[سورة التوبة (9): آية 90]
{وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (90)}
{وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ} قرأ الأعرج والضحاك {الْمُعَذِّرُونَ} (1) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس رواها أصحاب القراءات إلّا أنّ مدارها على الكلبي. وهي من أعذر إذا بالغ في العذر. وأما المعذّرون بالتشديد ففيه قولان: قال الأخفش والفراء (2) وأبو حاتم وأبو عبيد: الأصل المعتذرون ثم أدغمت فألقيت حركة التاء على العين ويجوز عندهم المعذّرون بضمّ العين لالتقاء الساكنين ولأن ما قبلها ضمّة ويجوز المعذّرون الذين يعتذرون ولا عذر لهم. قال أبو العباس محمد بن يزيد: ولا يجوز أن يكون فيه المعتذرين ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس وذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه وأن سياق الكلام يدلّ أنّهم مذمومون لا عذر لهم. قال لأنهم جاءوا {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} ولو كانوا من الضعفاء والمرضى أو الذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال أبو جعفر: أصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذّر، وقول العرب «من عذير من فلان» معناه: قد أتى أمرا عظيما يستحقّ أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به فمن يعذرني إن عاقبته. {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} نصب بلام كي.
[سورة التوبة (9): آية 91]
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفََاءِ وَلاََ عَلَى الْمَرْضى ََ وَلاََ عَلَى الَّذِينَ لاََ يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذََا نَصَحُوا لِلََّهِ وَرَسُولِهِ مََا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}
{وَلََا عَلَى الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} اسم ليس. {مََا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} في موضع رفع اسم (ما).
[سورة التوبة (9): آية 92]
{وَلاََ عَلَى الَّذِينَ إِذََا مََا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاََ أَجِدُ مََا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاََّ يَجِدُوا مََا يُنْفِقُونَ (92)}
{وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الجملة في موضع نصب على الحال. {حَزَناً} مصدر. {أَلََّا يَجِدُوا} نصب بأن. قال الفراء (3) ويجوز «أن لا يجدون» يجعل «لا» بمعنى ليس، فهو عند البصريين بمعنى أنّهم لا يجدون.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 448، والبحر المحيط 5/ 86، وهذه قراءة زيد بن علي وأبي صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 448.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 448.(2/130)
[سورة التوبة (9): آية 93]
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (93)}
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ} أي النساء اللواتي يخلفن أزواجهن.
[سورة التوبة (9): آية 97]
{الْأَعْرََابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفََاقاً وَأَجْدَرُ أَلاََّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ عَلى ََ رَسُولِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)}
{الْأَعْرََابُ أَشَدُّ كُفْراً} نصب على البيان. {وَنِفََاقاً} عطف عليه. {وَأَجْدَرُ} عطف على أشدّ {أَلََّا} في موضع نصب بأن كما يقال: أنت خليق أن تفعل ولا يجوز أنت خليق الفعل. قال أبو إسحاق: لأن «ما» بعد أن يدلّ على أنّ الفعل مستقبل يجعل الحذف عوضا، وقال غيره: الحذف لطول الكلام.
[سورة التوبة (9): آية 98]
{وَمِنَ الْأَعْرََابِ مَنْ يَتَّخِذُ مََا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوََائِرَ عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
{وَمِنَ الْأَعْرََابِ مَنْ يَتَّخِذُ} في موضع رفع بالابتداء. {مََا يُنْفِقُ مَغْرَماً} مفعولان، والتقدير: ينفقه حذفت الهاء لطول الاسم. {عَلَيْهِمْ دََائِرَةُ السَّوْءِ} هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة إلّا أن مجاهدا وأبا عمرو وابن محيصن قرءوا {دََائِرَةُ السَّوْءِ} (1)
بضم السين وأجمعوا على فتح السين في قوله جلّ وعزّ {مََا كََانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}
[مريم: 28] والفرق بينهما وهو قول الأخفش والفراء: أن السّوء بالضم المكروه.
قال الأخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ. قال الفراء: أي عليهم دائرة العذاب والبلاء قالا: ولا يجوز امرأ سوء بالضم كما لا يقال: هو امر عذاب ولا شرّ، وحكي عن محمد بن يزيد قال: السوء بالفتح الرداءة قال: وقال سيبويه: مررت برجل صدق.
معناه برجل صلاح، وليس من صدق اللسان ولو كان من صدق اللسان لما قلت:
مررت بثوب صدق ومررت برجل سوء ليس هو من مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية (2) سؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد، وقال الفراء: السّوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية.
[سورة التوبة (9): الآيات 99الى 100]
{وَمِنَ الْأَعْرََابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مََا يُنْفِقُ قُرُبََاتٍ عِنْدَ اللََّهِ وَصَلَوََاتِ الرَّسُولِ أَلاََ إِنَّهََا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللََّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسََانٍ رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 97، ومعاني الفراء 1/ 449، والبحر المحيط 5/ 95.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 450.(2/131)
{قُرُبََاتٍ} الواحدة قربة والجمع قرب وقربات وقربات وقد ذكرنا علله.
قال أبو جعفر: قال الأخفش: ويقال: قربة. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ {أَلََا إِنَّهََا قُرْبَةٌ لَهُمْ} (1).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ} (2) رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه لأنه السابقين منهما. {أَبَداً} ظرف زمان {ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ابتداء وخبر.
[سورة التوبة (9): آية 101]
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ مُنََافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفََاقِ لاََ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى ََ عَذََابٍ عَظِيمٍ (101)}
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ مُنََافِقُونَ} ابتداء أي قوم منافقون. وقد ذكرنا أنّ المنافق مشتقّ من النافقاء، وفي الحديث «المنافق الذي إذا حدّث كذّب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (3). {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفََاقِ} يكون قولك مردوا نعتا للمنافقين، ويجوز أن يكون تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق.
[سورة التوبة (9): آية 103]
{خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهََا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاََتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
{خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهََا} وهي الزكاة المفروضة فيما روي وفيها خمسة أوجه: قال أبو إسحاق: الأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي فإنك تطهّرهم وتزكّيهم بها، ويجوز أن يكون في موضع الحال. قال الأخفش: ويجوز أن تكون للصدقة، ويكون {اتَّبَعُوهُمْ} توكيدا، ويجوز أن يكون تطهّرهم للصدقة وتزكّيهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والوجه الخامس أن تجزم على جواب الأمر كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 192 قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان (4)
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 96.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 96، وهذه قراءة الحسن وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن أبي سعيد وطلحة ويعقوب والأنصار جميعا.
(3) أخرجه الترمذي في سننه باب الإيمان 10/ 97.
(4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 173 (دار صادر) وعجزه:
«ورسم عفت آياته منذ أزمان»(2/132)
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فيه جوابان: أحدهما أنه منسوخ بقوله جلّ وعزّ {وَلََا تُصَلِّ عَلى ََ أَحَدٍ مِنْهُمْ مََاتَ أَبَداً} [التوبة: 84]، والآخر أنه غير منسوخ وأنّ المعنى وادع لهم إذا جاءوك بالصدقات، وكذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل والعلماء على هذا ويدلّ عليه {إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي إذا دعوت لهم حين يأتونك بصدقاتهم سكّن ذلك قلوبهم وفرحوا وبادروا رغبة في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء، ومنه الصلاة على الجنازة.
[سورة التوبة (9): آية 104]
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقََاتِ وَأَنَّ اللََّهَ هُوَ التَّوََّابُ الرَّحِيمُ (104)}
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ} فتحت (أنّ) يعلموا، ولو كان في خبرها اللام لكسرتها وهي فاصلة وإن شئت مبتدأة.
[سورة التوبة (9): آية 105]
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى ََ عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} هذا من رؤية العين لا غير لأنه لم يتعدّ إلا إلى مفعول واحد.
[سورة التوبة (9): آية 106]
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللََّهِ إِمََّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمََّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللََّهِ} معطوف والتقدير ومنهم آخرون مرجئون لأمر الله من أرجأته أخّرته، ومنه قيل: المرجئة لأنهم أخّروا العمل، ومن قرأ {مُرْجَوْنَ} (1) فله تقديران: أحدهما أن يكون من أرجيته، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: لا يقال: أرجيته بمعنى أخّرته ولكن يكون من الرجاء. {إِمََّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمََّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} «إما» في العربية لأحد الأمرين، والله جلّ وعزّ عالم بمصير الأشياء ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.
[سورة التوبة (9): آية 107]
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرََاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصََاداً لِمَنْ حََارَبَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنََا إِلاَّ الْحُسْنى ََ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ (107)}
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرََاراً وَكُفْراً} معطوف أي: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء، ومن قرأ {الَّذِينَ} بلا واو وهي قراءة المدنيين فهو
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 101، وتيسير الداني 97.(2/133)
عنده رفع بالابتداء لا غير، وفي الخبر قولان: زعم الكسائي أن التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا أي لا تقم في مسجدهم كما قال: [السريع] 193 من باب من يغلق من داخل (1)
قال: يريد من باب من يغلق بابه من داخل. قال أبو جعفر: هذا خطأ عند البصريين ولا يجوز في شعر ولا غيره ولو جاز هذا لقلت: الذي اشتريت عمرو بمعنى الذي اشتريت داره عمرو. قال أبو جعفر: يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم. {ضِرََاراً} مصدر مفعول من أجله. {وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصََاداً} عطف كله.
[سورة التوبة (9): آية 108]
{لاََ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ََ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجََالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
{لَمَسْجِدٌ} ابتداء. {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ََ} نعت. {أَحَقُّ} خبر الابتداء. {أَنْ تَقُومَ فِيهِ} في موضع نصب أي بأن تقوم فيه. قال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسّس على التقوى مسجد المدينة الأعظم، وروي عن ابن عباس أنه مسجد قباء، وكذا قال الضحاك وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عنه فقال: هو مسجدي هذا. {فِيهِ رِجََالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال الشّعبي: هم أهل مسجد قباء أنزل الله جلّ وعزّ فيهم هذا.
قال أبو جعفر: يكون على قول الشعبي فيه لمسجد قباء ويكون الضميران مختلفين، وقد يجوز أن يكونا متّفقين ويكونا لمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة التوبة (9): آية 109]
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ وَاللََّهُ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (109)}
{أَفَمَنْ أَسَّسَ} [2] بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ من بمعنى الذي وهو في موضع رفع بالابتداء وخبره {خَيْرٌ}، {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} عطف على الأولى، وهذه قراءة زيد بن ثابت وبها قرأ نافع. وفيه أربع قراءات سوى هذه القراءة: قرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} بفتح الهمزة ونصب البنيان وهو اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به وأن الفاعل
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الدرر 1/ 298، وهمع الهوامع 1/ 90، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/ 82، ويروى هكذا:
«أعوذ بالله وآياته ... من باب من يغلق من خارج»
(2) هذه قراءة نافع وابن عامر، انظر البحر المحيط 5/ 103، وتيسير الداني 98.(2/134)
سمّي فيه، وقرأ نصر بن عاصم {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} (1) رفع أسسا بالابتداء وخفض بنيانه بالإضافة والخبر {عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ} والجملة في الصلة وأسس وأسّ بمعنى واحد مثل عرب وعرب. قال أبو حاتم: وقرأ بعض القرّاء افمن أساس بنيانه (2). قال أبو جعفر: أساس واحد وجمعه أسس، والقراءة الخامسة حكاها أبو حاتم أيضا وهي افمن أساس بنيانه (3) وهذا جمع أسّ كما يقال: خفّ وأخفاف والكثير أساس مثل خفاف وقال الشاعر: [الخفيف] 194 أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العبّاس (4)
{خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ} مثل الأول. {عَلى ََ شَفََا} والتثنية شفوان والجمع أشفاء وشفيّ وشفيّ وجرف وجرفة هار، والأصل هائر، وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ثم يقال: هائر مثل صائم ثم يقلب فيقال: هار، وزعم الكسائي أنه يكون من ذوات الواو ومن ذوات الياء وأنه يقال: تهوّر وتهيّر. وحكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو بن العلا كان يحبّ أن يميل إذا كانت الراء مكسورة بعد ألف فإن كانت مفتوحة أو مضمومة لم يمل. قال أبو جعفر: هذا قول الخليل وسيبويه (5) والعلّة عندهما في ذلك أنّ الراء إذا كانت مكسورة فكأنّ فيها كسرتين للتكرير الذي فيها فحسنت الإمالة فإذا كانت مفتوحة فكأنّ فيها فتحتين فلا تجوز الإمالة وكذا إذا كانت مضمومة نحو {وَبِئْسَ الْقَرََارُ}
[إبراهيم: 29]، وأما «كافر» فإنما أميل لكسرة الفاء.
[سورة التوبة (9): آية 110]
{لاََ يَزََالُ بُنْيََانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاََّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
{رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} خبر لا يزال.
[سورة التوبة (9): آية 111]
{إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ مِنَ اللََّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
{بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} اسم أنّ. {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا} مصدران مؤكّدان. {وَمَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ مِنَ اللََّهِ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء وخبره {أَوْفى ََ}.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 103، ومختصر ابن خالويه 55.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 103، ومختصر ابن خالويه 55.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 452.
(4) الشاهد للحافظ ابن حجر في تاج العروس (بهل)، ولسديف بن ميمون في طبقات الشعراء لابن المعتز 39.
(5) انظر الكتاب 4/ 248.(2/135)
[سورة التوبة (9): آية 112]
{التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحََافِظُونَ لِحُدُودِ اللََّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
{التََّائِبُونَ} رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين أي هم التائبون وفيه قولان سوى هذا: قال أبو إسحاق يجوز أن يكون بدلا أي يقال التائبون، قال: ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء قال: وهو أحسن عندي، ويكون التقدير التائبون لهم الجنة وفي قراءة عبد الله التائبين العابدين الحامدين (1) وفيه تقديران يكون نعتا للمؤمنين في موضع خفض ويكون منصوبا على المدح.
[سورة التوبة (9): آية 114]
{وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاََّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ فَلَمََّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلََّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ لَأَوََّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
{وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ} اسم كان، والخبر {إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ} والموعدة عند العلماء كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم عليه السلام. قال أبو إسحاق: يروى أنّه وعده أنّه يسلم فاستغفر له، وقال غيره: لا يجوز أن يكون استغفر له إلّا وقد أسلم ولكنّه وعده أنّه يظهر إسلامه فاستغفر له فلمّا لم يظهره تبيّن له أنّه عدوّ لله فتبرّأ منه. قال أبو إسحاق: لما أقام على الكفر تبيّن له أنه عدو لله، وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: فلمّا تبيّن له أنه عدوّ لله، قال مات كافرا. {إِبْرََاهِيمَ لَأَوََّاهٌ حَلِيمٌ} اسم أنّ وخبرها.
[سورة التوبة (9): آية 117]
{لَقَدْ تََابَ اللََّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سََاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مََا كََادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تََابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)}
{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في موضع خفض على النعت للمهاجرين والأنصار، {مِنْ بَعْدِ مََا كََادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} سيبويه (2) يجوز أن ترفع القلوب بتزيغ ويضمر في كاد الحديث، وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ، وزعم أبو حاتم أنّ من قرأ «يزيغ» (3) بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد.
قال أبو جعفر: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء:
رحبت البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 453، والبحر المحيط 5/ 106.
(2) انظر الكتاب 1/ 119.
(3) هذه قراءة حمزة وحفص، انظر البحر المحيط 5/ 111، وتيسير الداني 98.(2/136)
[سورة التوبة (9): آية 119]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ (119)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} أي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اتّبعه وروى شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: الكذب ليست فيه رخصة اقرءوا إن شئتم {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} أهل ترون في الكذب رخصة لأحد؟
[سورة التوبة (9): آية 120]
{مََا كََانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللََّهِ وَلاََ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ لاََ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاََ نَصَبٌ وَلاََ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلاََ يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفََّارَ وَلاََ يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاََّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ إِنَّ اللََّهَ لاََ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}
{أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللََّهِ} اسم كان. {ذََلِكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك {لََا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} رفع بيصيبهم أي عطش. {وَلََا نَصَبٌ} عطف أي تعب و «لا» زائدة للتوكيد وكذا {وَلََا مَخْمَصَةٌ} أي مجاعة. {وَلََا يَطَؤُنَ} عطف على يصيبهم {يَغِيظُ} في موضع نصب لأنه نعت لموطئ أي غائظا. {وَلََا يَنََالُونَ} قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل وليس من التناول إنّما التناول من نلته بالعطيّة.
[سورة التوبة (9): آية 121]
{وَلاََ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاََ كَبِيرَةً وَلاََ يَقْطَعُونَ وََادِياً إِلاََّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللََّهُ أَحْسَنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
{وَلََا يَقْطَعُونَ وََادِياً} والعرب تقول: واد ووادية، ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه، والقياس أن يجمع ووادي فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم يستثقلون واحدة حتى قالوا: أقّتت في وقّتت، وقال الخليل وسيبويه: في تصغير واصل اسم رجل أو يصل ولا يقولون غيره، وحكى الفراء في جمع واد أوداء.
[سورة التوبة (9): آية 122]
{وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاََ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طََائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذََا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
{وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} لفظ خبر ومعناه أمر. قال أبو إسحاق:
ويجوز والله أعلم أن تكون هذه الآية تدلّ على أن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. {فَلَوْلََا نَفَرَ مِنْ} قال الأخفش: أي فهلّا نفر.
[سورة التوبة (9): آية 123]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قََاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفََّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}(2/137)
قرأ أبان بن تغلب {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (1) وروى المفضل عن الأعمش وعاصم {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (2) بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد (3) غلظة بكسر الغين ولغة تميم غلظة بضم الغين.
[سورة التوبة (9): آية 127]
{وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ هَلْ يَرََاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاََ يَفْقَهُونَ (127)}
يجوز أن يكون {صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا ويجوز أن يكون خبرا.
[سورة التوبة (9): آية 128]
{لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)}
{لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} رفع بجاءكم، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} نعت وكذا {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} وكذا {رَؤُفٌ رَحِيمٌ} قال الفراء (4): فلو قرئ: عزيزا عليه ما عنتّم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا جاز بمعنى لقد جاءكم كذلك. قال أبو جعفر: عنتّم من قوله: أكمة عنوت إذا كانت شاقّة مهلكة. وأحسن ما قيل في هذا المعنى مما هو موافق لكلام العرب ما حدّثنا به أحمد بن محمد الأزديّ قال: حدّثني عبد الله بن محمد الخزاعي قال: سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت عبد الله بن داود الجريبيّ يقول في قول الله جلّ وعزّ {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ} قال:
إن تدخلوا النار، حريص عليكم؟ قال: إن تدخلوا الجنة.
[سورة التوبة (9): آية 129]
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
{فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ} ابتداء وخبر وكذا {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ومن رفع العظيم جعله نعتا لربّ.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 118.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 118.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 118.
(4) انظر معاني الفراء 1/ 456.(2/138)
10 - شرح إعراب سورة يونس ع
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة يونس (10): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ (1)}
قال أبو جعفر: قرأ عليّ أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال:
أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس: الر وحم ونون الرحمن مفرّقة فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في سورة البقرة أن ابن عباس رحمة الله عليه قال: معنى «الر» أنا الله أرى. ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد: [الرجز] 195 بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا (1)
قال سيبويه: يريد إن شرّا فشرّ ولا أريد الشر إلّا أن تشاء. وقال الحسن وعكرمة «الر» قسم، وقال سعيد (2) عن قتادة «الر» اسم السورة، قال: وكذا كل هجاء في القرآن، وقال مجاهد: هي فواتح السور، وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه وكذا حروف التهجّي. {تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ} ابتداء وخبر أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم، وإن شئت كان التقدير هذه تلك آيات الكتاب الحكيم. قال أبو عبيدة (3):
الحكيم المحكم.
{أَكََانَ لِلنََّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النََّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قََالَ الْكََافِرُونَ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ مُبِينٌ} (2) {أَكََانَ لِلنََّاسِ عَجَباً} خبر كان، واسمها {أَنْ أَوْحَيْنََا} وفي قراءة عبد الله أكان
__________
(1) الشاهد لنعيم بن أوس في الدرر 6/ 307، وشرح أبيات سيبويه 2/ 320، وللقيم بن أوس في نوادر أبي زيد ص 126، ولحكيم بن معيّة التميمي وللقمان بن أوس بن ربيعة في لسان العرب (معي)، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 355، وشرح شافية ابن الحاجب 262، ولسان العرب (تا)، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 118، ونوادر أبي زيد 127، وهمع الهوامع 2/ 210، اللغة: إن شرا فا: أي: إن أردت بي شرا فلك مني شرّ، وإلا أن تا: إلا أن تريده لي.
(2) انظر تفسير الطبري 1/ 66.
(3) انظر مجاز القرآن 1/ 272.(2/139)
للناس عجب (1) على أنه اسم كان، والخبر {أَنْ أَوْحَيْنََا}، {أَنْ أَنْذِرِ النََّاسَ} في موضع نصب أي بأن أنذر الناس وكذا {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} ويجوز أنّ لهم قدم صدق بمعنى قل.
[سورة يونس (10): آية 3]
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مََا مِنْ شَفِيعٍ إِلاََّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاََ تَذَكَّرُونَ (3)}
{مََا مِنْ شَفِيعٍ} في موضع رفع والمعنى ما شفيع {إِلََّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}.
[سورة يونس (10): آية 4]
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللََّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرََابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذََابٌ أَلِيمٌ بِمََا كََانُوا يَكْفُرُونَ (4)}
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} رفع بالابتداء {جَمِيعاً} على الحال. {وَعْدَ اللََّهِ} مصدر لأنّ معنى مرجعكم وعدكم. {حَقًّا} مصدر نصبا وأجاز الفراء (2) «وعد الله» بالرفع بمعنى مرجعكم إليه وعد الله. قال أحمد بن يحيى ثعلب يجعله خبر مرجعكم، وأجاز الفراء «وعد الله حقّ» وقرأ يزيد بن القعقاع {إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} (3) يكون «أنّ» في موضع نصب أي وعدكم أنه يبدأ الخلق، ويجوز أن يكون التقدير: لأنه يبدأ الخلق كما يقال: لبّيك أن الحمد والنّعمة لك، والكسر أجود، وأجاز الفراء (4) أن يكون «أنّ» في موضع رفع.
قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير: حقا ابتداء الخلق.
[سورة يونس (10): آية 5]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنََازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ مََا خَلَقَ اللََّهُ ذََلِكَ إِلاََّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيََاءً} مفعولان. {وَالْقَمَرَ نُوراً} عطف. {وَقَدَّرَهُ مَنََازِلَ} بمعنى وقدّر له مثل {وَإِذََا كََالُوهُمْ} [المطففين: 3] ويجوز أن يكون المعنى قدّره ذا منازل مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقدّره ولم يقل: وقدّرهما والشمس والقمر جميعا منازل، ففي هذا جوابان: أحدهما أنه خصّ القمر لأن العامة به تعرف الشّهور، والجواب الآخر أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه والفراء: [الطويل] 196 رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن جول الطّويّ رماني (5)
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 126.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 457، والبحر المحيط 5/ 129.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 56.
(4) انظر معاني الفراء 1/ 457.
(5) الشاهد لعمرو بن أحمر في ديوانه 187، والكتاب 1/ 125، والدرر 2/ 62، وشرح أبيات سيبويه 1/ 249، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي في لسان العرب (جول). والطوي: البئر.(2/140)
{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ} على أنها نون الجميع، وبعض العرب يقول: عدد السّنين والحساب، ومن العرب من يقول: سنوات ومنهم من يقول: سنهات والتصغير سنيهة وسنيّة وجاز جمعهما بالواو والنون عوضا مما حذف منها وكسر أولها دلالة على ما لحقها مما هو لغيرها. {مََا خَلَقَ اللََّهُ ذََلِكَ إِلََّا بِالْحَقِّ} أي ما أراد الله جلّ وعزّ بخلق ذلك إلّا الحكمة والصواب.
[سورة يونس (10): آية 6]
{إِنَّ فِي اخْتِلاََفِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا خَلَقَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
{لَآيََاتٍ} اسم «إنّ».
[سورة يونس (10): الآيات 7الى 8]
{إِنَّ الَّذِينَ لاََ يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَاطْمَأَنُّوا بِهََا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيََاتِنََا غََافِلُونَ (7) أُولََئِكَ مَأْوََاهُمُ النََّارُ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ (8)}
{إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} اسم إنّ، والخبر {أُولََئِكَ مَأْوََاهُمُ النََّارُ}.
[سورة يونس (10): آية 10]
{دَعْوََاهُمْ فِيهََا سُبْحََانَكَ اللََّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهََا سَلاََمٌ وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (10)}
{دَعْوََاهُمْ} ابتداء أي دعاؤهم {فِيهََا سُبْحََانَكَ} مصدر. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهََا سَلََامٌ} ابتداء وخبر وكذا {وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلََّهِ} ولم يحك أبو عبيد إلّا تخفيف «أن» ورفع ما بعدها قال: وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله جلّ وعزّ {أَنَّ لَعْنَتَ اللََّهِ}
و {أَنَّ غَضَبَ اللََّهِ} [النور: 9] لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال: «الحمد لله». قال أبو جعفر: مذهب الخليل وسيبويه (1) أنّ «أن» هذه مخفّفة من الثقيلة والمعنى: أنه الحمد لله، قال محمد بن يزيد: ويجوز أن الحمد لله. يعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس لأنها إنما أشبهت الفعل باللفظ لا بالمعنى فإذا نقصت عن الفعل لم تعمل عمله ومن نصب شبّهها بالفعل إذا حذف منه. قال أبو جعفر: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ {وَآخِرُ دَعْوََاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (2).
[سورة يونس (10): آية 11]
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللََّهُ لِلنََّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجََالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاََ يَرْجُونَ لِقََاءَنََا فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللََّهُ لِلنََّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجََالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قيل: معناه لو عجّل الله للناس من العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير فعاقبهم لماتوا لأنهم خلقوا في
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 187.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 132، وهذه قراءة عكرمة ومجاهد وقتادة وابن يعمر وأبي مجلز وأبي حيوة وابن محيصن ويعقوب أيضا.(2/141)
الدنيا خلقا ضعيفا وليس هم كذا يوم القيامة لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا القول، استعجالهم على قول الأخفش والفراء بمعنى كاستعجالهم ثم حذف الكاف ونصب قال الفراء (1): كما تقول: ضربت زيدا ضربك أي كضربك فأما مذهب الخليل وسيبويه (2). وهو الحقّ فإنّ التقدير فيه ولو يعجّل الله للناس الشرّ تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، وحكى سيبويه (3): زيد شرب الإبل، ولو جاز ما قال الأخفش والفراء لجاز: زيد الأسد أي كالأسد فهذا بيّن جدا.
قال أبو إسحاق: ويقرأ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (4) وهي قراءة ابن عامر الشامي وهي قراءة حسنة لأنه متّصل بقوله جلّ وعزّ {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللََّهُ لِلنََّاسِ الشَّرَّ}. قال الأخفش {فَنَذَرُ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} مبتدأ قال و {يَعْمَهُونَ} أي يتحيّرون.
[سورة يونس (10): آية 12]
{وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ الضُّرُّ دَعََانََا لِجَنْبِهِ أَوْ قََاعِداً أَوْ قََائِماً فَلَمََّا كَشَفْنََا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنََا إِلى ََ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (12)}
{وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ الضُّرُّ دَعََانََا لِجَنْبِهِ} في موضع نصب على الحال. {أَوْ قََاعِداً} عطف على الموضع، والتقدير دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما. {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنََا} قال الأخفش: هي «أنّ» الثقيلة خفّفت كما قال: [الخفيف] 197 وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (5)
[سورة يونس (10): آية 14]
{ثُمَّ جَعَلْنََاكُمْ خَلاََئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
{ثُمَّ جَعَلْنََاكُمْ خَلََائِفَ}. مفعولان {لِنَنْظُرَ} نصب بلام كي.
[سورة يونس (10): آية 15]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ لاََ يَرْجُونَ لِقََاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مََا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقََاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاََّ مََا يُوحى ََ إِلَيَّ إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا} اسم ما لم يسمّ فاعله. قال أبو إسحاق {بَيِّنََاتٍ} نصب على الحال.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 458.
(2) انظر الكتاب 1/ 272.
(3) انظر الكتاب 1/ 400.
(4) انظر تيسير الداني 99.
(5) الشاهد لزيد بن عمرو بن نفيل في الكتاب 2/ 156، وخزانة الأدب 1/ 404، والدرر 5/ 305، وذيل سمط اللآلي ص 103، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني 17/ 205، وشرح أبيات سيبويه 2/ 11، ولسان العرب (ويا) و (وا)، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 353، والخصائص 3/ 41، وشرح المفصل 4/ 76، ومجالس ثعلب 1/ 389، والمحتسب 2/ 155، وهمع الهوامع 2/ 106، وقبله في الكتاب:
«سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قلّ مالي، قد جئتماني بنكر»(2/142)
[سورة يونس (10): آية 16]
{قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاََ أَدْرََاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (16)}
{قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ} أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ولا أعلمكم به أي القرآن. قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قراءة الحسن ولا أدرأتكم به (1) أله وجه؟
قال: لا قال أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن «ولا أدرأتكم به» إلّا على الغلط. معنى قول أبي عبيد إن شاء الله على الغلط أنه يقال: دريت أي علمت وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت فيقع الغلط بين دريت وأدريت ودرأت، وقال أبو حاتم: يريد الحسن فما أحسب ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب لأنهم يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها مثل {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} [طه: 63]. قال أبو جعفر هذا غلط لأن الرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمز وأبو حاتم تكلّم على أنه بغير همز ويجوز أن يكون من درأت إذا دفعت، أي: ولا أمرتكم أن تدفعوا وتتركوا الكفر بالقرآن. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} في الكلام حذف والتقدير فقد لبثت فيكم عمرا من قبله تعرفوني بالصدق والأمانة لا أقرأ ولا أكتب ثم جئتكم بالمعجزات {أَفَلََا تَعْقِلُونَ} أن هذا لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ.
[سورة يونس (10): آية 19]
{وَمََا كََانَ النََّاسُ إِلاََّ أُمَّةً وََاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلاََ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمََا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}
{وَمََا كََانَ النََّاسُ إِلََّا أُمَّةً وََاحِدَةً} اسم «كان» وخبرها. {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ} رفع بالابتداء {سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} في موضع النعت.
[سورة يونس (10): آية 20]
{وَيَقُولُونَ لَوْلاََ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلََّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}
{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} والأصل «أنني» حذفت النون، والمعنى منتظر من المنتظرين.
[سورة يونس (10): آية 21]
{وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذََا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيََاتِنََا قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنََا يَكْتُبُونَ مََا تَمْكُرُونَ (21)}
{وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً} جواب إذا على قول الخليل وسيبويه {إِذََا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيََاتِنََا}
__________
(1) وهذه قراءة ابن عباس وابن سيرين وأبي رجاء أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 137، ومعاني الفراء 1/ 459.(2/143)
والتقدير مكروا. قال مجاهد: إذا لهم مكر في آياتنا استهزاء وتكذيب. {قُلِ اللََّهُ أَسْرَعُ} ابتداء وخبر. {مَكْراً} على البيان.
[سورة يونس (10): آية 22]
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتََّى إِذََا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهََا جََاءَتْهََا رِيحٌ عََاصِفٌ وَجََاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكََانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنََا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشََّاكِرِينَ (22)}
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} ابتداء وخبر، وفي يسيّركم معنى التكثير ويسيركم للقليل والكثير، وقرأ يزيد ابن القعقع هو الذي ينشركم (1) وهي المعروفة من قراءة الحسن، ويسيّركم أشبه بقوله جلّ وعزّ {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} و {الْفُلْكِ} يذكّر ويؤنّث ويكون واحدا وجمعا لفلك كما يقال: وثن ووثن. {جََاءَتْهََا} الهاء تعود على الفلك ويجوز أن تعود على الريح الطيّبة {رِيحٌ عََاصِفٌ}.
[سورة يونس (10): آية 23]
{فَلَمََّا أَنْجََاهُمْ إِذََا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّمََا بَغْيُكُمْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا ثُمَّ إِلَيْنََا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
{إِنَّمََا بَغْيُكُمْ} رفع بالابتداء وخبره {مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (2) ويجوز أن يكون خبره {عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} وتضمر مبتدأ أي ذلك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع الحياة الدنيا وبين المعنيين فرق لطيف إذا رفعت متاعا على أنه خبر بغيكم فالمعنى إنما بغي بعضكم على بعض مثل {فَسَلِّمُوا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وكذا {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة 128] وإذا كان الخبر على أنفسكم فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم مثل {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا} [الإسراء: 7] وقرأ ابن أبي إسحاق {مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} بالنصب على أنه مصدر أي تمتّعون متاع الحياة الدنيا.
[سورة يونس (10): آية 24]
{إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ مِمََّا يَأْكُلُ النََّاسُ وَالْأَنْعََامُ حَتََّى إِذََا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهََا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهََا أَنَّهُمْ قََادِرُونَ عَلَيْهََا أَتََاهََا أَمْرُنََا لَيْلاً أَوْ نَهََاراً فَجَعَلْنََاهََا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
{إِنَّمََا مَثَلُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} ابتداء. {كَمََاءٍ} خبره والكاف في موضع رفع. {أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ} نعت لما. {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ} عطف. {حَتََّى إِذََا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهََا وَازَّيَّنَتْ} الأصل تزيّنت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 141، ومعاني الفراء 1/ 460.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 143، وتيسير الداني 99.(2/144)
حرفين الأول منهما ساكن، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية {وَازَّيَّنَتْ} (1) أي جاءت بالزينة وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال أزانت، قال عوف الأعرابي: قرأ أشياخنا وازيانّت ووزنه واسوادّت وفي رواية المقدّمي وازّاينت (2) والأصل فيه تزاينت ووزنه تفاعلت ثم أدغم، {وَظَنَّ أَهْلُهََا أَنَّهُمْ قََادِرُونَ عَلَيْهََا} قال أبو إسحاق: المعنى قادرون على الانتفاع بها. {أَتََاهََا أَمْرُنََا لَيْلًا أَوْ نَهََاراً} ظرفان. {فَجَعَلْنََاهََا حَصِيداً} مفعولان.
[سورة يونس (10): آية 26]
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ وَلاََ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاََ ذِلَّةٌ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (26)}
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ} في موضع رفع بالابتداء. {وَزِيََادَةٌ} عطف عليها. قال أبو جعفر وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ الزيادة النظر إلى الله تعالى وقيل: الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك. قرأ الحسن {وَلََا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلََا ذِلَّةٌ} (3)، والقتر والقتر والقترة بمعنى واحد.
[سورة يونس (10): آية 27]
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئََاتِ جَزََاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهََا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ عََاصِمٍ كَأَنَّمََا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (27)}
{قِطَعاً} جمع قطعة. {مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} حال من الليل ويبعد أن يكون نعتا لقطع لأنه لم يقل: مظلمة، وقرأ الكسائي {قِطَعاً} بإسكان الطاء فمظلما على هذا نعت ويجوز أن يكون حالا من الليل.
[سورة يونس (10): آية 28]
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكََانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكََاؤُكُمْ فَزَيَّلْنََا بَيْنَهُمْ وَقََالَ شُرَكََاؤُهُمْ مََا كُنْتُمْ إِيََّانََا تَعْبُدُونَ (28)}
قال الفراء (4) وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم).
يقال: لا أزايل فلانا أي لا أفارقه، فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر معناه لا أخاتله.
[سورة يونس (10): آية 29]
{فَكَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً بَيْنَنََا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنََّا عَنْ عِبََادَتِكُمْ لَغََافِلِينَ (29)}
{شَهِيداً} نصب على التمييز. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون منصوبا على الحال.
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 311، والبحر المحيط 5/ 145.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 145.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 149.
(4) انظر معاني الفراء 1/ 462.(2/145)
[سورة يونس (10): آية 30]
{هُنََالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مََا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللََّهِ مَوْلاََهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
{هُنََالِكَ} في موضع نصب على الظرف أي في ذلك الوقت {تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ} واللام زائدة كسرت لالتقاء الساكنين والكاف للخطاب لا موضع لها وقال زهير:
[الطويل] 198 هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا (1)
{وَرُدُّوا إِلَى اللََّهِ مَوْلََاهُمُ الْحَقِّ} في موضع خفض على النعت، وكذا الحقّ، ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات: يكون التقدير ردّوا حقّا ثم جيء بالألف واللام، ويجوز أن يكون التقدير مولاهم حقّا لا ما يعبدون من دونه، والوجه الثالث أن يكون مدحا أي أعني الحقّ. ويجوز أن ترفع الحقّ ويكون المعنى مولاهم الحقّ لا ما يشركون من دونه {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} في موضع رفع وهي بمعنى المصدر أي افتراؤهم.
[سورة يونس (10): آية 32]
{فَذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمََا ذََا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاََلُ فَأَنََّى تُصْرَفُونَ (32)}
{فَذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} ويجوز نصب الحق على ما تقدّم.
[سورة يونس (10): آية 33]
{كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (33)}
{كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ}.
المعنى بأنّهم ولأنهم فإنّ في موضع نصب. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء (2): يجوز {أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} بكسر إنّ على الاستئناف.
[سورة يونس (10): آية 35]
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكََائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللََّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاََ يَهِدِّي إِلاََّ أَنْ يُهْدى ََ فَمََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
{أَمَّنْ} قال الأخفش: إن قال قائل: كيف دخلت أم على من؟ قيل: لأن أم والألف أصل الاستفهام، ألا ترى أنّ أم تدل على هل. قال أبو جعفر: في {أَمَّنْ لََا يَهِدِّي}
__________
(1) الشاهد لزهير في ديوانه ص 112، ولسان العرب (خبل)، و (خول)، وتهذيب اللغة 7/ 425، وجمهرة اللغة 293، ومقاييس اللغة 2/ 234، والمخصص 7/ 159، ومجمل اللغة 2/ 237، وتاج العروس (خبل) وديوان الأدب 2/ 323، وهو في الديوان:
«هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعصوا وإن ييسروا يغلوا»
(2) انظر معاني الفراء 1/ 363.(2/146)
خمس قراءات (1): قرأ أبو عمرو وابن كثير وعبد الله بن عامر أم من لا يهدّي بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وكذا روى ورش عن نافع وحدّثني إبراهيم بن محمد بن عرفة (2) قال: حدّثني إسماعيل بن إسحاق قال: حدّثني قالون عن نافع أنه قرأ أم من لا يهدّي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال. قال أبو عبيد: وقرأ عاصم {أَمَّنْ لََا يَهِدِّي} بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، وقال الكسائي قرأ عاصم أم من لا يهدي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فهذه أربع قراءات، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي أم من لا يهدي بفتح الياء وتسكين الهاء وتخفيف الدال. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة في العربية الأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء، والقراءة الثالثة هي المعروفة عن عاصم والحسن وأبي رجاء أدغمت الياء في الدال وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، والقراءة الثانية التي رواها قالون عن نافع يحكي فيها الجمع بين ساكنين وهذا لا يجوز ولا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرّك حركة خفيفة إلى الكسر وسيبويه يسمّي هذا اختلاس الحركة، وأما كسر الياء مع الهاء الذي رواه الكسائي عن عاصم فلا يجوز عند سيبويه (3)، وسيبويه يجيز تهدي ويهدي وأهدي ولا يجيز يهدي لأن الكسر في الياء ثقيل، وأما القراءة الخامسة أم من لا يهدي فلها وجهان في العربيّة وإن كانت بعيدة فأحد الوجهين أن الكسائي والفراء (4) قالا: يهدي بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا ولكن التقدير أم من لا يهدي غيره تمّ الكلام، ثم قال: {إِلََّا أَنْ يُهْدى ََ} استثناء ليس من الأول أي لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول:
فلان لا يشبع غيره إلّا أن يشبع أي لكنه يحتاج أن يشبع. قال أبو إسحاق {فَمََا لَكُمْ} تمّ الكلام والمعنى أي شيء لكم في عبادة الأوثان. {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} قال: {كَيْفَ} في موضع نصب والمعنى على أي حال.
[سورة يونس (10): آية 37]
{وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لاََ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (37)}
{وَمََا كََانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ََ مِنْ دُونِ} قال الكسائي: المعنى وما كان هذا القرآن افتراء
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 157، وتيسير الداني 99.
(2) إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي أبو عبد الله من أحفاد المهلب بن أبي صفرة إمام في النحو، وكان فقيها رأسا في مذهب داود، مسندا في الحديث ثقة. وكان يؤيّد مذهب سيبويه في النحو فلقبوه (نفطويه) (ت 323هـ) ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 11، ولسان الميزان 1/ 109وتاريخ بغداد 6/ 159.
(3) انظر الكتاب 4/ 228.
(4) انظر معاني الفراء 1/ 464.(2/147)
كما تقول: فلان يحبّ أن يركب ويحبّ الركوب وقال غيره: التقدير لأن يفترى وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، وقال غيره: المعنى ما كان لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله لإعجازه لرصفه ومعانيه وتأليفه.
{وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال الكسائي والفراء (1) ومحمد بن سعدان: التقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه ويجوز عندهم الرفع بمعنى ولكن هو تصديق، وكذا {وَتَفْصِيلَ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ}.
[سورة يونس (10): آية 38]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (38)}
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ} بمعنى بل، وفيه معنى التقدير لإقامة الحجّة عليهم.
[سورة يونس (10): آية 39]
{بَلْ كَذَّبُوا بِمََا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمََّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الظََّالِمِينَ (39)}
{بَلْ كَذَّبُوا بِمََا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي كذّبوا به وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره وعليهم أن يعملوا ذلك بالسؤال {وَلَمََّا يَأْتِهِمْ} أي كذّبوا به ولم يعرفوا تفسيره وقيل: ولم يأتهم ما يؤول إليه أمره: {كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذا كانت سبيلهم والكاف في موضع نصب. {فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الظََّالِمِينَ} «كيف» في موضع نصب خبر كان.
[سورة يونس (10): آية 40]
{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لاََ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي في المستقبل و «من» في موضع رفع بالابتداء وكذا {وَمِنْهُمْ مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهِ} والمعنى ومنهم من يصرّ على كفره فأعلم الله جلّ وعزّ إنما أخّر عنهم العقوبة لأن منهم من سيؤمن {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي بمن يصرّ على الكفر.
[سورة يونس (10): آية 41]
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمََّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تَعْمَلُونَ (41)}
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} رفع بالابتداء والمعنى لي جزاء عملي وكذا {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمََّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تَعْمَلُونَ} مثله.
[سورة يونس (10): آية 42]
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لاََ يَعْقِلُونَ (42)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} على المعنى.
[سورة يونس (10): آية 43]
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لاََ يُبْصِرُونَ (43)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} على اللفظ.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 465.(2/148)
[سورة يونس (10): آية 44]
{إِنَّ اللََّهَ لاََ يَظْلِمُ النََّاسَ شَيْئاً وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}
{وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت: ولكنّ بالواو آثروا التشديد وإذا حذفوا الواو آثروا التخفيف واعتلّ في ذلك الفراء (1) فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخفّفوها ليكون ما بعدها كما بعد بل وإذا جاءوا بالواو خالفت «بل» فشدّدوها ونصبوا بها لأنها إن زيدت عليها لام وكاف وصيّرت حرفا واحدا وأنشد: [الطويل] 199 ولكنّني من حبّها لكميد (2)
فجاء باللام لأنها إنّ.
[سورة يونس (10): آية 45]
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاََّ سََاعَةً مِنَ النَّهََارِ يَتَعََارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقََاءِ اللََّهِ وَمََا كََانُوا مُهْتَدِينَ (45)}
{كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} بمعنى كأنّهم لم يلبثوا. {يَتَعََارَفُونَ} في موضع نصب على الحال.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقََاءِ اللََّهِ} يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله جلّ وعزّ بعد أن دلّ على البعث والنشور، ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم يقولون هذا.
[سورة يونس (10): آية 46]
{وَإِمََّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنََا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللََّهُ شَهِيدٌ عَلى ََ مََا يَفْعَلُونَ (46)}
{وَإِمََّا نُرِيَنَّكَ} شرط. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} عطف عليه. {فَإِلَيْنََا مَرْجِعُهُمْ} جواب. {ثُمَّ اللََّهُ شَهِيدٌ} عطف جملة على جملة. قال الفراء (3): ولو قيل: «ثمّ الله شهيد» بمعنى هناك جاز.
[سورة يونس (10): آية 47]
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذََا جََاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُونَ (47)}
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذََا جََاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ} يكون المعنى ولكلّ أمة رسول شاهد عليهم فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم مثل {فَكَيْفَ إِذََا جِئْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 465.
(2) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 38، والإنصاف 1/ 209، وتخليص الشواهد 357، والجنى الداني 132، ورصف المباني 235، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 380، وشرح الأشموني 1/ 141، وشرح شواهد المغني 2/ 605، وشرح ابن عقيل 184، وشرح المفصّل 8/ 62، وكتاب اللامات 158، ولسان العرب (لكن)، ومغني اللبيب 1/ 233، والمقاصد النحوية 2/ 247، وهمع الهوامع 1/ 140، وهو بتمامه:
«يلومونني في حبّ ليلى عواذلي ... ولكنني من حبّها لعميد»
(3) انظر معاني الفراء 1/ 466.(2/149)
[النساء: 41] ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذّبون حتّى نرسل إليهم مثل {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
[سورة يونس (10): آية 50]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً} ظرفان. {مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} إن جعلت الهاء في منه تعود على العذاب ففيه تقديران يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي وهو خبر «ما»، والتقدير الآخر أن يكون «ماذا» شيئا واحدا في موضع رفع بالابتداء والخبر في الجملة وإن جعلت الهاء في منه تعود على اسم الله جلّ وعزّ وجعلت «ماذا» شيئا واحدا كانت «ما» في موضع نصب بيستعجل. والمعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله جلّ وعزّ.
[سورة يونس (10): آية 51]
{أَثُمَّ إِذََا مََا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)}
{أَثُمَّ إِذََا مََا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في الكلام حذف والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال بكم إذا حلّ بكم الآن آمنتم به. وفي فتح الآن ثلاثة أقوال: منها قولان للفراء (1) أحدهما أن يكون أصلها «أو ان» حذفت الهمزة منها وقلبت الواو ألفا ثم جيء بالألف واللام فبنيت معها وبقيت على نصبها، والقول الثاني أن يكون أصلها من (آن) أي حان ثم دخلتها الألف واللام وبقيت على فتحها مثل قيل وقال، وزعم أبو إسحاق أنّ هذا لو كان كذا ما جاز أن يكون بالألف واللام كما يقال: نهى عن القيل والقال، والقول الثالث مذهب الخليل وسيبويه أن سبيل الألف واللام أن يدخلا لمعهود (والآن) ليس بمعهود وإنّما معناه نحن في هذا الوقت نفعل كذا فلما تضمّنت معنى هذا وجب أن لا يعرب ففتحت لالتقاء الساكنين.
[سورة يونس (10): آية 53]
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)}
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي عن كون العذاب {أَحَقٌّ} ابتداء {هُوَ} فاعل سد مسد الخبر.
هذا قول سيبويه ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «حقّ» خبره. {قُلْ إِي وَرَبِّي} قسم، وجوابه {إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
[سورة يونس (10): آية 55]
{أَلاََ إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَلاََ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (55)}
{أَلََا إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ} أي له ملك السموات والأرض فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 468.(2/150)
[سورة يونس (10): آية 56]
{هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
{هُوَ يُحْيِ} ولا يجوز الإدغام عند سيبويه لئلا يجتمع ساكنان.
[سورة يونس (10): آية 58]
{قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ (58)}
{فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} إشارة إلى الفضل والرحمة، والعرب تأتي بذلك للواحد والاثنين والجميع، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا (1) وهي قراءة يزيد ابن القعقاع. قال هارون في حرف أبيّ فافرحوا (2) قال أبو جعفر: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أنّ مع النهي حرفا إلّا أنّهم يحذفون من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته وربّما جاءوا به على الأصل منه فبذلك فلتفرحوا.
[سورة يونس (10): آية 59]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرََاماً وَحَلاََلاً قُلْ آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللََّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
{مََا} في موضع نصب برأيتم، وقال أبو إسحاق: هي في موضع نصب بأنزل.
[سورة يونس (10): آية 61]
{وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاََ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاََّ كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاََ فِي السَّمََاءِ وَلاََ أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلاََ أَكْبَرَ إِلاََّ فِي كِتََابٍ مُبِينٍ (61)}
{وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} قال الفراء: الهاء في «منه» تعود على الشأن وهذا كلام يحتاج إلى شرح. يكون المعنى وما تتلو من الشأن أي من أجل الشأن أي يحدث شأن فيتلى من أجله القرآن ليعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. {يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَلََا أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرَ إِلََّا} عطف على مثقال وإن شئت على ذرة، والرفع عطف على الموضع لأن «من» زائدة للتوكيد، ويجوز الرفع على الابتداء وخبره {إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} زعم قوم من النحويين أنّ الّذي في «سبأ» (3) لا يجوز فيه إلّا الرفع لأنه ليس معه من ذلك غلط وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
[سورة يونس (10): آية 62]
{أَلاََ إِنَّ أَوْلِيََاءَ اللََّهِ لاََ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاََ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
{أَلََا إِنَّ أَوْلِيََاءَ اللََّهِ} اسم إنّ {لََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} في موضع الخبر أي من تولاه الله جلّ وعز وتولّى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن ومثله {لََا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103].
__________
(1) وهذه قراءة أبيّ وابن عامر والحسن أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 170، ومعاني الفراء 1/ 469.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 170.
(3) سبأ: الآية 3.(2/151)
[سورة يونس (10): آية 63]
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكََانُوا يَتَّقُونَ (63)}
{الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب على البدل من اسم «إنّ» وإن شئت على أعني والرفع على إضمار مبتدأ وعلى البدل من الموضع وعلى الابتداء، وخبره {لَهُمُ الْبُشْرى ََ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ} وفيه قول رابع قال الكسائي: يكون النعت تابعا للمضمر في الفعل. قال الفراء (1): هذا خطأ لأن المضمر لا ينعت بالمظهر. قال أبو جعفر: أما قوله المضمر لا ينعت بالمظهر فصواب ولكن يجوز أن يكون الكسائي أراد أن هذا الذي يكون نعتا تابعا للمضمر كما يقول البصريون بدل لأن الكوفيين لا يأتون بهذه اللفظة أعني البدل. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معنى {لَهُمُ الْبُشْرى ََ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَفِي الْآخِرَةِ} وقد قيل في الحياة الدنيا عند الموت وفي الآخرة إذا خرجوا من قبورهم، وقبل: هو قوله جلّ وعزّ {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوََانٍ} [التوبة: 21] الآية ويدلّ على هذا {لََا تَبْدِيلَ لِكَلِمََاتِ اللََّهِ}.
[سورة يونس (10): آية 65]
{وَلاََ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
{وَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} تمّ الكلام ثم قال {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً} نصب على الحال.
[سورة يونس (10): آية 70]
{مَتََاعٌ فِي الدُّنْيََا ثُمَّ إِلَيْنََا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذََابَ الشَّدِيدَ بِمََا كََانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
قال الكسائي: {مَتََاعٌ فِي الدُّنْيََا} أي ذلك متاع أو هو متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب في غير القرآن. {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذََابَ الشَّدِيدَ بِمََا كََانُوا يَكْفُرُونَ} أي بكفرهم.
[سورة يونس (10): آية 71]
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ إِنْ كََانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقََامِي وَتَذْكِيرِي بِآيََاتِ اللََّهِ فَعَلَى اللََّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ ثُمَّ لاََ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاََ تُنْظِرُونِ (71)}
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} حذفت الواو لأنه أمر. {إِذْ} في موضع نصب {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ} بقطع ألف الوصل ونصب الشركاء هذه قراءة أكثر الأئمة. وقرأ عاصم الجحدريّ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} من جمع يجمع {وَشُرَكََاءَكُمْ} نصب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب فأجمعوا أمركم وشركاؤكم (2) بقطع الألف ورفع الشركاء. القراءة الأولى من أجمع على الشيء يجمع إذا عزم عليه وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أقوال: قال الفراء (3) أجمع الشيء أي عدّه، وقال الكسائي
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 471.
(2) انظر معاني الفراء 1/ 473، والبحر المحيط 5/ 177.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 473.(2/152)
والفراء: هو بمعنى وادعوا شركاءكم فهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل، وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى كما قال: [مجزوء الكامل] 200 يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا (1)
والرمح لا يتقلّد إلّا أنه محمول كالسيف، وقال أبو إسحاق: المعنى مع شركائكم كما يقال: التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية على العطف على أمركم وإن شئت بمعنى مع. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع وحسن العطف على المضمر المرفوع لأن الكلام قد طال، وهذه القراءة تبعد لأن لو كان مرفوعا لوجب أن يكتب بالواو وأيضا فإنّ شركاءكم الأصنام والأصنام لا تصنع شيئا. {ثُمَّ لََا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} اسم يكون وخبرها. {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} ألف وصل من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي: هو مثل {وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إيّاه وروي عن ابن عباس: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلََا تُنْظِرُونِ} قال: امضوا إليّ ولا تؤخّرون. قال أبو جعفر:
هذا قول صحيح في اللغة ومنه: قضى الميّت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه وهذا من دلائل النبوّات، وزعم الفراء ثمّ أفضوا (2) بقطع الألف والفاء «توجّهوا إليّ حتى تصلوا» ومنه: أفضت الخلافة إلى فلان.
[سورة يونس (10): آية 72]
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمََا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاََّ عَلَى اللََّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}
{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي فإن تولّيتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا.
[سورة يونس (10): آية 74]
{ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى ََ قَوْمِهِمْ فَجََاؤُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
{فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}. قيل: التقدير بما كذّب به قوم نوح من قبل، ومن حسن ما قيل في هذا أنّه لقوم بأعيانهم مثل {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} *
[البقرة: 6].
[سورة يونس (10): آية 77]
{قََالَ مُوسى ََ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمََّا جََاءَكُمْ أَسِحْرٌ هََذََا وَلاََ يُفْلِحُ السََّاحِرُونَ (77)}
قال الأخفش {أَسِحْرٌ هََذََا} حكاية لقولهم لأنهم قالوا: أسحر هذا فقيل لهم:
أتقولون للحقّ لمّا جاءكم: أسحر هذا.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (122).
(2) انظر البحر المحيط 5/ 179، وهي قراءة السريّ بن ينعم بالفاء وقطع الألف، ومعاني الفراء 1/ 474.(2/153)
[سورة يونس (10): آية 78]
{قََالُوا أَجِئْتَنََا لِتَلْفِتَنََا عَمََّا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيََاءُ فِي الْأَرْضِ وَمََا نَحْنُ لَكُمََا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
وروي عن الحسن (ويكون لكما الكبرياء) بالياء لأنه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضي اليوم امرأتان.
[سورة يونس (10): آية 80]
{فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ قََالَ لَهُمْ مُوسى ََ أَلْقُوا مََا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)}
{أَنْتُمْ} رفع بالابتداء، وخبره {مُلْقُونَ} والجملة في الصلة والعائد على الذي محذوف أي ملقوه.
[سورة يونس (10): آية 81]
{فَلَمََّا أَلْقَوْا قََالَ مُوسى ََ مََا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللََّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللََّهَ لاََ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
{فَلَمََّا أَلْقَوْا قََالَ مُوسى ََ مََا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} فيه خمس قراءات وأكثر القراء على هذه القراءة. {مََا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} ابتداء وخبر، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو بن العلاء {مََا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء والخبر «جئتم به». والتقدير: أيّ شيء جئتم به على التوبيخ والتقصير لما جاءوا به.
{السِّحْرُ} على إضمار مبتدأ والتقدير هو السحر. قال هارون القارئ، وفي قراءة عبد الله ما جئتم به سحر (1) فهذا أيضا على الابتداء والخبر ودخول الألف واللام في هذا أكثر من كلام العرب لأنهم قالوا لموسى صلّى الله عليه وسلّم: هذا سحر فقال لهم: بل ما جئتم به السحر وهكذا يقال في أول الكتب والرسائل: سلام على من اتّبع الهدى وفي آخرها:
والسلام. ولو قال لك قائل: وجدت درهما ثم سألته لكان الاختيار أن تقول: فأين الدرهم؟ ولا تقول: أين درهم؟ فيتوهّم أنك سألته عن غيره. قال هارون: وفي حرف أبيّ ما آتيتم به سحر (2) وهذا كالذي قبله، وأجاز الفراء: «ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله» بنصب السحر ويجعل «ما» للشرط و «جئتم» في موضع جزم بما والفاء محذوفة والتقدير فإنّ الله سيبطله كما قال: [البسيط] 201 من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشّر بالشرّ عند الله مثلان (3)
والسحر عنده منصوب بجئتم ولم يشرحه شرحا يبيّن به حقيقة النصب. قال أبو جعفر: يكون السحر منصوبا على المصدر أي ما جئتم به سحرا ثم جاء بالألف واللام إلّا أنّ حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر بل
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 181، ومعاني الفراء 1/ 475.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 181.
(3) مرّ الشاهد رقم 34.(2/154)
ربّما دفع ذلك بعضهم أن يجوز النيّة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدّثني محمد بن يزيد قال: حدثني المازني قال: سمعت الأصمعي يقول: غيّر النحويون هذا البيت وإنما الرواية:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز قال: الدليل على ذلك القراءة وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم [الشورى: 1] {وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى 2] قراءتان مشهورتان معروفتان.
[سورة يونس (10): آية 82]
{وَيُحِقُّ اللََّهُ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
{وَيُحِقُّ اللََّهُ الْحَقَّ بِكَلِمََاتِهِ} أي يبيّن الحق بكلامه وحججه وبراهينه.
[سورة يونس (10): آية 83]
{فَمََا آمَنَ لِمُوسى ََ إِلاََّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى ََ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعََالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
{فَمََا آمَنَ لِمُوسى ََ إِلََّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} رفع بفعلها ولا يجوز نصبها على الاستثناء لأن الكلام قبلها لم يتمّ {عَلى ََ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ} ولم يقل: وملائه ففي هذا ستة أجوبة: منها أنّ فرعون لمّا كان جبارا خبّر عنه بفعل الجميع ومنها أنّ فرعون لمّا ذكر علم أنّ معه غيره فعاد الضمير عليه وعليهم وهذا أحد جوابي الفراء (1) ومنها أن تكون الجماعة سمّيت بفرعون مثل ثمود، وجواب الفراء الآخر أن يكون التقدير على خوف من آل فرعون مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}. وهذا الجواب على مذهب الخليل وسيبويه خطأ، لا يجوز عندهما: قامت هند وأنت تريد غلامها. والجواب الخامس مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذريّة أي وملأ الذريّة. والجواب السادس كأنّه أبينها يكون الضمير يعود على قومه {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} في موضع خفض على بدل الاشتمال ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف ولم ينصرف فرعون لأنه اسم عجميّ وهو معرفة.
{لَعََالٍ} في موضع رفع على خبر «إنّ» وقد ذكرنا نظيره.
[سورة يونس (10): آية 85]
{فَقََالُوا عَلَى اللََّهِ تَوَكَّلْنََا رَبَّنََا لاََ تَجْعَلْنََا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (85)}
{فَقََالُوا عَلَى اللََّهِ تَوَكَّلْنََا} أي سلّمنا أمورنا إليه ورضينا بقضائه وقدره وانتهينا إلى أمره.
[سورة يونس (10): الآيات 87الى 88]
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءََا لِقَوْمِكُمََا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقََالَ مُوسى ََ رَبَّنََا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوََالاً فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى ََ أَمْوََالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَلاََ يُؤْمِنُوا حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ (88)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 476.(2/155)
{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} مفعولان وكذا {آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوََالًا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} {رَبَّنََا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} لام كي وأصحّ ما قيل فيها وهو مذهب الخليل وسيبويه أنه لمّا آل أمرهم إلى هذا كان كأنّه لهذا وسمّي لام العاقبة أي لمّا كان عاقبة أمرهم قد آل إلى هذا كان بمنزلة ما كان الأول من أجله، وقد زعم قوم أن المعنى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا لأن لا يضلّوا عن سبيلك وحذف «لا» كما قال {يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]. والمعنى أن لا تضلّوا. قال أبو جعفر:
ظاهر هذا الجواب حسن إلّا أنّ العرب لا تحذف «لا» مع «أن» فموّه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل أن تضلّوا. {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى ََ أَمْوََالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَلََا يُؤْمِنُوا} وهذا أيضا من المشكل يقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل صلى الله عليهم وسلم استدعاء إيمان قومهم؟ فالجواب أنّ معنى اطمس على أموالهم عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. قال أبو إسحاق: معنى تطميس الشيء إذهابه عن صورته. {وَاشْدُدْ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} قيل معناه غمّهم عقوبة لهم، وقيل معناه صبّرهم على ما لحقهم لا يخرجوا إلى موضع خصب لأن معنى شددت الشيء وربطته في اللغة ضيّقته، {فَلََا يُؤْمِنُوا} ليس بدعاء على قول محمد بن يزيد قال: هو معطوف على قوله ليضلّوا، وقال الكسائي وأبو عبيدة هو دعاء فهو في موضع جزم عندهما، وأجاز الأخفش والفراء أن يكون جوابا وأنشد الفراء: [الرجز] 202 يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا (1)
فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب.
[سورة يونس (10): آية 89]
{قََالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمََا فَاسْتَقِيمََا وَلاََ تَتَّبِعََانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاََ يَعْلَمُونَ (89)}
{قََالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمََا} قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما جميعا قول موسى صلّى الله عليه وسلّم ربّنا ولم يقل ربّ. {فَاسْتَقِيمََا} قال الفراء:
أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة قال: ويقال كان
__________
(1) الرجز لأبي النجم في الكتاب 3/ 34، والدر 3/ 52، والردّ على النحاة 123، وشرح التصريح 2/ 239، ولسان العرب (نفخ)، والمقاصد النحوية 4/ 387، وهمع الهوامع 2/ 10، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 182، ورصف المباني 381، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 270، وشرح الأشموني 2/ 302، وشرح ابن عقيل ص 570، وشرح قطر الندى 71، وشرح المفصل 7/ 26، واللمع في العربية 210، والمقتضب 2/ 14، وهمع الهوامع 1/ 182.(2/156)
بينهما أربعون سنة. قال أبو جعفر: وقد قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والضحّاك كانت بينهما أربعون سنة {وَلََا تَتَّبِعََانِّ} في موضع جزم على النهي والنون للتوكيد وحرّكت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين.
[سورة يونس (10): آية 90]
{وَجََاوَزْنََا بِبَنِي إِسْرََائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتََّى إِذََا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قََالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاََ إِلََهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}
{قََالَ آمَنْتُ أَنَّهُ} في موضع نصب والمعنى «بأنه»، ومن قرأ «إنّه» بالكسر فالتقدير عنده قال صرت مؤمنا ثم استأنف «إنه»، وزعم أبو حاتم أنّ القول محذوف {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ابتداء وخبر، وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم أنه جعل في فيه الطين، وتأويل هذا والله أعلم أنه عقوبة لعدوّ الله.
[سورة يونس (10): آية 92]
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ عَنْ آيََاتِنََا لَغََافِلُونَ (92)}
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} قال عبد الله بن شداد والضحاك فأخرج لهم، قالا: لتكون لمن خلفك آية ليعلموا أنه ليس إلاها كما قال الأخفش سعيد: {نُنَجِّيكَ} من النّجاء والإنجاء وقال بعضهم: نرفعك على نجوة من الأرض، قال {بِبَدَنِكَ} أي لا روح فيك، قال: وليس قول من قال «ببدنك» بدرعك بشيء.
[سورة يونس (10): آية 94]
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جََاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاََ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94)}
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} في موضع جزم بالشرط، والجواب {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكَ} وقد ذكرنا معناه.
[سورة يونس (10): آية 97]
{وَلَوْ جََاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ (97)}
{وَلَوْ جََاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} فأنّث كلّا على المعنى لأن المعنى ولو جاءتهم الآيات.
[سورة يونس (10): آية 98]
{فَلَوْلاََ كََانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهََا إِيمََانُهََا إِلاََّ قَوْمَ يُونُسَ لَمََّا آمَنُوا كَشَفْنََا عَنْهُمْ عَذََابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَمَتَّعْنََاهُمْ إِلى ََ حِينٍ (98)}
{فَلَوْلََا كََانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} قال الأخفش والكسائي: أي فهلّا. قال الفراء (1): وفي حرف أبيّ (فهلا) لأن معناه أنهم لم يؤمنوا وقال غيره: المعنى فلم تكن قرية آمنت بمن
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 489.(2/157)
حقّت عليهم كلمات ربّك أي أهل قرية {إِلََّا قَوْمَ يُونُسَ} نصبت لأنه استثناء ليس من الأول أي لكن قوم يونس. هذا قول الكسائي والأخفش والفراء وأنشد سيبويه (1):
[الكامل] 203 من كان أسرع في تفرّق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدّت (2)
إلّا كناشرة الّذي ضيّعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبّت (3)
ويجوز إلّا قوم يونس بالرفع وأنشد سيبويه: [الرجز] 204 وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس (4)
ورفعه عند سيبويه من جهتين: إحداهما أن يكون الأول توكيدا، والجهة الأخرى أن يجعل اليعافير والعيس أنيسها. ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قاله أبو إسحاق قال:
يكون المعنى غير قوم يونس فلمّا جاء بإلّا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيركما قال: [الوافر] 205 وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان (5)
[سورة يونس (10): آية 99]
{وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}
{وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} توكيد لمن {جَمِيعاً} عند سيبويه نصب على الحال.
__________
(1) البيتان لعنز بن دجاجة في الكتاب 2/ 268، ولعنز أو لمعاوية بن كاسر المازني في شرح أبيات سيبويه 2/ 172، ولشهاب المازني في الأزهيّة ص 176، ولكابية بن حرقوص بن مازن في خزانة الأدب 6/ 362، وبلا نسبة في رصف المباني 203، وسرّ صناعة الإعراب 302، وشرح اختيارات المفضل 537، ولسان العرب (نبت)، والمقتضب 4/ 416، والثاني بلا نسبة في الحيوان 6/ 500.
(2) في الكتاب (أشرك) بدل أسرع.
وفالج: هو فالج بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، أساء إليه بعض بني مازن فدعا الشاعر عليهم مستثنيا منهم رجلا يدعى (ناشرة) لأنه لم يرض عن إساءة بني مازن لفالج. واللبون: ذوات اللبن.
وأغدّت: صارت فيها الغدة وهي كالذبحة تعتري البعير.
(3) الغلواء: النماء والارتفاع. والمتنبّت: المنمّى والمغذّى.
(4) مرّ الشاهد رقم 110.
(5) الشاهد لعمرو بن معديكرب في ديوانه 178، والكتاب 2/ 350، ولسان العرب (ألا)، والممتع في التصريف 1/ 51، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة ص 90، وحماسة البحتري 151، والحماسة البصرية 2/ 418، وشرح أبيات سيبويه 2/ 46، والمؤتلف والمختلف 85، ولعمرو أو الحضرمي في خزانة الأدب 3/ 1421، والدرر 3/ 170، وشرح شواهد المغني 1/ 216، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 180، وأمالي المرتضى 2/ 88، والجنى الداني 519، وخزانة الأدب 9/ 321، ورصف المباني 92، وشرح الأشموني 1/ 234، وشرح المفصل 2/ 89، ومغني اللبيب 1/ 72، والمقتضب 4/ 409.(2/158)
[سورة يونس (10): آية 100]
{وَمََا كََانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاََ يَعْقِلُونَ (100)}
{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} أي العذاب {عَلَى الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} أي لا يعقلون أمر الله جلّ وعزّ وهم الكفار.
[سورة يونس (10): آية 101]
{قُلِ انْظُرُوا مََا ذََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا تُغْنِي الْآيََاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاََ يُؤْمِنُونَ (101)}
{وَمََا تُغْنِي} في موضع رفع حذفت الضمة من الياء لثقلها وحذفت الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وكذا {نُنَجِّيكَ} في موضع رفع «وما» في موضع نصب بيعني وهو اسم تام.
[سورة يونس (10): آية 104]
{قُلْ يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاََ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََكِنْ أَعْبُدُ اللََّهَ الَّذِي يَتَوَفََّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}
{فَلََا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} مرفوع بالمضارعة، وكذا {أَعْبُدُ اللََّهَ}.
[سورة يونس (10): آية 109]
{وَاتَّبِعْ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتََّى يَحْكُمَ اللََّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحََاكِمِينَ (109)}
{وَهُوَ خَيْرُ الْحََاكِمِينَ} ابتداء وخبر لأنه جلّ وعزّ لا يحكم إلّا بالحقّ، وروي عن طلحة والأعمش وعاصم {إِلََّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] بكسر النون وكذا «يوسف» بكسر السين. قال أبو حاتم: يجب إذا كسروا أن يهمزوا لأنهم يتوهّمونه من آنس يؤنس وآسف يؤسف. قال: وقال أبو زيد: بعض العرب يقول يونس ويوسف.(2/159)
11 - شرح إعراب سورة هود ع
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة هود (11): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
قال أبو جعفر: يقال: هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة لأنك لو سمّيت امرأة بزيد لم تصرف هذا قول الخليل وسيبويه (1)، وعيسى يقول: هذه هود فاعلم بالتنوين على أنه اسم للسورة وكذلك لو سمّى امرأة بزيد لأنه لمّا سكن وسطه خفّ فصرف فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع فقلت: هذه هود فاعلم تريد هذه سورة هود. قال سيبويه: والدليل على هذا أنك تقول: هذه الرحمن فلولا أنك تريد سورة الرحمن ما قلت هذه. {كِتََابٌ} بمعنى هذا كتاب {أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} في موضع رفع نعت لكتاب وأحسن ما قيل في معنى «أحكمت» جعلت محكمة كلّها لا خلل فيها ولا باطل وفي {ثُمَّ فُصِّلَتْ} آياته جعلت متفرّقة ليتدبّر {مِنْ لَدُنْ} في موضع خفض إلّا أنها مبنيّة على السكون لأنها غير متمكّنة وما بعدها مخفوض بالإضافة، وحكى سيبويه (2): لدن غدوة يا هذا لمّا كان يقال: لد، كما أنشد سيبويه: [الرجز] 206 من لد شول فإلى إتلائها (3)
صارت النون مثلها في عشرين فنصبت ما بعدها {حَكِيمٍ} أي في أفعاله {خَبِيرٍ} أي بمصالح خلقه.
[سورة هود (11): آية 2]
{أَلاََّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللََّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
{أَلََّا} قال الكسائي والفراء (4): أي بأن لا وقال أبو إسحاق المعنى لئلا {تَعْبُدُوا} نصب بأن.
[سورة هود (11): آية 3]
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتََاعاً حَسَناً إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 265.
(2) انظر الكتاب 1/ 92.
(3) مرّ الشاهد رقم 72 «من لد شولا».
(4) انظر معاني الفراء 2/ 3.(2/160)
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا} عطف {ثُمَّ تُوبُوا} عطف أيضا {يُمَتِّعْكُمْ} جواب الأمر أي يمتعكم بالمنافع {مَتََاعاً} اسم للمصدر {حَسَناً} من نعته. {وَيُؤْتِ} عطف على يمتّعكم {كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} مفعولان.
[سورة هود (11): آية 5]
{أَلاََ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاََ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيََابَهُمْ يَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ (5)}
وروى ابن جريج عن محمد بن عبّاد قال: سمعت ابن عباس يقول: (ألا إنهم تثنوني صدورهم ليستخفوا منه) (1) قال: كانوا لا يجامعون النساء ولا يأتون الغائط وهم يغضون إلى السماء فنزلت هذه الآية، وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليسارّه وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفى على الله جلّ وعزّ، وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس إلا إنهم تثنون صدورهم (2) ومعنى تثنون والقراءتين الأخريين مقارب لأنها تثنوني حتى يثنوها، وحذف الياء لا يجوز إلا في ضرورة الشعر كما قال: [المتقارب] 207 فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... من حذر الموت أن يأتين (3)
أو في صلة نحو {وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} [الفجر: 4] {يَسْتَغْشُونَ} في موضع خفض بالإضافة.
[سورة هود (11): آية 6]
{وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاََّ عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهََا وَمُسْتَوْدَعَهََا كُلٌّ فِي كِتََابٍ مُبِينٍ (6)}
{وَمََا مِنْ دَابَّةٍ} في موضع رفع والمعنى وما دابة {إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا} رفع بالابتداء وعند الكوفيين بالصفة.
[سورة هود (11): آية 7]
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ وَكََانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمََاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هََذََا إِلاََّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} كسرت إن لأنها بعد القول مبتدأة وحكى سيبويه الفتح {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بفتح اللام التي قبل النون لأنه فعل متقدّم لا ضمير فيه، وبعده {لَيَقُولَنَّ} لأن فيه ضميرا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 203، ومعاني الفراء 2/ 3.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 203، ومختصر ابن خالويه 59.
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 95، والدرر 5/ 151، والكتاب 3/ 574، وشرح المفصل 9/ 40، والمقاصد النحوية 4/ 324، والمحتسب 1/ 349، وبلا نسبة في همع الهوامع 2/ 78.(2/161)
[سورة هود (11): الآيات 8الى 9]
{وَلَئِنْ أَخَّرْنََا عَنْهُمُ الْعَذََابَ إِلى ََ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مََا يَحْبِسُهُ أَلاََ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنََاهََا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)}
{لَيَؤُسٌ} من يئس ييأس وحكى سيبويه (1): يئس ييئس على فعل يفعل، ونظيره حسب يحسب ونعم ينعم وبئس يبئس، وبعضهم يقول: يئس ييأس لا يعرف في كلام العرب إلّا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت على فعل يفعل في واحد منها اختلاف، فهو يائس ويؤوس على التكثير وكذا فاخر وفخور.
[سورة هود (11): آية 10]
{وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ نَعْمََاءَ بَعْدَ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئََاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}
قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة إنه لفرح فخور (2).
قال أبو جعفر: هكذا كما تقول: فطن وحذر وندس ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة.
[سورة هود (11): آية 11]
{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول وقال الفراء (3): هو استثناء من الأول. {وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ} أي الإنسان قال: لأن الإنسان بمعنى الناس.
[سورة هود (11): آية 12]
{فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاََ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جََاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمََا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)}
{فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} معطوف على تارك، وصدرك مرفوع به. {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب أي كراهة أن يقولوا.
[سورة هود (11): آية 13]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (13)}
{قُلْ فَأْتُوا} وبعده.
[سورة هود (11): آية 14]
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمََا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ وَأَنْ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 165.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 207، ومختصر ابن خالويه 59.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 4.(2/162)
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ولم يقل: لك فهو على تحويل المخاطبة أو على أن تكون المخاطبة له كالمخاطبة للمؤمنين وعلى أن يخاطب مخاطبة الجميع.
[سورة هود (11): آية 15]
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمََالَهُمْ فِيهََا وَهُمْ فِيهََا لاََ يُبْخَسُونَ (15)}
{مَنْ كََانَ} في موضع جزم بالشرط، وجوابه {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فالأول من اللفظ ماض والثاني مستقبل كما قال زهير: [الطويل] 208 ومن هاب أسباب المنايا ينلنه (1)
قال مجاهد: نوف إليه حسناته في الدنيا، وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفّي ثوابها فإن كان مسلما وفي في الدنيا والآخرة وإن كان كافرا وفّي في الدنيا، وقيل: المعنى: من كان يريد بغزوة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة وفيها ولم ينقص منها.
[سورة هود (11): آية 16]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النََّارُ وَحَبِطَ مََا صَنَعُوا فِيهََا وَبََاطِلٌ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (16)}
{وَبََاطِلٌ} ابتداء {مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} خبره، وقال أبو حاتم: وحذف الهاء. قال أبو جعفر: وهذه لا يحتاج إلى حذف لأنه بمعنى المصدر أي وباطل عمله وفي حرف أبيّ وعبد الله وباطلا ما كانوا يعملون (2) خبره تكون ما زائدة أي كانوا يعملون باطلا.
[سورة هود (11): آية 17]
{أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شََاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ إِمََاماً وَرَحْمَةً أُولََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزََابِ فَالنََّارُ مَوْعِدُهُ فَلاََ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يُؤْمِنُونَ (17)}
{أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ابتداء والخبر محذوف أي: أفمن كان على بيّنة من ربّه ومعه من الفضل ما يبين به ذلك لغيّه فهذا على قول علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن قالا: {وَيَتْلُوهُ شََاهِدٌ مِنْهُ} لسانه، وقال عكرمة عن ابن عباس: ويتلوه شاهد منه «جبرائيل» عليه السلام فيكون على هذا «ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عزّ
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 30، والخصائص 3/ 324، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 267، وشرح شواهد المغني 1/ 386، ولسان العرب (سبب). وعجزه:
«ولو نال أسباب الماء بسلّم»
(2) انظر البحر المحيط 5/ 211، ومختصر ابن خالويه 59.(2/163)
وجلّ»، وقال الفراء: قال بعضهم «ويتلوه شاهد منه» الإنجيل وإن كان قبله أي يتلوه في التصديق. {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ} رفع بالابتداء. قال أبو إسحاق: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم موصوف في كتاب موسى صلّى الله عليه وسلّم {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]، وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ} (1) بالنصب. قال أبو جعفر: النصب جائز يكون معطوفا على الهاء أي ويتلو كتاب موسى {إِمََاماً وَرَحْمَةً} على الحال.
[سورة هود (11): آية 20]
{أُولََئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ يُضََاعَفُ لَهُمُ الْعَذََابُ مََا كََانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمََا كََانُوا يُبْصِرُونَ (20)}
{يُضََاعَفُ لَهُمُ الْعَذََابُ} أي على قدر كفرهم ومعاصيهم {مََا كََانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} (ما) في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا كما تقول: جزيته ما فعل وبما فعل وأنشد سيبويه: [البسيط] 209 أمرتك الخير فافعل ما أمرت به (2)
ويجوز أن يكون المعنى: يضاعف لهم العذاب أبدا، والتقدير في العربية وقت ذلك ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع لأنّ الله جلّ وعزّ أضلّهم في اللّوح المحفوظ، والجواب الرابع عن أبي إسحاق قال:
لبغضهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يستمعوا منه ولا يتفهموا الحجج. قال أبو جعفر: وهذا معروف في كلام العرب أن يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه. {وَمََا كََانُوا يُبْصِرُونَ} عطف.
[سورة هود (11): آية 21]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ (21)}
{أُولََئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ابتداء وخبر: ويقال: اللذون ولا يجوز أن يبنى كما يبنى الواحد وفي بنائه أربعة أقوال: قال الأخفش: ضمّت الّذي إلى النون فصار كخمسة عشر، وقيل: لأنه لا يتم إلّا بصلة، ولا يعرب الاسم من وسطه، وقال علي بن سليمان: لأنه يقع لكل غائب، وقال محمد بن يزيد: لأنه يحتاج إلى ما بعده كالحروف إلّا أنه أنّث وثنّي وجمع لأنه نعت ولم تحرّك ياؤه في موضع النصب لأنه ليس بمعرف ولهذا حذفت في التثنية.
__________
(1) وهذه قراءة محمد بن السائب الكلبي وغيره، انظر البحر المحيط 5/ 211، ومختصر ابن خالويه 59.
(2) مرّ الشاهد رقم (51).(2/164)
[سورة هود (11): آية 22]
{لاََ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}
{لََا جَرَمَ} قد تكلّم العلماء فيه، فقال الخليل وسيبويه (1): جرم بمعنى حقّ، «فإنّ» عندهما في موضع رفع وهذا قول الفراء (2) ومحمد بن يزيد وزعم الخليل أن «لا» هاهنا جيء بها ليعلم أنّ المخاطب لم يبتدئ كلامه وإنّما خاطب من خاطبه والكلام يجاء به ليدلّ على المعاني. وقال أبو إسحاق: «لا» هاهنا نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم كان المعنى لا ينفعهم ذلك {جَرَمَ أَنَّهُمْ} أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران فإنّ عنده في موضع نصب، وقال الكسائي: في الإعراب لا صدّ ولا منع عن أنهم، وحكى الكسائي فيها أربع لغات «لا جرم»، «ولا عن ذا جرم» و «لا انّ ذا جرم» قال: وناس من فزارة يقولون: لا جر أنهم بغير ميم، وحكى الفراء (3) فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون: لا ذا جرم، قال: وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجيم.
[سورة هود (11): آية 23]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى ََ رَبِّهِمْ أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (23)}
{إِنَّ الَّذِينَ} اسم إنّ {آمَنُوا} صلة {وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى ََ رَبِّهِمْ} عطف على الصلة قال مجاهد «أخبتوا» اطمأنوا وقال الفراء: أخبتوا إلى ربهم ولربهم واحد وقد يكون المعنى وجّهوا أخباتهم إلى ربهم. {أُولََئِكَ أَصْحََابُ الْجَنَّةِ} خبر «إنّ».
[سورة هود (11): آية 24]
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلاً أَفَلاََ تَذَكَّرُونَ (24)}
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} ابتداء، والخبر {كَالْأَعْمى ََ} وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى قال أبو جعفر: التقدير: مثل فريق الكافر كالأعمى والأصمّ ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير ولهذا {هَلْ يَسْتَوِيََانِ} ولا يقع هاهنا من حروف العطف إلّا الواو لأنها للاجتماع، وحكى سيبويه: مررت بأخيك وصديقك.
[سورة هود (11): آية 25]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ إِنِّي} أي فقال إنّي وأني أي بأنّي.
[سورة هود (11): آية 27]
{فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا نَرََاكَ إِلاََّ بَشَراً مِثْلَنََا وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا بََادِيَ الرَّأْيِ وَمََا نَرى ََ لَكُمْ عَلَيْنََا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كََاذِبِينَ (27)}
{فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} قال إسحاق: «الملأ» الرؤساء أي هم مليئون بما
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 159.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 8.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 8.(2/165)
يقولون: {مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا} نصب على الحال ومثلنا مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدّر فيه التنوين كما قال: [الكامل] 210 يا ربّ مثلك في النّساء غريرة (1)
{وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا} وهم الفقراء والذين لا حسب لهم والخسيسو الصناعات، وفي الحديث أنّهم كانوا حاكة وحجّامين، وكان هذا جهلا منهم لأنهم عابوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بما لا عيب فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم إنّما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات وليس عليهم تغيير الصور والهيئات وهم يرسلون إلى النّاس جميعا فإذا أسلم منهم الذين لم يلحقهم من ذلك نقصان لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم {بََادِيَ الرَّأْيِ} بدأ يبدو إذا ظهر كما قال: [الكامل] 211 فاليوم حين بدون للنّظّار (2)
ويجوز أن يكون «بادي الرأي» من بدأ وخفّفت الهمزة، وحقّق أبو عمرو الهمزة فقرأ {بََادِيَ الرَّأْيِ} (3). قال أبو إسحاق: نصبه بمعنى في بادئ الرأي. قال أبو جعفر: لم يشرح النحويون نصبه فيما علمت بأكثر من هذا فيجوز أن يكون «في» حذفت كما قال جلّ وعزّ {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ويجوز أن يكون المعنى اتباعا ظاهرا.
[سورة هود (11): آية 28]
{قََالَ يََا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتََانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهََا وَأَنْتُمْ لَهََا كََارِهُونَ (28)}
وحكى الكسائي والفراء (4) {أَنُلْزِمُكُمُوهََا} بإسكان الميم الأولى تخفيفا وقد أجاز سيبويه مثل هذا وأنشد: [السريع] 212 فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل (5)
__________
(1) الشاهد لأبي محجن الثقفي في الكتاب 1/ 493، وشرح أبيات سيبويه 1/ 540، وشرح المفصّل 2/ 126، وهو ليس في ديوانه، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 237، ورصف المباني 190، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 457، والمقتضب 4/ 289، وعجزه:
«بيضاء قد متّعتها بطلاق»
(2) الشاهد من قصيدة للربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير العبسي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 996، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 1019، وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف 111، والخصائص 3/ 300، وصدره:
«قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا»
(3) انظر تيسير الداني 101.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 12.
(5) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 122، والكتاب 4/ 319، وإصلاح المنطق 245، والأصمعيات 130، وجمهرة اللغة 962، وخزانة الأدب 4/ 106، والدرر 1/ 175، ورصف المباني 327، وشرح التصريح 1/ 88، وشرح شواهد الإيضاح 256، وشرح المفصل 1/ 48، ولسان العرب (دلك) و (حقب)، و (وغل)، والمحتسب 1/ 15، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 66، والاشتقاق 337، والخصائص 1/ 74، وهمع الهوامع 1/ 54.(2/166)
ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر كما تقول: أنلزمكم تلك.
[سورة هود (11): آية 30]
{وَيََا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللََّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلاََ تَذَكَّرُونَ (30)}
{أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} أدغمت التاء في الذال، ويجوز حذفها فتقول: تذكّرون.
[سورة هود (11): آية 31]
{وَلاََ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزََائِنُ اللََّهِ وَلاََ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاََ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاََ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللََّهُ خَيْراً اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ (31)}
{وَلََا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزََائِنُ اللََّهِ} أخبر بتواضعه وتذلّله لله جلّ وعزّ وأنه لا يدّعي ما ليس له من خزائن الله جلّ وعزّ وهي أنعامه على من يشاء من عباده، وأنه لا يعلم الغيب لأن الغيب لا يعلمه إلا الله جلّ وعزّ {وَلََا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي ولا أقول إنّ منزلتي عند الله جلّ وعزّ منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في هذا الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلّم لدوامهم على الطاعة واتصال عبادتهم إلى يوم القيامة. {وَلََا أَقُولُ} لكم ولا {لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم والدال مبدلة من تاء لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. {إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ} أي إن قلت هذا وإذن ملغاة لأنها متوسطة.
[سورة هود (11): آية 32]
{قََالُوا يََا نُوحُ قَدْ جََادَلْتَنََا فَأَكْثَرْتَ جِدََالَنََا فَأْتِنََا بِمََا تَعِدُنََا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (32)}
وعن ابن عباس {فَأَكْثَرْتَ جِدََالَنََا} (1) والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة والمناظرة مشتق من الجدل وهو شدّة الفتل. ويقال للصقر أجدل لشدّته في الطير.
[سورة هود (11): آية 34]
{وَلاََ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كََانَ اللََّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
{وَلََا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} أي لأنكم لا تقبلون نصحا.
[سورة هود (11): آية 35]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرََامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تُجْرِمُونَ (35)}
{إِجْرََامِي} مصدر أجرم وأجرامي جمع جرم وقد أجرم وجرم.
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 321، ومختصر ابن خالويه 60، والبحر المحيط 5/ 219.(2/167)
[سورة هود (11): آية 36]
{وَأُوحِيَ إِلى ََ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاََّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاََ تَبْتَئِسْ بِمََا كََانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
{وَأُوحِيَ إِلى ََ نُوحٍ} في صرف نوح قولان: أحدهما أنّه أعجميّ ولكنه خفّ لأنه على ثلاثة أحرف، والآخر أنّه عربيّ قال عكرمة: إنما سمّي نوحا لأنه كان يكثر النياحة على نفسه قال: وركب في السفينة لعشر خلون من رجب {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}
[هود: 44] لعشر خلون من المحرّم فذلك ستة أشهر وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعا. {أَنَّهُ} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير بأنه، {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلََّا مَنْ قَدْ آمَنَ} في موضع رفع بيؤمن {فَلََا تَبْتَئِسْ} أي فلا تغتمّ حتى تكون بائسا.
[سورة هود (11): آية 37]
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنََا وَوَحْيِنََا وَلاََ تُخََاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنََا} قيل: معناه بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: لأن الملائكة صلوات الله عليهم كانت تريد ذلك، {وَلََا تُخََاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تسألني فيهم فإني مغرقهم.
[سورة هود (11): آية 38]
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمََا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قََالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنََّا فَإِنََّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمََا تَسْخَرُونَ (38)}
{وَكُلَّمََا} ظرف {مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} قال الأخفش والكسائي يقال:
سخرت به ومنه.
[سورة هود (11): آية 39]
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذََابٌ مُقِيمٌ (39)}
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال الكسائي: وناس من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون.
قال: ومن قال: ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا، وحكى الكوفيون: سف تعلمون.
ولا يعرف البصريون إلّا سوف يفعل وسيفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى.
[سورة هود (11): آية 40]
{حَتََّى إِذََا جََاءَ أَمْرُنََا وَفََارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاََّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمََا آمَنَ مَعَهُ إِلاََّ قَلِيلٌ (40)}
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في موضع نصب باحمل. {وَأَهْلَكَ} عطف عليه {إِلََّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} «من» في موضع نصب بالاستثناء. {وَمَنْ آمَنَ} في موضع نصب عطف على اثنين وإن شئت على أهلك، {وَمََا آمَنَ مَعَهُ إِلََّا قَلِيلٌ} رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم إلّا أنّ الفائدة في دخول «إلّا» و «ما» أنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد آمن فإذا جئت بما وإلا أوجبت لما بعد إنّ ونفيت عن غيرهم.(2/168)
[سورة هود (11): آية 41]
{وَقََالَ ارْكَبُوا فِيهََا بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)}
{وَقََالَ ارْكَبُوا فِيهََا بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا وَمُرْسََاهََا} بضم ميميهما (1) قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا من شذّ منهم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {بِسْمِ اللََّهِ مَجْرََاهََا} بفتح الميم {وَمُرْسََاهََا} بضم الميم، وروي عن يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب باسم الله مجراها ومرساها (2) بفتح الميم فيهما، وقرأ مجاهد ومسلم بن جندب وعاصم الجحدري باسم الله مجريها ومرسيها (3) فالقراءة الأولى بمعنى باسم الله إجراؤها وإرساؤها مرفوع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير باسم الله وقت إجرائها كما تقول: أنا أجيئك مقدم الحاجّ، وقيل:
التقدير باسم الله موضع إجرائها ثم حذف موضع وأقيم مجراها مقامه، وقال الضحاك:
كان إذا قال: باسم الله جرت، وإذا قال: باسم الله رست وتكون الباء متعلّقة باركبوا و «مجراها» بفتح الميم من جرت مجرى و «مرساها» بفتح الميم من رست رسوّا ومرسى إذا ثبتت، ومجريها نعت لله جلّ وعزّ في موضع جرّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها ويجوز النصب على الحال بمعنى أعني.
[سورة هود (11): آية 42]
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبََالِ وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ وَكََانَ فِي مَعْزِلٍ يََا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنََا وَلاََ تَكُنْ مَعَ الْكََافِرِينَ (42)}
{وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ وَكََانَ فِي مَعْزِلٍ} ويجوز على قول سيبويه {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ} مختلس {وَكََانَ فِي مَعْزِلٍ} (4) وأنشد سيبويه: [الوافر] 213 له زجل كأنه صوت حاد (5)
فأما {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ وَكََانَ} (6) فقراءة شاذّة وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد ابنها ثم يحذف الألف كما تقول: ابنه فتحذف الواو. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها والواو ثقيلة يجوز حذفها. {وَكََانَ فِي مَعْزِلٍ} اسم المكان والمصدر معزل {يََا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنََا}
__________
(1) انظر تيسير الداني 101.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 14.
(3) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط 5/ 225، ومعاني الفراء 2/ 14.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 60.
(5) مرّ الشاهد رقم (17) وعجزه:
«إذا طلب الوسيقة أو زمير»
(6) انظر مختصر ابن خالويه 60، وهذه قراءة هشام بن عروة.(2/169)
، وقرأ عاصم {يََا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنََا} بفتح الياء. قال أبو إسحاق: ويجوز في العربية يا بنيّ اركب معنا كما تقول: يا غلامي أقبل وكذا {يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ}
[الزمر: 53] «يا بني اركب معنا» على أن تحذف الياء وتبقي الكسرة دالّة عليها كما تقول: يا غلام أقبل. فأما قراءة عاصم فمشكلة، قال أبو حاتم: يريد يا بنيّاه ثم حذف. قال أبو جعفر، ورأيت عليّ بن سليمان يذهب إلى أنّ هذا لا يجوز لأن الألف خفيفة فلا يحذف.
قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين جوّز الكلام في هذا إلّا أبا إسحاق فإنّه زعم أنّ الفتح من جهتين والكسر من جهتين فالفتح على أن يبدل من الياء ألفا كما قال جلّ وعزّ أحيانا {يََا وَيْلَنََا} * [هود: 72]. وكما قال: [الطويل] 214 فيا عجبا من رحلها المتحمّل (1)
فيريد بابنيّا ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين كما تقول: جاءني عبد الله في التثنية، والجهة الأخرى أن تحذف الألف لأنّ النداء موضع حذف ولكن على أن تحذف الياء، والجهة الأخرى على أن يحذفها لالتقاء الساكنين. {وَلََا تَكُنْ مَعَ الْكََافِرِينَ} يدلّ هذا والله أعلم على أنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم أنه كافر وأنه ظنّ أنا مؤمن.
[سورة هود (11): آية 43]
{قََالَ سَآوِي إِلى ََ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمََاءِ قََالَ لاََ عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ إِلاََّ مَنْ رَحِمَ وَحََالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكََانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
{قََالَ لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ} على التبرئة ويجوز «لا عاصم اليوم» تكون «لا» بمعنى ليس {إِلََّا مَنْ رَحِمَ} في موضع نصب استثناء ليس من الأول ويجوز أن تكون في موضع رفع على أنّ عاصما بمعنى معصوم مثل {مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] ومن أحسن ما قيل فيه أن يكون «من» في موضع رفع والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلّا الراحم أي إلّا الله جلّ وعزّ ويحسن هذا لأنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه.
[سورة هود (11): آية 44]
{وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ وَيََا سَمََاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمََاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (44)}
{وَقِيلَ يََا أَرْضُ ابْلَعِي مََاءَكِ} قيل: هذا مجاز لأنها موات وقيل: جعل فيها ما تميّز به، والذي قال إنّها مجاز، قال: لو فتّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها وبلاغة وصفها واشتمال المعاني فيها، وحكى الكسائي
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 11، وشرح شواهد المغني 2/ 558، ولسان العرب (عقر)، وتهذيب اللغة 1/ 218، ومقاييس اللغة 4/ 90، وتاج العروس (عقر)، وبلا نسبة في رصف المباني ص 349، ومغني اللبيب 1/ 209، وصدره:
«ويوم عقرت للعذارى مطيّتي»(2/170)
والفراء (1) بلعت وبلعت، {وَغِيضَ الْمََاءُ} يقال: غاض الماء وغضته، ويجوز غيض الماء، بضم الغين {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} فبيّن الإعراب فيه لأن الياء مشدّدة فقبلها ساكن، وحكى الفراء: واستوت على الجودي، بإسكان الياء لأن قبلها مكسورا وهي مخفّفة {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} والذي قال هذه فيما روي نوح صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون، أي أبعد الله الظالمين فبعدوا بعدا على المصدر.
[سورة هود (11): آية 45]
{وَنََادى ََ نُوحٌ رَبَّهُ فَقََالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحََاكِمِينَ (45)}
{إِنَّ ابْنِي} اسم إنّ {مِنْ أَهْلِي} في موضع الخبر. {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} اسم «إن» وخبرها، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحََاكِمِينَ} ابتداء وخبره.
[سورة هود (11): آية 46]
{قََالَ يََا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صََالِحٍ فَلاََ تَسْئَلْنِ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ (46)}
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صََالِحٍ} (2) قد ذكرناه. {فَلََا تَسْئَلْنِ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي بي من لم يعلم أنه مؤمن، {إِنِّي أَعِظُكَ} أي أعظك بنهيي وزجري لئلّا تكون، والبصريون يقدرون كراهة أن يكون.
[سورة هود (11): آية 47]
{قََالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مََا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاََّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخََاسِرِينَ (47)}
أي أسألك أن توفّقني وتلطف لي حتّى لا أسأل ذلك {وَإِلََّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} يدلّ على أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم يذنبون {أَكُنْ مِنَ الْخََاسِرِينَ} أي رحمتك يوم القيامة.
[سورة هود (11): آية 48]
{قِيلَ يََا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاََمٍ مِنََّا وَبَرَكََاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى ََ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنََّا عَذََابٌ أَلِيمٌ (48)}
{قِيلَ يََا نُوحُ اهْبِطْ} أي من السفينة {بِسَلََامٍ} أي بسلامة. {وَبَرَكََاتٍ عَلَيْكَ} أي نعم ثابتة مشتقّ من بروك الجمل وهو ثباته وإقامته. {مِمَّنْ مَعَكَ} «من» للتبعيض وتكون لبيان الجنس. {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} أي وتكون أمم. قال الأخفش سعيد: كما تقول: كلّمت زيدا وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما (3) وتقديره وسنمتّع أمما.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 17.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 229.
(3) انظر معاني الفراء 1/ 18.(2/171)
[سورة هود (11): آية 49]
{تِلْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهََا إِلَيْكَ مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلاََ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هََذََا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
{تِلْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ} أي تلك الأنباء وفي موضع آخر ذلك أي ذلك النبأ {فَاصْبِرْ} أي فاصبر على أذى قومك كما صبر هؤلاء الرسل صلّى الله عليهم وسلّم.
[سورة هود (11): آية 50]
{وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاََّ مُفْتَرُونَ (50)}
{وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً} نصب بمعنى وأرسلنا. قال أبو إسحاق: قيل له أخوهم لأنه منهم أو لأنه من بني آدم عليه السلام كما أنهم من بني آدم {مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ} على اللفظ وغيره على الموضع وغيره على الاستثناء. {إِنْ أَنْتُمْ إِلََّا مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في اتّخاذكم إلها غيره إلّا كاذبون عليه جلّ وعزّ.
[سورة هود (11): آية 51]
{يََا قَوْمِ لاََ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاََّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (51)}
{يََا قَوْمِ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} حذفت الياء لأن النداء موضع حذف لكثرته، ويجوز إثباتها لأنها اسم.
[سورة هود (11): آية 52]
{وَيََا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمََاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرََاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى ََ قُوَّتِكُمْ وَلاََ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
{يُرْسِلِ السَّمََاءَ} جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة {مِدْرََاراً} على الحال وفيه معنى التكثير، والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب. {وَيَزِدْكُمْ} عطفا على يرسل.
[سورة هود (11): آية 54]
{إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرََاكَ بَعْضُ آلِهَتِنََا بِسُوءٍ قََالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ (54)}
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرََاكَ بَعْضُ آلِهَتِنََا} على تذكير بعض ويجوز التأنيث على المعنى.
[سورة هود (11): آية 56]
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللََّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلاََّ هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللََّهِ} أي رضيت بحكمه ووثقت بنصره. و {مََا مِنْ دَابَّةٍ} في موضع رفع بالابتداء. {إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا} أي يصرّفها كيف يشاء ويمنعها مما شاء أي فلا يصلون إلى ضرري، وكلّ ما فيه الروح يقال: له دابّ ودابّة والهاء للمبالغة {إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قيل: معناه لا خلل في تدبيره ولا تفاوت في خلقه.(2/172)
[سورة هود (11): آية 57]
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مََا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاََ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} في موضع جزم فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولّوا فحذفت التاء لاجتماع تاءين وإنّ المعنى معروف {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مََا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} بمعنى قد بيّنت لكم {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} مستأنف، ويجوز أن يكون عطفا على ما يجب فيما بعد الفاء ويجوز الجزم في غير القرآن مثل {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيََانِهِمْ} [الأنعام: 110] وكذا {وَلََا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً}.
[سورة هود (11): آية 58]
{وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَنَجَّيْنََاهُمْ مِنْ عَذََابٍ غَلِيظٍ (58)}
{وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا} لأنّ أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى وإن كانت له أعمال صالحة، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا، وقيل: معنى {بِرَحْمَةٍ مِنََّا} بأن بيّنا لهم الهدى الذي هو رحمة.
[سورة هود (11): آية 59]
{وَتِلْكَ عََادٌ جَحَدُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ (59)}
{وَتِلْكَ عََادٌ} ابتداء وخبر، وحكى الكسائي والفراء (1) إنّ من العرب من لا يصرف عادا أي يجعله اسما للقبيلة.
[سورة هود (11): آية 60]
{وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ أَلاََ إِنَّ عََاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاََ بُعْداً لِعََادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}
{أَلََا إِنَّ عََاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} قال الفراء (2): أي كفروا نعمة ربّهم قال: ويقال: كفرته وكفرت به، وشكرت له وشكرته.
[سورة هود (11): آية 61]
{وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهََا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}
{وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً} وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وإلى ثمود أخاهم صالحا وصرفا ثمودا في سائر القرآن ولم يصرف حمزة ثمود في شيء من القرآن، وكذا روي عن الحسن واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، وزعم أبو عبيد أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال أبو جعفر: الذي قاله أبو عبيد رحمه الله من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود لأن ثمودا يقال له حيّ ويقال له قبيلة وليس الغالب عليه القبيلة بل الأمر
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 19.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 20.(2/173)
على ضدّ ما قال عند سيبويه، والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف نحو: قريش وثقيف وما أشبههما وكذا ثمود، والعلة في ذلك أنه لمّا كان التذكير الأصل وكان يقع له مذكّر ومؤنّث كان الأصل والأخفّ أولى والتأنيث جيّد بالغ حسن، وأنشد سيبويه في التأنيث: [الكامل] 215 غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها (1)
{غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ} ولا يجوز إدغام الهاء في الهاء إلّا على لغة من حذف الواو في الإدراج {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي قريب الإجابة.
[سورة هود (11): آية 64]
{وَيََا قَوْمِ هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهََا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللََّهِ وَلاََ تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابٌ قَرِيبٌ (64)}
{هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ} ابتداء وخبر، وقيل: ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على ما طلبوا على أنهم يؤمنون. {لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال. {فَذَرُوهََا} أمر فلذلك حذفت منه النون، ولا يقال: وذر ولا واذر إلّا شاذا، وللنحويين فيه قولان: قال سيبويه (2): استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه، {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللََّهِ} جزم لأنه جواب الأمر. قال أبو إسحاق:
ويجوز رفعه على الحال والاستئناف. {وَلََا تَمَسُّوهََا} جزم بالنهي. قال الفراء. {بِسُوءٍ} أي بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي {عَذََابٌ قَرِيبٌ} من عقرها.
[سورة هود (11): آية 65]
{فَعَقَرُوهََا فَقََالَ تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ ثَلاََثَةَ أَيََّامٍ ذََلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}
{فَعَقَرُوهََا فَقََالَ تَمَتَّعُوا} أي بنعم الله جلّ وعزّ قبل العذاب. {ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ} ظرف زمان.
[سورة هود (11): آية 66]
{فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا صََالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)}
قال أبو حاتم: حدّثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أدغم الياء في الياء وأضاف وكسر الميم من يومئذ. قال أبو جعفر: الذي يرويه النحويون مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا الإخفاء فأما الإدغام فلا يجوز لأنه يلتقي
__________
(1) الشاهد لعديّ بن الرقاع في ديوانه ص 40، وخزانة الأدب 40، وشرح أبيات سيبويه 2/ 282، والطرائف الأدبية 90، ولسان العرب (قرش) ولجرير في لسان العرب (سمح)، وليس في ديوانه، وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 506، وما ينصرف وما لا ينصرف 59، والمقتضب 3/ 362، والكتاب 3/ 274.
(2) انظر الكتاب 4/ 228.(2/174)
ساكنان ولا يجوز كسر الزاي. قال أبو جعفر: ومن قرأ من خزي يومئذ حذف التنوين وأضاف ومن نوّن نصب يومئذ على أنه ظرف ومن حذف التنوين ونصب فقال ومن خزي يومئذ فله تقديران عند النحويين: فتقدير سيبويه أنه مبنيّ لأن ظرف الزمان ليس الإعراب فيه متمكنا فلما أضيف إلى غير معرب بني وأنشد: [الطويل] 216 على حين ألهى الناس جلّ أمورهم (1)
وقال أبو حاتم: جعل «يوم» و «إذ» بمنزلة خمسة عشر.
[سورة هود (11): آية 67]
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ (67)}
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} صيح بهم فماتوا وذكّر لأن الصيحة والصياح واحد، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ} قيل: ساقطين على وجوههم.
[سورة هود (11): آية 69]
{وَلَقَدْ جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ قََالُوا سَلاََماً قََالَ سَلاََمٌ فَمََا لَبِثَ أَنْ جََاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}
{وَلَقَدْ جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ} قيل: بالولد، وقيل: بشروه بأنهم رسل الله جلّ وعزّ وأنّه لا خوف عليه. {قََالُوا سَلََاماً} في نصبه وجهان: يكون مصدرا، والوجه الآخر أن يكون منصوبا بقالوا كما يقال: قالوا خيرا والتفسير على هذا روى يحيى القطّان عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {قََالُوا سَلََاماً} أي سددا، {قََالَ سَلََامٌ} (2) في رفعه وجهان: أحدهما على إضمار مبتدأ أي هو سلام وأمري سلام، والآخر بمعنى سلام عليكم. قال الفراء (3): ولو كانا جميعا منصوبين أو مرفوعين جاز، غير أن الفراء اعتلّ لأن كان الأول منصوبا والثاني مرفوعا فقال: قالوا سلاما فقال إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم هو سلام إن شاء الله. {فَمََا لَبِثَ أَنْ جََاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} سيبويه يذهب إلى أنّ «أن» في موضع نصب، قال: تقول: لا يلبث أن يأتيك أي عن إتيانك وأجاز الفراء: أن يكون موضعها بلبث أي فما أبطأ مجيئه.
__________
(1) الشاهد لأعشى همدان في الحماسة البصرية 2/ 262، ولشاعر من همدان في شرح أبيات سيبويه 1/ 371، ولأعشى همدان أو للأحوص أو لجرير في المقاصد النحوية 3/ 46، وهو مع آخر في ملحق ديوان الأحوص ص 215، وملحق ديوانه جرير 1021، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 171، والإنصاف 293، وجمهرة اللغة 682، والخصائص 1/ 120، وسرّ صناعة الإعراب ص 507، وشرح الأشموني 1/ 204، وشرح التصريح 1/ 331، وشرح ابن عقيل 289، ولسان العرب (ندل) و (خشف) وعجزه:
«فندلا زريق المال ندل الثعالب»
(2) انظر البحر المحيط 5/ 241.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 21.(2/175)
[سورة هود (11): آية 70]
{فَلَمََّا رَأى ََ أَيْدِيَهُمْ لاََ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قََالُوا لاََ تَخَفْ إِنََّا أُرْسِلْنََا إِلى ََ قَوْمِ لُوطٍ (70)}
{فَلَمََّا رَأى ََ أَيْدِيَهُمْ لََا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} هذه لغة أهل الحجاز، ولغة أسد وتميم «أنكرهم» وقال امرؤ القيس: [الطويل] 217 لقد أنكرتني بعلبك وأهلها (1)
ويروى للأعشى: [البسيط] 218 وأنكرتني وما كان الّذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (2)
{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} قال سيبويه: وناس من ربيعة يقولون: «منهم» أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكّن عندهم حاجزا حصينا. قال أبو جعفر: وقيل: إنما أوجس منهم خيفة لأنه كان يقيم معتزلا في ناحية فخاف أن يكونوا عزموا له على شرّ، وكان الضّيفان إذا لم يأكلوا فإنما أرادوا شرّا.
[سورة هود (11): آية 71]
{وَامْرَأَتُهُ قََائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنََاهََا بِإِسْحََاقَ وَمِنْ وَرََاءِ إِسْحََاقَ يَعْقُوبَ (71)}
{وَامْرَأَتُهُ قََائِمَةٌ} ابتداء وخبر، {فَضَحِكَتْ} قد ذكرناه، وقيل: إنما ضحكت لأنهم أحيوا العجل بإذن الله عزّ وجلّ فلما لحق بأمه ضحكت فلما ضحكت بشروها بإسحاق {وَمِنْ وَرََاءِ إِسْحََاقَ يَعْقُوبَ} رفعه من جهتين: إحداهما بالابتداء ويكون في موضع الحال أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب، والوجه الآخر أن يكون التقدير ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب، ولا يكون على هذا داخلا في البشارة، وقرأ حمزة وعبد الله بن عامر {وَمِنْ وَرََاءِ إِسْحََاقَ يَعْقُوبَ} والكسائي والأخفش وأبو حاتم يقدّرون يعقوب في موضع خفض، وعلى مذهب سيبويه والفراء (3)، يكون في موضع نصب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلّا بإعادة الخافض.
قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أوّل من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا لأنك فرّقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو كما تفرّق بين الجارّ
__________
(1) هذا الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 68، وعجزه:
«ولا ابن جريج في قربه حمص أنكرا»
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ولسان العرب (نكر)، وتهذيب اللغة 10/ 191، وديوان الأدب 2/ 235، وأساس البلاغة (نكر)، وتاج العروس (نكر) و (صلع)، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 476، والمحتسب 2/ 298، وتفسير الطبري 12/ 71.
(3) انظر الكتاب 1/ 147، ومعاني الفراء 2/ 22.(2/176)
والمجرور. قال أبو جعفر: يكون التقدير: من وراء إسحاق وهبنا له يعقوب كما قال (1): [البسيط] 219 جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار
أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حادثا يوم نادى القوم يا حار
[سورة هود (11): آية 72]
{قََالَتْ يََا وَيْلَتى ََ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهََذََا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)}
{قََالَتْ يََا وَيْلَتى ََ} بإمالة الألف وتفخيمها. قال أبو إسحاق: أصلها الياء فأبدل من الياء ألف. {وَهََذََا بَعْلِي} ابتداء وخبر {شَيْخاً} على الحال. قال أبو إسحاق: والحال هاهنا نصبها من لطيف النحو وغامضه لأنك إذا قلت: هذا زيد قائما، وكان المخاطب لا يعرف زيدا لم يجز لأنه لا يكون زيدا ما دام قائما فإذا زال ذلك لم يكن زيدا فإذا كان يعرف زيدا صحّت المسألة، والعامل في الحال التنبيه والإشارة. قال الأخفش:
وفي قراءة أبيّ وابن مسعود وهذا بعلي شيخ قال الفراء (2): وفي قراءة ابن مسعود وهذا بعلي شيخ. قال أبو جعفر: الرفع من خمسة أوجه: تقول هذا زيد قائم، فزيد بدل من هذا وقائم خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وزيد قائم خبرين، وحكى سيبويه: هذا حلو حامض: ويجوز أن يكون «قائم» مرفوعا على إضمار هذا أو هو، ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من زيد، والوجه الخامس أن يكون هذا مبتدأ وزيد مبيّنا عنه وقائم خبرا.
[سورة هود (11): آية 73]
{قََالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ رَحْمَتُ اللََّهِ وَبَرَكََاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
{رَحْمَتُ اللََّهِ وَبَرَكََاتُهُ} مبتدأ، والخبر في {عَلَيْكُمْ} وحكى سيبويه «عليكم» بكسر الكاف لمجاورتها الياء {أَهْلَ الْبَيْتِ} منصوب على النداء ويسمّيه سيبويه (3) تخصيصا {إِنَّهُ حَمِيدٌ} أي محمود {مَجِيدٌ} أي ماجد.
[سورة هود (11): الآيات 74الى 75]
{فَلَمََّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرََاهِيمَ الرَّوْعُ وَجََاءَتْهُ الْبُشْرى ََ يُجََادِلُنََا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرََاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوََّاهٌ مُنِيبٌ (75)}
{فَلَمََّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرََاهِيمَ الرَّوْعُ وَجََاءَتْهُ الْبُشْرى ََ يُجََادِلُنََا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، مذهب الأخفش والكسائي أن يجادلنا في موضع جادلنا. قال أبو جعفر: لما كان جواب «لمّا» يجب أن يكون للماضي جعل المستقبل مكانه كما أنّ الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه، وفي جواب آخر يكون «يجادلنا» في موضع الحال أي أقبل يجادلنا
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 135.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 23.
(3) انظر الكتاب 2/ 240.(2/177)
وهذا قول الفراء (1). ويقال: أناب إذا رجع، فإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم كان راجعا إلى الله جلّ وعزّ في أموره كلّها.
[سورة هود (11): آية 77]
{وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالَ هََذََا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
{وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} وإن شئت ضممت السين لأن أصلها الضمّ. الأصل سوئ بهم من السوء، قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: سي بهم مخففا. ولغة شاذة التشديد. {وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} على البيان {وَقََالَ هََذََا يَوْمٌ عَصِيبٌ} وعصبصب على التكثير أي مكروه مجتمع الشرّ، وقد عصب أي عصب بالشرّ عصابة، ومنهم قيل: عصابة وعصبة أي مجتمعو الكلمة ومجتمعون في أنفسهم، وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب، وتعصّبت لفلان صرت كعضبته، ورجل معصوب مجتمع الخلق.
[سورة هود (11): آية 78]
{وَجََاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كََانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ قََالَ يََا قَوْمِ هََؤُلاََءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَلاََ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}
{وَجََاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} في موضع الحال. {قََالَ يََا قَوْمِ هََؤُلََاءِ بَنََاتِي} ابتداء وخبر، {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وقرأ عيسى بن عمر {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، وروى سيبويه: «احتبى ابن مروان (2) في اللّحن، أي حين قرأ {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}» (3) قال أبو حاتم: ابن مروان قارئ أهل المدينة. قال الكسائي: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (4) صواب يجعل هنّ عمادا. قال أبو جعفر: قول الخليل وسيبويه والأخفش أن هذا لا يجوز ولا تكون «هنّ» هاهنا عمادا، قال: وإنما تكون عمادا فيما لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها نحو: كان زيد هو أخاك، لتدلّ بها على أن الأخ ليس بنعت. قال أبو إسحاق: وتدلّ على أنّ كان تحتاج إلى خبر، وقال غيره: يدلّ بها على أن الخبر معرفة أو ما قاربها. {وَلََا تُخْزُونِ} في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني، وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد لأنه في الأصل مصدر، ويجوز فيه التثنية والجمع. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي يرشدكم وينهاكم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 23.
(2) هو محمد بن مروان السديّ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، انظر غاية النهاية 2/ 261.
(3) انظر الكتاب 2/ 417.
(4) هذه قراءة الحسن وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير ومروان بن الحكم أيضا، انظر معجم القراءات القرآنية 3/ 126، والبحر المحيط 5/ 247، وتفسير الطبري 12/ 52، والكشاف 2/ 283، والمحتسب 1/ 325.(2/178)
[سورة هود (11): آية 79]
{قََالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مََا لَنََا فِي بَنََاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مََا نُرِيدُ (79)}
{قََالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مََا لَنََا فِي بَنََاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي لأنا لم نتزوّج بهن.
[سورة هود (11): آية 81]
{قََالُوا يََا لُوطُ إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاََ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهََا مََا أَصََابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}
{قََالُوا يََا لُوطُ إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي لن يصلوا إليك بمكروه فيروى أنه لمّا قالوا له هذا خلّى بين قومه وبين الدخول فأمرّ جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم يده على أعينهم فعموا وعلى أيديهم فجفّت فرجعوا إلى منازلهم مسرعين. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} يقال: سرى وأسرى إذا سار بالليل لغتان فصيحتان، {وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} نصب بالاستثناء، وهي القراءة البيّنة.
والمعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك، وقد قال جلّ وعزّ {كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} أي من الباقين لم يخرج بها، وإن كان قد قيل فيه غير هذا، ويدل أيضا على النصب أنه في قراءة عبد الله فأسر بأهلك إلا امرأتك (1) وقد قيل: المعنى لا يلتفت منكم أحد إلى ما خلّف وليخرج مع لوط صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير إلا امرأتك بالرفع على البدل، فأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد، قال أبو عبيد: ولو كان كذا لكان «ولا يلتفت» بالرفع، وقال غيره:
كيف يجوز أن يأمرها بالالتفات؟ قال أبو جعفر: وهذا الحمل من أبي عبيد ومن غيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحلّه من العربية لا يجب أن يكون، والتأويل له على ما حكى محمد بن يزيد قال: هذا كما يقول الرجل لحاجبه لا يخرج فلان فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب أي لا تدعه يخرج، فكذا لا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك، ومثله لا يقم أحد إلّا زيد، يكون معناه انههم عن القيام إلّا زيدا، ووجه آخر يكون معناه مر زيدا وحده بالقيام.
{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} لأن لوطا صلّى الله عليه وسلّم استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه، وقرأ عيسى بن عمر {أَلَيْسَ الصُّبْحُ} (2) بضم الباء وهي لغة.
[سورة هود (11): آية 82]
{فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا جَعَلْنََا عََالِيَهََا سََافِلَهََا وَأَمْطَرْنََا عَلَيْهََا حِجََارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)}
{جَعَلْنََا عََالِيَهََا سََافِلَهََا} مفعولان، حكى أبو عبيد عن الفراء أنه قد يقال (3)
لحجارة الأرحاء {سِجِّيلٍ} وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجّلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء، {مَنْضُودٍ} من نعت سجيل.
[سورة هود (11): آية 83]
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمََا هِيَ مِنَ الظََّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
{مُسَوَّمَةً} من نعت حجارة. قال الفراء (4): زعموا أنها كانت مخطّطة بحمرة
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 248.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 249.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 24.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 24.(2/179)
وسواد في بياض، فذلك تسويمها أي علاماتها. قال: {وَمََا هِيَ مِنَ الظََّالِمِينَ} يعني قوم لوط {بِبَعِيدٍ} قال: لم تكن تخطئهم.
[سورة هود (11): آية 84]
{وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ وَلاََ تَنْقُصُوا الْمِكْيََالَ وَالْمِيزََانَ إِنِّي أَرََاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}
{وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً} لم تنصرف مدين لأنها اسم مدينة.
[سورة هود (11): آية 86]
{بَقِيَّتُ اللََّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
{بَقِيَّتُ اللََّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} ابتداء وخبر. وقد ذكرنا معناه وقد قيل: المعنى: ما يبقيه الله جلّ وعزّ لكم من رزقه وحفظه. {خَيْرٌ لَكُمْ} ممّا تأخذونه بالبخس والظلم. {وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي لا يتهيّأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله جلّ وعزّ عنكم بمعاصيكم.
[سورة هود (11): آية 87]
{قََالُوا يََا شُعَيْبُ أَصَلاََتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوََالِنََا مََا نَشََؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
{قََالُوا يََا شُعَيْبُ أَصَلََاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا} {أَنْ} في موضع نصب، وقال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء، {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوََالِنََا مََا نَشََؤُا} (أن) في موضع نصب لا غير عطف على (ما) والمعنى أو تأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وزعم الفراء (1) أنّ التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ الضحاك بن قيس أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء بالتاء فأن على هذه القراءة معطوفة على أن الأولى. {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. قال أبو جعفر: قد ذكرناه وفيه زيادة هي أحسن ممّا تقدم ولأن ما قبلها يدلّ على صحّتها أي أنت الحليم الرشيد فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ويدلّ عليها {أَصَلََاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا} أنكروا لمّا رأوا من كثرة صلاته وعبادته وأنه حليم رشيد أن يكون يأمرك بترك ما كان يعبد آباؤهم، وهذا جهل شديد أو مكابرة وبعده أيضا ما يدلّ عليه.
[سورة هود (11): آية 88]
{قََالَ يََا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمََا أُرِيدُ أَنْ أُخََالِفَكُمْ إِلى ََ مََا أَنْهََاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاََحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمََا تَوْفِيقِي إِلاََّ بِاللََّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
أي أفلا أنهاكم عن الضلال، {وَمََا أُرِيدُ أَنْ أُخََالِفَكُمْ} في موضع نصب بأريد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 25.(2/180)
[سورة هود (11): آية 89]
{وَيََا قَوْمِ لاََ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقََاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مََا أَصََابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صََالِحٍ وَمََا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)}
وقرأ يحيى بن وثاب لا يجرمنّكم بضم الياء {شِقََاقِي} في موضع رفع {أَنْ يُصِيبَكُمْ} في موضع نصب. {وَمََا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} قال الكسائي أي دورهم في دوركم.
[سورة هود (11): الآيات 91الى 92]
{قََالُوا يََا شُعَيْبُ مََا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمََّا تَقُولُ وَإِنََّا لَنَرََاكَ فِينََا ضَعِيفاً وَلَوْلاََ رَهْطُكَ لَرَجَمْنََاكَ وَمََا أَنْتَ عَلَيْنََا بِعَزِيزٍ (91) قََالَ يََا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرََاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمََا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}
{قََالُوا يََا شُعَيْبُ مََا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمََّا تَقُولُ} يقال فقه يفقه إذا فهم فقها وفقها، وحكى الكسائي فقهانا وفقه فقها إذا صار فقيها. {وَإِنََّا لَنَرََاكَ فِينََا ضَعِيفاً} على الحال. {وَلَوْلََا رَهْطُكَ لَرَجَمْنََاكَ} رفع بالابتداء، وكذا {أَرَهْطِي} والمعنى أرهطي في قلوبكم أعظم من الله عزّ وجلّ وهو يملككم. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرََاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} مفعولان.
[سورة هود (11): آية 93]
{وَيََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كََاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}
{مَنْ} في موضع نصب مثل {يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] {وَمَنْ هُوَ كََاذِبٌ} عطف عليها، وأجاز الفراء (1) أن يكون موضعهما رفعا بجعلهما استفهاما. ويدلّ على القول الأول أنّ من الثانية موصولة ومحال أن يوصل بالاستفهام، وقد زعم الفراء أنهم إنما جاءوا بهو في {وَمَنْ هُوَ كََاذِبٌ} لأنهم لا يقولون: من قائم إنما يقولون: من قام ومن يقوم ومن القائم، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال أبو جعفر: ويدلّ على خلاف هذا قوله: [الخفيف] 220 من رسول إلى الثّريّا بأنّي ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (2)
[سورة هود (11): آية 95]
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا أَلاََ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
وحكي أن أبا عبد الرحمن السلميّ قرأ {كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (3) بضم العين. قال أبو جعفر: المعروف في اللغة أنه يقال: بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 26.
(2) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة ص 430.
(3) وهي قراءة أبي حيوة أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 257، ومختصر ابن خالويه 61.(2/181)
[سورة هود (11): الآيات 98الى 99]
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النََّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدّمهم {وَبِئْسَ الْوِرْدُ} رفع ببئس {الْمَوْرُودُ} رفع بالابتداء وإن شئت على إضمار مبتدأ، وكذا بئس {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} حكى الكسائي وأبو عبيدة (1): رفدته أرفده رفدا أي أعنته وأعطيته، واسم العطيّة الرفد.
[سورة هود (11): آية 100]
{ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْقُرى ََ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهََا قََائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
{ذََلِكَ} رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك وإن شئت بالابتداء، وكذا {مِنْهََا قََائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي منها موجود مبني ومنها مخسوف به وذاهب. قال الأخفش سعيد:
حصيد أي محصود وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض، قال: ويجوز فيمن يعقل حصداء مثل قبيل وقبلاء.
[سورة هود (11): آية 101]
{وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ وَلََكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمََا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمََّا جََاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمََا زََادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)}
{وَمََا ظَلَمْنََاهُمْ} أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، {وَلََكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه. {وَمََا زََادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} مفعولان وهو مجاز لمّا كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة، قيل: ما زادوهم غير تخسير.
[سورة هود (11): آية 102]
{وَكَذََلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذََا أَخَذَ الْقُرى ََ وَهِيَ ظََالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
{وَكَذََلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} ابتداء وخبر، وقرأ عاصم الجحدريّ وكذلك أخذ ربّك إذ أخذ القرى (2) فإذ لما مضى أي حين أخذ القرى، وإذا للمستقبل أي متى أخذ القرى {وَهِيَ ظََالِمَةٌ} أي أهلها مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
[سورة هود (11): آية 103]
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خََافَ عَذََابَ الْآخِرَةِ ذََلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النََّاسُ وَذََلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}
{ذََلِكَ يَوْمٌ} ابتداء وخبر {مَجْمُوعٌ} من نعته الناس اسم ما لم يسمّ فاعله ولهذا لم يقل: مجموعون، ويجوز أن يكون الناس رفعا بالابتداء، ومجموع له خبره ولم يقل:
مجموعون لأن «له» يقوم مقام الفاعل.
[سورة هود (11): آية 105]
{يَوْمَ يَأْتِ لاََ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاََّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}
يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه (3) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والكسائي
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 298.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 260.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 261.(2/182)
بإثبات الياء في الإدراج وحذفها في الوقف، وحكي أن أبيّا وابن مسعود رضي الله عنهما قرأ يوم يأتي (1) بإثبات الياء في الوقف والوصل، وقرأ الأعمش وحمزة {يَوْمَ يَأْتِ} (2) بغير ياء في الوقف والوصل. قال أبو جعفر: الوجه في هذا أن لا يوقف عليه وأن يوصل بالياء لأن جماعة من النحويين قالوا لا وجه لحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم فأما الوقف بغير ياء ففيه قول الكسائي قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذف الياء كما يحذف الضمة، على أنّ أبا عبيد قد احتجّ بحذف الياء في الوقف والوصل بحجتين: إحداهما أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء، والحجة الأخرى أنه حكى أنها لغة هذيل يقولون: ما أدر. قال أبو جعفر: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء. قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه، فقيل لي قد ذهب وأما الحجة بقولهم: ما أدر فلا حجّة فيه لأن هذا الحرف قد حكاه النحويون القدماء وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه والعلّة فيه عند سيبويه، وإن كان سيبويه حكى: لا أدري، كثرة الاستعمال، ومعنى كثرة الاستعمال أنه نفي لكل ما جهل، وأنشد الفراء في حذف الياء: [الرجز] 221 كفّاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما (3)
{لََا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} والأصل تتكلّم حذفت إحدى التاءين تخفيفا.
[سورة هود (11): آية 106]
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النََّارِ لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)}
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} ابتداء {فَفِي النََّارِ} في موضع الخبر، وكذا {لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال أبو العالية: الزفير من الصدر والشهيق من الحلق. قال أبو إسحاق: الزفير من شديد الأنين وقبيحه، والشهيق من الأنين المرتفع جدا. قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في النهيق.
[سورة هود (11): آية 107]
{خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلاََّ مََا شََاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعََّالٌ لِمََا يُرِيدُ (107)}
{خََالِدِينَ فِيهََا} نصب على الحال {مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ} في موضع نصب أي دوام السموات والأرض والتقدير وقت ذلك، {إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ} في موضع نصب، لأنه استثناء ليس من الأول وقد ذكرنا معناه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 262.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 262.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 27، والأضداد لابن الأنباري 64.(2/183)
[سورة هود (11): آية 108]
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خََالِدِينَ فِيهََا مََا دََامَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ إِلاََّ مََا شََاءَ رَبُّكَ عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} بضم السين، وقال أبو عمرو:
والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل: أشقوا قال أبو جعفر: رأيت علي بن سليمان يتعجّب من قراءة الكسائي {سُعِدُوا} مع علمه بالعربية إذ كان هذا لحنا لا يجوز لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله جلّ وعزّ فأسعد مثل أمرض وإنما احتجّ الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجّة له فيه لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم يحذف فيه ويسمّى به واحتجّ بقول العرب: فغرفاه وفغرفوه، وكذا شحاه (1) وسار الدابة وسرته ونزحت البئر ونزحتها وجبر العظم وجبرته، وذا لا يقاس عليه إنما ينطق منه بما نطقت به العرب.
قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: لو قال لنا قائل: كيف تنطقون بالمتعدّي من فغرفوه؟ ما قلنا إلّا أفغرت فاه، وهذا الذي قال حسن ويكون فغرفاه ليس بمتعدّي ذلك ولكنها لغة على حدة. {عَطََاءً} اسم للمصدر {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} من نعته يقال: جذّه وحذّه كما قال: [الطويل] 222 تجذّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب (2)
[سورة هود (11): آية 109]
{فَلاََ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلاََءِ مََا يَعْبُدُونَ إِلاََّ كَمََا يَعْبُدُ آبََاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنََّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}
{فَلََا تَكُ} في موضع جزم بالنهي وحذف النون لكثرة الاستعمال. وأحسن ما قيل في معناه: قل لكل من شكّ {فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلََاءِ} إنّ الله جلّ وعزّ ما أمرهم به وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.
[سورة هود (11): آية 110]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاََ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
{وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} والكلمة أنّ الله جلّ وعزّ حكم أن يؤخّرهم إلى يوم القيامة لما علم من الصلاح في ذلك. ولولا ذلك لقضي بينهم
__________
(1) شحا يشحو الرجل: فتح فاه.
(2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 46 «تقدّ السلوقيّ وتوقد»، ولسان العرب (حجب) و (صفح) و (سلق)، ومقاييس اللغة 2/ 28، والتنبيه والإيضاح 1/ 58، ومجمل اللغة 2/ 28، وكتاب العين 5/ 77، وتهذيب اللغة 4/ 257، وجمهرة اللغة 174، وبلا نسبة في كتاب العين 3/ 122، وجمهرة اللغة 851، وتاج العروس (حبب) و (صفح) و (سلق).(2/184)
بأن يثاب المؤمن ويعاقب الكافر. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} من نعت شكّ.
[سورة هود (11): آية 111]
{وَإِنَّ كُلاًّ لَمََّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمََالَهُمْ إِنَّهُ بِمََا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
{وَإِنَّ كُلًّا لَمََّا} فيها ثماني قراءات (1) خمس منها موافقة للسواد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بتشديد «إنّ» وتخفيف «لما»، وقرأ نافع بتخفيفهما جميعا. وقرأ أبو جعفر وشيبة وحمزة وهو المعروف من قراءة الأعمش بتشديدهما جميعا وقرأ عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لمّا»، وقرأ الزهري (2) بتشديد «لمّا» والتنوين، فهذه خمس قراءات، وروي عن الأعمش {وَإِنْ كُلٌّ لَمََّا} بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وتشديد «لمّا».
قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ وإن كلّ إلّا ليوفّينّ ربّك أعمالهم. وفي حرف ابن مسعود وإن كلّ إلّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم. قال أبو جعفر: القراءة الأولى أبينها ينصب «كلّا» بأنّ اللام للتوكيد وما صلة والخبر في ليوفّينّهم، والتقدير وإنّ كلّا ليوفّينّهم، وقراءة نافع على هذا التقدير إلّا أنه خفّف «إن» وأعملها عمل الثقيلة. وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه وهو عندهما كما يحذف من الفعل ويعمل كما قال: [الطويل] 223 كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم (3)
وأنكر الكسائي أن تخفّف «إن» وتعمل وقال: ما أدري على أي شيء قرأ وإن كلّا، وقال الفراء: نصب كلّا بقوله: لنوفّينّهم. وهذا من كثير الغلط، لا يجوز عند أحد: زيدا لأضربنّه، والقراءة الثالثة بتشديدهما جميعا عند أكثر النحويين لحن، حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز، ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنّه، ولا لمّا لأضربنه، وقال الكسائي: الله جلّ وعزّ أعلم بهذه القراءة ما أعرف لها وجها. قال أبو جعفر: وللنحويين بعد هذا أربعة أقوال: قال الفراء (4): الأصل وإنّ كلّا لممّا فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن قال أبو إسحاق هذا خطأ لأنه يحذف النون من «من»
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 28، والبحر المحيط 5/ 266.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 266.
(3) الشاهد لابن صريم اليشكري في الكتاب 2/ 134، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات 157، والدرر 2/ 200، وشرح التصريح 1/ 234، والمقاصد النحوية 4/ 384، ولزيد بن أرقم في الإنصاف 1/ 202، ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد 390، وشرح المفصل 8/ 83، وله أو لعلباء بن أرقم في المقاصد النحوية 2/ 301، ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني 1/ 111، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 377، وجواهر الأدب 197، والجنى الداني ص 222، ورصف المباني 117، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 683، وسمط اللآلي ص 729، وشرح الأشموني: 1/ 147، وشرح عمدة الحافظ 241، وشرح قطر الندى 157، والمحتسب 1/ 308، ومغني اللبيب 1/ 33.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 9.(2/185)
فيبقى حرف واحد. وقال أبو عثمان المازني: الأصل وإنّ كلّا لما بتخفيف ما ثم ثقلت. قال أبو إسحاق: هذا خطأ إنما يخفّف المثقّل ولا يثقّل المخفّف، وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: الأصل {وَإِنَّ كُلًّا لَمََّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} بالتنوين من لممته لمّا أي جمعته ثم بنى منه فعلى كما قريء {ثُمَّ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا تَتْرََا} [المؤمنون: 44] بغير تنوين وتنوين. قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز عندي غيره أن «إن» تكون مخففة من الثقيلة وتكون بمعنى «ما» مثل {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمََّا عَلَيْهََا حََافِظٌ} [الطارق: 4] وكذا أيضا تشدّد على أصلها وتكون بمعنى «ما» ولمّا بمعنى «إلّا» حكى ذلك الخليل وسيبويه (1). قال أبو جعفر: والقراءات الثلاث المخالفات للسواد تكون فيها «إن» بمعنى «ما» لا غير وتكون على التفسير لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلّا على هذه الجهة.
[سورة هود (11): آية 113]
{وَلاََ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ ثُمَّ لاََ تُنْصَرُونَ (113)}
قال أبو عمرو بن العلاء {وَلََا تَرْكَنُوا} لغة أهل الحجاز، وقال الفراء: لغة تميم وقيس ركن يركن وروي عن قتادة أنه قرأ {وَلََا تَرْكَنُوا} بضم الكاف. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش {فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ} (2). وأنكر هذا أبو عبيد قال: لأنه ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو جعفر: لا معنى لقوله: ليس فيه حرف من حروف الحلق لأن حروف الحلق لا تجتلب الكسرة، وهذه اللغة ذكرها الخليل وسيبويه (3) عن غير أهل الحجاز إذا كان الفعل على فعل كسروا أول مستقبله ليدلّوا على الكسرة التي في ماضيه، وكان يجب أن يكسر ثانيه ليتفق مع الماضي فلم يجز ذلك للزوم الثاني الإسكان فكسروا الأول، فقالوا يحذر وهي مشهورة في بني فزارة وهذيل، كما قال:
[الكامل] 224 وإخال إنّي لاحق مستتبع (4)
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 140.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 269، والمحتسب 1/ 330.
(3) انظر الكتاب 4/ 227.
(4) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص 448، والدرر 2/ 259، وشرح أشعار الهذليين 1/ 8، وشرح شواهد المغني 1/ 262، والمقاصد النحوية 3/ 494، والمنصف 1/ 322، ولسان العرب (نصب) وللهذلي في مغني اللبيب: 1/ 231، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 604، وهمع الهوامع 1/ 153، وصدره:
«فلبثت بعدهم بعيش ناصب».(2/186)
وكذا إذا كان في ماضيه ألف وصل مكسورة كسروا أول المستقبل نحو نستعين قال سيبويه: وكذا ما كان يجب أن تكون فيه ألف وصل مثل تفعّل وتفاعل.
[سورة هود (11): آية 114]
{وَأَقِمِ الصَّلاََةَ طَرَفَيِ النَّهََارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنََاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئََاتِ ذََلِكَ ذِكْرى ََ لِلذََّاكِرِينَ (114)}
{وَأَقِمِ الصَّلََاةَ طَرَفَيِ النَّهََارِ} نصب على الظرف، وحذفت النون للإضافة، وكسرت الياء لالتقاء الساكنين، ولم يحذفها لأن ما قبلها مفتوح (وزلفا) عطف. وقرأ أبو جعفر {وَزُلَفاً} بضمّ الزاي واللام وهو جمع زليف لأنه قد نطق بزليف ويجوز أن يكون واحدا، وقرأ ابن محيصن {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} بضم الزاي وإسكان اللام والتنوين وهو مسكن من زلف لأزلف الفتحة خفيفة. {إِنَّ الْحَسَنََاتِ} قد قيل: يعني به الصلوات ومما لا تنازع فيه أن التوبة تذهب السيئات. وإن اجتناب الكبائر يذهب السيئات الصغائر.
[سورة هود (11): آية 115]
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لاََ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}
{وَاصْبِرْ} أي على أذاهم.
[سورة هود (11): آية 116]
{فَلَوْلاََ كََانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسََادِ فِي الْأَرْضِ إِلاََّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنََا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مََا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكََانُوا مُجْرِمِينَ (116)}
{فَلَوْلََا} بمعنى هلّا، وهذا تستعمله العرب على التعجب من الشيء أي فهلّا كان من القرون من قبلكم قوم. {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسََادِ فِي الْأَرْضِ} لما أعطاهم الله جلّ وعزّ من العقول وأراهم من الآيات. {إِلََّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنََا مِنْهُمْ} استثناء ليس من الأول. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مََا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي من الاشتغال بالمال واللذات.
[سورة هود (11): آية 118]
{وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النََّاسَ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلاََ يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)}
{وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ} خبر يزال.
[سورة هود (11): آية 119]
{إِلاََّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
{إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} استثناء. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} معنى تمّت ثبتت، ذلك كما أخبر به.
[سورة هود (11): آية 120]
{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الرُّسُلِ مََا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤََادَكَ وَجََاءَكَ فِي هََذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}
{وَكُلًّا} نصب بنقص. {مََا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤََادَكَ} أي على الصبر على أداء الرسالة
و {مََا} بدل من كل، وقال الأخفش، «وكلّا» نصب على الحال فقدّم الحال كما تقول:(2/187)
{وَكُلًّا} نصب بنقص. {مََا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤََادَكَ} أي على الصبر على أداء الرسالة
و {مََا} بدل من كل، وقال الأخفش، «وكلّا» نصب على الحال فقدّم الحال كما تقول:
كلّا ضربت القوم. {وَمَوْعِظَةٌ} أي ما يتّعظ به من إهلاك الأمم. {وَذِكْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يتذكرون ما ترك بمن هلك فيتوفّون.
[سورة هود (11): آية 123]
{وَلِلََّهِ غَيْبُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ (123)}
قال الأخفش: وما ربك بغافل عما يعملون إذا لم يخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم قال: وقال بعضهم: {تَعْمَلُونَ} (1) لأنه خاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم أو قال قل لهم: {وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ}.
__________
(1) وهي قراءة حفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبي جعفر والجحدري، انظر البحر المحيط 5/ 275.(2/188)
12 - شرح إعراب سورة يوسف ع
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة يوسف (12): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ (1)}
التقدير: هذا، {تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ} على الابتداء والخبر.
[سورة يوسف (12): آية 2]
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} نصب قرآن على الحال أي مجموعا، ويجوز أن يكون توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا، {عَرَبِيًّا} على الحال ومعنى أعرب بيّن ومنه «الثّيّب تعرب عن نفسها» (1). {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لتكونوا على رجاء من هذا، وبعض العرب يأتي بأن مع لعل تشبيها بعسى واللام في لعلّ زائدة للتوكيد كما قال:
[الرجز] 225 يا أبتا علّك أو عساكا (2)
[سورة يوسف (12): آية 3]
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ هََذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ (3)}
{نَحْنُ} ابتداء. {نَقُصُّ عَلَيْكَ} في موضع الخبر. {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} بمعنى الصدر والتقدير قصصا أحسن القصص.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه النكاح الحديث رقم 1872.
(2) الرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه 181، والكتاب 2/ 396، وشرح أبيات سيبويه 2/ 164، وشرح شواهد المغني 1/ 433، وشرح المفصل 2/ 90، والمقاصد النحوية 4/ 252، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 336، والجنى الداني 446، والخصائص 2/ 96، والدرر 2/ 159، ورصف المباني 29، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 406، وشرح الأشموني 1/ 133، وشرح المفصّل 2/ 12، واللامات ص 135، ولسان العرب (روي) وما ينصرف وما لا ينصرف ص 130، ومغني اللبيب 1/ 151، وهمع الهوامع 1/ 132.(2/189)
{بِمََا أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} قال الأخفش: أي بوحينا إليك، {هََذَا الْقُرْآنَ} نصب بأوحينا، وأجاز الفراء (1) الخفض قال: على التكرير وهو عند البصريين على البدل من «ما» وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ. {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغََافِلِينَ} أي من الغافلين مما عرّفناكه.
[سورة يوسف (12): آية 4]
{إِذْ قََالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ (4)}
{إِذْ} في موضع نصب على الظرف. {قََالَ يُوسُفُ} لم ينصرف لأنه عجميّ، وقرأ طلحة بن مصرّف إذ قال يؤسف بالهمز وكسر السين، وحكى أبو زيد «يوسف» بالهمز وفتح السين. {لِأَبِيهِ} خفض باللام وعلامة خفضه الياء والمحذوف منه واو يدلّ على ذلك أبوان. {يََا أَبَتِ} (2) بكسر التاء قراءة عاصم ونافع وحمزة والكسائي والأعمش، وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر {يََا أَبَتِ} بفتح التاء، وأجاز الفراء «يا أبت» بضم التاء. قال أبو جعفر: إذا قلت يا أبت بكسر التاء فالتاء عند سيبويه من ياء الإضافة ولا يجوز على قوله الوقف إلّا بالهاء، وله على قوله دلائل، منها أن قولك: «يا أبت» يؤدي عن معنى قولك: يا أبي، وأنه لا يقال: يا ابة إلّا في المعرفة، ولا يقال: جاءني أبة لا يستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ولا يقال: يا أبتي لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما، وزعم الفراء أنه إذا قال: يا أبت فكسر وقف على التاء لا غير لأن الياء في النية، وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون في النية وليس يقال: يا أبتا فأما قولنا بكسر التاء ولم نقل بكسر الهاء فلأن الكسر إنما يقع في الإدراج ولو قلت: مررت بامرأة لقلت: علامة الخفض كسرة التاء ولا يقول كسرة الهاء إلا من لا يدري. ويا أبت بفتح التاء مشكل في النحو، وفيه أقوال:
فمذهب سيبويه (3) أنهم شبهوا هذه الهاء التي هي بدل من الياء بالهاء التي هي علامة التأنيث فقالوا يا أبت كما قال: [الطويل] 226 كليني لهمّ يا أميمة ناصب (4)
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 32.
(2) انظر تيسير الداني 103، ومعاني الفراء 2/ 32.
(3) انظر الكتاب 2/ 215.
(4) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 40، والكتاب 2/ 211، والأزهيّة 237، وخزانة الأدب 2/ 321، والدرر 3/ 57، وشرح أبيات سيبويه 1/ 445، وكتاب اللامات 102، ولسان العرب (كوكب) و (نصب) و (أسس) و (شبع)، والمقاصد النحوية 4/ 303، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 121، وجمهرة اللغة ص 350، ورصف المباني 161، وشرح المفصل 2/ 107، وعجزه:
«وليل أقاسيه بطيء الكواكب»(2/190)
وهذا أحد قولي (1) الفراء، وله قول آخر وهو قول قطرب وأبي عبيدة وأبي حاتم يكون الأصل يا أبتاه ثم حذف الألف، ويكون الوقوف عند الفراء على قول بالتاء لا غير، وعلى القول الذي وافق فيه سيبويه بالهاء عندهما جميعا لا غير وهذا القول خطأ لأن هذا ليس موضع ندبة والألف خفيفة لا تحذف، وقال قطرب أيضا في يا أبت بالفتح يكون الأصل يا أبتا ثم حذف التنوين، وقال أبو جعفر: وهذا الذي لا يجوز لأن التنوين لا يحذف لغير علة وأيضا فإنما يدخل التنوين في النكرة، ولا يقال في النكرة يا أبة، وفي الفتح قول رابع كأنه أحسنها: يكون الأصل الكسر ثم أبدل من الكسرة فتحة كما تبدل من الياء ألف فيقال في يا غلامي أقبل: يا غلاما أقبل، وزعم أبو إسحاق أنه لا يجوز يا أبة بالضم. قال أبو جعفر: ذلك عندي لا يمتنع كما أجاز سيبويه الفتح تشبيها بهاء التأنيث كما يجوز الضمّ تشبيها بها أيضا. {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ليس بين النحويين اختلاف لأنه يقال: جاءني أحد عشر ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما، فذهب الفراء أنهم لما ضموا أحد الاسمين إلى الآخر كرهوا أن يعربوا الأول فيخرج عن باب العدد وكرهوا أن يعربوا الثاني فيشبه بعلبكّ فحركوهما حركة واحدة كما كانا قبل البناء، وقال الكسائي: النصب مغيض النحو كلما صرف شيء عن جهته نصب وقال البصريون: النصب أخفّ الحركات فلمّا ضمّ أحد الاسمين إلى الآخر حرّكا بأخفّ الحركات، وقال بعضهم: لمّا حذفت الواو وكانت مفتوحة حرّكوا الاسمين بحركتها ولا اختلاف بين البصريين أن تعريف هذا بإدخال الألف واللام في أوله فتقول:
مضى الأحد عشر رجلا لا غير، وأجاز الكسائي والفراء: مضى الأحد العشر. قال الفراء (2): لتوهمهم انفصال أحدهما من الآخر، وأجاز إدخال الألف واللام في المميز.
وذا محال عند البصريين، لأن المميز واحد يدلّ على جمع فإذا كان معروفا لم يكن فيه هذا المعنى. قال الفراء: فإن أضفت إلى نفسك أعربت الأول فقلت: هذه خمسة عشري، ومررت بخمسة عشري. قال لما لم يجز أن تضيفه إلى الأول لأن بينهما عشرا أعربت الأول، ولا يجوز المميّز هاهنا لاختلاف إعرابيهما. قال أبو جعفر: هذا يبطل كلّ ما مرّ، وسمعت محمد بن الوليد يقول: سمعت أبا العباس يقول: ربّما قرأ عليّ إسماعيل بن إسحاق الشّيء من كلام الفراء فاستحسنه فلا ينتهي إلى آخره حتّى يفسده.
قال سيبويه (3): واعلم أن العرب تجعل خمسة عشر وما أشبهها في الألف واللام والإضافة على حال، والعلّة عند أصحابه في هذا إن الجهة التي بنيت من أجلها موجودة مع الألف واللام والإضافة، وقد حكى سيبويه: هذه خمسة عشرك برفع الثاني، وزعم الفراء أنه يقال: ما رأيت خمسة عشر قطّ خيرا منها بخفض عشر وتنوينها. قال: ولا
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 32.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 33.
(3) انظر الكتاب 3/ 331.(2/191)
يدخل المميز هاهنا. وقال أبو جعفر: وذا لا يجوز عند البصريين أيضا، وقرأ أبو جعفر والحسن {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ} (1) بإسكان العين، فزعم الأخفش والفراء أنهم استثقلوا الحركات فحذفوا لما كثرت. قال أبو جعفر: لم يذكر هذا سيبويه بل يجب على نصّ كلامه أن لا يجوز لأنه قال (2): أحد عشر مثل أحد جمل ولا يجوز عنده حذف الفتحة لخفتها. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} عطف عليه. {رَأَيْتُهُمْ} توكيد، وقال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ} فجاء مذكّرا، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لمّا خبّر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل جعل فيهما يكون لما يعقل.
[سورة يوسف (12): آية 5]
{قََالَ يََا بُنَيَّ لاََ تَقْصُصْ رُؤْيََاكَ عَلى ََ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)}
{يََا بُنَيَّ لََا تَقْصُصْ} نهي وظهر التضعيف لأنه قد سكن الثاني ويجوز الإدغام في غير القرآن والفتح والكسر والضم. {رُؤْيََاكَ} بالهمز والجمع رؤي. قال أبو حاتم: قال يعقوب قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله أهل الحجاز لا يهمزون «رؤيا» وبكر وتميم تهمزها. قال أبو حاتم: ويقال (3): ريا بقلب الواو ياء والراء مضمومة ويقال: ريّا بكسر الراء. {فَيَكِيدُوا} جواب النبي بالفاء وقد ذكرناه. {كَيْداً} مصدر {إِنَّ الشَّيْطََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} اسم «إنّ» وخبرها وجمع عدوّ اعداء، وكان سبيله أن يجمع على فعول فاستثقل ذلك فيه.
[سورة يوسف (12): آية 6]
{وَكَذََلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى ََ آلِ يَعْقُوبَ كَمََا أَتَمَّهََا عَلى ََ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْحََاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
{وَكَذََلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وكذلك الكاف في {كَمََا أَتَمَّهََا}، و (ما) كافة.
[سورة يوسف (12): آية 7]
{لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ (7)}
قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الكوفة {لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} وقرأ أهل مكة آية للسائلين (4) على واحدة، واختار أبي عبيد «آيات» قال: لأنها عبر كثيرة. قال أبو جعفر: «آية» هاهنا قراءة حسنة أي لقد كان في الذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبّروا به لأنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة فقالوا: خبّرنا
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 280، ومعاني الفراء 2/ 34، ومختصر ابن خالويه 62.
(2) انظر الكتاب 4/ 37.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 35.
(4) انظر تيسير الداني 104.(2/192)
عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتّى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا ممن يعرف خبر الأنبياء وإنما وجّه اليهود إليه من المدينة يسألونه عن هذا فأنزل الله عزّ وجلّ سورة يوسف جملة واحدة فيها كل ما في التوراة من خبره وزيادة فكان ذلك آية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة إحياء عيسى صلّى الله عليه وسلّم الميّت.
[سورة يوسف (12): آية 8]
{إِذْ قََالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى ََ أَبِينََا مِنََّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبََانََا لَفِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (8)}
{إِذْ قََالُوا لَيُوسُفُ} رفع بالابتداء وهذه لام التوكيد. {وَأَخُوهُ} عطف عليه. {أَحَبُّ إِلى ََ أَبِينََا} خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل.
[سورة يوسف (12): آية 9]
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صََالِحِينَ (9)}
{أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} نصب «أرضا» على حذف «في» لا على الظرف لأنها غير مبهمة، وأنشد سيبويه فيما حذف منه في: [الكامل] 227 لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (1)
إلّا أنه في الآية حسن كثير لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف فإذا حذفت الحرف تعدّى الفعل إلى الآخر. {يَخْلُ لَكُمْ} جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه الواو. {وَتَكُونُوا} عطف عليه.
[سورة يوسف (12): آية 10]
{قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ لاََ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيََابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيََّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فََاعِلِينَ (10)}
قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة {فِي غَيََابَتِ الْجُبِّ} (2) وقرأ أهل المدينة في غيابات الجبّ (3) وأجاز أبو عبيد التوحيد لأنه على موضع واحد ألقوه فيه فأنكر الجمع لهذا. قال أبو جعفر: هذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع، ويجوز من جهتين: حكى سيبويه: سير عليه عشيّانات وأصيلانات، يريد عشيّة وأصيلا فجعل كل وقت منها عشيّة وأصيلا، وكذا جعل كلّ موضع ما يغيب غيابة ثم جمع، والوجه الآخر أن يكون في الجبّ غيابات جماعة. ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا كما قال:
[الطويل] 228 ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذا كما ما غيّبتني غيابيا (4)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (145).
(2) انظر تيسير الداني 104.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 285.
(4) الشاهد لابن أحمر في ديوانه ص 171، والأزهيّة 115، وخزانة الأدب 5/ 9، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 483، والخصائص 2/ 460، والمحتسب 2/ 227.(2/193)
{يَلْتَقِطْهُ} جواب الأمر، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه (1) بعض السيارة، وهذا محمول على المعنى لأن بعض السيارة سيارة وحكى سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد: [الطويل] 229 وتشرق بالقول الّذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم (2)
{إِنْ كُنْتُمْ} في موضع جزم بالشرط. {فََاعِلِينَ} خبر كنتم.
[سورة يوسف (12): آية 11]
{قََالُوا يََا أَبََانََا مََا لَكَ لاََ تَأْمَنََّا عَلى ََ يُوسُفَ وَإِنََّا لَهُ لَنََاصِحُونَ (11)}
قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد {قََالُوا يََا أَبََانََا مََا لَكَ لََا تَأْمَنََّا} بالإدغام بغير إشمام، وقرأ طلحة بن مصرف ما لك لا تأمننا (3) بنونين ظاهرتين وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين، ويروى عن الأعمش ما لك لا تيمنّا (4) بكسر التاء، وقرأ سائر الناس فيما علمت بالإدغام والإشمام. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالإدغام وترك الإشمام هي القياس لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا، وقال أبو عبيدة: لا بد من الإشمام. وهذا القول مردود عند النحويين: وقال أبو حاتم: لو كان إدغاما صحيحا ما أشمّ شيئا، وهذا أيضا عند النحويين غلط لأن الإشمام إنما هو بعد الإدغام إنما يدلّ به على أن الفعل كان مرفوعا وتأمننّا على الأصل، «وتيمنّا» لغة تميم. يقولون: أنت تضرب، وقد ذكرناه (5).
[سورة يوسف (12): آية 12]
{أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ (12)}
{أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً} منصوب على الظرف والأصل عند سيبويه (6) «غدو» وقد نطق به. قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة نرتع ونلعب (7) بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة، والمعروف من قراءة أهل مكة نرتع بالنون وكسر العين، وقراءة أهل الكوفة {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء وإسكان العين، وقراءة أهل المدينة يرتع ويلعب بالياء وكسر العين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى من قول العرب: رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا إلّا أن معمرا روى عن قتادة قال: يرتع يسعى. قال أبو جعفر: أخذه من قوله: «إنا ذهبنا نستبق» لأن المعنى نستبق في العدو إلى غاية بعينها، وكذا «يرتع» بإسكان العين إلّا أنه ليوسف وحده صلّى الله عليه وسلّم ونرتع بكسر العين من الرّعي وهو الكلأ، والرعي المصدر، وقال القتبيّ: نرتع
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 285.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38.
(4) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38.
(5) مرّ في إعراب الآية 5الفاتحة.
(6) انظر الكتاب 1/ 92.
(7) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 286.(2/194)
نتحارس ونتحافظ من قولهم: رعاك الله أي حفظك. قال أبو جعفر: وعلامة الجزم في نرتع ويرتع الضمّة، وهو مجزوم لأنه جواب أرسله، وعلامة الجزم في نرتع ويرتع حذف الياء {وَيَلْعَبْ} عطف عليه. {وَإِنََّا لَهُ} تبيين. {لَحََافِظُونَ} خبر «إنّ».
[سورة يوسف (12): آية 13]
{قََالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخََافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غََافِلُونَ (13)}
{قََالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي} اللغة الفصيحة، حكى ذلك يعقوب وغيره {أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} في موضع رفع أي ذهابكم به {وَأَخََافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} من تذاءبت الريح إذا جاءت من كلّ وجه كذا قال أحمد بن يحيى، قال: و «الذئب» مهموز لأنه يجيء من كلّ وجه، وروى ورش عن نافع «الذيب» (1) بغير همز لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء.
[سورة يوسف (12): الآيات 16الى 17]
{وَجََاؤُ أَبََاهُمْ عِشََاءً يَبْكُونَ (16) قََالُوا يََا أَبََانََا إِنََّا ذَهَبْنََا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنََا يُوسُفَ عِنْدَ مَتََاعِنََا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمََا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنََا وَلَوْ كُنََّا صََادِقِينَ (17)}
{عِشََاءً} ظرف {يَبْكُونَ} في موضع الحال. قال محمد بن يزيد {وَلَوْ كُنََّا} أي وإن كنّا.
[سورة يوسف (12): آية 18]
{وَجََاؤُ عَلى ََ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قََالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللََّهُ الْمُسْتَعََانُ عَلى ََ مََا تَصِفُونَ (18)}
{وَجََاؤُ عَلى ََ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} مجاز أي ذي كذب مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:
82]. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال أبو إسحاق: أي فشأني أو الّذي أعتقده صبر جميل. قال قطرب: أي فصبري صبر جميل. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبرا جميلا (2) قال: وكذا الأشهب العقيلي، قال: وكذا في مصحف أنس وأبي صالح (3). قال محمد بن يزيد: «فصبر جميل» بالرفع أولى من النصب لأن المعنى: فالذي عندي صبر جميل، قال: وإنما النصب الاختيار في الأمر كما قال جلّ وعزّ {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا} [المعارج: 5]. قال أبو جعفر: والنصب على المصدر {وَاللََّهُ الْمُسْتَعََانُ} ابتداء وخبر. {عَلى ََ مََا تَصِفُونَ} مجاز والمعنى والله أعلم والله المستعان على احتمال ما تصفون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 287.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 290، ومختصر ابن خالويه 63.
(3) أبو صالح، محمد بن عمير بن الربيع الهمذاني الكوفي، عارف بحروف حمزة، انظر غاية النهاية 2/ 222.(2/195)
[سورة يوسف (12): آية 19]
{وَجََاءَتْ سَيََّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وََارِدَهُمْ فَأَدْلى ََ دَلْوَهُ قََالَ يََا بُشْرى ََ هََذََا غُلاََمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضََاعَةً وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِمََا يَعْمَلُونَ (19)}
{وَجََاءَتْ سَيََّارَةٌ} فأنّث على اللفظ {فَأَرْسَلُوا وََارِدَهُمْ} فذكّر على المعنى ولو كان فأرسلت واردها لكان على اللفظ. {فَأَدْلى ََ دَلْوَهُ} من ذوات الواو إلّا أنه رجع إلى الياء لما جاوز ثلاثة أحرف اتباعا للمستقبل هذا قول الخليل وسيبويه، وقال الكوفيون لمّا ثقل ردّ إلى الياء لأنها أخفّ من الواو. وجمع دلو في أقلّ العدد أدل فإذا كثرت قلت:
دليّ ودليّ، فقلبت الواو ياء لأن الجمع بابه التغيير وليفرّق بين الواحد والجميع، ودلاء قلبت الواو ألفا ثم أبدلت منها همزة لئلا يجتمع ساكنان. قال يا بشراي هذا غلام (1)
هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة إلا أن ابن أبي إسحاق قرأ يا بشريّ هذا غلام (2) فقلبت الألف ياء لأن هذا الياء يكسر ما قبلها فلمّا لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا، وقرأ أهل الكوفة {يََا بُشْرى ََ هََذََا غُلََامٌ} في معناه قولان: أحدهما أنه اسم الغلام، والآخر أن المعنى يا أيتها البشرى. قال قتادة: لمّا أدلي الدلو تشبّث به يوسف صلّى الله عليه وسلّم فلما أخرجه بشّرهم فقال: يا بشرى هذا غلام. قال أبو جعفر وهذا القول أولى لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلّا يسيرا وإنما يأتي بالكناية كما قال جلّ وعزّ {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظََّالِمُ عَلى ََ يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] وهو عقبة بن أبي معيط وبعده {يََا وَيْلَتى ََ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلََاناً خَلِيلًا} [الفرقان: 27] وهو أميّة بن خلف فجاء على الكناية. {وَأَسَرُّوهُ} الهاء كناية عن يوسف، فأما الواو فكناية عن أخوته، وقيل عن التجار الذين اشتروه، {بِضََاعَةً} نصب على الحال قال أبو إسحاق: المعنى واشتروه جاعليه بضاعة، وقال غيره: بضاعة بمعنى مبضوعا.
[سورة يوسف (12): آية 20]
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرََاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكََانُوا فِيهِ مِنَ الزََّاهِدِينَ (20)}
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} من نعت ثمن أي ذي بخس أي قليل. {دَرََاهِمَ} على البدل ويقال: دراهيم على أنه جمع دراهم، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مدّ الكسرة فصارت ياء وليس هذا مثل مدّ المقصور لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره، وأنشد النحويون: [البسيط] 230 تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة ... نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (3)
__________
(1) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 291، ومعاني الفراء 2/ 39.
(2) وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري، انظر البحر المحيط 291.
(3) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 57، والإنصاف 1/ 27، وخزانة الأدب 4/ 424، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 25، وشرح التصريح 2/ 371، ولسان العرب (صرف)، والمقاصد النحوية 3/ 521، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في أسرار العربية 45، والأشباه والنظائر 2/ 29، وأوضح المسالك 4/ 376، وتخليص الشواهد 169، وجمهرة اللغة 741، ورصف المباني 12، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 769، وشرح الأشموني 2/ 337، ولسان العرب (قطرب) و (سحج) و (نقد) و (صنع)، والمقتضب 2/ 258، والممتع في التصريف 1/ 205.(2/196)
{مَعْدُودَةٍ} نعت. {وَكََانُوا فِيهِ مِنَ الزََّاهِدِينَ} قال أبو إسحاق: ليست «فيه» داخلة في الصلة ولكنها تبيين أي زهادتهم فيه، وحكى سيبويه والكسائي زهدت فيه وزهدت بكسر الهاء وفتحها.
[سورة يوسف (12): آية 21]
{وَقََالَ الَّذِي اشْتَرََاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوََاهُ عَسى ََ أَنْ يَنْفَعَنََا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (21)}
{وَكَذََلِكَ} الكاف في موضع نصب. {مَكَّنََّا لِيُوسُفَ} أي بأن عطفنا قلب الملك الذي اشتراه عليه حتى تمكّن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ} نصب بلام كي، ولا بد من أن يتعلق بفعل فالتقدير: ولنعلمه من تأويل الأحاديث مكنّاه، والمعنى: مكناه لنوحي إليه بكلامنا ونعلّمه تأويله وتفسيره وتأويل الرؤيا.
وتم الكلام. ثم قال الله عزّ وجلّ: {وَاللََّهُ غََالِبٌ عَلى ََ أَمْرِهِ} أي يفعل ما يشاء في خلقه لا يقدر أحد على منعه ولا غلبته، وليس هذا للمخلوقين فهذا معنى غالب على أمره.
[سورة يوسف (12): آية 22]
{وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
{وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} هو جمع عند سيبويه (1) واحده شدّة، وقال الكسائي: واحده شدّ كما قال: [الكامل] 230م عهدي به شدّ النّهار كأنّما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم (2)
وزعم أبو عبيدة (3) أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد، وقال مجاهد وقتادة الأشدّ ثلاث وثلاثون سنة، وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس الأشدّ بلوغ الحلم. {آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً} قيل: معناه جعلناه المستولي على الحكم فكان يحكم في سلطان الملك، وآتيناه علما بالحكم.
[سورة يوسف (12): آية 23]
{وَرََاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهََا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوََايَ إِنَّهُ لاََ يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ (23)}
{وَرََاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهََا عَنْ نَفْسِهِ} وهي امرأة الملك. {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوََابَ} غلّق
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 60.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه ص 213، ولسان العرب (شدد)، وتاج العروس (شدد).
(3) انظر مجاز القرآن 1/ 305.(2/197)
للتكثير، ولا يقال: غلق الباب، وأغلق يقع للكثير والقليل، كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء رحمه الله: [البسيط] 231 ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار (1)
{وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} فيها سبع قراءات (2): فمن أجلّ ما قيل فيها وأصحّه إسنادا ما رواه الأعمش بن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود رحمه الله يقرأ {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} قال فقلت: إن قوما يقرءونها {هَيْتَ لَكَ} قال: إنما أقرأ كما علّمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يبعد ذلك لأن قوله:
إنما أقرأ كما علّمت يدلّ على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح الهاء والتاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة، وبها قرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن كثير {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بفتح الهاء وضم التاء، فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهنّ مفتوحة، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ يحيى بن وثاب {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة، وعن ابن عامر وأهل الشام {وَقََالَتْ هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. قال أبو جعفر: «هيت لك» بفتح التاء لالتقاء الساكنين لأنه صوت يجب أن لا يعرب، والفتح خفيف. فهذا كقولك: كيف وأين ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر، ومن ضمّ فلالتقاء الساكنين أيضا وشبّهه بقولهم: «جوت» في زجر الجمل. يقال: بالضمّ والفتح والكسر «وجاه» بمعناه إلّا أنه لا يقال إلّا مكسورا، وكذا «عاج» في زجر الأنثى، وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مرّ، والآخر أن يكون من هاء يهيء مثل جاء يجيء فيكون المعنى في «هيت» أي حسنت هيئتك وخفّف الهمزة، ويكون «لك» من كلام آخر، كما تقول: لك أعني وأما «لك» في «هيت لك» فهي تبين، كما يقال «سقيا لك»، وقال عكرمة: «هيت» أي هلمّ أي إلى ما دعوتك له، و «هيت لك» بغير همز وبالهمز من هاء يهيئ. {قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ} مصدر. يقال: عاذ معاذا ومعاذة وعياذا. {إِنَّهُ رَبِّي} في موضع نصب على
__________
(1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 382، والكتاب 3/ 563 «ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها»، وأدب الكتاب ص 461، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 456، وشرح أبيات سيبويه 2/ 261، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 93، ولسان العرب (غلق)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 118، وشرح المفصّل 1/ 27.
(2) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 294، ومعاني الفراء 2/ 40.(2/198)
البدل من الهاء، وقد يكون رفعا على الخبر. {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر.
[سورة يوسف (12): آية 24]
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا لَوْلاََ أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشََاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبََادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} لام توكيد، وزعم الخليل أنّ «قد» للتوقع. {وَهَمَّ بِهََا} قد ذكرنا معناه. وأن قوما قالوا: هو على التقديم والتأخير. وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب. لا يقال: قام فلان إن شاء الله، ولا قام فلان لولا فلان، وقد قيل: همّه بها هو الشهوة وما يخطر على القلب، كما يقال: ما يهمّني ذلك أي ما أشتهيه. {لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} (أن) في موضع رفع، وجواب لولا محذوف لعلم السامع. {كَذََلِكَ} الكاف في موضع رفع أي أمر البراهين كذلك، ويجوز أن تكون في موضع نصب أي أريناه البراهين كذلك {لِنَصْرِفَ عَنْهُ} لام كي والناصب للفعل «أن».
{إِنَّهُ مِنْ عِبََادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي المخلصين لأداء الرسالة، والمخلصين لطاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة يوسف (12): آية 25]
{وَاسْتَبَقَا الْبََابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيََا سَيِّدَهََا لَدَى الْبََابِ قََالَتْ مََا جَزََاءُ مَنْ أَرََادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاََّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (25)}
{وَاسْتَبَقَا الْبََابَ} حذفت الألف من «استبقا» في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها. كما يقال: جاءني عبد الله في التثنية، ومن العرب من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز ويجمع بين ساكنين لأن الثاني مدغم والأول حرف مدّ ولين، ومنهم من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف والهمزة، كما تقول في الوقف. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} قال أبو إسحاق: القد القطع أي جذبت فانقطع قال أبو جعفر: في هذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجمع فيه المعاني، والمعنى: سابق يوسف صلّى الله عليه وسلّم إلى الباب ممتنعا منها ليخرج، وسابقته إلى الباب لتقف عليه فتمنعه من الخروج فلما سبقها جذبته لئلا يخرج فقطعت قميصه. {قََالَتْ مََا جَزََاءُ مَنْ أَرََادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} (ما) ابتداء، وخبره {أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} عطف عليه. قال الكسائي: ويجوز أو عذابا أليما بمعنى ويعذب عذابا أليما.
[سورة يوسف (12): الآيات 26الى 27]
{قََالَ هِيَ رََاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ أَهْلِهََا إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكََاذِبِينَ (26) وَإِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصََّادِقِينَ (27)}
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ أَهْلِهََا} قد ذكرنا فيه اختلافا. والأشبه بالمعنى والله أعلم أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ولو كان طفلا لكان شهادته ليوسف صلّى الله عليه وسلّم يغني أن يأتي بدليل من العادة لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال
بالعادة، وليس هذا بمخالف للحديث تكلّم أربعة وهم صغار منهم صاحب يوسف يكون بمعنى صغير وليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر بيّن وهو أن ابن عبّاس رحمه الله هو الذي روى الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. {إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ} في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل. يقال: حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان. فقال المازني: القول مضمر، وقال محمد بن يزيد هذا لقوّة كان فإنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال أبو إسحاق:(2/199)
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ أَهْلِهََا} قد ذكرنا فيه اختلافا. والأشبه بالمعنى والله أعلم أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ولو كان طفلا لكان شهادته ليوسف صلّى الله عليه وسلّم يغني أن يأتي بدليل من العادة لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال
بالعادة، وليس هذا بمخالف للحديث تكلّم أربعة وهم صغار منهم صاحب يوسف يكون بمعنى صغير وليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر بيّن وهو أن ابن عبّاس رحمه الله هو الذي روى الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. {إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ} في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل. يقال: حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان. فقال المازني: القول مضمر، وقال محمد بن يزيد هذا لقوّة كان فإنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال أبو إسحاق:
المعنى: إن يكن أي إن يعلم فالعلم لم يقع وكذلك الكون لأنه يؤدي عن العلم {قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} فخبّر عن كان بالفعل الماضي، كما قال زهير: [الطويل] 232 وكان طوى كشحا على مستكنّة ... فلا هو أبداها ولم يتقدّم (1)
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق {إِنْ كََانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} (2)
بضم القاف والباء واللام، وكذا «دبر». قال أبو إسحاق: يجعله غاية أي من قبله ومن دبره قال: ويجوز «من قبل» «ومن دبر» بفتح اللام والراء، ويشبّهه بما لا ينصرف لأنه معرفة ومزال عن بابه.
[سورة يوسف (12): آية 29]
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخََاطِئِينَ (29)}
{يُوسُفُ} نداء مفرد أي يا يوسف.
[سورة يوسف (12): آية 30]
{وَقََالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرََاوِدُ فَتََاهََا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا إِنََّا لَنَرََاهََا فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (30)}
{وَقََالَ نِسْوَةٌ} ويقال: نسوة، والجمع الكثير نساء، وحكي «قد شغفها» بكسر الغين. ولا يعرف في كلام العرب إلّا «شغفها» بفتح الغين، وكذا {قَدْ شَغَفَهََا} أي تركها مشغوفة. {إِنََّا لَنَرََاهََا فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} أي في هذا الفعل. وهذه لام توكيد ولا تقع في الماضي هاهنا إلّا أن الأخفش أجاز: إنّ زيدا لنعم الرجل لأن نعم لا تتصرّف.
[سورة يوسف (12): آية 31]
{فَلَمََّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وََاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقََالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمََّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ مََا هََذََا بَشَراً إِنْ هََذََا إِلاََّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
{فَلَمََّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي بعيبهن إياها واحتيالهنّ في ذمها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} في الكلام حذف أي أرسلت إليهنّ تدعوهن إلى وليمة لتوقعهنّ فيما وقعت فيه. {وَأَعْتَدَتْ} من
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوان ص 22، والأزهيّة ص 158، وخزانة الأدب 4/ 3، ولسان العرب (طوى)، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 56.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 297، والمحتسب 1/ 338.(2/200)
العتاد، وهو كل شيء جعلته عدّة لشيء. {مُتَّكَأً} أصحّ ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول الجماعة من أهل التفسير إنه الطعام، فيجوز على تقدير طعام متّكئا، مثل «واسئل القرية»، ودلّ على هذا الحذف، {وَآتَتْ كُلَّ وََاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لأن حضور النساء ومعهنّ السكاكين إنّما هو الطعام يقطع بالسكاكين.
والأصل في متّكأ موتكأ، ومثله متّزن ومتّعد من وزنت ووعدت ووكأت، ويقال: تكئ يتكأ تكأة. {وَآتَتْ كُلَّ وََاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} مفعولان وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكّر ويؤنّث، وأنشد الفراء: [الوافر] 233 فعيّث في السّنام غداة قرّ ... بسكّين موثّقة النّصاب (1)
والأصمعي لا يعرف في السكين إلّا التذكير. {وَقََالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} بضم التاء لالتقاء الساكنين لأن الكسرة تثقل إذا كانت بعدها ضمة وكسر التاء على الأصل {وَقُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ} أي معاذ الله، وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء وقلن حاشا لله (2) بإثبات الألف، وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام التي بعدها عوضا منها، وفيها لغات أربع: «حاشاك» و «حاشا لك» و «حاش لك» و «حشا لك»، ويقال:
حشا زيد وحاشا زيدا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمّد بن يزيد يقول: النصب أولى لأنه قد صحّ أنها فعل بقولهم: حاش لزيد والحرف لا يحذف منه، وقد قال النابغة: [البسيط] 234 وما أحاشي من الأقوام من أحد (3)
{مََا هََذََا بَشَراً} شبّهت (ما) بليس عند الخليل وسيبويه إذا كان الكلام مرتّبا. قال سيبويه:
وربّ حرف هكذا أي يشبّهه بغيره في بعض المواضع، ثم ذكر سيبويه «تالله» و «لدن غدوة» ثم قال الكوفيون (4): لما حذفت الباء نصبت وشرح هذا على ما قاله أحمد بن يحيى أنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض. قال: فلما حذفت الباء نصبت لتدلّ على محلها. قال: وهذا قول الفراء (5) وما تعمل «ما» شيئا، فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر، لأن المعنى كالقمر، فرد هذا أحمد بن يحيى بأن قال: الباء
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عيث) و (سكن)، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 314، والمذكر والمؤنث للفراء ص 96، والمخصّص 17/ 16، وتاج العروس (عيث) و (سكن).
(2) انظر تيسير الداني 105، والبحر المحيط 5/ 303.
(3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 20، وأسرار العربية 208، والإنصاف 1/ 278، والجنى الداني ص 599، وخزانة الأدب 3/ 403، والدرر 3/ 181، وشرح شواهد المغني 1/ 368، وشرح المفصّل 2/ 85، ولسان العرب (حشا)، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 427، وشرح الأشموني 1/ 340، وشرح المفصّل 8/ 49، ومغني اللبيب 1/ 121، وهمع الهوامع 1/ 233.
(4) انظر الإنصاف مسألة (19).
(5) انظر معاني الفراء 2/ 42.(2/201)
أدخل في حروف الخفض من الكاف لأن الكاف تكون اسما. قال أبو جعفر: لا يصح إلا قول البصريين. وهذا القول يتناقض لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد: [الوافر] 235 أما والله أن لو كنت حرّا ... وما بالحرّ أنت ولا العتيق (1)
ومنع نصا النصب، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو ثم يحذفون الباء ويرفعون، وحكى البصريون والكوفيون: ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة بني تميم وأنشدوا: [الوافر] 236 أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد (2)
وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد: وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين. قال أبو إسحاق: هذا غلط كتاب الله جلّ وعزّ، ولغة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أقوى وأولى. {إِنْ هََذََا إِلََّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} لفضل الملائكة على البشر.
[سورة يوسف (12): آية 33]
{قََالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمََّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاََّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجََاهِلِينَ (33)}
{قََالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} ابتداء وخبر، والتقدير نزول السجن أحبّ إليّ أي أسهل عليّ، وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن (3)
بفتح السين، وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب وهو مصدر سجنه سجنا {وَإِلََّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} شرط ومجازاة أي إن لم تلطف لي في اجتناب المعصية وقعت فيها.
[سورة يوسف (12): آية 34]
{فَاسْتَجََابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
{فَاسْتَجََابَ لَهُ رَبُّهُ} أي فلطف له في ذلك. {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} قيل: لأنهنّ جمع قد راودنه عن نفسه، وقيل: يعني كيد النساء.
[سورة يوسف (12): آية 35]
{ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتََّى حِينٍ (35)}
{ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} فيه ثلاثة أقوال: فمذهب سيبويه (4) أن
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف 1/ 121، وخزانة الأدب 4/ 141، والجنى الداني 222، وجواهر الأدب 197، والدرر 4/ 96، ورصف المباني 116، وشرح التصريح 2/ 233، وشرح شواهد المغني 1/ 111، ومغني اللبيب 1/ 33، والمقاصد النحوية 4/ 409، والمقرب 1/ 205، وهمع الهوامع 2/ 18.
(2) الشاهد لجرير في ديوانه ص 164، والخزانة 1/ 448.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 44، والبحر المحيط 5/ 306.
(4) انظر الكتاب 4/ 125.(2/202)
«ليسجننّه» في موضع الفاعل أي ظهر لهم أن يسجنوه، وقال محمد بن يزيد: هذا غلط لا يكون الفاعل جملة ولكن الفاعل ما دلّ عليه بدا أي بدا لهم بداء فحذف الفاعل لأن الفعل يدلّ عليه كما قال: [الوافر] 237 وحقّ لمن أبو موسى أبوه ... يوفّقه الّذي نصب الجبالا (1)
والقول الثالث أن معنى «بدا له» في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلا وحذف أيضا القول أي قالوا ليسجننّه، وهذه النون للتوكيد، وكذا الخفيفة يوقف عليها بالألف نحو {وَلَيَكُوناً}
[يوسف: 32] ليفرق بينهما، وقال أبو عبيد: يوقف عليها بالألف لأنها أشبهت التنوين في قولك: رأيت رجلا والتقدير فحسبوه.
[سورة يوسف (12): آية 36]
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيََانِ قََالَ أَحَدُهُمََا إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقََالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرََانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنََا بِتَأْوِيلِهِ إِنََّا نَرََاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيََانِ} تثنية فتى وهو من ذوات الياء وقولهم الفتوّة شاذّ. {قََالَ أَحَدُهُمََا إِنِّي أَرََانِي أَعْصِرُ خَمْراً} والتقدير في النوم ثم حذف. {نَبِّئْنََا بِتَأْوِيلِهِ} من ذوات الهمز فلذلك ثبتت الياء فيه ومن خفف: نبيّنا ومن أبدل منها قال نبِّنا فحذف الياء.
[سورة يوسف (12): آية 40]
{مََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاََّ أَسْمََاءً سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاََّ لِلََّهِ أَمَرَ أَلاََّ تَعْبُدُوا إِلاََّ إِيََّاهُ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (40)}
{مََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا أَسْمََاءً سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ} حذف المفعول الثاني للدلالة والمعنى سمّيتموها آلهة من عند أنفسكم. {مََا أَنْزَلَ اللََّهُ} ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير {مِنْ سُلْطََانٍ} أي من حجّة.
[سورة يوسف (12): آية 41]
{يََا صََاحِبَيِ السِّجْنِ أَمََّا أَحَدُكُمََا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيََانِ (41)}
{أَمََّا أَحَدُكُمََا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} حكى بعض أهل اللغة أنّ سقاه وأسقاه لغتان بمعنى واحد كما قال: [الوافر] 238 سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال (2)
__________
(1) الشاهد لذي الرّمّة في ديوانه 446، وبلا نسبة في لسان العرب (حقق).
(2) الشاهد للبيد في ديوانه 93، وتهذيب اللغة 9/ 228، وتاج العروس (مجد) و (سقى)، والمخصّص 14/ 169، ونوادر أبي زيد 213، وبلا نسبة في رصف المباني 50، ولسان العرب (مجد).(2/203)
قال الأصمعي: أنا أتّهم هذا البيت من شعر لبيد وأتوهّم أنه مصنوع لأنّه جاء بلغتين في بيت. قال أبو جعفر: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب أو صبّ الماء في حلقه، ومعنى أسقاه جعل له سقيا. قال جلّ وعزّ {وَأَسْقَيْنََاكُمْ مََاءً فُرََاتاً} [المرسلات: 27].
[سورة يوسف (12): آية 42]
{وَقََالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نََاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسََاهُ الشَّيْطََانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
{وَقََالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نََاجٍ مِنْهُمَا} قال الكسائي: والمصدر نجوا ونجاء. {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي أذكر ما رأيته منّي وما أنا عليه من عبارة الرؤيا وغير ذلك.
[سورة يوسف (12): آية 43]
{وَقََالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى ََ سَبْعَ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجََافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاََتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يََابِسََاتٍ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيََايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيََا تَعْبُرُونَ (43)}
{وَقََالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى ََ سَبْعَ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ} حذفت الهاء فرقا بين المذكّر والمؤنّث، ويجوز في غير القرآن: سبع بقرات سمانا نعت لسبع، وكذا خضرا. قال الفراء (1):
ومثله {سَبْعَ سَمََاوََاتٍ طِبََاقاً} * [نوح: 15].
[سورة يوسف (12): آية 44]
{قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلاََمٍ وَمََا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلاََمِ بِعََالِمِينَ (44)}
{قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلََامٍ} أي هي أضغاث. قال الفراء: ويجوز أضغاث أحلام، أي رأيت أضغاث أحلام. قال أبو جعفر: النصب بعيد لأن المعنى: لم ترى شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام. {وَمََا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلََامِ بِعََالِمِينَ} قال أبو إسحاق: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة.
[سورة يوسف (12): آية 45]
{وَقََالَ الَّذِي نَجََا مِنْهُمََا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)}
قال أبو جعفر: الأصل في {وَادَّكَرَ} اذتكر، والذال قريبة المخرج من التاء، ولم يجز ادغامها فيها لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فلو أدغموا ذهب الجهر فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة فصار إذ دكّر فأدغموا الذال في الدال فصار ادّكر، وحكى الخليل وسيبويه: إن من العرب من يقول اذّكر فيدغم الدال في الذال لرخاوة الذال ولينها ويقال: أمه يأمه إمها إذا نسي، فعلى هذا وادّكر بعد أمه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 47.(2/204)
[سورة يوسف (12): آية 46]
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنََا فِي سَبْعِ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجََافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاََتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يََابِسََاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النََّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)}
{يُوسُفُ} نداء مفرد وكذا {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} الكثير الصدق.
[سورة يوسف (12): آية 47]
{قََالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمََا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاََّ قَلِيلاً مِمََّا تَأْكُلُونَ (47)}
{دَأَباً} مصدر لأن معنى تزرعون تدأبون، وحكى أبو حاتم عن يعقوب {دَأَباً} (1)
بتحريك الهمزة، وروى حفص عن عاصم وفيه قولان: قول أبي حاتم أنه من دئب. قال أبو جعفر: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر أنه حرّك لأن فيه حرفا من حروف الحلق.
[سورة يوسف (12): آية 48]
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ سَبْعٌ شِدََادٌ يَأْكُلْنَ مََا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاََّ قَلِيلاً مِمََّا تُحْصِنُونَ (48)}
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ سَبْعٌ شِدََادٌ يَأْكُلْنَ} مجازا أي يأكل أهلهن. {مََا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما ادخرتم من أجلهنّ. {إِلََّا قَلِيلًا} نصب على الاستثناء. {مِمََّا تُحْصِنُونَ} أي مما تحبسون لتزرعوه.
[سورة يوسف (12): الآيات 50الى 51]
{وَقََالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمََّا جََاءَهُ الرَّسُولُ قََالَ ارْجِعْ إِلى ََ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مََا بََالُ النِّسْوَةِ اللاََّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قََالَ مََا خَطْبُكُنَّ إِذْ رََاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حََاشَ لِلََّهِ مََا عَلِمْنََا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قََالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رََاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ (51)}
{وَقََالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} أي فذهب الرسول فأخبره فقال: ائتوني به {فَلَمََّا جََاءَهُ الرَّسُولُ} أي فأمره بالخروج. {قََالَ ارْجِعْ إِلى ََ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مََا بََالُ النِّسْوَةِ} أي ليعلم حال النسوة {اللََّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي ليعلم أني حبست بلا جرم. {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فدلّ بهذا على أنهن قد كدنه كما كادته امرأة العزيز. المعنى فذهب الرسول فأخبره فاحضرهنّ فقال: {مََا خَطْبُكُنَّ إِذْ رََاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} شدّدت النون لأنّها بمنزلة الميم والواو في المذكّرين.
[سورة يوسف (12): آية 52]
{ذََلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي كَيْدَ الْخََائِنِينَ (52)}
{ذََلِكَ} في موضع رفع أي الأمر ذلك. {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} أي لم أذكره وهو غائب بسوء، وكذا الخيانة وقد قيل: هذا من كلام يوسف صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر معاني الفرّاء 2/ 27، وتيسير الداني 105.(2/205)
[سورة يوسف (12): آية 53]
{وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاََّ مََا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
{وَمََا أُبَرِّئُ نَفْسِي} على التكثير، وكذا {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي مشتهية له. {إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} في موضع نصب على الاستثناء.
[سورة يوسف (12): آية 54]
{وَقََالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمََّا كَلَّمَهُ قََالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
{أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} جزم لأنه جواب الأمر، والمعنى فذهبوا فجاؤوا به ودلّ على هذا. {فَلَمََّا كَلَّمَهُ قََالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنََا مَكِينٌ} أي متمكّن من نريد نافذ القول. {أَمِينٌ} لا تخاف عذرا.
[سورة يوسف (12): آية 55]
{قََالَ اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
{قََالَ اجْعَلْنِي عَلى ََ خَزََائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ} أي حفيظ لها {عَلِيمٌ} بما تستحق أن أجعلها فيه.
[سورة يوسف (12): آية 56]
{وَكَذََلِكَ مَكَّنََّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهََا حَيْثُ يَشََاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنََا مَنْ نَشََاءُ وَلاََ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
{يَتَبَوَّأُ مِنْهََا حَيْثُ يَشََاءُ} أي ينزل. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنََا مَنْ نَشََاءُ} أي بإحساننا. {وَلََا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي ثوابهم، ودلّ بهذا على أنه ثواب له.
[سورة يوسف (12): آية 58]
{وَجََاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
{وَجََاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} أي فجاءت سنو القحط فجاء إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا، وهذا من اختصار القرآن المعجز فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون لأنهم خلفوه صبيا ولم يتوهموا أنه بعد العبوديّة بلغ إلى تلك الحال.
[سورة يوسف (12): آية 59]
{وَلَمََّا جَهَّزَهُمْ بِجَهََازِهِمْ قََالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلاََ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)}
{وَلَمََّا جَهَّزَهُمْ بِجَهََازِهِمْ قََالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وهو ابن يامين وهو أخو يوسف لأبيه وأمه أي سألهم وذاكرهم حتى جرى ذكر أخيه وهذا من الاختصار أيضا.
[سورة يوسف (12): آية 60]
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاََ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاََ تَقْرَبُونِ (60)}
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلََا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} أي فلا أبغيكم شيئا. {وَلََا تَقْرَبُونِ} في موضع جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون، وحذفت الياء لأنه رأس آية، ولو كان خبرا لكان ولا تقربون بفتح النون.(2/206)
[سورة يوسف (12): آية 62]
{وَقََالَ لِفِتْيََانِهِ اجْعَلُوا بِضََاعَتَهُمْ فِي رِحََالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهََا إِذَا انْقَلَبُوا إِلى ََ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}
وقال لفتيته هذه قراءة (1) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين {وَقََالَ لِفِتْيََانِهِ} وهو اختيار أبي عبيد لأنه روى عن هشام عن مغيرة قال: في مصحف عبد الله «وقال لفتيانه». قال أبو جعفر: وهذا مخالف للسواد الأعظم لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون فلا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع، وأيضا فإنّ فتية هاهنا أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. والأصل في فتية أفعلة وإن كان قد صغّر على لفظه.
[سورة يوسف (12): آية 63]
{فَلَمََّا رَجَعُوا إِلى ََ أَبِيهِمْ قََالُوا يََا أَبََانََا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنََا أَخََانََا نَكْتَلْ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ (63)}
{فَلَمََّا رَجَعُوا إِلى ََ أَبِيهِمْ قََالُوا يََا أَبََانََا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لأنه قال لهم: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلََا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي}. {فَأَرْسِلْ مَعَنََا أَخََانََا نَكْتَلْ} جواب، والأصل نكتال فحذفت الضمة من اللام للجزم وحذفت الألف لالتقاء الساكنين وهذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون يكتل (2) بالياء، والأول اختيار أبي عبيد ليكونوا كلّهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا قال: يكتل بالياء كان للأخ خاصة. قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لأنه لا يخلو الكلام من إحدى جهتين أن يكون المعنى فأرسل أخانا يكتل معنا فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير فيكون في الكلام دليل على الجمع بقوله {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلََا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي}.
[سورة يوسف (12): آية 64]
{قََالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاََّ كَمََا أَمِنْتُكُمْ عَلى ََ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللََّهُ خَيْرٌ حََافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ (64)}
{فَاللََّهُ خَيْرٌ حََافِظاً} على البيان، وهذه قراءة (3) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين حفظا والقراءة الأولى أبين كما يقال: هو خير منه حسبا و {حََافِظاً} منصوب على الحال، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون منصوبا على البيان.
__________
(1) انظر تيسير الداني 105.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 320، وتيسير الداني 105.
(3) انظر تيسير الداني 105.(2/207)
[سورة يوسف (12): آية 65]
{وَلَمََّا فَتَحُوا مَتََاعَهُمْ وَجَدُوا بِضََاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قََالُوا يََا أَبََانََا مََا نَبْغِي هََذِهِ بِضََاعَتُنََا رُدَّتْ إِلَيْنََا وَنَمِيرُ أَهْلَنََا وَنَحْفَظُ أَخََانََا وَنَزْدََادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذََلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
{مََا نَبْغِي} «ما» في موضع نصب، والمعنى والله أعلم أي شيء نبغي بتعريفنا إياك فإن الملك قد برنا و {هََذِهِ بِضََاعَتُنََا} تدلّ على ذلك إذ {رُدَّتْ إِلَيْنََا}، وروي عن علقمة {رُدَّتْ إِلَيْنََا} (1) بكسر الراء لأن الأصل فيه رددت فلما أدغم قلب حركة الدال على الراء كما يقال: «بيع» في المعتلّ، وقد حكى قطرب في ضرب زيد «ضرب».
{وَنَزْدََادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي يخرج أخونا على بعير فيكال له عليه {ذََلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} في معناه قولان: أحدهما يسير على الملك أي سهل، والآخر ذلك الذي جئنا به كيل يسير لا يكفينا فنحن نحتاج أن يخرج أخونا معنا حتى يزداد.
[سورة يوسف (12): آية 66]
{قََالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتََّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللََّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاََّ أَنْ يُحََاطَ بِكُمْ فَلَمََّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قََالَ اللََّهُ عَلى ََ مََا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
{إِلََّا أَنْ يُحََاطَ بِكُمْ} في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إلّا لإحاطة بكم قال: وهذا يحقّق الجزاء كقولك: ما جئتني إلا لأخذ الدراهم وإلّا أن تأخذ الدراهم.
{قََالَ اللََّهُ عَلى ََ مََا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي حافظ للحلف.
[سورة يوسف (12): آية 67]
{وَقََالَ يََا بَنِيَّ لاََ تَدْخُلُوا مِنْ بََابٍ وََاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوََابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمََا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاََّ لِلََّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}
{وَقََالَ يََا بَنِيَّ لََا تَدْخُلُوا مِنْ بََابٍ وََاحِدٍ} أصحّ ما قيل فيه أنه خاف أن يدخلوا جميعا فيبلغ الملك الأعظم أمرهم فيلحقهم منه مكروه أو يحسدهم من رآهم مجتمعين، ولا معنى للعين هاهنا لأن بعده {وَمََا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ} لأنه إن صحّ ما يكون يعقب العين فهو من الله جلّ وعزّ.
[سورة يوسف (12): آية 68]
{وَلَمََّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مََا كََانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاََّ حََاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضََاهََا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمََا عَلَّمْنََاهُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (68)}
ويدلّك على هذا {وَلَمََّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مََا كََانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
{إِلََّا حََاجَةً} استثناء ليس من الأول. {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمََا عَلَّمْنََاهُ} أي بأمر دينه
__________
(1) وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 321.(2/208)
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} ما يعلم يعقوب صلّى الله عليه وسلّم من أمر دينه.
[سورة يوسف (12): آية 70]
{فَلَمََّا جَهَّزَهُمْ بِجَهََازِهِمْ جَعَلَ السِّقََايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ (70)}
قال الأخفش: جمع سقاية: سقايا. {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي أصحاب العير يدلّ على ذلك. {إِنَّكُمْ لَسََارِقُونَ} وكان النداء عن غير أمر يوسف صلّى الله عليه وسلّم لأنه كذب.
[سورة يوسف (12): آية 72]
{قََالُوا نَفْقِدُ صُوََاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جََاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}
{قََالُوا نَفْقِدُ صُوََاعَ الْمَلِكِ} وروي عن أبي هريرة قالوا نفقد صاع الملك (1)، وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء قالوا نفقد صوع الملك (2) بغير ألف وبغين معجمة، وكذا روي عن يحيى بن يعمر. قال أبو جعفر: الألف في صواع زائدة وهو بمعنى صاع وصاع أكثر في كلام الناس كما قال:
239 - لا نألم القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصّاع بالصّاع (3)
وجمع صواع صيعان، وجمع صاع على التذكير أصواع وعلى التأنيث أصوع، وجمع صوغ أصواغ كثوب أثواب. وصوغ مصدر بمعنى موغ كما تقول: درهم ضرب أي مضروب. {وَلِمَنْ جََاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} ابتداء وخبر، وكذا {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} والزّعيم الكفيل وأصله من زعم ذاك أي قاله.
[سورة يوسف (12): آية 73]
{قََالُوا تَاللََّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مََا جِئْنََا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمََا كُنََّا سََارِقِينَ (73)}
{قََالُوا تَاللََّهِ} التاء بدل من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها، ولا يقاس على الإبدال فيقال: تالرحمن لأن العرب إذا أبدلت الشيء من الشيء فقد عرف، وكذا المجاز لا يقال عليه.
[سورة يوسف (12): آية 74]
{قََالُوا فَمََا جَزََاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كََاذِبِينَ (74)}
{قََالُوا فَمََا جَزََاؤُهُ} ابتداء وخبر. {إِنْ كُنْتُمْ كََاذِبِينَ} أي في قولكم وما كنا سارقين.
[سورة يوسف (12): آية 75]
{قََالُوا جَزََاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزََاؤُهُ كَذََلِكَ نَجْزِي الظََّالِمِينَ (75)}
{قََالُوا جَزََاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزََاؤُهُ} وهذا مشكل من النحو وفيه ثلاثة أقوال: منها
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 326، مختصر ابن خالويه 64.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 326، مختصر ابن خالويه 64.
(3) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوان المفضليات 569، والخزانة 2/ 48.(2/209)
أن يكون «جزاؤه» مبتدأ وخبره محذوفا، والتقدير: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم أن يستعبد من يسرق، ويقال: إن هذا الحكم كان في شريعة يعقوب صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا في أول الإسلام حتى نسخه الله جلّ وعزّ بالقطع، والقول الثاني أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد» مبتدأ ثانيا «فهو جزاؤه» خبر الثاني والجملة خبر الأول و «من» شرط، وإن شئت بمعنى الذي، والذي يعود على المبتدأ الأول جزاؤه الثاني، والتقدير (فهو) هو ثم أظهر الضمير، وأنشد سيبويه: [الطويل] 240 لعمرك ما معن بتارك حقّه ... ولا منسئ معن ولا متيسّر (1)
إلا أنه في الآية أحسن لأنه لو أضمر فيها لأشكل المعنى فكان الإظهار أحسن لهذا، والقول الثالث أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد في رحله» كناية عن رحله وخبره، والتقدير: جزاؤه استعباد من وجد في رحله فهو كناية عن الاستعباد، وهي في الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهو جزاؤه وفهذا جزاؤه.
{كَذََلِكَ} الكاف في موضع نصب أي نجزي الظالمين جزاء كذلك.
[سورة يوسف (12): آية 76]
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعََاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهََا مِنْ وِعََاءِ أَخِيهِ كَذََلِكَ كِدْنََا لِيُوسُفَ مََا كََانَ لِيَأْخُذَ أَخََاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاََّ أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ نَرْفَعُ دَرَجََاتٍ مَنْ نَشََاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
{ثُمَّ اسْتَخْرَجَهََا} فأنّث، ففيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون الكناية للصواع على لغة من أنّث، ومنها أن يكون للسقاية، والجواب الثالث أن يكون للسرقة، وقرأ الحسن {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهََا مِنْ وِعََاءِ أَخِيهِ} (2) بضمّ الواو، ويجوز في غير القرآن «إعاء» مثل «أقّت» و «وقتت»، ويجوز «إعاء أخيه»، وهي لغة هذيل، ومثله «إكاف» و «وكاف»، {كَذََلِكَ كِدْنََا لِيُوسُفَ} الكاف في موضع نصب أي بأن فعل هذا حتى أخذ أخاه ولم يكن يتهيّأ له أخذه وحبسه مع الملك بغير حجّة قال جلّ وعزّ: {مََا كََانَ لِيَأْخُذَ أَخََاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (أن) في موضع نصب، والتقدير إلّا بأن يشاء الله أن يلطف له بمثل هذا الكيد. نرفع درجات من نشاء (3) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقرأ أهل الكوفة {نَرْفَعُ دَرَجََاتٍ} بالتنوين، وهو على قراءتهم مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف، والتقدير: نرفع من نشاء إلى درجات، إلّا أنّ أكثر كلام العرب على
__________
(1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 1/ 310، والكتاب 1/ 107، وخزانة الأدب 1/ 375، والدرر 2/ 129، وشرح أبيات سيبويه 1/ 190، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 128.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 328.
(3) انظر تيسير الداني 105.(2/210)
القراءة الأولى يقولون: اللهمّ ارفع درجته ولا يكادون يقولون: اللهمّ ارفعه درجة. قال مالك بن أنس سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله عزّ وجلّ {نَرْفَعُ دَرَجََاتٍ مَنْ نَشََاءُ} بالعلم. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ابتداء وفيه تقديران: أحدهما وفوق كلّ ذي علم من هو أعلم منه حتّى ينتهي ذلك إلى الله جلّ وعزّ، والتقدير الآخر وفوق كل ذي علم عالم بكل شيء وهو الله جلّ وعزّ.
[سورة يوسف (12): آية 77]
{قََالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهََا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهََا لَهُمْ قََالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكََاناً وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا تَصِفُونَ (77)}
{قََالُوا إِنْ يَسْرِقْ} جزم بإن، والجواب {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} المعنى على حذف القول والتقدير: فقد قيل سرق أخ له. ومن أحسن ما قيل في معناه أنّ السّدّي قال: كانت عمة يوسف صلّى الله عليه وسلّم تميل إليه وهي ربّته فلمّا ترعرع أرادوا أن يأخذوه منها فاحتالت في منعهم فأخذت منطقة إسحاق صلّى الله عليه وسلّم فشدّتها في وسطه من تحت ثيابه وكان حكم السّارق إذا سرق أن يستخدم فاحتالت بهذا فأخذته عندها فلهذا قال إخوته: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}. {فَأَسَرَّهََا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهََا لَهُمْ} للعلماء في هذا أقوال:
منها أنه أسرّ في نفسه قوله {شَرٌّ مَكََاناً وَاللََّهُ} وقيل: أسرّ في نفسه المجازاة لهم على ما قالوا فيه، وقيل: أسرّ في نفسه الحجّة على ما قالوا ولم يرد أن يبيّن عذره في ذلك، وقيل: أسرّ في نفسه قولهم «فقد سرق أخ له من قبل» ولم يرد أن يذيع هذا وينشره.
{قََالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكََاناً} ابتداء وخبر. {مَكََاناً} منصوب على البيان أي فعلا.
[سورة يوسف (12): آية 78]
{قََالُوا يََا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنََا مَكََانَهُ إِنََّا نَرََاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
{إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} من نعته.
[سورة يوسف (12): آية 79]
{قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاََّ مَنْ وَجَدْنََا مَتََاعَنََا عِنْدَهُ إِنََّا إِذاً لَظََالِمُونَ (79)}
{قََالَ مَعََاذَ اللََّهِ} مصدر. {أَنْ نَأْخُذَ} في موضع نصب أي من أن نأخذ. {إِلََّا مَنْ وَجَدْنََا} في موضع نصب بنأخذ. {إِنََّا إِذاً لَظََالِمُونَ} أي إن أخذنا غيره.
[سورة يوسف (12): آية 80]
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قََالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبََاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللََّهِ وَمِنْ قَبْلُ مََا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتََّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللََّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحََاكِمِينَ (80)}
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا} أي انفردوا وليس هو معهم. {نَجِيًّا} نصب على الحال، وهو واحد يؤدي عن جمع وجمعه أنجية. {وَمِنْ قَبْلُ مََا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} «ما» زائدة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع رفع على الابتداء وبمعنى وقع
تفريطكم في يوسف عليه السلام، وقيل موضعه نصب عطف على «أنّ»، والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف عليه السّلام.(2/211)
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا} أي انفردوا وليس هو معهم. {نَجِيًّا} نصب على الحال، وهو واحد يؤدي عن جمع وجمعه أنجية. {وَمِنْ قَبْلُ مََا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} «ما» زائدة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع رفع على الابتداء وبمعنى وقع
تفريطكم في يوسف عليه السلام، وقيل موضعه نصب عطف على «أنّ»، والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف عليه السّلام.
{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي من الأرض. {حَتََّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} نصب بحتى وهي بدل من «أن».
{أَوْ يَحْكُمَ اللََّهُ لِي} عطف على «يأذن»، والمعنى والله أعلم أو يحكم الله لي بالممرّ مع أخي فأمضي معه إلى أبي. {وَهُوَ خَيْرُ الْحََاكِمِينَ} ابتداء وخبر.
[سورة يوسف (12): آية 81]
{ارْجِعُوا إِلى ََ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يََا أَبََانََا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمََا شَهِدْنََا إِلاََّ بِمََا عَلِمْنََا وَمََا كُنََّا لِلْغَيْبِ حََافِظِينَ (81)}
{ارْجِعُوا إِلى ََ أَبِيكُمْ فَقُولُوا} له. {يََا أَبََانََا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمََا} قال أبو حاتم: ذكر قوم {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} (1) قالوا معناه رمي بالسّرق كما يقال ظلم فلان وخوّن قال: ولم أسمع له إسنادا. قال أبو جعفر: ليس نفيه السماع بحجّة على من سمع، وقد روى هذا الحرف غير واحد منهم محمد بن سعدان النحوي في كتابه «كتاب القراءات» وهو ثقة مأمون وذكر أنها قراءة ابن عباس. قال أبو إسحاق: وقرئ (إنّ ابنك سرق) وهو يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السّرق، والآخر اتّهم بالسرق. {شَهِدْنََا إِلََّا بِمََا عَلِمْنََا وَمََا كُنََّا لِلْغَيْبِ حََافِظِينَ} أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه.
[سورة يوسف (12): آية 82]
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنََا فِيهََا وَإِنََّا لَصََادِقُونَ (82)}
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا} أي أهل القرية. قال سيبويه: ولا يجوز: كلّم هندا وأنت تريد غلام هند لأن هذا يشكل.
[سورة يوسف (12): آية 83]
{قََالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
{قََالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} أي زيّنته من غير أن تكون منه سرق. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي أولى من الجزع. {عَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} لأنه كان عنده أنّ يوسف صلّى الله عليه وسلّم لم يمت وإنما غاب عنه خبره لأن يوسف صلّى الله عليه وسلّم حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس فلما تمكّن احتال في أن يعلم أبوه خبره ولم يوجّه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إلى أبيه. وقال «بهم» لأنهم ثلاثة يوسف وأخوه والمتخلف مع أخيه.
[سورة يوسف (12): آية 84]
{وَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنََاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
{وَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ} قال أبو إسحاق: الأصل يا أسفي أبدل
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 53، والبحر المحيط 5/ 332.(2/212)
من الياء ألف لخفّة الألف والفتحة. {عَيْنََاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ} وقال: سأل قوم عن معنى شدّة حزن يعقوب صلّى الله عليه وسلّم فللعلماء في هذه ثلاثة أجوبة: منها أنّ يعقوب صلّى الله عليه وسلّم لمّا علم أنّ يوسف عليه السلام حيّ فندم على ذلك، والجواب الثالث أبينها وهو أنّ الحزن ليس محظورا وإنما المحظور الولولة وشقّ الثياب والكلام بما لا ينبغي. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» (1) وقد بيّن الله جلّ وعزّ بقوله:
{فَهُوَ كَظِيمٌ}.
[سورة يوسف (12): آية 85]
{قََالُوا تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهََالِكِينَ (85)}
{قََالُوا تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال الكسائي: يقال: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت، وزعم الفراء أنّ «لا» مضمرة وأنشد: [الطويل] 241 فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (2)
والذي قال حسن صحيح، وزعم الخليل وسيبويه أنّ «لا» تضمر في القسم لأنه ليس فيه إشكال، ولو كان موجبا لكان باللام والنون. {حَتََّى تَكُونَ حَرَضاً} يقال: حرض وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم، ورجل حارض وحرض إلّا أن حرضا لا يثنّى ولا يجمع ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان، وحكى أهل اللغة: أحرضه الهمّ إذا أسقمه ورجل حارض أي أحمق.
[سورة يوسف (12): آية 86]
{قََالَ إِنَّمََا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللََّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لاََ تَعْلَمُونَ (86)}
{قََالَ إِنَّمََا أَشْكُوا بَثِّي} حقيقة البثّ في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيّأ له أن يخفيها وهو من بثثته أي فرّقته فسمّيت المصيبة بثّا مجازا.
[سورة يوسف (12): آية 87]
{يََا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاََ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللََّهِ إِنَّهُ لاََ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللََّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكََافِرُونَ (87)}
{يََا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلََا} أي اذهبوا إلى هذا الذي طلب منكم أخاكم واحتال عليكم في أخذه فسلوه عنه وعن مذهبه.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل 62، والبخاري في صحيحه 2/ 105، والبيهقي في سننه 4/ 69، والمتقي في كنز العمال 40479، والقرطبي في تفسيره 9/ 429، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 295.
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 32، والكتاب 3/ 560، وخزانة الأدب 9/ 238، والخصائص 2/ 284، والدرر 4/ 212، وشرح أبيات سيبويه 2/ 22، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصّل 7/ 110، ولسان العرب (يمين)، واللمع 259، والمقاصد النحوية 2/ 13، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 93، وشرح الأشموني 1/ 110، ومغني اللبيب 2/ 637، والمقتضب 2/ 362، وهمع الهوامع 2/ 38.(2/213)
[سورة يوسف (12): الآيات 88الى 90]
{فَلَمََّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قََالُوا يََا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنََا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنََا بِبِضََاعَةٍ مُزْجََاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنََا إِنَّ اللََّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قََالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مََا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جََاهِلُونَ (89) قََالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قََالَ أَنَا يُوسُفُ وَهََذََا أَخِي قَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللََّهَ لاََ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)}
{فَلَمََّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قََالُوا يََا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي الممتنع. {مَسَّنََا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} فخضعوا له وتواضعوا فرقّ ف {قََالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مََا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جََاهِلُونَ} قيل: فدلّ بهذا أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف عليه السلام حتى تركوا أخاه منفردا منه لا يقاومهم فتنبّهوا ف {قََالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} على تخفيف الهمزة الثانية، ويجوز تحقيقهما وأن يدخل بينهما ألفا، ويجوز «إنك» على الخبر. {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} الهاء كناية عن الحديث والجملة الخبر، وكذا الجملة الخبر في قوله جلّ وعزّ: {فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
[سورة يوسف (12): آية 91]
{قََالُوا تَاللََّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللََّهُ عَلَيْنََا وَإِنْ كُنََّا لَخََاطِئِينَ (91)}
{قََالُوا تَاللََّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللََّهُ عَلَيْنََا} الأصل همزتان خفّفت الثانية ولا يجوز تحقيقهما. واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فأنا مثير وهو أيضا على أفعل ثم أعلّ، والأصل أثير قلبت حركة الياء على الثاء فانقلبت الياء ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وأثرت الحديث على فعلت فأنا آثره. {وَإِنْ كُنََّا لَخََاطِئِينَ} من خطىء يخطأ إذا أتى الخطيئة.
[سورة يوسف (12): آية 92]
{قََالَ لاََ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ (92)}
{قََالَ لََا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} تمّ الكلام ومعنى اليوم الوقت. {يَغْفِرُ اللََّهُ لَكُمْ} فعل مستقبل فيه معنى الدعاء.
[سورة يوسف (12): آية 93]
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هََذََا فَأَلْقُوهُ عَلى ََ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هََذََا} هذا نعت للقميص والقميص مذكّر. فأما قول الشاعر:
[الكامل] 242 يدعو هوازن والقميص مفاضة ... فوق النّطاق تشدّ بالأزرار (1)
فتقديره والقميص درع مفاضة، {يَأْتِ بَصِيراً} جواب الأمر. {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}
__________
(1) الشاهد لجرير في ديوانه 897، ولسان العرب (قمص)، وتهذيب اللغة 8/ 387، وتاج العروس (قمص)، وبلا نسبة في كتاب العين 5/ 70.(2/214)
توكيد في موضع خفض، ولا يجوز أن يكون نصبا على الحال لأنه تابع لما قبله.
[سورة يوسف (12): آية 96]
{فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ أَلْقََاهُ عَلى ََ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قََالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لاََ تَعْلَمُونَ (96)}
{فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ} «أن» زائدة للتوكيد. {فَارْتَدَّ بَصِيراً} نصب على الحال.
[سورة يوسف (12): الآيات 99الى 100]
{فَلَمََّا دَخَلُوا عَلى ََ يُوسُفَ آوى ََ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقََالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شََاءَ اللََّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقََالَ يََا أَبَتِ هََذََا تَأْوِيلُ رُءْيََايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهََا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجََاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطََانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمََا يَشََاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
{آوى ََ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} نصب بالفعل، وكذا {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ}. {سُجَّداً} على الحال.
[سورة يوسف (12): آية 101]
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحََادِيثِ فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصََّالِحِينَ (101)}
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} في موضع نصب لأنه نداء مضاف، والتقدير يا ربّ.
{فََاطِرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} نصب على النعت: وإن شئت كان نداء ثانيا.
[سورة يوسف (12): آية 102]
{ذََلِكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمََا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}
{ذََلِكَ} ابتداء. {مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ} خبره. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبر ثان. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون «ذلك» بمعنى الذي و {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبره أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك.
[سورة يوسف (12): آية 103]
{وَمََا أَكْثَرُ النََّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}
{وَمََا أَكْثَرُ النََّاسِ} اسم «ما». {وَلَوْ حَرَصْتَ} أي على هدايتهم. {بِمُؤْمِنِينَ} خبر ما.
[سورة يوسف (12): الآيات 105الى 106]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهََا وَهُمْ عَنْهََا مُعْرِضُونَ (105) وَمََا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللََّهِ إِلاََّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمََاوََاتِ} قال الخليل وسيبويه (1) هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه فصارت بمعنى «كم». قال أبو جعفر: ولا يجوز الوقف عليها إلّا وكأيّ كما
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 172.(2/215)
تقول: أنت كزيد، ولا يقول أحد من العرب: أنت كزيدن، بنون، وقد اعتلّ النحويون لهذا فقالوا: لا يوقف على التنوين لئلّا يشبه النون التي يقع عليها الإعراب إلّا أنه يجوز الرّوم والإشمام في المرفوع، والرّوم في المخفوض، والإسكان في المخفوض أجود، وأكثر ما جاء في كلام العرب وأشعارها «كائن» من رجل قد رأيته على وزن كاع، وقرأ بهذه اللغة جماعة من أئمة المسلمين منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو جعفر وشيبة والأعرج والأعمش، وروي عن ابن محيصن وكئن على وزن كعن، وفعل هذا بهذا الحرف لكثرته في كلامهم، وقد روي عن الحسن وكاين بغير همز. {وَهُمْ عَنْهََا مُعْرِضُونَ} ابتداء وخبر أي لا يتفكرون وبيّن أنّهم لا يتفكّرون بقوله جلّ وعزّ {وَمََا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللََّهِ إِلََّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (106) إذا قيل لهم: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله جلّ وعزّ ثم يشركون معه غيره.
[سورة يوسف (12): آية 107]
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غََاشِيَةٌ مِنْ عَذََابِ اللََّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاََ يَشْعُرُونَ (107)}
{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً} نصب على الحال وأصله المصدر وقال محمد بن يزيد:
جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم: وقع أمر بغتة وفجأة. قال أبو جعفر:
ومعنى بغتة أصابه من حيث لم يتوقّع.
[سورة يوسف (12): آية 108]
{قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللََّهِ عَلى ََ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحََانَ اللََّهِ وَمََا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}
{قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي} ابتداء وخبر. {أَنَا} توكيد. {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطف على المضمر.
[سورة يوسف (12): آية 109]
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلاََّ رِجََالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدََارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (109)}
{وَلَدََارُ الْآخِرَةِ} ابتداء {خَيْرٌ} خبره وزعم الفراء (1) أن الدار هي الآخرة أي أضيف الشيء إلى نفسه، واحتجّ الكسائي بقولهم: صلاة الأولى: واحتجّ الأخفش بقولهم: مسجد الجامع. قال أبو جعفر: إضافة الشيء إلى نفسه محال لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليعرف به، والأجود الصلاة الأولى لأنها أول ما صلّي حين فرضت الصّلوات. وأول ما أظهر فلذلك قيل لها أيضا: ظهر والتقدير ولدار حال الآخرة خير.
[سورة يوسف (12): آية 110]
{حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جََاءَهُمْ نَصْرُنََا فَنُجِّيَ مَنْ نَشََاءُ وَلاََ يُرَدُّ بَأْسُنََا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
{حَتََّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} هذه القراءة البينة عطف على استيأس
__________
(1) انظر معاني الفرّاء 2/ 55.(2/216)
وقرأ بها من الصحابة عائشة رضي الله عنها، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رحمهما الله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (1) والتقدير وظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذّبوا، وقرأ مجاهد {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (2) أي وظن قومهم أن الرسل قد كذّبوا لمّا رأوا من تفضّل الله جلّ وعزّ في تأخيره العذاب. وروي عن عاصم {فَنُجِّيَ مَنْ نَشََاءُ} بنون واحد و (من) في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله.
[سورة يوسف (12): آية 111]
{لَقَدْ كََانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ مََا كََانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ََ وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
{وَلََكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكن كان، ويجوز الرفع بمعنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 347، ومعاني الفراء 2/ 56.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 347، ومختصر ابن خالويه 65.(2/217)
13 - شرح إعراب سورة الرعد
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} ربّ يسّر:
[سورة الرعد (13): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {المر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يُؤْمِنُونَ (1)}
{المر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ} ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون التقدير: هذا الذي أنزل إليك تلك آيات الكتاب التي وعدت بها. {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون الذي عطفا على آيات في موضع رفع ويكون الحق مرفوعا نعتا للذي أو على إضمار مبتدأ. ويجوز أن يكون الذي في موضع خفض عطفا على الكتاب ويكون الحق رفعا على إضمار مبتدأ، ويجوز خفضه يكون نعتا للذي. {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ} أي بعد وضوح الآيات.
[سورة الرعد (13): آية 2]
{اللََّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقََاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
{اللََّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمََاوََاتِ} ابتداء وخبر أي ولا بدّ لها من رافع فهذا من الآيات {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا} يكون «ترونها» في موضع نصب على الحال أي رفع السماوات مرئيّة بغير عمد، ويجوز أن يكون مستأنفا أي رفع السموات بغير عمد ثم قال أنتم ترونها، ويجوز أن يكون {تَرَوْنَهََا} في موضع خفض أي بغير عمد مرئية أي لو كانت بعمد لرأيتموها لكثافة العمد.
[سورة الرعد (13): آية 3]
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْهََاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ جَعَلَ فِيهََا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهََارَ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} ابتداء وخبر فدلّ على قدرته جلّ وعزّ في الأرض بعد أن دلّ عليها في السماء. {وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ} حرّكت الياء في موضع النصب لخفة الفتحة ولم تنصرف لأنها قد صارت بمنزلة السالم. {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} * [لقمان: 10] في موضع نصب أي كراهة أن تميد بكم.(2/218)
[سورة الرعد (13): آية 4]
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجََاوِرََاتٌ وَجَنََّاتٌ مِنْ أَعْنََابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوََانٌ وَغَيْرُ صِنْوََانٍ يُسْقى ََ بِمََاءٍ وََاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهََا عَلى ََ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجََاوِرََاتٌ} ابتداء وخبر، ودلّ بهذا على قدرته جلّ وعزّ {وَجَنََّاتٌ مِنْ أَعْنََابٍ} عطف، ويجوز و «جنات» على «وجعل فيها جنات»، ويجوز أن يكون في موضع خفض عطفا على كلّ {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوََانٌ وَغَيْرُ صِنْوََانٍ} بالخفض (1) قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (وزرع) بالرفع وما بعده مثله. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء كيف لا تقرأ «وزرع» بالجر؟ فقال: الجنات لا تكون من الزرع. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو عمرو رحمه الله لا يلزم من قرأ بالجر لأنّ بعده ذكر النخيل وإذا اجتمع مع النخيل الزرع قيل لهما: جنة، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال «وزرع ونخيل» بالخفض أولى لأنه أقرب إليه واحتجّ بحكاية سيبويه (2): خشّنت بصدره وصدر زيد، وأنّ الجرّ أولى من النصب لقربه منه كذا «وزرع» أولى لقربه من أعناب، «صنوان» جمع صنو مثل نسوة ونسوان وقنو وقنوان، وحكى سيبويه قنوان، وقال الفراء: «صنوان» بالضمّ لغة تميم وقيس والكسر لغة أهل الحجاز، فإن جمعت صنوا في أقلّ العدد قلت: أصناء والكثيرة صنيّ وصنيّ. وقرأ الحسن وعاصم وحميد وابن محيصن {يُسْقى ََ} بالياء على تذكير النبت أو الجمع، واحتجّ أبو عمرو للتأنيث بأن بعده {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهََا} ولم يقل بعضه قال أبو جعفر: وهذا احتجاج حسن، وقرأ أهل الحرمين وأهل البصرة {وَنُفَضِّلُ} بالنون، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ويفضّل بالياء قال أبو عبيد ونفضّل على الاستئناف، ويفضّل على أول السورة. وهذا شيء قد تقدّم وانفصل بقوله عزّ وجلّ {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجََاوِرََاتٌ} [الرعد: 4]. قال أبو جعفر: وهذا احتجاج حسن {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في موضع خفض أي عقلاء.
[سورة الرعد (13): آية 5]
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً أَإِنََّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولََئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولََئِكَ الْأَغْلاََلُ فِي أَعْنََاقِهِمْ وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ (5)}
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} أي فيجب أن يعجب من قولهم العقلاء لأنه جهل إذ كان الله جلّ وعزّ قد دلّهم على قدرته وأراهم من آياته ما هو أعظم من إحياء الموتى.
و «عجب» مرفوع ينوى فيه التأخير على خبر المبتدأ. {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً} العامل في «إذا» كنا لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها فإذا قرأ «أإنّا» فالعامل «إذا» فعل محذوف
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 356، وتيسير الداني 107.
(2) انظر الكتاب 1/ 123.(2/219)
والتقدير أنبعث إذا. {أُولََئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي من سأل عن البعث سؤال منكر له بعد البراهين فقد كفر ونظير هذا {مََا يُجََادِلُ فِي آيََاتِ اللََّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] أي جدال منكر. {وَأُولََئِكَ} مبتدأ. (والأغلال) مبتدأ ثان. {فِي أَعْنََاقِهِمْ} في موضع الخبر، والجملة خبر الأول. {وَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ} مبتدأ وخبر.
[سورة الرعد (13): آية 6]
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاََتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنََّاسِ عَلى ََ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقََابِ (6)}
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال قتادة: بالعقوبة قبل العافية قال أبو إسحاق:
هو من قولهم: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلََاتُ} قد ذكرنا ما فيه. قال الفراء (1): بنو تميم يقولون: مثلات بسكون الثاء. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنََّاسِ عَلى ََ ظُلْمِهِمْ} روي عن ابن عباس أنه قال: ليس في القرآن أرجأ من هذه.
[سورة الرعد (13): آية 7]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاََ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ (7)}
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وإنما قالوا هذا بعد ظهور الآيات والبراهين على التعنّت والتّهزّء فقال الله جلّ وعزّ: {إِنَّمََا أَنْتَ مُنْذِرٌ} أي تنذرهم العذاب لكفرهم بعد البراهين {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هََادٍ} قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه، وفيه تقديران في العربية: يكون هاد معطوفا على منذر، وهذا من أحسن ما قيل فيه لأن المنذر هو الهادي إلى الله جلّ وعزّ، والتقدير: إنما أنت منذر هاد، والتقدير الآخر أن يكون مرفوعا بالابتداء، والتقدير: ولكل قوم نبيّ هاد.
[سورة الرعد (13): آية 8]
{اللََّهُ يَعْلَمُ مََا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ََ وَمََا تَغِيضُ الْأَرْحََامُ وَمََا تَزْدََادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدََارٍ (8)}
{اللََّهُ يَعْلَمُ مََا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ََ} ابتداء وخبر، وكذا {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدََارٍ}
[سورة الرعد (13): آية 9]
{عََالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعََالِ (9)}
{عََالِمُ الْغَيْبِ} نعت، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وإن شئت بالابتداء وما بعده خبره ويجوز في الإعراب النصب على المدح والخفض على البدل و {الْكَبِيرُ} الملك المقتدر على كل شيء شيء و {الْمُتَعََالِ} المستعلي على كل شيء، وحذفت الياء لأنه رأس آية.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 59.(2/220)
[سورة الرعد (13): آية 10]
{سَوََاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ (10)}
{سَوََاءٌ مِنْكُمْ} مرفوع ينوى به التأخير. قال أبو إسحاق: والتقدير: ذو سواء، كما يقال: رجل عدل، وقيل: سواء بمعنى مستو وهو مرفوع بالابتداء. قال أبو إسحاق:
ولا يجوز عند سيبويه هذا لأنه لا يبتدأ بنكرة. قال أبو جعفر: والمعنى أنه يستوي عند الله جلّ وعزّ هؤلاء وعلمه بهم واحد، وقال حسان: [الوافر] 243 فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء (1)
أي بمنزلته عند الله جلّ وعزّ.
[سورة الرعد (13): آية 11]
{لَهُ مُعَقِّبََاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ لاََ يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاََ مَرَدَّ لَهُ وَمََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وََالٍ (11)}
{لَهُ مُعَقِّبََاتٌ} جمع معقّبة والهاء للمبالغة ولهذا جاز {يَحْفَظُونَهُ} على التذكير {مِنْ أَمْرِ اللََّهِ} أي حفظهم إياه من أمر الله جلّ وعزّ أمرهم أن يحفظوه مما لم يقدر عليه وقيل المعنى أن المعقبات من أمر الله جلّ وعزّ وهذان الجوابان على قول من قال: أنّ المعقّبات الملائكة وأما من قال: أن المعقّبات الشّرط فالمعنى عنده: يحفظونه من أمر الله على قولهم. {إِنَّ اللََّهَ لََا يُغَيِّرُ مََا بِقَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ} فيه قولان: أحدهما أن المعنى: إن الله لا يغيّر ما بإنسان من نعمة وكرامة ابتدأ بها بأن يعاقبه أو يعذبه إلا أن يغيّر ما بنفسه، والقول الآخر: إن الله جلّ وعزّ لا يغيّر ما بقوم مؤمنين صالحين فيسميهم كافرين فاسقين إلا أن يفعلوا ما يوجب ذلك ولا يأمر بإذلالهم إلّا أن يغيّروا ما بأنفسهم: {وَإِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلََا مَرَدَّ لَهُ} فحذّرهم الله جلّ وعزّ بعد أن أعلم أنّه يعلم سرائرهم وما يخفون. {وَمََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وََالٍ} أي من وليّ ينصرهم ويمنع منهم.
[سورة الرعد (13): آية 12]
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحََابَ الثِّقََالَ (12)}
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} ابتداء وخبر. {خَوْفاً وَطَمَعاً} على المصدر. وقول أهل التفسير خوفا للمسافر وطمعا للحاضر على الأكثر. وحقيقته على العموم لكلّ من خاف أو طمع {وَيُنْشِئُ السَّحََابَ الثِّقََالَ} جمع سحابة فلهذا نعت بالثقال.
[سورة الرعد (13): آية 13]
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاََئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوََاعِقَ فَيُصِيبُ بِهََا مَنْ يَشََاءُ وَهُمْ يُجََادِلُونَ فِي اللََّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحََالِ (13)}
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} أهل التفسير يقولون: الرّعد اسم ملك فهذا حقيقة،
__________
(1) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 76، وتذكرة النحاة ص 70، والدرر 1/ 296، ومغني اللبيب 625، والمقتضب 2/ 137، وبلا نسبة في شرح الأشموني ص 82، وهمع الهوامع 1/ 88.(2/221)
وقيل أنّه مجاز وأنه الصّوت فيكون معنى يسبح يدلّ على تنزيه الله جلّ وعزّ من الأشباه فنسب التسبيح إليه مجازا.
[سورة الرعد (13): آية 14]
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاََ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاََّ كَبََاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمََاءِ لِيَبْلُغَ فََاهُ وَمََا هُوَ بِبََالِغِهِ وَمََا دُعََاءُ الْكََافِرِينَ إِلاََّ فِي ضَلاََلٍ (14)}
{وَمََا دُعََاءُ الْكََافِرِينَ} أي وما دعاء الكافرين الأوثان. {إِلََّا فِي ضَلََالٍ} عن الصواب وعن الانتفاع بالإجابة.
[سورة الرعد (13): آية 15]
{وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاََلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ (15)}
{وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} قد تكلّم العلماء في معنى هذا، ومن أحسن ما قيل أنّ السجود هاهنا الخضوع لتدبير الله جلّ وعزّ وتصريفه من صحّة وسقم وغيرهما.
{طَوْعاً وَكَرْهاً} أي ينقادون على ما أحبّوا أو كرهوا لا حيلة لهم في ذلك، وظلالهم أيضا منقادة لتدبير الله جلّ وعزّ وإجرائه الشمس بزيادة الظلّ ونقصانه وزواله بتصرّف الزمان وجري الشّمس على ما دبّره جلّ وعزّ.
[سورة الرعد (13): آية 16]
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ لاََ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاََ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ (16)}
{هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ} أي المؤمن والكافر. {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ} أي الكفر والإيمان.
[سورة الرعد (13): آية 17]
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ (17)}
{فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا} قال أهل التفسير: أي بقدر ملئها، وقيل: ما قدّر لها.
{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً} تم الكلام ثم قال جلّ وعزّ {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ} رفع بالابتداء عند البصريين، وقال الكسائي: ارتفع لأن معناه مما توقدون عليه في النار زبد، قال: وهو الغثاء. وقد غثى يغثي غثيا وغثيانا وهو ما لا ينتفع به مثله أي مثل زبد البحر. {كَذََلِكَ} في موضع نصب، {فَأَمَّا الزَّبَدُ} أي من هذه الأشياء. {فَيَذْهَبُ جُفََاءً} على الحال من قولهم: انجفأت القدر إذا رمت بزبدها، وهو الغثاء أيضا.(2/222)
[سورة الرعد (13): آية 18]
{لِلَّذِينَ اسْتَجََابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ََ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولََئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسََابِ وَمَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهََادُ (18)}
{لِلَّذِينَ اسْتَجََابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ََ} في موضع رفع يجوز أن يكون التقدير جزاء الحسنى، وقيل: هو اسم للجنة. أولئك لهم سوء الحساب والمناقشة والتوبيخ وإحباط الحسنات بالسيئات.
[سورة الرعد (13): الآيات 19الى 20]
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ََ إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَلاََ يَنْقُضُونَ الْمِيثََاقَ (20)}
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ} في موضع رفع على البدل من قوله جلّ وعزّ {إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ}
[سورة الرعد (13): آية 21]
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخََافُونَ سُوءَ الْحِسََابِ (21)}
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يصلون أرحامهم ومن أمر الله جلّ وعزّ بإكرامه وإجلاله من أهل الطاعة.
[سورة الرعد (13): آية 22]
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغََاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقََامُوا الصَّلاََةَ وَأَنْفَقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلاََنِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولََئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدََّارِ (22)}
{وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون، إذا همّوا بالسّيئة فكّروا فارتدعوا ودفعوها بالاستغفار والإقلاع. وهذا حسن من الفعل، وينهون أيضا عن المنكر بالموعظة أو بالغلظة فهذا كلّه حسن. {أُولََئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدََّارِ}
[سورة الرعد (13): الآيات 23الى 24]
{جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبََائِهِمْ وَأَزْوََاجِهِمْ وَذُرِّيََّاتِهِمْ وَالْمَلاََئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ (23) سَلاََمٌ عَلَيْكُمْ بِمََا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدََّارِ (24)}
{جَنََّاتُ عَدْنٍ} بدل من عقبى. {يَدْخُلُونَهََا وَمَنْ صَلَحَ} وهذا من مشكل النحو لأن أكثر النحويين يقولون: ضربته وزيد قبيح حتى يؤكد المضمر، فتكلّم النحويون في هذا حتى قال جماعة منهم: قمت وزيد، جيد بألف لأن هذا ليس بمنزلة المجرور لأن المجرور لا ينفصل بحال، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن الأجود: قمت وزيدا بمعنى معا إلّا أن يطول الكلام فتقول: قمت في الدار وزيد، وضربتك أمس وزيد وإن شئت نصبت. وإنما ينظر في هذا إلى ما كان منفصلا فيشبّه بالتوكيد. قال أبو جعفر: يجوز عندي والله أعلم أن يكون «من» في موضع رفع ويكون التقدير أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم لهم عقبى الدار.
{وَالْمَلََائِكَةُ} ابتداء. {يَدْخُلُونَ} في موضع الخبر، والتقدير: يقولون: {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ}.(2/223)
[سورة الرعد (13): آية 27]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاََ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنََابَ (27)}
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} هذا أيضا على التعنّت بعد أن رأوا الآيات.
[سورة الرعد (13): آية 28]
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللََّهِ أَلاََ بِذِكْرِ اللََّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
{الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب على البدل من (من). {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللََّهِ} أي بوعده. {أَلََا} تنبيه. {بِذِكْرِ اللََّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي قلوبهم.
[سورة الرعد (13): آية 29]
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ طُوبى ََ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}
{الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع رفع بالابتداء وخبره {طُوبى ََ لَهُمْ} ويجوز أن يكون {الَّذِينَ} في موضع نصب بدلا من «من» وبمعنى أعني، ويجوز أن يكون {طُوبى ََ} في موضع نصب بمعنى جعل الله لهم طوبى.
[سورة الرعد (13): آية 20]
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَلاََ يَنْقُضُونَ الْمِيثََاقَ (20)}
{كَذََلِكَ أَرْسَلْنََاكَ} الكاف في موضع نصب والأمة الجماعة.
[سورة الرعد (13): آية 31]
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ََ بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ لَهَدَى النََّاسَ جَمِيعاً وَلاََ يَزََالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمََا صَنَعُوا قََارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دََارِهِمْ حَتََّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ لاََ يُخْلِفُ الْمِيعََادَ (31)}
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبََالُ} «أنّ» في موضع رفع أي لو وقع هذا وللعلماء في هذه الآية أقوال منها أن الجواب محذوف، والتقدير لكان هذا القرآن، وقيل: التقدير لما آمنوا. قال الكسائي: المعنى: وددنا أنّ قرآنا سيّرت به الجبال فهذا بغير حذف، وللفراء فيها قول حسن. قال: يكون الجواب فيما قبله أي وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال. {بَلْ لِلََّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} على الحال. {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} وفيه لغات: يقال: يائس ويقال: ييئس على فعل يفعل، ويقال يئس يئس، المستقبل على لفظ الماضي. {أَنْ لَوْ يَشََاءُ اللََّهُ} في موضع نصب.
[سورة الرعد (13): آية 33]
{أَفَمَنْ هُوَ قََائِمٌ عَلى ََ كُلِّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمََا لاََ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظََاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ (33)}
{أَفَمَنْ هُوَ قََائِمٌ عَلى ََ كُلِّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ} رفع بالابتداء، والخبر، محذوف دلّ عليه
{وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ} قال الكسائي والفراء: التقدير كشركائهم {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي سموهم بخلق خلقوه أو فعل فعلوه بقدرتهم {أَمْ بِظََاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} قيل: معناه ليس له حقيقة، وقيل: أو بظاهر من القول قد ذكر في الكتب. وقرأ يحيى ابن وثّاب {وَصُدُّوا} بكسر الصاد لأن الأصل صددوا فقلبت حركة الدال على الصاد.(2/224)
{أَفَمَنْ هُوَ قََائِمٌ عَلى ََ كُلِّ نَفْسٍ بِمََا كَسَبَتْ} رفع بالابتداء، والخبر، محذوف دلّ عليه
{وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ} قال الكسائي والفراء: التقدير كشركائهم {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي سموهم بخلق خلقوه أو فعل فعلوه بقدرتهم {أَمْ بِظََاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} قيل: معناه ليس له حقيقة، وقيل: أو بظاهر من القول قد ذكر في الكتب. وقرأ يحيى ابن وثّاب {وَصُدُّوا} بكسر الصاد لأن الأصل صددوا فقلبت حركة الدال على الصاد.
[سورة الرعد (13): آية 34]
{لَهُمْ عَذََابٌ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ وََاقٍ (34)}
{لَهُمْ عَذََابٌ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} لعنة الله جلّ وعزّ إياهم ومعاداة المؤمنين لهم.
[سورة الرعد (13): آية 35]
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ أُكُلُهََا دََائِمٌ وَظِلُّهََا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكََافِرِينَ النََّارُ (35)}
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والتقدير عنده: فيما يقصّ عليكم مثل الجنّة أو مثل الجنّة فيما نقصّ عليكم، وقال الفراء (1): الرافع له {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} والمعنى الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما يقال: حلية فلان أسمر. قال محمد بن يزيد: من قال: مثل بمعنى صفة فقد أخطأ لأنه إنما يقال:
صفة فلان أنه ظريف وأنه كريم، ويقال: مثل زيد مثل عمرو «ومثل» مأخوذ من المثال والحذو، وصفة مأخوذة من التحلية والنعت، وإنما التقدير: فيما يقصّ عليكم مثل الجنة. {أُكُلُهََا دََائِمٌ} وفيها كذا وفيها كذا. {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} ابتداء وخبر، وكذا {وَعُقْبَى الْكََافِرِينَ النََّارُ}.
[سورة الرعد (13): آية 36]
{وَالَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَفْرَحُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزََابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمََا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ وَلاََ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)}
{وَالَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ} قيل: يعني به المؤمنين والكتاب القرآن. {وَمِنَ الْأَحْزََابِ} أي الذين تحزّبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون ينكرون ما لم يوافقهم، وقيل الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى يفرحون بالقرآن لأنه مصدق بأنبيائهم وكتبهم وإن لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الرعد (13): الآيات 38الى 39]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنََا لَهُمْ أَزْوََاجاً وَذُرِّيَّةً وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ (38) يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ (39)}
{وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} أي إلا بأن يأذن له أن يسأل الآية فيعلم أنّ في ذلك صلاحا. {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتََابٌ} أي لكل أمة كتاب مكتوب وأمر مقدّر مقضيّ
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 65.(2/225)
تقف عليه الملائكة ليعلم بذلك قدرة الله جلّ وعزّ، وكذلك {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ} وقد بيّنّا معنى {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ} (1).
[سورة الرعد (13): آية 40]
{وَإِنْ مََا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمََا عَلَيْكَ الْبَلاََغُ وَعَلَيْنَا الْحِسََابُ (40)}
{وَإِنْ مََا نُرِيَنَّكَ} في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا.
[سورة الرعد (13): آية 41]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا وَاللََّهُ يَحْكُمُ لاََ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسََابِ (41)}
{نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا} جمع طرف. وقد ذكرنا قول أهل التفسير فيه، وقال عبد الله بن عبد العزيز: الطرف الكريم من كل شيء وجمعه أطراف كما قال الأعشى: [الطويل] 244 هم الطّرف النّاكي العدوّ وأنتم ... بقصوى ثلاث تأكلون الوقائصا (2)
قال: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «العلم أودية في أيّ واد أخذت منه حسرت فخذ من كلّ شيء طرفا» أي خيارا وقال الله جلّ وعزّ {نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا} أي من علمائها، والعلماء هم الخيار الكرماء، ومنه «ما يدري أيّ طرفيه أطول» (3) أي ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه أو من ناحية أمه لبلهه؟ والطّرف: الفرس الكريم، والطّارف ما استفيد.
[سورة الرعد (13): آية 42]
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلََّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مََا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفََّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدََّارِ (42)}
{فَلِلََّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} أي لله جلّ وعزّ المكر الثابت الذي يحيق بأهله. ومعنى المكر من الله جلّ وعزّ أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلم. {وَسَيَعْلَمُ الْكُفََّارُ} والكافر بمعنى واحد يؤدّي عن جمع.
[سورة الرعد (13): آية 43]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتََابِ (43)}
{قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ} في موضع رفع. {شَهِيداً} على البيان. {وَمَنْ عِنْدَهُ} في موضع خفض عطفا على اللفظ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على المعنى. {عِلْمُ الْكِتََابِ} رفع بالابتداء.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 387.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 199، ولسان العرب (طرف)، وتهذيب اللغة 13/ 321، وتاج العروس (طرف) وبلا نسبة في جمهرة اللغة 895. «الباد والعدوّ».
(3) انظر مجمع الأمثال رقم (3503).(2/226)
14 - شرح إعراب سورة إبراهيم ع
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة إبراهيم (14): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الر كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النََّاسَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى ََ صِرََاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
{الر كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزلناه إليك في موضع رفع على النعت لكتاب. {لِتُخْرِجَ النََّاسَ} لام كي، والتقدير ليخرج الناس {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} والأذن يستعمل بمعنى الأمر مجازا {إِلى ََ صِرََاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
[سورة إبراهيم (14): آية 2]
{اللََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكََافِرِينَ مِنْ عَذََابٍ شَدِيدٍ (2)}
{اللََّهِ} على البدل والرفع على الابتداء، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وكذا {وَوَيْلٌ لِلْكََافِرِينَ}.
[سورة إبراهيم (14): آية 3]
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً أُولََئِكَ فِي ضَلاََلٍ بَعِيدٍ (3)}
قال أبو إسحاق: عوجا مصدر في موضع الحال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: هو منصوب على أنه مفعول ثان وهذا مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، والتقدير ويبغون بها عوجا.
[سورة إبراهيم (14): آية 4]
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلاََّ بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} نصب بلام كي. {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ} مستأنف، وعند أكثر النحويين لا يجوز عطفه على ما قبله، ونظيره {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ} [الحج: 5] وأنشد النحويون: [الرجز] 245 يريد أن يعربه فيعجمه (1)
قال أبو إسحاق: يجوز النصب {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ} على أن يكون مثل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8] أي صار أمرهم إلى هذا.(2/227)
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} نصب بلام كي. {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ} مستأنف، وعند أكثر النحويين لا يجوز عطفه على ما قبله، ونظيره {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ} [الحج: 5] وأنشد النحويون: [الرجز] 245 يريد أن يعربه فيعجمه (1)
قال أبو إسحاق: يجوز النصب {فَيُضِلُّ اللََّهُ مَنْ يَشََاءُ} على أن يكون مثل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8] أي صار أمرهم إلى هذا.
[سورة إبراهيم (14): آية 5]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ (5)}
يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب أي بأن أخرج قومك. وهذا مذهب سيبويه كما يقال: أمرته أن قم والمعنى أمرته أن يقوم ثم حمل على المعنى كما قال: [الكامل] 246 وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا (2)
ويجوز أن تكون «أن» لا موضع لها من الإعراب مثل: أرسلت إليه أن قم، والمعنى أي قم، ومثله قوله سبحانه {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6].
[سورة إبراهيم (14): آية 6]
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسََاءَكُمْ وَفِي ذََلِكُمْ بَلاََءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}
{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ وَيُذَبِّحُونَ} في موضع آخر بغير واو، إذا كان بالواو فهو عند الفراء (3) بمعنى يعذّبونكم ويذبّحونكم فيكون التذبيح غير العذاب الأول ويجوز عند غيره أن يكون بعض الأول، وإذا كان بغير واو فهو تبيين للأول وبدل منه كما أنشد سيبويه: [الطويل] 247 متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (4)
__________
(1) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه 186، والكتاب 3/ 59، وللحطيئة في ديوانه 239، والأزهية 242، والدرر 6/ 86، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 149، والمقتضب 2/ 33، وهمع الهوامع 2/ 131، ولسان العرب (حضض).
(2) الشاهد للمهلهل بن ربيعة في المقتضب 4/ 132، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 73، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 358، وشرح المفصّل 4/ 25وعجزه:
«وتركت تغلب غير ذات سنام»
(3) انظر معاني الفراء 2/ 68.
(4) الشاهد لعبيد بن الحرّ في خزانة الأدب 9/ 90، والدرر 6/ 69، وشرح أبيات سيبويه 2/ 66، وسرّ صناعة الإعراب ص 678، وشرح المفصّل 7/ 53، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 100، ورصف المباني ص 32، وشرح الأشموني 440، وشرح المفصّل 10/ 20، ولسان العرب (نور) والمقتضب 2/ 63، وهمع الهوامع 2/ 128.(2/228)
[سورة إبراهيم (14): آية 8]
{وَقََالَ مُوسى ََ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللََّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}
{فَإِنَّ اللََّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} كسرت إنّ لأن ما بعد الفاء في المجازاة مستأنف واللام للتوكيد.
[سورة إبراهيم (14): آية 9]
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعََادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاََ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللََّهُ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوََاهِهِمْ وَقََالُوا إِنََّا كَفَرْنََا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنََّا لَفِي شَكٍّ مِمََّا تَدْعُونَنََا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعََادٍ وَثَمُودَ} على البدل ولم يخفض ثمود لأنه جعل اسما للقبيلة، ويجوز خفضه يجعل اسما للحيّ. {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} في موضع خفض معطوف. {لََا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللََّهُ} رفع بالفعل. {جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ}.
وإن شئت حذفت الضمّة من السين لثقلها. {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوََاهِهِمْ} فإذا أفردت قلت: فم والأصل فجمع على أصله مثل حوض وأحواض.
[سورة إبراهيم (14): آية 11]
{قََالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاََّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلََكِنَّ اللََّهَ يَمُنُّ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَمََا كََانَ لَنََا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطََانٍ إِلاََّ بِإِذْنِ اللََّهِ وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
{وَمََا كََانَ لَنََا أَنْ نَأْتِيَكُمْ} في موضع رفع بكان.
[سورة إبراهيم (14): آية 12]
{وَمََا لَنََا أَلاََّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ََ مََا آذَيْتُمُونََا وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}
{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ََ مََا آذَيْتُمُونََا} واللازم أذي يأذى أذى.
[سورة إبراهيم (14): آية 14]
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذََلِكَ لِمَنْ خََافَ مَقََامِي وَخََافَ وَعِيدِ (14)}
{ذََلِكَ لِمَنْ خََافَ مَقََامِي وَخََافَ وَعِيدِ} ومن أمال أراد أن يدلّ على أنه من خفت.
[سورة إبراهيم (14): آية 15]
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخََابَ كُلُّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ (15)}
{وَخََابَ كُلُّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ} ويجوز رفع عنيد نعتا لكلّ.
[سورة إبراهيم (14): آية 17]
{يَتَجَرَّعُهُ وَلاََ يَكََادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكََانٍ وَمََا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرََائِهِ عَذََابٌ غَلِيظٌ (17)}
{يَتَجَرَّعُهُ} أي تكرهه الملائكة على ذلك ليعذّب به. {وَلََا يَكََادُ يُسِيغُهُ} أي ينزل من حلقه. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكََانٍ} أي يأتيه ما يمات منه من كلّ مكان من جسده. {وَمِنْ وَرََائِهِ عَذََابٌ غَلِيظٌ} قيل: من وراء ما يعذّب به عذاب آخر غليظ.(2/229)
[سورة إبراهيم (14): آية 18]
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمََالُهُمْ كَرَمََادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عََاصِفٍ لاََ يَقْدِرُونَ مِمََّا كَسَبُوا عَلى ََ شَيْءٍ ذََلِكَ هُوَ الضَّلاََلُ الْبَعِيدُ (18)}
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} التقدير عند سيبويه (1) والأخفش: وفيما يقصّ عليكم، وقال الكسائي: إنما مثل أعمال الذين كفروا كرماد، وقال غيره {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} مبتدأ. {أَعْمََالُهُمْ} بدل منه، والتقدير: مثل أعمالهم، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا كما حكي صفة فلان أنّه أحمر. قال الفراء (2) ولو قرأ قارئ بالخفض أعمالهم جاز، وأنشد: [الرجز] 248 ما للكمال مشيها وئيدا (3)
{فِي يَوْمٍ عََاصِفٍ} على النسب عند البصريين بمعنى ذي عاصف، وأجاز الفراء أن يكون بمعنى في يوم عاصف الريح، وأجاز أيضا أن يكون عاصف للريح خاصّة ثم يتبعه يوما، قال: وحكى نحويون: هذا جحر ضبّ خرب (4). قال أبو جعفر: هذا مما لا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ عليه، وقد ذكر سيبويه أن هذا من العرب غلط واستدلّ بأنهم إذا ثنّوا قالوا: هذان جحرا ضبّ خربان لأنه قد استبان بالتثنية والتوحيد، ونظير هذا الغلط قول النابغة (5): [الكامل] 249 أمن آل ميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد
زعم البوارح أنّ رحلتنا غد ... وبذاك خبّرنا الغراب الأسود
فلا يجوز مثل هذا في كلام ولا لشاعر نعرفه فكيف يجوز في كتاب الله جلّ وعزّ ثم أنشد الفراء بيتا: [البسيط] 250 يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ... أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب (6)
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 196.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 73.
(3) الرجز للزبّاء في لسان العرب (وأد)، و (صرف) و (زهق)، وأدب الكاتب ص 200، والأغاني 15/ 256، وأوضح المسالك 2/ 86، وجمهرة اللغة ص 742، وخزانة الأدب 7/ 295، والدرر 2/ 281، وشرح الأشموني 1/ 169، وشرح التصريح 1/ 271، وشرح شواهد المغني 2/ 912، ومغني اللبيب رقم (817)، وللزباء أو للخنساء في المقاصد النحوية 2/ 448، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 159، ومقاييس اللغة 6/ 78، وكتاب العين 7/ 116، وأساس البلاغة (وأد)، وبعده:
«أجندلا يحملن أم صديدا»
(4) انظر الكتاب 1/ 113.
(5) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 89، والبيت الأول في الأزهيّة 119، وخزانة الأدب 2/ 133، والخصائص 1/ 340.
(6) الشاهد لأبي الغريب النصري في خزانة الأدب 5/ 90، والدرر 5/ 60، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 11، وتذكرة النحاة ص 537، وشرح شواهد المغني ص 962، وشرح شذور الذهب ص 428، ولسان العرب (زوج)، ومغني اللبيب ص 683، وهمع الهوامع 2/ 55.(2/230)
وزعم أن أبا الجراح أنشده إياه بخفض «كلّهم»، وهذا مما لا يعرج عليه لأن النصب لا يفسد الشعر، ومن قرأ «في يوم عاصف» بغير تنوين أقام الصفة مقام الموصوف أي في يوم ريح عاصف.
[سورة إبراهيم (14): آية 21]
{وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً فَقََالَ الضُّعَفََاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنََّا كُنََّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنََّا مِنْ عَذََابِ اللََّهِ مِنْ شَيْءٍ قََالُوا لَوْ هَدََانَا اللََّهُ لَهَدَيْنََاكُمْ سَوََاءٌ عَلَيْنََا أَجَزِعْنََا أَمْ صَبَرْنََا مََا لَنََا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
{وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعاً} أي من قبورهم ونصب {جَمِيعاً} على الحال. {تَبَعاً} بمعنى ذي تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع. قال علي بن سليمان التقدير سواء علينا جزعنا وصبرنا.
[سورة إبراهيم (14): آية 22]
{وَقََالَ الشَّيْطََانُ لَمََّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمََا كََانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلاََّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاََ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مََا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمََا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمََا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظََّالِمِينَ لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (22)}
{إِلََّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} في موضع نصب استثناء ليس من الأول. {وَمََا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بفتح الياء لأن ياء النفس فيها لغتان: الفتح والتسكين إذا لم يكن قبلها ساكن فإذا كان قبلها ساكن فالفتح لا غير، ويجب على من كسرها أن يقرأ {هِيَ عَصََايَ} [طه: 18] بكسر الياء، وقد قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي} (1) بكسر الياء قال الأخفش سعيد: ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويين، وقال الفراء:
لعلّ الذي قرأ بهذا ظنّ أن الباء تخفض الكلمة كلّها. قال أبو جعفر: فقد صار هذا بإجماع لا يجوز وإن كان الفراء قد نقض هذا وأنشد: [الرجز] 251 قال لها هل لك يا تافيّ ... قالت له ما أنت بالمرضيّ (2)
ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على الشّذوذ. ومعنى {بِمََا أَشْرَكْتُمُونِ} من قبل أنه قد كان مشركا قبلهم، وقيل: من قبل الأمر.
[سورة إبراهيم (14): آية 26]
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مََا لَهََا مِنْ قَرََارٍ (26)}
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} ابتداء وخبر، وأجاز الكسائي والفراء: ومثل
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 408، ومعاني القرآن 2/ 75.
(2) الشاهد للأغلب العجلي في الخزانة 2/ 257، وبلا نسبة في معاني القرآن 2/ 76، والبحر المحيط 5/ 409، والمحتسب 2/ 49.(2/231)
كلمة خبيثة على النسق وحكيا أن في قراءة أبيّ وضرب مثل كلمة خبيثة (1).
[سورة إبراهيم (14): آية 28]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللََّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دََارَ الْبَوََارِ (28)}
{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دََارَ الْبَوََارِ} مفعولان.
[سورة إبراهيم (14): آية 29]
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهََا وَبِئْسَ الْقَرََارُ (29)}
{جَهَنَّمَ} منصوب على البدل من دار، ولم تنصرف لأنها مؤنّثة معرفة مشتقّة من قولهم: ركيّة جهنّام (2) إذا كانت مقعّرة.
[سورة إبراهيم (14): آية 30]
{وَجَعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النََّارِ (30)}
{وَجَعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} نصب بلام كي وبعضهم يسميها لام العاقبة.
والمعنى أنه لما آل أمرهم إلى هذا كانوا بمنزلة من فعل ذلك ليكون هذا.
[سورة إبراهيم (14): آية 31]
{قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُنْفِقُوا مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ سِرًّا وَعَلاََنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاََ بَيْعٌ فِيهِ وَلاََ خِلاََلٌ (31)}
{قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلََاةَ} في {يُقِيمُوا} للنحويين أقوال: قال الفراء:
تأويله الأمر. قال أبو إسحاق بمثل هذا قال المعنى ليقيموا الصلاة ثم حذفت اللام لأنه قد تقدم الأمر قال: ويجوز أن يكون مبنيا لأن اللام حذفت وبني لأنه بمعنى الأمر. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثنا محمد بن يزيد عن المازني قال:
التقدير: قل للذين آمنوا أقيموا الصلاة يقيموا، وهذا قول حسن لأن المؤمنين إذا أمروا بشيء قبلوا فهو جواب الأمر. {وَيُنْفِقُوا} عطف عليه. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا بَيْعٌ فِيهِ وَلََا خِلََالٌ} جعلت «لا» بمعنى ليس، وإن شئت رفعت ما بعدها بالابتداء، ويجوز رفع الأول ونصب الثاني بغير تنوين وبتنوين، ويجوز نصب الأول بغير تنوين ورفع الثاني بتنوين ونصبه بتنوين. قال الأخفش: خلال جمع خلّة وقال أبو عبيد: هو مصدر مثل القتال، وأنشد: [الطويل] 252 ولست بمقليّ الخلال ولا قال (3)
[سورة إبراهيم (14): آية 33]
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دََائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ (33)}
{دََائِبَيْنِ} على الحال أي دائبين فيما يؤدّي إلى صلاح الناس.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 410.
(2) جهنام: بعيدة القعر.
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 35، ولسان العرب (خلل)، وتهذيب اللغة 6/ 567، وصدره:
«صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى»(2/232)
[سورة إبراهيم (14): آية 34]
{وَآتََاكُمْ مِنْ كُلِّ مََا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللََّهِ لاََ تُحْصُوهََا إِنَّ الْإِنْسََانَ لَظَلُومٌ كَفََّارٌ (34)}
{وَآتََاكُمْ مِنْ كُلِّ مََا سَأَلْتُمُوهُ} في معناه أقوال فمذهب الفراء من كل سؤالكم، كما تقول: أنا أعطيته سؤاله وإن لم يسأل شيئا أي ما لم يسأل لسأله، وقال الأخفش:
وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا، {أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] أي من كلّ شيء في زمانها شيئا. قال: ويكون على التكثير، وحكى سيبويه: ما بقي منهم مخبّر، وذلك معروف في كلام العرب، وفيه قول رابع وهو أنّ الناس قد سألوا على تفرّق أحوالهم الأشياء فخوطبوا على ذلك.
[سورة إبراهيم (14): آية 35]
{وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنََامَ (35)}
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} مفعولان. {وَاجْنُبْنِي} ويقال على التكثير: جنّبني، ويقال: أجنبني. {أَنْ نَعْبُدَ} في موضع نصب والمعنى من أن نعبد الأصنام.
[سورة إبراهيم (14): آية 36]
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصََانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}
{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي من أهل ديني ومن أصحابي، {وَمَنْ عَصََانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي له إن تاب.
[سورة إبراهيم (14): آية 37]
{رَبَّنََا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوََادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنََا لِيُقِيمُوا الصَّلاََةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النََّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرََاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
{رَبَّنََا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوََادٍ} وحذف المفعول لأن «من» تدلّ عليه وكذا {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلََاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}.
[سورة إبراهيم (14): آية 42]
{وَلاََ تَحْسَبَنَّ اللََّهَ غََافِلاً عَمََّا يَعْمَلُ الظََّالِمُونَ إِنَّمََا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصََارُ (42)}
{وَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ غََافِلًا} مفعولان.
[سورة إبراهيم (14): آية 43]
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاََ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوََاءٌ (43)}
وقال أبو إسحاق {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} نصب على الحال. والمعنى ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين أي مسرعين {لََا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} رفع بيرتد. {وَأَفْئِدَتُهُمْ} مبتدأ. {هَوََاءٌ} خبره.
[سورة إبراهيم (14): آية 44]
{وَأَنْذِرِ النََّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذََابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنََا أَخِّرْنََا إِلى ََ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مََا لَكُمْ مِنْ زَوََالٍ (44)}
{وَأَنْذِرِ النََّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذََابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليس لجواب الأمر ولكنه معطوف
على يأتيهم أو مستأنف. وقد أشكل هذا على بعض النحويين حتّى قال: لا ينصب جواب الأمر بالفاء، وهذا خلاف ما قال الخليل رحمه الله وسيبويه، وقد أنشد النحويون: [الرجز] 253 يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا (1)
وإنّما امتنع النصب في الآية لأن المعنى ليس عليه {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مََا لَكُمْ مِنْ زَوََالٍ} أي من زوال عمّا أنتم عليه من الأمهال إلى الانتقام والمجازاة.(2/233)
{وَأَنْذِرِ النََّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذََابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ليس لجواب الأمر ولكنه معطوف
على يأتيهم أو مستأنف. وقد أشكل هذا على بعض النحويين حتّى قال: لا ينصب جواب الأمر بالفاء، وهذا خلاف ما قال الخليل رحمه الله وسيبويه، وقد أنشد النحويون: [الرجز] 253 يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا (1)
وإنّما امتنع النصب في الآية لأن المعنى ليس عليه {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مََا لَكُمْ مِنْ زَوََالٍ} أي من زوال عمّا أنتم عليه من الأمهال إلى الانتقام والمجازاة.
[سورة إبراهيم (14): آية 46]
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللََّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ (46)}
{وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} «إن» بمعنى «ما» وهذا يروى عن الحسن كذا، وأنّ مثله {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، وكذا {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} [الزخرف: 81] وقد قيل في هاتين الآيتين غير ما قال وذلك في مواضعهما، وقرأ مجاهد وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال (2) بفتح اللام ورفع الفعل، وبه قرأ الكسائي، وكان محمد بن يزيد فيما حكي عنه يختار فيه قول قتادة. قال: هذا لكفرهم مثل قوله جلّ وعزّ: {تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]. قال أبو جعفر:
وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن هذا جاء على كلام العرب لأنهم يقولون: لو أنك بلغت كذا ما وصلت إلى شيء وإن كان لا تبلغه وكذا في «إن»، وأنشد سيبويه: [الطويل] 254 لئن كنت في جبّ ثمانين قامة ... ورقّيت أسباب السّماء بسلّم (3)
وروي عن عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم أنهم قرءوا وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال (4)، بالدال ورفع الفعل. والمعنى في هذا بين وإنما هو تفسير وليس بقراءة.
[سورة إبراهيم (14): آية 47]
{فَلاََ تَحْسَبَنَّ اللََّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقََامٍ (47)}
{فَلََا تَحْسَبَنَّ اللََّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} مجاز كما يقال: معطي درهم زيدا، وأنشد سيبويه: [الطويل] 255 ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه ... وسائره باد إلى الشّمس أجمع (5)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (202).
(2) انظر معاني الفراء 2/ 79، والبحر المحيط 5/ 426، ورويت هذه القراءة عن الإمام علي.
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 173، وشرح المفصّل 2/ 74، ولسان العرب (سبب) و (ثمن) و (رقا).
(4) انظر مختصر ابن خالويه 69، والبحر المحيط 5/ 425، وهي قراءة علي وعمر وعبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيّ وأبي إسحاق السبيعي وزيد بن علي.
(5) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 240، وأمالي المرتضى 1/ 216، وخزانة الأدب 4/ 235، والدرر 6/ 37، وهمع الهوامع 2/ 123.(2/234)
[سورة إبراهيم (14): آية 48]
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ وَبَرَزُوا لِلََّهِ الْوََاحِدِ الْقَهََّارِ (48)}
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} اسم ما لم يسمّ فاعله {غَيْرَ الْأَرْضِ} خبره. وفي معناه قولان: أحدهما أنها تبدّل أرضا غير هذه وفي هذا أحاديث، والقول الآخر أنّ تبديلها إذهاب جبالها وجعلها قاعا صفصفا، وتبديل السماء انفطارها وانتثار كواكبها وتكوير شمسها، كما يقال: بدّلت خاتمي أي غيّرته عمّا كان عليه.
[سورة إبراهيم (14): آية 49]
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفََادِ (49)}
{مُقَرَّنِينَ} نصب على الحال، {مُقَرَّنِينَ} معطوفة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم بالسّلاسل والأغلال. والقرن بفتح الراء الحبل الذي يجمع به بين الشيئين. قال جرير:
[البسيط] 256 وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن (1)
[سورة إبراهيم (14): آية 52]
{هََذََا بَلاََغٌ لِلنََّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ (52)}
{هََذََا بَلََاغٌ لِلنََّاسِ} ابتداء وخبر أي هذا الوعظ قد بلغ لهم إن اتّعظوا {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} لام كي، والفعل محذوف لعلم السامع. {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} عطف عليه.
__________
(1) الشاهد لجرير في ديوانه 128، والكتاب 2/ 93، وجمهرة اللغة 130، وشرح أبيات سيبويه 1/ 459، وشرح شواهد المغني 1/ 167، وكتاب الصناعتين 24، ولسان العرب (لزز) و (قعس) و (قنعس)، و (لين)، والمقتضى 4/ 46، وبلا نسبة في الردّ على النحاة 74، وشرح المفصّل 1/ 35.(2/235)
15 - شرح إعراب سورة الحجر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحجر (15): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)}
{الر تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ} التقدير هذا تلك آيات الكتاب.
[سورة الحجر (15): آية 2]
{رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
{رُبَمََا} فيه ثمانية أوجه: قرأ الأعمش وحمزة والكسائي {رُبَمََا} (1) مثقلة، وقرأ أهل المدينة وعاصم {رُبَمََا} (2) مخفّفة. والأصل الثقيل، والعرب تخفف المثقّل ولا تثقل المخفف. وقال سيبويه (3): لو سميت رجلا رب مخفّفة ثم صغرته رددته إلى أصله فقلت: ربيب. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ «ربما» مخفّفة ومثقلة. قال: التخفيف لغة أهل الحجاز والثقيل لغة تميم وقيس وبكر. وحكى أبو زيد أنه يقال: ربّتما وربّتما، وهذا على تأنيث الكلمة. فهذه أربع لغات وحكى أبو حاتم: ربما وربّما وربتما وربتما. ولا موضع لها من الإعراب عند أكثر النحويين لأنها كافة جيء بها لأن ربّ لا يليها الفعل، فلما جئت بما وليها الفعل عند سيبويه لا غير إلّا في الشعر فإنه يليها الابتداء والخبر، وأنشد: [الطويل] 257 صددت فأطولت الصّدود وقلّما ... وصال على طول الصّدود يدوم (4)
__________
(1) انظر تيسير الداني 110.
(2) انظر تيسير الداني 110.
(3) انظر الكتاب 3/ 502قال (ولو حقرت «ربّ» مخفّفة لقلت ربيب).
