. وزعم الفراء (1) أنه يجوز «محلّقون رؤوسكم ومقصّرون» بمعنى بعضكم كذا وبعضكم كذا وأنشد: [البسيط] 430 وغودر البقل ملويّ ومحصود (2)
[سورة الفتح (48): آية 28]
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً (28)}
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} قيل: بالحجج والبراهين، وقيل: لا بد أن يكون هذا، وقيل: وقد كان لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث والأديان أربعة فقهرت كلّها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى ليظهره على أمر الدّين كلّه أي ليبينه له.
قال أبو جعفر: هذا من أحسن ما قيل في الآية لأنه لا معارضة فيه.
[سورة الفتح (48): آية 29]
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ تَرََاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذََلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)}
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ} مبتدأ وخبره {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ} مثله. وروى قرّة عن الحسن أنه قرأ {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} (3) بالنصب على الحال وخبر «الذين» «تراهم»، ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره تراهم. {رُكَّعاً سُجَّداً} على الحال. {سِيمََاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي علامتهم.
وأصحّ ما قيل فيه أنّهم يوم القيامة يعرفون بالنور الّذي في وجوههم. وفي الحديث «تأتي أمتي غرّا محجّلين» (4) {ذََلِكَ مَثَلُهُمْ} مبتدأ وخبره {فِي التَّوْرََاةِ} تمام الكلام على
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 68.
(2) مرّ الشاهد رقم (384).
(3) انظر البحر المحيط 8/ 100، ومختصر ابن خالويه 142.
(4) أخرجه مالك في الموطأ باب الحديث 28، وابن ماجة في سننه الطهارة باب 6الحديث (283).(4/136)
قول الضّحاك وقتادة، ويكون {مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} مبتدأ، وخبره {كَزَرْعٍ}، وعلى قول مجاهد التمام {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} تعطف مثلا على مثل ثم تبتدئ «كزرع» أي هم كزرع. {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} عن ابن عباس قال: السنبلة بعد أن كانت وحدها تخرج معها سبع سنابل وأكثر وروى حميد عن أنس {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (1) قال: نباته وفراخه. قال أبو جعفر: إن خفّفت الهمزة قلت شطه فألقيت حركتها على الطاء وحذفتها {فَآزَرَهُ} (2) قال أهل اللغة: أي لحق بالأمهات. وأصل أزره قوّاه {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى ََ عَلى ََ سُوقِهِ} جمع ساق على فعول حذف منه {يُعْجِبُ الزُّرََّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفََّارَ} قيل: الكفار هاهنا الزراع لأنهم يغطون الزّرع، وقيل: هم الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا أولى لأنه لا يجوز يعجب الزراع ليغيظ بهم الزراع. {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} تكون «منهم» لبيان الجنس أولى لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا ثبتوا، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 101.
(2) انظر تيسير الداني 164.(4/137)
49 - شرح إعراب سورة الحجرات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحجرات (49): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {يََا} حرف ينادى به، وأي مضمومة لأنها نداء مفرد، وها للتنبيه، {الَّذِينَ} في موضع رفع نعت لأيّ. ومن العرب من يقول: اللّذون {آمَنُوا} صلة «الذين». {لََا تُقَدِّمُوا} جزم بالنهي، وبعض النحويين يقول: جزم بلا لشبهها بلم، وبعضهم يقول: لقوتها في قلب الفعل إلى المستقبل لا غيره.
وروي في نزول هذه الآية أقوال فمن أصحّها سندا وأبينهما ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجّاج عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إليّ أو إلى خلافي؟
فقال: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1).
قال الحسن: وحدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن الحسن {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} قال: لا تذبحوا قبل الإمام. وروى الضحاك عن ابن عباس {لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} قال: هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا، لأن هذه الأشياء إذا كانت ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يتشاوروا، وتأولها قوم على منع الذبح قبل الإمام، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس
والضحاك {لََا تُقَدِّمُوا} (1) وزعم الفراء (2) أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر: وإن كان المعنى واحدا على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقدّموا ليس كذا، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل.(4/138)
قال الحسن: وحدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن الحسن {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} قال: لا تذبحوا قبل الإمام. وروى الضحاك عن ابن عباس {لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} قال: هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا، لأن هذه الأشياء إذا كانت ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يتشاوروا، وتأولها قوم على منع الذبح قبل الإمام، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس
والضحاك {لََا تُقَدِّمُوا} (1) وزعم الفراء (2) أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر: وإن كان المعنى واحدا على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقدّموا ليس كذا، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل.
[سورة الحجرات (49): آية 2]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاََ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاََ تَشْعُرُونَ (2)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَرْفَعُوا أَصْوََاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال إبراهيم التيمي: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله لا أكلمك إلا أخا السّرار. قال ابن أبي مليكة قال عبد الله بن الزبير: فكان عمر بعد نزول هذه الآية لا يسمّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى يستفهمه. وقال أنس: تأخّر ثابت بن قيس في منزله، وقال: أخاف أن أكون من أهل النار حتّى أرسل إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لست من أهل النار» (3) وعمل جماعة من العلماء على أن كرهوا رفع الصوت عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبحضرة العلماء وفي المساجد، وقالوا: هذا أدب الله جلّ وعزّ ورسوله عليه السلام، واحتجّوا في ذلك بحديث البراء وغيره، كما قرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان أبي عمرو عن البرآء قال: خرجنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ رؤوسنا الطير، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكبّ في الأرض فرفع رأسه وقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» (4) مرّتين أو ثلاثا، وذكر الحديث. فكان فيما ذكرناه فوائد: منها خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدلّ هذا على أنه لا ينبغي لإمام ولا لأمير ولا قاض أن يتأخر عن الحقوق من أجل ما هو فيه، وفيه مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، أي ساكنين إجلالا له فدلّ هذا على أنه كذا ينبغي لمن جالس عالما أو واليا يجب أن يجلّ، كما روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس منّا من لم يجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا» (5). {وَلََا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الكاف في وضع
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 105، والمحتسب 2/ 278.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 69.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 106.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 287و 6/ 362، وأبو داود في سننه (4753)، والترمذي في سننه (3604)، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (1630)، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 49، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 10/ 400، وأبو نعيم الحلية 8/ 118.
(5) ذكره الحاكم في المستدرك 1/ 122، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 196، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 14، والمتقي الهندي في كنز العمال (5980)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 6/ 259، والطحاوي في مشكل الآثار 2/ 133.(4/139)
نصب أي جهرا كجهر بعضكم لبعض. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمََالُكُمْ} «أن» في موضع نصب فقال بعض أهل اللغة: أي لئلا تحبط أعمالكم، وهذا قول ضعيف إذا تدبّر علم أنه خطأ، والقول ما قاله أبو إسحاق هو غامض في العربية قال: المعنى لأن تحبط وهو عنده مثل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]. {وَأَنْتُمْ لََا تَشْعُرُونَ} قيل: أي لا تشعرون أنّ أعمالكم قد حبطت.
[سورة الحجرات (49): آية 3]
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوََاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوََاتَهُمْ} اسم إنّ، ويجوز أن يكون الخبر {أُولََئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ} ويكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين» خبره، ويجوز أن يكون {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ََ} خبر إنّ و «أولئك» نعتا للذين، ويجوز أن يكون خبر إنّ {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
[سورة الحجرات (49): آية 4]
{إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ أَكْثَرُهُمْ لاََ يَعْقِلُونَ (4)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُنََادُونَكَ مِنْ وَرََاءِ الْحُجُرََاتِ} اسم «إنّ» والخبر {أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} ويجوز أن تنصب أكثرهم على البدل من الذين وقرأ يزيد بن القعقاع {الْحُجُرََاتِ} بفتح الجيم. وقد ردّه أبو عبيد على أنه جمع الجمع على التكثير. جمع حجرة على حجر ثمّ جمع حجرا على حجرات. قال أبو جعفر: وهذا خلاف قول الخليل وسيبويه، ومذهبهما أنه يقال: حجرة وحجرات وغرفة وغرفات فتزاد منها فتحة فيقال: حجرات وركبات وتحذف فيقال: حجرات وركبات، كما يقال: عضد عضد. وروى الضحاك عن ابن عباس: إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات إعراب من بني تميم منهم عيينة ابن حصن صاحوا ألا تخرج إلينا يا محمد، اخرج إلينا يا محمد. {أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} ما في هذا من القبح.
[سورة الحجرات (49): آية 5]
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتََّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكََانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} أي عند النداء {حَتََّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكََانَ خَيْراً} أي لكان الصبر خيرا لهم، ودلّ صبروا على المضمر. {وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفر لهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بهذا استخفافا، وإنما كان منهم سوء أدب.(4/140)
[سورة الحجرات (49): آية 6]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ََ مََا فَعَلْتُمْ نََادِمِينَ (6)}
يقرأ فتثبّتوا وهما قراءتان (1) معروفتان إلّا أن «فتبيّنوا» أبلغ لأن الإنسان قد يثبّت ولا يتبيّن. {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهََالَةٍ فَتُصْبِحُوا} عطفا على تصيبوا.
[سورة الحجرات (49): الآيات 7الى 8]
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللََّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيََانَ أُولََئِكَ هُمُ الرََّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللََّهِ وَنِعْمَةً وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
العلماء من أهل السنّة يقولون: معنى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمََانَ} وفّقكم له، وفعل أفاعيل تحبّون معها الإيمان وتستحسنونه فلما أحبّوه واستحسنوه نسب الفعل إليه، وكذا فعل أفاعيل كرهوا معها الكفر والفسق والعصيان. فأما أن يكون معنى «حبّب» أمركم أن تحبّوه فخطأ من كل جهة منها أنه إنما يقال: حبّب فلان إليك نفسه أي أنه فعل أفعالا أحببته من أجلها، ومنها أنه قول مبتدع مخالف صاحبه لنصّ القرآن قال جلّ وعزّ:
{وَمََا تَوْفِيقِي إِلََّا بِاللََّهِ} [هود: 88] ومنه قوله: {اهْدِنَا} [الفاتحة: 6] من هذا بعينه، ومنها أنّ نص الآية يدلّ على خلاف ما قال جلّ وعزّ: {أُولََئِكَ هُمُ الرََّاشِدُونَ} فلا اختلاف في هذا أنه يرجع إلى الذين حبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلو كان معنى حبّب أمرهم أن يحبوه كان الكفار وأهل المعاصي داخلين في هذا. وهذا خارج من الملّة و «الراشدون» الذين رشدوا للإيمان وتركوا المعاصي ثم بيّن جلّ وعزّ أنّ ذلك فضل منه ونعمة فقال جلّ وعزّ: {فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَنِعْمَةً} قال أبو إسحاق: «فضلا» مفعول من أجله أي للفضل. {وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح عباده ومنافعهم، حكيم في أفعاله.
[سورة الحجرات (49): آية 9]
{وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدََاهُمََا عَلَى الْأُخْرى ََ فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ فَإِنْ فََاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}
{طََائِفَتََانِ} مرفوعتان بإضمار فعل أي وإن اقتتلت طائفتان، ويجوز أن يكون المضمر كان ولا بدّ من إضمار لأن «إن» لا يليها إلا الفعل لأنها للشرط، وجوابه {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدََاهُمََا عَلَى الْأُخْرى ََ} شرط أيضا، والجواب {فَقََاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتََّى تَفِيءَ إِلى ََ أَمْرِ اللََّهِ} أي ترجع فإن قلت: تفي بغير همز فمعناه تكثر. {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 80.(4/141)
قال محمد بن يزيد: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل، مأخوذ منه أي أزال القسوط وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كثيرا المقسطون الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا على منابر من نور على يمين الرحمن جلّ وعزّ» (1).
[سورة الحجرات (49): آية 10]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} مبتدأ وخبره لمّا اتّفقوا في الدّين رجعوا إلى أصلهم لأنهم جميعا من بني آدم. وقراءة عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن سيرين فأصلحوا بين إخوانكم (2)، وقراءة يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم (3) وأخ وإخوة لأقلّ العدد وإخوان للكثير و {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (4) بين كلّ مسلمين اقتتلا فقد صار عامّا.
[سورة الحجرات (49): آية 11]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى ََ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاََ نِسََاءٌ مِنْ نِسََاءٍ عَسى ََ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاََ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاََ تَنََابَزُوا بِالْأَلْقََابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمََانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ (11)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} جزم بالنهي. وروى الضّحاك عن ابن عباس أن بعضهم كان يقول لبعض: أنّك لغير رشيد، وما أشبه ذلك، يستهزئ به فنزل هذا، وهو من بني تميم {وَلََا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} نهي أيضا. قال عكرمة عن ابن عباس: أي لا يعب بعضكم بعضا. وسمعت علي بن سليمان يقول: اللّمز في اللغة أن يعيب بالحضرة، والهمز في الغيبة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: اللّمز يكون باللسان والعين يعيبه ويحدّد إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلّا باللسان في الحضرة والغيبة، وأكثر ما يكون في الغيبة، فهذا شرح بيّن، وقد أنشد أبو العباس لزياد الأعجم: [البسيط] 431 إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه (5)
قال محمد بن يزيد: واللّمز كالغيبة قال: والنبز اللّقب الثابت: قال: والمنابزة الإشاعة والإذاعة به. قال أبو جعفر: فأما اللّقب فقد جاء التوقيف فيه عمّن حضر التنزيل وعرف نزول الآية فيم نزلت، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن حميد بن مسعدة قال: أخبرنا بشر عن داود عن الشعبي قال: قال أبو جبيرة فينا نزلت هذه الآية
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 159، 160.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(5) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه 78، وبهجة المجالس 1/ 404، وبلا نسبة في لسان العرب (همز)، وجمهرة اللغة ص 727، ومقاييس اللغة 6/ 66، ومجمل اللغة 4/ 488، وديوان الأدب 1/ 256، وأساس البلاغة (لمز)، وإصلاح المنطق 428، وتاج العروس (همز)، وكتاب العين 4/ 17.(4/142)
في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وللرجل منا اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها فيقال: يا رسول الله إنه يغضب منه فنزلت {وَلََا تَنََابَزُوا بِالْأَلْقََابِ} فأما حديث الضّحاك عن ابن عباس كان الرجل يقول للآخر: يا كافر يا فاسق، فنزلت: {وَلََا تَنََابَزُوا بِالْأَلْقََابِ} فإسناد الأول أصحّ منه، ولو صحّ هذا لم يكن ناقضا للأول، لأن المعنى في اللّقب على ما قال محمد بن يزيد وغيره: أنه كلّما كان ذائعا يغضب الإنسان منه ويكره قائله أن يلقى صاحبه به ويكرهه المقول له به فمحظور التنابز به. {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ} رفع بالابتداء والتقدير الفسوق بعد أن امنتم بئس الاسم {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} قال الضّحاك عن ابن عباس: من لم يتب من هذا القول.
[سورة الحجرات (49): آية 12]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاََ تَجَسَّسُوا وَلاََ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فسّر ابن عباس الإثم فيم هو؟ قال: إن تقول بعد أن تظنّ، فإن أمسكت فلا إثم والبيّن في هذا أنّ الظنّ الذي هو إثم، وهو حرام على فاعله، أن يظنّ بالمسلم المستور شرا، وأما الظن المندوب إليه فأن تظنّ به خيرا وجميلا، كما قال جلّ وعزّ: {لَوْلََا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12] قال: {وَلََا تَجَسَّسُوا} أي لا تبحث عن عيب أخيك بعد أن ستره الله جلّ وعزّ عنه: {وَلََا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} بيّن الله جلّ وعزّ الغيبة على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن علي بن حجر قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله جلّ وعزّ ورسوله أعلم قال: أن تذكر أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان ذلك في أخي؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» (1) فهذا حديث لا مطعن في سنده ثم جرت العلماء عليه، فقال محمد بن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشدّ سواد شعره، ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. فقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في امرأة ما أطول درعها فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد اغتبتها فاستحلّي منها» (2). وقال أبو نضرة عن جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا، لأن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه والرجل يغتاب الرجل فيتوب فلا يتاب عليه حتّى يستحلّه» (3). قال أبو جعفر: وفي الغيبة ما لا يقع فيه
__________
(1) أخرجه مالك في الموطّأ باب 4الحديث رقم (10)، والترمذي في سننه البر والصلة 8/ 120، والدارمي في سننه 2/ 299، وأبو داود في سننه الحديث رقم (4874).
(2) أخرجه أبو داود في سننه الأدب الحديث رقم (4875).
(3) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 91، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 533، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4874)، والسيوطي في الحاوي للفتاوى 1/ 172، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 511، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (2474).(4/143)
استحلال، وهو أعظم، كما روي أن رجلا قال لمحمد بن سيرين: إنّي قد اغتبتك فحلّلني فقال: إنّي لا أحلّ ما حرّم الله تعالى. وروى عقيل عن ابن شهاب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّما كرهت أن تقوله لأخيك في وجهه ثم قلته من ورائه فقد اغتبته» (1). {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} هذا الأصل ثم من خفّف قال: ميتا {فَكَرِهْتُمُوهُ} قال الكسائي: المعنى فكرهتموه فينبغي أن تكرهوا الغيبة. وقال محمد بن يزيد: أي فكرهتم أن تأكلوه فحمل على المعنى مثل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنََا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 1].
[سورة الحجرات (49): آية 13]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ} عامّ والذي بعده خاص لأن الشعوب والقبائل في العرب خاصّة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} روى عبد الرحمن في العرب خاصة قيل:
يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»؟ (2) وقالت درّة: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من خير الناس؟ قال: «أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم وأتقاهم» (3) قال ابن عباس: ترك الناس هذه الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} وقالوا: بالنسب. وقال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلهم نسبا. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ} ليقم المتّقون فلا يقوم إلّا من كان كذلك.
[سورة الحجرات (49): الآيات 14الى 15]
{قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا وَلَمََّا يَدْخُلِ الْإِيمََانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ لاََ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمََالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتََابُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أُولََئِكَ هُمُ الصََّادِقُونَ (15)}
{قََالَتِ الْأَعْرََابُ آمَنََّا} قال محمد بن يزيد: هذا على تأنيث الجماعة أي قالت جماعة الأعراب {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلََكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنََا} والإسلام في اللغة الخضوع والتذلّل لأمر الله جلّ وعزّ والتسليم له والإيمان والتصديق بكلّ ما جاء من عند الله جلّ وعزّ فإذا خضع لأمر الله سبحانه وتذلّل له فهو مصدّق، وإذا كان مصدّقا فهو مؤمن، ومن كان على هذه الصفة فهو مسلم مؤمن إلّا أن للإسلام موضعا أخر وهو الاستسلام خوف
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ باب 4الحديث (10).
(2) أخرجه الترمذي في سننه (2329)، وأحمد في مسنده 4/ 188، و 5/ 40، والدارمي في سننه 2/ 308، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 371.
(3) أخرجه القرطبي في تفسيره 4/ 47.(4/144)
القتل {وَإِنْ تُطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ لََا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمََالِكُمْ شَيْئاً} هذه قراءة أكثر الناس، وبها قامت الحجّة وقرأ أبو عمرو والأعرج لا يألتكم (1) وهي مخالفة للسواد إلا أن من قرأ بها يحتجّ بإجماع الجميع على {وَمََا أَلَتْنََاهُمْ} [الطور: 21] والقول في هذا: إنّهما لغتان معروفتان مشهورتان، فإذا كان الأمر كذلك فاتباع السواد أولى.
[سورة الحجرات (49): آية 16]
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللََّهَ بِدِينِكُمْ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)}
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللََّهَ بِدِينِكُمْ} على التكثير من تعلمون.
[سورة الحجرات (49): آية 17]
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاََ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاََمَكُمْ بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ لِلْإِيمََانِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (17)}
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} «أن» في موضع نصب بمعنى يمنون عليك إسلامهم، ويجوز أن يكون التقدير بأن ثم حذفت الباء. {بَلِ اللََّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدََاكُمْ} أي بأن ولأن ثمّ حذف الحرف فتعدّى الفعل.
[سورة الحجرات (49): آية 18]
{إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاللََّهُ بَصِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ (18)}
{وَاللََّهُ بَصِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} مبتدأ وخبر أي عالم به، وإذا علمه جازى عليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 116.(4/145)
50 - شرح إعراب سورة ق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة ق (50): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}
{ق} غير معربة لأنها حرف تهجّ. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناها. {وَالْقُرْآنِ} خفض بواو القسم. {الْمَجِيدِ} من نعته. قال سعيد بن جبير: «المجيد» الكريم، فأما جواب القسم ففيه أربعة أجوبة: قال الأخفش سعيد: {قَدْ عَلِمْنََا مََا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] وقال أبو إسحاق: الجواب محذوف أي والقرآن المجيد لتبعثنّ، وقيل:
بل المحذوف ما ذلّ عليه سياق الكلام لأنهم قالوا: إنّ هذا النبيّ عجيب تعجّبوا من أن يبعث إليهم رجل من بني أدم فوقع الوعيد على ذلك أي والقرآن المجيد لتعلمنّ عاقبة تكذيبكم يوم القيامة فقالوا: {أَإِذََا مِتْنََا}. قال أبو جعفر: فهذان جوابان، ومن قال:
معنى قضي الأمر والله فليس يحتاج إلى جواب، لأن القسم متوسّط، كما تقول: قد كلّمتك والله اليوم. والجواب الرابع أن يكون «ق» اسما للجبل المحيط بالأرض. قال ذلك وهب بن منبّه. فيكون التقدير: هو قاف والله، فقاف على هذا في موضع رفع.
قال أبو جعفر: وأصحّ الأجوبة أن يكون الجواب محذوفا للدلالة لأن إذا متنا جواب فلا بدّ من أن يكون «إذا» متعلّقة بفعل أي أنبعث إذا، فأما أن يكون الجواب قد علمنا فخطأ لأن «قد» ليست من جواب الأقسام، وقاف إذا كان اسما للجبل فالوجه فيها الإعراب.
[سورة ق (50): آية 2]
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)}
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي لم يكذّبوك لأنّهم لا يعرفونك بالصدق بل عجبوا أن جاءهم برسالة رب العالمين. {فَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
[سورة ق (50): آية 3]
{أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً ذََلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)}
{أَإِذََا مِتْنََا} أي أنبعث إذا متنا. {وَكُنََّا تُرََاباً ذََلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ومعنى بعيد عند الفراء لا يكون. وذلك معروف في اللغة.(4/146)
[سورة ق (50): آية 4]
{قَدْ عَلِمْنََا مََا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنََا كِتََابٌ حَفِيظٌ (4)}
{قَدْ عَلِمْنََا مََا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي من لحومهم وأبدانهم {وَعِنْدَنََا كِتََابٌ حَفِيظٌ} بمعنى حافظ لأنه لا يندرس ولا يتغير.
[سورة ق (50): آية 5]
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ} أي لم يكذّبوك لشيء ظهر عندهم. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} روي عن ابن عباس: «مريج» منكر. وعنه: مريج في ضلالة، وعنه: مريج مختلف، وقال مجاهد وقتادة: مريج ملتبس، وقال الضّحاك وابن زيد: مريج مختلط. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال، وإن كانت ألفاظها مختلفة فمعانيها متقاربة لأن الأمر إذا كان مختلفا فهو ملتبس منكر في ضلالة لأن الحقّ بيّن واضح.
[سورة ق (50): آية 6]
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمََاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنََاهََا وَزَيَّنََّاهََا وَمََا لَهََا مِنْ فُرُوجٍ (6)}
أي أفلم ينظر هؤلاء المشركون الذين أنكروا البعث وجحدوا قدرتنا على إحيائهم بعد البلى إلى قدرتنا على خلق السماء حتّى جعلناها سقفا محفوظا. {وَزَيَّنََّاهََا} أي بالكواكب. {وَمََا لَهََا مِنْ فُرُوجٍ} يكون جمعا ويكون واحدا أي من فتوق وشقوق.
[سورة ق (50): آية 7]
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)}
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا} أي بسطناها ونصبت الأرض بإضمار فعل أي وبسطنا الأرض، والرفع جائز إلّا أن النصب أحسن لتعطف الفعل على الفعل. {وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ} أي جبالا رست في الأرض أي ثبتت. {وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي نوع. قال ابن عباس:
{بَهِيجٍ} حسن.
[سورة ق (50): آية 8]
{تَبْصِرَةً وَذِكْرى ََ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)}
{تَبْصِرَةً} مصدرا، ومفعول له أي فعلنا ذلك لنبصّركم قدرة الله سبحانه {وَذِكْرى ََ} أي ولتذكروا عظمة الله وسلطانه فيعلموا أنه قادر على أن يحيي الموتى ويفعل ما يريد.
{لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي راجع إلى الإيمان وطاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة ق (50): آية 9]
{وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً فَأَنْبَتْنََا بِهِ جَنََّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)}
{وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً} وهو المطر. {فَأَنْبَتْنََا بِهِ جَنََّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} زعم الفراء (1): أنّ الشيء أضيف إلى نفسه لأن الحب هو الحصيد عنده. قال أبو جعفر:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 76.(4/147)
سمعت علي بن سليمان يحكي عن البصريين منهم محمد بن يزيد أن إضافة الشيء إلى نفسه محال، ولكن التقدير حبّ النبت الحصيد.
[سورة ق (50): آية 10]
{وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ لَهََا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)}
{وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ} أي وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة «باسقات» على الحال {لَهََا طَلْعٌ نَضِيدٌ} رفعت طلعا بالابتداء وإنه كان نكرة لما فيه من الفائدة.
[سورة ق (50): آية 11]
{رِزْقاً لِلْعِبََادِ وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذََلِكَ الْخُرُوجُ (11)}
{رِزْقاً لِلْعِبََادِ} قال أبو إسحاق: رزقا مصدر، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله.
{وَأَحْيَيْنََا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} أي مجدبة، ليس فيها زرع ولا نبات {كَذََلِكَ الْخُرُوجُ} مبتدأ وخبره أي الخروج من قبوركم كذا يبعث الله جلّ وعزّ ماء فينبت به الناس كما ينبت الزّرع (1)، وقال أبو إسحاق: المعنى كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.
[سورة ق (50): الآيات 12الى 14]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحََابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوََانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)}
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذّبت قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم قوم نوح، والتاء لتأنيث الجماعة {وَأَصْحََابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} {وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوََانُ لُوطٍ} (13). {وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ} قال مجاهد: الرّسّ: بئر. وقال قتادة: الأيكة الشجر الملتفّ {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} عطف كلّه. قال أبو مجلز سأل عبد الله بن عباس كعبا عن تبّع فقال: كان رجلا صالحا أخذ فتية من الأحبار فاستبطنهم فأسلم فأنكر ذلك قومه عليه. وفي حديث سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان أسلم» {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} التقدير عند سيبويه: كلّهم ثم حذف لدلالة كلّ، وأجاز النحويون جميعا: كلّ منطلق، بمعنى كلّهم. قال أبو جعفر سمعت محمد بن الوليد يجيز حذف التنوين فيقول: كلّ منطلق بمعنى كلّهم. يجعله غاية مثل قبل وبعد. قال علي بن سليمان: هذا كلام من لم يعرف لم بني قبل وبعد، ونظير هذا من الألفاظ لأن النحويين قد خصّوا الظروف للعلّة التي فيها ليست في غيرها. قال أبو جعفر: وهذا كلام بين عند أهل العربية صحيح.
وحذفت الياء من {وَعِيدِ} لأنه رأس آية لئلا يختلف الآيات، فأما من أثبتها في الإدراج وحذفها في الوقف فحجّته أنّ الوقف موضع حذف، الدليل على ذلك أنك تقول: لم يمض، فإذا وصلت كسرت الضاد لا غير ومعنى {فَحَقَّ وَعِيدِ} فوجب الوعيد من الله جلّ وعزّ للكفار بالعذاب في الآخرة والنقمة.
__________
(1) مرّ الحديث في الآية 10الزخرف.(4/148)
[سورة ق (50): آية 15]
{أَفَعَيِينََا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
{أَفَعَيِينََا} [1] بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقال: عيينا بالأمر وعييّ به إذا لم يتجه، ولم يحسنه، وإذا قلت: عيينا لم يجز الإدغام لأن الحرف الثاني ساكن فلو أدغمته في الأول التقى ساكنان. فأما المعنى فإنه قيل لهؤلاء الذين أنكروا البعث فقالوا (ذلك رجع بعيد) أفعيينا بالابتداء الخلق فنعيا بإحيائكم بعد البلى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
أفعيينا بالخلق الأول، قال: يقول لم نعي به. قال أبو جعفر: وهكذا الاستفهام الذي فيه معنى التقرير والتوبيخ يدخله معنى النفي أي لم يعي بالخلق الأول {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي من البعث.
[سورة ق (50): آية 16]
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ وَنَعْلَمُ مََا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)}
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ وَنَعْلَمُ مََا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الضمير الذي في به يعود على «ما»، وأجاز الفراء (2) أن يعود على الإنسان أي ويعلم ما توسوس إليه نفسه. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} قال ابن عباس: الوريد حبل العنق، وللنحويين فيه تقديران: قال الأخفش سعيد: ونحن أقرب إليه بالمقدرة من حبل الوريد، وقال غيره: أي ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد.
[سورة ق (50): آية 17]
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيََانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ قَعِيدٌ (17)}
ولم يقل: قعيدان ففيه أجوبة: فمذهب سيبويه والكسائي أن المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ثم حذف. ومذهب الأخفش والفراء أن «قعيد» واحد يؤدي عن اثنين، وأكثر منهما، كما قال جلّ وعزّ: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67]. وقال محمد بن يزيد: إنّ التقدير في {قَعِيدٌ} أن يكون ينوى به التقديم أي عن اليمين قعيد ثم عطف عليه وعن الشمال. قال أبو جعفر: وهذا بيّن حسن ومثله {وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وقول رابع أن يكون قعيد بمعنى الجماعة، كما يستعمل العرب في فعيل، قال جلّ وعزّ: {وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
[سورة ق (50): آية 18]
{مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاََّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)}
{مََا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الضمير الذي فيه يعود على الإنسان أي ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلّم به إلّا عند لفظ به. {رَقِيبٌ} أي حافظ يحفظ عليه. {عَتِيدٌ} معدّ. يكون هذا من متصرّفات فعيل يكون بمعنى الجمع وبمعنى مفعل وبمعنى مفعول مثل قتيل، وبمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 122.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 77.(4/149)
[سورة ق (50): آية 19]
{وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذََلِكَ مََا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}
{وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي شدّته وغلبته على فهم الإنسان حتّى يكون كالسكران من الشراب أو النوم. {بِالْحَقِّ} أي بأمر الآخرة الذي هو حقّ حتّى يتبيّنه عيانا، وقول أخر أن يكون الحقّ هو الموت أي وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت. وصحّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت (1) وكذا عن عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه. قال: وهذه قراءة على التفسير. وفي معناها قولان: يكون الحقّ هو الله جلّ وعزّ أي وجاءت سكرة الله بالموت، والقول الآخر قول الفراء تكون السّكرة هي الحق، وجاءت السكرة الحقّ أضيف الشّيء إلى نفسه. {ذََلِكَ مََا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي تلك السكرة ما كنت منه تهرب. فأما التذكير فبمعنى ذلك السّكر.
[سورة ق (50): آية 20]
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذََلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)}
أي ما وعد الله عزّ وجلّ الكفار وأصحاب المعاصي بالنار.
[سورة ق (50): آية 21]
{وَجََاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهََا سََائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)}
محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان وجاء كلّ نفس معه والتقدير ومعها حذفت الواو للعائد والجملة في موضع نصب على الحال.
[سورة ق (50): آية 22]
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا} اختلف أهل العلم في هذه المخاطبة لمن هي فقالوا فيها ثلاثة أقوال: قال زيد بن أسلم وعبد الرحمن بأنّ هذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحكى عبد الله بن وهب عن يعقوب عن عبد الرحمن قال: قلت لزيد بن أسلم وهذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنكرت من هذا وقد قال الله سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ} [الضحى: 6، 7]. قال: فهذا قول، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا} قال: هذا مخاطبة للكفار، وكذا قال مجاهد، وقال الضحاك: مخاطبة للمشركين وقال صالح بن كيسان بعد أن أنكر على زيد بن أسلم ما قاله، وقال: ليس عالما بكلام العرب ولا له وإنما هذه مخاطبة للكفار.
فهذان قولان، والقول الثالث ما قاله الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال:
هذا مخاطبة للبرّ والفاجر، وهو قول قتادة. قال أبو جعفر: أما قول زيد بن أسلم فتأويله على أن الكلام تم عنده عند قوله جلّ وعزّ: {وَجََاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهََا سََائِقٌ وَشَهِيدٌ} (21)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 78، والمحتسب 2/ 283.(4/150)
ثم ابتدأ يا محمد لقد كنت في غفلة من هذا الدّين ومما أوحي إليك من قبل أن تبعث إذ كنت في الجاهلية {فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ} أي فبصّرناك {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي فعلمك نافذ.
والبصر هاهنا بمعنى العلم. وأولى ما قيل في الآية أنها على العموم للبرّ والفاجر يدلّ على ذلك {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ وَنَعْلَمُ مََا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فهذا عامّ لجميع الناس برّهم وفاجرهم، فقد علم أنّ معنى {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءتك أيّها الإنسان سكرة الموت ثم جرى الخطاب على هذا في {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا} أي لقد كنت أيّها الإنسان في غفلة مما عاينت فإن كان محسنا ندم إذ لم يزدد، وإن كان مسيئا ندم إذ لم يقلع هذا لما كشف عنهما الغطاء، فبصرك اليوم نافذ لما عاينت. وقال الضحاك: فبصرك لسان الميزان:
قيل: فتأوّل بعض العلماء هذا على التمثيل بالعدل أي أنت أعرف خلق الله جلّ وعزّ بعملك، فبصرك به كلسان الميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان.
[سورة ق (50): آية 23]
{وَقََالَ قَرِينُهُ هََذََا مََا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)}
{وَقََالَ قَرِينُهُ} قال عبد الرحمن بن زيد: «قرينه» سائقه الذي وكّل به {هََذََا مََا لَدَيَّ عَتِيدٌ} قال: هذا ما أخذه وجاء به، {هََذََا} في موضع رفع بالابتداء و {مََا} خبر الابتداء و {عَتِيدٌ} خبر ثان، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون بدلا من «ما»، ويجوز أن يكون نعتا لما على أن تجعل «ما» نكرة، ويجوز النصب في غير القرآن مثل {وَهََذََا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72].
[سورة ق (50): آية 24]
{أَلْقِيََا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفََّارٍ عَنِيدٍ (24)}
اختلف النحويون في قوله ألقيا، فقال قوم: هو مخاطبة للقرين أي يقال للقرين:
ألقيا. فهذا قول الكسائي والفراء، وزعم (1): أنّ العرب تخاطب الواحد بمخاطبة الاثنين فيقول: يا رجل قوما، وأنشد: [الطويل].
432 - خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب (2)
وإنّما خاطب واحدا واستدلّ على ذلك قوله: [الطويل] 433 ألم تر أنّي كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
وقال قوم: «قرين» للجماعة والواحد والاثنين مثل {وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ}
[التحريم: 4]. قال أبو جعفر: وحدّثنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد عن بكر بن محمد المازني، قال: العرب تقول للواحد: قوما على شرط إذا أرادت تكرير الفعل أي
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 78.
(2) هذا الشاهد والذي بعده لامرئ القيس في ديوانه ص 41، والأشباه والنظائر 8/ 85، ولسان العرب (ندل) و (محل).(4/151)
قم قم، فجاؤوا بالألف لتدلّ على هذا المعنى، وكذا «ألقيا» وقول أخر: يكون مخاطبة لاثنين. قال عبد الرحمن بن زيد: معه السائق والحافظ جميعا. قال مجاهد وعكرمة:
العنيد المجانب للحقّ والمعاند لله جلّ وعزّ. قال محمد بن يزيد: عنيد بمعنى معاند مثل ضجيع وجليس.
[سورة ق (50): آية 25]
{مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)}
{مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي لما يجب عليه من زكاة وغيرها. والخير المال. و {مُعْتَدٍ} على الناس بلسانه ويده. قال قتادة: {مُرِيبٍ} شاك.
[سورة ق (50): آية 26]
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَأَلْقِيََاهُ فِي الْعَذََابِ الشَّدِيدِ (26)}
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} يكون «الذي» في موضع نصب بدلا من كلّ وبمعنى أعني، ويكون رفعا بإضمار مبتدأ، وبالابتداء وخبره {فَأَلْقِيََاهُ فِي الْعَذََابِ الشَّدِيدِ}.
[سورة ق (50): آية 27]
{قََالَ قَرِينُهُ رَبَّنََا مََا أَطْغَيْتُهُ وَلََكِنْ كََانَ فِي ضَلاََلٍ بَعِيدٍ (27)}
{قََالَ قَرِينُهُ رَبَّنََا مََا أَطْغَيْتُهُ} أي ما جعلته طاغيا أي متعدّيا إلى الكفر. {وَلََكِنْ كََانَ فِي ضَلََالٍ بَعِيدٍ} أي في طريق جائر عن الحق.
[سورة ق (50): آية 28]
{قََالَ لاََ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)}
{قََالَ لََا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: اعتذروا بغير عذر فأبطل عليهم حجّتهم {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي بالوعيد الذي لا حيف فيه، ولا خلف له فلا تختصموا لديّ.
[سورة ق (50): آية 29]
{مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمََا أَنَا بِظَلاََّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)}
{مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قال مجاهد: أي قد قضيت ما أنا قاض. {وَمََا أَنَا بِظَلََّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي لا أخذ أحدا بجرم أحد.
[سورة ق (50): آية 30]
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ} والعامل في يوم ظلام {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} في معناه قولان: أحدهما أنّ المعنى: ما في مزيد، ويحتج صاحب هذا القول بقوله جلّ وعزّ:
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13، ص: 85]. وهذا قول عكرمة، ونظيره الحديث حين قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تنزل دارا من دورك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دار» (1) أي ما
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 34، والمتقي الهندي في كنز العمال (30429) و (30685).(4/152)
ترك لنا دارا حتّى باعها وقت الهجرة فهذا قول، والقول الآخر فهل من مزيد على الاستدعاء للزيادة. وهذا قول أنس بن مالك، ويدلّ عليه الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال جهنّم تقول هل من مزيد فيقول ربّ العالمين سبحانه وتعالى فيجعل قدمه فيها فيقول قط قط» (1). قال أبو جعفر: فهذا الحديث صحيح الإسناد، ويدلّ على خلاف القول الأول. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة ق (50): آية 31]
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}
أي قريب للمتقين، أي للمتقين معاصي الله جلّ وعزّ.
[سورة ق (50): آية 32]
{هََذََا مََا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوََّابٍ حَفِيظٍ (32)}
{هََذََا مََا تُوعَدُونَ} أي: هذا الذي وصفناه للمتّقين الذي توعدون {لِكُلِّ أَوََّابٍ حَفِيظٍ} قال ابن زيد لكل تائب راجع إلى الله لطاعته: وعن ابن عباس {أَوََّابٍ} مسبّح، وعنه {حَفِيظٍ} حفظ ذنوبه حتّى تاب منها. وقال قتادة: «حفيظ» حافظ لما ائتمنه الله جلّ وعزّ عليه، ومعنى هذا أنه حفظ جوارحه عن معاصي الله تعالى.
[سورة ق (50): الآيات 33الى 34]
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ وَجََاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهََا بِسَلاََمٍ ذََلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)}
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ} في موضع خفض على البدل من «كلّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء و {خَشِيَ} في موضع جزم بالشرط، والتقدير: {خَشِيَ الرَّحْمََنَ بِالْغَيْبِ وَجََاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} فيقال لهم: {ادْخُلُوهََا} على معنى من، وما قبله على لفظها و {مُنِيبٍ} تائب راجع إلى الله جلّ وعزّ {ذََلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي ذلك الذي وصفناه للمتقين يوم لا يزولون عنه.
[سورة ق (50): آية 35]
{لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ فِيهََا وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ (35)}
{لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ فِيهََا} أي لهم ما يريدون وزيادة في الكرامة وفسّر أنس بن مالك معنى {وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ} فلما لا يجوز أن يؤخذ باقتراح ولا يؤخذ إلّا عن النبيّ عليه السلام في {وَلَدَيْنََا مَزِيدٌ} قال: قال: «يتجلّى لهم ربّ العالمين فيقول وعزّتي لأتجلّينّ لكم حتّى تنظروا إليّ فيقول: مرحبا بعبادي وجيراني وزواري ووفدي انظروا إليّ» (2) فذلك نهاية العطاء وفضل المزيد.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (3272)، وأحمد في مسنده 3/ 134، وذكره ابن حجر في فتح الباري 11/ 545، وأبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 204.
(2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (4615)، وابن الجوزي في زاد المسير 8/ 21.(4/153)
[سورة ق (50): آية 36]
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاََدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)}
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي قبل مشركي قريش الذين كذّبوك. {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} المهلكون أشد من الذين كذّبوك. منصوب على البيان {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلََادِ} أثّروا وحقيقته في اللغة طوّفوا وتوغّلوا.
{هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} قال الفراء: أي فهل كان لهم من الموت من محيص، وحذف كان للدلالة وقراءة يحيى بن يعمر {فَنَقَّبُوا} شاذّة خارجة عن الجماعة وهي على التهديد.
[سورة ق (50): آية 37]
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)}
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَذِكْرى ََ} أي إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها وقصصنا خبرها.
{لَذِكْرى ََ} يتذكّر بها من كان له قلب يعقل به {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي أصغى. {وَهُوَ شَهِيدٌ} متفهّم غير ساه، والجملة في موضع نصب على الحال.
[سورة ق (50): آية 38]
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ وَمََا مَسَّنََا مِنْ لُغُوبٍ (38)}
أثبت الهاء في ستة لأنه عدد لمذكر، وفرقت بينه وبين المؤنث. ومعنى يوم:
وقت فلذلك ذكر قبل خلق النهار {وَمََا مَسَّنََا مِنْ لُغُوبٍ} من لغب يلغب ويلغب إذا تعب.
[سورة ق (50): الآيات 39الى 40]
{فَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبََارَ السُّجُودِ (40)}
{فَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ} فأنا لهم بالمرصاد {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قال أهل التفسير: يعني به اليهود لأنهم قالوا استراح يوم السبت، قال جلّ وعزّ: فاصبر على ما يقولون فأنا لهم بالمرصاد {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} حمله أهل التفسير على معنى الصلاة، وكذا {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قال ابن زيد: العتمة. وقال مجاهد: الليل كلّه. قيل: يعني المغرب والعشاء الآخرة. قال:
وهذا أولى لعموم الليل في ظاهر الآية {وَأَدْبََارَ السُّجُودِ} (1) فيه قولان: قال ابن زيد:
النوافل. قال: وهذا قول بيّن لأن الآية عامة فهي على العموم إلّا أن يقع دليل غير أن حجّة الجماعة جاءت لأن معنى {وَأَدْبََارَ السُّجُودِ} ركعتان بعد المغرب. قال ذلك عمر وعلي والحسن بن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن ومجاهد والشّعبيّ وقتادة والضحاك، وبعض المحدثين يرفع حديث علي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (وإدبار السجود) قال: «ركعتان بعد المغرب». وقرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 128.(4/154)
{وَأَدْبََارَ السُّجُودِ} بفتح الهمزة جعلوه جمع دبر، ومن قال: إدبار جعله مصدرا من أدبر وأجمعوا جميعا على الكسر في {وَإِدْبََارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] فذكر أبو عبيد أنّ السجود لا ادبار له. وهذا مما أخذ عليه، لأن معنى و {أَدْبََارَ السُّجُودِ} وما بعده وما يعقبه فهذا للسجود، والنجوم والإنسان واحد. وقد روى المحدّثون الجلّة تفسير {وَأَدْبََارَ السُّجُودِ} {وَإِدْبََارَ النُّجُومِ} فلا نعلم أحدا منهم فرّق ما بينهما.
[سورة ق (50): آية 41]
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنََادِ الْمُنََادِ مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ (41)}
وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي {يَوْمَ يُنََادِ الْمُنََادِ مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ} (1)
بغير ياء في الوصل والوقف، وهو اختيار أبي عبيد اتباعا للخط. وقد عارضه قوم فقالوا: ليس في هذا تغيير للخط لأن الياء لام الفعل فقد علم أن حقّها الثبات. قال سيبويه: والجيّد في مثل هذا إثبات الياء في الوقف والوصل قال: ويجوز حذفها في الوقف. قال أبو جعفر: ذلك أنك تقول مناد ثم تأتي بالألف واللام فلا تغيّر الاسم عن حاله، فأما معنى {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنََادِ الْمُنََادِ مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ} (41).
فقيل فيه: أي حين يوم. قال كعب: المنادي ملك ينادي من مكان قريب، من صخرة بيت المقدس بصوت عال يا أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطعة اجتمعي لفصل القضاء.
[سورة ق (50): آية 42]
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذََلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)}
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} أي بالاجتماع للحساب {ذََلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من قبورهم.
[سورة ق (50): آية 43]
{إِنََّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)}
{إِنََّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} حذف المفعول أي نحيي الموتى ونميت الأحياء {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} أي المرجع.
[سورة ق (50): آية 44]
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرََاعاً ذََلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنََا يَسِيرٌ (44)}
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرََاعاً} العامل في «يوم» المصير أي وإلينا مصيرهم يوم تتشقّق و {تَشَقَّقُ} أدغمت التاء في الشين، ومن قال: تشقّق حذف التاء، {سِرََاعاً} على الحال، قيل: من الهاء والميم، وقيل لا يجوز الحال من الهاء والميم لأنه لا عامل فيها، ولكن التقدير فيخرجون سراعا {ذََلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنََا يَسِيرٌ} أي سهل.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 129.(4/155)
[سورة ق (50): آية 45]
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَقُولُونَ وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ (45)}
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَقُولُونَ وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ} (45) {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَقُولُونَ} أي من الافتراء والتكذيب بالبعث {وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ} أي بمسلّط. قال الفراء: جعل جبّار في موضع سلطان، ومن قال بجبّار معناه لست تجبرهم على ما تريد فمخطئ لأن فعّالا لا يكون من أفعل، وإن كان الفراء (1) قد حكى أنه يقال: درّاك من أدرك فهذا شاذّ لا يعرف، وحكى أيضا جبرت الرجل، وهذا من الشذوذ، وإن كان بعض الفقهاء مولعا بجبرت. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخََافُ وَعِيدِ} أي وعيدي لمن عصاني وخالف أمري.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 81.(4/156)
51 - شرح إعراب سورة الذاريات
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الذاريات (51): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالذََّارِيََاتِ ذَرْواً (1)}
{وَالذََّارِيََاتِ} خفض بواو القسم والواو بدل من الباء. {ذَرْواً} مصدر، والتقدير والرّياح الذاريات. يقال: ذرت الريح الشيء: إذا فرّقته فهي ذارية وأذرت، فهي مذريّة.
[سورة الذاريات (51): آية 2]
{فَالْحََامِلاََتِ وِقْراً (2)}
{فَالْحََامِلََاتِ} عطف على الذّاريات، والتقدير: فالسحاب الحاملات المطر هذا التفسير صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل الحاملات السفن، وقيل الرياح لأنها تحمل السحاب {وِقْراً} كلّ ما حمل على الظهر فهو وقر.
[سورة الذاريات (51): آية 3]
{فَالْجََارِيََاتِ يُسْراً (3)}
{فَالْجََارِيََاتِ} عطف أي فالسفن الجاريات. {يُسْراً} نعت لمصدر أي جريا يسرا.
[سورة الذاريات (51): آية 4]
{فَالْمُقَسِّمََاتِ أَمْراً (4)}
{فَالْمُقَسِّمََاتِ} عطف أيضا أي فالملئكة المقسّمات ما أمروا به أمرا.
[سورة الذاريات (51): آية 5]
{إِنَّمََا تُوعَدُونَ لَصََادِقٌ (5)}
أي من الحساب والثواب والعقاب. وهذا جواب القسم.
[سورة الذاريات (51): آية 6]
{وَإِنَّ الدِّينَ لَوََاقِعٌ (6)}
عطف. قال ابن زيد: «لواقع» لكائن.
[سورة الذاريات (51): الآيات 7الى 8]
{وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)}
{وَالسَّمََاءِ} خفض بالقسم. وقيل التقدير: وربّ السّماء، وكذا لكلّ ما تقدّم {ذََاتِ
الْحُبُكِ} (1) نعت. قال الأخفش: الواحد حباك. وقال الكسائي والفراء (2): حباك وحبيكة. وجواب القسم {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} (8) قال قتادة: في معنى مختلف منكم مصدّق بالقرآن ومكذب به. وقال ابن زيد: يقول بعضهم: هذا سحر، ويقول بعضهم:(4/157)
{وَالسَّمََاءِ} خفض بالقسم. وقيل التقدير: وربّ السّماء، وكذا لكلّ ما تقدّم {ذََاتِ
الْحُبُكِ} (1) نعت. قال الأخفش: الواحد حباك. وقال الكسائي والفراء (2): حباك وحبيكة. وجواب القسم {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} (8) قال قتادة: في معنى مختلف منكم مصدّق بالقرآن ومكذب به. وقال ابن زيد: يقول بعضهم: هذا سحر، ويقول بعضهم:
شيئا أخر قولا مختلفا ففي أي شيء الحقّ.
[سورة الذاريات (51): آية 9]
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}
قال (3) الحسن يصرف عن الإيمان والقرآن من صرف، وقيل: يصرف عن القول أي من أجله لأنهم كانوا يتلقّون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له: سحر وكهانة فيصرف عن الإيمان.
[سورة الذاريات (51): آية 10]
{قُتِلَ الْخَرََّاصُونَ (10)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ {قُتِلَ الْخَرََّاصُونَ} (10) قال:
يقول: لعن المرتابون، وقال ابن زيد: يخترصون الكذب يقولون: شاعر وساحر وجاء بسحر، وكاهن وكهانة وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا فيخترصون الكذب.
[سورة الذاريات (51): آية 11]
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سََاهُونَ (11)}
{الَّذِينَ} في موضع رفع نعت للخراصين، وهي مبتدأ، و {سََاهُونَ} خبره والجملة في الصلة وفي غير القرآن يجوز نصب ساهين على الحال. و {فِي غَمْرَةٍ} أي في تغطية الباطل والجهل: ومنه: فلان غمر وماء غمر يغطّي من دخله، ومنه الغمرة. قال ابن زيد: ساهون عن ما أنزله الله وعن أمره ونهيه.
[سورة الذاريات (51): آية 12]
{يَسْئَلُونَ أَيََّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)}
عن ابن عباس: يقولون: متى يوم الحساب. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إيان (4) بكسر الهمزة وهي لغة.
[سورة الذاريات (51): آية 13]
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ (13)}
اختلف النحويون في نصب «يوم» فقال أبو إسحاق: موضعه نصب، والمعنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون، والنحويون غيره يقولون: يوم في موضع رفع على
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 133.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 82.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 134.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 145.(4/158)
البدل من قوله: {أَيََّانَ يَوْمُ الدِّينِ} وتكلّموا في نصبه فقال الفراء (1): لأنه أضيف إلى شيئين، وأجاز الرفع فيه على أصله. وقال غيره: لأنها إضافة غير محضة. ومذهب الخليل وسيبويه أنّ ظروف الزمان غير متمكنة فإذا أضيف إلى غير معرب أو إلى جملة مثل هذه بنيت على الفتح، وأجازا: مضى يوم قام، وأنشد النحويون وأصحاب الغريب لامرئ القيس: [الطويل] 434 ويوم عقرت للعذارى مطيتي (2)
بنصب «يوم» وموضعه رفع على من روى «ولا سيّما يوم» (3) وخفض على من روى «ولا سيّما يوم». قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا رفعه ولا خفضه، والقياس يوجب إجازة هذين. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ} (13) قال: يعذّبون. وقال محمد بن يزيد: هو من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أحرقتهما لتختبرهما وتخلصهما. وقال بعض المتأخرين: لما كانت الفتنة في اللغة هي الاختبار لم تخرج عن بابها والمعنى عليها صحيح، والتقدير: يوم هم على النار يختبرون فيقال: {مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42].
[سورة الذاريات (51): آية 14]
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}
الذين هم قال مجاهد وعكرمة وقتادة: أي عذابكم {هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} مبتدأ وخبر لأنهم كانوا يستعجلون في الدنيا بالعذاب تهزّؤا وإنكارا.
[سورة الذاريات (51): آية 15]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ (15)}
أي إن الذين اتقوا الله تعالى بترك معاصيه وأداء طاعته في بساتين وأنهار فكذا المتّقي إذا كان مطلقا، فإن كان متقيا للسّرق غير متّق للزنا لم يقل له متّق، ولكن يقال له: متّق للسّرق فكذا هذا الباب كلّه.
[سورة الذاريات (51): آية 16]
{آخِذِينَ مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}
{آخِذِينَ} نصب على الحال، ويجوز رفعه في غير القرآن على خبر «إن». فأما معنى {مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ} ففيه قولان: أحدهما في الجنّة، والآخر أنّهم عاملون في الدنيا بطاعة الله سبحانه وبما افترضه عليهم فهم آخذون به غير متجاوزين له كما روي عن ابن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 83.
(2) مرّ الشاهد رقم (214).
(3) إشارة إلى قول امرئ القيس في معلقته:
«ولا سيّما بدارة جلجل»(4/159)
عباس في قوله جلّ وعزّ: {آخِذِينَ مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ} قال: الفرائض، وعنه {إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُحْسِنِينَ} قال: قبل أن يفرض عليهم الفرائض.
[سورة الذاريات (51): آية 17]
{كََانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مََا يَهْجَعُونَ (17)}
تكون «ما» زائدة للتوكيد، ويكون المعنى كانوا يهجعون قليلا أي هجوعا قليلا ويجوز أن يكون «ما» مع الفعل مصدرا ويكون «ما» في موضع رفع وينصب «قليلا» على أنه خبر «كان» أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم قال محمد بن يزيد: إن جعلت «ما» اسما رفعت «قليلا». وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يهجعون ينامون.
[سورة الذاريات (51): آية 18]
{وَبِالْأَسْحََارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}
تأوله جماعة على معنى يصلّون لأن الصلاة مسألة استغفار، وتأوله بعضهم على أنهم يصلون من أول الليل ويستغفرون اخره واستحبّ هذا لأن الله سبحانه أنثى عليهم به. وقال عبد الرحمن بن زيد: السّحر: السدس الآخر من الليل.
[سورة الذاريات (51): آية 19]
{وَفِي أَمْوََالِهِمْ حَقٌّ لِلسََّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}
{حَقٌّ} رفع بالابتداء {لِلسََّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء في المحروم ثمّ. وحدثنا الزهري محمد بن مسلم أنّه قال: المحروم الذي لا يسأل، وأكثر الصحابة على أنه المحارف. وليس هذا بمتناقض، لأن المحروم في اللغة الممنوع من الشيء فهو مشتمل على كل ما قيل فيه.
[سورة الذاريات (51): آية 20]
{وَفِي الْأَرْضِ آيََاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}
أي عبر وعظات للموقنين تدلّ على بارئها ووحدانيته.
[سورة الذاريات (51): آية 21]
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاََ تُبْصِرُونَ (21)}
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} قال ابن زيد: وفي خلقه إياكم، قال: وفيها أيضا آيات للسان والعين والكلام، والقلب فيه العقل هل يدري أحد ما العقل وما كيفيته؟ ففي ذلك كلّه آيات {أَفَلََا تُبْصِرُونَ} أي أفلا تتفكّرون فتستدلّوا على عظمة الله جلّ وعزّ وقدرته.
[سورة الذاريات (51): آية 22]
{وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ وَمََا تُوعَدُونَ (22)}
{وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ} رفع بالابتداء. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {رِزْقُكُمْ} وفي الرزق ما هو هل هو الحلال والحرام أم الحلال خاصة؟ فقال الضحاك: {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ} أي المطر، وقال سعيد بن جبير: الثلج وكلّ عين ذائبة، وتأويل ذلك واصل
الأحدب على أن المعنى: ومن عند الله الذي في السّماء صاحب رزقكم. وقال قول:(4/160)
{وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ} رفع بالابتداء. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {رِزْقُكُمْ} وفي الرزق ما هو هل هو الحلال والحرام أم الحلال خاصة؟ فقال الضحاك: {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ} أي المطر، وقال سعيد بن جبير: الثلج وكلّ عين ذائبة، وتأويل ذلك واصل
الأحدب على أن المعنى: ومن عند الله الذي في السّماء صاحب رزقكم. وقال قول:
كلّ ما كسبه الإنسان سمّي رزقا. وقال قوم: لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلا كما كان حلالا، واستدلوا على هذا في القرآن فقال الله عزّ وجلّ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مََا رَزَقْنََاكُمْ}
[المنافقون: 10] ولا يأمر بالنفقة إلّا من الحلال. واختلف أهل التأويل في {وَمََا تُوعَدُونَ} فقال الضحاك: الجنّة والنار، وقال غيره: توعدون من وعد، ووعد إنما يكون للخير فما توعدون للخير فأما في الشّرّ فيقال: أوعد، وقال آخرون: هو من أوعد لأن توعدون في العربية يجوز أن يكون من أوعد ومن وعد. والأحسن فيه ما قال مجاهد، قال: ما توعدون من خير وشرّ لأن الآية عامة فلا يخصّ بها شيء إلا بدليل قاطع.
[سورة الذاريات (51): آية 23]
{فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}
{فَوَ رَبِّ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} خفض على القسم. {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي إن قولنا. {وَفِي السَّمََاءِ رِزْقُكُمْ وَمََا تُوعَدُونَ} (22) {لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} برفع «مثل» قراءة الكوفيين وابن أبي إسحاق (1)
على النعت لحق، وقرأ المدنيون وأبو عمرو مثل ما بالنصب. وفي نصبه أقوال أصحّها ما قال سيبويه أنه مبني لما أضيف إلى غير متمكّن فبني ونظيره {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66]. وقال الكسائي: «مثل ما» منصوب على القطع، وقال بعض البصريين هو منصوب على أنه حال من نكرة، وأجاز الفراء (2) أن يكون التقدير حقّا مثل ما، وأجاز أن يكون «مثل» منصوبة بمعنى كمثل ثم حذف الكاف ونصب، وأجاز: زيد مثلك، ومثل من أنت؟ ينصب «مثل» على المعنى على معنى كمثل فألزم على هذا أن يقول: عبد الله الأسد شدّة، بمعنى كالأسد فامتنع منه، وزعم أنه إنما أجازه في مثل لأن الكاف تقوم مقامها، وأنشد: [الوافر] 435 وزعت بكالهراوة اعوجّي ... إذا ونت الرّكاب جرى وثابا (3)
قال أبو جعفر: وهذه أقوال مختلفة إلّا قول سيبويه. وفي الآية سؤال أيضا وهو أن يقال: جمع ما بين «ما» و «إنّ» ومعناهما واحد. قال أبو جعفر: ففي هذا جوابان للنحويين الكوفيين أحدهما أنه لما اختلف اللفظان جاز ذلك كما قال: [الوافر] 436 فما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا (4)
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 85.
(3) الشاهد لابن غادية السلميّ في الاقتضاب ص 429، وبلا نسبة في أدب الكاتب 505، وجمهرة اللغة 1318، ورصف المباني 196، وسرّ صناعة الإعراب 286، ولسان العرب (ثوب) و (وثب) والمقرّب 1/ 196، والمخصص 14/ 86.
(4) الشاهد لفروة بن مسيك في الأزهيّة 51، والجنى الداني 327، وخزانة الأدب 4/ 112، والدرر 2/ 100، وشرح أبيات سيبويه 2/ 106، وشرح شواهد المغني 1/ 81، ولسان العرب (طبب)، ومعجم ما استعجم 650، والكميت في شرح المفصل 8/ 129، وللكميت أو لفروة في تلخيص الشواهد ص 278، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 207، وخزانة الأدب 11/ 141، والخصائص 3/ 108، ورصف المباني 110، وشرح المفصل 5/ 120، والمحتسب 1/ 92، والمقتضب 1/ 51، والمنصف 3/ 128، وهمع الهوامع 1/ 123.(4/161)
فجمع ما بين «ما» و «إن» ومعناهما واحد. قال الله جلّ وعزّ {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظََّالِمُونَ} [فاطر: 40] بمعنى ما يعد الظالمون. والجواب الآخر أنّ زيادة «ما» تفيد معنى لأنه لو لم تدخل «ما» كان المعنى أنه لحقّ لا كذب فإذا جئت بما صار المعنى أنه لحقّ، مثل ما إنّ الآدميّ ناطق، كما تقول: الحقّ نطقك، بمعنى أحقّ أم كذب؟
وتقول: أحقّ إنّك تنطق؟ فتفيد معنى آخر.
[سورة الذاريات (51): آية 24]
{هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)}
ولم يقل أضياف لأنّ ضيفا مصدر، وحقيقته في العربية حديث ذوي ضيف، مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
[سورة الذاريات (51): آية 25]
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقََالُوا سَلاََماً قََالَ سَلاََمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)}
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} أي حين دخلوا. {فَقََالُوا سَلََاماً} منصوب على المصدر، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه. ويدلّ على صحّة هذا الجواب أنّ سفيان روى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. {فَقََالُوا سَلََاماً} قال سدادا. {قََالَ سَلََامٌ} (1) مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف أي سلام عليكم، ويجوز أن يكون مرفوعا على خبر الابتداء والابتداء محذوف أي أمري سلام، وقرأ حمزة والكسائي {قََالَ سَلََامٌ} (2) وفيه تقديران: أحدهما أن يكون سلام وسلّم بمعنى واحد مثل حلّ وحلال، ويجوز أن يكون التقدير نحن سلم. {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} على إضمار مبتدأ وإنما أنكرهم فيما قبل لأنه لم يعرف في الأضياف مثلهم.
[سورة الذاريات (51): آية 26]
{فَرََاغَ إِلى ََ أَهْلِهِ فَجََاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)}
{فَرََاغَ إِلى ََ أَهْلِهِ} أي رجع، وحقيقته رجع في خفية. {فَجََاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} التقدير:
فجاء أضيافه ثم حذف المفعول.
[سورة الذاريات (51): آية 27]
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قََالَ أَلاََ تَأْكُلُونَ (27)}
الفاء تدلّ على أنّ الثاني يلي الأول و «ألا» تنبيه.
[سورة الذاريات (51): آية 28]
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قََالُوا لاََ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاََمٍ عَلِيمٍ (28)}
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي ستر ذلك وأضمره {قََالُوا لََا تَخَفْ} حذفت الضمة للجزم
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 137.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 137.(4/162)
والألف لالتقاء الساكنين {وَبَشَّرُوهُ بِغُلََامٍ عَلِيمٍ} أي يكون عالما وحكى الكوفيون أنّ عليما إذا كان للمستقبل قيل عالم، وكذا نظائره يقال: ما هو كريم وإنه لكارم غدا، وما مات وإنه لمائت وهذا وإن كان يقال فالقرآن قد جاء بغيره.
[سورة الذاريات (51): آية 29]
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهََا وَقََالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)}
{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: في صيحة، وكذا قال مجاهد والضحاك وابن زيد وابن سابط، وقيل «في صرّة» في جماعة نسوة يتبادرن لينظرن إلى الملائكة. {فَصَكَّتْ وَجْهَهََا} قال مجاهد: ضربت جبهتها تعجبا {وَقََالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} زعم بعض العلماء أنّ عجوزا بإضمار فعل أي أتلد عجوز. قال أبو جعفر: وهذا خطأ لأن حرف الاستفهام لا يحذف والتقدير على قول أبي إسحاق: قالت أنا عجوز عقيم أي فكيف ألد.
[سورة الذاريات (51): آية 30]
{قََالُوا كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}
{قََالُوا كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكِ} أي كما قلنا لك، وليس هذا من عندنا. {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ} في تدبيره {الْعَلِيمُ} أي مصالح خلقه وبما كان وبما هو كائن.
[سورة الذاريات (51): آية 31]
{قََالَ فَمََا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)}
قال إبراهيم لضيفه ما شأنكم يا أيها، وحذفت يا، كما يقال: زيد أقبل و «أي» نداء مفرد، وهو اسم تام، و {الْمُرْسَلُونَ} من نعمته.
[سورة الذاريات (51): آية 32]
{قََالُوا إِنََّا أُرْسِلْنََا إِلى ََ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)}
أي قد أجرموا بالكفر، ويقال: جرموا، إلّا أنّ أجرموا بالألف أكثر.
[سورة الذاريات (51): آية 33]
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجََارَةً مِنْ طِينٍ (33)}
أي لنمطر عليهم.
[سورة الذاريات (51): آية 34]
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)}
{مُسَوَّمَةً} في معناه قولان: أهل التأويل على أنّ معناه معلّمة. قال ابن عباس: يكون الحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ويكون الحجر أسود وفيه نقطة بيضاء. والقول الآخر أن يكون معنى مسومة مرسلة من سوّمت الإبل {لِلْمُسْرِفِينَ} أي للمتعدين لأمر الله جلّ وعزّ.
[سورة الذاريات (51): آية 35]
{فَأَخْرَجْنََا مَنْ كََانَ فِيهََا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)}
{فَأَخْرَجْنََا مَنْ كََانَ فِيهََا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (35) كناية عن القرية، ولم يتقدّم لها ذكر لأنه قد عرف المعنى، ويجوز أن يكون كناية عن الجماعة.(4/163)
[سورة الذاريات (51): آية 36]
{فَمََا وَجَدْنََا فِيهََا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)}
قال مجاهد لوط صلّى الله عليه وسلّم وابنتاه لا غير.
[سورة الذاريات (51): آية 37]
{وَتَرَكْنََا فِيهََا آيَةً لِلَّذِينَ يَخََافُونَ الْعَذََابَ الْأَلِيمَ (37)}
قول الفراء (1) إنّ «في» زائدة. والمعنى ولقد تركناها آية ومثله عنده {لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} [يوسف: 7] وهذا المتناول البعيد مستغنى عنه قال أبو إسحاق ولقد تركنا في مدينة قوم لوط عليه السلام آية للخائفين.
