بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب أخلاق الصاحب وابن العميد
ترجع صلتي بهذا الكتاب إلى أوائل شهر ديسمبر من سنة 1953م، فقد زرت صديقي الكريم السيد عزيز بركر المدير العام إذ ذاك للمكتبات بتركيا، ورجوته أن يطلعني على فهرس مكتبة «أسعد أفندي» باستانبول، لأخرج منه رقما لكتاب كنت بحاجة إلى إحضاره من استانبول إلى أنقرة للاطلاع عليه.
وبقي الفهرس بعد ذلك في يدي أتصفّحه، ولفتني عنوان كتاب في أول المجموعة رقم 3542، كتب هكذا «الصداقة أو الصديق» وكتب اسم المؤلف تحته هكذا: «أبو حيات الأندلس»، ثم يليه عنوان بهذه الصورة: «في العلوم» «كذا» إشارة إلى الكتاب أيضا للمؤلف نفسه.
وعلى الرغم من هذا التصحيف الواضح، فقد كان ظني قويا بأنني أمام نسخة خطية من «الصداقة والصديق»، ومن «رسالة العلوم» لأبي حيان التوحيدي.(1/1)
وسرّني ذلك، وتذكّرت أن مرغوليوث .. الذي كتب مادة «أبي حيان» في دائرة المعارف الاسلامية، كان قد أشار إلى أن كتاب «مثالب الوزيرين» يوجد في القسطنطينية، لأن مطبعة الجوائب حين نشرت الصداقة والصديق ورسالة العلوم» وعدت بنشره.
وقوي أملي في أن يكون كتاب «المثالب» ضمن المجموعة المذكورة، على الرغم من عدم كتابة اسمه بين محتوياتها، حيث اني لم أعثر بعد بحث متواصل طويل على أي أثر لنسخة خطية للصداقة والصديق.
وطلبت المخطوط أيضا إلى أنقرة، وجاءني يوم 19/ 12/ 1953م، وكان يحتوي على كتاب «الأخلاق».
ومع أني لا أجرؤ أن أسمي هذا اكتشافا، فإنني أستطيع أن أقول: إن أحدا بعد وعد مطبعة الجوائب، وقبل التاريخ الذي ذكرت أن المخطوط وصلني فيه إلى أنقرة لم يكن يعرف عن كتاب أبي حيان هذا شيئا.
ومضت الأيام، وكتب صديقي الدكتور عزة حسن إلى المجمع العلمي العربي يخبره بذلك، وجاء جواب المجمع بإمضاء رئيسه إذ ذاك، فقيد العلم والخلق، المغفور له خليل مردم بك، تحت رقم 67، وبتاريخ 13نيسان (ابريل) سنة 1957م، يرحّب فيه بطبع الكتاب بالمجمع العلمي العربي.(1/2)
المقدّمة
اسم الكتاب:
وعنوان الكتاب في الأصل المخطوط هو: «أخلاق الصاحب وابن العميد».
وهو الاسم الذي أقدّر أن أبا حيّان وضعه عنوانا لكتابه هذا، ولذلك آثرت أن أبقي عليه، وعدلت عن تسميته بمثل «مثالب الوزيرين» كما سمّاه به غير أبي حيّان بعد وفاته بنحو مائتي عام.
ووجدت في كلام أبي حيّان ما أحسب أنه يؤيّد هذا الصّنيع الذي آثرته ففي حديث له مع الوزير ابن سعدان (المقتول سنة 375هـ) يقول:
«على أني عملت رسالة في أخلاقه (يعني الصاحب) وأخلاق ابن العميد (1)».
وفي سؤاله لأبي سعيد الأبهري (المتوفى سنة 375هـ) يقول أيضا:
«بيّن لي أمر هذا الرّجل (يعني الصاحب) ففي نفسي أن أعمل كتابا في أخلاقه (2)».
__________
(1) الامتاع والمؤانسة 1/ 54.
(2) أخلاق الصاحب وابن العميد 318.(1/3)
لقد اختار أبو حيّان للتّعبير عن مضمون هذه الرسالة كلمة «أخلاق» والسبب الذي دعاه أن يسلك مسلك الحذر والاحتياط، ويختار هذا العنوان لرسالته دون غيره، في مجالسه الخاصّة حيث يناجي أولئك الذين يطمئنّ إليهم ويأتمنهم على أحاديثه لا يزال قائما، وبصفة أخطر وأدعى للاحتياط والخوف، عندما يذيع كتابه ويعرضه على الجماهير، وفيهم العدوّ المتربّص، والحسود الذي لا يرحم.
وكلمة «أخلاق» بعد هي التي تتّسع للخطة التي رسم حدودها في مقدمة كتابه هذا فلم يقتصر في أحاديثه عن الوزيرين، وهذه عبارته:
«على ما كان طالبا لمقتهما، وداعيا إلى الزّراية عليهما، وباعثا على سوء القول والاعتقاد فيهما» (1)، بل أضاف إلى هذه الأحاديث وهذا قوله أيضا:
«ما شاع من فضائل لم يثلثهما فيها أحد في زمانهما ولا كثير ممّن تقدّمهما (1)».
ومن هنا جاء حديثه عن الكرم واللؤم في أخلاقهما، والنقص والزيادة، والورع والانسلاخ، والرّزانة والسّخف، والكيس والبله، والشجاعة والجبن، والوفاء والغدر، والسّياسة والإهمال، والاستعفاف والنّطف، والدهاء والغفلة، والبيان والعيّ، والرّشاد والغيّ، والخطأ والصّواب، والحلم والسفه، والخلاعة والتماسك، والحياء والقحة، والرحمة والقسوة (2).
وسواء وفّى أبو حيّان بخطته هذه او لم يفعل، فإنه يريد، في إصرار،
__________
(1) الأخلاق 13، وانظر الإمتاع 1/ 54.
(2) الأخلاق 109.(1/4)
أن يظهر بمظهر الوفيّ لها، وأن عمله في هذا الكتاب سار على هذا النهج.
وأبو حيّان بعد هذا لم يكن من الجرأة ومناعة الجانب وإن أعجبه، حين يكون بنجوة من الخطر، أن يتظاهر بمظهر الشجاع الذي لا يقيم لخصمه أيّ وزن بحيث يتحدى الوزيرين وأشياعهما، فيسمي كتابه «مثالب» أو «ثلب» أو «ذم الوزيرين» كما حلا للناس أن يسموه فيما بعد، بل إنه بعد أن اختار لكتابه هذا العنوان الذي يسع المجال فيه للثناء بالخير وبالشر معا بلغ من جزعه أن أخفاه عن الأعين (1)، واحتفظ به في مسودته عنده، واعتذر للوزير ابن سعدان حين طلبه منه بأنه لا جسارة له على تحريره، وبأن جانب الصاحب مهيب، ومكره له دبيب، وتمثّل له بقول الأول:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتّقى ... ولا يعلم الإنسان ما في المغيّب (2)
وحين استسلم لوعيد أبي الوفاء البوزجاني، وقدّم له كتابه «الإمتاع»، وفيه، كما يقول أبو حيّان: «ما يشيط الدّم المحقون، وينزع من أجله الروح العزيز، ويستصغر معه الصّلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر» (3)، كان أيضا خائفا يترقّب ما لعلّه أن يلحقه من أذى لو اطلع الناس على ما في كتابه.
ولهذا جهد، ما وسعته الحيلة، في تبرير أقواله وأحكامه على الوزيرين وغيرهما في كتابه فالتوى في نقده، واحتجّ له بأن أناسا قبله هجوا وثلبوا
__________
(1) الأخلاق 50/ 54/ 55.
(2) الإمتاع 1/ 54.
(3) الإمتاع 1/ 13.(1/5)
من استحقّ أن يهجى وأن يثلب، ولم ينكر صنيعهم أحد (1) واستنجد بالمقاييس الدينية والخلقية، فأمدّته بأن لا غيبة للبخيل والمنافق، بل يجب ذكر مساوئهما ونقائصهما تحذيرا منها (2)، فجادل بها عن تصرفاته وأحكامه، ونصر بها أقواله.
ووقف وراء أقوام يروي عنهم ما يعبّر عن رأيه في الناس أو يسنده تارة، وقال، حيث غلبته طبيعته، وضاقت عليه السّبل لالتماس العذر. إن الشرّ بالشر والبادي أظلم (3) تارة أخرى.
وهو صنيع مهما كانت الوسيلة التي استعملها أبو حيان للتعبير عنه يكشف عن خوفه، ويوضّح هروبه من تحمّل التّبعات التي تجرّها عليه أقواله وآراؤه في كتبه.
إلى هنا، وجمجمة أبي حيّان في التعبير عن آرائه، وجزعه من أن يطّلع الناس عليها، وتعبيره في حديثه مع ابن سعدان وأبي سعيد الأبهرى عن مضمون كتابه بكلمة «أخلاق» كلّ هذا جميعه شاهد بصحّة العنوان الذي تحمله المخطوطة، وبأن أبا حيّان، وهذا حظّه من الشجاعة، لا يجرؤ فيما ألفناه على تسمية كتابه بمثالب أو ثلب أو ذم الوزيرين.