(4) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 502، والكتاب 1/ 62، وللمرار الفقعسي في ديوانه 480، والأزهيّة 91، وخزانة الأدب 10/ 226، والدرر 5/ 190، وشرح أبيات سيبويه 1/ 105، وشرح شواهد المغني 2/ 717، ومغني اللبيب 1/ 307، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 145، والخصائص 1/ 143، والدرر 6/ 321، وشرح المفصّل 7/ 116، ولسان العرب (طول) و (قلل)، والمحتسب 1/ 96، والمقتضب 1/ 84، والممتع في التصريف 2/ 482، وهمع الهوامع 2/ 83.(2/236)
والجيد قوله:
258 - وطال ما وطال ما وطالما ... سقى بكفّ خالد وأطعما (1)
والذي حكيناه قول الخليل وسيبويه، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أن هذا جائز في الكلام والشعر كما أن إنما يكون بعدها الفعل والابتداء والخبر، وسمعت محمد بن الوليد يقول: ليس في حروف الخفض نظير لربّ لأن سبيل حروف الخفض أن يضاف بها قبلها إلى ما بعدها وسبيل ربّ أن يضاف ما بعده من الفعل إلى ما قبله، وزعم الأخفش أنه يجوز أن تكون «ما» في موضع خفض على أنها نكرة أي ربّ شيء أو ربّ ودّ. يقال: وددت أنّ ذلك كان، إذا تمنيته ودّا لا غير، ووددت الرجل، إذا أحببته ودّا، بضم الواو ومودّة وودادة وودادا.
[سورة الحجر (15): آية 3]
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}
{ذَرْهُمْ} في موضع أمر فيه معنى التهديد، ولا يقال: وذر ولا واذر، والعلة فيه عند سيبويه أنهم استغنوا عنه بترك، وعند غيره ثقل الواو فلما وجدوا عنها مندوحة تركوها، {يَأْكُلُوا} جواب الأمر {وَيَتَمَتَّعُوا} عطف عليه.
[سورة الحجر (15): آية 4]
{وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاََّ وَلَهََا كِتََابٌ مَعْلُومٌ (4)}
في موضع الحال، وفي غير القرآن يجوز حذف الواو. ودلّ بهذا على أن كل مهلك ومقتول فبأجله.
[سورة الحجر (15): آية 8]
{مََا نُنَزِّلُ الْمَلاََئِكَةَ إِلاََّ بِالْحَقِّ وَمََا كََانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)}
{مََا نُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ إِلََّا بِالْحَقِّ} (2) الأصل تتنزّل فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.
[سورة الحجر (15): آية 9]
{إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ (9)}
والأصل في {إِنََّا} إنّنا {نَحْنُ} في موضع نصب على التوكيد بإنّ ويجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء، ويجوز أن تكون لا موضع لها تكون فاصلة. {وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} اللام الأولى لام خفض والثانية لام توكيد ولم يحتج إلى فرق في المضمر لاختلاف العلامة.
[سورة الحجر (15): آية 12]
{كَذََلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)}
{كَذََلِكَ نَسْلُكُهُ} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، وقد تكلّم الناس في
__________
(1) ورد صدر الشاهد فقط في مجالس ثعلب 326.
(2) انظر تيسير الداني 110.(2/237)
المضمر هاهنا فقيل: هو كناية عن التكذيب، وقيل: عن الذكر، وقيل: هو مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي عقوبته.
[سورة الحجر (15): الآيات 14الى 15]
{وَلَوْ فَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقََالُوا إِنَّمََا سُكِّرَتْ أَبْصََارُنََا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
{وَلَوْ فَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بََاباً مِنَ السَّمََاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} (14) ولغة هذيل يعرجون، وفي المضمر قولان: أحدهما أن التقدير: فظل الملائكة، والآخر أن التقدير: ولو فتحنا على هؤلاء الكفار المعاندين بابا من السماء فأدخلناهم فيه ليعرجوا إلى السماء فيكون ذلك آية لتصديقك لدفعوا العيان، وقالوا إنما سكّرت أبصارنا وسحرنا حتى رأينا الشيء على غير ما هو عليه، ويقال: سكر وسكّر على التكثير أي غطّي على عقله، ومنه قيل:
سكران، وهو مشتق من السّكر.
[سورة الحجر (15): الآيات 17الى 18]
{وَحَفِظْنََاهََا مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاََّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهََابٌ مُبِينٌ (18)}
{وَحَفِظْنََاهََا مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ رَجِيمٍ إِلََّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}.
{مِنْ} في موضع نصب. قال الأخفش: استثناء خارج، وقال أبو إسحاق: يجوز أن تكون «من» في موضع خفض، ويكون التقدير إلا ممّن استرق السمع.
[سورة الحجر (15): آية 19]
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا} على إضمار فعل.
[سورة الحجر (15): آية 20]
{وَجَعَلْنََا لَكُمْ فِيهََا مَعََايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرََازِقِينَ (20)}
قال الفراء (1): «من» في موضع نصب والمعنى وجعلنا لكم فيها المعايش والإماء والعبيد. قال: ويجوز أن يكون «من» في موضع خفض أي ولمن لستم له برازقين، والقول الثاني عند البصريين لحن لأنه عطف ظاهرا على مكنيّ مخفوض، ولأبي إسحاق فيه قول ثالث حسن غريب قال «من» معطوفة على تأويل لكم، والمعنى:
أعشناكم أي رزقناكم ورزقنا من لستم له برازقين.
[سورة الحجر (15): آية 21]
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاََّ عِنْدَنََا خَزََائِنُهُ وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلاََّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا عِنْدَنََا خَزََائِنُهُ} أي نحن مالكون له وقادرون عليه، وقيل: يعني به المطر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 86.(2/238)
[سورة الحجر (15): آية 22]
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ فَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَسْقَيْنََاكُمُوهُ وَمََا أَنْتُمْ لَهُ بِخََازِنِينَ (22)}
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيََاحَ لَوََاقِحَ} قد ذكرناه، وقرأ طلحة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وأرسلنا الريح لواقح (1) وهذا عند أبي حاتم لحن لأن الريح واحدة فلا تنعت بجمع.
قال أبو حاتم: يقبح أن يقال: الريح لواقح. قال وأما قولهم: اليمين الفاجرة تدع الدار بلاقع. فإنّما يعنون بالدّار البلد كما قال عزّ وتعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ} *
[الأعراف: 78]. وقال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو حاتم في قبح هذا غلط بيّن، وقد قال الله جلّ وعزّ: {وَالْمَلَكُ عَلى ََ أَرْجََائِهََا} [الحاقة: 17] يعني الملائكة لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، وكذا الريح بمعنى الرياح، وقال سيبويه: وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وحكى الفراء في مثل هذا جاءت الريح من كلّ مكان يعني الرياح.
[سورة الحجر (15): آية 25]
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
{إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} حكيم في تدبيره عليم به.
[سورة الحجر (15): آية 26]
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)}
قد ذكرناه (2). ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس رحمه الله قال: «مسنون» على الطريق، وتقديره على سنن الطريق وسننها، وسننها، وإذا كان كذلك أنتن وتغيّر لأنه ماء منفرد.
[سورة الحجر (15): آية 27]
{وَالْجَانَّ خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نََارِ السَّمُومِ (27)}
وروي عن الحسن أنه قرأ والجانّ خلقنه (3) بالهمز كأنه كره اجتماع الساكنين.
والأجود بغير همز ولا ينكر اجتماع ساكنين إذا كان الأول حرف مد ولين والثاني مدغما. {وَالْجَانَّ} نصب بإضمار فعل.
[سورة الحجر (15): آية 29]
{فَإِذََا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سََاجِدِينَ (29)}
فقوله {سََاجِدِينَ} نصب على الحال.
[سورة الحجر (15): آية 30]
{فَسَجَدَ الْمَلاََئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}
مذهب الخليل وسيبويه (4) أنه توكيد بعد توكيد، وقال محمد بن يزيد: أجمعون يفيد أنهم غير متفرّقين. قال أبو إسحاق: هذا خطأ ولو كان كما قال لكان نصبا على الحال.
__________
(1) انظر تيسير الداني 110.
(2) انظر معانيه في البحر المحيط 5/ 440.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 71، والبحر المحيط 5/ 440.
(4) انظر الكتاب 2/ 407.(2/239)
[سورة الحجر (15): آية 31]
{إِلاََّ إِبْلِيسَ أَبى ََ أَنْ يَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ (31)}
{إِلََّا إِبْلِيسَ} قال أبو إسحاق: استثناء ليس من الأول يذهب إلى قول من قال: إن إبليس ليس من الملائكة ولا كان منهم. وهذا قول صحيح يدلّ عليه أن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه خلق الجانّ من نار والملائكة لم تخلق من نار.
[سورة الحجر (15): آية 32]
{قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا لَكَ أَلاََّ تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ (32)}
{مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ} في موضع نصب.
[سورة الحجر (15): الآيات 37الى 38]
{قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
ليس إجابة له إلى ما سأل وإنما هو على التهاون به إذ كان لا يصل إلى ضلال أحد إلّا من لا يفلح لو لم يوسوسه.
[سورة الحجر (15): آية 39]
{قََالَ رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}
{قََالَ رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي} فيه أقوال: فمن أحسنها أن المعنى: بما خيّبتني من الجنة يقال: غوى إذا خاب وأغواه خيّبه ومنه: [الطويل] 259 ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (1)
[سورة الحجر (15): آية 40]
{إِلاََّ عِبََادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}
{إِلََّا عِبََادَكَ} نصب على الاستثناء.
[سورة الحجر (15): آية 41]
{قََالَ هََذََا صِرََاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)}
{قََالَ هََذََا صِرََاطٌ}. مبتدأ وخبر {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} من نعته. قال زياد بن أبي مريم:
«عليّ» هي إليّ يذهب إلى أن المعنى واحد. قيل: فيه معنى التهديد أي إليّ مرجعه وعلى طريقه، وقيل: على بيانه أي ضمان ذلك.
[سورة الحجر (15): آية 42]
{إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ إِلاََّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغََاوِينَ (42)}
{إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ} الأصل في ليس عند سيبويه ليس قال سيبويه (2):
وأما (ليس) فمسكّنة من نحو صيد كما قالوا: علم ذاك. قال أبو جعفر: كان يجب على أصول العربية أن يقال: لاس لتحرّك الياء وتحرّك ما قبلها. قال سيبويه (3): فجعلوا إعلاله إزالة الحركة لأنه لا يقال منه: يفعل ولا فاعل ولا مصدر ولا اشتقاق، وكثر في كلامهم
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 56.
(2) انظر الكتاب 4/ 486.
(3) انظر الكتاب 4/ 486.(2/240)
فلم يجعلوه كأخواته. يعني ما يعمل عمله. قال: فجعلوه كليت. قال أبو إسحاق: ولم يتصرّف ليس لأنه ينفى بها المستقبل والحال والماضي فلم يحتجّ فيها إلى تصرّف. قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: لمّا ضارعت «ما» منعت من التصريف.
[سورة الحجر (15): آية 47]
{وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ (47)}
{وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} قال الكسائي: غلّ يغلّ من الشحناء، وغلّ يغلّ من الغلول، وأغلّ يغلّ من الخيانة، وقال غيره: معنى {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أزلنا عنهم الجهل والغضب وشهوة ما لا ينبغي حتى زال التحاسد. {إِخْوََاناً} على الحال.
[سورة الحجر (15): آية 51]
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرََاهِيمَ (51)}
والتقدير: عن أصحاب ضيف إبراهيم ولهذا لم يكثّر ضيوف.
[سورة الحجر (15): آية 53]
{قََالُوا لاََ تَوْجَلْ إِنََّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاََمٍ عَلِيمٍ (53)}
{قََالُوا لََا تَوْجَلْ} ومن قال تأجل أبدل من الواو ألفا لأنها أخفّ، ومن قال: تيجل أبدل منها ياء لأنها أخفّ من الواو، ولغة بني تميم تيجل ليدلّوا على أنه من فعل، ويقال: فلان ييجل، بكسر الياء، وهذا شاذّ لأن الكسرة في الياء مستقلة ولكن فعل هذا لتنقلب الواو ياء.
[سورة الحجر (15): آية 54]
{قََالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى ََ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)}
{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} قراءة أكثر الناس، وقرأ نافع بكسر النون، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله أنه قال: كسر النون لحن، يذهب إلى أنه لا يقال: أنتم تقوموا فيحذف نون الإعراب. قال أبو جعفر: قد أجاز سيبويه (1) والخليل مثل هذا. قال سيبويه: وقرأ بعض الموثوق بهم {قََالَ أَتُحََاجُّونِّي} [الأنعام: 80] و {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} وهي قراءة أهل المدينة (2)، والأصل عند سيبويه: فبم تبشّرون بإدغام النون في النون ثم استثقل الإدغام فحذف إحدى النونين ولم يحذف نون الإعراب كما تأول أبو عمرو وإنما حذف النون الزائدة. وأنشد سيبويه: [الوافر] 260 تراه كالثّغام يعلّ مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني (3)
وقال الآخر: [الوافر] 261 أبالموت الّذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني (4)
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 3.
(2) انظر تيسير الداني 111.
(3) مرّ الشاهد رقم (134).
(4) الشاهد لأبي حيّة النميري في ديوانه 177، وخزانة الأدب 4/ 100، والدرر 2/ 219، وشرح شواهد الإيضاح 211، ولسان العرب (خعل) و (أبي)، و (فلا)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 132، والخصائص 1/ 345، وشرح التصريح 2/ 26، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 501، وشرح شذور الذهب 424، وشرح المفصّل 2/ 105، واللامات ص 103، والمقتضب 4/ 375، والمقرّب 1/ 197، والمنصف 2/ 337، وهمع الهوامع 1/ 337.(2/241)
[سورة الحجر (15): الآيات 55الى 56]
{قََالُوا بَشَّرْنََاكَ بِالْحَقِّ فَلاََ تَكُنْ مِنَ الْقََانِطِينَ (55) قََالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضََّالُّونَ (56)}
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش {قََالُوا بَشَّرْنََاكَ بِالْحَقِّ فَلََا تَكُنْ مِنَ الْقََانِطِينَ} وقرأ وَمَنْ يَقْنِطُ (1) وقرأ مِنْ بَعْدِ مََا قَنِطُوا [الشورى: 28] جميعا بالكسر وقرأ أبو عمرو والكسائي قال ومن يقنط بكسر النون و «قنطوا» بفتح النون، وقرأ أهل الحرمين وعاصم وحمزة {قََالَ وَمَنْ يَقْنَطُ} بفتح النون، وقرءوا «قنطوا» بفتح النون، وقرأ الأشهب العقيلي قال ومن يقنط بضمّ النون. قال أبو جعفر: أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أبي عمرو والكسائي في هذا، وزعم أنها أصحّ في العربية، وردّ قراءة أهل الحرمين وعاصم وحمزة لأنها على فعل يفعل عنده، وكذا أنكر قنط يقنط، ولو كان الأمر كما قال لكانت القراءتان لحنا، وهذا شيء لا يعلم أنه يوجد أن يجتمع أهل الحرمين على شيء ثم يكون لحنا ولا سيما ومعهم عاصم مع جلالته ومحلّه وعلمه وموضعه من اللغة، والقراءتان اللتان أنكرهما جائزتان حسنتان وتأويلهما على خلاف ما قال. يقال: قنط يقنط وقنط قنوطا فهو قانط، وقنط يقنط قنطا فهو قنط وقانط. فإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال: قنط يقنط، وإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال: قنط يقنط مثل ضرب يضرب، وإذا قرأ يقنطوا فهو على لغة من قال: قنط يقنط مثل حذر يحذر فله أن يستعمل اللغتين، وأبو عبيد ضيّق ما هو واسع من اللغة ومعنى ومن يقنط من ييأس.
[سورة الحجر (15): آية 57]
{قََالَ فَمََا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)}
{قََالَ فَمََا خَطْبُكُمْ} ابتداء وخبر.
[سورة الحجر (15): الآيات 58الى 59]
{قََالُوا إِنََّا أُرْسِلْنََا إِلى ََ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاََّ آلَ لُوطٍ إِنََّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)}
{إِلََّا آلَ لُوطٍ} قال أبو إسحاق: استثناء ليس من الأول {إِنََّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}.
[سورة الحجر (15): آية 60]
{إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ (60)}
{إِلَّا امْرَأَتَهُ} قال: استثناء من الهاء والميم. وتأوّل أبو يوسف هذا على أنه استثناء ردّ
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 447.(2/242)
على استثناء، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام {قََالُوا إِنََّا أُرْسِلْنََا إِلى ََ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلََّا آلَ لُوطٍ} فاستثناهم من المجرمين إلا امرأته فاستثناها من قوم لوط فصارت مع المجرمين. قال كما تقول: له عليّ عشرة إلا أربعة إلّا واحدا، فيكون سبعة لأنك استثنيت من الأربعة واحدا فصار مع الستة فصارت سبعة. قال أبو عبيد: كما تقول: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلّا اثنتين إلّا واحدة فقد طلّق ثنتين. قال أبو جعفر: الذي قال أبو يوسف كما قال عند أهل العربية، والذي قاله أبو عبيد عند حذاق أهل العربية لا يجوز. يقولون إنّه لا يستثنى من الشّيء نصفه ولا أكثر من النصف ولا يتكلّم به أحد من العرب. والاستثناء عند الخليل وسيبويه (1) التوكيد، لأنك إذا قلت: جاءني القوم جاز أن يكون قد بقي منهم، فإذا قلت:
كلّهم أحطت بهم، وكذا إذا قلت: جاءني القوم جاز أن يكون زيد داخلا فيهم فإذا قلت: إلا زيدا بيّنت كما بيّنت بالتوكيد. ومعنى قولك: له عندي عشرة إلا واحدا، له عندي عشرة ناقصة، ولا يجوز أن يقال لخمسة ولا أقل منها عشرة ناقصة. {قَدَّرْنََا إِنَّهََا} وقرأ عاصم {قَدَّرْنََا} وفي التشديد معنى المبالغة أي كتبنا ذلك وأخبرنا به وعلمنا أنّها لمن الغابرين قد ذكرناه.
ومن أحسن ما قيل فيه أن معنى الغابرين الباقون المتخلّفون عن الخروج معه من قولهم غبر إذا بقي، وهكذا قال أهل العربية في معنى {وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81] إن المعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك، ومن أحسن ما قيل في معنى {وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} أن المعنى:
ولا يلتفت إلى ما خلّف وليخرج، وقد قيل: إنه من الالتفات أي لا يكن منكم خروج فيلتفت.
{قََالُوا بَلْ جِئْنََاكَ بِمََا كََانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} (63) أي بالعذاب الذي كانوا يشكّون فيه.
[سورة الحجر (15): آية 65]
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبََارَهُمْ وَلاََ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)}
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} من أسرى، ومن وصل جعله من سرّى، لغتان معروفتان.
[سورة الحجر (15): آية 66]
{وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دََابِرَ هََؤُلاََءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}
{وَقَضَيْنََا إِلَيْهِ ذََلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دََابِرَ هََؤُلََاءِ مَقْطُوعٌ} قال الأخفش: «أنّ» في موضع نصب على البدل من الأمر، وقال الفراء (2): هي في موضع نصب بسقوط الخافض أي قضينا إليه ذلك الأمر بهذا. قال: وفي قراءة عبد الله وقلنا إن دبر هؤلاء (3) فلو قرأ قارئ على هذا بكسر إنّ لجاز. {مُصْبِحِينَ} نصب على الحال، والتقدير عند الفراء وأبي عبيد إذا كانوا مصبحين. قال أبو عبيد: كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا. قال:
وسمعت أعرابيا فصيحا من بني كلاب يقول: أنا لك صديقا خير منّي لك عدوا.
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 323.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 90.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 90.(2/243)
[سورة الحجر (15): آية 67]
{وَجََاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)}
في موضع نصب على الحال.
[سورة الحجر (15): آية 68]
{قََالَ إِنَّ هََؤُلاََءِ ضَيْفِي فَلاََ تَفْضَحُونِ (68)}
{قََالَ إِنَّ هََؤُلََاءِ ضَيْفِي} وحّد لأنه مصدر في الأصل ضفته ضيفا أي نزلت به، والتقدير: ذوو ضيفي. قال أبو إسحاق: المعنى أو لم ننهك عن ضيافة العالمين، وقال غيره: المعنى أو لم ننهك عن أن تجير أحدا علينا وتمنعنا منه.
[سورة الحجر (15): آية 72]
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}
{لَعَمْرُكَ} مبتدأ، والخبر محذوف لأن القسم باب حذف، والتقدير لعمرك قسمي {إِنَّهُمْ} بالكسر لأنه جواب القسم وأجاز جماعة من النحويين فتحها. {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي جهلهم شبّه بالسكر.
[سورة الحجر (15): آية 73]
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)}
نصب على الحال. وأشرقوا صادفوا شروق الشمس أي طلوعها.
[سورة الحجر (15): آية 75]
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)}
أي لعظات عن المعاصي والكفر للمستدلّين.
[سورة الحجر (15): آية 78]
{وَإِنْ كََانَ أَصْحََابُ الْأَيْكَةِ لَظََالِمِينَ (78)}
{وَإِنْ كََانَ أَصْحََابُ الْأَيْكَةِ} لا اختلاف في صرف هذا والذي في «ق» (1)، واختلفوا في الذي في «الشعراء» (2) والذي في «ص» (3) فقرأهما أهل المدينة بغير صرف، وقرأهما أهل البصرة وأهل الكوفة كذينك، وهذا هو الحقّ لأنه لا فرق بينهنّ والقصة واحدة، وإنما هذا كتكرير القصص في القرآن. فأما قول من قال: إن أيكة اسم للقرية، وإن «الأيكة» اسم للبلد فغير معروف ولا مشهور، فأمّا احتجاج من احتجّ بالسواد وقال: لا أصرف اللتين في «الشعراء» و «ص» لأنهما في الخطّ بغير ألف فلا حجّة له في ذلك وإنما هذا على لغة من قال: جاءني صاحب زيد لسود، يريد الأسود، فألقى حركة الهمزة على اللام فتحرّكت اللام وسقطت ألف الوصل لتحرّكها وسقطت الهمزة لمّا ألقيت حركتها على ما قبلها، وكذا ليكة.
__________
(1) ق: 14، {وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ}.
(2) الشعراء: 176 {كَذَّبَ أَصْحََابُ الْأَيْكَةِ}.
(3) ص: 13 {وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ}.(2/244)
[سورة الحجر (15): آية 79]
{فَانْتَقَمْنََا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمََا لَبِإِمََامٍ مُبِينٍ (79)}
{وَإِنَّهُمََا لَبِإِمََامٍ مُبِينٍ} في معناه قولان: أحدهما أنّ الإمام الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ لأنه قبل الكتب كلّها، والآخر أنه الطريق لأنه يؤتمّ به.
[سورة الحجر (15): آية 80]
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحََابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)}
قيل: أصحاب الحجر قوم صالح.
[سورة الحجر (15): آية 82]
{وَكََانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)}
وقرأ الحسن {وَكََانُوا يَنْحِتُونَ} لأن فيه حرفا من حروف الحلق والكسر أفصح.
[سورة الحجر (15): الآيات 87الى 88]
{وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاََ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ وَلاََ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنََاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} في الحديث أن القرآن هاهنا هو الحمد لأن بعض القرآن قرآن {لََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ} لا تتمنّينّ نعمهم ولا تحزن عليهم أي على نعمتي عليهم. قال أبو إسحاق: ومعنى {وَاخْفِضْ جَنََاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ألن جناحك لمن آمن بك واتّبعك.
[سورة الحجر (15): الآيات 90الى 91]
{كَمََا أَنْزَلْنََا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}
{كَمََا أَنْزَلْنََا} الكاف في موضع نصب أي «وقل إنّي أنا النّذير المبين» عقابا أو عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أبو عبيدة (1) معمر بن المثنّى يذهب إلى أنّ «عضين» من عضّيت أي فرّقت، وهو مشتق من العضو، والمحذوف عنده واو، والتصغير عنده عضيّة، والكسائي يذهب إلى أنه من عضهت الرجل أي رميته بالبهتان، والتصغير عنده عضيهة. قال الفراء (2): العضون في كلام العرب السحر وإنما جمع بالواو والنون عند البصريين عوضا مما حذف منه وعند الكوفيين أنه كان يجب أن يجمع على فعول فطلبوا الواو التي في فعول فجاءوا بها فقالوا عضون. قال الفراء (3): ومن العرب من يقول: عضينك يجعله بالياء على كلّ حال ويعرب النون، كما تقول: مضت سنينك، وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر، والعلّة عنده فيه أن الواو لمّا وقعت موقع حرف ناقص توهّموا أنها واو فعول فأعربوا ما
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 355.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 92.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 92.(2/245)
بعدها وقلبوها ياء كما قال بعض العرب في التاء حكاه عن أبي الجرّاح: سمعت لغاتهم، ولا تقول ذلك في الصّالحات، ولا فيما حذف من أوله نحو لدّات.
[سورة الحجر (15): آية 92]
{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)}
توكيد للهاء والميم.
[سورة الحجر (15): آية 94]
{فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
قال أبو إسحاق {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ} أي أبنه وأظهره مشتقّ من الصّديع وهو الصبح، والصّدع في الزجاجة أن يبين بعضها من بعض {بِمََا تُؤْمَرُ} مصدر عند البصريين أي بأمرنا، وقال الكسائي: التقدير بما تؤمر به مثل {أَلََا إِنَّ عََاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود: 6] أي بربّهم ثم حذفت الباء. قال أبو جعفر: لا يجوز حذف الباء عند البصريين في كلام ولا شعر، وقد أنشد الكوفيون لجرير: [الوافر] 262 تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام (1)
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ينشد لجدّه:
مررتم بالدّيار ولم تعوجوا
[سورة الحجر (15): آية 96]
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)}
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} في موضع نصب على النعت للمستهزئين: ومعنى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] أي عن إجابتهم إذا تلقّوك بالقبيح.
[سورة الحجر (15): آية 99]
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتََّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
{حَتََّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} نصب بحتّى، ولا يجوز رفعه لأنه مستقبل، واليقين الموت لأن كلّ عاقل يوقن به.
__________
(1) الشاهد لجرير في ديوانه 278، وتخليص الشواهد 503، وخزانة الأدب 9/ 118، والدرر 5/ 189، وشرح شواهد المغني 1/ 311، ولسان العرب (مرر)، والمقاصد النحوية 2/ 560، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 145، وخزانة الأدب 7/ 158، ورصف المباني ص 247، وشرح ابن عقيل 272، وشرح المفصّل 8/ 8، ومغني اللبيب 1/ 100، والمقرّب 1/ 115، وهمع الهوامع 832.(2/246)
16 - شرح إعراب سورة النحل
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النحل (16): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ فَلاََ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ (1)}
{أَتى ََ أَمْرُ اللََّهِ} من أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك إنه القرآن، وقد قيل: إنه نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن قال: إنّه القيامة جعله مجازا على أحد أمرين يكون «أتى» بمعنى قرب، ويكون «أتى» بمعنى يأتي إلّا أن سيبويه (1) لا يجيز أن يكون فعل بمعنى يفعل ويجيز أن يكون يفعل بمعنى فعل لأنه يكون محكيّا. {فَلََا تَسْتَعْجِلُوهُ} نهي فيه معنى التهديد.
[سورة النحل (16): الآيات 2الى 3]
{يُنَزِّلُ الْمَلاََئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ (3)}
{أَنْ أَنْذِرُوا} قال أبو إسحاق: «أن» في موضع جرّ على البدل من الروح، والتقدير: ينزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي أي حذّروهم بأنه {لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاتَّقُونِ} ثمّ دلّ جلّ وعزّ على توحيده فقال جل ثناؤه: {خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ}.
[سورة النحل (16): آية 5]
{وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ وَمَنََافِعُ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ (5)}
{وَالْأَنْعََامَ} نصب بإضمار فعل، ويجوز الرفع في غير القرآن.
[سورة النحل (16): آية 8]
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مََا لاََ تَعْلَمُونَ (8)}
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ} أي وجعل لكم، وقال الفراء (2): هي ردّ على خلق.
قال: وإن شئت كانت بمعنى وسخّر. قال: ويجوز الرفع من وجهين: أحدهما أنه لم يكن معها فعل رفعت، والآخر أنه لمّا كان يجوز والأنعام بالرفع توهّمت أنه مرفوع رفعت. {وَزِينَةً} قال الأخفش والفراء (3): أي وجعلها زينة. قال الفراء: ويجوز أن
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 23.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 97.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 97.(2/247)
ينصبها بالفعل نفسه وتقديره بمعنى لتركبوها زينة. قال أبو حاتم: روى سعيد عن قتادة عن أبي عياض أنه قرأ لتركبوها زينة بغير واو. قال أبو إسحاق: «زينة» مفعول له أي خلقها من أجل الزينة.
قال أبو إسحاق: ويقال لكلّ ما ينبت على الأرض شجر، وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {فِيهِ تُسِيمُونَ} قال ترعون. قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من السّومة أي العلامة لأنها إذا رعت أثرت في الأرض فصارت فيها علامات.
[سورة النحل (16): آية 13]
{وَمََا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}
{وَمََا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ} قال الأخفش: أي خلق وبثّ.
[سورة النحل (16): آية 15]
{وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهََاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}
{وَأَنْهََاراً وَسُبُلًا} قال: أي وجعل. قال أبو إسحاق معنى {وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ} وجعل فلهذا أضمر في الثاني وجعل. {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} في موضع نصب، والتقدير عند البصريين كراهة أن تميد بكم، وعند الكوفيين لئلا تميد بكم.
[سورة النحل (16): آية 20]
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لاََ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} مبتدأ وخبره لا يخلقون شيئا. قال الأخفش: {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرََاتٌ} [آية: 12] أي وخلق وسخّر، وحكى الفراء (1): مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا صوّتت في جريها. قال أبو إسحاق: النجم والنجوم واحد.
[سورة النحل (16): آية 21]
{أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ وَمََا يَشْعُرُونَ أَيََّانَ يُبْعَثُونَ (21)}
{أَمْوََاتٌ غَيْرُ أَحْيََاءٍ} على إضمار مبتدأ أي هم أموات. قال الكسائي: ويجوز النصب على القطع (2) والفعل. {أَيََّانَ} في موضع نصب. {يُبْعَثُونَ} ولكنه مبنيّ على الفتح لأن فيه معنى الاستفهام فوجب أن لا يعرب ففتحت نونه لالتقاء الساكنين، وإذا التقى ساكنان في كلمة واحدة فتح الثاني وإن كانا في كلمتين كسر الأول. هذا قول الكوفيين، فأما البصريون فسبيل الساكنين إذا التقيا عندهم أن يكسر أحدهما إلا أن تقع علّة والذي أوجب هذا أنّ الكسر أخو الجزم، وقال محمد بن يزيد: لأن ما كان معربا منصرفا لم يكسر إلا ومعه التنوين فإذا كان الساكن الأول ألفا فالفتح أولى عند الخليل وسيبويه لأن الفتحة من جنس الألف قالا: ولو سمّيت رجلا إسحارا ثم رخّمته لقلت:
__________
(1) معاني الفراء 2/ 98.
(2) القطع: الحال، انظر معاني الفراء 2/ 98.(2/248)
يا إسحار أقبل، ففتحت الراء لالتقاء الساكنين لأن قبلها ألفا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {أَيََّانَ يُبْعَثُونَ} (1) بكسر الهمزة. قال الفراء (2): وهي لغة سليم.
[سورة النحل (16): آية 23]
{لاََ جَرَمَ أَنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يُسِرُّونَ وَمََا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاََ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
وقد ذكرنا (3) {لََا جَرَمَ أَنَّ} في غير هذا الموضع.
[سورة النحل (16): آية 24]
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)}
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} (ما) في موضع رفع بالابتداء و (ذا) بمعنى الذي وهو خبر «ما». {قََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} على إضمار مبتدأ. قال الكسائي: أي هو أساطير الأولين، وقال الأخفش: الجواب يردّ على الكلام الأول فلما كانت «ما» في موضع رفع رفع. قال أبو إسحاق: المعنى «الذي أنزل» أي الذي ذكرتم أنتم أنه أنزل أساطير الأولين أي أكاذيب، وقال غيره: هذا على التّهزّء أي يقول بعضهم لبعض: ماذا أنزل ربكم فيقول المجيب: أساطير الأولين ولم يقرّوا أنه أنزل شيئا، فلهذا كان مرفوعا، وقد أجاز النحويون: ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا. بالنصب والرفع. فالرفع على ما تقدم والنصب على أن تكون «ذا» زائدة بمعنى أي شيء تعلّمت؟ فإن قلت: من ذا كلّمت أزيدا أم عمرا؟ لم يكن «من ذا» في موضع رفع لأن ذا لا يراد معها.
[سورة النحل (16): آية 30]
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا حَسَنَةٌ وَلَدََارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دََارُ الْمُتَّقِينَ (30)}
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا خَيْراً} قال الكسائي: ولو قيل خير لجاز. يعني على ما تقدّم. {وَلَنِعْمَ دََارُ الْمُتَّقِينَ} رفع بنعم، والدار مؤنثة ولم يقل: نعمت لأنه فعل يشبه الأسماء وجرى على مثل هذا قول البصريين، وحذف علامة التأنيث عندهم أجود، وقال الكسائي: التذكير لأن المعنى ولنعم موضع دار المتقين ومثوى ومأوى.
قال: والتأنيث جيّد حسن واسع.
[سورة النحل (16): آية 31]
{جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ لَهُمْ فِيهََا مََا يَشََاؤُنَ كَذََلِكَ يَجْزِي اللََّهُ الْمُتَّقِينَ (31)}
{جَنََّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهََا} قال الفراء (4): إن شئت رفعت جنات بالاستئناف، وإن شئت
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 99.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 99.
(3) مرّ في إعراب الآية 22هود.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 99، والبحر المحيط 5/ 474.(2/249)
بالعائد في يدخلونها. والرفع عند البصريين من جهتين: إحداهما بالابتداء والأخرى بإضمار مبتدأ، كما تقول: نعم الرجل زيد.
[سورة النحل (16): آية 32]
{الَّذِينَ تَتَوَفََّاهُمُ الْمَلاََئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاََمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}
{الَّذِينَ تَتَوَفََّاهُمُ الْمَلََائِكَةُ} في موضع نصب نعت للمتقين و {طَيِّبِينَ} على الحال أي مؤمنين مجتنبين للمعاصي.
[سورة النحل (16): آية 33]
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاََّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاََئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذََلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)}
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلََائِكَةُ} «أن» الملائكة بما وعدوا من العذاب. {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} بالعذاب، وحكى الكسائي: حرص يحرص.
[سورة النحل (16): الآيات 37الى 38]
{إِنْ تَحْرِصْ عَلى ََ هُدََاهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لاََ يَبْعَثُ اللََّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى ََ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (38)}
وقد ذكرنا (1) {فَإِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}. {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا} مصدر. قال الكسائي والفراء (2): ولو قيل: وعد عليه حقّ لكان صوابا أي ذلك وعد عليه حقّ.
[سورة النحل (16): آية 40]
{إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}
قرأ ابن محيصن وعبد الله بن عامر والكسائي إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (3) بالنصب. قال أبو إسحاق: النصب من وجهين: أحدهما على العطف أي فأن يكون، والآخر أن يكون جوابا لكن. قال أبو جعفر: الوجه «فيكون» مرفوع، وتقديره عند سيبويه فهو يكون، والنصب على العطف جائز. فأما أن يكون جوابا فمحال لأنه إخبار لا يجوز فيه الجواب، كما تقول: أنا أقول لعمرو امض فيجلس أو فيمضي، ولا معنى للجواب هاهنا وإنما الجواب أن يقول: امض فأكرمك.
ومثل الأول {فَلََا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ} [البقرة: 102] وإنما الجواب لا تكفر فتدخل النار.
[سورة النحل (16): آية 41]
{وَالَّذِينَ هََاجَرُوا فِي اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مََا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (41)}
{وَالَّذِينَ هََاجَرُوا} أي هجروا قومهم وديارهم ليتباعدوا من الكفر {وَالَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} في موضع الخبر.
__________
(1) راجع إعراب الآية 35يونس.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 100.
(3) انظر تيسير الداني 112.(2/250)
[سورة النحل (16): آية 42]
{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}
{الَّذِينَ صَبَرُوا} في موضع رفع على البدل من الذين هاجروا، وفي موضع نصب على البدل من هم.
[سورة النحل (16): آية 44]
{بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
{وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي من الفرائض والأحكام والحدود.
[سورة النحل (16): آية 46]
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمََا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)}
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} عطف على الأول. {فِي تَقَلُّبِهِمْ} ما يتقلّبون فيه من الأسفار وغيرها.
[سورة النحل (16): آية 47]
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى ََ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)}
{فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} لأنه أمهلهم دعاهم إلى التوبة.
[سورة النحل (16): الآيات 48الى 49]
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا خَلَقَ اللََّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاََلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ سُجَّداً لِلََّهِ وَهُمْ دََاخِرُونَ (48) وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مِنْ دََابَّةٍ وَالْمَلاََئِكَةُ وَهُمْ لاََ يَسْتَكْبِرُونَ (49)}
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا خَلَقَ اللََّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلََالُهُ عَنِ الْيَمِينِ} واحد في موضع جمع {وَالشَّمََائِلِ} جمع على بابه {سُجَّداً} على الحال أي منقادا ذليلا على ما دبّره الله جل وعز عليه. واصل السجود في اللغة: التذلل والانقياد {وَهُمْ دََاخِرُونَ} أي منقادون على ما أحبّوا أو كرهوا وكذا السجود في {وَلِلََّهِ يَسْجُدُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ مِنْ دََابَّةٍ} أي منقادا لله جلّ وعزّ دالّ على حكمته كما روي عن ابن عباس:
الكافر يسجد لغير الله جلّ وعزّ وظلّه يسجد لله تبارك وتعالى أي ينقاد لتدبيره، وقال أبو إسحاق: معنى ظلّه هاهنا جسمه الذي يكون منه الظلّ أي جسمه ولحمه وعظمه منقادات لله جلّ وعزّ دالّة عليها أثر الخضوع والذلّ، فعلى هذا هي ساجدة له تقدّس اسمه.
[سورة النحل (16): آية 51]
{وَقََالَ اللََّهُ لاََ تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَإِيََّايَ فَارْهَبُونِ (51)}
{وَقََالَ اللََّهُ لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ} قال أبو إسحاق: فذكر اثنين توكيدا لإلهين كما ذكر واحدا توكيدا في قوله {إِنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ} وقال غيره: التقدير ولا تتّخذوا اثنين إلهين.
{فَإِيََّايَ} في موضع نصب بإضمار فعل.(2/251)
[سورة النحل (16): آية 52]
{وَلَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وََاصِباً أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَتَّقُونَ (52)}
{وَلَهُ الدِّينُ وََاصِباً} نصب على الحال.
[سورة النحل (16): آية 53]
{وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ ثُمَّ إِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53)}
{وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ} قال الفراء (1): «ما» في موضع جزاء كأنه قال: وما تكن بكم من نعمة فمن الله، وقال أبو إسحاق: المعنى ومما حلّ بكم من نعمة فمن الله أي أعطاكم من صحّة في جسم أو رزق فكل ذلك من الله جلّ وعزّ.
[سورة النحل (16): آية 56]
{وَيَجْعَلُونَ لِمََا لاََ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمََّا رَزَقْنََاهُمْ تَاللََّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمََّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}
{وَيَجْعَلُونَ لِمََا لََا يَعْلَمُونَ نَصِيباً} أي ويجعلون لما لا يعلمون أنه إله نصيبا مما رزقناهم.
{تَاللََّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمََّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي من قولكم إنهم آلهة.
[سورة النحل (16): آية 57]
{وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ الْبَنََاتِ سُبْحََانَهُ وَلَهُمْ مََا يَشْتَهُونَ (57)}
{وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ الْبَنََاتِ سُبْحََانَهُ} لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وتمّ الكلام عند قوله {سُبْحََانَهُ} ثم قال جلّ وعزّ: {وَلَهُمْ مََا يَشْتَهُونَ} أي الشيء الذي يشتهونه، و «ما» في موضع رفع، وأجاز الفراء (2): أن يكون في موضع نصب بمعنى ويجعلون لهم. قال أبو إسحاق: «ما» في موضع رفع لا غير لأن العرب لا تقول في مثل هذا: جعل فلان له كذا. وإنما تقول: جعل لنفسه، ومثله ضربت نفسي، ولا يقال ضربتني.
[سورة النحل (16): آية 58]
{وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ََ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}
{وَإِذََا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ََ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} خبر «ظلّ»، ويجوز عند سيبويه (3)
والفراء (4): ظلّ وجهه مسودّ يكون في «ظلّ» مضمر والجملة الخبر، وحكى سيبويه:
«حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» (5). قال الفراء: مثل {وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللََّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] والأصل في ظلّ ظلل ثم أدغم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 104.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 105.
(3) انظر الكتاب 2/ 414.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 106.
(5) الحديث في الكتاب 2/ 414، «كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه». وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، وأبو داود في سننه حديث رقم (4714)، والترمذي في سننه القدر 8/ 303.(2/252)
{أَيُمْسِكُهُ عَلى ََ هُونٍ} قال الكسائي: المعنى لا يدري ينظر {أَيُمْسِكُهُ عَلى ََ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرََابِ}.
[سورة النحل (16): آية 60]
{لِلَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلََّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ََ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}
{وَلِلََّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ََ} أي هو الواحد الصمد. {الْحَكِيمُ} القدير الذي لم يلد ولم يولد.
[سورة النحل (16): آية 61]
{وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِظُلْمِهِمْ مََا تَرَكَ عَلَيْهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ لاََ يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلاََ يَسْتَقْدِمُونَ (61)}
{وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِظُلْمِهِمْ} أي بعقوبة ظلمهم {مََا تَرَكَ عَلَيْهََا مِنْ دَابَّةٍ} لأنه إذا أفنى الآباء انقطع النسل.
[سورة النحل (16): آية 62]
{وَيَجْعَلُونَ لِلََّهِ مََا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ََ لاََ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النََّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} جمع لسان على لغة من ذكّر اللسان، ومن أنّث قال:
ألسن، ومن قال ألسن ثم سمّى بلسان رجلا لم يصرف، وإن قال ألسنة صرف والكذب منصوب بتصف و {أَنَّ لَهُمُ} بدل من الكذب. قال أبو حاتم: وقرأ أهل الشام أو بعضهم {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ََ} نعت للألسنة قال قطرب «أنّ لهم النار» في موضع رفع أي وجب ذلك، وقال غيره: «أنّ» في موضع نصب أي كسبهم ذلك «أنّ لهم النار». وقد ذكرنا (1) معنى {لََا جَرَمَ}. قرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رحمهما الله وهذه القراءة قراءة أبي رجاء ونافع {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (2) بكسر الراء والتخفيف، وقرأ أبو جعفر {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (3) بكسر الراء والتشديد. قال أبو حاتم وروي عن أبي جعفر {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} بفتح الراء والتشديد، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء والكوفيين {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (4) بفتح الراء والتخفيف. وأصل هذا كلّه من التجاوز والتقدّم. فمفرطون مبالغون متجاوزون في الشر، ومنه يقال: قد أفرط فلان على فلان و «مفرّطون» مضيّعون متجاوزون لما يجب، ومنه أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله، وفي التشديد معنى المبالغة والتكثير و «مفرطون» مقدّمون إلى النار.
__________
(1) مرّ في إعراب الآية 22هود.
(2) انظر تيسير الداني 112، والبحر المحيط 5/ 490.
(3) انظر البحر المحيط 5/ 491.
(4) انظر البحر المحيط 5/ 490، ومعاني الفراء 2/ 108.(2/253)
[سورة النحل (16): آية 63]
{تَاللََّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنََا إِلى ََ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (63)}
{تَاللََّهِ} التاء بدل من الواو وإنما يقال: تالله إذا كان في الكلام معنى التعجّب {لَقَدْ أَرْسَلْنََا إِلى ََ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وحذف المفعول أي رسلا {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ} أي من الكفر والمعاصي {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} ابتداء وخبر وتحذف الضمة لثقلها فيقال: فهو وليّهم أي هو معهم، وقيل: المعنى أنه يقال: لهم هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتّى يخلّصكم تبكيتا لهم وتوبيخا.
[سورة النحل (16): آية 64]
{وَمََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ إِلاََّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
{وَهُدىً وَرَحْمَةً} مفعول من أجله. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع بمعنى وهو مع ذلك هدى ورحمة.
[سورة النحل (16): آية 66]
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خََالِصاً سََائِغاً لِلشََّارِبِينَ (66)}
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً} أي لدلالة على قدرة الله جلّ وعزّ وحسن تدبيره.
{نُسْقِيكُمْ} بفتح النون قراءة عاصم وشيبة ونافع، {نُسْقِيكُمْ} بضم النون قراءة ابن كثير وأبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء والكوفيين إلا عاصما. قال الخليل وسيبويه (1)
رحمهما الله: سقيته ناولته فشرب، وأسقيته جعلت له سقيا، وقال أبو عبيدة: هما لغتان، قال أبو جعفر: سقيته يكون بمعنى عرّضته لأن يشرب، وأسقيته دعوت له بالسقيا، وأسقيته جعلت له سقيا، وأسقيته بمعنى سقيته عند أبي عبيدة فنسقيكم بالضم إلّا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: نسقيكم بالفتح هاهنا أشبه بالمعنى. {مِمََّا فِي بُطُونِهِ} فذكّر فللنحويين في هذا أربعة أقوال: فمن أحسنها مذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ثم ذكر الآية كأنه ذهب إلى أن الأنعام تذكّر وتؤنّث، وقال الكسائي: حكاه عنه الفراء (2) المعنى نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا، وقال الفراء (3): الأنعام والنعم واحد وهما جمعان فرجع إلى تذكير النعم وحكي عن العرب هذا نعم وارد، وحكى أبو عبيد عن الكسائي هذا القول وأنشد: [الرجز] 263 أكلّ عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه (4)
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 170.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 108و 109.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 108و 109.
(4) الشاهد لقيس بن حصين في خزانة الأدب 1/ 409، وشرح أبيات سيبويه 1/ 119، ولصبي من بني سعد قيل إنه قيس بن الحصين في المقاصد النحوية 1/ 529، ولرجل ضبيّ في الأغاني 16/ 256، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 184، والأشباه النظائر 3/ 102، وتلخيص الشواهد 191، والردّ على النحاة 120، ولسان العرب (نعم)، واللمع في العربية 113.(2/254)
والقول الرابع حكاه أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: المعنى نسقيكم مما في بطون أيّها كان له لبن لأنه ليست كلّها لها لبن. {سََائِغاً لِلشََّارِبِينَ} نعت.
[سورة النحل (16): آية 67]
{وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
{وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ} أي ولكم فيما رزقناكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة.
[سورة النحل (16): آية 68]
{وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ (68)}
{وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} لأنها مؤنّثة والعرب تقول في تصغيرها: نحيل بغير هاء لئلا تشبه الواحدة، وحكى الأخفش أنها تذكّر {بُيُوتاً} كما تقول فلس وفلوس ومن كسر الباء أبدل من الضمة كسرة وهو وجه بعيد.
[سورة النحل (16): آية 70]
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفََّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاََ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفََّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي إلى الهرم لأنه يضعف قوته وعقله فإن قال قائل: فهو إذا كان صبيّا هكذا ولا يقال للصبيّ: هو في أرذل العمر، فالجواب أنّ الصبي يرجى له العقل والقوة وليس كذا الهرم {لِكَيْ لََا يَعْلَمَ} تنصب بكي ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لتصرّفها وأنّها تكون زائدة.
[سورة النحل (16): آية 71]
{وَاللََّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ََ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوََاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللََّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
{فَهُمْ فِيهِ سَوََاءٌ} ابتداء وخبر.
[سورة النحل (16): آية 72]
{وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللََّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
{أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ} قيل: يعني الأوثان والأصنام لأنهم لا ينتفعون بعبادتها.
{وَبِنِعْمَتِ اللََّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} الكفر بالنعمة في اللغة على ضربين: أحدهما أن يجحد النعمة، والآخر أن ينسبها إلى غير المنعم بها أو يجعل له فيها شريكا.(2/255)
[سورة النحل (16): آية 73]
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لاََ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلاََ يَسْتَطِيعُونَ (73)}
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً} في نصب شيء قولان: أحدهما أن يكون التقدير: لا يملكون أن يرزقوهم شيئا وهو قول الكوفيين (1)، ونصبه عند الأخفش وغيره من البصريين على البدل من رزق. قال الأخفش: والمعنى:
لا يملكون لهم رزقا قليلا ولا كثيرا، وقال غيره: لا يجوز أن يكون منصوبا برزق لأنه اسم ليس بمصدر كما لا يجوز: عجبت من دهن زيد لحيته، حتّى يقول من دهن.
{وَلََا يَسْتَطِيعُونَ} على المعنى لأن «ما» في المعنى لجماعة.
[سورة النحل (16): آية 74]
{فَلاََ تَضْرِبُوا لِلََّهِ الْأَمْثََالَ إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ (74)}
{فَلََا تَضْرِبُوا لِلََّهِ الْأَمْثََالَ} فيه قولان: أحدهما لا تمثّلوا لله جلّ وعزّ بخلقه فتقولوا:
هو محتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما هو لمن لا يعلم، ودلّ على هذا {إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ}، والقول الآخر لا تمثّلوا خلق الله جلّ وعزّ به فتجعلوا لهم من الأهبة مثل ما له.
[سورة النحل (16): آية 75]
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاََ يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنََاهُ مِنََّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (75)}
{ضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ} أي من الرقّ. {وَمَنْ رَزَقْنََاهُ مِنََّا رِزْقاً حَسَناً} أي فكما لا يستوي هذان عندكم فيجب أن لا يسوّوا بين الأصنام وهي لا تعقل ولا تنفع وبين الله جلّ وعزّ في العبادة. {الْحَمْدُ لِلََّهِ} أي على ما دلّنا من توحيده {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} فيه قولان: أحدهما أنّ فعلهم فعل من لا يعلم وإن كانوا يعلمون والآخر أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا.
[سورة النحل (16): آية 76]
{وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمََا أَبْكَمُ لاََ يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى ََ مَوْلاََهُ أَيْنَمََا يُوَجِّهْهُ لاََ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}
{وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمََا أَبْكَمُ لََا يَقْدِرُ عَلى ََ شَيْءٍ} وإذا كان أبكم ضعيفا فهو ثقيل على وليّه أينما يوجّهه أي إن وجهه لشيء من منافع الدنيا لم يأت بخير. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} معطوف على المضمر في يستوي وهو توكيد، وحسن العطف على المضمر المرفوع لمّا وكّدته لأنه التوكيد يعينه فكأنّه بارز من الفعل.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 110، والبحر المحيط 5/ 500.(2/256)
[سورة النحل (16): آية 78]
{وَاللََّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ لاََ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
{وَاللََّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ} ومن كسر الهمزة أتبع الكسرة الكسرة، وكسر الميم بعيد وأمّهات جمع أمّهة، وقيل: الهاء زائدة كما زيدت في أهرقت.
[سورة النحل (16): آية 79]
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرََاتٍ فِي جَوِّ السَّمََاءِ مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللََّهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} أي إلى خلقها كيف خلقت خلقا يتهيّأ لها معه الطيران والثبوت في الجو، وجعل ذلك تسخيرا منه لها مجازا فقال جلّ ثناؤه: {مُسَخَّرََاتٍ فِي جَوِّ السَّمََاءِ} و {مُسَخَّرََاتٍ} حال. {مََا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللََّهُ} لأنه جلّ وعزّ يثبتهنّ بالهواء الذي خلقه تحتهنّ فجعل ذلك إمساكا منه لهن اتساعا.
[سورة النحل (16): آية 81]
{وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمََّا خَلَقَ ظِلاََلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبََالِ أَكْنََاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرََابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذََلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ} أي خلق لكم ما تتّخذون منه سرابيل وأقدركم على عمله وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه قرأ كذلك تتمّ نعمه عليكم ورفع النعمة.
{لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (1) بفتح التاء واللام.
[سورة النحل (16): آية 83]
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللََّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهََا وَأَكْثَرُهُمُ الْكََافِرُونَ (83)}
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللََّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهََا} وإنكارهم إياها إضافتهم إياها إلى غير الله جلّ وعزّ وإشراكهم معه فيها غيره.
[سورة النحل (16): آية 84]
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاََ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاََ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} والأمة القرن والجماعة فدلّ بهذا على أنّ في كلّ قرن من يطيعه جلّ وعزّ، ولا يكون الشهيد إلّا مطيعا. {ثُمَّ لََا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في الاعتذار. ومعنى لا يؤذن لهم في الاعتذار لا يقال لهم: اعتذروا بل يقال لهم: إن اعتذرتم لم يقبل منكم، ومثله {وَلََا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] أي لا يعتذرون اعتذارا ينتفع به.
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 508، ومعاني الفراء 2/ 112.(2/257)
[سورة النحل (16): آية 86]
{وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكََاءَهُمْ قََالُوا رَبَّنََا هََؤُلاََءِ شُرَكََاؤُنَا الَّذِينَ كُنََّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكََاذِبُونَ (86)}
{وَإِذََا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكََاءَهُمْ} أي أصنامهم التي كانوا يعبدونها تحشر معهم ليوبّخوا بها ويقرّعوا بها في النار. وسماها شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم وزرعهم وأنعامهم {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أنطقوا فقالوا لهم: كذبتم ما كنا آلهة ولا نستحقّ العبادة.
[سورة النحل (16): آية 87]
{وَأَلْقَوْا إِلَى اللََّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ (87)}
{وَأَلْقَوْا إِلَى اللََّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} استسلموا وانقادوا. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} هلك وزال.
[سورة النحل (16): آية 88]
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ زِدْنََاهُمْ عَذََاباً فَوْقَ الْعَذََابِ بِمََا كََانُوا يُفْسِدُونَ (88)}
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ زِدْنََاهُمْ عَذََاباً فَوْقَ الْعَذََابِ} أي فوق العذاب الذي كانوا يستحقونه بكفرهم. {بِمََا كََانُوا يُفْسِدُونَ} بصدّهم الناس عن الإسلام.
[سورة النحل (16): آية 89]
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنََا بِكَ شَهِيداً عَلى ََ هََؤُلاََءِ وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى ََ لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
{تِبْيََاناً} أي بيانا مثل تلقاء، ويقال: تبيانا بفتح التاء أي تبيينا.
[سورة النحل (16): آية 90]
{إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}
{إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي بالإنصاف. {وَالْإِحْسََانِ} أي التفضّل. وحقيقة الإحسان في اللغة أنه كلّ فعل حسن {وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ} وهو صلة الأرحام. {وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ} وهو كلّ فعل أو قول قبيح {وَالْمُنْكَرِ} كلّ ما تنكره العقول من أفعال أو أقوال {وَالْبَغْيِ} أشدّ الفساد. وحكى القاسم بن سلام أنه يقال: برأ جرحه على بغي إذا برأ وفيه شيء من نغل، ثم قال جلّ وعزّ: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والأصل تتذكّرون أدغمت التاء في الذال.
[سورة النحل (16): آية 91]
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللََّهِ إِذََا عََاهَدْتُمْ وَلاََ تَنْقُضُوا الْأَيْمََانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهََا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللََّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا تَفْعَلُونَ (91)}
{وَأَوْفُوا} على لغة من قال: أوفى، ويقال: وفى بعهد الله. {إِذََا عََاهَدْتُمْ} فيه
قولان: أحدهما بما تقدّم إليكم به وقدّركم عليه، والآخر أوفوا بما حلفتم عليه، وهذا أولى وأشبه بالمعنى لأن بعده {وَلََا تَنْقُضُوا الْأَيْمََانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهََا} قال الكسائي: وناس كثير من العرب يقولون: تأكيد وقد أكّدت. قال أبو إسحاق: الأصل الواو والهمزة بدل منها {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللََّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} قولهم الله كفيل على هذا وشاهد، ويكون مجازا فيكون حلفهم كقولهم هذا.(2/258)
{وَأَوْفُوا} على لغة من قال: أوفى، ويقال: وفى بعهد الله. {إِذََا عََاهَدْتُمْ} فيه
قولان: أحدهما بما تقدّم إليكم به وقدّركم عليه، والآخر أوفوا بما حلفتم عليه، وهذا أولى وأشبه بالمعنى لأن بعده {وَلََا تَنْقُضُوا الْأَيْمََانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهََا} قال الكسائي: وناس كثير من العرب يقولون: تأكيد وقد أكّدت. قال أبو إسحاق: الأصل الواو والهمزة بدل منها {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللََّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} قولهم الله كفيل على هذا وشاهد، ويكون مجازا فيكون حلفهم كقولهم هذا.
[سورة النحل (16): آية 92]
{وَلاََ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهََا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكََاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمََانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى ََ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمََا يَبْلُوكُمُ اللََّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ مََا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}
{وَلََا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهََا} أي فتنقضوا ما قد وكّدتموه وقويتموه. {مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} والعرب تسمي الفتلة الوثيقة قوة. قال أبو إسحاق {أَنْكََاثاً} يعني المصدر لأن معنى نقض ونكث واحد. قال و {دَخَلًا} منصوب لأنه مفعول له و {أَنْ} في موضع نصب والمعنى بأن تكون أمة هي أكثر من أمة. من ربا الشيء يربو إذا كثر، وقال الكسائي: المعنى لأن تكون لغة. قال الكسائي والفراء (1): {أَرْبى ََ} في موضع نصب، والمعنى مثل {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً} [المزمّل: 20] يجعلان «هو» عمادا. قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (2) رحمهما الله، ولا يجوز، ولا يشبه {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً} لأن الهاء في «تجدوه» معرفة وأمة نكرة، ولا يجوز عندهما: ما كان أحد هو جالس، وقال الخليل: لا تكون هو زائدة إلا مع المعرفة، وعنده أنّ كونها مع المعرفة زائدة عجب فكيف تزاد مع النكرة؟ فالقول إن «أربى» في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ والجملة خبر تكون.
[سورة النحل (16): آية 94]
{وَلاََ تَتَّخِذُوا أَيْمََانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهََا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمََا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَلَكُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ (94)}
{وَلََا تَتَّخِذُوا أَيْمََانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ} جواب النهي، والمعنى: فتستحقّ العقوبة بعد أن كانت تستحقّ الثواب.
[سورة النحل (16): آية 96]
{مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
{مََا عِنْدَكُمْ} في موضع رفع بالابتداء. {يَنْفَدُ} في موضع الخبر. {وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ} ابتداء وخبر. وقد ذكرنا مثل باق.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 113.
(2) انظر الكتاب 2/ 412.(2/259)
[سورة النحل (16): الآيات 98الى 99]
{فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ مِنَ الشَّيْطََانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}
{فَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} مجازه {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ} فجاء على تذكير السلطان، وكثير من العرب يؤنّثه فتقول: قضت به عليك السلطان، فأعلم الله جلّ وعزّ أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين، وأعلم جلّ وعزّ في موضع آخر أنّه ليس له سلطان على واحد.
فأما المعنى {إِنَّمََا سُلْطََانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي إنه إذا وسوس إليهم قبلوا منه.
[سورة النحل (16): آية 101]
{وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُنَزِّلُ قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (101)}
{وَإِذََا بَدَّلْنََا آيَةً مَكََانَ آيَةٍ} وهو الناسخ والمنسوخ لما يعلم الله جلّ وعزّ في ذلك من الصلاح تلبّسوا به فقالوا {إِنَّمََا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وهو ابتداء وخبر، وكذا {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ}.
[سورة النحل (16): آية 103]
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهََذََا لِسََانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
وقرأ الحسن {إِنَّمََا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسََانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} (1) «بشر» بغير تنوين و «اللسان» بالألف واللام، واللسان مرفوع «بشر» مرفوع بفعله و «اللسان» مبتدأ وخبره «أعجميّ» وحذف التنوين من «بشر» لالتقاء الساكنين، وأنشد سيبويه:
[المتقارب] 264 ولا ذاكر الله إلّا قليلا (2)
ومثله قراءة من قرأ {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2]، وكذا {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ النَّهََارِ} [يس: 20] بنصب النهار. قرأ أقل المدينة وأهل البصرة {يُلْحِدُونَ} (3) بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ الكوفيون يلحدون (4) بفتح الياء والحاء، واللغة الفصيحة «يلحدون» ومنه يقال: رجل ملحد أي مائل عن الحق، ويبيّن هذا {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ} [الحج: 25] فهذا من ألحد يلحد لا غير، ويقال: لحدت
__________
(1) انظر البحر المحيط 5/ 519، ومختصر ابن خالويه 74.
(2) مرّ الشاهد رقم (73).
(3) انظر تيسير الداني 113.
(4) انظر تيسير الداني 113.(2/260)
القبر أي جعلت فيه لحدا وألحدت الميّت ألزمته اللحد. {وَهََذََا لِسََانٌ} قيل: يعني القرآن، سمّاه لسانا اتّساعا، كما يقال: فلان يتكلّم بلسان العرب أي بلغتها وكذا اللسان الذي يلحدون إليه أي كلامه وعلى هذا تسمّى الرسالة لسانا، كما قال: [الوافر] 265 لسان السّوء تهديها إلينا (1)
[سورة النحل (16): آية 106]
{مَنْ كَفَرَ بِاللََّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِهِ إِلاََّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمََانِ وَلََكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللََّهِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ (106)}
{مَنْ كَفَرَ بِاللََّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِهِ} {مَنْ} في موضع رفع على البدل من «الكاذبين».
{إِلََّا مَنْ أُكْرِهَ} في موضع نصب على الاستثناء. والمعنى والله أعلم إلّا من أكره.
فله أن يقول ما ظاهره الكذب والكفر ولا يعتقده، ولا يجوز له أن يكذب كذبا صراحا بوجه، وإنما يقول: فلان كذّاب على قولهم أو يعني به غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممن هو كاذب لأن الكذب قبيح فلا يجوز أن يأذن الله فيه بحال، والدليل على قبحه أن قائله لا يوثق بخبره {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمََانِ} ابتداء وخبر، وهو تبيين ما تقدّم. {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ} مبتدأ. {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللََّهِ} في موضع الخبر.
[سورة النحل (16): آية 107]
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللََّهَ لاََ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ (107)}
{اسْتَحَبُّوا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا عَلَى الْآخِرَةِ} قال الخليل رحمه الله {لََا جَرَمَ} لا تكون إلّا جوابا. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه (2).
[سورة النحل (16): آية 110]
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هََاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا فُتِنُوا ثُمَّ جََاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
{مِنْ بَعْدِهََا} أي من بعد الفتنة.
[سورة النحل (16): آية 111]
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجََادِلُ عَنْ نَفْسِهََا وَتُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُونَ (111)}
{يَوْمَ تَأْتِي} في موضع نصب أي غفور رحيم يوم تأتي كلّ نفس، ويجوز أن يكون بمعنى: واذكر يوم تأتي كلّ نفس.
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في جواهر الأدب 125، والجنى الداني 94، والدرر 1/ 240، وشرح شواهد المغني 1/ 506، ومغني اللبيب 1/ 182، وهمع الهوامع 1/ 77، وعجزه:
«وحنت وما حسبتك أن تحينا»
(2) مرّ في إعراب الآية 22هود.(2/261)
[سورة النحل (16): آية 112]
{وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهََا رِزْقُهََا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكََانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ فَأَذََاقَهَا اللََّهُ لِبََاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمََا كََانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
{وَضَرَبَ اللََّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} أي مثل قرية. {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللََّهِ} جمع نعمة عند سيبويه، وقال قطرب: جمع نعم مثل ودّ وأدود.
[سورة النحل (16): آية 116]
{وَلاََ تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذََا حَلاََلٌ وَهََذََا حَرََامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ لاََ يُفْلِحُونَ (116)}
{وَلََا تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} نصب بمعنى لوصف ألسنتكم الكذب، وقال: الكذب يلقي حركة الدال على الكاف، وقرأ أهل الشام أو بعضهم {وَلََا تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} (1) على النعت للألسنة، وقرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر {لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} (2) بالخفض على النعت لما أو البدل.
[سورة النحل (16): آية 117]
{مَتََاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (117)}
{مَتََاعٌ قَلِيلٌ} على إضمار مبتدأ أي تمتّعهم في الدنيا متاع قليل أي مدّة بقائهم، ويجوز متاعا في غير القرآن على المصدر أي يمتعون متاعا.
[سورة النحل (16): آية 120]
{إِنَّ إِبْرََاهِيمَ كََانَ أُمَّةً قََانِتاً لِلََّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}
{كََانَ أُمَّةً} خبر كان. {قََانِتاً} نعت أو خبر ثان. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (3)
{وَلَمْ يَكُ} في غير موضع.
[سورة النحل (16): آية 124]
{إِنَّمََا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}
{إِنَّمََا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} قال بعضهم: لا نريد الجمعة، وقال بعضهم: لا نريد السبت ففرض عليهم الفراغ في يوم السبت.
[سورة النحل (16): آية 127]
{وَاصْبِرْ وَمََا صَبْرُكَ إِلاََّ بِاللََّهِ وَلاََ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاََ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمََّا يَمْكُرُونَ (127)}
{وَلََا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قيل المعنى: لا تحزن على الكفار فإنّما عليك أن تدعوهم إلى الإيمان، وقيل: المعنى ولا تحزن على الشهداء فإن الله جلّ وعزّ قد أثابهم وفيهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وفيه نزلت {وَإِنْ عََاقَبْتُمْ فَعََاقِبُوا بِمِثْلِ مََا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
__________
(1) انظر المحتسب 2/ 11.
(2) انظر البحر المحيط 5/ 527.
(3) مرّ في إعراب الآية 109هود.(2/262)
[النحل: 126] {وَلََا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمََّا يَمْكُرُونَ} للكفّار لم يقل غيره، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام أنّ نافعا قرأ {وَلََا تَكُ فِي ضَيْقٍ} (1) بكسر الضاد قال أبو جعفر:
وهذا لا يعرف عن نافع. وقال الكوفيون: الفراء (2) وغيره: «الضيق» بفتح الضاد في القلب والصدر، «والضيق» بكسر الضاد في الثوب والدار وما أشبهها مما يرى قال الفراء: فإذا رأيت الضيق بفتح الضاد قد وقع في موضع الضّيق فهو مخفّف من ضيّق أو جمع ضيقة، ولا يعرف البصريون من هذا التفريق شيئا، وقالوا إذا أردت المصدر قلت: الضيق، كما تقول: البيع، وإن أردت الاسم قلت: الضيق كما تقول: العلم، وأجازوا في ضيّق التخفيف.
[سورة النحل (16): آية 128]
{إِنَّ اللََّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}
{إِنَّ اللََّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} {الَّذِينَ} خفض بإضافة مع إليه لأن مع عند الخليل اسم إذا فتحت العين وإن أسكنتها فهي حرف. {وَالَّذِينَ} عطف. {هُمْ مُحْسِنُونَ} مبتدأ وخبره في الصّلة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 113.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 115.(2/263)
17 - شرح إعراب سورة الإسراء
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الإسراء (17): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بََارَكْنََا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيََاتِنََا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
روي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى:
{سُبْحََانَ اللََّهِ} *، فقال: تنزيها لله من كل سوء. قال أبو جعفر: شرح هذا أنه بمعنى تبعيد الله جلّ وعز عن كلّ ما نسبه إليه المشركون من الأنداد والأضداد والشركاء والأولاد ونصبه عند الخليل وسيبويه (1) رحمهما الله على المصدر أي: سبّحت الله تسبيحا، إلّا أنه إذا أفرد كان معرفة منصوبا بغير تنوين لأن في آخره زائدتين وهو معرفة، وحكى سيبويه أنّ من العرب من ينكره فيصرفه، وحكى أبو عبيد في نصبه وجهين سوى هذا، إنه يكون نصبا على النداء أي يا سبحان الله، والوجه الآخر: أن يكون غير موصوف. {الَّذِي} في موضع خفض بالإضافة. وقال: سرى وأسرى لغتان معروفتان. {بِعَبْدِهِ لَيْلًا} على الظرف {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} نعت للمسجد. وأصل الحرام المنع فالمسجد الحرام ممنوع الصيد فيه. قال أبو إسحاق: ويقال للحرم كلّه: مسجد. {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} نعت له، وكذلك {الَّذِي بََارَكْنََا حَوْلَهُ} قيل: معنى باركنا حوله أن الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا بعد موسى صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل كانوا ببيت المقدس وما حوله فبارك الله جلّ وعزّ في تلك المواضع بأن باعد الشرك منها، ولهذا سمّي ببيت المقدس لأنه قدّس أي طهّر من الشرك. {لِنُرِيَهُ} نصب بلام كي وهي بدل من أن وأصلها لام الخفض.
[سورة الإسراء (17): الآيات 2الى 3]
{وَآتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ أَلاََّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنََا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كََانَ عَبْداً شَكُوراً (3)}
{وَآتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ} مفعولان، وكذا {وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ}. {أَلََّا تَتَّخِذُوا}
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 386.(2/264)
بالياء قراءة أبي عمرو بن العلاء، والتقدير لئلا يتخذوا، وقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة {أَلََّا تَتَّخِذُوا} وزعم أبو عبيد أنه على الحذف أي قلنا لهم لا تتّخذوا. قال أبو جعفر: هذا لا يحتاج إلى حذف وتكون «أنّ» بمعنى أي، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب، ويكون المعنى بأن لا تتخذوا، وجعل الكلام للمخاطبة لأن بعده {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنََا} على المخاطبة، ونصب ذرية من أربعة أوجه: تكون نداء مضافا، وتكون بدلا من وكيل لأنه بمعنى جمع، وتكون هي ووكيل مفعولين كما تقول: لا تتخذ زيدا صاحبا، والوجه الرابع بمعنى أعني، ويجوز الرفع على قراءة من قرأ بالياء على البدل من الواو، ولا يجوز البدل من الواو على قراءة من قرأ بالتاء: ولا يقال: كلّمتك زيدا، ولا كلمتني زيدا، لأن المخاطب والمخاطب لا يحتاجان إلى تبيين.
[سورة الإسراء (17): آية 4]
{وَقَضَيْنََا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ فِي الْكِتََابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)}
{وَقَضَيْنََا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ} قد ذكرنا قول ابن عباس رحمه الله أن معناه أعلمناهم.
وأصل قضى في اللّغة عمل عملا محكما، والقاضي هو المحكم الأمر النافذة، والقضاء: الأمر النافذ المحكم الذي لا يدفع. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية {وَقَضَيْنََا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ فِي الْكِتََابِ} وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد (1) ونصر بن عاصم أنهم قرءوا {لَتُفْسِدُنَّ} (2) على ما لم يسمّ فاعله. {وَلَتَعْلُنَّ} أي ولتعظّمنّ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ولأن قبلها ما يدلّ عليها.
[سورة الإسراء (17): آية 5]
{فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ أُولاََهُمََا بَعَثْنََا عَلَيْكُمْ عِبََاداً لَنََا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجََاسُوا خِلاََلَ الدِّيََارِ وَكََانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)}
{فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ أُولََاهُمََا بَعَثْنََا عَلَيْكُمْ عِبََاداً لَنََا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قيل: أي خلّينا بينكم وبينهم، وقرأ الحسن فجاسوا خلل الديار (3). قال أبو إسحاق: أصل الجوس طلب الشيء باستقصاء أي طلبوا هل يجدون أحدا لم يقتلوه و {خِلََالَ} ظرف أي في خلال الديار.
{وَكََانَ وَعْداً مَفْعُولًا} خبر كان، واسمها فيها مضمر.
[سورة الإسراء (17): آية 6]
{ثُمَّ رَدَدْنََا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنََاكُمْ بِأَمْوََالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنََاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)}
{ثُمَّ رَدَدْنََا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي نصرناكم عليهم حتّى كررتم. {وَجَعَلْنََاكُمْ أَكْثَرَ} مفعولان. {نَفِيراً} على البيان.
__________
(1) جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي البصري، وردت له حروف في القرآن، صاحب ابن عباس (ت 93هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 189.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 8، ومختصر ابن خالويه 75.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 9، والإتحاف 171.(2/265)
[سورة الإسراء (17): آية 7]
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمََا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مََا عَلَوْا تَتْبِيراً (7)}
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} أي الثواب لكم، وهو شرط وجوابه {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا} أي يحصل العقاب لها، ولها بمعنى عليها لا يقوله النحويون الحذّاق، وهو قلب المعنى وليس احتجاجهم بالحديث «اشترطي الولاء لهم» (1) بشيء، وقد اختلف في هذا الحديث فرواه جماعة على هذا اللفظ من حديث مالك بن أنس وهو رواية الشافعي عنه «واشترطي الولاء لهم»، وهذا معنى صحيح بيّن. يقال: اشترط الشيء إذا بيّنه، كما قال: [الطويل] 266 فأشرط فيها نفسه وهو معصم (2)
وعلى الرواية الأخرى يكون المعنى «واشترطي الولاء لهم» أي من أجلهم، كما تقول: أنا أكرم فلانا لك، وفيه قول آخر يكون بمعنى النهي على التهديد والوعيد:
{فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي وعد المرة الآخرة، وأقيمت الصفة مقام الموصوف، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة {لِيَسُوؤُا} (3) على الجمع، وقرأ أهل الكوفة ليسوء وجوهكم (4) على التوحيد إلّا الكسائي فإنّه قرأ لنسوء وجوهكم (5)، وزعم أنها قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن أبيّ بن كعب روايتان: إحداهما أنه قرأ (لنسوءن وجوهكم) (6) اللام مفتوحة وهي لام قسم بالنون الخفيفة والوقف عليها بالألف فرقا بين الخفيفة والثقيلة، وروي عنه (ليسيء وجوهكم) بياءين وهمزة. قال أبو جعفر:
القراءة الأولى على الجمع يدلّ عليها {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمََا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مََا عَلَوْا} والقراءة الثانية فيها ثلاثة أقوال: يكون المعنى ليسوء الله جلّ وعزّ وقال الفراء (7): ليسوء العذاب. قال أبو إسحاق: ليسوء الوعد واللام فيهما لام كي، وكذا القراءة الثالثة وفي الكلام حذف، والمعنى: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم فهذا الفعل جواب (إذا)، ولام كي متعلّقة به. وفي معنى بعثناهم قولان: أحدهما خلّينا بينكم
__________
(1) أخرجه مالك في الموطّأ باب 10حديث رقم (17).
(2) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه 87، ولسان العرب (شرط) و (عصم)، وجمهرة اللغة 726، وأساس البلاغة (شرط)، وكتاب العين 6/ 236، وتاج العروس (شرط) و (عصم)، وسمط اللآلي 492، والفاخر 123، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 260، وعجزه:
«وألقى بأسباب له وتوكّلا»
(3) انظر تيسير الداني 113.
(4) انظر تيسير الداني 113.
(5) انظر تيسير الداني 113.
(6) انظر معاني الفراء 2/ 117، والبحر المحيط 6/ 10.
(7) انظر معاني الفراء 2/ 117.(2/266)
وبينهم ولم نخوّفهم منكم فكان هذا مجازا جعل التخلية وترك التخويف بعثا، ومثله {أَنََّا أَرْسَلْنَا الشَّيََاطِينَ عَلَى الْكََافِرِينَ} [مريم: 83] والقول الآخر: معنى بعثنا عليكم أمرناهم بغزوكم لما عصيتم وأفسدتم، وهذا حقيقة لا مجاز. وزعم الفراء أن من قرأ ليسوآ وجوهكم فهو الجواب عنده بغير حذف، ولكنه أضمر فعلا في «وليتبّروا» قال قتادة: المعنى وليتبّروا ما علوا عليه، وقال غيره: وليتبّروا ما داموا عالين وحقيقته في العربية وليتبّروا وقت علوهم، كما تقول: فلان يؤذيك ما ولي.
[سورة الإسراء (17): آية 8]
{عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنََا وَجَعَلْنََا جَهَنَّمَ لِلْكََافِرِينَ حَصِيراً (8)}
{عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} قال الضحاك: الرحمة هاهنا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم. {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنََا} قيل: إن عدتم للمعصية عدنا لترك النصر {وَجَعَلْنََا جَهَنَّمَ لِلْكََافِرِينَ حَصِيراً} مفعولان.
[سورة الإسراء (17): آية 9]
{إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)}
{إِنَّ هََذَا الْقُرْآنَ} نعت لهذا، والخبر في {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ} في موضع نصب أي بأنّ.
[سورة الإسراء (17): آية 10]
{وَأَنَّ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنََا لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً (10)}
{وَأَنَّ الَّذِينَ} معطوف عليه.
[سورة الإسراء (17): آية 11]
{وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ بِالشَّرِّ دُعََاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكََانَ الْإِنْسََانُ عَجُولاً (11)}
{وَيَدْعُ الْإِنْسََانُ} حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقّف عليه لأنه في السواد بغير واو، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلّا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلّا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها، وكذا يدعو ويرجو وإنّما تكون الألف مع واو الجميع فرقا بينها وبين الواو التي تكون لام الفعل في الواحد، وقال الأخفش: تكون في الجميع فرقا بينها وبين الواو العطف، وقال أحمد بن يحيى: تكون فرقا بين المضمر المنصوب والمؤكّد. {دُعََاءَهُ بِالْخَيْرِ} قال الأخفش: هذا كما تقول: انطلقت انطلاقا، أي هو مصدر، وقال الفراء (1): المعنى كدعائه. قال أبو جعفر: وليس حذف الكاف مما يوجب نصبا ولا غيره ولا اختلاف بين النحويين أنه يقال: عمرو كالأسد فإن حذفت الكاف قلت: عمرو الأسد، وحقيقة القول في الآية أن التقدير: يدعو الإنسان بالشرّ دعاء مثل دعائه بالخير ثم أقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف إليه مقام المضاف.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 118.(2/267)
[سورة الإسراء (17): الآيات 12الى 13]
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسََابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً (13)}
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ آيَتَيْنِ} مفعولان وكلّ واحد منهما يأتي في إثر صاحبه وينصرف عند مجيئه فهما آيتان دالتان على مدبر لهما. {فَمَحَوْنََا آيَةَ اللَّيْلِ} أي لم نجعل لها ضياء ونورا كنور النهار، والشيء الممحو هو الذي لا يتبيّن. {وَجَعَلْنََا آيَةَ النَّهََارِ مُبْصِرَةً} وهي الشّمس وضوؤها {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وفي الكلام حذف أي ولتسكنوا في الليل {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنََاهُ تَفْصِيلًا} أي جعلنا بين الآية والآية فصلا لتستدلّوا بدلائل الله جلّ وعزّ ونصب (كل شيء) بإضمار فعل، وكذا {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ كِتََاباً يَلْقََاهُ مَنْشُوراً} من نعت كتاب، وإن شئت على الحال، وقد ذكرنا الآية وما فيها من القراءات.
[سورة الإسراء (17): آية 14]
{اقْرَأْ كِتََابَكَ كَفى ََ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)}
{اقْرَأْ كِتََابَكَ} علامة الجزم والبناء حذف الضمّة من الهمزة، وحكي عن العرب:
أقر يا هذا، على إبدال الهمزة، ومنه وقول زهير: [الطويل] 267 وإلّا يبد بالظّلم يظلم (1)
{كَفى ََ بِنَفْسِكَ} في موضع رفع والباء زائدة للتوكيد. {حَسِيباً} على البيان، وإن شئت على الحال. قال أبو إسحاق: ويجوز في غير القرآن حسيبة.
[سورة الإسراء (17): آية 15]
{مَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا وَلاََ تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)}
{مَنِ اهْتَدى ََ} شرط، والجواب {فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} وكذا {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا} أي عمله له، ويدلّ على هذا {وَلََا تَزِرُ وََازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ََ} وفي معناه قولان: أحدهما لا يؤخذ أحد بذنب أحد، والآخر أنّ المعنى لا ينبغي لأحد أن يقتدي بأحد ويقلّده في الشر، كما قال جلّ وعزّ {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ} * [الزخرف: 22] ويقال وزر يزر والأصل يوزر حذفت الواو عند البصريين لوقوعها بين ياء وكسرة، والمصدر وزر ووزر ووزرة {وَمََا كُنََّا مُعَذِّبِينَ حَتََّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فيه قولان: أحدهما أن المعنى وما كنا معذّبين العذاب الذي يكون عقوبة على مخالفة الشيء الذي لا يعرف إلا بالإخبار حتى نبعث رسولا، والآخر أنه عذاب الاستئصال.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (16).(2/268)
[سورة الإسراء (17): آية 16]
{وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا فَفَسَقُوا فِيهََا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنََاهََا تَدْمِيراً (16)}
وقد ذكرنا {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} (1) والقراءات التي فيه.
[سورة الإسراء (17): آية 17]
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى ََ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبََادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)}
{وَكَمْ} في موضع نصب بأهلكنا.
[سورة الإسراء (17): آية 18]
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعََاجِلَةَ عَجَّلْنََا لَهُ فِيهََا مََا نَشََاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنََا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاََهََا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)}
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعََاجِلَةَ} أي لا يريد ثوابا في الآخرة لم نمنعه ذلك {لِمَنْ نُرِيدُ}.
[سورة الإسراء (17): آية 20]
{كُلاًّ نُمِدُّ هََؤُلاََءِ وَهَؤُلاََءِ مِنْ عَطََاءِ رَبِّكَ وَمََا كََانَ عَطََاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)}
{كُلًّا} نصب بنمدّ. {هََؤُلََاءِ} بدل من كلّ. {وَهَؤُلََاءِ} عطف عليه أي نرزق المؤمن والكافر {وَمََا كََانَ عَطََاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}. قال سعيد عن قتادة أي منقوصا.
[سورة الإسراء (17): آية 21]
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنََا بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجََاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)}
{كَيْفَ} في موضع نصب بفضلنا إلا أنها مبنيّة غير معرّبة {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ} ابتداء وخبر. {دَرَجََاتٍ} في موضع نصب على البيان، وكذا {تَفْضِيلًا} قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عاليا رأى فضله على من هو أسفل منه، ومن كان دونه لم ير أنّ أحدا فوقه أفضل منه.
[سورة الإسراء (17): آية 22]
{لاََ تَجْعَلْ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)}
{فَتَقْعُدَ} منصوب على جواب النهي.
[سورة الإسراء (17): آية 23]
{وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلاََّ تَعْبُدُوا إِلاََّ إِيََّاهُ وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً إِمََّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمََا أَوْ كِلاََهُمََا فَلاََ تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ وَلاََ تَنْهَرْهُمََا وَقُلْ لَهُمََا قَوْلاً كَرِيماً (23)}
{وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} مصدر. {إِمََّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما (2) (إمّا يبلغانّ عندك الكبر) والقراءة الأولى أبين في العربية لأن أحدهما واحد، وتجوز الثانية كما تقول: جاءاني أحدهما أو كلاهما على البدل لأنك قد جئت بعد الفعل بثلاثة والوجه جاءني أحدهما أو كلاهما، وإن شئت قلت: جاءاني كلاهما أو أحدهما على أن يكون كلاهما توكيدا وأحدهما
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 6/ 15.
(2) انظر تيسير الداني 113، والبحر المحيط 6/ 23.(2/269)
عطفا. {فَلََا تَقُلْ لَهُمََا أُفٍّ} فيه سبع لغات: قرأ الحسن وأهل المدينة (ولا تقل لهما أفّ) (1) بالكسر والتنوين، وقال أبو عمرو وأهل الكوفة بالكسر بغير تنوين، وقرأ أهل مكة وأهل الشام بالفتح بغير تنوين، وحكى الكسائي والأخفش ثلاث لغات سوى هذه.
حكيا النصب بالتنوين والضم بالتنوين والضم بغير تنوين، وحكى الأخفش اللغة السابعة. قال: يقال: أفّي بإثبات الياء كأنه قال هذا القول لك. قال أبو جعفر: القراءة الأولى يكون الكسر فيها لالتقاء الساكنين والتنوين لأنه نكرة فرقا بينه وبين المعرفة، وهي قراءة حسنة، وأصل الساكنين إذا التقيا الكسر، وزعم الأصمعي أنه لا يجوز إلّا التنوين في مثل هذه الأشياء وأن ذا الرمة لحن في قوله: [الطويل] 268 وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم ... وما بال تكليم الدّيار البلاقع (2)
وكان الأصمعي مولعا بردّ اللغات الشاذة التي لا تكثر في كلام الفصحاء. فأما النحويون الحذّاق فيقولون: حذف التنوين على أنه معرفة وعلى هذا القراءة الثانية والقراءة الثالثة لأن الفتح خفيف والتضعيف ثقيل والتنوين كما تقدّم والضمّ بغير تنوين على الاتباع، كما يقال: ردّ، والتنوين كما ذكرنا إلّا أنّ الأخفش قال: التنوين قبيح إذا رفعت لأنه ليس في الكلام معه لام كأنه يقدّر رفعه بالابتداء، كما يقال: ويل له، وزعم أنّ النصب بالتنوين كما يقال: تعسا له. {وَقُلْ لَهُمََا قَوْلًا كَرِيماً} أي قولا تكرمهما به وتعظّمهما به.
[سورة الإسراء (17): آية 28]
{وَإِمََّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهََا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)}
{وَإِمََّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي عن ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل {ابْتِغََاءَ رَحْمَةٍ} مفعول من أجله أي طلب رزق تنتظره. {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً} قيل: برفق ولين وعدة.
[سورة الإسراء (17): آية 29]
{وَلاََ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلاََ تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)}
{وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ} اليد مؤنّثة والعنق يذكّر ويؤنّث، والأكثر التذكير كما قال: [الرجز] 269 في سرطم هاد وعنق عرطل (3)
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 22، وتيسير الداني 113.
(2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 778، والأشباه والنظائر 6/ 201، وإصلاح المنطق ص 291، وتذكرة النحاة ص 658، وخزانة الأدب 6/ 208، ورصف المباني ص 344، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 494، وشرح المفصّل 4/ 31، ولسان العرب (أيه)، وتاج العروس (أيه)، وما ينصرف وما لا ينصرف 109، ومجالس ثعلب ص 275، وكتاب العين 4/ 104، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 237، والمقتضب 3/ 179، والمخصص 14/ 81.
(3) الشاهد لأبي النجم في الخصائص 1/ 270، واللسان (عراحل).(2/270)
حذف الضمة في عنق لثقلها.
[سورة الإسراء (17): آية 30]
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كََانَ بِعِبََادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)}
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ} أي يضيّق ويفعل من ذلك ما فيه الصلاح ودلّ على هذا {إِنَّهُ كََانَ بِعِبََادِهِ خَبِيراً} أي يعلم ما يصلحهم. وفي معنى «فتقعد ملوما محسورا» قولان: أحدهما قول الفراء: (1) إنه بمنزلة المحسور أي الكالّ المتعب، وحكى: حسرت الدّابة فهي محسورة وحسير إذا سيّرتها حتى تنقطع، والقول الآخر «محسورا» بمعنى من قد لحقته الحسرة.
[سورة الإسراء (17): آية 31]
{وَلاََ تَقْتُلُوا أَوْلاََدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاََقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيََّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كََانَ خِطْأً كَبِيراً (31)}
{إِنَّ قَتْلَهُمْ كََانَ خِطْأً} خبر كان واسمها فيها مضمر والجملة خبر إنّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما فيه من القراءات (2).
[سورة الإسراء (17): آية 32]
{وَلاََ تَقْرَبُوا الزِّنى ََ إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَسََاءَ سَبِيلاً (32)}
{وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ} ومن العرب من يمدّه يجعله مصدرا من زانى لأنه لا يكن إلّا من اثنين. {إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَسََاءَ سَبِيلًا} على البيان أي طريقه سيّئ وفعله قبيح.
[سورة الإسراء (17): آية 33]
{وَلاََ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلاََّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنََا لِوَلِيِّهِ سُلْطََاناً فَلاََ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كََانَ مَنْصُوراً (33)}
{وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} قد ذكرناه (3). {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ} على الحال {فَقَدْ جَعَلْنََا} الإدغام حسن، لأن الدال من طرف اللسان والجيم من وسطه فهما متقاربتان والإظهار جائز {لِوَلِيِّهِ} أي أقرب الناس إليه. {سُلْطََاناً} قال سعيد بن جبير كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة. قال أبو إسحاق: من قرأ {فَلََا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (4)
جعله خبرا أي فليس يسرف قاتل وليّه {إِنَّهُ كََانَ مَنْصُوراً} في الضمير خمسة أقوال:
يكون للوليّ، وهذا أولاها عند أهل النظر لأنه أقرب إليه. قال ابن كثير عن مجاهد: إن المقتول كان منصورا، وهذا قول حسن لأن المقتول قد نصر في الدنيا لمّا أمر بقتل قاتله وفي الآخرة بإجزال الثواب وتعذيب قاتله، وقيل: إنّ القتل كان منصورا. قال
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 122.
(2) القراءات المختلفة في البحر المحيط 6/ 29.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 30.
(4) انظر المحتسب 2/ 20، والبحر المحيط 6/ 31.(2/271)
الفراء (1): يجوز أن يكون المعنى إنّ القتل لأنه فعل، والقول الخامس قول أبي عبيد، قال: يكون إنّ القاتل الأول كان منصورا إذا قتل. وهذا أبعدها وأشدّها تعسفا.
[سورة الإسراء (17): آية 34]
{وَلاََ تَقْرَبُوا مََالَ الْيَتِيمِ إِلاََّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتََّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كََانَ مَسْؤُلاً (34)}
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كََانَ مَسْؤُلًا} فدخل في هذا كلّ ما أمر الله به لأنه قد عهد إلينا فيه.
[سورة الإسراء (17): آية 36]
{وَلاََ تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤََادَ كُلُّ أُولََئِكَ كََانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)}
{وَلََا تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فدخل في هذا النهي عن قذف المحصنات وعن القول في الناس بما لا يعلم وعن الكلام في الفقه والدين بالظنّ وأن لا يقول أحد ما لا يحقّه. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤََادَ كُلُّ أُولََئِكَ كََانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} فدخل في هذا النهي عن الاستماع إلى ما لا يحلّ استماعه وعن الهمّ والعزم بما لا يحلّ النظر إليه، واعلم أن الإنسان مسؤول عن ذلك كلّه، وقال: أولئك في غير الناس لأن كلّ ما يشار إليه وهو متراخ فلك أن تقول فيه: أولئك، كما قال: [الكامل] 270 ذمّ المنازل غير منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام (2)
[سورة الإسراء (17): آية 37]
{وَلاََ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبََالَ طُولاً (37)}
{وَلََا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أي ذا مرح، وحكى يعقوب القارئ {مَرَحاً} (3) بكسر الراء على الحال. قال الأخفش: وكسر الراء أجود لأنه اسم الفاعل. قال أبو إسحاق:
فتح الراء أجود لأنه فيه معنى التوكيد، كما يقال: جاء فلان ركضا، وجعله مصدرا في موضع الحال. والمرح في اللغة الأشر والبطر ويكون منه التختر والتكبّر. {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} أي لن تبلغ قوتك هذا. {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبََالَ طُولًا} فلا ينبغي أن تتكبّر وتترفّع.
[سورة الإسراء (17): آية 38]
{كُلُّ ذََلِكَ كََانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)}
فاحتجّوا بأشياء قد تقدّمت حسان منها {وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً} ومنها {وَقُلْ لَهُمََا قَوْلًا كَرِيماً}، واحتجّ أبو حاتم بقوله «مكروها» ولم يقل مكروهة. قال أبو جعفر: لا يلزم
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 123.
(2) الشاهد لجرير في ديوانه 990، وتخليص الشواهد 123، وخزانة الأدب 5/ 430، وشرح التصريح 1/ 128، وشرح شواهد الشافية 167، وشرح المفصل 9/ 129، ولسان العرب (أولى)، والمقاصد النحوية 1/ 408، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 134، وشرح الأشموني 1/ 63، وشرح ابن عقيل ص 72، والمقتضب 1/ 185.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 34.(2/272)
من هذه الاحتجاجات شيء لأن الأشياء الحسان تقدّمت في باب الأمر ثم جاء النهي فجاء بعده {كُلُّ ذََلِكَ كََانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} لما نهي عنه، وقال مكروها ولم يقل: مكروهة لأنه عائد على لفظ كلّ وهو خبر ثان عن المضمر الذي في كان والمضمر مذكّر.
[سورة الإسراء (17): آية 40]
{أَفَأَصْفََاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاََئِكَةِ إِنََاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)}
{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا} مصدر فيه معنى التوكيد {عَظِيماً} من نعته.
[سورة الإسراء (17): آية 41]
{وَلَقَدْ صَرَّفْنََا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمََا يَزِيدُهُمْ إِلاََّ نُفُوراً (41)}
قال أبو إسحاق: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا} أي ولقد بيّنا. قال: والمعنى {وَمََا يَزِيدُهُمْ} أي التبيين {إِلََّا نُفُوراً}.
[سورة الإسراء (17): آية 42]
{قُلْ لَوْ كََانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمََا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)}
{لَابْتَغَوْا} لطلبوا.
[سورة الإسراء (17): آية 43]
{سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)}
أي تعاليا، كما قال: [الوافر] 271 وليس بأن تتبّعه اتّباعا (1)
[سورة الإسراء (17): آية 44]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمََاوََاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاََّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلََكِنْ لاََ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كََانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)}
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمََاوََاتُ السَّبْعُ} على تأنيث الجماعة ويسبح على تذكير الجميع. {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم: هو التسبيح الذي يعرف، وقال بعضهم: هو مخصوص، وقال بعضهم: تسبيحه دلالته على تنزيه الله جلّ وعزّ وتأوّل {وَلََكِنْ لََا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} على أن مخاطبة للكفار الذين لا يستدلّون، وقيل:
ولكن لا تفقهون مخاطبة للناس وإذا كان فيهم من لا يفقه ذلك فلم يفقهوا. {إِنَّهُ كََانَ حَلِيماً} أي حليما عن هؤلاء الذين لا يستدلّون. {غَفُوراً} لمن تاب منهم.
[سورة الإسراء (17): آية 45]
{وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً (45)}
قيل: هؤلاء قوم كانوا إذا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بمكة ليستدعي الناس سبّوه
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (77).(2/273)
فأعلمه الله جلّ وعزّ أنه يحول بينهم وبينه حتى لا يفهموا قراءته. قال الأخفش:
«مستورا» أي ساترا ومفعول يكون بمعنى فاعل كما يقال: مشؤوم وميمون أي شائم ويا من لأن الحجاب هو الذي يستر، وقال غيره: الحجاب مستور على الحقيقة لأنه شيء مغطّى عنهم.
[سورة الإسراء (17): آية 46]
{وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً وَإِذََا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى ََ أَدْبََارِهِمْ نُفُوراً (46)}
{وَلَّوْا عَلى ََ أَدْبََارِهِمْ نُفُوراً} نصب على الحال على أنه جمع نافر، ويجوز أن يكون واحدا على أنه مصدر.
[سورة الإسراء (17): آية 47]
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى ََ إِذْ يَقُولُ الظََّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاََّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)}
{وَإِذْ هُمْ نَجْوى ََ} مبتدأ وخبره والتقدير: ذو نجوى.
[سورة الإسراء (17): آية 48]
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثََالَ فَضَلُّوا فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)}
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثََالَ} أي قالوا مرة هو مخدوع ومرة هو ساحر ليلحقوا بك الكذب، {فَضَلُّوا} عن سبيل الحق {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} إليه.
[سورة الإسراء (17): آية 49]
{وَقََالُوا أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً وَرُفََاتاً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)}
{خَلْقاً} مصدر {جَدِيداً} من نعته. وجديد في المذكّر والمؤنّث بمعنى واحد، وجديدة في المؤنث لغة رديئة عند سيبويه.
[سورة الإسراء (17): الآيات 50الى 51]
{قُلْ كُونُوا حِجََارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمََّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنََا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى ََ هُوَ قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)}
{قُلْ كُونُوا حِجََارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمََّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي توهّموا ما شئتم فلا بدّ من أن تموتوا وتبعثوا. وكانت هذه الآيات من أعظم الدلائل على نبوّة النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الله جلّ وعزّ: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنََا} فأخبر جلّ وعزّ بأنّهم سيقولون هذا، وأخبر أنهم يحرّكون رؤوسهم استبعادا لما قال لهم وأنهم يقولون مع تحريك رؤوسهم أو بعده. {مَتى ََ هُوَ} وتلى عليهم فكان الأمر على ذلك.
[سورة الإسراء (17): آية 52]
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاََّ قَلِيلاً (52)}
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} قال سعيد بن جبير: يخرج الناس من قبورهم وهم
يقولون: سبحانك وبحمدك. {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا} قيل: إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها.(2/274)
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} قال سعيد بن جبير: يخرج الناس من قبورهم وهم
يقولون: سبحانك وبحمدك. {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلََّا قَلِيلًا} قيل: إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها.
[سورة الإسراء (17): آية 53]
{وَقُلْ لِعِبََادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطََانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)}
{وَقُلْ لِعِبََادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي المقالة التي هي أحسن. قال المازني: المعنى:
قل لعبادي قولوا يقولوا إنّ الشيطان ينزغ بينهم أي يحرّض الكافرين على المؤمنين.
[سورة الإسراء (17): آية 56]
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاََ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاََ تَحْوِيلاً (56)}
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} في الكلام حذف دلّ عليه ما بعده، والتقدير: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم من دون الله فليكشفوا عنكم الضّرّ وليحوّلوكم من الضيق والشدّة إلى السّعة ودلّ على هذا {فَلََا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلََا تَحْوِيلًا} أي لن يحوّلوكم من الضيق والشدة إلى السعة والخصب.
[سورة الإسراء (17): آية 57]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى ََ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخََافُونَ عَذََابَهُ إِنَّ عَذََابَ رَبِّكَ كََانَ مَحْذُوراً (57)}
{أُولََئِكَ} مبتدأ. {الَّذِينَ يَدْعُونَ} من نعته، والخبر {يَبْتَغُونَ إِلى ََ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وفي قراءة ابن مسعود رحمه الله {أُولََئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} (1) لأن قبله قل ادعوا، والتقدير:
يبتغون الوسيلة إلى ربهم ينظرون. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} فيتوسّلون: والفرق بين هؤلاء وبين من توسّل بعبادة المسيح عليه السلام وغيره أن هؤلاء توسلوا وهم موحّدون وأولئك توسلوا بعبادة غير الله جلّ وعزّ فكفروا و {أَيُّهُمْ} رفع بالابتداء و {أَقْرَبُ} خبره، ويجوز أن يكون «أيّهم» بدلا من الواو ويكون بمعنى الذي، والتقدير يبتغي الذي هو أقرب الوسيلة وأضمرت «هو» وسيبويه (2) يجعل أيّا على هذا التقدير مبنيّة. وهو قول مردود وسنذكر ما فيه إن شاء الله (3). والذين يدعون من كان مطيعا لله جلّ وعزّ، والتقدير: يدعونهم آلهة، وفي الآية قول آخر يكون متصلا بقوله جلّ وعزّ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض أولئك الذين يدعون أي أولئك النبيون الذين يدعون الله جلّ وعزّ {يَبْتَغُونَ إِلى ََ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال عطاء: أي القربة. قال أبو إسحاق: الوسيلة والسؤال والطلبة واحد. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخََافُونَ عَذََابَهُ} أي الذين يعبدونهم المطيعون يرجون رحمته ويخافون عذابه على الجواب الأول.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 50.
(2) انظر الكتاب 2/ 420.
(3) انظر إعراب الآية 69سورة مريم.(2/275)
[سورة الإسراء (17): آية 58]
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاََّ نَحْنُ مُهْلِكُوهََا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيََامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهََا عَذََاباً شَدِيداً كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً (58)}
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي أهل قرية. {إِلََّا نَحْنُ مُهْلِكُوهََا} بالموت {أَوْ مُعَذِّبُوهََا} بالاستئصال لعصيانهم {كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً} أي في الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ للملائكة عليهم السلام فيه أخبار العباد ليستدلّوا بذلك على قدرته.
[سورة الإسراء (17): آية 59]
{وَمََا مَنَعَنََا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيََاتِ إِلاََّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهََا وَمََا نُرْسِلُ بِالْآيََاتِ إِلاََّ تَخْوِيفاً (59)}
{وَمََا مَنَعَنََا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيََاتِ إِلََّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} أن الثانية في موضع رفع بالمنع والأولى في موضع نصب به. وهذه آية مشكلة. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا علي بن عبد الله قال: حدّثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكّة أن يجعل لهم الصفا ذهبا أو ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم لعلنا أن نجتبي منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت قبلهم الأمم.
قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى: {وَمََا مَنَعَنََا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيََاتِ إِلََّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً}. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلّا أن كذّب بمثلها الأولون فأهلكوا واستؤصلوا فجعل الله جلّ وعزّ ما فيه من الصلاح لهم، فإن قال قائل: فقد أعطي الأولون مثل هذا ولم يؤمنوا فما الفرق؟ فالجواب أنّ الفرق بينهم علم الله جلّ وعزّ بأنّ من هؤلاء من يؤمن ومن هؤلاء ومن أولادهم من يؤمن، وأنّ أولئك لا يؤمنون ولا يولد لهم من يؤمن.
{وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ} مفعولان ولم ينصرف ثمود لأنه جعله اسما للقبيلة، ويجوز صرفه بجعله اسما للحيّ {مُبْصِرَةً} على الحال، وهو عند أكثر النحويين البصريين على النسب، وقال بعضهم: مبصرة: بمعنى مبصّرة أي مبيّنة مثل مكرم ومكرّم، وقال الفراء (1): مبصرة أي مضيئة مثل {وَالنَّهََارَ مُبْصِراً} * [يونس: 67، والنمل: 86، وغافر: 61]. قال الفراء: ومن قال (مبصرة) (2) أراد مثل قول عنترة: [الكامل] 272 والكفر مخبثة لنفس المنعم (3)
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 126.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 51.
(3) الشاهد لعنترة العبسي من معلّقته في ديوانه 28، والتهذيب 1/ 316، ومعاني الفراء 2/ 126، والخزانة 1/ 336، وشرح القصائد العشر للتبريزي 368، وصدره:
«نبّئت عرا غير شاكي نعمتي»(2/276)
قال فإذا وضعت مفعلة مكان فاعل كفت من الجمع والتأنيث. قال أبو إسحاق:
من قرأ مبصرة فالمعنى مبيّنة {فَظَلَمُوا بِهََا} التقدير فظلموا بعقرها وكفرهم بخالقها. {وَمََا نُرْسِلُ بِالْآيََاتِ إِلََّا تَخْوِيفاً} قيل يعني به الآيات التي تتلى.
[سورة الإسراء (17): آية 60]
{وَإِذْ قُلْنََا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحََاطَ بِالنََّاسِ وَمََا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنََاكَ إِلاََّ فِتْنَةً لِلنََّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمََا يَزِيدُهُمْ إِلاََّ طُغْيََاناً كَبِيراً (60)}
{وَإِذْ قُلْنََا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحََاطَ بِالنََّاسِ} قال أبو جعفر: قد ذكرناه وقد قيل: إنّ ربك أحاط بالناس علما ومعرفة وتدبيرا فلهذا لم يعطهم الآيات التي اقترحوها لعلمه جلّ وعزّ بهم. {وَمََا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنََاكَ إِلََّا فِتْنَةً لِلنََّاسِ} مفعولان أي محنة امتحنوا بها وتكليفا وقد تكلّم العلماء في هذه الرؤيا فمن أحسن ما قيل فيها وصحيحه أنها الرؤيا التي رآها محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، فلما ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبيّة عن البيت فافتتن جماعة من الناس حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم تعدنا أنّا ندخل المسجد الحرام فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أقلت لكم في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنكم ستدخلونه، فدخلوه في العام المقبل كما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ: {وَمََا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنََاكَ إِلََّا فِتْنَةً لِلنََّاسِ} قال: هي رؤيا عين رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به لا رؤيا نوم. قال {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} شجرة الزقوم. قال الفراء (1): ويجوز {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} بالرفع يجعله نسقا على المضمر الذي في فتنة قال كما تقول: جعلتك عاملا وزيدا وزيد. {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمََا يَزِيدُهُمْ إِلََّا طُغْيََاناً كَبِيراً} قال السّدّي: الطغيان المعصية، وقال مجاهد: هذا في أبي جهل.
[سورة الإسراء (17): آية 61]
{وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلاََئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاََّ إِبْلِيسَ قََالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61)}
{قََالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ} التقدير لمن خلقته وحذفت الهاء لطول الاسم. قال أبو إسحاق: {طِيناً} منصوب على الحال، والمعنى: أأسجد لمن أنشأته في حال كونه طينا.
[سورة الإسراء (17): آية 62]
{قََالَ أَرَأَيْتَكَ هََذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاََّ قَلِيلاً (62)}
{قََالَ أَرَأَيْتَكَ} (2) الكاف لا موضع لها من الإعراب وإنما هي لتوكيد المخاطبة، وحكى سيبويه: أريتك زيدا أبو من هو، وقد ذكرنا هذا باختلاف النحويين في سورة
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 126.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 54.(2/277)
الأنعام (1). {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال «لأحتنكنّ» لأستولينّ، وقال مجاهد: لأحتوينّ مثل زناق الناقة والدابة وهي حناكها، وقال غيره: إنما قال إبليس هذا لمّا قال الله جلّ وعزّ {إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قََالُوا أَتَجْعَلُ فِيهََا مَنْ يُفْسِدُ فِيهََا وَيَسْفِكُ الدِّمََاءَ} [البقرة: 30].
[سورة الإسراء (17): آية 63]
{قََالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزََاؤُكُمْ جَزََاءً مَوْفُوراً (63)}
أي مكمّلا.
[سورة الإسراء (17): آية 64]
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشََارِكْهُمْ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلاََدِ وَعِدْهُمْ وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ إِلاََّ غُرُوراً (64)}
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} هذا على جهة التهاون به وبمن اتّبعه والتهديد له لأنّ من عصى فإنّما عصيانه على نفسه وليس ذلك بضارّ غيره. والعرب تفعل هذا على جهة التهديد ومثله {اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ولا يقع هذا إلّا بعد النهي فالله جلّ وعزّ قد نهى عن المعاصي، وكما تقول: يا غلام لا تكلّم فلانا، ثم تهدّده وتحذّره فتقول: كلّمه إن كنت صادقا، وكذا {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قيل: إنّ هذا على التمثيل، وقيل: يجوز أن يكون له خيل ورجل، وقيل: هذا الخيل والرّجل الذين يسعون في المعاصي، وكذا {وَشََارِكْهُمْ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلََادِ} هو أن يزيّن لهم أن ينفقوا أموالهم ويستعملوا أولادهم في المعاصي.
[سورة الإسراء (17): آية 65]
{إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ وَكَفى ََ بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)}
{إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ} قيل: معناه خلصائي ومن أحسن ما قيل فيه أنه لا سلطان له على أحد لأنّ العباد هاهنا جميع الخلق، والسلطان: الحجّة. كذا قال سعيد بن جبير لا حجة له على أحد توجب أن يقبل منه، وفيه قول ثالث يكون المعنى أنّ عبادي جميعا لا تسلّط لك عليهم إلّا الوسوسة، وصاحب هذا القول يستدلّ به على أنه لا يصل أحد من الجنّ إلى صرع أحد من الأنس {وَكَفى ََ بِرَبِّكَ وَكِيلًا} على البيان.
[سورة الإسراء (17): آية 67]
{وَإِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاََّ إِيََّاهُ فَلَمََّا نَجََّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكََانَ الْإِنْسََانُ كَفُوراً (67)}
{وَإِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} أي عصوف الرياح والخوف من الغرق {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلََّا إِيََّاهُ} لأنكم تعلمون أنهم لا يغنون عنكم شيئا إلّا إيّاه فترجعون فتدعونه. وهذا من
__________
(1) انظر إعراب الآية 40سورة الأنعام.(2/278)
الدلائل على البارئ تبارك اسمه أنّه ليس أحد يقع في شدة من مؤمن أو مشرك أو ملحد إلا وهو يستغيث به.
[سورة الإسراء (17): آية 68]
{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جََانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً ثُمَّ لاََ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)}
{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جََانِبَ الْبَرِّ} على الظرف {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً} أي رجما من فوقكم.
[سورة الإسراء (17): آية 69]
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تََارَةً أُخْرى ََ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قََاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمََا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاََ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنََا بِهِ تَبِيعاً (69)}
{ثُمَّ لََا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنََا بِهِ تَبِيعاً} تابعا يتبعنا في إنكار ذلك أو صرفه عنكم.
[سورة الإسراء (17): آية 70]
{وَلَقَدْ كَرَّمْنََا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنََاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَفَضَّلْنََاهُمْ عَلى ََ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنََا تَفْضِيلاً (70)}
{وَفَضَّلْنََاهُمْ عَلى ََ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنََا تَفْضِيلًا} ولم يقل: على كلّ من خلقنا لأن الملائكة أفضل منهم لطاعتهم وأنّهم لا معصية لهم {تَفْضِيلًا} مصدر فيه معنى التوكيد.
[سورة الإسراء (17): آية 71]
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ بِإِمََامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتََابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولََئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتََابَهُمْ وَلاََ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)}
{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ} التقدير: أذكر يوم ندعوا، ويجوز أن يكون التقدير:
يعيدكم الذي فطركم {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنََاسٍ بِإِمََامِهِمْ} وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال:
بإمامهم بنبيّهم، وروي عنه إمام هدى وإمام ضلالة، وقال أبو صالح وأبو العالية بإمامهم بأعمالهم، وقال مجاهد بكتابهم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة والناس يدعون بهذا كلّه فيدعون بنبيّهم فيقال أين أصحاب الورع؟ وكذا ضدّ هذا فيقال أين أمة فرعون؟
وأين أصحاب الزنا؟ فيكون في هذا توبيخ وهتكة على رؤوس الناس لمن ينادى به أو مدح وسرور لمن ينادى بضدّه. قال عكرمة عن ابن عباس: الفتيل ما في شقّ النواة، وتقديره في العربية لا يظلمون مقدار فتيل.
[سورة الإسراء (17): آية 72]
{وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)}
{وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ} أي في الدنيا {أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ} وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد: وإنما جاز هذا، ولا يقال: فلان أعمى من فلان لأنه من عمى القلب، ويقال في عمى القلب: فلان أعمى من فلان، وفي عمى العين: فلان أبين عمىّ من فلان، ولا يقال: أعمى منه. قال أبو جعفر: وإنما لم يقل: أعمى منه
في عمى العين عند الخليل وسيبويه (1): لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ، كاليد والرجل، فكما لا تقول: ما أيداه لا تقول: ما أعماه، وفيه قولان آخران: قال الأخفش سعيد: إنّما لم يقل ما أعماه لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب، وكذا لم يقولوا في الألوان: ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إنما لم يقولوا: ما أقيله من القائلة لأنهم قد يقولون في البيع: قلته ففرّقوا بينهما.(2/279)
{وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ} أي في الدنيا {أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ} وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد: وإنما جاز هذا، ولا يقال: فلان أعمى من فلان لأنه من عمى القلب، ويقال في عمى القلب: فلان أعمى من فلان، وفي عمى العين: فلان أبين عمىّ من فلان، ولا يقال: أعمى منه. قال أبو جعفر: وإنما لم يقل: أعمى منه
في عمى العين عند الخليل وسيبويه (1): لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ، كاليد والرجل، فكما لا تقول: ما أيداه لا تقول: ما أعماه، وفيه قولان آخران: قال الأخفش سعيد: إنّما لم يقل ما أعماه لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب، وكذا لم يقولوا في الألوان: ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إنما لم يقولوا: ما أقيله من القائلة لأنهم قد يقولون في البيع: قلته ففرّقوا بينهما.
وحكى الفراء (2) عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال:
لأنهم يقولون: عمي وعشي وعور، وأجاز الفراء: في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ: {وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ} أن يكون من قولك: «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي منه في الدنيا، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ: {وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ}، ولا تجوز الإمالة في قوله {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ}. يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أي طريقا إلى الهدى لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.
[سورة الإسراء (17): آية 73]
{وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنََا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)}
{وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد، وبنو قيس يقولون: كدت، فهي عندهم فعلت، وقيل: إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.
[سورة الإسراء (17): آية 74]
{وَلَوْلاََ أَنْ ثَبَّتْنََاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)}
قيل: ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة، وقيل: ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال: ركن يركن، وركن يركن أفصح.
[سورة الإسراء (17): آية 75]
{إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ ثُمَّ لاََ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنََا نَصِيراً (75)}
{إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ} فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 214.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 128.(2/280)
[سورة الإسراء (17): آية 76]
{وَإِنْ كََادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهََا وَإِذاً لاََ يَلْبَثُونَ خِلاََفَكَ إِلاََّ قَلِيلاً (76)}
{وَإِنْ كََادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهََا} تأول العلماء هذا على تأويلين:
أحدهما أنهم لو أخرجوه من أرض الحجاز كلّها لهلكوا، والتأويل الآخر أنهم لو أخرجوه من مكة. وقال أصحاب هذا القول: لم يخرجوه وإنّما أمره الله عزّ وجلّ بالهجرة إلى المدينة، ولو أخرجوه لهلكوا.
[سورة الإسراء (17): الآيات 77الى 78]
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنََا وَلاََ تَجِدُ لِسُنَّتِنََا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاََةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى ََ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كََانَ مَشْهُوداً (78)}
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنََا} مصدر أي سنّ الله عزّ وجلّ أنّ من أخرج نبيّا هلك سنّة، وقال الفراء (1): أي كسنّة.
قال الأخفش سعيد: نصب {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} بمعنى وآثر قرآن الفجر، وعليك قرآن الفجر. قال أبو إسحاق: التقدير: وأقم قرآن الفجر.
[سورة الإسراء (17): آية 80]
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطََاناً نَصِيراً (80)}
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} المصدر من أفعل مفعل، وكذا الظرف من فعل مفعل، ومن قال في «مدخل صدق» إنه المدينة، وفي مخرج صدق إنه مكّة فله تقديران: أحدهما أن الله جل وعز وعده ذلك فهو مدخل صدق ومخرج صدق، والتقدير الآخر أن يكون المعنى مدخل سلامة، وحسن عاقبة فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة لأنه جميل، ومن قال مدخل صدق الرسالة ومخرج صدق من الدنيا، قدّره بما وعده الله جلّ وعزّ به من نصرته الرسالة، ومن إخراجه من الدنيا سليما من الكبائر، وقد قيل: أمره الله جلّ وعزّ بهذا عند دخوله إلى بلد أو غيره أو عند خروجه منه. {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطََاناً نَصِيراً} أي حجة ظاهرة بيّنة تنصرني بها على أعدائي.
[سورة الإسراء (17): آية 81]
{وَقُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً (81)}
{وَقُلْ جََاءَ الْحَقُّ} أي جاء أمر الله ووحيه {وَزَهَقَ الْبََاطِلُ} أي الباطل الكفر والفساد {إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً} والزاهق والزهوق في اللغة الذي لا ثبات له.
[سورة الإسراء (17): آية 82]
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاََ يَزِيدُ الظََّالِمِينَ إِلاََّ خَسََاراً (82)}
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ} أي شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الظاهرة
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 129، والبحر المحيط 6/ 64.(2/281)
والحجج الباهرة فهو شفاء للمؤمنين أن لا يلحقهم في قلوبهم مرض ولا ريب، وأجاز الكسائي {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} نسقا على «ما» أي وننزل رحمة للمؤمنين. {وَلََا يَزِيدُ الظََّالِمِينَ إِلََّا خَسََاراً} أي يكفرون فيزدادون خسارا. وهذا مجاز.
[سورة الإسراء (17): آية 83]
{وَإِذََا أَنْعَمْنََا عَلَى الْإِنْسََانِ أَعْرَضَ وَنَأى ََ بِجََانِبِهِ وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ كََانَ يَؤُساً (83)}
وقرأ أبو جعفر وناء بجانبه (1). قال الكسائي هما لغتان. وقال الفراء: لغة أهل الحجاز نأى ولغة بعض هوازن وبني كنانة وكثير من الأنصار ناء يا هذا. قال أبو جعفر: الأصل نأى ثم قلب، وهذا من قول الكوفيين مما يتعجّب منه لأنهم يقولون فيما كانت فيه لغتان وليس بمقلوب: هو مقلوب، نحو جذب وجبذ، ولا يقولون في هذا، وهو مقلوب: شيئا من ذلك. والدليل على أنه مقلوب أنهم قد أجمعوا على أن يقولوا:
نأيت نأيا، ورأيت رأيا ورؤية ورؤيا، فهذا كلّه من نأى ورأى، ولو كان من ناء وراء لقالوا: رئت ونئت مثل جئت. {وَإِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ كََانَ يَؤُساً} وإن خففت الهمزة جعلتها بين بين وحكى الكسائي عن العرب الحذف «كان يوسا» (2) وحكى وإذا المودة [التكوير:
8] قال: مثل الموزة.
[سورة الإسراء (17): آية 84]
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى ََ شََاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى ََ سَبِيلاً (84)}
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى ََ شََاكِلَتِهِ} هذه الآية من أشكل ما في السورة. ومن أحسن ما قيل فيها أن المعنى قل كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أولى بالصواب. وهذا تستعمله العرب بعد تبيين الشيء مثل {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، وكما يقول الرجل لخصمه: إنّ أحدنا لكاذب، فقد صار في الكلام معنى التوبيخ. فهذا قول، وقيل: معنى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى ََ شََاكِلَتِهِ} في أوقات الشرائع المفترضة لا غير، وفيها قول ثالث يكون المعنى: قل كلّ يعمل على ناحيته وعلى طريقته {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى ََ سَبِيلًا} فلمّا علم بيّن الحقّ والسّبل.
[سورة الإسراء (17): آية 85]
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاََّ قَلِيلاً (85)}
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قد تكلّم العلماء فيه فقيل: علم الله جلّ وعزّ أنّ الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما الروح لأن اليهود قالت لهم: في كتابنا أنه إن فسّر لكم ما الروح فليس بنبيّ وإن لم يفسره فهو نبي، وقيل: إنهم سألوا عن عيسى صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم الروح من أمر ربّي أي شيء أمر الله جلّ وعزّ به وخلقه لا كما يقول النصارى.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 73.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 130.(2/282)
[سورة الإسراء (17): آية 87]
{إِلاََّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كََانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)}
{إِلََّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء ليس من الأول أي إلّا أن يرحمك الله فيرد إليك ذلك. والرحمة من الله جل وعز التفضّل.
[سورة الإسراء (17): آية 88]
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لاََ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)}
فتحدّاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فعجزوا عنه من جهات إحداها وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرا أو حديثا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفا. ومن إعجازه أنه لا يتغيّر، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة. ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز، نحو قوله جلّ وعزّ: {وَإِمََّا تَخََافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيََانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى ََ سَوََاءٍ}
[الأنفال: 58] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة، والله لا يحبّ الخائنين. فمثل هذا لا يوجد في كلام العرب على دلالة هذه المعاني والفصاحة التي فيه، ومن إعجاز القرآن ما فيه من علم الغيوب بما لم يكن إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّما سئل عن شيء من علم الغيب أجاب عنه حتى لقد سئل بمكة فقيل له: رجل أخذه إخوته فباعوه ثم صار ملكا بعد ذلك، وكانت اليهود أمرت قريشا بسؤاله عنه، ووجهوا بذلك إليهم من المدينة إلى مكة وليس بمكّة أحد قرأ الكتب، فأنزل الله جلّ وعزّ سورة يوسف عليه السلام فيها أكثر ما في التوراة من خبر يوسف عليه السلام، فكانت هذه الآية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة إحياء عيسى صلّى الله عليه وسلّم الميت الذي أحياه بإذن الله جلّ وعزّ.
[سورة الإسراء (17): الآيات 90الى 91]
{وَقََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهََارَ خِلاََلَهََا تَفْجِيراً (91)}
{وَقََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة {حَتََّى تَفْجُرَ} مختلفا، وقرءوا جميعا التي بعدها {فَتُفَجِّرَ} قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر: الفرق بينهما بيّن لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على
ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد {حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} قال: عيونا، وكذا قال الحسن، وروى سعيد عن قتادة {حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} قال: عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر لأن تفجّر على التكثير.(2/283)
{وَقََالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة {حَتََّى تَفْجُرَ} مختلفا، وقرءوا جميعا التي بعدها {فَتُفَجِّرَ} قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر: الفرق بينهما بيّن لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على
ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد {حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} قال: عيونا، وكذا قال الحسن، وروى سعيد عن قتادة {حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} قال: عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر لأن تفجّر على التكثير.
[سورة الإسراء (17): آية 92]
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمََاءَ كَمََا زَعَمْتَ عَلَيْنََا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللََّهِ وَالْمَلاََئِكَةِ قَبِيلاً (92)}
وقرأ أهل المدينة وعاصم {أَوْ تُسْقِطَ السَّمََاءَ كَمََا زَعَمْتَ عَلَيْنََا كِسَفاً} (1).
وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (كسفا) (2) بإسكان السين. قال أبو جعفر: كسف جمع كسفة أي قطعا. وذكر السماء ليدلّ على الجمع. وحجة من قرأ كسفا أنه لمرة واحدة. {أَوْ تَأْتِيَ بِاللََّهِ وَالْمَلََائِكَةِ قَبِيلًا} على الحال.
[سورة الإسراء (17): آية 93]
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى ََ فِي السَّمََاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتََّى تُنَزِّلَ عَلَيْنََا كِتََاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحََانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاََّ بَشَراً رَسُولاً (93)}
{أَوْ تَرْقى ََ فِي السَّمََاءِ} من رقي يرقى رقيّا إذا صعد، ويقال: رقيت الصّبيّ أرقيه رقيا ورقية.
[سورة الإسراء (17): آية 94]
{وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جََاءَهُمُ الْهُدى ََ إِلاََّ أَنْ قََالُوا أَبَعَثَ اللََّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)}
(أن) في موضع نصب والمعنى من أن يؤمنوا {إِلََّا أَنْ قََالُوا} في موضع رفع أي إلّا قولهم {أَبَعَثَ اللََّهُ بَشَراً رَسُولًا} فانقطعت حججهم لمّا ظهرت البراهين وجاءوا بالجهل.
[سورة الإسراء (17): آية 95]
{قُلْ لَوْ كََانَ فِي الْأَرْضِ مَلاََئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنََا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)}
{قُلْ لَوْ كََانَ فِي الْأَرْضِ مَلََائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} على الحال، ويجوز في غير القرآن مطمئنّون نعت للملائكة. ومعنى هذا والله أعلم لو كان في الأرض ملائكة يمشون لا يعبدون الله ولا يخافونه. وهذا معنى المطمئنين لأن المتعبّد الخائف لا يكون مطمئنا. {لَنَزَّلْنََا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ مَلَكاً رَسُولًا} حتى يعظهم، ويدعوهم إلى ما يجب عليهم.
[سورة الإسراء (17): آية 96]
{قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كََانَ بِعِبََادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)}
{قُلْ كَفى ََ بِاللََّهِ شَهِيداً} على الحال، ويجوز أن يكون منصوبا على البيان.
__________
(1) انظر تيسير الداني 115، والبحر المحيط 6/ 78.
(2) انظر تيسير الداني 115، والبحر المحيط 6/ 78.(2/284)
[سورة الإسراء (17): آية 97]
{وَمَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْوََاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمََا خَبَتْ زِدْنََاهُمْ سَعِيراً (97)}
{وَمَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} حذفت الياء من الخط لأنها كانت محذوفة قبل دخول الألف واللام، والألف واللام لا يغيّران شيئا عن حاله إلا أنّ الاختيار إثبات الياء لأن التنوين قد زال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز مثل هذا إلا بإثبات الياء، والصواب عنده أن لا يقف عليه، وأن يصله بالياء حتّى يكون متابعا للقراء وأهل العربية. {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} على الحال.
[سورة الإسراء (17): آية 100]
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفََاقِ وَكََانَ الْإِنْسََانُ قَتُوراً (100)}
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} رفع على إضمار فعل، ولا يجوز أن يلي «لو» إلا فعل إمّا يكون مضمرا وإما لأنها تشبه حروف المجازاة. وخبّر الله جل وعز بما يعلم منهم مما غيّب عنهم فقال: لو أنتم تملكون {خَزََائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي نعمته. والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة. {لَأَمْسَكْتُمْ} أي عن النفقة {خَشْيَةَ الْإِنْفََاقِ} وقيل: الإنفاق الفقر، المعنى خشية أن تنفقوا فينقص ما في أيديكم. {وَكََانَ الْإِنْسََانُ قَتُوراً} حكى الكسائي: قتر يقتر وأقتر يقتر، وحكى أبو عبيد: قتر وقتور على التكثير، كما يقال: ظلوم للكثير الظلم.
[سورة الإسراء (17): آية 101]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ تِسْعَ آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرََائِيلَ إِذْ جََاءَهُمْ فَقََالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يََا مُوسى ََ مَسْحُوراً (101)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ تِسْعَ آيََاتٍ} مفعولان {بَيِّنََاتٍ} في موضع خفض على النعت لآيات، وقد يكون في موضع نصب على النعت لتسع. وقرأ الكسائي وابن كثير فسل بنى إسرائيل بغير همز يكون على التخفيف، وعلى لغة من قال: سال يسال. والتقدير:
قل للشاكّ سل بني إسرائيل. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التسع الآيات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن ابن عباس، وما قاله ابن عباس فيجب أن يكون توقيفا لأنه ليس مما يقال بالرأي، والقولان ليسا بمتناقضين فإنّما الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحمل على أنه لآيات جاء بها موسى صلّى الله عليه وسلّم تتلى إلّا أنها تفسير لهذه الآيات. والدليل على هذا قوله جلّ وعزّ:
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] في تسع آيات إلى فرعون وقومه {مَسْحُوراً} أي مخدوعا {مَثْبُوراً} من الثبور أي الهلاك.
[سورة الإسراء (17): آية 102]
{قََالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مََا أَنْزَلَ هََؤُلاََءِ إِلاََّ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ بَصََائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يََا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)}
{قََالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مََا أَنْزَلَ هََؤُلََاءِ إِلََّا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} لأن فرعون مع توجيهه إلى
السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليه السلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. {بَصََائِرَ} أي حجبا تبصرها العقول.(2/285)
{قََالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مََا أَنْزَلَ هََؤُلََاءِ إِلََّا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} لأن فرعون مع توجيهه إلى
السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليه السلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. {بَصََائِرَ} أي حجبا تبصرها العقول.
[سورة الإسراء (17): آية 104]
{وَقُلْنََا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرََائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنََا بِكُمْ لَفِيفاً (104)}
{لَفِيفاً} على الحال.
[سورة الإسراء (17): آية 105]
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلاََّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)}
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنََاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} لأن كلّ ما فيه حقّ.
[سورة الإسراء (17): آية 106]
{وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلاً (106)}
{وَقُرْآناً} نصب على إضمار فعل {فَرَقْنََاهُ} بيناه، وقيل: أنزلناه متفرّقا وعيدا ووعدا وأمرا ونهيا وخبرا عمّا كان ويكون، وقيل: أنزلناه مفرّقا وقد اشتقّ مثل هذا أبو عمرو بن العلاء رحمه الله فقال: «فرقناه» أنزلنا فرقانا أي فارقا بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ ابن عباس والشّعبي وعكرمة وقتادة وقرآن فرّقناه (1)
بالتشديد. ويحتمل أن يكون معناه كمعنى فرقناه إلّا أن فيه معنى التأكيد والمبالغة والتكثير. {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ} أي ليحفظوه ويفهموه يقال: مكث ومكث ومكث ومكث. وقال مجاهد أي على ترسّل.
[سورة الإسراء (17): آية 107]
{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاََ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذََا يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ سُجَّداً (107)}
{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذََا يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ سُجَّداً} أي شكرا لله وتعظيما.
[سورة الإسراء (17): آية 108]
{وَيَقُولُونَ سُبْحََانَ رَبِّنََا إِنْ كََانَ وَعْدُ رَبِّنََا لَمَفْعُولاً (108)}
{وَيَقُولُونَ سُبْحََانَ رَبِّنََا} أي تنزيها لله جلّ وعزّ من أن يعد ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم لا يبعثه.
[سورة الإسراء (17): آية 109]
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)}
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ يَبْكُونَ} قيل: في الصلاة. {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} مفعولان.
[سورة الإسراء (17): آية 110]
{قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ وَلاََ تَجْهَرْ بِصَلاََتِكَ وَلاََ تُخََافِتْ بِهََا وَابْتَغِ بَيْنَ ذََلِكَ سَبِيلاً (110)}
{قُلِ ادْعُوا اللََّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمََنَ أَيًّا مََا تَدْعُوا} قال الأخفش سعيد: أي أيّ الدعاءين تدعو.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 84.(2/286)
قال أبو جعفر: وهذا قول الحسن أي إن قلتم يا الله يا رحمن، وقال أبو إسحاق:
المعنى أيّ الأسماء تدعون {فَلَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} الرحمن الرحيم الغفور الودود.
[سورة الإسراء (17): آية 111]
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}
قال مجاهد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي حليف ولا ناصر {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} مصدر فيه معنى التوكيد.(2/287)
18 - شرح إعراب سورة الكهف
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الكهف (18): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)}
قال أبو جعفر: زعم الأخفش سعيد والكسائي والفراء (1) وأبو عبيد أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا.
{قَيِّماً} نصب على الحال. وقول الضحّاك فيه حسن أنّ المعنى مستقيم أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه، ولا فساد ولا تناقض {عِوَجاً} مفعول به. يقال: في الدين، وفي الأمر، وفي الطريق عوج، وفي الخشبة والعصا عوج أي عيب أي ليس متناقضا.
[سورة الكهف (18): آية 2]
{قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصََّالِحََاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)}
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} نصب بلام كي، والتقدير لينذركم بأسا أي عذابا من عنده.
[سورة الكهف (18): آية 4]
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً (4)}
{وَيُنْذِرَ} عطف عليه {الَّذِينَ} مفعولون.
[سورة الكهف (18): آية 5]
{مََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاََ لِآبََائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاََّ كَذِباً (5)}
{كَبُرَتْ كَلِمَةً} نصب على البيان أي كبرت مقالتهم {اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً} كلمة من الكلام. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق كبرت كلمة (2)
بالرفع بفعلها أي عظمت كلمتهم، وهي قولهم: اتّخذ الله ولدا.
[سورة الكهف (18): آية 6]
{فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)}
{فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ} جمع أثر، ويقال: أثر. {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهََذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 133.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 95.(2/288)
قال أبو إسحاق: «أسفا» منصوب لأنه مصدر في موضع الحال. وأسف إذا حزن، وإذا غضب.