[سورة الذاريات (51): آية 38]
{وَفِي مُوسى ََ إِذْ أَرْسَلْنََاهُ إِلى ََ فِرْعَوْنَ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ (38)}
{وَفِي مُوسى ََ} أي وفي موسى آية واعتبار {إِذْ أَرْسَلْنََاهُ إِلى ََ فِرْعَوْنَ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} بحجة بيّنة يتبين من رآها أنّها من عند الله سبحانه. قال قتادة: بسلطان مبين أي بعذر مبين.
[سورة الذاريات (51): آية 39]
{فَتَوَلََّى بِرُكْنِهِ وَقََالَ سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)}
{فَتَوَلََّى} فأعرض عن ذكر الله وأدبر {بِرُكْنِهِ} فيه قولان قال أهل التأويل: المعنى بقومه قال ذلك مجاهد وقتادة، وقال ابن زيد: بجماعته. والقول الآخر حكاه الفراء (2)
(بركنه) بنفسه، قال وحقيقة ركنه في اللغة بجانبه الذي يتقوى به {وَقََالَ سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} على إضمار مبتدأ. وأبو عبيدة (3) يذهب إلى أن «أو» بمعنى الواو، قال: وهذا تأويل عند النحويين الحذّاق خطأ وعكس المعاني، وهو مستغنى عنه ولأو معناها، وقد أنشد أبو عبيدة لجرير: [الوافر] 437 أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا (4)
فهذا أيضا على ذاك محمول.
[سورة الذاريات (51): آية 40]
{فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}
{فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ} عطف على الهاء. {فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فألقيناهم في البحر.
{وَهُوَ مُلِيمٌ} والأصل مليم ألقيت حركة الياء على اللام اتباعا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 87.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 87.
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 227.
(4) الشاهد لجرير في ديوانه 814، والكتاب 1/ 156، والأزهيّة 214، وأمالي المرتضى 2/ 57، وجمهرة اللغة 290، وخزانة الأدب 11/ 69، وشرح أبيات سيبويه 1/ 288، وشرح التصريح 1/ 300، ولسان العرب (خشب)، و (طها) والمقاصد النحوية 2/ 533، وبلا نسبة في الرد على النحاة 105، وشرح الأشموني 1/ 190.(4/164)
[سورة الذاريات (51): آية 41]
{وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)}
أي وفي عاد آية والمعنى معقومه فلذلك حذفت الهاء.
[سورة الذاريات (51): آية 42]
{مََا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاََّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)}
{مََا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} حذفت الواو من تذر لأنها بمعنى تدع، وحذفت من يدع لأن الأصل فيها يودع فوقعت بين ياء وكسرة فحذفت {إِلََّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} قال الفراء (1): الرميم النّبت إذا يبس وديس. وقال محمد بن يزيد: أصل الرميم العظم البالي المتقادم، ويقال له: رمّة.
[سورة الذاريات (51): آية 43]
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتََّى حِينٍ (43)}
{وَفِي ثَمُودَ} أي آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتََّى حِينٍ} زعم الفراء أن الحين هاهنا ثلاثة أيام، وذهب إلى هذا لأنه قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
[سورة الذاريات (51): آية 44]
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)}
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي غلوا وتركوا أمر ربّهم {فَأَخَذَتْهُمُ الصََّاعِقَةُ} ويروى عن عمر بن الخطاب رحمه الله أنه قرأ فأخذتهم الصاعقة (2) وإسناده ضعيف لأنه لا يعرف إلا من حديث السّدّي ويدلّك على أن الصاعقة أولى قوله جلّ وعزّ {وَيُرْسِلُ الصَّوََاعِقَ} [الرعد: 13] فهذا جمع صاعقة. وجمع صعقة صعقات وصعاق. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} قيل: المعنى: ينتظرون ذلك لأنهم كانوا ينتظرون العذاب لمّا تغيّرت ألوانهم في الأيام الثلاثة.
[سورة الذاريات (51): آية 45]
{فَمَا اسْتَطََاعُوا مِنْ قِيََامٍ وَمََا كََانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)}
{فَمَا اسْتَطََاعُوا مِنْ قِيََامٍ} أي نهوض بالعقوبة. قال الفراء: {مِنْ قِيََامٍ} أي ما قاموا بها وأجاز في الكلام من إقامة كأنه تأوله بمعنى ما استطاعوا أن يقوموا بها. وزعم أن {مِنْ قِيََامٍ} مثل {وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً} [نوح: 17] {وَمََا كََانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي ما كانوا يقدرون على أن يستفيدوا ممن عاقبهم. وقال قتادة في معنى {وَمََا كََانُوا مُنْتَصِرِينَ} وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة.
[سورة الذاريات (51): آية 46]
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ (46)}
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} قراءة أهل المدينة وعاصم، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 88.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 139.(4/165)
والكسائي وقوم نوح (1) بالخفض معطوفا على وفي ثمود، والمعنى في الخفض وفي قوم نوح آية وعبرة. والنصب من غير جهة فللفراء (2) فيه قولان، وبعدهما ثالث عنه أيضا وهما أن يكون التقدير فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح، والتقدير الثاني أن يكون التقدير: وأهلكنا قوم نوح، والثالث الذي بعدهما أن يكون التقدير واذكروا قوم نوح. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق قد أخرج قوله هذا الثالث وفيه من كلامه، وليس هذا بأبغض إليّ من الجوابين، وهو يتعجّب من هذا ويقول: دلّ بهذا الكلام على أن الأجوبة الثلاثة بغيضة إليه. قال: وفي هذه الآية قول رابع حسن يكون وقوم نوح معطوفا على {فَأَخَذْنََاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنََاهُمْ فِي الْيَمِّ} لأن معناه فأغرقناهم وأغرقنا قوم نوح. فأمّا القراءة بالنصب فهي البيّنة عند النحويين سوى من ذكرنا ممن قرأ بغيرها، فاحتجّ أبو عبيد للنصب بأن قبله فيما كان مخفوضا من القصص كلها بيان ما نزل بهم نحو {وَفِي عََادٍ إِذْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وليس هذا في قوم نوح فدلّ هذا على أنه ليس معطوفا على الخفض لأنه مخالف له. قال: فكيف يكون وفي قوم نوح ولا يذكر ما نزل بهم، وقال غيره: أيضا العرب إذا تباعد ما بين المخفوض وما بعده لم يعطفوه عليه ونصبوه قال الله جلّ وعزّ: {وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ} [هود: 60] ولا نعلم أحدا خفض، وقال جلّ وعزّ:
{فَبَشَّرْنََاهََا بِإِسْحََاقَ وَمِنْ وَرََاءِ إِسْحََاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] فرفع أكثر القراء ولم يعطفوه على ما قبله وحجة ثالثة ذكرها سيبويه وهو أن المعطوف إلى ما هو أقرب إليه أولى وحكي: خشنت بصدره وصدر زيد، وأن الخفض أولى لقربه فكذا هذا فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح أقرب من أن تردّه إلى ثمود {إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ} نعت لقوم أي خارجين عن الطاعة.
[سورة الذاريات (51): آية 47]
{وَالسَّمََاءَ بَنَيْنََاهََا بِأَيْدٍ وَإِنََّا لَمُوسِعُونَ (47)}
{وَالسَّمََاءَ} نصب بإضمار فعل أي وبنينا السماء. {بَنَيْنََاهََا بِأَيْدٍ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (بأيد) بقوة.
[سورة الذاريات (51): آية 48]
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنََاهََا فَنِعْمَ الْمََاهِدُونَ (48)}
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنََاهََا} بإضمار أيضا. {فَنِعْمَ الْمََاهِدُونَ} رفع بنعم. والمعنى: فنعم الماهدون نحن ثم حذف.
__________
(1) انظر تيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 88.(4/166)
[سورة الذاريات (51): آية 49]
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)}
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ} قيل: التقدير ومن كلّ شيء خلقنا خلقنا زوجين. قال مجاهد: في الزوجين: الشقاء والسعادة والهدى والضلالة والإيمان والكفر. وقال ابن زيد: الزوجان: الذكر والأنثى. وجمعهما الفراء (1) فقال: الزوجان والحيوان الذكر والأنثى ومن غيرهم الحلو والحامض وما أشبه ذلك. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فتعتبرون وتعلمون أنّ العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء.
[سورة الذاريات (51): آية 50]
{فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)}
{فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ} أي إلى طاعته ورحمته من معصيته وعقابه {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي مخوف عقابه من عصاه.
[سورة الذاريات (51): آية 51]
{وَلاََ تَجْعَلُوا مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}
{وَلََا تَجْعَلُوا مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} أي معبودا آخر إذا كانت العبادة لا تصلح إلّا له {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي أخوف من عبد غيره عذابه وجاء {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} مرتين، وليس بتكرير لأنه خوّف في الثاني من عبد غير الله جلّ وعزّ وفي الأول من لم يفرّ إلى طاعة الله ورحمته فهذا قد يكون للموحدين.
[سورة الذاريات (51): آية 52]
{كَذََلِكَ مََا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاََّ قََالُوا سََاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}
تكون الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كذلك فعل الذين من قبل قريش ما أتاهم من رسول إلّا قالوا له هذا.
[سورة الذاريات (51): آية 53]
{أَتَوََاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ (53)}
{أَتَوََاصَوْا بِهِ} أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذا {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ} المعنى: لم يتواصوا به بل هم قوم طغوا واعتدوا فخالفوا أمر الله جلّ وعزّ ونهيه.
[سورة الذاريات (51): آية 54]
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمََا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)}
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} قال مجاهد: أي أعرض والتقدير: أعرض عنهم حتّى يأتيك أمرنا فيهم فأتاه الأمر بقتالهم. {فَمََا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي لا تلحقك لائمة من ربّك جلّ وعزّ في تفريط كان منك في إنذارهم فقد أنذرتهم وبلّغتهم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 89.(4/167)
[سورة الذاريات (51): آية 55]
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى ََ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}
{وَذَكِّرْ} أي عظهم. {فَإِنَّ الذِّكْرى ََ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ويجوز ينفع لأن الذكرى والذكر واحد.
[سورة الذاريات (51): آية 56]
{وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاََّ لِيَعْبُدُونِ (56)}
قيل: يراد هاهنا المؤمنون خاصة. واحتجّ صاحب هذا القول بأنه يلي المؤمنين فأن يكون الضمير يليهم أولى. ومعنى هذا يروى عن زيد بن أسلم قال: وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث، وقال القتبي: هو مخصوص فهذا هو ذلك القول إلا أن العبارة عنه ليست بحسنة. وقيل في الآية: ما روي عن ابن عباس أن العبادة هنا الخضوع والانقياد، وليس مسلم ولا كافر إلا وهو خاضع لله جلّ وعزّ منقاد لأمره طائعا أو كارها فيما جبله عليه من الصحّة والسقم والحسن والقبح والضيق والسعة.
[سورة الذاريات (51): آية 57]
{مََا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمََا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}
{مََا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} «ما» في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد. {وَمََا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} حذفت النون علامة النصب، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها، وهو رأس آية فحسن الحذف.
[سورة الذاريات (51): آية 58]
{إِنَّ اللََّهَ هُوَ الرَّزََّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}
{إِنَّ اللََّهَ هُوَ الرَّزََّاقُ} أي الرّزاق خلقه المتكفل بأقواتهم. {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} بالرفع قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة على أنه نعت للرزاق ولذي القوة أو على أنه خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ أو نعت لاسم «إنّ» على الموضع. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {الْمَتِينُ} الشديد. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1)
بالخفض على النعت للقوة. وزعم أبو حاتم أن الخفض على قرب الجوار. قال أبو جعفر والجوار لا يقع في القرآن ولا في كلام فصيح، وهو عند رؤساء النحويين غلط ممن قاله من العرب. ولكن القول في قراءة من خفض أنه تأنيث غير حقيقي. والتقدير فيه عند أبي إسحاق: ذو الاقتدار المتين لأن الاقتدار والقوة واحد، وعند غيره بمعنى ذو الإبرام المتين.
[سورة الذاريات (51): آية 59]
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحََابِهِمْ فَلاََ يَسْتَعْجِلُونِ (59)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 141، ومعاني الفراء 3/ 90.(4/168)
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} اسم «إنّ». {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحََابِهِمْ} نعت. {فَلََا يَسْتَعْجِلُونِ} أي به.
[سورة الذاريات (51): آية 60]
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} رفع بالابتداء، ويجوز النصب أي ألزمهم الله ويلا. {مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي يوعدون فيه بنزول العذاب(4/169)
52 - شرح إعراب سورة الطور
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الطور (52): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالطُّورِ (1)}
خفض بواو القسم.
[سورة الطور (52): آية 2]
{وَكِتََابٍ مَسْطُورٍ (2)}
واو عطف، وليست واو قسم. قال الضّحاك وقتادة: {مَسْطُورٍ} مكتوب. وأجاز النحويون: مصطور تقلب السين صادا تقريبا إلى الطاء.
[سورة الطور (52): آية 3]
{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)}
من صلة مسطور أي كتب في رق به وقال الراجز:
438 - إنّي وأسطار سطرن سطرا (1)
[سورة الطور (52): آية 4]
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)}
عطف أي المعمور بمن يدخله. يقال: عمر المنزل فهو عامر، وعمرته فهو معمور، وإن أردت متعدي عمر المنزل قلت: أعمرته.
[سورة الطور (52): الآيات 5الى 8]
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ لَوََاقِعٌ (7) مََا لَهُ مِنْ دََافِعٍ (8)}
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (5) معطوف، وكذا {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (6). وجواب القسم {إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ لَوََاقِعٌ} (7) قال قتادة: أي يوم القيامة أي حالّ بالكافرين.
__________
(1) الشاهد لرؤبة في ديوانه 174، وخزانة الأدب 2/ 219، والخصائص 1/ 340، والدرر 4/ 22، وشرح شواهد الإيضاح 243، وشرح المفصّل 2/ 3، ولسان العرب (نصر)، وبلا نسبة في أسرار العربية 297، والأشباه والنظائر 4/ 86، والدرر 6/ 26، ولسان العرب (سطر)، ومغني اللبيب 2/ 388، والمقاصد النحوية 4/ 209، والمقتضب 4/ 209، وهمع الهوامع 247.(4/170)
[سورة الطور (52): آية 9]
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمََاءُ مَوْراً (9)}
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تحرّكا. قال أبو جعفر: يقال: مار الشيء إذا دار، وينشد بيت الأعشى: [البسيط] 439 كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مور السّحابة لا ريث ولا عجل (1)
ويروى عن ابن عباس: تمور تشقّق.
[سورة الطور (52): آية 10]
{وَتَسِيرُ الْجِبََالُ سَيْراً (10)}
{وَتَسِيرُ الْجِبََالُ} أي من أمكنتها {سَيْراً}.
[سورة الطور (52): آية 11]
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)}
دخلت هذه الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة، ومثله فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالتقدير إذا انتبهت له فهو كذا وكذا الآية التقدير فيها إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذّبين.
[سورة الطور (52): آية 12]
{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)}
أي في فتنة واختلاط يلعبون أي غافلين عما يراد بهم، و {الَّذِينَ} في موضع خفض نعته للمكذبين.
[سورة الطور (52): آية 13]
{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}
نصب يوم على البدل من يومئذ. وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى ََ نََارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (2) قال: يدفع في أعناقهم حتّى يردّوا إلى النار.
[سورة الطور (52): الآيات 14الى 15]
{هََذِهِ النََّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هََذََا أَمْ أَنْتُمْ لاََ تُبْصِرُونَ (15)}
أي يقال لهم فحذف هذا.
[سورة الطور (52): آية 16]
{اصْلَوْهََا فَاصْبِرُوا أَوْ لاََ تَصْبِرُوا سَوََاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}
{اصْلَوْهََا} أي قاسوا حرّها وشدّتها. {فَاصْبِرُوا أَوْ لََا} أي على ألمها وشدّتها.
{تَصْبِرُوا سَوََاءٌ} مبتدأ أي سواء عليكم الصبر والجزع. {عَلَيْكُمْ إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 105، ولسان العرب (مور)، وتهذيب اللغة 1/ 372، و 2/ 256، وتاج العروس (مور).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 145.(4/171)
[سورة الطور (52): آية 17]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)}
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي الّذين اتقوا الله جلّ وعزّ في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه. {فِي جَنََّاتٍ وَنَعِيمٍ} في موضع خبر «إنّ».
[سورة الطور (52): الآيات 18الى 19]
{فََاكِهِينَ بِمََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقََاهُمْ رَبُّهُمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)}
{فَكِهِينَ} على الحال. ويجوز الرفع في غير القرآن على أنه خبر «إنّ» {بِمََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ} بما أعطاهم ورزقهم {وَوَقََاهُمْ} والمستقبل منه معتلّ من جهتين من فائه ولامه. قال أبو جعفر: فأمّا اعتلاله من فائه فإن الأصل فيه: يوقيه حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة واعتلاله من لامه لأنها سكنت في موضع الرفع ولثقل الضمة فيها، والتقدير: يقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (19) ونصب {هَنِيئاً} على المصدر. ومعناه بلا أذى ولا غمّ ولا غائلة يلحقكم في أكلكم ولا شربكم.
[سورة الطور (52): آية 20]
{مُتَّكِئِينَ عَلى ََ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنََاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}
{مُتَّكِئِينَ} نصب على الحال. {عَلى ََ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} جمع سرير، ويجوز سرر (1) لثقل الضمّة. {مَصْفُوفَةٍ} نعت. {وَزَوَّجْنََاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرنّاهم بهنّ. قال أبو عبيدة: الحور شدّة سواد العين وشدّة بياض بياض العين. قال أبو جعفر:
الحور في اللغة البياض، ومنه الخبز الحوّاريّ، و {عِينٍ} جمع عيناء وهو على فعل أبدل من الضمة كسرة لمجاورتها الياء.
[سورة الطور (52): آية 21]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمََا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}
{وَالَّذِينَ} مبتدأ. {آمَنُوا} صلته. {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ} داخل معه في الصلة {أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} خبر الابتداء. وهذه القراءة مأثورة عن عبد الله بن مسعود، وهي متّصلة الإسناد من حديث المفضّل الضبّي عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه رد على رجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} بالتوحيد فيهما جميعا مقدار عشرين مرة وهذه قراءة الكوفيين وقرأ الحسن وأبو عمرو ذرياتهم (2) بالجمع فيها جميعا. وقرأ المدنيون {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمََانٍ أَلْحَقْنََا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (3) والمعاني في هذا متقاربة وإن كان التوحيد القلب إليه أميل لما روي عن عبد الله بن مسعود، وعن ابن عباس وقد احتج أبو عبيد للتوحيد بقوله جلّ وعزّ: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم: 58]
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 146، وهذه قراءة أبي السمال.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 612.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 612.(4/172)
ولا يكون أكثر من ذرية أدم عليه السلام قال: وهذا إجماع فسبيل المختلف فيه أن يردّ إليه {وَمََا أَلَتْنََاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يقال: ألته يألته ولاته يليته إذا نقصه و «من» في {عَمَلِهِمْ} للتبعيض وفي {مِنْ شَيْءٍ} بمعنى التوكيد. {كُلُّ امْرِئٍ بِمََا كَسَبَ رَهِينٌ} مبتدأ وخبره أي كل إنسان مرتهن بما عمل لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
[سورة الطور (52): آية 22]
{وَأَمْدَدْنََاهُمْ بِفََاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمََّا يَشْتَهُونَ (22)}
{وَأَمْدَدْنََاهُمْ بِفََاكِهَةٍ} وهم هؤلاء المذكورون. {وَلَحْمٍ مِمََّا يَشْتَهُونَ} أي يشتهونه، وحذفت الهاء لطول الاسم.
[سورة الطور (52): آية 23]
{يَتَنََازَعُونَ فِيهََا كَأْساً لاََ لَغْوٌ فِيهََا وَلاََ تَأْثِيمٌ (23)}
{يَتَنََازَعُونَ فِيهََا كَأْساً لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} (23) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل المصرين إلّا أبا عمرو ويروى عن الحسن {لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} (1). فالرفع من جهتين: أحداهما أن يكون «لا» بمنزلة «ليس». والأخرى أن ترفع بالابتداء وشبّهه أبو عبيد بقوله جلّ وعزّ: {لََا فِيهََا غَوْلٌ} [الصافات: 47] واختار الرفع. قال أبو جعفر: وليس يشبهه عند أحد من النحويين علمته لأنك إذا فصلت لم يجز إلّا الرفع، وكذا {لََا فِيهََا غَوْلٌ}
وإذا لم تفصل جاز الرفع والنصب بغير تنوين فكذلك {لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} ولو كانا كما قال واحدا لم يجز. {لََا لَغْوٌ فِيهََا وَلََا تَأْثِيمٌ} وقد قرأ به أبو عمرو بن العلاء وهو جائز حسن عند الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر والكسائي والفراء ونصبه على التبرية عند الكوفيين. فأما البصريون فإنهم جعلوا الشيئين شيئا واحدا.
[سورة الطور (52): آية 24]
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمََانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)}
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمََانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ} أي في الصفاء. {مَكْنُونٌ} فهو أصفى له وأخلص بياضا.
[سورة الطور (52): آية 25]
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَسََاءَلُونَ (25)}
روى ابن طلحة عن ابن عباس قال: هذا عند النفخة الثانية.
[سورة الطور (52): آية 26]
{قََالُوا إِنََّا كُنََّا قَبْلُ فِي أَهْلِنََا مُشْفِقِينَ (26)}
خبر كان أي قبل هذا وجعلت «قبل» غاية
[سورة الطور (52): آية 27]
{فَمَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا وَوَقََانََا عَذََابَ السَّمُومِ (27)}
منّ الله عليهم بغفران الصغائر وترك المحاسبة لهم بالنعم المستغرقة للأعمال،
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 69، قال (بالنصب من غير تنوين في الكلّ والباقون بالرفع والتنوين).(4/173)
كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد الجنّة بعمله» قيل: ولا أنت يا رسول الله قال:
«ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمته» (1).
[سورة الطور (52): آية 28]
{إِنََّا كُنََّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}
هذه قراءة أبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة، وقرأ أبو جعفر ونافع والكسائي {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (2) قال أبو جعفر: والكسر أبين لأنه إخبار بهذا فالأبلغ أن يبتدأ، والفتح جائز ومعناه ندعوه لأنه أو بأنه. وقد عارض أبو عبيد هذه القراءة لأنه اختار الكسر ولأن معناها ندعوه لهذا، وهذه المعارضة لا توجب منع القراءة بالفتح لأنهم يدعونه لأنه هكذا. وهذا له جلّ وعزّ دائم لا ينقطع. فنظير هذا لبّيك أنّ الحمد والنعمة لك، بفتح إن وكسرها. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قال: اللطيف بعباده، وقال غيره: الرحيم بخلقه ولا يعذّبهم بعد التوبة.
[سورة الطور (52): آية 29]
{فَذَكِّرْ فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ وَلاََ مَجْنُونٍ (29)}
{فَذَكِّرْ فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ} قال أبو إسحاق: أي لست تقول قول الكهان.
{وَلََا مَجْنُونٍ} عطف على بكاهن، ويجوز النصب على الموضع في لغة أهل الحجاز، ويجوز الرفع في لغة بني تميم على إضمار مبتدأ.
[سورة الطور (52): آية 30]
{أَمْ يَقُولُونَ شََاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)}
{أَمْ يَقُولُونَ شََاعِرٌ} على إضمار مبتدأ. {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال أبو جعفر: قد ذكرناه.
[سورة الطور (52): آية 31]
{قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)}
{قُلْ تَرَبَّصُوا} أي تمهّلوا وانتظروا. {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} حتّى يأتي أمر الله جلّ وعزّ فيكم.
[سورة الطور (52): آية 32]
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاََمُهُمْ بِهََذََا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ (32)}
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلََامُهُمْ بِهََذََا} قال ابن زيد: كانوا في الجاهلية يسمّون أهل الأحلام فالمعنى أم تأمرهم أحلامهم بأن يعبدوا أوثانا صمّا بكما، وقيل: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلََامُهُمْ} أن يقولوا لمن جاءهم بالحق والبراهين والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف {شََاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}. وزعم الفراء أن الأحلام هاهنا العقول والألباب {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ}
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 256، وذكره ابن حجر في فتح الباري 2/ 332.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 147، وهذه قراءة الحسن أيضا، وتيسير الداني 165.(4/174)
أي لم تأمرهم أحلامهم بهذا بل جاوزوا الإيمان إلى الكفر.
[سورة الطور (52): آية 33]
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاََ يُؤْمِنُونَ (33)}
أي ليس يأتون ببرهان أنه تقوّل واختلقه بل لا يصدّقون والكوفيون يقولون إنّ «بل» لا تكون إلا بعد نفي فهم يحملون الكلام على هذه المعاني فإن لم يجدوا ذلك لم يجيزوا أن يأتي بعد الإيجاب.
[سورة الطور (52): آية 34]
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كََانُوا صََادِقِينَ (34)}
أي إن كانوا صادقين في أنه تقوّله فهم أهل اللسان واللغة فليأتوا بقرآن مثله.
[سورة الطور (52): آية 35]
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخََالِقُونَ (35)}
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فيه أجوبة فمن أحسنها أم خلقوا من غير أب ولا أم فيكونوا حجارة لا عقول لهم يفهمون بها. وقيل المعنى: أم خلقوا من غير صانع صنعهم فهم لا يقبلون من أحد. {أَمْ هُمُ الْخََالِقُونَ} أي هم الأرباب فللربّ الأمر والنهي.
[سورة الطور (52): آية 36]
{أَمْ خَلَقُوا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لاََ يُوقِنُونَ (36)}
{أَمْ خَلَقُوا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} أي هل هم الذين خلقوا السموات والأرض فلا يقرّوا بمن لا يشبهه شيء {بَلْ لََا يُوقِنُونَ} قيل المعنى لا يعلمون ولا يستدلّون، وقيل: فعلهم فعل من لا يعلم. ومن أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى: لا يوقنون بالوعيد وما أعدّ الله جلّ وعزّ من العذاب للكفّار يوم القيامة فهم يكفرون ويعصون لأنهم لا يوقنون بعذاب ذلك.
[سورة الطور (52): آية 37]
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزََائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)}
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزََائِنُ رَبِّكَ} أي فيستغنوا بها. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسيطرون المسلّطون. والمسيطر (1) في كلام العرب المتجبّر المتسلط المستكبر على الله جلّ وعزّ، مشتقّ من السطر كأنه الذي يخطر على الناس منعه مما يريد. وأصله السين ويجوز قلب السين صادا لأن بعدها طاء، وعلى هذا السواد في هذا الحرف.
[سورة الطور (52): آية 38]
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ (38)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 165، والبحر المحيط 8/ 149 (قراءة الجمهور بالصاد وهشام وقنبل وحفص بالسين).(4/175)
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي يستمعون فيه الوحي من السماء فيدّعون أنّ الذي هم عليه قد أوحى به {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} أي بحجّة بيّنة كما أتى بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الطور (52): آية 39]
{أَمْ لَهُ الْبَنََاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)}
كما تقولون فتلك قسمة جائرة.
[سورة الطور (52): آية 40]
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)}
{مَغْرَمٍ} مصدر أي أم تسألهم مالا فهم من أن يغرموا شيئا مثقلون أي يثقل ذلك عليهم.
[سورة الطور (52): آية 41]
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)}
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أي هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون: لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويقولون شاعر نتربّص به ريب المنون؟ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي يكتبون للناس من الغيب ما أرادوا، ويخبرونهم به.
[سورة الطور (52): آية 42]
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)}
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي احتيالا على إذلال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإهلاكه وعلى المؤمنين. {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي المذلّون المهلكون الصابرون إلى عذاب الله جلّ وعزّ.
[سورة الطور (52): آية 43]
{أَمْ لَهُمْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يُشْرِكُونَ (43)}
{أَمْ لَهُمْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ} أي معبود يستحقّ العبادة. {سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يُشْرِكُونَ} أي تنزيها لله جلّ وعزّ مما يعبدونه من دونه.
[سورة الطور (52): آية 44]
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمََاءِ سََاقِطاً يَقُولُوا سَحََابٌ مَرْكُومٌ (44)}
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمََاءِ سََاقِطاً} جمع كسفة مثل سدرة وسدر. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس كسفا قال: يقول: قطعا {يَقُولُوا سَحََابٌ مَرْكُومٌ} على إضمار مبتدأ أي يقولوا: هذا الكسف سحاب مركوم.
[سورة الطور (52): آية 45]
{فَذَرْهُمْ حَتََّى يُلاََقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)}
{فَذَرْهُمْ} من يذر حذفت منه الواو وإنما تحذف من يفعل لوقوعها بين ياء وكسرة أو من يفعل إذا كان فيه حرف من حروف الحلق وليس في «يذر» من هذا شيء يوجب حذف الواو، وقال أبو الحسن بن كيسان: حذفت منه الواو لأنه بمعنى يدع فأتبعه.
{حَتََّى يُلََاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وقرأ الحسن وعاصم {يُصْعَقُونَ} (1) قال الحسن أي
__________
(1) انظر تيسير الداني 165، والبحر المحيط 8/ 150، (عاصم وابن عامر بضمّ الياء والباقون بفتحهما).(4/176)
يماتون، وحكى الفراء (1) عن عاصم {يُصْعَقُونَ} وهذا لا يعرف عنه قال: يقال: صعق يصعق، وهي لغة معروفة كما قرأ الجميع {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}
[الزمر: 68] ولم يقرءوا فصعق، ويقال: صعق يصعق وأصعق متعدّي صعق.
[سورة الطور (52): آية 46]
{يَوْمَ لاََ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاََ هُمْ يُنْصَرُونَ (46)}
{يَوْمَ لََا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} بدل من اليوم الأول. {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي ولا يستقيد لهم أحد ممن عاقبهم ولا يمنع منهم.
[سورة الطور (52): آية 47]
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذََاباً دُونَ ذََلِكَ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (47)}
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذََاباً دُونَ ذََلِكَ} أجلّ ما قيل فيه إسنادا ما رواه أبو إسحاق عن البرآء {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذََاباً دُونَ ذََلِكَ} قال: عذاب القبر. وقال ابن زيد: المصائب في الدنيا، ومعنى {دُونَ ذََلِكَ} دون يوم يصعقون وهو يوم القيامة. {وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أنّهم ذائقوا ذلك العذاب، وقيل: فعلهم فعل من لا يعلم.
[سورة الطور (52): آية 48]
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنََا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي لحكمه الذي قضى عليك وامض لأمره ونهيه وبلّغ رسالته {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنََا} أي نراك ونرى عملك ونحوطك ونحفظك، وجمعت عين على أعين، وهي مثل بيت، ولا يقال: أبيت لثقل الضمة في الياء إلّا أن هذا جاء في عين لأنّها مؤنثة. وأفعل في جمع المؤنث كثير. قالوا شمال أشمل وعناق أعنق. وقد قيل: أعيان كأبيات {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} في معناه أقوال فقول الضّحاك إنّ معناه حين تقوم إلى الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، تقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك واسمك وتعالى جدّك، وقيل التسبيح هاهنا تكبيرة الإحرام التي لا تتمّ الصلاة إلا بها، لأن معنى التسبيح في اللغة تنزيه الله جلّ وعزّ من كل سوء نسبه إليه المشركون وتعظيمه، ومن قال: الله أكبر فقد فعل هذا، وقول ثالث يكون المعنى حين تقوم من نومك، ويكون هذا يوم القائلة يعني صلاة الظهر لأن المعروف من قيام الناس من نومهم إلى الصلاة إنما هو من صلاة الفجر، وصلاة الظهر وصلاة الفجر مذكورة بعد هذا. فأما قول الضّحاك إنه في افتتاح الصلاة فبعيد لاجتماع الحجة لأن الافتتاح في الصلاة غير واجب ولو أمر الله جلّ وعزّ به لكان واجبا إلّا أن تقوم الحجة أنّه على الندب والإرشاد.
[سورة الطور (52): آية 49]
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبََارَ النُّجُومِ (49)}
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قال ابن زيد: صلاة العشاء، وقال غيره: صلاة المغرب والعشاء
__________
(1) انظر معاني الفراء 613.(4/177)
{وَإِدْبََارَ النُّجُومِ} فيه قولان: أحدهما أنه لركعتي الفجر، وقال الضّحاك وابن زيد: صلاة الصبح. قال وهذا أولى لأنه فرض من الله تعالى. ونصب {وَإِدْبََارَ النُّجُومِ} على الظرف أي وسبّحه وقت إدبار النجوم، كما: أنا أتيك مقدم الحاجّ، ولا يجوز أنا أتيك مقدم زيد، إنما يجوز هذا فيما عرف. وهذا قول الخليل وسيبويه.(4/178)
53 - شرح إعراب سورة النجم
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النجم (53): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ (1) مََا ضَلَّ صََاحِبُكُمْ وَمََا غَوى ََ (2)}
{وَالنَّجْمِ} خفض بواو القسم، والتقدير وربّ النجم. {إِذََا هَوى ََ} في موضع نصب أي حين هوى، وجواب القسم {مََا ضَلَّ صََاحِبُكُمْ} أي ما زال عن القصد {وَمََا غَوى ََ} قيل:
أي وما خاب فيما طلبه من الرحمة.
[سورة النجم (53): الآيات 3الى 4]
{وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ (3) إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحى ََ (4)}
{وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ} قيل: المعنى وما ينطق فيما يخبر به من الوحي، ودلّ على هذا {إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} أي ما الذي يخبر به إلا وحي يوحى. ويوحى يرجع إلى الياء، ولو كان من ذوات الواو لتبع المستقبل الماضي.
[سورة النجم (53): آية 5]
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ََ (5)}
أي الأسباب، وحكى الفراء أنه يقرأ {شَدِيدُ الْقُوى ََ} بكسر القاف لأن فعلة وفعلة يتضارعان. قال قتادة: شديد القوى جبريل عليه السلام.
[سورة النجم (53): آية 6]
{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ََ (6)}
{ذُو مِرَّةٍ} قال مجاهد: جبرائيل عليه السلام ذو قوة. وقال ابن زيد: المرّة القوة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {ذُو مِرَّةٍ} أي منظر حسن. قال أبو جعفر:
حقيقة المرّة في اللغة اعتدال الخلق والسلامة من الآفات والعاهات، فإذا كان كذا كان قويا. {فَاسْتَوى ََ} قيل: فاعتدل بعد أن كان ينزل مسرعا.
[سورة النجم (53): آية 7]
{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ََ (7)}
في موضع الحال أي فاستوى عاليا، هذا قول من تجب به الحجّة من العلماء،
والمعنى عليه، والإعراب يقويه. وزعم الفراء (1) أن المعنى فاستوى محمد صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عليه السلام فجعل «وهو» كناية عن جبرائيل عليه السلام وعطف به على المضمر. قال أبو جعفر: في هذا من الخطأ ما لاحقا به عطف على مضمر مرفوع لا علامة له ومثله مررت بزيد جالسا وعمرو، ويعطف به على المضمر المرفوع. وهذا ممنوع من الكلام حتّى يؤكّد المضمر أو يطول الكلام ثم شبّهه بقوله: {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا} [النمل:(4/179)
في موضع الحال أي فاستوى عاليا، هذا قول من تجب به الحجّة من العلماء،
والمعنى عليه، والإعراب يقويه. وزعم الفراء (1) أن المعنى فاستوى محمد صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عليه السلام فجعل «وهو» كناية عن جبرائيل عليه السلام وعطف به على المضمر. قال أبو جعفر: في هذا من الخطأ ما لاحقا به عطف على مضمر مرفوع لا علامة له ومثله مررت بزيد جالسا وعمرو، ويعطف به على المضمر المرفوع. وهذا ممنوع من الكلام حتّى يؤكّد المضمر أو يطول الكلام ثم شبّهه بقوله: {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا} [النمل:
67] وهذا التشبيه غلط من جهتين، إحداهما أنه قد طال الكلام هاهنا وقام المفعول به مقام التوكيد. والجهة الأخرى أنّ النون والألف قد عطف عليهما هاهنا، وقولك: قمنا وزيد أسهل من قولك: قام وزيد، وأيضا فليس المعنى على ما ذكر.
[سورة النجم (53): آية 8]
{ثُمَّ دَنََا فَتَدَلََّى (8)}
شبّهه الفراء (2) بقوله جلّ وعزّ: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] لأن المعنى: انشقّ القمر واقتربت الساعة. قال أبو جعفر: وهذا التشبيه غلط بيّن لأن حكم الفاء خلاف حكم الواو لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، فالتقدير ثم دنا فزاد في القرب.
[سورة النجم (53): آية 9]
{فَكََانَ قََابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ََ (9)}
قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما يشكل في العربية لأن «أو» لا يجوز أن تكون بمعنى الواو لاختلاف ما بينهما، ولا بمعنى «بل» لما ذكرنا. وأن الاختصار يوجب غير ذلك فالتقدير فكان بمقدار ذلك عندكم لو رأيتموه قدر قوسين أو أدنى، كما روي عن ابن مسعود قال: فكان قدر ذراع أو ذراعين. قال أبو جعفر: القاد والقيد والقاب والقيب والقدر والقدر.
[سورة النجم (53): آية 10]
{فَأَوْحى ََ إِلى ََ عَبْدِهِ مََا أَوْحى ََ (10)}
في معناه قولان: روى هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال:
عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم فتأوّل هذا على المعنى فأوحى إلى عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم. والقول الأخر أن المعنى فأوحى جبرائيل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم عبد الله وهو قول جماعة من أهل التفسير منهم ابن زيد قال: وهذا أشبه بسياق الكلام لأن ما قبله وما بعده أخبار عن جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج ذلك عنهما إلى أحد إلّا بحجة يجب التسليم بها.
[سورة النجم (53): آية 11]
{مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ مََا رَأى ََ (11)}
(3)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 95.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 96.
(3) انظر القراءات في البحر المحيط 8/ 156، وتيسير الداني 166.(4/180)
هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ الحسن وقتادة ويزيد بن القعقاع وعاصم الجحدري {مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ} (1) مشدّدا. التقدير في التخفيف ما كذب فؤاد محمد محمدا فيما راه وحذفت في كما حذفت «من» في قوله جلّ وعزّ من: {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155]. لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف. قال أبو جعفر: وهذا شرح بيّن ولا نعلم أحدا من النحويين بيّنه، ومن قرأ كذّب فزعم الفراء أنه يجوز أن يكون أراد صاحب الفؤاد. وأجاز أن يكون معنى «ما كذب» صدّق. والقراءة بالتخفيف أبين معنى، وبالتشديد يبعد لأن معناها قبله وإذا قبله الفؤاد أي علمه فلا معنى للتكذيب. والقراءة بالتخفيف بيّنة أي صدقه. واختلف أهل التأويل في معنى {مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ مََا رَأى ََ} فقال ابن عباس وجماعة معه: رأى ربه جلّ وعزّ قال: وخصّ الله إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم بالخلّة وموسى بالتكليم ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم بالرؤية كما جاء في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم:
«رأيت ربّي جلّ وعزّ فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى» (2). والقول الأخر قول ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما أنه رأى جبرائيل على صورته وقد رفعه زرّ عن عبد الله أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت جبرائيل على صورته له ستمائة جناح عند سدرة المنتهى» (3)
ورفعته عائشة أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وردّت على ابن عباس ما قاله.
[سورة النجم (53): آية 12]
{أَفَتُمََارُونَهُ عَلى ََ مََا يَرى ََ (12)}
(4)
صحيحه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وابن مسعود وابن عباس ومرويّه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي قراءة مسروق وأبي العالية ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وبها قرأ النخعي غير أن أبا حاتم حكى أنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه قال: وفي هذا طعن على جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة منهم الحسن وشريح وأبو جعفر والأعرج وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير والعاصمان. والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجامعة غير أن الأولى من ذكرناه من الصحابة.
فأما أن يقال: لم يماروه فعظيم لأن الله جلّ وعزّ قد أخبر أنّهم قد جادلوا، والجدال هو المراء ولا سيما في هذه القصة، وقد ماروه فيها حتّى قالوا له: سرت في ليلة واحدة إلى بيت المقدس فصفه لنا، وقالوا: لنا عير بالشام فأخبرنا خبرها، قال محمد بن يزيد: يقال مراه بحقّه يمريه إذا دفعه به ومنعه منه، قال و «على» بمعنى «عن». قال أبو
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 96.
(2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 155، وذكر في مناهل الصفا (32)، ومختصر العلو للعلي الغفار تحقيق الألباني 119.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 407، وابن كثير في البداية والنهاية 1/ 44.
(4) انظر تيسير الداني 166، والبحر المحيط 8/ 156.(4/181)
جعفر: وذلك معروف في اللغة، وقد ذكرنا أن لغة بني كعب بن ربيعة رضي الله عليك أي عنك.
[سورة النجم (53): الآيات 13الى 14]
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ (14)}
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} (13) أحسن ما قيل فيه وأصحّه أن الضمير يعود على شديد القوى، كما حدّثنا الحسن بن غليب قال: حدثنا محمد بن سوّار الكوفي قال: حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله جلّ وعزّ الفرية: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله {وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ مََا ذََا تَكْسِبُ غَداً}
[لقمان: 34]. ومن زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله جلّ وعزّ يقول: {يََا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمََا بَلَّغْتَ رِسََالَتَهُ} [المائدة: 67]، ومن زعم أنّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله جل وعز الفرية والله جلّ ثناؤه يقول: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ} [الشورى: 51] والله يقول: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ} [الأنعام: 103] قلت: يا أمّ المؤمنين ألم يقل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} (13) {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] قالت: أنا سألت عن ذلك نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «رأيت جبرائيل عليه السلام نزل سادّا الأفق على خلقه وهيبته أو خلقه وصورته» (1). وقال الفراء (2): «نزلة أخرى» مرّة أخرى. قال أبو جعفر: «نزلة» مصدر في موضع الحال، كما تقول: جاء فلان مشيا أي ماشيا، والتقدير ولقد راه نازلا نزلة أخرى أي في نزوله {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ} (14) متّصل براه. قال عكرمة عن ابن عباس: سألت كعبا عن سدرة المنتهى فقال: إليها ينتهي علم العلماء لا يعلم أحد ما وراءها إلّا الله جلّ وعزّ، وقال الربيع بن أنس: سمّيت سدرة المنتهى لأنه تنتهي إليه أرواح المؤمنين ومذهب الضّحاك أنه ينتهي إليها ما كان من أمر الله من فوقها أو من تحتها. قال أبو جعفر: وليس قول من هذه إلّا وهو محتمل لذلك، ولا خبر يقطع العذر في ذلك، والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة النجم (53): آية 15]
{عِنْدَهََا جَنَّةُ الْمَأْوى ََ (15)}
قال كعب: مأوى أرواح الشهداء، وقال قتادة: مأوى أرواح المؤمنين. ويقال:
إنها الجنة التي أوى إليها أدم عليه السلام، وإنها في السماء السابعة. فأعلم الله جلّ وعزّ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد أسري به إلى السماء السابعة على هذا. فأما من قرأ
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه التفسير 11/ 188، وفي البحر المحيط 8/ 157.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 96.(4/182)
{جَنَّةُ الْمَأْوى ََ} (1) فتقديره جنّة سواد الليل. وهي قراءة شاذة قد أنكرها الصحابة سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر. وقال ابن عباس: هي مثل {جَنََّاتُ الْمَأْوى ََ} [السجدة:
19] حجّة بيّنة مع إجماع الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، وأيضا فإنه يقال: أجنّة الليل، وجنّ عليه، ولغة شاذة جنّة الليل.
[سورة النجم (53): الآيات 16الى 17]
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مََا يَغْشى ََ (16) مََا زََاغَ الْبَصَرُ وَمََا طَغى ََ (17)}
{إِذْ} متصلة براه. قال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة واقعة على الأشجار كالغربان، وكذا قال أبو العالية ويقال: إنه عن أبي هريرة مثله وزاد فيه.
فهنالك كلّمه ربه جلّ وعزّ قال له سل: {مََا زََاغَ الْبَصَرُ} أي ما حاد يمينا وشمالا متحيّرا.
{وَمََا طَغى ََ} أي وما تجاوز ذلك من غير أن يتبيّنه.
[سورة النجم (53): آية 18]
{لَقَدْ رَأى ََ مِنْ آيََاتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ََ (18)}
قال ابن زيد: رأى جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم على صورته في السماء.
[سورة النجم (53): الآيات 19الى 20]
{أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّتَ وَالْعُزََّى (19) وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ (20)}
قال الكسائي: الوقوف عليه اللّاه، وقال غيره: الوقوف عليه اللّات. اشتقّوه من اسم الله جلّ وعزّ. وهو مكتوب في الصحف بالتاء. واشتقّوا العزّى من العزيز {وَمَنََاةَ} (2) من منى الله عزّ وجلّ عليه الشيء أي قدّره {الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ} نعت لمناة.
[سورة النجم (53): آية 21]
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ (21)}
يجوز أن يكون مقدّما ما ينوى به التأخير، ويكون المعنى إن الّذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى. أي يقولون هم بنات الله عزّ وجلّ ألكم الذكر الذي ترضوانه وله الأنثى التي لا ترضونها.
[سورة النجم (53): آية 22]
{تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ََ (22)}
يقال: ضازه يضيزه ويضوزه إذا جار عليه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 157 (وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزرّ ومحمد بن كعب وقتادة (جنّه) بها الضمير، وجنّ فعل ماض، والهاء ضمير يعود إلى النبيّ، أي: عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه).
(2) انظر تيسير الداني 166 (ابن كثير «ومناءة» بالمدج والهمز والباقون بغير مدّ ولا همز).(4/183)
[سورة النجم (53): آية 23]
{إِنْ هِيَ إِلاََّ أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمََا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ََ (23)}
{إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ} قولهم الأوثان الهة والملائكة بنات الله. {مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ} أي من حجّة ولا وحي، وإنما هو شيء اخترفتموه. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمََا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} أي ما يتّبعون في هذه التسمية إلّا الظنّ وهواهم. {وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ََ} أي البيان بأن لا معبود سواه وأن عبادة هذه الأشياء شرك وكفر.
[سورة النجم (53): آية 24]
{أَمْ لِلْإِنْسََانِ مََا تَمَنََّى (24)}
قيل: أي ليس له ذلك، وقال ابن زيد: أي إن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم تمنّى شيئا فهو له.
وشرح هذا القول إن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم تمنّى الرسالة فقد أعطاه الله جلّ وعزّ فلا تنكروه.
[سورة النجم (53): آية 25]
{فَلِلََّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ََ (25)}
يعطي من شاء ما يشاء.
[سورة النجم (53): آية 26]
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمََاوََاتِ لاََ تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاََّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللََّهُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَرْضى ََ (26)}
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمََاوََاتِ} لو حذفت «من» لخفضت أيضا لأنه خبر و «كم» تخفض ما بعدها في الخبر مثل «ربّ» إلا أنّ «كم» للكثير وربّ للقليل. {لََا تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلََّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللََّهُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَرْضى ََ} في هذا تنبيه لهم وتوبيخ لأنهم قالوا {مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} [الزمر: 3] فأخبر الله جلّ وعزّ أنّ الملائكة صلوات الله عليهم وسلّم الذين هم أفضل الخلق عند الله جلّ وعزّ وأكثرهم عملا بالطاعة لا تغني شفاعتهم شيئا إلّا من بعد إذن الله عزّ وجلّ ورضاه فكيف تشفع الأصنام لهم.
[سورة النجم (53): الآيات 27الى 28]
{إِنَّ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاََئِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ََ (27) وَمََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاََ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)}
هو قولهم هم بنات الله عزّ وجلّ. ما لهم بذلك من علم {مِنْ} زائدة للتوكيد والموضع موضع رفع {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لََا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أي لا ينفع من الحقّ ولا يقوم مقامه.
[سورة النجم (53): آية 29]
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلََّى عَنْ ذِكْرِنََا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا (29)}
أي فدع من تولّى عن ذكرنا ولم يؤمن ولم يوحّد ولم يرد ثواب الآخرة ولم يرد إلا زينة الحياة الدنيا.
[سورة النجم (53): آية 30]
{ذََلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ََ (30)}
{ذََلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال ابن زيد: ليس لهم علم إلّا الّذي هم فيه من الشرك
والكفر ومكابرتهم ما جاء من عند الله جلّ وعزّ، وقال غيره: ذلك مبلغهم من العلم أنّهم اثروا ما يفنى من زينة الدنيا ورئاستها على ما يبقى من ثواب الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} يكون أعلم بمعنى عالم ويجوز أن يكون على بابه بالحذف وسبيل الإسلام. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ََ} أي إلى طريق الحق وهو الإسلام وذلك في سابق علمه.(4/184)
{ذََلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال ابن زيد: ليس لهم علم إلّا الّذي هم فيه من الشرك
والكفر ومكابرتهم ما جاء من عند الله جلّ وعزّ، وقال غيره: ذلك مبلغهم من العلم أنّهم اثروا ما يفنى من زينة الدنيا ورئاستها على ما يبقى من ثواب الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} يكون أعلم بمعنى عالم ويجوز أن يكون على بابه بالحذف وسبيل الإسلام. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ََ} أي إلى طريق الحق وهو الإسلام وذلك في سابق علمه.
[سورة النجم (53): آية 31]
{وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}
تكون لام كي متعلقة بالمعنى أي ولله ما في السّموات وما في الأرض من شيء يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََاؤُا} أي كفروا وعصوا {بِمََا عَمِلُوا}، ويجوز أن يكون اللام متعلّقة بقوله جلّ وعزّ: {لََا تُغْنِي شَفََاعَتُهُمْ شَيْئاً}. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسََئوُا بِمََا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} عطف. قيل: الحسنى الجنة. وقال زيد بن أسلم. {الَّذِينَ أَسََاؤُا} الكفار و {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} المؤمنون.
[سورة النجم (53): آية 32]
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وََاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ فَلاََ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ََ (32)}
{الَّذِينَ} بدل من الذين قبله {يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ} [1] الْإِثْمِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه في سورة «حم عسق». {وَالْفَوََاحِشَ} عطف على الكبائر {إِلَّا اللَّمَمَ} قد ذكرنا ما فيه من قول أهل التفسير. وهو منصوب على أنه استثناء ليس من الأول. ومن أصحّ ما قيل فيه وأجمعه لأقوال العلماء أنّه الصغائر ويكون مأخوذا من لممت بالشيء إذا قلّلت نيله.
{إِنَّ رَبَّكَ وََاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي لأصحاب الصغائر، ونظيره {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبََائِرَ مََا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ} [النساء: 31] {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ} أي هو أعلم بما تعملون وما أنتم صائرون إليه حين ابتدأ خلق أبيكم من تراب، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم منكم لما أن كبرتم، ويجوز أن يكون اعلم بمعنى عالم {فَلََا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} قال زيد بن أسلم: أي لا تبرئوها من المعاصي. قال:
وشرح هذا لا تقولوا إنّا أزكياء. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ََ} المعاصي وخاف وأدى الفرائض.
[سورة النجم (53): آية 33]
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلََّى (33)}
أي عن الإيمان. قال ابن زيد: نزلت في رجل أسلم فلقيه صاحبه فغيره وقال له:
__________
(1) انظر تيسير الداني 158 (حمزة والكسائي بكسر الباء من غير ألف ولا همزة، والباقون بفتح الباء وبألف وهمزة بعدها).(4/185)
أضللت أباك ونسبته إلى الكفر وأنت بتنصيرهم أولى فقال: خفت عذاب الله، فقال:
أعطني شيئا وأنا أتحمّل عنك العذاب فأعطاه شيئا قليلا فتعاسر وأكدى، وكتب له كتابا وأشهد له على نفسه أنه يتحمّل عنه العذاب فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلََّى}.
[سورة النجم (53): آية 34]
{وَأَعْطى ََ قَلِيلاً وَأَكْدى ََ (34)}
أي عاسره، وعن ابن عباس «أكدى» منع، وقال مجاهد: قطع.
[سورة النجم (53): آية 35]
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ََ (35)}
أي أعلم أن هذا يتحمّل عنه العذاب، كما قال ويرى بمعنى يعلم حكاه سيبويه.
[سورة النجم (53): الآيات 36الى 37]
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمََا فِي صُحُفِ مُوسى ََ (36) وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى (37)}
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمََا فِي صُحُفِ مُوسى ََ} (36) {وَإِبْرََاهِيمَ} أنه لا يعذّب أحد من أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس {وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى} (1) قال: كان قبل إبراهيم عليه السلام فيؤخذ موضع رفع أي ذلك {أَلََّا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ}، والتقدير عند مجاهد: وفّى بما افترض عليه. قال محمد بن كعب: وفّى بذبح ابنه. وأولى ما قيل في معنى الآية بالصواب ما دلّ عليه عمومها أي وفّى بكل ما افترض عليه بشرائع الإسلام، ووفّى في العربية للتكثير.
[سورة النجم (53): آية 38]
{أَلاََّ تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ (38)}
«أن» في موضع نصب على البدل من «ما»، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي ذلك {أَلََّا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} والتقدير عند سيبويه أنه لا تزر وازرة. يقال: وزر يزر حمل الوزر.
[سورة النجم (53): آية 39]
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلاََّ مََا سَعى ََ (39)}
بمعنى وأنه أيضا أي يجازى إنسان إلا بما عمل.
[سورة النجم (53): آية 40]
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ (40)}
أن يظهر الناس يوم القيامة على ما عمله من خير أو شرّ لأنه يجازى عليه. قال أبو إسحاق: ويجوز {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ََ} (40) قال: وهذا عند الكوفيين لا يجوز منعوا أنّ زيدا ضربت، واعتلوا في ذلك بأنه خطأ لأنه لا يعمل في زيد عاملان وهما «أنّ»
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 164 (قرأ الجمهور وفّى بتشديد الفاء، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي بتخفيفها).(4/186)
و «ضربت» وأجاز ذلك الخليل وسيبويه وأصحابهما ومحمد بن يزيد. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: سألت محمد بن يزيد فقلت له: أنت لا تجيز زيد ضربت وتخالف سيبويه فيه فكيف أجزت أنّ زيدا ضربت «وأنّ» تدخل على المبتدأ، فقال: هذا مخالف لذاك لأن «إنّ» لمّا دخلت اضطررت إلى إضمار الهاء لأن في الكلام عاملين.
[سورة النجم (53): آية 41]
{ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ الْأَوْفى ََ (41)}
{ثُمَّ يُجْزََاهُ الْجَزََاءَ} مصدر، والهاء كناية عن السعي الأوفى لأن الله عزّ وجلّ أوفى لهم بما وعد وأوعد.
[سورة النجم (53): آية 42]
{وَأَنَّ إِلى ََ رَبِّكَ الْمُنْتَهى ََ (42)}
في موضع نصب اسم «أنّ» ألّا أنه مقصور لا يتبيّن فيه الإعراب، والمعنى: وأنّ إلى ربّك انتهاء جميع خلقه ومصيرهم فيجازيهم بأعمالهم الحسنة والسيّئة.
[سورة النجم (53): آية 43]
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ (43)}
«هو» زائدة للتوكيد، ويجوز أن تكون صفة للهاء. فأما معنى أضحك وأبكى فقيل فيه: أضحك أهل الجنة بدخولهم الجنّة وأبكى أهل النار بدخولهم النار، وقيل:
أضحك من شاء من الدنيا بأن سرّه وأبكى من شاء بأن غمّه والآية عامة.
[سورة النجم (53): آية 44]
{وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا (44)}
أي أمات من مات وأحيا من حيي بأن جعل فيه الروح بعد أن كان نطفة.
[سورة النجم (53): آية 45]
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ (45)}
كلّ واحد منهما زوج لصاحبه، والذكر والأنثى بدل من الزوجين.
[سورة النجم (53): آية 46]
{مِنْ نُطْفَةٍ إِذََا تُمْنى ََ (46)}
أي إذا أمناها الرجل والمرأة. وقيل: هو من منى الله عليه الشيء إذا قدّره له.
فالأول من «أمنى»، وهذا من «منى» ويفعل في الثلاثي والرباعي واحد، لأن الرباعي يحذف منه حرف فتقول هو يكرم والأصل يؤكرم فحذفت الهمزة اتباعا لقولك: أنا أكرم وحذفت من أكرم لأنه لا يجتمع همزتان.
[سورة النجم (53): آية 47]
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ََ (47)}
أي عليه أن ينشئ الزوجين بعد الموت.(4/187)
[سورة النجم (53): آية 48]
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى ََ وَأَقْنى ََ (48)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أقنى أرضى، وقال ابن زيد: أغنى بعض خلقه وأفقر بعضهم. قال أبو جعفر: يقال: أقنيت الشيء أي اتخذته عندي وجعلته مقيما فأقنى جعل له مالا مقيما.
[سورة النجم (53): آية 49]
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ََ (49)}
قال مجاهد: هي الشّعرى التي خلف الجوزاء، وقال غيره: هما شعريان فالتي عبرت هي الشّعرى العبور الخارجة عن المجرة التي عبدها أبو كبشة في الجاهلية، وقال: رأيتها قد عبرت عن المنازل.
[سورة النجم (53): آية 50]
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ (50)}
قراءة الكوفيين وبعض المكيين، وهي القراءة البيّنة في العربية حرّك التنوين لالتقاء الساكنين. وقراءة أبي عمرو وأهل المدينة وأنه أهلك عدا الولي (1) بإدغام التنوين في اللام. وتكلّم النحويون في هذا فقال محمد بن يزيد: هو لحن وقال غيره: لا يخلو من إحدى جهتين أن يصرف عادا فيقول: عادا الأولى، أو يمنعه الصرف يجعله اسما للقبيلة فيقول عاد الأولى. فأما عادا الأولى فمتوسط، فأما الاحتجاج بقراءة أهل المدينة وأبي عمرو فنذكره عن أبي إسحاق، قال: فيه ثلاثة لغات يقال: الأولى بتحقيق الهمزة ثم تخفّف الهمزة فتلقى حركتها على اللام فتقول: «الولي» ولا تحذف ألف الوصل لأنها تثبت مع ألف الاستفهام نحو {آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] فخالفت ألفات الوصل فلم تحذف أيضا هاهنا. واللغة الثالثة أن يقال: «لولى» فتحذف ألف الوصل لأنها إنما اجتلبت لسكون اللام فلما تحركت اللام حذفت فعلى هذا قراءته عادا الولي أدغم التنوين في اللام. قال: وسمعت محمد بن الوليد يقول: لا يجوز إدغام التنوين في هذه اللام لأن هذه اللام أصلها السكون والتنوين ساكن فكأنه جمع بين ساكنين قال: وسمعته يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: ما علمت أن أبا عمرو بن العلاء لحن في صميم العربية في شيء من القرآن إلّا في {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [ال عمران:
75] وفي {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عََاداً الْأُولى ََ} قال: وأبى هذا أبو إسحاق واحتجّ بما قدّمنا. فأما الأولى فيقال: لا يكون أولى إلّا وثمّ أخرى فهل كان ثمّ عاد آخرة؟ فتكلّم في هذا جماعة من العلماء. فمن أحسن ما قيل فيه ما ذكره محمد بن إسحاق قال: عاد الأولى عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح صلّى الله عليه وسلّم، وعاد الثانية بنو لقيم بن هزّال بن هزيل
__________
(1) انظر تيسير الداني 166، وكتاب السبعة لابن مجاهد 615، والبحر المحيط 8/ 166.(4/188)
من ولد عاد الأكبر وكانوا بمكة في وقت أهلكت عاد الأولى مع بني عملاق. قال أبو إسحاق: فبقوا بعد عاد الأولى حتّى بغى بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا. قال:
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: عاد الآخرة ثمود، واستشهد على ذلك بقول زهير: [الطويل] 440 كأحمر عاد ثمّ ترضع فتفطم (1)
يريد عاقر الناقة، وجواب ثالث أنه قد يكون شيء له أول ولا أخر له من ذلك نعيم أهل الجنة.
[سورة النجم (53): آية 51]
{وَثَمُودَ فَمََا أَبْقى ََ (51)}
قال بعض العلماء: أي فلم يبقهم على كفرهم وعصيانهم حتّى أفناهم وأهلكم وهذا القول خطأ لأن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تنصب ثمودا بأبقى، وأيضا فإن بعد الفاء «ما» وأكثر النحويين لا يجيز أن يعمل ما بعد ما فيما قبلها، والصواب أن ثمودا منصوب على العطف على عاد.
[سورة النجم (53): آية 52]
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كََانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ََ (52)}
{وَقَوْمَ نُوحٍ} عطف أيضا. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء. {إِنَّهُمْ كََانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ََ} أي أظلم لأنفسهم من هؤلاء وأطغى وأشدّ تجاوزا للظلم وقد بين ذلك قتادة وقال: كان الرجل منهم يمشي بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول: يا بنيّ لا تقبل من هذا، فإنّ أبي مشى بي إليه وأوصاني بما أوصيتك به فوصفهم الله جلّ وعزّ بالظلم والطغيان.
[سورة النجم (53): آية 53]
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ََ (53)}
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} منصوبة بأهوى.
[سورة النجم (53): آية 54]
{فَغَشََّاهََا مََا غَشََّى (54)}
الفائدة هي هذا معنى التعظيم أي ما غشّى مما قد ذكر لكم. قال قتادة: غشّاها الصخور أي بعد ما رفعها وقلبها.
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 20، ولسان العرب (سكف)، و (شأم)، وجمهرة اللغة (1328)، وأساس البلاغة (شأم)، وتاج العروس (كشف)، و (شأم)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 436، وصدره:
«فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم»(4/189)
[سورة النجم (53): آية 55]
{فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكَ تَتَمََارى ََ (55)}
أي قل يا محمد لمن يشك ويجادل بأيّ نعم ربّك تمتري أي تشكّ، وواحد الالاء إلى، ويقال: ألى وإلي وأليّ، أربع لغات قال قتادة: أي فبأي نعم ربك تتمارى المعنى يا أيها الإنسان فبأيّ نعم ربّك تتشكّك لأن المريّة الشكّ.
[سورة النجم (53): آية 56]
{هََذََا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ََ (56)}
{هََذََا نَذِيرٌ} مبتدأ وخبره. ومذهب قتادة أن المعنى هذا محمد نذير، وشرحه أنّ المعنى: هذا محمد من المنذرين أي منهم في الجنس والصدق والمشاكلة وإذا كان مثلهم فهو منهم. ومذهب أبي مالك أن المعنى: هذا الذي أنذرتكم به من هلاك الأمم نذير. {مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ََ} قال أبو جعفر: وهذا أولى بنسق الآية لأن قبله {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمََا فِي صُحُفِ مُوسى ََ وَإِبْرََاهِيمَ الَّذِي وَفََّى} [الآية: 3] فالتقدير هذا الذي أنذرتكم به من النذر المتقدّمة.
[سورة النجم (53): آية 57]
{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «الآزفة» من أسماء القيامة. قال: يقال أزف الشيء إذا قرب، كما قال: [الكامل] 441 أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا نزل برحالنا وكأن قد (1)
[سورة النجم (53): آية 58]
{لَيْسَ لَهََا مِنْ دُونِ اللََّهِ كََاشِفَةٌ (58)}
قيل: معنى «كاشفة» المصدر أي كشفت مثل {لَيْسَ لِوَقْعَتِهََا كََاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] وقال أبو إسحاق: «كاشفة» من يتبيّن متى هي، وقيل «كاشفة» من يكشف ما فيها من الجهد أي لوقعتها كاشف إلّا الله عزّ وجلّ ولا يكشفه إلّا عن المؤمنين، وتكون الهاء للمبالغة.
[سورة النجم (53): آية 59]
{أَفَمِنْ هََذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)}
أي من أن أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم تعجبون.
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 89، والأزهيّة 211، والأغاني 11/ 8، والجنى الداني 146، وخزانة الأدب 7/ 197، والدرر اللوامع 2/ 202، وشرح التصريح 1/ 36، وشرح شواهد المغني 490، وشرح المفصل 8/ 148، ولسان العرب (قدد)، ومغني اللبيب 171، والمقاصد النحوية 1/ 80، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56، وأمالي ابن الحاجب 1/ 455، وخزانة الأدب 9/ 8، ورصف المباني 72، وسرّ صناعة الإعراب 334، وشرح الأشموني 1/ 12، وشرح ابن عقيل 18، وشرح قطر الندى 160، وشرح المفصّل 10/ 110، ومغني اللبيب 342، والمقتضب 1/ 42، وهمع الهوامع 1/ 143.(4/190)
[سورة النجم (53): آية 60]
{وَتَضْحَكُونَ وَلاََ تَبْكُونَ (60)}
{وَتَضْحَكُونَ} استهزاء. {وَلََا} لما فيه من الوعيد وذكر العقاب.
[سورة النجم (53): آية 61]
{وَأَنْتُمْ سََامِدُونَ (61)}
أي لاهون معرضون عن آياته.
[سورة النجم (53): آية 62]
{فَاسْجُدُوا لِلََّهِ وَاعْبُدُوا (62)}
قال أبو إسحاق: المعنى: {فَاسْجُدُوا لِلََّهِ} ولا تسجدوا للات والعزّى ومناة {وَاعْبُدُوا} أي واعبدوا الله جلّ وعزّ وحده.(4/191)
54 - شرح إعراب سورة القمر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القمر (54): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}
{اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ} كسرت التاء لالتقاء الساكنين، ووجب أن تكون التاء ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى، هذا قول البصريين. فأما قول الكوفيين فإنه لما كانت التاءات أربعا فضمّت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكّر وكسرت تاء المخاطبة المؤنثة فلم تبق حركة فسكّنت تاء المؤنثة الغائبة. والمعنى: اقتربت الساعة التي تقوم فيها القيامة فاحذروا منها لئلا تأتيكم فجأة وأنتم مقيمون على المعاصي {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} معطوف على اقتربت معناه المضيء.
[سورة القمر (54): آية 2]
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)}
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} شرط وجوابه. والمعنى أنّهم سألوا آية فأروا القمر منشقّا فرأوا آية تدل على حقيقة أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأن ما جاء به صدق فأعرضوا عن التصديق {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} على إضمار مبتدأ أي هذا سحر مستمر.
