مقدمة
يحاول الفارابي (339259هـ) (950870م) في هذا الكتاب أن يحصي العلوم المعروفة في عصره ومجتمعه، أي في القرن العاشر للميلاد، وفي العصر العباسي الثاني، عند ما بلغت الحضارة العربية أوج نضجها وازدهارها، وبدأت تؤتي ثمارها الشهية. في القرنين السابقين ترجمت الكتب العلمية والفلسفية إلى اللغة العربية، عن اليونانية والسريانية والفارسية والهندية، وسميت العلوم التي ترجمت بالعلوم الدخيلة لأن العرب لم يعرفوها من قبل، وهي علوم الهندسة والحساب والفلك والموسيقى والطبيعة والطب والفلسفة والمنطق. وأسست العلوم العربية الأصيلة وهي علوم اللغة من نحو ومعجم وقراءة وخط وبلاغة، وعلوم الدين من تفسير وكلام وفقه وتصوف.
وسرعان ما شرع العرب في تصنيف الكتب في مختلف العلوم الدخيلة والأصيلة في القرن التاسع للميلاد، فلما جاء القرن العاشر ألفى الفارابي بين يديه المؤلفات المتنوعة والعديدة العلمية والفلسفية والفنية. وربما كان هذا هو الدافع الأبرز الذي حفزه على تأليف كتاب
«إحصاء العلوم». فالإحصاء يقتضي وجود موضوعه، وتنوعه، وكثرته وثرائه، لأن ما هو قليل ومحصور لا يتطلب عملية الإحصاء.(1/5)
وسرعان ما شرع العرب في تصنيف الكتب في مختلف العلوم الدخيلة والأصيلة في القرن التاسع للميلاد، فلما جاء القرن العاشر ألفى الفارابي بين يديه المؤلفات المتنوعة والعديدة العلمية والفلسفية والفنية. وربما كان هذا هو الدافع الأبرز الذي حفزه على تأليف كتاب
«إحصاء العلوم». فالإحصاء يقتضي وجود موضوعه، وتنوعه، وكثرته وثرائه، لأن ما هو قليل ومحصور لا يتطلب عملية الإحصاء.
والفارابي لم يحص جميع الكتب التي كانت رائجة في عصره وإنما اكتفى بتعداد العلوم والتعريف بها تعريفا مقتضبا. والرجل الذي اضطلع بهذه المهمة الصعبة والرائدة والأكثر نفعا هو ابن النديم (ت 385هـ) الذي عاصر الفارابي وألف كتابه الشهير المعروف ب «الفهرست». وفي هذا الكتاب نجد تعدادا للعلوم وتعريفا بها كما هو الحال في كتاب الفارابي، ونجد على ذلك إحصاء للكتب المصنفة في كل علم من العلوم. ولا ندري إذا كان الفارابي اطلع على كتاب الفهرست لابن النديم وأفاد منه، لأنه لم يشر إليه من قريب أو بعيد.
وثمة سبب آخر حفز الفارابي على تأليف كتابه هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي تأثر به شديد التأثر، وحاز على إعجابه، واقتفى أثره في معظم آرائه الفلسفية. لقد اهتم أرسطو بتصنيف العلوم فقسمها إلى نظرية وعملية، وقسم النظرية إلى ثلاثة هي الطبيعة والرياضة والإلهيات. وقسم العملية إلى ثلاثة علوم أيضا هي علم الأخلاق، وعلم السياسة المدنية، والفن.
والفرق بين أرسطو والفارابي هو أن الأول وضع أسسا لتصنيف العلوم لم يبن عليها الفارابي إحصاءه. لقد قال أرسطو إنّ الفرق بين النظري والعملي هو أن النظري يعلم فقط، أما العملي فيعلم ويعمل به. وقال إن الفرق بين علم الطبيعة والرياضة والعلم الإلهي يرجع إلى الموضوع، فموضوع العلم الطبيعي الجوهر المحسوس المتحرك،
وموضوع علم الرياضة الجوهر المحسوس غير المتحرك، وموضوع العلم الإلهي الجوهر اللامحسوس واللامتحرك. وفرق بين علم الأخلاق وعلم السياسة المدنية والفن في أن الأول يهتم بسلوك الفرد، والثاني بسلوك الجماعة في المدينة، والثالث يتناول الإنتاج الخيالي واليدوي.(1/6)
والفرق بين أرسطو والفارابي هو أن الأول وضع أسسا لتصنيف العلوم لم يبن عليها الفارابي إحصاءه. لقد قال أرسطو إنّ الفرق بين النظري والعملي هو أن النظري يعلم فقط، أما العملي فيعلم ويعمل به. وقال إن الفرق بين علم الطبيعة والرياضة والعلم الإلهي يرجع إلى الموضوع، فموضوع العلم الطبيعي الجوهر المحسوس المتحرك،
وموضوع علم الرياضة الجوهر المحسوس غير المتحرك، وموضوع العلم الإلهي الجوهر اللامحسوس واللامتحرك. وفرق بين علم الأخلاق وعلم السياسة المدنية والفن في أن الأول يهتم بسلوك الفرد، والثاني بسلوك الجماعة في المدينة، والثالث يتناول الإنتاج الخيالي واليدوي.
وربما قلل من إمكان توجيه اللوم للفارابي على إهماله وضع أسس لتصنيف العلوم اعتباره مؤلفه «إحصاء» للعلوم.
وهناك فرق آخر بين الفارابي وأرسطو هو أن الفيلسوف اليوناني لم يجعل المنطق أحد العلوم، وإنما اعتبره آلة العلوم. أما الفارابي فقد أحصاه في جملة العلوم. والاسم الذي أطلقه أرسطو على المنطق يدل على أنه آلة العلم وليس العلم ذاته، ذلك الاسم هو أي الآلة.
ومهما كانت الأسباب التي حملت أبا نصر على وضع كتابه هذا، فقد أولى موضوع تصنيف العلوم اهتماما كبيرا. لقد عالج هذه المسألة في كتب أخرى عدا الكتاب الذي بين أيدينا، منها كتاب «تحصيل السعادة» وكتاب «التنبيه على سبيل السعادة». ونحن نراه هناك يذكر معظم العلوم التي أحصاها هنا، ويعرف بها ويحدد موضوعاتها ويبرز أهميتها. ولكن الغاية من ذكر العلوم هنا تختلف عن الغاية من ذكرها هناك. إن غايته هنا ليست سوى الإحصاء والإحاطة بوجود هذه العلوم وموضوعاتها. أما الغاية هناك فهي التأكيد على أن هذه العلوم هي سبب السعادة الحقة، وبكلمة أخرى إن من ينشد السعادة عليه تحصيل هذه العلوم. وهو في مذهبه هذا يردد رأي أرسطو القائل إن أقصى الخيرات السعادة، والسعادة هي المعرفة العقلية الفلسفية التي توفر للمرء أسمى أنواع اللذة.
ونحن نستطيع معرفة غرض الفارابي من تأليف كتابه «إحصاء العلوم» من التوطئة التي مهد بها لبحثه. لقد افتتحه بقوله: «قصدنا في الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف مجمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وإجزاء ما له أجزاء منها».(1/7)
ومهما كانت الأسباب التي حملت أبا نصر على وضع كتابه هذا، فقد أولى موضوع تصنيف العلوم اهتماما كبيرا. لقد عالج هذه المسألة في كتب أخرى عدا الكتاب الذي بين أيدينا، منها كتاب «تحصيل السعادة» وكتاب «التنبيه على سبيل السعادة». ونحن نراه هناك يذكر معظم العلوم التي أحصاها هنا، ويعرف بها ويحدد موضوعاتها ويبرز أهميتها. ولكن الغاية من ذكر العلوم هنا تختلف عن الغاية من ذكرها هناك. إن غايته هنا ليست سوى الإحصاء والإحاطة بوجود هذه العلوم وموضوعاتها. أما الغاية هناك فهي التأكيد على أن هذه العلوم هي سبب السعادة الحقة، وبكلمة أخرى إن من ينشد السعادة عليه تحصيل هذه العلوم. وهو في مذهبه هذا يردد رأي أرسطو القائل إن أقصى الخيرات السعادة، والسعادة هي المعرفة العقلية الفلسفية التي توفر للمرء أسمى أنواع اللذة.
ونحن نستطيع معرفة غرض الفارابي من تأليف كتابه «إحصاء العلوم» من التوطئة التي مهد بها لبحثه. لقد افتتحه بقوله: «قصدنا في الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف مجمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وإجزاء ما له أجزاء منها».
ثم نراه يعدد المنافع التي نحصل عليها من الكتاب وهي ترجع إلى ثلاث: الأولى تبصرة من يريد أن يتعلم علما من هذه العلوم فيجد هذا العلم وموضوعاته. والثانية إكسابه القدرة على المقارنة بين هذه العلوم ليعلم أيها أفضل وأنفع وأوثق. والثالثة إكسابه القدرة على اختبار مدى إحاطة مدعي العلوم بها وتضلعهم منها.
فالكتاب إذن لا يطمح إلى أبعد من إعطاء القارئ فكرة عن مختلف العلوم المشهورة، تعينه على معرفة محتوياتها وقيمتها وفضيلتها والمنافع التي تقدمها.
ويتجلى انعدام أساس لتصنيف العلوم في تقسيم الكتاب إلى خمسة فصول: فصل يتحدث عن علم اللسان، وثان يتناول علم المنطق، وثالث يبحث في علوم التعاليم، ورابع يشتمل على العلم الطبيعي والعلم الالهي، وخامس يحشر فيه العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام. فما هو المسوغ لجمع العلم الطبيعي والعلم الإلهي في فصل واحد؟ وما هو المبرر لبحث العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام في فصل واحد؟
أما علم اللسان فيدرس ألفاظ اللغة وقوافيها. والألفاظ التي تتكون منها اللغة نوعان مفردة ومركبة. والمفردة هي التي تدل على
أعلام أو على أجناس وأنواع. والدالة على الأجناس والأنواع إما أسماء، وإما أفعال، وإما أدوات. إن الفارابي يتكلم على جميع اللغات، والعربية، على ما أعلم، لا تدل فيها الأفعال على الأجناس والأنواع، فهل ثمة لغات أخرى ينطبق عليها قول الفارابي؟(1/8)
أما علم اللسان فيدرس ألفاظ اللغة وقوافيها. والألفاظ التي تتكون منها اللغة نوعان مفردة ومركبة. والمفردة هي التي تدل على
أعلام أو على أجناس وأنواع. والدالة على الأجناس والأنواع إما أسماء، وإما أفعال، وإما أدوات. إن الفارابي يتكلم على جميع اللغات، والعربية، على ما أعلم، لا تدل فيها الأفعال على الأجناس والأنواع، فهل ثمة لغات أخرى ينطبق عليها قول الفارابي؟
وعلم اللسان عند جميع الأمم ينقسم إلى سبعة أجزاء عظمى هي:
أولا: علم الألفاظ المفردة ويعني به علم المعاجم.
ثانيا: علم الألفاظ المركبة ويعني به الكلام البليغ من شعر ونثر وخطابة.
ثالثا: علم قوانين الألفاظ المفردة ويعني به علم فقه اللغة.
رابعا: علم قوانين الألفاظ المركبة الذي يشتمل على علمي الصرف والنحو.
خامسا: علم قوانين الكتابة أو الخط.
سادسا: علم قوانين تصحيح القراءة.
سابعا: علم قوانين تصحيح الأشعار ويعني به علم العروض.
ويبدو من كلام الفارابي على اللغة أنه يلم بعدة لغات، ولا سيما العربية واليونانية، لأنه يلجأ مرات عدة إلى المقارنة بينهما.
بعد الفراغ من علم اللسان يشرع الفارابي بالكلام على علم المنطق. فيحده بقوله: «فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من
الخطأ والزلل والغلط في المعقولات، والقوانين التي يمتحن بها في المعقولات أشياء لا يمكن أن يكون قد غلط فيها غالط».(1/9)
بعد الفراغ من علم اللسان يشرع الفارابي بالكلام على علم المنطق. فيحده بقوله: «فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من
الخطأ والزلل والغلط في المعقولات، والقوانين التي يمتحن بها في المعقولات أشياء لا يمكن أن يكون قد غلط فيها غالط».
وهو يعتبر علم المنطق بالنسبة إلى المعقولات كعلم النحو بالنسبة إلى اللغة وألفاظها، وكعلم العروض بالنسبة إلى أوزان الشعر، وكالموازين والمكاييل والمساطر بالنسبة إلى الأجسام. وهو يعني بالمعقولات الأفكار التي ترد إلى الذهن. فعلم المنطق يقيس مدى صحة تلك الأفكار والآراء. وهذه هي فائدة علم المنطق الأساسية أننا به نصحح الأفكار التي عند غيرنا، والأفكار التي هي عندنا أيضا حسب تعبيره.
إن المنطق ضروري لتصحيح الأفكار أو لمعرفة مقدار صحتها كما أن الميزان ضروري لمعرفة مقادير الأثقال، ومن يزعم أنه فضل لا يحتاج إليه لأن الإنسان يمكن أن يفكر دون أن يتعلم المنطق، كقول من زعم أن النحو فضل لأنه قد يوجد في الناس من لا يلحن دون تعلم قواعد النحو.
ويجتهد الفارابي في عقد مقارنة بين المنطق والنحو على نحو ما فعل في كتاب «التنبيه على سبيل السعادة» وغيره. فيقول إن موضوع المنطق هو الأفكار والألفاظ من حيث دلالتها على تلك الأفكار، أما موضوع النحو فهو الألفاظ وقوانينها الخاصة بلغة من اللغات. فالمنطق والنحو يشتركان في تناول الألفاظ ويختلفان في أن المنطق يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها، بينما يعطي النحو قوانين تخص ألفاظ أمة ما.
والمنطق مشتق من النطق والنطق يقال على ثلاثة معان:(1/10)
ويجتهد الفارابي في عقد مقارنة بين المنطق والنحو على نحو ما فعل في كتاب «التنبيه على سبيل السعادة» وغيره. فيقول إن موضوع المنطق هو الأفكار والألفاظ من حيث دلالتها على تلك الأفكار، أما موضوع النحو فهو الألفاظ وقوانينها الخاصة بلغة من اللغات. فالمنطق والنحو يشتركان في تناول الألفاظ ويختلفان في أن المنطق يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها، بينما يعطي النحو قوانين تخص ألفاظ أمة ما.
والمنطق مشتق من النطق والنطق يقال على ثلاثة معان:
الأول: القول الخارج بالصوت.
والثاني: القول المركوز في النفس وهو المعقولات.
والثالث: القوة النفسانية المفطورة في الإنسان أي العقل.
وعلم المنطق يعطي القوانين التي تتناول الألفاظ الخارجة بالصوت والقوانين التي تخص المعقولات أو الأفكار المركوزة في النفس، وقوانين العقل. بينما يقتصر علم النحو على تناول الألفاظ الخارجة بالصوت.
ولذا يستحق أكثر من النحو حمل هذا الاسم.
وأجزاء علم المنطق ثمانية بنظر الفارابي هي المقولات والعبارة أو القضية، والقياس، والبرهان، والجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر. ويلاحظ أنه يذكر كل جزء ويشير إلى لفظه باللغة اليونانية، مما يدل على أنه يقتبس هذه المعلومات حول المنطق عن أورغانون أرسطو واضع هذا العلم، بيد أن الأورغانون لا يشتمل على الخطابة والشعر.
وفي الفصل الثالث يتناول الفارابي علم التعاليم، وهو يطلق الاسم على مجموعة من العلوم الرياضية والطبيعية. فمن العلوم الرياضية يذكر علمي العدد والهندسة، أما علم الجبر فيجعله فرعا من علم الحيل. ومن العلوم الطبيعية يذكر علم المناظر وعلم النجوم وعلم الأثقال وعلم الحيل. ثم إنه يجعل الموسيقى وهي فن جميل في عداد علم التعاليم.
وفي الفصل الرابع يبحث في العلم الطبيعي والعلم الإلهي.(1/11)
وفي الفصل الثالث يتناول الفارابي علم التعاليم، وهو يطلق الاسم على مجموعة من العلوم الرياضية والطبيعية. فمن العلوم الرياضية يذكر علمي العدد والهندسة، أما علم الجبر فيجعله فرعا من علم الحيل. ومن العلوم الطبيعية يذكر علم المناظر وعلم النجوم وعلم الأثقال وعلم الحيل. ثم إنه يجعل الموسيقى وهي فن جميل في عداد علم التعاليم.
وفي الفصل الرابع يبحث في العلم الطبيعي والعلم الإلهي.
ويعني بالعلم الطبيعي ذلك العلم الذي يدرس الأجسام الطبيعية المختلفة من جمادات ونباتات وحيوانات. وهي أجسام بسيطة أو مركبة.
ويفحص هذا العلم عن مبادئ هذه الأجسام وأعراضها، وعن وجود الأجسام البسيطة وعددها، وعن الأسطقسات الأربعة التي تتألف منها الأجسام المركبة، وعن كون الأجسام الطبيعية وفسادها، وعن الأجسام المركبة المشتركة الأجزاء، وعن النبات وهو أحد أنواع الأجسام المركبة المختلفة الأجزاء، وعن الحيوان وهو النوع الثاني من الأجسام المركبة المختلفة الأجزاء، وأنواعه.
أما العلم الإلهي فيفحص عن الموجودات التي ليست بأجسام ولا في أجسام، أي عن الموجودات المفارقة للمادة. ويثبت وجودها وكثرتها وتراتبها. وإذا كان لم يسمها في هذا الكتاب فإنه سماها في كتب أخرى مثل «آراء أهل المدينة الفاضلة» و «السياسة المدنية». إنها تشمل الله والعقول الثواني والعقل الفعال.
وعدا ذلك يفحص العلم الإلهي عن موضوعين آخرين هما الموجود بما هو موجود، أي الجوهر، ومبادئ العلوم النظرية الجزئية كالمنطق وعلم التعاليم والعلم الطبيعي.
أما الفصل الأخير فيخصصه للكلام على ثلاثة علوم هي العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام. ويعني بالعلم المدني علمي الأخلاق والسياسة. فعلم الأخلاق يهتم بتحديد الخير والشر والسعادة الحقة والمظنونة، والسبل إلى إدراكها. وعلم السياسة يهتم بمجتمع المدينة أو
الدولة، وكيف يتآلف، والآراء التي ينبغي أن يعتقدها أهل المدينة الفاضلة، والآراء الخاطئة التي يعتقدها أهل المدن الضالة والجاهلة، وصفات رئيس أهل المدينة الفاضلة الخ. وهو لم يفصل هذه المسائل في «إحصاء العلوم» واكتفى بذكر العناوين فقط، وترك التفصيل والشرح لكتابي «آراء أهل المدينة الفاضلة» و «السياسة المدنية». وعلم الفقه يقوم على استنباط الأحكام في الأمور التي لم ترد في الشرع من الأمور المصرح بها في الشرع، اعتمادا على العلة المشتركة بينهما.(1/12)
أما الفصل الأخير فيخصصه للكلام على ثلاثة علوم هي العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام. ويعني بالعلم المدني علمي الأخلاق والسياسة. فعلم الأخلاق يهتم بتحديد الخير والشر والسعادة الحقة والمظنونة، والسبل إلى إدراكها. وعلم السياسة يهتم بمجتمع المدينة أو
الدولة، وكيف يتآلف، والآراء التي ينبغي أن يعتقدها أهل المدينة الفاضلة، والآراء الخاطئة التي يعتقدها أهل المدن الضالة والجاهلة، وصفات رئيس أهل المدينة الفاضلة الخ. وهو لم يفصل هذه المسائل في «إحصاء العلوم» واكتفى بذكر العناوين فقط، وترك التفصيل والشرح لكتابي «آراء أهل المدينة الفاضلة» و «السياسة المدنية». وعلم الفقه يقوم على استنباط الأحكام في الأمور التي لم ترد في الشرع من الأمور المصرح بها في الشرع، اعتمادا على العلة المشتركة بينهما.