[سورة الكهف (18): الآيات 7الى 8]
{إِنََّا جَعَلْنََا مََا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهََا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنََّا لَجََاعِلُونَ مََا عَلَيْهََا صَعِيداً جُرُزاً (8)}
{إِنََّا جَعَلْنََا مََا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهََا} قيل «ما» و «زينة» مفعولان ويكون فيه تقديران:
أحدهما أنه مخصوص للشجر والثمر والمال وما أشبههنّ، والآخر أنه عموم لأنه دالّ على بارئه، وقول آخر أنّ جعلنا هاهنا بمعنى خلقنا يتعدّى إلى «ما» و «زينة» مفعول من أجله، وهذا قول حسن {لِنَبْلُوَهُمْ} أي لنختبرهم فنأمرهم بالطاعة لننظر {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فالحسن العمل الذي يزهد في الزينة ثم أعلم الله عزّ وجلّ أنه مبيد ذلك كله فقال تعالى: {وَإِنََّا لَجََاعِلُونَ مََا عَلَيْهََا صَعِيداً جُرُزاً} (8).
[سورة الكهف (18): آية 9]
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحََابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كََانُوا مِنْ آيََاتِنََا عَجَباً (9)}
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحََابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} أي أبل حسبت أنّهم {كََانُوا مِنْ آيََاتِنََا عَجَباً} وفي آيات الله عز وجل مما ترى أعجب منهم. قال ابن عباس: وجّهت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من مكة إلى المدينة ليسألا أحبار يهود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألاهم فقالوا: سله عن فتية ذهبوا في الدهر الأول كان لهم حديث عجب، وعن رجل طواف بلغ المشارق والمغارب، وعن الروح، فإن أخبركم بالاثنين فهو نبي، وإن أخبركم بالروح فليس بنبي، فنزلت سورة الكهف.
[سورة الكهف (18): آية 10]
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقََالُوا رَبَّنََا آتِنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنََا مِنْ أَمْرِنََا رَشَداً (10)}
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} أي هاربين بدينهم {فَقََالُوا رَبَّنََا آتِنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي أعطنا من عندك رحمة تنجينا بها من هؤلاء الكفار {وَهَيِّئْ لَنََا مِنْ أَمْرِنََا رَشَداً} أي على ما ننجو به. ويقال: رشد ورشد إلّا أنّ رشدا هاهنا أولى لتتفق الآيات.
[سورة الكهف (18): آية 11]
{فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)}
{فَضَرَبْنََا عَلَى آذََانِهِمْ} الواحدة أذن مؤنّثة وتحذف الضمة لثقلها فتقول: أذن {سِنِينَ} ظرف ويقال: سنينا. يجعل الإعراب في النون. {عَدَداً} نصب لأنه مصدر، ويجوز أن يكون نعتا لسنين يكون عند الفراء بمعنى معدودة، وعند البصريين بمعنى ذات عدد.
[سورة الكهف (18): آية 12]
{ثُمَّ بَعَثْنََاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ََ لِمََا لَبِثُوا أَمَداً (12)}(2/289)
{ثُمَّ بَعَثْنََاهُمْ} أي أيقظناهم من نومهم لنعلم. {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ََ} وقد علم الله ذلك فمن أحسن ما قيل فيه أن معناه التوقيف، كما تقول لمن أتى بباطل: هات برهانك وبينه حتّى أعلم أنك صادق، وقيل هذا علم الشهادة. والحزبان أصحاب الكهف، والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعث أصحاب الكهف و {أَيُّ} مبتدأ و {أَحْصى ََ} خبره.
{أَمَداً} منصوب عند الفراء (1) من جهتين: إحداهما التفسير، والأخرى بلبثهم أي بلبثهم أمدا. قال أبو جعفر: والجهة الأولى أولى لأن المعنى: عليها، فإن قال قائل:
كيف جاز التفريق بين أحصى وأمدا؟ وقولك: مرّ بنا عشرون اليوم رجلا قبيح، فالجواب أنّ هذا أقوى من عشرين لأن فيه معنى الفعل.
[سورة الكهف (18): آية 13]
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنََاهُمْ هُدىً (13)}
الْفِتْيَةُ جمع فتى في أقل العدد، ولا يقاس عليه والكثير فتيان.
[سورة الكهف (18): آية 14]
{وَرَبَطْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ إِذْ قََامُوا فَقََالُوا رَبُّنََا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلََهاً لَقَدْ قُلْنََا إِذاً شَطَطاً (14)}
{وَرَبَطْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} أي شددناها حتّى قالوا بين يدي الكفار {رَبُّنََا رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلََهاً لَقَدْ قُلْنََا إِذاً شَطَطاً} مصدر، وحقيقته قول شطط، ويجوز أن يكون مفعولا للقول.
[سورة الكهف (18): آية 16]
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمََا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللََّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)}
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} والتقدير: اذكروا إذا اعتزلتموهم. هذا قول بعض الفتية لبعض {وَمََا يَعْبُدُونَ} في موضع نصب أي واعتزلتم ما يعبدون فلم يعبدوه {إِلَّا اللََّهَ} استثناء {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ} جواب الأمر {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} زعم الأصمعي أنه لا يعرف في كلام العرب إلّا مرفقا بكسر الميم في الأمر وفي اليد وفي كل شيء.
وزعم الكسائي والفراء (2) أن اللغة الفصيحة كسر الميم، وأن الفتح جائز. قال الفراء:
وكأنّ الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان، وقد يفتحان جميعا. فزعم الأخفش سعيد أنّ فيه ثلاث لغات جيدة مرفق ومرفق ومرفق. فمن قال: مرفق جعله مما ينتقل ويعمل به، مثل مقطع، ومن قال: مرفق جعله كمسجد لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد، ومن قال: مرفق جعله بمعنى الرفق.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 136، والبحر المحيط 6/ 100.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 136.(2/290)
[سورة الكهف (18): آية 17]
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذََا طَلَعَتْ تَتَزََاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذََاتَ الْيَمِينِ وَإِذََا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذََاتَ الشِّمََالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذََلِكَ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ مَنْ يَهْدِ اللََّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)}
قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذََا طَلَعَتْ تَتَزََاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} (1) أدغموا التاء في الزاي والأصل تتزاور، وقرأ أهل الكوفة (تزاور) (2) حذفوا التاء، وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن عامر (تزور) (3) مثل تحمرّ، وحكى الفراء: تزوار (4) مثل تحمارّ.
[سورة الكهف (18): آية 18]
{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقََاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذََاتَ الْيَمِينِ وَذََاتَ الشِّمََالِ وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرََاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)}
{ذََاتَ الْيَمِينِ وَذََاتَ الشِّمََالِ} ظرفان {فِرََاراً} و {رُعْباً} منصوبان على التمييز، ولا يجوز عند سيبويه ولا عند الفراء تقديمهما، وأجاز ذلك محمد بن يزيد لأن العامل متصرّف، وروي عن يحيى بن وثاب والأعمش أنهما قرءا {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} بضم الواو.
وهذا جائز لأن الضمة من جنس الواو إلّا أن الكسر أجود، وليس هذا مثل {أَوِ انْقُصْ}
[المزمل: 3] لأن بعد الواو هاهنا ضمة {فِرََاراً} مصدر لأنّ معنى ولّيت فررت.
[سورة الكهف (18): آية 19]
{وَكَذََلِكَ بَعَثْنََاهُمْ لِيَتَسََائَلُوا بَيْنَهُمْ قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قََالُوا لَبِثْنََا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قََالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هََذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهََا أَزْكى ََ طَعََاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاََ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)}
{وَكَذََلِكَ بَعَثْنََاهُمْ} أي أيقظناهم {لِيَتَسََائَلُوا بَيْنَهُمْ} أي ليسأل بعضهم بعضا {قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ}، ويجوز «لبتّم» على الإدغام لقرب المخرجين {قََالُوا لَبِثْنََا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أحدهم: لبثنا يوما، وقال آخر: لبثنا نحوه فقال لهم كبيرهم لا تختلفوا فإنّ الاختلاف هلكة {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثْتُمْ} وقرأ أهل المدينة {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} فأدغم، وأدغم ابن كثير القاف في الكاف لتقاربهما، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو {بِوَرِقِكُمْ} حذفوا الكسرة لثقلها، وحكى الفراء: أنه يقال: «بورقكم» (5) بكسر الواو، كما يقال: كبد وفخذ، وحكى غيره: أنه يقال للورق:
رقّة مثل عدة، وهذا على لغة من قال: ورقة فحذف الواو فقال: رقة.
{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهََا أَزْكى ََ طَعََاماً فَلْيَأْتِكُمْ} التقدير: أيّ أهلها، وروى سعيد بن جبير عن ابن
__________
(1) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104.
(2) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104.
(3) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 104.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 137، والبحر المحيط 6/ 107.(2/291)
عباس رحمه الله قال: يعني أيّها أطهر طعاما لأنهم كانوا يذبحون الخنازير فليأتكم برزق منه، ويجوز كسر اللام وهو الأصل، وكذا وليتلطّف.
[سورة الكهف (18): آية 20]
{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)}
{إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ}.
شرط ومجازاة {أَوْ يُعِيدُوكُمْ} عطف على المجازاة وفي {إِذاً} معنى الشرط والمجازاة {أَبَداً} ظرف زمان.
[سورة الكهف (18): آية 21]
{وَكَذََلِكَ أَعْثَرْنََا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السََّاعَةَ لاََ رَيْبَ فِيهََا إِذْ يَتَنََازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقََالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيََاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قََالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى ََ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)}
{إِذْ يَتَنََازَعُونَ} ظرف زمان والعامل فيه ليعلموا إذ بعثناهم.
[سورة الكهف (18): آية 22]
{سَيَقُولُونَ ثَلاََثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مََا يَعْلَمُهُمْ إِلاََّ قَلِيلٌ فَلاََ تُمََارِ فِيهِمْ إِلاََّ مِرََاءً ظََاهِراً وَلاََ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)}
{سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ} على إضمار مبتدأ أي هم ثلاثة {رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} مبتدأ وخبر، وكذا {سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} {وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. وفي المجيء بالواو «وثامنهم» خاصة دون ما تقدّم قولان: أحدهما أن دخولها وخروجها واحد، والآخر أنّ دخولها يدلّ على تمام القصة وانقطاع الكلام. ذكر هذا القول إبراهيم بن السريّ فيكون المعنى عليه أنّ الله جلّ وعزّ خبر بما يقولون ثم أتى بحقيقة الأمر فقال: وثامنهم كلبهم. {مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} رفع بفعله أي القليل يعلمونهم.
[سورة الكهف (18): آية 23]
{وَلاََ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً (23)}
{غَداً} ظرف زمان والأصل فيه غدو.
[سورة الكهف (18): آية 24]
{إِلاََّ أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى ََ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هََذََا رَشَداً (24)}
{إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} نصب على الاستثناء المنقطع.
[سورة الكهف (18): آية 25]
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاََثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)}
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} هذه قراءة (1) أهل المدينة وأبي عمرو
__________
(1) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 112.(2/292)
وعاصم، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما {ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} بغير تنوين. القراءة الأولى على أن سنين في موضع نصب أو خفض فالنصب على البدل من ثلاث، وقال أبو إسحاق: سنين في موضع نصب على عطف البيان والتوكيد، وقال الكسائي والفراء (1)
وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة. قال أبو جعفر: والخفض ردّ على مائة لأنها بمعنى مئين، كما أنشد النحويون: [الكامل] 273 فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم (2)
فنعت حلوبة بسود لأنها بمعنى الجمع. فأما ثلاث مائة سنين فبعيد في العربية.
يجب أن تتوقّى القراءة به لأن كلام العرب ثلاث مائة سنة فسنة بمعنى سنين فجئت به على المعنى والأصل.
[سورة الكهف (18): آية 26]
{قُلِ اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاََ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)}
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} حذف منه الإعراب لأنه على لفظ الأمر، وهو بمعنى التعجب أي ما أسمعه وما أبصره.
وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن {وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وحجّتهم أنها في السواد بالواو.
قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لكتبهم الصلاة والحياة بالواو، ولا تكاد العرب تقول:
الغدوة لأنها معرفة ولا تدخل الألف واللام على معرفة، وروي عن الحسن (لا تعد عينيك) (3) نصب بوقوع الفعل عليها.
[سورة الكهف (18): آية 30]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لاََ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} في خبر إنّ ثلاثة أقوال: منها أن يكون التقدير إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم حذف منهم لأن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه يحبط أعمال الكفار، وقيل: التقدير: إنّا لا نضيع أجرهم لأن من أحسن عملا لهم، والجواب الثالث أن يكون التقدير: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات عدن و {عَمَلًا} نصب على البيان.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 138.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 193، والحيوان 3/ 425، وخزانة الأدب 7/ 390، وشرح شذور الذهب 325، والمقاصد النحوية 4/ 487، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 625، وشرح المفصّل 3/ 55.
(3) انظر المحتسب 2/ 27.(2/293)
[سورة الكهف (18): آية 31]
{أُولََئِكَ لَهُمْ جَنََّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهََارُ يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيََاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهََا عَلَى الْأَرََائِكِ نِعْمَ الثَّوََابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)}
{يُحَلَّوْنَ فِيهََا} حكى الفراء (1) {يُحَلَّوْنَ فِيهََا} يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي، ويقال: حلي الشيء يحلى. {مِنْ أَسََاوِرَ} في موضع نصب لأنه خبر ما لم يسمّ فاعله {مِنْ ذَهَبٍ} في موضع نصب على التمييز إلا أن الأفصح في كلام العرب إذا كان الشيء مبهما أن يؤتى بمن والقرآن إنما يأتي بأفصح اللغات فيقال: عنده جبّة من خز وجبّتان خزّا، وأساور من ذهب وسواران ذهبا. وأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويقال: سوار، وحكى قطرب إسوار. قال أبو جعفر: قطرب صاحب شذوذ.
قد تركه يعقوب وغيره، فلم يذكروه. {وَيَلْبَسُونَ ثِيََاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ} ولو كان سندسا جاز ولكنه مبهم، والفصيح أن يؤتى معه بمن كما تقدم. قال الكسائي: واحد السندس سندسة، وواحد العبقريّ عبقريّة، وواحد الرّفرف رفرفة وواحد الأرائك أريكة {نِعْمَ الثَّوََابُ} رفع بنعم ولو كان نعمت لجاز لأنه للجنّة وهي على هذا {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}.
[سورة الكهف (18): آية 32]
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنََا لِأَحَدِهِمََا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنََابٍ وَحَفَفْنََاهُمََا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنََا بَيْنَهُمََا زَرْعاً (32)}
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} التقدير مثلا مثل الرجلين.
[سورة الكهف (18): آية 33]
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهََا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنََا خِلاََلَهُمََا نَهَراً (33)}
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهََا} محمول على لفظ كلتا، وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول كلتا الجنتين آتتا أكلهما لأن المعنى الجنتان كلتاهما آتتا أكلهما، وأجاز الفراء (2) كلتا الجنتين آتى أكله قال: لأن المعنى أكل الجنتين، أو كلّ الجنتين. وفي قراءة عبد الله كلّ الجنتين أتى أكله (3). والمعنى عند الفراء على هذا كلّ شيء من ثمر الجنتين آتى أكله قال: ومن العرب من يفرد واحد كلتا، وهو يريد التثنية، وأنشد: [الرجز] 274 في كلت رجليها سلامي واحده (4)
قال أبو جعفر: يقول الخليل وسيبويه (5) رحمهما الله: جاءني كلا الرجلين، ورأيت كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين، كلّه بألف في اللفظ، وقال غيرهما: إلّا أنه يكتب
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 141.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 142.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 119.
(4) الرجز بغير نسبة في معاني الفراء 2/ 142.
(5) انظر الكتاب 1/ 266.(2/294)
في موضع الخفض والنصب لأنه يقال: رأيت كليهما، ومررت بكليهما.
[سورة الكهف (18): آية 34]
{وَكََانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقََالَ لِصََاحِبِهِ وَهُوَ يُحََاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مََالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)}
{وَكََانَ لَهُ ثَمَرٌ} قال الأخفش: وكان لأحدهما.
[سورة الكهف (18): آية 36]
{وَمََا أَظُنُّ السََّاعَةَ قََائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهََا مُنْقَلَباً (36)}
قرأ أهل المدينة لأجدنّ خيرا مّنهما منقلبا (1) بتثنية منهما وقرأ أهل الكوفة {(مِنْهََا)} والتثنية أولى لأن الضمير أقرب إلى الجنتين.
[سورة الكهف (18): آية 38]
{لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي وَلاََ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)}
{لََكِنَّا} مذهب الكسائي والفراء (2)، والمازني أن الأصل «لكن أنا» فألقيت حركة الهمزة على نون لكن، وحذفت الهمزة، وأدغمت النون في النون. والوقف عليها لكنّا وهي ألف أنا لبيان الحركة، ومن العرب من يقول: أنه. قال أبو حاتم فرووا عن عاصم لكنّنا هو الله ربّي (3) وزعم أن هذا لحن يعني إثبات الألف في الإدراج. قال: ومثله قراءة من قرأ {كِتََابِيَهْ} [الحاقة: 19] فأثبت الهاء في الإدراج. قال أبو إسحاق: إثبات الألف في {لََكِنَّا هُوَ اللََّهُ رَبِّي} في الإدراج جيد لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبيّ بن كعب لكن أنا هو الله ربّي (4).
[سورة الكهف (18): آية 39]
{وَلَوْلاََ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مََا شََاءَ اللََّهُ لاََ قُوَّةَ إِلاََّ بِاللََّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مََالاً وَوَلَداً (39)}
{وَلَوْلََا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مََا شََاءَ اللََّهُ} في موضع رفع والتقدير إلّا من شاء، ويجوز أيضا عند النحويين أن تكون «ما» في موضع نصب وتكون للشرط، والتقدير أيّ شيء شاء الله كان فحذف الجواب، ومثله {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمََاءِ} [الأنعام: 35]. {لََا قُوَّةَ إِلََّا بِاللََّهِ} على التجربة، ويجوز لا قوّة إلّا بالله {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مََالًا وَوَلَداً} {أَنَا} فاصلة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن يكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء، وقرأ عيسى بن عمر إن ترني أنا أقلّ منك مالا (5) بالرفع يجعل أنا مبتدأ وأقل خبره والجملة في موضع المفعول الثاني والمفعول الأول والنون والياء إلّا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدلّ عليها وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل ولأنها الاسم على الحقيقة وإنما النون جيء بها لعلّة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 117.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 144.
(3) انظر تيسير الداني 117.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 80.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 145، والبحر المحيط 6/ 123.(2/295)
[سورة الكهف (18): آية 41]
{أَوْ يُصْبِحَ مََاؤُهََا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)}
{أَوْ يُصْبِحَ مََاؤُهََا غَوْراً} التقدير ذا غور، مثل «واسأل القرية» قال الكسائي: يقال:
مياه غور وقد غار الماء يغور غوورا، ويجوز الهمز لانضمام الواو وغورا.
[سورة الكهف (18): آية 42]
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ََ مََا أَنْفَقَ فِيهََا وَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا وَيَقُولُ يََا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)}
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر وهو المصدر، ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ} في موضع نصب أي منقلبا.
[سورة الكهف (18): آية 43]
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَمََا كََانَ مُنْتَصِراً (43)}
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} اسم تكن والخبر {لَهُ}، ويجوز أن يكون {يَنْصُرُونَهُ} الخبر.
والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدّم له، وأبو العباس يخالفه ويحتج بقول الله جلّ وعزّ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقد أجاز سيبويه الوجه الآخر وأنشد: [الرجز] 275 لتقربنّ قربا جلذيّا ... ما دام فيهنّ فصيل حيّا (1)
وينصرونه على معنى فئة لأن معناها أقوام ولو كان على اللفظ لكان ولم تكن له فئة تنصره كما قال الله جلّ وعزّ: {فِئَةٌ تُقََاتِلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [آل عمران: 13]. {وَمََا كََانَ مُنْتَصِراً} أي ولم يكن يصل أيضا إلى نصر نفسه.
[سورة الكهف (18): آية 44]
{هُنََالِكَ الْوَلاََيَةُ لِلََّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوََاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)}
{هُنََالِكَ} قيل: إن هذا التمام فيكون العامل فيه منتصرا. وأحسن من هذا أن يكون «هنالك» مبتدأ أي في تلك الحال تتبيّن نصرة الله جلّ وعزّ وليّه. وقرأ الكوفيون (الولاية) (2) أي السلطان وهو بعيد جدّا. وفي «الحقّ» ثلاثة أوجه: قرأ أبو عمرو والكسائي (الحقّ) بالرفع نعتا للولاية، وقرأ أهل المدينة وحمزة {الْحَقِّ} بالخفض نعتا لله جلّ وعز ذي الحق. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما يقال: هذا لك حقا. {هُوَ خَيْرٌ ثَوََاباً} على البيان. وفي عقب ثلاثة أوجه: ضم العين
__________
(1) الشاهد لابن ميادة في ديوانه 237، والكتاب 1/ 100، وخزانة الأدب 4/ 59، وشرح أبيات سيبويه 1/ 266، وشرح المفصّل 4/ 33، ولسان العرب (جلذ) وبلا نسبة في سمط اللآلي ص 501، وشرح أبيات سيبويه 1/ 277، وشرح المفصّل 7/ 96، ولسان العرب (دوم) و (هيا)، والمقتضب 4/ 91، ونوادر أبي زيد ص 194.
(2) انظر تيسير الداني 117.(2/296)
والقاف، وقرأ أهل الكوفة {عُقْباً} بضم العين وإسكان القاف والتنوين. قال أبو إسحاق: ويجوز عقبى مثل بشرى.
[سورة الكهف (18): آية 45]
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا كَمََاءٍ أَنْزَلْنََاهُ مِنَ السَّمََاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبََاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيََاحُ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)}
وفي {تَذْرُوهُ} ثلاثة أوجه: {تَذْرُوهُ} قراءة العامة. قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله تذريه (1) وحكى الكسائي أيضا «تذريه» وحكى الفراء (2): أذريت الرجل عن البعير أي قلبته، وأنشد سيبويه والمفضل: [الطويل] 276 فقلت له: صوّب ولا تجهدنّه ... فتذرك من أخرى القطاة فتزلق (3)
{وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} وهذا من الشكل وقد تكلّم العلماء فيه، فقال قوم: كان بمعنى يكون، وقال آخرون: كان بمعنى ما زال. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق ينكر أن يكون الماضي بمعنى المستقبل إلّا بحرف يدلّ على ذلك. قال: وإنما خوطبت العرب على ما تعرف ولا تعرف في كلامها هذا وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه.
قال: عاين القوم قدرة الله جلّ وعزّ فقيل لهم هكذا كان أي لم يزل مقتدرا.
[سورة الكهف (18): الآيات 47الى 49]
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً وَحَشَرْنََاهُمْ فَلَمْ نُغََادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى ََ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونََا كَمََا خَلَقْنََاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتََابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يََا وَيْلَتَنََا مََا لِهََذَا الْكِتََابِ لاََ يُغََادِرُ صَغِيرَةً وَلاََ كَبِيرَةً إِلاََّ أَحْصََاهََا وَوَجَدُوا مََا عَمِلُوا حََاضِراً وَلاََ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)}
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبََالَ} أي واذكر. قال بعض النحويين: التقدير: والباقيات الصالحات خير يوم نسيّر الجبال. قال أبو جعفر: وهو غلط من أجل الواو. {وَتَرَى الْأَرْضَ بََارِزَةً} على الحال، وكذا {وَعُرِضُوا عَلى ََ رَبِّكَ صَفًّا} وكذا {لََا يُغََادِرُ} في موضع الحال، وكذا {حََاضِراً}.
[سورة الكهف (18): آية 50]
{وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلاََئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاََّ إِبْلِيسَ كََانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظََّالِمِينَ بَدَلاً (50)}
{فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ} استثناء، وزعم أبو إسحاق أنه استثناء ليس من الأول لأنّ
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 146، والبحر المحيط 6/ 124.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 146، والبحر المحيط 6/ 124.
(3) الشاهد لعمرو بن عمّار الطائي في الكتاب 3/ 117، وشرح أبيات سيبويه 2/ 62، (فيدنك)، ولامرئ القيس في ديوانه 174، ولسان العرب (ذرا)، والمحتسب 2/ 181، وبلا نسبة في خزانة الأدب 8/ 526، ومجالس ثعلب 2/ 436، والمقتضب 2/ 23.(2/297)
إبليس لم يكن من الملائكة ولكنه أمر بالسجود معهم فاستثني منهم.
[سورة الكهف (18): آية 51]
{مََا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلاََ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمََا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)}
قال أبو جعفر: وقرأ أبو جعفر والجحدري {وَمََا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} بفتح التاء. وفي عضد ستة أوجه: أفصحها «عضد» ولغة بني تميم «عضد» (1) وروي عن الحسن أنه قرأ (عضدا) (2) بضم العين والضاد، وحكى هارون القارئ «عضد». قال أبو إسحاق: ويجوز «عضد» واللغة السادسة «عضد» على لغة من قال: فخذ، وكتف، وقيل: إن الضمير الذي في {مََا أَشْهَدْتُهُمْ} يعود على إبليس وذرّيته، والمعنى: ما أشهدت إبليس وذرّيته خلق السموات والأرض لأستعين بهم ولا أشهدتهم خلق أنفسهم.
[سورة الكهف (18): آية 52]
{وَيَوْمَ يَقُولُ نََادُوا شُرَكََائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنََا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)}
{وَيَوْمَ يَقُولُ نََادُوا شُرَكََائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي الذين جعلتموهم شركاء في الألوهة والعبادة فنادوهم ليخلّصوكم مما أنتم فيه من العذاب ويجازوكم على عبادتكم إياهم.
[سورة الكهف (18): آية 53]
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النََّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوََاقِعُوهََا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهََا مَصْرِفاً (53)}
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النََّارَ} الأصل رأى قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، ولهذا زعم الكوفيون أن رأى يكتب بالياء واتّبعهم على هذا بعض البصريين، فأما البصريون الحذاق، منهم: محمد بن يزيد فإنّ هذا كلّه يكتب عندهم بالألف. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكلّ ما كان من ذوات الياء إلّا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وذوات الواو في الخطّ كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، وإنما الكتاب نقل ما في اللفظ كما أن ما في اللفظ نقل ما في القلب، ومن كتب ذوات شيئا من هذا بالياء فقد أشكل وجاء بما لا يجوز، ولو وجب أن تكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن تكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون، رمى بالياء ورماه بالألف فإن كانت العلّة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء ثم يكتبون ضحا وكسا جمع كسوة وهما من ذوات الواو بالياء. وهذا لا يحصّل ولا يثبت على أصل. قال: فقلت لمحمد بن يزيد: فما بال الكتّاب وأكثر الناس قد اتّبعوهم على هذا الخطأ البيّن؟ قال: الأصل في هذا من الأخفش سعيد لأنه كان رجلا محتالا للتكسّب، فاحتال بهذا وهو الكسائي فهذا هو
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 130، ومختصر ابن خالويه 80.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 80.(2/298)
الأصل فيه. وحكى سيبويه أنه يقال راء يا هذا، على القلب. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهََا مَصْرِفاً} ويجوز مصرفا على أنه مصدر، وكسر الراء على أنه اسم للموضع، والمعنى ولم يجدوا موضعا يتهيّأ لهم الانصراف إليه.
[سورة الكهف (18): آية 55]
{وَمََا مَنَعَ النََّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جََاءَهُمُ الْهُدى ََ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاََّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذََابُ قُبُلاً (55)}
{أَنْ} الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع، وسنة الأولين الاستئصال. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذََابُ قُبُلًا} (1) على الحال، ومذهب الفراء أن قبلا قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا، ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا، قال الأعرج: وكانت قراءته (قبلا) معناه جميعا. قال أبو عمرو: وكانت قراءته (قبلا) (2) معناه عيانا. قال أبو جعفر: وهذا من المجاز لمّا كانوا قد جاءتهم البراهين وما ينبغي أن يؤمنوا به وما ينبغي أن يقبلوه كانوا بمنزلة من منعه أن يؤمن أحد هذين.
[سورة الكهف (18): آية 56]
{وَمََا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاََّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجََادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبََاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيََاتِي وَمََا أُنْذِرُوا هُزُواً (56)}
{وَمََا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلََّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} على الحال.
[سورة الكهف (18): آية 57]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهََا وَنَسِيَ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى ََ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لنفسه {مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهََا} أي عن قبولها {وَنَسِيَ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ} ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها.
[سورة الكهف (18): آية 59]
{وَتِلْكَ الْقُرى ََ أَهْلَكْنََاهُمْ لَمََّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنََا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)}
{وَتِلْكَ} في موضع رفع بالابتداء و {الْقُرى ََ} نعت أو بدل {أَهْلَكْنََاهُمْ} في موضع الخبر محمول على المعنى لأن المعنى أهل القرى، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته {وَجَعَلْنََا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} (3) قيل:
المعنى أنه قيل لهم: إن لم يؤمنوا أهلكتهم وقت كذا ومهلك من أهلكوا، وقرأ عاصم (مهلكا) (4) بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء {لِمَهْلِكِهِمْ}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 147.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 132.
(3) انظر تيسير الداني 117.
(4) انظر تيسير الداني 117.(2/299)
بفتح الميم وكسر اللام. قال الكسائي: هو أحبّ إليّ لأنه من يهلك. قال أبو إسحاق:
مهلك اسم للزمان، والتقدير لوقت مهلكهم كما يقال: أتت الناقة على مضربها.
[سورة الكهف (18): آية 60]
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِفَتََاهُ لاََ أَبْرَحُ حَتََّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)}
{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِفَتََاهُ} وهو يوشع بن نون. قال الفراء: كلّ من أخذ عن أحد وتعلّم منه فهو فتاه وإن كان شيخا شبّه بالعبد، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} ظرف. قال الفراء (1):
الحقب في لغة قيس سنة، وفي التفسير أنه ثمانون سنة. قال أبو جعفر: حقيقة الحقب وقت من الزمان مبهم يكون لتمييز سنة أو أقلّ أو أكثر.
[سورة الكهف (18): آية 61]
{فَلَمََّا بَلَغََا مَجْمَعَ بَيْنِهِمََا نَسِيََا حُوتَهُمََا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)}
{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} مصدر دلّ عليه «اتّخذ» كما تقول: هو يدعه تركا.
ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا، كما يقال: اتّخذت زيدا وكيلا، ومثله اتّخذت مكان كذا وكذا طريقا.
[سورة الكهف (18): آية 62]
{فَلَمََّا جََاوَزََا قََالَ لِفَتََاهُ آتِنََا غَدََاءَنََا لَقَدْ لَقِينََا مِنْ سَفَرِنََا هََذََا نَصَباً (62)}
{فَلَمََّا جََاوَزََا} التقدير فلمّا جاوزا مجمع البحرين، وحذف المفعول. {قََالَ لِفَتََاهُ آتِنََا غَدََاءَنََا} مفعولان. {لَقَدْ لَقِينََا مِنْ سَفَرِنََا هََذََا نَصَباً} أي
[سورة الكهف (18): آية 63]
{قََالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنََا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطََانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)}
{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} قيل: المعنى نسيت أن أذكر لك خبر الحوت فإنّه حيي ثم انساب في البحر ونسي هذه الآية العظيمة لأن الآيات كانت كبيرة في ذلك الوقت.
{وَمََا أَنْسََانِيهُ إِلَّا الشَّيْطََانُ} ويجوز ضم (2) الهاء على الأصل، وإثبات الواو جائز، وكذا إثبات الياء إذا كسرت {أَنْ أَذْكُرَهُ} في موضع نصب على البدل من الهاء بدل الاشتمال، والتقدير وما أنساني أن أذكره إلّا الشيطان أي إن الشيطان وسوس إليه وشغل قلبه حتى نسي فنسب النسيان إلى الشيطان مجازا. {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} (3) قال أبو إسحاق:
فيه وجهان: يكون يوشع صلّى الله عليه وسلّم قال: واتّخذ سبيله في البحر عجبا، والوجه الآخر أن يكون يوشع عليه السلام قال: واتّخذ سبيله في البحر عجبا فقال موسى صلّى الله عليه وسلّم عجبا أي أعجب عجبا. قال: وفيه وجه ثالث هو أولى مما قال أبو إسحاق، وهو أن أحمد بن
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 152، والبحر المحيط 6/ 134.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 138.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 138.(2/300)
يحيى، قال: المعنى: واتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر فعجب عجبا. قال أبو جعفر: وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: موسى صلّى الله عليه وسلّم تتبّع أثر الحوت وتنظّر إلى دورانه في الماء وتعجّب من تغيّبه فيه.
[سورة الكهف (18): آية 64]
{قََالَ ذََلِكَ مََا كُنََّا نَبْغِ فَارْتَدََّا عَلى ََ آثََارِهِمََا قَصَصاً (64)}
{قََالَ ذََلِكَ} مبتدأ {مََا كُنََّا نَبْغِ} خبره وحذفت الياء لأنه تمام الكلام فأشبه رؤوس الآيات {فَارْتَدََّا عَلى ََ آثََارِهِمََا قَصَصاً} أي رجعا في الطريق الذي جاءا منه يقصّان الأثر قصصا.
[سورة الكهف (18): الآيات 65الى 66]
{فَوَجَدََا عَبْداً مِنْ عِبََادِنََا آتَيْنََاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا وَعَلَّمْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا عِلْماً (65) قََالَ لَهُ مُوسى ََ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى ََ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمََّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)}
{فَوَجَدََا عَبْداً مِنْ عِبََادِنََا آتَيْنََاهُ} يكون نعتا، ويكون مستأنفا. {وَعَلَّمْنََاهُ} معطوف عليه. {مِنْ لَدُنََّا} مبنية لأنها لا تتمكن {عِلْماً} مفعول ثان. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة {رُشْداً} (1) وقرأ أبو عمرو (رشدا) (2) وهما لغتان بمعنى واحد.
[سورة الكهف (18): آية 68]
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ََ مََا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)}
مصدر لأن معنى أحطت به وخبرته واحد، ومثله: [الطويل] 277 فسرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (3)
لأن معنى رضت أذللت.
[سورة الكهف (18): آية 70]
{قََالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاََ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتََّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)}
{قََالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلََا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} أي إن رأيت شيئا تنكره فلا تعجلنّ بسؤالي عنه حتّى أذكره لك.
[سورة الكهف (18): آية 71]
{فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا رَكِبََا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهََا قََالَ أَخَرَقْتَهََا لِتُغْرِقَ أَهْلَهََا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)}
{قََالَ أَخَرَقْتَهََا لِتُغْرِقَ أَهْلَهََا} وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ليغرق أهلها (4) والمعنى واحد. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} قيل: إنما قال له موسى صلّى الله عليه وسلّم هذا لأنه لم يعلم أنه نبيّ وأنّ هذا بوحي. وقيل: لا يجوز أن يكون موسى صلّى الله عليه وسلّم صحبه على أن يتعلم منه إلّا وهو نبيّ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يتعلمون إلّا من الملائكة أو النبيين صلّى الله عليه وسلّم، وإنما
__________
(1) انظر تيسير الداني 117.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 140، وتيسير الداني 117.
(3) مرّ الشاهد رقم (78).
(4) انظر تيسير الداني 118.(2/301)
قيل: لقد جئت شيئا إمرا ونكرا أي هو في الظاهر منكر حتّى نعلم الحكمة فيه.
{شَيْئاً} منصوب على أنه مفعول به أي أتيت شيئا، ويجوز أن يكون التقدير: جئت بشيء إمر ثم حذفت الباء فتعدّى الفعل فنصب.
[سورة الكهف (18): آية 73]
{قََالَ لاََ تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ وَلاََ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)}
{قََالَ لََا تُؤََاخِذْنِي بِمََا نَسِيتُ} في معناه قولان: أحدهما روي عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: هذا من معاريض الكلام والآخر أنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولو نسي لاعتذر {وَلََا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} مفعولان.
[سورة الكهف (18): آية 74]
{فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا لَقِيََا غُلاََماً فَقَتَلَهُ قََالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)}
{فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا لَقِيََا غُلََاماً فَقَتَلَهُ قََالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (1) وقرأ الكوفيون {زَكِيَّةً} فزعم أبو عمرو أن زاكية هاهنا أولى لأن الزاكية التي لا ذنب لها: وكان الذي قتله الخضر صلّى الله عليه طفلا، وخالفه في هذا أكثر الناس فقال الكسائي والفراء (2): زاكية واحد، وقال غيرهما: لو كان الأمر على ما قال لكان زكيّة أولى لأن فعيلا أبلغ من فاعل، ولم يصحّ أنّ الذي قتله الخضر كان طفلا بل ظاهر القرآن يدلّ على أنه كان بالغا. يدلّ على ذلك «بغير نفس» فهذا يدلّ على أن قتله بنفسه جائز، وهذا لا يكون لطفل، ولا يقع القود إلا بعد البلوغ {نُكْراً} الأصل ومن قال «نكرا» حذفت الضمة لثقلها.
[سورة الكهف (18): آية 76]
{قََالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهََا فَلاََ تُصََاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)}
{قََالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهََا} أي بعد هذه المسألة {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي من قبلي قد عذرتك مدافعتي عن صحبتك، وهذه قراءة (3) أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل المدينة (من لدني) (4) بتخفيف النون. والقراءة الأولى أولى في العربية وأقيس لأن الأصل «لدن» بإسكان النون ثم تزيد عليها ياء لتضيفها إلى نفسك ثم تزيد نونا ليسلم سكون نون لدن، كما نقول: عنّي ومنّي فكما لا تقول عني يجب ألّا تقول: لدني، والحجّة في جوازه على ما حكي عن محمد بن يزيد أنّ النون حذفت كما قرأ أهل المدينة {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] بكسر النون. وأحسن من هذا القول ما
__________
(1) انظر تيسير الداني 118، والبحر المحيط 6/ 142.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 155.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 142، وتيسير الداني 118.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 142، وتيسير الداني 118.(2/302)
ذهب إليه أبو إسحاق قال: «لدن» اسم و «عن» حرف والحذف في الأسماء جائز كما قال: [الراجز] 278 قدني من نصر الخبيبين قدي (1)
فجاء باللغتين جميعا. قال: وأيضا فإن لدن أثقل من عن ومن.
[سورة الكهف (18): آية 77]
{فَانْطَلَقََا حَتََّى إِذََا أَتَيََا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمََا أَهْلَهََا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمََا فَوَجَدََا فِيهََا جِدََاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقََامَهُ قََالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)}
وقرأ أبو رجاء العطاردي (2) فأبوا أن يضيفوهما مخففا. يقال: أضفته وضيّفته أي أنزلته ضيفا وضفته أي مالت نزلت به. وهو مشتق من ضاف السّهم أي مال، وضافت الشمس أي مالت للغروب. وهو مخفوض بالإضافة أي بالإضافة الاسم إليه.
وروي عن أبي عمرو ومجاهد لتخذت (3) يقال: تخذ يتخذ واتّخذ افتعل منه.
[سورة الكهف (18): آية 78]
{قََالَ هََذََا فِرََاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مََا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)}
{قََالَ هََذََا فِرََاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} تكرير «بين» عند سيبويه على التوكيد أي هذا فراق بيننا أي تواصلنا. قال سيبويه: ومثله أخزى الله الكاذب منّي ومنك أي منّا، وأجاز الفراء قال: هذا فراق بيني وبينك، على الظرف.
[سورة الكهف (18): آية 79]
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكََانَتْ لِمَسََاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهََا وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)}
{أَمَّا السَّفِينَةُ} مبتدأ والخبر {فَكََانَتْ لِمَسََاكِينَ} ولم ينصرف مساكين لأنه جمع لا نظير له في الواحد. {وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ} أكثر أهل التفسير يقول: وراء بمعنى أمام. قال أبو إسحاق: وهذا جائز لأن وراء مشتقّة من توارى، فما توارى عنك فهو وراءك كان أمامك أم خلفك فيجب على قول أبي إسحاق أن يكون وراء ليس من ذوات الهمزة وأن
__________
(1) الشاهد لحميد بن مالك الأرقط في خزانة الأدب 5/ 382، والدرر 1/ 207، وشرح شواهد المغني 1/ 487، ولسان العرب (خبب)، والمقاصد النحوية 1/ 357، ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) وليس في ديوانه، ولأبي بحدلة في شرح المفصّل 3/ 124، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 393، والأشباه والنظائر 4/ 241، وتخليص الشواهد 108، والجنى الداني 253، وخزانة الأدب 6/ 246، ورصف المباني 362، وشرح ابن عقيل 64، ومغني اللبيب 1/ 170، ونوادر أبي زيد 205، وبعده:
«ليس الإمام بالشحيح الملحد»
(2) وهذه قراءة ابن الزبير والحسن وأبي رزين وابن محيصن وعاصم أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 143.
(3) انظر تيسير الداني 118، وهي قراءة ابن كثير أيضا.(2/303)
يقال في تصغيره: وريئة وزعم الفراء (1) أنه لا يقال لرجل أمامك: هو وراءك، ولا لرجل خلفك: هو بين يديك، وإنما يقال ذلك في المواقيت من الليل والنهار والدهر.
يقال: بين يديك برد، وإن كان لم يأتك، ووراءك برد، وإن كان بين يديك لأنه إذا لحقك صار وراءك.
[سورة الكهف (18): آية 80]
{وَأَمَّا الْغُلاََمُ فَكََانَ أَبَوََاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينََا أَنْ يُرْهِقَهُمََا طُغْيََاناً وَكُفْراً (80)}
{وَأَمَّا الْغُلََامُ فَكََانَ أَبَوََاهُ مُؤْمِنَيْنِ} ويجوز عند سيبويه في غير القرآن مؤمنان على أن نضمر في كان و (أبواه مؤمنان) ابتداء وخبر في موضع خبر كان، وحكى سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصّرانه» (2) {فَخَشِينََا أَنْ يُرْهِقَهُمََا طُغْيََاناً وَكُفْراً} أي تجاوزا فيما لا يجب. وعلم الله عزّ وجلّ هذا منه إن أبقاه فأمر بفعل الأصلح.
[سورة الكهف (18): آية 81]
{فَأَرَدْنََا أَنْ يُبْدِلَهُمََا رَبُّهُمََا خَيْراً مِنْهُ زَكََاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)}
{خَيْراً مِنْهُ زَكََاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أكثر أهل التفسير يقول: الزكاة الدين، والرحم:
المودة. قال أبو جعفر: وليس هذا بخارج من اللغة لأن الزكاة مشتقة من الزكاء وهو النماء والزيادة، والرحم من الرّحمة كما قال: [الراجز] 279 يا منزل الرّحم على إدريس ... ومنزل اللّعن على إبليس (3)
[سورة الكهف (18): آية 82]
{وَأَمَّا الْجِدََارُ فَكََانَ لِغُلاََمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكََانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمََا وَكََانَ أَبُوهُمََا صََالِحاً فَأَرََادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغََا أَشُدَّهُمََا وَيَسْتَخْرِجََا كَنزَهُمََا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمََا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذََلِكَ تَأْوِيلُ مََا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)}
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدرا. {ذََلِكَ تَأْوِيلُ مََا لَمْ تَسْطِعْ} نذكره في العشر الذي بعد هذا لأنه أولى به.
[سورة الكهف (18): آية 85]
{فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)}
{فَأَتْبَعَ سَبَباً} (4) أي من الأسباب التي أوتيها، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو.
وقراءة الكوفيين (فأتبع) جعلوها ألف قطع، وهذه القراءة اختيار أبي عبيد لأنها من
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 157.
(2) مرّ تخريج الحديث في حواشي تفسير الآية 58سورة النحل.
(3) الشاهد لرؤبة بن العجاج في اللسان (رحم).
(4) انظر البحر المحيط 6/ 151.(2/304)
السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتّبعه إذا سار ولم يلحقه وأتبعه إذا لحقته. قال أبو عبيد: ومثله {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. قال أبو جعفر:
وهذا التفريق، وإن كان الأصمعي قد حكاه، لا يقبل إلّا بعلّة أو دليل، وقوله عزّ وجلّ {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ليس في الحديث أنه لحقوهم، وإنما الحديث لمّا خرج موسى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر، والحقّ في هذا أنّ تبع واتبع واتّبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وأن لا يكون.
[سورة الكهف (18): الآيات 86الى 87]
{حَتََّى إِذََا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهََا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهََا قَوْماً قُلْنََا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قََالَ أَمََّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى ََ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذََاباً نُكْراً (87)}
{وَجَدَهََا تَغْرُبُ} في موضع الحال {فِي عَيْنٍ} والحمأة الطين المتغير اللون والرائحة. {وَوَجَدَ عِنْدَهََا قَوْماً قُلْنََا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أبي إسحاق أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ خيّره بين هذين الحكمين وردّ عليّ بن سليمان عليه قوله جلّ وعزّ خيّره لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا، وكيف يقول لربه جلّ وعزّ: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلى ََ رَبِّهِ} وكيف يقول: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فيخاطب بالنون. قال: والتقدير: قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء أما {قُلْنََا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فيجوز أن يكون الله جلّ وعزّ خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال {فَإِمََّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمََّا فِدََاءً}
[محمد: 4]، وأما إشكال {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى ََ رَبِّهِ} فإن تقديره أن الله جلّ وعزّ لما خيّره بين القتل في قوله {إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ} وبين الاستبقاء في قوله جلّ وعزّ {وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} {قََالَ} لأولئك القوم. {أَمََّا مَنْ ظَلَمَ} أي أقام على الكفر منكم {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بالقتل {ثُمَّ يُرَدُّ إِلى ََ رَبِّهِ} أي يوم القيامة {فَيُعَذِّبُهُ عَذََاباً نُكْراً} أي شديدا.
[سورة الكهف (18): آية 88]
{وَأَمََّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُ جَزََاءً الْحُسْنى ََ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنََا يُسْراً (88)}
{وَأَمََّا مَنْ آمَنَ} أي تاب من الكفر. {وَعَمِلَ صََالِحاً} قال أحمد بن يحيى: «أن» في موضع نصب في {إِمََّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمََّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} قال ولو رفعه كان صوابا بمعنى فإمّا هو، كما قال: [الطويل] 280 فسيرا فإمّا حاجة تقضيانها ... وإمّا مقيل صالح وصديق (1)
{فَلَهُ جَزََاءً الْحُسْنى ََ} (2) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري 16/ 185، ومعاني الفراء 2/ 158.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 152، ومعاني الفراء 2/ 159، وتيسير الداني 118.(2/305)
الكوفيين {فَلَهُ جَزََاءً الْحُسْنى ََ} وقرأ ابن أبي إسحاق فله جزاء حسنى وعن ابن عباس ومسروق {فَلَهُ جَزََاءً الْحُسْنى ََ} منصوبا غير منون. قال أبو جعفر: القراءة الأولى فيها تقديران: أحدهما أن يكون «جزاء» رفعا بالابتداء أو بالاستقرار و «الحسنى» في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة، والتقدير الآخر أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون «الحسنى» في موضع رفع على البدل عند البصريين والترجمة عند الكوفيين وعلى هذا الوجه القراءة الثانية إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود.
والقراءة الثالثة فيها ثلاثة أقوال: قال الفراء: جزاء منصوب على التمييز، والقول الثاني أن يكون مصدرا، وقال أبو إسحاق: هو مصدر في موضع الحال أي مجزيّا بها جزاء، والقراءة الرابعة عند أبي حاتم على حذف التنوين وهي كالثانية وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين، فيكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى وعندها عند العين.
[سورة الكهف (18): الآيات 89الى 90]
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتََّى إِذََا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهََا تَطْلُعُ عَلى ََ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهََا سِتْراً (90)}
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} {حَتََّى إِذََا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} ويقال مطلع وهو القياس.
[سورة الكهف (18): الآيات 91الى 92]
{كَذََلِكَ وَقَدْ أَحَطْنََا بِمََا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)}
{كَذََلِكَ} بمعنى الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب أي تطلع طلوعا كذلك. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً}. {حَتََّى إِذََا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} (1) قراءة أهل المدينة وعاصم، وقرأ أهل مكة وأبو عمرو {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} والذي بعده كذلك، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بضمّ هذا وفتح الذي بعده، وتكلّم الناس في السّدّ والسّدّ. فقال عكرمة: كلّ ما كان من صنع الله جل وعز فهو سدّ بالضم، وما كان من صنعة بني آدم فهو سدّ بالفتح، وقال أبو عمرو بن العلاء: السدّ بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء، والسدّ بالضم ما كان من غشاوة في العين، وقال عبد الله بن أبي إسحاق: السدّ بالفتح ما لم يره عيناك، والسدّ بالضّم ما رأته عيناك. قال أبو جعفر: هذه التفريقات لا تقبل إلا بحجّة ودليل، ولا سيما وقد قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد. ووقع هذا الاختلاف بلا دليل ولا حجّة. والحقّ في هذا ما حكي عن محمد بن يزيد قال: السدّ المصدر، وهذا قول الخليل وسيبويه، والسدّ الاسم. فإذا كان على هذا كانت القراءة بالضم أولى لأن المقصود الاسم لا المصدر. {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمََا قَوْماً لََا يَكََادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيون {يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (2) بضم الياء، وهو
__________
(1) انظر تيسير الداني 118.
(2) انظر تيسير الداني 118، والبحر المحيط 6/ 154.(2/306)
على حذف المفعول أي لا يكادون يفقهون أحدا قولا، والأول بغير حذف، وعلى القراءتين يكون المعنى أنهم لا يفقهون ولا يفقهون.
[سورة الكهف (18): آية 94]
{قََالُوا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى ََ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنََا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)}
{قََالُوا يََا ذَا الْقَرْنَيْنِ} بلغتهم أو بإيماء {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} (1) وقرأ عاصم والأعرج {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} (2) بالهمز جعلهما مشتقّين من أجيج النار عند الكسائي، ويكونان عربيّين ولم يصرفا جعلا اسمين لقبيلتين. {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين خراجا (3) ومحمد بن يزيد يذهب إلى أن الخرج: المصدر، والخراج: الاسم، وأن معنى استخرجت الخراج أظهرته، ويوم الخروج يوم الظهور {عَلى ََ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنََا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} قد ذكرناه (4).
[سورة الكهف (18): آية 95]
{قََالَ مََا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95)}
{قََالَ مََا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} مبتدأ وخبره أي الّذي مكّنّي فيه ربّي من الأسباب التي أوتيتها خير من الخراج الذي تجعلونه لي، وقرأ مجاهد وابن كثير قال ما مكّنني (5)
فلم يدغم لأن النون الأولى من الفعل والثانية ليست منه، والإدغام حسن لاجتماع حرفين من جنس واحد {أَجْعَلْ} جزم لأنه جواب الأمر.
[سورة الكهف (18): آية 96]
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتََّى إِذََا سََاوى ََ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قََالَ انْفُخُوا حَتََّى إِذََا جَعَلَهُ نََاراً قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96)}
قال الفراء: {سََاوى ََ} وسوّى واحد. قال أبو إسحاق: الصّدفان والصّدفان ناحيتا الجبل. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي {قََالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (6) بمعنى أعطوني قطرا أفرغ، وقراءة الكوفيين «ايتوني» بمعنى جيئوني معينين. {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} نصب في هذه القراءة بأفرغ.
[سورة الكهف (18): آية 97]
{فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً (97)}
{فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} حكى أبو عبيد أن حمزة كان يدغم التاء في الطاء ويشدد
__________
(1) انظر تيسير الداني 118.
(2) انظر تيسير الداني 118.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 154.
(4) مرّ في إعراب الآية 93الكهف.
(5) انظر البحر المحيط 6/ 155، وكتاب السبعة لابن مجاهد 400.
(6) انظر البحر المحيط 6/ 155.(2/307)
الطاء. قال أبو جعفر: وهذا الذي حكاه أبو عبيد لا يقدر أحد أن ينطق به لأن السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة قال سيبويه (1) هذا محال، إدغام التاء فيما بعدها، ولا يجوز تحريك السين لأنها مبنية على السكون. وفيه أربع لغات حكاها سيبويه والأصمعي والأخفش يقال: استطاع يستطيع، واسطاع يسطيع فيحذف التاء لأنها من مخرج الطاء، ويقال: استاع يستيع فتحذف الطاء، واللغة الرابعة أسطاع يسطيع بقطع وضم أول الفعل المستقبل، وأصله عند سيبويه (2) أطاع يطيع فجاؤوا بالسين عوضا من ذهاب حركة العين، وحكى الكسائي: أنت تستطيع بكسر التاء الأولى.
[سورة الكهف (18): آية 98]
{قََالَ هََذََا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكََّاءَ وَكََانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)}
{قََالَ هََذََا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي هذا الفعل نعمة من الله عزّ وجلّ، والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة والإحسان. {فَإِذََا جََاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي الوقت الذي وعد فيه أن يأجوج ومأجوج يخرجون {جَعَلَهُ دَكََّاءَ} بمعنى بقعة دكّاء وأرضا دكّاء.
[سورة الكهف (18): آية 99]
{وَتَرَكْنََا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنََاهُمْ جَمْعاً (99)}
{وَتَرَكْنََا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي خلّيناهم ولم يمنعهم حتّى ماجوا مع الناس.
[سورة الكهف (18): آية 100]
{وَعَرَضْنََا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكََافِرِينَ عَرْضاً (100)}
{وَعَرَضْنََا جَهَنَّمَ} أي أخرجناها.
[سورة الكهف (18): آية 101]
{الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكََانُوا لاََ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)}
{الَّذِينَ كََانَتْ أَعْيُنُهُمْ} في موضع خفض على النعت للكافرين {فِي غِطََاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أي هم بمنزلة من عينه مغطّاة فلا ينظر إلى دلائل الله جلّ وعزّ ولا يسمع وعظه. {وَكََانُوا لََا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي ذلك ثقيل عليهم.
[سورة الكهف (18): آية 102]
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبََادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيََاءَ إِنََّا أَعْتَدْنََا جَهَنَّمَ لِلْكََافِرِينَ نُزُلاً (102)}
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبََادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيََاءَ} أبو إسحاق يقدره بمعنى أفحسبوا أن ينفعهم ذلك، وقال غيره: في الكلام حذف، والمعنى: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا أعاقبهم.
[سورة الكهف (18): آية 103]
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمََالاً (103)}
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} فخالف حمزة في هذا، وقراءة حمزة أصوب وأولى في هذا، وهذا
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 604.
(2) انظر الكتاب 4/ 613.(2/308)
قول سيبويه (1) لأنه يستبعد أن تدغم اللام في النون، واعتلّ في ذلك بما يستجاد ويستحسن، قال: لأنه لا تدغم في النون واللام فاستوحشوا من إدغامها فيها، وذلك جائز على بعد عنده لقرب المخرجين. {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمََالًا} نصب على التمييز.
[سورة الكهف (18): آية 104]
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)}
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} في موضع خفض على النعت للأخسرين، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هم، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني.
[سورة الكهف (18): آية 109]
{قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنََا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)}
{قُلْ لَوْ كََانَ الْبَحْرُ مِدََاداً لِكَلِمََاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمََاتُ رَبِّي} قيل المعنى لما يقدر أن يتكلّم به والله عزّ وجلّ أعلم بما أراد.
[سورة الكهف (18): آية 110]
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى ََ إِلَيَّ أَنَّمََا إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صََالِحاً وَلاََ يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)}
{قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي لست أقدر على أن أكرهكم ولا أن أجبركم على ما أدعوكم إليه، قال أبو إسحاق: يقال حال من المكان يحول حولا إذا تحوّل منه ومثله من المصادر عظم عظما وصغر صغرا. {فَلْيَعْمَلْ} والأصل فليعمل حذفت الكسرة لثقلها ولأن اللام قد اتصلت بالفاء {وَلََا يُشْرِكْ بِعِبََادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في المشركين خاصة. قال أبو جعفر: والتقدير على هذا القول: ولا يشرك بالله جلّ وعزّ أحدا فيعبده معه.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 590.(2/309)
فهرس المحتويات
شرح إعراب سورة الأنعام 3 شرح إعراب سورة الأعراف 44 شرح إعراب سورة الأنفال 89 شرح إعراب سورة براءة 108 شرح إعراب سورة يونس عليه السلام 139 شرح إعراب سورة هود عليه السلام 160 شرح إعراب سورة يوسف عليه السلام 189 شرح إعراب سورة الرعد 218 شرح إعراب سورة إبراهيم عليه السلام 227 شرح إعراب سورة الحجر 236 شرح إعراب سورة النحل 247 شرح إعراب سورة الإسراء 264 شرح إعراب سورة الكهف 288(2/311)
الجزء الثالث
19 - شرح إعراب سورة مريم
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة مريم (19): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {كهيعص (1)}
قال أبو جعفر: لا اختلاف في إسكانها. قال أبو إسحاق: أسكنت لأنها حروف تهجّ النيّة فيها الوقف. قرأ أهل المدينة بين التفخيم والإمالة، وروى محمّد بن سعدان عن أبي محمد عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ {كهيعص} (1) الياء ممالة والهاء بين التفخيم والإمالة والصاد مدغمة، وحكى أبو عبيد أنّ حمزة كان يميل الياء ويفخم الهاء، وأن عاصما والكسائي كانا يكسران الهاء والياء، وحكى خارجة أن الحسن كان يضمّ كاف، وحكى غيره أنه كان يضم «ها»، وحكى إسماعيل بن إسحاق أن الحسن كان يضمّ يا، قال أبو حاتم لا يجوز ضم الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال أبو جعفر:
قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا والإمالة جائزة في «ها» وفي «يا» وما أشبههما نحو با وتا وثا إذا قصرت، وهذا قول الخليل وسيبويه (2). قال: وحكى لي علي بن سليمان أنّ البصريين ينفردون بالكلام في الإمالة، وأن الكوفيين لم يذكروا ذلك كما ذكروا غيره من النحو وإنما جازت الإمالة عند سيبويه والخليل (3) فيما ذكرناه لأنها أسماء ما يكتب ففرقوا بينها وبين الحروف، نحو «لا» و «ما»، ومن أمال منها شيئا فهو مخطئ، وكذلك «ما» التي بمعنى الذي، ولا يجيز أن تمال «حتّى» ولا «إلّا» التي للاستثناء لأنهما حرفان وإن سمّيت بهما جازت الإمالة، وأجازا «أنّى» لأنها اسم ظرف كأين وكيف، ولا يجوز إمالة كاف لأن الألف متوسطة. فأما قراءة الحسن فقد أشكلت على جماعة حتّى قالوا: لا تجوز، منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ.
قال: كان الحسن يشمّ الرفع فمعنى هذا أنه كان يومئ، كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبت في المصاحف بالواو.
__________
(1) انظر تيسير الداني 120.
(2) انظر الكتاب 4/ 248.
(3) انظر الكتاب 4/ 248.(3/3)
[سورة مريم (19): آية 2]
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيََّا (2)}
{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} في رفعه ثلاثة أقوال: قال الفراء (1): وهو مرفوع بكهيعص. قال أبو إسحاق: هذا محال لأن «كهيعص» ليس هو مما أنبأنا الله جلّ وعزّ به عن زكرياء، وقد خبّر الله جلّ وعزّ عنه وعما بشّره به وليس «كهيعص» من قصّته. قال الأخفش:
التقدير: فيما نقص عليكم ذكر رحمة ربك، والقول الثالث أن المعنى: هذا الذي نتلوه عليكم ذكر رحمة ربك عبده، ورحمة بالهاء تكتب، ويوقف عليها، وكذلك كلّ ما كان مثلها. لا نعلم بين النحويين اختلافا في ذلك إذا لم يكن في شعر بل قد اعتلّوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء وفرقوا بينها وبين الأفعال.
قال الأخفش: {عَبْدَهُ} منصوب برحمة. {زَكَرِيََّا} (2) بدل منه ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. هذا فيمن جعله مشتقا عربيا، ولا يصرفه في معرفة ولا نكرة، ومن جعله عجميا صرفه في النكرة.
[سورة مريم (19): آية 3]
{إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ نِدََاءً خَفِيًّا (3)}
{إِذْ} في موضع نصب على الظرف. {نََادى ََ رَبَّهُ نِدََاءً} مصدر مؤكّد {خَفِيًّا} من نعته.
[سورة مريم (19): آية 4]
{قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعََائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}
{قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} والمستقبل يهن أصله يوهن حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} في نصبه قولان: أحدهما أنه مصدر، لأن معنى اشتعل شاب، وهذا قول الأخفش سعيد. قال أبو إسحاق: هو منصوب على التمييز، وقول الأخفش أولى لأنه مشتقّ من فعل، والمصدر أولى به. {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعََائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} خبر أكن.
[سورة مريم (19): آية 5]
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)}
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوََالِيَ مِنْ وَرََائِي} نصب بخفت وحركت الياء في موضع النصب لخفته وأسكنتها في موضع الرفع والخفض لثقلهما، كما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قرأ خفّت الموالي من ورائي (3) وهذه قراءة شاذّة وإنما رواها كعب مولى سعيد بن العاص عن سعيد عن عثمان، وهي بعيدة جدا، وقد زعم بعض العلماء أنها لا تجوز.
قال: كيف يقول: خفّت الموالي من بعد موتي وهو حيّ؟ والتأويل لها أن لا يعني بقوله
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 161.
(2) انظر تيسير الداني 120
(3) انظر مختصر ابن خالويه 83، والبحر المحيط 6/ 165وهي قراءة زيد بن ثابت وابن عباس، وسعيد ابن العاص وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم.(3/4)
من ورائي من بعد موتي ولكن من ورائي في ذلك الوقت، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنّهم خفّوا في ذلك الوقت وقلّوا، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عنهم بما يدلّ على الكثرة حين قالوا: أيّهم يكفل مريم؟ {وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً} أي لا تلد كأنّ بها عقرا.
والفعل منه عقرت مسموع من العرب، والقياس عقرت. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} والمستقبل يهب، والأصل يوهب بكسر الهاء، ومن قال: الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو وكما لم تحذف في يوجل، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق.
وقرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (1)
برفعهما، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (2) بالجزم فيهما. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالرفع أولى في العربية وأحسن، والحجّة في ذلك ما قاله أبو عبيد فإن حجّته حسنة. قال: المعنى:
فهب لي من لدنك الوليّ الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء منهم من لا يرث، فقال:
هب الّذي يكون وارثي، وردّ الجزم لأن معناه إن وهبته لي ورثني، فكيف يخبر الله جلّ وعزّ بهذا وهو أعلم به منه؟ وهذه حجة مقتضاة لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة. تقول: أطع الله جلّ وعزّ يدخلك الجنة والمعنى: إن تطعه يدخلك الجنة. فأما معنى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة:
قيل: هي وراثة نبوّة، وقيل: هي وراثة حكمة، وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة محال لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس كلّهم ينسبون إلى نوح صلّى الله عليه وسلّم، وهو نبيّ مرسل. ووراثة الحكمة والعلم مذهب حسن. وفي الحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (3) وأما وراثة المال فلا يمتنع وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» (4) فهذا لا حجّة فيه لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجميع وقد يؤول هذا بمعنى لا نورث الذي تركناه صدقة لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يخلف شيئا يورث عنه، وإنما كان الذي له أباحه الله عزّ وجلّ إياه في حياته بقوله جلّ وعزّ {وَاعْلَمُوا أَنَّمََا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلََّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] لأن معنى لله جلّ وعزّ لسبل الله جلّ ثناؤه، ومن سبل الله تبارك وتعالى ما يكون في مصلحة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما دام حيّا فإن قيل: ففي بعض الروايات «إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ففيه التأويلان جميعا أن يكون «ما» بمعنى الذي، والآخر لا يورث من
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 165.
(2) انظر تيسير الداني 120.
(3) أخرجه ابن ماجة في سننه في المقدمة 17حديث 223، والدارمي في سننه 1/ 98.
(4) أخرجه مالك في الموطأ باب 12حديث 27، والترمذي في سننه السير 7/ 112، وأبو داود في سننه رقم (2977).(3/5)
كانت هذه حاله. {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} لم ينصرف لأنه أعجمي وزعم عاصم الجحدري أنهم لو قالوا هو يعقوب آخر غير يعقوب بن إسحاق لصروفه، وقال: إنّهم قالوا: إنه غير يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
[سورة مريم (19): آية 7]
{يََا زَكَرِيََّا إِنََّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاََمٍ اسْمُهُ يَحْيى ََ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)}
{يََا زَكَرِيََّا} منادى مفرد. {اسْمُهُ يَحْيى ََ} مبتدأ وخبر ولم ينصرف يحيى لأنه في الأصل فعل مستقبل وكتب بالياء فرقا بينه وبين الفعل {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قد ذكرناه، وقد قيل: معناه لم نأمر أحدا أن يسمّي ابنه يحيى قبلك.
[سورة مريم (19): آية 8]
{قََالَ رَبِّ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلاََمٌ وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)}
{أَنََّى} في موضع نصب على الظرف. {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (1) قال قتادة:
أي سنّا، والتقدير في العربية: سنّا عتيّا. والأصل عتوّا لأنه من ذوات الواو فأبدل من الواو ياء لأنها أختها، وهي أخفّ منها والآيات على الياء، ومن قرأ {عِتِيًّا} كره الضمة مع الكسرة والياء.
[سورة مريم (19): آية 9]
{قََالَ كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)}
{قََالَ كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكَ} الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك. {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} قال الفراء (2): أي خلقه عليّ هين، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ}، وقرأ سائر الكوفيين وقد خلقناك (3) قال أبو جعفر: والقراءة الأولى أشبه بالسواد.
[سورة مريم (19): آية 10]
{قََالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قََالَ آيَتُكَ أَلاََّ تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلاََثَ لَيََالٍ سَوِيًّا (10)}
{قََالَ آيَتُكَ} مبتدأ وخبره (أن) وصلتها {تُكَلِّمَ} نصب بأن لأن «لا» غير حائلة، وأجاز الكسائي والفراء (4) «أن لا تكلّم الناس» بالرفع: بمعنى أنك لا تكلم الناس، وهذا كما قال: [الطويل] 282 ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني ... كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي (5)
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 166، وكتاب السبعة لابن مجاهد 407، وهي قراءة ابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي، وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 162.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 167، وتيسير الداني 120.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 162.
(5) مرّ الشاهد رقم (124).(3/6)
قال الأخفش: {سَوِيًّا} نصب على الحال. قال أبو جعفر: والمعنى: يكفّ عن الكلام في هذه الحال.
[سورة مريم (19): آية 11]
{فَخَرَجَ عَلى ََ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرََابِ فَأَوْحى ََ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}
{فَأَوْحى ََ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ظرفان، وزعم الفراء أنّ العشيّ يؤنّث ويجوز تذكيره إذا أبهمت. قال: وقد يكون العشيّ جمع عشيّة.
[سورة مريم (19): آية 12]
{يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)}
{يََا يَحْيى ََ خُذِ الْكِتََابَ بِقُوَّةٍ} ومن أخذ يأخذ. الأصل أوخذ، حذفت الهمزة الثانية لكثرة الاستعمال، وقيل لاجتماع حرفين من حروف الحلق، واستغني عن الهمزة وكسرت الذال لالتقاء الساكنين. {وَآتَيْنََاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} على الحال.
[سورة مريم (19): آية 13]
{وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا وَزَكََاةً وَكََانَ تَقِيًّا (13)}
{وَحَنََاناً} عطف على الحكم. وفي معناه قولان عن ابن عباس أحدهما قال:
تعطّف الله جلّ وعزّ عليه بالرحمة، والقول الآخر: ما أعطيه من رحمة الناس حتّى يخلّصهم من الكفر والشرّ. {وَزَكََاةً} في معناه قولان: أحدهما أنه أعطي الزيادة في الخير والنماء فيه، والقول الآخر أنّ الله جلّ وعزّ زكّاه بأن وصفه أنه زكيّ تقيّ فقال جلّ وعزّ: {وَكََانَ تَقِيًّا}.
[سورة مريم (19): آية 14]
{وَبَرًّا بِوََالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبََّاراً عَصِيًّا (14)}
{وَبَرًّا بِوََالِدَيْهِ} عطف على تقي.
[سورة مريم (19): آية 15]
{وَسَلاََمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
{وَسَلََامٌ عَلَيْهِ} رفع بالابتداء، وحسن الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى الدعاء.
ومعنى سلام عليك وسلام الله عليك واحد في اللغة.
[سورة مريم (19): آية 17]
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجََاباً فَأَرْسَلْنََا إِلَيْهََا رُوحَنََا فَتَمَثَّلَ لَهََا بَشَراً سَوِيًّا (17)}
{فَأَرْسَلْنََا إِلَيْهََا رُوحَنََا} وهو جبرائيل عليه السلام. سمّي روحا لأنه يأتي بما يحيا به العباد من الوحى فلما كان ما يأتي به يحيا العباد به سمّي روحا ولهذا سمّي عيسى صلّى الله عليه وسلّم روحا {فَتَمَثَّلَ لَهََا بَشَراً سَوِيًّا} على الحال.
[سورة مريم (19): آية 19]
{قََالَ إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاََماً زَكِيًّا (19)}(3/7)
{قََالَ إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} ابتداء وخبر. {لِأَهَبَ لَكِ} (1) قراءة أكثر الناس وهي الصحيحة عن نافع بن أبي نعيم. حكى ذلك أبو عبيد وإسماعيل بن إسحاق وغيرهما من أهل الضبط إلّا ورشا فإنه روى عنه ليهب (2) وقراءة أبي عمرو ليهب (3) بلا اختلاف عنه. قال أبو عبيد: وهذا مخالف لجميع المصاحف كل ها: قال: ولو جاز أن يغيّر حرف من المصحف للرأي لجاز في غيره. قال: وفي هذا تحويل القرآن حتى لا يعرف المنزل منه من غيره قال أبو جعفر: «ليهب» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد لأهب ثم يخفف الهمزة، والآخر يكون على غير تخفيف الهمزة: ويكون معناه ارسلني ليهب، ومن يقرأ «لأهب» فتقديره: قال لأهب لأن في قوله: {إِنَّمََا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} ما يدلّ على هذا.
[سورة مريم (19): آية 20]
{قََالَتْ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلاََمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}
{وَلَمْ يَمْسَسْنِي} ظهر التضعيف لما سكن الحرف الثاني. {بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} الأصل أكن وقد ذكرناه (4).
[سورة مريم (19): آية 21]
{قََالَ كَذََلِكِ قََالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنََّاسِ وَرَحْمَةً مِنََّا وَكََانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)}
{وَكََانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} الأصل مقضويّ ثم أدغمت الواو في الياء.
[سورة مريم (19): آية 22]
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكََاناً قَصِيًّا (22)}
ظرف وإن شئت كان مفعولا أي قصدت به مكانا قصيا.
[سورة مريم (19): آية 23]
{فَأَجََاءَهَا الْمَخََاضُ إِلى ََ جِذْعِ النَّخْلَةِ قََالَتْ يََا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هََذََا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)}
{فَأَجََاءَهَا الْمَخََاضُ إِلى ََ جِذْعِ النَّخْلَةِ} قيل: لأنها طلبت الظلّ. {قََالَتْ يََا لَيْتَنِي مِتُّ} من قال متّ ففي تقديره قولان: أحدهما أنه من متّ أمات مثل خفت أخاف، والآخر هو قول سيبويه أنه من متّ أموت، وزعم سيبويه (5) أنه جاء في كلام العرب على فعلت أفعل: فضل يفضل، ومتّ تموت، ولا يعرف غيرهما. {وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} (6) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة {وَكُنْتُ نَسْياً} بفتح النون. قال أبو جعفر: كسر النون في هذا أولى في العربية لجهتين: إحداهما أن
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 170.
(2) انظر تيسير الداني 120، ومعاني الفراء 2/ 163، والبحر المحيط 6/ 170.
(3) انظر تيسير الداني 120، ومعاني الفراء 2/ 163، والبحر المحيط 6/ 170.
(4) مرّ في إعراب الآية 109هود.
(5) انظر الكتاب 4/ 486.
(6) انظر تيسير الداني 121.(3/8)
المفتوحة مصدر والمكسورة اسم، والاسم هاهنا أولى من المصدر، والجهة الأخرى أن المصدر إنما تستعمله العرب هاهنا على فعلان فيقولون: نسيت نسيانا.
[سورة مريم (19): آية 24]
{فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا أَلاََّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}
{فَنََادََاهََا مِنْ تَحْتِهََا} فأما أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلّا الحسن وأبا عمرو النّخعي وعاصما فإنهم قرءوا من تحتها (1) بفتح الميم. فزعم أبو عبيد أن من قرأ «من تحتها» جاز في قراءته أن يكون لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ولعيسى عليه السلام، ومن قرأ «من تحتها» فهو لعيسى صلّى الله عليه وسلّم خاصّة. قال أبو جعفر: «من» اسم و «تحتها» ظرف ولا يمتنع أن يكون معناه لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم كما كان في الأول (2).
[سورة مريم (19): آية 25]
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)}
فيه ستّ قراءات: قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {تُسََاقِطْ} بالتاء وتشديد السين، وقرأ الأعمش وحمزة تساقط بالتاء وتخفيف السين، وقرأ البراء بن عازب يسّاقط بالياء وتشديد السين، وقرأ مسروق بن الأجدع تسقط والقراءتان الباقيتان {تُسََاقِطْ} ونساقط. قال أبو جعفر: فالقراءة الأولى أصلها تتساقط ثم أدغمت التاء في السين، والثانية على الحذف، والثالثة على الإدغام ولا يجوز معها الحذف. ونصب رطب في هذه القراءات الثلاث على البيان كما قال: [الطويل] 283 فلو أنّها نفس تموت سويّة ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا (3)
وحكى أبو إسحاق عن أبي العباس أنه منصوب بهزّي، والقراءة الرابعة على أن يكون منصوبا بتسقط أو بهزّي، وكذا الخامسة. قال أبو إسحاق: ومن قرأ نساقط أراد: نساقط نحن عليك رطبا جنيّا ليكون ذلك آية. قال أبو جعفر: والرطب يذكّر على معنى الجنس ويؤنث على معنى الجماعة.
[سورة مريم (19): آية 26]
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمََّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} قال أبو إسحاق: فكلي من الرطب واشربي من الماء.
قال و {عَيْناً} منصوب على التمييز. قال أبو جعفر: الأصل أأكلي بهمزتين فحذفت
__________
(1) انظر تيسير الداني 121.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 175، وتيسير الداني 121، ومعاني الفراء 2/ 166.
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 107، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 648، وشرح المفصّل 9/ 8، ولسان العرب (جمع)، وتفسير الطبري 13/ 152، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري 423.(3/9)
إحداهما لاجتماعهما وكثرة الاستعمال، وكان القياس أن تخفّف الثانية فتكون واوا فيقال أوكل كما يقال: أوجر فلان من الأجر، فلمّا حذفت الهمزة الثانية استغني عن الأولى فقيل: كلي، وحذفت النون لأن الفعل غير معرب وللجزم عند الكوفيين وكذا واشربي وقرّي. قال الأصمعي: قررت به عينا، مشتقّ من القرّ أي بردت عيني فلم تدمع فتسخن، وقال أبو عمرو الشيباني: هو من قررت في المكان أي قرّت عيني فنامت ولم تسهر، وقيل: معناه قررت أي هدأت لمّا نلت ما كنت متطلعا إليه. {فَإِمََّا تَرَيِنَّ} في موضع جزم بالشرط. والأصل فإما تريي، زيدت النون توكيدا، وصلح ذلك في الخبر لدخول «ما»، وحكى سيبويه (1)، «بألم ما تختننّه» (2) ولو نطق به بغير نون لكان «فإما ترى» فلمّا زدت النون رددته إلى أصله وكسرت الياء لالتقاء الساكنين، وكانت الكسرة أولى للفرق بين المذكّر والمؤنّث ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على الراء وحذفت فصار ترين. {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} مشتق من آنس إذا علم وأبصر، والانسيّ مبصر معلوم به والجمع «أناسي»، تزاد الألف ثالثة، كما يعمل في المجموع فتقول: بختيّ وبخاتيّ وذلك كثير معروف.
[سورة مريم (19): آية 27]
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهََا تَحْمِلُهُ قََالُوا يََا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27)}
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهََا تَحْمِلُهُ} في موضع الحال.
[سورة مريم (19): آية 28]
{يََا أُخْتَ هََارُونَ مََا كََانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمََا كََانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)}
{يََا أُخْتَ هََارُونَ} نداء مضاف. والأصل أخوة يدلّ على ذلك أخوات وقال محمد بن يزيد: حذفت الواو فرقا بين المتشبّث وغير المتشبّث. ولا نعلم أحدا سبق أبا العباس إلى هذا القول مع حسنه وجودته. وزعم الفراء أنه إنما ضمّت الهمزة في قولهم أخت وكسرت الباء في قولهم: بنت للفرق بين ما حذفت منه الواو وبين ما حذفت منه الياء فالضمة علم الواو والكسرة علم الياء. وذكر محمد بن يزيد أن هذا القول خطأ.
قال أبو جعفر: في قوله: «يا أخت هارون» قولان للعلماء: أحدهما أن هارون كان رجلا صالحا فقالوا يا أخت هارون أي يا شبيهته في الصّلاح، وإنما المؤمنون إخوة من هذا، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه. وروى جعفر عن سعيد بن جبير أنه كان رجل فاسق يقال له هارون فقالوا لها: يا أخت هارون. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى لأن فيه حديثا مسندا.
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 580.
(2) ورد المثل في خزانة الأدب 11/ 403، ومجمع الأمثال 1/ 107، والمعنى: لا يكون الختان إلا بألم، أي إنّ الخير لا يدرك إلا باحتمال المشقّة.(3/10)
[سورة مريم (19): آية 29]
{فَأَشََارَتْ إِلَيْهِ قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)}
{قََالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن تكون «كان» زائدة ونصب {صَبِيًّا} على الحال، والعامل فيه الاستقرار، وقيل: «كان» بمعنى وقع نصب صبيّ على الحال إلّا أن العامل فيه كان، والقول الثالث قول أبي إسحاق. قال:
من للشرط، والمعنى: من كان في المهد صبيا فكيف نكلّمه؟ قال: كما تقول: من كان لا يسمع ولا يبصر فكيف أخاطبه؟ قال أبو جعفر: وإنما احتاج النحويون إلى هذه التقديرات لأن الناس كلّهم كانوا في المهد صبيانا ولا بد من أن يبيّن عيسى صلّى الله عليه وسلّم بشيء منهم وقد حكى سيبويه زيادة كان، وأنشد: [الوافر] 284 فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام (1)
وحكى النحويون: ما كان أحسن زيدا وقالوا على إلغاء كان.
[سورة مريم (19): آية 30]
{قََالَ إِنِّي عَبْدُ اللََّهِ آتََانِيَ الْكِتََابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)}
{قََالَ إِنِّي عَبْدُ اللََّهِ آتََانِيَ الْكِتََابَ} في معناه قولان: أحدهما قدّر أن يؤتينيه، والآخر أنّ الله جلّ وعزّ أكمل عقله وآتاه الكتاب وجعله نبيا وهو في المهد. قال قتادة: في المهد أي في الحجر.
[سورة مريم (19): آية 31]
{وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً أَيْنَ مََا كُنْتُ وَأَوْصََانِي بِالصَّلاََةِ وَالزَّكََاةِ مََا دُمْتُ حَيًّا (31)}
{وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً أَيْنَ مََا} مشتقّ من البركة وهو الثبوت على الخير. وكان ثابتا على الخير مشبا، كما قال عمرو بن قيس: معنى «وجعلني مباركا» معلّما مؤدبا. وبيّن هذا ما رواه شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن عثمان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وروى عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خيركم من علم القرآن وعلّمه» (2)
وروى شريك عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من علم القرآن وأقرأه». {وَأَوْصََانِي بِالصَّلََاةِ وَالزَّكََاةِ} قال أبو إسحاق: «الزكاة» الطهارة، وقال غيره وأوصاني بالزكاة أن أؤدّيها إذا وجبت علي وآمر بها، {مََا دُمْتُ حَيًّا} خبر دمت وعلى الحال عند الفراء.
[سورة مريم (19): آية 32]
{وَبَرًّا بِوََالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبََّاراً شَقِيًّا (32)}
{وَبَرًّا بِوََالِدَتِي} قال الكسائي: هو نسق على مبارك أي وجعلني برا. وقرأ ابن
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (81).
(2) أخرجه الترمذي في سننه فضائل القرآن 11/ 32، وابن ماجة في سننه المقدمة الحديث 211، 212، وأبو داود في سننه حديث رقم (1452).(3/11)
نهيك وبرّ بوالدتي بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة وبرّ بوالدتي.
[سورة مريم (19): آية 33]
{وَالسَّلاََمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
{وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} آخر كلام عيسى عليه السلام فلمّا تكلّم في حجر أمّه ظهرت لهم الآية.
[سورة مريم (19): آية 34]
{ذََلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}
{ذََلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} قال الكسائي: «قول الحقّ» نعت، وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق، وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر {قَوْلَ الْحَقِّ} بالنصب. قال الفراء (1): بمعنى حقّا. قال أبو إسحاق: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدلّ عليه.
[سورة مريم (19): آية 35]
{مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحََانَهُ إِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)}
{مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} {أَنْ} في موضع رفع اسم كان {مِنْ وَلَدٍ} في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد، وحقيقة هذا أنك إذا قلت: ما اشتريت فرسا، جاز أن يكون المعنى أنك ما اشتريت شيئا البتة، وجاز أن يكون المعنى أنك اشتريت أفراسا.
فإذا قلت: ما اشتريت فرسين، جاز فيه ثلاثة أوجه: منها أن يكون لم تشتر شيئا، وجاز أن تكون اشتريت واحدا، وجاز أن تكون اشتريت أكثر من اثنين. فإذا قلت: ما اشتريت من فرس صار المعنى أنك لم تشتر من هذا الجنس شيئا البتة. {سُبْحََانَهُ} مصدر {فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) قراءة الجماعة، وقرأ ابن عامر الشامي فيكون.
[سورة مريم (19): آية 36]
{وَإِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}
{وَإِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} قراءة أهل المدينة وقراءة أهل الكوفة و «إنّ» (3) بكسر الهمزة على أنه مستأنف، وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه رحمهما الله أن المعنى ولأن «ربّي وربّكم»، وكذا عندهما {وَأَنَّ الْمَسََاجِدَ لِلََّهِ فَلََا} [الجنّ: 18] فإنّ في موضع نصب عندهما، وأجاز الفراء (4) أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أيضا أن يكون في موضع خفض بمعنى «وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم»، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى «والأمر أن الله ربي وربكم»،
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 168.
(2) انظر تيسير الداني 121.
(3) انظر تيسير الداني 121وهي قراءة ابن عامر والكوفيين.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 168.(3/12)
وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى:
وقضى أنّ الله ربّي وربكم.
[سورة مريم (19): آية 38]
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنََا لََكِنِ الظََّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (38)}
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنََا} مبني على السكون لأن لفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التعجّب: ما أسمعهم وما أبصرهم!
[سورة مريم (19): آية 39]
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاََ يُؤْمِنُونَ (39)}
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قد ذكرناه وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلّا وله بيت في الجنة فيتحسّر عليه، وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. وأن معنى: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} عرّف كلّ إنسان ما له وما عليه، وقيل: التقدير:
وأنذرهم خبر يوم الحسرة إذ قضي الأمر فخبّر أنّهم معذّبون.
[سورة مريم (19): الآيات 41الى 42]
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ إِبْرََاهِيمَ إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ يََا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مََا لاََ يَسْمَعُ وَلاََ يُبْصِرُ وَلاََ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)}
{إِنَّهُ كََانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} خبر «كان» و «نبيّا» من نعته، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا، وأن يكون حالا من المضمر.
قال أبو إسحاق: الوقف إذ قال لأبيه يا أبه بالهاء لأنها هاء تأنيث، وقال أبو الحسن بن كيسان: الوقف بالتاء لأنه مضاف إلى ما لا ينفصل، كما تقول: هذه نعمتي. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (1) هذا في سورة «يوسف» بأكثر من هذا. قال الكسائي: عصيّ وعاصي واحد.
[سورة مريم (19): آية 46]
{قََالَ أَرََاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يََا إِبْرََاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)}
{قََالَ أَرََاغِبٌ} رفع بالابتداء، و «أنت» فاعل سدّ مسدّ الخبر، كما تقول: أقائم أنت؟
وحسن الابتداء بالنكرة لما تقدمها.
[سورة مريم (19): آية 47]
{قََالَ سَلاََمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كََانَ بِي حَفِيًّا (47)}
{قََالَ سَلََامٌ عَلَيْكَ} صلح الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى المنصوب وفيها في هذا الموضع معنى التفرّق والترك، ومثله {وَإِذََا خََاطَبَهُمُ الْجََاهِلُونَ قََالُوا سَلََاماً} [الفرقان: 63].
{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي إن أسلمت وتبت. {إِنَّهُ كََانَ بِي حَفِيًّا} قال علي بن أبي
__________
(1) انظر إعراب الآية 4: يوسف.(3/13)
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه: أي لطيفا. قال الكسائي: قال: حفي به حفاوة وحفوة. وقال الفراء (1): «إنه كان بي حفيا» أي عالما يجيبني إذا دعوته. قال أبو إسحاق: ويقال: قد تحفّى فلان بفلان حفوة إذا ألطفه وبرّه.
[سورة مريم (19): آية 48]
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى ََ أَلاََّ أَكُونَ بِدُعََاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} «ما» في موضع نصب لأنها معطوفة أي واعتزل ما تدعون.
[سورة مريم (19): آية 50]
{وَوَهَبْنََا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنََا وَجَعَلْنََا لَهُمْ لِسََانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
{وَجَعَلْنََا لَهُمْ لِسََانَ صِدْقٍ} أي قول صدق، كما قال أعشى باهلة: [البسيط] 285 إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر (2)
وأنّث اللسان في هذا البيت، وهي لغة معروفة، وإن كان القرآن قد جاء بالتذكير.
قال جلّ وعزّ {عَلِيًّا} وهو نعت للسان، وقال الآخر: [الوافر] 286 ندمت على لسان فات منّي ... فليت بيانه في جوف عكم (3)
[سورة مريم (19): آية 55]
{وَكََانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاََةِ وَالزَّكََاةِ وَكََانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}
{وَكََانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} مشتقّ من الرّضوان، والأصل مرضوّ عند سيبويه أبدل من الواو ياء لأنها أخفّ، وكذا مسنيّة وإنما أبدل من الواو ياء لأنها قبلها ضمة والساكن ليس بحاجز حصين، وقال الكسائي والفراء (4) من قال: مرضي بناه على رضيت. قالا:
وأهل الحجاز يقولون: مرضو، وفيه قول ثالث حكاه الكسائي والفراء (5) قالا: من العرب من يقول: رضوان ورضيّان فرضوان على مرضو ورضيّان على مرضي، ولا يجيز البصريون أن يقال إلّا رضوان وربوان. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول:
يخطئون في الخطّ فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشدّ من هذا فيكتبون ربيان، ولا يجوز إلّا ربوان ورضوان قال الله جلّ وعزّ {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ النََّاسِ} [الروم: 39].
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 169.
(2) الشاهد لأعشى باهلة في إصلاح المنطق 26، والأصمعيات 88، وجمهرة اللغة 950، وخزانة الأدب 6/ 511، وسمط اللآلي 75، وشرح المفصّل 4/ 90، ولسان العرب (سخر) و (لسن)، والمؤتلف والمختلف 14، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 191، ولسان العرب (علا).
(3) الشاهد للحطيئة في ديوانه 122، وتخليص الشواهد 292، وخزانة الأدب 4/ 152، وشرح شواهد الإيضاح 503، ولسان العرب (عكم)، و (لسن)، ونوادر أبي زيد 33، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 244.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 169.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 169.(3/14)
[سورة مريم (19): آية 52]
{وَنََادَيْنََاهُ مِنْ جََانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنََاهُ نَجِيًّا (52)}
{وَقَرَّبْنََاهُ نَجِيًّا} نصب على الحال. قال الفراء: نجيّ مثل جليس قال: ونجيّ ونجوى يكونان اسمين ومصدرين.
[سورة مريم (19): آية 53]
{وَوَهَبْنََا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنََا أَخََاهُ هََارُونَ نَبِيًّا (53)}
{وَوَهَبْنََا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنََا أَخََاهُ هََارُونَ} بدل من الأخ ولم ينصرف لأنه معرفة عجمي، وكذا إدريس عليه السلام.
[سورة مريم (19): آية 58]
{أُولََئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنََا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْرََائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنََا وَاجْتَبَيْنََا إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُ الرَّحْمََنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)}
{خَرُّوا سُجَّداً} على الحال. {وَبُكِيًّا} عطف عليه وقيل هو مصدر أي وبكوا بكيا.
ويقال: بكى يبكي بكاء وبكي وبكيّا إلّا أن الخليل رحمه الله قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن أي ليس معه صوت. قال: [الوافر] 287 بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل (1)
[سورة مريم (19): آية 59]
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضََاعُوا الصَّلاََةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوََاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} الغيّ في اللغة الخيبة. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه.
[سورة مريم (19): آية 60]
{إِلاََّ مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاََ يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)}
{إِلََّا مَنْ تََابَ} في موضع نصب على الاستثناء. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى لكن من تاب. {فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلََا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
[سورة مريم (19): آية 61]
{جَنََّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمََنُ عِبََادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)}
{جَنََّاتِ عَدْنٍ} على البدل. قال أبو إسحاق: ويجوز جنّات عدن» على الابتداء.
قال أبو حاتم: ولولا الخطّ لجاز جنّة عدن، لأن قبله يدخلون الجنة. {إِنَّهُ كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} قال الكسائي: أي يؤتى إليه ويصار، وزعم القتبيّ (2): أنّ مأتيا بمعنى آت ومائتي مهموز لأنه من أتى يأتي ومن خفّف الهمزة جعلها ألفا.
__________
(1) الشاهد لحسان بن ثابت في جمهرة اللغة 1027، وليس في ديوانه، ولعبد الله بن رواحة في ديوانه ص 98، وتاج العروس (بكى)، ولكعب بن مالك في ديوانه ص 252، ولسان العرب (بكا)، ولحسان أو لكعب أو لعبد الله في شرح شواهد الشافية ص 66، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 304، ومجالس ثعلب 109، والمنصف 3/ 40.
(2) القتبيّ: هو ابن قتيبة، انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة 274.(3/15)
[سورة مريم (19): آية 62]
{لاََ يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً إِلاََّ سَلاََماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهََا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}
{لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً إِلََّا سَلََاماً} قال الأخفش سعيد: وهذا على الاستثناء الذي ليس من الأول، قال: وإن شئت كان بدلا أي لا يسمعون إلا سلاما. {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهََا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ظرفان. قال أبو إسحاق: أي يقسم لهم في هذين الوقتين ما يحتاجون إليه في كلّ ساعة. قال الأخفش: أي على مقادير الغداة والعشيّ مما في الدنيا لأنه ليس هناك ليل ولا نهار إنما هو نور العرش.
[سورة مريم (19): آية 64]
{وَمََا نَتَنَزَّلُ إِلاََّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مََا بَيْنَ أَيْدِينََا وَمََا خَلْفَنََا وَمََا بَيْنَ ذََلِكَ وَمََا كََانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)}
قال الأخفش: {لَهُ مََا بَيْنَ أَيْدِينََا} أي قبل أن نخلق {وَمََا خَلْفَنََا} ما يكون بعد الموت. {وَمََا بَيْنَ ذََلِكَ} مذ خلقنا.
[سورة مريم (19): آية 65]
{رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبََادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبََادَتِهِ} الأصل اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء، كما تقول من الصوم: اصطام.
[سورة مريم (19): آية 67]
{أَوَلاََ يَذْكُرُ الْإِنْسََانُ أَنََّا خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)}
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر أولا يذكر الإنسان (1) وقرأ شعبة ونافع وعاصم {أَوَلََا يَذْكُرُ} بالتخفيف، وفي حرف أبيّ أولا يتذكّر وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخطّ المصحف لأن الأصل في يذّكّر يتذكر فأدغمت التاء في الذال. ومعنى يتذكّر: يتفكّر، ومعنى يذكر يتنبّه ويعلم.
[سورة مريم (19): آية 68]
{فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)}
{فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيََاطِينَ} عطف على الهاء والميم والشياطين الذين أغووهم {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (2) نصب على الحال. والأصل جثوّ أبدل من الواو ياء لأنها ظرف، والجمع بابه التغيير. ومن قال: جثيّ أتبع الكسرة الكسرة.
[سورة مريم (19): آية 69]
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمََنِ عِتِيًّا (69)}
وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلّهم يقرءون {أَيُّهُمْ} بالرفع إلّا
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 410، والبحر المحيط 6/ 195، وهذه قراءة أبي بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبي حاتم.
(2) انظر تيسير الداني 121.(3/16)
هارون القارئ، فإن سيبويه حكى عنه ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة أيّهم (1) بالنصب أوقع على أيّهم لننزعنّ. قال أبو إسحاق: في رفع «أيّهم» ثلاثة أقوال: قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه (2) إنه مرفوع على الحكاية، والمعنى عنده: ثم لننزعنّ من كلّ شيعة الذي يقال من أجل عتوّه أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا، وأنشد الخليل: [الكامل] 288 ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم (3)
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محروم. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه، قال: لأنه بمعنى قول أهل التفسير، وزعم أن معنى «ثم لننزعنّ من كلّ شيعة» ثم لننزعنّ من كلّ فرقة الأعتى فالأعتى، كأنه يبدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثمّ الذي يليه. وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: لننزعن بمنزلة الأفعال التي تلغى فرفع «أيّهم» بالابتداء. وقال سيبويه (4): «أيّهم» مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل منك، ومن أفضل، كان قبيحا حتى تقول: من هو أفضل، والحذف في أيّهم جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أن أحدا من النحويين إلّا وقد خطّأ سيبويه في هذا. سمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أنّ سيبويه غلط في كتابه إلّا في موضعين هذا أحدهما، قال:
وقد علمنا سيبويه أنه أعرب «أيّا» وهي منفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟
ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال. قال أبو جعفر: وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة الأقوال التي ذكرها أبو إسحاق، قال الكسائي: لننزعنّ واقعة على المعنى كما تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام، ولم يقع لننزعن على أيّهم فينصبها. وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء. ومعنى لننزعن لننادين إذا كان معناه لننزعن بالنداء. قال أبو جعفر: وحكى أبو بكر بن شقير أنّ بعض الكوفيين يقول:
في أيّهم معنى الشرط والمجازاة، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها، والمعنى ثم لننزعن من كلّ فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول: ضربت القوم أيّهم غضب، والمعنى: إن غضبوا أو لم يغضبوا، فهذه ستة أقوال، وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال: أيّهم متعلّق بشيعة فهو مرفوع لهذا، والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 196، ومختصر ابن خالويه 86.
(2) انظر الكتاب 2/ 420.
(3) الشاهد للأخطل في ديوانه 616، والكتاب 2/ 81، وتذكرة النحاة 447، وخزانة الأدب 3/ 254، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 488، وشرح المفصّل 3/ 146، ولسان العرب (ضمر)، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 710، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 80، وشرح المفصّل 7/ 87.
(4) انظر الكتاب 2/ 420.(3/17)
أيهم، أي من الذين تعاونوا فنظروا أيّهم أشدّ على الرحمن عتيا. وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي: إنّ التشايع التعاون، «عتيا» على البيان.
[سورة مريم (19): الآيات 71الى 72]
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاََّ وََارِدُهََا كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظََّالِمِينَ فِيهََا جِثِيًّا (72)}
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} قد ذكرنا فيه أقوالا: قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة قالوا: يا ربنا إنك وعدتنا أن نرد النار، فيقال لهم: إنكم وردتموها وهي خامدة.
قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيه، أعني في الآية أن المعنى: وإن منكم إلّا وارد القيامة لأن الله جلّ وعزّ قال في المؤمنين: {لََا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهََا} [الأنبياء: 108]، وقال جلّ ثناؤه: {فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} * [المائدة: 69والأنعام: 48] ودلّ على أنّ المضمر للقيامة {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} فالحشر إنما هو في القيامة ثم قال جلّ وعزّ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} واسم كان فيها مضمر أي كان ورودها. فأما {وَنَذَرُ الظََّالِمِينَ فِيهََا جِثِيًّا} فالإضمار للنار لأنها في القيامة فكنى عنها لمّا كانت فيها. وهذا من كلام العرب الفصيح الكثير. وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} (1) بفتح الثاء، وقرأ ابن أبي ليلى ثمة (2):
«ثم» ظرف إلّا أنه مبني لأنه غير محصّل فبني كما بني «ذا» والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف لأن الحركة في الوصل بيّنة، ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاءا.
[سورة مريم (19): الآيات 73الى 74]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ قََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقََاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثََاثاً وَرِءْياً (74)}
{خَيْرٌ مَقََاماً} منصوب على البيان، وكذا {نَدِيًّا} وكذا {أَحْسَنُ أَثََاثاً وَرِءْياً} فيه خمس قراءات (3): قرأ أهل المدينة وريّا بغير همز، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو {وَرِءْياً} بالهمز، وحكى يعقوب أنّ طلحة قرأ وريا بياء واحدة مخفّفة وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس هم أحسن أثاثا وزيّا بالزاي فهذه أربع قراءات، قال أبو إسحاق ويجوز هم أحسن أثاثا وريئا بياء بعدها همزة. قال أبو جعفر: قراءة أهل المدينة في هذا حسنة، وفيها تقديران: أحدهما أن يكون «من رأيت» ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء. وكذا هذا حسنا لتتّفق رؤوس الآيات
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 198.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 198.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 198، وكتاب السبعة لابن مجاهد 411، ومعاني الفراء 2/ 171، والمحتسب 2/ 43.(3/18)
لأنها غير مهموزات وعلى هذا قال ابن عباس: الريّ المنظر. والمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا، والوجه الثاني أن يكون المعنى أنّ جلودهم مرتوية من النعمة فلا يجوز الهمز لأنه مصدر من رويت ريّا، وفي رواية ورش: وريّا، ومن رواه عنه ورئيا بالهمز فهو يكون على الوجه الأول. وقراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل وقراءة طلحة بن مصرف وريا بياء واحدة مخفّفة أحسبها غلطا، وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها ورئيا ثم حذفت الهمزة والزيّ الهيأة: والقراءة الخامسة على قلب الهمزة.
حكى سيبويه راء بمعنى رأى.
[سورة مريم (19): آية 75]
{قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلاََلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا حَتََّى إِذََا رَأَوْا مََا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذََابَ وَإِمَّا السََّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75)}
{قُلْ مَنْ كََانَ فِي الضَّلََالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمََنُ مَدًّا} قيل: المعنى: فليعش ما شاء فإنّ مصيره إلى الموت والعذاب. {حَتََّى إِذََا رَأَوْا مََا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذََابَ وَإِمَّا السََّاعَةَ}. قال أبو إسحاق: هذا على البدل من «ما» والمعنى: حتّى إذا رأوا العذاب أو الساعة.
[سورة مريم (19): آية 78]
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمََنِ عَهْداً (78)}
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} ألف الاستفهام وفيه معنى التوبيخ، وحذفت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها.
[سورة مريم (19): آية 80]
{وَنَرِثُهُ مََا يَقُولُ وَيَأْتِينََا فَرْداً (80)}
{وَيَأْتِينََا فَرْداً} على الحال.
[سورة مريم (19): آية 87]
{لاََ يَمْلِكُونَ الشَّفََاعَةَ إِلاََّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمََنِ عَهْداً (87)}
فيه تقديران: أحدهما أن يكون «من» في موضع رفع البدل من الواو أي لا يملك الشفاعة إلا من اتّخذ، والتقدير الآخر: أي يكون من في موضع نصب استثناء ليس من الأول. والمعنى: لكن من اتّخذ عند الرحمن عهدا بأنّه يشفع له، والمعنى عند الفراء (1)
لا يملكون الشفاعة إلا لمن اتّخذ عند الرحمن عهدا، ليس أنّ اللام مضمرة ولكن المعنى عنده على هذا.
[سورة مريم (19): آية 88]
{وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً (88)}
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم {وَلَداً} بفتح الواو واللام، وقرأ سائر
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 172.(3/19)
الكوفيين ولدا بضم الواو وإسكان اللام. وفرّق أبو عبيد بينهما: فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا. قال أبو جعفر: وهذا قول مردود عليه لا يعرفه أحد من أهل اللغة، ولا يكون الولد والولد إلّا لولد الرجل وولد ولده إلّا أن ولدا أكثر في كلام العرب، كما قال النابغة: [البسيط] 289 مهلا فداء لك الأقوام كلّهم ... وما أثمّر من مال ومن ولد (1)
قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد، كما يقال: وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد جمعا بمعنى واحد، كما يقال: عجمّ وعجم وعرب وعرب.
[سورة مريم (19): آية 89]
{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89)}
وقرأ أبو عبد الرحمن بفتح الهمزة، ويجوز شيئا أادّا كما تقول: رادّا، يقال أدّ يؤدّ أدّا فهو أادّ، والاسم الأدّ إذا جاء بشيء عظيم منكر.
[سورة مريم (19): آية 90]
{تَكََادُ السَّمََاوََاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا (90)}
{تَكََادُ السَّمََاوََاتُ} على تأنيث الجماعة ويكاد على تذكير الجمع ينفطرن (2)
بالياء والنون قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة، وقرأ الأعمش والحسن ونافع والكسائي {يَتَفَطَّرْنَ} (3) بالياء والتاء والأولى اختيار أبي عبيد، واحتجّ بقوله جلّ وعزّ {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] ولم يقل: تفطّرت. قال أبو جعفر: يتفطّرن بالياء والتاء في هذا الموضع أولى لأن فيه معنى التكثير فهو أولى لأنهم كفروا فكادت السموات تتشقّق فتسقط عليهم عقوبة بما فعلوه. {وَتَخِرُّ الْجِبََالُ هَدًّا} مصدر لأن معنى تخرّ تهدّ.
[سورة مريم (19): آية 91]
{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمََنِ وَلَداً (91)}
{أَنْ} في موضع نصب عند الفراء (4) بمعنى لأن دعوا ومن أن دعوا وزعم الفراء أن الكسائي قال: هي في موضع خفض.
[سورة مريم (19): آية 92]
{وَمََا يَنْبَغِي لِلرَّحْمََنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)}
لأن الله جلّ وعزّ لا يشبهه شيء، وولد الرجل يشبهه.
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 26، والأشباه والنظائر 7/ 90، وخزانة الأدب 6/ 181، ولسان العرب (فدي)، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 237، وشرح المفصّل 4/ 73.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 412. والبحر المحيط 6/ 205.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 205.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 173.(3/20)
[سورة مريم (19): آية 93]
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِلاََّ آتِي الرَّحْمََنِ عَبْداً (93)}
{«آتِي»} بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف تخفيفا وأضيف.
[سورة مريم (19): آية 95]
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فَرْداً (95)}
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} على لفظ كلّ، وعلى المعنى آتوه.
[سورة مريم (19): الآيات 96الى 97]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمََنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمََا يَسَّرْنََاهُ بِلِسََانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)}
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمََنُ وُدًّا} أي في قلوب المؤمنين. ولدّ جمع ألدّ، مثل أصمّ وصمّ.
[سورة مريم (19): آية 98]
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)}
{هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} في موضع نصب {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي قد ماتوا وحصلوا على أعمالهم.(3/21)
20 - شرح إعراب سورة طه
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة طه (20): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {طه (1)}
قراءة أهل المدينة وأبي عمرو بغير إمالة (1)، وقراءة الكوفيين بالإمالة إلا عاصما فإنه روي عنه اختلاف. قال أبو جعفر: لا وجه للإمالة في هذا عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة، والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. وقد اختار بعض النحويين الإمالة، فقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري: من كسر «طه» أمال إلى الكسر لأن المقصور الأغلب عليه الكسر إلى الإمالة، قال أبو جعفر: وهذا ليس بحجّة، ولا يجوز في كثير من المقصور الإمالة ولكن زعم سيبويه (2) أن الإمالة تجوز في حروف المعجم فيقال: با تا ثا لأنها أسماء فيفرق بينها وبين الحروف نحو «لا» فإنها لا تمال لأنها حرف. قال أبو إسحاق: من قرأ {طه مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ} (3) فالأصل عنده طأ، أي طإ الأرض بقدميك جميعا في الصلاة. فأبدل من الهمزة هاء، كما يقال: إيّاك وهيّاك وأرقت الماء وهرقت الماء. قال: ويجوز أن يكون على البدل الهمز فيكون الأصل: ط يا هذا، ثم جاء بالهاء لبيان الحركة في الوقف.
[سورة طه (20): آية 2]
{مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ (2)}
بعض النحويين يقول هذه لام النفي، وبعضهم يقول لام الجحود. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول في مثلها: إنها لام الخفض. والمعنى عنده: ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمدّ ويقصر، وهو من ذوات الواو.
[سورة طه (20): آية 3]
{إِلاََّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ََ (3)}
قال أبو إسحاق: هو بدل من يشقى أي ما أنزلناه إلّا تذكرة. قال أبو جعفر: وهذا
__________
(1) انظر تيسير الداني 122.
(2) انظر الكتاب 4/ 248.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 87.(3/22)
وجه بعيد، والقريب أنه منصوب على المصدر أو مفعول من أجله.
[سورة طه (20): آية 4]
{تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمََاوََاتِ الْعُلى ََ (4)}
{تَنْزِيلًا} مصدر. {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمََاوََاتِ الْعُلى ََ} ولا يجوز عند الخليل وسيبويه أن يأتي مثل هذا إلّا بالألف واللام، وهو قول الكوفيين، وقال: محال: سقطت له ثنيّتان علييان لا سفليان، لأنه إنما يراد به المعرفة فإن أردت النكرة، وتفضيل شيء على شيء جئت بمن فقلت: سقطت له ثنية أعلى من كذا.
[سورة طه (20): آية 5]
{الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ (5)}
ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحاق: ويجوز الخفض على البدل من من، وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. قال أبو جعفر: ويجوز الرفع بالابتداء وعلى البدل من المضمر الذي في خلق.
[سورة طه (20): آية 6]
{لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَمََا تَحْتَ الثَّرى ََ (6)}
{لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ} في موضع رفع بالابتداء {وَمََا بَيْنَهُمََا وَمََا تَحْتَ الثَّرى ََ} عطف عليه.
[سورة طه (20): آية 7]
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ (7)}
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} مجزوم بالشرط، والجواب {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ} أي وأخفى منه.
[سورة طه (20): آية 8]
{اللََّهُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ (8)}
{اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} مرفوع على البدل مما في «يعلم»، أو على إضمار مبتدأ، أو بالابتداء. {لَهُ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ} رفع بالابتداء {الْحُسْنى ََ} من نعتها.
[سورة طه (20): آية 10]
{إِذْ رَأى ََ نََاراً فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً (10)}
قرأ حمزة {فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} (1) وكذا في القصص (2). قال أبو جعفر: وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا هذا، فجاء به على الأصل، وهو جائز إلّا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة.
[سورة طه (20): آية 11]
{فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ (11)}
لأن معنى نودي: قيل له. قرأ الحسن وأبو جعفر وأبو عمرو نودي يا موسى
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 215، وكتاب السبعة لابن مجاهد 417، وقراءة حمزة وطلحة ونافع بضمّ الهاء.
(2) القصص: 29.(3/23)
أنّي (1) بفتح الهمزة بمعنى نودي «بأنّي» و «أنّ» في موضع نصب، ومن كسر فالمعنى عنده: قال إني.
[سورة طه (20): آية 12]
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12)}
وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة بالواد المقدّس طوى (2) بغير تنوين، وقرأ أهل الكوفة {طُوىً} بالتنوين. قال أبو جعفر: الوجه ترك التنوين لأنه مثل «عمر» معدول، وهو معرفة، ويجوز أن يكون اسما للبقعة فلا ينصرف أيضا، ومن نوّن فزعم أبو إسحاق أنه يقدّره اسما للمكان غير معدول، مثل حطم وصرد. قال: ومن قال: طوى فصرف جعله كضلع، ومعى على أنه اسم للمكان، ويجوز ترك صرفه على أنه اسم للبقعة. قال أبو جعفر: من جعل طوى بمعنى ثنى نوّن لا غير، يأخذه من ثنيت الشيء ثنى أي قدّس مرّتين. وفي الحديث «لا ثنى في الصّدقة» (3) أي لا تثنى فتؤخذ مرّتين.
[سورة طه (20): آية 13]
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمََا يُوحى ََ (13)}
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} وقرأ سائر الكوفيين وإنّا اخترناك (4) والمعنى واحد إلّا أن «وأنا اخترتك» هاهنا أولى من جهتين: إحداهما أنه أشبه بالخطّ، والثانية أنه أولى بنسق الكلام لقوله جلّ وعزّ {يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} وعلى هذا النسق جرت المخاطبة.
[سورة طه (20): آية 14]
{إِنَّنِي أَنَا اللََّهُ لاََ إِلََهَ إِلاََّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاََةَ لِذِكْرِي (14)}
{وَأَقِمِ الصَّلََاةَ لِذِكْرِي} قال أبو إسحاق: فيه قولان يكون المعنى: أقم الصلاة لأن تذكرني فيها لأن الصلاة لا تكون إلّا بذكر، والقول الآخر: أقم الصلاة متى ذكرتها كان ذلك في وقت صلاة. قال أبو جعفر: وفيها قول ثالث يكون المعنى: أقم الصّلاة لأن أذكرك بالمدح. وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء والشعبي {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِذِكْرِي} (5) وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تكون هذه ألف التأنيث، والوجه الآخر أن تكون هذه الألف أبدلت من الياء، كما يقال: يا غلاما أقبل، وفعل ذلك لتتّفق رؤوس الآيات.
[سورة طه (20): آية 15]
{إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا لِتُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا تَسْعى ََ (15)}
{إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا} آية مشكلة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا شيئا مما قيل فيها. وعن سعيد بن جبير روايتان: إحداهما ما حدّثناه الحسن بن الفرج بغزّة قال:
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 417.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 217.
(3) أخرجه الترمذي في سننه الزكاة 3/ 174.
(4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 417.
(5) انظر البحر المحيط 6/ 35، ومعاني الفراء 2/ 176، ومختصر ابن خالويه 87.(3/24)
حدّثنا يوسف بن عديّ قال: حدّثنا محمد بن سهل الكوفي عن ورقاء وهو ابن إياس عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أَكََادُ أُخْفِيهََا} (1) بفتح الهمزة قال: أظهرها وليس لهذه الرواية طريق غير هذا، وقد رواها أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل هذا. وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطّان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ {أَكََادُ أُخْفِيهََا} (2) بضم الهمزة. قال أبو جعفر: يقال: خفى الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكي أنه يقال: أخفاه إذا أظهره، وليس بالمعروف. قال أبو جعفر: ورأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى أخفيها عدل إلى هذا القول، وقد قال معناه كمعنى أخفيها أي أظهرها. قال أبو جعفر: ليس المعنى على أظهرها ولا سيّما وأخفيها قراءة شاذة. فكيف نردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة؟ ومعنى الضم أولى ويكون التقدير أنّ الساعة آتية أكاد آتي بها، ودلّ آتيه على آتي بها ثم قال جلّ وعزّ: {أُخْفِيهََا} على الابتداء. وهذا معنى صحيح لأن الله جلّ وعزّ قد أخفى الساعة التي هي يوم القيامة: والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم ولا يؤخّر التوبة. وقيل: المعنى: أكاد أخفيها أي أقارب ذلك لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، يجوز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم، ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب، وقيل: إن المعنى أنّ الساعة آتية {لِتُجْزى ََ كُلُّ نَفْسٍ بِمََا تَسْعى ََ} وقيل:
المعنى أقم الصلاة لذكري لتجزى كلّ نفس بما تسعى.
[سورة طه (20): آية 16]
{فَلاََ يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لاََ يُؤْمِنُ بِهََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَتَرْدى ََ (16)}
{فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا} أي عن الإيمان بها، وبما فيها، {مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ} أي في الكفر بها {فَتَرْدى ََ} من ردي يردى إذا هلك.
[سورة طه (20): الآيات 17الى 18]
{وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ (17) قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا وَأَهُشُّ بِهََا عَلى ََ غَنَمِي وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ (18)}
{وَمََا تِلْكَ} ابتداء وخبر، وفيه معنى التنبيه. وزعم الفراء أن تلك هاهنا اسم ناقص وصلته: بيمينك. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ويقول به، والمعنى عندهما: وما التي بيمينك. وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس ينكر هذا القول، ويقول: لا يجوز أن توصل الأسماء المبهمة. ويقال:
{أَهُشُّ} و «أهشّ».
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 176.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 219.(3/25)
[سورة طه (20): آية 20]
{فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ (20)}
{فَأَلْقََاهََا فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ} ابتداء وخبر، ويجوز النصب، يقال: خرجت فإذا زيد جالس، وجالسا، على الحال. قال أبو جعفر: وقد شرحناه فيما تقدم. والوقف حيه بالهاء.
[سورة طه (20): آية 21]
{قََالَ خُذْهََا وَلاََ تَخَفْ سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا الْأُولى ََ (21)}
{سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا الْأُولى ََ} قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل {وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها.
[سورة طه (20): آية 22]
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى ََ جَنََاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ََ (22)}
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى ََ جَنََاحِكَ} ويجوز في غير القرآن ضمّ بفتح الميم وكسرها وضمّها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل، والضم اتباع. فإن جئت بالألف واللام كان الكسر أجود، فإن جئت بمضمر غائب كان الضمّ أكثر وإظهار التضعيف، لأن الثاني قد سكن. ويد أصلها يدي على فعل. يدلّ على ذلك أيد، وتصغيرها يديّة لأنها مؤنّثة. {تَخْرُجْ بَيْضََاءَ} نصب على الحال، ولم تنصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومها علّة ثانية فلم تنصرف في النكرة وخالفتها الهاء لأن الهاء تفارق الاسم {آيَةً أُخْرى ََ} قال الأخفش: على البدل من بيضاء: وهو قول حسن لأن المعنى في بيضاء: مبيّنة. قال أبو إسحاق: المعنى آتيناك آية أخرى، أو نؤتيك آية لأنه لما قال: {تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى. قال:
ويجوز آية بالرفع بمعنى: هذه آية.
[سورة طه (20): آية 24]
{اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ (24)}
أي تجاوز في الكفر.
[سورة طه (20): آية 25]
{قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)}
أي وسّعه وسهّل عليّ أداء ما أمرتني به.
[سورة طه (20): آية 27]
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي (27)}
ولم يقل: احلل كلما بلساني، فلذلك قال فرعون: ولا يكاد يبين.
[سورة طه (20): آية 28]
{يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)}
مجزوم لأنه جواب الطلب.
[سورة طه (20): الآيات 29الى 30]
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هََارُونَ أَخِي (30)}
يكون على التقديم والتأخير، ويكونان مفعولين، والأخ نعت، والتقدير واجعل
هارون أخي وزيرا لي، ويجوز أن يكون هارون بدلا من وزير لأن المعرفة تبدل من النكرة، ويجوز الرفع.(3/26)
يكون على التقديم والتأخير، ويكونان مفعولين، والأخ نعت، والتقدير واجعل
هارون أخي وزيرا لي، ويجوز أن يكون هارون بدلا من وزير لأن المعرفة تبدل من النكرة، ويجوز الرفع.
[سورة طه (20): الآيات 31الى 32]
{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)}
على الدعاء، وعن الحسن وابن أبي إسحاق أنهما قرءا {اشْدُدْ} (1) بفتح الهمزة وضم الدال الأولى وإسكان الثانية {وَأَشْرِكْهُ} (2) بضم الهمزة وإسكان الكاف يجعلان الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: اجعل لي وزيرا من أهلي. وهذه القراءة شاذّة بعيدة لأن جواب مثل هذا إنما ينجزم بمعنى الشرط والمجازاة فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلّى الله عليه وسلّم فيخبر به، وإنما يسأل الله جلّ وعزّ أن يشركه معه في النبوة. وعن ابن عباس «أشدد به أزري» أي قوّني، وعنه أي ظهري. قال أبو جعفر: وهو مشتقّ من الإزار، لأنه يشدّ به. وقد يقال للظهر: أزر لما فيه من القوة. وآزره قواه وليس وزير من هذا، إنّما هو مشتقّ من الوزر، وهو الجبل.
[سورة طه (20): الآيات 33الى 35]
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنََا بَصِيراً (35)}
{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} نعت لمصدر أي تسبيحا كثيرا ويجوز أن يكون نعتا لوقت، والإدغام حسن، وكذا {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} مدغم، وكذا {إِنَّكَ كُنْتَ بِنََا بَصِيراً} لأن الحرفين من كلمتين «بصيرا» أي عليما بما يصلحنا.
[سورة طه (20): آية 39]
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التََّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسََّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي (39)}
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التََّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ} الضمير للتابوت {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسََّاحِلِ} أمر. قال الفراء (3): وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا عنده {اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ} [العنكبوت: 12]. {وَلِتُصْنَعَ عَلى ََ عَيْنِي} أي على علمي بك. والإدغام جائز ليس في حسن الأول لبعد حروف الحلق.
[سورة طه (20): آية 40]
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنََاكَ إِلى ََ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهََا وَلاََ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنََاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنََّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى ََ قَدَرٍ يََا مُوسى ََ (40)}
{ثُمَّ جِئْتَ عَلى ََ قَدَرٍ يََا مُوسى ََ} في الوقت الذي أراد الله جل وعزّ أن يرسله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 178، والبحر المحيط 6/ 225.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 178.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 179.(3/27)
[سورة طه (20): آية 41]
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}
أي قوّيتك وعلّمتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي.
[سورة طه (20): آية 42]
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيََاتِي وَلاََ تَنِيََا فِي ذِكْرِي (42)}
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} عطف على المضمر، وحسن العطف عليه لمّا وكّدته.
[سورة طه (20): آية 43]
{اذْهَبََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ (43)}
{إِنَّهُ طَغى ََ} أي تجاوز في الكفر.
[سورة طه (20): آية 44]
{فَقُولاََ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ (44)}
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ} قال أبو جعفر: قد ذكرناه (1).
[سورة طه (20): آية 45]
{قََالاََ رَبَّنََا إِنَّنََا نَخََافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنََا أَوْ أَنْ يَطْغى ََ (45)}
قال الضحاك: يفرط يعجل، قال: ويطغى يعتدي. قال أبو جعفر: التقدير:
نخاف أن يفرط علينا منه أمر أي يبدر أمر. قال الفراء: يقال فرط منه أمر، قال: وأفرط أسرف، قال: وفرّط ترك. قال أبو إسحاق: أصله كلّه من التقديم.
[سورة طه (20): آية 46]
{قََالَ لاََ تَخََافََا إِنَّنِي مَعَكُمََا أَسْمَعُ وَأَرى ََ (46)}
{إِنَّنِي مَعَكُمََا أَسْمَعُ وَأَرى ََ} أي أسمع كلامه، وأرى فعله، ولا أخلّي بينه وبينكما.
[سورة طه (20): آية 47]
{فَأْتِيََاهُ فَقُولاََ إِنََّا رَسُولاََ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ وَلاََ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنََاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاََمُ عَلى ََ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ََ (47)}
{وَالسَّلََامُ عَلى ََ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ََ} قال أبو إسحاق: أي من اتّبع الهدى سلم من سخط الله جلّ وعزّ وعذابه. قال: وليس بتحية، قال: والدليل على ذلك إنه ليس بابتداء لقاء، ولا خطاب. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الَّذِي أَعْطى ََ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} (2) بفتح اللام.
[سورة طه (20): الآيات 51الى 52]
{قََالَ فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ (51) قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ لاََ يَضِلُّ رَبِّي وَلاََ يَنْسى ََ (52)}
{قََالَ فَمََا بََالُ الْقُرُونِ الْأُولى ََ} قال: كيف يحيون ويجارون أي إن هذا بعيد، فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ يعلمهما. {قََالَ عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتََابٍ} وفي معناه قولان:
أحدهما أنه تمثيل مجاز، والآخر أنه حقيقة، وأنّ ذلك مكتوب تقرأه الملائكة فتستدلّ
__________
(1) ذكر في إعراب الآية 152: الأنعام.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 87، وهي قراءة أبي نهيك ونصير عن الكسائي أيضا.(3/28)
على قدرة الله جلّ وعزّ وعلى عظمته. {لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} في معناه ثلاثة أقوال:
ذكر أبو إسحاق منها واحدا أنه نعت لكتاب أي لا يضلّه ربي ولا ينساه، والقول الثاني أنه قد تمّ الكلام ثم ابتدأ فقال: لا يضلّ ربي أي لا يهلك من قوله: أإذا ضللنا في الأرض، ولا ينسى شيئا، والقول الثالث أشبهها بالمعنى أخبر الله جلّ وعزّ أنه لا يحتاج إلى كتاب، فالمعنى لا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء، ولا معرفتها، ولا ينسى علمه منها. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري {فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي} (1) أي لا يضيّعه ربّي ولا ينساه.
[سورة طه (20): آية 53]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهََا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْ نَبََاتٍ شَتََّى (53)}
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وقرأ الكوفيون {مَهْداً} (2)، ومهادا هاهنا أولى لأن مهدا مصدر وليس هذا موضع مصدر إلّا على حذف: أي ذات مهد. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهََا سُبُلًا} مجاز أي جعل لكم فيها السبل. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} أي من نواحيها.
[سورة طه (20): آية 55]
{مِنْهََا خَلَقْنََاكُمْ وَفِيهََا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهََا نُخْرِجُكُمْ تََارَةً أُخْرى ََ (55)}
{مِنْهََا خَلَقْنََاكُمْ} أي من الأرض. قال أبو إسحاق: لأن آدم صلّى الله عليه وسلّم خلق من الأرض، وقال غير أبي إسحاق: النطفة مخلوقة من التراب. يدلّ على هذا ظاهر القرآن.
[سورة طه (20): آية 56]
{وَلَقَدْ أَرَيْنََاهُ آيََاتِنََا كُلَّهََا فَكَذَّبَ وَأَبى ََ (56)}
{وَلَقَدْ أَرَيْنََاهُ آيََاتِنََا كُلَّهََا} المعنى: ولقد أرينا فرعون آياتنا التي أعطينا لموسى صلّى الله عليه وسلّم كلها. والفائدة في هذا أن فرعون رأى الآيات كلّها عيانا لا خبرا {فَكَذَّبَ وَأَبى ََ} أن يؤمن.
[سورة طه (20): آية 58]
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنََا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاََ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاََ أَنْتَ مَكََاناً سُوىً (58)}
{فَاجْعَلْ بَيْنَنََا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لََا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلََا أَنْتَ مَكََاناً سُوىً}.
وقرأ الكوفيون {سُوىً} بضم السين، والكسر أشهر وأعرف (3). قيل: معناه سوى ذلك المكان. وأهل التفسير على أن معنى سوى نصف وعدل، وهو قول حسن، وأصله من قولك: جلس في سواء الدار، أي في وسطها وفي سواها. ووسط كلّ شيء
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 233، ومختصر ابن خالويه 87.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 234، وكتاب السبعة لابن مجاهد 418.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 418، والبحر المحيط 6/ 236.(3/29)
أعدله. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي عدلا. قال زهير: [الوافر] 290 أرونا خطّة لا ضيم فيها ... يسوّى بيننا فيها السّواء (1)
[سورة طه (20): آية 59]
{قََالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النََّاسُ ضُحًى (59)}
{قََالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} مبتدأ وخبره. قال أبو إسحاق: المعنى وقت موعدكم يوم الزينة. وقرأ الحسن {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} (2) على الظرف. قال أبو إسحاق: أي يقع يوم الزينة {وَأَنْ يُحْشَرَ النََّاسُ ضُحًى} (أن) في موضع رفع، يعني على قراءة من قرأ «يوم الزينة» ظرف و {أَنْ يُحْشَرَ النََّاسُ} بمعنى المصدر، فلا يعطف أحدهما على صاحبه إلا على حذف بمعنى ويوم أن يحشر الناس، وأولى من هذا أن تكون «أن» في موضع خفض عطفا على الزينة، و {الضُّحى ََ} مؤنثة تصغّرها العرب بغير هاء لئلّا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة.
[سورة طه (20): آية 61]
{قََالَ لَهُمْ مُوسى ََ وَيْلَكُمْ لاََ تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ وَقَدْ خََابَ مَنِ افْتَرى ََ (61)}
{قََالَ لَهُمْ مُوسى ََ وَيْلَكُمْ} بمعنى المصدر. قال أبو إسحاق: أي الزمهم الله جلّ وعزّ ويلا، قال: ويجوز أن يكون نداء مضافا. {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ} (3) جواب النهي، وقرأ الكوفيون: {فَيُسْحِتَكُمْ} والأولى لغة أهل الحجاز، وهذه لغة بني تميم، قال الفرزدق: [الطويل] 291 وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (4)
ومعنى {لََا تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً} لا تقولوا: إنّ الذي أجيء به من البراهين سحر {وَقَدْ خََابَ مَنِ افْتَرى ََ} أي خاب من الرحمة والثواب.
[سورة طه (20): الآيات 62الى 63]
{فَتَنََازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ََ (62) قََالُوا إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ يُرِيدََانِ أَنْ يُخْرِجََاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمََا وَيَذْهَبََا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ََ (63)}
{قََالُوا إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} فيه ست قراءات (5) قرأ المدنيون والكوفيون إنّ هذان
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 84، ولسان العرب (سوا)، والمخصص 12/ 60، وتهذيب اللغة 13/ 126، وتاج العروس (سوا).
(2) انظر البحر المحيط 6/ 237.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 419.
(4) مرّ الشاهد رقم (432).
(5) انظر القراآت في كتاب السبعة لابن مجاهد 419، والبحر المحيط 6/ 238، ومعاني الفراء 2/ 183.(3/30)
لساحران وقرأ أبو عمرو إنّ هذين لساحران وهذه القراءة مروية عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري، وقرأ الزهري وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد وعاصم في إحدى الروايتين {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} بتخفيف إن.
فهذه ثلاث قراءات، قد رواها الجماعة عن الأئمة. وروي عن عبد الله بن مسعود إن هذان إلّا ساحران وقال الكسائي: في قراءة عبد الله إن هذان ساحران بغير لام، وقال الفراء (1): في حرف أبيّ إن ذان إلّا ساحران فهذه ثلاث قراءات أخرى، تحمل على التفسير، إلا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قال أبو جعفر: القراءة الأولى للعلماء فيها ستة أقوال: منها أن يكون إنّ بمعنى نعم، كما حكى الكسائي عن عاصم قال العرب:
تأتي بإنّ بمعنى نعم، وحكى سيبويه: أنّ «إنّ» تأتي بمعنى أجل. وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق يذهبان. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق وأبا الحسن علي بن سليمان يذهبان إليه. وحدّثنا علي بن سليمان قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام النيسابوري، ثمّ لقيت عبد الله بن أحمد هذا فحدّثني قال: حدّثنا عمير بن المتوكل قال: حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب قال: حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي وهو علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منبره يقول: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول: أنا أفصح قريش كلّها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص» (2) قال أبو محمد: قال عمير: إعرابه عند أهل العربية في النحو إنّ الحمد لله بالنصب إلّا أن العرب تجعل «إنّ» في معنى نعم كأنه أراد: نعم الحمد لله، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح في خطبتها بنعم، وقال الشاعر في معنى نعم: [الكامل] 292 قالوا: غدرت فقلت إنّ وربّما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر (3)
وقال ابن قيس الرقيات (4): [مجزوء الكامل] 293 بكر العواذل في الصّبوح ... يلمنني وألومهنّه
ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت، فقلت: إنّه
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عزّ وجلّ: {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} بمعنى نعم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 184، والبحر المحيط 6/ 238.
(2) انظر تفسير الطبري 11/ 218.
(3) الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة 732، وجواهر الأدب 348، وشرح المفصل 3/ 130.
(4) البيتان في ديوانه ص 66، وخزانة الأدب 11/ 213، وشرح أبيات سيبويه 2/ 375، وشرح شواهد المغني 1/ 126، ولسان العرب (أنن)، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 172، وأمالي ابن الحاجب ص 354، وجمهرة اللغة ص 61، والجنى الداني 399، وجواهر الأدب 348، ورصف المباني 119، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 492وشرح المفصل 8/ 6، ولسان العرب (بيد).(3/31)
قال أبو جعفر: أنشدني داود بن الهيثم قال: أنشدني ثعلب: [الخفيف] 294 ليت شعري هل للمحبّ شفاء ... من جوى حبّهنّ إنّ اللّقاء (1)
أي: نعم، فهذا قول. وقال أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء: هذا على لغة بني الحارث بن كعب. قال الفراء: يقولون: رأيت الزّيدان، ومررت بالزّيدان وأنشد: [الطويل] 295 فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشّجاع لصمّما (2)
وحكى أبو الخطاب أنّ هذه لغة بني كنانة، وللفراء قول آخر قال: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها، كما قلت: الذي، ثم زدت عليها نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك. قال أبو جعفر: وقيل: شبّهت الألف في قولك: هذان بالألف في يفعلان، فلم تغير. قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون: الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنّه هذان لساحران. فهذه خمسة أقوال، قال أبو جعفر: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي فقلت: بقولك، فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال: هذا في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب أن لا يغيّر لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد، فقال: ما أحسن هذا لو تقدّمك بالقول به حتى يؤنس به، فقلت: فيقول القاضي «به» حتى يؤنس به فتبسّم. قال أبو جعفر: القول الأول أحسن إلّا أنّ فيه شيئا لأنه إنما قال: إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا يكاد يقع اللام هاهنا، وإن كان النحويون قد تكلّموا في ذلك فقالوا: اللّام ينوى بها التقديم. وقال أبو إسحاق: المعنى إنّ هذان لهما ساحران، ثمّ حذف المبتدأ كما قال: [الرجز] 296 أمّ الحليس لعجوز شهربه (3)
والقول الثاني من أحسن ما حملت عليه الآية إذ كانت هذه اللّغة معروفة، وقد
__________
(1) لم أجده في المراجع اللغوية.
(2) الشاهد للمتلمّس في ديوانه 34، والحيوان 4/ 263، وخزانة الأدب 7/ 487، والمؤتلف والمختلف ص 71، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 757، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 704، وشرح الأشموني 1/ 34، وشرح المفصّل 3/ 128.