[سورة القمر (54): آية 3]
{وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)}
{وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} أي كذّبوا بحقيقة ما رأوه وتيقّنوه واثروا اتباع أهوائهم في عبادة الأوثان وترك ما أمرهم الله به {أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} مبتدأ وخبر. والمعنى: وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ومتناه منتهاه.
[سورة القمر (54): آية 4]
{وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبََاءِ مََا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)}
أي ولقد جاء هؤلاء المشركين من أخبار الأمم الذين فعلوا كفعلهم فأهلكوا ما فيه منتهى عمّا هم عليه، كما قال مجاهد: مزدجر منتهى. والأصل عند سيبويه (1) مزتجر
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 600.(4/192)
بالتاء إلّا أن التاء مهموسة والزاي مجهورة فثقل الجمع بينهما فأبدل من التاء ما هو من مخرجها وهو الدال. قال أبو جعفر: وهذا من أوجز قوله ولطيفه.
[سورة القمر (54): الآيات 5الى 6]
{حِكْمَةٌ بََالِغَةٌ فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدََّاعِ إِلى ََ شَيْءٍ نُكُرٍ (6)}
{حِكْمَةٌ} بدل من «ما» والتقدير ولقد جاءهم حكمة {بََالِغَةٌ} أي ليس فيها تقصير، ويجوز أن تكون حكمة مرفوعة على إضمار مبتدأ {فَمََا تُغْنِ النُّذُرُ} ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بتغني. والتقدير: فأيّ شيء تغني النذر عمّن اتّبع هواه وخالف الحقّ، ويجوز أن تكون ما نافية لا موضع لها. وزعم قوم أن الياء حذفت من تغن في السواد لأن «ما» جعلت بمنزلة «لم». قال أبو جعفر: هذا خطأ قبيح لأن «ما» ليست من حروف الجزم، وهي تقع على الأسماء والأفعال فمحال أن تجزم ومعناهما أيضا مختلف: لأنّ «لم» تجعل المستقبل ماضيا و «ما» تنفي الحال. فأما حذف الياء من «تغن» في السواد فإنه على اللفظ في الإدراج ومثله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر (1) تكتب بغير واو على اللفظ في الإدراج. فأما الداعي إذا حذفت منه الياء فالقول فيه أنه بني على نكرته. فأما البيّن فأن يكون هذا كله مكتوبا بغير حذف.
[سورة القمر (54): الآيات 7الى 8]
{خُشَّعاً أَبْصََارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ يَقُولُ الْكََافِرُونَ هََذََا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}
{خُشَّعاً} (2) منصوب على الحال. {أَبْصََارُهُمْ} مرفوع بفعله هذه قراءة أهل الحرمين، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة خاشعا أبصارهم وعن ابن مسعود خاشعة أبصارهم فمن قال خاشعا وحّد، لأنه بمنزلة الفعل المتقدم، ومن قال: خاشعة أنّث كتأنيث الجماعة، ومن قال خشّعا جمع لأنه جمع مكسّر فقد خالف الفعل، ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على التقديم والتأخير. {يَخْرُجُونَ} في موضع نصب على الحال أيضا {مِنَ الْأَجْدََاثِ} واحدها جدث، ويقال: جدف للقبر، مثل فوم وثوم {كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ} في موضع نصب على الحال وكذا قوله: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدََّاعِ يَقُولُ الْكََافِرُونَ هََذََا يَوْمٌ عَسِرٌ} مبتدأ وخبره.
[سورة القمر (54): آية 9]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنََا وَقََالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} على تأنيث الجماعة. {فَكَذَّبُوا عَبْدَنََا} يعني نوحا. {وَقََالُوا مَجْنُونٌ} على إضمار مبتدأ {وَازْدُجِرَ} أي زجر وتهدّد بقولهم: لئن لم تنته لنرجمنّك (3).
__________
(1) انظر تيسير الداني 166 (قرأ ابن كثير «نكر» بإسكان الكاف والباقون بضمّها)
(2) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 8/ 173، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 105، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618.
(3) يشير إلى الآية 116، من سورة الشعراء: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يََا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}.(4/193)
[سورة القمر (54): آية 10]
{فَدَعََا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}
{فَدَعََا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} أي بأني قد غلبت وقهرت، وقرأ عيسى بن عمر {فَدَعََا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} (1) بكسر الهمزة. قال سيبويه أي قال: إني مغلوب {فَانْتَصِرْ} أي لي بعقابك إياهم.
[سورة القمر (54): آية 11]
{فَفَتَحْنََا أَبْوََابَ السَّمََاءِ بِمََاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}
{فَفَتَحْنََا أَبْوََابَ السَّمََاءِ} التقدير: فنصرناه ففتحنا أبواب السماء: لأن ما ظهر من الكلام يدلّ على ما حذف. {بِمََاءٍ مُنْهَمِرٍ} أي مندفق. قال سفيان منهمر ينصبّ انصبابا، وقال الشاعر: [الرمل] 442 راح تمريه الصّبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر (2)
[سورة القمر (54): آية 12]
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمََاءُ عَلى ََ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)}
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} جمع عين في العدد، وقراءة الكوفيين {عُيُوناً} بكسر العين، والأصل الضمّ فأبدل من الضمة كسرة استثقالا للجمع بين ضمة وياء {فَالْتَقَى الْمََاءُ} (3) والتقى لا يكون إلّا الاثنين. المعنى: فالتقى ماء الأرض وماء السماء، وهما جميعا يقال لهما ماء لأنّ ماء اسم للجنس. قال أبو الحسن بن كيسان: الأصل في ماء ماه فأبدلوا من الهاء همزة فإذا جمعوا ردّوه إلى أصله فقالوا: أمواه ومياه، ومويه في التصغير {عَلى ََ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (4) قيل:
أي قدّره الله جلّ وعزّ في اللوح المحفوظ، وقيل: قدر ماء الأرض كماء السّماء.
[سورة القمر (54): آية 13]
{وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ وَدُسُرٍ (13)}
{وَحَمَلْنََاهُ عَلى ََ ذََاتِ أَلْوََاحٍ} أي على سفينة ذات ألواح {وَدُسُرٍ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدّسر المسامير، وكذا قال محمد بن كعب وقتادة وابن زيد، وقال الحسن: الدّسر صدر السفينة، وقال الضحاك: الدّسر طرف السفينة. قال: وأصل هذا من دسره يدسره ويدسره دسرا إذا شدّه ودفعه.
[سورة القمر (54): آية 14]
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا جَزََاءً لِمَنْ كََانَ كُفِرَ (14)}
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنََا} أي بمرأى منّا ومسمع، وقيل بأمرنا. وأعين جمع في القليل،
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 147، والبحر المحيط 8/ 175.
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 145.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 175 (وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب والجحدري «الماءان»، وقرأ الحسن «الماوان»).
(4) انظر البحر المحيط 8/ 176 (وقرأ أبو حيوة «قدّر» بشدّ الدال، والمجهور بتخفيفها).(4/194)
ويقال: أعيان، مثل بيت وأبيات. {جَزََاءً} مصدر. {لِمَنْ كََانَ كُفِرَ} في معناه أقوال. قال ابن زيد: «من» بمعنى «ما»، وتقديره عنده للذي كفر من النعم وجحد. قال: وهذا يمنعه أهل العربية جميعا، ومذهب مجاهد. أن المعنى جزاء لله. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن أي عاقبناهم وعرفناهم جزاء لله جلّ وعزّ حين كفروا به وجحدوا وحدانيته فقالوا لا تذرنّ الهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا، وقيل: جزاء لمن كان كفر على لفظ «من»، ولو كان في غير القرآن لجاز على هذا القول كفروا على المعنى.
[سورة القمر (54): آية 15]
{وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}
{وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً} قيل: المعنى: ولقد تركنا هذه العقوبة لمن كفر وجحد الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم عظة وعبرة، ومذهب قتادة ولقد تركنا السفينة آية. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} هذه قراءة الجماعة وهي صحيحة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما رواه شعبة وغيره عن ابن إسحاق عن الأسود عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} بالدال غير معجمة، وقال يعقوب القارئ: قرأ قتادة فهل من مذّكر (1) بالذال معجمة. قال أبو جعفر:
مدّكر أولى لما ذكرنا من الاجتماع في العربية والأصل عند سيبويه (2) مذتكر فاجتمعت الذال وهي مجهورة أصلية والتاء وهي مهموسة زائدة فأبدلوا من التاء حرفا مجهورا من مخرجها فصار مذدكر، فأدغمت الذال في الدال فصار مدّكر، ممن قال مذّكر أدغم الدال في الذال، وليس على هذا كلام العرب إنما يدغمون الأول في الثاني.
[سورة القمر (54): آية 16]
{فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ (16)}
أي فكيف كان عقابي لمن كفر بي وعصاني وبإنذاري وتحذيري من الوقوع في مثل ذلك.
[سورة القمر (54): آية 17]
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قال ابن زيد: أي بيّنا، وقال مجاهد: هوّنّا، وقيل:
التقدير: ولقد سهّلنا القرآن بتبييننا إياه وتفصيلنا لمن أراد أن يتذكّره فيعتبر به. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يتذكّر ما فيه، وقيل هل من طالب خيرا أو علما فيعان عليه، فهذا قريب من الأول لأن الأول أبين على ظاهر الآية.
[سورة القمر (54): آية 18]
{كَذَّبَتْ عََادٌ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ (18)}
{كَذَّبَتْ عََادٌ} قال أبو جعفر: في هذا حذف قد عرف معناه أي كذّبت عاد هودا
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 176.
(2) انظر الكتاب 4/ 601.(4/195)
كما كذّبت قريش محمدا صلّى الله عليه وسلّم فليحذروا مثل ما نزل بهم {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ} «فكيف» في موضع نصب على خبر كان إلّا أنها مبنية لأن فيها معنى الاستفهام وفتحت لالتقاء الساكنين.
[سورة القمر (54): آية 19]
{إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)}
{إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أهل التفسير يقولون: الصّرصر الباردة، وقال بعض أهل اللغة: إنما يقال لها صرصر إذا كان لها صوت شديد من قولهم صرّ الشيء إذا صوّت، والأصل صرر فأبدل من إحدى الراءات صاد. {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} قال بعض أهل التفسير: النحس الشديد، ولو كان كما قال لكان يوم منونا ولقيل: نحس ولم يضف.
[سورة القمر (54): آية 20]
{تَنْزِعُ النََّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)}
{تَنْزِعُ النََّاسَ} قيل: تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} النخل تذكّر وتؤنّث لغتان جاء بها القرآن وزعم محمد بن جرير (1) أنّ في الكلام حذفا، وأن المعنى تنزع النّاس فتتركهم كأعجاز نخل. قال: فتكون الكاف على هذا في موضع نصب بالفعل المحذوف، وهذا لا يحتاج إلى ما قاله من الحذف. والقول فيه ما قاله أبو إسحاق قال: هو في موضع نصب على الحال أي تنزع الناس أمثال نخل منقعر أي في هذه الحال. قال أبو جعفر: وهذا القول حقيقة الإعراب فإن كان على تساهل المعنى فالمعنى يؤول إلى ما قاله محمد بن جرير. وقد روى محمد بن إسحاق قال: لمّا هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد فاصطفوا على باب الشّعب فسدّوا الريح عمّن في الشّعب من العيال، فأقبلت الريح تجيء من تحت واحد واحد ثم تقلعه فتقلبه على رأس فتدقّ عنقه حتّى أهلكت ستّة وبقي واحد يقال له: الخلجان فجاء إلى هود صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
ما هؤلاء الذين أراهم كالبخاتي (2) تحت السحاب قال: هؤلاء الملائكة عليهم السلام قال: إن أسلمت فما لي قال: تسلم قال: أيقيدني ربّك من هؤلاء الذين في السحاب؟
قال: ويلك هل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت قال: فرجع إلى موضعه، وأنشأ يقول: [الراجز] 443 لم يبق إلّا الخلجان نفسه ... يا شرّ يوم قد دهاني أمسه (3)
ثم لحقه ما لحق أصحابه فصاروا كما قال جلّ وعزّ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}.
وقال مجاهد في تشبيههم بأعجاز نخل منقعر: لأنه قد بانت أجسادهم من رؤوسهم
__________
(1) انظر تفسير الطبري 27/ 99.
(2) البخاتي: جمع البختيّة، وهي جمال طوال الأعناق (تاج العروس «بخت»).
(3) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري 27/ 99.(4/196)
فصاروا أجساما بلا رؤوس، وقال بعض أهل النظر: التشبيه للحفر التي كانوا فيها قياما صارت الحفر كأنها أعجاز نخل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول خطأ، ولو كان كما قال كان كأنّها أو كأنّهن، وأيضا فإنّ الحفر لم يتقدّم لها ذكر فيكنى عنها. وأيضا فالتشبيه بالقوم أولى ولا سيما وهو قول من يحتجّ بقوله.
[سورة القمر (54): الآيات 21الى 22]
{فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)}
{فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ} (21) أي فكيف كان عذابي إيّاهم على الكفر وإنذاري إيّاكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. قال أبو إسحاق: نذر جمع نذير.
[سورة القمر (54): آية 23]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)}
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} (23) لم يصرف ثمود: لأنه اسم للقبيلة ويجوز صرفه على أنه اسم للحيّ.
[سورة القمر (54): آية 24]
{فَقََالُوا أَبَشَراً مِنََّا وََاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنََّا إِذاً لَفِي ضَلاََلٍ وَسُعُرٍ (24)}
{فَقََالُوا أَبَشَراً مِنََّا وََاحِداً نَتَّبِعُهُ} نصبت بشرا بإضمار فعل والمعنى: أنتّبع بشرا منّا واحدا ونحن جماعة؟ {إِنََّا إِذاً لَفِي ضَلََالٍ وَسُعُرٍ} أي في حيرة عن الطريق المستقيم وأخذ على العوج، ولا تعمل إذن إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها. {وَسُعُرٍ} يكون جمع سعير، ويكون مصدرا من قولهم سعر الرجل إذا طاش.
[سورة القمر (54): آية 25]
{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنََا بَلْ هُوَ كَذََّابٌ أَشِرٌ (25)}
{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنََا} استفهام فيه معنى التوقيف. {بَلْ هُوَ كَذََّابٌ أَشِرٌ} الكوفيون يقولون: «بل» لا تكون إلّا بعد نفي فيحملون مثل هذا على المعنى لأن معنى ألقي عليه الذكر لم يلق عليه.
[سورة القمر (54): الآيات 26الى 27]
{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذََّابُ الْأَشِرُ (26) إِنََّا مُرْسِلُوا النََّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}
{سَيَعْلَمُونَ غَداً} الأصل عند سيبويه غدو حذفت منه الواو. {مَنِ الْكَذََّابُ الْأَشِرُ} مبتدأ وخبره في موضع نصب بسيعلمون، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ستعلمون غدا (1) وأبو عبيد يميل إلى القراءة بالياء لأن بعده {إِنََّا مُرْسِلُوا النََّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} ولم يقل: لكم. قال أبو جعفر: التقدير لمن قرأ بالياء قال الله جلّ وعزّ: {سَيَعْلَمُونَ غَداً}، والقول يحذف كثيرا. والأصل إنّا مرسلون حذفت النون تخفيفا وأضيف فتنة
__________
(1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618، والبحر المحيط 8/ 179.(4/197)
لهم. قال أبو إسحاق: فتنة مفعول له، وقال غيره: هو مصدر أي فتناهم بذلك وابتليناهم. وكان ابتلاؤهم في ذلك أنّ الناقة خرجت لهم من صخرة صماء ناقة عظيمة فآمن بعضهم وكانت لعظمها كثيرة الأكل فشكوا ذلك إلى صالح صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء، فقال: ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء، ترد الماء يوما، وتردون يوما فكانت هذه الفتنة. {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أي فاصبر على ارتقابك إيّاهم، والأصل واصتبر أبدل من التاء طاء لأن الطاء أشبه بالصاد لأنهما مطبقتان. قال أبو إسحاق: ينطبق الحنك على اللسان بهما، قال أيضا: وهما أيضا مطبقتان في الخطّ.
[سورة القمر (54): آية 28]
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمََاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)}
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمََاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي ذو قسمة مثل قولك: رجل عدل. {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} مبتدأ وخبر. أي تحضر الناقة يوما وهم يوما، وغلّب المذكّر على المؤنّث فقيل بينهم.
[سورة القمر (54): آية 29]
{فَنََادَوْا صََاحِبَهُمْ فَتَعََاطى ََ فَعَقَرَ (29)}
{فَنََادَوْا صََاحِبَهُمْ} وهم التسعة الذين انفردوا لعقر الناقة فنادى ثمانية منهم قدارا، فقالوا: هذه الناقة قد أقبلت {فَتَعََاطى ََ فَعَقَرَ} قيل: أي فتعاطى قتلها وحقيقته في اللغة فتناول الناقة فقتلها، من قولهم عطوت إذا تناولت، كما قال: [الطويل] 444 وتعطو برخص غير شثن كأنّه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل (1)
[سورة القمر (54): آية 30]
{فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ (30)}
{فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي} أي عقابي إيّاهم على عصيانهم أي فاحذروا المعاصي. {وَنُذُرِ} أي إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم.
[سورة القمر (54): آية 31]
{إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وََاحِدَةً فَكََانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}
وهذا من التمثيل العجيب لأن الهشم ما يبس من الشجر وتهشّم فصار يحظر به بعد أن كان أخضر ناضرا أي صاروا بعد النعمة رفاتا، وبعد البهجة حطاما كهيئة الشجر. وروي عن ابن عباس «كهشيم المحتظر» أي كالعظام المحترقة. قال أبو جعفر:
وحقيقة هذا القول في اللغة كهشيم قد حظر به وأحرق: وقال ابن زيد: هو الشوك
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 17، وجمهرة اللغة 363، وشرح المفصّل 6/ 92، و 7/ 144، ولسان العرب (سرع) و (سحل) و (ششن)، و (ظبا)، والمنصف 3/ 58، وتاج العروس (سحل)، و (ششن)، و (ظبا).(4/198)
تجعله العرب حوالى الغنم مخافة السبع. والتقدير في العربية كهشيم الرجل المحتظر، ومن قرأ {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (1) فتقديره كهشيم الشيء الذي قد احتظر.
[سورة القمر (54): آية 33]
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)}
أي بالآيات التي أنذروا بها.
[سورة القمر (54): آية 34]
{إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ حََاصِباً إِلاََّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنََاهُمْ بِسَحَرٍ (34)}
{إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ حََاصِباً} أي حجارة تحصبهم. {إِلََّا آلَ لُوطٍ} نصب على الاستثناء، وال الرجل كلّ من كان على دينه ومذهبه كما قال جلّ وعزّ لنوح صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وهو ابنه وال بمعنى واحد، إلّا أن النحويين يقولون: الأصل في ال أهل، والدليل على ذلك أنّ العرب إذا صغّرت الا قالت: أهيل. {نَجَّيْنََاهُمْ بِسَحَرٍ} قال الفراء (2): سحر هاهنا يجري لأنه نكرة كقولك: نجّيناهم بليل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول جميع النحويين لا نعلم فيه اختلافا إلّا أنه قال بعده شيئا يخالف فيه قال:
فإذا ألقت العرب من سحر الباء لم يجروه فقالوا: فعلت هذا سمر يا هذا. قال أبو جعفر: وقول البصريين أنّ سحر إذا كان نكرة انصرف وإذا كان معرفة لم ينصرف، ودخول الباء وخروجها واحد. والعلّة فيه عند سيبويه (3) أنه معدول عن الألف واللام لأنه يقال: أتيتك أعلى السّحر فلما حذفت الألف واللام وفيه نيتهما اعتلّ فلم ينصرف تقول: سير بزيد سحر يا هذا، غير مصروف. ولا يجوز رفعه لعلّة ليس هذا موضع ذكرها.
[سورة القمر (54): آية 35]
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنََا كَذََلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنََا} قال أبو إسحاق: نصبت نعمة لأنها مفعول لها، قال: ويجوز الرفع بمعنى تلك نعمة من عندنا. {كَذََلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} الكاف في موضع نصب أي نجزي من شكر جزاء كذلك النجاء.
[سورة القمر (54): آية 36]
{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنََا فَتَمََارَوْا بِالنُّذُرِ (36)}
{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنََا} أي التي بطشنا بهم. {فَتَمََارَوْا بِالنُّذُرِ} أي كذّبوا بها شكّا، كما قال قتادة في {فَتَمََارَوْا بِالنُّذُرِ} أي لم يصدّقوا بها.
[سورة القمر (54): آية 37]
{وَلَقَدْ رََاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنََا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ (37)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 180، ومعاني الفراء 3/ 108.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 109.
(3) انظر الكتاب 3/ 314.(4/199)
{وَلَقَدْ رََاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} «وضيف» بمعنى أضياف لأنه مصدر فلذلك لا تكاد العرب تثنيه ولا تجمعه، وحقيقته في العربية عن ذوي ضيفه. {فَطَمَسْنََا أَعْيُنَهُمْ} يقال: طمس عينه وعلى عينه إذا فعل بها فعلا يصير بها مثل وجهه لا شقّ فيها ويقال طمست الريح الأعلام إذا سفت عليها التراب فغطّتها به، كما قال: [البسيط] 445 من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عارضها طامس الأعلام مجهول (1)
{فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ} أي فقالت لهم الملائكة عليهما السلام: فذوقوا عذاب الله وعقابه ما أنذركم به.
[سورة القمر (54): الآيات 38الى 40]
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذََابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذََابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}
قال سفيان: كان مع الفجر صرفت بكرة هاهنا لأنها نكرة، وزعم الفراء (2) أن غدوة وبكرة يجريان ولا يجريان، وزعم أنّ الأكثر في غدوة ترك الصرف، وفي بكرة الصرف. قال أبو جعفر: قول البصريين أنهما لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن زعم زاعم أنّ الأولى ما قال الفراء لأن بكرة هاهنا مصروف قيل له: هذا لا يلزم لأن بكرة هاهنا نكرة وكذا سحر، والدليل على ذلك أنه لم يقل: أهلكوا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا بكرة فتكون معرفة فلما وجب أن تكون نكرة لم يكن فيها ذكر حجّة ولا سيما وفيه الهاء قيل: {عَذََابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي يستقرّ عليهم حتّى أهلكهم.
[سورة القمر (54): آية 41]
{وَلَقَدْ جََاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)}
أي أهل دينه والقائلين بقوله كما مرّ. «قد» إذا وقعت مع الماضي دلّت على التوقّع وإذا كانت مع المستقبل دلّت على التقليل نقول: قد يكرمنا فلان أي ذلك يقلّ منه.
[سورة القمر (54): آية 42]
{كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا كُلِّهََا فَأَخَذْنََاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)}
{كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا كُلِّهََا} في معناه قولان: أحدهما أن المعنى: كذّبوا بآياتنا التي أريناهم إيّاها كلّها والآخر أنه على التكثير، كما حكى سيبويه ما بقي منهم مخبّر. {فَأَخَذْنََاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} قال قتادة: عزيز في انتقامه، وقال لي غيره: عزيز لا يغلب مقتدر على ما يشاء.
__________
(1) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص 9، ولسان العرب (نضخ)، و (عرض)، وتاج العروس (نضخ) و (عرض).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 109.(4/200)
[سورة القمر (54): آية 43]
{أَكُفََّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولََئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرََاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)}
{أَكُفََّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولََئِكُمْ} مبتدأ وخبره قال: وهذا على التوقيف كما حكى سيبويه:
الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ {أَمْ لَكُمْ بَرََاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي أكتب لكم أنكم لا تعذّبون.
[سورة القمر (54): آية 44]
{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)}
على اللفظ ولو كان على المعنى قيل: منتصرون.
[سورة القمر (54): آية 45]
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} قال أهل التفسير: ذلك يوم بدر. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} واحد بمعنى الجمع: كما يقال: كثر الدّرهم.
[سورة القمر (54): آية 46]
{بَلِ السََّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ (46)}
{بَلِ السََّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} من قال: «بل» لا يكون إلا بعد نفي قال: المعنى: ليس الأمر كما يقولون إنهم لا يبعثون بل الساعة موعدهم. {وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ} أي من هزيمتهم وتولّيهم.
[سورة القمر (54): آية 47]
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاََلٍ وَسُعُرٍ (47)}
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلََالٍ} أي ذهب عن الحق. {وَسُعُرٍ} أي نار تسعّر.
[سورة القمر (54): آية 48]
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النََّارِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)}
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النََّارِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ} وفي قراءة ابن مسعود إلى النار (1) وهذه القراءة على التفسير، كما روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه «يحضر المقتول بين يدي الله جلّ وعزّ فيقول له: فيم قتلت؟ فيقول: فيك، فيقول: كذبت أردت أن يقال: فلان شجاع فقد قيل: فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار» (2). {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم.
[سورة القمر (54): آية 49]
{إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(3)
فدلّ بهذا على أنّهم يعذّبون على كفرهم بالقدر. وزعم سيبويه أن نصب «كلّ»
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 110، والبحر المحيط 8/ 181.
(2) أخرجه الترمذي في سننه الزهد 9/ 225.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 181 (قراءة الجمهور بالنصب، وقرأ أبو السمال وقوم من أهل السنة بالرفع).(4/201)
على لغة من قال: زيدا ضربته. وفي نصبه قولان آخران: أما الكوفيون فقالوا: «إنّا» تطلب الفعل والفعل بها أولى من الاسم، والمعنى إنا خلقنا كلّ شيء، قالوا: وليس هذا مثل قولنا: زيدا ضربته: لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى. ألا ترى أنك تقول: أزيدا ضربته فيكون النصب أولى: لأن هاهنا حرف هو بالفعل أولى والقول الثالث أنه إنما جاز هذا بالنصب وخالف زيد ضربته ليدل ذلك على خلق الأشياء فيكون فيه ردّ على من أنكر خلق الأفعال.
[سورة القمر (54): آية 50]
{وَمََا أَمْرُنََا إِلاََّ وََاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}
{وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ} مبتدأ وخبره. وقال علي بن سليمان: المعنى إلّا أمرة واحدة. وزعم الفراء: أنه روي {وَمََا أَمْرُنََا إِلََّا وََاحِدَةٌ} (1) بالنصب كما يقال: ما فلان إلّا ثيابه ودابّته أي إلّا يتعهّد ثيابه ودابته وكما حكى الكسائي: ما فلان إلّا عمّته أي يتعهّد عمّته. {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أي في سرعته.
[سورة القمر (54): آية 51]
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنََا أَشْيََاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}
فيه قولان: أحدهما أن أشياعهم هم الذين أهلكوا من قبلهم لأنهم كفروا كما كفروا فهل من متّعظ بذلك، وسمّوا أشياعهم لأنهم كذّبوا كما كذّبوا. والقول الآخر أن أشياعهم هم الذين كانوا يعاونونهم على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فأهلكوا فهل من متّعظ منكم بذلك. والقول الأول عليه أهل التأويل.
[سورة القمر (54): آية 52]
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)}
الهاء في فعلوه تعود على الأشياع في الزبر مكتوب عليهم قد كتبته الحفظة.
[سورة القمر (54): آية 53]
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}
يقال: سطر واستطر إذا كتب سطرا.
[سورة القمر (54): آية 54]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي الذين اتقوا عقاب الله جلّ وعزّ باجتناب محارمه وأداء فرائضه {فِي جَنََّاتٍ وَنَهَرٍ} قال أبو إسحاق: «نهر» بمعنى أنهار. قال أبو جعفر: وأنشد الخليل وسيبويه: [الرجز] 446 في حلقكم عظم وقد شجينا (2)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 111.
(2) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 270، ولطفيل في جمهرة اللغة ص (1041)، والمحتسب 2/ 87، وللمسيب بن زيد مناة في شرح أبيات سيبويه 1/ 212، ولسان العرب (شجا)، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 559، وشرح المفصّل 6/ 32، ولسان العرب (نهر) وسمع و (أمم) و (مأى) والمقتضب 2/ 172. وقبله:
«لا تنكروا لقتل وقد سبينا».(4/202)
[سورة القمر (54): آية 55]
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في مجلس حقّ لا لغو فيها ولا باطل. {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي يقدر على ما يشاء.(4/203)
55 - شرح إعراب سورة الرحمن
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الرحمن (55): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}
{الرَّحْمََنُ} (1) رفع بالابتداء وخبره {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) أي من رحمته علّم القرآن فبصّر به رضاه الذي يقرّب منه وسخطه الذي يباعد منه ومن رحمته.
[سورة الرحمن (55): الآيات 3الى 4]
{خَلَقَ الْإِنْسََانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيََانَ (4)}
فهو خبر بعد خبر.
[سورة الرحمن (55): آية 5]
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبََانٍ (5)}
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} مبتدأ، وقيل: الخبر محذوف أي يجريان {بِحُسْبََانٍ} وقيل:
الخبر {بِحُسْبََانٍ}.
[سورة الرحمن (55): آية 6]
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدََانِ (6)}
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: النجم ما تبسّط على الأرض من الزرع يعني البقل ونحوه، قال: والشجر ما كان على ساق. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في معناه أي يسجد له كل شيء أي ينقاد لله جلّ وعزّ.
[سورة الرحمن (55): آية 7]
{وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا وَوَضَعَ الْمِيزََانَ (7)}
{وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا} نصبت بإضمار فعل يعطف ما عمل فيه لفعل على مثله {وَوَضَعَ الْمِيزََانَ} قال الفراء (1): أي العدل، وقال غيره: هو الميزان الذي يوزن به.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 113.(4/204)
[سورة الرحمن (55): الآيات 8الى 9]
{أَلاََّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزََانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاََ تُخْسِرُوا الْمِيزََانَ (9)}
{أَلََّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزََانِ} (8) «أن» في موضع نصب، والمعنى: بأن لا تطغوا، و {تَطْغَوْا} في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون «أن» بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب، ويكون تطغوا في موضع جزم بالنهي. قال أبو جعفر: وهذا أولى لأن بعده {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلََا تُخْسِرُوا الْمِيزََانَ} (9) وقرأ بلال بن أبي بردة {وَلََا تُخْسِرُوا} (1) بفتح التاء. وهي لغة معروفة.
[سورة الرحمن (55): آية 10]
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهََا لِلْأَنََامِ (10)}
نصب الأرض بإضمار فعل.
[سورة الرحمن (55): آية 11]
{فِيهََا فََاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذََاتُ الْأَكْمََامِ (11)}
{فِيهََا فََاكِهَةٌ} مبتدأ. {وَالنَّخْلُ ذََاتُ الْأَكْمََامِ} عطف عليه. الواحد كمّ وهو ما أحاط بها من ليف وسعف وغيرهما.
[سورة الرحمن (55): آية 12]
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحََانُ (12)}
{وَالْحَبُّ} مرفوع على أنه عطف على فاكهة أي وفيها الحبّ. {ذُو الْعَصْفِ} نعت له. {وَالرَّيْحََانُ} عطف أيضا. وقراءة الأعمش وحمزة والكسائي. {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحََانُ} (2) بالخفض بمعنى وذو الريحان.
[سورة الرحمن (55): آية 13]
{فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (13)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فبأيّ نعم ربّكما. قال أبو جعفر: فإن قيل: إنما تقدّم ذكر الإنسان فكيف وقعت المخاطبة لشيئين؟ ففي هذا غير جواب منها أن الأنام يدخل فيه الجنّ والإنس فخوطبوا على ذلك، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ:
{وَالْجَانَّ خَلَقْنََاهُ} [الحجر: 27] وقد تقدم ذكر الإنسان خوطب الجميع وأجاز الفراء (3).
أن يكون على مخاطبة الواحد بفعل الاثنين، وحكى ذلك عن العرب.
[سورة الرحمن (55): آية 14]
{خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ كَالْفَخََّارِ (14)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الصّلصال الطين اليابس. فالمعنى على هذا خلق الإنسان من طين يابس يصوّت كما يصوّت الطين الذين قد مسّته النار. وهو الفخار. وقيل: الصلصال المنتن فعلان، من صلّ اللحم إذا أنتن، ويقال أصلّ.
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 149، والبحر المحيط 8/ 188، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 189، وهذه قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 114.(4/205)
[سورة الرحمن (55): الآيات 15الى 16]
{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (16)}
قيل: المارج مشتقّ من مرج الشيء إذا اختلط، والمارج من بين أصفر وأخضر وأحمر، وكذا لسان النار. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {مِنْ مََارِجٍ مِنْ نََارٍ} قال: هو من خالص النار.
[سورة الرحمن (55): آية 17]
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}
رفع على إضمار مبتدأ يجوز أن يكون بدلا من المضمر الذي في «خلق»، ويجوز الخفض (1) بمعنى: فبأيّ آلاء ربّكما ربّ المشرقين وربّ المغربين، ويجوز النصب بمعنى أعني.
[سورة الرحمن (55): آية 18]
{فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (18)}
ليس بتكرير لأنه إنما أتى بعد نعم أخرى سوى التي تقدّمت.
[سورة الرحمن (55): آية 19]
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ (19)}
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مرج أرسل. واختلف العلماء في معنى البحرين هاهنا فقال الحسن وقتادة: هما بحر الروم وبحر فارس، وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: هما بحر السماء وبحر الأرض، وكذا يروى عن ابن عباس إلّا أنه قال: يلتقيان كلّ عام. وقول سعيد بن جبير وابن أبزى يذهب إليه محمد بن جرير لعلّة أوجبت ذلك عنده نذكرها بعد هذا.
[سورة الرحمن (55): الآيات 20الى 21]
{بَيْنَهُمََا بَرْزَخٌ لاََ يَبْغِيََانِ (20) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (21)}
قال بعض أهل التفسير: لا يبغيان على الناس، وقال بعضهم: لا يبغي أحدهما على الآخر. وظاهر الآية يدل على العموم.
[سورة الرحمن (55): الآيات 22الى 23]
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ (22) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (23)}
وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {يَخْرُجُ} (2) والضمّ أبين لأنه إنما يخرج إذا أخرج. وتكلّم العلماء في معنى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ} فمذهب الفراء (3) أنه إنما
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 189 (قرأ الجمهور بالرفع، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بالخفض بدلا من «ربّكما»).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 190 (قرأ الجمهور «الخرج» مبنيا للفاعل، ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة مبنيا للمفعول، والجعفي عن أبي عمرو بالياء مضمومة وكسر الراء).
(3) انظر معاني الفراء 3/ 115.(4/206)
يخرج من أحدهما وجعله مجازا. وفي هذا من البعد ما لا خفاء به على ذي فهم أن يكون «منهما» من أحدهما. وقيل: يخرج إنما هو للمستقبل فيقول: إنه يخرج منهما بعد هذا. وقيل: يخرج منهما حقيقة لا مجازا لأنه إنما يخرج من المواضع التي يلتقي فيها الماء الملح والماء العذب. وقول رابع هو الذي اختاره محمد بن جرير وحمله على ذلك التفسير لما كان من تقوم الحجّة بقوله قد قال في قوله جلّ وعزّ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ} أنهما بحر السماء وبحر الأرض، وكان اللؤلؤ والمرجان إنما يوجد في الصّدف إذا وقع المطر عليه، ويدلّك على هذا الحديث عن ابن عباس قال: «إذا مطرت السماء فتحت الصدف أفواهها».
[سورة الرحمن (55): الآيات 24الى 25]
{وَلَهُ الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلاََمِ (24) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (25)}
الجواري في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها، وحذفه الياء بعيد، ومن حذف الياء قال الكسرة تدلّ عليها، وقد كانت تحذف قبل دخول الألف واللام.
وقراءة الكوفيين غير الكسائي وله الجواري المنشئات (1) يجعلونها فاعلة و «المنشأات» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وهي أبين. فأما ما روي عن عاصم الجحدري أنه قرأ المنشيّات فغير محفوظ لأنه إن أبدل الهمزة قال: المنشيات وإن خفّفها جعلها بين الألف والهمزة فقال: المنشاءات وهذا المحفوظ من قراءته. كالأعلم في موضع نصب على الحال.
[سورة الرحمن (55): آية 26]
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ (26)}
الضمير يعود على الأرض وضعها أي كلّ من على الأرض يفنى ويهلك.
والأصل: فاني استثقلت الحركة في الياء فسكّنت ثم حذفت لسكونها وسكون التنوين بعدها.
[سورة الرحمن (55): الآيات 27الى 28]
{وَيَبْقى ََ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاََلِ وَالْإِكْرََامِ (27) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (28)}
{ذُو} من نعت وجه لأن المعنى ويبقى ربّك، كما تقول: هذا وجه الأرض.
وفي قراءة ابن مسعود ويبقى وجه ربك ذي (2) الجلال والإكرام من نعت ربّك.
[سورة الرحمن (55): آية 29]
{يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}
{يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} مذهب قتادة وليس بنصّ قوله يفزع إليه أهل السموات
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 620، والبحر المحيط 8/ 191، وتيسير الداني 167 (قرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين، والباقون بفتحها).
(2) وهي قراءة أبيّ أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 191.(4/207)
وأهل الأرض في حاجاتهم لا غناء بهم عنه. {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي في شأنهم وصلاحهم وتدبير أمورهم.
[سورة الرحمن (55): الآيات 31الى 32]
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاََنِ (31) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (32)}
فيه خمس قراءات (1) ذكر أبو عبيد منها اثنتين قد قرأ بكل واحدة منهما خمسة قراء وهما (سنفرغ) و (سيفرغ) فقرأ بالأولى أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وعاصم، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (سيفرغ) ولم يذكر أبو عبيد طلحة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وقتادة (سنفرغ لكم) بفتح النون والراء. وقرأ عيسى بن عمر (سنفرغ) بكسر النون وفتح الراء، وذكر الفراء أنه يقرأ (سيفرغ) بضم الياء وفتح الراء. قال أبو جعفر: القراءتان الأوليان بمعنى واحد. وحكى أبو عبيد أن لغة أهل الحجاز وتهامة فرغ يفرغ وأنّ لغة أهل نجد فرغ يفرغ وأنه لا يعرف أحدا من القراء قرأ بها. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا من قرأ بها. فمن قال: فرغ يفرغ جاء به على الأصل لأن فيها حرفا من حروف الحلق وحروف الحلق الهمزة والعين والغين والحاء والخاء والهاء، وحروف الحلق يأتي منها فعل يفعل كثيرا نحو ذهب يذهب وصنع يصنع، ويأتي ما فيه لغتان نحو صبغ يصبغ ويصبغ ورعف يرعف ويرعف، ويأتي منهما ما لا يكاد يفتح نحو نحت ينحت وإنما يرجع في هذا إلى اللغة.
[سورة الرحمن (55): الآيات 33الى 34]
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاََ تَنْفُذُونَ إِلاََّ بِسُلْطََانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (34)}
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} نداء مضاف. {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} على مذهب الضّحاك أن المعنى «سنفرغ لكم أيّها الثقلان» فيقال لكم: يا معشر الجن والإنس وذكر أنّ هذا يوم القيامة تنزل ملائكة سبع السموات فيحيطون بأقطار الأرض فيأتي الملك الأعلى جلّ وعزّ. وقرأ الضحاك: {وَجََاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ثم يؤتى بجهنّم فإذا راها الناس هربوا وقد اصطفّت الملائكة على أقطار الأرض سبعة صفوف. وقرأ الضحاك: {يَوْمَ التَّنََادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32، 33]، وقرأ {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا}، وروي عنه أنه قال: إن استطعتم أن تهربوا من الموت وروي عن ابن عباس أن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض {لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ}
__________
(1) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط 8/ 192، وكتاب السبعة لابن مجاهد 620، ومختصر ابن خالويه 149، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 116.(4/208)
قال عكرمة: أي بحجة قال: وكل سلطان في القرآن فهو حجة، وقال قتادة:
بسلطان أي بملكة.
[سورة الرحمن (55): آية 35]
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلاََ تَنْتَصِرََانِ (35)}
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ} هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وهي مروية عن الحسن (شواظ) (1) بكسر الشين. والفراء يذهب إلى أنهما لغتان بمعنى واحد، كما يقال: صوار وصوار. (ونحاس) (2) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع والكوفيين بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو (ونحاس) (3) بالخفض، وقرأ مجاهد (ونحاس) بكسر النون والسين، وقرأ مسلم بن جندب (ونحس) بغير ألف وبالرفع. قال أبو جعفر: الرفع في و «نحاس» أبين في العربية لأنه لا اشكال فيه يكون معطوفا على «شواظ»، وإن خفضت عطفته على نار، واحتجت إلى الاحتيال، وذلك أن أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس يقولون: الشّواظ اللهب، والنحاس الدخان فإذا خفضت فالتقدير شواظ من نار ومن نحاس. والشواظ لا يكون من النحاس كما أن اللهب لا يكون من الدخان إلا على حيلة واعتذار والذي في ذلك من الحيلة، وهو قول أبي العباس محمد بن يزيد، أنه لمّا كان اللهب والدخان جميعا من النار كان كلّ واحد منهما مشتملا على الآخر، وأنشد للفرزدق: [الطويل] 447 فبتّ أقدّ الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرّة ودخان (4)
فعطف ودخان على نار، وليس للدخان ضوء لأن الضوء والدخان من النار وإن عطفت ودخان على ضوء لم تحتج إلى الاحتيال، وأنشد غيره في هذا بعينه: [الرجز] 448 شراب ألبان وتمر وأقط (5)
وإنما الشروب الألبان ولكنّ الحلق يشتمل على هذه الأشياء، وقال أخر في مثله.
[مجزوء الكامل] 449 يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا (6)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 117، والبحر المحيط 8/ 193، وتيسير الداني 167.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 193.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 149.
(4) الشاهد للفرزدق في ديوانه 329، وفي الحماسة لابن الشجري 208، والمقاصد النحوية 1/ 462.
(5) الرجز بلا نسبة في الإنصاف 2/ 613، ولسان العرب (زجج)، و (طفل)، والمقتضب 2/ 51، والكامل للمبرد 289.
(6) مرّ الشاهد رقم (122).(4/209)
لأنهما محمولان وقد قال الحسن ومجاهد وقتادة في قوله جلّ وعزّ: {وَنُحََاسٌ} قالوا يذاب النحاس فيصبّ على رؤوسهم. {فَلََا تَنْتَصِرََانِ} أي ممن عاقبكما بذلك ولا تستفيدان منه.
[سورة الرحمن (55): آية 36]
{فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (36)}
أي: فبأيّ نعم ربّكما الذي جعل الحكم واحدا في المنع من النقود، ولم يخصص بذلك أحدا دون أحد.
[سورة الرحمن (55): الآيات 37الى 38]
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمََاءُ فَكََانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهََانِ (37) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (38)}
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمََاءُ} وهو يوم القيامة. {فَكََانَتْ وَرْدَةً} قال قتادة: هي اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء، وزاد غيره وهي من حديد. {كَالدِّهََانِ} أصح ما قيل فيه، وهو قول مجاهد والضحاك، أنه جمع دهن أي صافية ملساء.
[سورة الرحمن (55): الآيات 39الى 42]
{فَيَوْمَئِذٍ لاََ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاََ جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوََاصِي وَالْأَقْدََامِ (41) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (42)}
{فَيَوْمَئِذٍ} جواب إذا. {لََا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلََا جَانٌّ} قول ابن عباس لا يسألون سؤال اختبار، لأنّ الله جلّ وعزّ قد حفظ عليهم أعمالهم، وقول قتادة أنّهم يعرفون بسواد الوجوه وزرق الأعين، ويدلّ على هذا أن بعده {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ} والسيما والسيمياء العلامة. {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوََاصِي وَالْأَقْدََامِ} يكون بالنواصي في موضع رفع اسم لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون مضمرا.
[سورة الرحمن (55): آية 43]
{هََذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)}
أي يقال لهم: هذه جهنم التي كانوا يكذبون بها في الدنيا.
[سورة الرحمن (55): آية 44]
{يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)}
{يَطُوفُونَ بَيْنَهََا} أي بين أطباقها. {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} حكى عبد الله بن وهب عن ابن زيد قال: الاني الحاضر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قال يقول: قد انتهى حرّه. قال أبو جعفر: وكذا هو في كلام العرب قال النابغة: [الوافر] 450 وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف ان
[سورة الرحمن (55): آية 45]
{فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (45)}
أي: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم بها عليكم فلم يعاقب منكم إلّا المجرمين،
وجعل لهم سيمياء يعرفون بها حتّى لا يختلط بهم غيرهم.(4/210)
أي: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم بها عليكم فلم يعاقب منكم إلّا المجرمين،
وجعل لهم سيمياء يعرفون بها حتّى لا يختلط بهم غيرهم.
[سورة الرحمن (55): الآيات 46الى 47]
{وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ (46) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (47)}
رفع بالابتداء وبإضمار فعل بمعنى تجب أو تستقرّ، والتقدير: ولمن خاف مقام ربّه فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه خوف المقام الذي يقفه الله تعالى للحساب، ويبيّن هذا قوله: {وَأَمََّا مَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ََ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ََ}
[النازعات: 40] ولا يقال لمن اقتحم على المعاصي: خائف، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} قال: وعد الله المؤمنين الذين أدّوا فرائضه الجنة.
[سورة الرحمن (55): الآيات 48الى 49]
{ذَوََاتََا أَفْنََانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (49)}
نعت للجنتين، والجنة عند العرب البستان. قال أبو جعفر: واحد الأفنان فنن على قول من قال: هي الأغصان، ومن قال: هي الألوان ألوان الفاكهة فواحدها وعندهم فن والأول أولى بالصواب لأن أكثر ما يجمع فنّ فنون فيستغنى بجمعه الكثير، كما يقال: شسع وشسوع. ومنه أخذ فلان في فنون من الحديث.
[سورة الرحمن (55): الآيات 50الى 51]
{فِيهِمََا عَيْنََانِ تَجْرِيََانِ (50) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (51)}
أي في خلالهما نهران يجريان.
[سورة الرحمن (55): الآيات 52الى 53]
{فِيهِمََا مِنْ كُلِّ فََاكِهَةٍ زَوْجََانِ (52) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (53)}
أي من كل نوع من الفاكهة صنفان.
[سورة الرحمن (55): الآيات 54الى 55]
{مُتَّكِئِينَ عَلى ََ فُرُشٍ بَطََائِنُهََا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دََانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (55)}
نصب {مُتَّكِئِينَ} على الحال، والعالم فيه من غامض النحو. قال أبو جعفر: ولا أعلم أحدا من النحويين ذكره إلّا شيئا ذكره محمد بن جرير قال: هو محمول على المعنى أي: يتنعمون متكئين، وجعل ما قبله يدلّ على المحذوف. قال أبو جعفر:
ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون راجعا إلى قوله جلّ وعزّ: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} كما تقول: لفلان تجارة حاضرا، أي في هذه الحال. و {مُتَّكِئِينَ} على معنى «من» ولو كان على اللفظ لكان متّكئا. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} في موضع رفع بالابتداء. {دََانٍ} خبره.
[سورة الرحمن (55): الآيات 56الى 57]
{فِيهِنَّ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاََ جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (57)}
{فِيهِنَّ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا هذا الضمير وعلى من يعود. وفيه إشكال قد
بيّناه والتقدير: فيهن حور. {قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ}، وقراءة طلحة {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} (1) وهما لغتان معروفتان.(4/211)
{فِيهِنَّ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا هذا الضمير وعلى من يعود. وفيه إشكال قد
بيّناه والتقدير: فيهن حور. {قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلََا جَانٌّ}، وقراءة طلحة {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} (1) وهما لغتان معروفتان.
[سورة الرحمن (55): الآيات 58الى 59]
{كَأَنَّهُنَّ الْيََاقُوتُ وَالْمَرْجََانُ (58) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (59)}
أن في موضع خفض بالكاف، والكاف في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف «وهنّ» في موضع نصب اسم «أنّ»، وشددت لأنها بمنزلة حرفين في المذكّر، {الْيََاقُوتُ} خبر، {وَالْمَرْجََانُ} عطل عليه.
[سورة الرحمن (55): الآيات 60الى 61]
{هَلْ جَزََاءُ الْإِحْسََانِ إِلاَّ الْإِحْسََانُ (60) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (61)}
مبتدأ وخبره أي على جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.
[سورة الرحمن (55): الآيات 62الى 63]
{وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ (62) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (63)}
في معناه قولان: أحدهما ومن دونهما في الدرج. وهذا مذهب ابن عباس، وتأوّل أنّ هاتين الجنتين هما اللتان قال الله جلّ وعزّ فيهما: {فَلََا تَعْلَمُ نَفْسٌ مََا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، والقول الآخر ومن دونهما في الفضل وهذا مذهب ابن زيد، قال: وهم لأصحاب اليمين.
[سورة الرحمن (55): الآيات 64الى 65]
{مُدْهََامَّتََانِ (64) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (65)}
قال أبو حاتم: ويجوز في الكلام مدهمّتان لأنه يقال: ادهمّ وادهامّ، ومدهامتان من نعت الجنتين.
[سورة الرحمن (55): الآيات 66الى 67]
{فِيهِمََا عَيْنََانِ نَضََّاخَتََانِ (66) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (67)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {نَضََّاخَتََانِ} قال: فيّاضتان وقال الضحاك:
ممتلئتان، وقال سعيد بن جبير: نضّاختان بالماء والفاكهة، قال أبو جعفر: والمعروف في اللغة أنهما بالماء.
[سورة الرحمن (55): الآيات 68الى 69]
{فِيهِمََا فََاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمََّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (69)}
فيها ثلاثة أقوال: منها أنه قيل: إنّ النخل والرمان ليسا من الفاكهة لخروجهما منها في هذه الآية، وقيل هما منها ولكن أعيد إشادة بذكرهما لفضلهما. وقيل: العرب تعيد الشيء بواو العطف اتّساعا لا لتفضيل، والقرآن نزل بلغتهم والدليل على ذلك {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 18] ثم قال جلّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 621، والبحر المحيط 8/ 196.(4/212)
وعزّ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النََّاسِ} وقال جلّ ثناؤه: {حََافِظُوا عَلَى الصَّلَوََاتِ وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ}
[البقرة: 238] قال أبو جعفر: وهذا بيّن لا لبس فيه.
[سورة الرحمن (55): الآيات 70الى 71]
{فِيهِنَّ خَيْرََاتٌ حِسََانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (71)}
وحكى الفراء (1): خيّرات وخيرات. فأما البصريون فقالوا: خيرة بمعنى خيّرة فخفّف، كما قيل: ميّت وميت «وفيهن» يعود على الأربع الأجنّة.
[سورة الرحمن (55): الآيات 72الى 73]
{حُورٌ مَقْصُورََاتٌ فِي الْخِيََامِ (72) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (73)}
{حُورٌ} بدل وإن شئت كان نعتا. {مَقْصُورََاتٌ} قال مجاهد: قصرن طرفهنّ وأنفسهنّ على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وقال أبو العالية: «مقصورات» محبوسات، وقال الحسن: مقصورات محبوسات لا يطفن في الطرق. قال أبو جعفر: والصواب في هذا أن يقال: إن الله جل وعز وصفهنّ بأنهنّ مقصورات فعمّ فنعمّ كما عمّ جلّ وعزّ فيقول: قصرن طرفهنّ وأنفسهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم وهن محبوسات في الخيام ومصونات.
[سورة الرحمن (55): الآيات 74الى 75]
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاََ جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (75)}
فدلّ بهذا على أن الجنّ يطئون.
[سورة الرحمن (55): الآيات 76الى 77]
{مُتَّكِئِينَ عَلى ََ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسََانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاََءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ (77)}
{مُتَّكِئِينَ عَلى ََ رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فخضر جمع أخضر، ورفرف لفظه لفظ واحد، وقد نعت بجمع لأنه اسم للجمع كما قال: مررت برهط كرام وقوم لئام وكذا: هذه إبل حسان وغنم صغار. {وَعَبْقَرِيٍّ} مثله غير أنه يجوز أن يكون جمع عبقرية، وقد قرأ عاصم الجحدري متكئين على رفارف خضر وعباقريّ حسان (2) وقد روى بعضهم هذه القراءة عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإسنادها ليس بالصحيح، وزعم أبو عبيد أنها لو صحّت لكانت وعباقريّ بغير إجراء، وزعم أنه هكذا يجب في العربية. قال أبو جعفر: وهذا غلط بين عند جميع النحويين لأنهم قد أجمعوا جميعا أنه يقال: رجل مدائني بالصرف، وإنما توهّم أنه جمع، وليس في كلام العرب جمع بعد ألفه أربعة أحرف لا اختلاف بينهم أنك لو جمعت عبقرا لقلت عباقر، ويجوز على بعد عباقير، ويجوز عباقرة. فأما عباقريّ في الجمع فمحال والعلّة في امتناع جواز عباقريّ أنه لا يخلو من أن يكون منسوبا إلى عبقر فيقال: عبقريّ أو يكون منسوبا إلى
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 120.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 198، ومختصر ابن خالويه 15.(4/213)
عباقر فيردّ إلى الواحد فيقال أيضا. عبقريّ كما شرط النحويون جميعا في النسب إلى الجمع أنك تنسب إلى واحدة فتقول في النسب إلى المساجد: مسجديّ وإلى العلوم علميّ وإلى الفرائض فرضيّ فإن قال قائل فما يمنع من أن يكون عباقرا اسم موضع ثم ينسب إليها كما يقال: معافريّ؟ قيل له: إن كتاب الله جلّ وعزّ لا يحمل على ما لا يعرف وتترك حجّة الإجماع.
[سورة الرحمن (55): آية 78]
{تَبََارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاََلِ وَالْإِكْرََامِ (78)}
{تَبََارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} أي البركة في اسمه جلّ وعزّ والبركة في اللغة بقاء النعمة وثباتها.
فحضهم بهذا على أن يكثروا ذكر اسمه جلّ وعزّ ودعاءه، وأن يذكروه بالإجلال والتعظيم له فقال: ذي الجلل والإكرام (1) أي الجليل الكريم وفي الحديث «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» (2).
__________
(1) قرأ ابن عامر (ذو الجلال) بالواو والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 198.
(2) أخرجه الترمذي (3524)، وأحمد في المسند 4/ 177، والحاكم في المستدرك 1/ 498، والطبراني في الكبير 5/ 60، والبخاري في التاريخ 3/ 280، وذكره السيوطي في الدرر 6/ 153، والهيثمي في المجمع 10/ 158.(4/214)
56 - شرح إعراب سورة الواقعة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الواقعة (56): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذََا وَقَعَتِ الْوََاقِعَةُ (1)}
{إِذََا} في موضع نصب لأنها ظرف زمان، والعامل فيها وقعت لأنها تشبه حروف الشرط، وإنما يعمل فيها ما بعدها. وقد حكى سيبويه (1): أن من العرب من يجزم بها، قال: وشبهها بحروف الشرط متمكن قوي، وذلك أنها تقلب الماضي إلى المستقبل وتحتاج إلى جواب غير أنه لا يجازى بها إلّا في الشعر. فأما مخالفتها حروف المجازاة فإن ما بعدها يكون محدّدا تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر ولا يجوز هاهنا «أن» وكسرت التاء من «وقعت» لالتقاء الساكنين، لأنها حرف فحكمها أن تكون ساكنة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الواقعة والطامّة والصاخّة (2) ونحو ذلك من أسماء القيامة عظمها الله جلّ وعزّ وحذّرها عباده، وقال غيره: هي الصيحة وهي النفخة الأولى.
[سورة الواقعة (56): آية 2]
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهََا كََاذِبَةٌ (2)}
اسم ليس وذكّرت كاذبة عند أكثر النحويين لأنها بمعنى الكذب أي ليس لوقعتها كذب. قال الفرّاء (3): مثل عاقبة وعافية.
[سورة الواقعة (56): آية 3]
{خََافِضَةٌ رََافِعَةٌ (3)}
{خََافِضَةٌ رََافِعَةٌ} (3) على إضمار مبتدأ، والتقدير الواقعة خافضة رافعة، وقرأ اليزيدي {خََافِضَةٌ رََافِعَةٌ} (4) بالنصب. وهذه القراءة شاذة متروكة من غير جهة منها أنّ
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 67.
(2) انظر الطبري 27/ 96، وزاد المسير 8/ 130.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 121.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 203 (وهي قراءة زيد بن علي وعيسى وأبي حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني أيضا).(4/215)
الجماعة الذين تقوم بهم الحجّة على خلافها، ومنها أنّ المعنى على الرفع في قول أهل التفسير والمحقّقين من أهل العربية. فأما أهل التفسير فإن ابن عباس قال: خفضت أناسا ورفعت آخرين فعلى هذا لا يجوز إلّا الرفع: لأن المعنى خفضت قوما كانوا أعزاء في الدنيا إلى النار ورفعت قوما كانوا أذلّاء في الدنيا إلى الجنة، فإذا نصب على الحال اقتضت الحال جواز أن يكون الأمر على غير ذلك كما أنك إذا قلت: جاء زيد مسرعا، فقد كان يجوز أن يجيء على خلاف هذه الحال، وقال عكرمة والضحّاك: {خََافِضَةٌ رََافِعَةٌ} خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى فصار الناس سواء. قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فقد تكلّم منهم جماعة في النصب. فقال محمد بن يزيد:
لا يجوز، وقال الفرّاء (1): يجوز بمعنى إذا وقعت الواقعة وقعت خافضة رافعة فأضمر وقعت وهو عند غيره من النحويين بعيد قبيح، ولو قلت: إذا جئتك زائرا، تريد إذا جئتك جئتك زائرا. لم يجز هذا الإضمار لأنه لا يعرف معناه، وقد يتوهّم السامع أنه قد بقي من الكلام شيء. وأجاز أبو إسحاق النصب على أن يعمل في الحال «وقعت»، قد بيّنا فساده على أن كل من أجازه فإنه يحمله على الشذوذ فهذا يكفي في تركه.
[سورة الواقعة (56): الآيات 4الى 5]
{إِذََا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبََالُ بَسًّا (5)}
{إِذََا} في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إذا وقعت الواقعة في هذا الوقت، {رَجًّا} مصدر، وكذا {وَبُسَّتِ الْجِبََالُ بَسًّا}. (5)
[سورة الواقعة (56): آية 6]
{فَكََانَتْ هَبََاءً مُنْبَثًّا (6)}
{هَبََاءً} خبر كان. {مُنْبَثًّا} من نعته. وأصحّ ما قيل في معناه ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الهباء المنبثّ رهج الدواب، وعن ابن عباس هو الغبار، وعنه هو الشرر الذي يطير من النار.
[سورة الواقعة (56): آية 7]
{وَكُنْتُمْ أَزْوََاجاً ثَلاََثَةً (7)}
عن ابن عباس قال: أصنافا ثلاثة. قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج واحدها زوج، كما يقال: زوج من الخفاف لأحد الخفّين.
[سورة الواقعة (56): الآيات 8الى 9]
{فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ (9)}
{فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} رفع الابتداء. {مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقيل: التقدير ما هم فلذلك صلح أن يكون خبرا عن الأول لمّا عاد عليه ذكره وكذا {الْقََارِعَةُ مَا الْقََارِعَةُ} [القارعة: 1، 2] يظهر الاسم على سبيل التعظيم
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 121.(4/216)
والتشديد. وهذا قول حسن لأن إعادة الاسم فيه معنى التعظيم، وكذا {فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} (8) قيل: إنما قيل لهم: أصحاب الميمنة لأنّهم أعطوا كتبهم بإيمانهم، وقيل: لأنهم أخذ بهم ذات اليمين. وهذه علامة في القيامة لمن نجا، وقيل:
إن الجنة على يمين الناس يوم القيامة، وعلى هذا {وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ} (9) لأن اليد اليسرى يقال لها الشّومى.
[سورة الواقعة (56): الآيات 10الى 11]
{وَالسََّابِقُونَ السََّابِقُونَ (10) أُولََئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)}
قال محمد بن سيرين: السابقون الذين صلّوا القبلتين، وأبو إسحاق يذهب إلى أنّ فيه تقديرين في العربية: أحدهما أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني من صفته، وخبر الابتداء {أُولََئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (11)، ويجوز عنده أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والسابقون خبره وتقديره والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، قال: أولئك المقربون صفة. قال أبو جعفر: قوله: أولئك صفة غلط عندي لأن ما فيه الألف واللام لا يوصف بالمبهم. لا يجوز عند سيبويه: مررت بالرجل ذلك، ولا مررت بالرجل هذا، على النعت، والعلّة فيه أن المبهم أعرف مما فيه الألف واللام، وإنما ينعت الشيء عند الخليل وسيبويه بما هو دونه في التعريف، ولكن يكون أولئك المقربون بدلا أو خبرا بعد خبر.
[سورة الواقعة (56): آية 12]
{فِي جَنََّاتِ النَّعِيمِ (12)}
من صلة المقرّبين، أو خبر أخر.
[سورة الواقعة (56): آية 13]
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)}
قال أبو إسحاق: المعنى: هم ثلّة من الأولين.
[سورة الواقعة (56): آية 14]
{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}
عطف عليه.
[سورة الواقعة (56): آية 15]
{عَلى ََ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)}
{عَلى ََ سُرُرٍ} من العرب من يقول: سرر لثقل الضمّة وتكرير الحرف وفي الراء أيضا تكرير. {مَوْضُونَةٍ} نعت.
[سورة الواقعة (56): آية 16]
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهََا مُتَقََابِلِينَ (16)}
قال أبو إسحاق: هما منصوبان على الحال.
[سورة الواقعة (56): آية 17](4/217)
[سورة الواقعة (56): آية 17]
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ (17)}
ذكر الفرّاء (1) معناه على سنّ واحد لا يتغيّرون كأنه مشتقّ من الولادة إلّا أنه يقال:
وليد بين الولادة بفتح الواو.
[سورة الواقعة (56): آية 18]
{بِأَكْوََابٍ وَأَبََارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)}
{بِأَكْوََابٍ} اجتزئ بالجمع القليل عن الكثير. {وَأَبََارِيقَ} لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد. {وَكَأْسٍ} واحد يؤدي عن الجمع، وروى عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} قال: الخمر، وقال الضحّاك: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقال قتادة: من معين من خمر ترى بالعيون.
[سورة الواقعة (56): آية 19]
{لاََ يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلاََ يُنْزِفُونَ (19)}
{لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} (19) {لََا يُصَدَّعُونَ عَنْهََا وَلََا يُنْزِفُونَ} (2) فنفى عن الخمر ما يلحق من آفاتها من السكر والصداع، وقيل: «يصدّعون عنها» يفرّقون عن قلّى.
[سورة الواقعة (56): آية 20]
{وَفََاكِهَةٍ مِمََّا يَتَخَيَّرُونَ (20)}
أي يتخيّرونها وحذفت الهاء لطول الاسم.
[سورة الواقعة (56): آية 21]
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمََّا يَشْتَهُونَ (21)}
أهل التفسير منهم من يقول: يخلق الله جلّ وعزّ لهم لحما على ما يشتهون من شواء أو طبيخ من جنس الطير، ومنهم من يقول: بل هو لحم طير على الحقيقة. وبهذا جاء الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما هو إلّا أن تشتهي الطائر في الجنّة وهو يطير فيقع بين يديك مشويّا» (3).
[سورة الواقعة (56): الآيات 22الى 23]
{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثََالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)}
{وَحُورٌ عِينٌ} (22) قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وشيبة ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {وَحُورٌ عِينٌ} (4) بالخفض، وحكى سيبويه والفرّاء أنّ في قراءة أبيّ بن كعب وحورا عينا (5) بالنصب، وزعم سيبويه (6) أنّ الرفع محمول على
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 122.
(2) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 205 (قرأ الجمهور «ولا ينزفون» مبنيا للمفعول).
(3) انظر تفسير القرطبي 17/ 34.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 206، وتيسير الداني 168.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 124.
(6) انظر الكتاب 1/ 228.(4/218)
المعنى لأن المعنى فيها أكواب وأباريق وكأس من معين وفاكهة ولحم طير وحور أي ولهم حور عين وأنشد (1): [الكامل]:
451 - بادت وغيّر ايهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء
ومشجّج أمّا سوعاء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء
فرفع ومشجّج على المعنى لأن المعنى بها رواكد وبها مشجّج. والقراءة بالرفع اختيار أبي عبيد لأن الحور لا يطاف بهن، واختار الفرّاء (2) الخفض واحتج بأن الفاكهة واللحم أيضا لا يطاف بهما وإنما يطاف بالخمر. وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جلّ وعزّ: {وَفََاكِهَةٍ مِمََّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمََّا يَشْتَهُونَ} (21) فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادّعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلّم في هذا لحجّة قاطعة أو خبر يجب التسليم له. واختلفوا في قوله جلّ وعزّ: {وَحُورٌ عِينٌ} (22) كما ذكرت والخفض جائز على أن يحمل على المعنى لأن المعنى ينعمون بهذه الأشياء وينعمون بحور عين، وهذا جائز في العربية كثير. كما قال: [الكامل] 452 علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها (3)
فحملت على المعنى، وقال أخر: [مجزوء الكامل] 453 يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا (4)
وقال أخر: [الوافر] 454 إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا (5)
والعيون لا تزجّج فحمله على المعنى. فأما «وحورا عينا» فهو أيضا محمول على المعنى لأن معنى الأول يعطون هذا ويعطون حورا، كما قال (6): [البسيط] 455 جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (36).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 124.
(3) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 664، والخزانة 1/ 499، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 14، وديوان المفضليات 248، واللسان (علف).
(4) مرّ الشاهد رقم (122).
(5) الشاهد للراعي النميري في ديوانه 269، والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج)، والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 212، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة ص 617، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح عمدة الحافظ ص 635.
(6) مرّ الشاهد رقم (135).(4/219)
أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حارثا يوم نادى القوم يا حار
قال الحسن البصري: الحور الشديدات سواد سواد العين. وهذا أحسن ما قيل في معناهن. والحور البياض، ومنه الحوّاريّ وروي عن مجاهد أنه قال: قيل حور لأن العين تحار فيهن، وقال الضحّاك: العين العظيمات الأعين. قال أبو جعفر: عين جمع عيناء وهو على فعل إلّا أن الفاء كسرت لئلا تنقلب الياء واوا فيشكل بذوات الواو، وقد حكى الفرّاء أن من العرب من يقول: حير عين على الإتباع.