ويشتمل علم الفقه على جزء نظري وجزء عملي. ويعني بالجزء النظري الآراء المتعلقة بالله وصفاته وخلقه للعالم إلخ. ويعني بالجزء العملي العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة، والمعاملات كعقود الزواج والبيع، والإرث والهبة إلخ
ويختم الكتاب بتحديد علم الكلام بأنه «صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل». وهذا التحديد هو الذي تبناه تقريبا ابن خلدون بعد نحو أربع مائة سنة من الزمان عند ما قال إن علم الكلام هو الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية وتزييف الأقاويل المخالفة.
ويفرق بين علم الكلام وعلم الفقه في موقفهما من نصوص الشريعة. فعلم الكلام ينصر أصول الشريعة من غير أن يستنبط منها أشياء أخر، بينما يستنبط علم الفقه من الآراء والأفعال الواردة في الشرع الأشياء اللازمة عنها.
ويقوم علم الكلام على مبادئ أهمها القول إن الشريعة أسرار إلهية تضعف عن إدراكها العقول البشرية، ولا تقوى على بلوغها، ولذا مست الحاجة إلى الرسل والأنبياء والوحي، ثم القول إن تلك الآراء صحيحة لا كذب فيها، والدليل على ذلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء وشهادة المتقدمين الذين عاصروا الأنبياء ثم اللجوء إلى التأويل عند تناقض أحكام الشريعة مع المحسوسات والمشهورات والمعقولات ثم إظهار تهافت العقائد الأخرى المخالفة للشريعة وتقبيحها ثم اللجوء إلى العنف لإسكات الخصوم إذا لم يجد الكلام والحجاج.(1/13)
ويفرق بين علم الكلام وعلم الفقه في موقفهما من نصوص الشريعة. فعلم الكلام ينصر أصول الشريعة من غير أن يستنبط منها أشياء أخر، بينما يستنبط علم الفقه من الآراء والأفعال الواردة في الشرع الأشياء اللازمة عنها.
ويقوم علم الكلام على مبادئ أهمها القول إن الشريعة أسرار إلهية تضعف عن إدراكها العقول البشرية، ولا تقوى على بلوغها، ولذا مست الحاجة إلى الرسل والأنبياء والوحي، ثم القول إن تلك الآراء صحيحة لا كذب فيها، والدليل على ذلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء وشهادة المتقدمين الذين عاصروا الأنبياء ثم اللجوء إلى التأويل عند تناقض أحكام الشريعة مع المحسوسات والمشهورات والمعقولات ثم إظهار تهافت العقائد الأخرى المخالفة للشريعة وتقبيحها ثم اللجوء إلى العنف لإسكات الخصوم إذا لم يجد الكلام والحجاج.
وأخيرا لا بد لنا من الاعتراف بأننا لم نحقق هذا الكتاب لأن هذه المهمة كفانا مؤونتها باحثون عديدون نشروا الكتاب وطبعوه منذ مائة عام ونيف. وأهم الطبعات: طبعة استانبول سنة 1880م، وطبعة القاهرة عام 1931، وطبعة مدريد سنة 1932، وطبعة كلاسكو عام 1960.
وأهم المخطوطات مخطوطة النجف / السيد عبد العزيز النجفي، ودار الكتب 264، ودائرة الهند 3832 ... والاسكوريال 646وبرنستون / يهودا 308.
بيروت في 7/ 10/ 1994.
د. علي بو ملحم
بسم الله الرحمن الرحيم(1/14)
د. علي بو ملحم
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
كتاب أبي نصر محمد بن محمد الفارابي في مراتب العلوم قال (1): قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل (2) ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه. ونجمله خمسة فصول:
الأول في علم اللسان (3) وأجزائه.
والثاني في علم المنطق وأجزائه.
والثالث في علوم التعاليم. وهي: العدد، والهندسة، وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمي، وعلم الموسيقى، وعلم الأثقال، وعلوم الحيل.
__________
(1) هذه العبارة ليست للفارابي، إنها على الأرجح من عمل الناسخ.
(2) جمل: جمع جملة، وهي جماعة الشيء. وجمل ما يشتمل عليه الكتاب:
جمعه.
(3) اللسان: اللغة. ولسان العرب: لغة العرب. وسميت بذلك لأن اللسان، وهو عضو من أعضاء الجسم، أهم الأعضاء التي تشترك في النطق. وسائر الأعضاء هي الرئتان والحنجرة والأسنان والشفتان والأنف والدماغ.(1/15)
والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه.
والخامس في العلم المدني وأجزائه، وفي علم الفقه، وعلم الكلام. وينتفع بما في هذا الكتاب الإنسان إذا أراد أن يتعلم علما من هذه العلوم وينظر فيه، علم على ماذا يقدم، وفي ماذا ينظر، وأي شيء سيفيده نظره، وما غناء ذلك، وأية فضيلة تنال به، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة، لا على عمى وغرر.
وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقيس (1) بين العلوم، فيعلم أيها الأفضل، وأيها أنفع، وأيها أتقن وأوثق وأقوى، وأيها أوهن وأوهى وأضعف.
وينتفع به أيضا في تكشّف من ادعى البصر (2) بعلم من هذه العلوم ولم يكن كذلك: فإنه إذا طولب بالإخبار عن جملة ما فيه، وبإحصاء أجزائه وبجمل ما في كل جزء منه، فلم يطّلع بين كذب دعواه وتكشف تمويهه.
ويتبين أيضا فيمن يحسن علما منها هل يحسن جميعه، أو بعض أجزائه، وكم مقدار ما يحسنه.
وينتفع به المتأدب المتفنن الذي قصده أن يشدو (3) جمل ما في كل علم، ومن أحب التشبه بأهل العلم، ليظن أنه منهم.
__________
(1) يقيس بين العلوم: يقارن بينها ويقابلها ليعرف أيها أفضل.
(2) البصر: المعرفة، والعلم بالشيء.
(3) يشدو: من شدا شدوا، أي جمع قطعة من الإبل وساقها، ويقال لمن أخذ طرفا من العلم أو الأدب واستدل به على البعض الآخر، إنه يشدو. ويقال: شدا من العلم شيئا: أخذ فهو شاد ج شداة وشادون. والشدو: القليل من كل شيء.(1/16)
الفصل الأول في علم اللسان
علم اللسان
علم اللسان في الجملة ضربان:
أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما، وعلم ما يدل عليه شيء شيء منها.
والثاني علم قوانين تلك الألفاظ.
والقوانين (1) في كل صناعة: أقاويل كلية، أي جامعة.
ينحصر في كل واحد منها أشياء كثيرة مما تشتمل عليه تلك الصناعة، حتى يأتي على جميع الأشياء التي هي موضوعة للصناعة أو على أكثرها.
وتكون معدة إما ليحاط بها ما هو من تلك الصناعة، لئلا يدخل فيها ما ليس منها، أو يشذ منها ما هو منها وإما ليمتحن بها ما لا يؤمن أن يكون قد غلط فيها غالط.
وإما ليسهل بها تعلم ما تحتوي عليه الصناعة وحفظها.
__________
(1) القانون: جمعه قوانين، قول كلي جامع ينطبق على حالات مفردة كثيرة.(1/17)
والأشياء المفردة الكثيرة إنما تصير صنائع بأن تحصر في قوانين تحصل في نفس الإنسان على ترتيب معلوم. وذلك مثل الكتابة والطب والفلاحة والنجارة وغيرها من الصنائع كانت عملية أو نظرية.
وكل قول كان قانونا في صناعة ما، فإنه معد بما هو قانون لأحد ما ذكرنا أو لجميعه.
فلذلك كان القدماء يسمون كل آلة عملت لامتحان ما عسى أن يكون الحس قد غلط فيه من كمية جسم، أو كيفيته، أو غير ذلك مثل الشاقول، والبركار، والمسطرة، والموازين قوانين (1).
ويسمون أيضا جوامع الحساب، وجداول النجوم قوانين (2).
والكتب المختصرة التي جعلت تذاكير الكتب الطويلة قوانين، إذا كانت أشياء قليلة العدد تحصر أشياء كثيرة، ويكون تعلمنا لها وحفظنا إياها وهي قليلة العدد قد علمنا أشياء كثيرة العدد:
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول:
إن الألفاظ الدالة في لسان كل أمة ضربان: مفردة، ومركبة.
فأما المفردة: كالبياض، والسواد، والإنسان، والحيوان.
والمركبة: كقولنا الإنسان حيوان، وعمرو أبيض (3).
__________
(1) القانون: آلة لقياس الأشياء مثل الميزان والمسطرة والشاقول.
(2) القانون: قواعد العلم مثل جوامع الحساب، وجداول النجوم. هذه هي المعاني التي أعطاها الفارابي لكلمة قانون. أما المعجم فيقول إن القانون يعني الأصل، ومقياس كل شيء، وإحدى آلات الطرب، ومجموعة الشرائع والنظم التي تنظم علاقات المجتمع.
(3) يستعمل الفارابي المصطلح الفلسفي، لا اللغوي. وهو يعني بالألفاظ المركبة الجملة، أو الكلام المركب من عدة ألفاظ.(1/18)
فالمفردة: منها ما هي ألقاب أعيان (1)، مثل زيد وعمرو، ومنها ما يدل على أجناس الأشياء وأنواعها، مثل الإنسان، والفرس، والحيوان، والبياض، والسواد (2).
والمفردة الدالة على الأجناس والأنواع: منها أسماء، ومنها كلم (3)، ومنها أدوات.
ويلحق الأسماء والكلم، التذكير والتأنيث، والتوحيد والتثنية والجمع، ويلحق الكلم خاصة الأزمان، وهي الماضي والحاضر والمستقبل.
وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى:
علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عند ما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عند ما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين تصحيح الأشعار.
فعلم الألفاظ المفردة الدالة: يحتوي على علم ما يدل عليه لفظة لفظة من الألفاظ المفردة الدالة على أجناس الأشياء، وأنواعها،
__________
(1) ألقاب أعيان: أسماء علم.
(2) النوع، في علم المنطق، معنى كلي ينطبق على أفراد كثيرين، مثل إنسان، فرس، والجنس معنى كلي يضم عدة أنواع مثل الحيوان. وهما اثنان من الكليات الخمس. أما في علم اللغة فلا يوجد سوى اسم جنس واسم علم.
واسم الجنس هو اسم كل ما ليس علما.
(3) يعني بالكلم الأفعال. وقوله: إن الألفاظ المفردة الدالة على الأجناس والأنواع منها أسماء ومنها كلم أو أفعال ومنها أدوات، غير دقيق. لأن الأفعال لا تدل على الأجناس والأنواع.(1/19)
وحفظها، وروايتها كلها: الخاص بذلك اللسان، والدخيل فيه، والغريب منه، والمشهور عند جميعهم (1).
وعلم المركبة: هو علم الأقاويل التي تصادف مركبة عند تلك الأمة وهي التي صنفها خطباؤهم وشعراؤهم، ونطق بها بلغاؤهم وفصحاؤهم المشهورون عندهم، وروايتها، وحفظها، طوالا كانت أو قصارا، موزونة كانت أو غير موزونة (2).
علم قوانين الألفاظ المفردة
وعلم قوانين الألفاظ المفردة (3): يفحص أولا في الحروب المعجمة عن عددها، ومن أين خرج كل واحد منها في آلات التصويت. وعن المصوّت منها وغير المصوت، وعما يتركب منها في ذلك اللسان، وعما لا يتركب، وعن أقل ما يتركب منها حتى حدث عنها لفظة دالة، وكم أكثر ما يتركب، وعن الحروف الذاتية التي لا تتبدل في بنية اللفظ عند لواحق الألفاظ من تثنية وجمع، وتذكير وتأنيث، واشتقاق، وغير ذلك. وعن الحروف التي بها تقاس الألفاظ عند اللواحق، وعن الحروف التي تندغم عند ما تتلاقى.
__________
(1) هذا هو علم المعاجم اللغوية. وهذا العلم أسسه الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عاش قبل الفارابي بقرنين من الزمان، أي في القرن الثاني للهجرة.
(2) هذا هو علم الأدب الذي ينقسم إلى فنين رئيسين هما الشعر والنثر. ونجد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ مختارات من النثر والشعر في غاية البلاغة والجمال.
(3) العلم الذي يدرس قوانين الألفاظ المفردة يدعى «فقه اللغة» وهو يدرس حروف اللغة وأصواتها، والاشتقاق وقوانينه، وأنواع الجمل، والتغيير الذي يطرأ على الألفاظ وأسبابه.(1/20)
ثم من بعد هذا يعطي قوانين أمثلة الألفاظ المفردة، ويميز بين الحالات الأولى التي ليست هي مشتقة عن شيء، وبين ما هي مشتقة، ويعطي أمثلة أصناف الألفاظ المشتقة، ويميز بين الحالات الأولى وبين ما هي منها مصادر، وهي التي منها يعلم الكلم عما ليس بمصدر وكيف تغير المصادر حتى تصير كلما ويعطي أصناف أمثلة الكلم، وكيف يعدل بالكلم حتى تصير أمرا ونهيا، وما جانس ذلك في أصناف كميتها، وهي الثلاثية والرباعية، وما هو أكثر منها، والمضاعف عنها وغير المضاعف وفي كيفيتها، وهي الصحيح منها والمعتل، ويعرف كيف يكون ذلك عند التذكير والتأنيث، والتثنية والجمع، وفي وجوه الكلم، وفي أزمانها جميعا. والوجوه هي: أنا وأنت، وذاك، وهو، ثم يفحص عن الألفاظ التي عسر النطق بها أول ما وضعت، فغيرت حتى سهل النطق بها.
علم قوانين الألفاظ المركبة
وعلم قوانين الألفاظ عند ما تتركب (1) ضربان:
أحدهما يعطي قوانين أطراف الأسماء والكلم عند ما تركب أو ترتب.
__________
(1) يعني بعلم قوانين الألفاظ المركبة: علوم الصرف والنحو والبيان. وعلم النحو يدعوه الفارابي علم قوانين الأطراف: والأطراف أو أواخر الكلمات والأسماء يطرأ عليها تغيرات تدعى الإعراب من نصب ورفع وخفض وجزم وقد تكون ثابتة أو مبنية، فلا يطرأ عليها تغيير. والتغيير، تغيير الأطراف يطرأ على الأسماء والكلم أو الأفعال، أما الأدوات أو الحروف فلا تتغير.(1/21)
والثاني يعطي قوانين في أحوال التركيب والترتيب نفسه، كيف هي في ذلك اللسان، وعلم قوانين الأطراف المخصوص بعلم النحو، فهو يعرّف أن الاطراف إنما تكون أولا للأسماء، ثم الكلم، وأن أطراف الأسماء منها ما يكون في أوائلها، مثل ألف لام التعريف في العربية، أو ما قام مقامها في سائر الألسنة، ومنها ما يكون في نهاياتها وهي الأطراف الأخيرة، وتلك هي التي تسمى حروف الإعراب. وأن الكلم ليس لها أطراف أول، وإنما لها أطراف أخيرة. والأطراف الأخيرة للأسماء والكلم هي في العربية: مثل التنوينات الثلاث، والحركات الثلاث، والجزم، وشيء آخر إن كان يستعمل في اللسان العربي طرفا، ويعرف أن من الألفاظ ما لا ينصرف من الأطراف كلها، بل إنما هو مبني على طرف واحد فقط في جميع الأحوال التي ينصرف فيها غيره من الألفاظ، ومنها ما لا ينصرف في بعضها دون بعض، ومنها ما ينصرف في جميعها ويحصي الأطراف كلها ويميز أطراف الأسماء من أطراف الكلم، ويحصي جميع الأحوال التي ينصرف فيها الكلم.
ثم يعرف في أي حال تلحق كل واحد أي طرف، فيأتي أولا على أخصها حال حال من أحوال الأسماء الموجودة المنصرفة التي يلحقها في كل حال طرف ما من أطراف الأسماء، ثم يعطي مثل ذلك في الأسماء المثناة والمجموعة ثم يعطي مثل ذلك في الكلم الموجودة في المثناة والمجموعة، إلى أن يستوعب الأحوال في التي يتبدل فيها على الكلم أطرافها التي حصلت لها، ثم يعرف الأسماء التي تنصرف في بعض الأطراف، وفي أنها تنصرف، وفي أنها لا تنصرف، ثم يعرف الأسماء التي كل واحد منها مبني على طرف واحد، وأنه مبني على أي طرف.
وأما الأدوات: فإن كانت عادتهم أن تكون كل واحدة منها مبنية على طرف واحد، أو كان بعضها على واحد فقط، وبعضها ينصرف في شيء من الأطراف، عرف كل ذلك. فإن كانت قد توجد لهم ألفاظ شك في أمرها هل هي أدوات أو أسماء أو كلم، أو كان قيل فيها إن بعضها يشاكل الأسماء، وبعضها يشاكل الكلم، احتاج أن يعرف ما من هذه يجري مجرى الأسماء، وفي ماذا ينصرف من أطرافها وما منها يجري مجرى الكلم، وفي ماذا ينصرف من أطرافها.(1/22)
ثم يعرف في أي حال تلحق كل واحد أي طرف، فيأتي أولا على أخصها حال حال من أحوال الأسماء الموجودة المنصرفة التي يلحقها في كل حال طرف ما من أطراف الأسماء، ثم يعطي مثل ذلك في الأسماء المثناة والمجموعة ثم يعطي مثل ذلك في الكلم الموجودة في المثناة والمجموعة، إلى أن يستوعب الأحوال في التي يتبدل فيها على الكلم أطرافها التي حصلت لها، ثم يعرف الأسماء التي تنصرف في بعض الأطراف، وفي أنها تنصرف، وفي أنها لا تنصرف، ثم يعرف الأسماء التي كل واحد منها مبني على طرف واحد، وأنه مبني على أي طرف.
وأما الأدوات: فإن كانت عادتهم أن تكون كل واحدة منها مبنية على طرف واحد، أو كان بعضها على واحد فقط، وبعضها ينصرف في شيء من الأطراف، عرف كل ذلك. فإن كانت قد توجد لهم ألفاظ شك في أمرها هل هي أدوات أو أسماء أو كلم، أو كان قيل فيها إن بعضها يشاكل الأسماء، وبعضها يشاكل الكلم، احتاج أن يعرف ما من هذه يجري مجرى الأسماء، وفي ماذا ينصرف من أطرافها وما منها يجري مجرى الكلم، وفي ماذا ينصرف من أطرافها.
وأما الضرب الذي يعطي قوانين التركيب (1) نفسه فإنه يبين أولا كيف تتركب الألفاظ وتترتب في ذلك اللسان، وعلى كم ضرب حتى تصير أقاويل. ثم يبين أيها هو التركيب والترتيب الأفصح في ذلك اللسان.
علم قوانين الكتابة وتصحيح القراءة
وعلم قوانين الكتابة: يميز أولا ما لا يكتب في السطور من حروفهم وما يكتب (2). ثم يبين عما يكتب في السطور كيف سبيله أن يكتب.
__________
(1) يقصد بعلم قوانين تركيب الألفاظ نفسه علم البيان أو علم البلاغة. واللافت للنظر هو أن الفارابي لم يستعمل أسماء هذه العلوم التي كانت قد تكونت في زمانه مثل علم البيان، وعلم المعجم الخ.
(2) ما يكتب في السطور وما لا يكتب: ما يكتب هو الحروف، وما لا يكتب هو الحركات كالفتحة والضمة والكسرة والسكون. وفي زمن الفارابي كانت بعض الحروف لا تكتب مثل الألف والواو مثل «بسم الله الرحمن الرحيم».(1/23)
وعلم قوانين تصحيح القراءة: يعرف مواضع النقط (1)، والعلامات التي تجعل عندهم لما لا يكتب في السطور من حروفهم، وما يكتب، والعلامات التي تميز بين الحروف المشتركة والعلامات التي تجعل الحروف التي إذا تلاقت اندغم بعضها في بعض، وينحّي بعضها لبعض والعلامات التي تجعل عندهم لمقاطع الأقاويل (2). وتمييز علامات المقاطع الصغرى من علامات مقاطع الوسطى والكبرى، وبين علامات رداءة الألفاظ والأقاويل المرتبطة التي بمعنى بعضها، وخاصة إذا تباعد ما بينها.