كان هذا وأبو حيّان في عداد الأحياء، وأمر تسمية كتابه في يده، له وحده أن يضع له أيّ اسم يريده.
__________
(1) الأخلاق 7955، 159151.
(2) الأخلاق 7168.
(3) الأخلاق 8786، 311.(1/6)
وأما بعد وفاته فالأمر قد اختلف، وأوّل ما نلاحظه أن صلة العلماء به وبكتبه قد بدأت في عصر مبكّر فقد نقل أبو العباس الجرجانيّ (المتوفى سنة 482هـ) في كتابه «الكنايات (1)» عن رسالة أبي حيّان الموسومة بنوادر الفقهاء، وعن كتابه البصائر والذخائر (2)، وأشار أبو الحسن البيهقي (المتوفى سنة 565هـ) في كتابه تتمة «صوان الحكمة» إلى كتاب «الهوامل والشوامل (3)»، وذكر أبو عبد الله المازري الصّقلّي (المتوفى سنة 536هـ) أنّ لأبي حيّان ديوانا عظيما في التصوّف (4)، وكأنه يشير إلى كتابه «الإشارات الإلاهية»، ونقل عنه محمد بن هلال بن المحسّن الصابي المعروف بغرس النعمة في كتابه «الهفوات (5)».
وكل هؤلاء قبل ياقوت، غير أن صلتهم جميعا بأبي حيان وياقوت مستثنى كانت عابرة، ولم تكن من الوثاقة والدوام وشمول النظرة، بحيث تظهر أبا حيان ذا كيان واضح، وطابع يميّزه عن غيره، وبحيث تذكر مؤلّفاته وتعدّدها فتضطرّ إلى تسميتها.
إن الصلة المستقصية لأحواله بهذه الصّورة، تأخر ظهورها إلى ما بعد وفاته بنحو مائتي عام.
__________
(1) الكنايات (نسخة فيض الله 104آ).
(2) المنتخب من كتاب الكنايات 37و 46و 98و 100. طبع القاهرة 1326هـ.
(3) تتمة صوان الحكمة 28. طبع لاهور سنة 1935م.
(4) شرح العقيدة الاصفهانية لابن تيمية 117. طبع القاهرة 1329هـ.
(5) الإرشاد 5: 381.(1/7)
وربما كان ياقوت الحموي (626575هـ) (1) أول من نظر إلى أبي حيان نظرة متأنّية، اتضحت له معها شخصيته وعلمه وأدبه، فعجب من إهمال المؤرخين له (2)، مع ما له من المنزلة الرفيعة التي أطلعه عليها تقصّيه لأحواله، وقراءته المنظّمة لكتبه.
وكأنّ عناية ياقوت باقتناء الكتب والاطلاع عليها، على اختلاف مذاهب مؤلّفيها ومشاربهم، واشتغاله بالنسخ، لغيره مقابل أجر (3)، قد مكّنه كل ذلك من أن يحصل على مجموعة من مؤلفات أبي حيان (4)، ويستخرج له منها ترجمة واسعة ضمنها كتابه «إرشاد الأريب».
وحينما نقل ياقوت عن كتابنا هذا، وقد كرّر النقل عنه، أورده بأسماء مختلفة ذكره باسم «أخلاق الوزيرين» في أربعة مواضع من الإرشاد (5)، وباسم كتاب «الوزيرين» في ثمانية مواضع منه (6)، وباسم «مثالب» في
__________
(1) الوفيات 2/ 254.
(2) الإرشاد 5/ 381.
(3) الوفيات 2/ 278.
(4) كان بين يديه منها: كتاب الأخلاق وقد نقل عنه أزيد من أربع عشرة مرة في كتابه الإرشاد. وكتاب محاضرات العلماء (الإرشاد 1/ 15، 2/ 314، 3/ 87، 6/ 466). وكتاب تقريظ الجاحظ وكان بخط أبي حيان (الإرشاد 1/ 124، 141، 3/ 86، 6/ 58و 96).
وكتاب الصداقة والصديق (الإرشاد 5/ 381). والبصائر والذخائر (الارشاد 1/ 148).
(5) 2/ 273، 281، 5/ 392، 404.
(6) 1/ 281، 2/ 44، 95، 273، 5/ 157، 380، 382، 392.(1/8)
موضع واحد (1)، وباسم «ذم الوزيرين» في موضع واحد أيضا (2).
وفي هذه المواضع جميعا، لم يقل ياقوت، ولو مرة واحدة: إن أبا حيان سمّى كتابه (3) هذا بأحد الأسماء التي ذكرها بها، ويجب أن لا يبقى هنا مجال لاحتمال أن يكون الكتاب قد سمي بها جميعا.
وبناء عليه، فالتفسير الذي نراه لصنيع ياقوت هذا، هو أنه استطال العنوان الذي على ظهر المخطوطة، والذي قدّرنا أن أبا حيّان وضعه علما لكتابه، فتصرّف فيه طلبا للاختصار، وأخذ اسم الكتاب من الموضوع الذي يتناوله.
وهو تغيير لا نفرضه على ياقوت، بل نستفيده من عمله في أسماء كتب أخرى فقد استطال أو استثقل اسم: «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب»، وهو الاسم الذي سمى به كتابه (4)، فأحال عليه في كتابه «معجم البلدان» باسم «معجم الأدباء» (5) مرة، وباسم «أخبار الأدباء (6)» مرة ثانية، وباسم «كتاب الأدباء» (7) مرة ثالثة. هذا صنيع ياقوت في كتابه.
__________
(1) الإرشاد 5/ 380.
(2) الإرشاد 5/ 382.
(3) وقد أخطأ ابن شاكر (عيون التواريخ سنة 380) حيث نسب لياقوت أنه قال: إن أبا حيان سمى كتابه مثالب الوزيرين.
(4) الإرشاد 1/ 13.
(5) معجم البلدان 6/ 289.
(6) معجم البلدان 5/ 289.
(7) معجم البلدان 6/ 177.(1/9)
وذكر كتاب «الفهرست» للطوسي، فسماه «كتاب مصنّفي الإمامية» حينا (1)، وكتاب «أخبار مصنفي الإمامية» (2) حينا آخر وكذلك «طبقات النحويين للزّبيدي» سماه: «أخبار النحويين (3)»، وكتاب «الأنساب» للسمعاني، سماه كتاب «النّسب (4)»، وكتاب «تحفة الأمراء للصّابي» سماه «كتاب الوزراء» (5)، وهكذا.
والحديث في تعداد الأمثلة لا يكاد ينتهي لو قصد إلى الاستقصاء، ولكن الأمر الذي يلفت النظر، هو أن التصرف في أسماء الأعلام، للكتب كانت أو للأشخاص، ظاهرة عرفتها الثقافة الإسلامية منذ أقدم عهودها، وقد بلغ من كثرتها أن مسّت حاجة المؤلفين المسلمين إلى تبريرها، وإيجاد فتوى لها ومن هنا نجد محمد بن عبد الباقي الزرقاني يقول: «إن الراجح لديهم جواز التصرف في أسماء الأعلام للكتب وللأشخاص (6)».
وعلى هذا المحمل نفسه نفهم تسمية ابن خلكان (7)، وابن حجر (8) للكتاب، وقد رأياه واستفادا منه: «مثالب الوزيرين»، أو «ثلب الوزيرين».
__________
(1) الإرشاد 1/ 64.
(2) الإرشاد 1/ 35.
(3) الإرشاد 2/ 35.
(4) الإرشاد 1/ 173.
(5) الإرشاد 2/ 40، 414.
(6) شرح المواهب اللدنية 1: 138.
(7) الوفيات 2/ 72.
(8) لسان الميزان 6/ 369وما بعدها.(1/10)
بقي أن نشير هنا إلى أن عبارة ابن خلكان في حديثه عن كتاب الأخلاق جاءت بهذه الصيغة: «وكان أبو حيان قد وضع كتابا سماه «مثالب الوزيرين» (1).
وهي صريحة في أن التسمية بمثالب الوزيرين من صنع أبي حيان نفسه.
ومع هذه الصّراحه، فإنا نرى أن ابن خلكان قد تساهل، ولم يلتزم الدقة التي عوّدناها في تعبيره.
ولن نشهد على تساهله غير أقواله ففي شمس الدين وحده الخصم والحكم.
فعندما ذكر ابن خلكان مؤلفات ياقوت الحموي قال: «وصنّف كتابا سماه إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء (2)، فاستعمل «سماه» وياقوت كما قلنا آنفا إنما سمى كتابه «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (3)» وعاد ابن خلكان فذكر الكتاب باسم «معجم الأدباء» في الصحيفة نفسها.
ويقول ابن خلكان أيضا «وحكى أبو البركات ابن الأنباري في كتابه الذي سماه مناقب الأدباء (4)»، فاستعمل «سمى» أيضا، وابن الأنباري إنما سمّى كتابه: «نزهة الألباء في طبقات الأدباء (5).
__________
(1) الوفيات 2/ 79.
(2) الوفيات 2/ 278.
(3) الإرشاد 1/ 13.
(4) الوفيات 2/ 242.