وروي عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:
{كَأَمْثََالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (23) قال: «كصفاء الدرّ الذي في الصّدف الذي لا تمسّه الأيدي» (1).
[سورة الواقعة (56): آية 24]
{جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (24)}
قال أبو إسحاق: نصبت جزاء لأنه مفعول له أي لجزاء أعمالهم. قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} (17) يجزيهم ذلك جزاء أعمالهم.
[سورة الواقعة (56): آية 25]
{لاََ يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً وَلاََ تَأْثِيماً (25)}
اللّغو ما يلغى قيل: معناه لا يسمعون فيها صخبا ولا ضجرا ولا صياحا. فنفى الله عزّ وجلّ عن أهل الجنة كلّ ما يلحق الناس في الدنيا في نعيمهم من الضجر وفي كلّ ما يلحق في طعامهم وشرابهم من الآفات وكل ما يلحقهم من العناء والتعب وفي المأكول والمشروب في هذه السورة. وفي بعض الحديث «من داوم قراءة سورة الواقعة كلّ يوم لم يفتقر أبدا» (2).
[سورة الواقعة (56): آية 26]
{إِلاََّ قِيلاً سَلاََماً سَلاََماً (26)}
قال أبو إسحاق: {إِلََّا قِيلًا} منصوب بيسمعون أي لا يسمعون إلّا قيلا، وقال غيره: هو منصوب على الاستثناء {سَلََاماً سَلََاماً} يكون نعتا لقيل أي إلّا قيلا يسلم فيه من الصياح والصخب وما يؤثم فيه، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر، ويجوز وجه ثالث وهو أن يكون منصوبا بقيل، ويكون معنى قيل أن يقولوا، وأجاز الكسائي والفرّاء الرفع في في سلام بمعنى: سلام عليكم، وأنشد الفرّاء: [الطويل] 456 فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها ... فما كان إلّا ومؤها بالحواجب (3)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 206.
(2) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 448.
(3) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (ومأ) و (صفح) و (سلم)، والتنبيه والإيضاح 1/ 34، والمخصّص 13/ 155، وتهذيب اللغة 15/ 644، وتاج العروس (ومأ) و (صفح).(4/220)
[سورة الواقعة (56): آية 27]
{وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ مََا أَصْحََابُ الْيَمِينِ (27)}
{وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ} في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم، ومنها أنه يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين وذلك أمارة من نجا، والقول الثالث أنّهم الذين أقسم الله جلّ وعزّ أن يدخلهم الجنة. {مََا أَصْحََابُ الْيَمِينِ} مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقول قتادة: إن المعنى: أيّ شيء هو وما أعدّ لهم من الخيرات.
[سورة الواقعة (56): الآيات 28الى 29]
{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)}
«مخضود» أصحّ ما قيل فيه أنه خضد شوكه، وقيل: هو مخلوق كذا، والعرب تعرف الطّلح أنه الشجر كثير الشوك. قال أبو إسحاق يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل عنه الشوك. وأهل التفسير يقولون: إن الطلح الموز. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب الغريب وأسماء النبت كثيرة حتّى إن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحّف في أسماء النبت لكثرتها.
[سورة الواقعة (56): الآيات 30الى 31]
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمََاءٍ مَسْكُوبٍ (31)}
أي لا يتعب في استقائه.
[سورة الواقعة (56): الآيات 32الى 33]
{وَفََاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاََ مَقْطُوعَةٍ وَلاََ مَمْنُوعَةٍ (33)}
{وَفََاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لََا مَقْطُوعَةٍ} نعت. وجاز أن يفرق بين النعت والمنعوت بقولك لا لكثرة تصرّفها وأنها تقع زائدة. قال قتادة: في معنى {وَلََا مَمْنُوعَةٍ} لا يمنع منها شوك ولا بعد.
[سورة الواقعة (56): آية 34]
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)}
أي عالية ومنه بناء رفيع.
[سورة الواقعة (56): آية 35]
{إِنََّا أَنْشَأْنََاهُنَّ إِنْشََاءً (35)}
قال مجاهد: خلقن من زعفران. قال أبو إسحاق: إنشاء من غير ولادة.
[سورة الواقعة (56): آية 36]
{فَجَعَلْنََاهُنَّ أَبْكََاراً (36)}
مفعول ثان. وقال أبو عبيدة: في الضمير الذي في «أنشأناهنّ» أنّه يعود على «وحور عين»، وقال الأخفش سعيد: هو ضمير لم يجر له ذكر إلّا أنه قد عرف معناه.
[سورة الواقعة (56): آية 37](4/221)
[سورة الواقعة (56): آية 37]
{عُرُباً أَتْرََاباً (37)}
{عُرُباً} (1) جمع عروب، ولغة تميم ونجد عربا يحذفون الضمة لثقلها. {أَتْرََاباً} جمع ترب.
[سورة الواقعة (56): الآيات 38الى 40]
{لِأَصْحََابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}
المعنى: إنّا أنشأناهنّ لأصحاب اليمين، وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر رحمة الله عليهما أنّهما قالا: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين.
وقدّره الفرّاء (2) بمعنى لأصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، وقدّره غيره:
المعنى هم ثلّة من الأولين أي جماعة ممن تقدّم قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجماعة من أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال صاحب هذا القول: إنما قيل في الأول ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، وفي الثاني ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين لأن الأول للسابقين إلى اتباع الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم والسابقون إلى اتّباعهم قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من السابقين إلى اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
يدلّك على صحة هذا أن قوم يونس صلّى الله عليه وسلّم آمنوا، وهم مائة ألف أو يزيدون، والسحرة اتّبعوا موسى صلّى الله عليه وسلّم وهم يروى أكثر من هؤلاء فلهذا قيل: وقليل من الآخرين، والثلة الثانية لأصحاب اليمين وليست للسابقين، وأصحاب اليمين قد يدخل فيهم المسلمون إلى يوم القيامة هذا على هذا القول، وقد ذكرنا غيره. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة الواقعة (56): آية 41]
{وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ (41)}
{وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ} أي الّذين أعطوا كتبهم في شمالهم، وقيل: الذين أخذ بهم ذات الشمال. قال قتادة {مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ} أي ماذا لهم وما أعدّ لهم.
[سورة الواقعة (56): آية 42]
{فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)}
أي في حسر النار وما يلحق من لهبها، وحكى ابن السكيت في جمع سموم سمام. وقال أبو جعفر: فهذا على حذف الزائد وهو الواو «وحميم» وهو ما يعذّبون به من الماء الحار يجرّعونه ويصبّ على رؤوسهم كما قال جلّ وعزّ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهََا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44].
[سورة الواقعة (56): آية 43]
{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)}
ينصرف في المعرفة والنكرة لأنه ليس في الأفعال يفعول.
[سورة الواقعة (56): آية 44]
{لاََ بََارِدٍ وَلاََ كَرِيمٍ (44)}
{لََا بََارِدٍ} أي لا ظلّ له يستر. {وَلََا كَرِيمٍ} لأنه مؤلم وخفضت. {لََا بََارِدٍ} على
__________
(1) انظر تيسير الداني 168.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 126.(4/222)
النعت ولم تفرق «لا» بين النعت والمنعوت لتصرّفها {وَلََا كَرِيمٍ} عطف عليه، وأجاز النحويون الرفع على إضمار مبتدأ كما قال: [الكامل] 457 وتريك وجها كالصّحيفة لا ... ظمآن مختلج ولا جهم (1)
[سورة الواقعة (56): آية 45]
{إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُتْرَفِينَ (45)}
أي في الدنيا، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: منعّمين.
[سورة الواقعة (56): آية 46]
{وَكََانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)}
{وَكََانُوا يُصِرُّونَ} قال ابن زيد: لا يتوبون ولا يستغفرون. والإصرار في اللغة الإقامة على الشيء وترك الإقلاع عنه. {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} قال الفرّاء: يقول الشرك هو الحنث العظيم.
[سورة الواقعة (56): آية 47]
{وَكََانُوا يَقُولُونَ أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}
{وَكََانُوا يَقُولُونَ أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ} تعجّبوا من هذا فلذلك جاء بالاستفهام. قال أبو جعفر: من قال إذا متنا جاء بالهمزة الثانية بين بين فهي متحرّكة كما كانت قبل التخفيف. وهكذا قال محمد بن يزيد، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: همزة بين بين لا متحرّكة ولا ساكنة. قال أبو جعفر: فأما كتابها فبالألف لا غير لأنها مبتدأة ثم دخلت عليها ألف الاستفهام. فإذا في موضع نصب على الظرف، ولا يجوز أن يعمل فيه لمبعوثون لأنه خبر «إنّ» فلا يعمل فيما قبله والعامل فيه متنا. ويقال: متنا على لغة من قال: مات يموت وهي فصيحة ومن قال: متنا فهو على لغة من قال: مات يمات مثل خاف يخاف، وقد قيل: هو على فعل يفعل جاء شاذا.
[سورة الواقعة (56): آية 48]
{أَوَآبََاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)}
معطوف على الموضع، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر المرفوع.
[سورة الواقعة (56): الآيات 49الى 50]
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى ََ مِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)}
حكى سيبويه (2) عن العرب سماعا: ادخلوا الأول فالأول. وزعم أنه منصوب على الحال وفيه الألف واللام. وقال ابن كيسان: لا نعلم شيئا يصحّ في كلام
__________
(1) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 313، ولسان العرب (ظمأ) و (خلج)، وتاج العروس (ظمأ) و (خلج)، وأساس البلاغة (جهم)، والمفضليات 213، وبلا نسبة في المخصّص 1/ 91.
(2) انظر الكتاب 1/ 466.(4/223)
العرب منصوبا على الحال وفيه الألف واللام إلّا هذا والعلة فيه أنه وقع فرقا بين معنيين لأنك إذا قلت: دخلوا أولا أولا فمعناه دخلوا متفرقين فإذا قلت: دخلوا الأول فالأول فمعناه أعرفهم الأول فالأول، وقال محمد بن يزيد: التعريف إنما وقع بعد فلذلك جيء بالألف واللام زائدتين كسائر الزوائد. وحكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أدخلوا الأول فالأول يحمله على المعنى وقد خطأه سيبويه لأنه لا يجوز: ادخلوا الأول فالأول فالأول أي إنما يقال باللام، واحتج غيره لعيسى بن عمر: لأنه محمول على المعنى، كما روي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58]، وكان يجب أن ينطق في الأول بفعل لأنه بمنزلة الأفضل، ولكن يردّ ذلك لأن فاءه وعينه من موضع واحد، ولا يوجد في كلام العرب فعل هكذا، وهو في الأسماء قليل. قالوا: كوكب لمعظم الشيء، وقالوا للهو واللعب: ددا وددن ودد، وقالوا للسيف الكليل ددان لا يعرف في الدال غير هذه. وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «حتّى يصير النّاس ببّانا واحدا» (1) أي شيئا واحدا «وبيّة» لقب. لا يعرف غير هذين في كلام العرب في الباء. أما قولهم في الطائر ببّغاء ولسبع ببر فأعجميان ولا يكاد يعرف ذلك في غير هذه الحروف إلا يسيرا إن جاء فقد قالوا لضرب من النبت آء ولا يعرف له نظير فلهذا لم يستعمل في أول فعل. وحكى سيبويه (2) أنّ «أول» يجوز أن يصرف على أنه اسم غير نعت كما يقال: ما ترك أولا ولا اخرا. وحكي ترك الصرف على أنه نعت.
[سورة الواقعة (56): آية 51]
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضََّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)}
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضََّالُّونَ} أي الجائرون عن طريق الهدى. {الْمُكَذِّبُونَ} بالوعيد والبعث.
[سورة الواقعة (56): الآيات 52الى 53]
{لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمََالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)}
{لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمََالِؤُنَ مِنْهَا} على تأنيث الجماعة، ولو كان منه على تذكير الجميع لجاز. {الْبُطُونَ} جمع بطن وهو مذكر. فأما قول الشاعر: [الطويل] 458 فإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر (3)
فمؤنث لتأنيث القبيلة محمول على المعنى، ولو ذكر على اللفظ لجاز.
__________
(1) انظر اللسان (بب).
(2) انظر الكتاب 3/ 217.
(3) الشاهد لرجل من بني كلاب في الكتاب 4/ 43، وللنواح الكلابي في الدرر 6/ 196، والمقاصد النحوية 4/ 484، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، وأمالي الزجاجي 118، وخزانة الأدب 7/ 395، والخصائص 2/ 417، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح عمدة الحافظ 520، ولسان العرب (كلب) و (بطن)، والمقتضب 2/ 148، وهمع الهوامع 2/ 149.(4/224)
[سورة الواقعة (56): آية 54]
{فَشََارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)}
{عَلَيْهِ} على الشجر على تذكير الجميع، ويجوز أن يكون على الجمع الأكل.
[سورة الواقعة (56): آية 55]
{فَشََارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)}
هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي {فَشََارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (1) بفتح الشين، وزعم أبو عبيد أنها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل. فقال بعض العلماء: قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل لا ينبغي لأحد أن يقوله إلّا بتيقّن والحديث الذي رواه أصحاب الحديث والناقلون له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولون فيه: «إنّها أيام أكل وشرب» بضم الشين سواه، أو من قال منهم. ونظير هذا قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» (2)
وقد سمع خدعة وخدعة. والقول في هذا على قول الخليل وسيبويه أن شربا بفتح الشين مصدر وشربا بضمها اسم للمصدر يستعمل هاهنا أكثر، ويستعمل شرب في جمع شارب، كما قال: [البسيط] 459 فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل (3)
«والهيم» جمع هيماء وأهيم وهو على فعل كسرت الهاء لأنها لو ضمّت انقلبت الياء واوا. وقد أجاز الفرّاء (4) أن يكون الهيم جمع هائم.
[سورة الواقعة (56): آية 56]
{هََذََا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}
{هََذََا نُزُلُهُمْ} أي الذي ينزلهم الله إيّاه يوم القيامة وهو يوم الدّين الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم.
[سورة الواقعة (56): آية 57]
{نَحْنُ خَلَقْنََاكُمْ فَلَوْلاََ تُصَدِّقُونَ (57)}
أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا فأوجدناكم بشرا فلولا تصدّقون من فعل ذلك أنه يحييكم ويبعثكم.
[سورة الواقعة (56): آية 58]
{أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ (58)}
{أَفَرَأَيْتُمْ} أي أيّها المكذبون بالبعث والمنكرون لقدرة الله جلّ وعزّ على إحيائهم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 209.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1361)، وأبو داود في سننه (2636)، وأحمد في مسنده 1/ 90، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 40، والهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 320.
(3) مرّ الشاهد رقم (314).
(4) انظر معاني الفراء 3/ 128.(4/225)
{مََا تُمْنُونَ} في أرحام النساء. قال الفرّاء: يقال أمنى ومنى وأمنى أكثر.
[سورة الواقعة (56): آية 59]
{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخََالِقُونَ (59)}
{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي أنتم تخلقون ذلك المنيّ حتّى تصير فيه الروح {أَمْ نَحْنُ الْخََالِقُونَ}.
[سورة الواقعة (56): آية 60]
{نَحْنُ قَدَّرْنََا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)}
{نَحْنُ قَدَّرْنََا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} (1) أي فمنكم قريب الأجل وبعيده كل ذلك بقدر. {وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي في آجالكم وما يفتات علينا فيها بل هي على ما قدّرنا.
[سورة الواقعة (56): آية 61]
{عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثََالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مََا لاََ تَعْلَمُونَ (61)}
{عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثََالَكُمْ} أحسن ما قيل في معناه نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم أي نجيء بغيركم من جنسكم {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مََا لََا تَعْلَمُونَ} أحسن ما قيل في معناه وننشئكم في غير هذه الصّور فينشئ الله جلّ وعزّ المؤمنين يوم القيامة في أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاء وينشئ الكافرين والفاسقين في أقبح الصور وإن كانوا في الدنيا نبلاء.
[سورة الواقعة (56): آية 62]
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ََ فَلَوْلاََ تَذَكَّرُونَ (62)}
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ََ فَلَوْلََا تَذَكَّرُونَ} (2) أي علمتم أنّا أنشأناكم ولم تكونوا فهلا تذّكّرون فتعلمون أن الذي فعل ذلك لقادر على إحيائكم، والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال.
[سورة الواقعة (56): آية 63]
{أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ (63)}
تكون {مََا} مصدرا أي حرثكم، ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي أفرأيتم الحرث الذي تحرثون.
[سورة الواقعة (56): آية 64]
{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزََّارِعُونَ (64)}
معنى تزرعونه تجعلون زرعا، ولهذا جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال: «لا تقل زرعت ولكن قل حرثت» ثمّ تلا أبو هريرة {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزََّارِعُونَ}.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها).
(2) انظر تيسير الداني 140.(4/226)
[سورة الواقعة (56): الآيات 65الى 66]
{لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنََّا لَمُغْرَمُونَ (66)}
{لَوْ نَشََاءُ لَجَعَلْنََاهُ حُطََاماً} أي متهشّما لا ينتفع به. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} اختلف العلماء في معناه، فقال الحسن وقتادة: تفكّهون أي تندّمون على ما سلف منكم من المعاصي التي عوقبتم من أجلها بهذا وقال عكرمة: تفكّهون تلاومون أي على ما فاتكم من طاعة الله جلّ وعزّ، وقيل: تفكّهون تنعمون فيكون على التقدير على هذا: أرأيتم ما تحرثون فظلتم به تفكّهون. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال ما قاله مجاهد. قال: تفكّهون تعجّبون أي يعجب بعضكم بعضا مما نزل به وأصله من تفكّه القوم بالحديث إذا عجب بعضهم بعضا منه، ويروى أنها قراءة عبد الله {فَظَلْتُمْ} (1) بكسر الظاء. والأصل ظللتم كما قال: [الطويل] 460 ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد (2)
فمن قال: ظلتم حذف اللام المكسورة تخفيفا ومن قال: ظلتم ألقى حركة اللام على الظاء بعد حذفها والأصل تتفكّهون، والمعنى تقولون {إِنََّا لَمُغْرَمُونَ} قال عكرمة: إنّا لمولع بنا، وقال قتادة: لمعذبون، وقيل: قد غرمنا في زرعنا، وقول قتادة حسن بيّن لأنه معروف في كلام العرب، إنه يقال للعذاب والهلاك: غرام. قال الأعشى: [الخفيف] 461 إن يعاقب يكن غراما وإن يعط ... جزيلا فإنّه لا يبالي (3)
[سورة الواقعة (56): آية 67]
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}
أي ليس نحن مغرمين لكنا قد حرمنا وحورفنا.
[سورة الواقعة (56): آية 68]
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمََاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)}
{الَّذِي} في موضع نصب و {تَشْرَبُونَ} صلته والتقدير: تشربونه حذفت الهاء لطول الاسم وحسن ذلك لأنه رأس آية.
[سورة الواقعة (56): آية 69]
{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)}
{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} الأصل: أأنتم خفّفت الهمزة الثانية فجيء بها بين بين.
والدليل على أنها متحركة وهي بين بين أن النون بعدها ساكنة والاختيار عند الخليل
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 211.
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 5، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري 132، وصدره:
«لخولة أطلال برقة ثهمد».
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 9.(4/227)
وسيبويه (1) أن يؤتى بها بين بين لثقل اجتماع الهمزتين. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} مبتدأ وخبره.
[سورة الواقعة (56): آية 70]
{لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً فَلَوْلاََ تَشْكُرُونَ (70)}
{لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} قال الفرّاء: الأجاج الملح الشديد المرارة. {فَلَوْلََا تَشْكُرُونَ} أي فهلّا تشكرون الذي لم نجعله ملحا فلا تنتفعون به في مشرب ولا زرع.
[سورة الواقعة (56): آية 71]
{أَفَرَأَيْتُمُ النََّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)}
قال بعض العلماء: أي ترونها بأبصاركم. قال أبو جعفر: وهذا غلط ولو كان كما قال لكان ترون إنما هو من أوريت الزند أوريه إذا قدحته.
[سورة الواقعة (56): آية 72]
{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهََا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)}
{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهََا} أي اخترعتموها وأحدثتموها. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} وإن شئت جئت بهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو، ولهذا قال محمد بن يزيد: لا يجوز أن تكتب إلّا بالواو أي بواوين، وكذا «يستهزئون»، ومن كتبها بالياء فقد أخطأ عنده، لأن الضمة أقوى الحركات فإذا كانت الهمزة مضمومة متوسّطة لم يكن قبلها حكم، ومن أبدل من الهمزة قال المنشوون والمستهزوون، قال أبو جعفر: وهذه لغة رديئة شاذّة لا توجد إلّا في يسير من الشعر، وسمعت علي بن سليمان يحكي أن الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز إبدال الهمزة يعني في غير الشعر، قال: لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول قرا بغير همزة فقال له سيبويه: فكيف يقولون في المستقبل فقال: يقرا فقال: هذا إذن خطأ لأنه كان يجب أن يقولوا: يقري حتّى يكون مثل رمى يرمي. قال أبو الحسن: فهذا من سيبويه يدلّ على أنه لا يجيزه.
[سورة الواقعة (56): آية 73]
{نَحْنُ جَعَلْنََاهََا تَذْكِرَةً وَمَتََاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)}
{نَحْنُ جَعَلْنََاهََا تَذْكِرَةً} مفعولان أي ذات تذكرة. {وَمَتََاعاً لِلْمُقْوِينَ} روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المقوون المسافرون، وقال ابن زيد: المقوي الجائع. قال أبو جعفر: أصل هذا من أقوت الدّار أي خلت، كما قال عنترة: [الكامل] 462 حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (2)
ويقال: أقوى إذا نزل بالقيّ أي الأرض الخالية، وأقوى إذا قوي أصحابه أي خلوا من الضعف.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 31.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 189، ولسان العرب (شرع)، وتهذيب اللغة 1/ 424، وتاج العروس (شرع)، والمقاصد النحوية 3/ 188.(4/228)
[سورة الواقعة (56): آية 74]
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}
أي بذكره وأسمائه الحسنى.
[سورة الواقعة (56): الآيات 75الى 80]
{فَلاََ أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ (78) لاََ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
} {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (80)}
{فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} (1) قول ابن عباس أنه نزول القرآن، واستدلّ الفرّاء (2)
على صحة ذلك لأن بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (76) وقول الحسن أي بمساقط النجوم، وزعم محمد بن جرير أن هذا القول أولى بالصواب لأنه المتعارف من النجوم أنها هي الطالعة {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتََابٍ مَكْنُونٍ} (78) أي مصون. {لََا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (79) من نعت الكتاب. {تَنْزِيلٌ} من نعت القرآن أي ذو تنزيل أي منزّل {مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ}.
[سورة الواقعة (56): آية 81]
{أَفَبِهََذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)}
أي تلينون الكلام لمن كفر بهذا الكتاب المكنون.
[سورة الواقعة (56): آية 82]
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون (3) وعن ابن عباس وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون. قال أبو جعفر:
وهاتان القراءتان على التفسير، ولا يتأوّل على أحد من الصحابة أنه قرأ بخلاف ما في المصحف المجمع عليه، وكذا التفسير. والمعنى على قراءة الجماعة وتجعلون شكر رزقكم ثمّ حذف مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقد فسر ابن عباس هذا التكذيب كيف كان منهم قال: يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد سمّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا كفرا، قال أبو إسحاق: ونظيره قول المنجّم إذا طلع نجم كذا ثمّ سافر إنسان كان كذا فهذا التكذيب بإنذار الله جلّ وعزّ.
[سورة الواقعة (56): الآيات 84الى 83]
مخاطبة لمن حضر ميتا: فالتقدير: فلا ترجعونها إن كنتم صادقين، يقال: رجع
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (قرأ حمزة والكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف والباقون بفتح الواو وألف بعدها).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 129.
(3) انظر المحتسب 2/ 310، والبحر المحيط 8/ 214.(4/229)
ورجعته فعلى هذا قال {تَرْجِعُونَهََا إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (87) في أنكم لستم مملوكين مدبّرين.
قال أبو جعفر: هكذا حكى الفرّاء (1) في معنى {مَدِينِينَ} قال: مملوكين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غير محاسبين، وقال الحسن: غير مبعوثين، وقيل: غير مجازين من قوله عزّ وجلّ: {مََالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] فأما جواب لولا الثانية ففيه قولان: قال الفرّاء (2): أجيبتا جميعا بجواب واحد، وقيل: حذف من أحدهما ودلّ عليه الآخر.
[سورة الواقعة (56): الآيات 89الى 88]
{
} {فَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (3) أي فأما إن كان المتوفّى من المقرّبين إلى رحمة الله جلّ وعزّ فله روح وريحان. قال أبو جعفر: وهذا الموضع مشكل من الإعراب لأن «أما» تحتاج إلى جواب ويسأل لم صار لا يلي «أما» إلّا الاسم وهي تشبه حروف المجازاة؟ وإنما يلي حروف المجازاة الفعل، وهذا أشكل ما فيها. فأما جواب «أما» و «إن» ففيه اختلاف بين النحويين فقول الأخفش والفراء: أنهما أجيبا بجواب واحد وهو الفاء وما بعدها، وأما قول سيبويه فإنّ «إن» لا جواب لها هاهنا، لأنّ بعدها فعلا ماضيا كما تقول: أنا أكرمتك إن جئتني، وقول محمد بن يزيد: إنّ جواب «إن» محذوف لأن بعدها ما يدلّ عليه. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى «أما» فقال: هي للخروج من شيء إلى شيء أي دع ما كنا فيه وخذ في شيء أخر. فأما القول في العلّة لم لا يليها إلا الاسم: فذكر فيه أبو الحسن بن كيسان أن معنى «أما» مهما يكن من شيء فجعلت أما مؤدية عن الفعل، ولا يلي فعل فعلا فوجب أن يليها الاسم. وتقديره أن يكون بعد جوابها فإذا أردت أن إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها «مهما» وقدّر الاسم بعد الفاء تقول: أما زيدا فضربت معناه مهما يكن من شيء فضربت زيدا. وروى بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ {فَرَوْحٌ} بضم الراء، وهكذا قرأ الحسن البصري. قال أبو جعفر:
وهذا الحديث إسناده صالح وبعضهم يقول فيه: عن بديل عن أبي الجوزاء عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الضمّ حياة دائمة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {فَرَوْحٌ وَرَيْحََانٌ} قال: مستراح، وقال سعيد بن جبير: الرّوح الفرح، وروى هشيم عن جويبر عن الضحّاك:
فروح قال: استراحة، وروى غيره عن الضحّاك فروح قال: مغفرة ورحمة. قال: والروح عند أهل اللغة الفرح، كما قال سعيد بن جبير والمغفرة والرحمة من الفرح. فأما وريحان ففي معناه ثلاثة أقوال: منها أنه الرزق، ومنها أنه الراحة، ومنها أنه الريحان الذي يشمّ. هذا قول الحسن وقتادة وأبي العالية وأبي الجوزاء، وهو يروى عن عبد الله بن عمر قال: إذا قرب خروج روح المؤمن جاءه الملك بريحان فشمّه فتخرج روحه. قال أبو إسحاق:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 215.(4/230)
الأصل في ريحان ريحان والياء الأولى منقلبة من واو. وأصله روحان، أدغمت الواو في الياء ثم خفّفت، كما يقال: ميت إلّا أنه لا يؤتى به على الأصل إلا على بعد لأن فيه ألفا ونونا زائدتين. {وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} أي وله مع ذلك جنّة نعيم.
[سورة الواقعة (56): آية 90]
{وَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ (90)}
أي ممن أخذ به ذات اليمين إلى الجنة.
[سورة الواقعة (56): آية 91]
{فَسَلاََمٌ لَكَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ (91)}
فيه أقوال: قال قتادة {فَسَلََامٌ لَكَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ} سلموا من عذاب الله جلّ وعزّ وسلّمت عليهم الملائكة وقيل {فَسَلََامٌ لَكَ مِنْ أَصْحََابِ الْيَمِينِ (91)} أي لك منهم سلام أي يسلّمون عليك. وهذا قول نظري لأن المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج إلى غيره إلّا بدليل قاطع، وقيل {فَسَلََامٌ لَكَ} فمسلّم لك أنك من أصحاب اليمين، وحذفت «أنّ» والمعنى لأنك من أصحاب اليمين. وحذف «أنّ» خطأ في العربية لأن ما بعدها داخل في صلتها وإن كان قائل هذا القول الفرّاء (1) وقد ذهب إليه محمد بن جرير.
[سورة الواقعة (56): آية 92]
{وَأَمََّا إِنْ كََانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضََّالِّينَ (92)}
أي الجائرين عن الطريق.
[سورة الواقعة (56): آية 93]
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)}
{فَنُزُلٌ} أي عذاب {مِنْ حَمِيمٍ} وهو الماء الحار.
[سورة الواقعة (56): آية 94]
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}
أي إحراقه.
[سورة الواقعة (56): آية 95]
{إِنَّ هََذََا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)}
الكوفيون (2) يجيزون إضافة الشيء إلى نفسه ويجعلون هذا منه، وذلك عند البصريين خطأ لأنه يبين الشيء بغيره، والمضاف إليه يبيّن به. قال مجاهد: حقّ اليقين حقّ الخبر اليقين، وقال أبو إسحاق: المعنى أن هذا الذي قصصناه في هذه السورة يقين حقّ اليقين، كما تقول: فلان عالم حقّ العالم، إذا بالغت في التوكيد.
[سورة الواقعة (56): آية 96]
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
أي فنزّه الله جلّ وعزّ عن كفرهم بأسمائه الحسنى.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر الإنصاف المسألة رقم (1141).(4/231)
57 - شرح إعراب سورة الحديد
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحديد (57): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
{سَبَّحَ} عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع، والتقدير: ما في السّموات وما في الأرض، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول، وأنشد النحويون: [الرجز] 463 لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفصلها في حسب وميسم (1)
فالتقدير: من يفضلها (2). {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل.
[سورة الحديد (57): آية 2]
{لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}
{لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} رفع بالابتداء. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} في موضع نصب على الحال، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. {وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (57): آية 3]
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)}
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} مثله. ولم ينطق من الأول بفعل، وهو على أفعل لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.
__________
(1) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب 5/ 62، وله أو لحميد الأرقط في الدرر 6/ 19، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل 3/ 59، والمقاصد النحوية 4/ 71، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح 2/ 118، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 364، والخصائص 2/ 370، وشرح الأشموني 2/ 400، وشرح عمدة الحافظ 547، وهمع الهوامع 2/ 120.
(2) انظر الكتاب 2/ 364 (يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا).(4/232)
{وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} قيل: معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، ومثله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ويدلّ على هذا أن بعده {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لا يخفى عليه شيء.
[سورة الحديد (57): آية 4]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)}
يكون {الَّذِي} في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال: ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. {يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا} يقال: ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. {وَهُوَ مَعَكُمْ} نصب على الظرف، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها.
[سورة الحديد (57): آية 5]
{لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}
{لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما {وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم.
[سورة الحديد (57): آية 6]
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (6)}
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ} أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة {وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ} يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» (1).
[سورة الحديد (57): آية 7]
{آمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمََّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
أي يخلفون من كان قبلهم، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 17/ 235.(4/233)
قبلهم ويورثون. {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي ثواب عظيم.
[سورة الحديد (57): الآيات 8الى 9]
{وَمََا لَكُمْ لاََ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى ََ عَبْدِهِ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللََّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)}
{وَمََا لَكُمْ لََا تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ} في موضع نصب على الحال، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} قد أظهر البراهين والحجج. {لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ} قال الفرّاء (1): القرّاء جميعا على {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ} قال: ولو قرئت {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ} لكان صوابا. قال أبو جعفر: هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط، وقد قرأ أبو عمرو {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ} (2) غير أن أبا عبيد قال: والقراءة عندنا هي الأولى {وَقَدْ أَخَذَ مِيثََاقَكُمْ} لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر: أما قوله: لأن الأمة عليها، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة، وأما قوله: لأن ذكر الله عزّ وجلّ اسمه قبل الآية وبعدها، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان: أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلّى الله عليه وسلّم بأن الله عزّ وجلّ ربّهم لا إله لهم سواه، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قيل:
المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى.
{وَإِنَّ اللََّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} أي حين بيّن لكم هداكم.
[سورة الحديد (57): آية 10]
{وَمََا لَكُمْ أَلاََّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لاََ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقََاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللََّهُ الْحُسْنى ََ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
{وَمََا لَكُمْ أَلََّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(2) انظر تيسير الداني 168 (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب).(4/234)
أن لا تنفقوا في سبيل الله {وَلِلََّهِ مِيرََاثُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} فحضّهم بهذا على الإنفاق لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ} اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة: الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة وقاتلوا، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال الشّعبي: الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح الحديبية: «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال: «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا». قلنا: يا رسول الله أهم خير منا؟
قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» (1) {لََا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقََاتَلَ أُولََئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقََاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللََّهُ الْحُسْنى ََ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى (2) بالرفع. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء، وأنشد: [المتقارب] 464 فثوب نسيت وثوب أجرّ (3)
وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير: فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع، ولا يجيز زيد ضربت لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه.
[سورة الحديد (57): آية 11]
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضََاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}
{مَنْ} في موضع رفع بالابتداء و {ذَا} خبره و {الَّذِي} نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع
__________
(1) انظر المعجم المفهرس لونسنك 1/ 487.
(2) انظر تيسير الداني 169.
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 159، والكتاب 1/ 139، والأشباه والنظائر 3/ 110، وخزانة الأدب 1/ 373، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمقاصد النحوية 1/ 545، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 124، ومغني اللبيب 2/ 472، وصدره:
«فأقبلت زحفا على الرّكبتين».(4/235)
«من»، وهذا قول الفرّاء (1)، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما»، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها، وعلى هذا قرئ {وَيَسْئَلُونَكَ مََا ذََا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] بالنصب، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال: اللّذيّا، يقال: ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله: الذي بمنزلة العمي فقيل: كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي: العميّ، ويقال في تصغير الذي: اللذيّا، ويقال: اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال: أجابه إجابة، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول: أقرضته مالا، «حسنا» من نعت قرض. قيل: معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزّ وجلّ مبتغيا ما عنده {فَيُضََاعِفَهُ لَهُ} قال الفرّاء (2): جعله عطفا على يقرض. كما تقول: من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا، ومن قرأ فيضعفه (3) جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} قيل:
الجنة.
[سورة الحديد (57): آية 12]
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ يَسْعى ََ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمََانِهِمْ بُشْرََاكُمُ الْيَوْمَ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمََانِهِمْ} ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الضحّاك: نورهم هداهم، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال: لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر: وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر: وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. {بُشْرََاكُمُ الْيَوْمَ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} أي يقال لهم، وحذف القول
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 123.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 219، وتيسير الداني 69.(4/236)
«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره، وأجاز الفرّاء: في «جنّات» النصب من جهتين، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم»، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن {جَنََّاتٌ} إذا نصبها على القطع، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم، وليس هو في الصلة، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد، {خََالِدِينَ} نصب على الحال. {ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قال الفرّاء (1): وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو». قال أبو جعفر:
«ذلك» مبتدأ، و «هو» زائدة للتوكيد. {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} خبر ذلك، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك.
[سورة الحديد (57): آية 13]
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالْمُنََافِقََاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونََا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرََاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بََابٌ بََاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظََاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذََابُ (13)}
نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله، {انْظُرُونََا} من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا (2) بفتح الهمزة، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ، قال: وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا لأنه يقال: أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق، فالمعنى على هذا يصحّ. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} مجزوم لأنه جواب. {قِيلَ ارْجِعُوا وَرََاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر: وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال: يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فينادي المنافقون المؤمنين {انْظُرُونََا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فيقول لهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرََاءَكُمْ} إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 133.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء).(4/237)
فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل: فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين: أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم: أنت تعلم ونحن نستعين، ويأتي مفتوحا، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم، وليس هذا موضع جواب التصغير. {لَهُ بََابٌ} قال كعب الأحبار:
باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة: {بََاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} الجنة وما فيها. {وَظََاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذََابُ} النار.
[سورة الحديد (57): آية 14]
{يُنََادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمََانِيُّ حَتََّى جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ (14)}
{يُنََادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم، {قََالُوا بَلى ََ} أي قد كنتم معنا كذلك {وَلََكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} قال مجاهد: بالنفاق. {وَتَرَبَّصْتُمْ} قال ابن زيد: بالإيمان {وَارْتَبْتُمْ} قال: شكّوا، وقال غيره: ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمََانِيُّ} أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ {حَتََّى جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ} قيل: قضاؤه بمناياكم {وَغَرَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} قال مجاهد وقتادة:
الغرور الشيطان. قال أبو جعفر: فعول في كلام العرب للتكثير، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول: [الرمل] 465 ثمّ زادوا أنّهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فجر (1)
[سورة الحديد (57): آية 15]
{فَالْيَوْمَ لاََ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاََ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوََاكُمُ النََّارُ هِيَ مَوْلاََكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
{فَالْيَوْمَ لََا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ (2) بالتاء لأن الفدية مؤنثة،
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 55، والكتاب 1/ 168، وخزانة الأدب 8/ 188، والدرر 5/ 274، وشرح أبيات سيبويه 1/ 68، وشرح التصريح 2/ 69، وشرح عمدة الحافظ 682، وشرح المفصل 6/ 74، والمقاصد النحوية 3/ 548، ونوادر أبي زيد 10.
(2) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 221.(4/238)
ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض {وَلََا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم {مَأْوََاكُمُ النََّارُ} أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره، وكذا {هِيَ مَوْلََاكُمْ} {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا.
[سورة الحديد (57): آية 16]
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللََّهِ وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاََ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلُ فَطََالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ (16)}
وعن الحسن {أَلَمْ يَأْنِ} (1) يقال: أإن يئين وأني يأنى وحان يحين، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} «ما» في موضع خفض أي ولما نزل، هذه قراءة شيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون {وَمََا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (2) وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: والمعنى واحد لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزّ وجلّ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل: لأن قبله {لِذِكْرِ اللََّهِ} ولم يقل لتذكير الله. {وَلََا يَكُونُوا} [3] كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلُ يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى لأنها واو عطف، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل {فَطََالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} قال مجاهد الدّهر. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ} مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق لأن منهم من قد آمن، ومنهم من لم تبلغه الدعوة، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحديد (57): آية 17]
{اعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا قَدْ بَيَّنََّا لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}
{اعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} قيل: فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. {قَدْ بَيَّنََّا لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 222.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا).
(3) انظر البحر المحيط 8/ 222 (بالياء قراءة الجمهور، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة).(4/239)
[سورة الحديد (57): آية 18]
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقََاتِ وَأَقْرَضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضََاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقََاتِ} الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين (1) وفي قراءة ابن كثير وعاصم {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} (2) أي المؤمنين من التصديق، والأول من الصدقة {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} قيل. الجنة.
[سورة الحديد (57): آية 19]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ أُولََئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدََاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَحِيمِ (19)}
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ} مبتدأ. {أُولََئِكَ} يكون مبتدأ ثانيا، ويجوز أن يكون بدلا من الذين، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا، على النعت عند أحد علمته، ولو قلت: مررت بزيد هذا على النعت لجاز، وخير الابتداء {الصِّدِّيقُونَ} قال أبو إسحاق: صدّيق على التكثير أي كثير التصديق، وقال غيره: هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: الصّدّيق، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا».
{وَالشُّهَدََاءُ} على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» (3) ثم تلا {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ أُولََئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدََاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية. قال أبو جعفر: فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل: إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال: إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان، قال أبو جعفر: وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ويجوز أن يكون خبره. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} للجميع. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} مبتدأ.
{أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَحِيمِ} مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(2) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(3) انظر تفسير القرطبي 27/ 231.(4/240)
[سورة الحديد (57): آية 20]
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفََاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكََاثُرٌ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلاََدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٌ وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلاََّ مَتََاعُ الْغُرُورِ (20)}
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها، {لَعِبٌ} خبر، والمعنى: مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ}. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال:
ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال: ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال: و «يهيج» يبتدئ في الصفرة {ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً} قال: متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٌ} {وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ} قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم»: {وَمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا مَتََاعُ الْغُرُورِ} (1).
[سورة الحديد (57): آية 21]
{سََابِقُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهََا كَعَرْضِ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرُسُلِهِ ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}
{سََابِقُوا إِلى ََ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم {وَجَنَّةٍ عَرْضُهََا كَعَرْضِ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} قال أبو جعفر: قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال: العرض هاهنا السعة ومنهم من قال: هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر، وأنشد: [الوافر] 466 فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالسّماء مع السّحاب (2)
وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا، وهو أن يكون يحمل على تذكير
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 433، والدارمي في سننه 2/ 333، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 107، وابن كثير في تفسير 2/ 255.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما)، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 367، والمذكر والمؤنث للفراء ص 102، والمخصص 17/ 22.(4/241)
الجميع ذكر محمد بن يزيد: أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره: [الوافر] 467 سماوة الهلال حتّى احقوقفا (1)
ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: {ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ} [البقرة:
29] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان، وجمعان مكسّران لأقل العدد، وجمعان مكسّران لأكثره، وذلك قولك: سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال: [الطويل] 468 سماء الإله فوق سبع سمائيا (2)
فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد، فكان يجب على هذا أن يقول: سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول: فوق سبع سماء، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة، وقد حكي فيها التذكير، كما قال: [المتقارب] 469 فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل ابقالها (3)
قال أبو جعفر: وقد ردّ قوم هذا، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان: في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا: أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء، قال: وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة {ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ} مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. {وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} مبتدأ وخبره.
[سورة الحديد (57): آية 22]
{مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاََ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاََّ فِي كِتََابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ (22)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (423).
(2) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 70، وخزانة الأدب 1/ 244، وشرح أبيات سيبويه 2/ 304، ولسان العرب (سما)، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 349، والأشباه والنظائر 2/ 337، والخصائص 1/ 211، وما ينصرف وما لا ينصرف 115، والمقتضب 1/ 144، والممتع في التصريف 2/ 513، والمنصف 2/ 66. وصدره:
«له ما رأت عين البصير وفوقه»
(3) مرّ الشاهد رقم (152).(4/242)
قال قتادة: {فِي الْأَرْضِ} يعني السنين أي الحرب والقحط. {وَلََا فِي أَنْفُسِكُمْ} الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا} يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد، وقيل: الضمير للأرض، وقيل:
للمصائب والأول أولاها لأن الجلّة قالوا به، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء: هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ {إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ} لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء: كن فيكون.
[سورة الحديد (57): الآيات 23الى 24]
{لِكَيْلاََ تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ وَلاََ تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ وَاللََّهُ لاََ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
{لِكَيْلََا تَأْسَوْا عَلى ََ مََا فََاتَكُمْ} أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. {وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ} وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم (1) وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يحمل على المقاييس، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم: ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزّ وجلّ فاته إياه أو أتاه إياه، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ: {مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلََّا فِي كِتََابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهََا} والله {لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (24) {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم {وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب {الَّذِينَ} (2) خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب.
يكون {الَّذِينَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره، والوجه الثالث أن يكون
__________
(1) انظر تيسير الداني 169 (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 224.(4/243)
مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1) جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ، وما بعدها خبرا، والجملة خبر «إن».
[سورة الحديد (57): آية 25]
{لَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا بِالْبَيِّنََاتِ وَأَنْزَلْنََا مَعَهُمُ الْكِتََابَ وَالْمِيزََانَ لِيَقُومَ النََّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}
{لَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا بِالْبَيِّنََاتِ} أي بالدلائل والحجج {وَأَنْزَلْنََا مَعَهُمُ الْكِتََابَ} أي بالأحكام والشرائع. {وَالْمِيزََانَ} قال ابن زيد، هو الميزان الذي يتعامل الناس به، وقال قتادة: الميزان الحق {لِيَقُومَ النََّاسُ بِالْقِسْطِ} منصوب بلام كي، وحقيقته أنها بدل من «أن». {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي للناس {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ} قال ابن زيد: البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها، قال: والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. {وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} معطوف على الهاء. {بِالْغَيْبِ إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه لأنه لا يمنعه منه مانع.
[سورة الحديد (57): آية 26]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً وَإِبْرََاهِيمَ وَجَعَلْنََا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتََابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ (26)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً وَإِبْرََاهِيمَ} إلى قومهما. {وَجَعَلْنََا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتََابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ} أي خارجون إلى الكفر والمعاصي.
[سورة الحديد (57): آية 27]
{ثُمَّ قَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ بِرُسُلِنََا وَقَفَّيْنََا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنََاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنََا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبََانِيَّةً ابْتَدَعُوهََا مََا كَتَبْنََاهََا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغََاءَ رِضْوََانِ اللََّهِ فَمََا رَعَوْهََا حَقَّ رِعََايَتِهََا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ (27)}
{ثُمَّ قَفَّيْنََا عَلى ََ آثََارِهِمْ بِرُسُلِنََا} أي أتبعنا، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما السلام لأن الاثنين جمع {وَقَفَّيْنََا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي أتبعنا.
{وَآتَيْنََاهُ الْإِنْجِيلَ} يروى أنه نزل جملة. {وَجَعَلْنََا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 224، وتيسير الداني 169، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو، والباقون بزيادة هو).(4/244)
ويقال: رأفة وقد رؤف ورأف {وَرَهْبََانِيَّةً ابْتَدَعُوهََا} نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها، وقيل: هو معطوف على الأول. {مََا كَتَبْنََاهََا عَلَيْهِمْ} قال ابن زيد: أي ما افترضناها. {إِلَّا ابْتِغََاءَ رِضْوََانِ اللََّهِ} نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله {فَمََا رَعَوْهََا حَقَّ رِعََايَتِهََا} لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدلّ على صحته {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} وفي الذين لم يرعوها قولان: مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا، وهذا يروى عن أبي أمامة، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا، وقالوا:
نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} قال: «من آمن بي». {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فََاسِقُونَ} قال: من جحدني.
[سورة الحديد (57): آية 28]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال الضحّاك: من أهل الكتاب. {اتَّقُوا اللََّهَ} أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} يعني حظّين، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} عن ابن عباس قال: القرآن واتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد:
الهدى، قال أبو إسحاق: ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم {وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب.
[سورة الحديد (57): آية 29]
{لِئَلاََّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَلاََّ يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب (1) وكذا عن سعيد بن جبير، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده:
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 227، ومعاني الفراء 3/ 137.(4/245)
{وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللََّهِ}، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس»، والأول قول سيبويه، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال: اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا (1)
بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر: وهذا بعيد في العربية أن تقع {أَنَّ} معملة بعد {يَعْلَمَ} وهو من الشواذ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ} بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم لأنه كما روي قالوا: الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال:
لمّا أنزل الله جلّ وعزّ {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ {لِئَلََّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتََابِ أَلََّا يَقْدِرُونَ عَلى ََ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ} أي من خلقه {وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي على عباده.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 228.(4/246)
58 - شرح إعراب سورة المجادلة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المجادلة (58): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ وَاللََّهُ يَسْمَعُ تَحََاوُرَكُمََا إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
{قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ وَاللََّهُ يَسْمَعُ تَحََاوُرَكُمََا إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا} قال أبو جعفر بن محمد: إن شئت أدغمت الدال في السين فقلت: قد سمع، لأن مخرج الدال والسين جميعا من طرف اللسان، وإن شئت بيّنت فقلت: قد سمع الله لأن الدال والسين وإن كانتا من طرف اللسان فليستا من موضع واحد لأن الدال والتاء والطاء من موضع واحد، والسين والصاد والزاي من موضع واحد. يسمّين حروف الصفير، وأيضا فإن السين منفصلة من الدال.
{وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ} أي تشتكي المجادلة إلى الله جلّ وعزّ ما بظهار زوجها وتسأله الفرج. {وَاللََّهُ يَسْمَعُ تَحََاوُرَكُمََا} أي تحاور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمجادلة {إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ} أي لما يقولانه وغيره. {بَصِيرٌ} بما يعملانه وغيره.
[سورة المجادلة (58): آية 2]
{الَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسََائِهِمْ مََا هُنَّ أُمَّهََاتِهِمْ إِنْ أُمَّهََاتُهُمْ إِلاَّ اللاََّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللََّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
{الَّذِينَ} رفع بالابتداء، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع نصب ببصير يظّهارون (1) قراءة الحسن وأبي عمرو ونافع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يظهرون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم {يَظْهَرُونَ} وحكى الكسائي أنّ في حرف أبيّ يتظاهرون حجة لمن قرأ يظهرون لأن التاء مدغمة في الظاء وأصحّ من هذا ما رواه نصر بن علي عن أبيه عن هارون قال: في حرف أبيّ يتظهّرون حجّة لمن قرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 231.(4/247)
يظّهرون لأن التاء أدغمت في الظاء أيضا. مّا هنّ أمّهاتهم (1) خبر «ما» شبّهت بليس، وقال الفرّاء: بأمهاتهم فلما حذفت الباء بقي لها أثر فنصب الاسم. {إِنْ أُمَّهََاتُهُمْ إِلَّا اللََّائِي وَلَدْنَهُمْ} مبتدأ وخبر، و «إن» بمعنى «ما» {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ} أي ما لا يصحّ. {وَزُوراً} قال قتادة: أي كذبا ونصبت منكرا وزورا ويقولون لو رفعته لانقلب المعنى {وَإِنَّ اللََّهَ لَعَفُوٌّ} أي ذو عفو وصفح عمن تاب. {غَفُورٌ} له لا يعذّبه بعد التوبة، وقيل هذا لأنهم كانوا يطلّقون في الجاهلية بالظّهار. قال أبو قلابة: كان الرجل في الجاهلية إذا ظاهر من امرأته فهو طلاق بتات فلا يعود إليه أبدا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا.
[سورة المجادلة (58): آية 3]
{وَالَّذِينَ يُظََاهِرُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا ذََلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}
قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى العود فقال قوم ممن يقول بالظاهر: لا يجب عليه الكفّارة حتّى يظاهر مرة ثانية، وحكوا ذلك عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال قتادة: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا قََالُوا} هو أن يعزم بعد الظّهار على وطئها وغشيانها، وقال بعض الفقهاء: عوده أن يمسكها ولا يطلّقها بعد الظهار فتجب عليه الكفارة، وقال القتبيّ: هو أن يعود لما كان يقال في الجاهلية وقال أبو العالية: {لِمََا قََالُوا} أي فيما قالوا، وقال الفرّاء (2): لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا واحد، يريد يرجعون عن قولهم، وقال الأخفش: فيه تقديم وتأخير أي فتحرير رقبة لما قالوا. ومن أبينها قول قتادة أي ثم يعودون إلى ما قالوا من التحريم فيحلّونه. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أو فعليهم تحرير رقبة، ويجوز عند النحويين البصريين فتحرير رقبة. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا} من قبل أن يمسّ الرجل المرأة، ومن قبل أن تمسّ المرأة الرجل، وهذا عام غير أن سفيان كان يقول: له ما دون الجماع.
[سورة المجادلة (58): آية 4]
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ شَهْرَيْنِ مُتَتََابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسََّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعََامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذََلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ (4)}
{مِنْ} في موضع رفع بالابتداء أي فمن لم يجد الرقبة والمفعول يحذف إذا عرف المعنى فعليه صيام شهرين، ويجوز صيام شهرين على أن شهرين ظرف، وإن شئت كان
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 231 (قرأ الجمهور بالنصب على لغة الحجاز، والمفضل عند عاصم بالرفع على لغة تميم، وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 139.(4/248)
مفعولا على السعة فإذا قلت: صيام شهرين لم يجز أن يكون ظرفا. وعلى هذا حكى سيبويه فيما يتعدّى إلى مفعولين: [الرجز] 470 يا سارق اللّيلة أهل الدار (1)
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعََامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي فمن لم يستطع الصوم لهرم أو زمانة فعليه إطعام ستين مسكينا، ويجوز تنوين إطعام، وليس هاهنا من قبل أن يتماسّا ولكنه يؤخذ من جهة الإجماع ذلك ليؤمنوا بالله ورسوله. قال أبو إسحاق: أي ذلك التغليظ، وقال غيره: فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي لتصدّقوا بما جاءكم فتؤمنوا. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ} أي هذه فرائض الله جلّ وعزّ التي حدّها {وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ} أي لمن كفر بها.
[سورة المجادلة (58): آية 5]
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمََا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنََا آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ مُهِينٌ (5)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} أي يخالفون الله ورسوله ويصيرون في حدّ أعدائه.
{كُبِتُوا} أي غيظوا، وقال بعض أهل اللغة: أي هلكوا، قال: والأصل كبدوا من قولهم: كبده إذا أصابه بوجع في كبده {كَمََا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الكاف في موضع نصب لأنّها نعت لمصدر ولهم عذاب مهين.
[سورة المجادلة (58): آية 6]
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللََّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمََا عَمِلُوا أَحْصََاهُ اللََّهُ وَنَسُوهُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللََّهُ} العامل في يوم «عذاب»، ولا يجوز عند البصريين أن يكون مبنيا إذا كان بعده فعل مستقبل وإنما يبنى إذا كان بعده ماض أو ما ليس بمعرب فإذا كان هكذا بني، لأنه لما كان يحتاج إلى ما بعده ولا بد له منه أجري مجراه. فأما الكوفيون فيقولون: إنما بني لأنه بمعنى إذا فيبنى لبنائها. {جَمِيعاً} منصوب على الحال أي يوم يبعثهم الله من قبورهم إلى القيامة في حال اجتماعهم. {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمََا عَمِلُوا} أي فيخبرهم بما أسرّوه وأخفوه وغير ذينك من أعمالهم {أَحْصََاهُ اللََّهُ وَنَسُوهُ} أي عدّه وأثبته وحفظه ونسيه عاملوه. {وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي على كل شيء من أعمالهم شاهد عالم به.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108و 4/ 233، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 655، وشرح المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203.
[سورة المجادلة (58): آية 7](4/249)
[سورة المجادلة (58): آية 7]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلاََثَةٍ إِلاََّ هُوَ رََابِعُهُمْ وَلاََ خَمْسَةٍ إِلاََّ هُوَ سََادِسُهُمْ وَلاََ أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلاََ أَكْثَرَ إِلاََّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مََا كََانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمََا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنَّ اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
أي ألم تنظر بعين قلبك فتعلم أن الله جلّ وعزّ يعلم ما في السّموات وما في الأرض لا يخفى عليه شيء من صغيرة ولا كبيرة فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ} قال مقاتل بن حيان عن الضحاك قال: هو تعالى فوق عرشه وعلمه معهم. وخفض ثلاثة على البدل من «نجوى» ويجوز أن يكون مخفوضا بإضافة نجوى إليه، ويجوز رفعه على موضع نجوى، ويجوز نصبه على الحال من المضمر الذي في نجوى {إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ} مبتدأ وخبره، وحكى الفراء (1) أن في حرف عبد الله ولا أربعة إلّا هو خامسهم وحكى أبو حاتم أن في حرف عبد الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ولا خمسة إلّا الله سادسهم ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا الله معهم إذا انتجوا. قال أبو جعفر: وهذه القراءة إن صحّت فإنما هي على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها إلا على ذلك وقرأ يزيد بن القعقاع ما تكون (2) من نجوى ثلاثة وهذه القراءة وإن كانت مخالفة لحجة الجماعة فهي موافقة للسواد جائزة في العربية لأن نجوى مؤنثة باللفظ و «من» فيها زائدة، كما تقول: ما جاءني من رجل، وما جاءتني من امرأة، والتقدير: ولا يكون من نجوى أربعة إلّا هو خامسهم، وحكى هارون عن عمرو عن الحسن أنه قرأ {وَلََا أَدْنى ََ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْثَرَ} [3] إِلََّا هُوَ مَعَهُمْ عطفه على الموضع {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمََا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ} أي ثم ينبئهم بما تناجوا به {إِنَّ اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من نجواهم وسرارهم وغير ذلك من أعمالهم وأعمال عباده.
[سورة المجادلة (58): آية 8]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ََ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمََا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنََاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذََا جََاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمََا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللََّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلاََ يُعَذِّبُنَا اللََّهُ بِمََا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}
قال مجاهد: هم قوم من اليهود وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة (4)
ينتاجون بالإثم والعدوان ويتناجون أبين لأنهم قد أجمعوا على أن قرءوا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 140.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 233.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 140، والبحر المحيط 8/ 233 (قرأ الجمهور «ولا أكثر» عطفا على لفظ المخفوض، والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حياة وسلام ويعقوب بالرفع عطفا على موضع نجوى).
(4) انظر البحر المحيط 8/ 234، وتيسير الداني 169.
إذا تناجيتم فلا تتناجوا إلّا شيئا روي عن ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول {وَإِذََا جََاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمََا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللََّهُ}. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ بِمََا نَقُولُ} أي هلّا يعاقبنا على ذلك في وقت قولنا {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مبتدأ وخبره، وحكى النحويون أنه يقال:(4/250)
إذا تناجيتم فلا تتناجوا إلّا شيئا روي عن ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول {وَإِذََا جََاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمََا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللََّهُ}. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه. {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ بِمََا نَقُولُ} أي هلّا يعاقبنا على ذلك في وقت قولنا {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مبتدأ وخبره، وحكى النحويون أنه يقال:
حسبك ولا يلفظ له بخبر لأنه قد عرف معناه، وقيل: فيه معنى الأمر لأن معناه اكفف فلما كان الأمر لا يؤتى له بخبر حذف خبر ما هو بمعناه.
[سورة المجادلة (58): آية 9]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَنََاجَيْتُمْ فَلاََ تَتَنََاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنََاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا تَنََاجَيْتُمْ فَلََا تَتَنََاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوََانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} فيه ثلاثة أجوبة فلا تتناجوا بتاءين، ولا تناجوا بتاء واحدة ولا تناجوا بإدغام التاء في التاء. فمن جاء به بتاءين، قال: هي كلمة مبتدأ بها وهي منفصلة مما قبلها، ومن جاء به بتاء واحدة حذف لاجتماع التاءين مثل تذكرون وتتذكّرون، ومن أدغم قال: اجتمع حرفان مثلان وقبلهما ألف والحرف المدغم قد يأتي بعد الألف مثل دواب {وَتَنََاجَوْا بِالْبِرِّ} أي بما يقربكم من الله جلّ وعزّ {وَالتَّقْوى ََ} أي باتّقائه بأداء فرائضه واجتناب ما نهى عنه. {وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي الذي إليه مصيركم ومجمعكم فيجزيكم بأعمالكم.
[سورة المجادلة (58): آية 10]
{إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضََارِّهِمْ شَيْئاً إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}
{إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ} أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيسوء ذلك المسلمين ويكبر عليهم فأنزل الله جلّ وعزّ: {إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية ويدلّ على صحّة هذا القول ما قبله وما بعده من القرآن. وقال ابن زيد: كان الرجل يناجي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحاجة ويفعل ذلك ليرى الناس أنه ناجى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيوسوس إبليس للمسلمين فيقول: إنما هذه المناجاة لجموع قد اجتمعت لكم وأمر قد حضر ترادون به فيحزنون لذلك. وفي الآية قول ثالث ذكره محمد بن جرير، قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال:
حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال: سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن الرؤيا فقال: الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان فذلك قول الله جلّ وعزّ: {إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ومنها ما يحدث الرجل به نفسه فيراه في منامه ومنها أخذ باليد، ويقرأ {لِيَحْزُنَ} والأول أفصح. {وَلَيْسَ بِضََارِّهِمْ شَيْئاً إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} قال محمد بن جرير: أي بقضاء الله وقدره، وقيل: {بِإِذْنِ اللََّهِ} بما أذن الله جلّ وعزّ فيه، وهو غمّهم
بالمؤمنين لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك {وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي ليكلوا أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم.(4/251)
حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال: سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن الرؤيا فقال: الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان فذلك قول الله جلّ وعزّ: {إِنَّمَا النَّجْوى ََ مِنَ الشَّيْطََانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ومنها ما يحدث الرجل به نفسه فيراه في منامه ومنها أخذ باليد، ويقرأ {لِيَحْزُنَ} والأول أفصح. {وَلَيْسَ بِضََارِّهِمْ شَيْئاً إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} قال محمد بن جرير: أي بقضاء الله وقدره، وقيل: {بِإِذْنِ اللََّهِ} بما أذن الله جلّ وعزّ فيه، وهو غمّهم
بالمؤمنين لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك {وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي ليكلوا أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم.
[سورة المجادلة (58): آية 11]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجََالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللََّهُ لَكُمْ وَإِذََا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}
في المجلس (1) وروي عن الحسن وقتادة أنهما قرأ إذا قيل لكم تفاسحوا قال الفراء (2): مثل تعهدت ضيعتي وتعاهدت، وقال أهل اللغة: تعهّدت أفصح لأنه فعل من واحد، وقال الخليل: لا يقال إلّا تعهّدت لأنه فعل من واحد. وقرأ الحسن وعاصم {فِي الْمَجََالِسِ} وقراءة العامة في المجلس وقال أبو جعفر: واختلف العلماء في معناه فصحّ عن مجاهد أنه قال: هو مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وصح عن قتادة أنه قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد بعضهم يوسع لبعض فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا، وروي عن قتادة أنه في مجلس الذكر، وقال الحسن (3)
ويزيد بن أبي حبيب: هذا في القتال خاصة. قال أبو جعفر: وظاهر الآية للعموم، فعليه يجب أن يحمل ويكون هذا لمجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة وللحرب ولمجالس الذكر ولا نعلم قولا رابعا والمعنى يؤدّي عن معنى مجالس، وأيضا فإن الإنسان إذا خوطب أن يوسع مجلسه ومعه جماعة قد أمروا بما أمر به فقد صارت مجالس. {يَفْسَحِ اللََّهُ لَكُمْ} جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة ومكان فسيح أي واسع. {وَإِذََا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وأهل الكوفة {انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (4) وهما لغتان بمعنى واحد، وأبو عبيد يختار الثانية. ولو جاز أن يقع في هذا اختيار لكان الضم أولى لأنه فعل لا يتعدى مثل قعد يقعد لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أي يأتي مضموما وفيما يتعدّى أن يأتي مكسورا مثل ضرب يضرب. وأما المعنى فأصح ما قيل فيه أنه النشوز إلى كل خير من أمر بمعروف ونهي عن منكر أو قتال عدو أو تفرّق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لئلا يلحقه أذى. {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ} قيل: أي يرفعهم في الثواب والكرامة، وقيل: يرفعهم من الارتفاع أي يرفعهم على غيرهم ممن لا يعلم ليبيّن فضلهم {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي يخبره فيجازي عليه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 235، وتيسير الداني 169 (قرأ عاصم «في المجالس» بألف على الجمع والباقون بغير على ألف على التوحيد).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 141.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 235.
(4) انظر تيسير الداني 169.(4/252)
[سورة المجادلة (58): آية 12]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نََاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوََاكُمْ صَدَقَةً ذََلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا قد آذوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة سرارهم فأراد الله جلّ وعزّ أن يخفّف عنه فأمرهم بهذا فتوقّفوا عن السّرار ثم وسّع عليهم ولم يضيّق. قال مجاهد: لم يعمل أحد بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدّق بدينار ثم سار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخت، وقال رحمة الله عليه: بي خفّف عن هذه الأمة. قال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترى أيتصدّق من سارّ بدينار قلت: لا، قال: فبدرهم قلت: لا، قال: بكم؟ قلت: بحبة من شعير، فقال: إنك لزهيد» (1) ثم نزل التخفيف {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لا يكلّف من لا يجد.
[سورة المجادلة (58): آية 13]
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوََاكُمْ صَدَقََاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتََابَ اللََّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ (13)}
أصل الإشفاق في اللغة الحذر والخوف ومن هذا لا يحلّ لأحد أن يصف الله جلّ وعزّ بالاشفاق ولا يقول: يا شفيق. قال مجاهد: أأشفقتم أي أشقّ عليكم {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتََابَ اللََّهُ عَلَيْكُمْ} فإذا تاب عليكم لم يؤاخذهم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي فافعلوا ما لم يسقط عنكم فرضه {وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما أمركم به {وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم عليه.
[سورة المجادلة (58): آية 14]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مََا هُمْ مِنْكُمْ وَلاََ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ} أي ألم تنظر بعين قلبك فتراهم. {مََا هُمْ مِنْكُمْ وَلََا مِنْهُمْ} الضمير يعود على الذين وهم المنافقون ليسوا من المؤمنين أي من أهل دينهم وملّتهم ولا من الذين غضب الله عليهم وهم اليهود {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يحلفون أنّهم مؤمنون.
[سورة المجادلة (58): آية 15]
{أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (15)}
{مََا} في موضع رفع أي ساء الشيء الذين يعملونه، وهو غشّهم المؤمنين، ونصحهم الكافرين.
[سورة المجادلة (58): آية 16]
{اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ فَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ (16)}
{اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً} أي اتخذوا حلفهم للمؤمنين أنّهم منهم حاجزا لدمائهم وأموالهم، وهذا معنى {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} لأن سبيل الله جلّ وعزّ في أهل الأوثان أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير 12/ 186.(4/253)
يقتلوا، وفي أهل الكتاب أن يقتلوا إلّا أن يؤدّوا الجزية فلما أظهر هؤلاء الإيمان وهم كفار صدّوا المؤمنين بما أظهروه عن قتلهم.