علم الاشعار
وعلم الأشعار على الجهة التي تشاكل علم اللسان ثلاثة:
إحصاء الأوزان المستعملة في أشعارهم (3)، كانت الأوزان بسيطة أو مركبة، ثم إحصاء تركيبات الحروف المعجمة التي تحصل عن صنف صنف منها، ووزن وزن من أوزانهم وهي التي تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد (4) وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل، ثم الفحص
__________
(1) يعني بها النقط التي تميز الحروف.
(2) علامات الوقف كالنقطة والفاصلة والقاطعة والاستفهام والتعجب الخ.
(3) أوزان الشعر المعروفة ستة عشر وزنا، اخترع الخليل بن أحمد الفراهيدي خمسة عشر منها، واستدرك الأخفش «المتدارك».
(4) السبب في علم العروض مقطع مؤلف من حرفين متحركين (سبب ثقيل) أو حرف متحرك وآخر ساكن (سبب خفيف). أما الوتد فمقطع مؤلف من ثلاثة حروف: متحركين فساكن، أو متحرك فساكن فمتحرك (الوتد المفروق).(1/24)
عن مقادير الأبيات والمصاريع (1)، ومن كم حرف ومقطع، ثم بيت بيت في وزن وزن. ثم يميز الأوزان الوافية من الناقصة، وأي الأوزان أبهى وأحسن وألذ مسموعا.
والجزء الثاني النظر في نهايات (2) الأبيات في وزن وزن، أيما منها عندهم على وجه واحد، وأيما منها على وجوه كثيرة. ومن هذه أيما التام، وأيما الناقص، وأي النهايات يكون بحرف واحد بعينه محفوظا في الشعر كله، وأيما منها يكون بحروف أكثر من واحد محفوظا في القصيدة، وكم أكثر الحروف التي تكون نهايات الأبيات عندهم، ثم تعرف التي هي بحروف كثيرة هل يجوز أن يبدل مكان بعضها حروف أخرى مساوية لها في زمان النطق بها أم لا، وأيما منها يجوز أن يبدل بحرف مساو له في الزمان.
والجزء الثالث يفحص عما يصلح أن يستعمل في الأشعار من الألفاظ عندهم مما ليس يصلح أن يستعمل في القول الذي ليس بشعر.
فهذه جمل ما في كل واحد من أجزاء علم اللسان.
__________
(1) المصاريع: جمع مصراع: وهو نصف البيت من الشعر.
(2) النظر في نهايات الأبيات: دراسة القوافي. لأن القافية هي آخر البيت تمتد من الروي أو آخر حرف من الكلمة الأخيرة إلى الساكن الذي قبله مع المتحرك الذي يسبقه.(1/25)
الفصل الثاني في علم المنطق
فنخبر بجملة ما فيه، ثم بمنفعته، ثم بموضوعاته، ثم بمعنى عنوانه (1)، ثم نحصي أجزاءه، وجمل ما في كل واحد منها.
حد المنطق
فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوّم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات والقوانين التي يمتحن بها في المعقولات ما ليس يؤمن أن يكون قد غلط فيه غالط (2). وذلك أن في المعقولات أشياء لا يمكن أن يكون العقل غلط فيها، وهي التي يجد الإنسان نفسه كأنها
__________
(1) معنى عنوانه: معنى لفظه أي ماذا تعني لفظة منطق؟
(2) يشمل المنطق المبادي الأولية أو الفطرية التي لا يخطئ فيها الإنسان مثل: الكل أعظم من الجزء.(1/27)
فطرت على معرفتها واليقين بها مثل: أن الكل أعظم من جزئه وأن كل ثلاثة فهو عدد فرد.
وأشياء أخر يمكن أن يغلط فيها ويعدل عن الحق إلى ما ليس بحق وهي التي شأنها أن تدرك بفكر وتأمل، عن قياس واستدلال (1).
ففي ذلك دون تلك (2) يضطر الإنسان الذي يلتمس الوقوف على الحق اليقين في مطلوباته كلها إلى قوانين المنطق.
وهذه الصناعة تناسب صناعة النحو: وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ.
فكل ما يعطيناه علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات (3).
وتناسب أيضا علم العروض: فإن نسبة علم المنطق إلى المعقولات كنسبة العروض إلى أوزان الشعر (4).
وكل ما يعطيناه علم العروض من القوانين في أوزان الشعر فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات.
__________
(1) القياس أحد أنواع الاستدلال الثلاثة وهي: القياس أو الاستنتاج، والاستقراء والتمثيل.
(2) ففي ذلك دون تلك: يعني بتلك المعارف الأولية أو الضروريات، ويعني بذلك المعارف التي يحصل عليها المرء بالاستدلال والتفكر والتأمل.
(3) يريد أن يقول إن نسبة علم المنطق إلى المعقولات كنسبة علم النحو إلى اللغة.
(4) يريد القول إن نسبة علم المنطق إلى المعقولات كنسبة علم العروض إلى أوزان الشعر. إنه أداة نعرف بها صحة المعاني العقلية وخطأها، كما أن العروض أداة نعرف بها صحة أوزان الشعر أو اختلالها، وكما أن النحو أداة نعرف بها صحة اللغة أو غلطها.(1/28)
وأيضا فإن القوانين المنطقية التي هي آلات يمتحن بها في المعقولات ما لا يؤمن أن يكون العقل قد غلط فيه أو قصر في إدراك حقيقته تشبه الموازين والمكاييل التي يمتحن بها في كثير من الأجسام ما لا يؤمن أن يكون الحس قد غلط أو قصر في إدراك تقديره، وكالمساطر التي يمتحن بها في الخطوط ما لا يؤمن أن يكون الحس قد تحير أو غلط في إدراك استقامته.
فائدة علم المنطق
فهذه جملة غرض المنطق، وتبين من غرضه عظيم غنائه: وذلك في كل ما نلتمس تصحيحه عند غيرنا، وفيما نلتمس تصحيحه عند أنفسنا، وفيما يلتمس غيرنا تصحيحه عندنا.
فإنه إذا كانت عندنا تلك القوانين، والتمسنا استنباط مطلوب وتصحيحه عند أنفسنا لم نطلق أذهاننا في تطلب ما نصححه مهملة تسبح في أشياء غير محمودة، وتروم المصير إليه من حيث اتفق، ومن جهات عسى أن تغلطنا فتوهمنا فيما ليس بحق أنه حق فلا نشعر به.
بل ينبغي أن يكون علمنا أي طريق ينبغي أن نسلك إليه، وعلى أي الأشياء نسلك، ومن أين نبتدي في السلوك، وكيف نقف من حيث تتيقن أذهاننا، أو كيف ينبغي بأذهاننا علم شيء شيء منها إلى أن نفضي لا محالة إلى ملتمسنا، ونكون مع ذلك قد عرفنا جميع الأشياء المغلطة لنا والملبسة (1) علينا فنتحرز عنها عند سلوكنا. فعند ذلك
__________
(1) الملبسة: من لبس يقال لبس عليه الأمر: خلطه وجعله مشتبها بغيره وخافيا.
واللبسة والالتباس واللبوسة: الشبهة والإشكال وعدم الوضوح.(1/29)
نتيقن فيما نستنبطه أنّا صادفنا فيه الحق ولم نغلط. وإذا رابنا أمر شيء استنبطناه (1)، فيخيل إلينا أنّا قد سهونا عنه، امتحناه من وقتنا: فإن كان فيه غلط، شعرنا به، وأصلحنا موضع الزلل بسهولة.
وتلك تكون منازلنا فيما نلتمس تصحيحه عند غيرنا، فإنّا إنما نصحح الرأي عند غيرنا بمثل [الآلات والقوانين] التي تصححه عند أنفسنا، فإن نازعنا في الحجج والأقاويل التي خاطبناه بها في تصحيح ذلك الرأي لم هذه، وطالبنا بوجه تصحيحها له، وكيف صارت تصحح ذلك الرأي دون أن تصحح ضده، ولم صارت أولى من غيرها بتصحيح ذلك الرأي قدرنا أن نبين له جميع ذلك.
وكذلك إذا أراد غيرنا أن يصحح عندنا رأيا ما، كان معنا ما نمتحن به أقاويله وحججه التي رام أن يصحح بها ذلك الرأي: فإن كانت في الحقيقة مصححة، تبين من أي وجه يصحح. فنقبل ما نقبله من ذلك عن علم وبصيرة. وإذا غالط أو غلط تبين من أيّ وجه غالط أو غلط (2). فنزيف ما يدفعه من ذلك عن علم وبصيرة.
وإذا جهلنا المنطق كان حالنا في جميع هذه الأشياء بالعكس وعلى الضد. وأعظم من جميع ذلك وأقبحه وأشنعه وأحر به أن يحذر ويتقى هو ما يلحقنا إذا أردنا أن ننظر في الآراء المتضادة. أو نحكم بين المتنازع فيها وفي الأقاويل والحجج التي يأتي بها كل واحد ليصحح رأيه ويزيف رأي خصمه. فإنّا إن جهلنا المنطق لم نقف من حيث نتيقن على
__________
(1) استنبطناه: استنتجناه واستخرجناه يقال استنبط الماء من البئر: استخرجه منه.
(2) غالط وغلّط: غالط: حاول دفع خصمه إلى الغلط، وغلّط: اتهمه بالغلط.(1/30)
صواب من أصاب منهم كيف أصاب، ومن أي جهة أصاب، وكيف صارت حجته توجب صحة رأيه، ولا على غلط من غلط منهم، أو كيف غلط، ومن أي جهة غالط أو غلط، وكيف صارت حجته لا توجب صحة رأيه: فيعرض لنا عند ذلك: إما أن نتحير في الآراء كلها حتى لا ندري أيها صحيح وأيها فاسد وإما أن نظن أن جميعها على تضادها حق، أو نظن أنه ليس ولا في شيء منها حق، وإما أن نسرع في تصحيح بعضها وتزييف (1) بعضها، ونروم تصحيح وتزييف ما تزيف من حيث لا ندري من أي وجه هو كذلك، فإن نازع منازع فيما نصححه أو نزيفه فلم يمكنا أن نبين له وجوه ذلك، وإن اتفق فيما صححناه أو زيفناه شيء هو في الحقيقة كذلك لم نكن على يقين في شيء من هذين أنه في الحقيقة كما هو عندنا، بل نعتقد ونظن في كل ما هو صحيح عندنا عسى أن يكون فاسدا، وفيما هو عندنا فاسد عسى أن يكون صحيحا، وعسى أن نرجع إلى ضد ما هو الحق عليه في الأمرين جميعا، وعسى أن يرد علينا وارد إما من خارج أو من خاطر يسنح في أنفسنا، فيزيلنا عما هو عندنا اليوم صحيح أو فاسد إلى ضده. وكان جميع ذلك كما يقال في المثل حاطب الليل (2).
وهذه الأشياء تعرض لباقي الناس دليل عون عندنا بالكمال في العلوم، فإنا إن جهلنا المنطق ولم يكن معنا ما نمتحنهم فيه، فإما أن
__________
(1) تزييف بعضها: إظهار زيفه وبطلانه.
(2) حاطب الليل: الذي يخلط في كلامه، لأن حاطب الليل (الذي يجمع الحطب) لا يبصر ما يجمع في حبله من الحطب فيخلط بين الجيد والرديء.(1/31)
نحسن الظن بجميعهم، وإما أن نتهم جميعهم، وإما أن نشرع في تمييز ما يتهم فيكون كل ذلك منا من غير تثبيت. ومن حيث لا نتيقن.
فلا نأمن أن يكون فيمن قد أحسنّا فيه الظن أنه مموه مشنع، فيكون قد نفق عندنا المبطل، وأيدنا من يسخر بنا ونحن لا نشعر. أو يكون فيمن اتهمناه نحن فنكون قد أطرحناه ونحن لا نشعر.
فهذه مضرة جهلنا بالمنطق، ومنفعة علمنا به، ويتبين أنه ضروري لمن أحب أن لا يقتصر في اعتقاداته وآدابه على الظنون (1)، وهي الاعتقادات التي لا يأمن صاحبها عند نفسه أن يرجع عنها إلى أضدادها. وليس بضروري (2) لمن آثر المقام في الاقتصار في آرائه على الظنون وقنع بها.
وأما من زعم أن الدربة بالأقاويل والمخاطبات الجدلية، أو الدربة بالتعاليم مثل الهندسة والعدد تغني عن علم قوانين المنطق أو تقوم مقامه وتفعل فعله، أو تعطي الإنسان القوة على امتحان كل قول وكل حجة وكل رأي، وتسدد الإنسان إلى الحق واليقين حتى لا يغلط في شيء من سائر العلوم أصلا، فهو مثل من زعم أن الدربة والارتياض بحفظ الأشعار والخطب، والاستكثار من روايتها، يغني في تقويم اللسان، وفي أن لا يلحن الإنسان عن قوانين النحو، ويقوم مقامها ويفعل فعلها، وأنه يعطي الإنسان قوة يمتحن بها إعراب كل قول هل أصيب
__________
(1) الظنون: جمع الظن، وهو الاعتقاد الذي لا يأمن صاحبه أن يرجع عنه إلى ضده. والظن عند أفلاطون معرفة تقع بين المعرفة الحسية والمعرفة الاستدلالية.
(2) أي ليس المنطق ضروريا لمن آثر الظنون في آرائه وقنع بها.(1/32)
فيه أو لحن. فالذي يليق أن يجاب به في أمر النحو هاهنا هو الذي يجاب به في أمر المنطق هناك (1).
وكذلك من زعم أن المنطق فضل لا يحتاج إليه إذ كان قد يمكن أن يوجد في وقت ما إنسان كامل القريحة لا يخطئ الحق أصلا من غير أن يكون قد علم شيئا من قوانين المنطق، كقول من زعم أن النحو فضل، إذ قد يوجد في الناس من لا يلحن (2) أصلا من غير أن يكون قد علم شيئا من قوانين النحو فإن الجواب عن القولين جميعا جواب واحد.
موضوع علم المنطق
وأما موضوعات المنطق، وهي التي فيها تعطى القوانين، فهي المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات (3). وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نتفكر ونروي ونقيم في أنفسنا أمورا ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي،
__________
(1) يريد أن يقول إن كل علم له ميزانه أو قوانينه التي لا تصلح في العلوم الأخرى.
فكما أن علم العروض لا يغني عن علم النحو في تقويم اللسان وتجنب اللحن في اللغة، كذلك الدربة في علم الخطابة والجدل، أو في علم الهندسة، لا تغني عن المنطق في العصمة من الخطأ وامتحان الأقوال والحجج.
(2) يلحن: يخطئ في قواعد اللغة أو تحريك الكلمات وإعرابها.
(3) لاحظ كيف حدد الفارابي موضوع علم المنطق: أنه المعاني من حيث تدل عليها الألفاظ، أو الألفاظ من حيث هي دالة على المعاني (المعقولات).(1/33)
ونصححه عند غيرنا بأن نخاطبه بأقاويل نفهّمه بها الأمور والمعقولات التي شأنها أن تصحح ذلك الرأي. وليس يمكن أن نصحح أي رأي اتفق بأي معقولات اتفقت، ولا أن نوجد تلك المعقولات بأي عدد اتفق، ولا بأي أحوال وتركيب وترتيب اتفق، بل نحتاج في كل رأي نلتمس تصحيحه إلى أمور ومعقولات محددة، وإلى أن يكون بعدد ما معلوم، وعلى أحوال وتركيب أو ترتيب معلوم. وتلك ينبغي أن تكون لحال ألفاظها التي بها تكون العبارة عنها عند تصحيحها لدى غيرنا.
فلذلك نضطر إلى قوانين تحوطنا في المعقولات وفي العبارة عنها، وتحرسنا من الغلط فيهما. وكلا هاتين: أعني المعقولات والأقاويل التي بها تكون العبارة عنها، يسميها القدماء «النطق والقول». فيسمون المعقولات القول والنطق الداخل المركوز في النفس، والذي يعبر به عنهما القول والنطق الخارج بالصوت، والذي يصحح به الإنسان الرأي عند نفسه هو القول المركوز في النفس، والذي به يصححه عند غيره هو القول الخارج بالصوت، والقول الذي شأنه أن يصحح رأيا ما يسميه القدماء «القياس»، كان قولا مركوزا في النفس أو خارجا بالصوت.
علم المنطق والنحو
فالمنطق يعطي القوانين التي سلف ذكرها في القوتين جميعا.
وهو يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي من قوانين الألفاظ، ويفارقه في أن علم النحو إنما يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق
يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها. فإن للألفاظ أحوالا تشترك فيها أحوال (1) جميع الأمم: مثل أن الألفاظ منها مفردة ومنها مركبة والمفردة اسم، وكلمة، وأداة، وأن منها ما هي موزونة وغير موزونة وأشباه ذلك.(1/34)
وهو يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي من قوانين الألفاظ، ويفارقه في أن علم النحو إنما يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق
يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها. فإن للألفاظ أحوالا تشترك فيها أحوال (1) جميع الأمم: مثل أن الألفاظ منها مفردة ومنها مركبة والمفردة اسم، وكلمة، وأداة، وأن منها ما هي موزونة وغير موزونة وأشباه ذلك.
وهاهنا أحوال تخص لسانا دون لسان مثل: أن الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب، والمضاف لا يدخل فيه ألف ولام التعريف. فإن هذه وكثيرا غيرها يخص لسان العرب. وكذلك في لسان كل أمة أحوال تخصه. وما وقع في علم النحو من أشياء مشتركة لألفاظ الأمم كلهم، فإنما أخذه أهل النحو من حيث هو موجود في ذلك اللسان الذي عمل النحو له: كقول النحويين من العرب إن الكلم العربية اسم، وفعل، وحرف، وكقول نحويي اليونانيين (2): أجزاء القول في اليونانية اسم، وكلمة، وأداة. وهذه ليست إنما توجد في العربية فقط، أو في اليونانية فقط، بل في جميع الألسنة، وقد أخذها نحويو العرب على أنها في العربية، ونحويو اليونانية على أنها في اليونانية.
فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر فيما يخص تلك الأمة، وفيما هو مشترك له ولغيره، لا من حيث هو مشترك، لكن من حيث هو موجود في لسانهم خاصة.
__________
(1) الأفضل استبدال لفظة لغات بلفظة أحوال ليستقيم المعنى، فتصبح العبارة هكذا: فإن للألفاظ أحوالا تشترك فيها لغات جميع الأمم
(2) هذا الكلام يدل على معرفة الفارابي باللغة اليونانية وقواعدها أو نحوها وخصائصها.(1/35)
فهذا هو الفرق بين نظر أهل النحو في الألفاظ وبين نظر أهل المنطق فيها: وهو أن النحو يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة، ويأخذ ما هو مشترك لها ولغيرها، لا من حيث هو مشترك، بل من حيث هو موجود في اللسان الذي عمل ذلك النحو له.
والمنطق فيما يعطي من قوانين الألفاظ إنما يعطي قوانين تشترك فيها ألفاظ الأمم، وتأخذها من حيث هي مشتركة، ولا ينظر في شيء مما يخص ألفاظ أمة ما، بل يقضي أن يؤخذ ما يحتاج إليه من ذلك عن أهل العلم بذلك اللسان.
وأما عنوانه (1) فإنه بيّن أنه ينبئ عن جملة غرضه: وذلك أنه مشتق من النطق. وهذه اللفظة (2) تقال عند القدماء على ثلاثة معان:
أحدها القول الخارج بالصوت، وهو الذي به تكون عبارة اللسان عما في الضمير.
والثاني القول المركوز في النفس، وهو المعقولات التي تدل عليها الألفاظ.
والثالث القوة النفسانية المفطورة في الإنسان، التي بها يميز التمييز الخاص بالإنسان دون سواه من الحيوان، وهي التي بها يحصل للإنسان المعقولات والعلوم والصنائع وبها تكون الروية وبها يميز بين
__________
(1) العنوان: اللفظ، أي لفظ المنطق.