(5) نزهة الألباء 2.(1/11)
ولعل هذين المثالين كافيان للدلالة على أن ابن خلكان أفقد كلمة «سمى» هذه دلالتها المعروفة.
* * * ولم يخف أبو حيان الأسباب التي دفعت به في غير شفقة إلى تأليف كتاب الأخلاق هذا فقد فارق أعزته ببغداد، وهجر أهله وإخوانه بها، وقصد الصاحب بالريّ، آملا أن ينال ببابه ما كان طمعه يدندن حوله، ونفسه تحلم به، وأمله يطمئن إليه (1)، فخيب الصاحب أمله، وأساء معاملته، فتجرد أبو حيّان للانتقام.
ولقد أجاد في تصوير المأساة وحدتها بقوله: «ابتليت به وابتلي بي، رماني عن قوسه مغرقا. فأفرغت ما كان عندي على رأسه مغيظا، وحرمني فازدريته، وحقرني فأخزيته، وخصّني بالخيبة التي نالت مني، فخصصته بالغيبة التي أحرقته، والبادي أظلم، والمنتصف أعذر ولئن لم يرني أهلا لنائله وبره، إني لا أراه أهلا لقول الحق فيه، ونثّ ما كان يشتمل عليه من مخازيه (2)».
«وتابع المكروه من جهته، وتعقّبني بالشر، ومتى وجد غرّة اهتبلها، ولما رأى فرصة انتهزها، ولم يرض حتى حسر عن الذراع يدا، فكشف القناع، وجرّد العداوة، وأظهر التّسلط والتغلّب، ففاضت النفس بعد امتلائها (3)».
«ولما نالني هذا الحرمان الذي قصدني به وأحفظني عليه أخذت أتلافى
__________
(1) الأخلاق 85.
(2) الأخلاق 86، 87.
(3) الأخلاق 50.(1/12)
ذلك بصدق القول عنه في سوء الثناء عليه والبادي أظلم (1)».
ومات الصّاحب، وجرح أبي حيّان الدامي لم يندمل، وثائرته لم تهدأ، فهو لا يزال يقول: «ولئن كان منعني ماله الذي لم يبق له، فما حظر عليّ عرضه الذي بقي بعده (2)».
فهذا هو السّبب المباشر لهذه الخصومة التي سجّلها أبو حيان في كتابه هذا، وهو سبب كاف على حدته لإنشائها ولإذكائها معا.
فما دام الصّاحب ابن عبّاد، وأبو حيّان التّوحيدي، كل منهما إنسان له من الصفات البشرية السّيّء منها والحسن، يخطىء في سلوكه مع الناس ويصيب، فإن حرمان الصاحب أبا حيّان، وثورة أبي حيان عليه وثلبه في مقابل ذلك، جار على المجرى المألوف للحوادث، وليس فيه شذوذ يحتاج إلى التوجيه وإقامة المعذرة فيه.
والحياة اليوم وكذلك كانت بالأمس، تمدّنا بصورة مستمرّة، بالنّماذج التي لا يلحقها العدّ، لطلّاب الرزق بمختلف وسائلهم، ولآلاف أخرى ممن يمتحنهم القدر فيضعهم على أبواب الرزق، فيمنحون ويمنعون، حسبما شاءلهم هواهم أن يفعلوا، فيلهج الممنوح صادقا وكاذبا بالثناء، وينقلب المحروم نارا محرقة تأتي على اليابس والأخضر.
ومقارنة سريعة بين بعض صفات الصّاحب وأبي حيان، وتقدير
__________
(1) الأخلاق 311.
(2) الأخلاق 87.(1/13)
ما لعلّه أن يكون لهذه الصفات من أثر، يكشف عن عنصر هام كان يمدّ هذه الخصومة.
فالصاحب على ما عدّ من فضائله كان شديد الإعجاب بنفسه، يحب الفخر وينتحل لنفسه الفضائل التي ربما قصّر عنها (1) وكلماته وأسجاعه النّابية والقاسية التي جبه بها زوّاره ومنتجعيه ومحدّثيه، ومقطّعاته الشعرية التي هجا فيها جمعا من الفضلاء، فأفحش وأقذع (2) تدلّ جميعا على جرأته وسلاطة لسانه، وعدم تقديره لواجبات الرياسة.
وقد تجرع الصاحب نتيجة ذلك كله فهجاه جمع من الناس في حياته (3)
وبعد موته (4).
بهذه الصفات استقبل الصاحب أبا حيان.
وأبو حيان أديب واسع الثقافة، أكسبته صلته بالناس على اختلاف طبقاتهم، ومشاركته لهم في حياتهم يخبرها وينفذ إلى أعماقها تجربة واسعة ناقد مرّ لا تكاد عينه تخطىء مواطن النّقص، ذو حسّ مرهف ينفعل لأخفّ المؤثرات، ويسجّل أسرع الحركات وأخفاها مع قدرة لغويه فائقة تسعفه على نقل أحاسيسه نحو الناس مهما دقّت في غاية من الوضوح والصفاء.
__________
(1) الإرشاد 2/ 339.
(2) يتيمة الدهر 3: 247243، وعنها العباسي في معاهد التنصيص 2/ 156، 160.
(3) اليتيمة 3: 252251. والمعاهد 2: 160.
(4) تتمة اليتيمة 1: 100.(1/14)
وبهذه المواهب جميعا حضر مجلس الصّاحب، فرأى وسمع ولقى منه ما ملأ عليه حواسّه، فسجل وقعه الأليم على نفسه في كتابه هذا، وأخرجه صورا معبّرة رائعة ناطقة، أبان فيها أبو حيان عن أصالة فنّية خالدة.
أما أبو الفضل ابن العميد، فإن أبا حيان حسبما حكى عن نفسه لم يحضر مجلسه إلا مرتين فشاهد في إحداهما أعوان أبي الفضل يخرجون من مجلسه بمشهد منه رجلا غريبا صائما، في عشية من عشايا رمضان وقت الإفطار (1). وشاهد في ثانيتهما محنة شاعر من الكرخ مدح ابن العميد أبا الفضل فلم يجزه بشيء رغم إلحاحه ومطالبته له أمام الحضور (2).
ومع ذلك، فقد تركت هاتان الحادثتان في نفسه آثارا بلغ من بعد غورها أن رآه أهلا لأن يقرن في أخلاقه بالصاحب، وجعل يتتبّع أخباره ويستقصي نقائصه، نقلا عن جلّاسه وخواصّه، إلى أن اجتمع له ما نقرؤه في كتاب الأخلاق عن أبي الفضل.
ورأى أبو حيان وقد اتّصل بأبي الفتح ابن العميد وجالسه وأعجب به أن يذكره في كتابه، بعد أن خاض في حديث أبيه أبي الفضل، فأثنى عليه وأفاض،
__________
(1) الأخلاق 362. وقد نقل الصاحب ابن عباد ما يشبه هذه الحادثة عن أبي الفضل أيضا. المعاهد 2: 154وانظر محاضرات الراغب 1/ 315.
(2) الأخلاق 334وشهد لها ما يذكره ابن خلكان، الوفيات 2/ 7675.(1/15)
ثم عاد فنقده واتخذ من قصّة مقتله وسيلة لأن يعيد الكرة على الصاحب وينال منه بعد أن كان فرغ منه.
وهكذا شمل الحديث في كتاب «الأخلاق» ثلاثة من الوزراء.
وحين ذكر أبو حيّان للوزير ابن سعدان تلك الخلاصة الموجزة عن كتاب «الأخلاق» هذا في «الإمتاع» اختصر الكلام اختصارا أخلّ بنظمه، فظن بعض دارسي أبى حيان من المعاصرين أن ثاني الوزيرين هو أبو الفتح لا أبو الفضل.
وهو ظن يكشف عن خطئه كتاب الأخلاق نفسه.
* * * ونسخة كتاب «أخلاق الصاحب وابن العميد» وحيدة فيما نعلم، والاعتماد عليها وحدها عند نشره يعرّض الناشر إلى كثير من الغرر.
ومن هنا أحسست بالحاجة إلى الاستعانة بالمظان والمراجع التي رأيت أن الاستعانة بها من شأنها أن تعود على هذا النصّ بالتأييد والتقوية، وأن تشعر القارئ بنوع من الاطمئنان على سلامة النص، فاستنجدت بما أمكنني أن ألجأ إليه من كتب مخطوطة ومطبوعة، وأظنني لم أرجع خائبا فيما رجوته منها.(1/16)
وعليّ هنا أن أتقدم للمجمع العلمي العربي برجاء قبول عذري عن تأخري زمنا طويلا دون إنجاز العمل في هذا الكتاب، وأن أسجل له شكري الخالص على تفضّله بطبعه ضمن نشرياته.
وقد بذلت جهدي، وعساني أصبت أو قاربت. فإن أخطأت فلله وحده صفة الكمال.
الرباط 8/ 6/ 1965م محمد بن تاويت الطنجي
النص
بسم الله الرّحمن الرّحيم (1)
الحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على خير خلقه محمّد وآله الطيبين.