[سورة المجادلة (58): آية 17]
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوََالُهُمْ وَلاََ أَوْلاََدُهُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (17)}
أي لن تنتفعوا بالأموال فتفتدوا بها، ولن ينفعهم أولادهم فينصروهم ويستنقذوهم مما هم فيه من العذاب. {أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} ويجوز النصب على الحال في غير القرآن.
[سورة المجادلة (58): آية 18]
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللََّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمََا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى ََ شَيْءٍ أَلاََ إِنَّهُمْ هُمُ الْكََاذِبُونَ (18)}
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللََّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمََا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون له على الباطل، وهذا دليل بيّن على بطلان قول من قال: إنّ أحدا لا يتكلّم يوم القيامة إلّا بالحق لما يعاين.
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى ََ شَيْءٍ} أي على شيء ينفعهم. {أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْكََاذِبُونَ} كسرت إنّ لأنها مبتدأة، وسمعت علي بن سليمان يجيز فتحها لأن معنى ألا حقا.
[سورة المجادلة (58): آية 19]
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطََانُ فَأَنْسََاهُمْ ذِكْرَ اللََّهِ أُولََئِكَ حِزْبُ الشَّيْطََانِ أَلاََ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطََانِ هُمُ الْخََاسِرُونَ (19)}
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطََانُ فَأَنْسََاهُمْ ذِكْرَ اللََّهِ} هذا مما جاء على أصله ولو جاء على الإعلال لكان استحاذ، كما يقال: استصاب فلان رأي فلان ولا يقال: استصوب. قال أبو جعفر: إنما جاء على أصله مما يؤخذ سماعا من العرب لا مما يقاس عليه، وقيل: يعلّ الرباعي اتباعا للثلاثي فلما كان يقال: استحوذ عليه إذا غلبه ولا يقال حاذ في هذا المعنى، وإنما يقال: حاذ الإبل إذا جمعها فلمّا لم يكن له ثلاثيّ جاء على أصله.
{أُولََئِكَ حِزْبُ الشَّيْطََانِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطََانِ هُمُ الْخََاسِرُونَ} حزبه أولياؤه وأتباعه وجموعه والخاسر الذي قد خسر في صفقته.
[سورة المجادلة (58): آية 20]
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} قال قتادة: يعادونه وقال مجاهد: يشاقون، وقيل:
معناه يخالفون حدود الله جلّ وعزّ فيما أمر به. وحقيقته في العربية يصيرون في حدّ غير حدّه الذي حدّه، والأصل يحاددون فأدغمت الدال في الدال. {أُولََئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} أي ممن يلحقه الذل، وأولئك وما بعد خبر عن الذين.
[سورة المجادلة (58): آية 21]
{كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}
{كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} قيل: أي كتب في اللوح المحفوظ، وجعله
الفراء (1) مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا، «ورسلي» معطوف على المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر: وهذه اللغة الفصيحة، وأجاز النحويون جميعا في الشعر: لأقومنّ وزيد، وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض {إِنَّ} [2] اللََّهَ قَوِيٌّ أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن خالفه وخالف رسله {عَزِيزٌ} في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر منه.(4/254)
{كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} قيل: أي كتب في اللوح المحفوظ، وجعله
الفراء (1) مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا، «ورسلي» معطوف على المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر: وهذه اللغة الفصيحة، وأجاز النحويون جميعا في الشعر: لأقومنّ وزيد، وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض {إِنَّ} [2] اللََّهَ قَوِيٌّ أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن خالفه وخالف رسله {عَزِيزٌ} في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر منه.
[سورة المجادلة (58): آية 22]
{لاََ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوََادُّونَ مَنْ حَادَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كََانُوا آبََاءَهُمْ أَوْ أَبْنََاءَهُمْ أَوْ إِخْوََانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ أَلاََ إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
أصحّ ما روي في هذا أنه نزل في المنافقين الذين والوا اليهود لأنهم لا يقرّون بالله جلّ وعزّ على ما يجب الإقرار به ولا يؤمنون باليوم الآخر فيخافون العقوبة و {يُوََادُّونَ} في موضع نصب لأنه خبر تجد أو نعت لقوم. {وَلَوْ كََانُوا آبََاءَهُمْ أَوْ أَبْنََاءَهُمْ أَوْ إِخْوََانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم، جمع أب على الأصل، والأصل فيه أبو والتثنية أيضا على الأصل عند البصريين لا غير، وحكى الكوفيون: جاءني أبان {أَوْ أَبْنََاءَهُمْ} جمع ابن على الأصل والأصل فيه: بني الساقط منه ياء، والساقط من أب واو فأما أب فقد دل عليه التثنية وأما ابن فدلّ عليه الاشتقاق.
قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من بناه أبوه يبينه. قال أبو جعفر: وقد غلط بعض النحويين فقال: الساقط منه واو لأنه قد سمع البنوة. {أَوْ إِخْوََانَهُمْ} جمع أخ على الأصل، كما تقول: ورل وورلان {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ} قيل: هو مجاز، و «في» بمعنى اللام أي كتب لقلوبهم الإيمان، وقد علم أن المعنى كتب لهم، وقيل: هو حقيقة أي كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنّهم مؤمنون {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قيل: بنور وهدى وقيل بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ينصرهم ويؤيّدهم ويوفّقهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا} على الحال. {رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ} أي بطاعتهم في الدنيا. {وَرَضُوا عَنْهُ} بإدخالهم الجنة. {أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ} أي جنده وجماعته. وتحزّب القوم تجمّعوا {أَلََا إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قيل: أي الذين ظفروا بما أرادوا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 142.
(2) انظر تيسير الداني 170 (فتحها نافع وابن عامر).(4/255)
59 - شرح إعراب سورة الحشر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحشر (59): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
أي في انتقامه ممن عصاه. {الْحَكِيمُ} في تدبيره، و {هُوَ} مبتدأ و {الْعَزِيزُ} خبره و {الْحَكِيمُ} نعت للعزيز، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا.
[سورة الحشر (59): آية 2]
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مِنْ دِيََارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مََا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ فَأَتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يََا أُولِي الْأَبْصََارِ (2)}
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم {مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ} من اليهود وهم بنو النضير {مِنْ دِيََارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} صرفت أولا لأنه مضاف، ولو كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت، ومن جعله غير نعت صرفه {مََا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} «أن» في موضع نصب بظننتم، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلّا محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني محذوف، وكذا القول في {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مََانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللََّهِ فَأَتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي لم يظنّوا من قولهم: ما كان هذا في حسباني أي في ظني، ولا يقال: في حسابي لأنه لا معنى له هاهنا، ويجوز أن يكون معنى «لم يحتسبوا» لم يعلموا، وكذا قيل في قول الناس: حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جلّ وعزّ، وقيل معنى قولك: حسيبك الله كافيّ إياك الله. من قولهم: أحسبه الشيء، إذا كفاه، وقيل: حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب، وقيل: حسيبك أي مقتدر عليك، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ومن قال: في قلوبهم الرّعب جاء به على الأصل (1)
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا والباقون مخفّفا).(4/256)
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ويخرّبون على التكثير، وقد حكى سيبويه أنّ فعّل يكون بمعنى أفعل كما قال: [الطويل] 471 ومن لا يكرم نفسه لا يكرم (1)
{فَاعْتَبِرُوا يََا أُولِي الْأَبْصََارِ} أي فاتعظوا واستدلّوا على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ ناصره لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به. واشتقاقه من عبر إلى كذا إذا جاز إليه، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخدّ. قال الأصمعي: وقولهم: فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله العبرة وفي معنى {يََا أُولِي الْأَبْصََارِ} قولان:
أحدهما أنه من بصر العين، والآخر أنه من بصر القلب. قال أبو جعفر: وهذا أولى بالصواب، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب، وهو الاتّعاظ والاستدلال بما مرّ. فقد قيل:
إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبّرهم بهذا أنه يكون فكان على ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره، كما قال جلّ وعزّ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] فكان كما قال، وقال جلّ ذكره: {سَيَصْلى ََ نََاراً ذََاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] ذلك وقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] فلم يتمنه أحد منهم، وكذا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} [الزخرف: 87] فقالوا ذلك، وكذا {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] كذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» (2) وقوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب: «من محمد رسول الله» فساموه محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك ستسام مثلها» (3) فكان ذلك على ما قال، وكذلك قوله في ذي الثديّة «ومن ينجو من الخوارج» (4) فكان الأمر كما قال، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محدّدا، وكذلك قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر، وأوصى بأهلها خيرا فهذا كله مما يعتبر به وقال جلّ وعزّ: {وَاللََّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النََّاسِ} [المائدة: 67] فعصمه حتّى مات على فراشه، وقال: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
[النور: 55] فاستخلف ممّن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم، وكان هذا موافقا لقوله صلّى الله عليه «الخلافة بعدي ثلاثون» ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع، منها حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله كيف يحيي
__________
(1) انظر الفهارس العامة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه الفتن 70، وأحمد في مسنده 2/ 161، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 189، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 300، والمتقي في كنز العمال (23736).
(3) أخرجه الترمذي في سننه المناقب 13/ 209.
(4) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 12الحديث (167)، وأبو داود في سننه، الحديث رقم (4763).(4/257)
الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتزّ خضرا فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه» فهذا التشبيه الباهر الذي لا يلحق، ولذلك قوله في تمثيل الميّت بالنائم وبعثه باليقظة. وهذا أشكل شيء بشيء، فبهذا يعتبر أولو الأبصار.
[سورة الحشر (59): آية 3]
{وَلَوْلاََ أَنْ كَتَبَ اللََّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاََءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابُ النََّارِ (3)}
حكى أهل اللغة أنه يقال: جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا الفصيح، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا، وحكى غيره جلوا عن منازلهم يجلون، واستعمل فلان على الجالية والجالّة، وقرأ أكثر الناس، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها الجماعة التي تجب بها الحجّة، {وَلَوْلََا أَنْ كَتَبَ اللََّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بكسر الهاء وضم الميم، فمن قرأ بها: أبو جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بن العلاء {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بكسر الهاء والميم. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء فاستثقلت ضمة بعد ياء، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها، وهذه القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن، ولا يعرف عن أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة، فقال: عليهم وإليهم ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة، وأصلها الألف، لأنك تقول: على القوم، فلهذا أقرّوها على ضمتها لأن الياء أصلها الألف، والياء في «في» ياء محضة. قال: وسألت أبا العباس لم قرأ الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال: (عليهم) ضمّها؟ فقال: إنما كسرها اتباعا للياء لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في هذا، فأما قراءة أبي عمرو {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها لأنه إنما يكسر لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز، والحجة الأخرى صحيحة، وهو إنما كسر الهاء اتباعا للياء لأنه استثقل ضمة بعد ياء، وكذلك أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل بالهاء فقال {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابُ النََّارِ} أي مع الخزي الذي لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة: الجلاء الخروج من بلد إلى بلد،
وقيل: معنى كتب حتم وهو مجاز، وقيل: كتبه في اللوح المحفوظ.(4/258)
حكى أهل اللغة أنه يقال: جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا الفصيح، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا، وحكى غيره جلوا عن منازلهم يجلون، واستعمل فلان على الجالية والجالّة، وقرأ أكثر الناس، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها الجماعة التي تجب بها الحجّة، {وَلَوْلََا أَنْ كَتَبَ اللََّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بكسر الهاء وضم الميم، فمن قرأ بها: أبو جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بن العلاء {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} بكسر الهاء والميم. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء فاستثقلت ضمة بعد ياء، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها، وهذه القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن، ولا يعرف عن أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة، فقال: عليهم وإليهم ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة، وأصلها الألف، لأنك تقول: على القوم، فلهذا أقرّوها على ضمتها لأن الياء أصلها الألف، والياء في «في» ياء محضة. قال: وسألت أبا العباس لم قرأ الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال: (عليهم) ضمّها؟ فقال: إنما كسرها اتباعا للياء لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في هذا، فأما قراءة أبي عمرو {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها لأنه إنما يكسر لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز، والحجة الأخرى صحيحة، وهو إنما كسر الهاء اتباعا للياء لأنه استثقل ضمة بعد ياء، وكذلك أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل بالهاء فقال {عَلَيْهِمُ الْجَلََاءَ} {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيََا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابُ النََّارِ} أي مع الخزي الذي لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة: الجلاء الخروج من بلد إلى بلد،
وقيل: معنى كتب حتم وهو مجاز، وقيل: كتبه في اللوح المحفوظ.
[سورة الحشر (59): آية 4]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ فَإِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ (4)}
يكون {ذََلِكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا بهم ذلك، ويجوز أن يكون في موضع رفع أيضا أي ذلك الخزي وعذاب النار لهم بأنهم خالفوا الله ورسوله {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} في موضع جزم بالشرط، وكسرت القاف لالتقاء الساكنين، ويجوز فتحها لثقل التشديد والكسر إلّا أنّ الفتح إذا لم يلقها ساكن أجود مثل {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] وإذا لقيها ساكن كان الكسر أجود، كما قال: [الوافر] 472 فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (1)
{فَإِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} جواب الشرط أي شديد عقابه لمن حادّه وحادّ رسوله.
[سورة الحشر (59): آية 5]
{مََا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهََا قََائِمَةً عَلى ََ أُصُولِهََا فَبِإِذْنِ اللََّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفََاسِقِينَ (5)}
في معنى «اللّينة» ثلاثة أقوال عن أهل التأويل: روى سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة بن عباس قال: اللينة النخل سوى العجوة، وهذا قول سعيد بن جبير وعكرمة والزهري ويزيد بن رومان، وقول مجاهد وعمر بن ميمون: إنه لجميع النخل، وكذا روى ابن وهب عن ابن زيد قال: اللّينة النخل كانت فيها عجوة أو لم تكن، وقال سفيان: هي كرائم النخل. وهذه الأقوال صحيحة لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها مخصوصا فتتفق الأقوال. ولينة مشتقّة عند جماعة من أهل العربية من اللون، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وفي الجمع ليان كما قال: [المتقارب] 473 وسالفة كسحوق اللّبا ... ن أضرم فيها الغويّ السّعر (2)
وقال بعضهم: هي مشتقّة من لان يلين، ولو كانت من اللون، قيل في الجميع لو أن. {وَلِيُخْزِيَ الْفََاسِقِينَ} أي وليذلّ من خرج من طاعته جلّ وعزّ.
[سورة الحشر (59): آية 6]
{وَمََا أَفََاءَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمََا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاََ رِكََابٍ وَلََكِنَّ اللََّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}
هذا عند أهل التفسير في بني النضير لأنه لم يوجف عليهم بخيل ولا جمال،
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (167).
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 165، ولسان العرب (لبن)، وجمهرة اللغة 674، وتاج العروس (لون) وبلا نسبة في لسان العرب (سحق) وتهذيب اللغة 4/ 25، والمخصّص 11/ 132.(4/259)
وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى مالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكم فيه بما أراد وكان فيه فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أنت أعزّ الناس عليّ غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» (1) ولكنّي أقرّه على ما كان يفعله فيه، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا، وعمل به الخلفاء الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم فيه العلماء فقال بعضهم: معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما يقول الرجل الجليل: فعلنا كذا، وقيل: هو لجميع الأنبياء لأنه لم يورث أحد منهم شيئا من المال، وقالوا: معنى {خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي} [مريم: 5] معناه خفت ألا يعملوا بطاعة الله جلّ وعزّ.
ويدل على هذا {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]. ومعنى {يَرِثُنِي} النبوة والشريعة وكذلك {وَوَرِثَ سُلَيْمََانُ دََاوُدَ} [النمل: 16] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال: فمن أصحّها أنه بمنزلة الصدقة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يملك شيئا. وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن يعوله، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول، وقيل:
بل قد كان تصدق بكل ما يملكه، وقيل: «ما» بمعنى الذي أي لا نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال: «وجف» إذا أسرع، وأوجفه غيره {وَلََكِنَّ اللََّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ} أي كما سلّطه على بني النضير.
[سورة الحشر (59): آية 7]
{مََا أَفََاءَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ فَلِلََّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاََ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيََاءِ مِنْكُمْ وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ (7)}
في هذه الآية أربعة أقوال: منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه، وقيل: بل هذا غير الأول، وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول معمر، وقيل: بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب، وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة «الأنفال» (2) والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول لأنه قد صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الثاني على خلاف ذلك لأنه فيه
__________
(1) انظر التمهيد لابن عبد البر 8/ 175.
(2) سورة الأنفال، الآية: 1.(4/260)
{لِذِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ويدلّك على هذا حديث عمر مع صحّة إسناده واستقامة طريقته قرئ على أحمد بن شعيب عن عبيد الله بن سعيد ويحيى بن موسى وهارون بن عبد الله قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أويس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. فقد دلّ هذا على أن الآية الثانية حكمها خلاف حكم الأولى لأن الأولى تدلّ على هذا إن ذلك شيء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والآية الثانية، على خلاف ذلك قال الله جلّ وعزّ {مََا أَفََاءَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ فَلِلََّهِ} قيل: هذا افتتاح كلام، وكلّ شيء لله: والتقدير فلسبل الله {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ََ} وهم بنو هاشم وبنو المطّلب {وَالْيَتََامى ََ} وهم الّذين لم يبلغوا الحلم وقد مات آباؤهم، {وَالْمَسََاكِينِ} وهم الذين قد لحقهم ذلّ المسكنة مع الفاقة، {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهم المسافرون في غير معصية المحتاجون {كَيْ لََا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيََاءِ مِنْكُمْ} الضمير الّذي في يكون يعود على ما أي لا يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة يتداوله الأغنياء فيعملون فيه ما يحبون، فقسمه الله جلّ وعزّ هذا القسم. وقرأ يزيد بن القعقاع كي لا تكون دولة (1) بالرفع وتأنيث «تكون» دولة اسم «تكون» «بين الأغنياء» الخبر، ويجوز أن يكون بمعنى يقع فلا يحتاج إلى خبر مثل {إِلََّا أَنْ تَكُونَ تِجََارَةً} * [البقرة:
282، والنساء: 29] «وأغنياء» جمع غنيّ، وهكذا جمع المعتل وإن كان سالما جمع على فعلاء وفعال نحو كريم وكرماء وكرام، وقد قالت العرب في السالم: نصيب وأنصباء شبه بالمعتل وشبهوا بعض المعتل أيضا بالسالم. حكى الفرّاء (2): نفي ونفواء بالفاء شبّه بالسالم وقلبت ياؤه واوا. {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} حكى بعض أهل التفسير أنّ هذا في الغنائم واحتجّ بأن الحسن قال: وما أتاكم الرسول من الغنائم فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول قال أبو جعفر: فهذا ليس يدلّ على أن الآية فيه خاصة بل الآية عامة. وعلى هذا تأولها أصحاب رسول الله فقال عبد الله بن مسعود:
إن الله لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمّصة، فقيل له: قد قرأنا القرآن فما رأينا فيه هذا فقال: قد لعنهنّ رسول الله وقال الله {وَمََا آتََاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمََا نَهََاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وعن ابن عباس نحو من هذا في النهي عن الانتباذ في النّقير والمزفّت. {وَاتَّقُوا اللََّهَ} أي احذروا عقابه في عصيانكم رسوله. {إِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} أي شديد عقابه لمن خالف رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 244، وتيسير الداني 170.
(2) انظر المنقوص والممدود 14.(4/261)
[سورة الحشر (59): آية 8]
{لِلْفُقَرََاءِ الْمُهََاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَأَمْوََالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً وَيَنْصُرُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ هُمُ الصََّادِقُونَ (8)}
{لِلْفُقَرََاءِ الْمُهََاجِرِينَ} قيل: هو بدل ممن قد تقدّم ذكره بإعادة الحرف مثل {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ: 32] لمن آمن منهم، وقيل: التقدير كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم لكي يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أي أخرجهم المشركون. {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََاناً} في موضع نصب على الحال، وكذا {وَيَنْصُرُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ هُمُ الصََّادِقُونَ} مبتدأ وخبره
[سورة الحشر (59): آية 9]
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدََّارَ وَالْإِيمََانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هََاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاََ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حََاجَةً مِمََّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
{الَّذِينَ} في موضع خفض أي للذين، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر {يُحِبُّونَ مَنْ هََاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي انتقل إليهم وإذا كان الذين في موضع خفض كان يحبّون في موضع نصب على الحال أو مقطوعا مما قبله {وَلََا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حََاجَةً مِمََّا أُوتُوا} معطوف عليه، وكذا {وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كََانَ بِهِمْ خَصََاصَةٌ} أي فاقة إلى ما اثروا به. وكلّ كوّة أو خلل في حائط فهو خصاصة. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} (1) جزم بالشرط فلذلك حذفت الألف منه، ولا يجوز إثباتها إذا كان شرطا عند البصريين، ويجوز عند الكوفيين وشبّهوه بقول الشاعر:
474 - ألم يأتيك والأنباء تنمي (2)
والفرق بين ذا والأول أن الألف لا تتحرك في حال والياء والواو قد يتحرّكان وهذا فرق بيّن ولكن الكوفيين خلطوا حروف المدّ واللين فجعلوا حكمها حكما واحدا، وتجاوزوا ذلك من ضرورة الشعر إلى أن أجازوه في كتاب الله جلّ وعزّ، وحملوا قراءة حمزة لا تخف دركا ولا تخشى [طه: 77] عليه في أحد أقوالهم. وأهل التفسير على أنّ الشحّ أخذ المال بغير الحقّ، وقد ذكرنا أقوالهم. والمعروف في كلام العرب أن الشّحّ أزيد من البخل، وأنه يقال: شحّ فلان يشحّ إذا اشتدّ بخله ومنع فضل المال، كما قال: [الوافر] 475 ترى اللّحز الشّحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا (3)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 246 (قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، والجمهور بإسكان الواو وتخفيف القاف، وضمّ الشين).
(2) مرّ الشاهد رقم (299).
(3) الشاهد لعمرو بن كلثوم في ديوانه 65، ولسان العرب (سخن) وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح ديوان امرئ القيس 320، وشرح القصائد السبع 373، وشرح القصائد العشر 322، وشرح المعلقات السبع 166، وتاج العروس (سخن)، وبلا نسبة في لسان العرب (لحز)، ومقاييس اللغة 5/ 237.(4/262)
[سورة الحشر (59): آية 10]
{وَالَّذِينَ جََاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا وَلِإِخْوََانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونََا بِالْإِيمََانِ وَلاََ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنََا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنََا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)}
يكون {الَّذِينَ} في موضع خفض معطوفا على ما قبله أي والذين، وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، كما قال مالك ليس لمن شتم أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الفيء نصيب لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جََاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا} الآية، وقال قتادة: لم تؤمروا بسب أصحاب النبيّ وإنما أمرتم بالاستغفار لهم، وقال ابن زيد في معنى قوله {وَلََا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنََا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} لا تورّث قلوبنا غلا لمن كان على دينك. {رَبَّنََا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} أي بخلقك. {رَحِيمٌ} لمن تاب منهم.
[سورة الحشر (59): آية 11]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نََافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوََانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاََ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ (11)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نََافَقُوا} حذفت الألف للجزم، والأصل فيه الهمز لأنه من رأى والأصل يرأى {يَقُولُونَ لِإِخْوََانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ} «يقولون» في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس {الَّذِينَ نََافَقُوا} عبد الله بن أبيّ وأصحابه وإخوانهم من أهل الكتاب بنو النضير {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي من دياركم ومنازلكم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} من ديارنا. {وَلََا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي لا نطيع من سألنا خذلانكم. {وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ} كسرت إن لمجيء اللام، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه أجاز فتحها في خبرها اللام لأن اللام للتوكيد فلا تغيّر هاهنا شيئا.
[سورة الحشر (59): آية 12]
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لاََ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاََ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ ثُمَّ لاََ يُنْصَرُونَ (12)}
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب، وكان الأمر على ذلك. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لََا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ} فخبّر جلّ وعزّ بما يعلمه فإن قيل: فما وجه رفع {لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول: إن أخرجوا لا يخرجوا معهم، ولا يجوز غير ذلك، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟ فالجواب عن هذا، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما الله على معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا، كما تقول: والله لا
يقومون، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط للثاني، وكذا ما بعده، وكذا {ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ} معطوف عليه، ويجوز أن يكون مقطوعا منه.(4/263)
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب، وكان الأمر على ذلك. {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لََا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ} فخبّر جلّ وعزّ بما يعلمه فإن قيل: فما وجه رفع {لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول: إن أخرجوا لا يخرجوا معهم، ولا يجوز غير ذلك، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟ فالجواب عن هذا، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما الله على معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا، كما تقول: والله لا
يقومون، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط للثاني، وكذا ما بعده، وكذا {ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ} معطوف عليه، ويجوز أن يكون مقطوعا منه.
[سورة الحشر (59): آية 13]
{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللََّهِ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاََ يَفْقَهُونَ (13)}
أي في صدور بني النضير من اليهود، ونصبت رهبة على التمييز. {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} أي من أجل أنّهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله جلّ وعزّ فهم يجترءون على معاصيه ولا يتخوّفون عقابه.
[سورة الحشر (59): آية 14]
{لاََ يُقََاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاََّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرََاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاََ يَعْقِلُونَ (14)}
نصبت {جَمِيعاً} على الحال، وقرية وقرى عند الفرّاء شاذّ كان يجب أن يكون جمعه قراء مثل غلوة وغلاء. قال أبو جعفر: وأنكر أبو إسحاق هذا وأن يقال شاذّ لما نطق به القرآن، ولكنه مثل ضيعة وضيع جاء بحذف الألف.
وقيل: هو اسم للجميع. {أَوْ مِنْ وَرََاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} وقرأ أبو عمر وابن كثير أو من وراء جدار (1) وحكي عن المكيين {أَوْ مِنْ وَرََاءِ جُدُرٍ} بفتح الجيم وإسكان الدال، ويجوز جدر على أن الأصل جدر فحذفت الضّمة لثقلها. وجدر لغة بمعنى جدار، وجدار واحد يؤدّي عن جمع إلا أن الجمع أشبه بنسق الآية لأن قبله {إِلََّا فِي قُرىً} ولم يقل: إلّا في قرية {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} مفعول ثان لتحسب، وليس على الحال. {وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى} قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون على معاداة أهل الحقّ. قال مجاهد: {وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى} لأن بني النضير يهود والمنافقين ليسوا بيهود. وفي حرف (2) ابن مسعود وقلوبهم أشتّ يكون أفعل بمعنى فاعل أو يحذف منه «من» {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْقِلُونَ} أي لا يعقلون ما لهم فيه الحظّ مما عليهم فيه النّقص.
[سورة الحشر (59): آية 15]
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذََاقُوا وَبََالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (15)}
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المعنى مثلهم كمثل الذين من قبلهم حين تمادوا على العصيان فأهلكوا. واختلف أهل التأويل في {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} هاهنا فقال ابن عباس:
هم بنو قينقاع، وقال مجاهد هم أهل بدر. والصواب أن يقال في هذا: إنّ الآية عامة
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 247. انظر تيسير الداني 170 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وألف بعد الدال، وأمال أبو عمرو فتحة الدال والباقون «جدر» بضم الجيم والدال).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 248.(4/264)
وهؤلاء جميعا ممن كان قبلهم. {قَرِيباً} نعت لظرف {ذََاقُوا وَبََالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا عذاب الله على كفرهم وعصيانهم {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرة.
[سورة الحشر (59): آية 16]
{كَمَثَلِ الشَّيْطََانِ إِذْ قََالَ لِلْإِنْسََانِ اكْفُرْ فَلَمََّا كَفَرَ قََالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخََافُ اللََّهَ رَبَّ الْعََالَمِينَ (16)}
الكاف في موضع رفع أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ومثل بني النضير في قلوبهم منهم كمثل الشيطان. وفي معناه قولان: أحدهما أنه شيطان بعينه غرّ راهبا.
وفي هذا حديث مسند قد ذكرناه، وهكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والقول الآخر أن يكون الشيطان هاهنا اسما للجنس، وكذا الإنسان، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي عامّة.
[سورة الحشر (59): آية 17]
{فَكََانَ عََاقِبَتَهُمََا أَنَّهُمََا فِي النََّارِ خََالِدَيْنِ فِيهََا وَذََلِكَ جَزََاءُ الظََّالِمِينَ (17)}
{عََاقِبَتَهُمََا} خبر كان وأن وصلتها اسمها. وقرأ الحسن {فَكََانَ عََاقِبَتَهُمََا} بالرفع، جعلها اسم كان، وذكّرها لأن تأنيثها غير حقيقي {خََالِدَيْنِ فِيهََا} على الحال.
وقد اختلف النحويون في الظرف إذا كرّر فقال سيبويه (1): هذا باب ما يثنّى فيه المستقرّ توكيدا فعلى قوله نقول: إن زيدا في الدار جالسا فيها وجالس لا يختار أحدهما على صاحبه، وقال غيره: الاختيار النصب لئلا يلغى الظرف مرتين، وقال الفرّاء: (2) إنّ النصب هاهنا هو كلام العرب قال: تقول: هذا أخوك في يده درهم قابضا عليه، والعلّة عنده في وجوب النصب أنه لا يجوز أن يقدّم من أجل الضمير فإن قلت: هذا أخوك في يده درهم قابض على دينار، جاز الرفع والنصب، وأنشد في ما يكون منصوبا:
[الكامل] 476 والزّعفران على ترائبها ... شرقا به اللّبّات والنّحر (3)
قال أبو جعفر: وهذا التفريق عند سيبويه لا يلزم منه شيء، وقد قال سيبويه: لو كانت التثنية تنصب لنصبت. في قولك: عليك زيد حريص عليك. وهذا من أحسن ما قيل في هذا وأبينه لأنه بيّن أن التكرير لا يعمل شيئا. {وَذََلِكَ جَزََاءُ الظََّالِمِينَ} قيل:
يعني به بني النضير لأن نسق الآية فيهم، وكلّ كافر ظالم.
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 123.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 147.
(3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 293، ولسان العرب (شرق)، وتاج العروس (شرق)، وبلا نسبة في تاج العروس (ترب)، ولسان العرب (ترب)، والمخصص 2/ 20.(4/265)
[سورة الحشر (59): آية 18]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ (18)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ} أي بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} والأصل ولتنظر حذفت الكسرة لثقلها واتصالها بالواو أي لتنظر نفس ما قدّمت ليوم القيامة من حسن ينجيها أو قبيح يوبقها. والأصل في غد غدو وربما جاء على أصله ثم كرّر توكيدا فقال جلّ وعزّ {وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ}.
[سورة الحشر (59): آية 19]
{وَلاََ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللََّهَ فَأَنْسََاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ (19)}
يكون نسي بمعنى ترك أي تركوا طاعة الله جلّ وعزّ {فَأَنْسََاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} قال سفيان:
أي فأنساهم حظّ أنفسهم. ومن حسن ما قيل فيه أنّ المعنى أنّ الله لما عذّبهم شغلهم عن الفكرة في أهل دينهم أو في خواصهم، كما قال {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
{أُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} أي الخارجون عن طاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة الحشر (59): آية 20]
{لاََ يَسْتَوِي أَصْحََابُ النََّارِ وَأَصْحََابُ الْجَنَّةِ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفََائِزُونَ (20)}
{لََا يَسْتَوِي} أي لا يعتدل. {أَصْحََابُ النََّارِ وَأَصْحََابُ الْجَنَّةِ} وفي حرف ابن مسعود ولا أصحاب الجنّة تكون «لا» زائدة للتوكيد. {أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفََائِزُونَ} أي الذين ظفروا بما طلبوا.
[سورة الحشر (59): آية 21]
{لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
{مُتَصَدِّعاً} نصب على الحال أي فزعا لتعظيمه القرآن. {مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} ودلّ بهذا على أنه يجب أن يكون من معه القرآن خائفا حذرا معظّما له منزها عمن يخالفه.
{وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ} أي يعرفهم بهذا. {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فينقادون إلى الحق.
[سورة الحشر (59): آية 22]
{هُوَ اللََّهُ الَّذِي لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ (22)}
{هُوَ} مبتدأ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا لالتقاء الساكنين، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء، {الَّذِي} من نعته. {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده {عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} نعت، ولو كان بالألف واللام في الأول لكان الثاني منصوبا، وجاز الخفض {هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ} والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.(4/266)
{هُوَ} مبتدأ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا لالتقاء الساكنين، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء، {الَّذِي} من نعته. {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده {عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} نعت، ولو كان بالألف واللام في الأول لكان الثاني منصوبا، وجاز الخفض {هُوَ الرَّحْمََنُ الرَّحِيمُ} والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.
[سورة الحشر (59): آية 23]
{هُوَ اللََّهُ الَّذِي لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاََمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبََّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يُشْرِكُونَ (23)}
{هُوَ اللََّهُ الَّذِي لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} ومن نصب قال: إلّا إياه وأجاز الكوفيون إلّاه على أن الهاء في موضع نصب، وأنشدوا: [البسيط] 477 فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديّار (1)
قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند البصريين لا يقع بعد «إلّا» ضمير منفصل لاختلافه، وأنشد محمد بن يزيد: «ألّا يجاورنا سواك ديّار» {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} نعت والملك مشتقّ من الملك والمالك مشتقّ من الملك، و «القدّوس» مشتقّ من القدس وهو الطهارة كما قال حسان بن ثابت: [الوافر] 478 وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء (2)
قال كعب: روح القدس جبرائيل عليه السلام. قال أبو زيد: القدس الله جلّ وعزّ وكذا القدوس وقال غيره: قيل لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: روح الله لأنه خلقه من غير ذكر وأنثى ومن هذا قيل لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: روح الله جلّ وعزّ لأنه خلقه من غير ذكر، والله القدوس أي مطهّر مما نسبه إليه المشركون. وقرأ أبو الدينار الأعرابي {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} بفتح القاف. قال أبو جعفر: ونظير هذا من كلام العرب جاء مفتوحا نحو سمّور وشبّوط ولم يجيء مضموما إلّا «السّبّوح» و «القدّوس» وقد فتحا {السَّلََامُ} أي ذو السلامة من جميع الآفات. والسلام في كلام العرب يقع على خمسة أوجه: السلام التحيّة، والسلام السّواد من القول قال الله تعالى: {وَإِذََا خََاطَبَهُمُ الْجََاهِلُونَ قََالُوا سَلََاماً}
[الفرقان: 63] ليس يراد به التحية، والسلام جمع سلامة، والسلام بمعنى السلامة كما تقول: اللّذاذ واللّذاذة، «السلام» اسم الله من هذا أي صاحب السلامة والسلام شجر قوي واحدها سلامة. قال أبو إسحاق: سمّي بذلك لسلامته من الآفات. {الْمُؤْمِنُ} (3)
فيه ثلاثة أقوال: منها أن معناه الذي آمن عباده من جوره، وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه من عذابه، وقال أحمد بن يحيى ثعلب الله جلّ وعزّ: المؤمن لأنه يصدّق عباده
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 129، وأمالي ابن الحاجب 385، وأوضح المسالك 1/ 83، وتخليص الشواهد 100، وخزانة الأدب 5/ 278، والخصائص 1/ 307، والدرر 1/ 176، وشرح الأشموني 1/ 48، وشرح شواهد المغني 844، وشرح ابن عقيل 52، ومغني اللبيب 2/ 441.
(2) الشاهد لحسّان بن ثابت في ديوانه ص 75، ولسان العرب (كفأ) و (جبر)، وكتاب العين 5/ 414، وتهذيب اللغة 10/ 389، والتنبيه والإيضاح 2/ 96، وتاج العروس (كفأ)، و (جبر)، وأساس البلاغة (كفأ).
(3) انظر البحر المحيط 8/ 249.(4/267)
المؤمنين. قال أبو جعفر: ومعنى هذا أن المؤمنين يشهدون على الناس يوم القيامة فيصدّقهم الله جلّ وعزّ {الْمُهَيْمِنُ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المهيمن الأمين، وبهذا الإسناد قال: الشهيد، وقال أبو عبيدة: المهيمن الرقيب الحفيظ. قال أبو جعفر: وهذه كلها من صفات الله جلّ وعزّ فالله شاهد أعمال عباده حافظ لها أمين عليها لا يظلمهم ولا يلتهم من أعمالهم شيئا، وحكى لنا علي بن سليمان عن أبي العباس قال: الأصل مؤيمن، وليس في أسماء الله تعالى شيء مصغّر إنما هو مثل مسيطر أبدل من الهمزة هاء، لأن الهاء أخفّ. {الْعَزِيزُ} أي العزيز في انتقامه المنيع فلا ينتصر منه من عاقبه {الْجَبََّارُ} فيه أربعة أقوال: قال قتادة: الجبّار الذي يجبر خلقه على ما يشاء، قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند أهل العربية، لأنه إنما يجيء من هذا مجبر ولا يجيء فعّال من أفعل، وقيل: «جبّار» من جبر الله خلقه أي نعتهم وكفاهم.
وهذا قول حسن لا طعن فيه، وقيل: جبار من جبرت العظم فجبر أي أقمته بعد ما انكسر فالله تعالى أقام القلوب لتفهّمها دلائله، وقيل: هو من قولهم تجبّر النخل إذا علا وفات اليد كما قال: [الطويل] 479 أطافت به جيلان عند قطاعه ... وردّت عليه الماء حتّى تجبّرا (1)
فقيل: جبار لأنه لا يدركه أحد {الْمُتَكَبِّرُ} أي العالي فوق خلقه {سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يُشْرِكُونَ} نصبت سبحان على أنه مصدر مشتقّ من سبّحته أي نزّهته وبرّأته مما يقول المشركون، وهو إذا أفردته يكون معرفة ونكرة فإن جعلته نكرة صرفته فقلت سبحانا وإن جعلته معرفة كما قال: [السريع] 480 أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر (2)
[سورة الحشر (59): آية 24]
{هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ يُسَبِّحُ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
{هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} معنى خلق الشيء قدره كما قال: [الكامل] 481 ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري (3)
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 58، وجمهرة اللغة 1044، ومقاييس اللغة 1/ 499، ومجمل اللغة 1/ 457، وبلا نسبة في اللسان (جيل) وتهذيب اللغة 11/ 191، والمخصص 16/ 30.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 193، والكتاب 1/ 388، وأساس البلاغة (سبح)، والأشباه والنظائر 2/ 109، وجمهرة اللغة 278، وخزانة الأدب 1/ 185، والخصائص 2/ 435، والدرر 3/ 70، وشرح أبيات سيبويه 1/ 157، وشرح شواهد المغني 2/ 905.
(3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 94، والكتاب 4/ 299، والدرر 6/ 297، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 471، وشرح أبيات سيبويه 2/ 344، وشرح شواهد الإيضاح 270، وشرح المفصّل 9/ 79، ولسان العرب (خلق) و (فرا)، والمنصف 2/ 74، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 302.(4/268)
إلّا أن محمد بن إبراهيم بن عرفة قال: معنى خلق الله الشيء قدّره مخترعا على غير أصل بلا زيادة ولا نقصان فلهذا ترك استعماله الناس هذا معنى قوله: {الْبََارِئُ} قيل: معنى البارئ الخالق، وهذا فيه تساهل لضعف من يقوله في العربية أو على أن يتساهل فيه لأنه قبله الخالق، وحقيقة هذا أن معنى برأ الله الخلق سوّاهم وعدّلهم ألا ترى اتساق الكلام أن قبله خلق أي قدّر وبعده برى أي عدّل وسوّى وبعده {الْمُصَوِّرُ} فالصورة بعد هذين، وقد قيل: إن المصور مشتق من صار يصير، ولو كان كذا لكان بالياء، ولكنه مشتق من الصورة وهي المثال. {لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ}. قال أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لله تسعة وتسعون اسما» (1) {يُسَبِّحُ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} لأنه دالّ على أن له محدثا ومدبّرا لا نظير له فقد صار بهيئته يسبّح لله أي منزّها له عن الأشياء {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي في انتقامه ممن كفر به {الْحَكِيمُ} فيما خلقه لأن حكمته لا يرى فيها خلل، وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 314، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/ 21، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 148، والبيهقي في الأسماء والصفات 15.(4/269)
60 - شرح إعراب سورة الممتحنة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الممتحنة (60): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيََاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمََا جََاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيََّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهََاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغََاءَ مَرْضََاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمََا أَخْفَيْتُمْ وَمََا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ (1)}
أي نداء مفرد و {الَّذِينَ} من نعته في موضع رفع، وبعض النحويين يجيز النصب على الموضع وقال بعضهم: «أيّ» اسم ناقص وما بعده صلة له، وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه (1)، والقول عندهما أنه اسم تام إلا أنه لا بدّ له من النعت مثل «من» و «ما» إذا كانتا نكرتين، وأنشد سيبويه: [الكامل] 482 فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النّبيّ محمّد إيّانا (2)
قوله غيرنا نعت لمن لا يفارقه. {لََا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} بمعنى أعدائي فعدوّ يقع للجميع والواحد والمؤنث على لفظ واحد، لأنه غير جار على الفعل، وإن شئت جمعته وأنثته. {أَوْلِيََاءَ} مفعول ثان ولم يصرف أولياء لأن في اخره ألفا زائدة وكلّ ما كان في اخره ألف زائدة فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو عرفاء وشهداء وأصدقاء وأصفياء ومرضى، وتعرف أن الألف زائدة أن نظر فعله فإن وجدت بعد اللام من فعله ألفا فهي زائدة. ألا ترى أن عرفاء فعلاء وأصفياء أفعلاء فبعد اللام ألف، وكذلك مرضى فعلى وما كان من الجمع سوى هذا من الجمع فهو ينصرف نحو غلمان ورجال وأعدال وفلوس وشباب إلّا أن أشياء وحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لثقل التأنيث فاستثقلوا أن يزيدوا التنوين مع زيادة حرف التأنيث لأنها أريد بها أفعلاء نحو أصدقاء كأنهم أرادوا أشياء، وهو الأصل فثقل لاجتماع الياء والهمزتين فحذفوا إحدى
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 190.
(2) مرّ الشاهد رقم (30).(4/270)
الهمزتين، وما أشبهها مصروف في المعرفة والنكرة نحو أسماء وأحياء وأفياء ينصرف لأنه أفعال فمن ذلك أعدال وأجمال، وكذلك عدوّ وأعداء مصروف، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً} مصروف لأنه أفعال ليس فيه ألف زائدة: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} مذهب الفراء أن الباء زائدة وأن المعنى تلقون إليهم المودة. قال أبو جعفر: «تلقون» في موضع نصب على الحال، ويكون في موضع نعت لأولياء. قال الفراء (1): كما تقول: لا تتّخذ رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك. {وَقَدْ كَفَرُوا بِمََا جََاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيََّاكُمْ} عطف على الرسول أي ويخرجونكم {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ رَبِّكُمْ} في موضع نصب أي لأن تؤمنوا وحقيقته كراهة أن تؤمنوا بالله ربّكم. {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهََاداً فِي سَبِيلِي} نصبت جهادا لأنه مفعول من أجله أو على المصدر أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في طريقي الذي شرعته وديني الذي أمرت به و {ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِي} عطف {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} مثل تلقون. {وَأَنَا أَعْلَمُ} قراءة أهل المدينة يثبتون الألف في الإدراج، وقراءة غيرهم وأن أعلم بحذف الألف في الإدراج وهذا هو المعروف في كلام العرب لأن الألف لبيان الحركة فلا تثبت في الإدراج، لأن الحركة قد ثبتت و {أَعْلَمُ} بمعنى عالم كما يقال: الله أكبر الله أكبر بمعنى كبير، ويجوز أن يكون المعنى وأنا أعلم بكم بما أخفاه بعضكم من بعض وبما أعلنه {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} ومن يلق إليهم بالمودة ويتخذهم أولياء {فَقَدْ ضَلَّ سَوََاءَ السَّبِيلِ} أي عن قصد طريق الجنة ومحجّتها.
[سورة الممتحنة (60): آية 2]
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدََاءً} شرط ومجازاة فلذلك حذفت النون وكذا {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} تمّ الكلام.
[سورة الممتحنة (60): آية 3]
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحََامُكُمْ وَلاََ أَوْلاََدُكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحََامُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ} لأن أولادهم وأقرباءهم كانوا بمكة فلذلك تقرّب بعضهم إلى أهل مكّة وأعلمهم الله جلّ وعزّ أنّهم لن ينفعوهم يوم القيامة. يكون العامل في الظرف على هذا لن تنفعكم ويكون يفصل بينكم في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون العامل في الظرف {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} (2) وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقد عرف أن المعنى يفصل الله جلّ وعزّ بينكم، وقرأ عبد الله بن عامر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149.
(2) انظر تيسير الداني 170 (قرأ عامر «يفصل» بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخفّفة، وابن عامر بضمّ الياء وفتح الفاء والصاد مشدّدة، وحمزة والكسائي كذلك إلّا أنهما كسرا الصاد، والباقون بضمّ الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخفّفة).(4/271)
يفصّل على التكثير، وقرأ عاصم يفصل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يفصّل بينكم على تكثير يفصل {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} مبتدأ وخبره.
[سورة الممتحنة (60): آية 4]
{قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرََاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قََالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ كَفَرْنََا بِكُمْ وَبَدََا بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ الْعَدََاوَةُ وَالْبَغْضََاءُ أَبَداً حَتََّى تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَحْدَهُ إِلاََّ قَوْلَ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمََا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنََا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنََا وَإِلَيْكَ أَنَبْنََا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}
{قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وحكى الفراء في جمعها أسى بضمّ في الجمع، وإن كانت الواحدة مكسورة ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء، وعند البصريين أنه يجوز الضم على تشبيه فعلة بفعلة، ويجوز الكسر على الأصل {فِي إِبْرََاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال عبد الرحمن بن زيد: {الَّذِينَ مَعَهُ} الأنبياء عليهم السلام {قََالُوا لِقَوْمِهِمْ} أي حين قالوا لقومهم {إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ} هذه القراءة المعروفة التي قرأ بها الأئمة كما تقول: كريم وكرماء، وأجاز أبو عمرو وعيسى إنا براء منكم (1) وهي لغة معروفة فصيحة كما تقول: كريم وكرام، وأجاز الفراء إنا برآء منكم. قال أبو جعفر: وهذا صحيح في العربية يكون برآء في الواحد والجميع على لفظ واحد، مثل إنني برآء منكم وحقيقته في الجمع أنا ذوو برآء. كما تقول: قوم رضى فهذه ثلاث لغات معروفة وحكى الكوفيون لغة رابعة. وحكي أن أبا جعفر قرأ بها وهو أنا برآء منكم على تقدير براع وهذه لا تجوز عند البصريين لأنه حذف شيء لغير علة. قال أبو جعفر: وما أحسب هذا عن أبي جعفر إلا غلطا لأنه يروى عن عيسى أنه قرأ بتخفيف الهمزة أنّا برأ وأحسب أن أبا جعفر قرأ كذا. {وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} معطوف بإعادة حرف الخفض، كما تقول: أخذته منك ومن زيد، ولا يجوز أخذته منك وزيد. ألا ترى كيف السواد فيه ومما، ولو كان على قراءة من قرأ والأرحام [النساء: 1] لكان: وما تعبدون من دون الله بغير من {كَفَرْنََا بِكُمْ} أي أنكرنا كفركم. {وَبَدََا بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمُ الْعَدََاوَةُ وَالْبَغْضََاءُ أَبَداً} لأنه تأنيث غير حقيقي أي لا نودكم. {حَتََّى تُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَحْدَهُ} {إِلََّا قَوْلَ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناء ليس من الأول أي لا تستغفروا للمشركين وتقولوا يتأسّى بإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إذ كان إنما فعل ذلك عن موعدة وعدها إياه قيل: وعده أنه يظهر إسلامه ولم يستغفر له إلا بعد أن أسلم.
{وَمََا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما أقدر أن أدفع عنك عذابه وعقابه. {رَبَّنََا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنََا} في معناه قولان: أحدهما أن هذا قول إبراهيم ومن معه من الأنبياء، والآخر أن المعنى:
قولوا ربنا عليك توكّلنا أي وكلنا أمورنا كلّها إليك، وقيل: معنى التوكل على الله جلّ وعزّ أن يعبد وحده ولا يعبى ويوثق بوعده لمن أطاعه. {وَإِلَيْكَ أَنَبْنََا} أي رجعنا مما
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149، والبحر المحيط 8/ 252.(4/272)
تكره إلى ما تحبّ {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي مصيرنا ومصير الخلق يوم القيامة.
[سورة الممتحنة (60): آية 5]
{رَبَّنََا لاََ تَجْعَلْنََا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنََا رَبَّنََا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}
{رَبَّنََا لََا تَجْعَلْنََا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تقول: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا {وَاغْفِرْ لَنََا} ولا يجوز إدغام الراء في اللام لئلا يذهب تكرير الراء. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في انتقامك ممن انتقمت منه {الْحَكِيمُ} في تدبير عبادك.
[سورة الممتحنة (60): آية 6]
{لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}
{لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ولم يقل: كانت لأن التأنيث غير حقيقي معناه التأسي {لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ} أي ثوابه {وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي نجاته {وَمَنْ يَتَوَلَّ} جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء، والجواب {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
[سورة الممتحنة (60): آية 7]
{عَسَى اللََّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عََادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللََّهُ قَدِيرٌ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}
{أَنْ يَجْعَلَ} ومن العرب من يحذف «أن» بعد «عسى» قال ابن زيد: ففتحت مكة فكانت المودة بإسلامهم {وَاللََّهُ قَدِيرٌ} أي على أن يجعل بينكم وبينهم مودة. {وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لمن اتخذهم أولياء وألقى إليهم بالمودة إذا تاب رحيم به لمن يعذبه بعد التوبة. والرحمة من الله جلّ وعزّ قبول العمل والإثابة عليه.
[سورة الممتحنة (60): آية 8]
{لاََ يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقََاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}
قال أبو جعفر: قد ذكرناه. وليس لقول من قال: إنها منسوخة معنى: لأن البرّ في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة، وليس هذا محظورا أن يفعله أحد بكافر. وكذا الإقساط إنما هو العدل والمكافأة بالحسن عن الحسن. ألا ترى أن بعده {إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وأن في موضع خفض على البدل من {الَّذِينَ} ويجوز أن يكون في موضع نصب أي لا ينهاكم كراهة هذا.
[سورة الممتحنة (60): آية 9]
{إِنَّمََا يَنْهََاكُمُ اللََّهُ عَنِ الَّذِينَ قََاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيََارِكُمْ وَظََاهَرُوا عَلى ََ إِخْرََاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ (9)}
{أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} والأصل تتولّوهم. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أي ينصرهم ويودّهم {فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} أي الذين جعلوا المودة في غير موضعها. والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.(4/273)
[سورة الممتحنة (60): آية 10]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ مُهََاجِرََاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنََاتٍ فَلاََ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفََّارِ لاََ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاََ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مََا أَنْفَقُوا وَلاََ جُنََاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاََ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ وَسْئَلُوا مََا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مََا أَنْفَقُوا ذََلِكُمْ حُكْمُ اللََّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا جََاءَكُمُ الْمُؤْمِنََاتُ} على تذكير الجمع {مُهََاجِرََاتٍ} نصب على الحال. {فَامْتَحِنُوهُنَّ}، أي اختبروهن هل خرجن لسبب غير الرغبة في الإسلام {اللََّهُ أَعْلَمُ بِإِيمََانِهِنَّ} أي منكم ثم حذف لعلم السامع {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنََاتٍ} مفعول ثان. {فَلََا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفََّارِ} وذلك لسبب هدنة كانت بينهم. {لََا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلََا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأنه لا تحلّ مسلمة لكافر بحال. {وَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذََا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي له أن ينكحها إذا أسلمت وزوجها كافر، لأنه قد انقطعت العصمة بينهما وذلك بعد انقضاء العدة، وكذا إذا ارتدّ وأتوهم ما أنفقوا، وهو المهر {وَلََا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوََافِرِ} وقرأ أبو عمرو ولا تمسكوا (1) يكون بمعناه أو على التكثير، وعن الحسن ولا تمسّكوا (2) والأصل تتمسّكوا حذفت التاء لاجتماع التاءين، وعصم جمع عصمة يقال: أخذت بعصمتها أي بيدها، وهو كناية عن الجماع، و {الْكَوََافِرِ} جمع كافرة مخصوص به المؤنث.
{وَسْئَلُوا مََا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مََا أَنْفَقُوا} وذلك في المهر {ذََلِكُمْ حُكْمُ اللََّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال الزهري: فقال المسلمون رضينا بحكم الله جلّ وعزّ وأبى الكفار أن يرضوا بحكم الله ويقرّوا أنه من عنده.
[سورة الممتحنة (60): آية 11]
{وَإِنْ فََاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ إِلَى الْكُفََّارِ فَعََاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوََاجُهُمْ مِثْلَ مََا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}
في معناه قولان، قال الزهري: الكفار هاهنا هم الذين كانت بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذمة، وقال مجاهد وقتادة: هم أهل الحرب ممن لا ذمّة له {فَعََاقَبْتُمْ} وقرأ حميد الأعرج وعكرمة فعقّبتم (3) هما عند الفراء بمعنى واحد، مثل «ولا تصاعر» {وَلََا تُصَعِّرْ} [لقمان: 18] وحكي أنّ في حرف عبد الله وإن فاتكم أحد من أزواجكم وإذا كان للناس صلح فيه أحد وشيء، وإذا كان لغير الناس لم يصلح فيه أحد، وعن مجاهد فأعقبتم (4) وكله مأخوذ من العاقبة، والعقبى وهو ما يلي الشيء.
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا، والباقون مخفّفا).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 254، والإتحاف 256.
(3) نظر البحر المحيط 8/ 255.
(4) نظر البحر المحيط 8/ 255.(4/274)
{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوََاجُهُمْ مِثْلَ مََا أَنْفَقُوا} اختلف العلماء في حكمها فقال الزهري أيعطي الذي ذهبت امرأته إلى الكفار الذين لهم ذمّة مثل صداقها ويؤخذ ممن تزوج امرأة ممن جاءت منهم فتعطاه، وقال مسروق ومجاهد وقتادة: بل يعطى من الغنيمة. قال أبو جعفر:
وهذا التأويل على أن تذهب امرأته إلى أهل الحرب ممن لا ذمّة له. {وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي اتّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه.
[سورة الممتحنة (60): آية 12]
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا جََاءَكَ الْمُؤْمِنََاتُ يُبََايِعْنَكَ عَلى ََ أَنْ لاََ يُشْرِكْنَ بِاللََّهِ شَيْئاً وَلاََ يَسْرِقْنَ وَلاََ يَزْنِينَ وَلاََ يَقْتُلْنَ أَوْلاََدَهُنَّ وَلاََ يَأْتِينَ بِبُهْتََانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاََ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبََايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا جََاءَكَ الْمُؤْمِنََاتُ يُبََايِعْنَكَ} في موضع نصب على الحال. {عَلى ََ أَنْ لََا يُشْرِكْنَ بِاللََّهِ شَيْئاً} أي على ألا يعبدن معه غيره ولا يتّخذن من دونه إلها و {يُشْرِكْنَ} في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى على أنهنّ، وكذا {وَلََا يَسْرِقْنَ وَلََا يَزْنِينَ وَلََا يَقْتُلْنَ أَوْلََادَهُنَّ وَلََا يَأْتِينَ بِبُهْتََانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلََا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} وهذا الفعل كله مبني فلذلك كان رفعه ونصبه وجزمه كله واحدا، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَلََا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يقول: لا ينحن، وقال ابن زيد: لا يعصينك في كل ما تأمرهنّ به من الخير {فَبََايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولا يجوز إدغام الراء في اللام ويجوز الإخفاء، وهو الصحيح عن أبي عمرو، ويتوهّم من سمعه أنه إدغام.
[سورة الممتحنة (60): آية 13]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ (13)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ} قال ابن زيد: هم اليهود. {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمََا يَئِسَ الْكُفََّارُ} [1] مِنْ أَصْحََابِ الْقُبُورِ قد ذكرناه. فمن أحسن ما قيل فيه، وهو معنى قول ابن زيد، وقد يئسوا من ثوب الآخرة لأنهم كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا صفته، وهي مكتوبة عندهم، وقد وقفوا عليها، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا من ثواب الآخرة أيضا، لأنهم قد كفروا وجحدوا لكفر هؤلاء.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 256 (قرأ ابن أبي الزناد «الكافر» على الإفراد، والجمهور على الجمع).(4/275)
61 - شرح إعراب سورة الصف
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الصف (61): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
قال أبو جعفر: قوله {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} أي أذعن له وانقاد ما أراد جلّ وعزّ فهذا داخل فيه كل شيء لأن ما عامة في كلام العرب. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه ممن عصاه. {الْحَكِيمُ} في تدبيره.
[سورة الصف (61): آية 2]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مََا لاََ تَفْعَلُونَ (2)}
{لِمَ} الأصل لما حذف الألف لاتصال الكلمة بما قبلها وأنه استفهام.
[سورة الصف (61): آية 3]
{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللََّهِ أَنْ تَقُولُوا مََا لاََ تَفْعَلُونَ (3)}
نصبت {مَقْتاً} على البيان والفاعل مضمر في كبر أي كبر ذلك القول {أَنْ تَقُولُوا مََا لََا تَفْعَلُونَ} «أن» في موضع رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ والذي يخرج من هذا ألّا يقول أحد شيئا إلا ما يعتقد أن يفعله، ويقول: إن شاء الله لئلا يخترم دونه.
[سورة الصف (61): آية 4]
{إِنَّ اللََّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيََانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
والمحبة منه جلّ وعزّ قبول العلم والإثابة عليه. {صَفًّا} في موضع الحال قيل:
فدلّ بهذا على أن القتال في سبيل الله جلّ وعزّ والإنسان راجلا أفضل منه راكبا.
{كَأَنَّهُمْ بُنْيََانٌ مَرْصُوصٌ} أي قد أحكم وأتقن فليس فيه شيء يزيد على شيء، وقيل:
مرصوص مبني بالرصاص.
[سورة الصف (61): آية 5]
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللََّهُ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ (5)}
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ} أي واذكر. {يََا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} نداء مضاف وحذفت
الياء، لأن النداء موضع حذف. {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ} والأصل أنّني {فَلَمََّا زََاغُوا} أي مالوا عن الحقّ. {أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} مجازاة على فعلهم، وقيل: أزاغ قلوبهم عن الثواب. {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية.(4/276)
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ} أي واذكر. {يََا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} نداء مضاف وحذفت
الياء، لأن النداء موضع حذف. {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ} والأصل أنّني {فَلَمََّا زََاغُوا} أي مالوا عن الحقّ. {أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} مجازاة على فعلهم، وقيل: أزاغ قلوبهم عن الثواب. {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية.
[سورة الصف (61): آية 6]
{وَإِذْ قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرََاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ قََالُوا هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}
أي واذكر هذا. {مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرََاةِ} منصوب على الحال، وكذا {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وابن كثير، وقراءة ابن محيصن وحمزة والكسائي من بعد اسمه أحمد حذف الياء في الوصل لسكونها وسكون السين بعدها، وهو اختيار أبي عبيد، واحتج في حذفها بأنك إذا ابتدأت قلت:
اسمه فكسرت الهمزة. وهذا من الاحتجاج الذي لا يحصل منه معنى، والقول في هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكّنها، قد قرئ بهاتين القراءتين، وليس منهما إلّا صواب غير أن الأكثر في ياء النفس إذا كان بعدها ساكن أن تحرّك لئلا تسقط وإذا كان بعدها متحرك أن تسكّن، ويجوز في كلّ واحدة منهما ما جاز في الأخرى. {فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ} أي فلما جاءهم أحمد بالبيّنات أي بالبراهين والآيات الباهرة {قََالُوا هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1).
[سورة الصف (61): آية 7]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى ََ إِلَى الْإِسْلاََمِ وَاللََّهُ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (7)}
أي ومن أشدّ ظلما ممّن قال لمن جاءه بالبيّنات هو ساحر، وهذا سحر مبين أي مبين لمن راه أنه سحر. {وَهُوَ يُدْعى ََ إِلَى الْإِسْلََامِ} وهو إذا دعي إلى الإسلام قال: هذا سحر مبين، وقراءة طلحة وهو يدّعي إلى الإسلام (2) {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} وهم الذين يقولون في البيّنات هذا سحر مبين.
[سورة الصف (61): آية 8]
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَاللََّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ (8)}
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ} أي بقولهم هذا. {وَاللََّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} أي مكمل الإسلام ومعليه. هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي متمّ نوره والأصل التنوين والحذف على التخفيف {وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} وحذف المفعول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 8/ 259.
(2) انظر المحتسب 2/ 321، والبحر المحيط 8/ 259.(4/277)
[سورة الصف (61): آية 9]
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
قول أبي هريرة في هذا: أنه يكون إذا نزل المسيح صلّى الله عليه وسلّم وصار الدّين كلّه دين الإسلام.
[سورة الصف (61): الآيات 10الى 13]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ تِجََارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَمَسََاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنََّاتِ عَدْنٍ ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى ََ تُحِبُّونَهََا نَصْرٌ مِنَ اللََّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
قال قتادة: فلولا أنه بيّن التجارة لطلبت قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وكان أبو الحسن علي بن سليمان يذهب إلى هذا ويقول «تؤمنون» على عطف البيان الذي يشبه البدل، وحكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى «تؤمنون» آمنوا على جهة الإلزام. قال أبو العباس: والدليل على ذلك {يَغْفِرْ لَكُمْ} جزم لأنه جواب الأمر وعطف عليه {وَيُدْخِلْكُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ}.
فأما قول الأخفش سعيد: إنّ {وَأُخْرى ََ} في موضع خفض على أنه معطوف على تجارة فهو يجوز، وأصحّ منه قول الفراء: إنّ «أخرى» في موضع رفع بمعنى ولكم أخرى يدلّ على ذلك {نَصْرٌ مِنَ اللََّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} بالرفع ولم يخفضا وعلى قول الأخفش الرفع بإضمار مبتدأ {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بالنصر والفتح. والنصر في اللغة المعونة.
[سورة الصف (61): آية 14]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصََارَ اللََّهِ كَمََا قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوََارِيِّينَ مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ فَآمَنَتْ طََائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ وَكَفَرَتْ طََائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى ََ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظََاهِرِينَ (14)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصََارَ اللََّهِ} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون {كُونُوا أَنْصََارَ اللََّهِ} بالإضافة وهو اختيار أبي عبيد وحجته في ذلك {قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ} ولم يقولوا: أنصار الله. وهذه الحجة لا تلزم لأنها مختلفان لأن الأول كونوا ممن ينصرون الله فمعنى هذا النكرة فيجب أن يكون أنصارا لله وإن كانت الإضافة فيه تجوز أي كونوا الذين يقال لهم: هذا، والثاني معناه المعرفة. ألا ترى أنك إذا قلت: فلان ناصر لله فمعناه ممن يفعل هذا، وإذا عرفته فمعناه المعروف بهذا، كما قال: [البسيط] 483 هو الجواد الذي يعطيك نائله ... حينا ويظلم أحيانا فيظّلم (1)
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 152، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 219، والكتاب 4/ 600، وسمط اللئالي ص 467، وشرح أبيات سيبويه 2/ 403، وشرح التصريح 2/ 391، وشرح شواهد الشافية 493، وشرح المفصّل 10/ 47، 149، ولسان العرب (ظلم)، والمقاصد النحوية 4/ 582، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 141، وشرح الأشموني 3/ 873، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 189، ولسان العرب (ظنن).(4/278)
فأما قول القتبي معنى {مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ} أي مع الله فلا يصحّ ولا يجوز: قمت إلى زيد مع زيد. قال أبو جعفر: وتقديره من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي {فَآمَنَتْ طََائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ وَكَفَرَتْ طََائِفَةٌ} قد بيّناه قال مجاهد: {فَأَيَّدْنَا} فقوّينا. قال إبراهيم النخعي في معنى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى ََ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظََاهِرِينَ} أيّدهم الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه إياهم أن عيسى صلّى الله عليه وسلّم كلمة الله.(4/279)
62 - شرح إعراب سورة الجمعة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الجمعة (62): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (2)}
{يُسَبِّحُ} يكون للمستقبل والحال. {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} نعت. وفيه معنى المدح، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون {الَّذِي} نعتا للملك فإذا خفضت كان {هُوَ} مرفوعا بالابتداء و {الَّذِي} خبره، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} داخل في الصلة {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ} في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ} معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزّ وجلّ فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم {وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} ويجوز إدغام اللام في اللام.
[سورة الجمعة (62): آية 3]
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمََّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} في موضع خفض لأنه عطف على الأميين، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ} أي يعرّفهم بها {لَمََّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}. قال ابن زيد:
أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه (1): «لمّا» جواب لمن قال: قد فعل، و «لم» جواب لمن قال:
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 135.(4/280)
فعل. قال أبو جعفر: إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ومن أسكن الهاء قال: الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله.
[سورة الجمعة (62): آية 4]
{ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
{ذََلِكَ فَضْلُ اللََّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشََاءُ} أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. {وَاللََّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه.
[سورة الجمعة (62): آية 5]
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ وَاللََّهُ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (5)}
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ} أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا} أي لم يفعلوا ذلك {كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل: فكيف جاز هذا ولا يقال: جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا: المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ} أي هذا المثل ثم حذف هذا، لأنه قد تقدم ذكره. {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب.
[سورة الجمعة (62): آية 6]
{قُلْ يََا أَيُّهَا الَّذِينَ هََادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيََاءُ لِلََّهِ مِنْ دُونِ النََّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (6)}
{قُلْ يََا أَيُّهَا الَّذِينَ هََادُوا} يقال: هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيََاءُ لِلََّهِ مِنْ دُونِ النََّاسِ} أي سواكم {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة.
[سورة الجمعة (62): آية 7]
{وَلاََ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالظََّالِمِينَ (7)}
{وَلََا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. {بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي من الآثام. {وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالظََّالِمِينَ} أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.