(2) المنطق مشتق من النطق، والنطق كلمة ذات معان ثلاثة:
1) القول الخارج بالصوت، أي العبارة اللغوية أو الكلمات من حيث هي أصوات.
2) القول المركوز في النفس، أي المعقولات أو المعاني التي تدل عليها الألفاظ.
3) القوة النفسانية المفكرة في الإنسان أو العقل.(1/36)
الجميل والقبيح من الأفعال. وهي توجد لكل إنسان حتى في الأطفال، لكنها نزرة لم تبلغ بعد إلى أن تفعل فعلها: كقوة رجل الطفل على المشي، وكالنار اليسيرة التي لا تبلغ أن تحرق الجذع، وفي المجانين والسكران كالعين الحولاء، وفي النائم كالعين المغمضة، وفي المغمي عليه كالعين التي عليها غشاوة من بخار أو غيره (1).
فهذا العلم لمّا كان يعطي قوانين في النطق الخارج، وقوانين في النطق الداخل، ويقيم بما يعطيه من القوانين في الأمرين النطق الثالث الذي هو في الإنسان بالفطرة، ويسدده حتى لا يفعل فعله في الأمرين إلا على أصوب ما يكون وأتمه وأفضله سمي باسم مشتق من النطق الذي يقال على الأنحاء الثلاثة كما أن كثيرا من الكتب التي تعطي قوانين في المنطق الخارج فقط من كتب أهل العلم في النحو فقط تسمى باسم المنطق. وبيّن أن الذي يسدد نحو الصواب في جميع أنحاء النطق أحرى بهذا الاسم (2).
__________
(1) يريد أن يقول إن العقل موجود لدى جميع الناس، وهو عبارة عن قوة نفسية بها تحصل المعقولات والعلوم والصنائع، ويميز بين القبيح والجميل في الأفعال. وهذه القوة توجد منذ الولادة مع الطفل ولكنها تكون ضعيفة تشبه قوة رجله على المشي. يعني أنها تكون بالقوة لا بالفعل. أي لم تبلغ بعد أن تفعل فعلها على حد تعبير الفارابي.
(2) يشير الفارابي إلى أن بعض النحاة سموا علمهم بالمنطق لأنه يدخل قوانين النطق الخارج. ولكنه يفضل أن يعطي اسم المنطق للعلم الذي يشمل أنواع النطق الثلاثة المذكورة في الصفحة السابقة.(1/37)
أقسام علم المنطق
فأما أجزاء المنطق فهي ثمانية:
وذلك أن أنواع القياس، وأنواع الأقاويل التي يلتمس بها تصحيح رأي أو مطلوب في الجملة، وأنواع الصنائع التي فعلها بعد استعمالها أن نستعمل القياس في المخاطبة في الجملة خمسة: برهانية، وجدلية، وسوفسطائية، وخطبية، وشعرية.
فالبرهانية (1) هي الأقاويل التي شأنها أن تفيد العلم اليقين في المطلوب الذي نلتمس معرفته، سواء استعملها الإنسان فيما بينه وبين نفسه في استنباط ذلك المطلوب أو خاطب بها غيره، أو خاطبه بها غيره في تصحيح ذلك المطلوب، فإنها في أحوالها كلها شأنها أن تفيد العلم اليقين: وهو العلم الذي لا يمكن أصلا أن يكون خلافه، ولا يمكن أن يرجع الإنسان عنه، ولا أن يعتقد فيه أنه يمكن أن يرجع عنه، ولا تقع عليه فيه شبهة بغلطة ولا مغالطة تزيله عنه، ولا ارتياب ولا تهمة له بوجه ولا سبب.
والأقاويل الجدلية هي التي شأنها أن تستعمل في أمرين:
__________
(1) البرهان هو أحد أنواع القياس، سماه أرسطو «أنالوطيقا الثانية» أي التحليلات الثانية، بينما سمى القياس «انالوطيقا الأولى» أي التحليلات الأولى. ونوعا القياس الآخران هما الجدل أو طوبيقا، والمغالطة أو سفسطيقا. وأضاف الفارابي إلى أنواع القياس الأرسطية الثلاثة هذه: الخطابة والشعر.(1/38)
أحدهما أن يلتمس السائل بالأشياء المشهورة (1) التي يعترف بها جميع الناس غلبة المجيب في موضع يضمن المجيب حفظه أو نصرته، [فإن كان هذا] بالأقاويل التي ليست مشهورة لم يكن فعلهما ذلك فعلا على طريق الجدل.
والثاني في أن يلتمس بها الإنسان إيقاع الظن القوي في رأي قصد تصحيحه إما عند نفسه وإما عند غيره حتى يخيل أنه يقين من غير أن يكون يقينا (2).
والأقاويل السوفسطائية هي التي شأنها أن تغلط وتضلل وتلبّس وتوهم فيما ليس بحق أنه حق، وفيما هو حق أنه ليس بحق، وتوهم في من ليس بعالم أنه عالم ناقد، وتوهم في من هو حكيم عالم أنه ليس كذلك. وهذا الاسم، أعني السوفسطائية، اسم المهنة التي يقدر الإنسان المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام، إما في نفسه أنه ذو حكم وعلم وفضل، أو في غيره أنه نقص من غير أن يكون كذلك في الحقيقة، وإما في رأي حق أنه ليس بحق، وفيما ليس بحق أنه حق،
__________
(1) المقدمة المشهورة قول شائع بين الناس أو رأي اعتقدوا به وصدقوه دون أن يبلغ اليقين كقولهم العدل جميل، والصدق حسن إلخ ويقوم الجدل على مقدمات مشهورة، أو على مسلمات (أقوال يسلم بها الخصم) وبهذا ينماز عن البرهان ذي المقدمات اليقينية وعن المغالطة ذات المقدمات المغلوطة.
(2) العلم اليقيني هو العلم الذي لا شك فيه، أو هو العلم الخالي من الشك. هكذا عرفه الغزالي في مقدمة كتابه المنقذ من الضلال. أما ديكارت فقد عرفه بأنه الفكرة الواضحة والمميزة. وعرفه سبينوزا بأنه الفكرة المطابقة للواقع.(1/39)
وهو مركب في اليونانية من «سوفيا»، وهي الحكمة، ومن «اسطس». وهي المموهة فمعناه حكمة مموهة (1). وكل من له قدرة على التمويه والمغالطة بالقول في شيء كان، سمي بهذا الاسم. وقيل إنه سوفسطائي، وليس كما ظن قوم أن سوفسطا اسم إنسان في الزمن القديم، وأنّ مذهبه كان إبطال الإدراك والعلوم وشيعته الذين يتبعون رأيه فينصرون مذهبه يسمون سوفسطائيين، وكل من رأى رأي ذلك الرجل ونصره سمي بهذا الاسم فإن هذا ظن غبي جدا: فإنه لم يكن فيما سلف إنسان كان مذهبه إبطال العلوم والإدراك يلقب بهذا اللقب، ولا القدماء سموا بهذا الاسم أحدا، لأجل أنهم نسبوه إلى إنسان كان يلقب بسوفسطا، بل إنما كانوا يسموه إنسانا بهذا الاسم لأجل مهنته ونوع مخاطبته، وقدرته على جودة المغالطة والتمويه، كائنا من كان
__________
(1) كلام الفارابي حول معنى لفظة «السفسطة»، وهي لفظة يونانية معربة، يدل على تضلعه باللغة اليونانية. إنها كما يقول لفظة مؤلفة من سوفيا أي الحكمة واسطس أي المموهة. فغدا معناها «الحكمة المموهة». وكل من له قدرة على التمويه والتلبيس وإلباس الباطل لباس الحق يدعى سفسطائيا.
والقياس السفسطائي أو المغالطي يبنى على مقدمات وهمية أو مموهة أو مغلوطة.
وقد أطلق هذا اللفظ في الأصل على الرجل الحاذق في الصناعة أو البيان والخطابة. وكان السوفسطائيون معلمين للبيان يجوبون المدن اليونانية يعلمون الناشئة الخطابة والبيان والنقاش حول المسائل المختلفة ويتقاضون أجرا على ذلك.
فلما جاء سقراط وأفلاطون وأرسطو عابوا عليهم ذلك واتهموهم بتزوير الحقائق والتلبيس والتمويه على الناس. واشتهر منهم بروتاغوراس وغورغياس وهيبياس وغيرهم. وكانوا يشكون في وجود حقائق مطلقة ويشكون في إمكانية الوصول إلى المعرفة اليقينية.(1/40)
من الناس، كما لا يسمون الإنسان جدليا لأنه ينسب إلى إنسان كان يلقب بجدل. بل سموه جدليا لمهنته ونوع مخاطبته، ولقدرته على حسن استعمال صناعته، كائنا من كان من الناس. فمن كانت له هذه القوة والصناعة فهو سوفسطائي، ومهنته، هي سوفسطائية، وفعله الكائن عن مهنته فعل سوفسطائي.
والأقاويل الخطبية (1) هي التي شأنها أن يلتمس بها إقناع الإنسان في أي رأي كان، وأن يميل ذهنه إلى أن يسكن إلى ما يقال له ويصدق به تصديقا ما إما أضعف وإما أقوى فإن التصديقات الإقناعية هي دون الظن القوي، وتتفاضل، فيكون بعضها أزيد من بعض على حسب تفاضل الأقاويل في القوة وما يستعمل معها فإن بعض الأقاويل المقنعة يكون أشفى وأبلغ وأوثق من بعض في الشهادات. فإنها كلما كانت أكثر فإنها أبلغ في الإقناع وإيقاع التصديق
__________
(1) الأقاويل الخطبية: هي الخطابة، وهي فن من فنون الأدب النثري. وبها يحاول الخطيب أو المتكلم أن يقنع الجمهور الذي يستمع إليه بوجهة نظره في مسألة من المسائل العلمية أو الاجتماعية أو الخلقية إلخ والخطبة لا تشكل قياسا بالمعنى الصحيح. ويعتمد الخطيب على الشواهد المختلفة لتدعيم رأيه وحمل الناس على تصديقه ولذا كانت أقل من الجدل.
وفي كتاب أرسطو الذي يحمل اسم «الخطابة» يشير إلى احتواء الخطبة نوعا من القياس دعاه «الضمير». والضمير ينطلق مثل الجدل من مقدمات احتمالية ولكنه يختلف عنه في النتيجة التي لا تستخلص من مقدمات جيدة جدا ولا تتضمن كل خطوات الاستدلال. وهو نوعان برهاني وتفنيدي. البرهاني يثبت أن شيئا يكون أو لا يكون، ويستخلص النتيجة من مقدمات مقربها، أما التفنيدي فتخلص النتيجة من مقدمات ينكرها الخصم.(1/41)
بالخبر وأشفى، ويكون سكون النفس إلى ما يقال أشد غير أنها على تفاضل إقناعاتها ليس منها شيء يوقع الظن القوي المقارب لليقين.
فبهذا تخالف الخطابة الجدل في هذا الباب.
والأقاويل الشعرية هي التي تؤلف من أشياء شأنها أن تخيّل في الأمر الذي فيه المخاطبة خيالا ما أو شيئا أفضل أو أحسن. وذلك إما جمالا أو قبحا، أو جلالة أو هوانا، أو غير ذلك مما يشاكل هذه.
ويعرض لنا عند استعمال الأقاويل الشعرية عند التخيل الذي يقع عنها في أنفسنا شبيه بما يعرض لنا عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما يعاف، فإنّا من ساعتنا يخيل لنا في ذلك الشيء أنه مما يعاف فتقوم أنفسنا منه فتجتنبه وإن تيقنا أنه ليس في الحقيقة كما خيل لنا (1)، فنفعل فيما تخيله لنا الأقاويل الشعرية، وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك، كفعلنا فيها لو تيقنا أن الأمر كما خيله لنا ذلك القول: فإن الإنسان كثيرا ما تتبع أفعاله تخيلاته أكثر مما تتبع ظنه أو علمه، فإنه كثيرا ما يكون ظنه أو علمه مضادا لتخيله فيكون فعله الشيء الذي بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه، كما يعرض عند النظر إلى التماثيل المحاكية للشيء، وإلى الأسماء الشبيهة بالأمور.
__________
(1) يركز الفارابي على الصفة المميزة للشعر وهي التخيل أو الخيال. فالشاعر لا يتوجه لاستمالة السامع إلى عقله، وإنما يتوجه إلى خياله يحثه ويثيره ويصور له الأمور كما يراها هو، ليتمثل السامع به. فهو لذلك يصف المسألة أو المنظر أو القضية أو يصورها تصويرا يثير السامع ويحمله على العمل الذي يتوخاه الشاعر منه.(1/42)
وإنما تستعمل الأقاويل الشعرية في مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء ما باستقرار إليه واستدراج نحوه:
وذلك إما أن يكون الإنسان المستدرج لا روية له ترشده فينهض نحو الفعل الذي يلتمس منه بالتخييل، فيقوم التخييل مقام الروية.
وإما أن يكون إنسان له روية في الذي يلتمس منه ولا يؤمن إذا روّى فيه أن يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الكاذبة، ليسبق بالتخييل رويته حتى يبادر إلى ذلك الفعل، فيكون منه بالغلبة قبل أن يستدرك برويته ما في عقبى ذلك الفعل فيمتنع منه أصلا، ويتعقبه فيرى أن لا يستعمل فيه ويؤخره إلى وقت آخر.
ولذلك صارت الأقاويل دون غيرها تجمّل وتزيّن وتفخّم ويجعل لها رونق وبهاء بالأشياء ذكرت في علم المنطق.
فهذه أصناف القياسات والصنائع القياسية.
وأصناف المخاطبات التي تستعمل لتصحيح شيء ما في الأمور كلها هي في الجملة خمسة: يقينية، وظنونية، ومغلطة، ومقنعة، ومخيلة (1).
وكل واحد من هذه الصنائع الخمس لها أشياء تخصها، ولها أشياء أخر تشترك فيها.
__________
(1) يريد أن يقول إن المقدمات التي تستعمل في القياس خمسة أنواع ينتج عنها خمسة أنواع من القياس هي التي تكلم عليها وهي البرهان الذي يقوم على مقدمات يقينية، الجدل الذي يقوم على مقدمات ظنية، والمغالطة التي تقوم على مقدمات مغلوطة، والخطابة التي تعتمد أقوالا مقنعة، والشعر الذي يعتمد أقوالا خيالية.(1/43)
والأقاويل القياسية أكانت مركوزة في النفس أو خارجة بالصوت فهي مؤلفة: أما المركوزة في النفس فمن معقولات كثيرة مرتبطة، مرتبة، تتعاضد على تصحيح شيء واحد. والخارجة بالصوت فمن ألفاظ كثيرة مرتبطة مرتبة تدل على تلك المعقولات وتساويها فتصير باقترانها إليها مترادفة ومتعاونة على تصحيح شيء عند السامع (1).
وأقل الأقاويل الخارجة هي مركبة من لفظين لفظين، وأقل الأقاويل المركوزة مركبة من معقولين مفردين، معقولين مفردين، وهذه هي الأقاويل البسيطة (2).
والأقاويل القياسية إنما تؤلف عن الأقاويل البسيطة فتصير أقاويل مركبة (3).
وأقل الأقاويل المركبة ما كان مركبا عن قولين بسيطين وأكثرها غير محدود. فكل قول قياسي فأجزاؤه العظمى هي الأقاويل البسيطة، وأجزاؤه الصغرى، وهي أجزاء أجزائه، هي المفردات من المعقولات والألفاظ الدالة عليها. فتصير أجزاء المنطق ثمانية كل جزء منها في كتاب:
__________
(1) يطلق الفارابي اسم الأقاويل على المعاني التي في الذهن أو المركوزة في النفس، ما يطلقه على ألفاظ اللغة الدالة على تلك المعاني (الخارجة بالصوت).
ويرى أن الألفاظ تساوي المعاني في العدد.
وإلى هذا ذهب حديثا أحد أقطاب المذهب التحليلي فتشنشتاين في كتاب «بحث منطقي فلسفي».
(2) يقصد بهذه الأقاويل القضايا.
(3) يريد القول إن القياس يتركب من قضيتين أو أكثر، كما أن القضية تتركب من حدين أو لفظين.(1/44)
الأول فيه قوانين في المفردات من المعقولات والألفاظ الدالة عليها. وهو في الكتاب الملقب، إما بالعربية فالمعقولات، وباليونانية «قاطيغورياس».
والثاني فيه قوانين الأقاويل البسيطة التي هي المعقولات المركبة من معقولين مفردين معقولين مفردين والألفاظ الدالة عليها المركبة من لفظين لفظين. وهو في الكتاب الملقب، إما بالعربية فالعبارة، وباليونانية «باري أرمينياس».
والثالث فيه الأقاويل التي يعبر بها القياسات المشتركة للصنائع الخمسة. وهي في الكتاب الملقب، أما بالعربية فالقياس، وباليونانية «انولوطيقا الأولى».
والرابع فيه القوانين التي يمتحن بها الأقاويل البرهانية، وقوانين الأمور التي تلتئم بها الفلسفة، وكل ما تصير به أفعالها أتم وأفضل وأكمل. وهو بالعربية كتاب البرهان، وباليونانية «انولوطيقا الثانية».
والخامس فيه القوانين التي يمتحن بها الأقاويل الجدلية وكيفية السؤال الجدلي، والجواب الجدلي، وبالجملة قوانين الأمور التي تلتئم بها صناعة الجدل وتصير بها أفعالها أكمل وأفضل وأنقد. وهو بالعربية كتاب المواضع الجدلية، وباليونانية «طوبيقا».
والسادس فيه أولا قوانين الأشياء التي شأنها أن تغلط عن الحق وتلبّس وتحيّر، وإحصاء جميع الأمور التي يستعملها المشنّع والمموّه وكيف تفسخ، وبأي الأشياء تدفع، وكيف يتحرز الإنسان من أن يغلط في مطلوباته أو يغالط. وهذا الكتاب يسمى باليونانية «سوفسطيقا» ومعناه الحكمة المموهة.
والسابع فيه القوانين التي تمتحن وتسبر بها الأقاويل الخطبية وأصناف الخطب وأقاويل البلغاء والخطباء، فيعلم هل هي على مذهب الخطابة أم لا ويحصي فيها جميع الأمور التي تلتئم بها صناعة الخطابة، ويعرف كيف صناعة الأقاويل الخطبية والخطب في كل فن فن من الأمور وبأي الأشياء تصير أجود وأكمل وتكون أفعالها أنفذ وأبلغ وهذا الكتاب يسمى «ريطوريقا» وهو الخطابة.(1/45)
والسادس فيه أولا قوانين الأشياء التي شأنها أن تغلط عن الحق وتلبّس وتحيّر، وإحصاء جميع الأمور التي يستعملها المشنّع والمموّه وكيف تفسخ، وبأي الأشياء تدفع، وكيف يتحرز الإنسان من أن يغلط في مطلوباته أو يغالط. وهذا الكتاب يسمى باليونانية «سوفسطيقا» ومعناه الحكمة المموهة.
والسابع فيه القوانين التي تمتحن وتسبر بها الأقاويل الخطبية وأصناف الخطب وأقاويل البلغاء والخطباء، فيعلم هل هي على مذهب الخطابة أم لا ويحصي فيها جميع الأمور التي تلتئم بها صناعة الخطابة، ويعرف كيف صناعة الأقاويل الخطبية والخطب في كل فن فن من الأمور وبأي الأشياء تصير أجود وأكمل وتكون أفعالها أنفذ وأبلغ وهذا الكتاب يسمى «ريطوريقا» وهو الخطابة.
والثامن فيه القوانين التي تسبر بها الأشعار وأصناف الأقاويل الشعرية المعمولة والتي تعمل في فن فن من الأمور، ويحصي أيضا جميع الأمور التي تلتئم بها صناعة الشعر، وكم أصناف الأشعار والأقاويل الشعرية، وكيف صنعة كل شعر منها، ومن أي الأشياء يعمل، وبأي الأشياء يلتئم ويصير أجود وأفخر وأبهى وألذ، وبأي أحوال ينبغي أن يكون حتى يصير أبلغ وأنفذ. وهذا الكتاب يسمى باليونانية «فيوطيقا» وهو كتاب الشعر.