أمتعك الله بنعمته عليك، وتولّاك بحسن معونته لك وألهمك حمده، وأوزعك شكره، ومنحك صنعه وتوفيقه وأكسبك عفوه وعافيته، وأوصل إليك رأفته ورحمته، وصرف رغبتك إلى ما خلص عندك نفعه عاجلا، وحلّت لك ثمرته آجلا وعرّفك ما في الغيبة والفرية من الهجنة والشّناعة، وما في إظهار العيب والتّنديد من العار والتّباعة، وما في الإعراض عن أعراض الناس من السّلامة والفائدة، وما في مباقاتهم ومقاربتهم والتّوقير لهم من الرّاحة والعائدة (2)، حتّى لا تأتى ما تأتى إلّا وأنت واثق بعاقبته ومرجوعه، ولا تدع ما تدع إلا وأنت محسوم الطّمع من خيره ومردوده، وحتّى لا تتكلّف إلا ما في وسعك وطاقتك، ولا تكلّف
__________
(1) في الأصل بعد البسملة: «أخلاق الصاحب وابن العميد لأبي حيان»
(2) في الأصل: «والفائدة».
أحدا إلا ماله طريق إلى طاعتك وإجابتك، وعنده الحجّة القوية في تقديم أمرك، والتلوّى فيما يتحمّله لك ويتوخّى فيه مسرّتك، ويقصد به جذلك وغبطتك، ويصير بالصّبر عليه من أوليائك وشيعتك، ولا يخرج معه إلى محادّتك ومخالفتك، لأمر يعوز، وحادث يعرض، وعطن يضيق، وبال ينخزل (1)، وطباع تخور، وحاسد يطعن، وعدوّ يعترض، وجاهل يتعجرف، وسفيه يتهانف (2)، وصدر يحرج، ولسان يتلجلج بل يتلقّى أمرك بالقبول، وينشط لخدمتك بالتأميل (3) ويرى أنّ ما يناله من رضاك فوق ما يبذل فيه جهده لك، وما يحرزه من ثوابك أضعاف ما يبرزه من كدحه عندك، وما ينجو (4) به من عتبك واستزادتك (5)
يوفي على ما يتعلّق بسعيه في مرادك، وما يعزّ به في الثّاني من إحمادك أردّ عليه مما يذلّ به في الأول من اقتراحك، وما يقوى به من اليقين والطمأنينة في كرامته عندك أكثر مما يضعف به من الترنّح والشكّ في بواره عليك.
(1) ينخزل: ينقطع. وفي الأصل: «ينحزل»
(2) يتهانف: يضحك ساخرا.
(3) التأميل: الرجاء.
(4) في الأصل «ينجوا».
(5) استزادتك: عتبك، والوجد عليك.
وهذا باب يرجع إلى معرفة الأحوال إذا وردت مشتبهة مستبهمة، وعواقب الأمور إذا صدرت مستنيرة متوضّحة وثمرة هذه المعرفة السّلامة في الدنيا والكرامة في الآخرة، وبهذه المعرفة يصحّ الصّرف والموازنة، وتمييز ما اختلف فيه مما اتّفق عليه، وما ترجّح بين الاختلاف والاتفّاق، ولم يقم عند الامتحان والنظر على ساق.
وهذه حال لا تستفاد إلا بقلة الرضا عن النّفس، وترك الهويني (1)
في التّشاور والتّخاير (2)، ومجانبة الوكال (3) كيف دار الأمر وأين بلغت الغاية.
وأنت حفظك الله إذا نظرت إلى الدّنيا وجدتها قائمة على هذه الأركان، جارية على هذه الأصول، ثابتة على هذه العادة فكلّ من كان نصيبه من الكيس والحزامة (4) أكثر، كان قسطه من النّفع والعائدة أوفر، وكلّ من كان حظّه من العقل والتأييد أنزر، كانت تجارته فيها أخسر، وعاقبته منها أعسر.
وهذا الباب جماع المنافع والمضارّ، وبه يقع التفاوت بين الاخيار والأشرار، وبين السّفلة وذوى الأقدار وهو باب ينتظم الصّدق
(1) الهوينى: التكاسل. وفي الأصل: «الهوينا».
(2) هكذا بالأصل، وكأنها: «التخابر».
(3) الوكال، بوزن كتاب وسحاب: البظء والضعف.
(4) الحزامة: الحزم.
والكذب في القول، والخير والشرّ في الفعل، والحقّ والباطل في الاعتقاد، والعدل والجور فيما عمّ، والإخلاص واليقين فيما خصّ، والراحة والسكون فيما بان ووضح، والقناعة والصبر فيما نأى ونزح ومتى تمّت هذه المعرفة، واستحكمت هذه البصيرة، كان الإقدام على ثقة بالظّفر، والنكّول عن اطلاع على الغيب.
وهذه معان من أبصرها نقدها، ومن نقدها أخذ بها وأعطى، وكان فيها أنفد من غيره وأمضى وهناك يحكم لغوره بالبعد، ولصدره بالسّعة، ولصيته بالطّيرورة (1)، ولطباعه بالكرم، ولخلقه بالسّهولة ولعوده بالصّلابة، ولنفسه بالمرارة، ولوجهه بالطّلاقة، ولبشاشته (2) بالخلابة.
ومتى عاشرت من هذا نعته وحديثه نعمت معه، وسلمت عليه (3)، وسعدت به، وكرمت لديه، وكان حظّك من خلالته (4) ومجاورته الغبطة به، والغنيمة بمكانه وأنّى لك بمن هذا وصفه وخبره، ومن لك بالمرء الذي لا بعده، مع اضطراب دعائم الدّنيا، وتساقط أركان الدّين؟ والأول يقول:
(1) الطيرورة: الطيران.
(2) في الأصل: «وللبشاته».
(3) الخلالة: الصداقة.
(4) سلمت عليه: سلمت منه. وهو تعبير يتكرر في كلام أبي حيان.
وكيف التماس الدّر والضّرع يابس (1)
وما لامرىء ممّا قضى الله مزحل (2)
وليس لرحل حطّه الله حامل (3)
إنّ البريء من الهنات سعيد (4)
وما خير سيف لم يؤيّد بقائم (5)
ولكن أين بالسّيف ضارب (6)
(1) عجز بيت للمرقش الأكبر. وهو في المفضليات 227، وصدره:
«تعاللتها وليس طبى بدرّها»
(2) عجز بيت لابراهيم بن كنيف النبهاني، وصدره:
«فكيف وكل ليس يعدو حمامه»
وهو مع أبيات في الحماسة (بشرح التبريزي 1/ 137)، وأمالي القالي 1/ 171
(3) عجز بيت لكعب بن زهير، وصدره:
«وليس لمن لم يركب الهول بغية»
وهو مع بيت آخر في شرح ديوانه 257، (عيون الأخبار 1/ 231، وفي الشعراء (65ليدن) نسبه ابن قتيبة لزهير، ثم قال: وقيل إنه لولده كعب، وهو في ديوان زهير بشرح ثعلب 300، ومختارات ابن الشجري 65 منسوبا لزهير أيضا.
(4) أوله: «فأصون عرضي أن ينال بنجوة»
وهو في تهذيب الأزهري ولسان العرب (نجا)، غير منسوب.
(5) عجز بيت لبشار بن برد من قصيدة يهجو فيها المنصور العباسي، وصدره:
«وما خير كف أمسك الغلّ أختها»
وهو في ديوان المعاني 1/ 137، والمختار من شعر بشار 201، والغرر للمرتضى 1/ 92.
(6) جزء من بيت غفل، وتتمته: «فهذي سيوف يا عدى بن مالك * كثير»
الله يرزق لا كيس ولا حمق (1)
والبرّ خير حقيبة الرّجل (2)
ولقد أجاد المخزوميّ أبو سعد (3) في قوله:
اصطلح السائل والمسؤول ... ليس إلى مكرمة سبيل
غال بإخوان الوفاء غول ... كلّ امرىء بشأنه مشغول
وما أبعد الآخر حين يقول:
أرى الناس شتّى في النّجار وإن غدت ... خلائقهم في اللّؤم واحدة النّجر (4)
ويروى: «يا صدي بن مالك»، وهو في «ليس في كلام العرب» لابن خالويه 66، ورسالة الملائكة لأبي العلاء 24، والبحر المحيط لأبي حيان 5/ 12.
(1) عجز بيت لأبي العتاهيه من قصيدة في أمالي الزجاجي 37، والرواية هناك: «والله يرزق» وصدره:
«كلّ امرىء فله رزق سيبلغه»
(2) عجز بيت لامريء القيس، وصدره:
«الله أنجح ما طلبت به»
وهو في ديوان المعاني 1/ 81، والعمدة لابن رشيق 1/ 252برواية «الرجل».
(3) أبو سعد المخزومي ممن عرف بكنيته، واسمه عيسى بن الوليد وهو شاعر عباسي عاصر دعبلا الخزاعي وعبد الله بن أبي الشيص. وترد كنيته في كثير من كتب الأدب: «أبو سعيد»، وذلك تصحيف، وله ديوان قدره ابن النديم بمئة وخمسين ورقة.
انظر الفهرست 235، الأغاني 18/ 5450، البيان 3/ 250.