[سورة الجمعة (62): آية 8](4/281)
[سورة الجمعة (62): آية 8]
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاََقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى ََ عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} أي تأبون أن تتمنوه. {الَّذِي} في موضع نصب نعت للموت. {فَإِنَّهُ مُلََاقِيكُمْ} خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز: إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء، وأجاز الكوفيون (1): إنّ ضاربك فظالم لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى ََ عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} عطف جملة على جملة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عطف على تردون.
[سورة الجمعة (62): آية 9]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نُودِيَ لِلصَّلاََةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}
وقرأ الأعمش {الْجُمُعَةِ} (2) بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ {الْجُمُعَةِ} (3) قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال: رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال: {الْجُمُعَةِ} نسب الفعل إليها أي يجمع للناس، كما يقال: رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. {فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} قال قتادة: أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ولا يقال في الماضي: وذر. قال سيبويه (4): استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك لأن معناه {ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب: وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء.
قال الضحّاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال غيره: ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما فيه منفعتكم ومضرتكم.
[سورة الجمعة (62): آية 10]
{فَإِذََا قُضِيَتِ الصَّلاََةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}
أي صلاة الجمعة. {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله، وإن أهل التفسير قالوا: هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللََّهِ} قال أبو جعفر: لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 156.
(2) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا، وهي لغة تميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(3) هذه قراءة الجمهور بضم الميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(4) انظر الكتاب 4/ 226.(4/282)
وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. {وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً} أي لما عليكم ووفّقكم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها، والفلاح البقاء.
[سورة الجمعة (62): آية 11]
{وَإِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهََا وَتَرَكُوكَ قََائِماً قُلْ مََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجََارَةِ وَاللََّهُ خَيْرُ الرََّازِقِينَ (11)}
{وَإِذََا رَأَوْا تِجََارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهََا} اختلف العلماء في اللهو هاهنا، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد: اللهو الطبل. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب لأن جابرا مشاهد للتنزيل، ومال الفرّاء (1) إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ {انْفَضُّوا إِلَيْهََا} ولم يقل: إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء (2) أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء: 112] فعاد الضمير على الثاني، وقال جلّ وعزّ {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا} [النساء: 135] فعاد عليهما جميعا {وَتَرَكُوكَ قََائِماً} نصب على الحال أي قائما تخطب. {قُلْ مََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجََارَةِ} أي ما عنده من الثواب.
{وَاللََّهُ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 157.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 157.(4/283)
63 - شرح إعراب سورة المنافقين
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المنافقون (63): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِذََا جََاءَكَ الْمُنََافِقُونَ قََالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللََّهِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ (1)}
{إِذََا} في موضع نصب بجاءك إلا أنها غير معربة لتنقّلها وفي اخرها ألف، والألف لا تحرّك، وجواب إذا {قََالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللََّهِ} كسرت «إن» لدخول اللام وانقطع الكلام فصارت إنّ مبتدأة فكسرت {وَاللََّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ لَكََاذِبُونَ} وأعيد اسم الله تعالى ظاهرا لأن ذلك أفخم قيل: أكذبهم الله جلّ وعزّ في ضميرهم. ومن أصحّ ما قيل في ذلك أنّهم أخبروا أنّ أنفسهم تعتقد الإيمان وهم كاذبون فأكذبهم الله.
[سورة المنافقون (63): آية 2]
{اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (2)}
{اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً} قال الضّحاك: هو حلفهم بالله أنّهم لمنكم، وقال قتادة: جنّة إنّهم يعصمون به دماءهم وأموالهم، وقرأ الحسن {اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ} (1) أي تصديقهم سترة يستترون به كما يستتر بالجنّة في الحرب فامتنع من قتلهم وسبي ذراريهم لأنهم أظهروا الإيمان {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} يجوز أن يكون المفعول محذوفا أي صدّوا الناس، ويجوز أن يكون الفعل لازما أي أعرضوا عن سبيل الله أي دينه الذي ارتضاه وشريعته التي بعث بها نبيّه صلّى الله عليه وسلّم {إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} من حلفهم على الكذب ونفاقهم، و «ما» في موضع رفع على قول سيبويه أي ساء الشيء وفي موضع نصب على قول الأخفش أي ساء شيئا يعملون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 267 (قرأ الجمهور «أيمانهم» بفتح الهمزة، والحسن بكسرها مصدر أمن).(4/284)
[سورة المنافقون (63): آية 3]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاََ يَفْقَهُونَ (3)}
{ذََلِكَ} في موضع رفع أي ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم. {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} فطبع على قلوبهم، ويجوز إدغام العين في العين، وترك الأدغام أجود لبعد مخرج العين {فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ} حقّا من باطل ولا صوابا من خطأ لغلبة الهوى عليهم.
[سورة المنافقون (63): آية 4]
{وَإِذََا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسََامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ (4)}
{وَإِذََا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسََامُهُمْ} وأجاز النحويون جميعا الجزم بإذا وان تجعل بمنزلة حروف المجازاة لأنها لا تقع إلّا على فعل وهي تحتاج إلى جواب وهكذا حروف المجازاة، وأنشد الفرّاء: [الكامل] 484 واستغن ما أغناك ربّك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمّل (1)
وأنشد الآخر: [البسيط] 485 نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد (2)
والاختيار عند الخليل وسيبويه والفرّاء (3) أن لا يجزم بإذا لأن ما بعدها موقت فخالفت حروف المجازاة في هذا، كما قال: [الكامل] 486 وإذا تكون شديدة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب (4)
{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لأن منطقهم كمنطق أهل الإيمان {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} أي لا يفهمون ولا عندهم فقه ولا علم، فهم كالخشب، وهذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وحمزة، وقرأ أبو عمرو والأعمش والكسائي خشب (5) بإسكان الشين وإليه يميل أبو عبيد، وزعم أنه لا يعرف فعلة تجمع على فعل بضم الفاء والعين. قال أبو جعفر: وهذا غلط وطعن على ما روته الجماعة وليس يخلو ذلك من إحدى جهتين إمّا أن يكون خشب جمع خشبة كقولهم: ثمرة وثمر فيكون غير ما قال من جمع فعلة على فعل، أو يكون كما قال حذّاق النحويين خشبة وخشاب مثل جفنة وجفان وخشاب
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (103).
(2) الشاهد لعبد قيس بن خفاف الدرر 3/ 102، وشرح اختيارات المفضّل ص 1558، وشرح شواهد المغني 1/ 271، ولسان العرب (كرب) والمقاصد النحوية 2/ 203، ولحارثة بن بدر الغداني في أمالي المرتضى 1/ 383، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 335، وشرح الأشموني 3/ 583، وشرح عمدة الحافظ 374، ومغني 1/ 93، وهمع الهوامع 1/ 206.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 158.
(4) الشاهد لابن أحمر الكناني في الأزهية ص 185، ولسان العرب (حيس)، وتاج العروس (حيس)، وبلا نسبة في شرح المفضل 2/ 110، وكتاب اللامات ص 106، وتاج العروس (حيس).
(5) انظر تيسير الداني 171.(4/285)
وخشب مثل حمار وحمر أيضا فقد سمع أكمة وأكم وأكم وأجمة وأجم. فأما خشب فقد يجوز أن يكون الأصل فيه خشبا حذفت الضمة لثقلها، ويجوز وهو أجود أن يكون مثل أسد وأسد في المذكر. قال سيبويه ومثل خشبة وخشب بدنة وبدن ومثل مذكّرة وثن ووثن قال: وهي قراءة، وأحسب من تأول على سيبويه، وهي قراءة يعني «كأنّهم خشب» لأن قوله: وهي قراءة تضعيف لها ولكنه يريد فيما يقال: «إن تدعون من دونه إلّا وثنا» فهذه قراءة شاذة تروى عن ابن عباس {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي لجبنهم وقلة يقينهم وإنهم يبطنون الكفر كلما نزل الوحي فزعوا أن يكونوا قد فضحوا. {هُمُ الْعَدُوُّ} لأن ألسنتهم معكم وقلوبهم مع الكفار فهم عين لهم وعدو بمعنى أعداء. {فَاحْذَرْهُمْ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ} أي عاقبهم فأهلكهم فصاروا بمنزلة من قتل. {أَنََّى يُؤْفَكُونَ} أي من أين يصرفون عن الحق بعد ظهور البراهين.
[سورة المنافقون (63): آية 5]
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ تَعََالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللََّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ تَعََالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللََّهِ} هذا على إعمال الفعل الثاني كما تقول:
أقبل يكلمك زيد فإن أعملت الأول قلت أقبل يكلمك إلى زيد، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله {لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ} يكون للقليل ولوّوا على التكثير. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} في موضع الحال. {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي معرضون عن المصير إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم.
[سورة المنافقون (63): آية 6]
{سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ (6)}
{سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ} رفع بالابتداء: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} في موضع الخبر، والمعنى الاستغفار وتركه. {لَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ} لأنهم كفار وإنّما استغفر لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن ظاهرهم الإسلام فمعنى استغفاره لهم اللهم اغفر لهم إن كانوا مؤمنين {إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} قيل: أي لا يوفّقهم، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب والجنّة.
[سورة المنافقون (63): آية 7]
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاََ تُنْفِقُوا عَلى ََ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ حَتََّى يَنْفَضُّوا وَلِلََّهِ خَزََائِنُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لاََ يَفْقَهُونَ (7)}
{يَنْفَضُّوا} أي يتفرقوا. قال قتادة: الذي قال هذا عبد الله بن أبيّ، قال: لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وخلّوا عنه. قال أبو الحسن علي بن سليمان: «هم» كناية عنهم وعن من قال بقوله. قال أبو جعفر: وهذا أحسن من قوله من قال «هم» كناية عن واحد. {وَلِلََّهِ خَزََائِنُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض فلا
يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته. {وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَفْقَهُونَ} أن ذلك كذا، فلهذا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضوا.(4/286)
{يَنْفَضُّوا} أي يتفرقوا. قال قتادة: الذي قال هذا عبد الله بن أبيّ، قال: لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وخلّوا عنه. قال أبو الحسن علي بن سليمان: «هم» كناية عنهم وعن من قال بقوله. قال أبو جعفر: وهذا أحسن من قوله من قال «هم» كناية عن واحد. {وَلِلََّهِ خَزََائِنُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض فلا
يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته. {وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَفْقَهُونَ} أن ذلك كذا، فلهذا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضوا.
[سورة المنافقون (63): آية 8]
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنََا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلََّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لاََ يَعْلَمُونَ (8)}
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنََا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} وحكى الكسائي والفرّاء (1)
أنه يقرأ لنخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ (2) بالنون وأن ذلك بمعنى لنخرجنّ الأعز منها ذليلا، وحكى الفرّاء: ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، بمعنى ذليلا أيضا وأكثر النحويين لا يجيز أن تكون الحال بالألف واللام غير أن يونس أجاز: مررت به المسكين، وحكى سيبويه (3): دخلوا الأوّل فالأوّل، وهي أشياء لا يجوز أن يحمل القرآن عليها إلّا أن علي بن سليمان قال: يجوز أن يكون «ليخرجنّ» تعمل عمل لتكونن فيكون خبره معرفة، والأعز والعزيز واحد أي القوي الأمين المنيع كما قال: [الطويل] 487 إذا ابتدر القوم السّلاح وجدتني ... عزيزا إذا بلّت بقائمة يدي (4)
ويروى «منيعا» والمعنى واحد. {وَلِلََّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَعْلَمُونَ} أي فكذلك قالوا هذا.
[سورة المنافقون (63): آية 9]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تُلْهِكُمْ أَمْوََالُكُمْ وَلاََ أَوْلاََدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللََّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ (9)}
أي لا توجب لكم اللهو كأنّه من ألهيته فلهي، كما قال: [الطويل] 488 ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول (5)
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ} أي المغبونون الرحمة والثواب.
[سورة المنافقون (63): آية 10]
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مََا رَزَقْنََاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاََ أَخَّرْتَنِي إِلى ََ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصََّالِحِينَ (10)}
{وَأَنْفِقُوا مِنْ مََا رَزَقْنََاكُمْ} قيل: دلّ بهذا على أنه لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلّا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 160.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 270.
(3) انظر الكتاب 1/ 466.
(4) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 38، وكتاب العين 8/ 319، وتاج العروس (بلل) وأساس البلاغة (بلل).
(5) مرّ الشاهد رقم (385).(4/287)
الحلال {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلََا أَخَّرْتَنِي إِلى ََ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} جواب {وَأَكُنْ مِنَ الصََّالِحِينَ} عطف على موضع الفاء لا على ما بعد الفاء، وقرأ الحسن وابن محيصن وأبو عمرو وأكون (1) بالنصب عطفا على ما بعد الفاء وقد حكي أنّ ذلك في قراءة أبيّ وابن مسعود كذا وأكون إلّا أنه مخالف للسواد الذي قامت به الحجّة، وقد احتج بعضهم فقال: الواو تحذف من مثل هذا كما يقال: «كلمن» فتكتب بغير واو.
وحكي عن محمد بن يزيد معارضة هذا القول بأن الدليل على أنه ليس بصحيح أنّ كتب المصحف في نظيره على غير ذلك نحو يكون وتكون ونكون كلها بالواو في موضع الرفع والنصب ولا يجوز غير ذلك، وقال غيره: حكم «كلمن» غير هذا لأنه إنما حذف منه الواو لأنهم إنما أرادوا أن يروا أن صورة الواو متصلة فلما تقدّمت في «هوّز» لم تحتج إلى إعادتها وكذلك لم يكتبوها في قولهم «أبجد» فأما في الكلام فلا يجوز من هذا شيء، ولا يحتاج إليه لأن العطف على الموضع موجود في كلام العرب كثير. قال سيبويه: لو لم تكن الفاء لكان مجزوما يعني لأنه جواب الاستفهام الذي فيه معنى التمني، كما قال أنشد غير سيبويه: [الوافر] 489 فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا (2)
وأنشد سيبويه في العطف على الموضع: [الطويل] 490 فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل (3)
لأن معنى من دون عدنان دون عدنان، وأنشد: [الوافر] 491 معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا (4)
__________
(1) انظر تيسير الداني 171، والبحر المحيط 8/ 270.
(2) الشاهد لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه 350، والخصائص 1/ 176، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 701، وشرح شواهد المغني 2/ 839، وللهذليّ في مغني اللبيب 2/ 477، وبلا نسبة في لسان العرب (علل)، ومغني اللبيب 2/ 423.
(3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 255، والكتاب 1/ 114، وأمالي المرتضى 1/ 171، وخزانة الأدب 2/ 252، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وشرح أبيات سيبويه 1/ 22، وشرح شواهد المغني 1/ 151، والمعاني الكبير (1211)، والمقاصد النحوية 1/ 8، والمقتضب 4/ 152، وبلا نسبة في رصف المباني ص 82، وشرح التصريح 1/ 288، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمحتسب 2/ 43، ومغني اللبيب 2/ 472.
(4) الشاهد لعقبة أو لعقيبة الأسدي في الكتاب 1/ 113، والإنصاف 1/ 332، وخزانة الأدب 2/ 260، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وسمط اللآلي ص 148، وشرح أبيات سيبويه 300، وشرح شواهد المغني 2/ 870، ولسان العرب (غمز)، ولعمر بن أبي ربيعة في الأزمنة والأمكنة 2/ 317، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 313، وأمالي ابن الحاجب ص 160، ورصف المباني 122.(4/288)
وكذا قوله: [الكامل] 492 لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (1)
وكذا قوله: [السريع] 493 لا نسب اليوم ولا خلّة ... اتّسع الخرق على الرّاقع (2)
على الموضع وإن جئت به على اللفظ قلت ولا خلّة ومثله من القرآن {مَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلََا هََادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] على موضع الفاء وبالرفع على ما بعد الفاء، وأصل فأصّدّق فأتصدق أدغمت التاء في الصاد، وحسن ذلك لأنهما في كلمة واحدة ولتقاربهما، وروى الضحّاك عن ابن عباس «فأصّدّق» وأزكّي {وَأَكُنْ مِنَ الصََّالِحِينَ} أحجّ، وقال غيره: أكن من الصالحين أؤدي الفرائض وأجتنب المحارم، والتقدير: وأكن صالحا من الصالحين.
[سورة المنافقون (63): آية 11]
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللََّهُ نَفْساً إِذََا جََاءَ أَجَلُهََا وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ (11)}
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللََّهُ نَفْساً إِذََا جََاءَ أَجَلُهََا} نصب بلن عند سيبويه وعند الخليل الأصل «لا أن» وحكي عنه لا ينتصب فعل إلّا بأن مضمرة أو مظهرة، وردّ سيبويه ذلك بأنه يجوز:
زيدا لن أضرب، ولا يجوز: زيدا يعجبني أن تضرب، لأنه داخل في الصلة فلا يتقدّم.
قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: لا يجوز عندي: زيدا لن أضرب لأن «لن» لا يتصرّف فلا يتقدم عليها ما كان من سبب ما عملت فيه كما لا يجوز: زيدا إنّ عمرا يضرب، وكذا «لم» عنده، وحكيت هذا لأبي إسحاق فأنكره وقال: لم يقل هذا أحد، وزعم أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بلن وهذا لا يعرف. {يُؤَخِّرَ} مهموز لأن أصله من أخّر وتكتب الهمزة واوا وإن كانت مفتوحة لعلتين إحداهما أن قبلها ضمة والضمة أغلب لقوتها، والأخرى أنه لا يجوز أن تكتب ألفا لأن الألف لا ينون قبلها إلا مفتوحا، ومن خفّف الهمزة قلبها واوا فقال: يؤخّر، فإن قيل: لم لا تجعل بين بين؟
فالجواب أنها لو جعلت بين بين نحي بها نحو الألف فكان ذلك خطأ لأن الألف لا
__________
(1) الشاهد لرجل من بني مذحج في الكتاب 2/ 302، ولضمرة بن جابر في خزانة الأدب 2/ 38، وهو لرجل من مذحج أو لضمرة بن ضمرة أو لهمام أخي جساس ابني مرّة في تخليص الشواهد 405، وهو لهنيّ بن أحمر أو لزرافة الباهلي في لسان العرب (حيس)، ولابن أحمر في المؤتلف والمختلف ص 38، والمقاصد النحوية 2/ 339، ولهمام بن مرّة في الحماسة الشجرية 1/ 256، وبلا نسبة في جواهر الأدب 241، والأشباه والنظائر 4/ 162، وأمالي ابن الحاجب 593، وأوضح المسالك 2/ 16، وصدره:
«هذا لعمركم الصّغار بعينه»
(2) مرّ الشاهد رقم (40).(4/289)
يكون ما قبلها إلا مفتوحا {إِذََا جََاءَ أَجَلُهََا} على تحقيق الهمزتين، فإن شئت خفّفت، وأبو عمرو يحذف للدلالة لما كانت حركتهما واحدة وكانت الهمزة مستقلة. {وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} أي ذو خبرة بعملكم، فهو يحصيه عليكم وليجازيكم عليه. وهذا ترتيب الكلام أن يكون الخافض والمخفوض طرفا لأنهما تبيين فإن تقدم من ذلك شيء فهو ينوى به التأخير ولهذا أجمع النحويون أنه لا يجوز: لبست ألينها من الثياب لأن الخافض والمخفوض متأخران في موضعهما فلا يجوز أن ينوى بهما التقديم، وتصحيح المسألة لبس من الثياب ألينها، فإن قدرت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة أي خبير بما تعملونه. حذفت لطول الاسم، وإن قدّرت «ما» بمعنى المصدر لم تحتج إلى حذف أي والله ذو خبرة بعملكم.(4/290)
64 - شرح إعراب سورة التغابن
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة التغابن (64): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
{يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} يكون هذا تمام الكلام، وقد يكون متصلا ويكون له ما في السموات، ويكون {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} في موضع الحال أي سلطانه وأمره وقضاؤه نافذ فيهما. {وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ذو قدرة على ما يشاء يخلق ما يشاء ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ لا يعجزه شيء لأنه ذو القدرة التامة.
[سورة التغابن (64): آية 2]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} إن شئت أدغمت القاف في الكاف {فَمِنْكُمْ كََافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} أي مصدّق يوقن أنه خالقه وإلهه لا إله له غيره {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم بأعمالكم فلا تخالفوا أمره ونهيه فيسطو بكم.
[سورة التغابن (64): آية 3]
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} أي بالعدل والإنصاف. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وعن أبي رزين {صَوَّرَكُمْ} شبّه فعلة بفعلة كما أنّ فعلة تشبه بفعلة قالوا: كسوة وكسى ورشوة ورشى ولحية ولحى أكثر، وقالوا: قوّة وقوى. قال أبو جعفر وهذا لمجانسة الضمة الكسرة {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي مصير جميعكم فيجازيكم على أفعالكم.
[سورة التغابن (64): آية 4]
{يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (4)}
{يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} ويجوز إدغام الميم في الميم، وكذا {وَيَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ} والمعنى: ويعلم ما تسرّونه وما تعلنونه بينكم من قول وفعل {وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بضمائر صدوركم وما تنطوي عليه نفوسكم الذي هو أخفى من السرّ.(4/291)
[سورة التغابن (64): آية 5]
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذََاقُوا وَبََالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (5)}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} الأصل يأتيكم حذفت الياء للجزم، ومن قال: ألم يأتيك الأصل عنده يأتيك فحذفت الضمة للجزم إلّا أن اللغة الفصيحة الأولى. قال سيبويه: واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم. قال أبو جعفر:
وسمعت أبا إسحاق يقول: قرأنا على محمد بن يزيد واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع والجر حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع والجر {فَذََاقُوا وَبََالَ أَمْرِهِمْ} أي مستهم العقوبة بكفرهم {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرة.
[سورة التغابن (64): آية 6]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُ كََانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَقََالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنََا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللََّهُ وَاللََّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}
{ذََلِكَ بِأَنَّهُ} الهاء كناية عن الحديث وما بعده مفسّر له خبر عن أنّ {كََانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ} أي بالحجج والبراهين {فَقََالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنََا} فقال: يهدوننا، ولفظ بشر واحد. تكلّم النحويون في نظير هذا فقال بعضهم: يهدوننا على المعنى ويهدينا على اللفظ، وقال المازني: وذكر عللا في مسائل في النحو منها أن النحويين أجازوا أن يقال: جاءني ثلاثة نفر، وثلاثة رهط، وهما اسمان للجميع ولم يجيزوا جاءني ثلاثة قوم ولا ثلاثة بشر، وهما عند بعض النحويين اسمان للجميع فقال المازني: إنما جاز جاءني ثلاثة نفر وثلاثة رهط لأن نفرا ورهطا لأقل العدد فوقع في موقعه. وبشر للعدد الكثير وقوم للقليل والكثير، فلذلك لم يجز فيهما هذا وخالفه محمد بن يزيد في اعتلاله في بشر ووافقه في غير فقال: بشر يكون للواحد والجميع. قال الله جلّ وعزّ:
{مََا هََذََا بَشَراً} [يوسف: 31] قال: فلذلك لم يجز جاءني ثلاثة بشر {فَكَفَرُوا} أي جحدوا أنبياء الله جلّ وعزّ وآياته {وَتَوَلَّوْا} أي أدبروا عن الإيمان {وَاسْتَغْنَى اللََّهُ} عن إيمانهم {وَاللََّهُ غَنِيٌّ} عن جميع خلقه {حَمِيدٌ} أي محمود عندهم بما يعرفونه من نعمه وتفضّله.
[سورة التغابن (64): آية 7]
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمََا عَمِلْتُمْ وَذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ (7)}
{أَنْ} وما بعدها تقوم مقام مفعولين {قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} من قبوركم {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمََا عَمِلْتُمْ} أي تخبرون به وتحاسبون عليه {وَذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ} أي سهل لأنه لا يعجزه شيء.
[سورة التغابن (64): آية 8]
{فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنََا وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}
{فَآمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنََا} أي القرآن. {وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} مبتدأ وخبره.(4/292)
[سورة التغابن (64): آية 9]
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذََلِكَ يَوْمُ التَّغََابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} العامل في يوم لتنبّؤنّ والضمير الذي في يجمعكم يعود على اسم الله، ولا يجوز أن يعود على اليوم لو قلت: جئت يوم يوافقك، لم يجز، لا يضاف اليوم إلى فعل يعود عليه منه ضمير لعلّة ليس هذا موضع ذكرها {ذََلِكَ يَوْمُ التَّغََابُنِ} مبتدأ وخبره، ويجوز في غير القرآن نصب يوم على الظرف {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً} معطوف، ويجوز رفع ويعمل على أنه في موضع الحال {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ} أي نمحو عنه سيّئاته {وَيُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا} نصب على الحال {أَبَداً} على الظرف {ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مبتدأ وخبره والفوز النجاء.
[سورة التغابن (64): آية 10]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ خََالِدِينَ فِيهََا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} أي بدلائلنا وحججنا وأي كتابنا {وَالَّذِينَ} رفع بالابتداء {أُولََئِكَ} مبتدأ ثان {أَصْحََابُ النََّارِ} خبر الثاني والجملة خبر الذين {خََالِدِينَ فِيهََا} على الحال {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} رفع ببئس المصير مصيرهم إلى النار.
[سورة التغابن (64): آية 11]
{مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}
{مََا أَصََابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} ما هاهنا نفي لا موضع له من الإعراب {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقراءة عكرمة {يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) بفتح الدال ورفع قلبه على أن الأصل فيه يهدى قلبه أي يسكّن فأبدل من الهمزة ألفا ثمّ حذفها للجزم، كما قال: [الطويل] 494 سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم (2)
{وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بما كان وبما هو كائن.
[سورة التغابن (64): آية 12]
{وَأَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمََا عَلى ََ رَسُولِنَا الْبَلاََغُ الْمُبِينُ (12)}
{وَأَطِيعُوا اللََّهَ} أي فيما أمركم به ونهاكم عنه {الرَّسُولَ} عطف {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي أدبرتم واستكبرتم عن طاعته وعصيتموه {فَإِنَّمََا عَلى ََ رَسُولِنَا الْبَلََاغُ الْمُبِينُ} أي أن يبلّغ والمحاسبة والعقوبة إلى الله جلّ وعزّ.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 275.
(2) مرّ الشاهد رقم (16).(4/293)
[سورة التغابن (64): آية 13]
{اللََّهُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}
{اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} أي لا تصلح الألوهية إلّا له {وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر، والأصل كسر اللام.
[سورة التغابن (64): آية 14]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ وَأَوْلاََدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
{عَدُوًّا} اسم «إنّ» وعدوّ يكون بمعنى أعداء. قيل: أي يأمرونكم بالمعاصي وينهونكم عن الطاعة، وهذا أشد العداوة. {فَاحْذَرُوهُمْ} أي أن تقبلوا منهم {وَإِنْ تَعْفُوا} حذفت النون للجزم {وَتَصْفَحُوا} عطف عليه، وكذا {وَتَغْفِرُوا} أي إن تعفوا عما سلف منهم، وتصفحوا عن عقوبتهم وتغفروا ذنوبهم من غير ذلك. {فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لمن تاب رحيم أي يعذبه بعد التوبة.
[سورة التغابن (64): آية 15]
{إِنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلاََدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللََّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)}
{إِنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ} قال قتادة: أي بلاء، روى ابن زيد عن أبيه قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب فرأى الحسن والحسين يعبران فنزل من على المنبر وضمّهما إليه وتلا {إِنَّمََا أَمْوََالُكُمْ وَأَوْلََادُكُمْ فِتْنَةٌ} قال قتادة: {وَاللََّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي الجنة.
[سورة التغابن (64): آية 16]
{فَاتَّقُوا اللََّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}
{فَاتَّقُوا اللََّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} «ما» في موضع نصب أي فاتقوا الله قدر ما استطعتم أي قدر استطاعتكم مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقول قتادة إنّ هذه الآية ناسخة لقوله جلّ وعزّ: {اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ} [ال عمران: 102] قول لا يصحّ، ولا يقع الناسخ والمنسوخ إلا بالتوقيف أو إقامة الحجة القاطعة، والآيتان متفقتان لأن الله جلّ وعزّ لا يكلف ما لا يستطاع. فمعنى اتقوا الله حقّ تقاته هو فيما استطعتم. {وَاسْمَعُوا} أي ما تؤمرون به {وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} في نصب «خيرا» أربعة أقوال: مذهب سيبويه أن المعنى وأتوا خيرا لأنفسكم، وقيل: المعنى يكن خيرا لأنفسكم والقول الثالث إنفاقا خيرا لأنفسكم، والقول الرابع أن تنصب خيرا بأنفقوا ويكون الخير المال {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} وحكى الفراء أنه قرئ ومن يوق شح نفسه (1) بكسر الشين، وهي شاذة.
{فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الذين ظفروا بما طلبوا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 160، والبحر المحيط 8/ 276.(4/294)
[سورة التغابن (64): آية 17]
{إِنْ تُقْرِضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضََاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللََّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)}
{إِنْ تُقْرِضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً} أي بإنفاقكم في سبيله {يُضََاعِفْهُ لَكُمْ} مجازاة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} عطف، ويجوز رفعه بقطعه من الأول ونصبه على الصرف {وَاللََّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} أي يشكر من أنفق في سبيله، ومعنى شكره إياه إثابته له وقبوله عمله {حَلِيمٌ} في ترك العقوبة في الدنيا.
[سورة التغابن (64): آية 18]
{عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
يجوز أن يكون {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هو نعت اسم الله جلّ وعزّ، ويكون عالم الغيب خبرا ثانيا أو نعتا إن كان بمعنى المضيّ لأنه يكون معرفة، ويجوز أن يكون كلّه بدلا لأن المعرفة تبدل من النكرة.(4/295)
65 - شرح إعراب سورة الطلاق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الطلاق (65): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللََّهَ رَبَّكُمْ لاََ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاََ يَخْرُجْنَ إِلاََّ أَنْ يَأْتِينَ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاََ تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً (1)}
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ} نعت لأيّ فإن همزته فهو مشتقّ من أنبأ أي أخبر، وإن لم تهمز جاز أن يكون من أنبأ وخفّفت الهمزة وفيه شيء لطيف من العربية وذلك أن سبيل الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن أن تلقى حركتها على ما قبلها، ولا يجوز ذلك هاهنا. والعلّة فيه أن هذه الياء لا تتحرك بحال فلما لم يجز تحريكها قيل: نبيّ وخطيّة ولو كان على القياس لقيل خطيّة وإن جعلته من نبا ينبو لم يهمز وكانت الياء الأخيرة منقلبة من واو. {إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} أي إذا أردتم ذلك وهو مجاز. فأما القول في {إِذََا طَلَّقْتُمُ} وقبله {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ} فقد ذكرنا فيه أقوالا، وقد قيل: هو مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمخاطبة الجميع على الإجلال له كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم، والمعنى: إذا طلقتم النساء اللاتي دخلتم بهن. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فبين الله جلّ وعزّ هذا على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بأنه الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} قال السدي: أي احفظوها. {وَاتَّقُوا اللََّهَ رَبَّكُمْ} أي لا تتجاوزوا ما أمركم به {لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلََا يَخْرُجْنَ} ثم استثنى {إِلََّا أَنْ يَأْتِينَ بِفََاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} «أن» في موضع نصب واختلف العلماء في هذه الفاحشة ما هي؟ فمن أجمع ما قيل في ذلك أنها معصية الله جلّ وعزّ، فهذا يدخل فيه كل قول لأنها إن زنت أو سرقت فأخرجت لإقامة الحدّ فهو داخل في هذا، وكذلك إن بذؤت أو نشزت. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ} أي الأشياء التي حدّها من الطّلاق والعدّة وألّا تخرج الزوجة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللََّهِ} حذفت الألف للجزم {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} قيل: أي منعها مما كان أبيح له. لأنه إذا طلّقها ثلاثا على أي حال كان لم يحلّ له أن يرتجعها حتّى تنكح زوجا غيره فقد ظلم نفسه بهذا الفعل {لََا تَدْرِي لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} أكثر أهل التفسير على أن المعنى إنه إذا طلّقها واحدة كان أصلح له {لَعَلَّ اللََّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذََلِكَ أَمْراً} من محبّته لها.(4/296)
[سورة الطلاق (65): آية 2]
{فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهََادَةَ لِلََّهِ ذََلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)}
{فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي بما يجب لهن عليكم من النفقة وترك البذاء وغير ذلك {أَوْ فََارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بدفع صداقهنّ إليهن وما يجب لهن {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أكثر أهل التفسير على أن هذا في الرجعة، وعن ابن عباس يشهد على الطلاق والرجعة إلّا أنه إن لم يشهد لم يكن عليه شيء {وَأَقِيمُوا الشَّهََادَةَ لِلََّهِ} أي اشهدوا بالحقّ إذا شهدتم وإذا أديتم الشهادة كما قال السدّي ذلك في الحق.
{ذََلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} «ذلكم» مخاطبة لجميع وإخبار عن واحد لأن أخر الكلام لمن تخاطبه وأوله لمن تخبر عنه أو تسأل {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} أهل التفسير على أن المعنى أنه إن اتّقى الله جلّ وعزّ وطلّق واحدة فله مخرج إن أراد أن يتزوّج تزوّج وإن لم يتّق الله جلّ وعزّ وطلّق ثلاثا فلا مخرج له: وهذا قول صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس بالأسانيد التي لا تدفع. روى ابن عليّة عن أيّوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني طلّقت امرأتي ثلاثا فأطرق ابن عباس مليّا ثمّ رفع رأسه إلى الرجل فقال:
يأتي أحدكم الحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس طلّقت ثلاثا فحرمت عليك حتّى تنكح زوجا غيرك، ولم يجعل الله لك مخرجا ولو اتقيته لجعل لكم مخرجا ثمّ تلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا تدفع صحته أنه قال رضي الله عنه في الحرام: إنه ثلاث لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.
[سورة الطلاق (65): آية 3]
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاََ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللََّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)}
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ} قال قتادة: من حيث يرجو ولا يأمل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه. وأحسبني الشيء كفاني. وهذا تمام الكلام ثمّ قال: {إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ} قال مسروق: أي بالغ أمره توكّل عليه أم لم يتوكّل أي منفذ قضاؤه. قال هارون القارئ: في عصمة يقرأ (1) {إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ} وهذا على حذف التنوين تخفيفا، وأجاز الفراء {إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ} (2) بالرفع بفعله بالغ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره في موضع خبر «إنّ» {قَدْ جَعَلَ اللََّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي للطلاق والعدّة منتهى ينتهي إليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 172 (قرأ حفص «بالغ» بغير تنوين و «أمره» بالخفض والباقون بالتنوين ونصب «أمره»).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 163.(4/297)
[سورة الطلاق (65): آية 4]
{وَاللاََّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاََثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاََّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاََتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)}
{اللََّائِي} في موضع رفع بالابتداء فمن جعل إن ارتبتم متعلقا بقوله: {لََا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} فخبر الابتداء عنده {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلََاثَةُ أَشْهُرٍ} ومن جعل التقدير على ما روي أن أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله الصغار والكبار اللائي يئسن من المحيض {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ} لم يذكر عدتهن في القرآن، فأنزل الله جلّ وعزّ: {وَاللََّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسََائِكُمْ} الآية قال: خبر الابتداء «إن ارتبتم» وما بعده، ويكون المعنى إن لم تعلموا وارتبتم في عدّتهن فحكمهن هذا. وأما قول عكرمة في معنى «إن ارتبتم» انه إن ارتبتم في الدم فلم تدروا أهو دم حيض أم استحاضة؟ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلََاثَةُ أَشْهُرٍ} يقول: قد رد من غير جهة، وذلك أنه لو كان الارتياب بالدم لقيل: إن ارتبتنّ لأن الارتياب بالدم للنساء، وأيضا فإن اليأس في العربية انقطاع الرجاء، والارتياب وجود الرجاء فمحال أن يجتمعا {وَاللََّائِي لَمْ يَحِضْنَ} معطوف على الأول وتم الكلام ثمّ قال: {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. قال أبو جعفر: في هذا قولان: أحدهما أنه لكل حامل مطلقة مدخول بها أو متوفى عنها زوجها إذا ولدت فقد حلّت وهذا قول أبيّ بن كعب بن مسعود، والقول الثاني أنّ هذا للمطلقات فقط وأنّ المتوفى عنها زوجها إذا ولدت قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشر لم تحلل حتّى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وكذا إن انقضت أربعة أشهر ولم تلد لم تحلل حتّى تلد. وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهما، والقول الأول أولى بظاهر الكلام: لأنه قال جلّ وعزّ: {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ} على العموم فلا يقع خصوص إلّا بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم {أُولََاتُ الْأَحْمََالِ} رفع بالابتداء {أَجَلُهُنَّ} مبتدأ ثان {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خبر الثاني والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون أجلهن بدلا من أولات والخبر «أن يضعن حملهنّ» {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أهل التفسير على أن المعنى من يتّق الله إذا أراد الطلاق فيطلق واحدة كما حدّ له {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} بأن يحلّ له التزوج لا كمن طلق ثلاثا.
[سورة الطلاق (65): آية 5]
{ذََلِكَ أَمْرُ اللََّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)}
{ذََلِكَ} أي ذلك المذكور من أمر الطلاق والحيض والعدد {أَمْرُ اللََّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لتأتمروا به {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ} أي يخفه بأداء فرائضه واجتناب محارمه {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ} أي يمح عن ذنوبه {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي يجزل له الثواب. قال أبو جعفر ولا نعلم أحدا قرأ إلا هكذا على خلاف قول: عظّم الله أجرك.
[سورة الطلاق (65): آية 6](4/298)
[سورة الطلاق (65): آية 6]
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاََ تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاََتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ (6)}
{أَسْكِنُوهُنَّ} قيل: هذا الضمير يعود على النساء جمع المدخول بهنّ وقيل على المطلقات أقل من ثلاث وإن المطلقات ثلاثا لا سكن لهن ولا نفقة. وبذلك صحّ الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويستدل على ذلك أيضا بقوله {وَإِنْ كُنَّ أُولََاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتََّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فخص الحوامل وحدهن، وأيضا فإنهن إذا طلّقن ثلاثا فهن أجنبيّات {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} شرط ومجازاة. {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} قال سفيان: أي ليحثّ بعضكم بعضا {وَإِنْ تَعََاسَرْتُمْ} قال السّدي: أي إن قالت المطلقة لا أرضعه لم تكره قال تعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ََ}.
[سورة الطلاق (65): آية 7]
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ لاََ يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلاََّ مََا آتََاهََا سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)}
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} جاءت لام الأمر مكسورة على بابها وسكنت في {فَلْيُنْفِقْ} لاتصالها بالفاء ويجوز كسرها أيضا فأجاز الفراء (1) ومن قدر (2) عليه رزقه فلينفق ممّا آتيه الله أي على قدر ما رزقه الله من التضييق وقد روي عن ابن عباس {فَلْيُنْفِقْ مِمََّا آتََاهُ اللََّهُ} إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه وأنفقه. {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا مََا آتََاهََا} قال السدي: لا يكلّف الله الفقير نفقة الغني، وقال ابن زيد: لا يكلّف الفقير أن يزكّي ويصدّق {سَيَجْعَلُ اللََّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي إمّا في الدنيا وإما في الآخرة ليرغب المؤمنون في فعل الخير.
[سورة الطلاق (65): آية 8]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهََا وَرُسُلِهِ فَحََاسَبْنََاهََا حِسََاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنََاهََا عَذََاباً نُكْراً (8)}
أي مخفوض بالكاف، وصارت كأيّ بمعنى كم للتكثير، والمعنى: وكم من أهل قرية عتوا عن أمر ربهم ثمّ أقيم المضاف إليه مقام المضاف. وقال ابن زيد: عتوا هاهنا عصوا كفروا. والعتو في اللغة التجاوز في المخالفة والعصيان. وقد روى عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان في قوله جلّ وعزّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهََا} الآية قال: هؤلاء قوم عذّبوا في الطلاق {فَحََاسَبْنََاهََا} أي بالنعم والشكر. {حِسََاباً} مصدر. {شَدِيداً} من نعته. قال ابن زيد: الحساب الشديد: الذي ليس فيه من العفو شيء {وَعَذَّبْنََاهََا عَذََاباً نُكْراً} أي ليس بمعتاد. قال الفراء (3): فيه للتقديم والتأخير أي عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 164.
(2) انظر البحر المحيط 2/ 282 (قرأ الجمهور «قدر» مخفّفا وابن أبي عبلة مشدّد الدال).
(3) انظر معاني الفراء 3/ 164.(4/299)
[سورة الطلاق (65): آية 9]
{فَذََاقَتْ وَبََالَ أَمْرِهََا وَكََانَ عََاقِبَةُ أَمْرِهََا خُسْراً (9)}
{فَذََاقَتْ وَبََالَ أَمْرِهََا} قال السدّي: أي عقوبة أمرها. وأمرها الكفر والعصيان {وَكََانَ عََاقِبَةُ أَمْرِهََا خُسْراً} أي غبنا لأنهم باعوا نعيم الآخرة بحظّ خسيس من الدنيا باتباع أهوائهم.
[سورة الطلاق (65): آية 10]
{أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللََّهَ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)}
{أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} وهو عذاب النار. {فَاتَّقُوا اللََّهَ يََا أُولِي الْأَلْبََابِ} نداء مضاف و {الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب على النعت لأولي الألباب. {قَدْ أَنْزَلَ اللََّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} قال السدي: الذكر القرآن والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتقدير في العربية على هذا ذكرا ذا رسول ثمّ حذف مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، ويجوز أن يكون رسول بمعنى رسالة مثل {أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] فيكون رسولا بدلا من ذكر، ويجوز أن يكون التقدير أرسلنا رسولا فدلّ على الضمر ما تقدّم من الكلام، ويجوز في غير القرآن رفع رسول لأن قوله «ذكرا» رأس آية، والاستئناف بعد مثل هذا أحسن، كما قال جلّ وعزّ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 17، 18] وكذا. {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 11] فلمّا كملت الآية قال جلّ وعزّ: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ} [التوبة: 111، 112]، وكذا {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ} [البروج: 16].
[سورة الطلاق (65): آية 11]
{رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيََاتِ اللََّهِ مُبَيِّنََاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللََّهُ لَهُ رِزْقاً (11)}
{يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيََاتِ اللََّهِ مُبَيِّنََاتٍ} نعت لرسول. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} أي من الكفر إلى الإيمان {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ} جزم بالشرط {وَيَعْمَلْ} عطف عليه، ويجوز رفعه على أن يكون في موضع الحال. {صََالِحاً} أي بطاعة الله جلّ وعزّ:
{يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} مجازاة. {خََالِدِينَ فِيهََا} على الحال {أَبَداً} ظرف زمان {قَدْ أَحْسَنَ اللََّهُ لَهُ رِزْقاً} أي وسع عليه في المطعم والمشرب.
[سورة الطلاق (65): آية 12]
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللََّهَ قَدْ أَحََاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)}
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ} يكون اسم الله تعالى بدلا أو على إضمار مبتدأ والذي نعت، ويجوز أن يكون «الله خلق سبع سموات» مبتدأ وخبره {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} عطف، وحكى أبو حاتم أن عاصما قرأ {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (1) قطعه من الأول ورفع
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 283، ومختصر ابن خالويه 158.(4/300)
بالابتداء. {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قيل: الضمير يعود على السموات. والأكثر في كلام العرب أن ما كان بالهاء والنون فهو للعدد القليل، فعلى هذا يكون الضمير يعود على السموات. وعلى قول مجاهد يعود على السّموات والأرض. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تكون لام كي متعلقة بيتنزّل ويجوز أن تكون متعلقة بخلق أي خلق السموات والأرض لتعلموا كنه قدرته وسلطانه، وإنه لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه. {وَأَنَّ اللََّهَ قَدْ أَحََاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} أي ولتعلموا مع علمكم بقدرته أنه يعلم جميع ما يفعله خلقه فاحذروا أيّها المخالفون أمره وسطوته لقدرته عليكم وأنه عالم بما تفعلون، وجاز إظهار الاسم ولم يقل: وأنه وقال: وأن الله أفخم، وعلى هذا يتأوّل قول الشاعر: [الخفيف] 495 لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (1)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (70).(4/301)
66 - شرح إعراب سورة التحريم
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة التحريم (66): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضََاتَ أَزْوََاجِكَ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكَ} هذه «ما» دخلت عليها اللام فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر وأنها قد اتصلت باللام. والوقوف عليها في غير القرآن: لمه ويؤتى بالهاء لبيان الحركة وفي القرآن لا يوقف عليها. واختلفوا في الذي حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال: حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم إبراهيم، وقال: والله لا أمسّك. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول إنما وقعت الكفّارة لليمين لا لقوله: أنت عليّ حرام، وكذا قال مسروق والشّعبي، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من قال في شيء حلال: هو عليّ حرام فعليه كفّارة يمين، وكذا قال قتادة وقال مسروق: إذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام فلا شيء عليه من الكفارة ولا الطلاق لأنه كاذب في هذا، وقيل: عليه كفّارة يمين، وتأول صاحب هذا القول الآية وقيل:
هي طالق ثلاثا، إذا كانت مدخولا بها وواحدة إذا لم يدخل بها، وقيل: هي واحدة بائنة وقيل: واحدة غير بائنة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما كان حرّم على نفسه عسلا. وروى داود بن أبي هند عن الشّعبي عن مسروق عن عائشة قالت: حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والى فعوتب في التحريم وعاتب في الإيلاء. قال أبو جعفر: ولا يعرف في لغة من اللغات أن يقال فيمن جعل الحلال حراما: حالف {تَبْتَغِي} في موضع نصب على الحال. {مَرْضََاتَ أَزْوََاجِكَ} هذه تاء التأنيث ولو كانت تاء جمع لكسرت {وَاللََّهُ غَفُورٌ} أي لخلقه وقد غفر لك {رَحِيمٌ} لا يعذب من تاب.
[سورة التحريم (66): آية 2]
{قَدْ فَرَضَ اللََّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمََانِكُمْ وَاللََّهُ مَوْلاََكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}
{قَدْ فَرَضَ اللََّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمََانِكُمْ} أي بيّنها. {وَاللََّهُ مَوْلََاكُمْ} مبتدأ وخبره أي يتولاكم بنصره {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده {الْحَكِيمُ} في تدبيره.(4/302)
[سورة التحريم (66): آية 3]
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى ََ بَعْضِ أَزْوََاجِهِ حَدِيثاً فَلَمََّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللََّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمََّا نَبَّأَهََا بِهِ قََالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هََذََا قََالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}
{فَلَمََّا نَبَّأَتْ بِهِ} وحذف المفعول أي نبّأت به صاحبتها، وهما عائشة وحفصة لا اختلاف في ذلك، واختلفوا في الذي أسرّه إليها فقيل: هو الذي خبّرها به من شربه العسل عند بعض أزواجه، وقيل: هو ما كان بينه وبين أم إبراهيم، وقيل: هو إخباره إياها بأن أبا بكر الخليفة بعده وقد ذكرناه بإسناده. {فَلَمََّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللََّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} وحذف المفعول أيضا عرّفها بعضه فقال: قد عرفت كذا بالوحي {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} فلم يذكره تكرّما واستحياء، وقراءة الكسائي عرف بعضه (1) وردّها أبو عبيد ردا شنيعا، قال: لو كان كذا لكان عرف بعضه وأنكر بعضا. قال أبو جعفر:
وهذا الردّ لا يلزم، والقراءة معروفة عن جماعة منهم أبو عبد الرحمن السلمي. وقد بيّنّا صحّتها. {فَلَمََّا نَبَّأَهََا بِهِ قََالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هََذََا} نبّأ وأنبأ بمعنى واحد فجاء باللغتين جميعا وبعده {قََالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}.
[سورة التحريم (66): آية 3]
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى ََ بَعْضِ أَزْوََاجِهِ حَدِيثاً فَلَمََّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللََّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمََّا نَبَّأَهََا بِهِ قََالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هََذََا قََالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}
{إِنْ تَتُوبََا إِلَى اللََّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا} أي مالت إلى محبة ما كرهه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من تحريمه ما أحلّ له. {وَإِنْ تَظََاهَرََا عَلَيْهِ} والأصل تتظاهرا أدغمت التاء في الظاء، وقرأ الكوفيون تظاهرا (2) بحذف التاء، {فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ} أي وليه بالنصرة. {وَجِبْرِيلُ وَصََالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} واختلفوا في صالح المؤمنين فمن أصحّ ما قيل فيه: إنه لكل صالح من المؤمنين، ولا يخصّ به واحد إلّا بتوقيف، وقد روي أنه يراد به عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو كان الداخل في هذه القصة المتكلّم فيها، ونزل القرآن ببعض ما قاله في هذه القصة، وقيل: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرنا ذلك بإسناده. ومذهب الفرّاء القول الذي بدأنا به قبله واحد يدلّ على جميع، وكذا {وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} يكون ظهير يؤدّي عن الجمع وقد ذكرنا فيه غير هذا.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 640، وتيسير الداني 172 («عرف» قرأ الكسائي بتخفيف الراء والباقون بتشديدها).
(2) انظر تيسير الداني 172.(4/303)
[سورة التحريم (66): آية 5]
{عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ عََابِدََاتٍ سََائِحََاتٍ ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً (5)}
{إِنْ} في موضع نصب بعسى، والشرط معترض، وقراءة الكوفيين أن يبدله (1)
أزواجا خيرا منكنّ وقيل: خيرا منكن إنهن لو دمن على الذي كان حتّى يحوجنه إلى طلاقهنّ لأبدل خيرا منهن. {مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ عََابِدََاتٍ سََائِحََاتٍ ثَيِّبََاتٍ} كله نعت لأزواج. والواحدة زوج ولغة شاذة زوجة. {وَأَبْكََاراً} عطف داخل في النعت أيضا.
[سورة التحريم (66): آية 6]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نََاراً وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ عَلَيْهََا مَلاََئِكَةٌ غِلاََظٌ شِدََادٌ لاََ يَعْصُونَ اللََّهَ مََا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مََا يُؤْمَرُونَ (6)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نََاراً} الفعل من هذا وقى يقي عند جميع النحويين والأصل عندهم وقى يوقي ثم اختلفوا في العلّة لحذف الواو، فقال البصريون: حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وهي ساكنة ولم تحذف في يؤجل، لأن بعدها فتحة والفتحة لا تستثقل، وقال الكوفيون: حذفت الواو للفعل المتعدي وأثبت في اللازم فرقا فقالوا في المتعدّي وعد يعد وفي اللازم وجل يوجل، وعارضوا البصريين بقول العرب وسع يسع فحذفت الواو بعدها فتحة وكذا ولغ يلغ والاحتجاج للبصريين أن الأصل وسع يوسع وحذفت الواو لما تقدّم وفتحت السين لأن فيه حرفا من حروف الحلق، وقال الكوفيون: حذفت الواو لأنه فعل متعدّ، وردّ عليهم البصريون بقول العرب: ورم يرم فهذا لازم قد حذفت منه الواو وكذا يثق فقد انكسر قولهم إنه إنما يحذف من المتعدي. قال أبو جعفر: وهذا ردّ بيّن ولو جاء «قوا» على الأصل لكان ايقيوا. {أَنْفُسَكُمْ} منصوب بقوا، كما يقال: أكرم نفسك ولا يجوز أكرمك فقول سيبويه: لأنهم استغنوا عنه بقولهم: أكرم نفسك، وقال محمد بن يزيد: لم يجز هذا لأنه لا يكون الشيء فاعلا مفعولا في حال. فأما الكوفيون فخلطوا في هذه فمرة يقولون: لا يجوز كما يقول البصريون، ومرة يحكون عن العرب إجازته حكوا عدمتني، ولا يجيز البصريون من هذا شيئا. {وَأَهْلِيكُمْ} في موضع نصب معطوف على أنفسكم.
ومن مسائل الفرّاء في «وأهليكم» (2) لم صار مسكنا وهو في موضع النصب؟ فالجواب إن الياء علامة النصب كقولك: رأيت الزيدين وحذفت النون للإضافة وحكى الفرّاء (3)
أن من العرب من يقول: أهله في المؤنث «نارا» مفعول ثان {وَقُودُهَا النََّاسُ} مبتدأ وخبره في موضع نصب نعت للنار {وَالْحِجََارَةُ} عطف على الناس {عَلَيْهََا مَلََائِكَةٌ غِلََاظٌ شِدََادٌ} أي غلاظ على العصاة أشدّاء عليهم، وقيل: «شداد» أقوياء {لََا يَعْصُونَ اللََّهَ مََا أَمَرَهُمْ} مفعولان على حذف الحرف أي فيما أمرهم {وَيَفْعَلُونَ مََا يُؤْمَرُونَ} وحذف المضمر الذي يعود على «ما» وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد.
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 118.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 287.
(3) انظر المذكّر والمؤنث للفراء 108.(4/304)
[سورة التحريم (66): آية 7]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاََ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} حذفت النون للجزم بالنهي. {إِنَّمََا تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في «إنما» معنى التحقيق والإيجاب.
[سورة التحريم (66): آية 8]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللََّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ يَوْمَ لاََ يُخْزِي اللََّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى ََ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمََانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنََا أَتْمِمْ لَنََا نُورَنََا وَاغْفِرْ لَنََا إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)}
{تَوْبَةً} مصدر. {نَصُوحاً} من نعته أي تنصحون لأنفسكم فيها {عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئََاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} وأجاز الفرّاء (1) {وَيُدْخِلَكُمْ} على الموضع بالجزم لأن عسى في موضع جزم في المعنى لأنها جواب الأمر، وقدّره بمعنى فعسى وعطف «ويدخلكم» على موضع الفاء. قال أبو جعفر: وهذا تعسّف شديد {يَوْمَ لََا يُخْزِي اللََّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} «الذين» في موضع نصب على العطف، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء {نُورُهُمْ يَسْعى ََ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قيل: هذا التمام، والمعنى {وَبِأَيْمََانِهِمْ} يعطون كتبهم، وقد روي معنى هذا عن ابن عباس {يَقُولُونَ رَبَّنََا أَتْمِمْ لَنََا نُورَنََا} ظهر التضعيف لمّا سكن الثاني {وَاغْفِرْ لَنََا} ولا يجوز إدغام الراء في اللام لما فيها من التكرير. {إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} خبر «إن» و «كلّ» مخفوض حقّه أن يكون في أخر الكلام لأنه تبيين.
[سورة التحريم (66): آية 9]
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ جََاهِدِ الْكُفََّارَ وَالْمُنََافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}
قيل: مجاهدة المنافقين باللسان والانقباض وأنّه كذا يجب أن يستعمل مع أهل المعاصي إذا لم يوصل إلى منعهم منها لأن الانبساط إليهم يجرّئهم على إظهارها فأمر الله جلّ وعزّ بمجاهدتهم بهذا وأصل المجاهدة في اللغة بلوغ الجهد في رضوان الله جلّ وعزّ. {وَمَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ} أي هي منزلهم ومسكنهم. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس الذي يصلون إليه النار.
[سورة التحريم (66): آية 10]
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا مِنَ اللََّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النََّارَ مَعَ الدََّاخِلِينَ (10)}
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} مفعولان.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 168.(4/305)
{كََانَتََا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبََادِنََا صََالِحَيْنِ فَخََانَتََاهُمََا فَلَمْ يُغْنِيََا عَنْهُمََا مِنَ اللََّهِ شَيْئاً} فكانت الفائدة في هذا أنه لا ينفع أحدا إيمان أحد ولا طاعة أحد بنسب ولا غيره إذا كان عاصيا الله جلّ وعزّ كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمته صفية: «إني لا أغني عنكم من الله شيئا» (1) وكذا قال لفاطمة رضي الله عنها {وَقِيلَ ادْخُلَا النََّارَ مَعَ الدََّاخِلِينَ} ولم يقل: مع الداخلات لأن المعنى مع القوم الداخلين.
[سورة التحريم (66): آية 11]
{وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قََالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (11)}
فلم يضرها كفر فرعون شيئا، والأصل «ربّي» حذفت الياء لأن النداء موضع حذف وإثباتها وفتحها جائز.
[سورة التحريم (66): آية 12]
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهِ مِنْ رُوحِنََا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ (12)}
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ} عطف أي وضرب الله للذين آمنوا مثلا مريم {ابْنَتَ} من نعتها، وإن شئت على البدل. يقال: ابنة وبنت. {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهِ مِنْ رُوحِنََا} الهاء تعود على الفرج. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه قولين: أحدهما أنه جيبها، والآخر أنه الفرج بعينه. والحجّة لمن قال: إنه الفرج بعينه «استعمال العرب» أحصنت فرجها على هذا النعت. والحجّة لمن قال: هو جيبها أن معنى «أحصنت فرجها» منعت جيبها حتّى {قََالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمََنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 81]، و {مِنْ رُوحِنََا} فيه قولان: أحدهما من الروح الذي لنا والذي نملكه، كما يقال: بيت الله، والآخر من روحنا من جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم. قال جلّ ثناؤه {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193].
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمََاتِ رَبِّهََا وَكُتُبِهِ} (2) من وحّده قال: لأنه مصدر، ومن جمعه جعله على اختلاف الأجناس {وَكََانَتْ مِنَ الْقََانِتِينَ} أي من القوم القانتين، أقيمت الصفة مقام الموصوف.
__________
(1) أخرجه الدارمي في سننه 2/ 305.
(2) انظر تيسير الداني 172.(4/306)
67 - شرح إعراب سورة الملك
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الملك (67): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {تَبََارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
أي يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء ودلّ على هذا الحذف {وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[سورة الملك (67): آية 2]
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ} في موضع رفع على البدل من الذي الأول أو على إضمار مبتدأ، ويجوز النصب بمعنى أعني. {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي مرفوع بالابتداء، وهو اسم تام و {أَحْسَنُ} خبره، والتقدير: ليبلوكم فينظر أيكم أحسن عملا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} مبتدأ وخبره.
[سورة الملك (67): آية 3]
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ (3)}
{خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ} فيه مثل الذي في الأول، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وأن يكون نعتا للعزيز. {طِبََاقاً} نعت لسبع، ويكون جمع طبقة مثل رحبة ورحاب أو جمع طبق مثل جمل وجمال، ويجوز أن يكون مصدرا مّا ترى في خلق الرّحمن من تفوت قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي من تفوت (1) وهو اختيار أبي عبيد. ومن أحسن ما قيل فيه قول الفرّاء (2): إنهما لغتان بمعنى واحد، ولو جاز أن يقال في هذا اختيار لكان الأول أولى لأنه المشهور في الله أن يقال: تفاوت الأمر مثل تباين أي خالف بعضه بعضا فخلق الله جلّ وعزّ غير متباين ولا متفاوت لأنه كلّه دالّ على حكمة لا على عبث وعلى بارئ له {فَارْجِعِ الْبَصَرَ}
__________
(1) انظر تيسير الداني 172، والبحر المحيط 8/ 292.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 170.(4/307)
وليس قبله فانظر ولكنّ قبله ما يدلّ عليه وهو {مََا تَرى ََ فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِنْ تَفََاوُتٍ} {هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ} في موضع نصب.
[سورة الملك (67): آية 4]
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} بمعنى المصدر أو الظرف ينقلب (1) إليك البصر جواب الأمر. {خََاسِئاً} نصب على الحال. {وَهُوَ حَسِيرٌ} مبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال.
[سورة الملك (67): آية 5]
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ وَأَعْتَدْنََا لَهُمْ عَذََابَ السَّعِيرِ (5)}
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ} على لغة من قال مصباح {وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ} يكون «رجوما» مصدر يرجم، ويجوز أن يكون جمع راجم على قول من قال: النجوم هي التي يرجم بها، والقول الآخر على قول من قال: إنّ النجوم لا تزول من مكانها وإنما يرجم بالشهب {وَأَعْتَدْنََا لَهُمْ عَذََابَ السَّعِيرِ} أي مع ذلك.
[سورة الملك (67): آية 6]
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)}
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ} رفع بالابتداء، وحكى هارون عن أسيد أنه قرأ {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذََابُ جَهَنَّمَ} (2) عطفه على الأول. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ربع ببئس.
[سورة الملك (67): الآيات 7الى 8]
{إِذََا أُلْقُوا فِيهََا سَمِعُوا لَهََا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكََادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمََا أُلْقِيَ فِيهََا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)}
{إِذََا أُلْقُوا فِيهََا سَمِعُوا لَهََا شَهِيقاً} أي صوتا مثل الشهيق {تَكََادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} الأصل تتميز. قال الفرّاء (3): أي تقطّع. {كُلَّمََا أُلْقِيَ فِيهََا فَوْجٌ} نصب على الظرف بمعنى إذا {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي قالوا لهم.
[سورة الملك (67): آية 9]
{قََالُوا بَلى ََ قَدْ جََاءَنََا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنََا وَقُلْنََا مََا نَزَّلَ اللََّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاََّ فِي ضَلاََلٍ كَبِيرٍ (9)}
{نَذِيرٌ} بمعنى منذر. {إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا فِي ضَلََالٍ كَبِيرٍ} «إن» بمعنى ما.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 293 (قرأ الجمهور «ينقلب» جزما على جواب الأمر، والخوارزمي عن الكسائي برفع الباء أي فينقلب على حذف الفاء أو على أنه موضع حال مقدّرة).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 294.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 170.(4/308)
[سورة الملك (67): آية 10]
{وَقََالُوا لَوْ كُنََّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مََا كُنََّا فِي أَصْحََابِ السَّعِيرِ (10)}
فيه قولان: أحدهما لو كان نقبل كما يقال: سمع الله لمن حمده أي قيل «أو نعقل» أي نفكر ونتبين، والقول الآخر أنهم إذا سمعوا لم ينتفعوا بما سمعوا فهم بمنزلة الصم.
[سورة الملك (67): آية 11]
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحََابِ السَّعِيرِ (11)}
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} ولم يقل: بذنوبهم لأنه مصدر يؤدّي عن الجنس {فَسُحْقاً لِأَصْحََابِ السَّعِيرِ} (1).
[سورة الملك (67): آية 12]
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}
من أحسن ما قيل فيه أن المعنى إن الذين يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس لأنه الوقت الذي تكثر فيه المعاصي فإذا خشوا ربهم جلّ وعزّ عند غيبة الناس عنهم فاجتنبوا المعاصي كانوا بحضرة الناس أكثر اجتنابا {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} خبر «إنّ».
[سورة الملك (67): آية 13]
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (13)}
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} كسرت الواو لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أصلية. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} أي بحقيقتها.
[سورة الملك (67): آية 14]
{أَلاََ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}
{أَلََا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} قال أبو جعفر: ربما توهّم الضعيف في العربية أنّ «من» في موضع نصب ولو كان موضعها نصبا لكان: ألا يعلم ما خلق: لأنه راجع إلى {بِذََاتِ الصُّدُورِ} وإنما التقدير ألا يعلم من خلقها سرّها وعلانيتها {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مبتدأ وخبره.
[سورة الملك (67): الآيات 15الى 16]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنََاكِبِهََا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذََا هِيَ تَمُورُ (16)}
وكذلك {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} أي سهلة تمشون عليها. يقال: ذلول بيّنة الذلّ، وذليل بيّن الذّل {فَامْشُوا فِي مَنََاكِبِهََا} جمع منكب وهو الناحية {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} حذف منه، ولو كان على قياس نظائره لقيل: أوكلوا كما تقول: أوجروا {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} رفع بالابتداء.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ} (2) وحكى الفراء أن لغة بني تميم أن يزيد وألفا بين الألفين.
قال أبو جعفر: يعني يزيدون ألفا لئلا يجمعوا بين همزتين فيقولون: أاأمنتم من في السماء. {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} في موضع نصب على أنها مفعولة. {فَإِذََا هِيَ تَمُورُ} في موضع رفع، ويجوز النصب أي فإذا هي مائرة.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 294، وتيسير الداني 172 (قرأ الكسائي بضمّ الحاء والباقون بإسكانها).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 171، وتيسير الداني 172.(4/309)
[سورة الملك (67): الآيات 17الى 18]
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كََانَ نَكِيرِ (18)}
وهو التراب والحصى، ويكون السحاب الذي فيه البرد والصواعق {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} في موضع رفع لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله وحذفت الياء لأنه رأس آية، وكذا {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كََانَ نَكِيرِ} (18).
[سورة الملك (67): آية 19]
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمََنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ} نصب على الحال. {وَيَقْبِضْنَ} عطف عليه، ويجوز أن ينون مقطوعا منه {مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمََنُ} لأنه جلّ وعزّ خلق الجو فاستمسكن فيه {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} خبر «إنّ».
[سورة الملك (67): آية 20]
{أَمَّنْ هََذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمََنِ إِنِ الْكََافِرُونَ إِلاََّ فِي غُرُورٍ (20)}
أي يدفع عنكم إن أراد بكم سوءا. {إِنِ الْكََافِرُونَ إِلََّا فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في ظنهم أي عبادتهم غير الله جلّ وعزّ ينفعهم إلا في غرور.
[سورة الملك (67): آية 21]
{أَمَّنْ هََذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}
{أَمَّنْ هََذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} وحذف جواب الشرط لأن الأول يدلّ عليه أي إن أمسك رزقه فهل يرزقكم من تعبدون من دونه {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} والأصل لججوا ثم أدغم.
[سورة الملك (67): آية 22]
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى ََ وَجْهِهِ أَهْدى ََ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}
من في موضع رفع بالابتداء أهدى خبره {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} عطف عليه.
[سورة الملك (67): آية 23]
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مََا تَشْكُرُونَ (23)}
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} مبتدأ وخبره {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ} ولم يقل:
الأسماع لأن السمع في الأصل مصدر.
[سورة الملك (67): آية 24]
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} مثل الأول.
[سورة الملك (67): آية 25]
{وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (25)}
{مَتى ََ} في موضع رفع لأنها خبر الابتداء {هََذَا} على قول سيبويه وعلى قول
غيره في موضع نصب لأنه لا يرفع هذا بالابتداء. وأبو العباس يرفعه بمعنى متى يستقرّ هذا الوعد.(4/310)
{مَتى ََ} في موضع رفع لأنها خبر الابتداء {هََذَا} على قول سيبويه وعلى قول
غيره في موضع نصب لأنه لا يرفع هذا بالابتداء. وأبو العباس يرفعه بمعنى متى يستقرّ هذا الوعد.