(3) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 170، وشرح التصريح 1/ 174، وشرح المفصّل 3/ 130، وله أو لعنترة بن عروس في خزانة الأدب 10/ 323، والدرر 2/ 187، وشرح شواهد المغني 2/ 604، والمقاصد النحوية 1/ 535، وبلا نسبة في لسان العرب (شهرب)، وجمهرة اللغة ص 1121، وتاج العروس (شهرب) و (لوم)، وأوضح المسالك 1/ 210، وتخليص الشواهد 358، والجنى الداني ص 128، ورصف المباني 336، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 378، وشرح الأشموني 1/ 141، وشرح ابن عقيل ص 185، وشرح المفصل 7/ 57، ومغني اللبيب 1/ 230، وهمع الهوامع 1/ 140.(3/32)
حكاها من يرتضى علمه وصدقه وأمانته، منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول إذا قال سيبويه: حدّثني من أثق به فإنما يعنيني. وأبو الخطاب الأخفش، وهو رئيس من رؤساء أهل اللغة، روى عنه سيبويه وغيره. ومن بين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنّك إذا ثنّيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين، وهو حرف الإعراب. قال أبو جعفر: فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أنّ الأصل أن لا يتغير إنّ هذان، جاء على أصله ليعلم ذلك وقد قال الله جلّ وعزّ: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطََانُ} [المجادلة: 19] ولم يقل: استحاذ، فجاء على هذا ليدل على الأصل إذ كان الأئمة قد رووها وتبيّن أنها الأصل، وهذا بيّن جدا. {وَيَذْهَبََا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ََ} تأنيث أمثل، كما يقال: الأفضل والفضلى، وأنّثت الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال، ويجوز أن يكون التأنيث على معنى الجماعة.
[سورة طه (20): آية 64]
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ََ (64)}
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} قراءة أهل الأمصار إلّا أبا عمرو فإنه قرأ فاجمعوا (1)
بالوصل وفتح الميم، واحتج بقوله جلّ وعزّ: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ََ} [طه: 60] وفيما حكى عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو ومن بحجّته أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس، قال: لأنه احتجّ بجمع وقوله جلّ وعزّ: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده فاجمعوا، ويقرب أن يكون بعده فأجمعوا أي اعزموا وجدّوا لما تقدّم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه.
يقال: أمر مجمع عليه. وقال أبو جعفر: تصحيح قراءة أبي عمرو فأجمعوا كلّ كيد وكلّ حيلة فضمّوه مع أخيه. {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} منصوب بوقوع الفعل عليه. وقول أبي عبيدة قال: يقال: أتيت الصفّ أي المصلى، فالمعنى عنده: أتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وزعم أبو إسحاق أنه يجوز أن يكون منصوبا على الحال.
[سورة طه (20): آية 66]
{قََالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذََا حِبََالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ (66)}
قال هارون القارئ: لغة بني تميم عصيهم (2) وبها يأخذ الحسن. قال أبو جعفر: من كسر العين أتبع الكسرة الكسرة وقد ذكرناه (3). {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهََا تَسْعى ََ} قال أبو إسحاق: «أن» في موضع رفع أي يخيل إليه سعيها، وزعم الفراء: «أنّ» موضعها موضع نصب أي بأنها ثم حذف الباء. وقرأ الحسن تخيّل (4) بالتاء. قال أبو عبيد:
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 419، والبحر المحيط 6/ 239.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 88، والبحر المحيط 6/ 241والإتحاف 186.
(3) انظر إعراب الآية 11من سورة النساء.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 241، ومعاني الفراء 2/ 182.(3/33)
أراد الحبال. قال أبو إسحاق: من قرأ بالتاء جعل «أنّ» في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل، بدل الاشتمال، كما حكى سيبويه: ما لي بهم علم أمرهم. أي ما لي بأمرهم علم. قال: وأنشد: [الرجز] 297 وذكرت تقتد برد مائها (1)
أي ذكر برد ماء تقتد.
[سورة طه (20): الآيات 67الى 68]
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ (67) قُلْنََا لاََ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ (68)}
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ََ} يقال: إنه خاف أن يفتن الناس لمّا ألقى السحرة حبالهم وعصيّهم، وكانوا بالبعد من الناس في ناحية، وفرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلّى الله عليهما في ناحية. فخاف موسى صلّى الله عليه وسلّم أن يشبّه على النّاس إذ كانوا يتخيّلون أنّ الحبال والعصيّ تسعى، وأنها حيات فيتوهمون أنهم قد ساووا موسى صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به. ويقال: إن موسى صلّى الله عليه وسلّم إنما خاف لأنه أبطأ عليه الأمر بإلقاء العصا فأوحى الله جلّ وعزّ إليه {لََا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ََ} أي لا تخف الشّبه فإنّا سنبيّن أمرك حتى تعلو عليهم بالبرهان.
[سورة طه (20): آية 69]
{وَأَلْقِ مََا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا إِنَّمََا صَنَعُوا كَيْدُ سََاحِرٍ وَلاََ يُفْلِحُ السََّاحِرُ حَيْثُ أَتى ََ (69)}
{وَأَلْقِ مََا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا} فألقى العصا فتلقّفت حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاثمائة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصيّ إلّا الله جل وعزّ. قال أبو إسحاق: الأصل في «خيفة» خوفة أبدل من الواو ياء لانكسار ما قبلها.
قال: ويجوز {تَلْقَفْ مََا صَنَعُوا} بالرفع يكون فعلا مستقبلا في موضع الحال المقدّرة.
قال: ويجوز «أنّ ما صنعوا» بفتح الهمزة. أي لأن ما. {كَيْدُ سََاحِرٍ} بالرفع على خبر إنّ و «ما» بمعنى الذي، والنصب على أن تكون ما كافة. وقرأ الكوفيون إلّا عاصما كيد سحر (2) على إضافة النوع والجنس، كما تقول: ثوب خزّ.
[سورة طه (20): آية 71]
{قََالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاََفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنََا أَشَدُّ عَذََاباً وَأَبْقى ََ (71)}
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} الضمير عائد على موسى صلّى الله عليه وسلّم، احتال فرعون في
__________
(1) الرجز لجبر بن عبد الرحمن في شرح أبيات سيبويه 1/ 285، ولأبي وجزة السعدي في معجم البلدان (تقتد)، ولأحد الاثنين في المقاصد النحوية 4/ 183، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 402، والكتاب 1/ 204، وبعده:
«وعتل البول على أنسائها»
(2) انظر البحر المحيط 6/ 242، وكتاب السبعة لابن مجاهد 420.(3/34)
التشبيه على الناس بهذا. فقال للسحرة: إن موسى كبيركم أي هو أحذق منكم بالسحر فواطأكم على هذا، وعلّمكم إيّاه. فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم حتّى ماتوا. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنََا أَشَدُّ عَذََاباً وَأَبْقى ََ} قال أبو إسحاق: رفعت أيّا لأن لفظها لفظ الاستفهام فلم يعمل فيها ما قبلها لأنه خبر.
[سورة طه (20): آية 72]
{قََالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ََ مََا جََاءَنََا مِنَ الْبَيِّنََاتِ وَالَّذِي فَطَرَنََا فَاقْضِ مََا أَنْتَ قََاضٍ إِنَّمََا تَقْضِي هََذِهِ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا (72)}
قال أبو إسحاق: «الذي» في موضع خفض على العطف. والمعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الله جلّ وعزّ. قال: ويجوز أن يكون في موضع خفض على القسم.
{فَاقْضِ مََا أَنْتَ قََاضٍ} بحذف الياء في الوصل لسكونها وسكون التنوين، وتحذف في الوقف دلالة على أنها في الوصل بغير ياء واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علّة التقاء الساكنين {إِنَّمََا تَقْضِي هََذِهِ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا} منصوبة على الظرف. والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. وأجاز الفراء (1) الرفع على أن يجعل «ما» بمعنى الذي.
[سورة طه (20): آية 73]
{إِنََّا آمَنََّا بِرَبِّنََا لِيَغْفِرَ لَنََا خَطََايََانََا وَمََا أَكْرَهْتَنََا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللََّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ (73)}
{مََا} في موضع نصب معطوفة على الخطايا، وقيل: لا موضع لها وهي نافية أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه، والأولى أولى.
[سورة طه (20): آية 74]
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاََ يَمُوتُ فِيهََا وَلاََ يَحْيى ََ (74)}
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر إنّ.
[سورة طه (20): آية 77]
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنْ أَسْرِ بِعِبََادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاََ تَخََافُ دَرَكاً وَلاََ تَخْشى ََ (77)}
{أَنْ أَسْرِ} من أسرى، وأن أسر من سرى، لغتان فصيحتان. {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لََا تَخََافُ دَرَكاً} قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي وقرأ الأعمش وحمزة لا تخف دركا (2) والقراءة الأولى أبين لأنه بعده {وَلََا تَخْشى ََ} مجمع عليه بلا جزم. فالقراءة الأولى فيها ثلاث تقديرات: يكون في موضع الحال، وفي موضع النعت لطريق على حذف فيه، ومقطوعة من الأول. والقراءة الثانية فيها تقديران: أحدهما الجزم على النهي، والآخر الجزم على جواب الأمر وهو فاضرب. فأما {وَلََا تَخْشى ََ} إذا جزمت لا تخف فللنحويين فيه تقديران: أحدهما وهو الذي لا يجوز غيره أن يكون
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 187.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 421، والبحر المحيط 6/ 245، وهي قراءة أبي حيوة وطلحة أيضا.(3/35)
مقطوعا من الأول، مثل {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبََارَ ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، والتقدير الآخر ذكره الفراء (1): أن يكون «ولا تخشى» ينوى به الجزم وتثبت فيه الياء زعم كما قال الشاعر: [البسيط] 298 هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا ... من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع (2)
وأنشد: [الوافر] 299 ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد (3)
قال أبو جعفر: هذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على شذوذ من الشعر، وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا لأن الواو والياء مخالفتان للألف لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، فللشاعر إذا اضطر أن يقدّرهما متحرّكتين ثم يحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف. وأيضا فليس في البيتين اضطرار يوجب هذا لأنهما إذا رويا بحذف الواو والياء كانا وزنا صحيحا من البسيط والوافر، يسمي الخليل الأول مطويا والثاني منقوصا (4).
[سورة طه (20): آية 78]
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مََا غَشِيَهُمْ (78)}
على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر.
[سورة طه (20): آية 79]
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمََا هَدى ََ (79)}
أي أضلّهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدّر أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر، فلما ضرب موسى صلّى الله عليه وسلّم البحر بعصاه انفلق منه اثنا
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 187.
(2) الشاهد لزبّان بن العلاء في معجم الأدباء 11/ 158، وبلا نسبة في تاج العروس (زبب)، و (زبن)، والإنصاف 1/ 24، وخزانة الأدب 8/ 359، والدرر 1/ 162، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 630، وشرح التصريح 1/ 87، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184، وشرح شواهد الشافية 406، وشرح المفصّل 10/ 104، ولسان العرب (يا)، والمقاصد النحوية 1/ 234، والممتع في التصريف 2/ 537، والمنصف 2/ 115، وهمع الهوامع 1/ 52.
(3) الشاهد لقيس بن زهير في الأغاني 17/ 131، وخزانة الأدب 8/ 359، والدرر 1/ 162، وشرح أبيات سيبويه 1/ 340، وشرح شواهد الشافية 408، وشرح شواهد المغني 328، والمقاصد النحوية 1/ 230، ولسان العرب (أتى)، وبلا نسبة في أسرار العربية 103، والأشباه والنظائر 5/ 280، والإنصاف 1/ 30، وأوضح المسالك 1/ 6، والجنى الداني ص 50، وخزانة الأدب 9/ 524، والخصائص 1/ 333، ورصف المباني 149، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 87، وشرح الأشموني 1/ 168، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184، وشرح المفصل 8/ 24، ومغني اللبيب 1/ 108.
(4) الطيّ: هو حذف الرابع الساكن من تفعيلة (مستفعلن).
والنقص: هو حذف السابع الساكن من تفعيلة الوافر (مفاعلتن) بعد تسكين الخامس.(3/36)
عشر طريقا، وبين الطرق الماء قائما كالجبال. فأخذ كلّ سبط طريقا، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أنّ البحر فعل ذلك لهيبته فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم.
[سورة طه (20): آية 80]
{يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنََاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوََاعَدْنََاكُمْ جََانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ (80)}
أي أمرنا موسى صلّى الله عليه وسلّم أن يأمركم بالخروج معه ليكلّمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام.
{وَنَزَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} أي في البرية.
[سورة طه (20): آية 81]
{كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَلاََ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ََ (81)}
أي لا تحملكم السّعة والعافية أن تعصوا لأن الطغيان: التجاوز إلى ما لا يجب.
{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ََ} وأكثر الكوفيين يقرأ يحلل (1) حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: حلّ يحلّ إذا وجب، وحلّ يحلّ إذا نزل. والمعنيان متقاربان إلّا أن الكسر أولى لأنهم قد أجمعوا على قوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذََابٌ مُقِيمٌ} * [الزمر:
40] قال أبو إسحاق: {فَقَدْ هَوى ََ} فقد هلك صار إلى الهاوية وهي قعر النار.
[سورة طه (20): آية 82]
{وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ََ (82)}
قال وكيع عن سفيان: كنّا نسمع في قوله عزّ وجلّ: {وَإِنِّي لَغَفََّارٌ لِمَنْ تََابَ} أي من الشرك {وَآمَنَ} أي بعد الشرك {وَعَمِلَ صََالِحاً} صلى وصام {ثُمَّ اهْتَدى ََ} مات على ذلك. وهذا أحسن ما قيل في الآية، وقال الفراء (2): {ثُمَّ اهْتَدى ََ} علم أنّ لذلك ثوابا وعليه عقابا.
[سورة طه (20): آية 83]
{وَمََا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يََا مُوسى ََ (83)}
الآية أمر أن يأمر قومه بالخروج معه ليسمعوا كلام الله جلّ وعزّ.
[سورة طه (20): آية 84]
{قََالَ هُمْ أُولاََءِ عَلى ََ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ (84)}
{قََالَ هُمْ أُولََاءِ عَلى ََ أَثَرِي} أي هم قريبا منّي. قال أبو حاتم: قال عيسى: بنو تميم يقولون هم أولى مرسلة مقصورة، وأهل الحجاز يقولون: {أُولََاءِ} ممدودة، وحكى الفراء (3) هم أولاء على أثري وزعم أبو إسحاق أن هذا لا وجه له، وهو كما قال: لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي، ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 246، وكتاب السبعة لابن مجاهد 422.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 188.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 188.(3/37)
يكون اسما مبهما فإضافته محال، وإما أن يكون بمعنى الذي فلا يضاف أيضا لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ عيسى {هُمْ أُولََاءِ عَلى ََ أَثَرِي} (1) وهو بمعنى أثر {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ََ} أي عجلت بالمصير إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عنّي.
[سورة طه (20): آية 85]
{قََالَ فَإِنََّا قَدْ فَتَنََّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ (85)}
{قََالَ فَإِنََّا قَدْ فَتَنََّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلّوا على الله {وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ} أي دعاهم إلى الضلالة فاتّبعوه.
[سورة طه (20): آية 86]
{فَرَجَعَ مُوسى ََ إِلى ََ قَوْمِهِ غَضْبََانَ أَسِفاً قََالَ يََا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطََالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)}
{فَرَجَعَ مُوسى ََ إِلى ََ قَوْمِهِ غَضْبََانَ أَسِفاً} على الحال {قََالَ يََا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} وعدهم جل وعز الجنة إذا قاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه.
{أَفَطََالَ عَلَيْكُمُ} أي أفطال عليكم الوقت الذي ينجز لكم فيه وعده فتوهمتم أنه لا ينجزه. حقيقته في النحو: أفطال عليكم إنجاز العهد {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} لأنهم وعدوه أنهم يقيمون على إطاعة الله جلّ وعزّ.
[سورة طه (20): آية 87]
{قََالُوا مََا أَخْلَفْنََا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنََا وَلََكِنََّا حُمِّلْنََا أَوْزََاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنََاهََا فَكَذََلِكَ أَلْقَى السََّامِرِيُّ (87)}
{قََالُوا مََا أَخْلَفْنََا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنََا} أي قيل: هذا عامّ يراد به الخاصّ أي قال: الذين ثبتوا على طاعة الله ما أخلفنا موعدك بملكنا أي لم نملك ردّهم عن عبادة العجل.
{وَلََكِنََّا حُمِّلْنََا أَوْزََاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنََاهََا} أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحليّ فقذفناه في النار ليذوب. {فَكَذََلِكَ أَلْقَى السََّامِرِيُّ} الكاف في موضع نصب أي فألقى السامريّ إلقاء مثل ذلك.
[سورة طه (20): آية 88]
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوََارٌ فَقََالُوا هََذََا إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسى ََ فَنَسِيَ (88)}
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً} قيل: معناه متجسّدا عظيما، وقيل: معناه جسد لا روح فيه. {لَهُ خُوََارٌ} لأنه خرقه وثقبه ليحتال في إخراج الصوت منه.
[سورة طه (20): آية 89]
{أَفَلاََ يَرَوْنَ أَلاََّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاََ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاََ نَفْعاً (89)}
{أَفَلََا يَرَوْنَ أَلََّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} بمعنى أنه لا يرجع إليهم. قال أبو إسحاق: ويجوز
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 248، ومختصر ابن خالويه 88.(3/38)
{أَلََّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (1) بالنصب على أن تنصب بأن، والرفع أولى وقد ذكرناه.
[سورة طه (20): آية 90]
{وَلَقَدْ قََالَ لَهُمْ هََارُونُ مِنْ قَبْلُ يََا قَوْمِ إِنَّمََا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمََنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)}
{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمََنُ} اسم إنّ وخبرها.
[سورة طه (20): آية 91]
{قََالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عََاكِفِينَ حَتََّى يَرْجِعَ إِلَيْنََا مُوسى ََ (91)}
{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عََاكِفِينَ} خبر نبرح، وعلى الحال {حَتََّى يَرْجِعَ إِلَيْنََا مُوسى ََ} نصب بحتى، ولا يجوز الرفع لأنه مستقبل لا غير.
[سورة طه (20): الآيات 92الى 93]
{قََالَ يََا هََارُونُ مََا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاََّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}
{أَلََّا تَتَّبِعَنِ} أي ألّا تلحق بي. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} لأنه كان أمره أن يلحق به معهم.
[سورة طه (20): آية 94]
{قََالَ يَا بْنَ أُمَّ لاََ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاََ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرََائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}
{قََالَ يَا بْنَ أُمَّ} بالفتح يجعل الاسمين اسما واحدا، وبالخفض على الإضافة. قال أبو إسحاق: ويجوز في غير القرآن «يا ابن أمّي» بالياء. {لََا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلََا بِرَأْسِي} أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة، وقد قيل: إنّ موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه، والله أعلم بما أراد نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرََائِيلَ} أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم، فتقول: فرّقت بينهم ولم ترقب قولي لأنك أمرتني بأن أكون معهم.
[سورة طه (20): آية 95]
{قََالَ فَمََا خَطْبُكَ يََا سََامِرِيُّ (95)}
قال أبو إسحاق أي ما أمرك الذي تخاطب به.
[سورة طه (20): آية 96]
{قََالَ بَصُرْتُ بِمََا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهََا وَكَذََلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)}
{قََالَ بَصُرْتُ بِمََا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} وكان بصر بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم حين نزل إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) وهي قراءة أبي حيوة، انظر البحر المحيط 6/ 250.(3/39)
فظنّ أن له بذلك فضلا عليهم فأخذ قبضة من أثر دابّة جبرائيل عليه السلام ونبذها في العجل، وإنما فعل هذا ليوهمهم أنه يجب أن يعظّم العجل لهذا قال أبو إسحاق:
ويجوز قبضة مثل غرفة. والقبضة مقدار ملء الكفّ، والقبضة بالفتح ملء الكفّ كلّها.
وقرأ الحسن {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} (1) وفسّرها بأطراف الأصابع.
[سورة طه (20): آية 97]
{قََالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيََاةِ أَنْ تَقُولَ لاََ مِسََاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى ََ إِلََهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عََاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)}
على التبرية، قال هارون ولغة العرب «لا مساس» بكسر السين وفتح الميم. وقد تكلم النحويون في هذا. فأما سيبويه (2) فيذهب إلى أنه مبني على الكسر، كما يقال:
اضرب الرّجل، وشرح هذا أبو إسحاق فقال: لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسر من علامة المؤنّث. تقول: فعلت يا امرأة، وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى وإذا اعتلّ من جهتين وجب أن لا يصرف لأنه ليس بعد ترك الصرف إلّا البناء فمساس ودراك اعتلّ من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة. فلمّا وجب البناء فيها وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين، كما يقال: اضرب الرجل. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمّى امرأة بفرعون أن يبينه ولا يقول هذا أحد. وقرأ البصريون {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} (3) بكسر اللام فيحتمل معنيين: أحدهما لن تجده مخلفا، كما يقال:
أحمدته أي وجدته محمودا، والمعنى الآخر على التهديد أي لا بدّ لك من أن تصير إليه، وفي قراءة ابن مسعود رحمة الله عليه {الَّذِي ظَلْتَ} (4) بكسر الظاء. ويقال:
ظللت أفعل ذاك إذا فعلته نهارا، وظلت وظلت: فمن قال: ظلت حذف اللام تخفيفا، ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. {عََاكِفاً} خبر. يروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (لنحرقنّه) (5) وكذلك يروى عن أبي جعفر، وقرأ الحسن (لنحرقنّه) (6)، وعن سائر الناس {لَنُحَرِّقَنَّهُ} (7). يقال: حرقه يحرقه، ويحرقه إذا نحته
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 254وقال: (وقرأ عبد الله وأبيّ وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد، وهو الأخذ بأطراف الأصابع).
(2) انظر الكتاب 3/ 307.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 256، وكتاب السبعة لابن مجاهد 424.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 257.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 191، والبحر المحيط 6/ 257.
(6) انظر البحر المحيط 6/ 257.
(7) انظر البحر المحيط 6/ 257.(3/40)
بمبرد أو غيره، وأحرقه يحرقه بالنار وحرقه يحرّقه يكون منهما جميعا على التكثير.
[سورة طه (20): آية 98]
{إِنَّمََا إِلََهُكُمُ اللََّهُ الَّذِي لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)}
ويروى عن قتادة أنه قرأ {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (1) أي ملأه.
[سورة طه (20): آية 99]
{كَذََلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ مََا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنََاكَ مِنْ لَدُنََّا ذِكْراً (99)}
{كَذََلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ مََا قَدْ سَبَقَ} الكاف في موضع نصب والمعنى: نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة موسى عليه السلام وفرعون والسامريّ. {آتَيْنََاكَ مِنْ لَدُنََّا ذِكْراً} {كَذََلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََاءِ مََا قَدْ سَبَقَ} الكاف في موضع نصب والمعنى: نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة موسى عليه السلام وفرعون والسامريّ. {آتَيْنََاكَ مِنْ لَدُنََّا ذِكْراً} وهو القرآن.
[سورة طه (20): آية 100]
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وِزْراً (100)}
{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أي فلم يتدبّره ولم يؤمن به.
[سورة طه (20): الآيات 101الى 103]
{خََالِدِينَ فِيهِ وَسََاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخََافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاََّ عَشْراً (103)}
{حِمْلًا} على البيان و {زُرْقاً} على الحال، وكذا {قََاعاً صَفْصَفاً} و {عَشْراً} منصوب بلبثتم، والكوفيون يقولون في المعنى: ما لبثتم إلّا عشرا.
[سورة طه (20): آية 109]
{يَوْمَئِذٍ لاََ تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلاََّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)}
{إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ} (من) في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول.
[سورة طه (20): آية 110]
{يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلاََ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)}
قال أبو إسحاق: {يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الآخرة وجميع ما يكون {وَمََا خَلْفَهُمْ} ما قد وقع من أعمالهم، وقال غيره: معنى {وَلََا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ولا يحيطون بما ذكرنا، والله أعلم.
[سورة طه (20): آية 111]
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خََابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)}
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} في معناه قولان: أحدهما أنّ هذا في الآخرة، وروى عكرمة عن ابن عباس {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قال: الركوع والسجود. ومعنى عنت في اللغة خضعت وأطاعت، ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة.
[سورة طه (20): آية 117]
{فَقُلْنََا يََا آدَمُ إِنَّ هََذََا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاََ يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ (117)}
{فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا} مجاز أي لا تقبلا منه فيكون سببا لخروجكما {فَتَشْقى ََ} ولم يقل:
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 257، وهذه قراءة مجاهد أيضا.(3/41)
فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم صلّى الله عليه وسلّم هو المخاطب والمقصود. قال الحسن: في قوله: {فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ} قال: يعني شقاء الدنيا لا ترى ابن آدم إلّا ناصبا.
قال الفراء: هو أن يأكل من كدّ يديه.
[سورة طه (20): الآيات 118الى 119]
{إِنَّ لَكَ أَلاََّ تَجُوعَ فِيهََا وَلاََ تَعْرى ََ (118) وَأَنَّكَ لاََ تَظْمَؤُا فِيهََا وَلاََ تَضْحى ََ (119)}
قراءة أبي عمرو وأبي جعفر والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عاصم ونافع وإنك (1) بكسر الهمزة. فالفتح على أن تكون «أنّ» اسما في موضع نصب عطفا على «أن» والمعنى: وإنّ لك أنّك لا تظمأ فيها، ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ذلك أنّك لا تظمأ فيها، والكسر على الاستئناف وعلى العطف على «إن لك».
[سورة طه (20): آية 121]
{فَأَكَلاََ مِنْهََا فَبَدَتْ لَهُمََا سَوْآتُهُمََا وَطَفِقََا يَخْصِفََانِ عَلَيْهِمََا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ (121)}
قال الفراء (2): {وَطَفِقََا}.
في العربية أقبلا: وقيل: جعلا يلصقان عليهما الورق ورق التين.
{وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ} قلبت الياء ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها، ولهذا كتبه الكوفيون بالياء ليدلّوا على أصله.
[سورة طه (20): آية 122]
{ثُمَّ اجْتَبََاهُ رَبُّهُ فَتََابَ عَلَيْهِ وَهَدى ََ (122)}
{ثُمَّ اجْتَبََاهُ رَبُّهُ} أي اختاره {فَتََابَ عَلَيْهِ وَهَدى ََ} أي وهداه للتوبة وروى حمّاد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} قال: عذاب القبر.
[سورة طه (20): آية 128]
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِأُولِي النُّهى ََ (128)}
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي يبيّن لهم، وهذه قراءة أبي عبد الرحمن وقتادة بالياء. وقد تكلّم النحويون فيه لأنه مشكل من أجل الفاعل ليهد. فقال بعضهم: «كم» الفاعل، وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها، وقال أبو إسحاق: المعنى: أفلم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكنا. قال: وحقيقة «أفلم يهد لهم» أفلم يبيّن لهم بيانا يهتدون به لأنهم كانوا يمرّون على منازل عاد وثمود فلذلك قال جلّ وعزّ: {يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ}
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 424، والبحر المحيط 6/ 263.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 194.(3/42)
وفي مسكنهم على أنه مصدر. وقال محمد بن يزيد، فيما حكاه لنا عنه علي بن سليمان: وهذا معنى كلامه. قال: يهدي يدلّ على الهدى، فالفاعل هو الهدى. قال أبو إسحاق: «كم» في موضع نصب بأهلكنا. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِأُولِي النُّهى ََ} قال: لأولي التّقى.
[سورة طه (20): الآيات 129الى 130]
{وَلَوْلاََ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكََانَ لِزََاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ََ مََا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهََا وَمِنْ آنََاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرََافَ النَّهََارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ََ (130)}
قال: {لَكََانَ لِزََاماً} أي موتا {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} معطوف على «كلمة»، وواحد الإناء إني. لا يعرف البصريون غيره، وحكى الفراء في واحد الإناء إنّى مقصورة واحد الآنية إنا ممدود، وللفراء في هذا الباب في كتاب «المقصور والممدود» أشياء قد جاء بها على أنها فيها مقصور وممدود، مثل الإناء والإنى، والوراء والورى قد أنكرت عليه، ورواها الأصمعي وابن السكيت والمتقنون من أهل اللغة على خلاف ما روي، والذي يقال في هذا أنه مأمون على ما رواه غير أنّ سماع الكوفيين أكثره عن غير الفصحاء.
[سورة طه (20): آية 131]
{وَلاََ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ (131)}
{وَلََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ} وهم الأغنياء، أي لا تنظر إلى ما أعطي الكفار في الدنيا. وقرأ عيسى بن عمر وعاصم الجحدري {زَهْرَةَ} (1) بفتح الهاء. قال أبو إسحاق «زهرة» منصوبة بمعنى متّعنا، لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدّنيا زهرة {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم، ونشدّد التعبّد عليهم لأن الأغنياء يشتد عليهم التواضع، والمحنة عليهم أشدّ. {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ} قال الفراء (2): أي ثواب ربك. وحكى الكسائي {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مََا فِي الصُّحُفِ الْأُولى ََ} قال: ويجوز على هذا {بَيِّنَةُ مََا فِي الصُّحُفِ الْأُولى ََ} قال أبو جعفر: إذا نوّنت بيّنة ورفعت جعلت «ما» بدلا منها، وإذا نصبتها على الحال. والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيّنا.
[سورة طه (20): آية 134]
{وَلَوْ أَنََّا أَهْلَكْنََاهُمْ بِعَذََابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقََالُوا رَبَّنََا لَوْلاََ أَرْسَلْتَ إِلَيْنََا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيََاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ََ (134)}
{وَلَوْ أَنََّا أَهْلَكْنََاهُمْ بِعَذََابٍ مِنْ قَبْلِهِ} قيل: من قبل التنزيل، وقال الفراء: من قبل الرسول. {فَنَتَّبِعَ آيََاتِكَ} جواب لولا.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 269، ومختصر ابن خالويه 90.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 196.(3/43)
[سورة طه (20): آية 135]
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحََابُ الصِّرََاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى ََ (135)}
قال أبو إسحاق: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحََابُ} «من» في موضع رفع، وقال الفراء (1):
يجوز أن يكون في موضع نصب، مثل {وَاللََّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:
220]. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ومن هاهنا استفهام لأن المعنى: فستعلمون أأصحاب الصراط نحن أم أنتم، وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحََابُ الصِّرََاطِ السَّوِيِّ} (2) على فعلى بغير همز، وتأنيث الصراط شاذ قليل. قال الله جلّ وعزّ {اهْدِنَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فجاء مذكّرا في هذا وفي غيره. وقد ردّ هذا أبو حاتم فقال: إن كان من السّوء وجب أن يكون السوءى، وإن كان من السواء وجب أن يقول: السيّى بكسر السين، والأصل السويا، قال أبو جعفر: جواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل السوءى، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها، والساكن ليس بحاجز ألفا إذا انفتح ما قبلها. {وَمَنِ اهْتَدى ََ} معطوف على «من» الأولى.
والفراء (3) يذهب إلى أنّ معنى من أصحاب الصراط السّويّ: من لم يضلّ، وإلى أن معنى «ومن اهتدى» من ضلّ ثم اهتدى.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 197.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 271.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 197.(3/44)
21 - شرح إعراب سورة الأنبياء
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الأنبياء (21): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {اقْتَرَبَ لِلنََّاسِ حِسََابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}
{اقْتَرَبَ لِلنََّاسِ حِسََابُهُمْ} ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للنّاس لئلا يتقدّم مضمر على المظهر لا يجوز أن ينوى به التأخير {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ابتداء وخبر، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. والمعنى: وهم في غفلة معرضون عن التأهب للحساب.
[سورة الأنبياء (21): آية 2]
{مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)}
{مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} نعت لذكر، وأجاز الكسائي والفراء: محدثا بمعنى ما يأتيهم محدثا، وأجاز الفراء (1) رفع محدث على تأويل ذكر لأنك لو حذفت «من» رفعت ذكرا. {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ}.
[سورة الأنبياء (21): آية 3]
{لاََهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هََذََا إِلاََّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}
{لََاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} قال الكسائي: أي إلّا استمعوه لاهية قلوبهم، وأجاز الفراء (2) أن يكون مخرّجا من المضمر الذي في يلعبون، وأجاز هو والكسائي {لََاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (3)
بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية، وأجاز غيرهم الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر أو على إضمار مبتدأ. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: وأسرّ النجوى، والفعل متقدّم لأن الفعل إذا تقدّم الأسماء وحد، وإذا تأخّر ثنّي وجمع للضمير الذي فيه، فكيف جاء هذا
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 197والبحر المحيط 6/ 275، وهي قراءة ابن أبي عبلة.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 197.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 197، والبحر المحيط 6/ 275، وهي قراءة ابن أبي عبلة وعيسى.(3/45)
متقدما مجموعا؟ ففيه ستة أقوال: يكون بدلا من الواو، وعلى إضمار مبتدأ، ونصبا بمعنى أعني، وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، وأجاز الأخفش أن يكون على لغة من قال: «أكلوني البراغيث»، والجواب السادس أحسنها وهو أن يكون التقدير: يقول الذين ظلموا، وحذف القول مثل {وَالْمَلََائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بََابٍ سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23] فالدليل على صحّة هذا الجواب أنّ بعده {هَلْ هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فهذا الذي قالوه والمعنى: هل هذا إلّا بشر مثلكم. وقد بين الله جلّ وعزّ أنه لا يجوز أن يرسل إليهم بشرا ليفهموا عنه ويعلّمهم، ثمّ قال {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} والسحر في اللغة كلّ مموّه لا حقيقة له ولا صحة {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قيل: معناه وأنتم تبصرون أنه إنسان مثلكم، وقيل: وأنتم تعقلون لأن العقل هو البصر بالأشياء.
[سورة الأنبياء (21): آية 4]
{قََالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}
قل ربي وفي مصاحف أهل الكوفة {قََالَ رَبِّي} (1) فقيل: إنّ القراءة الأولى أظهر وأولى لأنهم أسرّوا هذا القول فأظهر الله عليه نبيّه وأمره أن يقول لهم هذا. قال أبو جعفر: والقراءتان صحيحتان. وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر وأنه قال كما أمر.
[سورة الأنبياء (21): آية 5]
{بَلْ قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلاََمٍ بَلِ افْتَرََاهُ بَلْ هُوَ شََاعِرٌ فَلْيَأْتِنََا بِآيَةٍ كَمََا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}
{بَلْ قََالُوا أَضْغََاثُ أَحْلََامٍ} قال أبو إسحاق: أي بل قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام، وقال غيره: هو أحلام اختلاط. والمعنى كالأحلام المختلطة فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلِ افْتَرََاهُ} ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلْ هُوَ شََاعِرٌ فَلْيَأْتِنََا بِآيَةٍ كَمََا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي كما أرسل موسى صلّى الله عليه وسلّم بالعصا وغيرها من الآيات، وكان هذا منهم تعنّتا إذ كان الله جلّ وعزّ قد أعطاه من الآيات ما فيه كفاية، ويبيّن الله جلّ وعزّ أنّهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوا كقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللََّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
[سورة الأنبياء (21): آية 6]
{مََا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}
{مََا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي من أهل قرية و «من» زائدة للتوكيد.
__________
(1) انظر تيسير الداني 125، والبحر المحيط 6/ 276.(3/46)
[سورة الأنبياء (21): آية 9]
{ثُمَّ صَدَقْنََاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنََاهُمْ وَمَنْ نَشََاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)}
{ثُمَّ صَدَقْنََاهُمُ الْوَعْدَ} أي بإنجائهم ونصرهم، وإهلاك مكذّبيهم.
[سورة الأنبياء (21): آية 10]
{لَقَدْ أَنْزَلْنََا إِلَيْكُمْ كِتََاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (10)}
{فِيهِ ذِكْرُكُمْ} رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب ثم نبّههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال جلّ وعزّ: {أَفَلََا تَعْقِلُونَ}.
[سورة الأنبياء (21): آية 11]
{وَكَمْ قَصَمْنََا مِنْ قَرْيَةٍ كََانَتْ ظََالِمَةً وَأَنْشَأْنََا بَعْدَهََا قَوْماً آخَرِينَ (11)}
{وَكَمْ قَصَمْنََا} «كم» في موضع نصب بقصمنا {مِنْ قَرْيَةٍ} لو حذفت «من» لجاز الخفض لأن «كم» هاهنا للخبر، والعرب تقول: «كم قرية قد دخلتها». فتخفض. وفيه تقديران: أحدهما أن تكون «كم» بمنزلة ثلاثة من العدد، والفراء (1) يقول بإضمار «من» فإذا فرقت جاز الخفض والنصب، وأنشد النحويون: [السريع] 300 كم بجود مقرفا نال العلى ... وكريما بخله قد وضعه (2)
وأجود اللّغات فيه إذا فرقت أن تأتي بمن، وبها جاء القرآن في هذا الموضع وغيره.
[سورة الأنبياء (21): آية 14]
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا إِنََّا كُنََّا ظََالِمِينَ (14)}
{قََالُوا يََا وَيْلَنََا} نداء مضاف.
[سورة الأنبياء (21): آية 15]
{فَمََا زََالَتْ تِلْكَ دَعْوََاهُمْ حَتََّى جَعَلْنََاهُمْ حَصِيداً خََامِدِينَ (15)}
{فَمََا زََالَتْ تِلْكَ دَعْوََاهُمْ} «تلك» في موضع رفع إن جعلت دعواهم خبرا، وفي موضع نصب إن جعلت دعواهم الاسم.
[سورة الأنبياء (21): آية 16]
{وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لاََعِبِينَ (16)}
أي: ما خلقنا السماء والأرض ليظلم الناس بعضا ويكفر بعضهم ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا فلا يجازوا بأفعالهم، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن، ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم وضدّ الحكمة.
[سورة الأنبياء (21): آية 17]
{لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا إِنْ كُنََّا فََاعِلِينَ (17)}
{لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا} لأنهم نسبوا إلى الله جلّ وعزّ الولد، والصاحبة. فالمعنى: لو أردنا أن نتّخذ ولدا أو صاحبة لما اتّخذناه من البشر الذين
__________
(1) انظر معاني الفراء 1/ 125.
(2) مرّ الشاهد رقم (45).(3/47)
تلحقهم الآفات، والحجارة التي لا تعقل فبيّن به الله عزّ وجلّ جهلهم بنسبهم إليه مثل هذا بلا حجّة ولا شبهة.
[سورة الأنبياء (21): آية 18]
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبََاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمََّا تَصِفُونَ (18)}
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي بالحجج والبراهين. {عَلَى الْبََاطِلِ} وهو قولهم {فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ} حكى أهل اللغة زهق يزهق زهقا وزهوقا إذا انكسر واضمحلّ.
[سورة الأنبياء (21): آية 20]
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لاََ يَفْتُرُونَ (20)}
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ} ظرفان.
[سورة الأنبياء (21): آية 22]
{لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلاَّ اللََّهُ لَفَسَدَتََا فَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ (22)}
{لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} التقدير عند سيبويه والكسائي «غير الله» فلمّا جعلت إلّا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال: [الوافر] 301 وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان (1)
وحكى سيبويه لو كان معنا رجل إلّا زيد لهلكنا، وقال الفراء (2): إلا هاهنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلهما، وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير لأن أحدهما إذا أراد شيئا وأراد الآخر ضدّه كان أحدهما عاجزا.
[سورة الأنبياء (21): آية 24]
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ هََذََا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}
وحكى أبو حاتم أنّ يحيى بن يعمر وطلحة قرأ: {هََذََا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} (3) فزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق في هذه القراءة: المعنى هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي، وذكر ممّن قبلي، وقال غيره: التقدير فيها هذا ذكر ذكر من معي مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وروي عن الحسن أنه قرأ: {الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} (4) بالرفع بمعنى هو الحقّ وهذا الحقّ.
[سورة الأنبياء (21): آية 26]
{وَقََالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمََنُ وَلَداً سُبْحََانَهُ بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ (26)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (205).
(2) انظر معاني الفراء 2/ 200.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 91.
(4) انظر المحتسب 2/ 61، ومختصر ابن خالويه 91.(3/48)
{سُبْحََانَهُ بَلْ عِبََادٌ مُكْرَمُونَ} قال أبو إسحاق: المعنى: بل هم عباد مكرمون يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام. قال: ويجوز في غير القرآن بل عبادا مكرمين بمعنى بل اتخذ عبادا مكرمين، وأجازه الفراء (1) أيضا على أن تردّه على ولد أي لم نتّخذهم ولدا بل اتّخذناهم عبادا مكرمين.
[سورة الأنبياء (21): آية 28]
{يَعْلَمُ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ وَلاََ يَشْفَعُونَ إِلاََّ لِمَنِ ارْتَضى ََ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)}
أي لا يفعلون شيئا إلا بإذنه ثم خبّر بحكمه جلّ وعزّ في كلّ أحد فقال:
[سورة الأنبياء (21): آية 29]
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلََهٌ مِنْ دُونِهِ فَذََلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذََلِكَ نَجْزِي الظََّالِمِينَ (29)}
الكاف في موضع نصب.
[سورة الأنبياء (21): آية 30]
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاََ يُؤْمِنُونَ (30)}
قال الأخفش: قال: {كََانَتََا} لأنهما صنفان كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال جلّ وعزّ {إِنَّ اللََّهَ يُمْسِكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولََا} [فاطر: 41] قال أبو إسحاق: كانتا لأنه يعبّر عن السموات بلفظ الواحد بسماء ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذا الأرضون. قال: وقال: رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر والمعنى: كانتا ذواتي رتق. قال أبو جعفر: وروي عن الحسن أنه قرأ {كََانَتََا رَتْقاً} (2) قال عيسى: هو صواب وهي لغة. {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} نعت لشيء، وأجاز الفراء (3): كلّ شيء حيا بمعنى: وجعلنا كلّ شيء حيّا من الماء.
[سورة الأنبياء (21): آية 32]
{وَجَعَلْنَا السَّمََاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيََاتِهََا مُعْرِضُونَ (32)}
{وَجَعَلْنَا السَّمََاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} نعت لسقف، ولو كان محفوظة على أن يكون نعتا للسماء لجاز.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 201.
(2) انظر المحتسب 2/ 762ومختصر ابن خالويه 91، والبحر المحيط 6/ 287، وهي قراءة أبي حيوة وعيسى وزيد بن علي أيضا.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 201.(3/49)
[سورة الأنبياء (21): آية 33]
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
فيه من النحو أنه لم يقل: يسبحن ولا يسبح. ومذهب سيبويه (1) أنه لما خبّر بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل خبّر عنهن بالواو والنون، وقال الفراء: (2) لمّا خبّر عنهنّ بأفعال الآدميين قال: يسبحون، وقال الكسائي يسبحون لأنه رأس آية، كما قال: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44]، ولم يقل منتصرون.
[سورة الأنبياء (21): آية 34]
{وَمََا جَعَلْنََا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ (34)}
{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} جيء بالفاء التي في فهم عند الفراء (3) لتدلّ على الشرط لأنه جواب قولهم: ستموت، ويجوز أن يكون جيء بها لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن متّ. قال الفراء: ويجوز حذف الفاء واضمارها لأن هم لا يتبيّن فيها الإعراب، أو لأن المعنى أهم الخالدون إن مت.
[سورة الأنبياء (21): آية 35]
{كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ (35)}
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} قال الكسائي: والمصدر بلاء.
[سورة الأنبياء (21): آية 38]
{وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (38)}
«متى» عند الكوفيين في موضع نصب وكذا الجواب عندهم في المعرفة إذا قيل:
متى وعدك قيل: يوم الجمعة فإن كان نكرة رفعت فقلت: موعدك يوم قريب، وكذا ظروف المكان، وحكى الفراء (4): اجتمع الجيشان فالمسلمون جانب والكفار جانب صاحبهم. الثاني منصوب لأنه معرفة والأول مرفوع لأنه نكرة فاعتل في النصب مع المعرفة لأن الخبر مسند إليها لأنها معرفة، فحسنت الصفة، وبنوا المسائل على هذا فتقول: عبد الله جانب المسجد، وزيد جانب منه. وأما البصريون فالرفع عندهم الوجه إذا كان الظرف متمكنا. قال سيبويه (5) وتقول: موعدك غدوة وبكرة وموعدك بكرا لأن بكرا لا يتمكن. والدليل على صحة قول البصريين قراءة القراء، إلّا من شذّ منهم قال:
{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59]. وحكى الفراء (6) في النكرة: إنما البرد شهران، وإنما الصيف شهران، وزيد دون من الرجال، وهو دونك بالنصب في المعرفة.
[سورة الأنبياء (21): آية 40]
{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهََا وَلاََ هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}
{هُمْ} في موضع رفع بالابتداء ولا تعمل إلا في معرفة. {يُنْظَرُونَ} في موضع الخبر.
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 44.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 201.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 202.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 203.
(5) انظر الكتاب 1/ 279.
(6) انظر معاني الفراء 2/ 203.(3/50)
[سورة الأنبياء (21): الآيات 42الى 45]
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ مِنَ الرَّحْمََنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنََا لاََ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاََ هُمْ مِنََّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنََا هََؤُلاََءِ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى طََالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاََ يَرَوْنَ أَنََّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهََا مِنْ أَطْرََافِهََا أَفَهُمُ الْغََالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمََا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاََ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعََاءَ إِذََا مََا يُنْذَرُونَ (45)}
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} فإن خفّفت الهمزة جعلتها بين الهمزة والواو، ولهذا كتبت واوا وحكى الكسائي والفراء (1) في التخفيف وجهين آخرين: «قل من يكلوكم» بفتح اللام وإسكان الواو، وحكيا «من يكلاكم» قال: فأما «يكلاكم» فخطأ من جهتين إحداهما: أنّ بدل الهمزة إنما يجوز في الشعر، والجهة الأخرى: أنهما يقولان في الماضي: كليته فينقلب المعنى لأن المعنى كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلأك الله، فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بوجع في كليته، والدليل على هذا أنه لا يقال: رجل مكليّ إلّا من هذا، هكذا السماع، ولا نلتفت إلى سماع لا يصحّ. وأما {يَكْلَؤُكُمْ} فقد حكى مثله سيبويه (2) في آخر الكلمة إنّ من العرب من يقول: هو الوثو (3) فيبدل من الهمزة واوا حرصا على تبيينها، وفي الخفض من الوثي، وهو الكلو، ومن الكلي، وأخذت الكلا.
قال الفراء (4): ومن قال: يكلوهم قال في الماضي: كلات فيترك النبرة.
قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ولا تسمع الصم الدعاء (5) جعلهما مفعولين فردّ عليه بعض أهل اللغة وقال: كان يجب على قوله إذا ما تنذرهم. قال أبو جعفر: وذلك جائز لأنه قد عرف المعنى.
[سورة الأنبياء (21): آية 47]
{وَنَضَعُ الْمَوََازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيََامَةِ فَلاََ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كََانَ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنََا بِهََا وَكَفى ََ بِنََا حََاسِبِينَ (47)}
{مِثْقََالَ حَبَّةٍ} (6) اسم كان ولا خبر لها لأنها بمعنى وقع، ويجوز النصب على أن تضمر فيها اسمها.
[سورة الأنبياء (21): آية 48]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسى ََ وَهََارُونَ الْفُرْقََانَ وَضِيََاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)}
وروي عن ابن عباس وعكرمة ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء (7) بغير واو، وزعم الفراء (8) أنّ حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال جلّ وعزّ:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 204.
(2) انظر الكتاب 4/ 290.
(3) الوثء: الوهن.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 205.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 205.
(6) انظر تيسير الداني 126.
(7) انظر المحتسب 2/ 64.
(8) انظر معاني الفراء 2/ 205.(3/51)
{وَحِفْظاً} * [الصافات: 6و 7] وردّ عليه هذا القول أبو إسحاق لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد. قال: وتفسير الفرقان: التوراة، لأنّ فيها الفرق بين الحلال والحرام. قال:
«وضياء» مثل {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 46]، وأجاز الفراء (1) {وَهََذََا ذِكْرٌ مُبََارَكٌ أَنْزَلْنََاهُ} بمعنى أنزلناه مباركا.
[سورة الأنبياء (21): آية 51]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا إِبْرََاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنََّا بِهِ عََالِمِينَ (51)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََا إِبْرََاهِيمَ رُشْدَهُ} مفعولان. قال الفراء: «رشده» هداه.
[سورة الأنبياء (21): آية 52]
{إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا هََذِهِ التَّمََاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهََا عََاكِفُونَ (52)}
{إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} قال أبو إسحاق «إذ» في موضع نصب أي آتيناه رشده في ذلك الوقت.
[سورة الأنبياء (21): آية 58]
{فَجَعَلَهُمْ جُذََاذاً إِلاََّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
{وَإِسْمََاعِيلَ وَإِدْرِيسَ} فجاء مذكّرا لأنهم جعلوا الأصنام بمنزلة ما يعقل في عبادتهم إياها {إِلََّا كَبِيراً لَهُمْ} على الاستثناء.
[سورة الأنبياء (21): آية 60]
{قََالُوا سَمِعْنََا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقََالُ لَهُ إِبْرََاهِيمُ (60)}
قال أبو إسحاق: إبراهيم، يرتفع من جهتين على معنى: هو إبراهيم والمعروف به إبراهيم، وعلى النداء. قال أبو جعفر: واسم ما لم يسمّ فاعله على مذهب الخليل رحمه الله وسيبويه له، كما تقول: سيريه. وعلى مذهب محمد بن يزيد اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر أي يقال له القول واحتيج إلى الإضمار، لأن إبراهيم لا يجوز أن يكون اسم ما لم يسمّ فاعله بل ذلك محال على كل قول لأنه من قال: قلت زيدا منطلقا، على اللغة الشاذة لم يقل:
كلّمته فقلت له إبراهيم ولم يقل هذا إلّا بالرفع، وإن كانت تلك اللغة شاذة لا يتكلّم بها في كتاب الله عزّ وجلّ لشذوذها وخروجها على القياس، ولولا أنّ هذا القول لم يقله أحد من العلماء علمناه لزدنا في الشرح ولكن غنينا عن ذلك بما تقدّم وبما وصفناه، وأنه يلزم من رفع هذا على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله أن يقول: قلت زيدا، كما أنه إذا قال: يضرب زيد قال: ضربت زيدا، ولا يقول أحد: قلت زيدا، ولا له معنى، ويلزمه أن يقرأ {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ} [الكهف: 5] بالنصب، فإذا لزمه ما لا يقوله أحد استغنى عن الزيادة. ولو لم يكن في هذا إلّا أنّ النحويين يعلّمون المتعلّم أنّ ما بعد القول محكيّ، فيقولون: قلت له زيد خارج، وكذا قيل له، لا فرق بين الفعلين في الحكاية.
[سورة الأنبياء (21): آية 67]
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَفَلاََ تَعْقِلُونَ (67)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 206.(3/52)
قال أبو إسحاق: {أُفٍّ لَكُمْ} (1) وأفّ وأفّ لكم. وينوّن في اللغات الثلاث، ويقال: أفّه ومن كسر لالتقاء الساكنين قال الأصوات أكثرها مبنيّ على الكسر والفتح لأنه خفيف والضمّ اتباع، والتنوين فرق بين المعرفة والنكرة.
[سورة الأنبياء (21): آية 71]
{وَنَجَّيْنََاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا لِلْعََالَمِينَ (71)}
{وَنَجَّيْنََاهُ وَلُوطاً} عطف على الهاء. {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا} لأن الأرض مؤنّثة، فأما قول الشاعر: [المتقارب] 302 فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها (2)
فرواه أبو حاتم «ولا أرض أبقلت إبقالها». كره تذكير الأرض. قال أبو جعفر:
وما في هذا ما ينكر لأنه تأنيث حقيقي. قال محمد بن يزيد: لو قلت: هدم دارك لجاز، والكوفيون يقولون: يجوز التذكير لأنه لا علاقة فيه للتأنيث.
[سورة الأنبياء (21): آية 73]
{وَجَعَلْنََاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا وَأَوْحَيْنََا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرََاتِ وَإِقََامَ الصَّلاََةِ وَإِيتََاءَ الزَّكََاةِ وَكََانُوا لَنََا عََابِدِينَ (73)}
الأصل أقوام فألقيت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وحذفت لالتقاء الساكنين، فإن أفردت ألحقت الهاء وقبح حذفها لأنها عوض مما حذف.
[سورة الأنبياء (21): آية 74]
{وَلُوطاً آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنََاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كََانَتْ تَعْمَلُ الْخَبََائِثَ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فََاسِقِينَ (74)}
{وَلُوطاً آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً} بمعنى: واذكر لوطا، أو معنى وآتينا لوطا {وَنُوحاً}.
[سورة الأنبياء (21): آية 78]
{وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ إِذْ يَحْكُمََانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنََّا لِحُكْمِهِمْ شََاهِدِينَ (78)}
{وَدََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ} بمعنى واذكروا. ولم ينصرف «داود» لأنه اسم عجميّ لا يحسن فيه الألف واللام، ولم ينصرف «سليمان» لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين.
[سورة الأنبياء (21): آية 79]
{فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ وَكُلاًّ آتَيْنََا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنََا مَعَ دََاوُدَ الْجِبََالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنََّا فََاعِلِينَ (79)}
{فَفَهَّمْنََاهََا سُلَيْمََانَ} قال أبو إسحاق: أي ففهّمنا القصّة. {وَسَخَّرْنََا مَعَ دََاوُدَ الْجِبََالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} معطوف على الجبال، ويجوز أن يكون بمعنى مع الطير، كما تقول:
__________
(1) انظر تيسير الداني 126.
(2) مرّ الشاهد رقم (152).(3/53)
التقى الماء والخشبة. قال أبو إسحاق: ويجوز «الطير» بالرفع بمعنى يسبّحن هنّ والطير. قال {وَكُنََّا فََاعِلِينَ} أي نقدر على ما نريد، وقال غيره: المعنى وكنا فاعلين للأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذه الآيات.
[سورة الأنبياء (21): آية 81]
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ عََاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى ََ الْأَرْضِ الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا وَكُنََّا بِكُلِّ شَيْءٍ عََالِمِينَ (81)}
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ عََاصِفَةً} معطوف أي وسخّرنا لسليمان الريح، وقرأ عبد الرحمن الأعرج ولسليمان الريح (1) بالرفع قطعه من الأول، ورفع بالابتداء، كما تقول:
أعطيت زيدا درهما ولعمر دينار.
[سورة الأنبياء (21): آية 82]
{وَمِنَ الشَّيََاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذََلِكَ وَكُنََّا لَهُمْ حََافِظِينَ (82)}
{مِنَ} في موضع نصب إن نصبت الريح، ويجوز الرفع بالابتداء وإن رفعت الريح فمن في موضع رفع عطف عليها، وإن شئت بالابتداء أيضا. و {يَغُوصُونَ} على معنى «من»، ولو كان في غير القرآن لجاز يغوص على اللفظ.
[سورة الأنبياء (21): آية 84]
{فَاسْتَجَبْنََا لَهُ فَكَشَفْنََا مََا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا وَذِكْرى ََ لِلْعََابِدِينَ (84)}
{فَاسْتَجَبْنََا لَهُ} {وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} لأهل التفسير في معناه قولان عن مجاهد وعكرمة بإسنادين صحيحين قالا: قيل لأيوب صلّى الله عليه وسلّم، قد آتيناك أهلك في الجنّة، فإن شئت تركناهم لك في الآخرة، وإن شئت آتيناك هم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله جلّ وعزّ له في الجنّة وأعطاه مثلهم في الدنيا، وقال عكرمة: فاختار أن يكونوا له في الجنّة ويؤتي مثلهم في الدنيا، وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود: كان أهل أيوب عليه السلام قد ماتوا إلّا امرأته فأحياهم الله جلّ وعزّ له وآتاه مثلهم معهم، وعن ابن عباس رحمة الله عليه قال: كان بنوه قد ماتوا، فأحيوا له وولد لهم مثلهم معهم.
[سورة الأنبياء (21): آية 85]
{وَإِسْمََاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصََّابِرِينَ (85)}
{وَإِسْمََاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} بمعنى: واذكر كذا.
[سورة الأنبياء (21): آية 87]
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغََاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنََادى ََ فِي الظُّلُمََاتِ أَنْ لاََ إِلََهَ إِلاََّ أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ (87)}
قال أبو جعفر: قد ذكرنا عن سعيد بن جبير أنه قال: مغاضبا لربه جلّ وعزّ.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 308، ومختصر ابن خالويه 92.(3/54)
وربّما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهذا قول صحيح والمعنى مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله جلّ وعزّ إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «اشترطي لهم الولاء» من هذا. وقال الضحاك: {إِذْ ذَهَبَ مُغََاضِباً} أي لقومه فيكون معنى هذا أنه غاضبهم لعصيانهم. وقال الأخفش: إنّما غاضب بعض الملوك. وقرأ الحسن فظنّ أن لن يقدر عليه (1) وقرأ يعقوب القارئ فظنّ أن لن يقدر عليه (2).
[سورة الأنبياء (21): آية 89]
{وَزَكَرِيََّا إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ رَبِّ لاََ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوََارِثِينَ (89)}
{وَزَكَرِيََّا} بمعنى واذكر.
[سورة الأنبياء (21): آية 90]
{فَاسْتَجَبْنََا لَهُ وَوَهَبْنََا لَهُ يَحْيى ََ وَأَصْلَحْنََا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كََانُوا يُسََارِعُونَ فِي الْخَيْرََاتِ وَيَدْعُونَنََا رَغَباً وَرَهَباً وَكََانُوا لَنََا خََاشِعِينَ (90)}
وقد ذكرنا أنّ معنى {وَأَصْلَحْنََا لَهُ زَوْجَهُ} أنها كانت سيئة الخلق، وقال سعيد بن جبير: إنها كانت لا تلد. قال أبو إسحاق: {وَيَدْعُونَنََا رَغَباً} على أنه مصدر ورغبا بخلاف، ورغبا مثل بخلا.
[سورة الأنبياء (21): آية 91]
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهََا مِنْ رُوحِنََا وَجَعَلْنََاهََا وَابْنَهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ (91)}
{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا} في موضع نصب بمعنى واذكر {وَجَعَلْنََاهََا وَابْنَهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ} ولم يقل: آيتين. قال أبو إسحاق: لأن الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل. وعلى مذهب سيبويه أنّ التقدير: وجعلناها آية للعالمين، وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف، وعلى مذهب محمد بن يزيد أن المعنى وجعلناها آية للعالمين وابنها مثل {وَاللََّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وفي قصة ذي النون حرف مشكل الإعراب على قراءة عاصم. وكذلك نجّي المؤمنين (3) بنون واحدة لأنها في المصحف كذا. وتكلم النحويون في هذا فقال بعضهم: هو لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله. وكان أبو إسحاق يذهب إلى هذا القول. وذهب الفراء (4) وأبو عبيد إلى أنّ المعنى: وكذلك نجّي النجاء المؤمنين. قال أبو إسحاق: هذا خطأ لا يجوز ضرب زيدا. المعنى الضرب زيدا لأنه لا فائدة فيه إذ كان ضرب يدلّ على الضرب، ولأبي
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 311.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 311.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 210، وكتاب السبعة لابن مجاهد.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 210.(3/55)
عبيد فيه قول آخر وهو أنه أدغم النون في الجيم. وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين علمناه لبعد النون من الجيم، فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ} * [الأنعام: 160] مجّاء بالحسنة. قال أبو جعفر: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان قال: الأصل ننجّي فحذف إحدى النونين لاجتماعهما، كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قول الله جلّ وعزّ {وَلََا تَفَرَّقُوا} [الأنعام: 103] الأصل تتفرقوا. والدليل على صحة ما قال أن عاصما يقرأ (نجّي) بإسكان الياء، ولو كان على ما تأوله من ذكرناه لكان مفتوحا.
[سورة الأنبياء (21): آية 92]
{إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}
{إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} على الحال. قال أبو إسحاق: أي إنّ هذه أمتكم في حال اجتماعها فإذا تفرّقت لم تدخل في ذلك. قال: ويجوز إنّ هذه أمتكم أمة واحدة، تجعل أمتكم بدلا من هذه، وفيه معنى التوكيد. قال أبو جعفر: وقرأ ابن أبي إسحاق {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} (1) «أمتكم» خبر إن «وأمة واحدة» خبر بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وإن شئت على بدل النكرة من المعرفة.
[سورة الأنبياء (21): آية 94]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاََ كُفْرََانَ لِسَعْيِهِ وَإِنََّا لَهُ كََاتِبُونَ (94)}
قال الكسائي: وفي حرف ابن مسعود فلا كفر لسعيه (2) وكفر وكفران وكفور بمعنى واحد.
[سورة الأنبياء (21): آية 95]
{وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا أَنَّهُمْ لاََ يَرْجِعُونَ (95)}
{وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ} قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة، وعن علي وابن مسعود وابن عباس وحرم على قرية (3)، وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ وحرم على قرية (4) بفتح الحاء والميم وكسر الراء، وروي عنه بضمّ الراء وفتح الحاء والميم.
والآية مشكلة، وقد ذكرنا فيها أقوالا: فمن أحسن ما قيل فيه وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن عليّة وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيّان ومعلّى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رحمه الله في قوله جلّ وعزّ {وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا} قال: وجب {أَنَّهُمْ لََا يَرْجِعُونَ} قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن من اللغة. وشرحه أنّ معنى حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحلّ
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 313، ومعاني الفراء 2/ 10، ومختصر ابن خالويه 93، وهي قراءة الحسن أيضا.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 313.
(3) انظر المحتسب 2/ 65، والبحر المحيط 6/ 313.
(4) انظر المحتسب 2/ 65، والبحر المحيط 6/ 313.(3/56)
أبيح ولم يمنع منه. فإذا كان حرام وحرم بمعنى واحد فمعناه أنه قد ضيّق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا، فأما قول أبي عبيد: إنّ «لا» زائدة فقد ردّه عليه جماعة لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا، لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أنهم يرجعون إلى الدنيا. فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرّم.
[سورة الأنبياء (21): الآيات 96الى 97]
{حَتََّى إِذََا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذََا هِيَ شََاخِصَةٌ أَبْصََارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يََا وَيْلَنََا قَدْ كُنََّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا بَلْ كُنََّا ظََالِمِينَ (97)}
{حَتََّى إِذََا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} وقرأ عاصم والأعرج {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (1)
بالهمز. قال أبو إسحاق: هما مشتقّان من أجّة الحريق، ومن ملح أجاج. ولا يصرف، تجعلهما اسما للقبيلتين على فاعول ومفعول، ومن لم يهمز جعلهما أعجميين على قول أكثر النحويين. قال الأخفش: يأجوج: من يججت، ومأجوج:
من مججت. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قال: من كل شرف يقبلون. والتقدير في العربية: حتّى إذا فتح سدّ يأجوج ومأجوج، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. فأما جواب إذا ففيه ثلاثة أقوال: قال الكسائي والفراء: حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ والواو عندهما زائدة، وأنشد الفراء: [الطويل] 303 فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل (2)
المعنى عنده انتحى. وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا {فَإِذََا هِيَ شََاخِصَةٌ أَبْصََارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} والقول الثالث أنّ المعنى قالوا {يََا وَيْلَنََا} ثم حذف قالوا. وهذا قول أبي إسحاق، وهو قول حسن. قال الله جلّ وعزّ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ} [الزمر: 3] المعنى قالوا، وحذف القول كثير.
[سورة الأنبياء (21): آية 98]
{إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهََا وََارِدُونَ (98)}
المعنى إنكم والأوثان التي تعبدونها من دون الله. ولا يدخل في هذا عيسى صلّى الله عليه وسلّم، ولا عزير، ولا الملائكة لأن «ما» لغير الآدميين. والمعنى: لأن أوثانهم تدخل معهم
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 313، وكتاب السبعة لابن مجاهد 431.
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 15، وأدب الكاتب 353، والأزهية 234، وخزانة الأدب 11/ 43، ولسان العرب (جوز)، وتاج العروس (عقل)، والمنصف 3/ 41، وبلا نسبة في رصف المباني ص 425.(3/57)
النار ليعذّبوهم بها إمّا بأن تحمى وتلصق بهم، وإمّا يبكّتوا بعبادتها، و «ما» في موضع نصب عطفا على اسم إن والخبر {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي يرمى بالحصباء.
[سورة الأنبياء (21): آية 99]
{لَوْ كََانَ هََؤُلاََءِ آلِهَةً مََا وَرَدُوهََا وَكُلٌّ فِيهََا خََالِدُونَ (99)}
{وَكُلٌّ فِيهََا خََالِدُونَ} ابتداء وخبر، ويجوز نصب خالدين في غير القرآن.
[سورة الأنبياء (21): آية 100]
{لَهُمْ فِيهََا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهََا لاََ يَسْمَعُونَ (100)}
قيل: في الكلام حذف، والمعنى والله أعلم وهم فيها لا يسمعون شيئا يسرّهم لأنهم صمّ.
[سورة الأنبياء (21): آية 101]
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ أُولََئِكَ عَنْهََا مُبْعَدُونَ (101)}
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ََ} قيل: يعني بها الجنة، وقيل: يعني بها الوعد.
{أُولََئِكَ عَنْهََا مُبْعَدُونَ} ابتداء وخبر في موضع خبر إن.
[سورة الأنبياء (21): آية 102]
{لاََ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهََا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خََالِدُونَ (102)}
{لََا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهََا} قال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيّات تلسع أهل النار فيقولون: حسّ حسّ.
[سورة الأنبياء (21): آية 103]
{لاََ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقََّاهُمُ الْمَلاََئِكَةُ هََذََا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
{لََا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} على لغة من قال: حزن يحزن، وهي أفصح اللغتين، وبها قرأ الكوفيون في جميع القرآن وقرأ ابن محيصن بلغة من قال: أحزن يحزن في جميع القرآن، وبها قرأ نافع إلّا في هذا الحرف، وبها قرأ أبو جعفر في هذا الحرف خاصة، وقرأ كل ما في القرآن من نظائرها على لغة من قال حزن يحزن.
[سورة الأنبياء (21): آية 104]
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمََاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمََا بَدَأْنََا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنََا إِنََّا كُنََّا فََاعِلِينَ (104)}
{كَمََا بَدَأْنََا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} قال سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله ماءا من تحت العرش كمنيّ الرجال فتنبت منه لحما منهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى، وقرأ {كَمََا بَدَأْنََا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. قال أبو جعفر: في قوله جلّ وعزّ: {وَعْداً عَلَيْنََا} حذف والمعنى والله أعلم علينا إنجازه والوفاء به ثم أكّد ذلك بقوله جلّ وعزّ {إِنََّا كُنََّا فََاعِلِينَ} قال أبو إسحاق: معنى {إِنََّا كُنََّا فََاعِلِينَ} إنّا كنا قادرين على فعل ما نشاء.(3/58)
[سورة الأنبياء (21): آية 105]
{وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ (105)}
{وَلَقَدْ كَتَبْنََا فِي الزَّبُورِ} والزبور والكتاب واحد، فلذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل: زبور، من زبرت أي كتبت، وجمعه زبر، ومن قال: زبور جعله جمع زبر {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهََا عِبََادِيَ الصََّالِحُونَ} أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة لأن الأرض التي في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم.
[سورة الأنبياء (21): آية 106]
{إِنَّ فِي هََذََا لَبَلاََغاً لِقَوْمٍ عََابِدِينَ (106)}
قال سفيان: بلغني أنهم أهل الصلوات الخمس.
[سورة الأنبياء (21): آية 107]
{وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلاََّ رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ (107)}
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد عليه السلام رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدّق به سعد ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق.
[سورة الأنبياء (21): آية 108]
{قُلْ إِنَّمََا يُوحى ََ إِلَيَّ أَنَّمََا إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}
يجوز أن يكون «إنّما» بالكسر لأن معنى يوحى إلىّ: يقال إليّ.
[سورة الأنبياء (21): آية 109]
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى ََ سَوََاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مََا تُوعَدُونَ (109)}
{وَإِنْ أَدْرِي} بمعنى ما أدري، وأدري في موضع رفع لأنه فعل مستقبل لم يقع عليه ناصب ولا جازم، وحذفت الضمة من الياء لثقل الضمة فيها. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مََا تُوعَدُونَ} قيل: يعني القيامة.
[سورة الأنبياء (21): آية 111]
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ (111)}
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} قيل: يعني وما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم أي اختبار وتشديد في العبادة. {وَمَتََاعٌ إِلى ََ حِينٍ} إلى انقضاء المدة.
[سورة الأنبياء (21): آية 112]
{قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمََنُ الْمُسْتَعََانُ عَلى ََ مََا تَصِفُونَ (112)}
{قََالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} (1) في موضع نصب لأنه نداء مضاف، ومن قرأ أحكم بالحقّ (2) فهو ابتداء وخبر، وعن أبي جعفر أنه قرأ ربّ احكم بالحقّ (3) وهذا عند النحويين لحن. لا يجوز عندهم: رجل أقبل، حتّى تقول: يا رجل، أو ما أشبهه:
{وَرَبُّنَا الرَّحْمََنُ الْمُسْتَعََانُ عَلى ََ مََا تَصِفُونَ} أي على ما تصفونه من الكفر.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 431، والبحر المحيط 6/ 319.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 319، ومختصر ابن خالويه 93.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 319، ومختصر ابن خالويه 93.(3/59)
22 - شرح إعراب سورة الحجّ
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الحج (22): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ} {النََّاسُ} مرفوعون على النعت لأي، وأجاز المازني النصب على الموضع كما تقول: يا زيد الكريم أقبل. قال أبو إسحاق: هذا غلط من المازني، لأن زيدا يجوز الوقف والاقتصار عليه، ولا يجوز يا أيّها والنّاس هم المقصودون.
والمعنى: يا ناس اتّقوا ربّكم. {إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ} وهي شدائدها، ورجفة الأرض، والآيات الباهرة.
[سورة الحج (22): آية 2]
{يَوْمَ تَرَوْنَهََا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمََّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذََاتِ حَمْلٍ حَمْلَهََا وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ وَمََا هُمْ بِسُكََارى ََ وَلََكِنَّ عَذََابَ اللََّهِ شَدِيدٌ (2)}
{يَوْمَ تَرَوْنَهََا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} قال أبو إسحاق: تذهل تحيّر وتترك. مرضعة جارية على الفعل لأن بعدها {أَرْضَعَتْ} والكوفيون يقولون (1): ما كان مخصوصا به المؤنث لم تدخل الهاء فيه نحو حائض وطالق وما أشبههما. قال علي بن سليمان:
الدليل على أنّ هذا القول غلط إثبات الهاء في موضعه. {وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ وَمََا هُمْ بِسُكََارى ََ} أي هي لشدّة الهول وخفقان القلب. وقرأ أبو هريرة {وَتَرَى النََّاسَ سُكََارى ََ} (2) يكونان مفعولين. قال سيبويه (3) يقال: سكارى وسكارى قال: وقوم يقولون: سكرى شبّهوه بمرضى لأنه آفة تدخل على العقل كالمرض. قال أبو جعفر:
قول سيبويه: وقوم يقولون: سكرى يدلّ على أنّ غير هذه اللغة أشهر منها.
[سورة الحج (22): آية 3]
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطََانٍ مَرِيدٍ (3)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 214.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 325، ومختصر ابن خالويه 94، ومعاني الفراء 2/ 215.
(3) انظر الكتاب 4/ 118.(3/60)
{مِنَ} في موضع رفع بالابتداء، ويجادل على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يجادلون على المعنى. {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطََانٍ مَرِيدٍ} يقال: مريد ومارد للمتجاوز في الشرّ القويّ فيه، وصخرة مرداء أي ملساء، ومنه قيل: أمرد.
[سورة الحج (22): آية 4]
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاََّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ (4)}
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلََّاهُ} (أن) في موضع رفع {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} عطف عليه ومذهب سيبويه أنّ «أنّ» الثانية مكررة للتوكيد، وأن المعنى: كتب عليه أنه من تولّاه يضلّه. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: التقدير: كتب عليه أنه من تولّاه فالواجب أن يضلّه بفتح الهمز، ومن زعم أنّ «أنّ» في موضع رفع بالابتداء فقد أخطأ، لأنّ سيبويه منع أن يبتدأ بأنّ المفتوحة، وأجاز سيبويه {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلََّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} بكسر الهمزة لأن الفاء جواب للشرط فسبيل ما بعدها أن يكون مبتدأ، والابتداء بأن يكون مكسورا. {وَيَهْدِيهِ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ} مجاز لمّا كان يأمره بما يؤديه إلى النار قام ذلك مقام الهداية إليها.
[سورة الحج (22): آية 5]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاََ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هََامِدَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وحكى النحويون: من البعث، وأجاز الكوفيون في كلّ ما كان ثانية حرفا من حروف الحلق أن تسكّن وتفتح نحو نعل، ونعل وبخل وبخل. قال أبو إسحاق: هذا خطأ وإنما يرجع في هذا إلى اللغة فيقال: لفلان عليّ وعد ولا يقال: وعد، ولا فرق بين حروف الحلق وغيرها في هذا، وإنما هذا مثل قدر وقدر. قال أبو عبيد: العلقة الدمّ إذا اشتدّت حمرته. قال الكسائي: ويجوز {مُخَلَّقَةٍ} (1) بالنصب {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} على الفعل والقطع. {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي لنبيّن لكم قدرتنا على تصويرنا ما نشاء. وروى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ} [2] فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ بالنصب. {إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}.
قال أبو حاتم: النصب على العطف. قال أبو إسحاق: {وَنُقِرُّ} (3) بالرفع لا غير لأنه
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 215، نصب على الحال.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 327.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 327.(3/61)
ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء لأن الله جل وعز لم يخلق الأنام ليقرّ في الأرحام ما نشاء، وإنّما خلقهم ليدلّهم على الرشد والصلاح. قال: وطفل بمعنى أطفال قال: ودلّ على ذلك لفظ الجميع قال: وفيه معنى ويخرج كلّ واحد منكم طفلا.
ومن قرأ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى} (1) فمعناه عنده يستوفي أجله. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي إلى الكبر لأنه لا يرجو قوّة ولا طول عمر فهو في أرذل العمر {لِكَيْلََا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} مذهب الفراء (2) لكي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} قال الكسائي: يقال: بهج بهجة وبهاجة.
[سورة الحج (22): آية 6]
{ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ََ وَأَنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}
موضع «ذلك» رفع بمعنى الأمر ذلك. قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى فعل الله ذلك لأنه الحق.
[سورة الحج (22): آية 8]
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاََ هُدىً وَلاََ كِتََابٍ مُنِيرٍ (8)}
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في موضع رفع بالابتداء.
[سورة الحج (22): آية 9]
{ثََانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ لَهُ فِي الدُّنْيََا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَذََابَ الْحَرِيقِ (9)}
{ثََانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال. ويتأوّل على معنيين: أحدهما أنه روي عن ابن عباس أنه قال: هو النّضر بن الحارث لوى عنقه مرحا وتعظّما، والمعنى الآخر، وهو قول الفراء (3): إن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه أي معرضا عن الذكر.
[سورة الحج (22): آية 10]
{ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ وَأَنَّ اللََّهَ لَيْسَ بِظَلاََّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)}
{ذََلِكَ بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ} قال أبو إسحاق: «ذلك» في موضع رفع بالابتداء وخبره {بِمََا قَدَّمَتْ يَدََاكَ}. {وَأَنَّ اللََّهَ} في موضع خفض عطفا على الأول، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى «والأمر أنّ الله ليس بظلام للعبيد». قال: ويجوز الكسر «وإنّ الله».
[سورة الحج (22): آية 11]
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ فَإِنْ أَصََابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصََابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى ََ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيََا وَالْآخِرَةَ ذََلِكَ هُوَ الْخُسْرََانُ الْمُبِينُ (11)}
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ} في موضع رفع بالابتداء، والتمام {انْقَلَبَ عَلى ََ وَجْهِهِ}
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 328، ومختصر ابن خالويه 94.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 216.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 216.(3/62)
على قراءة من قرأ {خَسِرَ} (1) وقرأ مجاهد وحميد خاسر الدنيا والآخرة (2)
نصبا على الحال خسر الدنيا بذمّ الله جل وعز إياه وأمره بلعنه وأن لا حظّ له في غنيمة ولا ثناء وخسر الآخرة بأن لا ثواب له فيها.
[سورة الحج (22): آية 12]
{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لاََ يَضُرُّهُ وَمََا لاََ يَنْفَعُهُ ذََلِكَ هُوَ الضَّلاََلُ الْبَعِيدُ (12)}
{ذََلِكَ هُوَ الضَّلََالُ الْبَعِيدُ} قال الفراء: أي الطويل.
[سورة الحج (22): آية 13]
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى ََ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} قد ذكرنا فيه أقوالا: منها قول الكسائي إن اللام في غير موضعها، وإن التقدير يدعو من لضرّه أقرب من نفعه. قال أبو جعفر: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يجوز فيها تقديم وتأخير. وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى: يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها. قال: وأحسب هذا القول غلط على محمد بن يزيد لأنه لا معنى له لأنّ ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلّا قول الأخفش سعيد، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم. قال: «يدعو» بمعنى يقول و «من» مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى: يقول لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه، ولو كانت اللام مكسورة لكان المعنى يدعو إلى من ضرّه أقرب من نفعه. وقال الله جلّ وعزّ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا} [الزلزلة: 5] أي إليها. {لَبِئْسَ الْمَوْلى ََ} في موضع رفع ببئس. وقد شرحنا مثل هذا (3).
[سورة الحج (22): آية 15]
{مَنْ كََانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللََّهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمََاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مََا يَغِيظُ (15)}
قد تكلّم النحويون في معنى هذه الآية وفي بيان ما أشكل منها. فمن أحسن ما قيل فيها أنّ المعنى: من كان يظنّ أن لن ينصر الله جلّ وعزّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يتهيّأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليمدد بسب إلى السماء أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيّأ له الكيد والحيلة بأن يفعل
__________
(1) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 6/ 330.
(2) وهذه قراءة الأعرج وابن محيصن وقعنب والجحدري وابن مقسم أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 330، والمحتسب 2/ 75.
(3) مرّ في إعراب الآية 151، آل عمران.(3/63)
مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وقرأ أهل الكوفة بإسكان اللام. وهذا بعيد في العربية لأن ثمّ ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد.
[سورة الحج (22): آية 17]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئِينَ وَالنَّصََارى ََ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللََّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا} خبر «إن». {إِنَّ اللََّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} قال الفراء (1) ولا يجوز في الكلام: إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق، فزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة أي من آمن، ومن تهوّد، أو تنصّر، أو صبأ، ففصل ما بينهم وحسابهم على الله عزّ وجلّ، وردّ أبو إسحاق على الفراء هذا واستقبح قوله: إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق. قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذي، «وإنّ» تدخل على كل مبتدأ فتقول: إنّ زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإنّ فتقول: إنّ زيدا إنّه منطلق.
[سورة الحج (22): آية 18]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبََالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النََّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذََابُ وَمَنْ يُهِنِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ (18)}
معطوفة على «من» وكذا {وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبََالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النََّاسِ} ثم قال جلّ وعزّ: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذََابُ} وهذا مشكل من الإعراب. فيقال: كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل مثل {وَالظََّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] فزعم الكسائي والفراء (2) أنه لو نصب لكان حسنا. ولكن اختير الرفع لأنّ المعنى: وكثير أبى السجود، وفي رفعه قول آخر، يكون معطوفا على الأول داخلا في السجود لأن السجود هاهنا إنّما هو الانقياد لتدبير الله جل وعز من ضعف وقوّة وصحّة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. وحكى الكسائي والأخفش والفراء {وَمَنْ يُهِنِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (3) أي من إكرام.
[سورة الحج (22): آية 19]
{هََذََانِ خَصْمََانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيََابٌ مِنْ نََارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)}
قرأ ابن كثير وشبل {هََذََانِ خَصْمََانِ} بتشديد النون، وفي ذلك قولان: أحدهما أن تشديدها عوض مما حذف من هذين، والآخر على أنها غير ساقطة في الإضافة. وتأوّل
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 218.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 219.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 334.(3/64)
الفراء (1) (2) الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أنّ الخصم الواحد المسلمون، والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم. قال: فقال: اختصموا لأنهم جميع.
قال: ولو قال اختصما لجاز. قال أبو جعفر: وهذا تأويل من لا دربة له بالحديث، ولا بكتب أهل التفسير، لأن الحديث في هذه الآية مشهور رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إنّ هذه الآية نزلت في حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس (3).
[سورة الحج (22): آية 20]
{يُصْهَرُ بِهِ مََا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)}
{يُصْهَرُ بِهِ مََا فِي بُطُونِهِمْ} رفع بفعل ما لم يسمّ فاعله. {وَالْجُلُودُ} عطف على «ما». قال الكسائي. يقال: صهرته أنضجته. والكوفيون يقولون: معنى والجلود:
وجلودهم.
[سورة الحج (22): آية 23]
{إِنَّ اللََّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ يُحَلَّوْنَ فِيهََا مِنْ أَسََاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبََاسُهُمْ فِيهََا حَرِيرٌ (23)}
قال أبو إسحاق ويقرأ ويحلون (4) فيها من أساور من ذهب على قولك: حلي يحلى إذا صار ذا حلي، قال: {وَلُؤْلُؤاً} بمعنى ويحلّون لؤلؤا، قال: و «لؤلؤ» بمعنى:
ومن لؤلؤ. قال: ويجوز أن يكون ذلك خلطا منهما.
[سورة الحج (22): آية 24]
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى ََ صِرََاطِ الْحَمِيدِ (24)}
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} فيه ثلاثة أوجه: يكون في اللغة على العموم، وقيل: الطيب من القول البشارات الحسنة، وقيل: هو قولهم: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34].
[سورة الحج (22): آية 25]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرََامِ الَّذِي جَعَلْنََاهُ لِلنََّاسِ سَوََاءً الْعََاكِفُ فِيهِ وَالْبََادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ (25)}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} اسم «إنّ» و {كَفَرُوا} صلته {وَيَصُدُّونَ} عطف على الذين كفروا. فإن قيل: كيف يعطف مستقبل على ماض؟ ففيه ثلاثة أوجه: منها أن يكون عطف جملة على جملة، ومنها أن يكون في موضع الحال، كما تقول: كلّمت زيدا
__________
(1) انظر تيسير الداني 127.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 219.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 334.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 335، ومختصر ابن خالويه 94، والمحتسب 2/ 77.(3/65)
وهو جالس، وقال أبو إسحاق: هو معطوف على المعنى لأن المعنى إنّ الكافرين والصادين عن المسجد الحرام. وفي خبر «إنّ» ثلاثة أوجه: أصحّها أن يكون محذوفا، ويكون المعنى: إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله هلكوا، وقيل: المعنى: إنّ الذين كفروا يصدّون عن سبيل الله والواو مقحمة. قال أبو جعفر: في كتابي عن أبي إسحاق قال: وجائز أن يكون، وهو وجه الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ}. قال أبو جعفر: هذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه لأنه جاء بخبر إنّ جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبرا لبقي الشرط بلا جواب ولا سيما والفعل الذي للشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
{الَّذِي جَعَلْنََاهُ لِلنََّاسِ سَوََاءً الْعََاكِفُ فِيهِ وَالْبََادِ} (1). فيه ثلاثة أوجه من القراءات: قراءة العامة برفع سواء والعاكف والبادي، وعن أبي الأسود الدؤلي أنه قرأ سواء العاكف فيه والبادي بنصب سواء ورفع العاكف والبادي، وتروى هذه القراءة عن الأعمش باختلاف عنه، والوجه الثالث {الَّذِي جَعَلْنََاهُ لِلنََّاسِ سَوََاءً} (2) منصوبة منونة.
{الْعََاكِفُ} فيه بالخفض. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أوجه: يكون الذي جعلناه للناس من تمام الكلام ثم تقول سواء فترفعه بالابتداء، وخبره العاكف فيه والبادي، والوجه الثاني أن ترفع سواء على خبر العاكف، وتنوي به التأخير أي العاكف فيه والبادي سواء، والوجه الثالث أن تكون الهاء التي في جعلناه مفعولا أول، وسواء العاكف فيه والبادي في موضع المفعول الثاني، كما تقول: ظننت زيدا أبوه خارج، ومن هذا الوجه تخرج قراءة من قرأ بالنصب «سواء» يجعله مفعولا ثانيا، ويكون العاكف فيه رفعا إلّا أن الاختيار في مثل هذا عند سيبويه الرفع لأنه ليس جاريا على الفعل، والقراءة الثالثة على أن ينصب «سواء» لأنه مفعول ثان ويخفض «العاكف» لأنه نعت للناس، والتقدير:
الذي جعلناه للناس العاكف فيه والبادي سواء {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ بِظُلْمٍ} شرط وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ}. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ بِظُلْمٍ} قال: الشرك. وقال عطاء: الشرك والقتل. وقد ذكرنا هذه الآية.
[سورة الحج (22): الآيات 26الى 27]
{وَإِذْ بَوَّأْنََا لِإِبْرََاهِيمَ مَكََانَ الْبَيْتِ أَنْ لاََ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ وَالْقََائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجََالاً وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}
{وَإِذْ بَوَّأْنََا لِإِبْرََاهِيمَ مَكََانَ الْبَيْتِ} في دخول اللام ثلاثة أوجه: لأنه يقال: بوّأت زيدا منزلا، فأخذ الثلاثة الأوجه أن تحمله على معنى جعلنا لإبراهيم مكان البيت
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 336، وكتاب السبعة لابن مجاهد 435.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 336، وهي قراءة الأعمش وحفص.(3/66)
مبوّءا، والوجه الثاني أن تكون اللام متعلقة بالمصدر مثل «ومن يرد فيه بإلحاد»، والوجه الثالث أن تكون اللام زائدة، وهذا قول الفراء (1). قال: مثل {رَدِفَ لَكُمْ}
[النمل: 72] {أَنْ لََا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} في «أن» ثلاثة أوجه: قال الكسائي: في المعنى «بأنّ لا»، والوجه الثاني أن تكون «أن» بمعنى أي مثل {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا}
[ص: 6]، والوجه الثالث تكون «أن» زائدة لتوكيد مثل {فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ}
[يوسف: 69] وفي قوله: {لََا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} وفي {وَأَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ} وما بينهما من المخاطبة ثلاثة أوجه كلّها عن العلماء: فأما قول المتقدّمين فإنّ هذا كلّه مخاطبة لإبراهيم عليه السلام. كما روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال لإبراهيم عليه السلام: {أَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ} فجعل لا يمرّ بقوم إلّا قال: إنه قد بني لكم بيت فحجوه فأجابه كل شيء من صخرة وشجرة وغيرها بلبّيك اللهمّ لبّيك. وروى حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنويّ عن أبي الطفيل قال:
قال ابن عباس: أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت: لا، قال: لمّا أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في الناس بالحجّ خفضت الجبال رؤوسها له، ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحجّ فأجابه كلّ شيء بلبيّك اللهمّ لبّيك، فهذا وجه. وقيل: {أَنْ لََا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطََّائِفِينَ} لإبراهيم عليه السلام. وتمّ الكلام. ثم خاطب الله جلّ وعزّ محمدا عليه السلام فقال: {وَأَذِّنْ فِي النََّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحجّ، والوجه الثالث أنّ هذا كله مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا قول أهل النظر لأن القرآن أنزل على النبيّ عليه السلام فكلّ ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يدلّ دليل قاطع على غير ذلك، وهاهنا دليل آخر يدلّ على أنّ المخاطبة للنبيّ عليه السلام وهو «أنّ لا تشرك» بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب. فالمعنى على هذا وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله جلّ وعزّ، وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده فلا تشرك بي شيئا، وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحجّ. قيل: المعنى أعلمهم أنك تحجّ حجّة الوداع ليحجّوا {يَأْتُوكَ رِجََالًا} نصب على الحال. {وَعَلى ََ كُلِّ ضََامِرٍ يَأْتِينَ} فيه ثلاثة أوجه: «يأتين» لأن معنى ضامر معنى ضوامر، فنعته بيأتين، وفي بعض القراءات يأتون (2) يكون للناس.
قال الفراء: ويجوز يأتي على اللفظ.
[سورة الحج (22): آية 29]
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وقرأ أهل الكوفة بإسكان باللام (3)، وهو وجه بعيد في
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 223.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 95، وهي قراءة ابن مسعود.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 224.(3/67)
العربية لأن ثمّ يوقف عليها، ولا يجوز أن يبتدأ بساكن وجوازه على بعد «ثمّ» عاطفة كالواو والفاء وفتحت الميم من ثمّ لالتقاء الساكنين، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها لأنها لا تنصرف. والتقدير في العربية: ثم ليقضوا أجل تفثهم، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}
[يوسف: 82] {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: كسر اللام على الأصل، وإسكانها لثقل الكسرة، والوجه الثالث أن عاصما قرأ {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (1).
[سورة الحج (22): آية 30]
{ذََلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمََاتِ اللََّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعََامُ إِلاََّ مََا يُتْلى ََ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)}
{ذََلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمََاتِ اللََّهِ} أي الأمر ذلك من الفروض والمعنى ومن يعظم عنده فعل الحرام تعظيما لله جلّ وعزّ وخوفا منه. {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ابتداء وخبر. {إِلََّا مََا يُتْلى ََ عَلَيْكُمْ} في موضع نصب على الاستثناء. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ} (من) عند النحويين لبيان الجنس إلّا أنّ الأخفش زعم أنها للتبعيض أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان أي عبادتها. وهو قول غريب حسن.
[سورة الحج (22): آية 31]
{حُنَفََاءَ لِلََّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكََانٍ سَحِيقٍ (31)}
{حُنَفََاءَ} نصب على الحال وكذا {غَيْرَ مُشْرِكِينَ}. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَكَأَنَّمََا خَرَّ مِنَ السَّمََاءِ} أي هو يوم القيامة لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه عذابا بمنزلة من خرّ من السماء فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه ما هو فيه {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي تقطّعه بمخالبها، ولا يمكن دفعها عن نفسه. وفي «تخطفه» ثلاثة أوجه سوى هذا. قرأ الأعرج {فَتَخْطَفُهُ} (2) بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء، وقرأ أبو رجاء {فَتَخْطَفُهُ} (3) بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء، وتروى هذه القراءة عن الحسن، والوجه الثالث يروى عن الحسن {فَتَخْطَفُهُ} بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء. فقراءة الأعرج الأصل فيها فتختطفه ثم أدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء. وقراءة أبي رجاء على أنه كسر الخاء لالتقاء الساكنين، والقراءة الآخرة على هذا إلّا أنه كسر التاء على لغة من قال: أنت تضرب. والسحيق: البعيد.
[سورة الحج (22): آية 32]
{ذََلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعََائِرَ اللََّهِ فَإِنَّهََا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 339، وهي قراءة شعبة أيضا، والجمهور مخفّفا.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 340، وهي قراءة نافع أيضا.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 340، وهي قراءة الحسن والأعمش أيضا.(3/68)
{ذََلِكَ} فيه ثلاثة أوجه: يكون في موضع رفع بالابتداء أي ذلك أمر الله جل وعزّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي اتّبعوا ذلك من أمر الله جلّ وعزّ في الحجّ. {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعََائِرَ اللََّهِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى ومن يعظّم ما أمر به في الحجّ. سمّي شعائر لأن الله جلّ وعزّ أشعر به أي أعلم به وتعظيمه إيّاه أن لا يعصي الله جلّ وعزّ فيه {فَإِنَّهََا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي من تقوى الإنسان ربّه بقلبه، وهو مجاز.
[سورة الحج (22): آية 34]
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنََا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلى ََ مََا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعََامِ فَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)}
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنََا مَنْسَكاً} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وقرأ الكوفيون إلّا عاصما {مَنْسَكاً} (1) بكسر السين. قال: وفي كتابي عن أبي إسحاق منسك بفتح السين مصدر بمعنى النّسك والنّسوك، ومنسك أي مكان نسك مثل مجلس. قال أبو جعفر: وهذا غلط قبيح إنما يكون هذا في فعل يفعل نحو جلس يجلس والمصدر مجلس والموضع مجلس فأما فعل يفعل فلا يكون منه مفعل اسما للمكان، ولا مصدرا إلّا أن يسمع شيء فيؤدّى على ما سمع، على أن الكثير من كلام العرب منسك، وهو القياس، والباب، ومنسك يقع في كلام العرب على ثلاثة أوجه: يكون مصدرا، ولظرف الزمان، ولظرف المكان. قال الفراء (2) المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شرّ. وقيل: مناسك الحج لترداد الناس إليها. {فَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وََاحِدٌ} أي لا تذكروا على ذبائحكم اسم غيره {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} عن أهل التفسير فيه ثلاثة أقوال:
قال عمرو بن أوس: المخبت الذي لا يظلم وإذا أظلم لم ينتصر. وقال الوليد بن عبد الله: المخبتون: المخلصون لله جلّ وعزّ. وقال مجاهد: هم المطمئنّون بأمر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: الخبت من الأرض: المكان المطمئنّ المنخفض، فاشتقاقه من هذا.
[سورة الحج (22): آية 35]
{الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصََّابِرِينَ عَلى ََ مََا أَصََابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاََةِ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
{الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أن يعصوه فيعاقبوا. {وَالصََّابِرِينَ عَلى ََ مََا أَصََابَهُمْ} أي يصبرون على الشدائد في الطاعة والنهي عن المنكر {وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ} فيه ثلاثة أوجه:
{وَالْمُقِيمِي الصَّلََاةِ} بالخفض على الإضافة وتحذف النون منها، ويجوز النصب مع
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 341، وكتاب السبعة لابن مجاهد 436.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 230.(3/69)
حذف النون لأن الألف واللام بمعنى الذي، هذا قول سيبويه (1). وقال أحمد بن يحيى: جاز النصب مع حذف النون يجريه مجرى الواحد لأنك في الواحد تنصبه فتقول: هو الآخذ درهما، والوجه الثالث في الكلام والمقيمين الصّلاة على الأصل.
[سورة الحج (22): آية 36]
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ لَكُمْ فِيهََا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلَيْهََا صَوََافَّ فَإِذََا وَجَبَتْ جُنُوبُهََا فَكُلُوا مِنْهََا وَأَطْعِمُوا الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذََلِكَ سَخَّرْنََاهََا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ} منصوبة بإضمار فعل مثل الثاني، وقرأ ابن أبي إسحاق والبدن (2) بضم الباء والدال، وكذا روي عن عيسى والحسن وأبي جعفر. وحكى الفراء أنه يقال للواحدة بدنة وبدن. قال أبو جعفر: فبدن وبدن مثل وثن ووثن، وبدن يقال: إنه جمع الجمع أي بدنة وبدان وبدن. فإن قال قائل: فلم صار بدنة وبدن أفصح، وخشبة وخشب أفصح، والوزن واحد؟ فالجواب أنّ بدنة في الأصل نعت من البدانة، وهي السمن، وخشية ليست بنعت والنعت أولى بالتسكين، وما ليس بنعت أولى بالحركة. ألا ترى إلى قولهم: خذلة وخذلات، وحلوة وحلوات، وجفنة وجفنات، وظلمة وظلمات. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللََّهِ عَلَيْهََا صَوََافَّ} فيه ثلاثة أوجه قد قرئ بها:
قراءة العامة {صَوََافَّ}، وعن الحسن والأعرج صوافي فإذا (3) جمع صافية، الخالصة. وعن عبد الله بن مسعود صوافن (4) جمع صافنة. قال الفراء (5): الصافنة القائمة، وحكى غيره أنها القائمة على ثلاث، وحكى أبو عبيدة أن الصافنة التي قد جمعت رجليها ورفعت سنبكها، وقال أبو عمر الجرمي: الصافن عرق في مقدّم الرجل فإذا ضرب على الفرس رفع رجليه {فَإِذََا وَجَبَتْ جُنُوبُهََا} قال مقسم عن ابن عباس قال:
فإذا وقعت على جنوبها.
[سورة الحج (22): آية 37]
{لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا وَلاََ دِمََاؤُهََا وَلََكِنْ يَنََالُهُ التَّقْوى ََ مِنْكُمْ كَذََلِكَ سَخَّرَهََا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللََّهَ عَلى ََ مََا هَدََاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
{لَنْ يَنََالَ اللََّهَ لُحُومُهََا} على تذكير الجمع، ويقال على تأنيث الجماعة {وَلََكِنْ يَنََالُهُ التَّقْوى ََ} لأن التّقوى والتّقى واحد، ويناله على لفظ التقوى. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أي الذين أحسنوا في أداء ما عليهم.
[سورة الحج (22): آية 39]
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللََّهَ عَلى ََ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 243.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 95، والبحر المحيط 6/ 342.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 342، ومعاني الفرّاء 2/ 226. ومختصر ابن خالويه 95.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 226.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 226.(3/70)
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه من القراءات: هذه التي ذكرناها قراءة أهل المدينة، وقرأ أبو عمرو وعاصم {أُذِنَ} (1) كما قرأ أهل المدينة وقرأ يقاتلون بكسر التاء، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما أذن (2) بفتح الهمزة والذين يقاتلون بكسر التاء والمعاني في هذا متقاربة لأنهم قد قاتلوا وقوتلوا إلّا أن قراءة أهل المدينة في هذا أصحّ معنى، وأبين من وجهين: أحدهما أنه قد صحّ عن ابن عباس أنها أول آية نزلت في القتال. قال أبو جعفر: كما حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حمّاد الطهرانيّ قال: أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم عن سعيد عن ابن عباس أنه يقرأها {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ} وقال: هي أول آية أنزلت في القتال.
قال الطهراني: لا أدري كيف القراءة فإذا كانت أول آية أنزلت في القتال فهم لم يقاتلوا بعد. فيبعد أن يكون {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ} وكان يقاتلون بيّنا، والجهة الأخرى أن بعده «بأنّهم ظلموا»، وبعده {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} فوجب أيضا أن يكون «يقاتلون» بأنهم ظلموا ولأنهم ظلموا واحد، كما تقول: جزيته ببغيه ولبغيه. قال أبو إسحاق: ولا يجوز: وأنّ الله على نصرهم لقدير. بفتح الهمزة لأن إنّ إذا كانت معها اللام لم يجز فتحها.
[سورة الحج (22): آية 40]
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاََّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللََّهُ وَلَوْلاََ دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوََاتٌ وَمَسََاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللََّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللََّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} في موضع خفض بدلا من الذين. {إِلََّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللََّهُ} في موضع نصب على مذهب سيبويه استثناء ليس من الأول، وقال الفراء (3): يجوز أن تكون «أن» في موضع خفض يقدّرها مردودة على الباء، وهو قول أبي إسحاق، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا بأن يقولوا: ربّنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم. أخرجهم أهل الأوثان. {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} روي عن أبي الدّرداء أنه قال: لولا أنّ الله جلّ وعزّ يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو لأراهم العذاب، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن الله جلّ وعزّ يدفع بأخذ الحقوق بالشهادات {لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوََاتٌ وَمَسََاجِدُ} ولم ينصرف، صوامع ومساجد، لأنهما جمعان، وهما نهاية الجموع فثقلا فمنعا الصّرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرفان أو ثلاثة. وقوله جلّ وعزّ {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللََّهِ كَثِيراً} الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 346.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 346، وكتاب السبعة لابن مجاهد 437.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 227.(3/71)
أن يكون يذكر فيها اسم الله عائدا على المساجد لا على غيرها لأن الضمير يليها، ويجوز أن يكون يعود على صوامع وما بعدها. ويكون المعنى: في وقت شرائعهم وإقامتهم الحدود والحقّ.
[سورة الحج (22): الآيات 41الى 42]
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقََامُوا الصَّلاََةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلََّهِ عََاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ وَثَمُودُ (42)}
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} قال أبو إسحاق: {الَّذِينَ} في موضع نصب ردا على «من» يعني في «ولينصرنّ الله من ينصره»، وقال غيره: «الذين» في موضع خفض ردّا على قوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ}، ويكون {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} لأربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يمكّن في الأرض غيرهم من الذين قيل فيهم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقََاتَلُونَ} وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبهذه الآية يحتجّ في إمامة أبي بكر وعمر وغيرها من الآي. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (1) ما في {وَثَمُودُ} من الصّرف وتركه.
[سورة الحج (22): آية 45]
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} قال الضحاك: أي متروكة، وقرأ الجحدري {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} (2)
وإن المعنى واحد، وفي هذا أعظم الموعظة. وعظهم الله جلّ وعزّ بقوم قد أهلكوا وبقيت آثارهم يعرفونها. قال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أتهمز البئر والذئب فقال: إذا كانت العرب تهمزها فأهمزها، وأكثر الروايات عن نافع بهمزهما إلّا ورشا فإنّ روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. قال أحمد بن يحيى: الذئب مشتقّ من تذاءبت الريح، إذا جاءت من وجوه كثيرة، وكذلك الذئب. قال أبو جعفر: فإذا حذفت الهمزة، وهي ساكنة لم يكن بعد السكون إلّا قلبها إلى ما أشبه ما قبلها. والفراء يذهب إلى أن «وبئر» معطوفة على عروضها، وأبو إسحاق يذهب إلى أنها معطوفة من «قرية» أي ومن بئر، ثم قال: «أخذتها وإلى المصير». قال أبو إسحاق: أي بالعذاب، ثم حذف لأن قبله ما يدلّ عليه {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ}.
[سورة الحج (22): آية 52]
{وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاََ نَبِيٍّ إِلاََّ إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللََّهُ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
هذه آية مشكلة من جهتين: إحداهما أن قوما يرون أن الأنبياء فيهم مرسلون وغير
__________
(1) مرّ في إعراب الآية 73من سورة الأعراف.
(2) وهذه قراءة الحسن وجماعة أيضا، مخفّفة، انظر البحر المحيط 6/ 348، ومختصر ابن خالويه 96.(3/72)
مرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال: نبيّ حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ} فأوجب للنبيّ الرسالة. وإنّ معنى نبيّ أنبأ عن الله جلّ وعزّ، ومعنى أنبأ عن الله جلّ وعزّ هو الإرسال بعينه. والجهة الأخرى التي فيها الإشكال الحديث المروي. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه بإسناده وهو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ: «أفرأيتم اللات والعزّى فإنّ شفاعتهم ترتجى» (1) وسها كذا في رواية الزّهري، وفي رواية غيره «فإنهن الغرانيق العلى». قال أبو جعفر: وهذا يجب أن يوقف على معناه من جهة الدين لطعن من طعن فيه من الملحدين. فأول ذلك أنّ الحديث ليس بمتصل الإسناد، ولو اتّصل إسناده وصحّ لكان المعنى فيه صحيحا. فأما معنى «وسها» فإنّ معناه وأسقط. ويكون تقديره {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى} وتمّ الكلام، ثمّ أسقط والغرانيق العلى، يعني الملائكة فإن شفاعتهم، يعود الضمير على الملائكة. فأمّا من روى «فإنّهنّ الغرانيق العلى» ففي روايته أجوبة عنها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا لأن قبله أفرأيتم فيكون هذا احتجاجا عليهم. فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة، ويجوز أن يكون الضمير للملائكة كما يضمر ما يعرف معناه فينسخ الله جلّ وعزّ ذلك لما فيه من الصلاح. والذي فيه من الصلاح إزالة التمويه أن يموّه على قوم فيقال لهم: هذا الضمير للّات والعزّى، فأنزل الله جلّ وعزّ {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ} وفي الآية قولان آخران: أحدهما أن يكون المعنى لمّا تلا {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى} قال رجل ألقى الشيطان على لسانه: فإنهنّ الغرانيق العلى، والقول الآخر أنّ علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله الله جلّ وعزّ:
{إِلََّا إِذََا تَمَنََّى} قال: إذا تحدّث ألقى الرداءة الشيطان في أمنيته، قال: في حديثه {فَيَنْسَخُ اللََّهُ مََا يُلْقِي الشَّيْطََانُ} قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجلّه. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التّفسير رواها عليّ بن أبي طلحة لو رحل فيها رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا.
والمعنى عليه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول له: لو سألت الله جلّ وعزّ أن يغنّمك كذا ليتّسع المسلمون، ويعلم الله جلّ وعزّ الصّلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان، كما قال ابن عباس وحكى الكسائي والفراء (2) جميعا تمنّى إذا حدّث نفسه. وهذا هو المعروف في اللغة. وقد حكيا أيضا تمنّى إذا تلا، وروي ذلك عن الضحاك.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 12/ 80.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 229.(3/73)
[سورة الحج (22): آية 55]
{وَلاََ يَزََالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتََّى تَأْتِيَهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذََابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}
وحكى أبو عبد الرحمن السلمي {فِي مِرْيَةٍ} بضم الميم والكسر أعرف {حَتََّى تَأْتِيَهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً} قال محمد بن يزيد: هو مصدر في موضع الحال {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذََابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} سمّي يوم القيامة عقيما لأنّه ليس يعقب بعده يوما مثله.
[سورة الحج (22): آية 63]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللََّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}
فتصبح ليس بجواب وإنما هو خبر عند الخليل رحمه الله. قال الخليل: المعنى انتبه أنزل من السماء ماءا فكان كذا وكذا كما قال: [الطويل] 304 ألم تسأل الرّبع القوّاء فينطق ... وهل تخيرنك اليوم بيداء سملق (1)
وقال الفراء (2): «ألم تر» خبر، كما تقول في الكلام: اعلم أنّ الله تبارك وتعالى ينزل من السماء ماءا فتصبح الأرض مخضرة.
[سورة الحج (22): آية 65]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمََاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاََّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللََّهَ بِالنََّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)}
{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} وسخر الفلك، ويجوز أن يكون المعنى وأنّ الفلك، ويجوز الرفع على الابتداء {وَيُمْسِكُ السَّمََاءَ أَنْ تَقَعَ} في موضع نصب أي ويمسك السماء كراهة أن تقع على الأرض.
[سورة الحج (22): آية 72]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكََادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيََاتِنََا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكُمُ النََّارُ وَعَدَهَا اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكُمُ النََّارُ} فيها ثلاثة أوجه: الرفع بمعنى هو النار أو هي
__________
(1) الشاهد لجميل بثينة في ديوانه 137، والأغاني 8/ 146، وخزانة الأدب 8/ 524، والدرر 4/ 81، وشرح أبيات سيبويه 2/ 201، وشرح التصريح 2/ 240، وشرح شواهد المغني 1/ 474، وشرح المفصّل 7/ 36، ولسان العرب (سملق)، والمقاصد النحوية 4/ 403، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 185، والجنى الداني ص 76، والدرر 6/ 86، والردّ على النحاة ص 127، والكتاب 3/ 37، ورصف المباني ص 378، ولسان العرب (حدب) ومغني اللبيب 1/ 168، وهمع الهوامع 2/ 11.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 229.(3/74)
النار، والخفض على البدل، والنصب فيه ثلاثة أوجه: يكون بمعنى أعني، وعلى إضمار فعل مثل الثاني، ويكون محمولا على المعنى أي أعرّفكم بشرّ من ذلكم النار.
[سورة الحج (22): آية 73]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبََابُ شَيْئاً لاََ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى ضرب لله جلّ وعزّ مما يعبد من دونه مثل.
[سورة الحج (22): آية 78]
{وَجََاهِدُوا فِي اللََّهِ حَقَّ جِهََادِهِ هُوَ اجْتَبََاكُمْ وَمََا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هََذََا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللََّهِ هُوَ مَوْلاََكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى ََ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
{وَجََاهِدُوا فِي اللََّهِ حَقَّ جِهََادِهِ} قال أبو إسحاق: قيل: إن هذا منسوخ. قال: وكذا {اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ} [آل عمران: 102] قال أبو جعفر: وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح عن أبي هاني الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «المجاهد من جاهد نفسه لله جلّ وعزّ» (1)، وكما روى أبو طالب عن أبي أسامة أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي الجهاد أفضل عند الجمرة الأولى؟ فلم يجبه ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة فقال عليه السلام: أين السائل؟ فقال: أنا ذا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلمة عدل عند سلطان جائر» (2). {هُوَ اجْتَبََاكُمْ} فدلّ بهذا على فضل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الردّ على من يتنقّصهم لأنه جلّ وعز اختارهم لنصرة نبيّه عليه السلام. {وَمََا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} في موضع نصب و (من) زائدة للتوكيد. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرََاهِيمَ} قال الفراء (3): أي كملّة أبيكم، فإذا ألقيت الكاف نصبت أي وسّع عليكم كملّة أبيكم. قال:
وإن شئت نصبت على الأمر. قال أبو إسحاق: المعنى اتّبعوا ملّة أبيكم. قال: {هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} يجوز أن يكون لإبراهيم عليه السلام أي سماكم المسلمين فيما تقدّم
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه الحديث (4011)، وأبو داود في سننه الحديث (4344)، والترمذي في سننه 9/ 19.
(2) أخرجه الترمذي في سننه 9/ 19، وابن ماجة في سننه حديث (4011).
(3) انظر معاني الفراء 2/ 231.(3/75)
{وَفِي هََذََا} أي وفي حكمه أنّ من اتّبع محمدا صلّى الله عليه وسلّم موحد فقد سمّاكم المسلمين. قال أبو جعفر: هذا القول مخالف لقول العلماء الأئمة. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو سمّاكم المسلمين، قال: الله جلّ وعزّ، وكذا روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وروى ابن نجيح عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ: {هُوَ سَمََّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال: سمّاكم المسلمين من قبل الكتب والذكر، وفي هذا القرآن. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي بتبليغه إياكم.
وبإجابتكم إياه {وَتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ} بتبليغكم إياهم وبما ترون منهم {وَاعْتَصِمُوا بِاللََّهِ} قيل: أي امتنعوا بما أعطاكم من القوة وانبساط اليد من المعاصي.
{هُوَ مَوْلََاكُمْ} أي وليّ نعمكم، ووليّ ما تحتاجون إليه في حياتكم. ولهذا كره أن يقال للإنسان: يا مولاي من هذه الجهة، ويقول: هذا عبدي، أو أمتي. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ولكن ليقل فتاي أو فتاتي. {فَنِعْمَ الْمَوْلى ََ} أي فنعم الوليّ لكم لأنه يريد بكم الخير {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لمن أطاعه.(3/76)
23 - شرح إعراب سورة المؤمنين
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة المؤمنون (23): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)}
ومن قرأ (قد أفلح) ألقى حركة الهمزة على الدال وحذف الهمزة لأن الدال كانت ساكنة، وإذا خفّفت الهمزة قربت من الساكنين، فحذفت الهمزة لهذا ثم ألقيت حركتها على الدال.
[سورة المؤمنون (23): آية 2]
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاََتِهِمْ خََاشِعُونَ (2)}
{الَّذِينَ} في موضع رفعت نعت للمؤمنين {هُمْ فِي صَلََاتِهِمْ خََاشِعُونَ} مبتدأ وخبره داخلون في الصلة، وكذلك ما بعده.
[سورة المؤمنون (23): آية 3]
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)}
قال الضحاك: اللّغو الشرك. قال أبو جعفر: اللّغو في اللغة ما يجب أن يلغى أي يطرح. ومن أحسن ما قيل فيه قول الحسن: إنها المعاصي كلّها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال: هو الشرك. وقول من قال: هو الغناء. كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنذر أنّ الله جلّ وعزّ يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين، أدخلوهم في رياض المسك ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي، وأخبرهم أن {لََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} *.
[سورة المؤمنون (23): آية 4]
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ (4)}
فمدح الله جلّ وعزّ ومن أخرج من ماله الزكاة وإن لم يخرج منه غيرها. فكأن الذين يكنزون الذهب والفضة هم الذين لا يخرجون الزكاة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 5الى 6]
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ (5) إِلاََّ عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)}(3/77)
قال الفراء (1): أي إلّا من أزواجهم اللاتي أحلّ الله جلّ وعزّ لهم الأربع لا تجاوز. {أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ} في موضع خفض معطوفة على أزواجهم و «ما» مصدر.
[سورة المؤمنون (23): آية 7]
{فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ (7)}
وقد أخبر جلّ وعزّ أنه لا يحبّ المعتدين، وإذا لم يحبّهم أبغضهم وعاداهم لا واسطة في ذلك.
[سورة المؤمنون (23): آية 8]
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ (8)}
وقرأ المكّيّون (لأمانتهم) (2) على واحدة. قال أبو جعفر: أمانة مصدر يؤدي عن الواحد والجمع، فإذا أردت اختلاف الأنواع جاز الجمع والتوحيد إلّا أن الجمع هاهنا حسن لأن الله جل وعز قد ائتمن العباد على أشياء كثيرة منها الوضوء وغسل الجنابة والصلاة والصيام وغيرهن. فأما احتجاج أبي عبيد في اختياره لأماناتهم بقوله: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} [النساء: 58] فمردود لا يشبهه هذا لأن الأمانات هاهنا هو الشيء بعينه بمنزلة الودائع، وليس مثل ذلك. ألا ترى أن بعده {وَعَهْدِهِمْ} ولم يقل وعهودهم فالجمع والتوحيد جائزان.
[سورة المؤمنون (23): آية 10]
{أُولََئِكَ هُمُ الْوََارِثُونَ (10)}
{أُولََئِكَ} مبتدأ «هم» مبتدأ ثان، وإن شئت كانت فاصلة. {الْوََارِثُونَ} على أن قوله «هم» فاصلة خبر «أولئك»، وعلى القول الآخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر «أولئك» وروى الزّهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (3) إلى عشر آيات. قال أبو جعفر: معنى «من أقامهنّ» من قام عليهنّ ولم يخالف ما فيهنّ، وأدّاه، كما تقول: فلان يقوم بعمله، ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الصوم والحجّ فدخل معهن.
والذين قرءوا «لأماناتهم» قرءوا {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً} إلّا عاصما فإنه قرأ فخلقنا المضغة عظما (4) فكسونا العظام لحما، وكذا قرأ الأعرج وقتادة وعبد الله بن عامر. والقراءة الأولى حسنة بيّنة لأن المضغة تفترق فتكون عظاما
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 231.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444، والبحر المحيط 6/ 367.
(3) أخرجه الترمذي في سننه التفسير 12/ 35.
(4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444.(3/78)
فالجمع في هذا أبين والتوحيد جائز يكون يؤدي عن الجمع، وقال أبو إسحاق في العلة في جوازه لأنه قد علم أن الإنسان ذو عظام، واختار أبو عبيد الجمع واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا} [البقرة: 259] أي لأنهم قد أجمعوا على هذا. وهذا التشبيه غلط لأن المضغة لمّا كانت تفترق عظاما كان كلّ جزء منها عظما فكل واحد منها يؤدي عن صاحبه فليس كذا «وانظر إلى العظام» لأن هذا إشارة إلى جمع، فإن ذكرت واحدا كانت الإشارة إلى واحد. {ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ} مجاز، و {خَلْقاً} مصدر لأنّ معنى أنشأناه خلقناه، واحد الطرائق طريقة.
[سورة المؤمنون (23): آية 20]
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنََاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}
{وَشَجَرَةً} معطوف على {جَنََّاتٍ} [آية: 19]، وأجاز الفراء الرفع (1) لأنه لم يظهر الفعل بمعنى «وثمّ شجرة» {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنََاءَ} بفتح السين قراءة الكوفيين على وزن فعلاء. وفعلاء في الكلام كثير يمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة لأن في آخرها ألف التأنيث وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء ولكن من قرأ (سيناء) (2) بكسر السين جعله فعلالا، ومنعه من الصرف على أنه للبقعة وقال الأخفش: هو اسم عجمي. وقد ذكرنا (3) تنبت وتنبت.
[سورة المؤمنون (23): آية 29]
{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبََارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}
مصدر، ومنزلا بفتح الميم بمعنى اجعل لي منزلا. قال أبو إسحاق: ومن قرأ {مُنْزَلًا} (4) بفتح الميم والزاي جعله مصدرا من نزل نزولا منزلا.
[سورة المؤمنون (23): آية 33]
{وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقََاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنََاهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا مََا هََذََا إِلاََّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمََّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمََّا تَشْرَبُونَ (33)}
وزعم الفراء (5) أن معنى {وَيَشْرَبُ مِمََّا تَشْرَبُونَ} على حذف «منه» أي ويشرب مما تشربون منه. وذا لا يجوز عند البصريين فلا يحتاج إلى حذف البتّة لأن «ما» إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد فإن جعلتها بمعنى الّذي وحذفت المفعول، ولم يحتج إلى إضمار من. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذََا مِتُّمْ} (6) بما لا يحتاج إلى زيادة.
[سورة المؤمنون (23): آية 36]
{هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ لِمََا تُوعَدُونَ (36)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 233.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444، والبحر المحيط 6/ 371.
(3) انظر إعراب الآية 37، آل عمران.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 372.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 234.
(6) مرّ في إعراب الآية 157آل عمران.(3/79)
قرئت على ثلاثة أوجه. قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة {هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ} مفتوحة غير منوّنة إلّا أبا جعفر فإنه قرأ {هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ} (1) مكسورة غير منونة، وقرأ عيسى بن عمر {هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ} (2) مكسورة منونة. فهذه ثلاثة قراءات. قال أبو جعفر ويجوز {هَيْهََاتَ هَيْهََاتَ} (3) مفتوحة منوّنة. قال الكسائي: وناس من العرب كثير يقولون: أيهات (4) يعني أنهم يبدلون من الهاء همزة، ويجوز فيها ما جاز في هيهات من اللغات. قال أبو جعفر: من قال هيهات هيهات لما توعدون وقف بالهاء عند سيبويه والكسائي (5) لا غير لأنها واحدة، وبنيت على الفتح وموضعها رفع لأن المعنى البعد لأنها لم يشتقّ منها فعل فهي بمنزلة الحروف فاختير لها الفتح لأنّ فيها هاء التأنيث فهي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم كخمسة عشر، وزعم الفراء أن الوقف عليها بالياء ومن كسر وقف بالتاء عند الجماعة نوّن أو لم ينوّن لأنها جمع كبيضات، واحدها هيهة كبيضة ونصب الجميع كخفضه. والتنوين فيه قولان: أحدهما أن التنوين في جمع المؤنّث لازم، والآخر أن فرق بين المعرفة والنكرة، ولهذا حذف من حذف على أنه جعلها معرفة، ويقال: هيهات لما قلت، وهيهات ما قلت أي البعد لما قلت، والبعيد ما قلت.
[سورة المؤمنون (23): آية 40]
{قََالَ عَمََّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نََادِمِينَ (40)}
{قََالَ عَمََّا قَلِيلٍ} ما زائدة مؤكّدة عند البصريين.
[سورة المؤمنون (23): آية 44]
{ثُمَّ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا تَتْرََا كُلَّ مََا جََاءَ أُمَّةً رَسُولُهََا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنََا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاََ يُؤْمِنُونَ (44)}
{ثُمَّ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا تَتْرََا} فيه ثلاثة أوجه: قرأ الكوفيون ونافع والحسن وابن محيصن {تَتْرََا} (6) بغير تنوين، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والأعرج {تَتْرََا} (7) منوّنة ويجوز {تَتْرََا} (8) بكسر التاء الأولى موضعها نصب على المصدر لأن معنى «ثم أرسلنا» ثم واترنا، ويجوز أن يكون موضع الحال أي مواترين. قال الأصمعي: واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا إلّا أن بين كلّ واحد منها وبين الآخر مهلة، وقال غيره من أهل اللغة: المواترة التتابع بلا مهلة. قال أبو جعفر: من قرأ تترى بلا تنوين وجعلها فعلى مثل سكرى، ومن نون جعل الألف للنصب كما تقول: رأيت زيدا يا هذا، والتاء في القراءتين جميعا مبدلة من واو كما يقال: تالله والله. وهو من واترت واشتقاقه من الوتر
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 236.
(6) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446.
(7) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446.
(8) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446.(3/80)
والوتر. {وَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ} يتحدّث بخبرهم ويتعجّب منه ويعتبر به {فَبُعْداً} مصدر أي أبعدهم الله جلّ وعزّ من ثواب الآخرة.
[سورة المؤمنون (23): آية 50]
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنََاهُمََا إِلى ََ رَبْوَةٍ ذََاتِ قَرََارٍ وَمَعِينٍ (50)}
{وَآوَيْنََاهُمََا إِلى ََ رَبْوَةٍ} ويقال: بالكسر والفتح، ويقال في معناها رباوة (1)، وقرأ بها ابن أبي إسحاق ويقال: رباوة (2) ورباوة (3) بالفتح والكسر. وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس رحمه الله. قال: نبئت أنها دمشق لأن قوله نبئت يدلّ على أنه توقيف.
[سورة المؤمنون (23): آية 51]
{يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}
{يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ} نعت لأي. {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ} قال الحسن: أي من الحلال ويدلّ على هذا ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين» فقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ} [البقرة: 172] وقال: «يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات».
[سورة المؤمنون (23): آية 52]
{وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)}
{وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} في هذا ثلاثة أوجه من القراءات: قرأ المدنيون وأبو عمرو {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} (4) بفتح الهمزة ونصب أمة واحدة، وقرأ الكوفيون بكسر الهمزة ونصب أمة واحدة أيضا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} برفع كلّ شيء ففي فتح الهمزة ثلاثة أقوال: فقول البصريين أن المعنى:
ولأنّ وحذفت اللام، وأن في موضع نصب، وقول الكسائي وهو أحد قولي الفراء (5) أنّ في موضع خفض نسقا على «ما تعملون» أي إني بما تعملون عليم وبأنّ هذه أمتكم، والقول الثالث قول الفراء (6): إنّها في موضع نصب على إضمار فعل، والتقدير:
واعلموا أنّ هذه أمتكم وكسر الهمزة عنده على الاستئناف، وعند الكسائي أنها نسق على أني بما تعملون عليم. {أُمَّةً وََاحِدَةً} نصب على الحال. والرفع من ثلاثة أوجه:
على إضمار مبتدأ، وعلى البدل، وعلى خبر بعد خبر.
[سورة المؤمنون (23): آية 53]
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)}
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} نصب على الحال، والمعنى مثل زبر. {كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كلّ فريق يظنّ أنه على الحق، فهو فرح بما هو عليه وعليه أن يبيّن الحق لأنّه
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98.
(4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 446.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 237.
(6) انظر معاني الفراء 2/ 237.(3/81)
ظاهر. وقيل: كلّ حزب بما لديهم فرحون أي بما هم فيه من اللذات وطلب الرئاسة.
[سورة المؤمنون (23): آية 54]
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتََّى حِينٍ (54)}
{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي فيما غطّى عليهم من حبّ الدنيا والتواني عن الموت وعن أمر الآخرة. وقيل: في غمرتهم أي فيما غمرهم من الجهل. قال أبو إسحاق: {حَتََّى حِينٍ} إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به من العذاب.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 55الى 56]
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمََا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مََالٍ وَبَنِينَ (55) نُسََارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرََاتِ بَلْ لاََ يَشْعُرُونَ (56)}
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمََا نُمِدُّهُمْ بِهِ} «ما» بمعنى الذي، وفي خبر أن ثلاثة أقوال: منها أنه محذوف، وقال أبو إسحاق: المعنى نسارع لهم به، وحذفت به، وقال هشام قولا دقيقا قال: «ما» هي الخيرات، وليس في الكلام حذف لأن معنى في الخيرات فيه، وهذا قول بعيد ومثله: إنّ زيدا تكلّم عمرو في زيد، والأجود تكلّم عمرو فيه، وقد أجاز مثله سيبويه، وأنشد: [الخفيف] 305 لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (1)
ومن قرأ يسارع لهم في الخيرات (2) ففي قراءته ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به، ويجوز أن يكون التقدير يسارع الأمداد، ويجوز أن يكون «لهم» اسم ما لم يسمّ فاعله.
[سورة المؤمنون (23): آية 57]
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)}
خبر أن.
[سورة المؤمنون (23): آية 61]
{أُولََئِكَ يُسََارِعُونَ فِي الْخَيْرََاتِ وَهُمْ لَهََا سََابِقُونَ (61)}
{أُولََئِكَ يُسََارِعُونَ فِي الْخَيْرََاتِ} أي في عمل الخيرات أي الطاعات. قال أبو إسحاق:
يسارعون أبلغ من يسرعون. {وَهُمْ لَهََا سََابِقُونَ} أحسن ما قيل فيه أنهم يسبقون إلى أوقاتها، ودلّ أنّ الصلاة في أول الوقت أفضل، وكلّ من تقدّم في شيء فقد سابق إليه، وكلّ من تأخر عنه فقد سبقه وفاته.
[سورة المؤمنون (23): آية 62]
{وَلاََ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاََّ وُسْعَهََا وَلَدَيْنََا كِتََابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُونَ (62)}
{وَلَدَيْنََا كِتََابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} قيل: يعني به الكتاب الذي كتب فيه أعمال الخلق عند الملائكة محتفظ به.
[سورة المؤمنون (23): آية 63]
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هََذََا وَلَهُمْ أَعْمََالٌ مِنْ دُونِ ذََلِكَ هُمْ لَهََا عََامِلُونَ (63)}
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (70).
(2) انظر البحر المحيط 6/ 379.(3/82)
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هََذََا} قال أبو إسحاق: أي بل قلوبهم في عماية من هذا وقيل: بل قلوبهم في غمرة من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم فيه محصاة.
[سورة المؤمنون (23): آية 67]
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سََامِراً تَهْجُرُونَ (67)}
وهذه قراءة حسنة مشاكلة لأول القصّة لأن في القصة ذكر نكوصهم على أعقابهم فيشبه هذا أنهم هجروا النبي صلّى الله عليه وسلّم والكتاب. وقال الكسائي: {تَهْجُرُونَ} تهذون. قال أبو جعفر: يقال: هجر المحموم إذا غلب على عقله فهذي، فيكون معنى الآية والله أعلم أنكم تتكلّمون في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لا يضرّه وبما ليس فيه فأنتم كمن يهذي.
ويقال: ما زال ذاك إهجيراه وهجيراه أي عادته كأنه يهذي به حتى صار له عادة.
[سورة المؤمنون (23): آية 69]
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا} هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون الخير أحبّ إليك أم الشرّ، أي قد اخترت الشرّ.
[سورة المؤمنون (23): آية 71]
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوََاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمََاوََاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنََاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}
أهل التفسير مجاهد وأبو صالح وغيرهما يقولون: «الحقّ» هاهنا الله جلّ وعزّ. وتقديره في العربية: ولو اتّبع صاحب الحقّ، وقد قيل: هو مجاز أي لو وافق الحقّ أهواءهم فجعل موافقته اتّباعا مجازا أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله جلّ وعزّ ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إمّا عجزا وإمّا جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل: المعنى لو كان الحقّ فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتنافست الآلهة وأراد بعضهم ما لا يريد بعض فاضطرب التدبير، وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما.
[سورة المؤمنون (23): آية 72]
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرََاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ (72)}
قال الأخفش: الخرج واحد إلّا أنّ اختلاف الكلام أحسن. وقال أبو حاتم:
الخرج الجعل والخراج العطاء، وقول محمد بن يزيد: الخرج المصدر، والخراج الاسم، والمعنى أم تسألهم رزقا، فرزق ربّك خير وهو خير الرازقين أي ليس أحد يرزق مثل رزقه ولا ينعم مثل إنعامه.
[سورة المؤمنون (23): آية 73]
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)}
أي إلى دين مستقيم، والصراط في اللغة الطريق فسمّي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة أي فهو طريق إليها.(3/83)
[سورة المؤمنون (23): آية 74]
{وَإِنَّ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرََاطِ لَنََاكِبُونَ (74)}
قيل: هل مثل الأول أي عن الدين، وقيل: إنهم عن طريق الجنة لعادلون حتى يصيروا إلى النار.
[سورة المؤمنون (23): آية 75]
{وَلَوْ رَحِمْنََاهُمْ وَكَشَفْنََا مََا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}
{وَلَوْ رَحِمْنََاهُمْ وَكَشَفْنََا مََا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحنّاهم. {لَلَجُّوا فِي طُغْيََانِهِمْ} قال السّدّي: أي في معصيتهم. {يَعْمَهُونَ}. قال الأخفش: يترددون.
[سورة المؤمنون (23): آية 76]
{وَلَقَدْ أَخَذْنََاهُمْ بِالْعَذََابِ فَمَا اسْتَكََانُوا لِرَبِّهِمْ وَمََا يَتَضَرَّعُونَ (76)}
{وَلَقَدْ أَخَذْنََاهُمْ بِالْعَذََابِ} قال الضحاك: أي بالجوع.
[سورة المؤمنون (23): آية 77]
{حَتََّى إِذََا فَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بََاباً ذََا عَذََابٍ شَدِيدٍ إِذََا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)}
{حَتََّى إِذََا فَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بََاباً ذََا عَذََابٍ شَدِيدٍ} قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم كالحدأ أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه الله عليهم.
قل لله وقل الله (1) قد ذكرناه بما لا يحتاج إلى زيادة.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 91الى 92]
{مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ وَلَعَلاََ بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ سُبْحََانَ اللََّهِ عَمََّا يَصِفُونَ (91) عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ فَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ (92)}
{عََالِمِ الْغَيْبِ}، قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة على إضمار مبتدأ، وقراءة أبي عمرو {عََالِمِ الْغَيْبِ} (2) بالخفض على النعت لله جلّ وعزّ وأكثر النحويين الكوفيين والبصريين يذهبون إلى أن الرفع أولى. فحجّة البصريين أنّ قبله رأس آية وقد تمّ الكلام فالابتداء أحسن، وحجّة الكوفيين منهم الفراء (3) أن الرفع أولى قال: لأنه لو كان مخفوضا لكان بالواو فكان يكون عالم الغيب وتعالى، فلما كان «فتعالى» كان الرفع أولى.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 93الى 94]
{قُلْ رَبِّ إِمََّا تُرِيَنِّي مََا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلاََ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (94)}
قال أبو إسحاق: ويجوز «ربّ» بضم الباء، ويجوز «ربّي» بإسكان الياء وفتحها.
و «إنّ» هاهنا للشرط و «ما» زائدة للتوكيد فلمّا زيدت «ما» حسن دخول النون للتوكيد،
__________
(1) يشير إلى الآيات 85، و 87و 89من السورة.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 386.
(3) انظر معاني الفراء 121.(3/84)
وجواب الشرط {فَلََا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم.
[سورة المؤمنون (23): آية 96]
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَصِفُونَ (96)}
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال الحسن البصري: والله لا يصيبها أحد حتّى يكظم غيظا ويصبر على مكروه.
[سورة المؤمنون (23): آية 97]
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزََاتِ الشَّيََاطِينِ (97)}
قال عبد الله بن مسعود: وبعضهم يرفعه همزه الموتة. والموتة: ضرب من الجنون. وجمعت همزة وهي ساكنة على همزات فرقا بين الاسم والنعت.