(4) النجار: الحسب والخلق، والنّجر: الاصل والطبيعة.
وقد زادني عتبا على الدّهر أنّني ... عدمت الذي يعدي على حادث الدّهر
وهذا كثير، ولداء فيه متفاقم، والقول عليه معاد مملول.
فإن قلت: هاؤلاء شعراء، والشّعراء سفهاء، ليسوا علماء ولا حكماء، وإنما يقولون ما يقولون، والجشع باد منهم، والطمع غالب عليهم، وعلى قدر الرّغبة والرّهبة يكون صوابهم وخطأهم ومن أمكن أن يزحزح عن الحقّ بأدنى طمع، ويحمل على الباطل بأيسر رغبة، فليس ممّن يكون لقوله إتاء (1)، أو لحكمته مضاء، أو لقدره رفعة، أو في خلقه طهارة ولهذا قال القائل:
لا تصحبنّ شاعرا فإنّه ... يهجوك مجّانا ويطري بثمن
وهذا لأنه مع الرّيح، أين مالت به مال، يتطوّح مع أقلّ عارض، ويجيب أول ناعق، ويشيم (2) أيّ برق لاح، ولا يبالي في أيّ واد طاح فقد جمع دينه ومروءته في قرن تهاونا بهما، وعجزا عن تدبيرهما فهو لا يكترث كيف أجاب سائلا، وكيف أبطل مجيبا، وكيف ذمّ كاذبا ومتحاملا، وكيف مدح مواربا ومخاتلا (3). فلا تفعل (4)، فداك
(1) الإتاء، بوزن كتاب: الثمرة والقيمة. وفي الأصل: «آتاء».
(2) شام البرق: نظر إليه ليعرف أين يتجه وأين يمطر.
(3) في الأصل: «ومخاثلا».
(4) هذا جواب قوله: «فإن قلت».
عمّك، وشبّ ابنك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه قد قال: «إن من الشّعر لحكما» (1)، كما قال: «وإنّ من البيان لسحرا» (1)، وكيف لا يكون ذلك كذلك وفيه مثل قول لبيد (2):
إن تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل (3)
والشّعر كلام وإن كان من قبيل النظم، كما أن الخطبة كلام وإن كان من قبيل النّثر، والانتثار والانتظام صورتان للكلام في السّمع، كما أن الحقّ والباطل صورتان للمعنى، وكذلك المثل في السمع (؟)، وليس الصواب مقصورا على النّثر دون النظم، ولا الحقّ مقبولا بالنّظم دون النّثر وما رأينا أحدا أغضى على باطل النّظم واعترض على حقّ النّثر لأن النّثر لا ينتقص من الحق شيئا وما أحسن ما قال القائل (4):
(1) الحديث بهذه الصيغة في النهاية 1/ 246، 1/ 150، الامتاع والمؤانسة 3/ 163، زهر الآداب 1/ 53، 38وهو برواية: «إن من البيان سحرا، ومن الشعر حكما» في صحيح الترمذي (مع عارضة الأحوذي 10/ 287 288)، مسند الإمام أحمد 1/ 309303.
(2) ترجمة لبيد ومراجعها في الشعراء 231، والمكاثرة 33.
(3) البيت مع آخرين في الأغاني 14/ 98، وهو في اللسان (نفل) برواية: «ريثي والعجل».
(4) هو حسان بن ثابت (الشعراء 264)، والبيتان في ديوانه 292، العمدة 1/ 95، شرح المقامات 1/ 12. وترتيبهما على عكس رواية ابي حيان هنا.
وإنّما الشعر لبّ المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا
وإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال، إذا أنشدته، صدقا
وهذا باب لا يفيد الإغراق فيه إلّا ما يفيد التّوسط والقصد، فلا وجه مع هذا للإطالة، ولما يكون سببا للملالة.
وهذه الجملة أكرمك الله أنت أحوجتني إليها، وجشّمتني صعبها حتى نشبت بها قائما وقاعدا، وتقلّبت في حافاتها مختارا ومضطرا، وتصرّفت في فنونها محسنا ومسيئا، لما تابعت إليّ من كتاب بعد كتاب، تطالبني في جميعه (4) بنسخ أشياء من حديث ابن عبّاد وابن العميد وغيرهما ممّن أدركت في عصري من هاؤلاء، منذ سنة خمسين وثلاثمائة إلى هذه الغاية، وزعمت أنّي قد خبرت هذين الرجلين من غمار الباقين، ووقفت على شأنهما، واستبنت دخائلهما، وعرفت خوافي أحوالهما، وغرائب مذاهبهما وأخلاقهما. ولعمري قد كان أكثر ذاك، إما بالمشاهدة والصّحبة، وإمّا بالسّماع والرّواية من البطانة والحاشية والنّدماء وذوي الملابسة.
وقلت: ينبغي أن تضيف إلى ذلك ما يتعلّق به، ويدخل في طرازه / ولا يخرج عن الإفادة بذكره، والاستفادة من نشره فإن
(4) كذا في الأصل، والأولى «جميعها».
ذلك يأتي على كل ما تتوق إليه النّفس من كرم ولؤم، وزيادة ونقص، وورع وانسلاخ، ورزانة وسخف، وكيس وبله، وشجاعة وجبن، ووفاء وغدر، وسياسة وإهمال، واستعفاف ونطف (1)، ودهاء وغفلة، وبيان وعيّ، ورشاد وغيّ، وخطإ وصواب، وحلم وسفه، وخلاعة وتمالك، ونزاهة ودنس، وفظاظة ورقّة، وحياء وقحة، ورحمة وقسوة.
وقلت: ولا يحلو (2) موقع ذلك كلّه ولا يعذب ورده، ولا يغزر عدّه (3)، ولا ينقاد السمع له، ولا يراح (4) القلب به إلا بعد أن تدع المحاشاة (5) وأنت مقتدر، وتفارق المخاشاة (6) وأنت منتصر، وإلا بعد أن تترك العدوّ والحاسد ينقدّان (7) بغيظهما انقدادا، ويرتدان على أعقابهما ارتدادا فإن التّقية في هذا الفنّ مجزعة مضرعة، وركوب الرّدع فيه مأثرة ومفخرة.
(1) النطف: التلطخ بالعيب.
(2) في الاصل: «ولا يجل».
(3) العدّ: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع.
(4) راح القلب يراح: برد وطاب.
(5) المحاشاة: التجنب.
(6) المخاشاة: الخوف، مفاعلة من الخشية.
(7) ينقدّان: ينشقان من الغيظ، وفي الأصل: «يتّقدان».
وقلت والعامة تقوله: من جعل نفسه شاة دقّ عنقه الذّئب (1)، ومن صيّر نفسه نخالة أكله الدّجاج، ومن نام على قارعة الطريق دقّته الحوافر دقّا، والكبر في استيفاء الحق من غير ظلم، كالتّواضع في أداء الحق من غير ذل، وكما أن المنع في موضع الإعطاء حرمان، كذلك الإعطاء في موضع المنع خذلان وكما أن الكلام في موضع الصّمت فضل وهذر، كذلك السكوت في موضع الكلام لكنة وحصر، وكما أن القلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها، كذلك النّفوس طبعت على بغض من أساء إليها والجبل والطّبع وإن افترقا في اللفظ فإنهما يجتمعان في المعنى، وكما أن الحبّ نتيجة الإحسان، كذلك البغض نتيجة الإساءة، وكما أن المنعم عليه لا يتهنأ (2) بنعمته الواصلة إليه إلا بالشّكر لواهبها، كذلك المساء إليه لا يجد برد غلّته ولذّة حياته إلا بأن يشكو (3)
صاحب الإساءة، وإلا بأن يهجو (4) المانع، ويذمّ المقصّر، ويثلب الحارم وينادي على الخسيس السّاقط، والنّذل الهابط، في كلّ سوق، وفي كل مجلس، وعند كل هزل وجدّ، ومع كل شكل وضدّ ميزان عدل، ووزن بقسط، ونصفة مقبولة، وعادة جارية على وجه الدّهر.
(1) مثل من أمثال العامة، ذكره الآبي في «نثر الدرر» صحيفة 706 (نسخة كوپريلي)
(2) لا يتهنأ: لا يستسيغ ولا يلتذّ.
(3) في الأصل: «يشكوا».
(4) في الأصل: «يهجوا».
وقلت أيضا: ومن وجع قلبه وجعك، وألم علّته ألمك وحرم حرمانك، وخيّب خيبتك، وجرّع ما جرّعته، وقصد بما قصدت به، وعومل بما شاع لك، قال وأطال، وكرّر وسيّر، وأعاد وأبدأ، وعرّض وصرّح، ومرّض وصحّح (1)، وقام وقعد، وقرّب وبعّد وإنّ عينا ترقد على الضّيم للعمى أحسن بها، وإن نفسا تقرّ على الخسف للموت أولى بها من حياتها.