[سورة الملك (67): آية 26]
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللََّهِ وَإِنَّمََا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)}
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللََّهِ} رفعت العلم بالابتداء، ولا يجوز النصب عند سيبويه على أن يجعل «ما» زائدة، وكذا {وَإِنَّمََا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
[سورة الملك (67): آية 27]
{فَلَمََّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}
{فَلَمََّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} يجوز أن تكون الهاء تعود على الوعد {سِيئَتْ} [1] وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أصحّ ما قيل فيه أنه تفتعلون من الدعاء ثم أدغم، قال أبو عبيد: تدّعون مشتق من يدعون.
[سورة الملك (67): آية 28]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللََّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنََا فَمَنْ يُجِيرُ الْكََافِرِينَ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (28)}
{أَرَأَيْتُمْ} وإن خفّفت همزة أرأيتم جئت بها بين بين والياء ساكنة بحالها {فَمَنْ يُجِيرُ الْكََافِرِينَ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ} «من» في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام.
[سورة الملك (67): آية 29]
{قُلْ هُوَ الرَّحْمََنُ آمَنََّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنََا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (29)}
{قُلْ هُوَ الرَّحْمََنُ آمَنََّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنََا} أي خالقكم ورازقكم والفاعل لهذه الأشياء الرحمن {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} (2) «من» في موضع رفع بالابتداء والجملة خبره لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون بمعنى الذي.
[سورة الملك (67): آية 30]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مََاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمََاءٍ مَعِينٍ (30)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مََاؤُكُمْ غَوْراً} قال الفراء (3) لا يثنّى غور ولا يجمع لأنه مصدر مثل:
رضى وعدل فيقال: ماءان غور. قال أبو جعفر: بابه ألا يثنّى ولا يجمع فإن أردت اختلاف الأجناس ثنّيت وجمعت والتقدير: إن أصبح ماؤكم ذا غور مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وقيل غور بمعنى غائر. {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمََاءٍ مَعِينٍ} يكون فعيلا من معن الماء إذا كثر، ويجوز أن يكون مفعولا ويكون الأصل فيه معيونا مثل مبيع ويكون معناه على هذا الماء يرى بالأعين.
__________
(1) انظر تيسير الداني 102.
(2) انظر تيسير الداني 173 (قرأ الكسائي «فسيعلمون من هو» بالياء والباقون بالتاء).
(3) انظر معاني الفراء 3/ 712.(4/311)
فهرس المحتويات
شرح إعراب سورة الزمر 3 شرح إعراب سورة غافر 19 شرح إعراب سورة السجدة 34 شرح إعراب سورة الشورى 49 شرح إعراب سورة الزخرف 65 شرح إعراب سورة الدخان 83 شرح إعراب سورة الجاثية 92 شرح إعراب سورة الأحقاف 104 شرح إعراب سورة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) 117 شرح إعراب سورة الفتح 129 شرح إعراب سورة الحجرات 138 شرح إعراب سورة ق 146 شرح إعراب سورة الذاريات 157 شرح إعراب سورة الطور 170 شرح إعراب سورة النجم 179شرح إعراب سورة القمر 192 شرح إعراب سورة الرحمن 204 شرح إعراب سورة الواقعة 215 شرح إعراب سورة الحديد 232 شرح إعراب سورة المجادلة 247 شرح إعراب سورة الحشر 256 شرح إعراب سورة الممتحنة 270 شرح إعراب سورة الصف 276 شرح إعراب سورة الجمعة 280 شرح إعراب سورة المنافقين 284 شرح إعراب سورة التغابن 291 شرح إعراب سورة الطلاق 296 شرح إعراب سورة التحريم 302 شرح إعراب سورة الملك 307(4/312)
الجزء الخامس
68 - شرح إعراب سورة ن (القلم)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القلم (68): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {ن وَالْقَلَمِ وَمََا يَسْطُرُونَ (1) مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)}
{ن} في هذه الكلمة نيف وثلاثون جوابا منها ستة معان وستّ قراءات في إحداهنّ ستة أجوبة. روى الحكم بن ظهير عن أبيه عن أبي هريرة قال:
الأرضون على نون ونون على الماء والماء على الصخرة والصخرة لها أربعة أركان على كلّ ركن منها ملك قائم في الماء. وروى يزيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: المر وحم ون حروف الرحمن مقطّعة. وفي حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعا قال: ن لوح من نور. وقال قتادة: نون الدواة. قال أبو جعفر: فهذه أربعة أقوال، وقيل: التقدير وربّ نون، وقيل: هو تنبيه كما تقدّم في «ألم». وأما القراءات فهي ستّ كما ذكرنا. قرأ أكثر الناس {ن وَالْقَلَمِ} (1) ببيان نون، وقرئ بإخفائها، وقرئ بإدغامها بغنّة وبغير غنّة، وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ «ن والقلم» وقرأ ابن إسحاق «نون والقلم» بالخفض. فهذه ستّ قراءات، في المنصوبة منها ستة أجوبة: منها أن تكون منصوبة بوقوع الفعل عليها أي أذكر نون.
ولم تنصرف لأنها اسم للسورة، وجواب ثان أن تكون لم تنصرف لأنها اسم أعجميّ هذان جوابان عن الأخفش سعيد، وقول سيبويه (2) إنها شبّهت بأين وكيف وقول الفراء (3) إنها شبهت بثمّ، وقيل: شبّهت بنون الجميع، وقال أبو حاتم: حذفت منها واو القسم فانتصبت بإضمار فعل، كما تقول: الله لقد كان كذا. قال أبو جعفر:
فهذه ثمانية عشر جوابا. وفي إسكانها قولان فمذهب سيبويه (4) أن حروف المعجم إنما سكّنت لأنها بعض حروف الأسماء فلم يجز إعرابها كما لا يعرب وسط الاسم، وردّ عليه هذا القول بعض الكوفيين فقال: إذا قلت زاي فقد زدت على الحرف ألفا
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 148.
(2) انظر الكتاب 3/ 286.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 368.
(4) انظر الكتاب 3/ 294.(5/3)
وياء، وقال أصحّ من هذا قول الفراء (1) قال: لم تعرب حروف المعجم لأنك إنما أردت تعليم الهجاء. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح لأنك إذا أردت تعليم الهجاء لم يجز أن تزيد الإعراب فيزول ذلك عن معنى الهجاء إلا أن تنعت أو تعطف فتعرب. ومن بيّن النون قال: سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وأيضا فإن النون بعيدة المخرج من الواو فأشبهت حروف الحلق، ولهذا لم يقرأ أحد بتبيين النون في «كهيعص» لقرب الصاد من النون فأدغمها الكسائي لأنه بنى الكلام على الوصل، ومن أدغم بغنّة أراد ألا يزيل رسم النون، ومن حذف الغنة قال المدغم قد صار حكمه حكم ما أدغم فيه، ومن قرأ «نون والقلم» كسر لالتقاء الساكنين. قال أبو حاتم: أضمر واو القسم. وإن جمعت نون قلت:
نونات على أنه حرف هجاء، فإن جمعته على أنه اسم للحوت قلت في الجمع الكثير:
نينان، وفي القليل: أنوان، ويجوز نونة مثل كوز وكوزة {وَالْقَلَمِ} خفض بواو القسم، وهو القلم الذي يكتب به غير أن التوقيف جاء أنه القلم الذي كتب به في اللّوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة روى ذلك القاسم بن أبي بزّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه {وَمََا يَسْطُرُونَ} واو عطف لا واو قسم، وما والفعل مصدر، ويجوز أن يكون بمعنى الذي، وجواب القسم {مََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي ما أنت بما أنعم الله عليك من العقل والفهم إذا كان أعقل أهل زمانه {بِمَجْنُونٍ}، وهو المستور العقل. ومن هذا جنّ عليه الليل وأجنّه، ومنه قيل: جنين وللقبر جنن وللترس مجنّ. قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 496 وكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (2)
وقيل: جنّ لأنهم مستترون عن أعين الناس مسموع من العرب على غير قياس:
أجنّ فهو مجنون، والقياس مجنّ. قال أبو جعفر: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه كان يذهب إلى القياس في هذا كأنه يقال: مجنون من جنّ.
[سورة القلم (68): آية 3]
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)}
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً} أي على أداء الرسالة {غَيْرَ مَمْنُونٍ} قيل: لا يمنّ به عليك وقيل:
غير مقطوع.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 368.
(2) الشعر لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 100، والكتاب 4/ 45، والأشباه والنظائر 5/ 48، والأغاني 1/ 90، وأمالي الزجاجي 118، والإنصاف 2/ 770، وخزانة الأدب 5/ 320، والخصائص 2/ 417، وشرح التصريح 2/ 271، وشرح شواهد الإيضاح 313ولسان العرب (شخص)، والمقاصد النحوية 4/ 483، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 104، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح التصريح 2/ 275، وشرح عمدة الحافظ 519، وعيون الأخبار 2/ 174، والمقتضب 2/ 148، والمقرّب 1/ 307.(5/4)
[سورة القلم (68): آية 4]
{وَإِنَّكَ لَعَلى ََ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: على دين. قال أبو جعفر: فيكون هذا مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (1) أي أحسنهم دينا وطريقة ومذهبا وطاعة. وسئلت عائشة رضي الله عنها ما الخلق العظيم الذي كان عليه؟ قالت: القرآن، وقيل: هو ما كان فيه من البشاشة والسعي في قضاء حاجات الناس وإكرامهم والرفق بهم.
[سورة القلم (68): الآيات 5الى 6]
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي يوم القيامة. قال محمد بن يزيد: سألت أبا عثمان المازني عن هذا فقال: هذا التمام. وقال الأخفش: المعنى: فستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة.
وقال محمد بن يزيد: التقدير: بأيّكم فتنة المفتون. وقال الفراء (2): الباء بمعنى «في».
قال أبو جعفر: فهذه أقوال النحويين مجموعة. ونذكر أقوال أهل التأويل. روى سفيان عن خصيف عن مجاهد {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} قال: بأيّكم المجنون. وقال الحسن والضحاك: بأيّكم الجنون، وقول قتادة: أيّكم أولى بالشيطان. فهذه ثلاثة أقوال لأهل التأويل. فقول مجاهد تكون الباء فيه بمعنى «في» كما يقال: فلان بمكة وفي مكة والمعنى عليه فستعلم وسيعلمون في أي الفريقين المجنون الذي لا يتّبع الحقّ أفي فريقك أم في فريقهم. وعلى قول (3) الحسن والضحاك فستعلم وسيعلمون بأيكم الفتنة.
والمفتون بمعنى الفتنة والفتون، كما يقال: ليس له معقول ولا معقود رأي. قال أبو جعفر: وهذا من أحسن ما قيل فيه، وقول قتادة أن الباء زائدة.
[سورة القلم (68): آية 7]
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}
أي هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله من كفار قريش. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بك وبمن اتّبعك.
[سورة القلم (68): الآيات 8الى 9]
{فَلاََ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}
معطوف، وليس بجواب ولو كان جوابا حذفت منه النون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال يقول: لو ترخّص لهم فيرخّصون. والمعنى
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4682)، وأحمد في مسنده 2/ 250، وذكره الحاكم في المستدرك 1/ 3، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 303، وابن حجر في المطالب العالية (2541)، وأبو نعيم في الحلية 9/ 248، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3264).
(2) انظر معاني الفراء 3/ 173.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 303.(5/5)
على هذا: ودّوا لو تلين لهم فلا تنكر عليهم الكفر والمعاصي فيلينون لك وينافقونك ويجترءون على المعاصي، وفي اللين في مثل هذا فساد الدين، وهو مأخوذ من الدّهن شبّه التليّن به.
[سورة القلم (68): آية 10]
{وَلاََ تُطِعْ كُلَّ حَلاََّفٍ مَهِينٍ (10)}
أي كل معروف بالحلف على الكذب فإذا كان كذلك كان مهينا عند الله جلّ وعزّ وعند المؤمنين. قال مجاهد: {مَهِينٍ} ضعيف. قال أبو جعفر: يكون مهين فعيل على بابه من هذا القول فيجوز أن يكون بمعنى مهان.
[سورة القلم (68): آية 11]
{هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}
{هَمََّازٍ} من همزه إذا عابه وأصل الهمز الغمز. {مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ} «مشّاء» ممدود، لأنها ألف بعدها همزة فالألف خفيّة والهمزة لبعد مخرجها تخفى فقوّيت بالمدة وكذا الواو إذا كان ما قبلها مضموما مثل السّوأى، وكذلك الياء إذا كان ما قبلها مكسورا نحو: سيء بهم. هذا في المتصل، فللنحويين فيه ثلاثة أقوال: منهم من قال: لا مدّ فيه إذا كان منفصلا، ومنهم من قال: هو ممدود بمنزلة المتصل، وإلى هذا كان يذهب أبو إسحاق، ومنهم من قال: المدّ في المنفصل أولى منه في المتصل ليبيّن بالمد انفصال الحرف من الآخر نحو قوله جلّ وعزّ {بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} * [البقرة: 4] وكذا {فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] وفي الواو والياء {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 21] والقراء من أحوج الناس إلى معرفة هذا. وربما وقع الغلط فيه فكان ذلك لحنا فمن قرأ {دََائِرَةُ السَّوْءِ} * [التوبة: 98] لم يجز له أن يمدّ هذا لأن الواو ما قبلها مفتوح، ومن قرأ «دائرة السّوء» مدّ لأن الواو ما قبلها مضموم، وإنما وجب هذا في الواو إذا انضمّ ما قبلها والياء إذا انكسر ما قبلها لأنهما أشبهتا الألف فصارتا حرفي مدّ ولين كالألف فوجب فيهما المد كما كان في الألف ولما انضمّ ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء فصارت الحركة التي قبلهما منهما ضعفتا فقوّيتا بالمدّة ومن قرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} [البقرة: 103] لم يجز له أن يمدّ هذا لانفتاح ما قبل الواو، ويقال: إنّ أكثر من يغلط في هذا من القرّاء الذين يقرءون بقراءة حمزة. قال أبو جعفر: من قال: نميم قال: قد نمّ ثلاثة أنمة، ومن قال: نميمة قال: نمائم.
[سورة القلم (68): آية 12]
{مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}
{مَنََّاعٍ} نعت وكذا {مُعْتَدٍ} ولو كانا منصوبين لجاز على النعت لكلّ أي معتد على الناس في معاملاتهم. {أَثِيمٍ} مخالف لربّه في أمره ونهيه، كما قال قتادة: أثيم بربه.(5/6)
[سورة القلم (68): آية 13]
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ (13)}
{عُتُلٍّ} قال أهل التأويل منهم أبو رزين والشعبي: العتلّ الشديد، وقال الفراء:
أي شديد الخصومة بالباطل، وقال غيره: هو شديد الكفر الجافي وجمعه عتالّ. {بَعْدَ ذََلِكَ} قيل: أي مع ذلك. {زَنِيمٍ} نعت أيضا.
[سورة القلم (68): آية 14]
{أَنْ كََانَ ذََا مََالٍ وَبَنِينَ (14)}
{أَنْ} في موضع نصب أي بأن كان، وقرأ الحسن وأبو جعفر وحمزة «أأن كان ذا مال وبنين» (1) قال أبو جعفر: هذا على التوبيخ أي الآن كان ذا مال وبنين يكفر أو تطيعه.
[سورة القلم (68): آية 15]
{إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا قََالَ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}
استهزاء وإنكارا.
[سورة القلم (68): آية 16]
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا منها ما رواه معمر عن قتادة قال: على أنفه ومما يذكره أن سعيدا روى عن قتادة {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (16) قال شين لا يفارقه، وهذا من أحسن ما قيل فيه أي سنبيّن أمره ونشهره حتى يتبيّن ذلك ويكون بمنزلة الموسوم على أنفه على أنه قد روي عن ابن عباس {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} قال: قاتل يوم بدر فضرب بسيف ضربة فكانت سمة له.
[سورة القلم (68): آية 17]
{إِنََّا بَلَوْنََاهُمْ كَمََا بَلَوْنََا أَصْحََابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهََا مُصْبِحِينَ (17)}
{إِنََّا بَلَوْنََاهُمْ} أي تعبّدناهم بالشكر على النّعم وإعطاء الفقراء حقوقهم التي أوجبناها في أموالهم. {كَمََا بَلَوْنََا أَصْحََابَ الْجَنَّةِ}. قال ابن عباس: هم أهل كتاب {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهََا} أي ليجذنّها. والجذاذ القطع ومنه صرم فلان فينا وسيف صارم. {مُصْبِحِينَ} نصب على الحال. وأصبح دخل في الإصباح.
[سورة القلم (68): آية 18]
{وَلاََ يَسْتَثْنُونَ (18)}
ولا يقولون: إن شاء الله فذمّوا بهذا لأن الإنسان إذا قال: لأفعلنّ كذا لم يأمن أن يصرم عن ذلك فيكون كاذبا فعليه أن يقول إن شاء الله.
[سورة القلم (68): آية 19]
{فَطََافَ عَلَيْهََا طََائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نََائِمُونَ (19)}
قيل: أرسلت عليها نار فأحرقت حروثهم. {وَهُمْ نََائِمُونَ} في موضع الحال.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173 (وهذه قراءة أبي بكر أيضا، وقراءة ابن عامر بهمزة ومدّة، وابن زكوان في المدّ، والباقون بهمزة واحدة مفتوحة على الخبر).(5/7)
[سورة القلم (68): آية 20]
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}
أي كالشيء المصروم المقطوع. وصريم بمعنى مصروم مثل قتيل بمعنى مقتول.
[سورة القلم (68): آية 21]
{فَتَنََادَوْا مُصْبِحِينَ (21)}
نصب على الحال.
[سورة القلم (68): آية 22]
{أَنِ اغْدُوا عَلى ََ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََارِمِينَ (22)}
{أَنِ} في موضع نصب أي بأن، ويجوز أن يكون لا موضع لها تفسيرا {إِنْ كُنْتُمْ صََارِمِينَ} كنتم في موضع جزم بالشرط استغني عن الجواب بما تقدّم لأنه فعل ماض.
[سورة القلم (68): آية 23]
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخََافَتُونَ (23)}
في موضع الحال.
[سورة القلم (68): آية 24]
{أَنْ لاََ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)}
الجواب في {أَنْ} كما تقدّم وفي قراءة عبد الله بغير «أن» لأن معنى {يَتَخََافَتُونَ} يقولون سرا.
[سورة القلم (68): آية 25]
{وَغَدَوْا عَلى ََ حَرْدٍ قََادِرِينَ (25)}
أصحّ ما قيل في معناه على قصد، كما قال مجاهد: قد أسّسوا ذلك بينهم أي عملوه على قصد وتأسيس ومؤامرة بينهم قادرين عليه عند أنفسهم.
[سورة القلم (68): آية 26]
{فَلَمََّا رَأَوْهََا قََالُوا إِنََّا لَضَالُّونَ (26)}
أي قد ضللنا الطريق، وليست هذه جنّتنا لمّا رأوها محترقة.
[سورة القلم (68): آية 27]
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}
قيل: فقال من يعرفها ويعلم أنهم لم يضلّوا الطريق، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} (27) أي حرمنا ثمارها لما فعلنا.
[سورة القلم (68): آية 28]
{قََالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاََ تُسَبِّحُونَ (28)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {قََالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلََا تُسَبِّحُونَ} أي هلّا.
[سورة القلم (68): آية 29]
{قََالُوا سُبْحََانَ رَبِّنََا إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ (29)}
{قََالُوا سُبْحََانَ رَبِّنََا} نصب على المصدر {إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ} أي جعلنا الشيء في غير موضعه بمنعنا ما يجب علينا، وكذا الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.(5/8)
{قََالُوا سُبْحََانَ رَبِّنََا} نصب على المصدر {إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ} أي جعلنا الشيء في غير موضعه بمنعنا ما يجب علينا، وكذا الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
[سورة القلم (68): آية 30]
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ يَتَلاََوَمُونَ (30)}
في موضع نصب على الحال.
[سورة القلم (68): آية 31]
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا إِنََّا كُنََّا طََاغِينَ (31)}
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا} نداء مضاف والفائدة فيه أنّ معناه هذا وقت حضور الويل. {إِنََّا كُنََّا طََاغِينَ} أي في مخالفتنا أمر ربّنا وتجاوزنا إياه.
[سورة القلم (68): آية 32]
{عَسى ََ رَبُّنََا أَنْ يُبْدِلَنََا خَيْراً مِنْهََا إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا رََاغِبُونَ (32)}
وحكى سيبويه (1)، أنّ من العرب من يحذف «أن» مع عسى تشبيها بلعل {إِلى ََ رَبِّنََا رََاغِبُونَ} أي في أن يبدلنا خيرا منها.
[سورة القلم (68): آية 33]
{كَذََلِكَ الْعَذََابُ وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
{كَذََلِكَ الْعَذََابُ} مبتدأ وخبره، وكذا {وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} وسمّيت آخرة لأنها آخرة بعد أولى وقيل: لتأخرها على الناس {لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} «لو» لا يليها إلّا الفعل لشبهها بحروف الشرط.
[سورة القلم (68): آية 34]
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنََّاتِ النَّعِيمِ (34)}
{جَنََّاتِ} نصب بإن وعلامة النصب كسرة التاء إلّا أنّ الأخفش كان يقول: هي مبنية غير معربة في موضع النصب.
[سورة القلم (68): آية 35]
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}
{كَالْمُجْرِمِينَ} الكاف في موضع نصب مفعول ثان.
[سورة القلم (68): آية 36]
{مََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}
{مََا} في موضع رفع بالابتداء، وهي اسم تام و {لَكُمْ} الخبر و {كَيْفَ} في موضع نصب بتحكمون.
[سورة القلم (68): آية 37]
{أَمْ لَكُمْ كِتََابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)}
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 92.(5/9)
أي هل لكم كتاب جاءكم من عند الله تدرسون فيه.
[سورة القلم (68): الآيات 38الى 39]
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمََا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمََانٌ عَلَيْنََا بََالِغَةٌ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمََا تَحْكُمُونَ (39)}
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمََا تَخَيَّرُونَ} (38) أي لأنفسكم علينا. وكسرت «إن» لمجيء اللام بعدها، وكذا {أَمْ لَكُمْ أَيْمََانٌ عَلَيْنََا بََالِغَةٌ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ} أي أم لكم أيمان حلفنا لكم بها منتهية إلى يوم القيامة إنّ لكم حكمكم. وفي قراءة الحسن «بالغة» (1) بالنصب. قال الفراء (2): على المصدر أي حقا، وقال غيره: على الحال من المضمر الذي في علينا.
[سورة القلم (68): آية 40]
{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذََلِكَ زَعِيمٌ (40)}
{زَعِيمٌ} أي ضمين.
[سورة القلم (68): آية 41]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكََاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكََائِهِمْ إِنْ كََانُوا صََادِقِينَ (41)}
أي شركاء يعينونهم ويشهدون لهم.
[سورة القلم (68): آية 42]
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ (42)}
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} هذه القراءة التي عليها جماعة الحجة وما يروى من غيرها يقع فيه الاضطراب، وكذا أكثر القراءات الخارجة عن الجماعة، وإن وقعت في الأسانيد الصحاح إلا أنها من جهة الآحاد. فمن ذلك ما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ «يوم تكشف عن ساق» (3) يريد القيامة والساعة لشدّتها. قال أبو جعفر:
وهذا إسناد مستقيم ثم وقع فيه ما ذكرناه، كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن أبي عبد الله المخزومي وجماعة من أصحاب سفيان قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة كهيل عن أبي صادق عن ابن مسعود أنه قرأ: «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة أيضا عن أبي الزعراء عن ابن مسعود أنه قرأ «يوم يكشف عن ساق» بفتح الياء وكسر الشين. والذي عليه أهل التفسير أن المعنى يوم يكشف عن شدّة. وذلك معروف في كلام العرب، ويجوز أن يكون المعنى يوم يكشف الناس عن
__________
(1) وهذه قراءة زيد بن علي أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 308.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 176.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 309 (قرأ الجمهور «يكشف» بالياء مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله بن أبي عبلة بفتح الياء مبنيا للفاعل، وابن عباس وابن مسعود وابن هرمز بالنون، وابن عباس «يكشف» بفتح الياء مبنيا للفاعل وعنه أيضا بالياء مضمومة).(5/10)
سوقهم لشدّة ما هم فيه، ذلك مستعمل في كلام العرب، وساق مؤنّثة تصغّر بالهاء.
{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلََا يَسْتَطِيعُونَ} قيل: إنما يدعون إلى السجود ليوبّخوا بذلك فيقال لهم:
قد دعيتم إلى السجود الذي ينفعكم في الدنيا فأبيتم فهلمّ فاسجدوا الساعة لأنها ليست دار محنة ولا ينفع فيها السجود فيكون المعنى على هذا وهم لا يستطيعون أن يسجدوا سجودا ينتفعون به، وقيل: بل تجفّ أصلابهم عقوبة فلا يستطيعون السجود.
[سورة القلم (68): آية 43]
{خََاشِعَةً أَبْصََارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كََانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سََالِمُونَ (43)}
{خََاشِعَةً} نصب على الحال. {أَبْصََارُهُمْ} رفع بالخشوع، ويجوز رفعهما جميعا على المبتدأ وخبره. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} في موضع نصب أيضا على الحال، ويجوز قطعه من الأول. {وَقَدْ كََانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سََالِمُونَ} أي في الدنيا.
[سورة القلم (68): آية 44]
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهََذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاََ يَعْلَمُونَ (44)}
{مَنْ} في موضع نصب عطف، وإن شئت كان مفعولا معه {الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لََا يَعْلَمُونَ} في معناه قولان: أحدهما سنمتّعهم ونوسع عليهم في الدنيا حتى يتوهموا أن لهم خيرا ويغتروا بما هم فيه من النعمة والسّرور فنأخذهم بغتة كما روى أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجلّ ليمهل الظّالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ:
{وَكَذََلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذََا أَخَذَ الْقُرى ََ وَهِيَ ظََالِمَةٌ} (1) وقيل: سنستدرجهم من قبورهم إلى النار.
[سورة القلم (68): آية 45]
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}
{وَأُمْلِي لَهُمْ} بإسكان الياء والأصل ضمها لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة لثقلها. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي قوي شديد.
[سورة القلم (68): آية 46]
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)}
وقراءة نافع بضم الميم الأولى وإسكان الثّانية. قال أبو جعفر: جاء بالأولى على الأصل فاختار هذا لأنها إذا لقيت ألف وصل ضمّت لا غير فأجرى ألف القطع مجراها، وقيل: جاء باللغتين جميعا كما قرأ {مِنْ بَعْدِ مََا قَنَطُوا} [الشورى: 28] وقرأ: {لََا تَقْنَطُوا} [الزمر: 53] وقل من يحتجّ له من أصحابه أو غيرهم.
[سورة القلم (68): آية 47]
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)}
__________
(1) ذكره البغوي في شرح السنة 14/ 358، والبيهقي في الأسماء والصفات 41، والمتقي الهندي في كنز العمال (21398)، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 65.(5/11)
قال أبو جعفر: وهذه الآية من أشكل ما في السورة وتحصيل معناها فيما قيل والله أعلم: أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه ما يجادلونك به ويدّعون أنهم مع كفرهم بالله جلّ وعزّ وردّهم عليك بعد البراهين خير منك وأنهم على الحقّ.
[سورة القلم (68): آية 48]
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاََ تَكُنْ كَصََاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نََادى ََ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر على أداء الرسالة واحتمل أذاهم ولا تستعجل لهم العذاب {وَلََا تَكُنْ كَصََاحِبِ الْحُوتِ} في ما عمله من خروجه عن قومه وغمّه بتأخر العذاب عنهم {إِذْ نََادى ََ وَهُوَ مَكْظُومٌ} روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {وَهُوَ مَكْظُومٌ} قال:
مغموم. قال أبو جعفر: والمكظوم في كلام العرب الذي قد اغتمّ لا يجد من يتفرّج إليه فقد كظم غيظه أي أخفاه.
[سورة القلم (68): آية 49]
{لَوْلاََ أَنْ تَدََارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)}
{لَوْلََا أَنْ تَدََارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وفي قراءة ابن مسعود «لولا أن تداركته» (1) على تأنيث النعمة والتذكير: لأنه تأنيث غير حقيقي وروي عن الأعرج «لولا أن تدّاركه» بتشديد الدال، والأصل تتداركه أدغمت التاء في الدال. {لَنُبِذَ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} في موضع نصب على الحال.
[سورة القلم (68): آية 50]
{فَاجْتَبََاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصََّالِحِينَ (50)}
قيل: المعنى فوصفه جلّ وعزّ أنه من الصالحين. وقد حكى سيبويه جعل بمعنى وصف، وقيل: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصََّالِحِينَ} وفّقه الله تعالى لطاعته حتى صلح.
[سورة القلم (68): آية 51]
{وَإِنْ يَكََادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصََارِهِمْ لَمََّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)}
الكوفيون يقولون: {إِنْ} بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا، والبصريون يقولون:
هي إن المشدّدة لما خفّفت وقع بعدها الفعل ولزمته لام التوكيد ليفرق بين النّفي والإيجاب. وذكر بعض النحويين الكوفيين أن هذا من إصابة العين، واستجهله بعض العلماء وقال: إنما كانوا يقولون: إنّا نصيب بالعين ما نستحسنه ونتعجّب من جودته. وهذا ليس من ذاك إنّما كانوا ينظرون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر الإبغاض والنفور.
فالمعنى على هذا أنهم لحدّة نظرهم إليه يكادون يزيلونه من مكانه. يقال: أزلق
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 311 (قرأ الجمهور «تداركه» ماضيا ولم تلحقه علامة التأنيث، وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث، وابن هرمز والحسن والأعمش بشدّ الدال).(5/12)
الحجّام الشّعر وزلّفه إذا حلقه، وقد قرئ {لَيُزْلِقُونَكَ} (1) من أزلق وزلق أي باللغتين جميعا.
[سورة القلم (68): آية 52]
{وَمََا هُوَ إِلاََّ ذِكْرٌ لِلْعََالَمِينَ (52)}
مبتدأ وخبره، والضمير يعود على الذكر المتقدّم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 311.(5/13)
69 - شرح إعراب سورة الحاقة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحاقة (69): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الْحَاقَّةُ (1)}
رفع بالابتداء.
[سورة الحاقة (69): الآيات 2الى 3]
{مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}
{مَا الْحَاقَّةُ} (2) مبتدأ وخبره وهما خبر عن الحاقة، وفيه معنى التعظيم. والتقدير:
الحاقة ما هي؟ إلا أن إعادة الاسم أفخم، وكذا {وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (3).
[سورة الحاقة (69): آية 4]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعََادٌ بِالْقََارِعَةِ (4)}
{عََادٌ} منوّن لخفته و {ثَمُودُ} لا ينوّن على أنه اسم للقبيلة، وينوّن على أنه اسم للحي. قال قتادة: بالقارعة أي بالساعة. قال غيره: لأنها تقرع قلوب الناس بهجومها عليهم.
[سورة الحاقة (69): الآيات 5الى 6]
{فَأَمََّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطََّاغِيَةِ (5) وَأَمََّا عََادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عََاتِيَةٍ (6)}
وقال قتادة: بعث الله جلّ وعزّ عليهم صيحة فأهدتهم، وقيل: فأهلكوا بالطغيان، وقيل: بالجماعة الطاغية. قال أبو جعفر: وقول قتادة أصحّها أخبر الله بالمعنى الذي أهلكهم به لا بالسبب الذي أهلكهم من أجله كما أخبر في قصة عاد فقال جلّ ثناؤه:
{وَأَمََّا عََادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} قال قتادة: أي باردة، وقال غيره: أي شديد الصوت {عََاتِيَةٍ} زائدة على مقدار هبوبها.
[سورة الحاقة (69): آية 7]
{سَخَّرَهََا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيََالٍ وَثَمََانِيَةَ أَيََّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهََا صَرْعى ََ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ خََاوِيَةٍ (7)}
{وَثَمََانِيَةَ} أنثت الهاء في ثمانية، وحذفت من سبع فرقا بين المذكر والمؤنّث
{حُسُوماً} أصحّ ما قيل فيه متتابعة لصحّته عن ابن مسعود وابن عباس، «وحسوم» نعت ومن قال: معناه أتباع جعله مصدرا {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهََا صَرْعى ََ} في موضع نصب على الحال. {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ} قال قتادة: أصول النخل، وقال غيره: كأنهم أسافل النخل قد تأكّلت وخوت وتبدّدت {خََاوِيَةٍ} على تأنيث النخل.(5/14)
{وَثَمََانِيَةَ} أنثت الهاء في ثمانية، وحذفت من سبع فرقا بين المذكر والمؤنّث
{حُسُوماً} أصحّ ما قيل فيه متتابعة لصحّته عن ابن مسعود وابن عباس، «وحسوم» نعت ومن قال: معناه أتباع جعله مصدرا {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهََا صَرْعى ََ} في موضع نصب على الحال. {كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ} قال قتادة: أصول النخل، وقال غيره: كأنهم أسافل النخل قد تأكّلت وخوت وتبدّدت {خََاوِيَةٍ} على تأنيث النخل.
[سورة الحاقة (69): آية 8]
{فَهَلْ تَرى ََ لَهُمْ مِنْ بََاقِيَةٍ (8)}
أي من جماعة باقية، وقيل: من بقاء.
[سورة الحاقة (69): آية 9]
{وَجََاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكََاتُ بِالْخََاطِئَةِ (9)}
{وَجََاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} (1) قراءة الحسن وأبي رجاء وعاصم الجحدري وأبي عمرو والكسائي، وهو اختيار أبي عبيد، وقراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة {وَمَنْ قَبْلَهُ} وهما منصوبان على الظرف قال الحسن: «ومن قبله» ومن معه. ورد أبو عبيد على من قرأ «ومن قبله» لأنه قد كان فيهم مؤمنون.
قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لأنه قد عرف المعنى بقوله جلّ وعزّ {وَالْمُؤْتَفِكََاتُ بِالْخََاطِئَةِ}.
[سورة الحاقة (69): آية 10]
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رََابِيَةً (10)}
نعت أي زائدة.
[سورة الحاقة (69): آية 11]
{إِنََّا لَمََّا طَغَى الْمََاءُ حَمَلْنََاكُمْ فِي الْجََارِيَةِ (11)}
مجاز لأن الجارية سفينة نوح صلى الله عليه وسلم، والمخاطبون بهذا إنما حمل أجدادهم فيها فكانوا بمنزلة من حمل معهم.
[سورة الحاقة (69): آية 12]
{لِنَجْعَلَهََا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهََا أُذُنٌ وََاعِيَةٌ (12)}
{لِنَجْعَلَهََا لَكُمْ تَذْكِرَةً} قال قتادة: بقيت السفينة عظة وآية وتذكرة حتى راها أوائل هذه الأمة. {وَتَعِيَهََا} أي التذكرة، ويروى عن عاصم أنه قرأ «وتعيّها» (2) وهو لحن لأنه من وعى يعي، وعن طلحة أنه قرأ: «وتعيها» بإسكان العين حذف الكسرة لثقلها، وهو مثل {أَرِنِي} * [البقرة 260والأعراف: 143]. {أُذُنٌ وََاعِيَةٌ} ويقال: أذن وهي مؤنثة تصغيرها أذينة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 317، وتيسير الداني 173.(5/15)
[سورة الحاقة (69): آية 13]
{فَإِذََا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وََاحِدَةٌ (13)}
{نَفْخَةٌ وََاحِدَةٌ} لمّا نعت المصدر حسن رفعه، ولو كان غير منعوت كان منصوبا لا غير.
[سورة الحاقة (69): آية 14]
{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبََالُ فَدُكَّتََا دَكَّةً وََاحِدَةً (14)}
لأنهما جمعان، ولو قيل: فدككن أو فدكّت في الكلام لجاز.
[سورة الحاقة (69): آية 15]
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوََاقِعَةُ (15)}
العامل في الظرف وقعت.
[سورة الحاقة (69): آية 16]
{وَانْشَقَّتِ السَّمََاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وََاهِيَةٌ (16)}
مبتدأ وخبره.
[سورة الحاقة (69): آية 17]
{وَالْمَلَكُ عَلى ََ أَرْجََائِهََا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمََانِيَةٌ (17)}
{وَالْمَلَكُ عَلى ََ أَرْجََائِهََا} أي على أرجاء السماء والرجا الناحية مقصور يكتب بالألف، والرجاء من الأمل ممدود، {وَالْمَلَكُ} بمعنى الملائكة يدلّك على ذلك {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمََانِيَةٌ} روى السديّ عن أبي مالك عن ابن عباس قال: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا الله جلّ وعزّ، وكذا قال الضحاك، وقال ابن إسحاق وابن زيد: ثمانية أملاك وهم اليوم أربعة.
[سورة الحاقة (69): آية 18]
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاََ تَخْفى ََ مِنْكُمْ خََافِيَةٌ (18)}
على تأنيث اللفظ، وقراءة الكوفيين «يخفى» (1) لأنه تأنيث غير حقيقي، وقد فصل بينه وبين فعله.
[سورة الحاقة (69): الآيات 19الى 21]
{فَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هََاؤُمُ اقْرَؤُا كِتََابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاََقٍ حِسََابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ (21)}
{فَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ}.
رفع بالابتداء، وخبره {فَيَقُولُ هََاؤُمُ اقْرَؤُا كِتََابِيَهْ} قال بعض أهل اللغة: الأصل هاكم ثم أبدل من الكاف. وروى ابن طلحة عن ابن عباس {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلََاقٍ حِسََابِيَهْ} (20) قال:
أيقنت. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} (21) على النسب أي ذات رضىّ.
__________
(1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 318 (قرأ الجمهور «لا تخفى» بتاء التأنيث وعلي وابن وثاء وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وغيرهم بالياء).(5/16)
[سورة الحاقة (69): آية 22]
{فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ (22)}
بدل بإعادة الحرف.
[سورة الحاقة (69): آية 23]
{قُطُوفُهََا دََانِيَةٌ (23)}
روى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: يأكل من فواكهها وهو قائم.
[سورة الحاقة (69): آية 24]
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيََّامِ الْخََالِيَةِ (24)}
وهي أيام الدنيا من «خلا» إذا مضى.
[سورة الحاقة (69): آية 25]
{وَأَمََّا مَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِشِمََالِهِ فَيَقُولُ يََا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتََابِيَهْ (25)}
ومن العرب من يقول: ليتني فيحذف النون كما يحذفها في «إن».
[سورة الحاقة (69): آية 26]
{وَلَمْ أَدْرِ مََا حِسََابِيَهْ (26)}
بإثبات الهاء في الوقف، وكذا ما لبيان الحركة وإثباتها في الوصل لحن لا يجوز عند أحد من أهل العربية علمته. ومن اتّبع السواد وأراد السلامة من اللّحن وقف عليها فكان مصيبا من الجهتين.
[سورة الحاقة (69): الآيات 27الى 28]
{يََا لَيْتَهََا كََانَتِ الْقََاضِيَةَ (27) مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ (28)}
{يََا لَيْتَهََا كََانَتِ الْقََاضِيَةَ} اسم كان فيها مضمر، والتاء ليست باسم إنما هي علامة للتأنيث.
{مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ} «ما» في موضع نصب بأغنى، ويجوز أن تكون نافية لا موضع لها.
[سورة الحاقة (69): آية 29]
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ (29)}
(1)
كما تقدّم في حسابيه.
[سورة الحاقة (69): الآيات 30الى 31]
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)}
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (31) ويجوز إثبات الواو على الأصل ومن حذفها فلسكون الواو، والهاء ليست بحاجز حصين (2).
[سورة الحاقة (69): الآيات 32الى 34]
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهََا سَبْعُونَ ذِرََاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كََانَ لاََ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلاََ يَحُضُّ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ (34)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 174.
(2) الرجز لحميد الأرقط في شرح شواهد الإيضاح 341، والمقاصد النحوية 4/ 504، وشرح التصريح 2/ 286، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 118، وإصلاح المنطق ص 310، وأوضح المسالك 4/ 286، وجمهرة اللغة 1314، وخزانة الأدب 1/ 214، والمخصّص 1/ 167، ومقاييس اللغة 1/ 26، وشرح عمدة الحافظ ص 576، والخصائص 2/ 307، ولسان العرب (ذرع) و (فرع) و (رمى)، وأدب الكاتب 507، والأزهيّة 276، والأشباه والنظائر 5/ 219وقبله:
«ما لك لا ترمي وأنت أنزع ... أرمي عليها وهي فرع أجمع»
الذراع مؤنثة كما قال:(5/17)
الذراع مؤنثة كما قال:
497 - وهي ثلاث أذرع وإصبع (1)
وحكى الفراء (2): إن بعض عكل يذكّرها، وقد حكى ذلك غيره. {إِنَّهُ كََانَ لََا يُؤْمِنُ بِاللََّهِ الْعَظِيمِ} (33) في موضع نصب، ورفع لأنه فعل مستقبل وكذا {وَلََا يَحُضُّ عَلى ََ طَعََامِ الْمِسْكِينِ} (34).
[سورة الحاقة (69): آية 35]
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هََاهُنََا حَمِيمٌ (35)}
قال أبو زيد: الحميم القريب في كلام العرب.
[سورة الحاقة (69): آية 36]
{وَلاََ طَعََامٌ إِلاََّ مِنْ غِسْلِينٍ (36)}
يجوز أن يكون استثناء من الأول.
[سورة الحاقة (69): آية 37]
{لاََ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخََاطِؤُنَ (37)}
وقراءة موسى بن طلحة {إِلَّا الْخََاطِؤُنَ} على إبدال الهمزة وهي لغة شاذة.
[سورة الحاقة (69): الآيات 38الى 39]
{فَلاََ أُقْسِمُ بِمََا تُبْصِرُونَ (38) وَمََا لاََ تُبْصِرُونَ (39)}
{وَمََا لََا تُبْصِرُونَ} (39) «لا» زائدة للتوكيد.
[سورة الحاقة (69): آية 40]
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}
قيل: هو مجاز لأنه سمعه منه الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحاقة (69): الآيات 41الى 42]
{وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شََاعِرٍ قَلِيلاً مََا تُؤْمِنُونَ (41) وَلاََ بِقَوْلِ كََاهِنٍ قَلِيلاً مََا تَذَكَّرُونَ (42)}
نصب {قَلِيلًا} لأنه نعت لمصدر أو لظرف وكذا. {وَلََا بِقَوْلِ كََاهِنٍ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ}.
[سورة الحاقة (69): آية 43]
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (43)}
__________
(1) انظر المذكر والمؤنّث للفراء 77.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 321، والمحتسب 2/ 329.(5/18)
على إضمار مبتدأ.
[سورة الحاقة (69): آية 44]
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنََا بَعْضَ الْأَقََاوِيلِ (44)}
أي من الباطل.
[سورة الحاقة (69): آية 45]
{لَأَخَذْنََا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)}
في معناه قولان: أحدهما بالقوة، والآخر: أهنّاه كما تقول: خذ بيده فأقمه.
[سورة الحاقة (69): آية 46]
{ثُمَّ لَقَطَعْنََا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}
فأخبر الله جلّ وعزّ بحكمه في أوليائه ومن يعز عليه ليعتبر غيرهم.
[سورة الحاقة (69): آية 47]
{فَمََا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حََاجِزِينَ (47)}
نعت لأحد على المعنى.
[سورة الحاقة (69): آية 48]
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}
قال قتادة: القرآن.
[سورة الحاقة (69): آية 49]
{وَإِنََّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)}
اسم «أنّ».
[سورة الحاقة (69): آية 50]
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكََافِرِينَ (50)}
أي يتحسرون يوم القيامة على تركهم الإيمان به.
[سورة الحاقة (69): آية 51]
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}
أي محضه وخالصه. والكوفيون يقولون: هذا إضافة الشيء إلى نفسه.
[سورة الحاقة (69): آية 52]
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
أي نزّهه وبرّئه مما نسب إليه من الأنداد والأولاد والشّبه «العظيم» الذي كلّ شيء صغير دونه.(5/19)
70 - شرح إعراب سورة سأل سائل (المعارج)
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المعارج (70): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سَأَلَ سََائِلٌ بِعَذََابٍ وََاقِعٍ (1)}
{سَأَلَ سََائِلٌ} هذه قراءة أهل الكوفة وأهل البصرة يهمزها جميعا، وقرأ أبو جعفر والأعرج ونافع {سَأَلَ سََائِلٌ} (1) الأول بغير همز والثاني مهموز، وهذه القراءة لها وجهان: أحدهما أن يكون «سال» من السيل أي انصبّ، والآخر أن يقال: سال بمعنى سأل لا أنه منه لأن هذا ليس بتخفيف الهمز لو كان منه إنما يكون على البدل من الهمز، وذلك بعيد شاذّ. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أنه من الهمز، وإنه إنما غلط فيه على نافع وإنه إنما كان يأتي بالهمزة بين بين. قال أبو جعفر:
وهذا تأويل بعيد وتغليط لكل من روى عن نافع، والقول فيه أن سيبويه حكى: سلت أسأل بمعنى سألت فالأصل في سال سول فلما تحركت الواو وتحرك ما قبلها قلبت ألفا، ومثله خفت. وسائل مهموز على أصله إن كان من سأل وإن كان من سال فالأصل في ساول فاعل فقلبت الواو ألفا وقبلها ألف ساكنة ولا يلتقي ساكنان فأبدل من الألف همزة مثل صائم وخائف {بِعَذََابٍ وََاقِعٍ}.
[سورة المعارج (70): آية 2]
{لِلْكََافِرينَ لَيْسَ لَهُ دََافِعٌ (2)}
{لِلْكََافِرينَ} قول الفراء (2) أن التقدير بعذاب للكافرين، ولا يجوز عنده أن يكون للكافرين متعلقا بواقع. قال أبو جعفر: وظاهر القرآن على غير ما قال وأهل التأويل على غير قوله. قال مجاهد: وواقع في الآخرة، وقال الحسن: أنزل الله جلّ وعزّ:
{سَأَلَ سََائِلٌ بِعَذََابٍ وََاقِعٍ} فقالوا لمن هو على من يقع؟ فأنزل الله تعالى: {لِلْكََافِرينَ لَيْسَ لَهُ دََافِعٌ}.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 326، وتيسير الداني 174.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 183.(5/20)
[سورة المعارج (70): آية 3]
{مِنَ اللََّهِ ذِي الْمَعََارِجِ (3)}
قيل: المعارج درج الجنّة، وروى ابن نجيح عن مجاهد قال: السماء.
[سورة المعارج (70): آية 4]
{تَعْرُجُ الْمَلاََئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}
وفي قراءة عبد الله «يعرج» (1) على تذكير الجميع. {فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا، وأعلى ما قيل فيه عن ابن عباس أنه قال: هو يوم القيامة، وأن المعنى مقدار محاسبة الله جلّ وعزّ الخلق فيه وإثابته ومعاقبته إياهم مقدار ذلك خمسون ألف سنة لو كان غيره المحاسب، ويدلّ على هذا حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم فقال: «إنّه على المؤمن أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها» (2).
[سورة المعارج (70): آية 5]
{فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5)}
{فَاصْبِرْ} على أذاهم. {صَبْراً جَمِيلًا} لا جزع فيه.
[سورة المعارج (70): آية 6]
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6)}
لأنهم لا يؤمنون به. قيل: الضمير في «إنهم» للكافرين وفي «يرونه» للعذاب.
[سورة المعارج (70): آية 7]
{وَنَرََاهُ قَرِيباً (7)}
لأنه كائن، وكلّ كائن قريب.
[سورة المعارج (70): آية 8]
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمََاءُ كَالْمُهْلِ (8)}
يكون التقدير: يقع هذا أو يبصرونهم يوم تكون السّماء كالمهل، وأضيف يوم إلى الفعل، لأنه بمعنى المصدر وعطف عليه.
[سورة المعارج (70): آية 9]
{وَتَكُونُ الْجِبََالُ كَالْعِهْنِ (9)}
جمع عهنة، ويقال عهون.
[سورة المعارج (70): الآيات 10الى 11]
{وَلاََ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)}
{يُبَصَّرُونَهُمْ} في هذا المضمر اختلاف عن العلماء فعن ابن عباس يبصّر الحميم حميمه أي يراه ويعرفه ثم يفرّ منه. فهذا قول، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد يبصر
__________
(1) انظر تيسير الداني 174، ومعاني الفراء 3/ 184، والبحر المحيط 8/ 327.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 327.(5/21)
المؤمنون الكافرين وعن ابن زيد يبصّر في النار التابعون للمتبوعين. قال أبو جعفر:
وأولى هذه الأقوال بالصواب القول الأول لأنه قد تقدّم ذكر الحميم فيكون الضمير راجعا عليه أولى من أن يعود على ما لم يجر له ذكر {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} بنيت «يومئذ» (1) لمّا أضيفت إلى غير معرب، وإن شئت خفضتها بالإضافة فقرأت {مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}.
[سورة المعارج (70): الآيات 12الى 13]
{وَصََاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)}
{وَفَصِيلَتِهِ} والجمع فصائل وفصل وفصلان.
[سورة المعارج (70): آية 14]
{وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}
أي ثم ينجيه الافتداء لأن {يَفْتَدِي} يدلّ على الافتداء.
[سورة المعارج (70): الآيات 15الى 16]
{كَلاََّ إِنَّهََا لَظى ََ (15) نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ (16)}
{كَلََّا} تمام حسن {إِنَّهََا لَظى ََ} {نَزََّاعَةً لِلشَّوى ََ} بين النحويين في هذا اختلاف تكون لظى في موضع نصب على البدل من قولك «ها» ونزّاعة خبر «إنّ»، وقيل: {لَظى ََ} في موضع رفع على خبر «إن» و {نَزََّاعَةً} خبر ثان أو بدل على إضمار مبتدأ، وقيل: إنّ «ها» كناية عن القصة و {لَظى ََ نَزََّاعَةً} مبتدأ وخبره وهما خبر عن «إنّ» وأجاز أبو عبيد {نَزََّاعَةً} (2) بالنصب، وحكى أنه لم يقرأ به. قال أبو جعفر: وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز النصب في هذا لأنه لا يجوز أن يكون إلا نزاعة للشوى، وليس كذا سبيل الحال.
[سورة المعارج (70): آية 17]
{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلََّى (17)}
مجاز لأنه يروى أن خزنتها ينادون: ائتونا بمن أدبر وتولّى عن طاعة الله، وروى سعيد عن قتادة: تدعو من أدبر عن طاعة الله وتولّى عن كتابه وحقّه.
[سورة المعارج (70): آية 18]
{وَجَمَعَ فَأَوْعى ََ (18)}
أي جعل المال في وعاء ولم يؤدّ منه الحقوق. ويقال: وعيت العلم وأوعيت المتاع.
[سورة المعارج (70): الآيات 19الى 21]
{إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بخفضها).
(2) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 328.(5/22)
{خُلِقَ} في موضع خبر «إنّ» ونصبت {هَلُوعاً} على الحال المقدّرة والهلوع فيما حكاه أهل اللغة الذي يستعمل في حال الفقر ما لا ينبغي أن يستعمله من الجزع وقلة التأسّي وفي الغنى ما لا ينبغي أن يستعمله من منع الحقّ الواجب وقلة الشكر. وقد بين هذا بقوله: {إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} {وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} ونصبت {جَزُوعاً} و {مَنُوعاً} على النعت لهلوع، ويجوز أن يكون التقدير صار كذا.
[سورة المعارج (70): آية 22]
{إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)}
نصب على الاستثناء.
[سورة المعارج (70): آية 23]
{الَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلاََتِهِمْ دََائِمُونَ (23)}
نعت.
[سورة المعارج (70): آية 24]
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوََالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)}
عطف عليه روى سعيد بأن قتادة قال: الصدقة المفروضة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوََالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} قال: يقول سوى الصدقة يصل بها رحما ويقوّي بها ضعيفا أو يحمل بها كلّا أو يعين بها محروما.
[سورة المعارج (70): آية 25]
{لِلسََّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}
قال أبو جعفر: صح عن ابن عباس قال: المحروم المحارف، وعن قتادة السائل الذي يسأل بكفّه، والمحروم المتعفّف أي الذي لا يسأل، ولكل عليك حقّ يا ابن آدم، وعن ابن زيد «المحروم» الذي احترق زرعه.
[سورة المعارج (70): الآيات 26الى 34]
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذََابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذََابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ (29) إِلاََّ عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
} {فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهََادََاتِهِمْ قََائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلاََتِهِمْ يُحََافِظُونَ (34)}
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذََابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} في موضع نصب كله معطوف على نعت المصلين وكذا {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ} وكذا {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهََادََاتِهِمْ قََائِمُونَ} قال أبو جعفر وقراءة أبي عبد الرحمن والحسن {بِشَهََادََاتِهِمْ} (1) قال أبو جعفر: شهادة مصدر فذلك قرأها جماعة على التوحيد، ويجوز أن يكون واحدا يدل على جمع، وكذا {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ}.
__________
(1) انظر تيسير الداني 174.(5/23)
[سورة المعارج (70): آية 35]
{أُولََئِكَ فِي جَنََّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}
مبتدأ وخبره.
[سورة المعارج (70): آية 36]
{فَمََا لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)}
نصب على الحال وكذا {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ} جمع عزة جمع بالواو والنون وفيه علامة التأنيث عوضا مما حذف منه، وفيه لغة أخرى يقال: مررت بقوم عزين، يجعل الإعراب في النون.
[سورة المعارج (70): آية 38]
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}
وقراءة الحسن وطلحة {أَنْ يُدْخَلَ} (1) بفتح الياء وضم الخاء. قال أبو جعفر:
والآية مشكلة. فمما قيل فيها إن المعنى فما للذين كفروا قبلك مسرعين بالتكذيب لك، وقيل: بالاستماع منك ليعيبوك {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمََالِ عِزِينَ} أي متفرّقين في أديانهم وهم مخالفون للإسلام أيطمع كل امرئ منهم أن يثاب على هذا فيدخل الجنة، وقيل:
أيطمع كلّ امرئ منهم أن ينجو من العذاب على هذا الفعل لأن معنى يدخل الجنة ينجو من العذاب.
[سورة المعارج (70): آية 39]
{كَلاََّ إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِمََّا يَعْلَمُونَ (39)}
{كَلََّا} ردّ عليهم {إِنََّا خَلَقْنََاهُمْ مِمََّا يَعْلَمُونَ} ذكّرهم مهانتهم وأنهم إنما خلقوا من نطفة فكيف يستحقّون الثواب إذا لم يعملوا عملا صالحا، كما قال قتادة: خلقت من قذر يا ابن آدم فاتّق الله جلّ وعزّ.
[سورة المعارج (70): آية 40]
{فَلاََ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ إِنََّا لَقََادِرُونَ (40)}
{فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ}. قال أبو ظبيان عن ابن عباس: للشمس كلّ يوم مشرق ومغرب لم يكونا لها بالأمس فذلك قوله جلّ وعزّ: {فَلََا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشََارِقِ وَالْمَغََارِبِ} ولا زائدة للتوكيد لا نعلم في ذلك اختلافا فإنما اختلفوا في «لا أقسم» لأنه أول السورة فكرهوا أن يقولوا: زائد في أول السورة وقد أجمع النحويون أنه لا تزاد «لا» و «ما» في أول الكلام فكان الكلام في هذا أشدّ، وجواب القسم: {إِنََّا لَقََادِرُونَ}.
[سورة المعارج (70): آية 41]
{عَلى ََ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمََا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}
أي ليس يعجزوننا ولا يفوتوننا لأن من فاته الشيء ولم يلحقه فقد سبقه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 186، والبحر المحيط 8/ 330.(5/24)
[سورة المعارج (70): آية 42]
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتََّى يُلاََقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)}
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} جواب، وفيه معنى الشرط وفي موضع آخر {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] لأن هذا ليس بجواب، وزعم الأخفش سعيد أن الفرق بينهما أنه إذا كان بالنون فهم في تلك الحال وإذا لم يكن بالنون فهو للمستقبل {يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}.
[سورة المعارج (70): آية 43]
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ سِرََاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى ََ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ} بدل منه. {مِنَ الْأَجْدََاثِ سِرََاعاً} نصب على الحال. {كَأَنَّهُمْ إِلى ََ نُصُبٍ يُوفِضُونَ} وقراءة الحسن {إِلى ََ نُصُبٍ} (1) وكذا يروى عن زيد بن ثابت وأبي العالية: أي إلى غايات يستبقون، وقال الحسن: كانوا يجتمعون غدوة فيجلسون فإذا طلعت الشمس تبادروا إلى أنصابهم. فقال الأعرج: إلى نصب إلى علم. قال أبو جعفر: وتقديره في العربية إلى علم قد نصب نصبا.
[سورة المعارج (70): آية 44]
{خََاشِعَةً أَبْصََارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذََلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كََانُوا يُوعَدُونَ (44)}
{خََاشِعَةً أَبْصََارُهُمْ} أي ذليلة خاضعة لما نزل بهم ونصب خاشعة بترهقهم أو بيخرجون {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم {ذََلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كََانُوا يُوعَدُونَ} (2) قيل: الذي كانوا مشركو قريش يوعدون به فلا يصدّقون ذلك.
__________
(1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد والباقون بفتح النون وإسكان الصاد).
(2) انظر البحر المحيط 8/ 330 (قرأ الجمهور «ذلة» منوّنا، و «ذلك اليوم» برفع الميم مبتدأ وخبره، وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلة» بغير تنوين مضافا إلى «ذلك»، واليوم بخفض الميم).(5/25)
71 - شرح إعراب سورة نوح عليه السّلام
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة نوح (71): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {إِنََّا أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (1)}
{إِنََّا} الأصل إنّنا حذفت النون تخفيفا {أَرْسَلْنََا} سكّنت اللام في الأصل لاجتماع الحركات وأنه مبنيّ {نُوحاً} اسم أعجمي انصرف لأنه على ثلاثة أحرف. {إِلى ََ قَوْمِهِ} اسم للجمع، وقيل: قوم جمع قائم مثل تاجر وتجر {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} «أن» بمعنى التبيين تقول: أي أنذر قومك، ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون المعنى بأن أنذر قومك {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} خفضت قبل بمن وأعربتها لأنها مضافة إلى «أن».
[سورة نوح (71): الآيات 2الى 3]
{قََالَ يََا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)}
{أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ} يكون أن أيضا بمعنى «أي»، ويكون بمعنى نذير بأن اعبدوا الله وصلتها اعبدوا {وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} عطف عليه.
[سورة نوح (71): آية 4]
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللََّهِ إِذََا جََاءَ لاََ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} جزم لأنه جواب الأمر {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} عطف عليه {إِنَّ أَجَلَ اللََّهِ إِذََا جََاءَ لََا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لم يجزم بلو الفعل المستقبل لمخالفتها حروف الشرط في أنها لا تردّ الماضي إلى المستقبل.
[سورة نوح (71): آية 5]
{قََالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهََاراً (5)}
على الظرف.
[سورة نوح (71): آية 6]
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعََائِي إِلاََّ فِرََاراً (6)}
مفعول ثان.(5/26)
[سورة نوح (71): الآيات 7الى 8]
{وَإِنِّي كُلَّمََا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيََابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبََاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهََاراً (8)}
{وَإِنِّي كُلَّمََا دَعَوْتُهُمْ} منصوب على الظرف و «ما» متصلة مع «كل» إذا كانت بمعنى إذا، والجواب {جَعَلُوا أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ} الواحدة إصبع مؤنثة ويقال: إصبع.
{وَاسْتَغْشَوْا ثِيََابَهُمْ وَأَصَرُّوا} عطف عليه قال الفراء (1): {أَصَرُّوا} سكتوا على الكفر.
{وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبََاراً} مصدر فيه معنى التوكيد، وكذا {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهََاراً} ويجوز أن يكون التقدير: ذا جهار.
[سورة نوح (71): آية 9]
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرََاراً (9)}
{إِسْرََاراً} مصدر أيضا فيه معنى التوكيد.
[سورة نوح (71): آية 10]
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كََانَ غَفََّاراً (10)}
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي استدعوا منه المغفرة. {إِنَّهُ كََانَ غَفََّاراً} أي ستّارا على عقوبات الذنوب لمن تاب.
[سورة نوح (71): آية 11]
{يُرْسِلِ السَّمََاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرََاراً (11)}
{يُرْسِلِ السَّمََاءَ عَلَيْكُمْ} جواب الأمر. {مِدْرََاراً} نصب على الحال من السماء، ومفعال للمؤنّث بغير هاء لأنه جار على الفعل يقال: امرأة مذكار ومئناث بغير هاء.
[سورة نوح (71): آية 12]
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوََالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنََّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهََاراً (12)}
يروى أنهم قيل لهم هذا لأنهم كانوا شديدي المحبة للمال.
[سورة نوح (71): آية 13]
{مََا لَكُمْ لاََ تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً (13)}
قد ذكرناه.
[سورة نوح (71): آية 14]
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوََاراً (14)}
أكثر أهل التفسير على أن الأطوار خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة، وقيل:
اختلاف المناظر لأنك ترى الخلق فتميّز بينهم في الصور والكلام، ولا بدّ من فرق وإن اشتبهوا. وذلك دالّ على مدبر وصانع.
[سورة نوح (71): آية 15]
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللََّهُ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً (15)}
{طِبََاقاً} مصدر، ويجوز أن يكون نعتا لسبع، وأجاز الفراء (2) الخفض في غير القرآن.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 188.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 188.(5/27)
[سورة نوح (71): آية 16]
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرََاجاً (16)}
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال أبو جعفر: أجلّ ما روي فيه قول عبد الله بن عمرو:
إنّ وجه القمر إلى السموات فهو فيهن على الحقيقة {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرََاجاً} مفعولان
[سورة نوح (71): آية 17]
{وَاللََّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبََاتاً (17)}
ومصدر أنبت إنبات إلّا أن التقدير فنبتهم نباتا قيل: هذا لأن آدم صلّى الله عليه وسلّم خلق من طين، وقيل: النطفة مخلوقة من تراب.
[سورة نوح (71): آية 18]
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهََا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرََاجاً (18)}
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهََا} بالإقبار {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرََاجاً} إلى البعث.
[سورة نوح (71): آية 19]
{وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسََاطاً (19)}
ويجوز بصاد لأن بعدها طاء.
[سورة نوح (71): آية 20]
{لِتَسْلُكُوا مِنْهََا سُبُلاً فِجََاجاً (20)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس {سُبُلًا فِجََاجاً} قال: طرقا مختلفة.
[سورة نوح (71): آية 21]
{قََالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مََالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاََّ خَسََاراً (21)}
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {وَوَلَدُهُ} (1) ويجوز والده مثل «أقّتت» وروى شبل عن مجاهد قال: ولده زوجه وأهله وروى خارجة عن أبي عمرو بن العلاء قال: ولده عشيرته وقومه. قال أبو جعفر: أما أهل اللغة سوى هذه الرواية عن أبي عمرو فيقولون: ولد وولد مثل بخل وبخل وفلك وفلك، ويجوز عندهم أن يكون ولد جمع ولد وثن ووثن.
[سورة نوح (71): آية 22]
{وَمَكَرُوا مَكْراً كُبََّاراً (22)}
و {كُبََّاراً} (2) هي قراءة بمعنى واحد.
[سورة نوح (71): آية 23]
{وَقََالُوا لاََ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاََ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاََ سُوََاعاً وَلاََ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)}
{وَقََالُوا لََا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلََا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلََا سُوََاعاً}. هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ الكوفيون
__________
(1) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 334.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 189، والبحر المحيط 8/ 325 (قرأ الجمهور بتشديد الباء وهو بناء فيه مبالغة، وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال بتخفيف الباء، وقرأ زيد بن علي وابن محيصن «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء).(5/28)
وأبو عمرو {وَدًّا} بفتح الواو وهو اختيار أبي عبيد واحتجّ بقولهم عبد ودّ وأن الصنم اسمه ودّ. قال أبو جعفر: وهذا من الاحتجاجات الشاذة، والمتعارف عكس ما قال إنما يقال: عبد ودّ فإن كان من جهة التعارف فهو هذا، وإن كان من جهة الأشبه فالأشبه أن يسمّى بودّ مشتقّ من الوداد، وهو السهولة واللين، ومنه وددت الرجل أحببته ووددته إذا بررته، ووددت أن ذلك الشيء لي أي تمنيت بسهولة وتسميتهم الصنم ودّا من هذا {وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} لم ينصرف يغوث ويعوق لشبههما الفعل المستقبل، وقرأ الأعمش «ولا يغوث ويعوق» بالصرف، وفي حرف عبد الله فيما روى {وَلََا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلََا سُوََاعاً وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال أبو جعفر: هذا عند الخليل وسيبويه لحن وهو أيضا مخالف للسواد الأعظم وزعم الفراء (1): أنّ ذلك يجوز صرفه لكثرته أو كأنه نكرة، وهذا ما لا يحصل لأنه ليس إذا كثر الشيء صرف فيه ما لا ينصرف على أنه لا معنى لقوله:
لكثرته في اسم صنم، ولا معنى لأن يكون نكرة ما كان مخصوصا مثل هذا. وقد زاد الكسائي على هذا فقال: العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأنهم قد صرفوا خيرا منك وشرّا منك ومعها منك.
[سورة نوح (71): آية 24]
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلاََ تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلاََّ ضَلاََلاً (24)}
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} ويجوز في غير القرآن وقد أضللن وقد أضلّت {وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا ضَلََالًا} قيل: المعنى: لا توفقهم، وقيل: إلا ضلالا عن الثواب وطريق الجنة.