فهذه أجزاء المنطق، وجملة ما يشتمل عليه كل جزء منها.
والجزء الرابع (1) هو أشدها تقدما بشرف ورئاسة، والمنطق إنما التمس به على القصد الأول، الرابع. وما في أجزائه إنما عمل لأجل الرابع. فإن الثلاثة التي تتقدمه في ترتيب التعليم هي توطيئات ومداخل وطرق آلية. والأربعة الباقية التي تتلوه لسببين:
__________
(1) يعني بالجزء الرابع من المنطق البرهان، ويعني بالأجزاء السابقة له المقولات والعبارة والقياس التي يعتبرها توطئة للبرهان ومداخل. ويعني بالأربعة التي تلي البرهان من أجزاء المنطق: الجدل والمغالطة والخطابة والشعر.(1/46)
أحدهما أن في كل واحد إنفاذا ومعونة على أنها كالآلات للجزء الرابع، ومنفعة بعضها أكثر وبعضها أقل.
والثاني على جهة التحرير، وذلك أنها لو لم تتميز هذه الصنائع بعضها عن بعض حتى تعرف قوانين كل واحد منها على انفرادها، مميزة عن قوانين أخرى، لم يأمن الإنسان عند التماسه الحق واليقين أن يستعمل الأشياء الجدلية، من حيث لا يشعر أنها جدلية، فيعدل به عن اليقين إلى الظنون القوية، أو يكون قد استعمل من حيث لا يشعر أمورا خطبية فيعدل إلى الإقناع أو يكون قد استعمل المغلطات من حيث لا يشعر (1): فإما أنّ توهمه فيما ليس بحق أنه حق فيعتقده، وإما أن تحيره. أو يكون قد استعمل الأشياء الشعرية من حيث لا يشعر أنها شعرية، فيكون قد عمل في اعتقاداته على التخيلات وعند نفسه أنه سلك في هذه الأحوال الطريق إلى الحق فصادف ملتمسه، ولا يكون صادفه على الحقيقة. كما أن الذي يعرف الأدوية والأغذية، وإن لم يتميز له السموم عن هذه بالعقل حتى يتيقن معرفتها بعلاماتها، لم يأمن أن يتناولها على أنها غذاء أو دواء من حيث لا يشعر فيتلف.
وأما على القصد الثاني، فإنه يكون قد أعطى أيضا أهل كل صناعة من الصنائع الأربعة (2) جميع ما تلتئم به تلك الصناعة حتى
__________
(1) يحاول الفارابي أن يبرر سبب تقسيم القياس إلى برهان وجدل ومغالطة وخطابة وشعر.
(2) يعني بالصنائع الأربعة الجدل والمغالطة والخطابة والشعر، أن علم المنطق يضع قواعد هذه العلوم ليعلمها من يريد أن يبرع فيها فيصير جدليا بارعا أو خطيبا بارعا أو شاعرا بارعا الخ.(1/47)
يدري الإنسان إذا أراد أن يصير جدليا بارعا كم شيء يحتاج إلى تعلمه، فيدري أي شيء يمتحن على نفسه أو على غيره أقاويله ليعلم هل سلك فيها طريق الجدل أم لا، ويدري إذا أراد أن يصير خطيبا بارعا، كم شيء يحتاج إلى تعلمه ويدري بأي الأشياء يمتحن على نفسه أو على غيره، ليعلم هل سلك في أقاويله طريق الخطابة، أو طريق غيرها.
وكذلك يدري إذا أراد أن يصير شاعرا بارعا، كم شيء يحتاج إلى أن يتعلمه، ويدري بأي الأشياء يمتحن على نفسه وعلى غيره من الشعراء، ليعلم هل سلك في أقاويله طريق الشعراء أو عدل عنه وخلط به طريقا غيره. وكذلك يدري إذا أراد أن يكون له قدرة على أن يغالط غيره ولا يغالطه أحد، كم شيء يحتاج إلى أن يعلمه، ويدري بأي الأشياء يمكن أن يمتحن كل قول وكل رأي، فيعلم هل غلط فيه أو غولط، ومن أي جهة كان ذلك.(1/48)
وكذلك يدري إذا أراد أن يصير شاعرا بارعا، كم شيء يحتاج إلى أن يتعلمه، ويدري بأي الأشياء يمتحن على نفسه وعلى غيره من الشعراء، ليعلم هل سلك في أقاويله طريق الشعراء أو عدل عنه وخلط به طريقا غيره. وكذلك يدري إذا أراد أن يكون له قدرة على أن يغالط غيره ولا يغالطه أحد، كم شيء يحتاج إلى أن يعلمه، ويدري بأي الأشياء يمكن أن يمتحن كل قول وكل رأي، فيعلم هل غلط فيه أو غولط، ومن أي جهة كان ذلك.
الفصل الثالث في علم التعاليم
وهذا العلم ينقسم إلى سبعة أجزاء عظمى أحصيناها في أول الكتاب (1).
علم العدد
أما علم العدد (2) فإن الذي يعرف بهذا العلم علمان:
__________
(1) يشتمل علم التعاليم على سبعة علوم هي: علم العدد، وعلم الهندسة، وعلم النجوم، وعلم المناظر، وعلم الموسيقى، وعلم الأثقال، وعلم الحيل. أما اليوم فتصنف هذه العلوم في أربعة هي: الرياضيات، (العدد والهندسة) وعلم النجوم وعلم الموسيقى، وعلم الفيزياء (علم المناظر وعلم الأثقال، وعلم الحيل أو الميكانيك).
(2) علم العدد: يدرس الأعداد الحسابية من حيث دلالتها على الأشياء وهو علم العدد العملي ومن حيث هي مطلقة (علم العدد النظري). وعلم العدد النظري يتناول علاقات الأعداد ونسبها وخصائصها وجمعها وطرحها وضربها وقسمتها إلخ. وهو ما يعرف اليوم باسم علم الحساب.(1/49)
أحدهما علم العدد العلمي.
والآخر علم العدد النظري.
فالعملي يفحص عن الأعداد من حيث هي أعداد معدودات تحتاج إلى أن يضبط عددها من أجسام وغيرها، مثل الرجال أو أفراس أو دنانير أو دراهم أو غير ذلك من الأشياء ذوات العدد، وهي التي يتعاطاها الجمهور في المعاملات السوقية والمعاملات المدنية.
وأما النظري فإنه يفحص عن الأعداد بإطلاق على أنها مجردة في الذهن من الأجسام، وعن كل معدود منها، وإنما ينظر فيها ملخصة عن كل ما يمكن أن تعد بها من المحسوسات، ومن جهة ما يعم جميع الأعداد التي هي أعداد محسوسات وهذا هو الذي يدخل في جملة العلوم.
وعلم العدد النظري يفحص عن الأعداد على الإطلاق، وعن كل ما يلحقها في ذواتها مفردة من غير أن يضاف إلى بعض، وهي مثل الزوج والفرد، وعن كل ما يلحقها عند ما يضاف بعضها إلى بعض وهو التساوي والتفاضل بأن يكون عدد جزءا لعدد أو أجزاء له أو ضعفه أو مثله أو زيادة جزء أو أجزاء، أو أن تكون متناسبة أو غير متناسبة، أو متشابهة أو غير متشابهة، ومشاركة أو متباينة، ثم يفحص عما يلحقها عند زيادة بعضها على بعض وجمعها، وعند نقص بعضها من بعض وتفريقها، ومن تضعيف عدد بعدد آخر، ومن تقسيم عدد إلى آخر وذلك مثل أن يكون العدد مربعا أو مسطحا أو مجسما أو تاما أو غير تام وأنه يفحص عن هذه كلها، وعما يلحقها
عند ما يضاف أيضا بعضها إلى بعض، ويعرف كيف الوجه في استخراج أعداد معلومة. وبالجملة في استخراج كل ما سبيله أن يستخرج من الأعداد.(1/50)
وعلم العدد النظري يفحص عن الأعداد على الإطلاق، وعن كل ما يلحقها في ذواتها مفردة من غير أن يضاف إلى بعض، وهي مثل الزوج والفرد، وعن كل ما يلحقها عند ما يضاف بعضها إلى بعض وهو التساوي والتفاضل بأن يكون عدد جزءا لعدد أو أجزاء له أو ضعفه أو مثله أو زيادة جزء أو أجزاء، أو أن تكون متناسبة أو غير متناسبة، أو متشابهة أو غير متشابهة، ومشاركة أو متباينة، ثم يفحص عما يلحقها عند زيادة بعضها على بعض وجمعها، وعند نقص بعضها من بعض وتفريقها، ومن تضعيف عدد بعدد آخر، ومن تقسيم عدد إلى آخر وذلك مثل أن يكون العدد مربعا أو مسطحا أو مجسما أو تاما أو غير تام وأنه يفحص عن هذه كلها، وعما يلحقها
عند ما يضاف أيضا بعضها إلى بعض، ويعرف كيف الوجه في استخراج أعداد معلومة. وبالجملة في استخراج كل ما سبيله أن يستخرج من الأعداد.
علم الهندسة
وأما علم الهندسة (1) فالذي يعرف بهذا الاسم شيئان: هندسة عملية، وهندسة نظرية.
فالعملية منها تنظر في خطوط وسطوح في جسم خشب إن كان الذي يستعملها نجارا، أو في جسم حديد إن كان الذي يستعملها حدادا، أو في جسم حائط إن كان الذي يستعملها بناء، أو سطوح ارضي ومزارع إن كان ماسحا، وكذلك كل صاحب هندسة عملية فإنه إنما يصور في نفسه خطوطا وسطوحا وتربيعا وتدويرا وتثليثا في جسم وهو المادة التي هي الموضوعة لتلك الصناعة العملية.
والنظرية إنما تنظر في خطوط وسطوح أجسام على الإطلاق والعموم وعلى وجه يعم سطوح جميع الأجسام، ويصور في نفسه الخطوط بالوجه العام الذي لا يبالي في أي جسم كان، ويتصور في
__________
(1) الهندسة كلمة فارسية معربة أصلها «اندازه» وهي تعني المقادير، وفي اليونانية واللغات الأوروبية الحديثة جيومتري. وقد وضع أسسها اقليدس اليوناني وعنه أخذها العرب بعد أن ترجموا كتابه الشهير «الأصول».
وهي تدرس الخطوط والسطوح والزوايا والمجسمات من حيث أشكالها ومقاديرها وتساويها وتفاضلها.(1/51)
نفسه السطوح والتربيع والتدوير والتثليث بالوجه الأعم الذي لا يبالي في أي جسم كان، ويتصور المجسمات بالوجه الأعم الذي لا يبالي في أي جسم كانت وفي أي مادة ومحسوس كانت، بل على الإطلاق من غير أن يقيم في نفسه مجسما هو خشب أو مجسما هو حائط أو مجسما هو حديد، ولكن المجسم العام لهذه.
وهذا العلم هو الذي يدخل في جملة العلوم، وهو يفحص في الخطوط وفي السطوح وفي المجسمات على الإطلاق: عن أشكالها ومقاديرها وتساويها وتفاضلها، وعن أصناف أوضاعها وترتيبها، وعن جميع ما يلحقها مثل النقط والزوايا وغير ذلك، ويفحص عن المتناسبة وغير المتناسبة، وعن التي هي منها معطيات، وما ليس بمعطيات، وعن المشاركة منها والمتباينة، والمنطقات منها والصم، وعن أصناف هذين، ويعرف الوجه في صيغة ما كان سبيله منها أن يعمل ويعرف كيف الوجه في استخراج كل ما سبيله منها أن يعمل، وكيف الوجه في استخراج كل ما كان سبيله منها أن يستخرج، ويعرف أسباب هذه كلها، ولم هي كذلك ببراهين تعطينا العلم اليقين الذي لا يمكن أن يقع فيه الشك.
فهذه جملة ما تنظر فيه الهندسة. وهذا العلم جزءان:
جزء ينظر في الخطوط والسطوح، وجزء في المجسمات.
والذي ينظر في المجسمات ينقسم على حسب أنواع المجسمات منها مثل المكعب والمخروط والكرة والاسطوانة والمنشورات والصنوبري.
والنظر في جميع هذه على وجهين:
أحدهما أن ينظر في كل واحد منها على حياله، مثل النظر في الخطوط على حيالها والسطوح على حيالها والمكعب على حياله والمخروط على حياله.(1/52)
والنظر في جميع هذه على وجهين:
أحدهما أن ينظر في كل واحد منها على حياله، مثل النظر في الخطوط على حيالها والسطوح على حيالها والمكعب على حياله والمخروط على حياله.
والآخر أن ينظر فيها وفي لواحقها عند ما يضاف بعضها إلى بعض وذلك إما بقياس بعضها إلى بعض فينظر في تساويها وتفاضلها أو غير هذين من لواحقها، وإما أن توضع بعضها مع بعض وترتب مثل أن توضع وترتب خطا في سطح أو سطحا في مجسم أو سطحا في سطح أو مجسمان في مجسم.
وينبغي أن يعلم أن للهندسة والأعداد أصولا وأشياء أخر نشأت عن تلك الأصول. أما الأصول فمحدودة وأما التي نشأت عن الأصول فغير محدودة.
والكتاب المنسوب إلى أقليدس (1) الفوثاغوري فيه أصول الهندسة
__________
(1) اقليدس الفيثاغوري: رياضي يوناني من الاسكندرية، عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، ووضع أسس الهندسة المسطحة.
وقد نسبه الفارابي إلى فيثاغورس العالم الرياضي والفيلسوف اليوناني الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، لأنه تابعه في علم الرياضة على الأرجح. وقد ترجم له ابن القفطي في كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» بقوله: «هو ابن نوقطرس بن برنيقس، المظهر للهندسة، المبرز فيها، ويعرف بصاحب جومطريكا، واسم كتابه في الهندسة باليوناني الاسطروشيا، ومعناه أصول الهندسة. حكيم قديم العهد يوناني الجنس، شامي الدار، صوري البلد، نجار الصنعة، له يد طولى في علم الهندسة، وكتابه المعروف بكتاب الأركان هذا اسمه بين حكماء اليونان، وسماه من بعده الروم بالاستقصات، وسماه الإسلاميون الأصول»(1/53)
والعدد، وهو المعروف «بكتاب الاسطقسات» والنظر فيها بطريقين:
طريق التحليل وطريق التركيب.
والأقدمون من أهل هذا العلم كانوا يجمعون في كتبهم بين الطريقين إلا اقليدس فإنه نظم ما في كتابه على طريق التركيب وحده.
علم المناظر
وعلم المناظر (1) يفحص عما يفحص عنه علم الهندسة من الأشكال والأعظام والترتيب والأوضاع والتساوي والتفاضل وغير ذلك، لكن على أنها في خطوط وسطوح ومجسمات لا على الإطلاق.
فيكون نظر الهندسة أعم. وإنما احتيج إلى تفرد علم المناظر وإن كانت هذه داخله في جملة ما قد فحصت عنه الهندسة، لأن كثيرا من التي يلزم في الهندسة أنها على حال ما من شكل أو وضع أو ترتيب أو غير ذلك، تصير أحوالا عند ما ينظر إليها على ضد ذلك: وذلك أن التي هي بالحقيقة مربعات، إذا نظر إليها من بعد ما، ترى مستديرة وكثير مما هي موضوعة في سطح واحد يظهر بعضها أخفض وبعضها أرفع، وكثير مما هي متقدمة تظهر متأخرة، وأشباه هذه كثيرة.
__________
(1) علم المناظر من النظر، أو رؤية الأشياء وهو اليوم أحد أقسام علم الفيزياء، يدرس ظاهرة الضوء وانتشاره وسرعته، وانعكاسه على الأجسام والمرايا وأنواعها، وانعكاس الضوء عليها. ولم يعد هذا العلم فرعا من الهندسة كما توهمه الفارابي.(1/54)
يميز بهذا العلم بين ما يظهر في البصر بخلاف ما هو عليه بالحقيقة، وبين ما يظهر على ما هو بالحقيقة، ويعطي أسباب هذه كلها، ولم هي كذلك، ببراهين يقينية، ويعرف في كل ما يمكن أن يغلط فيه البصر وجوه الحيل في أن لا يغلط، بل أن يصادف الحقيقة فيما ينظر إليه من الشيء ومقداره وشكله ووضعه وترتيبه وسائر ما يمكن أن يغلط فيه البصر.
وبهذه الصناعة يمكن الإنسان أن يقف على مساحة ما بعد من الأجسام بعدا يتعذر به الوصول إليه وعلى مقادير أبعادها منا، وأبعاد بعضها من بعض: وذلك مثل ارتفاعات الأشجار الطوال والحيطان وعروض الأودية والأنهار، بل ارتفاعات الجبال وأعماق الأودية، بعد أن يقع البصر على نهاياتها، ثم أبعاد الغيوم وغيرها عن المكان الذي نحن فيه، وبحذاء أي مكان من الأرض، ثم أبعاد الأجسام السماوية ومقاديرها إنما يمكن أن يضاف إليها عن انحراف مناظرها. وبالجملة كل عظم التمس الوقوف على مقداره أو بعده عن شيء ما بعد أن يقع عليه البصر. فبعضها بآلات تعمل لعبور البصر حتى لا يغلط، وبعضها بلا آلات.
فكل ما ينظر إليه ويرى فإنما يرى بشعاع ينفذ في الهواء أو في كل جسم مشفّ ما بين أبصارنا إلى أن يقع الشيء المنظور إليه.
والشعاعات النافذة في الأجسام المشفة إلى المنظور إليه إما أن تكون مستقيمة أو منقطعة وإما منعكسة وإما منكسرة.
فالمستقيمة هي التي إذا خرجت عن البصر امتدت على استقامة سمت (1) البصر إلى أن تخور وتنقطع.(1/55)
والشعاعات النافذة في الأجسام المشفة إلى المنظور إليه إما أن تكون مستقيمة أو منقطعة وإما منعكسة وإما منكسرة.
فالمستقيمة هي التي إذا خرجت عن البصر امتدت على استقامة سمت (1) البصر إلى أن تخور وتنقطع.
والمنقطعة هي التي إذا امتدت نافذة من البصر تلقاها في طريقها قبل أن تخور مرآة تعوقها عن النفوذ على استقامة فتنعطف منحرفة إلى أحد جوانب المرآة ثم تمتد في الجانب الذي انحرف مارة إلى ما بين يدي الناظر.
والمنعكسة هي التي ترجع عن المرآة في طريقها التي كان سلكها أولا وكان [] حتى تقع على الجسم الناظر الذي من بصره خرجت فيرى الإنسان بذلك الشعاع.
والمنكسرة هي التي ترجع من المرآة إلى جهة الناظر الذي من بصره خرج (2)، فتمتد منحرفة عنه إلى أحد جوانبه فيقع أي شيء آخر إما خلف الناظر أو عن يمينه أو يساره أو من فوقه، ويرى الإنسان ما خلفه أو ما في أحد جوانبه الأخر (3).
والمرآة هي بالجملة الأجسام المشفة: هواء أو ماء، أو جسم سماوي أو بعض الأجسام المركبة لدينا من زجاج أو ما جانسه.
__________
(1) السمت: عرفه الجرجاني كما يلي: «السمت خط مستقيم واحد وقع عليه الحيزان مثل هذا.
(2) يقتفي الفارابي هنا أثر أفلاطون، ويزعم مثله أن الشعاع يخرج من عين الناظر ويقع على الجسم المنظور فيرى. ويذهب أرسطو إلى عكس ذلك.
(3) يشير الفارابي إلى التطور الذي أحرزه علم المناظر في العصر العباسي عند العرب.
وربما كان ابن الهيثم قد بلغ به شوطا كبيرا عند ما درس بشكل علمي انعكاس الشعاع وانكساره وقاس الزوايا التي يشكلها عند انعكاسه أو انكساره.(1/56)
والمرايا وهي التي ترد الشعاعات وتمنعها عن النفوذ على سمتها إما أن تكون من المرايا المعمولة لدينا من حديد أو غيره، وإما أن تكون بخارا غليظا رطبا، وإما ماء، وإما جسما آخر إن كان مثل هذا.