وقلت: أما سمعت قول العاتب على ابن العميد في رسالته حين قال الحقّ له؟
قال: (2) وليعلم المرء وإن عزّ سلطانه، وعلا مكانه، وكثرت حاشيته وغاشيته، وملك الأعنة، وقاد الأزمّة أنه ينعم له (3) في الحمد على الحسن، والذّم على القبيح، وأن المخوف يرتاب (4) من ورائه
(1) مرّض الأمر: وهّنه، ورأى مريض: فيه انحراف عن الصواب، ومرّض الحديث: ضعفه.
(2) وردت هذه الفقرة: «وليعلم المرء من ساس الناس» في «البصائر والذخائر» (ج 1ورقة 50أ 50ب نسخة الفاتح رقم 3695)، وهى حسب قول أبي حيان هناك جزء من رسالة طويلة، وقد أورد منها فاتحتها، وبعض فقر منها، ووعد بان «يوردها على ما هي».
(3) ينعم له في الحمد: يزاد له فيه.
(4) يرتاب من ورائه: يتعرض له في غيبته ويتّهم. ورواية البصائر:
«يغتاب من ورائه».
كما يقرّع المأمون في وجهه، فأعلاهما حالا أكثرهما عند التقصير وبالا.
وهذا باب يعرفه من النّاس من ساس الناس وهذا الكاتب يعرف بالأشلّ (1).
وقلت أيضا:
ولست أسألك أن لا تذكر من حديثهما إلّا ما كان جالبا لمقتهما، وداعيا إلى الزّراية عليهما، وباعثا على سوء القول والاعتقاد فيهما، بل تضيف إلى ذلك ما قد شاع لهما وشهر عنهما، من فضائل لم يثلثهما فيها أحد في زمانهما، ولا كثير ممن تقدّمهما فإن الفائدة المطلوبة في أمرهما وشرح حديثهما، تأديب النّفس، واجتلاب الأنس، وإصلاح الخلق، وتخليص ما حسن مما قبح، وتسليط النّظر الصّحيح، مع العدل المحمود فيما أشكل واشتبه بين الحسن المطلق والقبيح المطلق، وقلت:
ومما ينبغي أن لا تغفله ولا تذهب عنه، وتطالب نفسك بالتيقّظ فيه، والتّجمّع له: باب اللفظ والمعنى في الصّدق والكذب،
(1) يقول عنه أبو حيان في البصائر 1/ 50ا: «وبعض الكتاب يقول:
وما خلق الله شيئا لا موضع له حتى يسقط البتة. هذا من رسالة لبعض من انتجع سماء الرئيس أبي الفضل ابن العميد، وبقى على بابه أسير طمع يزلقه على مداحض الذل، ومتوقع يأس لا يصح له فينتهى إلى الغير، فكتب إليه بعد ملاحم (50ب) رسالة أولها» الخ.
فإنّك إن حرّفت / في هذا بعض التحريف، أو جزّفت (1) في ذاك بعض التجزيف، خرج معناك من أن يكون فخما نبيلا، ولفظك من أن يكون حلوا مقبولا، لأن الأحوال كلّها في صلاحها وفسادها موضوعة دون اللفظ المونق، والتأليف المعجب، والنّظم المتلائم وما أكثر من ردّ صالح معناه لفاسد لفظه، وقبل فاسد معناه لصالح لفظه! وقلت:
وإنما نبّهتك على هذا شفقة عليك، وحرصا على أن لا يكون لمعنت وعائب طريق إليك، وأنت بحمد الله مستوص لا تحوج إلى تنبيه بعنف، وإن أحوجت إلى إذكار بلطف وقد كان البيان عزيزا في وقت البيان، والنّصح غريبا في وقت النّصح، والدين مستطرف في وقت الدين، إذ الحكمة معانقة بالصّدر والنّحر، مقبّلة بكل شفة وثغر، مخطوبة من جميع الآفاق، يقرع من أجلها كلّ باب، ويحرق على فائتها كلّ ناب (2)، والأدب متنافس فيه، محروص على الاستكثار منه (3)، مع شعبه الكثيرة وطرائقه المختلفة والدين في عرض ذلك مذبوب عنه بالقول والعمل، مرجوع إليه بالرّضا والتسليم، مقنوع به في
(1) جزّفت: أرسلت القول جزافا من غير تقديره ووزنه.
(2) حرق الناب: صوت عند احتكاكه بناب آخر، يفعل ذلك عند الندم والغيظ.
(3) في الأصل: «على الإكثار منه». وما أثبت عن حاشية الأصل.
العضب والحلم فكيف اليوم وقد استحالت الحال عجماء، وملك الغنى والثّراء الرؤساء والعلماء، وقلّ الخائض فيما كسب زيادة أو نفى نقيصة، وأورث عزّا وأعقب فوزا.
وقلت:
وليكن ذلك (1) كلّه إذا نشطت له مقصورا غير مبسوط، أو بين المقصور والمبسوط، فإنه إن زاد على هذا التحّديد طال، وإذا طال ملّ، وإذا ملّ نظر إلى صحيحه بعين السّقيم، وحكم على حقّه بلسان الباطل، وتخيّل القصد فيه إسرافا، والعدل فيه جورا، وعند ذلك يحول عن بهجته ومائه، ورونقه وصفائه.
وجميع ما قلته حاطك الله وأتيت به، وسحبت ذيلك عليه، ورفلت أعطافك فيه، قد سمعته وفهمته، وطويته في نفسي وبسطته، وجمعته بذهني وفرّقته، ونظمته عندي ونثرته ولست جاهلا به ولا ذاهلا عنه، ولكن من لي بعتاد ذلك كلّه، وبالتأتيّ له، وبالقدرة عليه، وبالسّلامة فيه إن فاتتني الغنيمة فيه؟ مع صدري الضيّق، وبالي المشغول ومع رزوح الحال (2)، وفقد النّصر، وعدم القوت، وسوء الجزع، وضعف التوكل نعم!، ومع الأدب المدخول، واللسان الملجلج، والعلم
(1) في الأصل: «ولكن ذلك».
(2) رزوح الحال: ضعفها.
القليل، والبيان النّزر، والخوف المانع وإني لأظنّ أن الطائع لك في هذه الخطة، والمجيب عن هذه المسألة، قليل التقّية، سيّء البقية، ضعيف البديهة والرّوية لأنه يتصدّى لما لا يفي به، ولا يتّسع له، ولا يتمكّن منه فإن وفى واتّسع وتمكّن لم يسلم على كثير ممن يقرأ كلامه، ويتصفّح أمره، ويقصّ أثره، ويطلب عثرته لأن الناس في نشر المدح والذّم، وفي بسط العذر واللّوم على آراء مختلفة، ومذاهب متباينة، وأهواء مشتعلة (1)، وعادات متعاندة.
على أنّهم، بعد شدة جدالهم وطول مرائهم (2)، رجلان:
متعصّب لمن تذمّه وتعيبه وتنثّ (3) القبيح عنه، فهو يغتفر له جميع ما يسمع منك، صادقا كنت أو كاذبا، معرّضا كنت أو مفصحا.
أو متعصّب على من تمدحه وتزكّيه وتفضّله وتثني عليه، فهو يردّ عليك كلّ ما تدّعيه، محقّقا كنت أو مجزّفا، موضّحا كنت أو مزخرفا ولذلك قال بعض علماء السّلف الصالح: هما امر آن مثواك بينهما، راض عنك فهو يمنحك أكثر مما هو لك، وساخط عليك يتنقّصك (4) من حقك فرمّ ما ثلم الباغي بفضلة الراضي يعتدل بك الأمر
(1) مشتعلة: مختلطة متفرقة.
(2) في الأصل: «وطول مراتهم».
(3) نث الحديث: أذاعه وأفشاه.
(4) في الأصل: «يننقّصك».
والشاعر قد فرغ من هذا المعنى وسيّره في قريضه المشهور المتداول حيث يقول:
وعين الرّضا عن كل عيب كليلة ... ولكنّ عين السخط تبدي المساويا (1)
على أن هذا الشاعر قد أثبت العيب وإن كان قد وصفه بكلول العين عنه، ودلّ على المساوي وإن كان السّخط مبديها، وهذا لأن الهوى مقيم لا بث والرأي مجتاز عارض، ولا بد للهوى من أن يعمل عمله، ويبلغ مبلغه، وله قرار لا يطمئن / دونه، وحد هو أبدا يتعدّاه ويتجاوزه، وله غول تضلّ، وتمساح يبتلع، وثعبان إذا نفخ لا يبقي ولا يذر، والرأي عنده غريب خامل، وناصح مجهول.
وقال بعض الحكماء (2): فضل ما بين الرأي والهوى أن الهوى يخصّ والرأي يعمّ، والهوى في حيّز العاجل، والرأي في حيّز الآجل، والرأي يبقى على الدّهر، والهوى سريع البيود (3) كالزّهر، والرأي
(1) البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (الاغاني 11/ 7463، البيان 1/ 312) وهو مع أبيات في عيون الأخبار 3/ 75 76، 3/ 11، كامل المبرد 1/ 183، زهر الآداب 1/ 125، والرواية فيها:
«فعين الرضا».
(2) في زهر الآداب 3/ 243: «وقال بعض الفلاسفة اليونانيين» ثم ذكر الخبر برواية تختلف ألفاظها عما هنا قليلا.