[سورة نوح (71): آية 25]
{مِمََّا خَطِيئََاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نََاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَنْصََاراً (25)}
«ما» زائدة للتوكيد، ولا يجوز عند البصريين غير ذلك، والكوفيون يقولون:
صلة ثم يرجعون في بعض المواضع إلى الحقّ وهذا منها زعم الفراء (2) أن «ما» هاهنا تفيد لأن المعنى من أجل خطيئاتهم أغرقوا واحتجّ بأنّ «ما» تدل على المجازاة، وذكر حيثما تكن أكن، وذكر كيف وأين هذا في كتابه «في معاني القرآن» ومذهبه في هذا حسن لولا ما فيه من التخطيط. ذكر حيثما وهي لا يجازى بها إلّا ومعها «ما» وذكر «كيف» وهي لا يجازى بها البتة، وذكر «أين» وهي يجازى بها مع «ما» وبغير «ما»، فجمع بين ثلاثة أشياء مختلفة.
[سورة نوح (71): آية 26]
{وَقََالَ نُوحٌ رَبِّ لاََ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكََافِرِينَ دَيََّاراً (26)}
أي أحدا وهو من دار يدور أي أحدا يدور، وقيل: ديّار صاحب دار.
[سورة نوح (71): آية 27]
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبََادَكَ وَلاََ يَلِدُوا إِلاََّ فََاجِراً كَفََّاراً (27)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 189.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 189.(5/29)
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} شرط {يُضِلُّوا عِبََادَكَ} مجازاة {وَلََا يَلِدُوا إِلََّا فََاجِراً كَفََّاراً} عطف عليه.
[سورة نوح (71): آية 28]
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوََالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ وَلاََ تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلاََّ تَبََاراً (28)}
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوََالِدَيَّ} بفتح الياء لأنها ياء النفس لا يجوز كسرها وهي نظيرة {بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] وكذا قراءة من قرأ «ولوالدي» (1) ومن قرأ «ولوالدي» جاز أن يسكن الياء وأن يفتحها. {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ} عطف بإعادة الحرف {وَالْمُؤْمِنََاتِ} عطف بغير إعادة الحرف {وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا تَبََاراً} قال الفراء (2): إلّا ضلالا، وأولى منه قول مجاهد: إلّا هلاكا، مشتق من التّبر وتبرت الشيء وتبرته كسرته.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 337.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 190.(5/30)
72 - شرح إعراب سورة الجنّ
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الجن (72): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقََالُوا إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً (1)}
قرأ جويّة بن عائذ الأسدي «قل أحي إليّ» (1) قال أبو جعفر: هذا على لغة من قال: وحى يحي. قال العجاج: [الرجز] 498وحى لها القرار فاستقرّت (2)
والأصل: وحي إليّ فأبدل من الواو همزة مثل {أُقِّتَتْ} «أنه» في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. والنفر ثلاثة وأكثر. {فَقََالُوا إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً} كسرت «إن» لأنها بعد القول فهي مبتدأة. ومعنى عجب عجيب في اللغة على ما ذكره محمد بن يزيد أنه الشيء يقلّ ولا يكاد يوجد مثله.
[سورة الجن (72): آية 2]
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنََّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنََا أَحَداً (2)}
«لن» تدلّ على المستقبل، والأصل فيهما عند الخليل (3): لا أن، وزعم أبو عبيدة أنه قد يجزم بها.
[سورة الجن (72): آية 3]
{وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلاََ وَلَداً (3)}
{وَأَنَّهُ تَعََالى ََ جَدُّ رَبِّنََا} هذه قراءة المدنيين (4) في السورة كلّها إلّا في {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} وفي {وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ} [الآية: 18] وفي و {أَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الآية: 16]. وقد زعم بعض أهل اللغة قراءة المدنيين لا يجوز غيرها، وطعن على من قرأ بالفتح لأنه توهم أنه معطوف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ}. قال أبو جعفر: وذلك غلط لأنه
__________
(1) انظر البحر المحيط 8: 339، معاني الفراء 3/ 190.
(2) مرّ الشاهر رقم (398).
(3) انظر الكتاب 3/ 3.
(4) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 341.(5/31)
قد قرأ بالفتح من تقوم الحجة بقراءته. روى الأعمش عن إبراهيم بن علقمة أنه قرأ و «أن» في السورة كلها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بالفتح في السورة كلها إلى قوله: {قُلْ إِنَّمََا أَدْعُوا رَبِّي} [الواقعة: 20] فلمّا أشكل عليه هذا عدل إلى قراءة أهل المدينة لأنها بينة واضحة. والقول في الفتح أنه معطوف على المعنى، والتقدير فآمنّا به وآمنّا أنه تعالى جدّ ربنا فإنه في موضع نصب. وأحسن ما روي في معنى «جدّ ربّنا» قول ابن عباس: إنه الغنى والعظمة والرفعة، وأصل الجدّ في اللّغة الارتفاع. من ذلك الجدّ أبو الأب. ومنه الجدّ الحظ وباللغة الفارسية البخت. ويقال:
إنّ الجنّ قصدوا إلى هذا وأنهم أرادوا الرفعة والحظ أي ارتفع ربنا عن أن ينسب إلى الضعف الذي في خلقه من اتّخاذ المرأة وطلب الولد والشهوة. يدلّ على هذا أن بعده {مَا اتَّخَذَ صََاحِبَةً وَلََا وَلَداً} وقد زعم بعض الفقهاء أنه يكره أن تقول: وتعالى جدّك، واحتجّ بأن هذا إخبار عن الجنّ. وذلك غلط لأنه قد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يذمّ الله الجنّ على هذا القول. وروي عن عكرمة: «وأنه تعالى جدّا ربّنا».
[سورة الجن (72): آية 4]
{وَأَنَّهُ كََانَ يَقُولُ سَفِيهُنََا عَلَى اللََّهِ شَطَطاً (4)}
السّفه رقة الحلم، وثوب سفيه أي رقيق، وفتح أن أيضا حملا على المعنى أي صدّقنا وشهدنا. والشطط البعد، كما قال: [الكامل] 499شطّت مزار العاشقين فأصبحت (1)
[سورة الجن (72): آية 5]
{وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللََّهِ كَذِباً (5)}
لاستعظامهم ذلك، والظنّ هاهنا الشك.
[سورة الجن (72): آية 6]
{وَأَنَّهُ كََانَ رِجََالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجََالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزََادُوهُمْ رَهَقاً (6)}
اسم كان وخبرها {يَعُوذُونَ بِرِجََالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزََادُوهُمْ رَهَقاً} مفعول ثان.
[سورة الجن (72): آية 7]
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمََا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللََّهُ أَحَداً (7)}
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمََا ظَنَنْتُمْ} وإن فتحت أن حملته أيضا على المعنى أي علمنا أنهم ظنوا كما ظننتم {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللََّهُ أَحَداً} «أن» وما بعدها في موضع المفعولين لظننتم إن أعملته وإن أعملت الأول نويت بها التقدّم.
__________
(1) الشاهد لعنترة في ديوانه 109، ولسان العرب (زأر) و (زور) و (شطط)، وتاج العروس (زور) و (شطط) و (ركل)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 42. وعجزه:
عسرا عليّ طلابها ابنة مخرم»(5/32)
[سورة الجن (72): آية 8]
{وَأَنََّا لَمَسْنَا السَّمََاءَ فَوَجَدْنََاهََا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8)}
إن عدّيت وجدنا إلى مفعولين فملئت في موضع المفعول الثاني وإن عديتهما إلى واحد أضمرت «قد». قال أبو جعفر: والأول أولى وشهب في الكثير، وفي القليل أشهبة.
[سورة الجن (72): آية 9]
{وَأَنََّا كُنََّا نَقْعُدُ مِنْهََا مَقََاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً (9)}
{وَأَنََّا كُنََّا نَقْعُدُ مِنْهََا مَقََاعِدَ لِلسَّمْعِ} لم ينصرف لأنه لا نظير له في الواحد وهو نهاية الجمع. {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهََاباً رَصَداً} شرط ومجازاة.
[سورة الجن (72): آية 10]
{وَأَنََّا لاََ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرََادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)}
أحسن ما قيل فيه إن المعنى: لا ندري أشرّا أراد الله بمن في الأرض حين منعنا الاستماع من السماء أم أراد بهم ربهم أن يرسل إليهم رسولا فيرشدهم هذا مذهب ابن زيد، وكانت هذه من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه شدّد على الشياطين في استماعهم من السماء ورموا بالشهب.
[سورة الجن (72): آية 11]
{وَأَنََّا مِنَّا الصََّالِحُونَ وَمِنََّا دُونَ ذََلِكَ كُنََّا طَرََائِقَ قِدَداً (11)}
لمّا سكنت النون من «من» استغنيت عن زيادة نون أخرى فإذا قلت: منّي فالاسم الياء وزدت النون لئلا تكسر نون «من» {كُنََّا طَرََائِقَ قِدَداً} الواحدة طريقة ويقال: طريق وطريقة، وفلان على طريقة فلان: وفلان طريقة القوم أي رئيسهم والقوم طريقة أيضا، وإن شئت جمعت.
[سورة الجن (72): آية 12]
{وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللََّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)}
{وَأَنََّا ظَنَنََّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللََّهَ فِي الْأَرْضِ} الظن هاهنا يقين. {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} مصدر في موضع الحال.
[سورة الجن (72): آية 13]
{وَأَنََّا لَمََّا سَمِعْنَا الْهُدى ََ آمَنََّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاََ يَخََافُ بَخْساً وَلاََ رَهَقاً (13)}
{وَأَنََّا لَمََّا سَمِعْنَا الْهُدى ََ آمَنََّا بِهِ} على تذكير الهدى، وهي اللغة الفصيحة. وقد تؤنث {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلََا يَخََافُ بَخْساً وَلََا رَهَقاً} وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش {فَلََا يَخََافُ} (1)
على النهي.
[سورة الجن (72): آية 14]
{وَأَنََّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقََاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولََئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)}
{وَأَنََّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقََاسِطُونَ} قسط إذا جار، هذا الأصل ثم يزاد عليه الألف فيقال: أقسط إذا أزال القسوط أي عدل.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 344.(5/33)
[سورة الجن (72): آية 16]
{وَأَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً (16)}
وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش {وَأَنْ لَوِ اسْتَقََامُوا} بضم الواو لالتقاء الساكنين ولأن الضمة تشبه الواو إلا أن سيبويه (1) لا يجيز إلا الكسر في الواو الأصلية فرقا بينها وبين الزائد {لَأَسْقَيْنََاهُمْ مََاءً غَدَقاً} حكى أبو عبيدة (2) سقيته وأسقيته لغة، وأما الأصمعي فقال: سقيته لفيه وأسقيته جعلت له شربا. قال أبو جعفر: وعلى ما قال الأصمعي اللغة الفصيحة، منها لأسقيناهم أي أدمنا لهم ذلك، غير أن أبا عبيدة أنشد للبيد وهو غير مدافع عن الفصاحة: [الوافر] 500 سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال (3)
فسئل الأصمعي عن هذا البيت فقال: هو عندي معمول ولا يكون مطبوع يأتي للغتين في بيت واحد.
[سورة الجن (72): آية 17]
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذََاباً صَعَداً (17)}
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} حكى أبو زيد وأبو عبيدة: فتنته وأفتنته. قال أبو زيد: لغة بني تميم أفتنته. قال الأصمعي: فتنه يفتنه فهو فاتن وفتان قال الله جلّ وعزّ {مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفََاتِنِينَ} [الصافات: 162] قال: ولا يقال: أفتنه وأنكر هذه اللغة ولم يعرفها، فأنشدهم: [الطويل] 501 لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلا كلّ مسلم (4)
قال أبو جعفر: وهذا شعر قديم، غير أن الأصمعي قال: لا بأس هذا قد سمعناه من مخنّث فلا يلتفت إليه، وإن كان قد قيل قديما. قال أبو جعفر: قد حكى الجلّة من أهل اللغة ممن يرجع إلى قوله في الصدق فتنه وأفتنه غير أن سيبويه فرّق بينهما فذهب إلى أن المعتدي أفتن، وأن معنى فتنه جعل فيه فتنة، كما تقول: كحلّه. {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذََاباً صَعَداً} وقرأ مسلم بن جندب {نَسْلُكُهُ} (5) بضم النون. قال أبو جعفر: سلكه وأسلكه لغتان عند كثير من أهل اللغة، وقال الأصمعي: سلكه بغير
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 268.
(2) انظر مجاز القرآن 1/ 349.
(3) مرّ الشاهد رقم / 239).
(4) الشاهد لأعشى همدان في لسان العرب (فتن) والمخصّص 4/ 62، وتاج العروس (فتن)، ولابن قيس الرقيات في الخصائص 3/ 315، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (فتن)، وتهذيب اللغة 14/ 289، وجمهرة اللغة 406، ومقاييس اللغة 4/ 473، وديوان الأدب 2/ 334، وكتاب العين 8/ 128.
(5) انظر تيسير الداني 175 (قرأ الكوفيون بالياء والباقون بالنون).(5/34)
ألف. قال الله جلّ وعزّ {مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] وكما قال الشاعر:
[البسيط] 502 أمّا سلكت سبيلا كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر (1)
وسلك وسلكته مثل رجع ورجعته وأسلكته لغة معروفة أنشد أبو عبيدة وغيره لعبد مناف بن ربع: [البسيط] 503 حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا (2)
ولم يطعن الأصمعي في هذا البيت غير أنه قال: أسلكه حمله على أن يسلك، وزعم أبو عبيدة أن الجواب محذوف وخولف في هذا، وقيل: الجواب شلّوا وشلّا يقوم مقامه.
[سورة الجن (72): آية 18]
{وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ فَلاََ تَدْعُوا مَعَ اللََّهِ أَحَداً (18)}
{وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ} «أنّ» في موضع نصب بمعنى ولأن وعلى قول بعضهم في موضع رفع عطفا على {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ}. {فَلََا تَدْعُوا مَعَ اللََّهِ أَحَداً} نهي لجماعة وحذفت منه النون للجزم.
[سورة الجن (72): آية 19]
{وَأَنَّهُ لَمََّا قََامَ عَبْدُ اللََّهِ يَدْعُوهُ كََادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «لبدا» أعوانا، وقال مجاهد: {وَأَنَّهُ لَمََّا قََامَ عَبْدُ اللََّهِ يَدْعُوهُ كََادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (19) لبدا جماعات ومالا لبدا كثيرا. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن وإن كان هذا قد قرئ {لِبَداً} (3) فهو بعيد، والمعنى على الجماعة الأعلى الكثرة كما قال مجاهد: من تلبد الشيء على الشيء إذا تجمّع عليه ولصق به وعليه لبدة أي شعر وما أشبهه كما قال: [الطويل] 504 لدى أسد شاكي السّلاح مقاذف ... له لبد أظفاره لم تقلّم (4)
__________
(1) الشاهد لأعشى باهلة في الأصمعيات 93، والخزانة 1/ 97.
(2) الشاهد لعبد مناف بن ربع الهذليّ في الأزهيّة 203، والإنصاف 2/ 461، وجمهرة اللغة 854، وخزانة الأدب 7/ 39، والدرر 3/ 104، وشرح أشعار الهذليين 2/ 675، وشرح شواهد الإيضاح ص 431، ولسان العرب (شرد) و (قتد)، و (سلك)، و (إذا)، ومراتب النحويين ص 85، ولابن أحمر في ملحق ديوانه 179، ولسان العرب (حمر)، وبلا نسبة في أدب الكاتب 434، والأشباه والنظائر 5/ 25، وجمهرة اللغة 390، والصاحبي في فقه اللغة 139، وهمع الهوامع 1/ 207.
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 346.
(4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 24، ولسان العرب (قذف) و (مكن)، وتهذيب اللغة 9/ 76، وجمهرة اللغة 974، وتاج العروس (قذف).(5/35)
[سورة الجن (72): آية 20]
{قُلْ إِنَّمََا أَدْعُوا رَبِّي وَلاََ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)}
ويقرأ {قُلْ إِنَّمََا أَدْعُوا رَبِّي} (1) والقراءة يقال متّسقة ويقال منقطعة، والمعنيان صحيحان أي قل لهم فقال: إنما أدعو ربي {وَلََا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} نسق ويجوز أن يكون مستأنفا.
[سورة الجن (72): آية 21]
{قُلْ إِنِّي لاََ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاََ رَشَداً (21)}
أي لا أملك أن أضرّكم في دينكم ولا دنياكم إلا أن أرشدكم كرها أي إلّا أن أبلغكم، وفيه قول آخر يكون نصبا على إضمار فعل، ويكون مصدرا أي: قل إني لن يجيرني من الله أحد إلا أن أبلغ رسالته فيكون «أن» منفصلة من لا. والمعنى: إلّا بلاغا ما أتاني من الله ورسالاته. {وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً} شرط ومجازاة، وهو في كلام العرب عام لكل من عصى الله جلّ وعزّ إلّا من استثني بآية من القرآن أو توقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو بإجماع من المسلمين، والذي جاء مستثنى منه من تاب وآمن ومن عمل صغيرة واجتنب الكبائر وسائر ذلك داخلون في الآية إلّا ما صحّ عن النبي من خروج الموحّدين من النار.
[سورة الجن (72): آية 22]
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللََّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)}
{لَنْ} تجعل الفعل مستقبلا لا غير {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي ملجأ ألجأ إليه وأميل. واللحد في القبر من هذا لأنه مائل ناحية منه، ويمال الميت إليه.
[سورة الجن (72): آية 23]
{إِلاََّ بَلاََغاً مِنَ اللََّهِ وَرِسََالاََتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً (23)}
{إِلََّا بَلََاغاً مِنَ اللََّهِ} نصب على الاستثناء، والمعنى فيه إذا كان استثناء.
[سورة الجن (72): آية 24]
{حَتََّى إِذََا رَأَوْا مََا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نََاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)}
إذا ظرف ولا تعرب لشبهها بالحروف بتنقّلها وأن فيها معنى المجازاة، وجوابها {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نََاصِراً} «من» في موضع رفع لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله هذا الوجه وإن جعلتها بمعنى الذي كانت في موضع نصب وأضمرت مبتدأ وكان {أَضْعَفُ} خبره {وَأَقَلُّ} عطف عليه {عَدَداً} نصب على البيان.
[سورة الجن (72): آية 25]
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مََا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)}
{أَدْرِي} في موضع رفع حذفت الضمة منه، ومن نصبه فقد لحن لحنا لا يجوز {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ} عطف عليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 175.(5/36)
[سورة الجن (72): آية 26]
{عََالِمُ الْغَيْبِ فَلاََ يُظْهِرُ عَلى ََ غَيْبِهِ أَحَداً (26)}
{عََالِمُ الْغَيْبِ} نعت {فَلََا يُظْهِرُ عَلى ََ غَيْبِهِ أَحَداً}.
[سورة الجن (72): آية 27]
{إِلاََّ مَنِ ارْتَضى ََ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)}
{إِلََّا مَنِ ارْتَضى ََ مِنْ رَسُولٍ} في موضع نصب على الاستثناء من أحد لأن أحدا بمعنى جماعة {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} بمعنى جماعة أي ذوي رصد من الملائكة يحفظونه ويحفظون ما ينزل من الوحي لا يغيّر ولا يسترق.
[سورة الجن (72): آية 28]
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسََالاََتِ رَبِّهِمْ وَأَحََاطَ بِمََا لَدَيْهِمْ وَأَحْصى ََ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)}
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسََالََاتِ رَبِّهِمْ} قد ذكرناه {وَأَحََاطَ بِمََا لَدَيْهِمْ} عطف جملة لأن الذي قبله مستقبل وهو ماض وكذا {وَأَحْصى ََ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.(5/37)
73 - شرح إعراب سورة المزّمّل
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المزمل (73): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}
الأصل المتزمّل أدغمت التاء في الزاي، وفي معناه ثلاثة أقوال. فمذهب الزهري أنه تزمّل من فزع أصابه أول ما رأى الملك، ومذهب قتادة أنه تزمّل متأهّبا للصلاة، تأوّلا على قتادة وليس بنصّ قوله، ومذهب عكرمة أن المعنى: يا أيها المتزمّل النبوة والرسالة مجازا وتأوّلا على عكرمة، ونصّ قوله: قد زمّلت هذا الأمر فقم به. قال أبو جعفر: والبيّن قول الزهري. قال إبراهيم النخعيّ: كان متزمّلا في قطيفة.
[سورة المزمل (73): الآيات 2الى 3]
{قُمِ اللَّيْلَ إِلاََّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3)}
كسرت الميم لالتقاء الساكنين ولم تردد الواو لأن الحركة ليست بلازمة. في معنى {قُمِ اللَّيْلَ إِلََّا قَلِيلًا} ثلاثة أقوال: إنّ هذا ليس بفرض. يدلّ على ذلك أن بعده {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} وليس كذلك تكون الفروض، والقول الثاني إنه منسوخ، نسخه آخر السورة وهذا قول ابن عباس، والقول الثالث إنه كان فرضا فالمخاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل عزّ وجلّ قوموا، «نصفه» منصوب على إضمار فعل أي قسم نصفه، {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} ضمّت الواو لالتقاء الساكنين وإن شئت كسرت على الأصل.
[سورة المزمل (73): آية 4]
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)}
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} تخيير {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} حقيقته في كلام العرب تلبّث في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فيدخل بعض الحروف في بعض.
مشتقّ من الرتل. قال الأصمعي: وفي الأسنان الرتل وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لا يركب بعضها بعضا، يقال ثغر رتل. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح بيّن، وقيل: هو من الرّتل الذي هو الضعف واللين. فالمعنى: ليّن القراءة ولا تستعجل بالانكماش.(5/38)
[سورة المزمل (73): آية 5]
{إِنََّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)}
في معناه قولان: قال عروة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أوحي إليه وهو على ناقته ثقل عليها حتى تضع جرانها، وقيل: لما فيه من الفرائض والمنع من الشهوات كما قال قتادة: ثقله في الميزان كثقله على الإنسان في الدنيا.
[سورة المزمل (73): آية 6]
{إِنَّ نََاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)}
{إِنَّ نََاشِئَةَ اللَّيْلِ} من نشأ إذا ابتدأ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} (1) كذا يقرأ أكثر القراء، وهذا نصب على البيان. ووطأ مصدر واطأ مواطأة ووطاء {وَأَقْوَمُ قِيلًا} بيان أيضا.
[سورة المزمل (73): آية 7]
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهََارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)}
وعن يحيى بن يعمر أنه قرأ «سبخا» (2) بخاء معجمة أي راحة ونوما. وفي الحديث «لا تسبّخي عنه» أي لا تخفّفي.
[سورة المزمل (73): آية 8]
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)}
تبتيل مصدر بتّل لأن المعنى واحد، وقد تبتّل تبتّلا.
[سورة المزمل (73): آية 9]
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)}
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} بالرفع والكوفيون يقرءون «رب المشرق والمغرب» (3)
بالخفض. والرفع حسن لأنه أول الآية بمعنى هو ربّ المشرق ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} ولو كان خبره {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} لكان النصب أولى به.
[سورة المزمل (73): آية 10]
{وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)}
{وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ} أي مما يؤذيك. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} وهو الهجر في ذات الله جلّ وعزّ، كما قال: {وَإِذََا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيََاتِنََا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتََّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
[سورة المزمل (73): آية 11]
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)}
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ}. عطف على النون والياء، ويجوز أن يكون مفعولا معه {أُولِي النَّعْمَةِ} كتبت بزيادة واو بعد الألف فرقا بين أولي وإلى {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} نعت لمصدر أو ظرف.
__________
(1) انظر تيسير الداني 175.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 355 (وهذه قراءة عكرمة وابن أبي عبلة أيضا).
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 355.(5/39)
[سورة المزمل (73): آية 13]
{وَطَعََاماً ذََا غُصَّةٍ وَعَذََاباً أَلِيماً (13)}
{إِنَّ لَدَيْنََا أَنْكََالًا} اسم «إنّ» الواحد نكل {وَجَحِيماً} {وَطَعََاماً ذََا غُصَّةٍ وَعَذََاباً أَلِيماً} (13) نسق كلّه، والمعنى عندنا هذا.
[سورة المزمل (73): آية 14]
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبََالُ وَكََانَتِ الْجِبََالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)}
قال الفراء (1): هلت التراب إذا حرّكت أسفله فسقط أعلاه، وقال أبو عبيد: يقال لكلّ شيء أرسلته، إرسالا من رمل أو تراب أو طعام أو نحوه: قد هلته أهيله هيلا إذا أرسلته فهو مهيل. قال أبو جعفر: الأصل مهيول فاعلّ فألقيت حركة الياء على الهاء فالتقى ساكنان، واختلف النحويون بعد هذا فقال الخليل وسيبويه (2): حذفت الواو لالتقاء الساكنين لأنها زائدة وكسرت الهاء لمجاورتها الياء فقيل: مهيل، وزعم الكسائي والفراء والأخفش أن هذا خطأ والحجة لهم أن الواو جاءت لمعنى فلا تحذف ولكن حذفت الياء فكان يلزمهم على هذا أن يقولوا: مهول فاحتجّوا بأن الهاء كسرت لمجاورتها الياء فلمّا حذفت الياء انقلبت الواو ياء لمجاورتها الكسرة. قال أبو جعفر:
وهذا باب التصريف وغامض النحو، وقد أجمعوا جميعا على أنه يجوز مهيول ومبيوع ومكيول ومغيوم.
قال أبو زيد: هي لغة لتميم، وقال علقمة بن عبدة: [البسيط] 505يوم رذاذ عليه الدّجن مغيوم (3)
فهذا جائز في ذوات الياء، ولا يجيزه البصريون في ذوات الواو، ولا يجوز عندهم خاتم مصووغ ولا كلام مقوول، لثقل هذا لأنه قد اجتمعت واوان وضمة، وهم يستثقلون الواحدة ويفرّون منها. قال جلّ وعزّ: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] كذا في المصحف المجتمع عليه. قال الشاعر: [الرجز] 506لكلّ دهر قد لبست أثؤبا (4)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 198.
(2) انظر الكتاب 4/ 491.
(3) الشاهد لعلقمة بن عبدة في ديوانه 59، وجمهرة اللغة 963، وخزانة الأدب 11/ 295، والخصائص 1/ 261، وشرح المفصّل 10/ 78، والمقتضب 1/ 101، والممتع في التصريف 2/ 460، والمنصف 1/ 286، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 866.
(4) الرجز لمعروف بن عبد الرّحمن في شرح أبيات سيبويه 2/ 390، ولسان العرب (ثوب)، وله أو لحميد بن ثور في شرح التصريح 2/ 301والمقاصد النحوية 4/ 522، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 804، والكتاب 4/ 65، وشرح الأشموني 3/ 672، ولسان العرب (ملح)، ومجالس ثعلب 439، والمقتضب 1/ 29، والممتع في التصريف 1/ 336، والمنصف 1/ 284.(5/40)
فأبدل من الواو همزة، وأجاز النحويون رمل مهول وثوب مبوع ينوه على بوع الثوب فأبدل من الياء واو لضمة ما قبلها، وأنشد الفراء: [الطويل] 507 ألم تر أنّ الملك قد شون وجهه ... ونبع بلاد الله قد صار عوسجا (1)
يريد «شين»، وأنشد الكسائي والفراء: [الطويل] 508 ويأوي إلى زغب مساكين دونهم ... فلا لا تخطّاه الرّكاب مهوب (2)
واللغة العالية التي جاء بها القرآن. قال عائذ بن محصن بن ثعلبة:
[الوافر] 509 فأبقى باطلي والحدّ منها ... كدكّان الدّرابنة المطين (3)
[سورة المزمل (73): آية 15]
{إِنََّا أَرْسَلْنََا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شََاهِداً عَلَيْكُمْ كَمََا أَرْسَلْنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)}
{إِنََّا أَرْسَلْنََا إِلَيْكُمْ رَسُولًا} النون والألف الثانية في موضع رفع والأولى في موضع نصب واتّفق المكنيان لأنهما غير معربين {شََاهِداً عَلَيْكُمْ} نعت لرسول. {كَمََا أَرْسَلْنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ رَسُولًا} الكاف في موضع نصب.
[سورة المزمل (73): الآيات 16الى 17]
{فَعَصى ََ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنََاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدََانَ شِيباً (17)}
{فَعَصى ََ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} رسول الأول نكرة لأنه لم يتقدّم ذكره والثاني معرفة لأنه قد تقدّم ذكره ولهذا يكتب في أول الكتب «سلام عليك» وفي آخرها «والسّلام»، ولهذا اختار بعض العلماء في التسليمة الأولى من الصلاة: سلام عليكم، وفي الثانية: السّلام عليكم وذلك المختار في كلام العرب {فَأَخَذْنََاهُ أَخْذاً وَبِيلًا} نعت لأخذ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «وبيلا» أي شديدا. قال أبو جعفر: يقال كلأ مستوبل أي لا يستمرأ. قال الفراء (4): وفي قراءة ابن مسعود: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدََانَ شِيباً} قال أبو جعفر: وهذه القراءة على التفسير، وفي يجعل ضمير يعود على اليوم،
__________
(1) البيت غير موجود في معاني الفراء، ولم أجده في المصادر التي بين يديّ.
(2) الشاهد لحميد بن ثور في ديوانه ص 54، ولسان العرب (هيب) و (فلا)، والتنبيه والإيضاح 1/ 153، وبلا نسبة في تاج العروس (هيب) و (فلا).
(3) الشاهد للمثقّب العبدي في ديوانه 200، ولسان العرب (دكك)، و (دربن) و (طين)، وجمهرة اللغة 1324، وتاج العروس (دكك) و (دربن)، و (طين)، وشرح اختيارات المفضّل ص 1264، ومقاييس اللغة 2/ 258، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 14/ 247، ومجمل اللغة 2/ 282، والمخصص 14/ 42، وجمهرة اللغة 680.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 198.(5/41)
ويجوز أن يكون الضمير يعود على اسم الله ويكون في الكلام حذف أي يجعل الولدان فيه شيبا.
[سورة المزمل (73): آية 18]
{السَّمََاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كََانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)}
{السَّمََاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ولم يقل: منفطرة والسماء مؤنثة في هذا ثلاثة أقوال: قال الخليل رحمه الله: وهو كما تقول معضّل يريد على النسب، وقيل: حمل التذكير على معنى السقف، والقول الثالث قول الفراء (1) إن السماء تؤنث وتذكّر فجاء هذا على التذكير، وأنشد: [الوافر] 510 فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالنّجوم مع السحاب (2)
{كََانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} أي ليس لوعده خلف، وقد وعد بكون هذه الأشياء في القيامة.
[سورة المزمل (73): آية 19]
{إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}
{إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي هذه الأشياء التي تكون في القيامة عظة وقال قتادة: يعني القرآن. {فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا} قال: أي بطاعتهم.
[سورة المزمل (73): آية 20]
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى ََ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطََائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللََّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتََابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ََ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَآخَرُونَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَأَقْرِضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمََا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
{مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} عطف على ثلثي الليل، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وشيبة ونافع، وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي {نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} (3)
عطفا على أدنى، وقرأ ابن كثير {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} حذف الضمة لثقلها واختار أبو عبيد الخفض واحتجّ أن بعده {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} قال: فكيف يقومون نصفه؟ قال أبو جعفر:
القراءتان قد قرأ بهما الجماعة، وتقدير الخفض ويا قوم أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه.
وتقدير النصب أدنى من ثلثي الليل وذلك أكثر من النصف مرة وتقوم نصفه مرة وتقوم ثلثه مرة والاحتجاج بعلم أن لن تحصوه لا معنى له لأنه لم يخبر أنّهم قالوا: قمنا نصفه
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(2) مرّ الشاهد رقم 466.
(3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 358.(5/42)
وإنما أخبر بحقيقة ما يعلمه، وقد عكس الفراء (1) قوله فاختار النصب لأن المعنى عنده عليه أولى لأنه يستبعد وأقلّ من نصفه: لأنه إنما يبين القليل عنده لا أقلّ القليل، ولو كان كما قال لكان نصفه بغير واو حتى يكون تبيينا لأدنى، والسلامة من هذا عند أهل الدين إذا صحّت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأثم من قال ذلك. وكان رؤساء الصحابة رحمهم الله ينكرون مثل هذا وقد أجاز الفراء (2). {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى ََ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} نصب «ثلثه» عطفا على «أدنى» وخفض {نِصْفَهُ} عطفا على {ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} واحتجّ بالحديث:
انتهت صلاة النبي إلى ثلث الليل (3) وهذا أيضا مما يكره أن تعارض به قراءة الجماعة بما لم يقرأ به وبحديث إن صح لم تكن فيه حجّة {وَطََائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} احتجّ بعض العلماء بهذا واستدل على أن صلاة الليل ليست بفرض. قال: ولو كانت فرضا لقاموا كلّهم. {وَاللََّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ} أي يقدّر ساعاتهما وأوقاتهما {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} قال الحسن وسعيد بن جبير: أن لن تطيقوه، وقال الفراء: أن لن تحفظوه {فَتََابَ عَلَيْكُمْ} رجع لكم إلى ما هو أسهل عليكم. والتوبة في اللغة الرجوع {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ََ} والتقدير عند سيبويه أنّثه وذكّر سيكون لأنه تأنيث غير حقيقي {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللََّهِ} عطف على «مرضى» وكذا {وَآخَرُونَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فلهذا استحبّ جماعة من العلماء من العلماء قيام الليل، ولو كان أدنى شيء والحديث فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤكد. {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَأَقْرِضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال ابن زيد: النوافل سوى الزكاة. {وَمََا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} أي مما أنفقتم ونصبت «خيرا» لأنه خبر «تجدوه» و {هُوَ} زائدة للفصل {وَاسْتَغْفِرُوا اللََّهَ} أي من ذنوبكم وتقصيركم {إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ} أي على سائر عقوبة من تاب {رَحِيمٌ} به لا يعذّبه بعد التّوبة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 199.
(3) انظر تفسير الطبري 19/ 33.(5/43)
74 - شرح إعراب سورة المدّثّر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المدثر (74): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}
الأصل المتدثر أدغمت التاء في الدال لأنها من موضع واحد. قال إبراهيم النخعي: كان متدثّرا بقطيفة. وقال عكرمة: أي دثّرت هذا الأمر فقم به.
[سورة المدثر (74): آية 2]
{قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}
قال قتادة: أي أنذر عذاب الله وقائعه بالأمم. قال أبو جعفر: فالتقدير على قول قتادة فأنذرهم بهذه الأشياء ثم حذف هذا للدلالة.
[سورة المدثر (74): آية 3]
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}
أي عظّمه بعبادته وحده، وهو نصب بكبّر.
[سورة المدثر (74): الآيات 4الى 5]
{وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}
{وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (4) نصب بطهّر {وَالرُّجْزَ} نصب ب فاهجر ولو كانت في الأفعال الهاء لكان النصب أولى أيضا لأن الأمر بالفعل أولى.
[سورة المدثر (74): آية 6]
{وَلاََ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}
{وَلََا تَمْنُنْ} جزم بالنهي، وأظهرت التضعيف لسكون الثاني ولو كان في الكلام لجاز لا تمنّ بفتح النون وكسرها وضمها، وروى حصيف عن مجاهد قال: {لََا تَمْنُنْ} لا تضعف، قال أبو جعفر: ويكون مأخوذا من المنين وهو الضعيف، ويكون التقدير ولا تضعف أن تستكثر من الخير فحذفت «أن» ورفع الفعل، وقال ابن زيد: ولا تمنن على الناس بتأدية الرسالة لتستكثر منهم. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في المعنى والله جلّ وعزّ أعلم ولا {تَمْنُنْ} بطاعتك وتأديتك الرسالة {تَسْتَكْثِرُ} ذلك، وهذا معنى
قول الحسن (1). قال أبو جعفر: فقلنا: هذا أولى لأنه أشبه بسياق الكلام لأن في الكلام تحذيرا وأمرا بالصبر والجدّ في الطاعة.(5/44)
{وَلََا تَمْنُنْ} جزم بالنهي، وأظهرت التضعيف لسكون الثاني ولو كان في الكلام لجاز لا تمنّ بفتح النون وكسرها وضمها، وروى حصيف عن مجاهد قال: {لََا تَمْنُنْ} لا تضعف، قال أبو جعفر: ويكون مأخوذا من المنين وهو الضعيف، ويكون التقدير ولا تضعف أن تستكثر من الخير فحذفت «أن» ورفع الفعل، وقال ابن زيد: ولا تمنن على الناس بتأدية الرسالة لتستكثر منهم. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في المعنى والله جلّ وعزّ أعلم ولا {تَمْنُنْ} بطاعتك وتأديتك الرسالة {تَسْتَكْثِرُ} ذلك، وهذا معنى
قول الحسن (1). قال أبو جعفر: فقلنا: هذا أولى لأنه أشبه بسياق الكلام لأن في الكلام تحذيرا وأمرا بالصبر والجدّ في الطاعة.
[سورة المدثر (74): آية 7]
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}
أي على طاعته.
[سورة المدثر (74): آية 8]
{فَإِذََا نُقِرَ فِي النََّاقُورِ (8)}
اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه: في الناقور، وعلى قول أبي العباس مضمر دل عليه الفعل.
[سورة المدثر (74): الآيات 9الى 10]
{فَذََلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكََافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
{فَذََلِكَ} مبتدأ {يَوْمَئِذٍ} يكون بدلا منه وفتح لأنه مبني كما قرئ {مِنْ عَذََابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج: 11]، ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى أعني، {يَوْمٌ} خبر الابتداء {عَسِيرٌ} من نعته وكذا {غَيْرُ يَسِيرٍ}.
[سورة المدثر (74): آية 11]
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)}
{مَنْ} في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على النون والياء {وَحِيداً} نصب على الحال.
[سورة المدثر (74): آية 12]
{وَجَعَلْتُ لَهُ مََالاً مَمْدُوداً (12)}
{لَهُ} في موضع المفعول الثاني.
[سورة المدثر (74): آية 13]
{وَبَنِينَ شُهُوداً (13)}
لما تحرّكت حذفت ألف الوصل، وعلى هذا قالوا: في النسب بنويّ وأجاز سيبويه (2): «ابنيّ»، ومنعه بعض الكوفيين.
[سورة المدثر (74): آية 14]
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)}
مصدر مؤكّد.
[سورة المدثر (74): الآيات 15الى 16]
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاََّ إِنَّهُ كََانَ لِآيََاتِنََا عَنِيداً (16)}
{كَلََّا} ردّ لطعمه وردع له {إِنَّهُ كََانَ لِآيََاتِنََا عَنِيداً} بمعنى معاند.
[سورة المدثر (74): آية 17]
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 364.
(2) انظر الكتاب 3/ 395.(5/45)
روى عطية عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكلّف صعود عقبة إذا جعل يده عليها ذابت وإذا جعل رجله عليها ذابت» (1).
[سورة المدثر (74): الآيات 18الى 19]
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)}
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} (18) أي فكّر في ردّ آيات الله جلّ وعزّ، وقد رجع مرة بعد مرة ينظر هل يقدر أن يردّها وهو الوليد بن المغيرة بلا اختلاف. قال قتادة: زعموا أنه فكر فيما جاء به النبي فقال: والله ما هو بشعر، وإن له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وما هو عندي إلا سحر. فأنزل الله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (19) قال أبو جعفر: قول الفراء قتل بمعنى لعن. قال أبو جعفر: هذا يجب على كلام العرب أن يكون قتل بمعنى أهلك لأن المقتول مهلك.
[سورة المدثر (74): الآيات 21الى 22]
{ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)}
أي قبض بين عينيه وقطّب لمّا عسر عليه الردّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المدثر (74): آية 23]
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)}
{ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحق {وَاسْتَكْبَرَ} فأخبر الله بجهله أنه تكبّر أن يصدّق بآيات الله ورسوله بعد أن يتهيأ له ردّ ما جاء به، ولم يتكبّر أن يسجد لحجارة لا تنفع ولا تضر.
[سورة المدثر (74): الآيات 24الى 25]
{فَقََالَ إِنْ هََذََا إِلاََّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هََذََا إِلاََّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}
{فَقََالَ إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (24) لما لم يجد حجّة كفر ثم قال {إِنْ هََذََا إِلََّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (25) فزاد في جهله ما لم يخف لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تحدّاهم وهم عرب مثله على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك، ولو كان قول البشر لساغ لهم ما ساغ له.
[سورة المدثر (74): آية 26]
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)}
قيل: لم ينصرف لأنها اسم لمؤنث، وقيل: إنها اسم أعجمي والأول الصّواب لأن الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف انصرف وإن كان متحرّك الأوسط، وأيضا فإنه اسم عربيّ مشتقّ يقال: سقرته الشمس إذا أحرقته، والسّاقور حديدة تحمى ويكوى بها الحمار.
[سورة المدثر (74): آية 27]
{وَمََا أَدْرََاكَ مََا سَقَرُ (27)}
الجملة في موضع نصب بإدراك إلّا أن الاستفهام لا يعلم فيه ما قبله.
[سورة المدثر (74): آية 28]
{لاََ تُبْقِي وَلاََ تَذَرُ (28)}
يقال: لم حذفت الواو من «تذر»؟ وإنما تحذف في «يذر»؟ فإن قيل: أصله يفعل
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 366.(5/46)
قيل: فتح وليس فيه حرف من حروف الحلق؟ فالجواب قاله ابن كيسان: لمّا كان يذر بمعنى يدع في أنه لا ينطق منه بماضي ومعناهما واحد اتبعوه إياه.
[سورة المدثر (74): آية 29]
{لَوََّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)}
على إضمار مبتدأ أي هي لوّاحة للبشر أي للخلق، ويجوز أن يكون جمع بشرة.
[سورة المدثر (74): آية 30]
{عَلَيْهََا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}
في موضع رفع بالابتداء إلا أنه فتح لأن واو العطف حذفت منه فحرّك بحركتها، وقيل: ثقل فأعطي أخفّ الحركات لأنهما اسمان في الأصل واختلف النحويون في النسب إليهما فمذهب سيبويه (1) وجماعة من النحويين أنك إذا نسبت إليهما حذفت الثاني ونسبت إلى الأول فقلت: تسعيّ، وأحدي إلى أحد عشر وبعلي في النسب إلى بعلبكّ، والقول الآخر أن النسب إليهما جميعا لا غير وأنه يقال تسعة عشريّ وبعلبكيّ وردّ أبو العباس أحمد بن يحيى القول الأول وقال: هما اسمان يؤدّيان عن معنى فإذا أسقطت الثاني ذهب معناه ولم يجز إلا النسب إليهما جميعا، واحتجّ بما أجمع عليه النحويون من قولهم: هذا حبّ رمانيّ وجحر ضبيّ فأضاف إلى الثاني ولم يحذف، وكذا هذا أبو عمريّ. قال أحمد بن يحيى: فهذا في النسب أوكد. يعني هذا تسعة عشريّ ومعدي كربيّ وبعلبكيّ. وأجاز الفراء (2): جاءني أحد عشر بإسكان العين، وكذا ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، ولا يجيز هذا في اثني عشر لئلا يجمع بين ساكنين، ولا يجيزه في المؤنّث لئلا يجمع بين ساكنين. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يبعد قد روي عن أبي جعفر أنه قرأ {عَلَيْهََا تِسْعَةَ عَشَرَ} (3).
[سورة المدثر (74): الآيات 31الى 32]
{وَمََا جَعَلْنََا أَصْحََابَ النََّارِ إِلاََّ مَلاََئِكَةً وَمََا جَعَلْنََا عِدَّتَهُمْ إِلاََّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَيَزْدََادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمََاناً وَلاََ يَرْتََابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكََافِرُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلاً كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ وَمََا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاََّ هُوَ وَمََا هِيَ إِلاََّ ذِكْرى ََ لِلْبَشَرِ (31) كَلاََّ وَالْقَمَرِ (32)}
{أَصْحََابَ} جمع صاحب على حذف الزائد لأن أفعالا ليس بجمع فاعل بغير حذف، وأفعال جمع ثمانية أمثلة ليس منها فاعل ولا فعل {وَمََا جَعَلْنََا عِدَّتَهُمْ إِلََّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي شدّة وتعبدا ليكفروا فيعلموا أن الله قادر على تقوية هؤلاء الملائكة وتأييدهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ} لام كي وأصلها أنها لام الخفض لأن المعنى: لاستيقان الذين
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 412.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 203.
(3) انظر المحتسب 2/ 338، والبحر المحيط 8/ 368.(5/47)
أوتوا الكتاب {وَيَزْدََادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمََاناً} عطف على الأول، وكذا {وَلََا يَرْتََابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} ثم أعيدت اللّام، ولو لم يؤت بها لجاز في {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكََافِرُونَ مََا ذََا أَرََادَ اللََّهُ بِهََذََا مَثَلًا} «ما» في موضع نصب بأراد، وهي وذا بمنزلة شيء واحد فإن جعلت «ذا» بمعنى الذي فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره وما بعده صلة له {كَذََلِكَ يُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. {وَمََا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلََّا هُوَ} رفع بيعلم، ولا يجوز النصب على الاستثناء، وكذا {وَمََا هِيَ إِلََّا ذِكْرى ََ لِلْبَشَرِ} قال مجاهد: أي وما النار إلا ذكرى للبشر، وذكر محمد بن جرير أن التمام {كَلََّا} على أن المعنى ليس القول على ما قال المشرك لأصحابه المشركين أنا أكفيكم أمر خزنة النار {وَالْقَمَرِ} قسم أي وربّ القمر.
[سورة المدثر (74): الآيات 33الى 34]
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذََا أَسْفَرَ (34)}
(1)
قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر وشيبة وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الحسن وابن محيصن وحمزة ونافع {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ}. قال أبو جعفر: الصحيح أن دبر وأدبر بمعنى واحد. على هذا كلام أهل التفسير وأكثر أهل اللغة. و «إذا» للمستقبل و «إذ» للماضي. وأما قول أبي عبيد أنه يختار «إذا دبر» لأن بعده {وَالصُّبْحِ إِذََا أَسْفَرَ} لأن الله تعالى يقسم بما شاء ولا يتحكّم في ذلك بأن يكونا جميعا مستقبلين أو ماضيين.
[سورة المدثر (74): آية 35]
{إِنَّهََا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)}
أن إن النار لإحدى الأمور العظام قال أبو رزين: «إنها» أي إن جهنّم و {الْكُبَرِ} بالألف واللام لا يجوز حذفهما عند أحد من النحويين، ولم يجيء في كلام العرب شيء من هذا بغير الألف واللام إلّا أخر، ولذلك منعت من الصرف.
[سورة المدثر (74): آية 36]
{نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)}
قال الحسن: ليس نذير أدهى من النار أو معنى هذا. قال أبو رزين: يقول الله تعالى أنا نذير للبشر، وقال ابن زيد: محمد صلّى الله عليه وسلّم نذير للبشر. قال أبو جعفر: فهذه أقوال أهل التأويل وقد يستخرج الأقراب منها. وفي نصب نذير سبعة أقوال: يكون حالا من المضمر في «أنا»، ويجوز أن يكون حالا من إحدى الكبر. وهذان القولان مستخرجان من قول الحسن لأنه جعل النار هي المنذرة، ويجوز أن يكون التقدير: وما يعلم جنود ربّك إلا هو نذيرا للبشر، ويجوز أن يكون التقدير: صيّرها الله جلّ وعزّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، وكتاب السبعة لابن مجاهد 659، والبحر المحيط 8/ 369.(5/48)
كذلك نذيرا للبشر، وهذان القولان مستخرجان من قول أبي رزين وقال الكسائي: أي قم نذيرا. وهذا يرجع إلى قول ابن زيد. ويجوز أن يكون نذير بمعنى إنذار كما قال:
«فكيف كان نذير» (1) ويكون التقدير: وما جعلنا أصحاب النار إلّا ملائكة إنذارا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يكون التقدير: أعني نذيرا. قال أبو جعفر: وحذف الياء من نذير إذا كان للنار بمعنى النسب.
[سورة المدثر (74): آية 37]
{لِمَنْ شََاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}
بدل بإعادة اللام، ولو كان بغير اللام لجاز.
[سورة المدثر (74): آية 38]
{كُلُّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}
{رَهِينَةٌ} محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ كان رهين.
[سورة المدثر (74): الآيات 39الى 42]
{إِلاََّ أَصْحََابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنََّاتٍ يَتَسََاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)}
نصب على الاستثناء وقد صحّ عن رجلين من أصحاب النبي أنه يراد بأصحاب اليمين هاهنا الملائكة والأطفال، ويدلّ على هذا أن بعده {يَتَسََاءَلُونَ} {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} {مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} فهذا كلام من لم يعمل خطيئة، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن الزبير يقرأ {يَتَسََاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} يا فلان ما سلكك في سقر وهذه القراءة على التفسير، والإسناد بها صحيح.
[سورة المدثر (74): الآيات 42الى 44]
{مََا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قََالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)}
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} حذفت النون لكثرة الاستعمال ولو جيء بها لكان جيدا في غير القرآن، وقال محمد بن يزيد: أشبهت النون التي تحذف في الجزم في قولنا:
يقومان ويقومون، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أخطأ، ولو كان كما قال لحذفت في قولنا: لم يصن زيد نفسه.
[سورة المدثر (74): الآيات 45الى 47]
{وَكُنََّا نَخُوضُ مَعَ الْخََائِضِينَ (45) وَكُنََّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتََّى أَتََانَا الْيَقِينُ (47)}
{وَكُنََّا نَخُوضُ مَعَ الْخََائِضِينَ} جيء بالكاف مضمومة ليدلّ ذلك على أنها من ذوات الواو فنقل فعل إلى فعل، وكذا {وَكُنََّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} {حَتََّى أَتََانَا الْيَقِينُ} أي إلى أن و «أن» مضمرة بعد «حتى».
[سورة المدثر (74): آية 48]
{فَمََا تَنْفَعُهُمْ شَفََاعَةُ الشََّافِعِينَ (48)}
أي ليس يشفع فيهم الشافعون ودلّ بهذا على أن الشفاعة تنفع غيرهم.
__________
(1) هذه ليست آية وإنما الآية {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17].(5/49)
[سورة المدثر (74): آية 49]
{فَمََا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)}
منصوب على الحال.
[سورة المدثر (74): آية 50]
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)}
قراءة أهل المدينة والحسن، وقراءة ابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة وأبي عمرو {مُسْتَنْفِرَةٌ} (1) وعن الكسائي القراءتان جميعا. قال أبو جعفر: «مستنفرة» في هذا أبين أي مذعورة ومستنفرة مشكل لأن أكثر ما يستعمل استفعل إذا استدعى الفعل، كما تقول: استسقى إذا استدعى أن يسقى والحمر لا تستدعي هذا، ولكن مجاز القراءة أن يكون استنفر بمعنى نفر فيكون المعنى نافرة.
[سورة المدثر (74): آية 51]
{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}
فعولة من القسر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير فيها.
[سورة المدثر (74): آية 52]
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى ََ صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)}
{أَنْ يُؤْتى ََ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} على تأنيث الجماعة ووحّد لأنه أكثر في العدد.
[سورة المدثر (74): آية 53]
{كَلاََّ بَلْ لاََ يَخََافُونَ الْآخِرَةَ (53)}
لا يجوز إلا الإدغام لأن الأول ساكن.
[سورة المدثر (74): آية 55]
{فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ (55)}
أي إنّ القرآن.
[سورة المدثر (74): آية 56]
{وَمََا يَذْكُرُونَ إِلاََّ أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى ََ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
«وما تذكرون» قراءة نافع على تحويل المخاطبة، وأكثر الناس يقرأ {وَمََا يَذْكُرُونَ} ليكون مردودا على ما تقدّم وما تشاؤون {إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} على حذف المفعول لعلم السامع {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى ََ} مبتدأ وخبره {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أعيدت «أهل» للتوكيد والتفخيم، ولو لم تعد لجاز.
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 74.(5/50)
75 - شرح إعراب سورة القيامة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القيامة (75): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {لاََ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ (1)}
كذا يقرأ أكثر القراء، وعن الحسن والأعرج «لأقسم بيوم القيامة» (1) على أنها لام قسم لا ألف فيها قال أبو جعفر: وهذا لحن عند الخليل وسيبويه وإنما يقال بالنون:
لأقومن والقراءة الأولى فيها أقوال منها أنّ «لا» زائدة للتوكيد مثل {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ}
[الأعراف: 12] وهذا القول عند الفراء (2) خطأ من جهتين: إحداهما أن «لا» إذا كانت زائدة لم يبتدأ بها، والأخرى أنه أن «لا» إنما تزاد في النفي، كما قال: [البسيط] 511 ما كان يرضى رسول الله فعلهما ... والطيّبان أبو بكر ولا عمر (3)
أي أبو بكر وعمر و «لا» زائدة. قال أبو جعفر: أما قوله إنّ «لا» لا تزاد في أول الكلام فكما قال، لا اختلاف فيه لأن ذلك يشكل ولكنه قد عورض فيما قال، كما سمعت علي بن سليمان يقول، إن هذا القول صحيح. يعني قول من قال إن «لا» زائدة قال:
وليس قوله بأنها في أول الكلام مما يردّ هذا القول لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة، وعلى هذا نظمه ورصفه وتأليفه. وقد صحّ عن ابن عباس: أن الله جلّ وعزّ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل متفرّقا من السماء، وإنما يردّ هذا الحديث أهل البدع. قال أبو جعفر: وأما قول الفراء إنّ «لا» لا تزاد إلا في النفي فمخالف فيه. حكى ذلك من يوثق بعلمه من البصريين منهم أبو عبيدة (4). وأنشد: [الرجز] 512في بئر لا حور سرى وما شعر (5)
__________
(1) انظر تيسير الداني 176، والمحتسب 2/ 341.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 207.
(3) الشاهد لجرير في ديوانه 263، والكامل 125، وبلا نسبة في رصف المباني 273ولسان العرب (لا).
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 25.
(5) الرجز للعجاج في ديوانه 20، والأزهيّة 154، والأشباه والنظائر 2/ 164، وخزانة الأدب 4/ 51، وشرح المفصل 8/ 136وتاج العروس (حور) و (لا)، وتهذيب اللغة 5/ 228، وبلا نسبة في لسان العرب (حور) و (غير)، وخزانة الأدب 11/ 224، والخصائص 2/ 477، وجمهرة اللغة 525، ومجمل اللغة 2/ 120.
قال: يريد في بئر حور أي هلكة فزاد «لا» في الإيجاب، وخالفه الفراء في هذا فجعل «لا» نفيا هاهنا أي في بئر لا ترد شيئا وزعم الفراء (1) أن «لا» من قوله «لا أقسم» ردّ لكلامهم كما تقول: لا والله ما أفعل فالوقوف عنده {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} (1) مستأنف.(5/51)
قال: يريد في بئر حور أي هلكة فزاد «لا» في الإيجاب، وخالفه الفراء في هذا فجعل «لا» نفيا هاهنا أي في بئر لا ترد شيئا وزعم الفراء (1) أن «لا» من قوله «لا أقسم» ردّ لكلامهم كما تقول: لا والله ما أفعل فالوقوف عنده {لََا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيََامَةِ} (1) مستأنف.
[سورة القيامة (75): آية 2]
{وَلاََ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوََّامَةِ (2)}
لا اختلاف في هذا أن الألف فيه بعد «لا» فقول الحسن أنّ «لا» نافية وقد بيّنا قول غيره.
[سورة القيامة (75): آية 3]
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظََامَهُ (3)}
وقراءة الكوفيين {أَيَحْسَبُ} والماضي حسب بلا اختلاف فالقياس في المستقبل يحسب إلا أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الكسر (2).
[سورة القيامة (75): آية 4]
{بَلى ََ قََادِرِينَ عَلى ََ أَنْ نُسَوِّيَ بَنََانَهُ (4)}
{قََادِرِينَ} في موضع نصب، وفي نصبه أقوال: منها أنه قيل: التقدير: بلى نقدر فلمّا حوّل نقدر إلى قادرين نصب كما قال الفرزدق: [الطويل] 513 على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام (3)
بمعنى ولا يخرج فلما حوّل يخرج إلى خارج نصبه. وهذا خطأ لأن لكلّ إعرابه تقول: جاءني زيد يضحك، وجاءني زيد ضاحكا، ومررت برجل يضحك، وبرجل ضاحك، «ولا خارجا» معطوف على موضع «لا أشتم» قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل فيه، وقيل التقدير: بلى نقوى على ذلك قادرين، هذا قول الفراء (4) وقال سيبويه: أي بلى نجمعها قادرين. وقول الفراء مستخرج من هذا، وبنان جمع بنانة. ومن حسن ما قيل فيه قول ابن عباس: نحن نقدر أن نجعل بنانه شيئا واحدا كخفّ البعير وحافر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 207.
(2) انظر إعراب الآية 88النمل.
(3) الشاهد للفرزدق في ديوانه 212، والكتاب 1/ 411، وأمالي المرتضى 1/ 63، وتذكرة النحاة 85، وخزانة الأدب 1/ 223وشرح أبيات سيبويه 1/ 170، وشرح المفصل 2/ 59، ولسان العرب (خرج) والمحتسب 1/ 57، والمقتضب 4/ 313وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 177ولسان العرب (رتج)، والمقتضب 3/ 269.
(4) انظر معاني الفراء 3/ 208.(5/52)
الحمار فلا يقدر يأكل بها كالبهائم فتفضّل الله جلّ وعزّ عليه وفضّله، وقال الحسن: كنا نقدّر أن نجعل أصابعه قدرا واحدا ولا يكون لها حسن ولا يكاد ينتفع بها.
[سورة القيامة (75): آية 5]
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسََانُ لِيَفْجُرَ أَمََامَهُ (5)}
هذه لام كي وقولهم لام «إنّ» لا معنى له، ولكن يريد يدلّ على الإرادة أي إرادته ليفجر أمامه.
[سورة القيامة (75): آية 6]
{يَسْئَلُ أَيََّانَ يَوْمُ الْقِيََامَةِ (6)}
التقدير أي وقت يوم القيامة، وفتحت النون من إيان لالتقاء الساكنين.
[سورة القيامة (75): الآيات 7الى 8]
{فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}
{فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ} (7) قراءة أبي عمرو وعاصم وشيبة وحمزة والكسائي، وقرأ نصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر ونافع {فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ} (1) بفتح الراء ومعنى الكسر بيّن أي حار وفزع من الموت ومن أمر القيامة وبرق ولمع. قال الحسن وقتادة: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (8) ذهب ضوءه.
[سورة القيامة (75): آية 9]
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)}
يقال: الشّمس مؤنثة بلا اختلاف فكيف لم يقل، وجمعت ففي هذا أجوبة منها أن التقدير وجمع بين الشمس والقمر فحمل التذكير على بين، وقيل: لما كان وجمع الشمس لا يتمّ به الكلام حتى يقال: والقمر وكان القمر مذكّرا كان المعنى جمعا فوجب أن يذكر فعلهما في التقديم كما يكون في التأخير. وأولى ما قيل فيه قول الكسائي، قال: المعنى: وجمع النوران أي الضياءان وفي موضع آخر: {فَلَمََّا رَأَى الشَّمْسَ بََازِغَةً قََالَ هََذََا رَبِّي} [الأنعام: 78] وأما محمد بن يزيد فيقول: هذا كلّه تأنيث غير حقيقي لأنه لم يؤنّث للفرق بين شيء وشيء فلك تذكيره لأنه بمعنى شخص وشيء.
[سورة القيامة (75): آية 10]
{يَقُولُ الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}
فهذا مصدر بلا اختلاف أي أين الفرار؟ وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال:
سمعت ابن عباس يقرأ {أَيْنَ الْمَفَرُّ} (2) قال أبو جعفر: هذا إسناد مستقيم، وهو عند البصريين اسم للمكان وزعم الفراء (3): إنه يجيز في المصدر الكسر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 209، وتيسير الداني 176.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 16، والبحر المحيط 8/ 377.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 210.(5/53)
[سورة القيامة (75): آية 11]
{كَلاََّ لاََ وَزَرَ (11)}
وهو الملجأ فقيل: وزير مشتقّ من هذا لأن صاحبه قد سلم إليه أموره فلجأ إليه واعتمد عليه، وقيل: لأن أوزار ما يتقلّده صاحبه بيده والأوزار ما كان من الذهب والفضة وغيرهما.
[سورة القيامة (75): آية 12]
{إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)}
قال قتادة: المنتهى.
[سورة القيامة (75): آية 13]
{يُنَبَّؤُا الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ بِمََا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)}
من أحسن ما قيل فيه قول قتادة قال: بما قدّم من طاعة الله جلّ وعزّ وأخّر من حقّه ينبأ به كلّه، وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بما قدّم من خير أو شرّ بعده.
[سورة القيامة (75): آية 14]
{بَلِ الْإِنْسََانُ عَلى ََ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)}
مشكل الإعراب والمعنى، فقول ابن عباس سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول {الْإِنْسََانُ} مرفوع بالابتداء و {بَصِيرَةٌ} ابتداء ثان و «على نفسه» خبر الثاني والجملة خبر الأول. وشرحه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء تحفظه وتشهد عليه فهذا قول وقول سعيد بن جبير وقتادة: إن الإنسان هو البصيرة. قال سعيد بن جبير: الإنسان والله بصيرة على نفسه، وقال قتادة: تراه والله عارفا بذنب غيره وعيبه متغافلا عن نفسه فعلى هذا القول «الإنسان» مرفوع بالابتداء و «بصيرة» خبره فإن قيل: لم دخلت الهاء والإنسان مذكّر؟ ففيه جوابان أحدهما أن الهاء للمبالغة كما يقال: رجل راوية وعلّامة وقيل: دخلت الهاء لأن المعنى بل الإنسان حجّة على نفسه.
[سورة القيامة (75): آية 15]
{وَلَوْ أَلْقى ََ مَعََاذِيرَهُ (15)}
جمع على غير قياس عند سيبويه (1) لأن عذرا ليس جمعه معاذير وإنما معاذير جمع معذار.
[سورة القيامة (75): الآيات 16الى 17]
{لاََ تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)}
{إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (17) فيضمن الله جلّ وعزّ جمعه فبهذا كفّر الفقهاء من زعم أنه قد بقي منه شيء لأنه ردّ على ظاهر التنزيل، وسئل سفيان بن عيينة كيف غيّرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟ فقال: إن الله جلّ وعزّ وكل حفظهما إليهم فقال جل ثناؤه {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتََابِ اللََّهِ} [المائدة: 44] ولم يكل حفظ القرآن إلى أحد
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 250.(5/54)
فقال: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9] وما حفظه لم يغيّر.
[سورة القيامة (75): آية 18]
{فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)}
اختلف العلماء في معنى هذا. فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: فإذا أنزلناه فاستمع له، وقال قتادة: أي فاتبع حلاله وحرامه. ومن حسن ما قيل فيه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ} قال: يقول: فإذا بيّناه {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال:
يقول: فاعمل بما فيه.
[سورة القيامة (75): آية 19]
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ (19)}
قال قتادة: بيان الحلال من الحرام عن ابن عباس {بَيََانَهُ} بلسانك.
[سورة القيامة (75): آية 20]
{كَلاََّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعََاجِلَةَ (20)}
أي الحال العاجلة أو الدنيا العاجلة.
[سورة القيامة (75): آية 21]
{وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}
لأنها بعد الأولى.
[سورة القيامة (75): الآيات 22الى 23]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ (23)}
{وُجُوهٌ} رفع بالابتداء {نََاضِرَةٌ} نعت لها و {نََاظِرَةٌ} خبر الابتداء، ويجوز أن يكون «ناضرة» خبر «وجوه» و {نََاظِرَةٌ} خبرا ثانيا، ويجوز أن يكون ناضرة نعتا لناظرة أو لوجوه ويقال: أجوه وهو جمع للكثير وللقليل أوجه وفي {نََاظِرَةٌ} ثلاثة أقوال: منها أن المعنى منتظرة ومنها أن المعنى إلى ثواب ربّها، ومنها أنها تنظر إلى الله جلّ وعزّ.
قال: ويعرف الصواب في هذه الأجوبة من العربية فلذلك وغيره أخّرنا شرحه لنذكره في الإعراب. قال أبو جعفر: أما قول من قال: معناه منتظرة فخطأ. سمعت علي بن سليمان يقول: نظرت إليه بمعنى انتظرته وإنما يقال: نظرته وهو قول إبراهيم بن محمد بن عرفة وغيره ممن يوثق بعلمه وأما من قال: إن المعنى إلى ثواب ربّها فخطأ أيضا على قول النحويين الرؤساء لأنه لا يجوز عندهم ولا عند أحد علمته نظرت زيدا أي نظرت ثوابه. ونحن نذكر الاحتجاج في ذلك من قول الأئمة والعلماء وأهل اللغة إذا كان أصلا من أصول السنة، ونذكر ما عارض به أهل الأهواء ونبدأ بالأحاديث الصحيحة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان المبين عن الله جلّ وعزّ. كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن إسحاق بن راهويه ثنا بقيّة بن الوليد ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود أن قتادة بن أبي أمية حدثهم عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني حدّثتكم عن المسيح الدجّال حتى خفت ألّا تعقلوه إنه قصير أفحج جعد أعور مطموس العين اليسرى ليست بناتئة ولا جحرا فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم
ليس بأعور إنكم لن تروا ربّكم جلّ ثناؤه حتى تموتوا» (1). قال أحمد بن شعيب: ثنا محمد بن بشار قال: ثنا أبو عبد الصمد ثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ ثناؤه إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» (2). وقرئ على أبي القاسم عبد الله بن محمد البغويّ عن هدبة بن خالد عن حمّاد بن سلمة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ}
[يونس: 26] قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنّة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنّة ويجرنا من النار فيكشف لهم عن الحجاب، فينظرون إلى الله عزّ وجلّ فما شيء أعطوه أحبّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» (3). قال أبو القاسم وحدّثني جدّي قال: ثنا يزيد بن هارون إن حماد بن سلمة بإسناده مثله. قال أبو القاسم وحدّثني هارون بن عبد الله، قال: سمعت يزيد يعني ابن هارون لما حدّث بهذا الحديث قال: من كذّب بهذا الحديث فهو زنديق أو كافر. قال أبو القاسم: حدثنا عبد الله بن عمر وأبو عبد الرّحمن الكوفي عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة ثنا بيان البجليّ عن قيس بن أبي حازم قال: حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:(5/55)