[سورة المؤمنون (23): آية 99]
{حَتََّى إِذََا جََاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قََالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)}
وقد يكون القول في النفس قال جلّ وعزّ: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ}
[المجادلة: 8] فأمّا قوله: {ارْجِعُونِ} وهو يخاطب ربّه جلّ وعزّ ولم يقل: ارجعني ففيه قولان للنّحويّين: أحدهما أنّ العرب تتعارف أن الجبار إذا أخبر عن نفسه قال:
لنفعلنّ ولنرجعنّ فإذا خوطب كانت مخاطبته مخاطبة الجميع فيقال له: برّونا وأرجعونا فجاءت هذه الآية بهذا، والقول الآخر: إن معنى ارجعون على جهة التكرير ارجعن ارجعن ارجعن، وهكذا قال المازني في قوله جلّ وعزّ: {أَلْقِيََا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال معناه ألق ألق.
[سورة المؤمنون (23): آية 100]
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صََالِحاً فِيمََا تَرَكْتُ كَلاََّ إِنَّهََا كَلِمَةٌ هُوَ قََائِلُهََا وَمِنْ وَرََائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
{وَمِنْ وَرََائِهِمْ بَرْزَخٌ} البرزخ في اللغة كل حاجز بين شيئين فالبرزخ بين الدنيا والآخرة كما روي أن رجلا قال بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا قد صار من أهل الآخرة قال: لم يصر من أهل الآخرة ولكن صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضفت يوما إلى يبعثون لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر، وقال أبو إسحاق: حقيقته الحكاية.
[سورة المؤمنون (23): آية 101]
{فَإِذََا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاََ أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاََ يَتَسََاءَلُونَ (101)}
في معناه قولان: أحدهما قول ابن عباس: أنهم في وقت لا يتساءلون. ويوم في اللغة بمعنى وقت معروف. والقول الآخر أبين من هذا: يكون معنى {فَلََا أَنْسََابَ بَيْنَهُمْ} أنّهم لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة، ولا يتساءلون بها كما كانوا في الدنيا يفعلون.(3/85)
[سورة المؤمنون (23): آية 104]
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النََّارُ وَهُمْ فِيهََا كََالِحُونَ (104)}
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النََّارُ} ويقال: «تنفح» في معنا إلّا أن «تلفح» أبلغ بأسا. {وَهُمْ فِيهََا كََالِحُونَ} ابتداء وخبر، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. والكالح في كلام العرب الذي قد تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه كما ترى رؤوس الغنم. وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم التوقيف بمعنى هذا قال: «تحرق واحدهم النار فتقلص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته» (1).
[سورة المؤمنون (23): الآيات 106الى 107]
{قََالُوا رَبَّنََا غَلَبَتْ عَلَيْنََا شِقْوَتُنََا وَكُنََّا قَوْماً ضََالِّينَ (106) رَبَّنََا أَخْرِجْنََا مِنْهََا فَإِنْ عُدْنََا فَإِنََّا ظََالِمُونَ (107)}
{قََالُوا رَبَّنََا غَلَبَتْ عَلَيْنََا شِقْوَتُنََا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلا عاصما شقاوتنا (2) وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقا وشقاء بالقصر والمدّ. وأحسن ما قيل في معناه والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها، كما قال جلّ وعزّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوََالَ الْيَتََامى ََ ظُلْماً إِنَّمََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نََاراً}
[النساء: 10] لأن ذلك يؤديهم إلى النار {وَكُنََّا قَوْماً ضََالِّينَ} أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذارا منهم إنّما هو إقرار ويدل على ذلك {رَبَّنََا أَخْرِجْنََا مِنْهََا فَإِنْ عُدْنََا فَإِنََّا ظََالِمُونَ}.
[سورة المؤمنون (23): آية 108]
{قََالَ اخْسَؤُا فِيهََا وَلاََ تُكَلِّمُونِ (108)}
{قََالَ اخْسَؤُا فِيهََا} والمصدر خسء في اللازم والمتعدّي على فعل.
[سورة المؤمنون (23): آية 109]
{إِنَّهُ كََانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبََادِي يَقُولُونَ رَبَّنََا آمَنََّا فَاغْفِرْ لَنََا وَارْحَمْنََا وَأَنْتَ خَيْرُ الرََّاحِمِينَ (109)}
{إِنَّهُ كََانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبََادِي يَقُولُونَ رَبَّنََا آمَنََّا} قال مجاهد: هم بلال وخبّاب وصهيب وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزئون بهم.
[سورة المؤمنون (23): آية 110]
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتََّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)}
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} بالكسر والضم. وفرق أبو عمرو بينهما فجعل المكسورة من جهة التهزّؤ، والمضمومة من جهة السّخرة. ولا يعرف هذا التفريق الخليل وسيبويه رحمهما الله، ولا الكسائي ولا الفراء (3). قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد كما
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، صفة الجنة 10/ 56.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 389، وكتاب السبعة لابن مجاهد 448.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 243.(3/86)
يقال: عصيّ وعصيّ، وقال محمد بن يزيد: إنّما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، فأما التأويل فلا يكون. والكسر في «سخريّ» في المعنيين جميعا وفي عصيّ أكثر لأن الضمة تستثقل في مثل هذا.
[سورة المؤمنون (23): آية 112]
{قََالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)}
{قََالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} وقل كم لبثتم معنيان مختلفان لا يجوز أن يقال أحدهما أجود من الآخر {عَدَدَ سِنِينَ} بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينوّنها.
[سورة المؤمنون (23): آية 113]
{قََالُوا لَبِثْنََا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعََادِّينَ (113)}
{قََالُوا لَبِثْنََا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وليس في هذا ما ينفي عذاب القبر لأنه لا بدّ من خمدة قبل البعث.
[سورة المؤمنون (23): آية 116]
{فَتَعََالَى اللََّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)}
{رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} كمن نعت العرش لارتفاعه وأنّ الأيدي لا تناله.
[سورة المؤمنون (23): آية 118]
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرََّاحِمِينَ (118)}
{وَأَنْتَ خَيْرُ الرََّاحِمِينَ} مبتدأ وخبره. والاسم عند البصريين «أن» والتاء للخطاب.
والاحتجاج لأبي عمرو في تفريقه بين سخري وسخريّ أن يكون خبّر بمذهبه في القراءة فقط. فأمّا «لبتّم» بالإدغام فلقرب التاء من الثاء، وكذا فاتّختّموهم (1) مدغم لقرب الذال من التاء، ومن لم يدغم فيهما فلأن التاء اسم فكأنها منفصلة والمخرجان مختلفان. وقال مجاهد: العادّون (2) الملائكة لأنهم يحصون ذلك. وقرأ الأعمش عددا سنين (3) ونصب عددا على البيان في القراءتين جميعا «وكم» في موضع نصب بلبثتم.
__________
(1) انظر الآية 110من السورة.
(2) انظر الآية 113من السورة.
(3) انظر الآية 112.(3/87)
24 - شرح إعراب سورة النور
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النور (24): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا وَفَرَضْنََاهََا وَأَنْزَلْنََا فِيهََا آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}
{سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا} بمعنى هذه سورة، وقرأ عيسى بن عمر {سُورَةٌ أَنْزَلْنََاهََا} (1)
بالنصب بمعنى أنزلنا سورة. ويجوز أن يكون المعنى: اتل سورة أنزلناها {وَفَرَضْنََاهََا} أي وفرضنا فيها من الحلال والحرام «وفرضناها» فيه ثلاثة أقوال: قال أبو عمرو فصلناها، وقيل: هو على التكثير لكثرة ما فيها من الفرائض، والقول الثالث قال الفراء (2): إنّه بمعنى فرضناها عليكم وعلى من بعدكم.
[سورة النور (24): آية 2]
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاََ تَأْخُذْكُمْ بِهِمََا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذََابَهُمََا طََائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
{الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وََاحِدٍ مِنْهُمََا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقرأ عيسى بن عمر {الزََّانِيَةُ وَالزََّانِي} (3)
بالنصب. وهو اختيار الخليل وسيبويه (4) رحمهما الله لأن الأمر بالفعل أولى، وسائر النحويين على خلافهما، واستدلّ محمد بن يزيد على خلافهما بقول الله جلّ وعزّ:
{وَالَّذََانِ يَأْتِيََانِهََا مِنْكُمْ} [النساء: 16]، والحجة للرفع أنه ليس يقصد به اثنان بأعيانهما زنيا فينصب، فلما كان مبهما وجب الرفع فيه من ثلاثة أوجه: مذهب سيبويه أن المعنى: وفيما فرض عليكم الزانية والزاني، وقيل بما عاد عليه. {وَلََا تَأْخُذْكُمْ بِهِمََا رَأْفَةٌ} ورأفة لأن فعالة في الخصال كثير، نحو القباحة، وفعلة على الأصل.
[سورة النور (24): آية 3]
{الزََّانِي لاََ يَنْكِحُ إِلاََّ زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزََّانِيَةُ لاََ يَنْكِحُهََا إِلاََّ زََانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذََلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 392، ومختصر ابن خالويه 100، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء أيضا.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 244.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 100.
(4) انظر الكتاب 1/ 196.(3/88)
{الزََّانِي لََا يَنْكِحُ إِلََّا زََانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قد ذكرنا معناه وأن الوجه فيه أن يكون منسوخا وحرّم ذلك أن ينكح الرجل زانية والمرأة زانيا.
[سورة النور (24): آية 4]
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمََانِينَ جَلْدَةً وَلاََ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ (4)}
وقرأ أبو زرعة (1) بن عمرو بن جرير {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدََاءَ} (2) وفيه ثلاثة أوجه: يكون «شهداء» في موضع جرّ على النعت لأربعة، ويكون في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء. والوجه الثالث أن يكون حالا من النكرة. {وَلََا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ}.
[سورة النور (24): آية 5]
{إِلاَّ الَّذِينَ تََابُوا مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{إِلَّا الَّذِينَ تََابُوا} في موضع نصب على الاستثناء، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. والمعنى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا.
[سورة النور (24): آية 6]
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوََاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ إِلاََّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهََادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصََّادِقِينَ (6)}
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوََاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدََاءُ إِلََّا أَنْفُسُهُمْ} على البدل والنصب على الاستثناء وعلى خبر يكون {فَشَهََادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ} (3) بالنصب قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين {أَرْبَعُ شَهََادََاتٍ بِاللََّهِ} (4) بالرفع على الابتداء، والخبر: أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القاذف أربع شهادات، كما تقول: صلاة الظهر أربع ركعات، والنصب لأن معنى شهادة أن شهد، فالتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات.
[سورة النور (24): آية 7]
{وَالْخََامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللََّهِ عَلَيْهِ إِنْ كََانَ مِنَ الْكََاذِبِينَ (7)}
{وَالْخََامِسَةُ} رفع بالابتداء، والخبر «أنّ» وصلتها ومعنى المخفّفة كمعنى الثقيلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة (والخامسة أنّ) (5) بالنصب بمعنى ويشهد الشهادة الخامسة.
__________
(1) أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي، روى عن أبي هريرة، وهو من التابعين الثقات ترجمته في:
غاية النهاية 1/ 602.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 100.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 399، وكتاب السبعة لابن مجاهد 452.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 399، وكتاب السبعة لابن مجاهد 452.
(5) انظر البحر المحيط 6/ 399، ومعاني الفراء 2/ 247.(3/89)
[سورة النور (24): آية 10]
{وَلَوْلاََ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ حَكِيمٌ (10)}
{وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف ولا يظهره العرب {وَرَحْمَتُهُ} عطف عليه. {وَأَنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ حَكِيمٌ} عطف عليه أيضا. وحذف جواب لولا لأنه قد ذكر مثله بعد. قال الله: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمََا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذََابٌ عَظِيمٌ}
[سورة النور (24): آية 11]
{إِنَّ الَّذِينَ جََاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاََ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلََّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذََابٌ عَظِيمٌ (11)}
{إِنَّ الَّذِينَ جََاؤُ بِالْإِفْكِ} اسم إنّ. {عُصْبَةٌ} خبرها، ويجوز النصب في «عصبة» على الحال، ويكون الخبر {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {وَالَّذِي تَوَلََّى كِبْرَهُ} (1) بضم الكاف. قال الفراء (2): وهو وجه جيد لأن العرب تقول:
فلان أولى عظم كذا وكذا أي أكثره. قال أبو جعفر: والذي جاء به لا حجّة فيه لأنه قد يكون الشيء بمعنى الشيء، والحركة فيها مختلفة. والأشهر في كلام العرب في مثل هذا الكبر والكبر في النسب ويقال: الولاء للكبر.
[سورة النور (24): آية 12]
{لَوْلاََ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقََالُوا هََذََا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}
{لَوْلََا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أي بإخوانهم. {وَقََالُوا هََذََا إِفْكٌ مُبِينٌ} فأوجب الله جلّ وعزّ على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه، ويكذّبوه، وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
[سورة النور (24): آية 15]
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوََاهِكُمْ مََا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللََّهِ عَظِيمٌ (15)}
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} والأصل تتلقونه أي يأخذه بعضكم عن بعض، ويقبله بعضكم من بعض، ومثله {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} [البقرة: 37] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} (3) وإسناده صحيح، ولا يعرف له مخرج إلّا من حديث ابن عمر الجمحي والمعنيان صحيحان لأنهم قد تلقّوه وو لقوه. والأصل: تولقونه فحذفت الواو اتباعا ليلق، يقال: ولق يلق إذا أسرع في الكذب، واشتقاقه من الولق، وهو الخفّة والسرعة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 247، والبحر المحيط 6/ 402.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 247.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 100.(3/90)
[سورة النور (24): آية 17]
{يَعِظُكُمُ اللََّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}
{يَعِظُكُمُ اللََّهُ أَنْ تَعُودُوا} في موضع نصب.
[سورة النور (24): آية 19]
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفََاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَاللََّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ (19)}
فتواعدهم الله جلّ وعزّ على إرادة الفسق أي إذاعة الفاحشة في الذين آمنوا {وَاللََّهُ يَعْلَمُ} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء.
[سورة النور (24): آية 21]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَتَّبِعُوا خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاََ فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مََا زَكى ََ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلََكِنَّ اللََّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشََاءُ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}
هو من ذوات الواو وإن كان قد كتب بالياء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رحمه الله في قوله: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مََا زَكى ََ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء ينفع به نفسه أو ينفي به ما يدفعه عن نفسه.
[سورة النور (24): آية 22]
{وَلاََ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى ََ وَالْمَسََاكِينَ وَالْمُهََاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاََ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
{وَلََا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ} حذفت الياء للجزم، قرأ يزيد بن القعقاع وزيد بن أسلم. ولا يتألّ أولوا الفضل (1) حذفت الألف للجزم. والمعنى واحد، كما تقول:
فلان يتكسّب ويكتسب.
[سورة النور (24): آية 23]
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنََاتِ الْغََافِلاََتِ الْمُؤْمِنََاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ (23)}
من أحسن ما قيل في هذا أنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، والتقدير:
الذين يرمون الأنفس المحصنات فدخل في هذا المذكّر والمؤنّث. وكذا: في الذين يرمون، إلّا أنه غلّب المذكّر على المؤنّث.
[سورة النور (24): آية 25]
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللََّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
وقرأ مجاهد {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللََّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} (2) يرفع الحقّ على أنه نعت لله جلّ وعزّ. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتا لله جلّ
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 404، ومختصر ابن خالويه 101.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 405.(3/91)
وعزّ، ويكون موافقا لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ ليوفيهم الله الحقّ دينهم (1) وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضيّ لأنه احتجّ لما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة فيه أيضا لأنه لو صحّ هذا أنّ في مصحف أبيّ كذلك جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم يكون دينهم بدلا من الحق على أن قراءة العامة {دِينَهُمُ الْحَقَّ} يكون «الحقّ» نعتا لدينهم والمعنى حسن لأنّ الله جل وعز قد ذكر المسيئين فاعلم أنه يجازيهم بالحق، كما قال جلّ وعزّ: {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] لأن مجازاة الله جلّ وعزّ للكافر والمسيء بالحقّ والعدل، ومجازاته للمحسنين بالفضل والإحسان.
[سورة النور (24): آية 26]
{الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثََاتِ وَالطَّيِّبََاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبََاتِ أُولََئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمََّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
{الْخَبِيثََاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثََاتِ} قد ذكرنا فيه أقوالا: فمن أحسن ما قيل فيه:
أنّ المعنى الزناة للزناة على ما كان التعبّد مبرئا.
[سورة النور (24): آية 27]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}
{لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا} قال عكرمة: أي حتى تستأذنوا وحقيقته في اللّغة تستعملوا مشتقّ من آنست الشيء أي استعملته. {ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من الدخول بغير استئذان لما فيه من التّهمة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تنتبهون على ما لكم فيه الصّلاح.
[سورة النور (24): الآيات 30الى 31]
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذََلِكَ أَزْكى ََ لَهُمْ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاََ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاََّ مََا ظَهَرَ مِنْهََا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ وَلاََ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاََّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبََائِهِنَّ أَوْ آبََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنََائِهِنَّ أَوْ أَبْنََاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوََانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوََاتِهِنَّ أَوْ نِسََائِهِنَّ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُنَّ أَوِ التََّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجََالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ النِّسََاءِ وَلاََ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مََا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللََّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ} «من» هاهنا لبيان الجنس وكذا {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ}
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 405، ومختصر ابن خالويه 101.(3/92)
وظهر التضعيف في الثاني، لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة وهما في موضع جزم جوابا. والتقدير عند المازني: قل للمؤمنين غضّوا يغضّوا {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال أبو العالية: أي حتى لا يراها أحد، وقال غيره: فحرّم الله على المسلمين أيضا أن يدخلوا حمّاما بغير مئزر، وأجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل، وأن المرأة كلّها عورة إلّا وجهها ويديها فإنّهم اختلفوا فيهما، وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة لا يجوز أن ترى. {إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا يَصْنَعُونَ} اسم إن وخبرها. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ} ويجوز وليضربن بكسر اللام وهو الأصل وحذفت الكسرة لثقلها. ويضربن في موضع جزم بالأمر إلّا أنه مبنيّ على حال وحدة اتباعا للماضي عند سيبويه. والمعنى: وليلصقن خمرهنّ وهنّ المقانع على جيوبهنّ لئلا تبدو صدورهنّ أو أعناقهنّ. والصحيح من قراءة الكوفيين {عَلى ََ جُيُوبِهِنَّ} (1) كما يقرءون {بُيُوتاً} والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة، ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال أبو إسحاق: هي تجوز على أن تبدل من الضمة كسرة. فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضمّ والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلّا على الإيماء إلى ما لا يجوز. {أَوِ التََّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} وقرأ يزيد بن القعقاع وعاصم وابن عامر أو التابعين غير (2) بنصب غير على الاستثناء. قال أبو حاتم: على الحال والخفض على النعت، وإن كان الأول معرفة لأنه ليس بمقصود قصده، وإن شئت قلت: هو بدل ونظيره {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] في الخفض والنصب جميعا {أَوِ الطِّفْلِ} بمعنى الأطفال، والدليل على ذلك نعته بالذين {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى ََ عَوْرََاتِ} وحكى الفراء أنّ لغة قيس «عورات» بفتح الواو، وهذا هو القياس لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات إلّا أن التسكين أجود في عورات وما أشبهه لأن الواو إذا تحرّكت وتحرّك ما قبلها قلبت ألفا، ولو فعل هذا لذهب المعنى وحكى الكسائي {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (3) بضم الهاء وهذه لغة شاذّة لا وجه لها لأن ها للتنبيه.
[سورة النور (24): آية 32]
{وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ وَالصََّالِحِينَ مِنْ عِبََادِكُمْ وَإِمََائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرََاءَ يُغْنِهِمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}
{وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ} جمع أيّم والأيّم عند أهل اللغة من لا زوج لها كانت بكرا أم ثيّبا. حكى ذلك أبو عمرو بن العلاء والكسائي وغيرهما. وذلك بيّن في قوله جلّ وعزّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ} فلم يبح ثيّبا دون بكر. وحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الأيّم أحقّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 131، والبحر المحيط 6/ 413.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 455.
(3) وهذه قراءة ابن عامر، انظر البحر المحيط 6/ 414، وتيسير الداني 131.(3/93)
بنفسها» (1) من هذا بعينه. وجمع أيّم أيامى وأيايم وإيام مثل جيّد وجياد، وجمع أمة في التكسير إماء وآم، وفي النصب رأيت آميا وإموان مثل أخ وإخوان، لأن الأصل في أمة أموة وفي المسلّم أموات. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حكى هشام أميات. قال: وهذا خطأ لأنها من ذوات الواو. وقرأ الحسن والصّالحين من عبيدكم (2) و «عبيد» اسم للجمع، وليس بجمع مستتبّ، والجمع المستتبّ أعبد وعباد، ونظير عبيد في أنه اسم للجمع قولهم: معبوداء وعبدّى. قال الفراء (3): ويجوز والصالحين من عبادكم وإماءكم بالنصب يردّه على الصّالحين. {إِنْ يَكُونُوا فُقَرََاءَ يُغْنِهِمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ} شرط وجوابه. قيل: يغنهم بالتزويج وهذا صحيح في اللغة لأن فقيرا إنما يعرف بالإضافة فيقال: فقير إلى الطّعام، وفقير إلى اللباس، وفقير إلى التزويج.
[سورة النور (24): آية 33]
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاََ يَجِدُونَ نِكََاحاً حَتََّى يُغْنِيَهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتََابَ مِمََّا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ فَكََاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مََالِ اللََّهِ الَّذِي آتََاكُمْ وَلاََ تُكْرِهُوا فَتَيََاتِكُمْ عَلَى الْبِغََاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللََّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرََاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتََابَ} في موضع رفع بالابتداء وفي موضع نصب عند الخليل وسيبويه على إضمار فعلا لأن بعده أمرا.
[سورة النور (24): آية 35]
{اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ الْمِصْبََاحُ فِي زُجََاجَةٍ الزُّجََاجَةُ كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاََ شَرْقِيَّةٍ وَلاََ غَرْبِيَّةٍ يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ نُورٌ عَلى ََ نُورٍ يَهْدِي اللََّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشََاءُ وَيَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ لِلنََّاسِ وَاللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
{اللََّهُ نُورُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} مبتدأ وخبره. وتقديره: الله ذو نور السّموات والأرض مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ} مبتدأ وخبره أيضا.
وقد ذكرنا معناه، وقد روى شمر بن عطية (4) عن كعب في قول الله جلّ وعزّ {مَثَلُ نُورِهِ}
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 5/ 25، وابن ماجة في سننه باب 11حديث 1870، والدارمي في سننه 2/ 138، ومالك في الموطّأ باب 2الحديث رقم 4.
(2) وهذه قراءة مجاهد أيضا، بالياء مكان الألف وفتح العين، انظر البحر المحيط 6/ 415، ومختصر ابن خالويه 102.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 251.
(4) شمر بن عطية: روى عن أبي وائل وزرّ، وعنه الأعمش وقيس بن الربيع، وكان عثمانيا غاليا، ترجمته في ميزان الاعتدال 2/ 280.(3/94)
قال: نوره محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم في تبيانه للناس بمنزلة النور الذي يضيء لهم. قال كعب: {كَمِشْكََاةٍ}، ككوّة فيها مصباح قال: {الْمِصْبََاحُ} قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم {فِي زُجََاجَةٍ} قال: {الزُّجََاجَةُ} صدره {كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} لصدره ثم رجع إلى المصباح الذي هو في القلب فقال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ} قال لم تصبها شمس المشرق ولا شمس المغرب. {شَرْقِيَّةٍ} نعت لزيتونة. {وَلََا} ليست تحول بين النعت والمنعوت {وَلََا غَرْبِيَّةٍ} عطف. {يَكََادُ زَيْتُهََا يُضِيءُ} قال كعب:
يكاد محمد صلّى الله عليه وسلّم يستبين لمن يراه أنّه نبيّ وإن لم ينطق لما جعل عليه صلّى الله عليه وسلّم من الدلائل، كما يكاد هذا الزيت يضيء ولو لم تمسّه نار. وقد قرئ دري (1) على أربعة أوجه:
قرأ الحسن وأهل الحرمين {كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} بضم الدال وتشديد الياء إلّا أن سعيد ابن المسيّب قرأ هو وأبو رجاء العطارديّ ونصر بن عاصم وقتادة {كَأَنَّهََا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} بفتح الدال وتشديد الياء وقرأ أبو عمرو والكسائي كأنّها كوكب درء بكسر الدال والهمز، وقرأ حمزة كأنّها كوكب درّيء بضم الدال والهمز. فهذه أربع قراءات، وحكى الفراء (2) أنّه يقال: درّي بكسر الدال وتشديد الياء بغير همز. قال أبو جعفر:
القراءة الأولى بيّنة نسب الكوكب إلى الدّرّ. فإن قال قائل: فالكوكب نورا من الدّرّ قيل له: إنما المعنى أنّ هذا الكوكب فضله على الكواكب كفضل الدّرّ على سائر الحبّ.
والقراءة الثانية بهذا المعنى فأبدل من الضمّة فتحة لأن النسب باب تغيير. والقراءة الثالثة أبي عمرو والكسائي ضعّفها أبو عبيد تضعيفا شديدا لأنه تأولها من درأت أي دفعت أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق فإن كان التأويل على ما تأوّله لم يكن في الكلام فائدة ولا كان لهذا الكوكب مزيّة على أكثر الكواكب. ألا ترى أنّه لا يقال: جاءني إنسان من بني آدم، ولا ينبغي أن يتأوّل لمثل أبي عمرو والكسائي رحمهما الله مع محلّهما وجلالهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك كوكب مندفع بالنور كما يقال: اندرأ الحريق، أي اندفع، وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى الأخفش سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتدّ ضوءه وعلا. فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا إلا أقلّهم يقولون: هي لحن لا يجوز لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعّيل، وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعّل إنما هو فعّول مثل سبّوح أبدل من الواو ياء كما قالوا: عتيّ. قال أبو جعفر وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشدّه
__________
(1) انظر القراءات جميعها في البحر المحيط 6/ 419، ومعاني الفراء 2/ 252، وكتاب السبعة لابن مجاهد 455.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 252.(3/95)
لأن هذا لا يجوز البتّة، ولو جاز ما قال لقيل في سبّوح: سبّيح، وهذا لا يقوله أحد.
وليس عتيّ من هذا، والفرق بينهما واضح بيّن لأنه ليس يخلو عتيّ من إحدى جهتين:
إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما لأن الجمع باب تغيير والواو لا تكون ظرفا في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضم كسرة وقلبت الواو ياء، وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى وكان قبلها لأنها طرف والواو في فعول ليست طرفا ولا يجوز قلبها. ومن احتجّ لحمزة بشيء مشبه قال: قد جاء مرّيق وهو فعّيل، والحق في هذا أن مرّيقا عجميّ، والذي حكى الفراء من كسر الدال جائز على أن تبدل من الضمة كسرة.
{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ} قرئ على أربعة أوجه (1): قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء توقّد من شجرة بفتح الدال يجعله فعلا ماضيا، وقرأ شيبة ونافع {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ} وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي يبين ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له، فتوقّد فعل ماض من توقّد يتوقّد ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد، وقرأ نصر ابن عاصم توقّد والأصل على قراءته تتوقّد وحذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدلّ عليها. وقرأ الكوفيون توقد (2) وهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نََارٌ} على تأنيث النار، وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلّا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أنّ السّديّ روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ولو لم يمسسه نار (3) بالياء.
قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل الموات عنده.
[سورة النور (24): آية 36]
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللََّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهََا بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ (36)}
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللََّهُ أَنْ تُرْفَعَ} قد ذكرناه (4). وقيل المعنى صلّوا في بيوت. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهََا بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ} (5)، وكذا يروى عن الحسن، وقد ذكر سيبويه مثل هذا، وأنشد: [الطويل] 306 ليبك يزيد ضارع لخصومة (6)
والتقدير: يسبّح له فيها رجال على إضمار هذا الفعل لأنه لما قال: يسبّح دلّ
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 420، ومعاني الفراء 2/ 252، وكتاب السبعة لابن مجاهد.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 420، ومختصر ابن خالويه 102.
(4) انظر إعراب الآية 30من هذه السورة.
(5) انظر البحر المحيط 6/ 421، وكتاب السبعة لابن مجاهد 456.
(6) مرّ الشاهد رقم (132).(3/96)
على أن ثمّ مسبّحين وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو. ولمّا أن قلت: ضرب زيد.
دلّ على أنّ له ضاربا فذكرته وأضمرت له فعلا.
[سورة النور (24): آية 37]
{رِجََالٌ لاََ تُلْهِيهِمْ تِجََارَةٌ وَلاََ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللََّهِ وَإِقََامِ الصَّلاََةِ وَإِيتََاءِ الزَّكََاةِ يَخََافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصََارُ (37)}
{وَإِقََامِ الصَّلََاةِ} ويقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقوامة فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف وهما ساكنتان فحذفت إحداهما وأثبت الهاء لئلّا تحذفها فيجحف فلما أضفت قام المضاف إليه مقام الهاء فجاز حذفها، فإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد حذفت واوا لأن الأصل وعدة فإن أضفت جاز حذف الهاء، وأنشد الفراء: [البسيط] 307 إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا (1)
يريد عدة فحذف الهاء لمّا أضاف. {يَخََافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصََارُ} قد ذكرناه. وقيل: معناه تتقلّب قلوب الفجّار على النار، وقيل تتقلّب أي تنضج مرّة وتلفحها النار مرة.
[سورة النور (24): آية 39]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللََّهَ عِنْدَهُ فَوَفََّاهُ حِسََابَهُ وَاللََّهُ سَرِيعُ الْحِسََابِ (39)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ابتداء {أَعْمََالُهُمْ} ابتداء ثان، ويجوز أن يكون بدلا من الذين ويكون الخبر {كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً} فإن خففت الهمزة قلت الظّمآن.
[سورة النور (24): آية 40]
{أَوْ كَظُلُمََاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشََاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحََابٌ ظُلُمََاتٌ بَعْضُهََا فَوْقَ بَعْضٍ إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
{ظُلُمََاتٌ} على إضمار مبتدأ ومن قرأ ظلمات (2) جعلها بدلا من ظلمات الأولى، ويقال: «ظلمات» لخفّة الفتحة و «ظلمات» لنقل الضمة.
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ}. تأوّله أبو إسحاق على أنه في الدّنيا أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام لم يهتد، وتأوله غيره على أنه في الآخرة أي من لم يجعل الله له نورا في القيامة لم يهتد إلى الجنّة.
__________
(1) الشاهد للفضل بن عباس في شرح التصريح 2/ 396، وشرح شواهد الشافية 64، ولسان العرب (غلب)، و (خلط)، والمقاصد النحوية 4/ 572، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 241، وأوضح المسالك 4/ 407، والخصائص 3/ 171، وشرح الأشموني 2/ 304، وشرح عمدة الحافظ 486، ولسان العرب (وعد) و (خلط).
(2) انظر تيسير الداني 134، والبحر المحيط 6/ 424.(3/97)
[سورة النور (24): آية 41]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافََّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاََتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِمََا يَفْعَلُونَ (41)}
عطفا على «من». قال أبو إسحاق: ويجوز «والطير» بمعنى مع الطير، ولم يقرأ به. قال أبو جعفر: وسمعته يجيز قمت وزيدا، بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت: قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلََاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} يجوز أن يكون المعنى: كلّ قد علم الله صلاته وتسبيحه. ومن هذه الجهة يجوز نصب كلّ عند البصريين والكوفيين. قال أبو إسحاق: والصلاة للناس والتسبيح لغيرهم ولهم، ويجوز أن يكون المعنى: كلّ قد علم صلاة نفسه وتسبيحه.
[سورة النور (24): آية 43]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُزْجِي سَحََاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكََاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاََلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ جِبََالٍ فِيهََا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشََاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشََاءُ يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ (43)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُزْجِي سَحََاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يقال: «بين» لا يقع إلّا لاثنين فصاعدا فكيف جاء بينه؟ فالجواب أن بينه هاهنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر حسن، وقد جلست بينه. وفيه قول آخر: وهو، أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال: بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة كما قال الشاعر: [الطويل] 308 قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل (1)
فأوقع بينا على الدخول وهو واحد لاشتماله على مواضع. هذا قول النحويين، إلا الأصمعي فإنه زعم أن هذا لا يجوز وكان يرويه «بين الدّخول وحومل»، قرأ ابن عباس والضحاك {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ} (2) وخلل: واحد خلال مثل جمل وجمال، وهو واحد يدلّ على جمع. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ جِبََالٍ فِيهََا مِنْ بَرَدٍ} من قال: إنّ المعنى من جبال برد فيها، فبرد عنده في موضع خفض هكذا يقول الفراء (3)، كما تقول: الإنسان من لحم ودم، والإنسان لحم ودم، ويجب أن يكون على قوله: المعنى من جبال برد فيها بتنوين الجبال، لأنه قال: الجبال هي البرد. فأما على قول البصريين
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 8، والأزهيّة 244، وجمهرة اللغة 567، والجنى الداني 63، وشرح شواهد الشافية ص 242، وشرح شواهد المغني 1/ 463، ولسان العرب (آ)، ومجالس ثعلب 127، وهمع الهوامع 2/ 129، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 656، وأوضح المسالك 3/ 359، وجمهرة اللغة 580، والدرر 6/ 82، ورصف المباني 353، وشرح الأشموني 2/ 417، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 316.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 426.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 256.(3/98)
فيكون من برد في موضع نصب، ويجوز الخفض كما تقول: مررت بخاتم حديدا وبخاتم حديد، الخفض على البدل والنصب عند سيبويه على الحال، وعند أبي العبّاس على البيان.
ومن قال: المعنى من مقدار جبال فمن برد عنده في موضع نصب لا غير. قال الفراء (1):
كما تقول عندي بيتان تبنا، ومثله عنده {أَوْ عَدْلُ ذََلِكَ صِيََاماً} [المائدة: 95]. ومن قال:
إنّ «من» زائدة فيهما فهما عنده في موضع نصب لا غير. وقرأ أبو جعفر: {يَكََادُ سَنََا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصََارِ} (2) بضم الياء، وزعم أبو حاتم أن هذا لحن، وهو قول أستاذه الأخفش يقول: دخل بالمدخل ولا يجيز هاهنا أدخل، ويزعم أن الباء تعاقب الألف، وهذا هو القول البين. فأما أن يكون خطأ لا يجوز ولا يحمل عليه فقد زعم جماعة أن الباء تزاد واحتجوا بقول الله جلّ وعزّ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحََادٍ بِظُلْمٍ} [الحجّ: 25] وإن كان غير هذا القول أولى منه، وهو ما حكاه لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد. قال: تكون الباء متعلقة بالمصدر إذ كان الفعل دالا عليه ومأخوذا منه فعلى هذا يكون التقدير ذهابه بالأبصار أو إذهابه وكذا: أدخل بالمدخل السّجن الدار، جائز على هذا.
[سورة النور (24): آية 44]
{يُقَلِّبُ اللََّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصََارِ (44)}
{يُقَلِّبُ اللََّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ} مجاز أي يقلب هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فإذا زال أحدهما ودخل الآخر كان بمنزلة ما قلب إليه.
[سورة النور (24): آية 45]
{وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللََّهُ مََا يَشََاءُ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}
{وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ} قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وسائر الكوفيين يقرءون خالق كلّ دابّة (3) والمعنيان صحيحان. أخبر الله جلّ وعزّ بخبرين ولا ينبغي أن يقال في هذا أحد القراءتين أصحّ من الأخرى لأنهما يدلّان على معنيين، ولكن إن قال قائل: «خلق» في هذا أكثر لأنه ليس بشيء مخصوص، وإنما يقال: خالق على العموم، كما قال جلّ وعزّ: {الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] وفي الخصوص {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وكذا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] فكذا يجب {وَاللََّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مََاءٍ}. والدابّة كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان يقال: دبّ، وهو داب، والهاء للمبالغة. وقيل: يعني بالماء هاهنا المنيّ كما قال: {مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} [الطارق: 6] وقيل: لمّا كان خلق الأرض
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 257.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 470، يذهب بضمّ الياء.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 457.(3/99)
من ماء جاء هذا هكذا. وقيل: أصل خلق النار والنور من الماء. {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى ََ أَرْبَعٍ} ومن مشى على أكثر من أربع فهو يمشي على أربع، وغلب ما يعقل لمّا اجتمع مع ما لا يعقل لأنه المخاطب والمتعبّد.
[سورة النور (24): آية 49]
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)}
{مُذْعِنِينَ} في موضع الحال.
[سورة النور (24): آية 50]
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتََابُوا أَمْ يَخََافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ (50)}
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتََابُوا} فأنكر الله عليهم ذلك لما أظهر من البراهين فقال: {بَلْ أُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ}.
[سورة النور (24): آية 51]
{إِنَّمََا كََانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذََا دُعُوا إِلَى اللََّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنََا وَأَطَعْنََا وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}
وقرأ الحسن {إِنَّمََا كََانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) جعله اسم كان والخبر {أَنْ يَقُولُوا}.
[سورة النور (24): آية 53]
{وَأَقْسَمُوا بِاللََّهِ جَهْدَ أَيْمََانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاََ تُقْسِمُوا طََاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ (53)}
{قُلْ لََا تُقْسِمُوا} نهاهم عن الحلف لأنّ عزمهم كان على غير ذلك فهم آثمون إذا حلفوا. {طََاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} على إضمار لتكن طاعة، ويجوز أن يكون المعنى: طاعة أولى بكم.
قال أبو إسحاق: يجوز طاعة بالنصب يعني على المصدر.
[سورة النور (24): آية 54]
{قُلْ أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمََا عَلَيْهِ مََا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مََا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمََا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاََغُ الْمُبِينُ (54)}
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} في موضع جزم بالشرط، والأصل تتولّوا فحذفت إحدى التاءين لدلالة الأخرى، وحذفت النون للجزم، والجواب في الفاء وما بعدها.
[سورة النور (24): آية 55]
{وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى ََ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاََ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ (55)}
فكان في هذه الآية دلالة عن نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله أنجز ذلك الوعد، وكان
__________
(1) قول: بالرفع، وهي قراءة عليّ وابن أبي إسحاق أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 429.(3/100)
فيها دلالة على خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنه لم يستخلف أحدا ممّن خوطب بهذه الآية غيرهم لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة.
وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون» (1) هذا للآية {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وعاصم يقرأ: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} مخففا، وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال (2):
قرأ عاصم والأعمش: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} مشددة، وهذا غلط على عاصم وقد ذكرنا بعده غلطا أشدّ منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال أبو جعفر: زعم أحمد بن يحيى أن بين التخفيف والتثقيل فرقا وأنّه يقال: بدلته أي غيرته وأبدلته أنزلته، وجعلت غيره. قال أبو جعفر: وهذا القول صحيح، كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره، وتقول: قد بدّلت بعدنا أي غيرت غير أنه قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر، والذي ذكر أكثر {يَعْبُدُونَنِي} في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون مستأنفا في موضع رفع.
[سورة النور (24): آية 57]
{لاََ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوََاهُمُ النََّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}
{لََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} مفعولان، وقرأ حمزة لا يحسبنّ (3)
الذين كفروا معجزين في الأرض (4) قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من أهل العربيّة واللغة بصريا ولا كوفيّا وإلّا وهو يحظر أن تقرأ هذه القراءة. فمنهم من يقول هي لحن لأنه لم يأت إلّا بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء (5): هو ضعيف وأجازه على ضعفه على أنه يحذف المفعول الأول. والمعنى عنده: لا يحسبنّ الذين كفروا إيّاهم معجزين في الأرض، ومعناه لا يحسبنّ أنفسهم معجزين في الأرض.
ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى هذا القول أعني قول الفراء وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: ويكون «الذي» في موضع نصب قال: ويكون المعنى: لا يحسبنّ الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.
[سورة النور (24): آية 58]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاََثَ مَرََّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاََةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيََابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاََةِ الْعِشََاءِ ثَلاََثُ عَوْرََاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاََ عَلَيْهِمْ جُنََاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوََّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 9/ 70، وأبو داود في سننه الحديث رقم (646).
(2) انظر البحر المحيط 6/ 431، وكتاب السبعة لابن مجاهد 459.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 258.
(4) انظر تيسير الداني 132، وهذه قراءة ابن عامر أيضا.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 259.(3/101)
وقرأ الحسن {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} (1) بإسكان اللام لثقل الضمة. وقرأ المدنيون وأبو عمرو {ثَلََاثُ عَوْرََاتٍ} بالرفع، وقرأ الكوفيون (ثلاث عورات) (2) بالنصب، والقول في هذا قريب من القول في يحسبنّ. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. قال الفراء (3): الرفع أحبّ إليّ. قال: وإنّما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده. ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: العورات الساعات التي تكون فيها العورة والخلوة إلا أنه قرأ بالنصب والنصب فيه قولان: أحدهما أنه مردود على قوله: {ثَلََاثَ مَرََّاتٍ} ولهذا استبعده الفراء. قال أبو إسحاق: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات {طَوََّافُونَ} بمعنى هم طوافون. قال الفراء: كقولك في الكلام: إنّما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء (4) نصب طوافون لأنه نكرة والمضمر في عليكم معرفة، ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمر من الذين في «عليكم» وفي «بعضكم» لاختلاف العاملين. لا يجوز مررت بزيد، ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما. {بَعْضُكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} لله بإضمار فعل أي يطوف بعضكم على بعض {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ} الكاف في موضع نصب أي يبيّن الله لكم آياته الدالّة على وحدانيته. تبيانا مثل ما بيّن لكم هذه الأشياء.
[سورة النور (24): آية 59]
{وَإِذََا بَلَغَ الْأَطْفََالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}
وقرأ الحسن الحلم (5) حذف الضمة لثقلها. {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} أي فليستأذنوا في كلّ الأوقات، ولم يقل: فليستأذنوكم، وقال في الأول: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبّدين
[سورة النور (24): آية 60]
{وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ اللاََّتِي لاََ يَرْجُونَ نِكََاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنََاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيََابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجََاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}
{وَالْقَوََاعِدُ مِنَ النِّسََاءِ} جمع قاعد بحذف الهاء. وفيه ثلاثة أقوال: مذهب البصريين أنه على النسب، ومذهب الكوفيين أنه لمّا كان لا يقع إلّا للمؤنّث لم يحتج فيه إلى الهاء، والقول الثالث أنه جاء بغير هاء تفريقا بينه وبين القاعدة بمعنى الجالسة {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنََاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيََابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجََاتٍ بِزِينَةٍ} على الحال، أي لا يردن أن يظهرن زينتهنّ للرجال.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 433، ومختصر ابن خالويه 103.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 459.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 260.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 260.
(5) انظر البحر المحيط 6/ 433.(3/102)
[سورة النور (24): آية 61]
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ وَلاََ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاََ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاََ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبََائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهََاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوََانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوََاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمََامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمََّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوََالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خََالاََتِكُمْ أَوْ مََا مَلَكْتُمْ مَفََاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتََاتاً فَإِذََا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللََّهِ مُبََارَكَةً طَيِّبَةً كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ} اسم ليس وقد ذكرناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه في الجهاد. فأما معنى {وَلََا عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبََائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهََاتِكُمْ} إلى آخر الآية. ففيه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما يجوز ذلك بعد الإذن، ومنها أنه قد كان علم أنهم لا يبخلون عليهم بهذا. والقول الثالث أن الآية منسوخة وأنّ هذا كان أول، فلمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام إلّا بإذن، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه» (1) فوجب من هذا أنّه لا يحلّ لأحد شيء من مال أحد إلّا بإذن أو ما أجمع عليه المسلمون عند خوفه على هلاك نفسه. وقد قيل: إنّ الآية منسوخة بقوله جلّ وعزّ: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتََّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى ََ أَهْلِهََا} [النور: 27] فإذا كان لا يدخل إلّا بإذن فهو من الطعام أبعد، وقال جلّ وعزّ:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلََّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى ََ طَعََامٍ غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ}
[الأحزاب: 53] ولو لم يكن في نسخ الآية إلّا الحديث الذي رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحتلبنّ أحدكم ماشية أخيه إلّا بإذنه أيحبّ أحدكم أن يؤتى إلى مشربته فتفتح خزانته فيوخذ طعامه لكان كافيا» (2). وقرأ قتادة مفتاحه (3)
وهي لغة ومفتح أكثر في كلام العرب يدلّك على ذلك جمعه على مفاتح. {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً} نصب على الحال. {تَحِيَّةً} مصدر. قال أبو إسحاق: لأن معنى {فَسَلِّمُوا} فحيّوا، وأجاز الكسائي والفراء رفع تحيّة بمعنى هي تحيّة {مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} لأن الله أمر بها {مُبََارَكَةً طَيِّبَةً} لأن سامعها يستطيب سمعها.
[سورة النور (24): آية 62]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذََا كََانُوا مَعَهُ عَلى ََ أَمْرٍ جََامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتََّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولََئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)}
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث (4882)، وابن ماجة الحديث رقم (1931).
(2) أخرجه مالك في الموطأ الاستئذان باب 6، الحديث رقم (17)، والترمذي في سننه البيوع 5/ 295، وابن ماجة في سننه باب 68الحديث (2302). والبخاري في صحيحه 3/ 165، ومسلم في صحيحه كتاب اللقطة باب (2) رقم (13).
(3) انظر مختصر ابن خالويه 103.(3/103)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} مبتدأ وخبره {وَإِذََا كََانُوا مَعَهُ عَلى ََ أَمْرٍ جََامِعٍ} أي ما يحتاج فيه إلا الاجتماع من الحرب وغيرها {لَمْ يَذْهَبُوا حَتََّى يَسْتَأْذِنُوهُ} لأنه قد يحتاج إلى حضورهم.
[سورة النور (24): آية 63]
{لاََ تَجْعَلُوا دُعََاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعََاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوََاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ (63)}
{لََا تَجْعَلُوا دُعََاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعََاءِ بَعْضِكُمْ} الكاف في موضع نصب مفعول ثان. {قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوََاذاً} مصدر، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي ملاوذين. قال أبو إسحاق: أي مخالفين وحقيقته أنّ بعضهم يلوذ ببعض أي يستتر به لئلا يرى. يقال: لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا، ولاذ يلوذ لوذا ولياذا تقلب الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال، فإذا كان مصدر فاعل لم يعلّ لأن فاعل لا يجوز أن يعلّ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخََالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} «أن» في موضع نصب بيحذر، ولا يجوز عند أكثر النحويين: حذر زيدا، وهو في أن جائز لأن حروف الخفض تحذف معها {عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ} مبتدأ وخبره.(3/104)
25 - شرح إعراب سورة الفرقان
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الفرقان (25): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {تَبََارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعََالَمِينَ نَذِيراً (1)}
{تَبََارَكَ} قد تكلّم أهل اللغة في معناه، فقال الفراء (1): هي في العربية وتقدس واحد، وهما للعظمة، وقال أبو إسحاق تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير، وقيل: تبارك تعالى، وقيل: المعنى تعالى عطاؤه أي زاد وكثر، وقيل: المعنى دام وثبت أنعامه. وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل. فأما القول الأول فمخلّط لأن التقدير إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ} في موضع رفع بفعله. والفرقان القرآن لأنه فرق بين الحقّ والباطل، والمؤمن والكافر {عَلى ََ عَبْدِهِ} ليكون إليه، ويجوز أن يكون يعود على الفرقان. ويقال: أنذر إذا خوّف، ونذير على التكثير.
[سورة الفرقان (25): آية 2]
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)}
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} في موضع رفع نعتا أو بدلا من الذي قبله.
قال أبو إسحاق: {فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً} أي بظلم، وقال غيره فقد آتوا ظلما وزورا.
[سورة الفرقان (25): آية 5]
{وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)}
{وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} على إضمار مبتدأ أي وقالوا الذي أتيت به أساطير الأولين. قال أبو إسحاق واحدها اسطورة مثل أحدوثة وأحاديث، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقوال وأقاويل. وروي عن ابن عباس رحمه الله أن الذي قال هذا النّضر بن الحارث، وكذا كلّ ما كان في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 262.(3/105)
إسحاق فكان مؤذيا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم {اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ} على لغة من قال: أملى، ومن قال: أملّ قال تملّ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
[سورة الفرقان (25): آية 7]
{وَقََالُوا مََا لِهََذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعََامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوََاقِ لَوْلاََ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7)}
{وَقََالُوا مََا لِهََذَا الرَّسُولِ} قال أبو إسحاق: «ما» منفصلة. والمعنى أيّ شيء لهذا الرسول في حال مشيه وأكله؟ {لَوْلََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلّا {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} جواب الاستفهام.
[سورة الفرقان (25): آية 8]
{أَوْ يُلْقى ََ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهََا وَقََالَ الظََّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاََّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)}
{أَوْ يُلْقى ََ} في موضع رفع، والمعنى أو هلّا يلقى إليه كنز أو هلّا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهََا} قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون {نَأْكُلَ مِنْهََا} (1)
بالنون. والقراءتان حسنتان تؤدّيان عن معنيين، وإن كانت القراءة بالياء أبين لأنه قد تقدّم ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده فأن يعود الضمير إليه أبين.
[سورة الفرقان (25): آية 9]
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثََالَ فَضَلُّوا فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)}
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثََالَ} أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك {فَضَلُّوا} عن سبيل الحقّ وعن بلوغ ما أرادوا {فَلََا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أي إلى تصحيح ما قالوا فيك.
[سورة الفرقان (25): آية 10]
{تَبََارَكَ الَّذِي إِنْ شََاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذََلِكَ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)}
{تَبََارَكَ الَّذِي إِنْ شََاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذََلِكَ} شرط ومجازاة، ولم يدغم لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} يكون في موضع جزم عطفا على موضع «جعل»، ويجوز أن يكون في موضع رفع معطوفا على الأولين ثم يدغم، وأجاز الفراء (2) النصب على الصرف. وقرأ أهل الشام ويروى عن عاصم أيضا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (3) بالرفع أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 462، والبحر المحيط 6/ 443.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 263.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد، والبحر المحيط 6/ 444.(3/106)
[سورة الفرقان (25): آية 13]
{وَإِذََا أُلْقُوا مِنْهََا مَكََاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنََالِكَ ثُبُوراً (13)}
قال أبو إسحاق: {ثُبُوراً} نصبه على المصدر أي ثبرنا ثبورا، وقال غيره: هو مفعول به أي دعوا الثبور، كما يقال: يا عجباه أي هذا من أوقاتك فاحضر، وهذا أبلغ من تعجّبت.
[سورة الفرقان (25): آية 14]
{لاََ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وََاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)}
أي بلاؤكم أعظم من أن تدعوا الثبور مرة واحدة ولكن يدعونه مرارا كثيرة، ولم يجمع الثبور لأنه مصدر.
[سورة الفرقان (25): آية 15]
{قُلْ أَذََلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كََانَتْ لَهُمْ جَزََاءً وَمَصِيراً (15)}
كما حكى سيبويه (1) عن العرب: الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ وقد علم أن السعادة أحبّ إليه، وقيل: هذا للتنبيه، وقيل: المعنى: أذلك خير على غير تأويل من، كما يقال: عنده خير. وهذا قول حسن، كما قال: [الوافر] 309 فشرّكما لخيركما الفداء (2)
وفي الآية قول ثالث وهو أن الكوفيين يجيزون: العسل أحلى من الخل، وهذا قول مردود لأنّ معنى: فلان خير من فلان، أنّه أكثر خيرا منه، ولا حلاوة في الخلّ ولا يجوز أن تقول: النصرانيّ خير من اليهوديّ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير من الآخر، ولكن يقال: اليهوديّ شرّ من النصرانيّ، فعلى هذا كلام العرب.
[سورة الفرقان (25): آية 18]
{قََالُوا سُبْحََانَكَ مََا كََانَ يَنْبَغِي لَنََا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيََاءَ وَلََكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبََاءَهُمْ حَتََّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكََانُوا قَوْماً بُوراً (18)}
وقرأ الحسن وأبو جعفر أن نتّخذ (3) بضم النون. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون، وأجمعوا على أن فتح النون أولى، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر لا يجوز (نتّخذ) قال أبو عمرو: لو كانت «نتّخذ» لحذفت (من) الثانية، فقلت: أن نتّخذ من دونك أولياء، ومثل أبي عمرو على جلالته ومحلّه يستحسن منه هذا القول: لأنه جاء بعلّة بيّنة. وشرح ما قال إنه يقال: ما اتّخذت رجلا وليّا، فيجوز أن يقع هذا لواحد
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 193.
(2) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 76، وخزانة الأدب 9/ 232، وشرح الأشموني 3/ 388، ولسان العرب (ندد) و (عرش)، وتفسير الطبري 1/ 163.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 448، ومعاني الفراء 2/ 264.(3/107)
بعينه ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليّا، فيكون نفيا عاما، وقولك: وليّا تابع لما قبله فلا يجوز أن يدخل فيه من لأنه لا فائدة في ذلك، وحكى الفراء (1) عن العرب أنهم لا يقولون: ما رأيت عبد الله من رجل، غير أنه أبطل هذا، وترك ما روى عن العرب، وأجاز ذلك من قبل نفسه فقال: ولو أرادوا ما رأيت من رجل عبد الله لجاز إدخال من تتأوّل القلب. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لا يجوز البتّة، وهو كما قال. ثم رجع الفراء فقال: والعرب إنما تدخل من في الأسماء وهذه مناقضة بيّنة وأجاز ذلك الكسائي أيضا، ثم قال: وهو قبيح. {وَلََكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبََاءَهُمْ} أي طالت أعمارهم بعد موت الرسل صلوات الله عليهم فنسوا وهلكوا.
[سورة الفرقان (25): آية 19]
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمََا تَقُولُونَ فَمََا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاََ نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذََاباً كَبِيراً (19)}
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمََا تَقُولُونَ} تأوله أبو عبيد بمعنى فيما يقولون، وقال غيره: هذه مخاطبة للأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم فما تستطيعون صرفا ولا نصرا. قيل: فما يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصر بعضهم بعضا.
[سورة الفرقان (25): آية 20]
{وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاََّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعََامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوََاقِ وَجَعَلْنََا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكََانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)}
إذا دخلت اللام لم يكن في «إن» إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر لأنها مستأنفة. وهذا قول جميع النحويين إلا أنّ علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد أنه قال: يجوز الفتح في إنّ هذه وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق: المعنى: وما أرسلنا قبلك رسلا إلّا أنهم ليأكلون الطعام ثم حذف من لأنّ من تدلّ على المحذوف. وقال الفراء (2): «من» محذوفة أي إلّا أن منهم من ليأكلون الطّعام، وشبّهه بقوله: {وَمََا مِنََّا إِلََّا لَهُ مَقََامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164].
قال أبو إسحاق: هذا خطأ لأنّ من موصولة فلا يجوز حذفها. {وَجَعَلْنََا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} الفتنة في اللغة الاختبار، وفي الحديث «الغنيّ للفقير فتنة والفقير للغنيّ فتنة والقويّ للضعيف فتنة والضعيف للقويّ فتنة». والمعنى في هذا أن كلّ واحد منهما مختبر بصاحبه فالغنيّ مختبر بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنيّ عليه أن لا يحسده وأن لا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كلّ واحد منهما على الحقّ، كما قال الضحاك: في معنى {أَتَصْبِرُونَ} أي على الحق. {وَكََانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي بما تعملون أي فيما امتحنكم فيه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 264.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 264.(3/108)
[سورة الفرقان (25): آية 22]
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاََئِكَةَ لاََ بُشْرى ََ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)}
لا يجوز أن يكون يوم يرون منصوبا ببشرى لأن ما في خبر التعجّب أو في خبر النفي لا يعمل فيما قبله ولكن فيه تقديران: يكون المعنى: يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة ودلّ على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير لا بشرى تكون «يوم يرون الملائكة» و «يومئذ» مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى اذكر يوم يرون الملائكة.
{وَيَقُولُونَ حِجْراً} مصدر أي منعا ومنه حجرت على فلان، ومنه قيل حجرة.
[سورة الفرقان (25): آية 23]
{وَقَدِمْنََا إِلى ََ مََا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنََاهُ هَبََاءً مَنْثُوراً (23)}
أي لا ينتفع به أي أبطلناه. وليس هباء من ذوات الهمزة وإنما همزت لالتقاء الساكنين، والتصغير هبيّ في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبيّ في موضع الرفع.
[سورة الفرقان (25): آية 24]
{أَصْحََابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)}
{أَصْحََابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} ابتداء وخبر، وقد ذكرنا مثله قبل هذا في {أَذََلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15] وحكينا قول الكوفيين أنهم يجيزون: العسل أحلى من الخلّ. وذكر الفراء (1) في هذه الآية ما هو أكثر من هذا، فزعم أنّ المعنى:
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّا من أهل النار، وليس في مستقرّ أهل النار خير، فكأنه ردّ على نفسه، وسمعت علي بن سليمان يقول في هذا ويحكيه إنّ المعنى: لمّا كنتم تعملون عمل أهل النار صرتم كأنكم تقولون: إنّ في ذلك خيرا، وقيل خير مستقرّا مما أنتم فيه، وقيل: خير على غير معنى أفعل، ويكون مستقرّ ظرفا، وعلى ما مرّ يكون منصوبا على البيان.
[سورة الفرقان (25): آية 25]
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمََاءُ بِالْغَمََامِ وَنُزِّلَ الْمَلاََئِكَةُ تَنْزِيلاً (25)}
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمََاءُ بِالْغَمََامِ} الأصل تتشقّق أدغمت التاء في الشين، وقرأ الكوفيون {تَشَقَّقُ} (2) حذفوا التاء لأن التاء الباقية تدلّ عليها.
[سورة الفرقان (25): آية 26]
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمََنِ وَكََانَ يَوْماً عَلَى الْكََافِرِينَ عَسِيراً (26)}
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمََنِ} مبتدأ وخبر. وأجاز أبو إسحاق نصب الحقّ بمعنى أحقّ الحقّ أو أعني الحقّ. {وَكََانَ يَوْماً عَلَى الْكََافِرِينَ عَسِيراً} الفعل منه عسر يعسر وعسر يعسر.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 266.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 453.(3/109)
[سورة الفرقان (25): آية 27]
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظََّالِمُ عَلى ََ يَدَيْهِ يَقُولُ يََا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27)}
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظََّالِمُ عَلى ََ يَدَيْهِ} الماضي عضضت وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير منهم ابن عباس وسعيد بن المسيّب أنّ الظالم هاهنا عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أميّة بن خلف. فعقبة قتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأميّة قتله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان هذا من دلائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه خبّر عنهما بهذا فقتلا على الكفر ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة ليعلم أنّ هذه سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله جلّ وعزّ.
[سورة الفرقان (25): آية 28]
{يََا وَيْلَتى ََ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاََناً خَلِيلاً (28)}
{يََا وَيْلَتى ََ} وقرأ الحسن يا ويلتي (1) بالياء. والقراءة الأولى أكثر في كلام العرب لأنهم يحذفون إذا قالوا: يا غلام أقبل لأن النداء موضع حذف، وكان الأصمعي ينشد بيت زهير: [الطويل] 310 تبصّر خليل هل ترى من ظعائن ... تحمّلن بالعلياء من فوق جرثم (2)
وينكر رواية من روى «تبصر خليلي» لأنه كان يقصد الروايات الصّحاح الفصيحة، ولا يعرّج على الشاذّ، وكذا روى أهل اللغة: [البسيط] 311 قالت هريرة لمّا جئت زائرها ... ويلا عليك وويلا منك يا رجل (3)
[سورة الفرقان (25): آية 30]
{وَقََالَ الرَّسُولُ يََا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هََذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)}
{الْقُرْآنَ} نعت لهذا لأن هذا ينعت بما فيه الألف واللام وإن لم يكن جاريا على الفعل {مَهْجُوراً} مفعول ثان.
[سورة الفرقان (25): الآيات 31الى 32]
{وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى ََ بِرَبِّكَ هََادِياً وَنَصِيراً (31) وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاََ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلاً (32)}
{وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، وكذا الكاف في {كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ} المعنى تثبيتا كذلك التثبيت، هذا على أن يكون التمام عند قوله جلّ وعزّ: {جُمْلَةً وََاحِدَةً} وإن كان التمام عند «كذلك» كان التقدير ترتيلا
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 104، والبحر المحيط 6/ 454، وهي قراءة ابن قطيب أيضا.
(2) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 9، والدرر 1/ 103، وشرح شواهد المغني 1/ 384، ولسان العرب (علا)، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 542، وهمع الهوامع 1/ 37.
(3) مرّ الشاهد رقم (119).(3/110)
كذلك. وهذا لما لم يجد المشركون سبيلا إلى تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببرهان ولا حجّة قالوا {لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً} فسألوا ما الصّلاح في غيره لأن القرآن كان ينزّل مفرّقا جوابا عما يسألون عنه، وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم لا يسألون عن شيء إلّا أجيبوا عنه. وهذا لا يكون إلّا من نبيّ فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدلّ على هذا الجواب.
[سورة الفرقان (25): آية 33]
{وَلاََ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاََّ جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)}
ولو نزل جملة لكان قد سبق الحوادث التي كانت ينزل فيها القرآن، ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل ذلك عليهم علم الله جلّ وعزّ. إنّ الصلاح في إنزاله متفرّقا لأنهم ينبّهون به مرّة بعد مرّة ولو نزل جملة لزال معنى التنبيه، وفيه ناسخ ومنسوخ فكانوا يعبّدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله جلّ وعزّ فيه الصلاح ثم ينزل النسخ بعد ذلك فمحال أن ينزل جملة افعلوا كذا وكذا، ولا تفعلوا، والأولى أن يكون التمام «جملة واحدة» لأنه إذا وقف على «كذلك» صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزّبور، ولم يتقدّم لهما ذكر. قال أبو إسحاق: {وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} أي أنزلناه. قيل:
الترتيل وهو التمكّث وهو ضدّ العجلة.
[سورة الفرقان (25): آية 34]
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ إِلى ََ جَهَنَّمَ أُوْلََئِكَ شَرٌّ مَكََاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)}
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى ََ وُجُوهِهِمْ إِلى ََ جَهَنَّمَ} في موضع رفع الابتداء وخبره في الجملة.
وقد ذكرنا معناه المروي مرفوعا. وقد قيل: هو تمثيل، كما تقول: جاءني على وجهه، أي كارها.
[سورة الفرقان (25): آية 35]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ وَجَعَلْنََا مَعَهُ أَخََاهُ هََارُونَ وَزِيراً (35)}
{وَجَعَلْنََا مَعَهُ أَخََاهُ هََارُونَ} على البدل. {وَزِيراً} مفعول ثان. والوزير في اللغة المعاون الذي يلجأ إليه صاحبه مشتقّ من الوزر وهو الملجأ. قال الله جلّ وعزّ {كَلََّا لََا وَزَرَ} [القيامة: 11].
[سورة الفرقان (25): آية 36]
{فَقُلْنَا اذْهَبََا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَدَمَّرْنََاهُمْ تَدْمِيراً (36)}
قال الفراء (1): إنما أمر موسى صلّى الله عليه وسلّم بالذهاب وحده في المعنى، وهذا بمنزلة قوله:
{نَسِيََا حُوتَهُمََا} [الكهف: 61]، وبمنزلة قوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ}
[الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال أبو جعفر: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 268.(3/111)
به على كتاب الله جلّ وعزّ وقد قال جلّ ثناؤه {فَقُولََا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ قََالََا رَبَّنََا إِنَّنََا نَخََافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنََا أَوْ أَنْ يَطْغى ََ} [طه: 44، 45] ونظير هذا في قوله:
{وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} [الرحمن: 62]، وقد قال جلّ ثناؤه {ثُمَّ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ وَأَخََاهُ هََارُونَ بِآيََاتِنََا} [المؤمنون: 45].
[سورة الفرقان (25): آية 37]
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمََّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنََاهُمْ وَجَعَلْنََاهُمْ لِلنََّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنََا لِلظََّالِمِينَ عَذََاباً أَلِيماً (37)}
{وَقَوْمَ نُوحٍ} في نصبه أقوال: يكون معطوفا على المضمر في {فَدَمَّرْنََاهُمْ} أو يكون بمعنى واذكر، ويكون على إضمار فعل يفسّره ما بعده، والتقدير وأغرقنا قوم نوح.
فهذه ثلاثة أقوال، وزعم الفراء أنه منصوب بأغرقناهم، وهذا لا يحصل لأن أغرقنا ليس ممّا يتعدّى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي قوم نوح.
[سورة الفرقان (25): آية 38]
{وَعََاداً وَثَمُودَ وَأَصْحََابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذََلِكَ كَثِيراً (38)}
يكون هذا كلّه معطوفا على قوم نوح إذا كان قوم نوح منصوبا على العطف أو بمعنى واذكر، ويجوز أن يكون هذا كلّه منصوبا على أنه معطوف على المضمر في {وَجَعَلْنََاهُمْ} وهو أولى لأنه أقرب إليه.
[سورة الفرقان (25): آية 39]
{وَكُلاًّ ضَرَبْنََا لَهُ الْأَمْثََالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنََا تَتْبِيراً (39)}
{وَكُلًّا ضَرَبْنََا لَهُ الْأَمْثََالَ} قال أبو إسحاق: وأنذر كلّا. قال: والتتبير التدمير، ومنه قيل: لمتكسّر الزجاج تبر، وكذلك تبر الذهب.
[سورة الفرقان (25): آية 40]
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهََا بَلْ كََانُوا لاََ يَرْجُونَ نُشُوراً (40)}
قيل: هذا للكفار الذين كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنهم قد أتوا على مدائن قوم لوط عليه السلام، وعلموا أنهم أهلكوا بكفرهم {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهََا بَلْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ نُشُوراً} من ينكر الأضداد يقول: يرجون على بابه لأنهم إنّما كفروا بالآخرة على دفع منهم للحقّ ليس على يقين فهم لا يرجونها، وكان أبو إسحاق أحد من ينكر الأضداد، وقال:
المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب النشور فاجترؤوا على المعاصي.
[سورة الفرقان (25): آية 41]
{وَإِذََا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاََّ هُزُواً أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولاً (41)}
{وَإِذََا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} جواب {إِذََا} {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلََّا هُزُواً} لأن معناه يتّخذونك وقيل: الجواب محذوف لأن المعنى قالوا: أهذا الذي بعث هو {الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا}
ونصب رسول على الحال، ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى بعث أرسل. ومعنى رسول رسالة على هذا.(3/112)
{وَإِذََا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} جواب {إِذََا} {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلََّا هُزُواً} لأن معناه يتّخذونك وقيل: الجواب محذوف لأن المعنى قالوا: أهذا الذي بعث هو {الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا}
ونصب رسول على الحال، ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى بعث أرسل. ومعنى رسول رسالة على هذا.
[سورة الفرقان (25): آية 43]
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)}
{أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} قيل معناه أفأنت تجبره على ذلك.
[سورة الفرقان (25): آية 44]
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاََّ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)}
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ولم يقل: أنّهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن وذمّهم جلّ وعزّ بهذا {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكّرون فيما تقوله فيعقلونه أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لمّا ينتفعوا بما يسمعون فكأنّهم لم يسمعوا. {إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ} أي إنّهم لا يفهمون {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} لأنهم يكذّبون بما يسمعون من الصدق، وليس كذا الأنعام.
[سورة الفرقان (25): آية 45]
{أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)}
{أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ} حذفت الألف للجزم، والأصل الهمز، والتخفيف لازم للمضارع من هذا لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا معنى الآية.
[سورة الفرقان (25): الآيات 47الى 49]
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبََاساً وَالنَّوْمَ سُبََاتاً وَجَعَلَ النَّهََارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً (49)}
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبََاساً} مفعولان {وَالنَّوْمَ سُبََاتاً} عطف و «سبات» بمعنى الراحة، وأعاد «جعل» توكيدا ولو كان والنهار نشورا لجاز في غير القرآن. قال الأخفش سعيد: واحد الأناسيّ إنسيّ. وكذا قال محمد بن يزيد، وهو أحد قولي الفراء (1)، وله قول آخر وهو أن يكون واحد الأناسيّ إنسانا لم يبدل من النون ياء فيقول: أناسيّ ويجب على قوله أن يقول في جمع سرحان: سراحيّ. لا فرق بينهما، وحكى أيضا {وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً} بالتخفيف.
[سورة الفرقان (25): آية 50]
{وَلَقَدْ صَرَّفْنََاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى ََ أَكْثَرُ النََّاسِ إِلاََّ كُفُوراً (50)}
{وَلَقَدْ صَرَّفْنََاهُ بَيْنَهُمْ} وهو المطر كما قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 270.(3/113)
ليس عام بأكثر مطرا من عام، ولكنّ الله يصرفه حيث يشاء. {فَأَبى ََ أَكْثَرُ النََّاسِ إِلََّا كُفُوراً} لا يعلم بين أهل التفسير اختلافا أنّ الكفر هاهنا قولهم: «مطرنا بنوء كذا وكذا» (1) وأن نظيره قول المنجّم: فعل النجم كذا وكذا، وأنّ كلّ من نسب إليها فعلا فهو كافر.
[سورة الفرقان (25): آية 54]
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكََانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)}
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: فمن أجلها ما روي عن ابن عباس، قال: النسب سبع {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهََاتُكُمْ وَبَنََاتُكُمْ وَأَخَوََاتُكُمْ وَعَمََّاتُكُمْ وَخََالََاتُكُمْ وَبَنََاتُ الْأَخِ وَبَنََاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] والصّهر السبع {وَأُمَّهََاتُكُمُ اللََّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] إلى آخر الآية. وشرح هذا أنّ السبع الأول من النسب فتقديره في العربية: فجعله ذا نسب وذا صهر. والسبع الذين من الصهر أي ممن يقع فيهم الصهر لولا ما حدث، وقال الضحاك: النسب الأقرباء، والصهر ذوات الرضاع، والقول الثالث: أنّ النسب الذكر من الأولاد، والصهر الإناث من الأولاد لأنّ المصاهرة من جهتين تكون.
[سورة الفرقان (25): آية 55]
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لاََ يَنْفَعُهُمْ وَلاََ يَضُرُّهُمْ وَكََانَ الْكََافِرُ عَلى ََ رَبِّهِ ظَهِيراً (55)}
{وَكََانَ الْكََافِرُ عَلى ََ رَبِّهِ ظَهِيراً} روي عن ابن عباس الكافر هاهنا أبو جهل وشيعته لأنه يستظهر بعبدة الأوثان على أولياء ربه. وقال عكرمة: الكافر إبليس ظهير على عداوة ربه، وقال مطر: الكافر هاهنا الشيطان.
[سورة الفرقان (25): آية 57]
{قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاََّ مَنْ شََاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلاً (57)}
{مِنْ} في موضع ونصب استثناء ليس من الأول. والتقدير: لكن من شاء أن ينفق ابتغاء مرضاة الله ليتّخذ إلى ثواب ربّه طريقا فليفعل.
[سورة الفرقان (25): آية 59]
{الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمََنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)}
{ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمََنُ} في رفعه ثلاثة أوجه يكون بدلا من المضمر الذي في استوى، ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}. ويجوز الخفض بمعنى وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت الرّحمن، يكون نعتا، ويجوز النصب على المدح.
__________
(1) يشير إلى الحديث: «أصبح الناس بين مؤمن وكافر فمن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب»، أخرجه مالك في الموطأ باب 3، الحديث رقم (6).(3/114)
[سورة الفرقان (25): آية 60]
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمََنِ قََالُوا وَمَا الرَّحْمََنُ أَنَسْجُدُ لِمََا تَأْمُرُنََا وَزََادَهُمْ نُفُوراً (60)}
هذه قراءة المدنيين والبصريين، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لما يأمرنا (1)
بالياء. والقراءة الأولى اختيار أبي عبيد، وتأوّل الثانية فيما نرى «أنسجد لما يأمرنا الرحمن»، قال: ولو أقرّوا بأنّ الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا، وليس يجب أن يتأوّل عن الكوفيين في قراءتهم بهذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم أنسجد لما يأمرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب متناولا.
[سورة الفرقان (25): آية 61]
{تَبََارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمََاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهََا سِرََاجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)}
هذه قراءة المدنيين والبصريين وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين سرجا (2) والقراءة الأولى أولى عند أبي عبيد، لأنه تأول أن السرج النّجوم، وأنّ البروج النجوم، وليس يجب أن يتأوّل لهم هذا فيجيء المعنى نجوما ونجوما، ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السّرج النجوم الدراريّ فعلى هذا تصحّ القراءة ويكون مثل قوله جلّ وعزّ {مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِلََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكََالَ} [البقرة: 98] فأعيد ذكر النجوم النيّرة، وإن كانت القراءة الأولى أبين وأوضح تأويلا. قال ابن عباس: السراج الشمس وروى عصمة عن الأعمش {وَقَمَراً} (3) بضم القاف وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة.
ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات. وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
[سورة الفرقان (25): آية 62]
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرََادَ شُكُوراً (62)}
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم على اختلاف عنه والكسائي، وقرأ الأعمش وحمزة {لِمَنْ أَرََادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} (4)
الأصل في «يذّكّر» يتذكّر ثم أدغمت التاء في الدال أي يتذكّر ويتفكّر في خلق الله، فإنّ الدلالة فيه بيّنة فهذه القراءة بيّنة ويذكر يجوز أن يتبيّن هذه الأشياء بذكره.
[سورة الفرقان (25): آية 63]
{وَعِبََادُ الرَّحْمََنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذََا خََاطَبَهُمُ الْجََاهِلُونَ قََالُوا سَلاََماً (63)}
{وَعِبََادُ الرَّحْمََنِ} رفع بالابتداء وقد أشكل على جماعة من النحويين هذا حتى قال
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 466، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 467.
(3) انظر البحر المحيط 6/ 468، وهي قراءة الحسن والنخعيّ.
(4) انظر البحر المحيط 6/ 468، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.(3/115)
الأخفش: هو مبتدأ بلا خبر يذهب إلى أنه محذوف ورأيت أبا إسحاق قد جاء في هذا بما هو أولى من قول الأخفش هذا قال: «عباد» مرفوع بالابتداء و {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} من صفتهم «والذين» الذي بعده عطف عليه والخبر {أُوْلََئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ}
[الفرقان: 75] قال: ويجوز أن يكون الخبر {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} {قََالُوا سَلََاماً} مصدر. وقد ذكرنا معناه.
[سورة الفرقان (25): آية 66]
{إِنَّهََا سََاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقََاماً (66)}
{إِنَّهََا سََاءَتْ مُسْتَقَرًّا} قال أبو إسحاق: «مستقرا» منصوب على التمييز أي في المستقر سبيل التمييز أن يكون فيه معنى «من» فالمعنى: ساءت من المستقرات.
[سورة الفرقان (25): آية 67]
{وَالَّذِينَ إِذََا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكََانَ بَيْنَ ذََلِكَ قَوََاماً (67)}
{وَالَّذِينَ إِذََا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} هذه قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما وهي قراءة حسنة من قتر يقتر وهذا القياس في اللازم مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو {لَمْ يَقْتُرُوا} (1) وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة {وَلَمْ يَقْتُرُوا} (2) وتعجّب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذّ فانّما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال جلّ وعزّ {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وتأوّل أبو حاتم لهم أنّ المسرف يفتقر سريعا، وهذا تأويل بعيد ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيّق: قتر يقتر ويقتر وقتّر يقتّر وأقتر يقتر فعلى هذا تصحّ القراءة وإن كان فتح الياء أصحّ وأقرب متناولا وأشهر وأعرف. ومن أحسن ما قيل في معناه ما حدّثناه الحسن بن غليب قال: حدّثني عمران بن أبي عمران قال: حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرمي. قال: حدّثني عمرو بن أبي لبيد عن أبي عبد الرحمن الحبلي في قوله جلّ وعزّ {وَالَّذِينَ إِذََا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكََانَ بَيْنَ ذََلِكَ قَوََاماً} قال: من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. قال أبو إسحاق: تفسر هذه الآية على الحقيقة ما أدّب الله جلّ وعزّ به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فقال: {وَلََا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى ََ عُنُقِكَ وَلََا تَبْسُطْهََا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] {وَكََانَ بَيْنَ ذََلِكَ قَوََاماً} خبر كان واسم كان فيها مضمر دلّ عليه أنفقوا، والتقدير:
كان الإنفاق بين الإسراف والقتور عدلا. وللفراء قول آخر يجعل «بين» اسم كان وينصبها. قال أبو جعفر: ما أدري ما وجه هذا لأن «بين» إذا كانت في موضع رفع رفعت كما يقال: بين عينيه أحمر فترفع بين.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 471، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 471، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.(3/116)
[سورة الفرقان (25): آية 68]
{وَالَّذِينَ لاََ يَدْعُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ وَلاََ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلاََّ بِالْحَقِّ وَلاََ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً (68)}
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً} شرط ومجازاة.
[سورة الفرقان (25): آية 69]
{يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً (69)}
{يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ} بدل من يلق قال سيبويه: لأن مضاعفة العذاب لقيّ الأنام، وقرأ عاصم يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا (1) بالرفع، والجزم أولى لما ذكرنا. وفي الرفع قولان: أحدهما أن يقطعه مما قبله، والآخر أن يكون محمولا على المعنى، كأنّ قائلا قال: ما لقيّ الآثام؟ فقيل: يضاعف له العذاب.
[سورة الفرقان (25): آية 70]
{إِلاََّ مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صََالِحاً فَأُوْلََئِكَ يُبَدِّلُ اللََّهُ سَيِّئََاتِهِمْ حَسَنََاتٍ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)}
{إِلََّا مَنْ تََابَ} في موضع نصب على الاستثناء. {فَأُوْلََئِكَ يُبَدِّلُ اللََّهُ سَيِّئََاتِهِمْ حَسَنََاتٍ} مفعولان، وقد ذكرنا معناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع.
[سورة الفرقان (25): آية 71]
{وَمَنْ تََابَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللََّهِ مَتََاباً (71)}
{فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللََّهِ مَتََاباً} مصدر فيه معنى التوكيد.
[سورة الفرقان (25): آية 73]
{وَالَّذِينَ إِذََا ذُكِّرُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهََا صُمًّا وَعُمْيََاناً (73)}
{صُمًّا وَعُمْيََاناً} على الحال.
[سورة الفرقان (25): آية 74]
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنََا هَبْ لَنََا مِنْ أَزْوََاجِنََا وَذُرِّيََّاتِنََا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنََا لِلْمُتَّقِينَ إِمََاماً (74)}
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} لم يجمع لأنه مصدر، ولو جمع يراد به اختلاف الأجناس لجاز {وَاجْعَلْنََا لِلْمُتَّقِينَ إِمََاماً} واحد يدلّ على جمع.
[سورة الفرقان (25): آية 75]
{أُوْلََئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمََا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهََا تَحِيَّةً وَسَلاََماً (75)}
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهََا تَحِيَّةً وَسَلََاماً} هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة {وَيُلَقَّوْنَ فِيهََا} (2). قال الفراء (3): ويلقون أعجب إليّ لأن القراءة لو كانت
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 472، وكتاب السبعة لابن مجاهد 468.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 474.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 275.(3/117)
«يلقّون» كانت في العربية بالباء. وهذا من الغلط أشدّ مما مرّ في السورة لأنه يزعم أنها لو كانت يلقّون كانت في العربية بتحية وسلام. وقال كما يقال: فلان يتلقّى بالسّلام وبالخير. فمن عجيب ما في هذا أنّه قال: يتلقّى، والآية يلقّون، والفرق بينهما بيّن لأنه يقال: فلان يتلقّى بالجنّة، ولا يجوز حذف الياء، فكيف يشبه هذا ذاك وأعجب من هذا أنّ في القرآن {وَلَقََّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] لا يجوز أن يقرأ بغيره وهذا يبيّن أن الأولى خلاف ما قال.
[سورة الفرقان (25): آية 76]
{خََالِدِينَ فِيهََا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقََاماً (76)}
{خََالِدِينَ فِيهََا} على الحال.
[سورة الفرقان (25): آية 77]
{قُلْ مََا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاََ دُعََاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزََاماً (77)}
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزََاماً} وعن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قرأ: فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما (1) وكذا روى شعبة عن إبراهيم التيمي عن أبي الزبير قال شعبة: وكذا في قراءة عبد الله بن مسعود. وهذه القراءة مخالفة للمصحف وينبغي أن تحمل على التفسير لأن معنى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} أنّه يخاطب به الكفار، وهذه القراءة مع موافقتها للسواد أولى بسياق الكلام لأن الله جلّ وعزّ قال: {قُلْ مََا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلََا دُعََاؤُكُمْ} فهذه مخاطبة، وكذا {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزََاماً} فهذا أولى من فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما وقد تكلم النحويون فيه، فمن حسن ما قيل فيه أنّ التقدير فسوف يكون التكذيب لأن كذبتم يدلّ على التكذيب، وحقيقته في العربية فسوف يكون جزاء التكذيب عذابا لزاما أي ذا لزام. ولزام وملازمة واحد. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت قعنبا أبا السّمال ليقرأ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزََاماً} (2) بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم، والكسر أولى مثل قتال ومقاتلة كما أجمعوا على الكسر في قوله جلّ وعزّ {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكََانَ لِزََاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى}
[طه: 129] وللفراء قول آخر (3) في اسم يكون قال: يكون فيها مجهول. وهذا غلط لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال جلّ وعزّ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}
[يوسف: 90] وكما حكى النحويون: كان زيد منطلق. يكون في كان مجهول، ويكون المبتدأ وخبر مخبر المجهول، والتقدير كان الحديث. فأما أن يقال: كان منطلقا ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 475، ومختصر ابن خالويه 105.
(2) انظر البحر المحيط 6/ 475.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 275.(3/118)
26 - شرح إعراب سورة الشّعراء
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الشعراء (26): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {طسم (1)}
أبو جعفر: (1) حكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو كان يفتح، وأنّ الكوفيين يكسرون، وأن المدنيين يقرءون بين الفتح والكسر. وهذا مشروع في سورة «طه» وقرأ المدنيّون وأبو عمرو وعاصم والكسائي {طسم} بإدغام النون في الميم، والقرّاء يقولون: بإخفاء النون، وقرأ الأعمش وحمزة طسين ميم بإظهار النون. قال أبو جعفر: للنون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه (2): يبيّنان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء، ويكونان من الخياشيم أي لا يبينان، فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصّها سيبويه لا تجوز هذه القراءة لأنه ليس هاهنا حرف من حروف الحلق فتبيّن النون عنده ولكن في ذلك وجه وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها فإذا وقف عليها تبيّنت النون. وحكى أبو إسحاق في كتابه «فيما يجرى وما لا يجرى» (3) أنه يجوز أن يقول «طسين ميم» بفتح النون وضم الميم، كما يقال: هذا معدي كرب يا هذا.
[سورة الشعراء (26): آية 2]
{تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ (2)}
{تِلْكَ آيََاتُ} رفع على إضمار مبتدأ أي: هذه تلك آيات الكتاب المبين أي التي كنتم وعدتم بها لأنهم وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن.
[سورة الشعراء (26): آية 3]
{لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاََّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}
{لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ} خبر لعلّ. {أَلََّا يَكُونُوا} قال الفراء (4): في موضع نصب لأنهما جزاء. قال أبو جعفر: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، كذا المتعارف. والقول في
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 7/ 5.
(2) انظر الكتاب 4/ 587.
(3) انظر كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف ص 63.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 275.(3/119)
هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه «في القرآن» قال: «أن» في موضع نصب مفعول له، والمعنى: لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإيمان.
[سورة الشعراء (26): آية 4]
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ (4)}
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ آيَةً} شرط ومجازاة. {فَظَلَّتْ} معناه فتظلّ، لأن الماضي يأتي بمعنى المستقبل في المجازاة. وقد ذكرنا «خاضعين» ولم يقل: خاضعات بما يستغني عن الزيادة.
[سورة الشعراء (26): آية 7]
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)}
أصل الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم فاضل شريف صفوح، قال الفراء: والزوج اللون.
[سورة الشعراء (26): آية 10]
{وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (10)}
{إِذْ} في موضع نصب، واتل عليهم إذ نادى ربك موسى، ويدل على هذا أن بعده {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرََاهِيمَ} [الشعراء: 69] {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}.
[سورة الشعراء (26): آية 11]
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاََ يَتَّقُونَ (11)}
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بدل. {أَلََا يَتَّقُونَ} لأنهم غيّب عن المخاطبة، ويجوز ألا تتّقون بمعنى قل لهم، ومثله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بالتاء والياء
[سورة الشعراء (26): الآيات 12الى 13]
{قََالَ رَبِّ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاََ يَنْطَلِقُ لِسََانِي فَأَرْسِلْ إِلى ََ هََارُونَ (13)}
{وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي}. قال الكسائي: القراءة بالرفع يعني في {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي} من وجهين: أحدهما: الابتداء، والآخر: بمعنى وإنّي يضيق صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على «أخاف». قال: ويقرأ بالنصب، وكلاهما وجه. قال أبو جعفر: الوجه الرفع لأن النصب عطف على «يكذّبون»، وهذا بعيد يدلّ على ذلك قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27] فهذا يدلّ على أن هذا كذا.
[سورة الشعراء (26): آية 17]
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ (17)}
قال أبو إسحاق: {أَنْ أَرْسِلْ} في موضع نصب، أي أرسلنا لأن ترسل معنا بني إسرائيل، فامتنّ عليه فرعون بالتربية.(3/120)
[سورة الشعراء (26): آية 18]
{قََالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينََا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينََا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)}
{قََالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينََا وَلِيداً} نصب على الحال. {وَلَبِثْتَ فِينََا} وإن شئت أدغمت الثاء في التاء لقربها منها {مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} وتحذف الضمّة لثقلها فيقال من عمرك، وحكى سيبويه (1) فتح العين وإسكان الميم ومنه لعمرك ولا يستعمل في القسم عنده إلّا الفتح لخفّته. {سِنِينَ} على جمع التسليم، وقد يقال: لبثت سنينا يا هذا. يجعل الإعراب في النون.
[سورة الشعراء (26): آية 19]
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكََافِرِينَ (19)}
تكون الجملة في موضع الحال أي قتلت النفس وهذه حالك، ويجوز أن يكون المعنى: وأنت السّاعة من الكافرين لنعمتي لأنك تطالبني أن أرسل معك بني إسرائيل.
[سورة الشعراء (26): آية 20]
{قََالَ فَعَلْتُهََا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضََّالِّينَ (20)}
قيل: معناه أي ضللت عن أن أعرف بأنّ تلك الضربة تقتل.
[سورة الشعراء (26): آية 22]
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهََا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرََائِيلَ (22)}
قال الأخفش: فقيل المعنى أو تلك نعمة وحذفت ألف الاستفهام. قال أبو جعفر: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى وحذفها محال، إلّا أن يكون في الكلام «أم» فيجوز حذفها في الشعر ولا أعلم بين النحويين في هذا اختلافا إلّا شيئا قاله الفراء (2) قال: يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشكّ وحكى: ترى زيدا منطلقا بمعنى أترى. وكان عليّ بن سليمان يقول في مثل هذا: إنّما أخذه من ألفاظ العامة وكذا عنده: نعم زيدا إذا تقدّم ذكره إنما أخذه من ألفاظ العامة. ومذهب الفراء (3) في معنى {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهََا عَلَيَّ} أنه على حذف. وأنّ المعنى هي لعمري نعمة إن مننت عليّ فلم تستعبدني واستعبدت بني إسرائيل أي: إنّما صارت لأنك استعبدت بني إسرائيل. وقول الضحاك: أنّ المعنى أنك تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به أي يكون هذا على التّبكيت له والتبكيت يكون بغير استفهام وباستفهام، ويجوز أن يكون هذا مثل {وَمََا أَصََابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] ويكون تبكيتا أيضا، وقول رابع في الآيتين جميعا: أن يكون القول محذوفا «إن عبّدت» في موضع رفع على البدل من نعمة، ويجوز أن يكون أن في موضع نصب بمعنى لأن عبّدت بني إسرائيل.
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 386.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 2/ 394.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 279.(3/121)
[سورة الشعراء (26): الآيات 23الى 24]
{قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ (23) قََالَ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)}
{قََالَ فِرْعَوْنُ وَمََا رَبُّ الْعََالَمِينَ} فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم ف {قََالَ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أي إذا نظرتم إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والحوادث علمتم وأيقنتم أنّ لهما صانعا ومدبّرا.
[سورة الشعراء (26): آية 25]
{قََالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاََ تَسْتَمِعُونَ (25)}
عليهم من الأول وأدنى إلى أفهامهم من الأول.
فخاطب موسى صلّى الله عليه وسلّم الجماعة بما هو أقرب.
[سورة الشعراء (26): آية 26]
{قََالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبََائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)}
فجاء بدليل يفهمونه عنه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء، وأنهم قد فنوا، وأنهم لا بدّ لهم من مفن، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا وأنهم لا بد لهم من مكوّن.
[سورة الشعراء (26): الآيات 27الى 28]
{قََالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قََالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمََا بَيْنَهُمََا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)}
{قََالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم عن هذا بأن {قََالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ليس ملكه كملكك لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في غيره ويميت من لا تحبّ أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فستتبيّنون ما قلت.
[سورة الشعراء (26): الآيات 29الى 30]
{قََالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قََالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)}
{قََالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلََهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فرفق به موسى صلّى الله عليه وسلّم ف {قََالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء تتبيّن به صدق ما جئت به.
[سورة الشعراء (26): آية 31]
{قََالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (31)}
فلم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه لأن ما تقدّم يكفي منه.
[سورة الشعراء (26): آية 36]
{قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ (36)}
{قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ} قال أبو إسحاق: أي أخّره عن وقتك وأخّر استتمام مناظرته
حتى تجتمع كل السحرة أرجئه بإثبات الهمزة في الإدراج، ويجوز حذفها وإثبات الكسرة، وفي الإدراج يجوز حذفها، وإثبات الضمة بالهمزة وضمّ الهاء بغير واو.(3/122)
{قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ} قال أبو إسحاق: أي أخّره عن وقتك وأخّر استتمام مناظرته
حتى تجتمع كل السحرة أرجئه بإثبات الهمزة في الإدراج، ويجوز حذفها وإثبات الكسرة، وفي الإدراج يجوز حذفها، وإثبات الضمة بالهمزة وضمّ الهاء بغير واو.
ويجوز إثبات الواو على بعد. وإنما بعد لأن الهمزة ساكنة والواو ساكنة والحاجز بينهما ضعيف والواو في الأصل والياء على البدل منه وحذفهما لأن قبلهما ما يدلّ عليهما، وأنهما زائدتان.
[سورة الشعراء (26): آية 41]
{فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ قََالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ (41)}
ومن قرأ {أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً} بغير استفهام جعل معناه إنّك ممن يحبّنا ويبرّنا.
[سورة الشعراء (26): آية 46]
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ (46)}
أي الّذين كان يقال لهم سحرة وذكروا بهذا الاسم ليدلّ على أنهم المذكورون قبل.
[سورة الشعراء (26): آية 49]
{قََالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاََفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} تمويه من فرعون وطغيان وعدوان أظهر أنّ السحرة واطئوا موسى عليه السلام على ما كان، وأنّ موسى هو الذين علّمهم السحر.
[سورة الشعراء (26): آية 50]
{قََالُوا لاََ ضَيْرَ إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا مُنْقَلِبُونَ (50)}
{قََالُوا لََا ضَيْرَ} من ضار يضير. ويقال: ضار يضور بمعنى ضرّ يضرّ ضرّا وضررا.
[سورة الشعراء (26): آية 51]
{إِنََّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنََا رَبُّنََا خَطََايََانََا أَنْ كُنََّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}
{أَنْ} في موضع نصب والمعنى لأن كنا، وأجاز الفراء (1) كسرها على أن يكون مجازاة.
[سورة الشعراء (26): آية 52]
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنْ أَسْرِ بِعِبََادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ مُوسى ََ أَنْ أَسْرِ بِعِبََادِي} من أسرى يسري ويجوز أن أسر من سرى يسري لغتان فصيحتان.
[سورة الشعراء (26): آية 54]
{إِنَّ هََؤُلاََءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)}
لام توكيد تدخل كثيرا في خبر إن إلّا أن الكوفيين لا يجيزون: إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] فهذه لام التوكيد
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 280.(3/123)
بعينها قد دخلت على سوف {قَلِيلُونَ} جمع مسلّم كما يقال: أحدون.
[سورة الشعراء (26): آية 55]
{وَإِنَّهُمْ لَنََا لَغََائِظُونَ (55)}
من غاظ يغيظ وهي اللغة الفصيحة.
[سورة الشعراء (26): آية 56]
{وَإِنََّا لَجَمِيعٌ حََاذِرُونَ (56)}
قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين {حََاذِرُونَ} (1)، وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس حادرون (2) بالدال غير معجمة، قراءة ابن أبي عمار.
قال أبو جعفر: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرين وحاذرين واحد، وهو قول سيبويه. وأجاز: هو حذر زيدا، كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد: [الكامل] 312 حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار (3)
قال أبو جعفر: حدّثني علي بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: قال أبو عثمان اللّاحقي: لقيني سيبويه فقال: أتعرف بيتا فيه فعل ناصبا؟ فلم أحفظ فيه شيئا وفكّرت فعملت له فيه هذا البيت، وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا، على حذف «من». فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد، ويذهبون إلى أنّ معنى حذر في خلقته الحذر أي منتبه متيقّظ فإذا كان هكذا لم يتعدّ، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدّمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله جلّ وعزّ: {حََاذِرُونَ} قال: مؤدّون في الكراع والسلاح مقوون فهذا ذاك بعينه، وقوله: مؤدّون معناه معهم أداة، وقيل: المعنى معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرّضون على القتال. فأما «حادرون» فمعنا مشتقّ من قولهم: عين حدرة أي ممتلئة أي نحن ممتلئون غيظا عليهم.
[سورة الشعراء (26): آية 59]
{كَذََلِكَ وَأَوْرَثْنََاهََا بَنِي إِسْرََائِيلَ (59)}
{كَذََلِكَ} في موضع رفع والمعنى الأمر كذلك أي الأمر كما أخبرناكم من خبرهم.
[سورة الشعراء (26): آية 61]
{فَلَمََّا تَرََاءَا الْجَمْعََانِ قََالَ أَصْحََابُ مُوسى ََ إِنََّا لَمُدْرَكُونَ (61)}
{فَلَمََّا تَرََاءَا} هكذا الوقف كما تقول: تجافى القوم، وتراخى إخوتك. لم تقف عليه فتقول: تجافى وتراخى، ومن وقف فقال: تراءى فقد حذف لام الفعل، وغلط من اعتلّ أنه فعل متقدّم غلطا قبيحا، وذلك أن العلّة في قولنا: تراءى أنه مثل تداعى
__________
(1) انظر البحر المحيط 6/ 17.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 106، والبحر المحيط 6/ 18.
(3) مرّ: الشاهد رقم (121).(3/124)
وتجافى كما قلنا، ولو كان متأخّرا لقيل: ترآيا فإن وصلت حذفت لالتقاء الساكنين فقلت: تراءى الجمعان. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير {قََالَ أَصْحََابُ مُوسى ََ إِنََّا لَمُدْرَكُونَ} (1). قال الفراء (2): حفر واحتفر بمعنى واحد، وكذلك لمدركون ولمدّركون بمعنى واحد. قال أبو جعفر: وليس كذا يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون مدركون ملحوقون، ومدّركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت. وهذا معنى قول سيبويه.
[سورة الشعراء (26): آية 69]
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرََاهِيمَ (69)}
على تخفيف الهمزة الثانية، وهو أحسن الوجوه لأنهم قد أجمعوا جميعا على تخفيف الثانية إذا كانتا في كلمة واحدة، نحو آدم، وإن شئت حققتهما فقلت: «نبأ إبراهيم» وإن شئت خفّفتهما فقلت «نبأ إبراهيم»، وإن شئت خففت الأولى فقلت «نبأ إبراهيم». وثمّ وجه خامس إلّا أنه بعيد في العربية، بعد لأنه جمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة وحسن في فعال لأنه لا يأتي إلّا مدغما.
[سورة الشعراء (26): الآيات 71الى 72]
{قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ (71) قََالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)}
{فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ} خبر نظل.
{قََالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} قال الأخفش: فيه حذف، والمعنى: هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم فحذف كما قال: [البسط] 313 القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا (3)
قال: والأبق الكتان فحذف. والمعنى: وقد أحكمت حكمات الأبق. وروي عن قتادة أنه قرأ {قََالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} (4) بضمّ الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم. {إِذْ تَدْعُونَ} وإن شئت أدغمت الذال في التاء.
[سورة الشعراء (26): آية 73]
{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}
معطوف على يسمعونكم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 19، ومختصر ابن خالويه 107.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 280.
(3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 49، ولسان العرب (أبق) و (حكم)، وتهذيب اللغة 4/ 114، وجمهرة اللغة 1026، وتاج العروس (حكم)، ومجمل اللغة 1/ 159، ومقاييس اللغة 1/ 39، وديوان الأدب 2/ 329، وأساس البلاغة (حكم)، وبلا نسبة في لسان العرب (حكم)، والمخصّص 4/ 71، وديوان الأدب 2/ 133، وكتاب العين (حكم).
(4) انظر مختصر ابن خالويه 107.(3/125)
[سورة الشعراء (26): آية 77]
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاََّ رَبَّ الْعََالَمِينَ (77)}
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} واحد يؤدّي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة: هي عدوّ الله وعدوّة الله، حكاهما الفراء. قال أبو جعفر: وسألت علي بن سليمان عن العلّة فيه، فقال من قال: عدوّة فأثبت الهاء قال: هي بمعنى معادية. ومن قال عدوّ للمؤنّث، والجمع جعله بمعنى النسب. {إِلََّا رَبَّ الْعََالَمِينَ} قال أبو إسحاق: قال النحويون: هو استثناء ليس من الأول، وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله جلّ وعزّ ويعبدون معه الأصنام، وتأوله الفراء (1) على الأصنام وحدها، والمعنى عنده فإنّهم لو عبدتهم عدوّ لي إلّا ربّ العالمين أي عدوّ لي يوم القيامة.
[سورة الشعراء (26): الآيات 78الى 79]
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}
{يَهْدِينِ} {وَيَسْقِينِ}: بغير ياء لأن الحذف في رؤوس الآيات حسن لتتّفق كلّها.
وقد قرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحلّه من العربية هذه كلّها بالياء لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلّة.
[سورة الشعراء (26): آية 82]
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}
وقرأ الحسن: الذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين وقال ليست خطيئة واحدة. قال أبو جعفر: وخطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا جميعا على التوحيد في قوّته جلّ وعزّ {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11] ومعناه بذنوبهم، وكذا {فَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ} * [النساء: 103] ومعناه الصلوات فكذا {خَطِيئَتِي} إن كانت خطايا، والله أعلم.
[سورة الشعراء (26): آية 94]
{فَكُبْكِبُوا فِيهََا هُمْ وَالْغََاوُونَ (94)}
{فَكُبْكِبُوا فِيهََا} قيل الضمير يعود على الأصنام وقد جرى الإخبار عنهم بالتذكير، لأنهم أنزلوهم منزلة ما يعقل. {هُمْ وَالْغََاوُونَ} الذين عبدوهم، «والغاوون» الخائبون من رحمة الله جلّ وعزّ.
[سورة الشعراء (26): آية 95]
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)}
الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام وساعدوا إبليس على ما يريد فهم جنوده.
[سورة الشعراء (26): آية 99]
{وَمََا أَضَلَّنََا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 281.(3/126)
رفع بفعلهم، والمجرمون: الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام.
[سورة الشعراء (26): آية 100]
{فَمََا لَنََا مِنْ شََافِعِينَ (100)}
في موضع رفع لأن المعنى: فما لنا شافعون.
[سورة الشعراء (26): آية 101]
{وَلاََ صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)}
ويجوز {وَلََا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} بالرفع يكون عطفا على الموضع: لأن المعنى فما لنا شافعون ولا صديق حميم. وجمع صديق أصدقاء، وصدقاء وصداق. ولا يقال:
صدق، للفرق بين النعت وبين غيره، وحكى الكوفيون أنه يقال في جمعه صدقان.
وهذا بعيد لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان، وحكوا أيضا صديق وأ صادق، وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا، نحو أشجع وأشاجع. ويقال:
صديق للجماعة وللمرأة، وجمع حميم أحمّاء وأحمّة، وكرهوا أفعلاء للتضعيف.
[سورة الشعراء (26): آية 102]
{فَلَوْ أَنَّ لَنََا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)}
أنّ في موضع رفع والمعنى: فلو وقع لنا رجوع إلى الحياة لآمنّا.
[سورة الشعراء (26): آية 105]
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} على تأنيث الجماعة.
[سورة الشعراء (26): آية 111]
{قََالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)}
{الْأَرْذَلُونَ} جمع الأرذل والمكسر أراذل والأنثى الرّذلى والجمع رذل، ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه، ومنعوا جميعا سقطت له ثنّيتان علييان لا سفليان.
[سورة الشعراء (26): آية 119]
{فَأَنْجَيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)}
{الْفُلْكِ} زعم سيبويه أنه جمع فلك كأسد وأسد، وقيل: فلك وفلك بمعنى واحد.
[سورة الشعراء (26): آية 128]
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)}
قال محمد بن يزيد {رِيعٍ} جمع ريعة.
[سورة الشعراء (26): آية 129]
{وَتَتَّخِذُونَ مَصََانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)}
فذمّوا على أن اتّخذوا ما لا يحتاجون إليه ووبخوا بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي لستم تخلدون فلم تبنون ما تموتون وتتركونه؟(3/127)
[سورة الشعراء (26): آية 137]
{إِنْ هََذََا إِلاََّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)}
قراءة شيبة ونافع وعاصم والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والحسن {إِنْ هََذََا إِلََّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} (1) بفتح الخاء. فالقراءة الأولى عند الفراء بمعنى عادة الأولين. قال أبو جعفر: وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: خلق الأولين مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان من هذا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (2) أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله جلّ وعزّ، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الخلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: وحكي لنا عن محمد بن يزيد أنّ معنى «خلق الأولين» تكذيبهم وتخرّصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم وقولهم: {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ} * [الزخرف: 22].
[سورة الشعراء (26): آية 148]
{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهََا هَضِيمٌ (148)}
{وَنَخْلٍ طَلْعُهََا هَضِيمٌ} الجملة في موضع خفض نعت لنخل. وأحسن ما قيل في معناه ما رواه الدّراوردي عن ابن أخي الزّهري عن عمه في قوله جلّ وعزّ: {طَلْعُهََا هَضِيمٌ} قال: الرّخص اللطيف أول ما يطلع، وهو الطلع النضيد لأن بعضه فوق بعض.
[سورة الشعراء (26): آية 149]
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً فََارِهِينَ (149)}
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبََالِ} ويقال: تنحتون لأنه فيه حرفا من حروف الحلق. بيوتا فرهين (3) قراءة المدنيين والبصريين، وقرأ أبو صالح والكوفيون {فََارِهِينَ} وقد اختلف العلماء في معناهما ففرق بينهما بعضهم وجعلهما بمعنى واحد. فقال أبو صالح ومعاوية بن قرّة ومنصور بن المعتمر والضحاك بن مزاحم فارهون حاذقون. قال مجاهد: «فرهون» أشرون بطرون. قال أبو جعفر: فهذا تفريق بين معنيين، يكون «فارهون» من فره إذا كان حاذقا نشيطا، و «فرهون» بمعنى فرحين فأبدل من الحاء هاء.
وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وينحتون من الجبال بيوتا فرهين قال:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 281، والبحر المحيط 7/ 32، وهذه قراءة عبد الله وعلقمة وابن كثير والكسائي أيضا.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 250، وأبو داود في سننه (4682)، والدارمي في سننه 2/ 323، والحاكم في المستدرك 1/ 3، وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 248والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 355.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 472، والبحر المحيط 7/ 34.(3/128)
حاذقين. قال: فهذا بمعنى فارهين إن كان محفوظا عن ابن عباس وممن ذهب إلى أنّ فارهين وفرهين بمعنى واحد أبو عبيدة وقطرب. وحكى قطرب: فره يفره فهو فاره وفرع يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا وهو منصوب على الحال.
[سورة الشعراء (26): آية 155]
{قََالَ هََذِهِ نََاقَةٌ لَهََا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)}
{قََالَ هََذِهِ نََاقَةٌ لَهََا شِرْبٌ} قال الفراء (1): الشّرب الحظّ من الماء. قال أبو جعفر:
فأمّا المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا: وأكثرها المضمومة لأنّ المفتوحة والمكسورة يشتركان مع شيء آخر، فيكون الشرب الحظّ من الماء، ويكون الشّرب جمع شارب، كما قال: [البسيط] 314 فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل (2)
إلّا أنّ أبا عمرو بن العلاء رحمه الله والكسائي يختاران الشّرب بالفتح في المصدر، ويحتجّان برواية بعض العلماء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنّها أيام أكل وشرب» (3).
[سورة الشعراء (26): آية 156]
{وَلاََ تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)}
{وَلََا تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ} لا يجوز إظهار التضعيف هاهنا لأنهما حرفان متحرّكان من جنس واحد {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه والجزم كما جاز في الأمر إلّا شيء روي عن الكسائي أنه يجيزه.
[سورة الشعراء (26): آية 157]
{فَعَقَرُوهََا فَأَصْبَحُوا نََادِمِينَ (157)}
أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولم ينفعهم الندم لأن المحنة قد زالت لمّا وقع الاستيقان بالعذاب. وقيل: لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا بل طلبوا صالحا صلّى الله عليه وسلّم ليقتلوه لمّا أيقنوا بالعذاب.
[سورة الشعراء (26): آية 171]
{إِلاََّ عَجُوزاً فِي الْغََابِرِينَ (171)}
{إِلََّا عَجُوزاً} نصب على الاستثناء. {فِي الْغََابِرِينَ} روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله جلّ وعزّ أي بقيت، وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 272.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 107، ولسان العرب (ثمل) و (درن)، وجمهرة اللغة 640، ومقاييس اللغة 1/ 390، وأساس البلاغة (ثمل)، وتاج العروس (ثفت) و (ثمل)، و (درن).
(3) أخرجه مالك في الموطأ باب 44حديث (135)، وابن ماجة في سننه حديث (1719) وأبو داود في سننه حديث (2813).(3/129)
[سورة الشعراء (26): آية 176]
{كَذَّبَ أَصْحََابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)}
وقرأ أبو جعفر ونافع أصحاب لئيكة المرسلين (1) وكذا قرأ في «صاد» [آية:
13]، وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة «الحجر» [آية: 78] والتي في سورة «ق» [آية: 14] فيجب أن يردّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. فأما ما حكاه أبو عبيدة من أنّ «ليكة» هي اسم القرية التي كانوا فيها وأنّ الأيكة اسم البلد كلّه فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله، وإنما قيل: وهذا لا تثبت به حجّة حتّى يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر لأنّ أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه. روى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب صلّى الله عليه وسلّم إلى أمّتين: أي قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة. قال: والأيكة غيضة من شجر ملتفّ. وروى سعيد عن قتادة. قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر، وكانت عامة شجرهم الدوم، وهو شجر المقل وروى جويبر عن الضحاك، قال: خرج أصحاب الأيكة يعني حين أصابهم الحر فانضموا إلى الغيضة والشجر فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلّوا تحتها فلما تتامّوا تحتها أحرقوا، ولو لم يكن في هذا إلّا ما روي عن ابن عباس قال: تحتها الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أنّ الأيكة الشجر الملتفّ. فأمّا احتجاج بعض من احتجّ لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح بأنه في السواد ليكة فلا حجّة له فيه، والقول فيه أنّ أصله الأيكة ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على اللّام وسقطت واستغنيت عن ألف الوصل، لأن اللام قد تحرّكت فلا يجوز على هذا إلّا الخفض، كما تقول: مررت بالأحمر، على تحقيق الهمزة ثم تخفّفها فتقول: مررت بلحمر. فإن شئت كتبته في الخطّ كما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف، ولم يجز إلّا بالخفض فكذا لا يجوز في الأيكة إلّا الخفض. قال سيبويه: واعلم أنّ كلّ ما ينصرف إذا دخلته الألف واللام أو أضيف انصرف إذا دخلته، ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا.
[سورة الشعراء (26): آية 184]
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}
عطف على الكاف والميم ويقال: جبلّة» والجمع فيهما جبال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام فيقال: جبلة وجبل وجبلة وجبل. ويقال:
جبلة وجبال، وتحذف الهاء من هذا كلّه.
[سورة الشعراء (26): الآيات 192الى 193]
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)}
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 473، وتيسير الداني 135، والبحر المحيط 7/ 36.(3/130)
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا الحسن فإنه قرأ هو والكوفيون {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (1) وبعض أهل اللغة يحتجّ لهذه القراءة بقوله جلّ وعزّ {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} لأن تنزيلا يدلّ على نزّل، وهو احتجاج حسن، وقد ذكره أبو عبيد والحجّة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول: ليس هذا المصدر لأنّ المعنى وإنّ القرآن لتنزيل ربّ العالمين نزل به جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم، كما قال جلّ وعزّ {قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] فإنه نزّله على قلبك.
[سورة الشعراء (26): آية 196]
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)}
أي وإنّ الإنذار بمن أهلك لفي كتب الأولين. وفي قراءة الأعمش {لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (2) حذف الضمة لثقلها كما يقال رسل.
[سورة الشعراء (26): آية 197]
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمََاءُ بَنِي إِسْرََائِيلَ (197)}
أي أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما عندهم في التوراة والإنجيل آية واضحة. ومن قرأ (تكن) (3) أنّث لأن أن يعلمه هو الآية كما قال: [الكامل] 315 فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت إقدامها (4)
ويبعد رفع آية لأن أن يعلمه هو الآية. وقرأ عاصم الجحدري أن تعلمه علماء بني إسرائيل (5).
[سورة الشعراء (26): آية 198]
{وَلَوْ نَزَّلْنََاهُ عَلى ََ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)}
وقرأ الحسن على بعض الأعجميّين (6). قال أبو جعفر: يقال رجل أعجم وأعجميّ إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجميّ أصله من العجم وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله، إلّا أنّ الفراء أجاز أن يقال: رجل عجميّ.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 473، ومعاني الفراء 2/ 284، وتيسير الداني 135.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 38.
(3) انظر تيسير الداني 135، وكتاب السبعة لابن مجاهد 473، والبحر المحيط 7/ 39، وهذه قراءة ابن عامر والجحدري.
(4) الشاهد للبيد في ديوانه 306، والأشباه والنظائر 5/ 255، والخصائص 2/ 415، ولسان العرب (عرد) و (قدم)، وكتاب العين 2/ 32، وبلا نسبة في الخصائص 1/ 70.
(5) انظر البحر المحيط 7/ 39، ومختصر ابن خالويه 107.
(6) انظر البحر المحيط 7/ 40وهي قراءة ابن مقسم أيضا.(3/131)
[سورة الشعراء (26): الآيات 200الى 201]
{كَذََلِكَ سَلَكْنََاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لاََ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتََّى يَرَوُا الْعَذََابَ الْأَلِيمَ (201)}
وأجاز الفراء (1) الجزم في «يؤمنون» لأن فيه معنى الشرط والمجازاة، زعم وحكي عن العرب: ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، قال: لأن معناه إن لم أربطه ينفلت. والرفع عنده بمعنى كيلا ينفلت وكيلا يؤمنوا فلما حذف «كي» رفع. وهذا الكلام كلّه في يؤمنون خطأ على مذهب البصريين لا يجوز الجزم لا جازم ولا يكون شيء يعمل عملا أقوى من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيّن وإن شذّ قول لبعض البصريين لم يعرّج عليه إذ كان الأكثر يخالفه فيه.
[سورة الشعراء (26): آية 205]
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنََاهُمْ سِنِينَ (205)}
قال الضحاك: يعني أهل مكة.
[سورة الشعراء (26): آية 206]
{ثُمَّ جََاءَهُمْ مََا كََانُوا يُوعَدُونَ (206)}
قال: يعني من العذاب والهلاك.
[سورة الشعراء (26): آية 207]
{مََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يُمَتَّعُونَ (207)}
{مََا} الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الأولى نفيا لا موضع لها.
[سورة الشعراء (26): الآيات 208الى 209]
{وَمََا أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاََّ لَهََا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى ََ وَمََا كُنََّا ظََالِمِينَ (209)}
قال الكسائي: {ذِكْرى ََ} في موضع نصب على القطع، وهذا لا يحصّل، والقول فيه هو قول الفراء (2) وأبي إسحاق أنّها في موضع نصب على المصدر. قال الفراء: أي يذّكّرون ذكرى وهذا قول صحيح لأنّ معنى {إِلََّا لَهََا مُنْذِرُونَ} إلا لها مذكّرون. وذكرى لا يتبيّن فيه الإعراب لأن فيه ألفا مقصورة، ويجوز «ذكرى» بالتنوين، ويجوز أن يكون «ذكرى» في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق: أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء: أي ذلك ذكرى وتلك ذكرى.
[سورة الشعراء (26): آية 210]
{وَمََا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيََاطِينُ (210)}
وقرأ الحسن الشياطون (3) وهو غلط عند جميع النحويين. قال أبو جعفر:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 283.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 284.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 43، ومعاني الفراء 2/ 285، ومختصر ابن خالويه 108.(3/132)
وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هكذا يكون غلط العلماء إنما يكون بدخول شبهة. لما رأى الحسن رحمه الله في آخره ياء ونونا وهو في موضع اشتبه عليه بالجمع المسلّم فغلط. وفي الحديث «احذروا زلّة العالم» (1) وقد قرأ هو مع الناس {وَإِذََا خَلَوْا إِلى ََ شَيََاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ولو كان هذا بالواو في موضع الرفع لوجب حذف النون للإضافة.
[سورة الشعراء (26): الآيات 211الى 212]
{وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمََا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}
{وَمََا يَنْبَغِي لَهُمْ} أي وما يصلح للشياطين أن ينزلوا بالوحي والأمر بطاعة الله جلّ وعزّ {وَمََا يَسْتَطِيعُونَ} أن يتقوّلوا مثل القرآن، ولا أن يأخذوه من الملائكة استراقا لأنهم عن السمع لمعزولون.
[سورة الشعراء (26): الآيات 213الى 214]
{فَلاََ تَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}
قيل: قل لمن كفر هذا، وقيل: هو مخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم وإن كان لا يفعل هذا لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا ليعلم الله جلّ وعزّ حكمه في من عبد غيره كائنا من كان وبعد هذا ما يدلّ عليه وهو {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أي لئلا يتّكلوا على نسبهم وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب عليهم.
[سورة الشعراء (26): آية 215]
{وَاخْفِضْ جَنََاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}
يقال: خفض جناحه إذا لان ورفق.
[سورة الشعراء (26): آية 216]
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تَعْمَلُونَ (216)}
أي إنّي بريء من معصيتكم إيّاي لأن عصيانهم إياه عصيانهم لله جلّ وعزّ لأنه لا يأمرهم إلّا بما يرضاه الله جلّ وعزّ، ومن تبرّأ الله جلّ وعزّ منه.
[سورة الشعراء (26): آية 221]
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى ََ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيََاطِينُ (221)}
قيل: الشياطين تنزّل لأنها أكثر ما تكون في الهواء لضئولة خلقها وأنها بمنزلة الريح.
[سورة الشعراء (26): آية 222]
{تَنَزَّلُ عَلى ََ كُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ (222)}
أي كذّاب يجترم الإثم تتنزّل عليه توسوس له بالمعصية.
[سورة الشعراء (26): آية 223]
{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كََاذِبُونَ (223)}
__________
(1) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال رقم (2883).(3/133)
{يُلْقُونَ السَّمْعَ} قيل: الّذين يلقون السمع هم الذين تتنزّل عليهم أي يستمعون إلى الشياطين ويقبلون منهم، وقيل: هم الشياطين يسترقون السمع.
[سورة الشعراء (26): آية 224]
{وَالشُّعَرََاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغََاوُونَ (224)}
ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره يتّبعهم. وقيل: «الغاوون» هاهنا الزائلون عن الحقّ، ودلّ: هذا على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك.
[سورة الشعراء (26): آية 225]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وََادٍ يَهِيمُونَ (225)}
أي هم بمنزلة الهائم لأنهم يذهبون في كلّ وجه من الباطل ولا يتّبعون سنن الحقّ لأن من اتّبع الحقّ وعلم أنّه يكتب عليه قوله تثبّت ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال.
[سورة الشعراء (26): آية 227]
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَذَكَرُوا اللََّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} في موضع نصب على الاستثناء.
{وَذَكَرُوا اللََّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحقّ وبما حدّه الله جلّ وعزّ فإذا تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وفي هذا تهديد لمن انتصر بظلم و «أيّ» منصوب بينقلبون، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم. والنحويون يقولون: لا يعمل في الاستفهام ما قبله. قال أبو جعفر: وحقيقة العلّة في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.(3/134)
27 - شرح إعراب سورة النّمل
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة النمل (27): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {طس تِلْكَ آيََاتُ الْقُرْآنِ وَكِتََابٍ مُبِينٍ (1)}
{طس تِلْكَ آيََاتُ الْقُرْآنِ} بمعنى هذه تلك آيات القرآن، ويجوز في هذا ما جاز في أول «البقرة» في قوله جلّ وعزّ {ذََلِكَ الْكِتََابُ} [البقرة: 2]. {وَكِتََابٍ مُبِينٍ} عطف على القرآن. قال أبو إسحاق: ويجوز «وكتاب مبين» (1) بمعنى وذلك كتاب مبين.
[سورة النمل (27): آية 2]
{هُدىً وَبُشْرى ََ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
{هُدىً} في موضع نصب على الحال، ويجوز فيه ما جاز في غيره في أول سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
[سورة النمل (27): آية 3]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاََةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)}
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلََاةَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز فيه ما جاز في أول سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]
[سورة النمل (27): آية 4]
{إِنَّ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)}
{إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} اسم «إنّ». {زَيَّنََّا لَهُمْ أَعْمََالَهُمْ} في موضع الخبر.
[سورة النمل (27): آية 5]
{أُوْلََئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذََابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)}
{أُوْلََئِكَ} في موضع رفع بالابتداء. وخبره {الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذََابِ} ويقال: «الّذون» في موضع الرفع. {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. {فِي الْآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين.
__________
(1) وهي قراءة ابن أبي عبلة، انظر البحر المحيط 7/ 51.(3/135)
[سورة النمل (27): الآيات 6الى 7]
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نََاراً سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)}
{لَدُنْ} بمعنى عند إلّا أنّها مبنية غير معربة لأنها لا تتمكّن.
وقرأ المدنيون وأبو عمرو بشهاب قبس (1) وقرأ الكوفيون {بِشِهََابٍ قَبَسٍ} فزعم الفراء (2) في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: {وَلَدََارُ الْآخِرَةِ} * [يوسف: 109] يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال أبو جعفر: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين (3) لأن معنى الإضافة في اللغة ضمّ شيء ليبيّن به معنى الملك والنوع فمحال أن يبيّن أنه مالك نفسه أو من نوعها. و «بشهاب قبس» إضافة النوع إلى الجسم كما تقول: هذا ثوب خزّ. والشهاب كلّ ذي نور، نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبه، فالمعنى: بشهاب من قبس. يقال:
قبست قبسا، والاسم قبس، كما تقول: قبض قبضا والاسم القبض، ومن قرأ «بشهاب قبس» جعله بدلا، ويجوز «بشهاب قبسا» في غير القرآن على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها طاء لأنّ الطاء مطبقة، والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا.
[سورة النمل (27): آية 8]
{فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (8)}
قال أبو إسحاق «أن» في موضع نصب أي بأنه «قال». ويجوز أن يكون في موضع رفع، جعلها اسم ما لم يسمّ فاعله. وحكى أبو حاتم: أن في قراءة أبيّ وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن حولها (4) ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صحّ لكان على التفسير، وقد روى سعيد عن قتادة «أن بورك من في النّار ومن حولها» قال: الملائكة. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك.
[سورة النمل (27): آية 10]
{وَأَلْقِ عَصََاكَ فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يََا مُوسى ََ لاََ تَخَفْ إِنِّي لاََ يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)}
{فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ} في موضع نصب على الحال. {كَأَنَّهََا جَانٌّ} والجانّ عند العرب الثعبان، وهو الحيّة العظيمة {وَلََّى مُدْبِراً} على الحال. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} قال قتادة: أي لم
__________
(1) انظر تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 53.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 286.
(3) انظر الإنصاف مسألة (61).
(4) انظر معاني الفراء 2/ 286، والبحر المحيط 7/ 55.(3/136)
يلتفت. {يََا مُوسى ََ لََا تَخَفْ} أي قيل له لا تخف من الحيّة وضررها. {إِنِّي لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} هذا تمام الكلام.
[سورة النمل (27): آية 11]
{إِلاََّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)}
{إِلََّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} استثناء ليس من الأول في موضع نصب. وزعم الفراء (1) أن الاستثناء من محذوف، والمعنى عنده: إنّي لا يخاف لديّ المرسلون إنّما يخاف غيرهم إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف، وزعم الفراء (2): أيضا أنّ بعض النحويين يجعل إلّا بمعنى الواو. قال أبو جعفر: استثناء من محذوف محال لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز: إنّي أضرب القوم إلّا زيدا، بمعنى لا أضرب القوم إنّما أضرب غيرهم إلّا زيدا، وهذا ضدّ البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وأما كان إلّا بمعنى الواو فلا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام. ومعنى «إلّا» خلاف معنى الواو لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلّا زيدا، أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة. وإذا قلت: جاءني إخوتك وزيد، أدخلت زيدا فيما دخل فيه الإخوة فلا شبه بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول ثالث: يكون المعنى أن موسى صلّى الله عليه وسلّم لما خاف من الحية فقال له جلّ وعزّ: {لََا تَخَفْ إِنِّي لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}، علم جلّ وعزّ أنّ من عصى منهم يسرّ الخيفة فاستثناه فقال: إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء أي فانه يخاف، وإن كنت قد غفرت له فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله جلّ وعزّ أن يكونوا خائفين من معاصيه، وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به، وقرأ مجاهد {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} (3) قال أبو جعفر:
وهذا بعيد من غير جهة، منها أنه أقام الصفة مقام الموصوف في شيء مشترك، ومنها أن ازدواج الكلام بدّل حسنا بعد سيئ على أن بعضهم قد أنشد بيت زهير: [البسيط] 316 يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا (4)
[سورة النمل (27): آية 12]
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيََاتٍ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ (12)}
{تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} جزم «تخرج» لأنه جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة.
{فِي تِسْعِ آيََاتٍ} أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى هذه الآية داخلة في تسع آيات.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 287.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 287.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 56، ومختصر ابن خالويه 108.
(4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 51، ولسان العرب (سوق)، وتاج العروس (سوق).(3/137)
[سورة النمل (27): آية 13]
{فَلَمََّا جََاءَتْهُمْ آيََاتُنََا مُبْصِرَةً قََالُوا هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}
{فَلَمََّا جََاءَتْهُمْ آيََاتُنََا مُبْصِرَةً} نصب على الحال. قال أبو إسحاق: ويجوز «مبصرة» أي مبيّنة تبصر. قال الأخفش: ويجوز «مبصرة» مصدر، وكما يقال: «الولد مجبنة».
[سورة النمل (27): آية 16]
{وَوَرِثَ سُلَيْمََانُ دََاوُدَ وَقََالَ يََا أَيُّهَا النََّاسُ عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينََا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}
قال سعيد عن قتادة {وَوَرِثَ سُلَيْمََانُ دََاوُدَ} قال: ورث منه النبوّة والملك صلّى الله عليه وسلّم {وَقََالَ يََا أَيُّهَا النََّاسُ عُلِّمْنََا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} خبر ما لم يسم فاعله. والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جلّ وعزّ أعلم بما أراد.
[سورة النمل (27): آية 17]
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمََانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
يقال: إنّ الجنّ سخّرت له لأنه ملك مضارّها ومنافعها، وسخّرت له الطير بأن جعل فيها ما يفهم عنه فكانت تستره من الشمس وغيرها. وقيل: لهذا تفقّد الهدهد.
[سورة النمل (27): آية 18]
{حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لاََ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاََ يَشْعُرُونَ (18)}
الكلام في القول كما مضى في المنطق. {يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لما خبر عنهن بأخبار الآدميين. {لََا يَحْطِمَنَّكُمْ} يكون نهيا وجوابا، والنون للتوكيد.
[سورة النمل (27): آية 20]
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لاََ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ (20)}
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقََالَ مََا لِيَ لََا أَرَى الْهُدْهُدَ} هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو بإسكان الياء وقرءوا وما لي لا أعبد الذي فطرني [يس: 22] بتحريك الياء، فزعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ وبين ما كان معطوفا على ما قبله، قال أبو جعفر:
وهذا ليس بشيء وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها، ومنهم من يسكنها، فقرؤوا باللغتين والدليل على هذا أن جماعة من جلّة القراء قرءوها جميعا بالفتح، منهم عبد الله بن كثير وعاصم والكسائي، وأن حمزة قرأهما جميعا بالتسكين، واللغة الفصيحة من ياء النفس أن تكون مفتوحة لأنها اسم وهي على حرف واحد فكان الاختيار أن لا تسكّن فيجحف بالاسم. {أَمْ كََانَ مِنَ الْغََائِبِينَ} بمعنى أبل.
[سورة النمل (27): آية 21]
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ (21)}
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي
والخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} لجاز {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} ويجوز أن يكون هذا النون الخفيفة ثمّ أدغمت في النون التي مع الياء، ويجوز أن تكون النون التي مع الياء حذفت، كما يقال: إنّي ذاهب ويكون مؤكّدا بالثقيلة، وأهل مكة يقرءون «أو ليأتينّني» (1).(3/138)
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي
والخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} لجاز {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} ويجوز أن يكون هذا النون الخفيفة ثمّ أدغمت في النون التي مع الياء، ويجوز أن تكون النون التي مع الياء حذفت، كما يقال: إنّي ذاهب ويكون مؤكّدا بالثقيلة، وأهل مكة يقرءون «أو ليأتينّني» (1).
[سورة النمل (27): آية 22]
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقََالَ أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قراء عاصم، وتروى عن الأعمش، وقراءة سائر القراء {فَمَكَثَ} (2) قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا، كما قالوا: قعد يقعد قعودا. قال:
ومكث مثل ظرف، وحجّة من ضمّ عند سيبويه أنه غير متعدّ كظرف. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن مكث أفصح قولهم ماكث، ولا يقولون: مكث فهذا مخالف لظرف. قال أبو جعفر: وهذا احتجاج بيّن لأن فعل فهو فاعل لا يعرف في كلام العرب إلّا في أشياء مختلف فيها، ومنها ما هو مردود. فأما اللواتي اختلف فيها فطلقت المرأة فهي طالق، وقد قيل: طلقت، وحمض الخلّ فهو حامض، وقد قيل: حمض. وزعم أبو حاتم: أنّ قولهم فره فهو فاره لا اختلاف فيه.
كذا قال، وقد حكى غيره: فره يفره فهو فره وفاره مثل حذر، حكى هذا قطرب. {غَيْرَ بَعِيدٍ} قال أبو إسحاق: أي وقتا غير بعيد. {فَقََالَ أَحَطْتُ بِمََا لَمْ تُحِطْ بِهِ} فكان في هذا ردّ على من قال: إنّ الأنبياء تعلم الغيب، وحكى الفراء (3) (أحطّ) يدغم التاء في الطاء، وحكى أحتّ يقلب الطاء تاءا ويدغم «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» قراءة المدنيين والكوفيين. وقرأ المكيون والبصريون {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (4) بغير صرف وزعم الفراء أن الرّؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء رحمه الله عن سبأ فقال: ما أدري ما هو. وتأوّل الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف واحتجّ بقوله: [الطويل] 317 يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا (5)
وأبو عمرو أجلّ من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنّما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحويّ عن اسم
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 62، وكتاب السبعة لابن مجاهد 479.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 62، وكتاب السبعة لابن مجاهد 479.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 289.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 63.
(5) الشاهد للأعشى في ديوانه 163، والكتاب 3/ 106، وجمهرة اللغة 177، وشرح شواهد الإيضاح 492، ولسان العرب (زيب) و (كبب)، وبلا نسبة في المقتضب 2/ 22، وصدره:
«وتدفن منه الصالحات وإن يسيء»(3/139)
فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف بل الحقّ على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه لأن أصل الأسماء الصرف، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلّة داخلة عليه فالأصل ثابت فلا يزول بما لا يعرف. واحتجاجه بكبكب لا معنى له لأن كبكب جبل معروف، منع من الصرف لأنه بقعة، وإن كان الصرف فيه حسنا. والدليل على ما قلنا إن أبا عمرو إنما احتجّ بكلام العرب ولم يحتجّ بأنه لا يعرفه، وأنشد للنابغة الجعدي: [المنسرح] 318 من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما (1)
وإن كان أبو عمرو قد عورض من هذا فروي «من سبأ الحاضرين» حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد ابن يزيد يقول: سمعت عمارة يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سََابِقُ} [يس: 40] بالنصب، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقد تكلّم أبو عبيد القاسم بن سلام في هذا بكلام كثير التخليط ونمليه على نص ما قال، إذ كان كتابه أصلا من الأصول ليوقف على نصّ ما قال، ويعلم موضع الغلط منه. قال أبو عبيد: وهي قراءتنا التي نختار، يعني «من سبأ بنبإ يقين»، قال أبو عبيد: لأن سبأ اسم مؤنث لامرأة أو قبيلة، وليس بخفيف فيجري لخفّته والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل، ومن ذهب إلى هذا لزمه أن يجري ثمود في كلّ القرآن فإنه وإن كان اليوم اسم قبيلة فإنه في الأصل اسم رجل وكذلك سبأ، فإن قيل: إن ثمود أكثر في العدد من سبأ بحرف، قيل: إن الحركة التي في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله، إنما الزيادة في ثمود واو ساكنة. قال أبو جعفر: قوله: «لأن سبأ اسم مؤنّث لامرأة أو قبيلة» يوجب أنه ترك صرفه لأحد هذين الأمرين، وأحدهما لا يشبه صاحبه، لأن اسم المرأة تأنيث حقيقى واسم القبيلة تأنيث غير حقيقي، والاختيار عند سيبويه (2) في أسماء القبائل إذ كان لا يستعمل فيها «بنو» الصرف نحو ثمود، وقوله: «ليس بخفيف فيجري لخفّته» ليس بحجّة على من صرفه لأنه لم يقل أحد علمناه: صرفته لأنه خفيف. وقوله: «والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل» ليس هذا حجّة من أجراه، إنما حجته أنه اسم للحيّ وإن كان أصله على الحقيقة أنه اسم لرجل. روى فروة بن مسيك وعبد الله بن عباس عن النبي
__________
(1) الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه 134، وجمهرة اللغة ص 773، وسمط اللآلي ص 18، وشرح أبيات سيبويه 2/ 241، ولسان العرب (عرم)، ولأميّة بن أبي الصلت في ديوانه ص 59، وللنابغة الجعدي أو لأميّة في خزانة الأدب 9/ 139، وللأعشى في معجم ما استعجم ص 170، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 279، والاشتقاق ص 489، وجمهرة اللغة 1107، ولسان العرب (سبأ)، وما ينصرف وما لا ينصرف ص (59).