(3) البيود: الهلاك.(1/17)
من وراء حجاب، والهوى مفتّح الأبواب ممدّد الأطناب ولذلك قال أيضا بعض العرب، ويقال هو عامر بن الظّرب (1): الرأي نائم والهوى يقظان، فأرقدوا الهوى بفظاظة، وأيقظوا الرأي بلطافة.
وقال الشاعر:
كم من أسير في يدى شهواته ... ظفر الهوى منه بحزم ضائع
وقال أعرابي: لم أر كالعقل صديقا معقوقا، ولا كالهوى عدوّا معشوقا ومن وفّقه الله للخير جعل هواه مقموعا، ورأيه مرفوعا.
وإذا كان الهوى أبقاك الله على ما وصفنا، وعلى وراء ما وصفنا مما لا نحيط به وإن أطلنا، فمتى يخلو المادح إذا مدح من بعض الإفراط تقرّبا إلى مأموله، وخلابة (2) لعقله، واستدرارا لكرمه، وبعثا على تنويله وتخويله وهذه حال مصحوبة في الممدوح إذا كان أيضا غائبا أو ميّتا؟ أو متى يسلم الذامّ إذا ذمّ من بعض
__________
(1) هو أحد المعمّرين من حكام العرب في الجاهلية. وترجمته في كتاب «المعمرين» لابي حاتم، كنايات الجرجاني (الورقة 104من نسخة ولي الدين رقم 2628)، والخبر في كتاب «المعمرين»، «البيان» 1/ 264، الهوامل 264، عيون الاخبار 1/ 37، زهر الآداب 3/ 243.
(2) الخلابة: إمالة القلب بلطيف من القول.(1/18)
الإسراف تعنّتا لصاحبه وحملا عليه بالإنحاء الشّديد، والقول الشّنيع، والنّداء الفاضح، والحديث المخزيّ، وجريا مع شفاء الغيظ وبرد الغليل؟ لأن جرعة الحرمان أمرّ من جرعة الثكل، وضياع التّأميل أمضّ من الموت، وخدمة من لم يجعله الله لها أهلا أشدّ من الفقر، وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرّحمة، والتّجاوز والصّفح، والجود والنائل، وصلة العيش وبذل مادّة الحياة وما يصاب به روح الكفاية وحرمان المؤمّل من الرّئيس ككفران النّعمة من التّابع (1) ورحى الحرب في هذا الموضع راكدة (2)، والقراع عليه قائم، والخطابة في دفعه وإثباته واسعة، والتّمويه مع ذلك معترض، والاعتذار مردود، والتأويل كثير، والتّنزيل (3) قليل.
ولقد رأيت الجرجرائيّ (4) وكان في عداد الوزراء وجلّة الرؤساء،
__________
(1) في البصائر والذخائر 1/ 50، من رسالة الاشل التي أشرت إليها قبل: «وحرمان المجتهد من الرئيس ككفران النعمة من التابع»
(2) راكدة: ثابتة ودائرة، من الاضداد. والمراد هنا: دائرة.
(3) التنزيل: وضع الشيء في منزلته ومكانه.
(4) الجرجرائي: محمد بن أحمد البغداذي الكاتب، مات سنة 363هـ، وترجمته وأحداثه مع الوزير ابن بقية فيّ تجارب الامم 2/ 323310 وفي المقابسات لابي حيان 81حديث لابي سليمان المنطقي مع الجرجرائي حول «الوزارة»، ثم حديث عنه بعد مقتله من أجلها. وانظر الامتاع 3/ 317.(1/19)
وإنّما قتله ابن بقية (1) لأنه نغم له بالوزارة يقول للحاتميّ أبي عليّ (2)، وهو من أدهياء النّاس:
إنما تحرم لأنك تشتم.
فقال الحاتميّ: وإنما أشتم لأبي أحرم.
فأعاد الجرجرائي قوله.
فأعاد الحاتميّ جوابه.
__________
(1) ابن بقية: أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن بقية بن عليّ الملقب نصير الدولة. وزير لعز الدولة بختيار في سنة 362هـ، وبقى في الوزارة أربع سنين وكان قبل الوزارة يتولى أمر المطبخ لمعز الدولة، فلما ولي الوزارة قال الناس: «من الغضارة إلى الوزارة» يشيرون إلى وضاعة أصله، ولكن كرمه غطىّ على عيبه. وفي سنة 367قتله عضد الدولة وصلبه، وبقى مصلوبا إلى أيام صمصام الدولة حيث أنزل ودفن. ترجمته في عيون التواريخ لابن شاكر سنة 362، 367 (ج 11ورقة 146ب 148، نسخة أحمد الثالث) عقد الجمان للعيني سنة 362، 367 (الورقة 70ب 75ب نسخة بشير آغا)، تاريخ أبي الفداء 2/ 119، 125. وانظر بعض أخباره في الامتاع 1/ 42 43، وفي يتيمة الدهر 2/ 344 (طبع مصر) قصيدة لابن الأنباري في رثائه تعتبر من عيون الشعر العربي.
(2) أبو علي الحاتمى: محمد بن الحسن بن المظفر البغداذي المتوفي سنة 388هـ. لغوى كاتب ناقد شهير، وله مؤلفات. وقد وصفه أبو حيان (الامتاع 3/ 127126) بثقل الروح والغرور والخيلاء. ترجمته في تاريخ الاسلام للذهبي 12/ 198 (نسخة أيا صوفيا رقم (3008)، عيون التواريخ سنة 388.(1/20)
فقال ثم ماذا؟
فقال الحاتميّ: دع الدّست (1) قائمة، وإن شئت عملناها على الواضحة.
قال: قل!
قال الحاتميّ: يقطع هذا أن لا يسمعوا مدائحهم، ولا يكترثوا (2)
بمراتبهم وأن يعترفوا لنا بمزية الأدب وفضل العلم وشرف الحكمة، كما خذينا (3) لهم بعظمة الولاية، وفضل العمل، وبسط اليد، وعرض الجاه، والاستبداد بالتنعّم والطّاق والرّواق، والأمر والنّهي، والحجاب والبوّاب وأن يكتبوا على أبواب دورهم وقصورهم:
يا بني الرّجاء! ابعدوا عنّا، ويا أصحاب الأمل! اقطعوا أطماعكم عن خيرنا وميرنا (4)، وأحمرنا وأصفرنا، ووفّروا علينا أموالنا، فلسنا
__________
(1) الدست، يستعمل ويراد به الديوان، ومكان الوزارة، كما يستعمل بمعنى الرياسة والوزارة نفسها استعارة من المعنى السابق. انظر تاج العروس (دست) شفاء الغليل للخفاجى 97. والمعنى: إما أن تدع هذه المسألة تسير على هذا النحو، وإما أن نتكلم في إيضاحها بصورة صريحة واضحة.
(2) لا يكترثوا، هكذا في الصلب، وفي الحاشية: «لا يتكثروا».
(3) خذينا: خضعنا وانقدنا.
(4) ميرنا: طعامنا، ومن أقوالهم: «ما عنده خير ولا مير»، أي عاجل ولا آجل.(1/21)
نرتاح لنثركم (1) في رسالة تحبّرونها، ولا لنظمكم في قصيدة تتخيّرونها، ولا نعتدّ بملازمتكم لمجالسنا، وتردّدكم إلى أبوابنا، وصبركم على ذلّ حجابنا، ولا نهشّ لمدحكم وقريضكم، ولا لثنائكم وتقريظكم ومن فعل ما زجرناه عنه ثم ندم فلا يلو منّ إلا نفسه، ولا يقلعنّ إلا ضرسه، ولا يخمشنّ إلا وجهه، ولا يشقّنّ إلا ثوبه، وإنّ من طمع في موائدنا يجب أن يصبر على أوابدنا، ومن رغب في فوائدنا نشب في مكايدنا.
فأمّا إذا استخدمونا في مجالسهم بوصف محاسنهم، وستر مساويهم، والاحتجاج عنهم، والكذب لهم وأن نكون ألسنة نفّاحة عنهم فليثيبوا على العمل، فإنّ في توفية العمّال أجورهم قوام الدنيا، وحياة الأحياء والموتى فإن قصّرنا بعد ذلك في إعادة الشكر وإبدائه، وتنميق الثّناء وإفشائه، فإنّهم من منعنا في حلّ، ومن الإساءة إلينا في سعة.
فرأيت الجرجرائي حين سمع هذا الكلام النّقي، وهذه الحجّة البالغة وجم ساعة ثم قال: لعمري إذا جئنا إلى الحقّ، / ونظرنا فيه بعين لا قذى بها، ونفس لا لؤم فيها، فإن العطاء أولى من المنع، والتنويل أولى من الحرمان، والخطأ في الجود أسلم من
__________
(1) لنثركم: استصواب، وفي الأصل: «لبشركم».(1/22)
الصّواب في البخل، لأن الصّواب في البخل خفيّ جدّا، وقلّ من يعرفه، والخطأ في الجود حلو جدّا، وقلّ من يكرهه.
وأنا أقول: قد صدق هذا الرّجل الجليل في هذا الحرف صدقا لا تماري فيه.