فعلم المناظر يفحص عن كل ما يرى وينظر إليه بهذه الشعاعات الأربع وفي كل واحدة من المرايا، وعما يلحق المنظور إليه.
وهو ينقسم قسمين:
أولهما الفحص عما ينظر إليه بالشعاعات المستقيمة.
والثاني الفحص عما ينظر بالشعاعات غير المستقيمة، وهو المخصوص بعلم المرايا.
علم النجوم
وأما علم النجوم فإن الذي يعرف بهذا الاسم علمان:
أحدهما علم أحكام النجوم: وهو علم دلالات الكواكب على ما سيحدث في المستقبل، وعلى كثير مما هو الآن موجود، وعلى كثير مما تقدم.
والثاني علم النجوم التعليمي: وهو الذي يعد في العلوم وفي التعاليم. وأما ذاك (1) فإنه إنما يعد في القوى والمهن التي بها يقدر
__________
(1) يعني بذاك علم أحكام النجوم أو علم دلالات الكواكب على ما سيحدث في المستقبل. ويشبهه بالرؤيا والزجر والعرافة وأشباهها لأنها جميعا تتنبأ بما سيحدث في المستقبل.(1/57)
الإنسان على الإنذار بما سيكون مثل عبارة الرؤيا (1) والزجر (2)
والعرافة (3) وأشباه هذه القوى.
فعلم النجوم التعليمي يفحص في الأجسام السماوية وفي الأرض عن ثلاث جمل:
أولها عن أشكالها، ومقادير أجرامها، ونسب بعضها إلى بعض ومقادير أبعاد بعضها عن بعض، وأن الأرض ليس لجملتها انتقال لا عن مكانها ولا في مكانها (4).
والثانية حركات الأجسام السمائية كم هي، وأن حركاتها كلها
__________
(1) عبارة الرؤيا أو تعبير الرؤيا هي كما يقول ابن خلدون: «علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله، كما يقولون البحر يدل على السلطان أو الغيظ أو الهم أو الأمر الفادح، والحية تدل على العدو أو الحياة إلخ» وما يعرف بعلم تفسير الأحلام، لأن الرؤيا هي الحلم. وقد ألفت فيها الكتب العديدة ككتاب تفسير الأحلام لمحمد بن سيرين، وكتاب الممتع لأبي طالب القيرواني وكتاب الإشارة للسالمي. وقد اعتبره ابن خلدون أحد علوم الدين. واهتم علم النفس الحديث بالأحلام ولا سيما فرويد.
(2) الزجر: أو زجر الطير هو رمي الطير بحصاة أو إطلاقه أو الصياح به ليطير، فإذا اتجه يمينا تفاءل الرجل، وإذا اتجه يسارا تشاءم.
(3) العرافة: معرفة الغيب، أو الاستدلال على الحوادث الآتية بإشارات خفية. وقد أطلق اسم العراف على الكاهن والمنجم والطبيب.
(4) يفيد هذا القول أن الأرض ليست متحركة. وقد أثبت العلم الحديث أنها متحركة كسائر الكواكب في المجموعة الشمسية.(1/58)
كرية (1)، وما منها تعم جميعها، الكواكب منها وغير الكواكب، و [ما] منها تعم الكواكب كلها، ثم الحركات التي تخص كل واحد من الكواكب، ولم كل واحد من أصناف الحركات والجهات التي إليها تتحول، وعلى أي جهة يتأتى لكل واحد منها هذه الحركة، وتعرف السبيل إلى تحصيل مكان كل كوكب من أجزاء البروج في وقت وقت بجميع أصناف حركاته.
ويفحص أيضا عن جميع ما يلحق الأجسام السمائية وكل واحد منها عن الحركات التي لها في البروج وما يلحقها عند إضافة بعضها إلى بعض من اجتماع وافتراق واختلاف أوضاع بعضها من بعض.
وبالجملة جميع ما يلحقها عن حركاتها خلوا من إضافتها إلى الأرض مثل كسوف الشمس وعن جميع ما يعرض لها لأجل وضع الأرض منها بالمكان الذي هي فيه من العالم مثل كسوف القمر (2)، وعن تلك اللواحق، وكم هي، وفي أي حال وفي أي وقت يعرض ذلك، وفي كم زمان مثل التشاريق والتغاريب وغير ذلك.
__________
(1) أثبت علم الفلك الحديث ابتداء من كوبرنيكوس وغاليلي وكبلر أن حركات الكواكب ليست دائرة بل إهليلجية أو بيضاوية. وخالف بذلك علم الفلك اليوناني الذي ذهب إلى أن أفلاك الكواكب دائرية.
(2) كسوف القمر: احتجابه، من كسف أي حجب. ويحدث كسوف القمر عند ما تعترض الأرض بينه وبين الشمس. ويقال أيضا كسوف الشمس. وهي تنكسف عند ما يعترض القمر بينها وبين الأرض.(1/59)
والثاني يفحص عن الأرض المعمورة منها وغير المعمورة (1)، ويبين كم هي المعمورة، وكم أقسامها العظمى وهي الأقاليم، ويحصي المساكن التي يتفق أن يكون كل واحد منها في ذلك الوقت، وأين موضع كل مسكن وترتيبه من العالم. ويفحص عما يلزم ضرورة أن يلحق كل واحد من الأقاليم والمساكن عن دور العالم المشترك للكل، وهو دور اليوم والليلة لأجل وضع الأرض بالمكان الذي هي فيه مثل المطالع والمغارب، وطول الأيام والليالي وقصرها وما أشبه ذلك.
فهذا جملة ما اشتمل عليه هذا العالم.
علم الموسيقى
وأما علم الموسيقى (2) فإنه يشتمل بالجملة على أن يعرف أصناف الألحان وعلى ما منه يؤلف، كيف يؤلف، وبأي أحوال يجب أن تكون حتى يصير فعلها أنفذ وأبلغ.
والذي يعرف بهذا الاسم علمان.
أحدهما علم الموسيقى العملية.
__________
(1) هذه الموضوعات غدت اليوم داخلة في علم الجغرافيا.
(2) اهتم الفارابي بعلم الموسيقى، ويقال إنه اخترع آلة موسيقية كان يعزف عليها ألحانا مختلفة مؤثرة. ويروي مترجموه أنه دخل على سيف الدولة أمير حلب وعزف لحنا أضحك المجلس، ثم عزف لحنا آخر أبكى من في المجلس، ثم عزف لحنا ثالثا فناموا جميعا. وألف في هذا العلم كتابا ضخما اسمه كتاب الموسيقى الكبير.(1/60)
والثاني علم الموسيقى النظرية.
فالموسيقى العملية هي التي شأنها أن توجد أصناف الألحان محسوسة في الآلات التي لها أعدت إما بالطبع، وإما بالصناعة (1).
فالآلة الطبيعية هي الحنجرة واللهاة (2) وما فيها ثم الأنف.
والصناعية هي مثل المزامير والعيدان وغيرها.
وصاحب الموسيقى العملية إنما يتصور النغم والألحان وجميع لواحقها على أنها في الآلات التي منها تعوّد إيجادها.
والنظرية يعطي علمها وهي معقولة، ويعطي أسباب كل ما يأتلف من الألحان، لا على أنها في مادة بل على الإطلاق، وعلى أنها منتزعة عن كل آلة وعن كل مادة، ويأخذها على أنها مسموعة على العموم، ومن أي آلة اتفقت، ومن أي جسم اتفق.
وينقسم علم الموسيقى النظري إلى أجزاء عظمى خمسة.
أولها القول في المبادي الأوائل التي شأنها أن تستعمل في استخراج ما في هذا العلم، وكيف الوجه في استعمال تلك المبادي، وبأي طريق تستنبط هذه الصناعة، ومن أي الأشياء، ومن كم شيء تلتئم، وكيف ينبغي أن يكون الفاحص عما فيه.
والثاني القول في أصول هذه الصناعة، وهو القول في استخراج النغم، وكم عددها، وكيف هي، وكم أصنافها. ويبين
__________
(1) يشير إلى أن الموسيقى تحتاج إلى الموهبة أو التعلم.
(2) اللهاة لحمة تقع في أقصى الحلق.(1/61)
نسب بعضها إلى بعض، والبراهين على جميع ذلك، والقول في أصناف أوضاعها وترتيباتها التي بها تصير مواطئة لأن يأخذ الآخذ منها ما شاء فيركب منها الألحان.
والثالث القول في مطابقة ما تبين في الأصول بالأقاويل والبراهين على أصناف آلات الصناعة التي تعدّ لها، واتخاذها كلها فيها، ووضعها منها على التقدير والترتيب الذي تبين في الأصول.
والرابع القول في أصناف الإيقاعات الطبيعية التي هي أوزان النغم.
والخامس في تأليف الألحان في الجملة، ثم تأليف الألحان الكاملة وهي الموضوعة في الأقاويل الشعرية المؤلفة. على ترتيب وانتظام، وكيفية صيغتها بحسب غرض غرض من أغراض الألحان، وتعرّف الأحوال التي يصير بها أنفذ وأبلغ في بلوغ الغرض الذي له عمل.
علم الأثقال
أما علم الأثقال (1) فإنه يشتمل من أمر الأثقال على شيئين:
(1) إما على النظر في الأثقال من حيث تقدر بها.
(2) أو الفحص عن أصول الآلات التي ترفع بها الأشياء الثقيلة وتنقل من مكان إلى مكان.
__________
(1) علم الأثقال يدرس الآلات التي ترفع بها الأجسام وتنقلها، والتي تزن بها الأجسام. تلك الآلات هي الرافعات والموازين المختلفة ولم يعد هذا العلم مستقلا، بل غدا جزءا من علم الفيزياء الحديثة.(1/62)
علم الحيل
وأما علم الحيل فإنه علم وجه التدبير في مطابقة جميع ما يبرهن وجوده في التعاليم التي سلف ذكرها بالقول والبرهان على الأجسام الطبيعية وإيجادها ووضعها فيها. وذلك أن تلك العلوم كلها إنما تنظر في الخطوط والسطوح والمجسمات وفي الأعداد وسائر ما تنظر على أنها معقولة وحدها منتزعة من الأجسام الطبيعية. ويحتاج عند إيجاد هذه وإظهارها بالإرادة والصنعة في الأجسام الطبيعية والمحسوسات التي قد تبين أنه يتأتى إيجادها فيها ومطابقتها عليها من قبل أن للمواد والأجسام المحسوسة أحوالا تعوق أن توضع فيها كيف اتفق، وبأي وجه ما اتفق، بل يحتاج أن توطأ الأجسام الطبيعية لقبول ما يلتمس من إيجاد هذه فيها، وأن يتلطف في إزالة العوائق.
فعلوم الحيل (1) هي تعطي وجوه معرفة التدابير والطرق والتلطف لإيجاد هذه بالصنعة، وإظهارها بالفعل في الأجسام الطبيعية المحسوسة.
فمنها: الحيل العددية. وهي على وجوه كثيرة: منها العلم
__________
(1) يشكل علم الحيل المعروف حديثا بعلم الميكانيك قسما من علم الفيزياء. ويبدو أن مفهومه وموضوعاته لم تكن محددة بدقة في عصر الفارابي. والأرجح أن علم الحيل كان يعني صناعة الآلات المختلفة المستعملة في سائر العلوم.(1/63)
المعروف عند أهل زماننا بالجبر والمقابلة (1) وما شاكل ذلك. على أن هذا العلم مشرك للعدد والهندسة، وهو يشتمل على وجوه التدابير في استخراج الأعداد التي سبيلها أن تستعمل فيما أعطى أقليدس أصولها من المنطقة والصم في المقالة العاشرة من كتابه في الاسطقسات وفيما لم يذكر منها في تلك المقالة (2).
وذلك أن المنطقة والصم لما كانت نسبة بعضها إلى بعض كنسبة أعداد إلى أعداد، كان كل عدد نظيرا لعظم ما منطق أو صم. وإذا استخرجت الأعداد التي هي نظائر في النسب لأعظام قد استخرجت تلك الأعظام بوجه ما. فلذلك تجعل الأعداد منطقة لتكون نظائر الأعظام الصم.
ومنها الحيل الهندسية. وهي كثيرة:
منها صناعة رئاسة البناء.
ومنها الحيل في مساحة أصناف الأجسام.
ومنها حيل في صنعة آلات نجومية، وفي آلات موسيقية، وإعداد آلات لصنائع كثيرة عملية مثل القسيّ (3) وأصناف الأسلحة.
__________
(1) علم الجبر والمقابلة: علم وضع أسسه محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، أي قبل الفارابي بنحو قرن من الزمان، وقد أعطاه كتابه «الجبر والمقابلة» اسمه، فغدا يعرف به في جميع أنحاء العالم وجميع اللغات.
وهذا العلم لم يعد أحد أجزاء علم الميكانيكا أو الحيل كما يريد الفارابي، وإنما غدا أحد أجزاء علم الرياضيات.
(2) لم يضع أقليدس اليوناني أسس علم الجبر بل وضع أسس علم الهندسة والحساب. والعدد الأصم هو العدد الذي لا يتجذر إلا بكسر.
(3) القسي: جمع قوس. جمع على غير قياس.(1/64)
ومنها الحيل النظرية في صنعة آلات تسدد الابصار نحو إدراك حقيقة الأشياء المنظورة إليها البعيدة منها، وفي صنعة المرايا وفي الوقوف من المرايا على الأمكنة التي ترد الشعاعات بأن تعطفها وتعكسها أو تكسرها. ومن هاهنا أيضا يوقف على الأمكنة التي ترد شعاعات الشمس إلى أجرام أخر. فتحدث من ذلك صنعة المرايا المحرقة والحيل فيها.
ومنها حيل في صنعة أوان عجيبة، وآلات لصنائع كثيرة.
فهذه وأشباهها هي مباد للصناعات المدنية العملية التي تعمل في الأجسام والأشكال والترتيب والأوضاع والتقدير مثل الصنائع في الأبنية والنجارة وغيرها. فهذه هي التعاليم وأصنافها.(1/65)
فهذه وأشباهها هي مباد للصناعات المدنية العملية التي تعمل في الأجسام والأشكال والترتيب والأوضاع والتقدير مثل الصنائع في الأبنية والنجارة وغيرها. فهذه هي التعاليم وأصنافها.
الفصل الرابع في العلم الطبيعي والعلم الإلهي
العلم الطبيعي
فالعلم الطبيعي ينظر في الأجسام الطبيعية وفي الأعراض التي قوامها في هذه الأجسام، ويعرّف الأشياء التي عنها والتي بها والتي لها توجد هذه الأجسام والأعراض التي قوامها فيها (1).
والأجسام منها صناعية ومنها طبيعية.
والصناعية مثل الزجاج والسيف والسرير. وبالجملة كل ما كان وجوده بالصناعة وبإرادة الإنسان.
والطبيعية هي التي وجودها لا بالصناعة ولا بإرادة الإنسان، مثل السماء والأرض وما بينهما والنبات والحيوان.
__________
(1) موضوع العلم الطبيعي هو الأجسام الكائنة في الطبيعة أو العالم وأعراضها وعللها الأربع: المادية والصورية والغائية والفاعلة. وهذه العلل هي التي أشار إليها في الجملة بكلمات: «عنها» و «بها» و «لها».(1/67)
وحال الأجسام الطبيعية في هذه الأمور كحال الأجسام الصناعية:
وذلك أن الأجسام الصناعية توجد فيها أمور قوامها بالأجسام الصناعية، وتوجد لها أشياء عنها وجود الأجسام الصناعية، وأشياء بها وجودها.
وهذه في الصناعية أظهر منها في الطبيعية.
والتي قوامها في الأجسام الطبيعية مثل الصقال في الثوب، والبريق في السيف، والإشفاف في الزجاج، والنقوش في السرير.
والأشياء التي لها توجد الأجسام هي الغايات والأغراض التي لها تعمل، مثل الثوب فإنه عمل ليلبس، والسيف ليقاتل به العدو، والسرير ليتقى به نداوة الأرض أو لشيء غير ذلك مما يعمل السرير لأجله، والزجاج ليحرز فيه ما لا يؤمن أن يشفه غيره من الأواني.
وأما الغايات والأغراض التي لها توجد الأعراض التي قوامها في الأجسام الصناعية فمثل صقال الثوب ليتجمل به، وبريق السيف ليرهب العدو، ونقش السرير ليحسن به منظره، وإشفاف الزجاج ليكون ما يجعل فيه مرئيا.
والأشياء التي توجد عنها الأجسام الصناعية هي الفاعلة والمكونة لها: مثل النجار الذي عنه وجد السرير، والصيقل (1) الذي عنه وجد السيف.
والأشياء التي بها توجد الأجسام الصناعية في كل جسم صناعي شيئان، مثل ما في السيف، فإن وجوده بشيئين: بالحدة، والحديد.
__________
(1) الصيقل هو الصانع الذي يجلو السيوف ويشحذها.(1/68)
والحدة هي صفته وهيئته وبها يفعل فعله.
والحديد هو مادته وموضوعه، وهو كالحامل لهيئته ولصفته.
والثوب وجوده بشيئين: بالغزل، وباشتباك لحمته بسداه (1).
والاشتباك هيئته وصيغته، والغزل كالحامل للاشتباك، وهو موضوعه ومادته.
والسرير أيضا وجوده بشيئين: بالتربيع، والخشب. والتربيع هيئته وصيغته (2)، والخشب مادته، وهو كالحامل للتربيع.
وكذلك كل ما في الأجسام الصناعية باجتماع هذين والتئامهما يحصل وجود كل واحد منها بالفعل والكمال وماهيته. وكل واحد من هذه إنما يفعل، أو يفعل به، أو يستعمل، أو ينتفع به في الأمر الذي لأجله عمل بصيغته، إذا حصل في مادته. فإن السيف إنما يعمل عمله بحدته، والثوب فإنما ينتفع بلحمته إذا كانت مشتبكة بسداه، وكذلك باقي الأجسام الصناعية.
وتلك حال الأجسام الطبيعية، فإن كل واحد منها وجد لغرض ولغاية.
وكذلك كل أمر عرض قوامه في الأجسام الطبيعية فإنه أوجد لغرض ولغاية ما. وكل جسم وكل عرض فله فاعل ويكون عنه وجد. وكل واحد من الأجسام الطبيعية فوجوده وقوامه بشيئين (3):
__________
(1) لحمة الثوب وسداه: خيوط الثوب العرضية (اللحمة) والطولية (السدى).
(2) صيغة السرير: صورته.
(3) وجود الجسم الطبيعي وقوامه بشيئين هما: الصورة والمادة.(1/69)
أحدهما منزلته منه منزلة حدة السيف من السيف، وهو صيغة ذلك الجسم الطبيعي.
والثاني منزلته منزلة حديد السيف من السيف وذلك مادة الجسم الطبيعي وموضوعه، وهو كالحامل لصيغته أيضا إلا أن السيف والسرير والثوب وغيرها من الأجسام الصناعية يشاهد بالبصر والحس وصيغتها وموادها مثل حدة السيف وحديده وتربيع السرير وخشبه.
فأما الأجسام الطبيعية فصيغ جلها، وموادها غير محسوسة، وإنما يصح وجودها عندنا بالقياس والبراهين اليقينية (1).
على أنه قد يوجد أيضا في كثير من الأجسام الصناعية ما ليست صيغتها محسوسة، مثل الخمر: فإنه جسم أوجد بالصناعة، والقوة التي بها يسكر غير محسوسة، وإنما يعرف وجودها بفعلها، وتلك القوة هي صورة الخمر وصيغتها، ومنزلتها من الخمر منزلة الحدة من السيف، إذ كانت تلك القوة هي التي بها تفعل الخمر فعلها. وكذلك الأدوية المركبة بصناعة الطب مثل الدرياق وغيره، فإنها إنما تفعل في الأبدان بقوى تجذب فيها بالتركيب، وتلك القوى غير محسوسة، وإنما يشاهد بالحس الأفعال الكائنة عن تلك القوى. فكل دواء إنما يصير دواء بشيئين:
__________
(1) الفرق بين الأجسام الطبيعية والأجسام الصناعية هو أن علل الأولى غير محسوسة بينما علل الأخيرة محسوسة. وهو يعني بمحسوسة ظاهرة أو معروفة. وربما كان بسبب ذلك أن ما نصنعه نحن نعرف ممّا صنعناه، ولماذا صنعناه، ومن صنعه، والهيئة التي أعطيناه إياها. أما الأجسام الطبيعية فلا نعرف بما صنعت، والغاية من صنعها، والعلة التي صنعتها.(1/70)
بالأخلاط التي منها ركب، وبالقوة التي بها يفعل فعله:
والأخلاط مادته، والقوة التي بها يفعل فعله صيغته. ولو بطلت تلك القوة منه لما كان دواء، كما تبطل حدة السيف فلا يكون سيفا، وكما يبطل من الثوب التحام سداه بلحمته فلا يكون حينئذ ثوبا.