(2) انظر الكتاب 3/ 271.(3/140)
صلّى الله عليه وسلّم وهو معروف في النسب «سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان» وإن كان أبو إسحاق قد زعم أنه من صرفه جعله اسما للبلد. وقوله «فإن قيل: إنّ ثمود أكثر في العدد من سبأ قيل: إن الحركتين اللتين في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله» فهذا موضع التخليط لأن الحركة التي في الباء والهمزة في ثمود وسبأ بالحركة لا معنى له لأنهما جميعا متحركان. قال أبو جعفر: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه اسم رجل في الأصل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحيّ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف، وحجته في ذلك قاطعة لأن هذا الاسم لما كان يقع للتذكير والتأنيث كان التذكير أولى لأنه الأصل والأخف.
[سورة النمل (27): الآيات 24الى 25]
{وَجَدْتُهََا وَقَوْمَهََا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاََ يَهْتَدُونَ (24) أَلاََّ يَسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مََا تُخْفُونَ وَمََا تُعْلِنُونَ (25)}
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لََا يَهْتَدُونَ} {أَلََّا يَسْجُدُوا لِلََّهِ} هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة، وقرأ الزهري وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن وحميد وطلحة والكسائي ألا يا اسجدوا لله (1) القراءة الأولى هي أن دخلت عليها «وإن» في موضع نصب. قال الأخفش: المعنى: لئلا يسجدوا. وقال الكسائي:
المعنى: فصدّهم أن لا يسجدوا. وقال علي بن سليمان: أن بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقيل: موضعها خفض على البدل من السبيل، والقراءة الثانية بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا، كما قال: [الطويل] 319 ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (2)
وقال آخر: [البسيط] 320 يا لعنة الله والأقوام كلّهم ... والصّالحين على سمعان من جار (3)
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 290، وتيسير الداني 136.
(2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص 559، والإنصاف 1/ 100، وتخليص الشواهد ص 231، والخصائص 2/ 278، والدرر 2/ 44، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغني 2/ 617، والصاحبي في فقه اللغة ص 232، واللامات 37، ولسان العرب (يا)، ومجالس ثعلب 1/ 42، والمقاصد النحوية 2/ 6، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 235، وجواهر الأدب ص 290، والدرر 5/ 117، وشرح الأشموني 1/ 178، وشرح ابن عقيل ص 136، وشرح عمدة الحافظ 199.
(3) الشاهد بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 448، والجنى الداني ص 356، والكتاب 2/ 224، وجواهر الأدب ص 290، وخزانة الأدب 11/ 197، والدرر 3/ 25، ورصف المباني ص 3، وشرح أبيات سيبويه 2/ 31، وشرح شواهد المغني 2/ 796، وشرح المفصّل 2/ 24، واللامات ص 37، ومغني اللبيب 2/ 373، والمقاصد النحوية 4/ 261، وهمع الهوامع 1/ 174.(3/141)
والمعنى: يا هؤلاء لعنة الله. قال أبو جعفر: وهذا موجود في كلام العرب إلّا أنه غير معتاد أن يقال: يا قدم زيد، والقراءة به بعيدة لأن الكلام يكون معترضا. والقراءة الأولى يكون الكلام بها متّسقا، وأيضا السواد على غير هذه القراءة لأنه قد حذف منها ألفان وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو {يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} * [المائدة:
110]. {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} والوقف عليه بتسكين الهمزة، وإذا كان في موضع رفع جاز الرّوم (1) والإشمام ولا يجوز التضعيف، وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ الّذي يخرج الخبا في السماوات والأرض (2) بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية واعتل بأنه أن خفّف الهمزة ألقى حركتها على الباء وحذفها فقال:
«الخب في السّموات» وأنه إن حول الهمزة قال: «الخبي» بإسكان الباء وبعدها ياء. قال أبو جعفر: قوله لا يجوز «الخبا» وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: كان دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، يعني أبا حاتم، إلّا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. حكى سيبويه (3) عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذ كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة، وأنه يقال: هذا الوثو، وعجبت من الوثى، ورأيت الوثا، وهذا من وثئت يده، وكذلك هذا الخبو، وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا. وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدلت منها هذه الحروف.
وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون: هذا الخبوء فيضمّون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة إلّا أن هذا عن بني تميم، فيقولون: هذا الرّدي، وزعم أنهم لم يضمّوا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة لأنه ليس في الكلام فعل.
وهذا كلّه لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة.
[سورة النمل (27): آية 28]
{اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مََا ذََا يَرْجِعُونَ (28)}
{اذْهَبْ بِكِتََابِي هََذََا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} قال أبو إسحاق: فيها خمسة أوجه (4): (فألقهي إليهم) بإثبات الياء في اللفظ، وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالّة عليها (فألقه إليهم)،
__________
(1) الرّوم: هو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها فيسمع لها صوت خفيّ يدركه الأعمى بحاسة السمع.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 109، والبحر المحيط 7/ 67.
(3) انظر الكتاب 4/ 25.
(4) انظر الوجوه الخمسة في كتاب السبعة لابن مجاهد 481، والبحر المحيط 7/ 68.(3/142)
وبضم الهاء واثبات الواو على الأصل (فألقهو إليهم)، وبحذف الواو واثبات الضمة (فألقه إليهم)، واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء (فألقه إليهم) وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة يكون يقدّر الوقف. وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه اللغة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن تحذف الإعراب من الأسماء.
[سورة النمل (27): آية 30]
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ (30)}
أي وإنّ الكلام، أو أنّ مبتدأ الكلام «بسم الله الرّحمن الرّحيم»، وأجاز الفراء (1)
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمََانَ وَإِنَّهُ} بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بمعنى: ألقي إليّ أنه من سليمان، وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض.
[سورة النمل (27): آية 31]
{أَلاََّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}
{أَلََّا تَعْلُوا عَلَيَّ} ذكر أبو إسحاق في «أن» ثلاثة أوجه: تكون في موضع نصب على معنى بأن، وتكون في موضع رفع بمعنى ألقي إليّ أن، والوجه الثالث أن تكون بمعنى أي مثل {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص: 6] المعنى أي امشوا وقالوا أن امشوا، وكذا «ألّا تعلو عليّ» أي قال: لا تعلوا عليّ، وعن وهب بن منبّه أنه قرأ ألّا تغلوا علي (2) من غلا يغلو إذا تجاوز {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} يكتب بغير ياء لأن الواو لا تنفصل.
[سورة النمل (27): آية 32]
{قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مََا كُنْتُ قََاطِعَةً أَمْراً حَتََّى تَشْهَدُونِ (32)}
{قََالَتْ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي} بتخفيف الهمزة الثانية اللغة الفصيحة، وإن شئت خففت الأولى وحدها، وإن شئت خففتهما جميعا، وإن شئت حققتهما جميعا، وهي أبعد اللغات لثقل الجمع بين همزتين. {مََا كُنْتُ قََاطِعَةً أَمْراً حَتََّى تَشْهَدُونِ} حذفت النون للنصب، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها والنون مع الفعل وهي رأس آية، ولا يجوز فتح النون ولو كان كذلك لكان الفعل مرفوعا.
[سورة النمل (27): الآيات 33الى 34]
{قََالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مََا ذََا تَأْمُرِينَ (33) قََالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}
{أُولُوا} هذا اسم للجمع والواحد ذو. وروى الأعمش عن مجاهد قال: كان
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 291.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 69، وهي قراءة الأشهب العقيلي أيضا.(3/143)
تحت يديها اثنا عشر ألفا قيول تحت يدي كلّ قيل مائة ألف فأجابتهم عن هذا {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا} أي عنوة أي على القهر والغلبة {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً} قال الله جلّ وعزّ: {وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} وليس هذا من كلامها، كذا قال سعيد بن جبير.
[سورة النمل (27): آية 35]
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليهم بلبنة من ذهب أو بذهب، قرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به وقالت:
«مرسلة إليهم» وإنما هو إلى سليمان صلّى الله عليه وسلّم كما يخبر عن الملوك فيخاطبون ويخاطبون، وقد قيل: إنّ الهدية كانت غير هذا إلّا أن قوله: «أتمدّونني بمال» يدلّ على هذا {فَنََاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والأصل «بما»، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، وإنما يكون هذا إذا كان قبل «ما» حرف جر، تقول في الخبر: رغبت فيما عندك فتثبت فيما عندك الألف لا غير. وتقول في الاستفهام: فيم نظرت؟ فتحذف الألف، وأجاز الفراء (1) إثباتها في الاستفهام، وهذا من الشذوذ التي جاء القرآن بخلافها.
[سورة النمل (27): آية 36]
{فَلَمََّا جََاءَ سُلَيْمََانَ قََالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمََالٍ فَمََا آتََانِيَ اللََّهُ خَيْرٌ مِمََّا آتََاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}
{فَلَمََّا جََاءَ سُلَيْمََانَ قََالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمََالٍ} وإن شئت أدغمت النون في النون فذلك جائز وإن كان فيه جمع بين ساكنين.
[سورة النمل (27): آية 37]
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاََ قِبَلَ لَهُمْ بِهََا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهََا أَذِلَّةً وَهُمْ صََاغِرُونَ (37)}
{فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا} لام قسم والنون لها لازمة. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام توكيد، وكذا كان عنده أنّ اللامات كلّها ثلاث لا غير: لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذّاق من النحويين لأنهم يردّون الشيء إلى أصله، وهذا لا يتهيّأ إلّا لمن درب بالعربية. {أَذِلَّةً} على الحال. {وَهُمْ صََاغِرُونَ} في موضع الحال أيضا.
[سورة النمل (27): آية 38]
{قََالَ يََا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهََا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}
قيل: إنما أراد بهذا أنهم إذا أتوا مسلمين لم يجز أن يؤتى بعرشها إلّا بإذنها، وقيل: إنما أراد سليمان صلّى الله عليه وسلّم أن يظهر آية معجزة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 292.(3/144)
[سورة النمل (27): آية 39]
{قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقََامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)}
{قََالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} قال أبو إسحاق: العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها الذي معه خبث ودهاء. ويقال: عفر وعفارية وعفرية، وعن أبي رجاء أنه قرأ قال عفرية (1)
من الجنّ ويقال: عفرية نفرية إتباع، ومن قال: عفرية جمعه على عفار، ومن قال:
عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه: إن شاء قال: عفاريت وإن شاء قال: عفار لأن التاء زائدة، كما يقال: طواغ في جمع طاغوت، وإن شاء عوض من التاء فقال:
عفاريّ.
[سورة النمل (27): آية 40]
{قََالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتََابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمََّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قََالَ هََذََا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمََا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
قال الأخفش: المعنى: لينظر أأشكر أم أكفر، وقال غيره: معنى ليبلوني ليتعبّدني وهو مجاز.
[سورة النمل (27): آية 41]
{قََالَ نَكِّرُوا لَهََا عَرْشَهََا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاََ يَهْتَدُونَ (41)}
{قََالَ نَكِّرُوا لَهََا عَرْشَهََا} زعم الفراء أنه إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها {نَنْظُرْ} جزم لأنه جواب الأمر، ومن رفعه جعله مستأنفا {أَتَهْتَدِي} في معناه قولان: أحدهما أتهتدي بمعرفته، والآخر أتهتدي لهذه الآية العظيمة وتعلم أنّها لا يأتي بها إلّا نبيّ من عند الله جلّ وعزّ فتهتدي وتدع الضّلالة.
[سورة النمل (27): آية 42]
{فَلَمََّا جََاءَتْ قِيلَ أَهََكَذََا عَرْشُكِ قََالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهََا وَكُنََّا مُسْلِمِينَ (42)}
{قََالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} خبر كأنّ مكنيّ عنه لأنه قد تقدّم ذكره. {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهََا} قيل:
العلم بالتوحيد {وَكُنََّا مُسْلِمِينَ} قيل: لأن قومها أسلموا قبلها.
[سورة النمل (27): آية 43]
{وَصَدَّهََا مََا كََانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنَّهََا كََانَتْ مِنْ قَوْمٍ كََافِرِينَ (43)}
تكون «ما» في موضع رفع أي صدّها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب، ويكون التقدير وصدها الله جل وعز عن عبادتها أي وصدها سليمان صلّى الله عليه وسلّم عن عبادتها فحذف «عن» وتعدّى الفعل، وأنشد سيبويه: [الطويل]
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 109، والبحر المحيط 7/ 72.(3/145)
321 - ونبئت عبد الله بالجوّ أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها (1)
وزعم أنّ المعنى عنده نبّئت عن عبد الله، ومن قرأ (أنّها) (2) بفتح الهمزة كانت أنّ في موضع نصب بمعنى لأنها، ويجوز أن يكون بدلا من «ما» والكسر على الاستئناف.
[سورة النمل (27): آية 44]
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمََّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سََاقَيْهََا قََالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوََارِيرَ قََالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمََانَ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ (44)}
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} التقدير على مذهب سيبويه (3) ادخلي إلى الصرح فحذفت «إلى» وعدّي الفعل. وأبو العباس يغلّطه في هذا قال لأن «دخل» يدلّ على مفعول.
{قََالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} كسرت إن لأنها مبتدأة بعد القول، ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمََانَ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} إذا سكنت {مَعَ} فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين، وإذا فتحتها ففيها قولان: أحدهما أنها بمعنى الظرف اسم، والآخر أنها حرف خافض مبني على الفتح.
[سورة النمل (27): آية 45]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا إِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ فَإِذََا هُمْ فَرِيقََانِ يَخْتَصِمُونَ (45)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا إِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً} جعل اسما للقبيلة فلم يصرف، وصرفه حسن على أنه اسم للحيّ. {فَإِذََا هُمْ فَرِيقََانِ يَخْتَصِمُونَ} على المعنى ويختصمان على اللفظ.
[سورة النمل (27): آية 46]
{قََالَ يََا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاََ تَسْتَغْفِرُونَ اللََّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)}
{قََالَ يََا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قال أبو إسحاق: أي لم قلتم: إن كان ما أتيت به حقا فأتنا بالعذاب.
[سورة النمل (27): آية 47]
{قََالُوا اطَّيَّرْنََا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قََالَ طََائِرُكُمْ عِنْدَ اللََّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}
{قََالُوا اطَّيَّرْنََا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} قال مجاهد: أي تشاءمنا. قال أبو إسحاق: الأصل تطيّرنا فأدغمت التاء في الطاء لأنها من مخرجها واجتلبت ألف الوصل لئلا يبتدأ بساكن، فإذا وصلت حذفتها {قََالَ طََائِرُكُمْ عِنْدَ اللََّهِ} قال الفراء (4): يقول في اللوح المحفوظ عند الله عزّ وجلّ تشاءمون بي وتتطيّرون، وذلك من عند الله تعالى مثل قوله
__________
(1) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 75، وشرح التصريح 1/ 293، والمقاصد النحوية 2/ 522، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 426، وشرح الأشموني 1/ 186.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 110، وهذه قراءة سعيد بن جبير.
(3) انظر الكتاب 1/ 211.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 295.(3/146)
{طََائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] أي لازم لكم ما كان من خير أو شرّ لازم لكم وفي رقابكم.
[سورة النمل (27): آية 48]
{وَكََانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلاََ يُصْلِحُونَ (48)}
{وَكََانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} اسم للجمع، وجمعه أرهط، وجمع الجمع أراهط.
{يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلََا يُصْلِحُونَ} قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون ويأمرون بالفساد فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر فقلبها الله جلّ وعزّ عليهم فقتلهم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
[سورة النمل (27): آية 49]
{قََالُوا تَقََاسَمُوا بِاللََّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنََّا لَصََادِقُونَ (49)}
{قََالُوا تَقََاسَمُوا بِاللََّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} وهذا، من أحسن ما قرئ به هذا الحرف لأنه يدخل فيه المخاطبون في اللفظ والمعنى. وإذا قرأ لتبيّننّه (1) لم يدخل فيه المخاطبون في اللفظ ودخلوا في المعنى، وقراءة مجاهد ليبيّتنّه بالياء. قال أبو إسحاق: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} أي قالوا لنبيتنه متقاسمين، أي متحالفين {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مََا شَهِدْنََا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} (2) «مهلك» بمعنى إهلاك، ويكون بمعنى الظرف وعن عاصم ما شهدنا مهتل بمعنى هلاك وعنه {مَهْلِكَ} (3) وهو اسم موضع الهلاك كما تقول: مجلس.
[سورة النمل (27): آية 50]
{وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنََا مَكْراً وَهُمْ لاََ يَشْعُرُونَ (50)}
{وَمَكَرُوا مَكْراً} إنما عملوه. {وَمَكَرْنََا مَكْراً} جازيناهم على ذلك، وقيل المكر من الله الإتيان بالعقوبة المستحقّة من حيث لا يدري العبد.
[سورة النمل (27): آية 51]
{فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنََّا دَمَّرْنََاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}
{فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} وقرأ الكوفيون والحسن وابن أبي إسحاق وهي قراءة الكسائي {أَنََّا دَمَّرْنََاهُمْ} بفتح الهمزة، وزعم الفراء (4) أن فتحهما من جهتين: إحداهما أن تردّها على كيف. قال أبو جعفر: وهذا لا يحصّل لأن كيف للاستفهام و «أنّا» غير داخل في الاستفهام، والجهة الأخرى عنده أن تكرّ عليها «كان» كأنك قلت: كان عاقبة أمرهم تدميرهم. قال أبو جعفر: وهذا متعسّف، وفي فتحها
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 80.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 80، وتيسير الداني 136، وكتاب السبعة لابن مجاهد 483.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 80، وتيسير الداني 136، وكتاب السبعة لابن مجاهد 483.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 296.(3/147)
خمسة أوجه: منها أن يكون التقدير: لأنّا دمّرناهم وتكون أن في موضع نصب، ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من عاقبة، وليجوز أن تكون في موضع نصب على خبر كان ويجوز أن تنصب عاقبة على خبر كان وتكون أنّ في موضع رفع على أنّها اسم كان، ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة، والتقدير: من أنّا دمرناهم، ومن قرأ {أَنََّا دَمَّرْنََاهُمْ} جعلها مستأنفه قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ أن دمّرناهم (1) تصديقا لفتحها.
[سورة النمل (27): آية 52]
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خََاوِيَةً بِمََا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)}
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خََاوِيَةً بِمََا ظَلَمُوا} النصب على الحال، والرفع من خمسة أوجه تكون «بيوتهم» بدلا من تلك و «خاوية» خبر الابتداء، وتكون «بيوتهم» خبرا و «خاوية» خبرا ثانيا كما يقال: هذا حلو حامض، وتكون «خاوية» على إضمار مبتدأ أي هي خاوية، وتكون بدلا من بيوتهم لأن النكرة تبدل من المعرفة.
[سورة النمل (27): آية 54]
{وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)}
{وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ} بمعنى وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا.
[سورة النمل (27): آية 55]
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسََاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}
{أَإِنَّكُمْ} بتخفيف الهمزة الثانية اختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلّها لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. {وَتَأْتُونَ فِي نََادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]. قال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس.
[سورة النمل (27): آية 56]
{فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلاََّ أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنََاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)}
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا} جعلا «أن» خبر كان، فما كان جواب قومه إلّا قولهم. وقرأ عاصم {قَدَّرْنََاهََا} (2) مخفّفا، والمعنى واحد يقال: قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدّرته.
[سورة النمل (27): آية 59]
{قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ وَسَلاََمٌ عَلى ََ عِبََادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ََ آللََّهُ خَيْرٌ أَمََّا يُشْرِكُونَ (59)}
{قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ} قال الفراء (3): المعنى قيل للوط صلّى الله عليه وسلّم قل الحمد لله على هلكهم
__________
(1) انظر تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 82.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 484.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 484.(3/148)
{وَسَلََامٌ عَلى ََ عِبََادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ََ} وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا فقالوا: هو مخاطبة لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكلّ ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلّا ما لم يصحّ معناه إلّا بغيره. {آللََّهُ خَيْرٌ} وأجاز أبو حاتم أالله بهمزتين ولم نعلم أحدا تابعه على ذلك هذه المدّة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، «وخير» هاهنا ليس بمعنى أفعل منك إنما هو مثل قول الشاعر حسّان: [الوافر] 322 فشرّكما لخيركما الفداء (1)
فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء، ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت: فلان شرّ من فلان، ففي كلّ واحد منهما شرّ.
[سورة النمل (27): آية 60]
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
قال عكرمة: الحدائق النخل {ذََاتَ بَهْجَةٍ} قال أهل التفسير: البهجة الزينة والحسن.
[سورة النمل (27): آية 65]
{قُلْ لاََ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللََّهُ وَمََا يَشْعُرُونَ أَيََّانَ يُبْعَثُونَ (65)}
{قُلْ لََا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللََّهُ} قال أبو إسحاق: هذا بدل من «من» والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلّا الله قال: ومن نصب نصب على الاستثناء يعني في الكلام. قال أبو جعفر: وسمعته يحتجّ بهذه الآية على من صدّق منجّما، وقال: أخاف أن يكفر لعموم هذه الآية.
[سورة النمل (27): آية 66]
{بَلِ ادََّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهََا بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ (66)}
{بَلِ ادََّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} هذه قراءة (2) أكثر النحويين منهم شيبة ونافع ويحيى بن وثاب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير وحميد بل أدرك (3)، وقرأ عطاء بن يسار بل أدرك (4) بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن محيصن بل أدرك علمهم في الآخرة وقرأ ابن عباس بلى ادّارك (5) وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس، وزعم هارون القارئ أن قراءة أبيّ بن كعب بل تدارك علمهم. القراءة الأولى والآخرة معناهما واحد لأن
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 309.
(2) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299.
(3) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299.
(4) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299.
(5) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299.(3/149)
أصل ادّارك تدارك أدغمت التاء في الدال فجيء بألف الوصل لأنه لا يبتدأ بساكن فإذا وصلت سقطت ألف الوصل وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. وفي معناه قولان: أحدهما أنّ المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كلّما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة فقالوا تكون، وقالوا لا تكون. وفي معنى أدرك قولان: أحدهما معناه كمل في الآخرة، وهو مثل الأول، والآخر على معنى الإنكار وهذا مذهب أبي إسحاق، واستدلّ على معنى صحّة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ}. فأما معنى أدرك فليس فيه إلّا وجه واحد، يكون فيه معنى الإنكار كما تقول: أأنا قاتلتك أي لم أقاتلك فيكون المعنى لم يدرك. {بَلْ هُمْ مِنْهََا عَمُونَ} حذفت منه الياء لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها.
[سورة النمل (27): آية 67]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا أَإِنََّا لَمُخْرَجُونَ (67)}
هكذا يقرأ نافع (1) في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» (2)، وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلّا أنه خفّف الهمزة، وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين أيضا إلّا أنهما حقّقا (3)
الهمزتين. وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد، وقرأ الكسائي {أَإِذََا} بهمزتين (اننا) بنونين في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» (4) باستفهامين. القراءة الأولى إذا كنا ترابا وآباؤنا أننا موافقة للخطّ حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم، فقال: وهذا معنى كلامه «إذ» ليس باستفهام و «أإنا» استفهام وفيه «أنّ» فكيف يجوز أن يعمل ما في حيّز الاستفهام فيما قبله، وكيف يجوز أن يعمل ما بعد أنّ فيما قبلها، وكيف يجوز غدا أنّ زيدا خارج، فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبو العباس محمد بن يزيد عن آية من القرآن صعبة الإعراب مشكلة وهي قوله جلّ وعزّ: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فقال: إنّ عمل في «إذا» ينبئكم كان محالا لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد إن كان المعنى صحيحا، وكان خطأ في العربية أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها.
وهذا سؤال بيّن، ويجب أن يذكر في السورة التي هو فيها. فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع وردّ على من جمع بين استفهامين، واستدلّ بقول الله جلّ وعزّ {أَفَإِنْ مََاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى ََ أَعْقََابِكُمْ} [آل عمران: 144]، وبقوله جلّ وعزّ {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ}
__________
(1) انظر تيسير الداني 137، وكتاب السبعة لابن مجاهد 485.
(2) انظر إعراب الآية 29سورة العنكبوت.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 300، وتيسير الداني 137.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 300، وتيسير الداني 137.(3/150)
{الْخََالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وهذا الرّد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا، والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد، ومعنى {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخََالِدُونَ} أفإن مت خلدوا، ونظير هذا:
أزيد منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق، لأنهما بمنزلة شيء واحد، وليس كذا الآية، لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فصلح فيها الاستفهام والأول كلام منفرد يصلح فيه الاستفهام فأما من حذف الاستفهام من الثاني الاستفهام لأن في الكلام دليلا عليه لمعنى الإنكار.
[سورة النمل (27): آية 81]
{وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاََلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاََّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}
{وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ} هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وأجاز الفراء وأبو حاتم وما أنت بهاد العمى (1) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم (2) وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي عن ضلالتهم. القراءة الأولى بحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين وإثباتها في الخط، والقراءة الثانية بحذف الياء في اللفظ والخطّ لسكونها وسكون التنوين بعدها، من العرب من يثبتها في الوقف فيقول: مررت بقاضي، لأن التنوين لا يثبت في الوقف، والقراءة الثالثة بحذف الياء منها في اللفظ وفي الوصل لالتقاء الساكنين وفي حرف عبد الله وما إن تهدي إن زائدة للتوكيد وهي كافّة لما عن العمل {إِنْ تُسْمِعُ إِلََّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا} قال أبو إسحاق: أي ما تسمع قال: والمعنى ما تسمع فيعي ويعمل إلا من يؤمن بآياتنا فأما من يسمع ولا يقبل فبمنزلة الأصم.
[سورة النمل (27): آية 82]
{وَإِذََا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النََّاسَ كََانُوا بِآيََاتِنََا لاََ يُوقِنُونَ (82)}
{وَإِذََا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} قالت حفصة ابنة سيرين: سألت أبا العالية عن قول الله جلّ وعزّ: {وَإِذََا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} فقال: أوحى الله جلّ وعزّ إلى نوح صلّى الله عليه وسلّم: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلََّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف. قال أبو جعفر: وهذا من حسن الجواب لأنّ الناس ممتحنون ومؤخّرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله جلّ وعزّ أنه سيؤمن ويتوب، ولهذا أمرنا بأخذ الجزية فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح صلّى الله عليه وسلّم حين قال الله جلّ وعزّ فيهم {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلََّا مَنْ قَدْ آمَنَ} {أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} قال عبد الله بن عمر رحمة الله عليه: تخرج الدابة من صدع في الصفا، وقرأ ابن عباس
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 92، ومختصر ابن خالويه 110.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 300.(3/151)
وعكرمة وعاصم الجحدري وطلحة وأبو زرعة: {أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (1) قال عكرمة: أي تسمهم. وفي معنى «تكلمهم» قولان: فأحسن ما قيل فيه ما روي عن ابن عباس قال: هي والله تكلّمهم وتكلمهم. تكلّم المؤمن، وتكلم الكافر أو الفاجر تجرحه. وقال أبو حاتم: تكلّمهم كما تقول: تجرّحهم يذهب إلى أنّه تكثير من تكلمهم. وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق {أَنَّ النََّاسَ} (2) بفتح الهمزة، وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة إن الناس بكسر الهمزة. قال أبو جعفر: في المفتوحة قولان وكذا المكسورة، قال الأخفش: المعنى بأنّ الناس، وقال أبو عبيد:
موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي تخبرهم أن الناس. وقال الكسائي: والفراء (3):
إن الناس بالكسر على الاستئناف، وقال الأخفش: هو بمعنى تقول إنّ النّاس.
[سورة النمل (27): آية 87]
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاََّ مَنْ شََاءَ اللََّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دََاخِرِينَ (87)}
{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بمعنى واذكر، ومذهب الفراء (4) أنّ المعنى وذلك يوم ينفخ في الصور، وأجاز فيه الحذف وجعله مثل {وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} [سبأ: 51].
{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} فهذا ماض «وينفخ» مستقبل، ويقال: كيف عطف ماض على مستقبل؟ وزعم الفراء أنه محمول على المعنى، لأن المعنى إذا نفخ في الصور ففزع. {إِلََّا مَنْ شََاءَ اللََّهُ} في موضع نصب على الاستثناء. قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي وكلّ آتوه داخرين (5) جعلوه فعلا مستقبلا، وقرأ الأعمش وحمزة {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} جعلاه فعلا ماضيا. قال أبو جعفر: وفي كتابي عن أبي إسحاق في القرآن من قرأ {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} وحده على لفظ كلّ ومن قرأ {آتَوْهُ} جمع على معناها.
وهذا القول غلط قبيح لأنه إذا قال: وكلّ أتوه فلم يوحد وإنما جمع فلو وحّد لقال:
أتاه، ولكن من قال: أتوه جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنّه ردّه على «ففزع» ومن قرأ وكلّ آتوه حمله على المعنى، وقال: آتوه لأنها جملة منقطعة من الأول.
[سورة النمل (27): آية 88]
{وَتَرَى الْجِبََالَ تَحْسَبُهََا جََامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَفْعَلُونَ (88)}
{وَتَرَى الْجِبََالَ} من رؤية العين، ولو كان من رؤية القلب لتعدّت إلى مفعولين، والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الرّاء فتحرّكت الراء وحذفت الهمزة فهذه سبيل
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 301.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 110.
(3) انظر تيسير الداني 137.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 301.
(5) انظر البحر المحيط 7/ 94، وكتاب السبعة لابن مجاهد 487، وتيسير الداني 137.(3/152)
تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن إلّا أنّ التخفيف لازم لترى وأخواتها من المضارع لكثرته في الكلام، وأنه يقع لرؤية العين والقلب. {تَحْسَبُهََا جََامِدَةً} لا بدّ لتحسب من مفعولين، وظننت قد يتعدّى إلى واحد فقط. وأهل الكوفة يقرءون {تَحْسَبُهََا} وهو القياس لأنه من حسب يحسب إلّا أنه قد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل فيكون على فعل يفعل، كما قالوا نعم ينعم ويئس ييئس، وحكى بئس يبئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف. {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحََابِ} مصدر، وتقديره مرّا مثل مرّ السحاب فأقمت الصّفة مقام الموصوف والمضاف إليه. {صُنْعَ اللََّهِ} منصوب عند الخليل وسيبويه رحمهما الله على أنه مصدر لأنه لما قال عزّ وجلّ «وهي تمرّ مرّ السّحاب» دلّ على أنه صنع ذلك صنعا، ويجوز النصب على الإغراء أي انظروا صنع الله. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع على معنى ذلك صنع الله.
[سورة النمل (27): آية 89]
{مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}
{وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} تخفض (1) يوما على الإضافة وتحذف التنوين لها ومن نصب وأضاف فقرأ {مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} جعل يومئذ مبنيا على الفتح، مضاف إلى غير متمكّن، وأنشد سيبويه: [الطويل] 323 على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم (2)
فإن قال قائل: قد قال سيبويه (3): التنوين علامة الأمكن عندهم، وقال (4): وبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكّنة، فكيف يكون التنوين علامة للأمكن ثمّ يدخل فيما لا يتمكّن بوجه من الوجوه فهذا ضرب من المناقضة؟ فالجواب عن هذا أن التنوين الذي على سيبويه ليس هو هذا التنوين وإنما يتوهّمه أنه كان ضعيفا في العربية والتنوين الذي أراده هو الذي يقول بعض النحويين فيه: أدخل فرقا بيّن ما ينصرف وما لا ينصرف، ويقول بعضهم: فرقا بين الاسم والفعل. وللتنوين قسمان آخران يكون فرقا بين المعرفة والنكرة، ويكون عوضا في قولك: جوار وفي قولك يومئذ.
[سورة النمل (27): آية 90]
{وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاََّ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}
والفعل من هذا كبيته واللازم منه أكبّ وقلّ ما يأتي هذا في كلام العرب.
[سورة النمل (27): آية 91]
{إِنَّمََا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هََذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهََا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)}
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 96، وكتاب السبعة لابن مجاهد 487.
(2) مرّ الشاهد رقم (216).
(3) انظر الكتاب 1/ 47.
(4) انظر الكتاب 1/ 43.(3/153)
{الَّذِي} في موضع نصب نعت لرب، ولو كان بالألف واللام قلت: المحرّمها، فإن كان نعتا للبلدة المحرّمها هو، لا بدّ من إظهار المضمر مع الألف واللام لأن الفعل جرى على غير من هو له فإن قلت: الذي حرّمها لم تحتج أن تقول هو.
[سورة النمل (27): آية 92]
{وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)}
{وَأَنْ أَتْلُوَا} نصب بأن. قال الفراء (1): وفي إحدى القراءتين وأن أتل القرآن (2)، وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذفت منه الواو. قال أبو جعفر:
ولا نعرف أحدا قرأ بهذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف، وقوله في موضع جزم خطأ عند البصريين لأنه لا يكون جزم بلا جازم، وتقديره اللام خطأ لم يكن بدّ من المجيء بحرف المضارعة فكيف تضمر اللام وهي إذا جيء بها كان الكلام على غير ذلك، وحروف الجزم لا تضمر، وهذا الفعل لا يجوز أن يكون معربا لأنه ليس بالمضارع. قال سيبويه: أسكنوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة.
[سورة النمل (27): آية 93]
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ سَيُرِيكُمْ آيََاتِهِ فَتَعْرِفُونَهََا وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ (93)}
{وَمََا رَبُّكَ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ} بالتاء ليكون الكلام على نسق واحد، وبالياء على أن يردّ إلى ما قبله أو على تحويل المخاطبة.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 301.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 96، ومختصر ابن خالويه 111.(3/154)
28 - شرح إعراب سورة القصص
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة القصص (28): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {طسم (1) تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْمُبِينِ (2)}
{تِلْكَ} في موضع رفع بمعنى هذه تلك و {آيََاتُ} بدل منها، ويجوز أن يكون «تلك» في موضع نصب بنتلو و «آيات» بدل منها أيضا وانتصابها كما تقول: زيدا ضربت.
[سورة القصص (28): آية 4]
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاََ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهََا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طََائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنََاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسََاءَهُمْ إِنَّهُ كََانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}
{عَلََا} هاهنا فعل، وقد يكون في غير هذا اسما إذا قلت: أخذته من على الحائط، وتكون حرفا، في قولك: على زيد مال. ويجوز كتابته بالياء إذا كان اسما أو حرفا، لأن ألفه ينقلب ياء مع المضمر وإنما انقلبت ياء فرقا بينها وبين المتمكن في قولك: رأيت عصاه يا هذا، ومن العرب من لا يقلب الألف ياء، كما قال: [الرجز] 324 طاروا علاهنّ فطر علاها (1)
وإذا كانت اسما خفض ما بعدها بالإضافة، وتخفض ما بعدها إذا كانت حرفا، وإذا كانت فعلا رفعت ما بعدها بفعله أو نصبته لتعدّيها إليه. {وَجَعَلَ أَهْلَهََا شِيَعاً} مفعولان، وواحد الشّيع شيعة وهي الفرقة التي يشيّع بعضها بعضا أي يعاونه.
[سورة القصص (28): آية 5]
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوََارِثِينَ (5)}
قال سعيد عن قتادة قال: هم بنو إسرائيل. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قال: ولاة الأمر {وَنَجْعَلَهُمُ الْوََارِثِينَ} قال: أي من بعد فرعون وقومه.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (6).(3/155)
[سورة القصص (28): آية 6]
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَجُنُودَهُمََا مِنْهُمْ مََا كََانُوا يَحْذَرُونَ (6)}
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} عطف على ما قبله. قال أبو إسحاق: ويجوز و «نمكّن» بالرفع على معنى ونحن نمكّن {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ} هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وهي على نسق الكلام لأن قبله و «نريد»، وقرأ سائر الكوفيين ويرى فرعون وهامان (1) وأجاز الفراء ويرى فرعون وهامان بمعنى ويري الله فرعون وهامان {وَجُنُودَهُمََا مِنْهُمْ مََا كََانُوا يَحْذَرُونَ} تعدّى إلى مفعولين لأنه متعدّي يرى.
[سورة القصص (28): آية 7]
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذََا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاََ تَخََافِي وَلاََ تَحْزَنِي إِنََّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجََاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}
{وَأَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّ مُوسى ََ أَنْ أَرْضِعِيهِ} فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على النون وحذفتها لقربها من الساكن، وأن النون كانت قبلها ساكنة.
[سورة القصص (28): آية 8]
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَجُنُودَهُمََا كََانُوا خََاطِئِينَ (8)}
نصب «ليكون» بلام كي، وربما أشكل هذا على من يجهل اللغة ويكون ضعيفا في العربية فقال: ليست بلام كي ولقبها بما لا يعرف الحذّاق من النحويين أصله، وهذا كثير في كلام العرب، يقال: جمع فلان المال ليهلكه، وجمعه لحتفه، وجمعه ليعاقب عليه، لمّا كان جمعه إيّاه قد أدّاه إلى ذلك كان بمنزلة من جمعه له كما قال:
[المتقارب] 325 فللموت ما تلد الوالدة (2)
وقرأ الكوفيون إلّا عاصما {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} (3) فهذا الاسم للغمّ، والحزن مصدر حزن.
[سورة القصص (28): آية 9]
{وَقََالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاََ تَقْتُلُوهُ عَسى ََ أَنْ يَنْفَعَنََا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاََ يَشْعُرُونَ (9)}
{وَقََالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قال الكسائي: المعنى هذا قرّة عين لي ولك. قال أبو جعفر: وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق: يكون رفعا بالابتداء
__________
(1) انظر تيسير الداني 138، والبحر المحيط 7/ 100.
(2) مرّ الشاهد (136).
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 492، والبحر المحيط 7/ 101.(3/156)
والخبر {لََا تَقْتُلُوهُ} وإنما بعد لأنه يصير المعنى: أنه معروف بأنه قرّة عين له، وجوازه أن يكون المعنى إذا كان قرّة عين لي ولك فلا تقتلوه، ويجوز النصب بمعنى: لا تقتلوا قرّة عين لي ولك. وقالت: لا تقتلوه ولم تقل: نقتله، وهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبّارون وكما يخبرون عن أنفسهم {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} يكون لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون لقوم فرعون أي لا يشعرون أنه يسلبهم ملكهم.
[سورة القصص (28): آية 10]
{وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً إِنْ كََادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاََ أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)}
{وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً} قد ذكرناه، وعن فضالة بن عبيد {وَأَصْبَحَ فُؤََادُ أُمِّ مُوسى ََ فََارِغاً} (1) {إِنْ كََادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} من بدا يبدو إذا ظهر، وعن ابن مسعود قال:
كانت تقول: أنا أمّة. قال الفراء (2): أي إن كادت لتبدي باسمه لضيق صدرها. {لَوْلََا أَنْ رَبَطْنََا عَلى ََ قَلْبِهََا} «أن» في موضع رفع وحذف الجواب لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه ولا سيما وبعده {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
[سورة القصص (28): آية 12]
{وَحَرَّمْنََا عَلَيْهِ الْمَرََاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقََالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نََاصِحُونَ (12)}
{الْمَرََاضِعَ} جمع مرضع على جمع التكسير، ومن قال: مراضيع فهو جمع مرضاع ومفعال تكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المذكّر والمؤنث لأنه ليس بجار على الفعل ولكن من قال: مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة، كما يقال: مطرابة. قال الفراء: تدخل الهاء فيما كان مدحا يراد به الداهية وفيما كان ذما يراد به البهيمة. وهذا القول خطأ عند البصريين، ولو كان كما قال لكانت الهاء للتأنيث. {مِنْ قَبْلُ} غاية ومعنى غاية أنه صار غاية الاسم لما حذف منه. قال محمد بن يزيد: فأعطي الضمّة لأنها غاية الحركات، وقال غيره: أعطي الضمّة لأنها لا تلحقه في حال السلامة. قال أبو إسحاق: التقدير من قبل أن نردّه إليها {فَقََالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى ََ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} «يكفلونه» ليس بجواب، ولكن يكون مقطوعا من الأول، أو في موضع نعت لأهل.
{وَهُمْ لَهُ نََاصِحُونَ} ليس «له» متعلقا بناصحين فلو كان ذلك لكان تفريقا بين الصلة والموصول. وقد ذكرناه في «سورة الأعراف» (3).
[سورة القصص (28): آية 14]
{وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ََ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 303، والمحتسب 2/ 147، والبحر المحيط 7/ 102.
(2) معاني الفراء 2/ 303.
(3) انظر إعراب الآية 21الأعراف.(3/157)
{وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} عند سيبويه (1) جمع شدّة، وقال غيره: هو جمع شدّ، وقيل: هو واحد، وحكى أبو إسحاق في غير هذه السورة أنّه لا يعرف في كلام العرب اسم واحد على أفعل بغير هاء إلا أشدّ وهو وهم، وقد حكى أهل اللغة إصبع. قال أبو إسحاق:
وتأويل بلغ أشدّه استكمل نهاية قوة الرجل. {وَاسْتَوى ََ} أهل التفسير منهم ابن عباس على أنّ معنى واستوى بلغ أربعين سنة، وتأوّله أبو إسحاق: على أنه يجوز أن يكون حقيقة واستوى وصف بلوغ الأشدّ. {آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً} العالم والحكيم هو الذي يعمل بعلمه {وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال أبو إسحاق: فجعل إتيان العلم والحكمة جزاء الإحسان لأنهما يؤدّيان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين.
[سورة القصص (28): آية 15]
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى ََ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهََا فَوَجَدَ فِيهََا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاََنِ هََذََا مِنْ شِيعَتِهِ وَهََذََا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغََاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى ََ فَقَضى ََ عَلَيْهِ قََالَ هََذََا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطََانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)}
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى ََ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهََا} أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس على أنه دخل نصف النهار، وقال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخلها حين علم منهم ذلك فكان منه ما كان من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله فاستغفر ربه فغفر له. ويقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، ودخلت «على» في هذه الآية لأنّ الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول:
جئت على غفلة، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة فكذا الآية. {فَوَجَدَ فِيهََا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلََانِ هََذََا مِنْ شِيعَتِهِ} ابتداء وخبر. والمعنى: إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا من شيعته أي من بني إسرائيل. {وَهََذََا مِنْ عَدُوِّهِ} أي من قوم فرعون. وعدوّه بمعنى أعداء، وكذا يقال في المؤنّث: هي عدو لك. ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث لأنه بمعنى معادية عند البصريين وعند الكوفيين لأن الواو خفيّة، كذا يقولون. والواو ليست بخفيّة بل هي حرف جلد. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} خبر بعد خبر، وإن شئت كان «مضلّ مبين» نعتا.
[سورة القصص (28): آية 17]
{قََالَ رَبِّ بِمََا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)}
فيه قولان: أحدهما أنه بمعنى الدعاء، وهذا قول الكسائي والفراء، وقدّره الفراء (2) بمعنى اللهمّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين، والقول الآخر أنه بمعنى الخبر، وزعم الفراء أن قوله «هو» قول ابن عباس. قال أبو جعفر: وأن يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام، كما يقال: لا أعصيك لأنّك أنعمت عليّ، وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء (3) لأن ابن عباس قال: لم يستثن فابتلي،
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 60.
(2) انظر معاني الفراء 5/ 304.
(3) انظر معاني الفراء 5/ 304.(3/158)
والاستثناء لا يكون في الدعاء، لا تقول: اللهمّ اغفر لي إن شئت. وأعجب الأشياء أن الفراء روى أن ابن عباس قال هذا ثم حكى عنه قوله.
[سورة القصص (28): آية 18]
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خََائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قََالَ لَهُ مُوسى ََ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)}
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} منصوب على خبر أصبح، وإن شئت على الحال ويكون الظرف في موضع الخبر، قال الضحاك: خاف أن يراه أحد أو يظهر عليه قال:
و {يَتَرَقَّبُ} يتلفّت. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} «الذي» في موضع رفع بالابتداء {يَسْتَصْرِخُهُ} في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال «وأمس» إذا دخلت عليه الألف واللام تمكّن وأعرب عند أكثر النحويين، ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام، وإذا أضيف أو نكر تمكّن أيضا. والعلّة في بنائه عند محمد بن يزيد أنّ تعريفه ليس كتعريف المتمكّنات فوجب أن يبنى ولا يعرب فكسر آخره لالتقاء الساكنين، ومذهب الخليل رحمه الله أن الياء محذوفة منه. وللكوفيين فيه قولان: أحدهما أنه منقول من قولهم: أمس بخير. والآخر أن خلقة السين الكسر، هذا قول الفراء، وحكى سيبويه (1) وغيره أنّ من العرب من يجري أمس مجرى ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربّما اضطرّ الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب كما قال: [الرجز] 326 لقد رأيت عجبا مذ أمسا (2)
فخفض بمذ فيما مضى واللغة الجيّدة الرفع وأجرى «أمس» في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية. {قََالَ لَهُ مُوسى ََ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} والغويّ الخائب أي لأنك تشار من لا تطيقه.
[سورة القصص (28): آية 19]
{فَلَمََّا أَنْ أَرََادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمََا قََالَ يََا مُوسى ََ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمََا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاََّ أَنْ تَكُونَ جَبََّاراً فِي الْأَرْضِ وَمََا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}
{فَلَمََّا أَنْ أَرََادَ} «أن» زائدة للتوكيد. وقرأ يزيد بن القعقاع {أَنْ يَبْطِشَ} (3) وهي لغة إلّا
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 315.
(2) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 3/ 315، وأسرار العربية 32، وأوضح المسالك 4/ 132، وخزانة الأدب 7/ 167، والدرر 3/ 108، وشرح الأشموني 2/ 537، وشرح التصريح 2/ 226، وشرح قطر الندى ص 16، وشرح المفصّل 4/ 106، ولسان العرب (أمس)، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 95، والمقاصد النحوية 4/ 357، ونوادر أبي زيد 57، وهمع الهوامع 1/ 209، وجمهرة اللغة 841. وبعده:
«عجائزا مثل السعالى خمسا»
(3) انظر البحر المحيط 7/ 106، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر.(3/159)
أنّ {يَبْطِشَ} (1) أعرف منها، وإن كان الضمّ أقيس، لأنه فعل لا يتعدّى. {إِنْ تُرِيدُ إِلََّا أَنْ تَكُونَ جَبََّاراً فِي الْأَرْضِ} قال عكرمة: لا يكون الإنسان جبّارا حتى يقتل نفسين. قال أبو إسحاق:
الجبّار في اللغة المتعظّم الذي لا يخضع لأمر الله جلّ وعزّ وإنما تأول عكرمة في قتل النفسين الآية كما تأول عطاء «فلن أكون ظهيرا للمجرمين» على أنه لا يحلّ لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وإنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين حتى قال لمن استفتاه: ارم قلمك واسترزق الله جلّ وعزّ ولا تكن ظهيرا للمجرمين.
[سورة القصص (28): آية 22]
{وَلَمََّا تَوَجَّهَ تِلْقََاءَ مَدْيَنَ قََالَ عَسى ََ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوََاءَ السَّبِيلِ (22)}
{وَلَمََّا تَوَجَّهَ تِلْقََاءَ مَدْيَنَ} قال أبو إسحاق: أي سلك الطريق الذي هو تلقاء مدين، قال: ولم ينصرف مدين لأنه اسم للبقعة. {قََالَ عَسى ََ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوََاءَ السَّبِيلِ} قال أبو إسحاق: وسواء السبيل قصد السبيل.
[سورة القصص (28): آية 23]
{وَلَمََّا وَرَدَ مََاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ قََالَ مََا خَطْبُكُمََا قََالَتََا لاََ نَسْقِي حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ وَأَبُونََا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودََانِ} فقد ذكرنا قول ابن عباس: إن معنى تذودان تحبسان، وذلك معروف في اللغة يقال: ذاده يذوده إذا حبسه، وإذا قاده، لأن معنى قاده حبسه على ما يريد، وإنما كانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسّقي وكانت غنمهما تطرد عن الماء. {قََالَ مََا خَطْبُكُمََا} مبتدأ وخبره قال أبو إسحاق: والمعنى ما تريدان بذود غنمكما عن الماء. {قََالَتََا لََا نَسْقِي} أي لا نقدر على السّقي {حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ} قراءة أهل الكوفة وأهل الحرمين إلا أبا جعفر فإنه قرأ {حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ} (2)
وكذا قرأ أبو عمرو. فمعنى القراءة الأولى حتى يصدر الرعاة مواشيهم، ومعنى الثانية حتى ينصرف الرعاء فأفادت القراءتان معنيين وهما حسنان إلّا أنّ «يصدر» أشبه بالمعنى، وزعم أبو حاتم أنّ المعنى حتى يصدروا مواشيهم. قال: ولم يرد حتى ينصرفوا إن شاء الله و «الرعاء» جمع راع كما تقول: صاحب وصحاب. قال يعقوب:
وذكر لي في لغة الرّعاء بضم الراء، وأنكر أبو حاتم هذه اللغة، وقال: إذا ضممت الراء لم تقل: إلّا الرّعاة بالهاء والذي أنكره لا يمتنع، كما يقال: غاز وغزّاء وغزّا بالمدّ والقصر. {وَأَبُونََا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قال أبو إسحاق: الفائدة في «وأبونا شيخ» أنه لا يمكنه أن يحضر فيسقي فاحتجنا ونحن نساء أن نخرج فنسقي.
[سورة القصص (28): آية 24]
{فَسَقى ََ لَهُمََا ثُمَّ تَوَلََّى إِلَى الظِّلِّ فَقََالَ رَبِّ إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
__________
(1) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 7/ 106.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 108، وكتاب السبعة لابن مجاهد 492.(3/160)
{فَسَقى ََ لَهُمََا} أي قبل الوقت الذي كانتا تسقيان فيه. {ثُمَّ تَوَلََّى إِلَى الظِّلِّ} وهو في اللغة ما ليس عليه شمس، والفيء ما كانت عليه شمس ثم زالت. {فَقََالَ رَبِّ إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لقد قال موسى صلّى الله عليه وسلّم ربّ إنّني لما أنزلت إليّ من خير فقير، وما أحد من الخلق أكرم على الله جلّ وعزّ منه ولقد افتقر إلى شقّ تمرة فمصّها فلزق بطنه بظهره من الجوع.
[سورة القصص (28): آية 25]
{فَجََاءَتْهُ إِحْدََاهُمََا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيََاءٍ قََالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مََا سَقَيْتَ لَنََا فَلَمََّا جََاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قََالَ لاََ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ (25)}
{فَجََاءَتْهُ إِحْدََاهُمََا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيََاءٍ} قال عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب قال: جاءت وقد جعلت كم قميصها على وجهها أو كمّ درعها. قال أبو إسحاق: ويقال: جاءت تمشي مشي من لم يعتد الدخول والخروج مستحيية، {قََالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مََا سَقَيْتَ لَنََا فَلَمََّا جََاءَهُ} وفي الكلام حذف أي: فأجابها ومضى معها. {فَلَمََّا جََاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قََالَ لََا تَخَفْ} حذفت الضمّة من الفاء للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين.
[سورة القصص (28): آية 26]
{قََالَتْ إِحْدََاهُمََا يََا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي من قوي على عملك وأدّى فيه الأمانة.
[سورة القصص (28): آية 28]
{قََالَ ذََلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاََ عُدْوََانَ عَلَيَّ وَاللََّهُ عَلى ََ مََا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}
{قََالَ ذََلِكَ} في موضع رفع بالابتداء. {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} في موضع الخبر، والتقدير عند سيبويه: بيننا، وأعيدت الثانية توكيدا. {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} نصب بقضيت و «ما» زائدة {فَلََا عُدْوََانَ عَلَيَّ} تبرية، ويجوز {فَلََا عُدْوََانَ عَلَيَّ} من جهتين: إحداهما أن تكون «لا» عاملة كليس، والأخرى أن يكون «عدوان» مرفوعا بالابتداء، و «عليّ» الخبر، كما تقول:
لا زيد في الدار ولا عمرو. {وَاللََّهُ عَلى ََ مََا نَقُولُ وَكِيلٌ} ابتداء وخبر. قال أبو إسحاق:
والمعنى: والله شهيدنا على ما عقد بعضنا على بعض.
[سورة القصص (28): آية 29]
{فَلَمََّا قَضى ََ مُوسَى الْأَجَلَ وَسََارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جََانِبِ الطُّورِ نََاراً قََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النََّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)}
وقرأ عاصم: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النََّارِ} بفتح الجيم، وروي عن الأعمش أو جذوة (1) بضم الجيم.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 493، والبحر المحيط 7/ 111، وهذه قراءة مسلمة أيضا.(3/161)
[سورة القصص (28): آية 30]
{فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ مِنْ شََاطِئِ الْوََادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبََارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ (30)}
وعن الأشهب العقيلي {فِي الْبُقْعَةِ} بفتح الباء، وهي لغات، وقولهم بقاع يدلّ على بقعة، كما يقال: جفنة وجفان، ومن قال: بقعة قال: في الجمع بقع مثل غرفة وغرف. قال أبو إسحاق: ويجوز بقعة وبقاع مثل جفرة وجفار. قال: و {أَنْ} في موضع نصب بمعنى أنّه {يََا مُوسى ََ}.
[سورة القصص (28): آية 31]
{وَأَنْ أَلْقِ عَصََاكَ فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يََا مُوسى ََ أَقْبِلْ وَلاََ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)}
قال: {وَأَنْ أَلْقِ عَصََاكَ} عليها. {وَلََّى مُدْبِراً} على الحال. {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يلتفت، والتقدير قيل له {يََا مُوسى ََ أَقْبِلْ وَلََا تَخَفْ} قال وهب: قيل له: ارجع إلى حيث كنت فرجع فلفّ درّاعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفّك يدك فقال: لا ولكنّي ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحيّة فعادت عصا. قال {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} مما تحاذر.
[سورة القصص (28): آية 32]
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنََاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ (32)}
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنََاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} يكون التقدير: ولّى مدبرا من الرّهب أو لفّ يده من الرّهب وعن ابن كثير والجحدريّ {مِنَ الرَّهْبِ} (1) بضم الراء والهاء، وعن قتادة {مِنَ الرَّهْبِ} (2) بفتح الراء وإسكان الهاء على أصل المصدر. {فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ} ابتداء وخبر، ومن قرأ فذانّك (3) فله تقديران: منها أنه ثنّى ذلك فقال: ذانّك ومن قال: ذانك وقيل: تشديد النون عوض من الألف التي حذفت من «ذا» وكذا {وَالَّذََانِ يَأْتِيََانِهََا مِنْكُمْ} [النساء: 16]، وكذا {هََذََانِ خَصْمََانِ} [الحج: 19]، وهذا القول الثاني قول أبي حاتم، وقيل: تشديد النون للفرق بين النون التي لا تقع معها إضافة فتحذف وبين النون المحذوفة في الإضافة، فأما فذاناك وفذانيك فلا وجه لهما.
[سورة القصص (28): آية 34]
{وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)}
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 112، والبحر المحيط 7/ 112وتيسير الداني 139.
(2) انظر تيسير الداني 139.
(3) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 113.(3/162)
{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً} نصب على الحال ومعنى «ردء» معين مشتق من أردأته أي أعنته، وقد حكي ردأته ردءا. وجمع ردء أرداء، ومن خفف الهمزة حذفها وألقى حركتها على الدال، فقال: فأرسله معي ردّا. {يُصَدِّقُنِي} (1) وقرأ عاصم وحمزة {يُصَدِّقُنِي} بالرفع يكون نعتا لردء ويكون حالا. قال أبو إسحاق: ومن جزم فعلى جواب السؤال.
[سورة القصص (28): آية 38]
{وَقََالَ فِرْعَوْنُ يََا أَيُّهَا الْمَلَأُ مََا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يََا هََامََانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى ََ إِلََهِ مُوسى ََ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكََاذِبِينَ (38)}
قال الفراء: والصرح كلّ بناء متّسع {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكََاذِبِينَ} فالظنّ هاهنا شكّ فكفر على الشكّ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطنة.
[سورة القصص (28): آية 43]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ مِنْ بَعْدِ مََا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى ََ بَصََائِرَ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
{بَصََائِرَ} نصب على الحال، والتقدير ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر أي مبيّنا {وَهُدىً وَرَحْمَةً} عطف على بصائر، ويجوز الرفع بمعنى فهو هدي ورحمة.
[سورة القصص (28): آية 44]
{وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنََا إِلى ََ مُوسَى الْأَمْرَ وَمََا كُنْتَ مِنَ الشََّاهِدِينَ (44)}
{وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الْغَرْبِيِّ} أقيمت الصّفة مقام الموصوف أي بجانب الجبل الغربي.
[سورة القصص (28): آية 46]
{وَمََا كُنْتَ بِجََانِبِ الطُّورِ إِذْ نََادَيْنََا وَلََكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أَتََاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}
{وَلََكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} نصب على المصدر، كذا عند الأخفش قال: ولكن رحمك ربّك رحمة، وعند أبي إسحاق مفعول من أجله أي للرّحمة، وعند الكسائي على خبر كان. قال: ويجوز الرفع بمعنى ولكن هي رحمة. قال أبو إسحاق: الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة.
[سورة القصص (28): آية 47]
{وَلَوْلاََ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنََا لَوْلاََ أَرْسَلْتَ إِلَيْنََا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيََاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
{فَنَتَّبِعَ} جواب {لَوْلََا} أي هيلا.
[سورة القصص (28): آية 49]
{قُلْ فَأْتُوا بِكِتََابٍ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ هُوَ أَهْدى ََ مِنْهُمََا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (49)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 113.(3/163)
قال الفراء (1) {بِكِتََابٍ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ هُوَ أَهْدى ََ مِنْهُمََا أَتَّبِعْهُ} بالرفع لأنه صلة للكتاب وكتاب نكرة. قال: وإذا جزمت وهو الوجه فعلى الشرط.
[سورة القصص (28): الآيات 54الى 55]
{أُولََئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمََا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذََا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقََالُوا لَنََا أَعْمََالُنََا وَلَكُمْ أَعْمََالُكُمْ سَلاََمٌ عَلَيْكُمْ لاََ نَبْتَغِي الْجََاهِلِينَ (55)}
{أُولََئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ابتداء وخبر. قال أبو العالية: هؤلاء قوم من أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. قال محمد بن إسحاق: سألت الزّهري عن قوله جلّ وعزّ {أُولََئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} من هم، فقال: النجاشي وأصحابه، ووجّه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم فآمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه فقالوا لهم خيّبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه، ما رأينا ركبا أحمق ولا أجهل منكم، فقالوا: {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ} لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم {وَيَدْرَؤُنَ} من درأت أي دفعت أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى، وقيل يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب. {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} فأثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم.
[سورة القصص (28): آية 57]
{وَقََالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى ََ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنََا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى ََ إِلَيْهِ ثَمَرََاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنََّا وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاََ يَعْلَمُونَ (57)}
شرط ومجازاة. تجبى إليه ثمرات كلّ شيء (2) على تأنيث الجماعة و {يُجْبى ََ} على تذكير الجمع، وثمرات جمع ثمرة، وثمر جمعه ثمار.
[سورة القصص (28): آية 58]
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهََا فَتِلْكَ مَسََاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاََّ قَلِيلاً وَكُنََّا نَحْنُ الْوََارِثِينَ (58)}
{وَكَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهََا} منصوب عند المازني بمعنى في معيشتها فلما حذف «في» تعدّى الفعل، وهو عند الفراء (3) منصوب على التفسير، قال: كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده {إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، وكذا عنده {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} [النساء: 4] ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين لأن معنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدلّ على الجنس.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 307.
(2) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 121وكتاب السبعة لابن مجاهد 494.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 308.(3/164)
[سورة القصص (28): آية 61]
{أَفَمَنْ وَعَدْنََاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاََقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنََاهُ مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيََامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}
قال مجاهد: {أَفَمَنْ وَعَدْنََاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لََاقِيهِ} حمزة بن عبد المطلب {كَمَنْ مَتَّعْنََاهُ مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} أبو جهل بن هشام.
[سورة القصص (28): آية 64]
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكََاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذََابَ لَوْ أَنَّهُمْ كََانُوا يَهْتَدُونَ (64)}
{وَرَأَوُا الْعَذََابَ لَوْ أَنَّهُمْ كََانُوا يَهْتَدُونَ}. قال أبو إسحاق: جواب «لو» محذوف، والمعنى: لو أنّهم كانوا يهتدون لما اتّبعوهم، ولما رأوا العذاب، وقال غيره: التقدير:
لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى ولما صاروا إلى العذاب.
[سورة القصص (28): آية 66]
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبََاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاََ يَتَسََاءَلُونَ (66)}
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبََاءُ يَوْمَئِذٍ} أي تحيّروا فلم يدروا ما يجيبون به لمّا سئلوا، فقيل لهم: {مََا ذََا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].
[سورة القصص (28): آية 68]
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَيَخْتََارُ مََا كََانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحََانَ اللََّهِ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ (68)}
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَيَخْتََارُ} قال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بيختار لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال: وفي هذا رد على القدرية، وقال أبو إسحاق: «ويختار» هذا وقف التمام المختار، قال: ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بيختار، ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخير.
[سورة القصص (28): الآيات 71الى 72]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيََاءٍ أَفَلاََ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ النَّهََارَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاََ تُبْصِرُونَ (72)}
{أَفَلََا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تقبلون، وبعده {أَفَلََا تُبْصِرُونَ} أي أفلا تتبيّنون هذا.
[سورة القصص (28): آية 75]
{وَنَزَعْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنََا هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلََّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ (75)}
{وَنَزَعْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} قيل معناه من كلّ قرن وفي كل أمة قوم يكونون عدولا يشهدون على الناس يوم القيامة بأعمالهم. {فَقُلْنََا هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ} أي حجّتكم بما كنتم تدينون به {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلََّهِ} أي أنّ الحق ما في الدنيا. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} أي ما كانوا يدعون من دون الله، وقد قال جلّ وعزّ قبل هذا: {وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكََاءَكُمْ} [القصص: 64] أي الذين جعلتموهم مع الله جلّ وعزّ شركاؤكم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم، وهذا على جهة التوبيخ أي ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي فلم ينجّوهم ولم يعينوهم، فهذا معنى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ}.(3/165)
{وَنَزَعْنََا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} قيل معناه من كلّ قرن وفي كل أمة قوم يكونون عدولا يشهدون على الناس يوم القيامة بأعمالهم. {فَقُلْنََا هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ} أي حجّتكم بما كنتم تدينون به {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلََّهِ} أي أنّ الحق ما في الدنيا. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} أي ما كانوا يدعون من دون الله، وقد قال جلّ وعزّ قبل هذا: {وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكََاءَكُمْ} [القصص: 64] أي الذين جعلتموهم مع الله جلّ وعزّ شركاؤكم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم، وهذا على جهة التوبيخ أي ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي فلم ينجّوهم ولم يعينوهم، فهذا معنى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ}.
[سورة القصص (28): آية 76]
{إِنَّ قََارُونَ كََانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ََ فَبَغى ََ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنََاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قََالَ لَهُ قَوْمُهُ لاََ تَفْرَحْ إِنَّ اللََّهَ لاََ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)}
إن «قارون» لم ينصرف، لأنه اسم أعجميّ وما كان على فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود. قال أبو إسحاق: ولو كان قارون من العربية من قرنت الشيء لانصرف. {وَآتَيْنََاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مََا إِنَّ مَفََاتِحَهُ} إنّ واسمها في صلة «ما» قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلاة أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وأخواته «أنّ» وما علمت فيه وفي القرآن «ما أن مفاتحه». وهو جمع مفتح، ومن قال: مفتاح قال: مفاتيح {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم من ثقلها. كما يقال:
ذهبت به وأذهبته، وجئت به وأجأته، وأنأته ونؤت به. فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال: وأناءه ومثله يقال: هنأني الشيء ومرأني وأخذه ما قدم وما حدث. {إِذْ قََالَ لَهُ قَوْمُهُ} تأوله الفراء (1) على أن موسى صلّى الله عليه وسلّم هو الذي قال له وحده فجمع، ومثله عنده {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ} [آل عمران: 173] وإنما هو نعيم ابن مسعود رجل من أشجع وحده. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول:
غير هذا، وينكر ما قال الفراء لأنه بطلان البيان. قال: وإنما هذا على أن نعيما قاله ومن يذهب مذهبه. {لََا تَفْرَحْ} تأوله أبو إسحاق على أنّ المعنى لا تفرح بالمال لأنّ الفرح لا يؤدي فيه الحق. {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فرّق الفراء (2) بين الفرحين والفارحين، وزعم أن الفرحين الذين هم في حال الفرح وأن الفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وزعم أن مثله طمع وطامع وميّت ومائت، وبذلك على خلاف ما قال قول الله جلّ وعزّ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ولم يقل: مائت.
[سورة القصص (28): آية 78]
{قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللََّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاََ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)}
{قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ عِنْدِي} تأوله الفراء (3) على معنيين: أحدهما على فضل عندي، والآخر على علم فيما رأى، كما تقول: هذا كذا عندي، وقال أبو إسحاق:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 311.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 311.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 311.(3/166)
المعنى: إنما أوتيته على علم بالتوراة، لأنه كان عالما بها وأنكر قول من قاله إنه كان يعمل الكيمياء، قال: لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له.
[سورة القصص (28): آية 82]
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكََانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاََ أَنْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا لَخَسَفَ بِنََا وَيْكَأَنَّهُ لاََ يُفْلِحُ الْكََافِرُونَ (82)}
أحسن ما قيل في هذا قول الخليل رحمه الله ويونس وسيبويه والكسائي: إنّ القوم تنبّهوا أو نبّهوا فقالوا وي، والمتندّم من العرب يقول في حال تندّمه: وي، وحكى الفراء (1): أن بعض النحويين قال: إنّها ويك أي ويلك ثم حذفت اللام. قال أبو جعفر: وما أعلم جهة من الجهات إلّا هذا القول خطأ منها فمن ذلك أن المعنى لا يصحّ عليه لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويلك، وكان يجب على قوله أن يكون «إنّه» بكسر «إنّ» لأن جميع النحويين يكسرون أنّ بعد ويلك، وأيضا فإنّ حذف اللام من ويل لا يجوز، وأيضا فليس يكتب: هذا ويك.
[سورة القصص (28): آية 83]
{تِلْكَ الدََّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهََا لِلَّذِينَ لاََ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلاََ فَسََاداً وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}
{وَالْعََاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} قال الضحّاك: الجنّة.
[سورة القصص (28): آية 84]
{مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاََ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئََاتِ إِلاََّ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (84)}
{مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا} قال عكرمة: ليس شيء خيرا من «لا إله إلّا الله»، وإنما المعنى: من جاء بلا إله إلا الله، فله خير.
[سورة القصص (28): آية 88]
{وَلاََ تَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلاََّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
{كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} استثناء. قال أبو إسحاق: ولو كان في غير القرآن لجاز إلا وجهه بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك، كما قال: [الوافر] 327 وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان (2)
والمعنى: وكلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بمعنى وترجعون إليه.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 312.
(2) مرّ الشاهد رقم (205).(3/167)
29 - شرح إعراب سورة العنكبوت
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة العنكبوت (29): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الم (1) أَحَسِبَ النََّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنََّا وَهُمْ لاََ يُفْتَنُونَ (2)}
{أَنْ} الأولى في موضع نصب بحسب وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه و {أَنْ} الثانية في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا وبأن يقولوا وعلى أن يقولوا، والجهة الأخرى أن يكون التقدير أحسبوا أن يقولوا.
[سورة العنكبوت (29): آية 3]
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكََاذِبِينَ (3)}
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكََاذِبِينَ} فيه قولان: أحدهما أن يكون صدقوا مشتقّا من الصدق، والكاذبين مشتقّا من الكذب الذي هو ضدّ الصدق، ويكون المعنى:
فليبيننّ الله الذين صدقوا، فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك وصدقوا في قولهم نحن نصبر ونثبت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحرب ويعلم الذين كذبوا، والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقّا من الصدق، وهو الصلب، والكاذبين من كذب إذا انهزم، فيكون المعنى: فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا، كما قال: [البسيط] 328 ليث بعثر يصطاد الرّجال إذا ... ما الّليث كذّب عن أقرانه صدقا (1)
وجعلت فليعلمنّ في موضع ليبيّننّ مجازا.
[سورة العنكبوت (29): آية 4]
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئََاتِ أَنْ يَسْبِقُونََا سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ (4)}
{سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ} قدّر أبو إسحاق «ما» تقديرين أحدهما أن تكون في موضع
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 54، ولسان العرب (كذب) و (عثر)، والتنبيه والإيضاح 2/ 161، وتهذيب اللغة 10/ 174، وجمهرة اللغة 421، وتاج العروس (كذب)، و (عثر)، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 84.(3/168)
نصب بمعنى: ساء شيئا يحكمون، والتقدير الآخر أن يكون «ما» في موضع رفع بمعنى ساء الشيء حكمهم وقدرها أبو الحسن بن كيسان تقديرين آخرين سوى ذينك: أحدهما أن يكون «ما» مع يحكمون بمنزلة شيء واحد، كما تقول:
أعجبني ما صنعت أي صنيعك، قال: وإن قلت ساء صنيعك لم يجز، والتقدير الآخر أن يكون «ما» لا موضع لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذا نعم وبئس. قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل لما موضعا في كلّ ما أقدر عليه نحو قول الله جلّ وعزّ {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ} [آل عمران: 159]، وكذا {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ} * [النساء: 155]، وكذا: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ}
[القصص: 28] «ما» في موضع خفض في هذا كلّه وما بعدها تابع لها، وكذا {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] «ما» في موضع نصب وبعوضة تابعة لها.
[سورة العنكبوت (29): آية 5]
{مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللََّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}
{مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ} أهل التفسير على أنّ المعنى: من كان يخاف الموت فليفعل عملا صالحا فإنه لا بدّ أن يأتيه، و «من» في موضع رفع بالابتداء، و «كان» في موضع الخبر وفي موضع جزم بالشرط و «يرجو» في موضع خبر كان، والمجازاة {فَإِنَّ أَجَلَ اللََّهِ لَآتٍ}.
[سورة العنكبوت (29): آية 8]
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جََاهَدََاكَ لِتُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاََ تُطِعْهُمََا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حُسْناً} قال أبو إسحاق: مثل ووصينا الإنسان بوالديه ما يحسن، قال: رويت إحسانا، والمعنى: ووصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا.
[سورة العنكبوت (29): آية 11]
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنََافِقِينَ (11)}
قيل: معناه يبيّن أمرهم لأن المبيّن للأمر هو العالم به.
[سورة العنكبوت (29): آية 12]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ وَمََا هُمْ بِحََامِلِينَ مِنْ خَطََايََاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ (12)}
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا} قال أبو إسحاق: أي الطريق الذي نسلكه في ديننا. {وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ} قال: هو أمر في تأويل شرط وجزاء أي إن تتّبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم، كما قال: [الوافر]
329 - فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان (1)
أي: إن دعوت دعوت، ويجوز «وليحمل» بكسر اللام وهو الأصل إلّا أن الكسرة حذفت استخفافا، حقيقة المعنى: والله أعلم اتّبعوا سبيلنا ونحن لكم بمنزلة المأمورين في حمل خطاياكم إن كانت لكم خطايا كما تقول: قلّدني وزر هذا.(3/169)
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنََا} قال أبو إسحاق: أي الطريق الذي نسلكه في ديننا. {وَلْنَحْمِلْ خَطََايََاكُمْ} قال: هو أمر في تأويل شرط وجزاء أي إن تتّبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم، كما قال: [الوافر]
329 - فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان (1)
أي: إن دعوت دعوت، ويجوز «وليحمل» بكسر اللام وهو الأصل إلّا أن الكسرة حذفت استخفافا، حقيقة المعنى: والله أعلم اتّبعوا سبيلنا ونحن لكم بمنزلة المأمورين في حمل خطاياكم إن كانت لكم خطايا كما تقول: قلّدني وزر هذا.
[سورة العنكبوت (29): آية 13]
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقََالَهُمْ وَأَثْقََالاً مَعَ أَثْقََالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ عَمََّا كََانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقََالَهُمْ} جمع ثقل، والثقل في الأذن، وربما دخل أحدهما على الآخر.
[سورة العنكبوت (29): آية 14]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاََّ خَمْسِينَ عََاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفََانُ وَهُمْ ظََالِمُونَ (14)}
في الكلام حذف، والمعنى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان فدعاهم إليه ألف سنة إلّا خمسين عاما، وأظهر البراهين فكذبوه، ودلّ على هذا الحذف {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفََانُ وَهُمْ ظََالِمُونَ} وإنّ هذه القصة قد ذكرت في غير موضع من القرآن {أَلْفَ سَنَةٍ} منصوب على الظرف {إِلََّا خَمْسِينَ} منصوب على الاستثناء من الموجب وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول لأنه مستثنى عنه كالمفعول، وعند الفراء (2) بإن لأنها عنده «إن» دخلت عليها «لا» فالنصب عنده بإن، والرفع عنده بلا إذا رفعت. فأما أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض كأنك قلت عنده: استثنيت زيدا. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن قول أبي العباس هذا خطأ، ولا يجوز عنده فيه إلّا ما قال سيبويه. ونملي كلام أبي إسحاق في الاستثناء الذي ذكره في الآية نصّا لحسنه، وأنه قد شرح فيه أشياء من هذا الباب. قال أبو إسحاق: «الاستثناء في كلام العرب توكيد العدد وتحصيله» لأنك قد تذكر الجملة ويكون الحاصل أكثرها فإذا أردت التوكيد في تمامها قلت كلّها وإذا أردت التوكيد في نقصانها أدخلت فيها الاستثناء تقول: جاءني إخوتك، تعني أنّ جميعهم جاءك، وجائز أن تعني أن أكثرهم قد جاءك
__________
(1) الشاهد للأعشى في الكتاب 3/ 47، والدرر 4/ 85والرّد على النحاة ص 128، وليس في ديوانه، وللفرزدق في أمالي القالي 2/ 90، وليس في ديوانه، ولدثار بن شيبان النمري في الأغاني 2/ 159، وسمط اللآلي ص 726، ولسان العرب (ندى) وللأعشى أو للحطيئة أو لربيعة بن جشم في شرح المفصل 7/ 35، ولأحد هؤلاء الثلاثة أو لدثار بن شيبان في شرح التصريح 2/ 239، وشرح شواهد المغني 2/ 827، والمقاصد النحوية 4/ 392، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 2/ 864، والإنصاف 2/ 531، وأوضح المسالك 4/ 182، ومغني اللبيب 1/ 397، وهمع الهوامع 2/ 13.
(2) انظر الإنصاف المسألة (34)، وهمع الهوامع 1/ 224.(3/170)
وإذا قلت: جاءني إخوتك كلّهم أكّدت معنى الجماعة وأعلمت أنه لم يتخلّف منهم أحد وتقول: جاءني إخوتك إلّا زيدا فتؤكد أن الجماعة تنقص زيدا، وكذلك رؤوس الأعداد تشبّه بالجماعات، تقول: عندي عشرة فجائز أن تكون ناقصة وجائز أن تكون تامة فإذا قلت: عندي عشرة إلّا نصفا أو عشرة كاملة أعلمت تحقيقها، وكذلك إذا قلت: لبث ألفا إلّا خمسين فهو كقولك: عشرة إلّا نصفا لأنك استعملت الاستثناء فيما كان أملك بالعشرة من التّسعة لأن النصف قد دخل في باب العاشر ولو قلت: عشرة إلّا واحدا أو إلّا اثنين كان جائزا وفيه قبح لأن تسعة وثمانية يؤدّي عن ذلك العدد ولكنه جائز من جهة التوكيد إنّ هذه التسعة لا تزيد ولا تنقص لأن قولك: عشرة إلّا واحدا قد أخبرت بحقيقة العدد فيه. والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عقود الكسور والصّحاح أن يستثنى. فأمّا استثناء نصف الشيء فقبيح جدا لا تتكلّم به العرب فإذا قلت عندي عشرة إلّا خمسة فليس تكون الخمسة مستثناة من العشرة لأنها ليست تقرب منها، وإنما يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنقصان فتقول: عندي درهم ينقص قيراطا فلو قلت:
عندي درهم ينقص خمسة الدوانيق أو ينقص نصفه كان الأولى بذلك عندي نصف درهم لأن نصف درهم لا يقع عليه اسم درهم وإخوتك يقع على بعضهم اسم الأخوة.
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفََانُ} مشتق من طاف يطوف، وهو اسم موضع على ما أحاط بالأشياء من غرق أو قتل أو غيرهما {وَهُمْ ظََالِمُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال.
[سورة العنكبوت (29): الآيات 15الى 16]
{فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَصْحََابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنََاهََا آيَةً لِلْعََالَمِينَ (15) وَإِبْرََاهِيمَ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ ذََلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)}
{فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَصْحََابَ السَّفِينَةِ} معطوف على الهاء. قال الكسائي: {وَإِبْرََاهِيمَ} منصوب بأنجينا. يعني أنه معطوف على الهاء، وأجاز أن يكون معطوفا على نوح، والمعنى وأرسلنا إبراهيم، وقول ثالث أن يكون منصوبا بمعنى: واذكر إبراهيم.
[سورة العنكبوت (29): آية 17]
{إِنَّمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لاََ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللََّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}
{إِنَّمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً} نصب بتعبدون و «ما» كافّة، ولا يجوز أن يكون صلة لأن إنّ لا تقع على الفعل فإن كان بعد «ما» اسم فقلت: إنما زيد جالس، فما أيضا كافة، وأجاز بعض النحويين أن يكون صلة فتقول: إنما زيدا جالس. ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل «ما» اسما لأن و «تعبدون» صلتها، وحذفت الهاء لطول الاسم، وجعلت أوثانا خبر إنّ. فأما {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} فهو منصوب بالفعل لا غير.(3/171)
[سورة العنكبوت (29): آية 22]
{وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلاََ فِي السَّمََاءِ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاََ نَصِيرٍ (22)}
{وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} ذكر أبو إسحاق فيه قولين: أحدهما أن المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء، والآخر ولا لو كنتم في السماء. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال:
المعنى وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن يكون نكرة ويكون في السماء من نعتها، ثم أقام النعت مقام المنعوت. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لأن من إذا كانت نكرة فلا بد من نعتها فقد صار بمنزلة الصلة لها فلا يجوز حذف الموصول وإبقاء الصلة وكذا نعتها إذا كان بمنزلة الصلة، ولكن الناس خوطبوا بما يعرفون، وعندهم أنه من كان في السماء فالوصول إليه أبعد، فالمعنى وما أنتم بمعجزين في الأرض ولو كنتم في السماء ما أعجزتم، ومثله {أَيْنَمََا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
[سورة العنكبوت (29): آية 24]
{فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلاََّ أَنْ قََالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجََاهُ اللََّهُ مِنَ النََّارِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)}
{فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} خبر كان، واسمها {إِلََّا أَنْ قََالُوا} ويجوز رفع «جواب» تجعله اسم كان والخبر {أَنْ قََالُوا}
[سورة العنكبوت (29): آية 25]
{وَقََالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيََامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوََاكُمُ النََّارُ وَمََا لَكُمْ مِنْ نََاصِرِينَ (25)}
{وَقََالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْثََاناً مَوَدَّةَ} [1] بَيْنِكُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا هذه قراءة الحسن ومجاهد وأبي عمرو والكسائي. قال أبو إسحاق: وقرئ مودّة بينكم (2) وقرأ أهل المدينة وعاصم وابن عامر {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} (3) وقرأ حمزة مودّة بينكم. القراءة الأولى برفع مودة فيها ثلاثة أوجه، ذكر أبو إسحاق منها وجهين: أحدهما أنها مرفوعة على خبر إنّ ويكون ما بمعنى الذي، والتقدير: إنّ الذي اتّخذتموه من دون الله أوثانا مودّة بينكم، والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدأ أي هي مودّة أو تلك مودّة بينكم.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 498، والبحر المحيط 7/ 144.
(2) انظر تيسير الداني 140.
(3) انظر تيسير الداني 140.(3/172)
والمعنى: ألفتكم وجماعتكم مودّة بينكم، والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون «مودّة» رفعا بالابتداء و {فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} خبره، فأما إضافة مودّة إلى بينكم فإنه جعل بينكم اسما غير ظرف، والنحويون يقولون: جعله مفعولا على السعة، وحكى سيبويه: [الرجز] يا سارق الليلة أهل الدار (1)
ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف لعلّة ليس هذا موضع ذكرها. والقراءة الثانية على أنه جعل بينكم ظرفا فنصبه. والقراءة الثالثة على أنه نصب مودّة لأنه جعلها مفعولا من أجلها، كما تقول: جئتك ابتغاء العلم وقصدت فلانا مودّة له.
[سورة العنكبوت (29): آية 27]
{وَوَهَبْنََا لَهُ إِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنََا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتََابَ وَآتَيْنََاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيََا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ (27)}
{وَآتَيْنََاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيََا} مفعولان قال أبو جعفر: قد ذكرناه وبيّنا معناه {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ} ليس «في الآخرة» داخلا في الضلة وإنما هو تبيين وقد ذكرناه في غير هذا الموضع بأكثر من هذا.
[سورة العنكبوت (29): آية 28]
{وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ (28)}
{وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ} قال الكسائي: المعنى: وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا.
قال: وهذا الوجه أحبّ إليّ.
[سورة العنكبوت (29): آية 29]
{أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نََادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلاََّ أَنْ قََالُوا ائْتِنََا بِعَذََابِ اللََّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ (29)}
قراءة الكوفيين {أَإِنَّكُمْ} (2) في الأولى والثانية على الاستفهام، وكذا قراءة أبي عمرو إلّا أنه يخفّف، وقرأ نافع إنّكم (3) بغير استفهام في الأولى واستفهم في الثانية. وهذه القراءة على اتّباع السواد، وهي على الإلزام لا على الاستفهام. وكذا قال محمد بن يزيد في قول الشاعر: [الخفيف]:
330 - ثمّ قالوا: تحبّها قلت: بهرا (4)
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 655، وشرح المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 499، والبحر المحيط 7/ 145.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 499، والبحر المحيط 7/ 145.
(4) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 431، والأغاني 1/ 87، والدرر 3/ 63، وجمهرة اللغة 331، والخصائص 2/ 281، وشرح أبيات سيبويه 1/ 267، وشرح شواهد المغني ص 39، وشرح المفصل 1/ 121، ولسان العرب (بهر)، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 372، وأمالي المرتضى 1/ 345، وكتاب اللامات 124، وهمع الهوامع 1/ 188.(3/173)
والقراءة الأولى عند أبي عبيد بعيدة للجمع بين الاستفهامين. قال أبو جعفر:
وليس الأمر كذلك لأن هذا استفهام بعد استفهام وليس ينكر في مثل هذا استفهامان وقد شبّهه بما لا يشبهه ممّا ذكره في هذه السورة.
[سورة العنكبوت (29): آية 33]
{وَلَمََّا أَنْ جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالُوا لاََ تَخَفْ وَلاََ تَحْزَنْ إِنََّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ (33)}
{إِنََّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} عطف على الكاف في التأويل، ولا يجوز العطف على موضعها بغير تأويل لئلا يعطف ظاهر مخفوض على مكنيّ. {إِلَّا امْرَأَتَكَ} استثناء من موجب.
[سورة العنكبوت (29): آية 38]
{وَعََاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسََاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطََانُ أَعْمََالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكََانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}
{وَعََاداً وَثَمُودَ} (1) قال الكسائي: قال بعضهم: هو راجع إلى أول السورة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} {وَعََاداً وَثَمُودَ}، قال: وأحبّ إليّ أن يكون على {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وأخذت عادا وثمودا. وزعم أبو إسحاق أن التقدير: وأهلكنا عادا وثمودا.
{وَكََانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} فيه قولان: أحدهما أنّ المعنى: وكانوا مستبصرين في الضلالة، والقول الآخر وكانوا مستبصرين أي قد عرفوا الحقّ من الباطل بظهور البراهين. وهذا القول أشبه والله أعلم لأنه إنما يقال: فلان مستبصر إذا عرف الشيء على الحقيقة، ومن كفر فلم يعرف الشيء على حقيقته فلا يخلو أمره من إحدى جهتين إمّا أن يكون معاندا وإما أن يكون قد ترك ما يجب عليه من الاستدلال وتعرّف الحقّ، وهو على أحد هذين يعاقب.
[سورة العنكبوت (29): آية 39]
{وَقََارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَلَقَدْ جََاءَهُمْ مُوسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمََا كََانُوا سََابِقِينَ (39)}
{وَقََارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهََامََانَ} قال الكسائي: إن شئت كان على عاد وكان فيه ما فيه وإن شئت كان على {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24] وصدّ قارون وفرعون وهامان.
__________
(1) انظر تيسير الداني 141.(3/174)
[سورة العنكبوت (29): آية 40]
{فَكُلاًّ أَخَذْنََا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنََا عَلَيْهِ حََاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنََا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنََا وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}
{فَكُلًّا أَخَذْنََا بِذَنْبِهِ} قال الكسائي: «فكلّا» منصوب بأخذنا.
[سورة العنكبوت (29): آية 41]
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (41)}
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} الكاف في موضع رفع على التأويل، لأنها خبر الابتداء في موضع نصب على الظرف. والعنكبوت مؤنّثة، وحكى الفراء (1) تذكيرها وأنشد: [الوافر] 331 على هطّالهم منهم بيوت ... كأنّ العنكبوت هو ابتناها (2)
قال أبو جعفر: وفي جمع العنكبوت وجوه يقال: عناكب وعناكيب وعكاب وعكب وأعكب، وقد حكي أنّه يقال: عنكب. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} قال الضحاك: ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبّهها ببيت العنكبوت.
[سورة العنكبوت (29): آية 42]
{إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)}
قال: {إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يَدْعُونَ}.
أي ما تعبدون من دونه من شيء. قال أبو جعفر: «من» هاهنا للتبعيض ولو كانت زائدة للتوكيد لا نقلب المعنى.
[سورة العنكبوت (29): آية 45]
{اتْلُ مََا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتََابِ وَأَقِمِ الصَّلاََةَ إِنَّ الصَّلاََةَ تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا تَصْنَعُونَ (45)}
مذهب أبي العالية أن المعنى إن مما يتلى في الصلاة، والتقدير على هذا إن تلاوة الصلاة مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا.
{وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ} مذهب الضحّاك أن المعنى: ولذكر الله عند ما يحرم فيترك أجلّ الذكر، وقيل: المعنى: ولذكر الله النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير، وأكبر يكون بمعنى كبير.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 317.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عنكب) و (هطل)، وتهذيب اللغة 3/ 309، والمخصص 17/ 17، وديوان الأدب 1/ 329، وتاج العروس (عنكب) و (هطل)، ومعاني القرآن للفراء 2/ 317.(3/175)
[سورة العنكبوت (29): آية 46]
{وَلاََ تُجََادِلُوا أَهْلَ الْكِتََابِ إِلاََّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنََّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنََا وَإِلََهُكُمْ وََاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)}
{وَلََا تُجََادِلُوا أَهْلَ الْكِتََابِ إِلََّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بدل من أهل، ويجوز أن يكون استثناء.
[سورة العنكبوت (29): آية 48]
{وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلاََ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}
فجعل الله جلّ وعزّ هذا دليلا على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكّة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك بهذه الأشياء.
[سورة العنكبوت (29): آية 49]
{بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلاَّ الظََّالِمُونَ (49)}
{بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ} أي بل الكتاب، وزعم الفراء (1) أنّ في قراءة عبد الله بل هي آيات بينات بمعنى بل آيات القرآن آيات بينات، قال: ومثله {هََذََا بَصََائِرُ} *
[الجاثية: 20] ولو كانت هذه لجاز، ونظيره {هََذََا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 89].
[سورة العنكبوت (29): الآيات 50الى 51]
{وَقََالُوا لَوْلاََ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيََاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيََاتُ عِنْدَ اللََّهِ وَإِنَّمََا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى ََ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}
{وَقََالُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيََاتٌ مِنْ رَبِّهِ} وكان طلبهم لهذا تعنّتا وتهزّؤا لأنه قد ظهر من الآيات ما فيه كفاية فكان هذا مما لا نهاية له فأمر أن يقول لهم {إِنَّمَا الْآيََاتُ عِنْدَ اللََّهِ} أي يأتي منها بما فيه الصلاح. {وَإِنَّمََا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قيل: معناه يبيّن لهم ما يجب عليهم وبيّن الأول بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ} «أنّا» في موضع رفع بيكفي.
[سورة العنكبوت (29): آية 60]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاََ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللََّهُ يَرْزُقُهََا وَإِيََّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)}
هذه «أيّ» دخلت عليها كاف التشبيه فصار فيها معنى «كم» والتقدير عند الخليل وسيبويه (2) رحمهما الله كالعدد. وشرح هذا أبو الحسن بن كيسان فقال. أيّ شيء من الأشياء، فالمعنى على قول الخليل وسيبويه: كشيء كثير من العدد، قال: ولهذا قال
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 317.
(2) انظر الكتاب 2/ 173.(3/176)
الكسائي: الأصل في «كم» كما فإذا قلت: كم مالك؟ فالمعنى: كأي شيء من العدد مالك، قال: ومثل ذلك في الإبهام: له كذا وكذا درهما، أي له كالعدد المذكور أو المشار إليه ثم كثر استعمالهم لذلك حتى قالوا: له كذا وإن لم يتقدّم شي ولم يشر إلى شيء. فإذا قلت: له عندي كذا درهما، وجب له عند الكوفيين أحد عشر درهما، فإذا قلت: له عندي كذا وكذا درهما، وجب له أحد وعشرون درهما، وإذا قلت: له عندي كذا درهم كانت مائة، وإذا قلت: كذا دراهم كانت ثلاثة، ولا يجوز عند البصريين الخفض بوجه، وهي عندهم مبهمة يقع للقليل والكثير، وزعم أبو عبيدة أن الحيوان والحياة والحيّ واحد. وغيره يقول: إنّ الحيّ جمع على فعول مثل عصيّ.
[سورة العنكبوت (29): آية 66]
{لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}
{وَلِيَتَمَتَّعُوا} لام كي، ويجوز أن تكون لام أمر، لأن أصل لام الأمر الكسر إلّا أنه أمر فيه معنى التهديد. ومن قرأ وليتمتّعوا (1) بإسكان اللام لم يجعلها لام كي، لأن لام كي لا يجوز إسكانها.
[سورة العنكبوت (29): آية 69]
{وَالَّذِينَ جََاهَدُوا فِينََا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنََا وَإِنَّ اللََّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
{وَإِنَّ اللََّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} لام توكيد، ودخلت اللام في مع على أحد أمرين منهما أن تكون اسما ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء ومنها أن تكون حرفا فتدخل عليها لأن فيها معنى الاستقرار، كما تقول: إنّ زيدا لفي الدار و «مع» إذا سكنت فهي حرف لا غير، وإذا فتحت جاز أن تكون اسما وأن تكون حرفا، والأكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى إلّا أنها فتحت لما وقع فيها مما ليس في أخواتها.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 502، والبحر المحيط 7/ 155.(3/177)
30 - شرح إعراب سورة الرّوم
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الروم (30): الآيات 1الى 3]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)}
قال أبو جعفر:
هذه قراءة أكثر الناس، وروي عن أبي عمرو وأبي سعيد الخدري أنهما قرءا الَم غَلبَتِ الرُّومُ (1) وقرءا سَتُغْلَبُونَ (2)، وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون أن هذه قراءة أهل الشام، وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الرواية عنه والحديث يدلّ على أن القراءة {غُلِبَتِ} بضم الغين وكان في هذا الإخبار دليل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله جلّ وعزّ أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك لأن الروم أهل كتاب فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله جلّ وعزّ به مما لم يكن وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يراهنهم على ذلك، وأن يبالغ في الرهان ثم حرم الرهان ونسخ بتحريم القمار {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} زعم الفراء (3) أن الأصل من بعد غلبتهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله: {وَأَقََامَ الصَّلََاةَ} * [النور: 37]، وهذا غلط لا يخفى على كثير من أهل النحو لأن «أقام الصلاة» مصدر حذف منه لاعتلال فعله فجعلت التاء عوضا من المحذوف، و «غلب»، ليس بمعتل ولا حذف منه شيء وقد حكى الأصمعي: طرد طردا وحلب حلبا وغلب غلبا فأيّ حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال: في أكل أكلا وما أشبهه حذف منه.
[سورة الروم (30): آية 4]
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)}
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} حذفت الهاء من بضع فرقا بين المذكّر والمؤنّث، وفتحت النون من سنين لأنه جمع مسلّم، ومن العرب من يقول في بضع سنين كما يقول: من غسلين
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 319.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 157.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 319.(3/178)
وإن جاز فجمع سنة بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا، وكسرت السين وكانت مفتوحة في سنة لأن الكسرة جعلت دليلا على أنه جمع على غير ما يجب له. هذا قول البصريين، ويلزم الفراء أن يضمّها إلّا أنّه يقول:
الضمّة دليل على الواو، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ولا يضمها أحد علمناه. {لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ويقال: من قبل ومن بعد، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد. {لِلََّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (1) الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء (2)، «من قبل ومن بعد» مخفوضين بغير تنوين، وللفراء في هذا الفصل من كتابه في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بيّن فمنها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» كما قال الشاعر: [مجزوء الكامل] 332 إلّا علالة أو بداهة ... سابح نهد الجزاره (3)
وكما قال: [المنسرح] 333 يا من رأى عارضا أكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد (4)
والغلط في هذا بيّن لأنه ليس في القرآن لله الأمر من قبل ومن بعد ذلك، فيكون مثل قوله: «بين ذراعي وجبهة الأسد» ألا ترى أنك تقول: أخذته بنصف وربع الدرهم، ولا يجوز أخذته بنصف وربع، وتقول: قطع الله يد ورجل زيد.
ولا يجوز يد ورجل، على أنّ هذا أيضا ليس بكثير في كلام العرب وإنما يحمل كتاب الله على الكثير والفصيح، ولا يجوز أن يقاس عليه ما لا يشبهه، ولو قلت:
اشتريت دار وغلام عمرو، لم يجز عند أحد علمناه ومن ذلك أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد وأنت تريد الإضافة وهذا نقض الباب كلّه لأن الضمّ إنما كان فيه لعدم الإضافة وإرادتها، فإذا خفضت وأنت تريدها تناقض الكلام وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 320.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 320.
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 209، والكتاب 1/ 237، وخزانة الأدب 1/ 172، والخصائص 2/ 407، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 298، وشرح أبيات سيبويه 1/ 114، وشرح المفصل 3/ 22، والشعر والشعراء 1/ 163، ولسان العرب (جزر)، و (علل) و (بده)، والمقاصد النحوية 3: 453، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 2/ 626، ورصف المباني 358، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 118، والمقتضب 4/ 228والمقرب 1/ 180.
(4) الشاهد للفرزدق في ديوانه 215، والكتاب 1/ 239، وخزانة الأدب 2/ 319، وشرح شواهد المغني 2/ 799، وشرح المفصل 3/ 21والمقاصد النحوية 3/ 451، والمقتضب 4/ 229، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 100، وتخليص الشواهد 87، وخزانة الأدب 10/ 187، والخصائص 2/ 407، ورصف المباني ص 341، وسرّ صناعة الأعراب 297، وشرح الأشموني 2/ 336، وشرح عمدة الحافظ 502، ولسان العرب (بعد) و (يا).(3/179)
أنهما نكرتان. قال أبو إسحاق: والمعنى من متقدّم ومن متأخّر، ومنها أنه شبّه من قبل ومن بعد بقولهم: من عل، وأنشد: [الرجز] 334 إن تأت من تحت أجئها من عل (1)
وليس من قبل ومن بعد من باب من عل. قال سيبويه (2): ولم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكّن ولا ما جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع «من عل» حرّكوه لأنهم يقولون: من عل فأما التمكّن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن فقولهم: أبدأ بهذا أول ويا حكم، أفلا ترى أن سيبويه لحذفه قد فصل بين «من عل» وبين «أول» ثم جاء الفراء فجمع بينهما، وأنشد الذي ذكرناه، وأنشد:
[الطويل] 335 فو الله ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (3)
فخلط الجميع في الباب وجاء بهما في «قبل وبعد» وأحدهما مخالف لقبل وبعد.
فأما الكلام في قبل وبعد على مذهب سيبويه وعلى مذهب البصريين إنّ سبيلهما أن لا يعربا لأنهما قد كانتا حذف منهما المضاف إليه والإضافة فصارتا معرفتين من غير جهة التعريف فزال تمكّنهما فلم يخليا من حركة لأنهما قد كانتا معربتين فاختير لهما الضم لأنه قد يلحقهما بحقّ الإعراب الجرّ والنصب فأعطيتا غير تينك الحركتين فضمّتا إلّا أن أبا العباس محمد بن يزيد قال: لمّا كانتا غايتين أعطيتاه ما هو غاية الحركات. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} في معناه قولان: أحدهما أنهم فرحون بغلبة الروم فارس لأن الروم أهل كتاب فهم إلى المسلمين أقرب من الأوثان، والقول الآخر وهو أولى أنّ فرحهم إنما هو لإنجاز وعد الله جلّ وعزّ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر جلّ وعزّ بما يكون في بضع سنين فكان فيه.
[سورة الروم (30): آية 6]
{وَعْدَ اللََّهِ لاََ يُخْلِفُ اللََّهُ وَعْدَهُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (6)}
مصدر مؤكّد. قال أبو إسحاق: ويجوز {وَعْدَ اللََّهِ} بالرفع بمعنى ذلك وعد الله.
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} وهم الكفار وهم أكثر.
[سورة الروم (30): آية 7]
{يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غََافِلُونَ (7)}
{يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} ثم بيّن ما يجهلونه بقوله: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غََافِلُونَ} «هم» الأول ابتداء والثاني ابتداء ثان والجملة خبر الأول، وفي الكلام معنى التوكيد،
__________
(1) الرجز بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 319، وتهذيب اللغة 2/ 244، ولسان العرب (بعد).
(2) انظر الكتاب 3/ 319.
(3) مرّ الشاهد رقم (14).(3/180)
ويجوز أن يكون «هم» الثاني بدلا من الأول كما تقول: رأيته إياه، وفي الكلام أيضا معنى التوكيد.
[سورة الروم (30): آية 8]
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مََا خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلاََّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ لَكََافِرُونَ (8)}
{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ لَكََافِرُونَ} اللام للتوكيد، والتقدير: لكافرون بلقاء ربّهم على التقديم والتأخير وعلى هذا تقول: إنّ زيدا في الدار لجالس، ولو قلت: إنّ زيدا لفي الدار لجالس، لجاز، فإن قلت: إنّ زيدا جالس لفي الدار. لم يجز لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إنّ وخبرها، فإذا جئت بهما لم يجز إن تأتي بها وكذا إن قلت: إنّ زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.
[سورة الروم (30): آية 9]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهََا أَكْثَرَ مِمََّا عَمَرُوهََا وَجََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانَ اللََّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)}
{وَأَثََارُوا الْأَرْضَ} لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرب.
[سورة الروم (30): آية 10]
{ثُمَّ كََانَ عََاقِبَةَ الَّذِينَ أَسََاؤُا السُّواى ََ أَنْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ وَكََانُوا بِهََا يَسْتَهْزِؤُنَ (10)}
{ثُمَّ كََانَ عََاقِبَةَ الَّذِينَ} (1) اسم كان وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. {السُّواى ََ} خبر كان ومن نصب {عََاقِبَةَ} جعل «السّوأى» اسم كان، وروي عن الأعمش أنه يقرأ ثمّ كان عاقبة الذين أساؤا السّوء (2) برفع السوء. {أَنْ كَذَّبُوا} في موضع نصب، والمعنى: لأن كذّبوا.
[سورة الروم (30): آية 12]
{وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)}
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يبلس) (3) بفتح اللام والمعروف في اللغة أبلس الرجل. إذا سكت وانقطعت حجّته ولم يؤمّل أن تكون له حجة، وقريب منه تحيّر، كما قال الراجز:
336 - قال: نعم أعرفه وأبلسا (4)
__________
(1) انظر تيسير الداني 141، وكتاب السبعة لابن مجاهد 506.
(2) انظر البحر المحيط: 7/ 160.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 160، ومعاني الفراء 2/ 323.
(4) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 185، ولسان العرب (بلس) والتنبيه والإيضاح 2/ 262، وتهذيب اللغة 12/ 442، وتاج العروس (بلس) و (عجنس) و (كرس) و (وكف)، وجمهرة اللغة 719، وأساس البلاغة (بجس)، وبلا نسبة في لسان العرب (صلب)، ومقاييس اللغة 5/ 169، والمخصّص 1/ 126، وتاج العروس (صلب)، وتهذيب اللغة 10/ 53. وقبله:
«يا صاح هل تعرف رسما مكرسا»(3/181)
وقد زعم بعض النحويين أنّ «إبليس» مشتقّ من هذا وأنه أبلس أي انقطعت حجّته، ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف وهو في القرآن غير منصرف فاحتجّ بعضهم بأنه اسم ثقل لأنه لم يسمّ به غيره.
[سورة الروم (30): آية 13]
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكََائِهِمْ شُفَعََاءُ وَكََانُوا بِشُرَكََائِهِمْ كََافِرِينَ (13)}
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكََائِهِمْ شُفَعََاءُ} قيل: يعني بشركائهم ما عبدوه من دون الله جلّ وعزّ. {وَكََانُوا بِشُرَكََائِهِمْ كََافِرِينَ} قالوا: ليسوا بآلهة.
[سورة الروم (30): آية 15]
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)}
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} سمعت أبا إسحاق يقول: معنى «أمّا» دع ما كنّا فيه وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه: إنّ معناها مهما يكن من شيء أي مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنّا فيه. {الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع رفع بالابتداء {فَهُمْ} ابتداء ثان وما بعده خبر عنه والجملة خبر «الذين». قال الضحاك: {فِي رَوْضَةٍ} في جنة. والرياض الجنات. وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في تسفّل فإن كان مرتفعا فهو ترعة، وقال غيره:
أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ، كما قال الأعشى: [البسيط] 337 ما روضة من رياض الحزن معشبة (1)
إلّا أنه لا يقال: لها روضة إلّا إذا كان فيها نبت فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة وقد قيل في الترعة غير هذا. قال الضحّاك: «يحبرون» يكرمون.
حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حبرة أي أثر فيحبرون أي يتبيّن عليهم أثر النعيم، الحبر مشتقّ من هذا.
[سورة الروم (30): آية 17]
{فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)}
أهل التفسير على أنّ هذا في الصلوات. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حقيقته عندي فسبّحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة، وعن
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 107، ولسان العرب (تدع)، و (هطل)، و (حزن)، وتهذيب اللغة 2/ 266، وتاج العروس (حزن)، وعجزه:
«خضراء جاد عليها مسبل هطل»(3/182)
عكرمة أنه قرأ فسبحان الله حينا تمسون وحينا تصبحون (1) وهو منصوب على الظرف، والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون حتى يعود على حين من نعمته شيء، ومثله في القرآن {يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} * [البقرة: 48] قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حروف الخفض لا تحذف ولكن تقدّر فيه الهاء فقط.
[سورة الروم (30): آية 18]
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)}
{وَلَهُ الْحَمْدُ} ويجوز النصب على المصدر.
[سورة الروم (30): الآيات 20الى 21]
{وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ إِذََا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
{وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ} {أَنْ} في موضع رفع بالابتداء، وكذا {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا}. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} روي عن ابن عباس المودّة حبّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء.
[سورة الروم (30): آية 22]
{وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاََفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ (22)}
بيّن جلّ وعزّ آياته الدالة عليه بخلق السّموات والأرض واختلاف اللسان في الفم واختلاف اللغات واختلاف الألوان والصور على كثرة الناس فما تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر، فهذا من أدلّ دليل على المدبّر والباري لأن من صنع شيئا غيره لم يكن فيه هذا التفريق.
[سورة الروم (30): آية 25]
{وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذََا دَعََاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذََا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
{وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي تقوم بلا عمد بقدرته، وجعله أمرا مجازا كما يقال: هذا أمر عظيم.
وفي معنى {يَسْمَعُونَ} قولان: يقبلون مثل قوله: سمع الله لمن حمده، والآخر
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 162، ومختصر ابن خالويه 116.(3/183)
أنّ منهم من كان إذا تلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه لئلّا يسمع فلمّا بيّن جلّ وعزّ الدلالة عليه قال: {ثُمَّ إِذََا دَعََاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذََا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم، وأجمع القراء على فتح التاء هاهنا في «تخرجون» واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل المدينة {وَمِنْهََا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وقرأ أهل العراق بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد والمعنيان متقاربان إلّا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه إذ كان الموت ليس من فعلهم، فكذا الإخراج والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم فالفعل بهم أشبه.
[سورة الروم (30): آية 26]
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قََانِتُونَ (26)}
قال أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» (1) قال أبو جعفر: المعنى كلّ من في السّموات والأرض له مطيعون طاعة انقيادهم على ما شاء من صحّة وسقم وغنى وفقر، وليست هذه الطاعة التي يجازون عليها.
[سورة الروم (30): آية 27]
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى ََ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقد ذكرناه. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى ََ} أي ما أراده جلّ وعزّ كان، وقال الخليل رحمه الله: المثل الصفة.
[سورة الروم (30): آية 28]
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ شُرَكََاءَ فِي مََا رَزَقْنََاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوََاءٌ تَخََافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذََلِكَ نُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}
{شُرَكََاءَ} في موضع رفع و {مِنْ} زائدة للتوكيد. {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوََاءٌ} مبتدأ وخبر وليست سواء هاهنا التي تكون ظرفا. {تَخََافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} نصب بالفعل والكاف والميم في موضع خفض، وهي أيضا في موضع رفع في التأويل كما تقول: عجبت من ضربكم عمرا. ويجوز من ضربكم عمرو لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول به، وتقول: عجبت من وقع أنيابه بعضها على بعض، وإن شئت رفعت لأن أنيابه في موضع رفع في التأويل إلّا أن الرفع في الظاهر قبيح عند الكوفيين، فإن قلت: عجبت من وقعها بعضها على بعض، حسن الرفع عند الجميع {كَذََلِكَ} الكاف في موضع نصب، والتقدير: نفصّل الآيات تفصيلا كذلك.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 14/ 20، و 15/ 239.(3/184)
[سورة الروم (30): آية 29]
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوََاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللََّهُ وَمََا لَهُمْ مِنْ نََاصِرِينَ (29)}
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوََاءَهُمْ} جمع هوى لأنّ أصله فعل.
[سورة الروم (30): آية 30]
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لاََ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (30)}
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي اجعل جهتك للدين. {حَنِيفاً} على الحال. قال الضحاك: «حنيفا» مسلما حاجا. قال و {فِطْرَتَ اللََّهِ} دين الله. قال أبو إسحاق: «فطرة الله» نصب بمعنى اتّبع فطرة الله، قال: لأن معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} اتبع الدين واتبع فطرة الله. قال محمد بن جرير: «فطرة» مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة. وقد ذكرنا فطرة الله بأكثر من هذا في «المعاني»، والحديث «كل مولود يولد على الفطرة»، وقول الفقهاء فيه. وقد قيل: معناه يولد على الخلقة التي تعرفونها، وقيل: معنى فطرة الله التي فطر الناس عليها أي اتّبعوا دين الله الذي خلق الناس له. وسمّيت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له قال جلّ وعزّ {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] واحتجّ قائل بقوله جلّ وعزّ: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهََا} [الإسراء: 7].
[سورة الروم (30): آية 31]
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَلاََ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)}
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} منصوب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى «فأقم وجهك»: وفأقيموا وجوهكم. وهو قول أبي إسحاق واحتج بقوله جلّ وعزّ {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} [الطلاق: 1]، وقال الفراء (1): المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين ورد أبو العباس قول من قال: التقدير لا يعلمون منيبين لأن معنى منيبين راجعون فكيف لا يعلمون راجعين، وأيضا فإن بعده {وَاتَّقُوهُ} وإنما معناه فأقيموا وجوهكم واتّقوه {وَلََا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
[سورة الروم (30): آية 32]
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكََانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} تأولته عائشة رضي الله عنها وأبو هريرة وأبو أمامة رحمهما الله على أنه لأهل القبلة، وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب. وفارقوا دينهم تركوا دينهم الذي يجب أن يتبعوه، وهو التوحيد. {وَكََانُوا شِيَعاً} أي فرقا. {كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قيل: هم فرحون لأنهم لم يتبيّنوا الحق
__________
(1) مرّ في إعراب الآية 9: مريم.(3/185)
وعليهم أن يتبيّنوه، وقيل: هذا قبل أن تظهر البراهين، وقول ثالث أنّ العاصي لله جلّ وعزّ قد يكون فرحا بمعصيته، وكذلك الشيطان، وقطّاع الطريق وغيرهم، والله أعلم.
وزعم الفراء (1) أنه يجوز أن يكون التمام «ولا تكونوا من المشركين» ويكون المعنى «من الذين فارقوا دينهم» {وَكََانُوا شِيَعاً} على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله، قال أبو جعفر: إذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما قال جلّ وعزّ: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] ولو كان بلا حرف لجاز.
[سورة الروم (30): آية 33]
{وَإِذََا مَسَّ النََّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذََا أَذََاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذََا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)}
{دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} على الحال، وعن ابن عباس أي مقبلين إليه بكلّ قلوبهم.
[سورة الروم (30): آية 34]
{لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)}
{لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ} لام كي، وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد، كما قال جلّ وعزّ {فَمَنْ شََاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شََاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وكما تقول (2): كلّم فلانا حتى نرى ما يلحقك منّي وكذا {فَتَمَتَّعُوا}، ودلّ على ذلك {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
[سورة الروم (30): آية 35]
{أَمْ أَنْزَلْنََا عَلَيْهِمْ سُلْطََاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمََا كََانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}
{أَمْ أَنْزَلْنََا عَلَيْهِمْ سُلْطََاناً} استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحّاك: «سلطانا» أي كتابا، وزعم الفراء أن العرب تؤنّث السلطان، وتقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث جائز عندهم لأنه بمعنى الحجّة. وقولنا سلطان معناه صاحب سلطان أي صاحب الحجّة إلّا أن محمد بن يزيد قال غير هذا فيما حكى لنا عنه علي بن سليمان قال: سلطان جمع سليط كما تقول:
رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجميع وتأنيثه على معنى الجماعة.
[سورة الروم (30): آية 36]
{وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهََا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)}
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ} التقدير عند سيبويه قنطوا فلهذا كان جواب الشرط.
[سورة الروم (30): آية 38]
{فَآتِ ذَا الْقُرْبى ََ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذََلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللََّهِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)}
{فَآتِ ذَا الْقُرْبى ََ حَقَّهُ} تأوله مجاهد وقتادة على أنه قريب الرجل، وجعلا صلة
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 325.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 325.(3/186)
الرحم فرضا من الله جلّ وعزّ حتى قال مجاهد: لا يقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة، وقيل: ذو القربى القربى بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحقّه مبيّن في قوله جلّ وعزّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمََا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلََّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ََ} [الأنفال: 41]، «وابن السبيل» الضيف فجعل الضيافة فرضا، {فَأُولََئِكَ} مبتدأ و {هُمُ} مبتدأ ثان {الْمُضْعِفُونَ} خبر الثاني والجملة خبر الأول، وفي معنى المضعفين قولان: أحدهما تضاعف لهم الحسنات والآخر أنه قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف، كما يقال:
فلان مقو أي له أصحاب أقوياء، ويقال: فلان رديء مردئ أي هو رديء في نفسه وأصحابه أردياء.
[سورة الروم (30): آية 41]
{ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمََا كَسَبَتْ أَيْدِي النََّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}
{ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمََا كَسَبَتْ أَيْدِي النََّاسِ} في معناه قولان: أحدهما ظهر الجدب في البر أي في البوادي وقرأها: وفي البحر أي في مدن البحر مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي ظهر قلّة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي الناس من المعاصي لنذيقهم عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف. والقول الآخر: أنّ معنى {ظَهَرَ الْفَسََادُ} ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة. والأول مجاز إلّا أنه على الجواب الثاني يكون في الكلام حذف واختصار دلّ عليه ما بعده.
ويكون المعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهم الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض ما عملوا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وروى داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس «لعلهم يرجعون» لعلهم يتوبون.
فأما قوله جلّ وعزّ: {وَمََا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ} فقد ذكرنا قول العلماء فيه أنه أن يهدي الرجل إلى الرجل الهدية يريد عليها المكافأة ولا يريد الثواب فذلك مباح إلّا أنه لا يثاب عليه لأنه لم يقصد به ثواب الله جلّ وعزّ غير أنّ الضحاك قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك خاصة بقوله جلّ وعزّ: {لََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وقد قيل: معنى وما آتيتم من ربا هو الربا الذي لا يحلّ، وقال قائل هذا القول: معنى فلا يربو عند الله فلا يحكم به لآخذه لأنه ليس له وإنما هو للمأخوذ منه. وتثنية الربا ربوان، كذا قول سيبويه (1)، ولا يجوز عند أصحابه غيره. وسمعت أبا إسحاق يقول: وذكر قول الكوفيين لا يكفيهم في قولهم ربيان أن يخطئوا في الخطّ فيكتبوا الربا بالياء حتى يخطئوا في التثنية واستعظم هذا، وقد قال الله جلّ وعزّ: {لِيَرْبُوَا فِي أَمْوََالِ النََّاسِ}، فهذا
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 428.(3/187)
أبين أنه من ذوات الواو، وأن القول كما قال أبو إسحاق.
[سورة الروم (30): آية 43]
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاََ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ} أي لا يردّه الله جلّ وعزّ عنهم فإذا لم يردّه لم يتهيّأ لأحد دفعه، ويجوز عند غير سيبويه (1) «لا مردّ له» وذلك عند سيبويه بعيد إلّا أن يكون في الكلام عطف. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الأصل يتصدّعون أدغمت التاء في الصاد لقربها منها، ويقال: تصدّع القوم، إذا تفرقوا ومنه اشتق الصّداع لأنه يفرق شعب الرأس.
[سورة الروم (30): آية 47]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى ََ قَوْمِهِمْ فَجََاؤُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَانْتَقَمْنََا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
{وَكََانَ حَقًّا عَلَيْنََا} خبر كان. {نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} اسمها، ولو كان في غير القرآن لجاز رفع حقّ ونصب نصر، لأن حقّا، وإن كان نكرة، فبعده علينا، ولجاز رفعهما على أن تضمر في كان والخبر في الجملة. وفي الحديث: «من ردّ عن عرض صاحبه ردّ الله عنه نار جهنّم ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم و {كََانَ حَقًّا عَلَيْنََا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}» (2).
[سورة الروم (30): آية 48]
{اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمََاءِ كَيْفَ يَشََاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاََلِهِ فَإِذََا أَصََابَ بِهِ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)}
{وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} جمع كسفة وهي القطعة، وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبد الرحمن الأعرج. كسفا (3) بإسكان السين، وهو أيضا جمع كسفة كما يقال: سدرة وسدر، وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه أي فترى الودق يخرج من خلال الكسف لأن كلّ جمع بينه وبين واحده «الهاء» لا غير، التذكير فيه حسن، ومن قرأ كسفا فالمضمر عنده عائد على الحساب، وفي قراءة الضحاك فترى الودق يخرج من خلله (4) ويجوز أن يكون خلال جمع خلل.
[سورة الروم (30): الآيات 49الى 50]
{وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى ََ آثََارِ رَحْمَتِ اللََّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ ذََلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 104.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 450، والترمذي في سننه رقم (1931)، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 517، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 6/ 284.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 508. وتيسير الداني 142.
(4) انظر إعراب الآية 12من سورة الروم.(3/188)
{وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} قد ذكرناه، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أنه على التوكيد، ويقول: إنّ قول قطرب التقدير من قبل التنزيل خطأ لأن المطر لا ينفك من التنزيل، وأنشد: [الطويل] 338 مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أغاليها مرّ الرّياح النّواسم (1)
فأنّث المرّ، لأنّ الرياح لا تنفكّ منه، ولأن المعنى تسفّهت أعاليها الرياح، فكذا معنى: «من قبل أن ينزل عليهم المطر» من قبل المطر. ويقال: آثر وإثر. {كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ} لا يجوز فيه الإدغام لئلا يجمع فيه ساكنان.
[سورة الروم (30): آية 51]
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنََا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنََا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} قيل: التقدير فرأوا الزرع مصفرّا، وقيل: فرأوا السحاب، وقيل فرأوا الريح، وذكّرت الريح لأنها للمرسل منها، وقال محمد بن يزيد لا يمتنع تذكير كلّ مؤنث غير حقيقي نحو أعجبني الدار، وما أشبهه {لَظَلُّوا} قال الخليل رحمه الله: معناه ليظلّنّ. قال أبو إسحاق: وجاز هذا لأن في الكلام معنى المجازاة.
[سورة الروم (30): الآيات 52الى 53]
{فَإِنَّكَ لاََ تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلاََ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ إِذََا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمََا أَنْتَ بِهََادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلاََلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاََّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
{فَإِنَّكَ لََا تُسْمِعُ الْمَوْتى ََ وَلََا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعََاءَ} جعلوا بمنزلة الموتى والصمّ، لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون. {وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ} قال الفراء (2): ويجوز من ضلالتهم بمعنى وما أنت بمانعهم من ضلالتهم، وعن بمعنى وما أنت بصارفهم عن ضلالتهم.
[سورة الروم (30): آية 54]
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}
{اللََّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} قال عطية عن ابن عمر رحمه الله قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ضعف» فقال لي {مِنْ ضَعْفٍ} (3) وقرأ عيسى بن عمر {مِنْ ضَعْفٍ}، وقرأ الكوفيون {مِنْ ضَعْفٍ} وهو المصدر، وأجاز النحويون منهم من ضعف، وكذا كلّ ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا. قال أبو إسحاق:
تأويله الله الذي خلقكم من النطفة التي حالكم معها الضعف ثم جعل من بعد الضعف الشبيبة.
__________
(1) مرّ الشاهد رقم 141.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 326.
(3) انظر تيسير الداني 142.(3/189)
[سورة الروم (30): آية 55]
{وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ كَذََلِكَ كََانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}
{وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ} وليس في هذا ردّ لعذاب القبر إذ كان قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير طريق أنه تعوّذ منه، وأمر أن يتعوّذ منه. من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال: سمع صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة تقول: اللهمّ أمتعني بزوجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سألت الله في آجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنّم أو عذاب القبر» (1) في أحاديث مشهورة. وفي معنى {مََا لَبِثُوا غَيْرَ سََاعَةٍ} قولان: أولهما أنّه يريد لا بدّ من خمدة قبل يوم القيامة ولحق الفناء الذي كتب على الخلق من رحم ومن عذّب فعلى هذا قالوا ما لبثنا غير ساعة لأنهم لم يعملوا مقدار ذلك، والقول الآخر أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون قال الله جلّ وعزّ {كَذََلِكَ كََانُوا يُؤْفَكُونَ} أي كذلك كانوا يكذبون في الدنيا، وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه، والقرآن يدل على غير ذلك. قال الله جلّ وعزّ: {كَذََلِكَ كََانُوا يُؤْفَكُونَ} وقال جلّ ثناؤه {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللََّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمََا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى ََ شَيْءٍ أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْكََاذِبُونَ}
[المجادلة: 18].
[سورة الروم (30): آية 56]
{وَقََالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمََانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهََذََا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلََكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ (56)}
وردّ عليهم المؤمنون فقالوا: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتََابِ اللََّهِ إِلى ََ يَوْمِ الْبَعْثِ} قال أبو إسحاق: أي في اللّوح المحفوظ وحكى يعقوب عن بعض القراء «إلى يوم البعث» (2)
فهذا ما فيه حرف من حروف الحلق.
[سورة الروم (30): آية 57]
{فَيَوْمَئِذٍ لاََ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاََ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}
{فَيَوْمَئِذٍ لََا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} لمّا ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا {وَلََا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ولا حالهم حال من يستعتب فيرجع.
[سورة الروم (30): آية 58]
{وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاََّ مُبْطِلُونَ (58)}
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه القدر 32، 33.
(2) انظر المحتسب 2/ 166.(3/190)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يدلّهم على ما يحتاجون إليه.
[سورة الروم (30): آية 60]
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَلاََ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاََ يُوقِنُونَ (60)}
{وَلََا يَسْتَخِفَّنَّكَ} في موضع جزم بالنهي فأكّد بالنون الثقيلة فبني على الفتح، كما يبنى الشيئان إذا ضمّ أحدهما إلى الآخر {الَّذِينَ لََا يُوقِنُونَ} في موضع رفع، ومن العرب من يقول الذّون في موضع الرفع.(3/191)
31 - شرح إعراب سورة لقمان
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة لقمان (31): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الم (1) تِلْكَ آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ (2)}
{الم} {تِلْكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هذه تلك، ويقال: تيك.
{آيََاتُ الْكِتََابِ الْحَكِيمِ} بدل من «تلك».
[سورة لقمان (31): آية 3]
{هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)}
{هُدىً وَرَحْمَةً} نصب على الحال، مثل {هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً} * [الأعراف: 73، وهود: 64] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ حمزة هدى ورحمة (1) بالرفع، وهو من جهتين: إحداهما على إضمار مبتدأ لأنه أول آية، والأخرى أن يكون خبر تلك.
[سورة لقمان (31): آية 4]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاََةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلََاةَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ، لأنه أول آية أو في موضع نصب بمعنى أعني، أو في موضع خفض على أنه نعت للمحسنين.
[سورة لقمان (31): آية 6]
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهََا هُزُواً أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ (6)}
{وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة.
وعن رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «لهو الحديث» هاهنا الغناء وأنه ممنوع بالكتاب والسنة فيكون التقدير ومن الناس من يشتري ذا لهو أو ذات لهو، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أو يكون التقدير: لما
__________
(1) انظر تيسير الداني 143، والبحر المحيط 7/ 179.(3/192)
كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} أي ليضلّ غيره ومن قرأ ليضل (1) فعلى اللازم له عنده، {وَيَتَّخِذَهََا} (2) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {وَيَتَّخِذَهََا} عطفا على ليضلّ. والرفع من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على يشتري، والآخر أن يكون مستأنفا. والهاء كناية عن الآيات، ويجوز أن تكون كناية عن السبيل لأن السبيل يذكّر ويؤنّث.
[سورة لقمان (31): آية 7]
{وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا وَلََّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ (7)}
{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} اسم كأنّ وتحذف الضمة لثقلها فيقال: أذن.
[سورة لقمان (31): آية 10]
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا وَأَلْقى ََ فِي الْأَرْضِ رَوََاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دََابَّةٍ وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}
{خَلَقَ السَّمََاوََاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا} يكون {تَرَوْنَهََا} في موضع خفض على النعت لعمد أي بغير عمد مرئية، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا ويكون بغير عمد التمام. {أَنْ تَمِيدَ} في موضع نصب أي كراهة أن تميد، والكوفيون يقدّرونه بمعنى لئلا تميد.
{فَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} عن ابن عباس: من كلّ نوع حسن، وتأوّله الشعبي على الناس لأنهم مخلوقون من الأرض، قال: فمن كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ومن كان يصير إلى النار فهو اللئيم، وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب وظاهر القرآن يدلّ على ذلك.
[سورة لقمان (31): آية 11]
{هََذََا خَلْقُ اللََّهِ فَأَرُونِي مََا ذََا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظََّالِمُونَ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (11)}
{هََذََا خَلْقُ اللََّهِ} مبتدأ وخبر. {فَأَرُونِي مََا ذََا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} «ما» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ذا» وذا بمعنى الذي، وخلق واقع على هاء محذوفة على هذا، تقول: ماذا تعلّمت أنحو أم شعر، ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بخلق و «ذا» زائدة، وعلى هذا تقول: ماذا تعلمت أنحوا أم شعرا. {بَلِ الظََّالِمُونَ} رفع بالابتداء.
{فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ} في موضع الخبر.
[سورة لقمان (31): آية 12]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا لُقْمََانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلََّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمََا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 143، والبحر المحيط 7/ 179، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو.
(2) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 512.(3/193)
{وَلَقَدْ آتَيْنََا لُقْمََانَ الْحِكْمَةَ} مفعولان ولم ينصرف لقمان لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم يصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين زال. وزعم عكرمة أن لقمان كان نبيا وفي الحديث أنه كان حبشيا (1). {أَنِ اشْكُرْ لِلََّهِ} فيه تقديران: أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسرة أي قلنا له اشكر، والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها، كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم إلا أن هذا الوجه بعيد. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمََا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} جزم بالشرط، ويجوز الرفع على أن من بمعنى الذي.
[سورة لقمان (31): آية 13]
{وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يََا بُنَيَّ لاََ تُشْرِكْ بِاللََّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
{وَإِذْ قََالَ لُقْمََانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} «إذ» في موضع نصب، والمعنى واذكر، وحكى أبو إسحاق في كتابه في القرآن أن «إذ» في موضع نصب بآياتنا وأن المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. قال أبو جعفر: وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك وأيضا فإن اسم لقمان مذكور بعد قال. {يََا بُنَيَّ} (2) بكسر الياء لأنها دالّة على الياء المحذوفة ومن فتحها فلخفّة الفتحة عنده.
[سورة لقمان (31): آية 16]
{يََا بُنَيَّ إِنَّهََا إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمََاوََاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
{إِنَّهََا} الكتابة عن القصة أو عن الفعلة أو بمعنى: إنّ التي سألتني عنها لأنه يروى أنه سأله، والبصريون يجيزون إنّها زيد ضربته، بمعنى أن القصة، والكوفيون لا يجيزون هذا إلّا في المؤنث {إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} خبر «تك» واسمها مضمر فيها، واستبعد أبو حاتم أن يقرأ {إِنْ تَكُ مِثْقََالَ حَبَّةٍ} (3) بالرفع. لأن مثقالا مذكّر فلا يجوز عنده إلا بالياء. قال أبو جعفر: وهذا جائز صحيح وهو محمول على المعنى لأن المعنى واحد، وهذا كثير في كلام العرب يقال: اجتمعت أهل القيامة لأن من كلامهم اجتمعت اليمامة، وزعم الفراء أن مثل الآية قول الشاعر:
339 - وتشرق بالقول الّذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم (4)
فأما {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} فمعترض بين كلام لقمان كما روى شعبة عن سماك ابن حرب عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله جلّ
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 181.
(2) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 328، والبحر المحيط 7/ 182.
(4) مرّ الشاهد رقم (130).(3/194)
وعزّ ببرّ الوالدة؟ فو الله لا أطعم ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها أو جروها بالعصا وجعلوا في فيها الطعام والشراب، فنزلت {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ} إلى {وَإِنْ جََاهَدََاكَ عَلى ََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية فأما نصب «وهنا على وهن» قال أبو جعفر: فما علمت أن أحدا من النحويين ذكره فيكون مفعولا ثانيا على حذف الحرف أي حملته بضعف على ضعف أو فازدادت ضعفا على ضعف، و {مَعْرُوفاً} نعت لمصدر محذوف. وزعم أبو إسحاق في كتابه أن «أن» في موضع نصب وأن المعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك. وهذا القول على مذهب سيبويه بعيد ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت غيره. وأجود منه أن تكون «أن» مفسرة والمعنى: قلنا له اشكر لي ولوالديك.
[سورة لقمان (31): آية 17]
{يََا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاََةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا أَصََابَكَ إِنَّ ذََلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)}
{يََا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلََاةَ} معنى إقامة الصّلاة إتمامها بجميع فروضها، كما يقال: فلان قيّم بعمله الذي وليه أي قد وفّى العمل جميع حقوقه، ومنه هذا قوام الأمر {وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا أَصََابَكَ} وهو أن لا يخرج من الجزع إلى معصية الله وكذا الصبر عن المعاصي.
[سورة لقمان (31): آية 18]
{وَلاََ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنََّاسِ وَلاََ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللََّهَ لاََ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ (18)}
{وَلََا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنََّاسِ} قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: «تصاعر» من واحد مثل عافاه الله {وَلََا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أي متبخترا متكبرا. وهو مصدر في موضع الحال.
[سورة لقمان (31): آية 19]
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوََاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي توسّط والتوسط أحمد الأمور، وكذا {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أدّبه الله جلّ وعزّ بالأمر بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوََاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال أبو عبيدة (1): أي أشدّ، وقال الضحاك: وهما جميعا على المجاز.
وفي الحديث «ما صاح حمار ولا نبح كلب إلّا أن يرى شيطانا» (2).
[سورة لقمان (31): آية 20]
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظََاهِرَةً وَبََاطِنَةً وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاََ هُدىً وَلاََ كِتََابٍ مُنِيرٍ (20)}
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 127.
(2) أخرجه الترمذي في سننه الدعاء 13/ 13، بمعناه.(3/195)
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللََّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وذلك من نعم الله جلّ وعزّ على بني آدم فالأشياء كلّها مسخرة لهم من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم، وتجرّ إليهم منافعهم، ومن سماء وما فيهما لا يحصى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظََاهِرَةً وَبََاطِنَةً} على الحال ومن قرأ نعمة ظاهرة وباطنة (1) جعله نعتا، وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح مروية وفسرها: الإسلام وشرح هذا أنّ سعيد بن جبير قال في قوله جلّ وعزّ:
{وَلََكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] قال: يدخلكم الجنة وتمام نعمة الله على العبد أن يدخله الجنة فكذا لمّا كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمّي نعمة، وعن ابن عباس قال: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُجََادِلُ فِي اللََّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال: هو النّضر بن الحارث.