فعلى هذا المثال ينبغي أن تفهم صيغ الأجسام الطبيعية. وموادها فإنها وإن كانت لا تشاهد بالحس صارت كالمواد. والصيغ التي لا تشاهد بالحس من مواد الأجسام الصناعية وصيغها وذلك مثل جسم العين والقوة التي بها يكون الابصار، ومثل قوة جسم اليد والقوة التي بها يكون البطش. وكذلك كل واحد من الأعضاء، فإن قوة العين غير مرئية. ولا يشاهد أيضا شيء من هذه القوى الأخر بل إنما يعقل عقلا وتسمى القوى الأخر التي في الأجسام الطبيعية صيغا وصورا على طريق التشبيه بصور الأجسام الطبيعية. فإن الصيغة والصورة والخلقة يراد أن تكون أسماء مترادفة تدل عند الجمهور على أشكال الأجسام الصناعية، فنقلت فجعلت أسماء للقوى والأشياء التي منزلتها في الأجسام الطبيعية منزلة الخلق والصيغ والصور في الأجسام الصناعية على طريق التشبيه، إذ كانت العادة في الصنائع أن تنقل الأشياء التي فيها الأسماء التي يوقعها الجمهور على أشباه تلك الأشياء (1). ومواد الأجسام وصورها
__________
(1) يعكس الفارابي طريقة إيجاد ألفاظ اللغة أو تكونها. فألفاظ اللغة تطلق في البدء على الظواهر الطبيعية أو الأشياء الطبيعية. ثم تنقل هذه الألفاظ، عند ما يخترع الناس الأشياء الصناعية، على هذه المخترعات، مثل لفظة جريدة ولفظة أزيز في اللغة العربية.(1/71)
وفاعلها والغايات التي لأجلها وجدت تسمى مبادئ الأجسام (1).
وإن كان الأعراض التي في الأجسام تسمى مبادئ الأعراض التي في الأجسام.
والعلم الطبيعي يعرّف الأجسام الطبيعية بأن يضع ما كان منها ظاهر الوجود. ويعرّف من كل جسم طبيعي مادته وصورته وفاعله والغاية التي لأجلها وجد ذلك الجسم. وكذلك في أعراضها، فإنه يعرف ما به قوامها، والأشياء الفاعلة لها والغايات التي لأجلها فعلت تلك الأعراض. فهذا العلم يعطي مبادئ الأجسام الطبيعية ومبادئ أعراضها (2).
والأجسام الطبيعية منها بسيطة، ومنها مركبة، فالبسيطة هي التي وجودها لا عن الأجسام (3)، والمركبة هي التي وجودها عن أجسام أخر غيرها مثل الحيوان والنبات.
وينقسم العلم الطبيعي ثمانية أجزاء عظمى:
أولها الفحص عما تشترك فيه الأجسام الطبيعية كلها البسيطة منها والمركبة من المبادي والأعراض التابعة لتلك المبادي.
__________
(1) يخلط الفارابي هنا بين العلة والمبدأ، بينما نجد أرسطو يميز بينهما في كتاب الميتافيزيقيا أو الفلسفة الأولى تمييزا دقيقا.
(2) يحدد الفارابي بدقة موضوع العلم الطبيعي بقوله إنه مبادئ الأجسام الطبيعية ومبادئ أعراضها، ويعني بالمبادئ العلل الأربع.
(3) يعرف الجسم البسيط بأنه لا يتركب من أجسام أخرى. ويعرف الجسم المركب بأنه لجسم الذي يدخل فيه أجسام أخرى.(1/72)
والثاني الفحص عن الأجسام البسيطة هل هي موجودة. فإن كانت موجودة فأي أقسام هي؟ وكم عددها؟ ثم الفحص بعد ذلك عن اسطقسات (1) الأجسام المركبة هل هي في هذه البسيطة التي تبين وجودها أم هي أجسام أخر خارجة عنها؟ وإن كانت في هذه ولم يمكن أن تكون خارجة عنها فهل هي جميعها أو بعضها؟ فإن كانت بعضها فإنما هي منها، ثم النظر بعد ذلك فيما تشترك فيه البسيطة كلها ما كان منها اسطقسات وأصولا للأجسام المركبة، وما لم يكن منها اسطقسات، ثم فيما يحصى منها ما كان اسطقسات من المبادي والأعراض.
والثالث الفحص عن كون (2) الأجسام الطبيعية وفسادها على العموم، وعن جميع ما يلتئم به، والفحص عن كيف كون الاسطقسات وفسادها، وكيف يكون عنها الأجسام المركبة، وإعطاء مبادئ جميع ذلك.
__________
(1) الأسطقسات جمع أسطقس هي العناصر البسيطة التي تتكون منها الأجسام المركبة وهي أربعة بنظر الفارابي: النار والهواء والماء والتراب.
(2) الكون والفساد: تكون الأجسام وانحلالها. ويتكون الجسم عند ما تتحد الصورة بالمادة، ويفسد عند ما تترك الصورة المادة. هذا ما عناه أرسطو وأخذه عنه الفارابي وبعده ابن سينا وابن رشد، بالكون والفساد. والمادة أزلية أبدية ولذا لا شيء يأتي من العدم ولا شيء يذهب إلى العدم. كل ما يحدث في الطبيعة من كون الأجسام وفسادها هو اتخاذ المادة صورة من الصور ثم تخليها عن تلك الصورة لتتخذ صورة جديدة.(1/73)
والرابع الفحص عن مبادئ الأعراض والانفعالات التي تخص الاسطقسات وحدها دون المركبات عنها.
والخامس النظر في الأجسام المركبة عن الاسطقسات وأن منها ما هي متشابهة الأجزاء ومنها ما هي مختلفة الأجزاء، وأن المتشابهة منها ما هي أجزاء ركبت منها المختلفة الأجزاء مثل اللحم والعظم، ومنها ما ليس يكون جزءا لجسم طبيعي مختلف الأجزاء أصلا مثل الملح والذهب والفضة، ثم النظر فيما تشترك فيه الأجسام المركبة كلها، ثم النظر فيما تشترك فيها المركبة المتشابهة الأجزاء كلها، كانت أجزاء المختلفة الأجزاء أو غير أجزاء.
والسادس النظر فيما تشترك فيه الأجسام المركبة والمتشابهة الأجزاء التي ليست أجزاء المختلفة الأجزاء، وهي الأجسام المعدنية كالحجارة وأصنافها وأصناف الأشياء المعدنية وفيما يخص كل نوع منها.
والسابع النظر فيما يشترك فيه أنواع النبات وما يخص كل واحد منها، وهو أحد جزئي النظر في المركبة المختلفة الأجزاء.
والثامن النظر فيما يشترك به أنواع الحيوان وما يخص كل نوع منها وهو الجزء الثاني من النظر في المركبة المختلفة الأجزاء.
فيعطي العلم الطبيعي في كل نوع من هذه الأجسام مباديها الأربعة وأعراضها التابعة لتلك المبادي. فهذا هو جملة ما في العلم الطبيعي وأجزائه وجملة ما في كل واحد من أجزائه.(1/74)
فيعطي العلم الطبيعي في كل نوع من هذه الأجسام مباديها الأربعة وأعراضها التابعة لتلك المبادي. فهذا هو جملة ما في العلم الطبيعي وأجزائه وجملة ما في كل واحد من أجزائه.
العلم الإلهي
والعلم الإلهي (1) ينقسم إلى ثلاثة أجزاء:
أحدها يفحص فيه عن الموجودات والأشياء التي تعرض لها بما هي موجودات (2).
والثاني يفحص فيه عن مبادئ البراهين في العلوم (3) النظرية الجزئية وهي التي ينفرد كل علم منها بالنظر في موجود خاص: مثل المنطق والهندسة والعدد وباقي العلوم الجزئية الأخر التي تشاكل هذه العلوم. ويفحص عن مبادئ علم المنطق ومبادئ علوم التعاليم، ومبادئ العلم الطبيعي ويلتمس تصحيحها وتعريف جواهرها.
ويحصي الظنون الفاسدة التي كانت وقعت للقدماء في مبادئ هذه العلوم مثل ظن من ظن في النقطة والوحدة والخطوط والسطوح أنها
__________
(1) العلم الإلهي أو الإلهيات أو الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى أو الفلسفة العامة، هو العلم الناظر فيما وراء الطبيعة، وموضوعه كما يقول ابن سينا الموجود المطلق، والمطلوب فيه المبادي العامة واللواحق العامة.
(2) الموجود لما هو موجود: هو الجوهر. والعلم الإلهي يفحص عن مبادئ الجوهر وعلله ولواحقه الكلية. والجوهر الذي يبحث فيه هو الجوهر المفارق غير المتحرك أي الله.
(3) مبادئ البراهين أو مبادئ العلوم هي النظريات الأساسية والقضايا الرئيسة في كل علم من العلوم سواء كان ذلك منطقا أو فلسفة أو رياضة أو علما طبيعيا.
ويقدم الفارابي مثلا على مبادئ الهندسة وهي النقطة والوحدة والخط والسطح، وعلى مبادئ المنطق: مبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلة الكافية، وعلى مبادئ العلم الطبيعي: المادة والصورة والفاعل والغاية.(1/75)
جواهر وأنها مفارقة، والظنون التي تشاكل هذه في مبادئ سائر العلوم فينقحها ويبين أنها فاسدة.
والجزء الثالث يفحص عن الموجودات التي ليست بأجسام (1)
ولا في أجسام: فيفحص عنها أولا هل هي موجودة أم لا؟ ويبرهن أنها موجودة ثم يفحص عنها هل هي كثيرة أم لا؟ فيبين أنها كثيرة، ثم يفحص هل هي متناهية أم لا؟ فيبرهن أنها متناهية، ثم يفحص هل مراتبها في الكمال واحدة، أم مراتبها متفاضلة؟ فيبرهن أنها متفاضلة في الكمال، ثم يبرهن أنها على كثرتها ترتقي من عند أنقصها إلى الأكمل فالأكمل، إلى أن تنتهي في آخر ذلك إلى كامل ما لا يمكن أن يكون شيء هو أكمل منه، ولا يمكن أن يكون شيء هو أصلا في مرتبة وجوده ولا نظير له ولا ضد (2)، وإلى أول لا يمكن أن يكون قبله أول، وإلى متقدم لا يمكن أن يكون شيء أقدم منه، وإلى موجود لا يمكن أن يكون استفاد وجوده عن شيء أصلا، وان ذلك الواحد هو الأول والمتقدم على الإطلاق وحده، ويبين أن سائر الموجودات متأخر عنه في الوجود، وأنه هو الموجود الأول الذي أفاد كل واحد سواه الوجود، وأنه هو الواحد الأول الذي أفاد كل شيء سواه الوحدة.
وأنه هو الحق الذي أفاد كل ذي حقيقة سواه الحقيقة وعلى أي جهة أفاد
__________
(1) الموجودات التي ليست بأجسام ولا في أجسام هي الله والعقول الثواني والعقل الفعال والنفس الخ.
(2) يعدد الفارابي صفات الله وهي الكمال والوحدانية والسرمدية والخلق (خلق العالم) والحق.(1/76)
ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون فيه كثرة أصلا ولا بوجه من الوجوه بل هو أحق باسم الواحد ومعناه وباسم الموجود ومعناه من كل شيء يقال فيه إنه واحد أو موجود أو حق سواه. ثم يبين أن هذا الذي هو بهذه الصفات هو الذي ينبغي أن يعتقد فيه أنه هو الله عز وجل وتقدست أسماؤه، ثم يمعن بعد ذلك في باقي ما يوصف به الله إلى أن يستوفيها كلها، ثم يعرف كيف حدثت الموجودات عنه، وكيف استفادت عنه الوجود. ثم يفحص عن مراتب الموجودات وكيف حصلت لها تلك المراتب، وبأي شيء يستأهل كل واحد منها أن يكون في المرتبة التي هي عليها، ويبين كيف ارتباط بعضها ببعض وانتظامه، وبأي شيء يكون ارتباطها وانتظامها ثم يمعن في إحصاء ما في أفعاله عز وجل في الموجودات إلى أن يستوفيها كلها، ويبين أنه لا جور في شيء منها، ولا خلل ولا تنافر، ولا سوء نظام ولا سوء تأليف وبالجملة لا نقص في شيء منها ولا بشيء أصلا. ثم يشرع بعد ذلك في إبطال الظنون الفاسدة التي ظنت بالله عز وجل في أفعاله بما يدخل النقص فيه وفي أفعاله، وفي الموجودات التي خلقها، فيبطلها كلها ببراهين تفيد العلم اليقين الذي لا يمكن أن يتداخل الإنسان فيه ارتياب ولا يخالطه فيه شك، ولا يمكن أن يرجع عنه أصلا.(1/77)
ذلك، وأنه لا يمكن أن يكون فيه كثرة أصلا ولا بوجه من الوجوه بل هو أحق باسم الواحد ومعناه وباسم الموجود ومعناه من كل شيء يقال فيه إنه واحد أو موجود أو حق سواه. ثم يبين أن هذا الذي هو بهذه الصفات هو الذي ينبغي أن يعتقد فيه أنه هو الله عز وجل وتقدست أسماؤه، ثم يمعن بعد ذلك في باقي ما يوصف به الله إلى أن يستوفيها كلها، ثم يعرف كيف حدثت الموجودات عنه، وكيف استفادت عنه الوجود. ثم يفحص عن مراتب الموجودات وكيف حصلت لها تلك المراتب، وبأي شيء يستأهل كل واحد منها أن يكون في المرتبة التي هي عليها، ويبين كيف ارتباط بعضها ببعض وانتظامه، وبأي شيء يكون ارتباطها وانتظامها ثم يمعن في إحصاء ما في أفعاله عز وجل في الموجودات إلى أن يستوفيها كلها، ويبين أنه لا جور في شيء منها، ولا خلل ولا تنافر، ولا سوء نظام ولا سوء تأليف وبالجملة لا نقص في شيء منها ولا بشيء أصلا. ثم يشرع بعد ذلك في إبطال الظنون الفاسدة التي ظنت بالله عز وجل في أفعاله بما يدخل النقص فيه وفي أفعاله، وفي الموجودات التي خلقها، فيبطلها كلها ببراهين تفيد العلم اليقين الذي لا يمكن أن يتداخل الإنسان فيه ارتياب ولا يخالطه فيه شك، ولا يمكن أن يرجع عنه أصلا.
الفصل الخامس في العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام
العلم المدني
أما العلم المدني فإنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية (1) وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم (2) التي عنها تكون الأفعال والسنن، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان وكيف الوجه في ترتيبها فيه على النحو الذي ينبغي أن يكون وجودها فيه والوجه في حفظها.
ويميز بين الغايات (3) التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن
__________
(1) السنن الإرادية: الشرائع والقوانين التي يضعها الحكام للمدن والأمم.
(2) الملكات والأخلاق والسجايا والشيم: الطبائع الفطرية التي تصدر عنها أفعال الناس.
(3) الغايات: الأهداف التي يرمي إليها الإنسان من أفعاله. وهذه الغايات هي الخيرات، والخيرات كثيرة، ولكن أقصاها وأكملها هي السعادة برأي الفارابي ومن قبله أرسطو.(1/79)
ويبين أن منها ما هي في الحقيقة سعادة، وأن منها ما هي مظنون أنها سعادة من غير أن تكون كذلك. وأن التي هي في الحقيقة سعادة لا يمكن أن تكون في هذه الحياة بل في حياة أخرى بعد هذه وهي الحياة الآخرة، والمظنون به سعادة مثل الثروة والكرامة واللذات، إذا جعلت هي الغايات فقط في هذه الحياة (1)، ويميز الأفعال والسنن، ويبين أن التي تنال بها ما هو في الحقيقة سعادة: هي الخيرات والجميلة والفضائل، وأن ما سواها هو الشرور والقبائح والنقائص.
وأن وجه وجودها في الإنسان أن تكون الأفعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والأمم على ترتيب وتستعمل استعمالا مشتركا، وتبين أن تلك ليست تتأتى إلا برياسة يمكن معها تلك الأفعال والسنن والشيم والملكات والأخلاق في المدن والأمم، ويجتهد في أن يحفظها عليهم حتى لا تزول. وأن تلك الرئاسة لا تتأتى إلا بمهنة وملكة (2) يكون عنها أفعال التمكين فيهم وأفعال حفظ ما مكن فيهم عليهم، وتلك المهنة هي الملكية والملك أو ما شاء الإنسان أن يسميها والسياسة هي فعل هذه المهنة.
__________
(1) يميز الفارابي بين السعادة الحقيقية والسعادة المظنونة. فالسعادة الحقة تنال بالأفعال الجميلة والفضائل، والسعادة المظنونة هي التي يظن أنها تكمن في اللذة والثروة والكرامة الخ.
(2) الرئاسة لا تأتي إلّا بمهنة وملكة: يعني أن رئيس المدينة الفاضلة أو الأمة الفاضلة ينبغي أن يتوافر فيه شرطان: استعداد طبيعي أو ملكة، ومعرفة مكتسبة بالتعلم والممارسة (مهنة).(1/80)
وأن الرئاسة ضربان (1): رئاسة تمكن الأفعال والسنن والملكات الإرادية التي شأنها أن ينال بها ما هو في الحقيقة سعادة، وهي الرئاسة الفاضلة. والمدن والأمم المنقادة لهذه الرئاسة هي المدن والأمم الفاضلة. ورئاسة تمكن في المدن الأفعال والشيم التي تنال بها ما هي مظنونة أنها سعادات من غير أن تكون كذلك، وهي الرئاسة الجاهلية، وتنقسم هذه الرئاسة أقساما كثيرة، ويسمى كل واحد منها بالغرض الذي يقصده ويؤمه، ويكون على عدد الأشياء التي هي الغايات والأغراض التي تلتمس هذه الرئاسة: فإن كانت تلتمس اليسار سميت رئاسة الخسة، وإن كانت الكرامة سميت رئاسة الكرامة، وإن كانت بغير هاتين سميت باسم غايتها تلك (2). وتبين أن المهنة الملكية الفاضلة تلتئم بقوتين:
إحداهما القوة على القوانين الكلية (3).
والأخرى القوة التي يستفيدها الإنسان بطول مزاولة الأعمال المدنية، وبممارسة الأفعال في الأخلاق، والأشخاص في المدن التجربية. والحنكة فيها بالتجربة وطول المشاهدة، على مثال ما عليه الطب، فإن الطبيب إنما يصير معالجا كاملا بقوتين:
__________
(1) الرئاسة ضربان: الحكم نوعان: فاضل وجاهل. وبناء عليه تكون المدن والأمم نوعين: مدن وأمم فاضلة، ومدن وأمم جاهلة.
(2) أنواع المدن الجاهلة كثيرة وقد فصلها الفارابي في كتاب السياسة المدنية، وفي كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة. وذكر هنا منها مدينة الكرامة ومدينة الخسة.
(3) القوة على القوانين الكلية: القدرة على سن القوانين العامة.(1/81)
إحداهما القوة على الكليات والقوانين التي استفادها من كتب الطب.
والأخرى القوة التي تحصل له بطول المزاولة لأعمال الطب في المرضى، والحكنة فيها بطول التجربة والمشاهدة لأبدان الأشخاص.
وبهذه القوة يمكن الطبيب أن يقدر الأدوية والعلاج بحسب بدن بدن في حال حال. كذلك المهنة الملكية إنما يمكنها أن تقدر الأفعال بحسب عارض عارض، وحال حال، ومدينة مدينة، في وقت وقت، بهذه القوة، وهذه التجربة (1).
والفلسفة المدنية (2) تعطي فيما تفحص عنه من الأفعال والسنن والملكات الإرادية وسائر ما تفحص عنه القوانين الكلية، وتعطي الرسوم في تقديرها بحسب حال حال ووقت وقت، وكيف وبأي شيء، وبكم شيء تقدر، ثم تتركها غير مقدرة، لأن التقدير بالفعل لقوة أخرى غير هذا الفعل، وسبيلها أن تنضاف إليه. ومع ذلك فإن
__________
(1) يعني أن الرئيس ينبغي أن يتكيف مع الظروف والأحوال الطارئة وأنواع المدن والمجتمعات التي يحكمها.
(2) الفلسفة المدنية: هي ذاتها العلم المدني. موضوعها فحص الأفعال والشرائع والملكات الإرادية التي تصدر عنها الأفعال والسنن. وهي قسمان:
الأول يبحث في السعادة والأفعال والسلوك التي تصدر عن الناس في المدن والأمم. وهذا ما ندعوه علم الأخلاق.
والثاني يبحث في رئيس المدينة أو الأمة والسنن التي يضعها، وهي المعروفة اليوم بعلم السياسة.(1/82)
الأحوال والعوارض التي بحسبها يكون التقدير غير محدودة ولا يحاط بها.
وهذا العلم جزءان:
جزء يشتمل على تعريف السعادة، وتمييز ما بين الحقيقة منها والمظنون به وعلى إحصاء الأفعال والسير والأخلاق والشيم الإرادية الكلية التي شأنها أن توزع في المدن والأمم، وتمييز الفاضل منها من غير الفاضل.
وجزء يشتمل على وجه ترتيب الشيم والسير الفاضلة في المدن والأمم، وعلى تعريف الملكية التي بها يمكن السير والأفعال ترتيب أهل المدن، والأفعال التي بها يحفظ عليهم ما رتب ومكّن فيهم، ثم يحصي أصناف المهن الملكية غير الفاضلة كم هي وما كل واحدة منها، ويحصي الأفعال التي يفعلها كل واحد منها، وأي سنن وما كان يلتمس كل واحد منها أن يمكّن في المدن والأمم حتى تنال بها غرضها من أهل المدن والأمم التي تكون تحت رئاستها، ويبين أن تلك الأفعال والسير والملكات هي كلها كالأمراض للمدن الفاضلة. أما الأفعال التي تخص المهن الملكية منها وسيرتها فأمراض المهنة الملكية الفاضلة.
فأما السير والملكات التي تخص مدنها فهي كالأمراض للمدن الفاضلة، ثم يحصي كم الأسباب والجهات التي من قبلها لا يؤمن أن تستحيل الرئاسات الفاضلة وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات
الجاهلية، ويحصي معها أصناف الأفعال التي بها تضبط المدن والرئاسات الفاضلة أن تفسد وتستحيل إلى غير الفاضلة (1). ويحصي أيضا وجوه التدابير والحيل، والأشياء التي سبيلها أن تستعمل إذا استحالت إلى الجاهلية حتى ترد إلى ما كانت عليها، ثم يبين بكم شيء تلتئم المهنة الملكية الفاضلة، وأن منها العلوم النظرية والعملية، وأن يضاف إليها القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة الأفعال في المدن والأمم، وهي القدرة على جودة استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات، بحسب جمع جمع، أو مدينة مدينة، أو أمة أمة، وبحسب حال حال، وعارض عارض. ويبين أن المدينة الفاضلة إنما تدوم فاضلة ولا تستحيل، متى كان ملوكها يتوالون في الأزمان على شرائط واحدة بأعيانها حتى يكون الثاني الذي يخلف المتقدم، على الأحوال والشرائط التي كان عليها المتقدم، وأن يكون توليهم من غير انقطاع ولا انفصال ويعرف كيف ينبغي أن يعمل حتى لا يدخل توالي الملوك انقطاع، ويبين أي الشرائط والأحوال الطبيعية ينبغي أن تتفقد في أولاد الملوك وفي غيرهم، حتى يؤهل بها من يوجد منه الملك بعد الذي هو اليوم ملك، ويبين كيف ينبغي أن ينشأ من وجدت فيه تلك الشرائط الطبيعية، وبماذا ينبغي أن يؤدب، حتى(1/83)
فأما السير والملكات التي تخص مدنها فهي كالأمراض للمدن الفاضلة، ثم يحصي كم الأسباب والجهات التي من قبلها لا يؤمن أن تستحيل الرئاسات الفاضلة وسنن المدن الفاضلة إلى السنن والملكات
الجاهلية، ويحصي معها أصناف الأفعال التي بها تضبط المدن والرئاسات الفاضلة أن تفسد وتستحيل إلى غير الفاضلة (1). ويحصي أيضا وجوه التدابير والحيل، والأشياء التي سبيلها أن تستعمل إذا استحالت إلى الجاهلية حتى ترد إلى ما كانت عليها، ثم يبين بكم شيء تلتئم المهنة الملكية الفاضلة، وأن منها العلوم النظرية والعملية، وأن يضاف إليها القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة الأفعال في المدن والأمم، وهي القدرة على جودة استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات، بحسب جمع جمع، أو مدينة مدينة، أو أمة أمة، وبحسب حال حال، وعارض عارض. ويبين أن المدينة الفاضلة إنما تدوم فاضلة ولا تستحيل، متى كان ملوكها يتوالون في الأزمان على شرائط واحدة بأعيانها حتى يكون الثاني الذي يخلف المتقدم، على الأحوال والشرائط التي كان عليها المتقدم، وأن يكون توليهم من غير انقطاع ولا انفصال ويعرف كيف ينبغي أن يعمل حتى لا يدخل توالي الملوك انقطاع، ويبين أي الشرائط والأحوال الطبيعية ينبغي أن تتفقد في أولاد الملوك وفي غيرهم، حتى يؤهل بها من يوجد منه الملك بعد الذي هو اليوم ملك، ويبين كيف ينبغي أن ينشأ من وجدت فيه تلك الشرائط الطبيعية، وبماذا ينبغي أن يؤدب، حتى
__________
(1) يبحث علم السياسة المدنية في آراء أهل المدينة الفاضلة، وآراء أهل المدن المضادة وأنواعها. وقد أسهب الفارابي في الكلام عليها في كتابيه: «آراء أهل المدينة الفاضلة» و «كتاب السياسة المدنية».(1/84)
يحصل له المهنة الملكية، ويصير ملكا تاما. ويبين مع ذلك أن الذين رئاستهم جاهلية لا ينبغي أن يكونوا ملوكا، وأنهم لا يحتاجون في شيء من أحوالهم وأعمالهم وتدابيرهم إلى الفلسفة لا النظرية ولا العملية، بل يمكن كل واحد منهم أن يصير إلى غرضه في المدينة والأمة التي تحت رئاسته بالقوة التجربية التي تحصل له بمزاولة جنس الأفعال التي ينال بها مقصوده، ويصل إلى غرضه من الخيرات متى اتفقت له قوة قريحة جبلية جيدة: لاستنباط ما يحتاج إليه في الأفعال التي ينال بها الخير الذي هو مقصوده، من لذة أو كرامة أو غير ذلك، وانضاف إلى ذلك جودة الائتساء بمن نقدم في الملوك الذين كان مقصدهم مقصده.
علم الفقه
وصناعة الفقه (1) هي التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير، وأن يتحرى تصحيح ذلك حسب
__________
(1) صناعة الفقه: علم الفقه. وكلمة صناعة كانت تستعمل بمعنى العلم والفن.
وكلمة الفقه تعني المعرفة. وقد أطلقت على العلم الذي يتناول فروع الدين والمعاملات بين الناس، والبحث في الصلاة والحج والزكاة والصوم والإرث والزواج والطلاق وسائر العقود الخ.
وقد حدده ابن خلدون على الشكل التالي: «الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والجذر والندب والكراهة والإباحة. وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه».(1/85)
غرض واضع الشريعة بالعلة التي شرعها في الأمة التي لها شرع (1).
وكل ملة ففيها آراء وأفعال:
فالآراء مثل التي تشرع في الله وفيما يوصف به، وفي العالم أو غير ذلك.
والأفعال مثل الأفعال التي يعظم بها الله، والأفعال التي بها تكون المعاملات في المدن (2). فلذلك يكون علم الفقه جزءين:
جزء في الآراء، وجزء في الأفعال.
علم الكلام
وصناعة الكلام (3) يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم جزءين أيضا:
جزء في الآراء، وجزء في الأفعال (4).
__________
(1) إن مهمة الفقه هي استنباط الأحكام في الأمور التي لم ترد في الشرع من الأمور التي صرح بها الشرع إذا كان ثمة علة مشتركة بينها.
(2) الفقه قسمان: قسم يتعلق بالمعتقدات والآراء وقسم يتعلق بالأعمال والمعاملات.
(3) صناعة الكلام: علم الكلام. وهو عبارة عن الجدل حول العقائد الدينية ولا سيما أصول الدين كالله وصفاته وأفعاله وخلق العالم. وقد عرفه ابن خلدون بقوله: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة».
(4) لم يوضح الفارابي ماذا يعني بالآراء والأفعال في علم الكلام. وربما قصد بالأفعال أفعال الإنسان الخلقية وسلوكه لأن المتكلمين تطرقوا إلى المسائل المتعلقة بالأخلاق والحرية والإرادة والصالح والطالح والخير والشر.(1/86)
وهي غير الفقه: لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلمة يجعلها أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها.
والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط عنها أشياء أخر (1).
فإذا اتفق أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم، فيكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه.
وأما الوجوه والآراء التي ينبغي أن تنصر الملل فإن قوما من المتكلمين يرون أن ينصروا الملل بأن يقولوا إن آراء الملل وكل ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أن يمتحن بالآراء والروية والعقول الإنسية لأنها أرفع رتبة منها إذ كانت مأخوذة عن وحي إلهي، لأن فيها أسرارا إلهية تضعف عن إدراكها العقول الإنسية ولا تبلغها.
وأيضا فإن الإنسان إنما سبيله أن تفيده الملل بالوحي ما شأنه أن لا يدركه بعقله وما يخور عقله عنه، وإلا فلا معنى للوحي ولا فائدة إذا كان إنما يفيد الإنسان ما كان يعمله وما يمكن إذا تأمله أن يدركه بعقله. ولو كان كذلك لو كّل الناس إلى عقولهم، ولما كانت بهم حاجة إلى نبوة ولا إلى وحي. لكن لم يفعل بهم ذلك فلذلك ينبغي أن
__________
(1) هذا التمييز دقيق وقيم بين علم الفقه وعلم الكلام. فعلم الفقه يستنبط من النصوص الدينية ما يلزم عنها، أما علم الكلام فيعمل على نصرة تلك الآراء والاعتقادات التي يتضمنها النص الديني.(1/87)
يكون ما تفيده الملل من العلوم ما ليس في طاقة عقولنا إدراكه (1)، ثم ليس هذا فقط بل وما تستنكره عقولنا أيضا، فإنه ليس كل ما كان أشد استنكارا عندنا كان أبلغ في أن يكون أكثر فوائد، وذلك أن التي يأتي بها الملك مما تستنكره العقول وتستبشعه الأوهام ليست هي بالحقيقة منكرة ولا محالة، بل هي صحيحة في العقول الإلهية.
فإن الإنسان وإن بلغ نهاية الكمال في الإنسانية فإن منزلته عند ذوي العقول الإلهية منزلة الصبي والحدث والغمر (2) عند الإنسان الكامل. وكما أن كثيرا من الصبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم أشياء كثيرة مما ليست في الحقيقة منكرة ولا غير ممكنة ويقع لهؤلاء أنها غير ممكنة، فكذلك منزلة من هو في نهاية كمال العقل الإنسي عند العقول الإلهية.
وكما أن الإنسان من قبل أن يتأدب ويتحنك يستنكر أشياء كثيرة ويستبشعها ويخيل إليه فيها أنها محالة، فإذا تأدب بالعلوم واحتنك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها، وانقلبت الأشياء التي كانت عنده محالة فصارت هي الواجبة وصار عنده ما كان يتعجب منه قديما في حد ما يتعجب من ضده، كذلك الإنسان الكامل الإنسانية لا يمتنع
__________
(1) يحاول الفارابي أن يوضح المبادي التي يقوم عليها علم الكلام.
والمبدأ الأول يقول إن الكتب الدينية تتضمن آراء منزلة من قبل الله ولا تستطيع عقول البشر إدراكها أو الوصول إليها بنفسها، ومن ثم مست الحاجة للأنبياء.
(2) الغمر: الرجل الذي لم تحنكه التجارب وتكون معرفته محدودة.(1/88)
من أن يكون يستنكر أشياء ويخيل إليه أنها غير ممكنة من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.
فلهذه الأشياء رأى هؤلاء أن يحيل تصحيح الملل (1): فإن الذي أتانا بالوحي من عند الله جل ذكره صادق ولا يجوز أن يكون قد كذب. ويصح أنه كذلك من أحد وجهين: إما بالمعجزات التي يفعلها أو تظهر على يده وإما بشهادات من تقدم قبله من الصادقين المقبولي الأقاويل على صدق هذا، ومكانه من الله، جل وعز، أو بهما جميعا (2).
فإذا صححنا صدقه بهذه الوجوه، وأنه لا يجوز أن يكون قد كذب، فليس ينبغي أن يتفق بعد بعد ذلك في الأشياء التي هو لها مجال للعقول، ولا تأمل، ولا روية، ولا نظر.
فبهذه وما أشبهها رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
وقوم منهم آخرون يرون أن ينصروا أولا جميع ما صرح به واضع الملة بالألفاظ التي بها عبر عنها، ثم يتبعوا المحسوسات والمشهورات والمعقولات (3): فما وجدوا منها أو من اللوازم عنها وإن بعد، شاهدا
__________
(1) لا يجوز تصحيح الملل: لا يجوز اعتبار الشرائع غير صحيحة، أو العمل على تصحيحها، لأن تلك الشرائع صادقة.
(2) ثمة دليلان على صدق الشريعة: الأول المعجزات التي أتى بها الأنبياء. والثاني شهادة المتقدمين.
(3) يذكر الفارابي هنا مبدأ آخر من مبادئ علم الكلام هو التأويل. فإذا وجد المتكلمون تناقضا بين النص الديني وبين المحسوسات والمشهورات والمعقولات أولو النص أو أولو المحسوسات والمشهورات والمعقولات. وإن لم يستطيعوا هذا ولا ذاك قالوا إن النص حق لأنه «أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط».(1/89)
لشيء مما في الملة نصروا به ذلك الشيء، وما وجدوا منها مناقضا لشيء مما في الملة وأمكنهم أن يتأولوا اللفظ الذي به عبر عنه واضع الملة على وجه موافق لذلك المناقض ولو تأويلا بعيدا تأولوه عليه. وإن لم يمكنهم ذلك، وأمكن أن يزيف ذلك المناقض وأن يحملوه على وجه يوافق ما في الملة فعلوه فإن يضاد المشهورات والمحسوسات في الشهادة مثل أن تكون المحسوسات أو اللوازم عنها توجب شيئا، والمشهورات واللوازم عنها توجب ضد ذلك، نظروا إلى أقواهما شهادة لما في الملة فأخذوه واطرحوا الآخر وزيفوه.
فإن لم يمكن أن تحمل لفظة الملة على ما يوافق أحد هذه، ولا أن يحمل شيء من هذه على ما يوافق الملة، ولم يمكن أن يطرح ولا أن يزيف شيء من المحسوسات ولا من المشهورات ولا من المعقولات التي تضاد شيئا منها رأوا حينئذ أن ينصروا ذلك الشيء بأن يقال إنه حق لأنه أخبر به من لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط. ويقول هؤلاء في هذا الجزء من الملة بما قاله أولئك الأولون في جميعها.
فبهذا الوجه رأى هؤلاء أن ينصروا الملل.
وقوم من هؤلاء رأوا أن ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يخيل فيها أنها شنعة، بأن يتتبعوا سائر الملل فيلتقطوا الأشياء الشنعة التي فيها. فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء مما في ملة
هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما في ملة أولئك من الأشياء الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم (1).(1/90)
وقوم من هؤلاء رأوا أن ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يخيل فيها أنها شنعة، بأن يتتبعوا سائر الملل فيلتقطوا الأشياء الشنعة التي فيها. فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء مما في ملة
هؤلاء، تلقاه هؤلاء بما في ملة أولئك من الأشياء الشنعة فدفعوه بذلك عن ملتهم (1).
وآخرون منهم لما رأوا أن الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفاية في أن تصح بها تلك الأشياء صحة تامة حتى يكون سكوت خصمهم لصحتها عندهم لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التي تلجئه إلى أن يسكت عن مقولتهم إما خجلا وحصرا أو خوفا من مكروه يناله (2).
وآخرون لما كانت ملتهم عند أنفسهم صحيحة لا يشكون في صحتها، رأوا أن ينصروها عند غيرهم ويحسنوها ويزيلوا الشبهة منها، بأن يدفعوا خصومهم عنها بأي شيء اتفق. ولم يبالوا بأن يستعملوا الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة (3)، لأنهم رأوا أن من يخالف ملتهم أحد رجلين:
__________
(1) مبدأ ثالث يذكره الفارابي من مبادئ المتكلمين هو تزييف معتقدات خصومهم من أبناء المذاهب والملل الأخرى وإظهار تهافتها.
(2) أسلوب آخر لجأ إليه المتكلمون لنصرة آرائهم هو التهديد وإنزال الأذى بالخصم.
(3) الأسلوب الأخير الذي فزع إليه المتكلمون لنصرة آرائهم ومقارعة خصومهم هو الكذب والمغالطة والبهت والمكابرة. وهم يعتبرون ذلك جائزا لأن الخصم هو عدو، ويجوز في محاربة العدو كل الوسائل بما في ذلك الكذب والخداع والمغالطة.(1/91)
إما عدو والكذب والمغالطة جائز أن يستعمل في دفعه وفي غلبته كما يكون ذلك في الجهاد والحرب.
وإما ليس بعدو ولكن جهل حظ نفسه من هذه الملة لضعف عقله وتمييزه. وجائز أن يحمل الإنسان على حظ نفسه بالكذب والمغالطة كما يفعل ذلك بالنساء والصبيان.
كمل كتاب أبي نصر الفارابي في تفصيل العلوم وأجزائها ومراتبها في أواخر شهر رمضان المبارك سنة أربعين وستمائة. وهذا الكتاب يسمى إحصاء العلوم.(1/92)
كمل كتاب أبي نصر الفارابي في تفصيل العلوم وأجزائها ومراتبها في أواخر شهر رمضان المبارك سنة أربعين وستمائة. وهذا الكتاب يسمى إحصاء العلوم.
الفهرس
مقدمة 5
توطئة 15
الفصل الأول: في علم اللسان 17
علم اللسان 17
علم قوانين الألفاظ المفردة 20
علم قوانين الألفاظ المركبة 21
علم قوانين الكتابة وتصحيح القراءة 23
علم الأشعار 24
الفصل الثاني: في علم المنطق 27
حد المنطق 27
فائدة علم المنطق 29
موضوع علم المنطق 33
علم المنطق والنحو 34
اقسام علم المنطق 38
الفصل الثالث: في علم التعاليم 49(1/93)
اقسام علم المنطق 38
الفصل الثالث: في علم التعاليم 49
علم العدد 49
علم الهندسة 51
علم المناظر 54
علم النجوم 57
علم الموسيقى 60
علم الأثقال 62
علم الحيل [الميكانيك] 63
الفصل الرابع: في العلم الطبيعي والعلم الإلهي 67
العلم الطبيعي 67
العلم الإلهي 75
الفصل الخامس: في العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام 79
العلم المدني 79
علم الفقه 85
علم الكلام 86.(1/94)