[سورة لقمان (31): آية 21]
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ الشَّيْطََانُ يَدْعُوهُمْ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ (21)}
{أَوَلَوْ كََانَ الشَّيْطََانُ يَدْعُوهُمْ إِلى ََ عَذََابِ السَّعِيرِ} أي أولو كان كذا يتّبعونه على التوبيخ.
[سورة لقمان (31): آية 22]
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللََّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ََ وَإِلَى اللََّهِ عََاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللََّهِ} وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللََّهِ}. قال: «يسلم» في هذا أعرف، كما قال جلّ وعزّ: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلََّهِ}
ومعنى «أسلمت وجهي لله» قصدت بعبادتي إلى الله وأقررت أنه لا إله غيره، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يسلم نفسه إلى الله مثل {كُلُّ شَيْءٍ هََالِكٌ إِلََّا وَجْهَهُ} [القصص:
88] معناه إلّا إياه. ويكون يسلّم على التكثير إلّا أنّ المستعمل في سلّمت أنه بمعنى دفعت يقال: سلّمت في الحنطة وقد يقال: أسلمت. وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ََ} قال: لا إله إلا الله.
[سورة لقمان (31): آية 27]
{وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاََمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}
{وَلَوْ أَنَّ مََا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلََامٌ} «أنّ» في موضع رفع، والتقدير ولو وقع هذا و «أقلام» خبر أن. {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} مرفوع من جهتين: إحداهما العطف على الموضع،
__________
(1) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513.(3/196)
والأخرى أن يكون في موضع الحال. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} (1)
بالنصب على اللفظ. وحكى يونس عن ابن أبي عمرو بن العلاء قال: ما أعرف للرفع وجها إلّا أن يجعل البحر أقلاما وأبو عبيد يختار الرفع لكثرة من قرأ به إلا أنه قال: يلزم من قرأ بالرفع أن يقرأ و {كَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]. قال أبو جعفر:
هذا مخالف لذاك عند سيبويه، قال سيبويه (2): أي والبحر هذا أمره يجعل الواو تؤدّي عن الحال، وليس هذا في {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (يمدّه)، وحكي «يمدّه» على أنهما لغتان بمعنى واحد، وحكي التفريق بين اللغتين وأنّه يقال فيما كان يزيد في الشيء مدّة يمدّه كما تقول: مدّ النيل الخليج، أي زاد فيه، وأمدّ الله جلّ وعزّ الخليج بالنيل. وهذا أحسن القولين، وهو مذهب الفراء (3)، ويجوز تمدّه. {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} على تأنيث السبعة. {مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ} قال قتادة: قالوا: إنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم سينفد فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا.
[سورة لقمان (31): آية 28]
{مََا خَلْقُكُمْ وَلاََ بَعْثُكُمْ إِلاََّ كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ إِنَّ اللََّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}
{مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ} قال الضحاك: أي ما ابتداء خلقكم جميعا إلّا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلّا كبعث نفس واحدة. قال أبو جعفر:
وهكذا قدّره النحويون بمعنى إلّا كخلق نفس واحدة مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}.
[سورة لقمان (31): آية 29]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ} عن ابن مسعود أنه قال: قصر نهار الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره.
[سورة لقمان (31): آية 32]
{وَإِذََا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمََّا نَجََّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلاََّ كُلُّ خَتََّارٍ كَفُورٍ (32)}
{وَإِذََا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} لأن سبيل الموج إذا اشتدّ أن يرتفع. قال الفراء: يعني بالظّلل السحاب. قال الخليل وسيبويه رحمهما الله في قاض وجاز: يوقف عليهما بغير تاء، وعلتهما في ذلك أن يعرف أنه في الوصل كذلك وكان القياس أن يوقف عليهما بالياء لأن التنوين يزول في الوقف، وحكى يونس أن بعض العرب الموثوق بلغتهم يقف بالياء فيقول: جاءني قاضي وجازي.
__________
(1) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513.
(2) انظر الكتاب 2/ 145.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 329.(3/197)
[سورة لقمان (31): آية 34]
{إِنَّ اللََّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السََّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مََا فِي الْأَرْحََامِ وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ مََا ذََا تَكْسِبُ غَداً وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
{إِنَّ اللََّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السََّاعَةِ وَيُنَزِّلُ} [1] الْغَيْثَ زعم الفراء (2) أن في هذا معنى النفي أي ما لم يعلمه أحد إلّا الله جل وعز. قال أبو جعفر: إنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ}
[الأنعام: 59] لا يعلمها إلّا هو أنها هذه. قال أبو إسحاق: فمن زعم أنه يعلم شيئا من هذا فقد كفر {إِنَّ اللََّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السََّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مََا فِي الْأَرْحََامِ وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ مََا ذََا تَكْسِبُ غَداً وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ومن العرب من يقول: بأيّة أرض. فمن قال:
بأيّ أرض قال: تأنيث الأرض يكفي من تأنيث أي، ومن قال: بأيّة أرض قال: أي تنفرد تأتي بغير إضافة لو قال: جاءتني امرأة، قلت أيّة {إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} نعت لعليم أو خبر بعد خبر.
__________
(1) انظر تيسير الداني 143.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 330.(3/198)
32 - شرح إعراب سورة السجدة
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة السجده (32): الآيات 1الى 2]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتََابِ لاََ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ (2)}
{الم تَنْزِيلُ الْكِتََابِ لََا رَيْبَ فِيهِ} الاجتماع على رفع تنزيل، ورفعه من ثلاثة أوجه:
أحدها بالابتداء والخبر {لََا رَيْبَ فِيهِ}، والثاني على إضمار مبتدأ أي هذا المتلو تنزيل، والثالث بمعنى هذه الحروف تنزيل و «ألم» تدل على الحروف كلها كما تدل عليها أب ت ث. ولو كان تنزيل منصوبا على المصدر لجاز كما قرأ الكوفيون {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 53].
[سورة السجده (32): الآيات 3الى 4]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مََا أَتََاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ مََا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاََ شَفِيعٍ أَفَلاََ تَتَذَكَّرُونَ (4)}
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرََاهُ} «أم» تدلّ على خروج من حديث إلى حديث {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} مبتدأ وخبره، وكذا {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ} {مََا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} أي للكافرين من مولى يمنع من عذابهم {وَلََا شَفِيعٍ}، ويجوز بالرفع على الموضع {أَفَلََا تَتَذَكَّرُونَ} هذه الموعظة.
[سورة السجده (32): آية 7]
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسََانِ مِنْ طِينٍ (7)}
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير {خَلَقَهُ} (1) بإسكان اللام ونصبه في هذه القراءة على المصدر عند سيبويه مثل {صُنْعَ اللََّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}
[النمل: 88]، وعند غيره على البدل من «كلّ» أي الّذي أحسن خلق كلّ شيء وهما مفعولان على مذهب بعض النحويين بمعنى أفهم كلّ شيء خلقه و {خَلَقَهُ} على أنه فعل
__________
(1) انظر تيسير الداني 144، وكتاب السبعة لابن مجاهد 516.(3/199)
ماض في موضع خفض نعت لشيء والمعنى على ما يروى عن ابن عباس: أحكم كلّ شيء خلقه أي جاء به ما أراد لم يتغيّر عن إرادته، وقول آخر أن كلّ شيء يخلقه حسن لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، وهو دالّ على خالقه. قال أبو إسحاق: ويجوز الذي أحسن كل شيء خلقه بالرفع بمعنى ذلك خلقه. {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسََانِ مِنْ طِينٍ} يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة السجده (32): آية 8]
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاََلَةٍ مِنْ مََاءٍ مَهِينٍ (8)}
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلََالَةٍ} مشتقّ من سللت الشيء وفعالة للقليل. {مِنْ مََاءٍ مَهِينٍ} قال أبو إسحاق: أي ضعيف، وقال غيره: أي لا خطر له عند الناس.
[سورة السجده (32): آية 9]
{ثُمَّ سَوََّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مََا تَشْكُرُونَ (9)}
{ثُمَّ سَوََّاهُ} يعني الماء. {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أي الّذي يحيا به. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ} فوحّد السمع وجمع الأبصار، لأنّ السمع في الأصل مصدر، ويجوز أن يكون واحدا يدلّ على جمع {وَالْأَفْئِدَةَ} جمع فؤاد وهو القلب.
[سورة السجده (32): آية 10]
{وَقََالُوا أَإِذََا ضَلَلْنََا فِي الْأَرْضِ أَإِنََّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ كََافِرُونَ (10)}
وقالوا أأذا ضللنا في الأرض أأنا (1) لفي خلق جديد ويقرأ {أَإِنََّا} في هذا سؤال صعب من العربية يقال: ما العامل في «إذ» و «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ والسؤال في الاستفهام أشدّ لأن ما بعد الاستفهام أجدر أن لا يعمل فيما قبله من «أنّ» كيف وقد اجتمعا؟ فالجواب على قراءة من قرأ أنا أنّ العامل ضللنا، وعلى قراءة من قرأ {أَإِنََّا} أن العامل مضمر، والتقدير: أنبعث إذا متنا، وفيه أيضا سؤال يقال: أين جواب إذا على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك أن بعدها فعلا ماضيا فلذلك جاز هذا، وعن أبي رجاء وطلحة أنهما قرءا {أَإِذََا ضَلَلْنََا} (2) وهي لغة شاذة، وعن الحسن اإذا صللنا بالصاد، وهكذا رواها الفراء (3)، وزعم أنها تروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يعرف صللنا، يقال: صل اللحم وأصل، وخمّ وأخمّ إذ أنتن.
[سورة السجده (32): آية 11]
{قُلْ يَتَوَفََّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى ََ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}
{قُلْ يَتَوَفََّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} قال أبو إسحاق: هو من توفية العدد أي يستوفي عددكم أجمعين.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 195، وكتاب السبعة لابن مجاهد 285.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 195.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 311.(3/200)
[سورة السجده (32): آية 12]
{وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا فَارْجِعْنََا نَعْمَلْ صََالِحاً إِنََّا مُوقِنُونَ (12)}
{وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مبتدأ وخبر. قال أبو إسحاق: المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، والمعنى: ولو ترون، ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك وحذف جواب «لو» والقول.
[سورة السجده (32): آية 13]
{وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا وَلََكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}
{وَلَوْ شِئْنََا لَآتَيْنََا كُلَّ نَفْسٍ هُدََاهََا} مفعولان قيل: في معناه قولان: أحدهما أن سياق الكلام يدلّ على أنه في الآخرة أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا {وَلََكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ} أي حقّ القول منّي لأعذبنّ من عصاني بعذاب جهنّم وعلم الله جلّ وعزّ أنّه لو ردّهم لعادوا كما قال {وَلَوْ رُدُّوا لَعََادُوا لِمََا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
[سورة السجده (32): آية 14]
{فَذُوقُوا بِمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا إِنََّا نَسِينََاكُمْ وَذُوقُوا عَذََابَ الْخُلْدِ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}
{فَذُوقُوا بِمََا نَسِيتُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} في معناه قولان: أحدهما أنه من النسيان الذي لا ذكر معه أي لم تعملوا لهذا اليوم فكنتم بمنزلة الناسين، والآخر أن نسيتم بمعنى تركتم، وكذا {إِنََّا نَسِينََاكُمْ} واحتجّ محمد بن يزيد بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنََا إِلى ََ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أنّ الله جلّ وعزّ أخبر عن إبليس أنه قال له: {مََا نَهََاكُمََا رَبُّكُمََا عَنْ هََذِهِ الشَّجَرَةِ إِلََّا أَنْ تَكُونََا مَلَكَيْنِ} [الأعراف:
20] فلو كان آدم صلّى الله عليه وسلّم ناسيا لكان قد ذكّره: وأنشد: [البسيط] 340 كأنّه خارجا من جنب صفحته ... سفّود شرب نسوه عند مفتأد (1)
أي تركوه ولو كان من النسيان لكانوا قد عملوا به مرّة.
__________
(1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص 19، والأشباه والنظائر 6/ 243، وخزانة الأدب 3/ 185، والخصائص 2/ 275، ولسان العرب (فأد)، وتهذيب اللغة 14/ 196، وبلا نسبة في رصف المباني ص 211، وكتاب العين 8/ 8.(3/201)
[سورة السجده (32): آية 15]
{إِنَّمََا يُؤْمِنُ بِآيََاتِنَا الَّذِينَ إِذََا ذُكِّرُوا بِهََا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاََ يَسْتَكْبِرُونَ (15)}
{إِنَّمََا يُؤْمِنُ بِآيََاتِنَا الَّذِينَ إِذََا ذُكِّرُوا بِهََا خَرُّوا سُجَّداً} أي إنما يؤمن بالعلامات والبراهين والحجج الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لله وسبّحوا بحمده. {وَهُمْ لََا يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته ولا الانقياد لما أبانه.
[سورة السجده (32): آية 16]
{تَتَجََافى ََ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضََاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)}
{تَتَجََافى ََ جُنُوبُهُمْ} في موضع نصب على الحال أو رفع لأنه فعل مستقبل ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه فعل مقصور. ومعنى مقصور أنه قصر منه الإعراب ومعنى منقوص أنه نقص منه الإعراب. {يَدْعُونَ} في موضع نصب على الحال {خَوْفاً} مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدرا. {وَطَمَعاً} مثله أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. {وَمِمََّا رَزَقْنََاهُمْ يُنْفِقُونَ} تكون «ما» بمعنى الذي وتكون مصدرا، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من «من».
[سورة السجده (32): آية 17]
{فَلاََ تَعْلَمُ نَفْسٌ مََا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزََاءً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
{فَلََا تَعْلَمُ نَفْسٌ مََا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ويقرأ ما أخفي لهم (1) بإسكان الياء على أنه فعل مستقبل. وفي قراءة عبد الله ما نخفي (2) بالنون، قال أبو إسحاق: ويقرأ ما أخفي لهم بمعنى ما أخفى الله لهم فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت في موضع نصب على الوجوه كلّها، وإن جعلتها بمعنى أي وقرأت بقراءة المدنيين كانت في موضع رفع وإن قرأت بغيرها كانت في موضع نصب.
{جَزََاءً} مفعول من أجله أو مصدر.
[سورة السجده (32): آية 18]
{أَفَمَنْ كََانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كََانَ فََاسِقاً لاََ يَسْتَوُونَ (18)}
لأن لفظ «من» تؤدّي عن الجماعة فلهذا قال: لا يستوون. هذا قول كثير من النحويين، وقال بعضهم: يستوون لاثنين إلّا أنّ الاثنين جمع، لأنه واحد جمع مع آخر. والحديث يدلّ على هذا القول لأنه عن ابن عباس رحمه الله وغيره قال: نزلت {أَفَمَنْ كََانَ مُؤْمِناً} في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، {كَمَنْ كََانَ فََاسِقاً} في الوليد بن عقبة بن أبي معيط (3).
__________
(1) انظر تيسير الداني 144، وكتاب السبعة لابن مجاهد 516.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 332، والبحر المحيط 7/ 197.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 198.(3/202)
[سورة السجده (32): الآيات 19الى 20]
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ جَنََّاتُ الْمَأْوى ََ نُزُلاً بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} في موضع رفع بالابتداء فوصفه الله جلّ وعزّ بالإيمان، وخبر الابتداء {فَلَهُمْ جَنََّاتُ الْمَأْوى ََ} والمعنى: فله ولنظرائه فعلى هذا جاء الجمع، وكذا {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا} ظرف.
[سورة السجده (32): آية 21]
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذََابِ الْأَدْنى ََ دُونَ الْعَذََابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} لام قسم. {مِنَ الْعَذََابِ الْأَدْنى ََ} أي الأقرب، وأكثر أهل التفسير على أنها المصيبات في الدنيا.
[سورة السجده (32): آية 22]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا إِنََّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لنفسه. {مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ} أي بحججه وعلاماته. {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا} بترك القبول فاعلم أنه ينتقم منه، فقال جلّ وعزّ: {إِنََّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
[سورة السجده (32): آية 23]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلاََ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ (23)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ} مفعولان. {فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ} قد ذكرناه، وقد قيل: إن معناه فلا تكن في شكّ من تلقي موسى صلّى الله عليه وسلّم الكتاب بالقبول، وعن الحسن أنه قال في معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب فأوذي وكذّب فلا تكن في شكّ من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى. وهو قول غريب إلّا أنه من رواية عمرو بن عبيد.
[سورة السجده (32): آية 24]
{وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا لَمََّا صَبَرُوا وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يُوقِنُونَ (24)}
{وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} والكوفيون يقرءون أمّة وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة وهو من دقيق النحو، وشرحه أن الأصل أأممة ثم ألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة، وأدغمت الميم في الميم وخفّفت الهمزة الثانية لئلا تجتمع همزتان، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد فأما في حرف واحد فلا يجوز البتة إلّا بتخفيف آدم وآخر وهذا آدم من هذا {لَمََّا صَبَرُوا} (1) لصبرهم و {لَمََّا صَبَرُوا} أي حين صبروا جعلناهم أئمة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 144ومعاني الفراء 2/ 332، والبحر المحيط 7/ 200، وهذه قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي، والجمهور بفتح الميم وشدّ الميم.(3/203)
[سورة السجده (32): آية 26]
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ أَفَلاََ يَسْمَعُونَ (26)}
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة أو لمن نهد لهم (1) بالنون فهذه قراءة بيّنة. والقراءة الأولى بالياء فيها إشكال لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد فتكلّم النحويون في هذا فقال الفراء (2): «كم» في موضع رفع بيهد.
وهذا نقض لأصول النحويين في قولهم: إنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كم بوجه أعني ما قبلها. ومذهب أبي العباس أنّ يهد يدلّ على الهدى فالمعنى أو لم يهد لهم الهدى، وقيل: المعنى أو لم يهد الله لهم فيكون معنى الياء ومعنى النون واحدا، وقال أبو إسحاق: كم في موضع نصب بأهلكنا. {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ} في موضع نصب بأنّ. {أَفَلََا يَسْمَعُونَ} بمعنى أفلا يقبلون مثل: سمع الله لمن حمده.
[سورة السجده (32): آية 27]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَسُوقُ الْمََاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعََامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاََ يُبْصِرُونَ (27)}
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا نَسُوقُ الْمََاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: هي أرض اليمن، وقال سفيان وحدّثني معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي أبين (3)، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة «إلى الأرض الجرز» قال:
هي الظّمأى، وقال جويبر عن الضحاك {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قال: الميتة العطشى، وقال الفراء (4): هي التي لا نبات فيها، وقال الأصمعي: الأرض الجرز التي لا تنبت شيئا. قال محمد بن يزيد: يبعد أن تكون إلّا أرضا بعينها لدخول الألف واللام إلّا أنه يجوز على قول ما قال ابن عباس والضحاك. قال أبو جعفر: الإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه، وهذا إنما هو نعت، والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام. وهو مشتق من قولهم: رجل جروز إذا كان لا يبقي شيئا إلّا أكله. وحكى الفراء (5) وغيره أنه يقال: أرض جرز وجرز وجرز، وكذلك بخل ورعب ورهب في الأربعة أربع لغات {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} يكون معطوفا على نسوق، أو منقطعا مما قبله {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعََامُهُمْ} في موضع نصب على النعت. {وَأَنْفُسُهُمْ} أي ويأكلون منه. والنفس في كلام العرب
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 200، ومختصر ابن خالويه 118.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 333.
(3) انظر البحر المحيط 7/ 200 (وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر).
(4) انظر معاني الفراء 2/ 333.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 333.(3/204)
على ضربين: أحدهما أنه يراد بها الانفصال، والآخر أنه يراد بها جملة الشيء وحقيقته قال جلّ وعزّ {تَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِي وَلََا أَعْلَمُ مََا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. {أَفَلََا يُبْصِرُونَ} يكون (ألا) للتنبيه.
[سورة السجده (32): آية 28]
{وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ (28)}
{وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْفَتْحُ} «متى» في موضع رفع ويجوز أن تكون في موضع نصب على الظرف. قال الفراء (1): يعني فتح مكة، وأولى من هذا ما قاله مجاهد قال:
يعني يوم القيامة. قال أبو جعفر: ويوم فتح مكة قد نفع من آمن إيمانه. ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله جلّ وعزّ بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على التهزي: متى هذا الفتح أي هذا الحكم؟ ويقال: للحاكم فاتح وفتّاح لأن الأشياء تتفتح على يديه وتنفصل، وفي القرآن {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ قَوْمِنََا بِالْحَقِّ}
[الأعراف: 89].
[سورة السجده (32): آية 29]
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاََ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمََانُهُمْ وَلاََ هُمْ يُنْظَرُونَ (29)}
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} على الظرف وأجاز الفراء الرفع.
[سورة السجده (32): آية 30]
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قيل: معناه أعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.
{وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أي انتظر يوم الفتح يوم يحكم الله لك عليهم، فإن قال قائل: فكيف ينظرون يوم القيامة وهم لا يؤمنون به ففي هذا جوابان: أحدهما أن يكون المعنى أنهم ينتظرون الموت، وهو من أسباب القيامة فيكون هذا مجازا، والآخر أن فيهم من يشكّ ومنهم من يوقن بالقيامة فيكون هذا لهذين الصنفين والله جلّ وعزّ أعلم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 333.(3/205)
33 - شرح إعراب سورة الأحزاب
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة الأحزاب (33): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ وَلاََ تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَالْمُنََافِقِينَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)}
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ضممت أيا لأنه نداء مفرد والتنبيه لازم لها والنبي نعت لأيّ عند النحويين إلّا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأي، وهو خطأ عند أكثر النحويين لأن الصلة لا تكون إلّا جملة والاحتيال له فيما قال: إنه لما كان نعتا لازما سماه صلة فهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها، وأجاز بعض النحويين (1) النصب، {اتَّقِ اللََّهَ} حذفت الياء لأنه أمر. {وَلََا تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَالْمُنََافِقِينَ} أي لا تطعهم فيما نهيت عنه ولا تمل إليهم، ودلّ بقوله جلّ وعزّ: {إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً} على أنه إنما كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام أي لو علم الله جلّ وعزّ أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه لأنه حكيم.
[سورة الأحزاب (33): آية 2]
{وَاتَّبِعْ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2)}
{وَاتَّبِعْ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ} أي من اجتنابهم.
[سورة الأحزاب (33): آية 3]
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلاً (3)}
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} أي في الخوف من ضررهم. {وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا} أي كافيا لك مما تخافه منهم «وكيلا» نصب على البيان أو على الحال.
[سورة الأحزاب (33): آية 4]
{مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمََا جَعَلَ أَزْوََاجَكُمُ اللاََّئِي تُظََاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهََاتِكُمْ وَمََا جَعَلَ أَدْعِيََاءَكُمْ أَبْنََاءَكُمْ ذََلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوََاهِكُمْ وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)}
{مََا جَعَلَ اللََّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} «من» زائدة للتوكيد، وشبه هذا بالأول أنّه لم
__________
(1) انظر أسرار العربية ص 229.(3/206)
يجعل للإنسان قلبين قلبا يخلص به لله جلّ وعزّ وقلبا يميل به إلى أعدائه. {وَمََا جَعَلَ أَزْوََاجَكُمُ اللََّائِي تُظََاهِرُونَ} [1] مِنْهُنَّ أُمَّهََاتِكُمْ مفعولان وهو مشتق من الظهر لأن الظهر موضع الركوب. وكانت العرب تطلق بالظّهار. {وَمََا جَعَلَ أَدْعِيََاءَكُمْ أَبْنََاءَكُمْ} أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وفي الحديث أن خديجة رضي الله عنها وهبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء أبوه حارثة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: خذ مني فداه فقال له: أنا أخيّره فإن أراد أن يقيم عندي أقام، وإن اختارك فخذه فاختار المقام فأعتقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «هو ابني يرثني وأرثه» (2)، ثم أنزل الله جلّ وعزّ {وَمََا جَعَلَ أَدْعِيََاءَكُمْ أَبْنََاءَكُمْ} أي ادعوهم لآبائهم. قال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد فنسب كلّ دعيّ إلى أبيه.
{ذََلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوََاهِكُمْ} ابتداء وخبره أي هو قول بلا حقيقة. {وَاللََّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي القول الحقّ نعت لمصدر، ويجوز أن يكون مفعولا.
[سورة الأحزاب (33): آية 5]
{ادْعُوهُمْ لِآبََائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللََّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبََاءَهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوََالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ فِيمََا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلََكِنْ مََا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)}
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبََاءَهُمْ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فهم إخوانكم {وَمَوََالِيكُمْ} عطف عليه.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ فِيمََا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قول قتادة هو أن ينسب الرجل إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه. قال أبو جعفر: وقد قيل: إنّ هذا مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم به، وكانت فتيا عطاء على هذا إذا حلف رجل ألّا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقّه فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زجاجا أنه لا شيء عليه، وكذا عنده إذا حلف أنه لا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث لأنه لم يعمد لذلك. {وَلََكِنْ مََا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} «ما» في موضع خفض ردّا على «ما» التي مع أخطأتم، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم.
[سورة الأحزاب (33): آية 6]
{النَّبِيُّ أَوْلى ََ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحََامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهََاجِرِينَ إِلاََّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى ََ أَوْلِيََائِكُمْ مَعْرُوفاً كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً (6)}
{النَّبِيُّ أَوْلى ََ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} في معناه قولان: أحدهما النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض مثل {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، والآخر أنه إذا أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) انظر القراءات التسعة في البحر المحيط 7/ 207، وكتاب السبعة لابن مجاهد 519.
(2) انظر زاد المسير 6/ 351، وابن كثير 3/ 468، والقرطبي 14/ 79.(3/207)
بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى. وفي الحديث «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ» (1).
{وَأَزْوََاجُهُ أُمَّهََاتُهُمْ} أي في الحرمة ولا يحلّ لهم تزوّجهنّ. {وَأُولُوا الْأَرْحََامِ} مبتدأ و {بَعْضُهُمْ} مبتدأ ثان أو بدل {أَوْلى ََ بِبَعْضٍ فِي كِتََابِ اللََّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهََاجِرِينَ} يكون التقدير وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، ويجوز أن يكون المعنى: أولى من المؤمنين والمهاجرين. {إِلََّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى ََ أَوْلِيََائِكُمْ مَعْرُوفاً} في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال محمد ابن الحنفية رحمة الله عليه: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. {كََانَ ذََلِكَ فِي الْكِتََابِ مَسْطُوراً} أي مكتوبا في نسق كالسطر. ويقال:
سطر والجمع أسطار، ومن قال سطر قال: أسطر وسطور يصلح لهما جميعا إلّا أنه بالمسكّن أولى وأكثر.
[سورة الأحزاب (33): آية 7]
{وَإِذْ أَخَذْنََا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثََاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرََاهِيمَ وَمُوسى ََ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنََا مِنْهُمْ مِيثََاقاً غَلِيظاً (7)}
{وَإِذْ أَخَذْنََا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثََاقَهُمْ} قال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال: على قومهم وعن أبيّ بن كعب قال: هو مثل {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، قال: فأخذ ميثاقهم وعلى الأنبياء صلوات الله عليهم منهم النور كأنه السّرج ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة للرسالة قال: {وَإِذْ أَخَذْنََا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثََاقَهُمْ} الآية قال:
«ومن نوح» ولم يقل: ونوح لأن المظهر إذا عطف على المضمر المخفوض أعيد الحرف تقول: مررت به وبزيد {وَإِبْرََاهِيمَ} عطف مظهر على مظهر فلم يعد الحرف وكذا {وَمُوسى ََ وَعِيسَى}.
[سورة الأحزاب (33): آية 8]
{لِيَسْئَلَ الصََّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكََافِرِينَ عَذََاباً أَلِيماً (8)}
{لِيَسْئَلَ الصََّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} قد ذكرناه.
[سورة الأحزاب (33): آية 9]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جََاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهََا وَكََانَ اللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)}
{فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً} وفي الحديث «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» (2) وكان في هذه الريح أعظم الآيات والدلالات للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن الله جلّ وعزّ أرسل على أعدائه ريحا
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه الصدقات باب 3الحديث رقم (2417)، والترمذي في سننه الجنائز 4/ 291.
(2) انظر المعجم لونسنك 6/ 460.(3/208)
شديدة البرد فقطعت خيامهم وشغلتهم ببردها، والمؤمنون حذاءهم لم يلحقهم منها شيء.
[سورة الأحزاب (33): آية 10]
{إِذْ جََاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زََاغَتِ الْأَبْصََارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنََاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللََّهِ الظُّنُونَا (10)}
{وَتَظُنُّونَ بِاللََّهِ الظُّنُونَا} والكوفيون يقرءونها بغير ألف، وذلك مخالف للمصحف وإن كان حسنا في العربية. وأولى الأشياء في هذا أن يوقف عليه بالألف ولا يوصل لأنه إن وصل بالألف كان لاحنا، وإن وصل بغير ألف كان مخالفا للمصحف، وإذا وقف بالألف كان متّبعا للسواد موافقا للإعراب لأن العرب تثبت هذه الألف في القوافي وتثبتها في الفواصل ليتّفق الكلام.
[سورة الأحزاب (33): آية 11]
{هُنََالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزََالاً شَدِيداً (11)}
{هُنََالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي في ذلك الوقت اختبر المؤمنون. واللام زائدة للتوكيد، وإن كانت مكسورة والكاف للخطاب. {وَزُلْزِلُوا زِلْزََالًا شَدِيداً}، ويقال: زلزال في المضاعف خاصة وغير المضاعف لا يجوز فيه الفتح. ويقال: دحرجته دحراجا.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 12الى 13]
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مََا وَعَدَنَا اللََّهُ وَرَسُولُهُ إِلاََّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قََالَتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ يََا أَهْلَ يَثْرِبَ لاََ مُقََامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنََا عَوْرَةٌ وَمََا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاََّ فِرََاراً (13)}
{وَإِذْ} في موضع نصب بمعنى واذكر، وكذا {وَإِذْ قََالَتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ يََا أَهْلَ يَثْرِبَ} قال أبو عبيدة (1): يثرب اسم أرض والمدينة منها. {لََا مُقََامَ لَكُمْ} (2) أي مكان يقيمون فيه، وأنشد: [الوافر] 341 فأيّي ما وأيّك كان شرّا ... فسيق إلى المقامة لا يراها (3)
وقرأ أبو عبد الرحمن والأعرج {لََا مُقََامَ لَكُمْ} يكون مصدرا من قام يقيم أو موضعا يقيمون فيه أو يقامون {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنََا عَوْرَةٌ وَمََا هِيَ بِعَوْرَةٍ} وقراءة أبي رجاء وتروى عن ابن عباس {إِنَّ بُيُوتَنََا عَوْرَةٌ وَمََا هِيَ بِعَوْرَةٍ} (4)
وهذا اسم الفاعل من عور يعور عورة ويجوز أن يكون مصدرا أي ذات عورة ويجوز أن يكون في موضع اسم الفاعل على السعة كما تقول: رجل عدل، أي عادل ويقال: أعور
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 134.
(2) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 520، وقراءة حفص بضمّ الميم والباقون بفتحها.
(3) مرّ الشاهد رقم 120.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 212.(3/209)
المكان إذا تبيّنت فيه عورة وأعور الفارس إذا تبيّن منه موضع خلل. {إِنْ يُرِيدُونَ إِلََّا فِرََاراً} أي ليس قصدهم ما قالوا وإنما قصدهم للفرار.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 14الى 15]
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطََارِهََا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهََا وَمََا تَلَبَّثُوا بِهََا إِلاََّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كََانُوا عََاهَدُوا اللََّهَ مِنْ قَبْلُ لاََ يُوَلُّونَ الْأَدْبََارَ وَكََانَ عَهْدُ اللََّهِ مَسْؤُلاً (15)}
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطََارِهََا} وهي البيوت أو المدينة. ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها هذه قراءة أهل الحرمين، وقراءة أهل البصرة وأهل الكوفة {لَآتَوْهََا} (1) وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ بحديث (2) الجماعة الذين فيهم بلال أنهم أعطوا الفتنة من أنفسهم غير بلال. قال أبو جعفر: الحديث في أمر بلال لا يشبه الآية، لأن الله جلّ وعزّ خبّر عن هؤلاء بهذا الخبر وبلال وأصحابه إنما أكرهوا، وفي هذه الآية: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطََارِهََا} أي لو دخل عليهم الكفار لجاءوهم، وهذا خلاف ما عاهدوا الله عليه وفي القصّة {وَلَقَدْ كََانُوا عََاهَدُوا اللََّهَ مِنْ قَبْلُ لََا يُوَلُّونَ الْأَدْبََارَ} فهذا يدلّ على «لأتوها» مقصورا.
{وَمََا تَلَبَّثُوا بِهََا إِلََّا يَسِيراً} أي كان العذاب يأخذهم أو يهلكون.
[سورة الأحزاب (33): آية 16]
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرََارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاََ تُمَتَّعُونَ إِلاََّ قَلِيلاً (16)}
{وَإِذاً لََا تُمَتَّعُونَ إِلََّا قَلِيلًا} وفي بعض الروايات وإذا لا تمتّعوا تنصب بإذن، والرفع بمعنى لا تمتّعون إذن فتكون إذن ملغاة، ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو أو الفاء، فإن كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذن أكرمكم. وروى سيبويه (3) عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل رحمه الله أنّ «أن» معها مضمرة وسماعه منه النصب بها فإن توسّطت لم يجز أن تنصب عند البصريين تقول: أنا إذن أكرمك، وكنت إذن أكرمك، وإنّي إذن أكرمك. الفراء (4) ينصب هنا أعني في «إنّ» خاصة، وأنشد: [الرجز] 342 إنّي إذا أهلك أو أطيرا (5)
__________
(1) انظر تيسير الداني 145.
(2) انظر تفسير الطبري 14/ 149.
(3) انظر الكتاب 3/ 14.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 338.
(5) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (شطر) وتهذيب اللغة 11/ 308، وتاج العروس (شطر)، ومقاييس اللغة 3/ 187، ومجمل اللغة 3/ 185، وأساس البلاغة (شطر)، والإنصاف 1/ 177، وأوضح المسالك 4/ 166، والجنى الداني 362، وخزانة الأدب 8/ 456، والدرر 4: 72، ورصف المباني 66، وشرح الأشموني 3/ 554، وشرح التصريح 2/ 234، وشرح شواهد المغني 1/ 70، وشرح المفصل 7/ 17، ومغني اللبيب 1/ 22، والمقاصد النحوية 4/ 383، والمقرّب 1/ 261، وهمع الهوامع 2/ 7.
وقبله:
«لا تدعني فيهم شطيرا»(3/210)
والشعر منصوب وعلته في «إنّ» أنها لا تنصرف.
[سورة الأحزاب (33): آية 18]
{قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقََائِلِينَ لِإِخْوََانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنََا وَلاََ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاََّ قَلِيلاً (18)}
{قَدْ يَعْلَمُ اللََّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي المتعرّضين لأن يصدّوا الناس عن النبي. مشتقّ من عاقني عن كذا أي صرفني عنه، وعوّق على التكثير. {وَالْقََائِلِينَ لِإِخْوََانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنََا} على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقول: هلمّوا للجماعة وهلمّي للمرأة لأن الأصل ها التي للتنبيه ضمّت إليها «لمّ» ثم حذفت الألف استخفافا، وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تتصرّف. ومعنى «هلمّ» أقبل.
[سورة الأحزاب (33): آية 19]
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذََا جََاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذََا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللََّهُ أَعْمََالَهُمْ وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً (19)}
{أَشِحَّةً} نصب على الحال. قال أبو إسحاق: ونصبه عند الفراء (1) من أربع جهات: إحداهما أن يكون على الذمّ، ويجوز عنده أن يكون نصبا يعوّقون أشحّة، ويجوز عنده أن يكون التقدير: والقائلين أشحّة، ويجوز عنده ولا يأتون البأس إلّا قليلا يأتونه أشحّة أي أشحّة على الفقراء بالغنيمة جبناء. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون العامل فيه المعوّقين ولا القائلين لئلّا يفرّق بين الصلة والموصول {فَإِذََا جََاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى ََ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محدّدا بصره وربّما غشي عليه {فَإِذََا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدََادٍ} وحكى الفراء صلقوكم (2) بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. {أُولََئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي وإن كان ظاهرهم الإيمان فليسوا بمؤمنين لأن المنافق كافر على الحقيقة وصفهم الله جلّ وعزّ بالكفر. {وَكََانَ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيراً} أي يقول الحقّ.
[سورة الأحزاب (33): آية 20]
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزََابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزََابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بََادُونَ فِي الْأَعْرََابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبََائِكُمْ وَلَوْ كََانُوا فِيكُمْ مََا قََاتَلُوا إِلاََّ قَلِيلاً (20)}
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزََابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي لجبنهم. وقرأ طلحة وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بدّا (3) في الأعراب يقال: باد وبدّا بالقصر مثل غاز وغزّى ويمدّ مثل صائم وصوّام. وقرأ الحسن وعاصم الجحدري يسّاءلون عن أنبائكم (4) والأصل يتساءلون
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 338.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 339، والبحر المحيط 7/ 215.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 119.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 215، ومعاني الفراء 2/ 339.(3/211)
ثم أدغم. {وَلَوْ كََانُوا فِيكُمْ مََا قََاتَلُوا إِلََّا قَلِيلًا} نعت لمصدر أو لظرف.
[سورة الأحزاب (33): آية 21]
{لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللََّهَ كَثِيراً (21)}
{لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللََّهِ أُسْوَةٌ} [1] حَسَنَةٌ أي في خروجه إلى الخندق وصبره، وقرأ عاصم {أُسْوَةٌ} بضم الهمزة. والكسر أكثر في كلام العرب والجمع فيهما جميعا واحد عند الفراء، والعلّة عنده في الضمّ على لغة من كسر في الواحد الفرق من ذوات الواو وذوات الياء فيقولون: كسوة وكسى، ولحية ولحي. {لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} لا يجوز عند النحويين الحذّاق أن يكتب «يرجو» إلّا بغير ألف إذا كان لواحد لأن العلّة التي في الجمع ليست في الواحد. {وَذَكَرَ اللََّهَ كَثِيراً} أي ذكرا كثيرا.
[سورة الأحزاب (33): آية 22]
{وَلَمََّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزََابَ قََالُوا هََذََا مََا وَعَدَنَا اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللََّهُ وَرَسُولُهُ وَمََا زََادَهُمْ إِلاََّ إِيمََاناً وَتَسْلِيماً (22)}
{وَلَمََّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزََابَ} ومن العرب من يقول: راء على القلب. {قََالُوا هََذََا مََا وَعَدَنَا اللََّهُ وَرَسُولُهُ} إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة، وإن جعلتها (2) مصدرا لم يحتج إلى عائد. {وَمََا زََادَهُمْ إِلََّا إِيمََاناً وَتَسْلِيماً} قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: رأى يدلّ على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي. والمعنى: وما زادهم الرؤية، مثل من كذب كان شرّا له.
[سورة الأحزاب (33): آية 23]
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمََا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ} رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن «صدقوا» في موضع النعت. قال أبو إسحاق: «ما» في موضع نصب. قال أبو جعفر: يقال: صدقت العهد أي وفيت به. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى ََ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} «من» في موضع رفع بالابتداء، وقد ذكرنا معناه.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 25الى 26]
{وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا خَيْراً وَكَفَى اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتََالَ وَكََانَ اللََّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظََاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مِنْ صَيََاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)}
{وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنََالُوا} قال محمد بن عمرو عن أبيه عن جدّه عن
__________
(1) انظر تيسير الداني 145.
(2) انظر تفسير الطبري 21/ 149.(3/212)
عائشة رضي الله عنها قالت في قوله: {وَرَدَّ اللََّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أبو سفيان وعيينة ابن برد، رجع أبو سفيان إلى تهامة وعيينة إلى نجد. {وَكَفَى اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتََالَ} بأن أرسل عليهم الريح حتى رجعوا فرجعت بنو قريظة إلى صياصيهم. قال أبو جعفر:
فكفي أمر بني قريظة بالرعب حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رحمة الله عليه فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. {وَكََانَ اللََّهُ قَوِيًّا} أي لا يردّ أمره {عَزِيزاً} لا يغلب.
وبيّن هذا في بني قريظة قال جلّ ثناؤه {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظََاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ مِنْ صَيََاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قال محمد بن يزيد: أصل الصيصية ما يمتنع به فالحصن صيصية ويقال لقرون البقر: صياص لامتناعها. وكذا يقال في شوكة الديك قال: ويقال الشوكة الحائك صيصية تشبيها بها، وأنشد: [الطويل] 343 كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد (1)
{فَرِيقاً} نصب بتقتلون. و {فَرِيقاً} نصب بتأسرون، وحكى الفراء (2) «تأسرون» بضم السين.
[سورة الأحزاب (33): آية 27]
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيََارَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُهََا وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)}
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيََارَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ وَأَرْضاً} لأن المهاجرين لم تكن لهم بالمدينة دور.
[سورة الأحزاب (33): آية 28]
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا وَزِينَتَهََا فَتَعََالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرََاحاً جَمِيلاً (28)}
{فَتَعََالَيْنَ} نون المؤنّث فيه وهي لا تحذف لأنه مبنيّ ولو حذفت لأشكل. قال الخليل رحمه الله: الأصل في تعال: ارتفع ثم كثر استعمالهم حتى قيل للمتعالي: تعال أي أنزل.
[سورة الأحزاب (33): آية 31]
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلََّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صََالِحاً نُؤْتِهََا أَجْرَهََا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنََا لَهََا رِزْقاً كَرِيماً (31)}
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلََّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صََالِحاً} قراءة أهل الحرمين والحسن وأبي عمرو
__________
(1) الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه 63، ولسان العرب (نوش) و (صيص)، و (شيق) و (صيا)، وكتاب العين 7/ 176، وتهذيب اللغة 12/ 266، وتاج العروس (صيص)، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 242، والمخصص 12/ 260.
وصدره:
«غداة دعاني والمرماح ينشنه»
(2) انظر معاني الفراء 2/ 341.(3/213)
وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين ويعمل صالحا (1) وأبو عبيد يميل إلى هذه القراءة لأنه عطف على الأول. وقد أجمعوا على الأول بالياء فقرؤوا «ومن يقنت». قال أبو جعفر:
الثاني مخالف للأول لأن الأول محمول على اللفظ وليس قبله ما يتبعه، والثاني قبله منكن وهذه النون للتأنيث فتعمل بالتاء أولى لأنه يلي مؤنثا وإن كان بالياء جائزا حسنا، وبعده {نُؤْتِهََا أَجْرَهََا مَرَّتَيْنِ} بالتأنيث في السواد وكذا {وَأَعْتَدْنََا لَهََا رِزْقاً كَرِيماً} أهل التفسير على أن الرزق الكريم هاهنا الجنة.
[سورة الأحزاب (33): آية 32]
{يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاََ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)}
{يََا نِسََاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسََاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} ولم يقل: كواحدة لأنّ «أحدا» نفي عام يقع للمذكّر والمؤنّث، والجميع على لفظ واحد. {فَلََا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} في موضع جزم بالنهي إلّا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه (2)، وقال أبو العباس محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان عنه، ولا أعلمه في شيء من كتبه، قال: إذا اعتلّ الشيء من جهتين وهو اسم منع الصرف فإذا اعتلّ من ثلاث جهات بني لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء فهذا الفعل معتلّ من ثلاث جهات: منها أن الفعل أثقل من الاسم وهو جمع، والجمع أثقل من الواحد وهو للمؤنّث، والمؤنّث أثقل من المذكر، وهذا القول عند أبي إسحاق خطأ، وقال: يلزمه ألّا يصرف فرعون إذا سمّي به امرأة لأن فيه ثلاث علل. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} منصوب لأنه جواب النهي، وقد بيّنّاه بأكثر من هذا، وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (3) بفتح الياء وكسر الميم. قال أبو جعفر: أحسب هذا غلطا وأن يكون قرأ {فَيَطْمَعَ الَّذِي} (4)
بفتح الميم وكسر العين يعطفه على «يخضعن» وهذا وجه جيد حسن، ويجوز «فيطمع» الذي بمعنى فيطمع الخضوع أو القول {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً}.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 33الى 34]
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاََ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجََاهِلِيَّةِ الْأُولى ََ وَأَقِمْنَ الصَّلاََةَ وَآتِينَ الزَّكََاةَ وَأَطِعْنَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)}
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} هذه قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل
__________
(1) انظر تفسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 521.
(2) انظر الكتاب 1/ 45.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 119، والبحر المحيط 7/ 222.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 222.(3/214)
المدينة وعاصم {وَقَرْنَ} (1) بفتح القاف. و «قرن» بكسر القاف فيه تقديران: أما مذهب الفراء (2) وأبي عبيد فإنه من الوقار ويقال: وقر يقر وقورا إذا ثبت في منزله، والقول الآخر أن يكون من قرّ في المكان يقرّ بكسر القاف، فيكون الأصل وقررن حذفت الراء الأولى استثقالا للتضعيف وألقيت حركتها على القاف فصار وقرن كما يقال: ظلت أفعل بكسر الظاء. فأما و «قرن» فقد تكلم فيه جماعة من أهل العربية فزعم أبو حاتم أنه لا مذهب له في كلام العرب، وزعم أبو عبيد أن أشياخه كانوا ينكرونه من كلام العرب.
قال أبو جعفر: أما في قول أبي عبيد إنّ أشياخه أنكروه، ذكر هذا في «كتاب القراءات» فإنه قد حكى في «الغريب المصنّف» (3) نقض هذا. حكي عن الكسائي أنّ أهل الحجاز يقولون: قررت في المكان أقرّ. والكسائي من أجلّ مشايخه، ولغة أهل الحجاز هي اللغة القديمة الفصيحة. وأما قول أبي حاتم: أنه لا مذهب له فقد خولف فيه، وفيه مذهبان أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقوله، قال: هو من قررت به عينا أقرّ. فالمعنى: واقررن به عينا في بيوتكن، وهذا وجه حسن إلّا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول كما روي أن عمار قال لعائشة رضي الله عنهما: إنّ الله جلّ وعزّ أمرك أن تقرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان ما زلت قوّالا بالحقّ، فقال:
الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. {وَلََا تَبَرَّجْنَ} قال أبو العباس: حقيقة التبرّج إظهار الزينة وإظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة يقال: في أسنانه تبرّج إذا كانت متفرّقة. قال: و «الجاهلية الأولى» كما تقول: الجاهلية الجهلاء، قال:
وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلمها فينفرد خلمها بما فوق الإزار إلى الأعلى. وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قال أبو إسحاق: قيل: يراد به نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. قال أبو جعفر: والحديث في هذا مشهور عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري أن هذا نزل في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (4) رضي الله عنهم، وكان عليهم كساء، وقوله «عنكم» يدلّ على أنه ليس للنساء خاصة. قال أبو إسحاق: {أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على المدح، قال: وإن شئت على النداء. قال: ويجوز الرفع والخفض.
قال أبو جعفر: إن خفضت على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند محمد بن يزيد، قال: لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} مصدر فيه معنى التوكيد حوّلت المخاطبة على الحديث المروي إلى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال جلّ وعزّ: {وَاذْكُرْنَ مََا يُتْلى ََ فِي بُيُوتِكُنَّ}.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7/ 223.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 342.
(3) انظر الغريب المصنّف ص 261.
(4) انظر البحر المحيط 7/ 224، وتفسير الطبري 22/ 6.(3/215)
خفّفت النون الأولى لأنها بمنزلة واو المذكر، تقول في المذكر واذكروا، وثقّلت في الثاني لأنهما بمنزلة الميم والواو في قولك: في بيوتكم إلّا أن الواو يجوز حذفها لثقلها، وأنّ قبلها ميما يدلّ عليها. {مِنْ آيََاتِ اللََّهِ وَالْحِكْمَةِ} أكثر أهل التفسير على أنّ الحكمة هاهنا السّنة وبعضهم يقول: هي من الآيات.
[سورة الأحزاب (33): آية 35]
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ وَالْقََانِتِينَ وَالْقََانِتََاتِ وَالصََّادِقِينَ وَالصََّادِقََاتِ وَالصََّابِرِينَ وَالصََّابِرََاتِ وَالْخََاشِعِينَ وَالْخََاشِعََاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقََاتِ وَالصََّائِمِينَ وَالصََّائِمََاتِ وَالْحََافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحََافِظََاتِ وَالذََّاكِرِينَ اللََّهَ كَثِيراً وَالذََّاكِرََاتِ أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)}
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ} اسم إن. {وَالْمُسْلِمََاتِ} عطف عليه، ويجوز رفعهن عند البصريين. فأما الفراء فلا يجيزه إلّا فيما لا يتبيّن فيه الإعراب. {وَالْحََافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحََافِظََاتِ} التقدير والحافظاتها ثم حذف، ويجوز على هذا: ضربني وضربت زيد، فإن لم تحذف قلت: وضربته ومثله: ونخلع ونترك من يفجرك، وإن لم تحذف قلت:
وتتركه. وحكى سيبويه (1): متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، فإن لم تحذف قلت: متى ظننت أو قلت هو زيدا منطلقا، وإن شئت قلت متى ظننت أو قلته زيدا منطلقا. فهذا كلّه على إعمال الأول، فإن أعملت الثاني قلت: متى ظننت أو قلت زيد منطلق. هذه اللغة الجيدة، وإن شئت قلت: متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، على إعمال الثاني وتكون قلت عاملة كظننت. {وَالذََّاكِرِينَ اللََّهَ كَثِيراً وَالذََّاكِرََاتِ} مثله قال مجاهد: لا يكون ذاكرا الله كثيرا جلّ وعزّ قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري: من أيقظ أهله بالليل فصلّيا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
[سورة الأحزاب (33): آية 36]
{وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاََلاً مُبِيناً (36)}
{وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ إِذََا قَضَى اللََّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} قال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله بأمر ورسوله بأمر أن يعصياه، وقرأ الكوفيون (2) {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنّث وبين فعله. قال أبو جعفر: القراءة بالياء جائزة فأما أن تكون مقدّمة على التاء فلأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن، والتذكير على أنّ {الْخِيَرَةُ} بمعنى التخيّر.
[سورة الأحزاب (33): آية 37]
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللََّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللََّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النََّاسَ وَاللََّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشََاهُ فَلَمََّا قَضى ََ زَيْدٌ مِنْهََا وَطَراً زَوَّجْنََاكَهََا لِكَيْ لاََ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوََاجِ أَدْعِيََائِهِمْ إِذََا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ مَفْعُولاً (37)}
__________
(1) انظر الكتاب 1/ 178.
(2) انظر تيسير الداني 145.(3/216)
{وَإِذْ تَقُولُ} في موضع نصب وهي غير معربة لأنها لا تتمكّن. {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللََّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} قال بعض العلماء: لم يكن هذا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلّا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس.
[سورة الأحزاب (33): آية 38]
{مََا كََانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمََا فَرَضَ اللََّهُ لَهُ سُنَّةَ اللََّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكََانَ أَمْرُ اللََّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)}
{مََا كََانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمََا فَرَضَ اللََّهُ لَهُ} «من» زائدة للتوكيد {سُنَّةَ اللََّهِ} مصدر لأن قبله ما هو بمعنى سنّ ذلك.
[سورة الأحزاب (33): آية 39]
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسََالاََتِ اللََّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاََ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللََّهَ وَكَفى ََ بِاللََّهِ حَسِيباً (39)}
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسََالََاتِ اللََّهِ} قال أبو إسحاق: {الَّذِينَ} في موضع جرّ على النعت لقوله: {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع، قال:
ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح.
[سورة الأحزاب (33): آية 40]
{مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ مِنْ رِجََالِكُمْ وَلََكِنْ رَسُولَ اللََّهِ وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكََانَ اللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)}
{مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ مِنْ رِجََالِكُمْ} وقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاد منهم إبراهيم والقاسم والطّيب، والحسن والحسين رضي الله عنهم ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أن عيسى عليه السلام من ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا جوابان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أن المعنى ما كان محمد أبا أحد ممن تبنّاه ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وإنّ نساءه رضي الله عنهن عليهم حرام، وجواب آخر يكون هذا على الحقيقة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وقت نزلت فيه هذه الآية لم يكن أبا أحد من الرجال، ومن ذكرنا من إبراهيم والقاسم والطيّب ماتوا صبيانا. {وَلََكِنْ رَسُولَ اللََّهِ} قال الأخفش والفراء (1): أي ولكن كان رسول الله وأجاز {وَلََكِنْ رَسُولَ اللََّهِ وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ} بالرفع على إضمار مبتدأ، وزعم الفراء (2) أنه قد قرئ به، وقرأ الحسن والشعبي وعاصم {وَخََاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) بفتح التاء أي آخر النبيين، كما قرأ علقمة بن قيس خاتمه مسك [المطففين: 26] أي آخره، وخاتم من ختم فهو خاتم وفي قراءة عبد الله (4) ولكنّ نبيا ختم النّبيّين ويقال للذي يلبس خاتم
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 344.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 344.
(3) انظر تيسير الداني 145.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 220، والبحر المحيط 7/ 228.(3/217)
وخاتم وخيتام وخاتام. {وَكََانَ اللََّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} خبر كان والتقدير: عليم بكلّ شيء.
[سورة الأحزاب (33): آية 42]
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)}
قال محمد بن يزيد: الأصيل العشيّ وجمعه أصائل والأصل بمعنى الأصيل وجمعه آصال، وقال غيره: أصل جمع أصيل كرغيف ورغف.
[سورة الأحزاب (33): آية 43]
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاََئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَكََانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)}
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلََائِكَتُهُ} الأصل في الصلاة عند أهل اللغة الدعاء كما قال الأعشى: [البسيط] 344 عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي ... يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا (1)
أي الزمي مثل الدعاء الذي دعوت لي به لأن قبله:
345 - تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا (2)
ويروى: عليك مثل الذي صلّيت، أي عليك مثل دعائك. وسمّيت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء ولهذا وغيره يقول فقهاء أهل المدينة يدعو في صلاته بما أراد، إلّا أن محمد بن يزيد زعم أن أصل الصلاة: الترحّم، وأخرجها كلّها من باب واحد، والصلاة من الله رحمته عباده، ومن الملائكة رقّة لهم واستدعاء الرحمة من الله جلّ وعزّ إيّاهم، والصلاة من الناس لطلب الرحمة من الله جلّ وعزّ بأداء الفرض أو النفل. إلا أن في الحديث أن بني إسرائيل سألوا صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي ربّك جلّ وعزّ فأعظم ذلك فأوحى جلّ وعزّ إليه أنّ صلاتي أي رحمتي سبقت غضبي. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ} قال الضحاك: «الظلمات» الكفر و «النور» الإيمان، ويجوز «الظّلمات» تبدل من الضمة فتحة لخفّة الفتحة إلا أن الكسائي كان يقول: ظلمات جمع ظلم، وظلم جمع ظلمة، ومن قال: ظلمات حذف الضمة لثقلها.
[سورة الأحزاب (33): آية 44]
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاََمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)}
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} مبتدأ وخبر. وأجل ما روي فيه أن البراء بن عازب قال:
تحيّتهم يوم يلقونه سلام يسلّم ملك الموت على المؤمنين عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه، وتأوله أبو إسحاق على أن هذا في الجنّة، واستشهد بقوله:
__________
(1) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ولسان العرب (ضجع)، و (صلا)، وتهذيب اللغة 12/ 236، وتاج العروس (ضجع).
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ومقاييس اللغة 3/ 300، وتاج العروس (شفع).(3/218)
{تَحِيَّتُهُمْ فِيهََا سَلََامٌ} * وفرق محمد بن يزيد بين التحية والسّلام، فقال: التحيّة تكون لكلّ دعاء والسلام فخصوص، ومنه {يُلَقَّوْنَ فِيهََا تَحِيَّةً وَسَلََاماً} [الفرقان: 75].
[سورة الأحزاب (33): آية 45]
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)}
نصب على الحال. قال سعيد عن قتادة: {شََاهِداً} على أمته بالبلاغ {وَمُبَشِّراً} بالجنة {وَنَذِيراً} من النار.
[سورة الأحزاب (33): آية 46]
{وَدََاعِياً إِلَى اللََّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرََاجاً مُنِيراً (46)}
{وَدََاعِياً إِلَى اللََّهِ} أي إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، {بِإِذْنِهِ} قال: بأمره. {وَسِرََاجاً مُنِيراً} قال: كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: التقدير على قوله وداعيا إلى توحيد الله جلّ وعزّ وذا سراج أي ذا كتاب بين، وأجاز أبو إسحاق أن يكون بمعنى وتاليا كتابا.
[سورة الأحزاب (33): آية 47]
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللََّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)}
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ} والباء تحذف من مثل هذا، ولا يجوز دخول اللام في الخبر.
[سورة الأحزاب (33): آية 48]
{وَلاََ تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَالْمُنََافِقِينَ وَدَعْ أَذََاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلاً (48)}
{وَلََا تُطِعِ الْكََافِرِينَ وَالْمُنََافِقِينَ وَدَعْ أَذََاهُمْ} تأوّله أبو إسحاق بمعنى: دع الأذى الذي يؤذونك به أي لإنجازهم عليه حتى تؤمر فيهم بشيء. وتأوّله غيره لا تؤذهم وكان هذا عنده من قبل أن يؤمر بالقتال.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 49الى 50]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنََاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمََا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهََا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرََاحاً جَمِيلاً (49) يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ أَزْوََاجَكَ اللاََّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمََّا أَفََاءَ اللََّهُ عَلَيْكَ وَبَنََاتِ عَمِّكَ وَبَنََاتِ عَمََّاتِكَ وَبَنََاتِ خََالِكَ وَبَنََاتِ خََالاََتِكَ اللاََّتِي هََاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرََادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهََا خََالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنََا مََا فَرَضْنََا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوََاجِهِمْ وَمََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ لِكَيْلاََ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)}
{فَمََا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} «من» زائدة للتوكيد. {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} عطف أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة. {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهََا لِلنَّبِيِّ} قال أبو إسحاق: إن وهبت نفسها للنبيّ حلّت له.
وقرأ الحسن أن وهبت بفتح الهمزة، و «إن» في موضع نصب. قال أبو إسحاق: فهي لأن وهبت، وقال غيره: إنّ وهبت بدل الاشتمال من امرأة {خََالِصَةً} نصب على الحال.
{قَدْ عَلِمْنََا مََا فَرَضْنََا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوََاجِهِمْ وَمََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ} قال قتادة الذي فرض جلّ
وعزّ عليهم في أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من أربع، وقال غيره: يدلّ على هذا {وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ} [النور:(3/219)
{قَدْ عَلِمْنََا مََا فَرَضْنََا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوََاجِهِمْ وَمََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ} قال قتادة الذي فرض جلّ
وعزّ عليهم في أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من أربع، وقال غيره: يدلّ على هذا {وَأَنْكِحُوا الْأَيََامى ََ مِنْكُمْ} [النور:
32]، {وَلََا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 32] مع ما يقوّي ذلك الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم {وَمََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ} فالذي فرض فيه ألّا يحلّ من النساء إلّا سبي من لا ذمة له {لِكَيْلََا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي لا تتعدّ هذا، وقيل: هو راجع على قوله: {إِنََّا أَحْلَلْنََا لَكَ أَزْوََاجَكَ} وما بعده.
[سورة الأحزاب (33): آية 51]
{تُرْجِي مَنْ تَشََاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشََاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاََ جُنََاحَ عَلَيْكَ ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاََ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمََا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا فِي قُلُوبِكُمْ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)}
ترجئ من تشاء منهنّ بالهمزة من أرجأت الأمر إذا أخّرته. ويقرأ {تُرْجِي} (1) بغير همز. وقد تكلم النحويون في الحيلة له فقال بعضهم: هي لغة وإن كانت ليست بالفصيحة، ومنهم من قال: على بدل الهمزة على لغة من قال: قريت. قال أبو جعفر:
وسمعت علي بن سليمان يقول: الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز بدل الهمزة لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول في قرأت قريت مثل رميت فقال سيبويه: كيف يقولون في المستقبل؟ قال: يقولون يقرأه قال له سيبويه: كان يجب أن يقولوا: يقرى مثل رميت أرمي. قال أبو الحسن: وهذا من كلام سيبويه يدلّ على أنه لا يجوز عنده، قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: هو من رجا يرجو مشتق، يقال: رجا وأرجيته أي جعلته يرجو. {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} قد ذكرناه (2). وقيل فيه: ذلك أقرب ألّا يحزن إذا لم تجتمع أحداهن مع الأخرى، وتعاين الأثرة والميل. {وَيَرْضَيْنَ بِمََا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} على توكيد المضمر أي ويرضين كلّهن، وأجاز أبو حاتم وأبو إسحاق {وَيَرْضَيْنَ بِمََا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهنّ»، والفراء (3) لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كلّ واحدة منهن، وليس المعنى بما أتيتهن كلّهن. قال أبو جعفر: والذي قال حسن.
[سورة الأحزاب (33): آية 52]
{لاََ يَحِلُّ لَكَ النِّسََاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاََ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوََاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاََّ مََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكََانَ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)}
{لََا يَحِلُّ لَكَ النِّسََاءُ مِنْ بَعْدُ} قال الفراء (4): اجتمعت القراء على القراءة بالياء
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 120، والبحر المحيط 7/ 234.
(2) انظر إعراب الآية 33الأحزاب.
والبحر المحيط 7/ 235.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 436.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 346.(3/220)
{لََا يَحِلُّ لَكَ} وزعم أنه لو كان لجميع النساء لكان بالتاء أجود. وقال أبو جعفر: وهذا غلط بين وكيف يقال: اجتمعت القراء على الياء، وقد قرأ أبو عمرو بالتاء (1) بلا اختلاف عنه وإذا كان لجماعة النساء كان بالياء جائزا حسنا. وسمعت علي بن سليمان يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: من قرأ لا تحل لك النساء قدره بمعنى جماعة النساء، ومن قرأ بالياء قدّره بمعنى جميع النساء. والفراء يقدره إذا كان بالياء لا يحلّ لك شيء من النساء فحمل التذكير على هذا {إِلََّا مََا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} في موضع رفع على البدل من النساء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء. {وَلََا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوََاجٍ} في موضع رفع عطفا على النساء أي لا يحلّ لك النساء التبدل بهن، ومن قال: إن الآية لا يجوز فإنما أجاز ذلك لأنها في معنى النهي، وإن كان لفظهما لفظ الأخبار لا يجوز أن تنسخ.
[سورة الأحزاب (33): آية 53]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاََّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى ََ طَعََامٍ غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ وَلََكِنْ إِذََا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذََا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاََ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذََلِكُمْ كََانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللََّهُ لاََ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذََا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتََاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ ذََلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللََّهِ وَلاََ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوََاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذََلِكُمْ كََانَ عِنْدَ اللََّهِ عَظِيماً (53)}
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلََّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} «إن» في موضع نصب على معنى إلّا بأن يؤذن لكم، ويكون استثناء ليس من الأول {إِلى ََ طَعََامٍ غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ} نصب على الحال أي لا تدخلوا في هذه الحال، ولا يجوز في غير الخفض على النعت للطعام لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين وكان يكون {غَيْرَ نََاظِرِينَ إِنََاهُ} أنتم، ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل ملازم له هو، ومررت برجل معه صقر صائد به، وإن شئت قلت: صائد به هو.
{وَلََكِنْ إِذََا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} الفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة. {وَلََا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} في موضع نصب عطفا على غير. ويجوز أن يكون خفضا عطفا على ما بعد غير {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللََّهُ لََا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} قال أبو إسحاق: ويقال: يستحي بياء واحدة تحذف الياء تخفيفا. قال أبو جعفر: وقد ذكرت هذا في السورة التي تذكر فيها البقرة (2). {وَمََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللََّهِ} في موضع رفع اسم كان. {وَلََا أَنْ تَنْكِحُوا} معطوف عليه.
__________
(1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 523، وتيسير الداني 145.
(2) انظر آية 26من سورة البقرة.(3/221)
[سورة الأحزاب (33): آية 56]
{إِنَّ اللََّهَ وَمَلاََئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)}
{إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ} عطف وحكي «وملائكته» بالرفع وأجاز الكسائي على هذا: إنّ زيدا وعمرو منطلقان. ومنع هذا جميع النحويين غيره. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الآية لا تشبه ما أجازه لأنك لو قلت: إنّ زيدا وعمرو منطلقان، أعملت في منطلقين شيئين وهذا محال، والتقدير في الآية: إنّ الله جلّ وعزّ يصلّي على النبي وملائكته يصلّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم حذفت من الأول لدلالة الثاني. والذي قال حسن. ولقد قال بعض أهل النظر في قراءة من قرأ {إِنَّ اللََّهَ وَمَلََائِكَتَهُ} بالنصب مثال ما قال علي بن سليمان في الرفع قال: لأن يصلون إنما هو للملائكة خاصة لأنه لا يجوز أن يجتمع ضمير لغير الله جلّ وعزّ مع الله إجلالا له وتعظيما، ولقد قال رجل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما شاء الله وشئت، وأنكر ذلك وعلمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: قل ما شاء الله ثم شئت.
[سورة الأحزاب (33): آية 57]
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللََّهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذََاباً مُهِيناً (57)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} {الَّذِينَ} في موضع نصب وما بعده صلته، وهو يقع لكل غائب مذكر وأخواته «من» و «ما» و «أي» ومؤنثه «التي» فإذا قلت: رأيت من في الدار، كان للآدميّين خاصة، وإذا قلت: رأيت الذي في الدار، كان مبهما للآدميين وغيرهم، وإذا قلت: رأيت ما في الدار، كان لما لا يعقل خاصة ولنعت ما يعقل لو قال قائل: ما عندك؟ فقلت: كريم، كان حسنا. قال محمد بن يزيد: ولو قلت: رجل، كان جائزا لأنه داخل في الأجناس، ولا يجوز أن تقول: زيد ولا عمرو إلّا أن من وما يكونان في الاستفهام والجزاء بغير صلة لأنك لو وصلتهما في الاستفهام كنت مستفهما عما تعرفه، والجزاء مبهم لا يختص شيئا دون شيء فلهذا لم تجز فيه الصلة، و «يؤذون» مهموز لأنه من آذى والأصل بين مهموز مثل آمن فإن خففت الهمزة أبدلت منها واوا فقلت: يوذون لأنه لا سبيل إلى أن يجعلها بين بين لأنها ساكنة.
[سورة الأحزاب (33): آية 58]
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتََاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)}
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ} في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على العطف.
[سورة الأحزاب (33): آية 59]
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ وَبَنََاتِكَ وَنِسََاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاََ يُؤْذَيْنَ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)}
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ} واحدها زوج. يقال للمرأة: زوج وزوجة، والفصيح
الكثير بغير هاء وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج، إنما أزواج جمع زوج مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو، وقد جاء في فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج، وفي قولهم: زوج بغير هاء قولان: أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق، وليس بجار على الفعل فيلزمه الهاء، والجاري على الفعل متزوّجة، والقول الآخر أن العرب تقول لكل مقترنين: زوجان. يقال للخفّين: زوجان، وكذا النعلان والمقرضان (1) والمقصان. قال الله جلّ وعزّ {احْمِلْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
[هود: 40] وقال جلّ وعزّ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوََاجٌ} [ص: 58]. {وَبَنََاتِكَ} جمع مسلم، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء، وقد قال بعض النحويين:(3/222)
{يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوََاجِكَ} واحدها زوج. يقال للمرأة: زوج وزوجة، والفصيح
الكثير بغير هاء وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج، إنما أزواج جمع زوج مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو، وقد جاء في فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج، وفي قولهم: زوج بغير هاء قولان: أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق، وليس بجار على الفعل فيلزمه الهاء، والجاري على الفعل متزوّجة، والقول الآخر أن العرب تقول لكل مقترنين: زوجان. يقال للخفّين: زوجان، وكذا النعلان والمقرضان (1) والمقصان. قال الله جلّ وعزّ {احْمِلْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
[هود: 40] وقال جلّ وعزّ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوََاجٌ} [ص: 58]. {وَبَنََاتِكَ} جمع مسلم، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء، وقد قال بعض النحويين:
المحذوف منه واو واستدلّ بقولهم البنوّة. قال أبو جعفر: وهذا لعمري مما تقع فيه المغالطة لأنه ليس فيه دليل لأنهم قد قالوا: الفتوّة وهو من ذوات الياء يدلك على ذلك قوله جلّ وعزّ {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيََانِ} [يوسف: 36]. قال أبو جعفر: وأحسن ما سمعت فيه قول أبي إسحاق قال: هو عندي مشتقّ من بنى يبني. {وَنِسََاءِ الْمُؤْمِنِينَ} قيل:
نساء جمع جواب للأمر، والأمر محذوف والتقدير عند المازني: قل لهنّ أدنين يدنين {مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} عن ابن مسعود وابن عباس الجلباب: الرداء. قال محمد بن يزيد:
الجلباب كل ما ستر من ثوب أو ملحفة أي يرخين على وجوههن منه. {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلََا يُؤْذَيْنَ} أي يعرفن بالستر والصيانة.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 60الى 61]
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاََ يُجََاوِرُونَكَ فِيهََا إِلاََّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمََا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)}
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد بن منصور عن أبي رزين قال:
المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء، وعن ابن عباس {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال فجور وشك، قال: لئن لم ينتهوا عن أذى النبي وعن أذى النساء وفي هذه الآية للعلماء غير قول فمنها أنه لم ينتهوا وأن الله جل وعز قد أغراه بهم لأنه قد قال جلّ وعزّ {وَلََا تُصَلِّ عَلى ََ أَحَدٍ مِنْهُمْ مََاتَ أَبَداً وَلََا تَقُمْ عَلى ََ قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وأنه أمره بلعنهم فهذا هو الإغراء فهذا قول، وقال أبو العباس محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه المناسك، الحديث رقم (1847)، ومسلم في صحيحه ب 9رقم 79، والطبراني في المعجم الكبير 17/ 329.(3/223)
اتصال الكلام بها، وهو قوله جلّ وعزّ {أَيْنَمََا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم وهذا أمرهم أن يؤخذوا ويقتلوا إذ كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم» (1) فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. وهذا من أحسن ما قيل وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم». {لَنُغْرِيَنَّكَ} لام القسم واليمين واقعة عليها وأدخلت اللام في إن توطئة لها {ثُمَّ لََا يُجََاوِرُونَكَ فِيهََا إِلََّا قَلِيلًا} فكان الأمر كما قال جلّ وعزّ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء فهذا أحد جوابي الفراء (2)، وهو الأولى عنده أي إلا في حال قتلهم، والجواب الآخر أن يكون المعنى: إلّا وقتا قليلا.
{مَلْعُونِينَ} هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال أي ثم لا يجاورونك إلا أقلاء. عن بعض النحويين أنه قال يكون المعنى أينما أخذوا ملعونين، وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله.
[سورة الأحزاب (33): آية 62]
{سُنَّةَ اللََّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللََّهِ تَبْدِيلاً (62)}
{سُنَّةَ اللََّهِ} نصب على المصدر أي سنّ الله جلّ وعزّ فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 64الى 65]
{إِنَّ اللََّهَ لَعَنَ الْكََافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً لاََ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاََ نَصِيراً (65)}
{إِنَّ اللََّهَ لَعَنَ الْكََافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} فأنّث لأن السعير بمعنى النار. {خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً}.
[سورة الأحزاب (33): آية 66]
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ يَقُولُونَ يََا لَيْتَنََا أَطَعْنَا اللََّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)}
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النََّارِ} وحكى الفراء (3) «يوم تقلّب» بمعنى تتقلّب. ويوم نقلّب وجوههم في النار {يَقُولُونَ يََا لَيْتَنََا أَطَعْنَا اللََّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} هذه الألف تقع في الفواصل لتتفق فيوقف عليها ولا يوصل بها.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 67الى 68]
{وَقََالُوا رَبَّنََا إِنََّا أَطَعْنََا سََادَتَنََا وَكُبَرََاءَنََا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنََا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذََابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)}
وقرأ الحسن إنّا أطعنا ساداتنا بكسر التاء لأنه جمع مسلّم لسادة، وكان في هذا زجر عن التقليد.
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 350.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 350.
(3) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 523والبحر المحيط 7/ 242.(3/224)
وقرأ عاصم وابن عامر {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} و (كثيرا) (1) في هذا أشبه كما قال جلّ وعزّ {أُولََئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللََّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللََّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وهذا اللعن كثير.
[سورة الأحزاب (33): آية 69]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ََ فَبَرَّأَهُ اللََّهُ مِمََّا قََالُوا وَكََانَ عِنْدَ اللََّهِ وَجِيهاً (69)}
{وَكََانَ عِنْدَ اللََّهِ وَجِيهاً} خبر كان. ولو قلت: كان عبد الله عندنا جالسا، كان في نصبه وجهان: يكون خبر كان ويكون على الحال. والوجيه عند العرب العظيم القدر، الرفيع المنزلة، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.
[سورة الأحزاب (33): آية 70]
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)}
قال الحكم بن أبان عن عكرمة «قولوا قولا سديدا» قال: لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق والصواب. قال أبو جعفر: الاسم من هذا السّداد بفتح السين وقد استدّ فلان، القياس من فعله سدّ والأصل سدد. فأما السّداد بكسر السين فما غطّي به الشيء، وهو سداد من عوز.
[سورة الأحزاب (33): آية 72]
{إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا وَأَشْفَقْنَ مِنْهََا وَحَمَلَهَا الْإِنْسََانُ إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)}
{إِنََّا عَرَضْنَا الْأَمََانَةَ عَلَى السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبََالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهََا} قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في معناه أنّ معنى عرضنا أظهرنا كما تقول: عرضت الجارية على البيع، والمعنى: أنّا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والجنّ والإنسان فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها، كما قال جلّ وعزّ {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقََالَهُمْ وَأَثْقََالًا مَعَ أَثْقََالِهِمْ} [العنكبوت: 13] «وحملها الإنسان» قال الحسن يراد به الكافر والمنافق، قال: {إِنَّهُ كََانَ ظَلُوماً} لنفسه {جَهُولًا} بربّه فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها وأطعن فيما أمرن به وما سخّرن له، وحملها الإنسان على ما مر من الجواب الذي تقدم.
[سورة الأحزاب (33): آية 73]
{لِيُعَذِّبَ اللََّهُ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ وَيَتُوبَ اللََّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 523.(3/225)
{لِيُعَذِّبَ اللََّهُ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ} أي بالحجج القائمة عليهم من عرض الأمانة عليهم، وهي إظهار ما أظهر لهم من الوعيد. قال عبد الله بن مسعود:
الأمانة: الصلاة والصيام وغسل الجناية، وعن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها. وفي حديث مرفوع «الأمانة الصلاة» (1) إن شئت قلت صليت، وإن شئت قلت لم أصلّ وكذا الصيام وغسل الجنابة. وقرأ الحسن ويتوب الله (2)
بالرفع يقطعه من الأول أي يتوب عليهم بكل حال. {وَكََانَ اللََّهُ غَفُوراً رَحِيماً} خبر بعد خبر لكان، ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر.
__________
(1) انظر تفسير الطبري 22/ 23.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 244، مختصر ابن خالويه 121.(3/226)
34 - شرح إعراب سورة سبأ
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة سبإ (34): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}
{الَّذِي} في موضع خفض على النعت أو البدل، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد بالنصب والرفع والخفض. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} مبتدأ وخبره.
[سورة سبإ (34): آية 2]
{يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}
{يَعْلَمُ} في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون مستأنفا.
[سورة سبإ (34): آية 3]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاََ تَأْتِينَا السََّاعَةُ قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عََالِمِ الْغَيْبِ لاََ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلاََ فِي الْأَرْضِ وَلاََ أَصْغَرُ مِنْ ذََلِكَ وَلاََ أَكْبَرُ إِلاََّ فِي كِتََابٍ مُبِينٍ (3)}
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لََا تَأْتِينَا السََّاعَةُ قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي} قسم، والجواب {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وقرأ أهل المدينة عالم الغيب (1) بالرفع لأن جواب القسم قد تقدّم فحسن الرفع بالابتداء والخبر ما بعده، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز النصب بمعنى أعني، وقرأ أبو عمرو وعاصم {عََالِمِ الْغَيْبِ} على النعت، وقرأ سائر الكوفيين علّام الغيب (2) بالخفض على النعت أيضا، فعالم يكون للقليل والكثير وعلّام للكثير لا غير، والمستعمل والأشبه في مثل هذا: عالم الغيب فإن قلت: علام الغيوب كان علّام أشبه. وقرأ يحيى بن وثاب والكسائي لا يعزب (3) بكسر الزاي، يقال: عزب يعزب
__________
(1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 526.
(2) وهذه قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، انظر البحر المحيط 7/ 248.
(3) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 526.(3/227)
ويعزب. قال الفراء (1): والكسر أحبّ إليّ، وهي قراءة الأعمش. {وَلََا أَصْغَرُ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرُ} بالفتح تعطفهما على «ذرّة»، وقراءة العامة بالرفع على العطف على مثقال.
[سورة سبإ (34): الآيات 4الى 5]
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ أُولََئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيََاتِنََا مُعََاجِزِينَ أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}
{لِيَجْزِيَ} منصوب بلام كي، والتقدير لتأتينّكم ليجزي.
وقرأ طلحة وعيسى {أُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (2) بالرفع على النعت لعذاب.
[سورة سبإ (34): آية 6]
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى ََ صِرََاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}
{وَيَرَى} في موضع نصب معطوف على ليجزي، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه مستأنف {الَّذِينَ} في موضع رفع بيرى. {أُوتُوا الْعِلْمَ} خبر ما لم يسمّى فاعله، {الَّذِي} في موضع نصب على أنه مفعول أول ليرى {هُوَ الْحَقَّ} مفعول ثان «وهو» فاصلة والكوفيون يقولون: عماد، ويجوز الرفع على أن يكون «هو» مبتدأ و «الحقّ» خبره والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا تدخله الألف واللام فيشبه المعرفة فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك: كان أخوك هو زيد. وزعم الفراء (3) أن الاختيار فيه الرفع وكذا: كان أبو محمد هو عمرو.
وعلّه في اختياره الرفع أنه لما لم يكن فيه ألف ولام أشبه النكرة في قوله: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع.
[سورة سبإ (34): آية 7]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ} وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها {يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} والمعنى: يقول لكم «وإذا» في موضع نصب، والعامل فيها مزّقتم، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد أنّ لأنه لا يعمل فيما قبله، وأجاز أبو إسحاق أن يكون العامل فيها محذوفا، والتقدير: إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم.
[سورة سبإ (34): آية 8]
{أَفْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاََ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذََابِ وَالضَّلاََلِ الْبَعِيدِ (8)}
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 251.
(2) انظر تيسير الداني 146.
(3) انظر معاني الفراء 2/ 352.(3/228)
{أَفْتَرى ََ} لمّا دخلت ألف الاستفهام واستغنيت عن ألف الوصل فحذفتها وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل.
[سورة سبإ (34): آية 10]
{وَلَقَدْ آتَيْنََا دََاوُدَ مِنََّا فَضْلاً يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنََّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}
{وَلَقَدْ آتَيْنََا دََاوُدَ مِنََّا فَضْلًا} مفعولان: {يََا جِبََالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي رجّعي الحنين فكانت الجبال تجيبه إذا تلا الزبور، وهو من آب يؤوب إذا رجع. {وَالطَّيْرَ} (1) بالرفع قراءة الأعرج وأبي عبد الرحمن، والرفع من جهتين: إحداهما على العطف على جبال، والأخرى على العطف على المضمر الذي في أوّبي، وحسن ذلك، لأن بعده «معه»، والنصب عند أبي عمرو بن العلاء بمعنى وسخّرنا له الطير، وقال الكسائي: هو معطوف على فضلا أي آتيناه الطير، وعند سيبويه (2) معطوف على الموضع أي: نادينا الجبال والطير، ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة: أي مع الخشبة. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يجيز قمت وزيدا. {وَأَلَنََّا لَهُ الْحَدِيدَ} قيل:
إنه أول من سخّر له الحديد، وقيل أعطي من القوة أنه كان يثني الحديد والله جلّ وعزّ أعلم بذلك وقال الحسن: وكان داود صلّى الله عليه وسلّم يأخذ الحديد فيكون في يده مثل العجين فيعمل منه الدروع.
[سورة سبإ (34): آية 11]
{أَنِ اعْمَلْ سََابِغََاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}
{أَنِ اعْمَلْ سََابِغََاتٍ} لأبي إسحاق فيه جوابان: أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسّرة تؤدّي عن معنى: قلنا له اعمل، والجواب الآخر أن يكون في موضع نصب أي وألنّا له الحديد لها ووصلت أن بلفظ الأمر {سََابِغََاتٍ} في موضع نصب وأقيمت الصفة مقام الموصوف أي: اعمل دروعا سابغات والدروع مؤنثة إذا كانت للحرب، ودرع المرأة مذكر. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدر المسمار لا يكون دقيقا فيسلس ولا غليظا فيفصمها.
[سورة سبإ (34): آية 12]
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ غُدُوُّهََا شَهْرٌ وَرَوََاحُهََا شَهْرٌ وَأَسَلْنََا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنََا نُذِقْهُ مِنْ عَذََابِ السَّعِيرِ (12)}
{وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ} جعله الكسائي نسقا على {وَأَلَنََّا لَهُ الْحَدِيدَ} وقال: المعنى:
وألنّا لسليمان الرّيح، وقال أبو إسحاق: التقدير: وسخّرنا لسليمان الريح: وقرأ عاصم {وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ} (3) بالرفع بالابتداء أو بالاستقرار أي لسليمان الريح ثابتة وفيه ذلك
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 253.
(2) انظر الكتاب 2/ 188.
(3) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 527.(3/229)
المعنى، فإن قال قائل: إذا قلت: أعطيت زيدا دينارا ولعمرو درهم، فرفعت لم يكن فيه كمعنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدرهم قيل: الأمر كذا الآية على خلاف هذا من المعنى قد علم أنه لم يسخّرها أحد غير الله جلّ وعزّ {غُدُوُّهََا شَهْرٌ} أي مسيرة شهر، وكذا {وَرَوََاحُهََا شَهْرٌ} وروى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الجنّ مما يلي سفلة الإنس وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكلّ كرسي طائر يعمل بعينه ثم تقلّهم الريح والطير تظلّهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر فيقيل بها ثم يروح من إصطخر فيبيت في بيت المقدس ثمّ قرأ ابن عباس {غُدُوُّهََا شَهْرٌ وَرَوََاحُهََا شَهْرٌ}. {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} «من» في وضع نصب بمعنى وسخرنا، ويجوز أن يكون في موضع رفع كما تقدّم في الريح. {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنََا نُذِقْهُ مِنْ عَذََابِ السَّعِيرِ} شرط وجوابه. و {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء وهو تام.
[سورة سبإ (34): آية 13]
{يَعْمَلُونَ لَهُ مََا يَشََاءُ مِنْ مَحََارِيبَ وَتَمََاثِيلَ وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ وَقُدُورٍ رََاسِيََاتٍ اعْمَلُوا آلَ دََاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ الشَّكُورُ (13)}
{يَعْمَلُونَ لَهُ مََا يَشََاءُ مِنْ مَحََارِيبَ وَتَمََاثِيلَ} لم ينصرفا لأن هذا الجمع ليس له نظير في الواحد، ولا يجمع كما يجمع غيره من الجموع. والمحراب في اللغة كلّ موضع مرتفع وقيل للذي يصلّي إليه: محراب، لأنه يجب أن يرفّع ويعظّم، وقال الضحاك: «من محاريب» أي من مساجد وتماثيل، قال: صور فقال قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله جلّ وعزّ عن المسيح صلّى الله عليه وسلّم، وقال قوم: قد صحّ النهي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها والتوعّد لمن عملها أو اتخذها فنسخ صلّى الله عليه وسلّم هذا ما كان مباحا قبله، وكانت في ذلك الحكمة لأنه بعث صلّى الله عليه وسلّم والصّور تعبد، وكان الأصلح إزالتها. {وَجِفََانٍ كَالْجَوََابِ وَقُدُورٍ رََاسِيََاتٍ} الأولى أن يكون بالياء، ومن حذف الياء قال: سبيل الألف واللام أن يدخلا في النكرة فلا يغيّرها عن حالها فلما كان يقال: «جواب» ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله بحذف الياء وواحد الجوابي جابية وهي القدر العظيمة والحوض الكبير الذي يجبى إليه الشيء أن يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد أي جعلت كساء فجمعته فيه، إلا أنّ ليثا روى عن مجاهد قال:
الجوابي جمع جوبة. قال أبو جعفر: الجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها ماء المطر {وَقُدُورٍ رََاسِيََاتٍ} قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. قال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من حجارة الجبال. {اعْمَلُوا آلَ دََاوُدَ شُكْراً} أي يقال لهم.
{آلَ دََاوُدَ} نداء مضاف ونصب شكر عند أبي إسحاق من جهتين: إحداهما اعملوا للشكر أي لتشكروا الله جلّ وعزّ، والأخرى أن يكون التقدير: اشكروا شكرا. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ}
{الشَّكُورُ} مبتدأ وخبره. والشكور على التكثير لا غير، وشاكر يقع للقليل والكثير، والشكر لا يكون إلا في شيء بعينه، والحمد أعمّ منه.(3/230)
{آلَ دََاوُدَ} نداء مضاف ونصب شكر عند أبي إسحاق من جهتين: إحداهما اعملوا للشكر أي لتشكروا الله جلّ وعزّ، والأخرى أن يكون التقدير: اشكروا شكرا. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبََادِيَ}
{الشَّكُورُ} مبتدأ وخبره. والشكور على التكثير لا غير، وشاكر يقع للقليل والكثير، والشكر لا يكون إلا في شيء بعينه، والحمد أعمّ منه.
[سورة سبإ (34): آية 14]
{فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مََا دَلَّهُمْ عَلى ََ مَوْتِهِ إِلاََّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمََّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مََا لَبِثُوا فِي الْعَذََابِ الْمُهِينِ (14)}
{مِنْسَأَتَهُ} (1) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأها الكوفيون بالهمز واشتقاقها يدلّ على أنها مهموزة لأنها مشتقة من نسأته أي أخّرته ودفعته فقيل لها: منسأة لأنه يدفع بها الشيء ويؤخّر. قال مجاهد وعكرمة: هي العصا فمن قرأ (منساته) أبدل من الهمزة ألفا، فإن قال قائل: الإبدال من الهمزة قبيح إنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا ولا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة فالجواب عن هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمرو: ولست أدري ممّ هي؟
إلّا أنها غير مهموزة. وهذا كلام العلماء لأن ما كان مهموزا قد يترك همزة وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. {فَلَمََّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} موته وقال غيره: المعنى: تبيّن أمر الجن مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وقيل: المعنى تبيّنت الجن للإنس: وفي التفسير بالأسانيد الصحاح تفسير المعنى، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود صلّى الله عليهما حولا لا يعلم بموته وهو متّكئ على عصاه والجنّ متصرّفة فيما كان أمرها به ثم سقط بعد حول. وقرأ ابن عباس فلما خرّ تبيّنت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (2) قال أبو جعفر: وهذه القراءة عن ابن عباس على سبيل التفسير. فأما. {أَنْ} فموضعها موضع رفع على البدل من الجن أي تبيّن أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب، وهذا بدل الاشتمال، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى اللام.
[سورة سبإ (34): آية 15]
{لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتََانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمََالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}
{لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ} بالصرف والتنوين على أنه اسم للحيّ، وهو في الأصل اسم رجل جاء بذلك التوقيف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو عمرو {لَقَدْ كََانَ لِسَبَإٍ} (3) بغير صرف
__________
(1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 527، نافع وأبو عمرو بألف ساكنة بدلا من الهمزة، وابن ذكوان بهمزة ساكنة، والباقون بهمزة مفتوحة.
(2) انظر المحتسب 2/ 188، والبحر المحيط 7/ 257.
(3) انظر تيسير الداني 146.(3/231)
جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد واستدلّ على أنه اسم قبيلة أن بعده {فِي مَسْكَنِهِمْ} ولو كان كما كان لكان في مساكنها. {آيَةٌ} اسم كان أي علامة دالّة على قدرة الله جل وعزّ وانعامه على عباده أنه جعل لأهل سبأ جنتين عن يمين وشمال ومما اجتمع من مطر بين جبلين في وجهه مسنّاة قال يحيى بن سليمان الجعفي: المسنّاة هي التي يسمّيها أهل مصر الجسر فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنّتهم سدّوها {جَنَّتََانِ} بدل من الآية ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز أن تنصب «آية» على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب جنتين على الخبر أيضا في غير القرآن.
والتقدير: قيل لهم: كلوا من رزق ربّكم واشكروا له. قال الفراء: تمّ الكلام. {بَلْدَةٌ} بالرفع على إضمار مبتدأ أي هذه بلدة {وَرَبٌّ} على إضمار مبتدأ أيضا. {غَفُورٌ} من نعته. فأما في مساكنهم (1) فهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وأبي عمرو. وقرأ إبراهيم النخعي وحمزة {فِي مَسْكَنِهِمْ} وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي {فِي مَسْكَنِهِمْ} (2) بكسر الكاف. قال أبو جعفر: «مساكن» في هذا أبين لأنه يجمع اللفظ والمعنى فإذا قلت: مسكنهم كان فيه تقديران: أحدهما أن يكون واحدا يؤدّي عن جميع، والآخر أن يكون مصدرا لا يثنّى ولا يجمع، كما قال جلّ وعزّ {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ} [البقرة: 7] فجاء السمع مفردا، وكذا {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] ومن قال: مسكن بكسر الكاف جعله مثل مسجد، وهو خارج عن القياس لا يوجد مثله إلّا سماعا.
[سورة سبإ (34): آية 16]
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنََاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} قال عمرو بن شرحبيل: «العرم» المسنّاة، وقال محمد بن يزيد: العرم كلّ حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمّى السّكر وهو جمع عرمة {وَبَدَّلْنََاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وقرأ أبو عمرو {ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} (3) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل رحمه الله: «الخمط»: الأراك وقال محمد بن يزيد: الخمط: كلّ ما تغيّر إلى ما لا يشتهى واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة {ذَوََاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بالتنوين على أنه نعت لأكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} قال الفراء: هو السّمر.
__________
(1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 528، ومعاني الفراء 2/ 357.
(2) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 528، ومعاني الفراء 2/ 357.
(3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 528، وتيسير الداني 146.(3/232)
[سورة سبإ (34): آية 17]
{ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِمََا كَفَرُوا وَهَلْ نُجََازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)}
{ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِمََا كَفَرُوا} قال أبو إسحاق: «ذلك» في موضع نصب أي جزيناهم ذلك. وهل يجازى إلا الكفور (1) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلا عاصما {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (2) وهذا عند أبي عبيد أولى لأن قبله «جزيناهم» ولم يقل جوزوا. قال أبو جعفر: الأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين لو قال قائل: خلق الله جلّ وعزّ آدم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين لكان المعنى واحدا. وفي الآية سؤال لا أعلم في السورة أشدّ منه يقال: ما معنى وهل يجازى إلّا الكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي غير الكفار؟ وقد تكلم العلماء في هذا فقال قوم:
ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصطلام والهلاك إلّا من كفر. فأما قطرب فجوابه على هذه الآية على خلاف لأنه جعلها في أهل المعاصي غير الكفار وجرى على مذهبه وقوله من كفر بالنعم فعمل الكبائر. وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيه أنّ الحسن قال: مثلا بمثل. وروى أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حوسب هلك» فقلت يا نبيّ الله: فأين قوله جلّ وعزّ {فَسَوْفَ يُحََاسَبُ حِسََاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8] قال: «إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك» (3). قال أبو جعفر: وهذا إسناد صحيح، وشرحه أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير، ويبين لك هذا قوله جلّ وعزّ في الأولى {ذََلِكَ جَزَيْنََاهُمْ بِمََا كَفَرُوا} وفي الثاني «وهل يجازى» فمعنى «يجازى» يكافأ بما عمل، ومعنى «جزيناهم» وفيناهم فهذا حقيقة اللغة وإن كان جازى يقع بمعنى جزى مجازا.
[سورة سبإ (34): آية 18]
{وَجَعَلْنََا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا قُرىً ظََاهِرَةً وَقَدَّرْنََا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهََا لَيََالِيَ وَأَيََّاماً آمِنِينَ (18)}
{وَجَعَلْنََا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بََارَكْنََا فِيهََا قُرىً ظََاهِرَةً} قال أبو العباس: الظاهرة المرتفعة. {وَقَدَّرْنََا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلناه بمقدار يسيرون ويبيتون في قرية. قال الفراء: (4) {وَقَدَّرْنََا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم فهذا التقدير.
{سِيرُوا فِيهََا لَيََالِيَ وَأَيََّاماً} ظرفان {آمِنِينَ} على الحال.
__________
(1) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع.
(2) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع.
(3) أخرجه الترمذي في سننه صفة القيامة 9/ 258.
(4) انظر معاني الفراء 341.(3/233)
[سورة سبإ (34): آية 19]
{فَقََالُوا رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ وَمَزَّقْنََاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ (19)}
{فَقََالُوا رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا} فيه ستة أوجه من القراءات (1) قرأ الحسن وأبو رجاء وأبو مالك وأبو جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا}، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ربّنا بعد بين أسفارنا وقرأ محمد ابن الحنفية ويروى عن ابن عباس وأبي صالح ربّنا باعد بين أسفارنا، وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ربّنا بعّد بين أسفارنا، وقرأ سعيد بن أبي الحسن وهو أخو الحسن البصري فقالوا ربّنا بعد بين أسفارنا. فهذه خمس قراءات. وروى الفراء وأبو إسحاق السادسة ربّنا بعد بين أسفارنا قال أبو جعفر: القراءة الأولى ربّنا نصب على أنه نداء مضاف وهو منصوب على أنه مفعول به لأن معناه ناديت ودعوت، وكذلك القراءة الثانية و «باعد» و «بعّد» واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرّب، والمعنى على ما روى محمد بن ثور عن معمر عن قتادة قال: كانوا آمنين يخرجون إلى أسفارهم ولا يتزوّدون يبيتون في قرية ويقيلون في قرية فبطروا النعمة فقالوا: ربّنا بعد بين أسفارنا فعاقبهم الله جلّ وعزّ.
والقراءة الثالثة «ربّنا» رفع بالابتداء و «باعد» فعل ماض في موضع الخبر، وكذا الرابعة، وقد فسّرها ابن عباس قال: شكوا أن ربّهم باعد بين أسفارهم. القراءة الخامسة ربّنا بعد بين أسفارنا. «ربّنا» نداء مضاف ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا «بعد بين أسفارنا» ورفع «بين» بالفعل أي بعد ما يتصل بأسفارنا. والقراءة السادسة مثل هذه إلا أنها تنصب «بين» على أنه ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال: إحداها أجود من الأخرى، لا يقال ذلك في الأخبار إذا اختلفت معانيها ولكن خبّر عنهم أنهم دعوا أن يبعّد بين أسفارهم بطر وأشرا، وخبّر أنهم لمّا فعل بهم ذلك خبّروا به وشكوا، كما قال ابن عباس {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي بكفرهم {فَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ} أي يتحدّث بهم بأخبارهم، وتقديره في العربية ذوي أحاديث. {وَمَزَّقْنََاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي لمّا لحقهم ما لحقهم تفرّقوا وتمزّقوا. قال الشعبي:
فلحقت الأنصار بيثرب. وغسان بالشام، وأسد بعمان، وخزاعة بتهامة. {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} «صبّار» تكثير صابر، والصابر الذي يصبر عن المعاصي يمدح بهذا الاسم وإن أردت أنه صبر على المعصية لم يستعمل فيه إلا صابر عن كذا قال جلّ وعزّ {إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ} [الزمر: 10].
__________
(1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 147، والبحر المحيط 7/ 262، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، والمحتسب 2/ 189.(3/234)
[سورة سبإ (34): آية 20]
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاََّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} فيه أربع أوجه من القراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر يروى عن مجاهد {وَلَقَدْ صَدَّقَ} (1) بالتخفيف. {عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ} بالرفع. {ظَنَّهُ} بالنصب. وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي {صَدَّقَ} بالتشديد، وقرأ أبو الهجهاج: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه (2) بنصب إبليس ورفع ظنه، قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي والله جلّ وعزّ أعلم. قال أبو جعفر: وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها أبو إسحاق، وقال:
المعنى: صدّق ظنّ إبليس إبليس بما اتّبعوه، والقراءة الرابعة {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} (3) برفع إبليس وظنّه. والقراءة الأولى {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} معناها في ظنّه. قال أبو إسحاق: هو منصوب على المصدر، والقراءة الثانية {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} بنصب «ظنه» بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظنّ ظنّا فكان كما ظن فصدّق ظنّه، وعن ابن عباس قال: إبليس خلق آدم من طين فهو ضعيف وأنا من نار فلأحتنكنّ ذرّيّته إلّا قليلا فكان كما قال. وقال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصا، وإنما ظنّ ظنّا فكان كما ظنّ بوسوسته. {إِلََّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} نصب بالاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلّهم.
[سورة سبإ (34): آية 21]
{وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلاََّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهََا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}
{مِنْ} زائدة للتوكيد. وأهل التفسير يقولون السلطان الحجّة. {إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} وقد علم الله جلّ وعزّ ذلك غيبا، وهذا علم الشهادة الذي تجب به الحجّة هذا قول أكثر أهل اللغة، وهو عند بعضهم مجاز أي ليكون هذا علمه جازى عليه، وقول ثالث، وهو مذهب الفراء يكون المعنى: إلّا لنعلم ذلك عندكم، كما قال: {أَيْنَ شُرَكََائِيَ} * [النحل: 27]. أي على قولكم وعندكم.
[سورة سبإ (34): آية 22]
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ لاََ يَمْلِكُونَ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلاََ فِي الْأَرْضِ وَمََا لَهُمْ فِيهِمََا مِنْ شِرْكٍ وَمََا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ} في الكلام حذف، والمعنى: قل ادعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة لكم من دون الله لينفعوكم أو ليدفعوا عنكم ما قضاه الله جلّ وعزّ
__________
(1) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 263.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 121.(3/235)
عليكم فإنّهم لا يملكون ذلك و {لََا يَمْلِكُونَ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ وَمََا لَهُمْ فِيهِمََا مِنْ شِرْكٍ وَمََا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} قال الضحاك والسدي أي من معين.
[سورة سبإ (34): آية 23]
{وَلاََ تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ عِنْدَهُ إِلاََّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قََالُوا مََا ذََا قََالَ رَبُّكُمْ قََالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}
{أَذِنَ} (1) وأذن بمعنى واحد كما مرّ في وهل يجازى [سبأ: 17] و «من» هاهنا للشافعين، ويجوز أن تكون للمشفوع لهم، وزعم أبو إسحاق أنها للشافعين أشبه بالمعنى، قال: لأن بعده {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} فيكون هذا للملائكة صلوات الله عليهم. وفي هذا خمس قراءات قراءة العامة {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (2)، وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} (3) بفتح الفاء والزاي فهاتان القراءتان بمعنى واحد أي فزّع الله جلّ وعزّ عن قلوبهم أي كشف عنها الفزع أي تعدّاها الفزع، وكذا يقول سيبويه (4) في قول العرب: رميت عن القوس أي تعدّى رميي القوس، وقد ذكرنا معناه. وروى هيثم عن عوف عن الحسن أنه قرأ حتى إذا فرّغ عن قلوبهم (5) بضم الفاء وبراء غير معجمة وبعدها غين معجمة وكذا قرأ أبو مجلز. وروى مطر الوراق عن الحسن حتى إذا فزّع عن قلوبهم (6) وهاتان القراءتان يؤول معناهما إلى معنى الأولين لأن المعنى: حتّى إذا فرّغ عن قلوبهم الفزع أزيل عن قلوبهم إلّا أن مجاهدا قال في تفسير هذه الآية على ما رواه عنه ورقاء عن أبي نجيح:
إنها في يوم القيامة. قال: إذا كشف الغطاء. وروى أيّوب وحميد الطويل عن الحسن حتّى إذا فرغ عن قلوبهم بضمّ الفاء وبراء مخففة غير معجمة وبعدها غين معجمة فهذه الروايات عن الحسن مستقيمات الطرق لا مطعن في واحد رواها، وكلّها صحاح عنه {قََالُوا مََا ذََا قََالَ رَبُّكُمْ} «ماذا» في موضع نصب بقال ويجوز أن يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» في موضع الخبر، ومعناه معنى الذي {قََالُوا الْحَقَّ} على أن «ماذا» في موضع نصب أي قال الحق، ويجوز رفع «الحقّ» على أن ما في موضع رفع. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ابتداء وخبر. و «العليّ» الجبار المتعالي، و «الكبير» السيّد المقصود.
[سورة سبإ (34): آية 24]
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلاََلٍ مُبِينٍ (24)}
__________
(1) انظر تيسير الداني 147، وأذن بضم الهمزة قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي والباقين بفتحها.
(2) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 530.
(3) انظر الكتاب 4/ 348.
(4) انظر الكتاب 4/ 348.
(5) انظر البحر المحيط 7/ 266، ومعاني الفراء 2/ 361.
(6) انظر البحر المحيط 7/ 266، ومعاني الفراء 2/ 361.(3/236)
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ} {مَنْ} في موضع رفع بالابتداء، وهي اسم تام لأنها للاستفهام و {يَرْزُقُكُمْ} في موضع الخبر ويجوز إدغام القاف في الكاف فتقلب القاف كافا {وَإِنََّا} والأصل وإنّنا فحذفت النون تخفيفا {أَوْ إِيََّاكُمْ} معطوف على اسم «إنّ» ولو عطف على الموضع لكان أو أنتم ويكون {لَعَلى ََ هُدىً} للأول لا غير لو قلت: أو أنتم فإذا قلت: أو إيّاكم كان للثاني أولى وحذفت من الأول، ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس، قال: ومعناه معنى قول المستنصر بصاحبه على صحّة الوعيد واستظهار بالحجّة الواضحة أحدنا كاذب وقد عرف المعنى، وكما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ وقد عرف أنه هو المخطئ، وهكذا {وَإِنََّا أَوْ إِيََّاكُمْ لَعَلى ََ هُدىً أَوْ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ}.
[سورة سبإ (34): آية 27]
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكََاءَ كَلاََّ بَلْ هُوَ اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكََاءَ} تكون {أَرُونِيَ} هاهنا من رؤية القلب أي عرّفوني هذه الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله جلّ وعزّ هل شاركته في خلق شيء فبيّنوا ما هو وإلّا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن يكون من رؤية البصر فيكون «شركاء» حالا. قال أبو إسحاق: والمعنى: أروني الذين ألحقتموهم به شركاء ثم حذف لأنه في الصلة. قال: ثم قال جلّ وعزّ {كَلََّا} ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول، وتنبهوا على ضلالكم.
[سورة سبإ (34): آية 28]
{وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلاََّ كَافَّةً لِلنََّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (28)}
{وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا كَافَّةً} نصب على الحال. قال أبو إسحاق: والمعنى:
أرسلناك جامعا للناس لأنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى العرب والعجم.
[سورة سبإ (34): آية 30]
{قُلْ لَكُمْ مِيعََادُ يَوْمٍ لاََ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سََاعَةً وَلاََ تَسْتَقْدِمُونَ (30)}
وأجاز النحويون {لَكُمْ مِيعََادُ يَوْمٍ} (1) على أنه بدل من ميعاد، وأجازوا ميعاد يوما لا تستأخرون عنه (2) على أن يكون ظرفا وتكون الهاء تعود على يوم ولا يجوز الإضافة كما تقول: إنّ يوما زيد فيه أمير عبد الله فيه وزير، بتنوين يوم لا غير فإن حذفت فيه جار حذف التنوين ونصبت عبد الله على أنه اسم إنّ، ويجوز {مِيعََادُ يَوْمٍ لََا تَسْتَأْخِرُونَ} (3) بغير تنوين في يوم على أن يكون الهاء التي في «عنه» تعود على ميعاد لا على يوم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 270، ومعاني الفراء 2/ 36.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 270، ومعاني الفراء 2/ 36.
(3) انظر مختصر ابن خالويه 122.(3/237)
[سورة سبإ (34): آية 31]
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهََذَا الْقُرْآنِ وَلاََ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاََ أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ (31)}
قال سعيد عن قتادة: {وَلََا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب والأنبياء عليهم السلام.
{وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الظََّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} {الظََّالِمُونَ} بالابتداء مرفوعون، و {مَوْقُوفُونَ} خبره، والجملة في موضع خفض بالإضافة، ولا يجوز أن تنصب «موقوفون» على الحال لأن إذ ظرف زمان فلا تكون خبرا عن الجثث، وجواب «لو» محذوف لعلم السامع. {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يجاوبه واللغة الفصيحة هذه يقال: رجعت زيدا. {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلََا أَنْتُمْ لَكُنََّا مُؤْمِنِينَ} هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يقول: لولاكم حكاها سيبويه (1) ويكون «لولا» تخفض المضمر وترفع المظهر بعدها بالابتداء وتحذف خبره، ومحمد بن زيد يقول: لا يجوز «لولاكم» لأن المضمر عقب المظهر فلما كان المظهر مرفوعا بإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا.
[سورة سبإ (34): آية 32]
{قََالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنََاكُمْ عَنِ الْهُدى ََ بَعْدَ إِذْ جََاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}
{بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أي أنتم اخترتم الكفر ولم يكن لنا عليكم سبيل إلّا أن دعوناكم فاستجبتم لنا.
[سورة سبإ (34): آية 33]
{وَقََالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ إِذْ تَأْمُرُونَنََا أَنْ نَكْفُرَ بِاللََّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدََاداً وَأَسَرُّوا النَّدََامَةَ لَمََّا رَأَوُا الْعَذََابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلاََلَ فِي أَعْنََاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاََّ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (33)}
{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} قال الأخفش: أي هذا مكر الليل والنهار. قال أبو جعفر:
والمعنى والله جلّ وعزّ أعلم، مكركم في اللّيل والنهار أي مشارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر الذي حملنا على هذا. قال محمد بن يزيد: أي بل مكركم الليل والنهار كما تقول العرب: نهاره صائم، وليله قائم، وأنشد: [الطويل] 346 لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم (2)
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 395.
(2) الشاهد لجرير في ديوانه 993، وخزانة الأدب 1/ 465، ولسان العرب (ريح)، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 60، والصاحبي في فقه اللغة 222، والمحتسب 2/ 184، والمقتضب 3/ 105.(3/238)
وأنشد سيبويه: [الرجز] 347 فنام ليلي وتجلّى همّي (1)
أي نمت فيه، وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} قال ممرّ اللّيل والنّهار عليهم فغفلوا، وقرأ راشد {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ} (2)
بالنصب كما يقال: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، ولو قلت: رأيته مقدم زيد لم يجز {إِذْ تَأْمُرُونَنََا أَنْ نَكْفُرَ بِاللََّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدََاداً} قال: ويقال: نديد وأنشد:
[الوافر] 348 أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد (3)
{وَأَسَرُّوا النَّدََامَةَ لَمََّا رَأَوُا الْعَذََابَ} في معناه قولان: أحدهما أن معنى أسروا أظهروا وأنه من الأضداد، كما قال: [الطويل] 349 تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي (4)
وقد روي يشرّون. وقيل وأسرّوا الندامة تبيّنت الندامة في أسرار وجوههم.
وقيل: الندامة لا تظهر وإنما تكون في القلب وإنما يظهر ما يتولّد عنها.
[سورة سبإ (34): آية 34]
{وَمََا أَرْسَلْنََا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاََّ قََالَ مُتْرَفُوهََا إِنََّا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كََافِرُونَ (34)}
{إِلََّا قََالَ مُتْرَفُوهََا} قال سعيد عن قتادة: مترفوها جبابرتها ورؤوسها وقادة الشر.
[سورة سبإ (34): آية 36]
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاََ يَعْلَمُونَ (36)}
أحسن ما قيل في هذا قاله الحسن، قال: يخير له والمعنى على قوله {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} أن الله جلّ وعزّ إنما يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر على المحنة ويفعل بهم الذي هو خير لهم.
[سورة سبإ (34): آية 37]
{وَمََا أَمْوََالُكُمْ وَلاََ أَوْلاََدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنََا زُلْفى ََ إِلاََّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَأُولََئِكَ لَهُمْ جَزََاءُ الضِّعْفِ بِمََا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ (37)}
__________
(1) الرجز لرؤبة في ديوانه 142، والمحتسب 2/ 184وبلا نسبة في خزانة الأدب 8/ 202، والمقتضب 3/ 105.
(2) وهذه قراءة ابن جبير وطلحة أيضا، انظر البحر المحيط 7/ 271، ومختصر ابن خالويه 122.
(3) مرّ الشاهد رقم (237).
(4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 13، وجمهرة اللغة 736، وخزانة الأدب 11/ 238، وشرح شواهد المغني 2/ 651، ولسان العرب (شرر)، ومغني اللبيب 1/ 265، وبلا نسبة في رصف المباني 292.(3/239)
{وَمََا أَمْوََالُكُمْ وَلََا أَوْلََادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنََا زُلْفى ََ} قال الأخفش: أي أزلافا. وهو اسم المصدر وزعم الفراء (1) أن التي تكون للأموال والأولاد جميعا، وله قول آخر، وهو مذهب أبي إسحاق، يكون المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ثم حذف، وأنشد الفراء: [الخفيف] 350 نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرّأي مختلف (2)
وأنشد: [الكامل] 351 إنّي ضمنت بما أتاني ما جنى ... وأبي وكان وكنت غير غدور (3)
ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذين للأولاد خاصة. {إِلََّا مَنْ آمَنَ} في موضع نصب بالاستثناء. وزعم أبو إسحاق أنه في موضع نصب على البدل من الكاف والميم التي في «تقربكم» وهذا القول كأنه غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء (4) إلّا أن الفراء لا يقول: بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين ولكن قوله يؤول إلى ذلك وزعم أن مثله {إِلََّا مَنْ أَتَى اللََّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] يكون منصوبا عنده بينفع وأجاز الفراء (5) أن يكون «من» في قوله جلّ وعزّ {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنََا زُلْفى ََ إِلََّا مَنْ آمَنَ} في موضع رفع بمعنى ما هو إلّا من آمن كذا قال، ولست أحصل معناه.
{فَأُولََئِكَ لَهُمْ جَزََاءُ الضِّعْفِ بِمََا عَمِلُوا} وأجاز النحويون أولئك لهم جزاء الضعف (6) يكون بدلا من جزاء أو على إضمار مبتدأ، وأجازوا «أولئك لهم جزاء الضّعف» بمعنى أولئك لهم أن نجزيهم الضعف، وأجازوا أولئك لهم جزاء الضعف (7). قال أبو إسحاق:
والمعنى: أولئك لهم الضعف جزاء أي في حال مجازاتهم. {وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ} (8) وعن الحسن في الغرفات (9) إسكان الراء، وعن الأعمش وحمزة في الغرفة (10). قال أبو جعفر: «الغرفات» جمع غرفة على جمع التسليم إلّا أن الراء ضمت فرقا بين الاسم والنعت، ومن قال: غرفات حذف الضمة لثقلها، ومن قال:
__________
(1) انظر معاني الفراء 2/ 336.
(2) مرّ الشاهد رقم (185).
(3) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 126، والردّ على النحاة 100، وشرح أبيات سيبويه 1/ 226، ولسان العرب (قعد) وتفسير الطبري 26/ 158، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 434، وهو غير موجود في ديوان الفرزدق.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 363.
(5) انظر معاني الفراء 2/ 363.
(6) انظر البحر المحيط 7/ 273.
(7) انظر معاني الفراء 2/ 364.
(8) انظر البحر المحيط 7/ 273.
(9) انظر البحر المحيط 7/ 273، ومختصر ابن خالويه 122، وتيسير الداني 147.
(10) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 530.(3/240)
غرفات أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف، ويجوز أن يكون «غرفات» جمع غرف ومن قرأ {الْغُرْفَةَ} أتى بواحدة تدل على جماعة والجمع أشبه لأن الإخبار عن جمع.
[سورة سبإ (34): آية 39]
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ (39)}
{وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} وهذا فيما أنفق في طاعة الله جلّ وعزّ فهو مخلف لا محالة إما في الدنيا وإما في الآخرة. {وَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} أي رزق العباد.
[سورة سبإ (34): آية 40]
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاََئِكَةِ أَهََؤُلاََءِ إِيََّاكُمْ كََانُوا يَعْبُدُونَ (40)}
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} على الحال {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلََائِكَةِ أَهََؤُلََاءِ إِيََّاكُمْ كََانُوا يَعْبُدُونَ} قال سعيد عن قتادة هذا استفهام مثل قوله جلّ وعزّ لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ} [المائدة: 116]. قال أبو جعفر: والمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم.
[سورة سبإ (34): آية 41]
{قََالُوا سُبْحََانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنََا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كََانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}
{قََالُوا سُبْحََانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنََا مِنْ دُونِهِمْ} أي أنت المتولّي لنا دونهم. {بَلْ كََانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي يطيعونهم. {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} بقبولهم منهم وهو مجاز.
[سورة سبإ (34): آية 46]
{قُلْ إِنَّمََا أَعِظُكُمْ بِوََاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلََّهِ مَثْنى ََ وَفُرََادى ََ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مََا بِصََاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاََّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذََابٍ شَدِيدٍ (46)}
{قُلْ إِنَّمََا أَعِظُكُمْ بِوََاحِدَةٍ} قال سفيان عن ليث عن مجاهد: «بواحدة» قال: لا إله إلا الله، وقال غيره: تقديره بخصلة واحدة ثم بينها بقوله جلّ وعزّ: {أَنْ تَقُومُوا لِلََّهِ مَثْنى ََ وَفُرََادى ََ} وتكون «أن» في موضع خفض على البدل من واحدة أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ومذهب أبي إسحاق أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا {مَثْنى ََ وَفُرََادى ََ} على الحال وهو لا ينصرف لعلّتين قد ذكرناهما (1)، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} معطوف على تقوموا.
[سورة سبإ (34): آية 48]
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاََّمُ الْغُيُوبِ (48)}
وقرأ عيسى بن عمر علام الغيوب (2) على أنه بدل أي: قل إنّ ربّي علّام
__________
(1) انظر إعراب الآية 3/ من سورة النساء.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 278، وهذه قراءة ابن أبي إسحاق وزيد بن علي وابن أبي عبلة وأبي حيوة وحرب أيضا.(3/241)
الغيوب يقذف بالحقّ. قال أبو إسحاق: والرفع من جهتين: على الموضع لأن الموضع رفع وعلى البدل مما في «يقذف». قال أبو جعفر: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر «إنّ» ومثله {إِنَّ ذََلِكَ لَحَقٌّ تَخََاصُمُ أَهْلِ النََّارِ} [ص: 64].
[سورة سبإ (34): آية 49]
{قُلْ جََاءَ الْحَقُّ وَمََا يُبْدِئُ الْبََاطِلُ وَمََا يُعِيدُ (49)}
{قُلْ جََاءَ الْحَقُّ} قال سعيد عن قتادة، قال: القرآن. قال أبو جعفر: والتقدير: جاء صاحب الحقّ أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج الحق. {وَمََا يُبْدِئُ الْبََاطِلُ} قال سعيد عن قتادة، قال: الباطل إبليس. والتقدير في العربية صاحب الباطل. وقال الضحاك: الباطل الآلهة، وقال: وما يبدئ وما يعيد أي ما يحيى وما يميت وقال قتادة {مََا يُبْدِئُ} و {مََا يُعِيدُ} ما يخلق وما يبعث، وقال غيره: {«مََا يُبْدِئُ الْبََاطِلُ»} أي ما يبتدي بحجة و {«مََا يُعِيدُ»} ما يحكي عن غيره حجة «ما» الأولى في موضع نصب يبدئ، و «ما» الثانية في موضع نصب بيعيد. قال أبو إسحاق: والأجود أن تكون «ما» نافية.
[سورة سبإ (34): آية 50]
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمََا أَضِلُّ عَلى ََ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمََا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمََا أَضِلُّ عَلى ََ نَفْسِي} شرط وجوابه، وكذا {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمََا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت الهاء محذوفة، وإن جعلتها مصدرا لم يحتج إلى عائد {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أي يسمع ممن دعاه قريب الإجابة له.
[سورة سبإ (34): آية 51]
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلاََ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكََانٍ قَرِيبٍ (51)}
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ فَزِعُوا فَلََا فَوْتَ} حذف جواب «لو» قال أبو إسحاق: المعنى: ولو ترى إذ فزعوا لرأيت ما يعتبر به عبرة شديدة أي فلا فوت لهم أي فلا يمكنهم الفوت.
[سورة سبإ (34): آية 52]
{وَقََالُوا آمَنََّا بِهِ وَأَنََّى لَهُمُ التَّنََاوُشُ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ (52)}
وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة {وَأَنََّى لَهُمُ التَّنََاوُشُ} (1) بالهمز وأبو عبيد يستبعد هذه القراءة، لأن «التناؤش» البعد فيكون فكيف يكون وأنّى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد، فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب، وفي المصحف الذي نقلته
__________
(1) انظر تيسير الداني 147، والبحر المحيط 7/ 280.(3/242)
الجماعة عن الجماعة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] والأصل «وقّتت» لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر قد ذكره أبو إسحاق:
قال: يكون مشتقا من «النئيش» وهو الحركة في إبطاء أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد وقد كفروا به من قبل؟
[سورة سبإ (34): آية 53]
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ (53)}
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} والعرب تقول لكلّ من يتكلّم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. {مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ} على التمثيل بمن يرجم ولا يصيب برجمه.
ومن قرأ {وَيَقْذِفُونَ} (1) فمعناه عنده يقذف به إليهم من يغويهم ويضلّهم.
[سورة سبإ (34): آية 54]
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مََا يَشْتَهُونَ كَمََا فُعِلَ بِأَشْيََاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كََانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مََا يَشْتَهُونَ} قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهونه في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جلّ وعزّ وينتهوا إلى ما يأمرهم به فحيل بينهم وبين ذلك، لأن ذلك إنما كان في الدنيا، وقد زالت في ذلك الوقت. والأصل في حيل «حول» فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء فحذفت حركتها لثقلها. {إِنَّهُمْ كََانُوا فِي شَكٍّ} أي في الدنيا والتوحيد {مُرِيبٍ} أي يستراب به.
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 122.(3/243)
35 - شرح إعراب سورة فاطر
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
[سورة فاطر (35): آية 1]
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
} {الْحَمْدُ لِلََّهِ فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ جََاعِلِ الْمَلاََئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى ََ وَثُلاََثَ وَرُبََاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مََا يَشََاءُ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
{الْحَمْدُ لِلََّهِ فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو النصب على المدح، وحكى سيبويه (1): الحمد لله أهل الحمد، مثله، وكذا {جََاعِلِ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا} ولا يجوز فيه التنوين لأنه لما مضى {رُسُلًا} مفعول ثان، ويقال: على إضمار فاعل لأن «فاعلا» إذا كان لما مضى مضافا لم يعمل شيئا {أُولِي أَجْنِحَةٍ} نعت، قال أبو إسحاق: أي أصحاب أجنحة {مَثْنى ََ وَثُلََاثَ وَرُبََاعَ} لم ينصرف لأن فيها علّتين: إحداهما أنها معدولة فهذا اتّفاق، واختلف في الثانية لأن النحويين القدماء لم يذكروها. قال أبو إسحاق: العلّة الثانية أنّه عدل في حال نكرة وقال غيره: العلّة الثانية أنه صفة، وقول ثالث إنه معدول عن اثنين اثنين فهذه علّة ثانية.
[سورة فاطر (35): آية 2]
{مََا يَفْتَحِ اللََّهُ لِلنََّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاََ مُمْسِكَ لَهََا وَمََا يُمْسِكْ فَلاََ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}
وأجاز النحويون (2) في غير القرآن: فلا ممسك له، على لفظ «ما» «ولها» على المعنى وأجازوا: {وَمََا يُمْسِكْ} فلا مرسل لها على معنى «ما»، وأجازوا: فلا ممسك لها، يكون بمعنى ليس وكذا «فلا مرسل له» وأجازوا: «ما يفتح الله للناس من رحمة» تكون «ما» بمعنى الذي.
[سورة فاطر (35): آية 3]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لاََ إِلََهَ إِلاََّ هُوَ فَأَنََّى تُؤْفَكُونَ (3)}
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 57.
(2) انظر معاني الفراء 2/ 66.(3/244)
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خََالِقٍ غَيْرُ اللََّهِ} هذه قراءة شيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم، وقرأ شقيق بن سلمة ويزيد بن القعقاع ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي هل من خالق غير الله (1) ويجوز نصب غير على الاستثناء. والرفع من جهتين:
إحداهما بمعنى: هل من خالق إلّا الله بمعنى ما خالق إلّا الله، والوجه الثاني أن يكون نعتا على الموضع، لأن المعنى هو خالق غير الله. والخفض على اللفظ، وقال حماد ابن سلمة: حدّثنا حميد الطويل قال: قلت للحسن: من خلق الشرّ؟ فقال: سبحان الله، هل من خالق غير الله جلّ وعزّ الله خلق الخير والشرّ.
[سورة فاطر (35): آية 4]
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تأسيا له صلّى الله عليه وسلّم. {وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قال أبو إسحاق: أي الأمور مرجعها إلى الله جلّ وعزّ فيجازي من كذّب وينصر من كذّب من رسله.
[سورة فاطر (35): آية 5]
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَلاََ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَلاََ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ (5)}
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ فَلََا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشغل الإنسان بنعيمها وفتنتها عن عمل الآخرة حتى {يَقُولُ يََا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيََاتِي} [الفجر: 24] {وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ}. وقال شعبة عن سماك {وَلََا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللََّهِ الْغَرُورُ} (2) بضم الغين. وفيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون مع غار، كما تقول جالس وجلوس، وهذا أحسن ما قيل فيه، ويكون معناه كمعنى «الغرور»، قال أبو حاتم:
الغرور جمع غر، وغر مصدر، والقول الثالث يكون الغرور مصدرا، وهذا بعيد عند أبي إسحاق لأن غررته متعد، والمصدر من المتعدّي إنّما هو على فعل نحو ضربته ضربا إلّا أشياء يسيرة سمعت لا يقاس عليها قالوا: لزمته لزما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى هذا الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله جلّ وعزّ أن يكون الإنسان يعمل المعاصي ثم يتمنّى على الله جلّ وعزّ المغفرة.
[سورة فاطر (35): آية 6]
{إِنَّ الشَّيْطََانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمََا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحََابِ السَّعِيرِ (6)}
{إِنَّ الشَّيْطََانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} ويكون عدوّ بمعنى معاد فيثنّى ويجمع ويؤنث، ويكون بمعنى النسب فيكون موحّدا بكلّ حال كما قال جلّ وعزّ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:
77] وفي المؤنث على هذا عدوّ أيضا. فأما قول بعض النحويين: إن الواو خفيّة فجاؤوا بالهاء فخطأ بل الواو حرف جلد. {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} مفعولان. {إِنَّمََا يَدْعُوا حِزْبَهُ}
__________
(1) انظر تيسير الداني 148، وفيه (غير الله) بخفض الراء قراءة حمزة والكسائي والباقون برفعها.
(2) انظر مختصر ابن خالويه 122.(3/245)
كفّت «ما» «إنّ» عن العمل فوقع بعدها الفعل {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحََابِ السَّعِيرِ}
[سورة فاطر (35): آية 7]
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
{الَّذِينَ كَفَرُوا} يكون بدلا من «أصحاب» ويكون في موضع خفض، ويكون بدلا من حزبه فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فيكون في موضع رفع، وقول رابع، وهو أحسنها، يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره {لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ}. فأما {وَالَّذِينَ آمَنُوا} ففي موضع رفع بالابتداء وخبره {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
[سورة فاطر (35): آية 8]
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللََّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشََاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشََاءُ فَلاََ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ بِمََا يَصْنَعُونَ (8)}
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} «من» في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف لما دلّ عليه. قال الكسائي: والذي دلّ عليه. {فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرََاتٍ} والمعنى: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات، قال: وهذا كلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلّا قليل. والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره فمن الدلالة على المحذوف، والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شدّة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال جلّ وعزّ {لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ} * [الشعراء: 3] قال أهل التفسير: أي: قاتل نفسك، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا نصر بن علي قال: سألت الأصمعي عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في أهل اليمن «هم أرقّ قلوبا وأبخع طاعة» (1) ما معنى أبخع طاعة، قال أنصح طاعة قال: فقلت له: إنّ أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون: في قول الله جلّ وعزّ {لَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ} * معناه قاتل نفسك فقال: هو من ذلك بعينه كأنه من شدّة النصح لهم قاتل نفسه، وقراءة أبي جعفر {فَلََا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} (2) والمعنيان متقاربان و «حسرات» منصوب على أنه مفعول من أجله أو مصدر.
[سورة فاطر (35): آية 9]
{وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا كَذََلِكَ النُّشُورُ (9)}
و {بَلَدٍ مَيِّتٍ} وميّت (3) واحد، وكذا ميتة وميتة واحد. هذا قول الحذّاق من النحويين، وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين ولم يستثن أحدا واستدلّ على ذلك بدلائل قاطعة من كلام العرب.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب 10/ 286.
(2) انظر البحر المحيط 7/ 288، ومعاني الفراء 2/ 367.
(3) انظر تيسير الداني 73.(3/246)
وأنشد (1): [الخفيف] 352 ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء
إنّما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرّخاء
ويروى «قليل الرّجاء» قال: فهل ترى بين ميت وميت من فرق؟ وأنشد: [البسيط] 353 هينون لينون أيسار بنو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار (2)
قال: قد أجمعوا على أنّ قوله: هينون وهيّنون واحد، فكذا ميت وميّت وسيد وسيّد، قال: وزعم سيبويه أن قولهم كان كينونة وصار صيرورة الأصل فيه كينونة وصيرورة، وكذا قيدودة، وردّ محمد بن يزيد (3) على الكوفيين قولهم: إنه فعلول من جهتين: إحداهما لأنه ليس في كلام العرب فعلول والثانية أنه لو كان كما قالوا لكان بالواو. قال أبو جعفر: هذا كلام بيّن حسن في كينونة لأنها من الكون وفي القيدودة لأنها من الأقود. {كَذََلِكَ النُّشُورُ} أي كذلك تحيون بعد ما متّم. من نشر الإنسان نشورا إذا حيي وأنشره الله جلّ وعزّ.
[سورة فاطر (35): آية 10]
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلََّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئََاتِ لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولََئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
{مَنْ كََانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزّة، وكذا قال غيره من أهل العلم من كان يريد علم العزّة التي لا ذلة معها لأن العزّة إذا كانت تؤدّي إلى ذلّة فإنها هي تعرّض للذلة، والعزّة التي لا ذلّة معها لله جلّ وعزّ. {جَمِيعاً} على الحال. وقدر أبو إسحاق معناه: من كان يريد بعبادة الله جلّ وعزّ العزّة به فإن الله يعزّه في الآخرة والدنيا. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} تمّ الكلام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إليه يصعد الكلام (4) والكلم جمع كلمة. وأهل التفسير ابن عباس ومجاهد والربيع ابن أنس وشهر بن حوشب وغيرهم قالوا: والمعنى العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب.
وهذا رد على المرجئة. {وَالْعَمَلُ الصََّالِحُ} رفع بالابتداء أو على إضمار فعل. فأما أن يكون مرفوعا بمعنى ويرفعه العمل الصالح فخطأ لأن الفاعل إذا كان قبل الفعل لم يرتفع بالفعل. هذا قول جميع النحويين إلّا شيئا حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن
__________
(1) الشعر لعدي بن الرعلاء في تاج العروس (موت)، ولسان العرب (موت)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 14/ 343وتاج العروس (حيي)، والتنبيه والإيضاح 1/ 173.
(2) الشاهد لعبيد بن العرندس الكلابي في الكامل 72، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 265، والخصائص 2/ 289، والمنصف 3/ 61.
(3) انظر المقتضب 3/ 135.
(4) انظر معاني الفراء 2/ 367، والبحر المحيط 7/ 290.(3/247)
يحيى أنه أجاز: زيد قام بمعنى قام زيد. قال أبو جعفر: ويبيّن لك فساد هذا قول العرب: الزيدان قاما، ولو كان كما قال لقيل: الزيدان قام. {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئََاتِ} بمعنى والذين يعملون السيئات فتكون السيئات مفعولة، ويجوز أن يكون التقدير والذين يسيئون فيكون السيئات مصدرا {لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ} خبر «الذين. {وَمَكْرُ أُولََئِكَ} مبتدأ، وهو ابتداء ثان و {يَبُورُ} خبر الثاني، ويجوز أن يكون خبرا عن الأول، ويكون هذا زائدة. وتقول: بار يبور إذا هلك ومنه بارت السوق، ونعوذ بالله جلّ وعزّ بوار الأيّم.
[سورة فاطر (35): آية 11]
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوََاجاً وَمََا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ََ وَلاََ تَضَعُ إِلاََّ بِعِلْمِهِ وَمََا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاََ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاََّ فِي كِتََابٍ إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ (11)}
{وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرََابٍ} قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم والتقدير على هذا خلق أصلكم من تراب. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوََاجاً} قال: أي زوّج بعضكم بعضا. {وَمََا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلََا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلََّا فِي كِتََابٍ}. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن حمد قال: حدّثنا ابن عوانة عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وما يعمّر من معمّر إلّا كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهرا؟ كم هو يوما؟ وكم هو ساعة؟ ثم يكتب عند عمره نقص كذا نقص كذا حتى يوافق النقصان العمر. ومذهب الفراء في معنى {وَمََا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي ما يطوّل من عمره وما ينقص من عمره يعني آخر أي ولا ينقص الآخر من عمر ذاك {إِلََّا فِي كِتََابٍ إِنَّ ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ} والفعل منه يسر، ولو سمّيت به إنسانا انصرف لأنه فعيل.
[سورة فاطر (35): الآيات 12الى 13]
{وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوََاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مََا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}
{وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ} روى ابن عباس قال: فرات حلو، وأجاج:
مالح مرّ. وقرأ طلحة {وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} (1) بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف، وأما المالح فهو الذي يجعل الملح لإصلاح الشيء. {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا} لا اختلاف في هذا أنّه منهما جميعا. {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا} مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح فقيل: منهما لأنهما مختلطان، وقال غيره: إنما تستخرج
__________
(1) انظر البحر المحيط 7/ 291، والمحتسب 2/ 199.(3/248)