ولقد (1) جرى بيني وبين أبي عليّ مسكويه (2) شيء هذا موضعه.
قال مرّة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا وهو يعني ابن العميد في إعطائه فلانا ألف دينار ضربة واحدة؟ لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحقّ.
فقلت له بعد ما أطال الحديث وتقطّع بالأسف: أيها الشيخ! أسألك عن شيء واحد واصدق، فإنّه لا مدبّ للكذب بيني وبينك، ولا هبوب لريح التّمويه علينا لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 406عن أبي حيان في «كتاب الوزيرين» وهو في مخطوطة «الارشاد» نسخه كوپريلي في الورقة 170.
(2) مسكويه: أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه أبو علي المتوفي سنة 421هـ، صحب أبا الفضل ابن العميد سبع سنين، وكان خازن كتبه ولأبي حيان كلمات في وصفه دلّ بها على خلقه وخلقه وحظه من العلم تجدها في الصداقة 32 (الجوائب)، والامتاع 1/ 3635. وترجمته في تتمة اليتيمة 1/ 100، الارشاد 2/ 9688.(1/23)
وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أكنت تتخيّله في نفسك مخطئا ومبذّرا ومفسدا وجاهلا (1) بحق المال؟ أو كنت تقول: ما أحسن ما فعل! وليته أربى عليه؟ فإن كان ما تسمع على حقيقته، فاعلم أنّ الذي بدّد مالك، وردّد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، فأنت تدّعي الحكمة، وتتكلّم (2) في الأخلاق وتزيّف منها الزّائف، وتختار منها المختار. فافطن لأمرك، واطّلع على سرّك وشرك.
هذا ذكرته أبقاك الله لتتبيّن أنّ الخطأ في العطاء مقبول، والنّفس تغضي عليه، والصّواب في المنع مردود، والنفس تقلق منه ولذلك قال المأمون (3) وهو سيّد كريم، وملك عظيم، وسائس معروف:
«لأن أخطىء باذلا أحبّ إليّ من أن أصيب مانعا، والشّاعر يقول (4):
لا يذهب العرف بين الله والنّاس (4)
__________
(1) الارشاد: «أو جاهلا».
(2) الارشاد: «وأنت تدعى وتتكلّف في».
(3) المأمون: عبد الله بن هارون الرشيد. أعلم الخلفاء العبّاسيين بالكلام والفقه. تولى الخلافة سنة 198هـ، وتوفي سنة 218هـ وقد ذكر له ابن النديم في الفهرست 168مؤلفات.
(4) هو الحطيئة: جرول بن أوس بن مالك (الأغاني 2/ 6243)، وصدر البيت:
«من يفعل الخير لا يعدم جوازيه»(1/24)
وإن كان يكفر النعمة بعض من أنعم عليه بها، إنه ليشكرها كثير ممّن لم يتلمّظ (1) حلاوتها، ولم يطعم فتاتة منها، ولم يسغ جرعة من غديرها، ولم يسحب ذيلا من أذيالها.
وصدر هذا الكلام شبيه بشيء لا بأس بروايته في هذا الموضع وإن لم يكن من قبيل ما طال القول فيه، وتوالى النّفس به.
قال المأمون لأبي العتاهية (2): إذا قال الله لعبده: لم لم تطعني، أيّ شيء يكون من جوابه؟
فقال: يقول: يا ربّ لو وفّقتني لأطعتك.
قال: فإن الله يقول: لو أطعتني لوفّقتك.
__________
وهو في ديوانه بشرح السكري 45، ومع بيتين آخرين في «ديوان المعاني» 1/ 4038، وانظر ديوان المعاني 1/ 118أيضا.
(1) يتلمظ: يتذوق.
(2) أبو العتاهية: إسماعيل بن القاسم أبو إسحاق، شاعر عباسي مجيد، ينزع في شعره إلى الزهد. توفي سنة 210هـ.
ترجمته في طبقات الشعراء لابن المعتز 107105، الفهرست 227، تاريخ أبي الفداء 2/ 31، الشعراء 770765.
وكان أبو العتاهية يرد على «القدرية»، وله مناظرة في مبحث «القضاء والقدر» مع ثمامة بن الأشرس المعتزلي ذكرها ابن عبد ربه في كتاب «العقد» 2/ 382.(1/25)
قال أبو العتاهية: فإن العبد يقول: لو وفّقتني لأطعتك، أيكون ما يحتاج العبد إليه نسيئة، وما يطالبه الله به نقدا؟
قال المأمون: فما يقطع هذا؟
قال: يا أمير المؤمنين، اضرب عنه، فإنّ الدّست قائمة (1).
وأرجع فأقول:
وما خلا النّاس منذ قامت الدّنيا من تقصير واجتهاد، وبلوغ الغاية، وقصور عن النّهاية، وتشارك في المحامد والمذامّ، والمساوي والمحاسن، والمناقب والمثالب، والفضائل والرّذائل، والمكارم والملائم، والمنافع والمضارّ، والمكاره والمسارّ ومن بعض ما يكون للقائل فيه مندوحة، وللشّاغب به استراحة، وللنّاظر فيه متّسع، وللسّامع فيه مستمتع (2) وأحسنهم حالا، وأسعدهم جدّا، وأبلغهم يمنا، وأربحهم بضاعة، من كانت محاسنه غامرة لمساويه، ومناقبه ظاهرة على مثالبه، ومادحه أكثر من هاجيه، وعاذره أنطق من عاذله، والمحتجّ عنه أنبه من المحتجّ عليه، والنّافح (3) عنه أصدق
__________
(1) الدست قائمة: المشكلة مستمرة، والقول فيها تتصل أواخره بأوائله.
(2) كرر أبو حيان هذا المعنى في الصداقة 25 (الجوائب).
(3) نافح عنه: خاصم عنه.(1/26)
من النافح فيه (1) وليس العمل على عدد هذه وهذه، ولكن على أن لا يكون مع صاحب المحاسن من الخصال اللّئيمة ما يحبطها ويجتاحها، ويختلعها (2)، ويأتي عليها وإن صغر جرم تلك الخلّة (3)، وخمل اسم تلك الخصلة وأن يكون مع صاحب المساوي من الخلال الكريمة ما يغطّيها، ويسبل السّتر عليها، ويعين الذّائد عنها، ويبيّض وجه النّاصر لها، ويمدّباع المتطاول إليها وكما وجدنا السّيّئات يحبطن الحسنات، كذلك قد وجدنا الحسنات يذهبن السّيّئات.
والعمود الذي عليه المعوّل، والغاية التي إليها الموئل، في خصال ثلاث هنّ دعائم العالم، وأركان الحياة، وأمّهات الفضائل، وأصول مصالح الخلق في المعاش والمعاد وهنّ: الدّين، والخلق، والعلم، بهنّ يعتدل الحال، وينتهى إلى الكمال، وبهنّ تملك الأزمّة، وينال أعزّ ما تسمو إليه الهمّة وبهنّ تؤمن الغوائل، وتحمد العواقب لأنّ الدّين جماع المراشد والمصالح، والخلق نظام الخيرات والمنافع، والعلم رباط الجميع ولأنّ الدّين بالعلم يصحّ، والخلق بالعلم يطهر،
__________
(1) النفح: الضرب والرمي، وأشدّ العذاب يعني أن يكون المدافع عنه أصدق من الطاعن فيه.
(2) اختلع الشىء: انتزعه.
(3) الخلة، بالفتح: الخصلة.(1/27)
والعلم بالعمل يكمل فمن سلم دينه من الشّك واللّحاء (1)، وسوء الظّنّ والمراء، وثبت على قاعدة التّصديق بموادّ اليقين الذي / أقرّ به البرهان، وطهّر خلقه من دنس الملال (2)، ولجاج الطّمع، وهجنة البخل، وكان له من البشر نصيب، ومن الطّلاقة حظ، ومن المساهلة موضع وحظي بالعلم الذي هو حياة الميّت، وحلي الحيّ، وكمال الإنسان فقد برّز بكل فضل، وبان بكل شرف، وخلا عن كلّ غباوة، وبرئ من كلّ معابة، وبلغ النّجد (3) الأشرف، وصار إلى الغاية القصوى.
ولم أذكر لك العقل في هذا التّفصيل، وهو أولهنّ، وبه يتم آخرهنّ، وعليه مجرى جميع ما افتنّ القول به لأنه موهبة الله العظمى، ومنحته الكبرى، وباب السعادة في الآخرة والأولى، وكان ما عداه فرعا عليه، ومضموما إليه لأنه متى عدمه الإنسان الحيّ الناطق فقد سقط عنه التكليف، وبطل عليه الاختيار، وصار كبعض البهائم العاملة، وكبعض الشّخوص الماثلة وبه يعرف الدّين، ويقوّم الخلق، ويقتبس العلم، ويلتمس العمل الذي هو الزّبدة وقد يعدم العمل والعقل موجود، وقد يفقد الخلق والدّين ثابت فليس
__________
(1) اللحاء بالكسر: المنازعة.
(2) «دنس الملال» كذا في الأصل، ولعلها: «دنس الخلال».
(3) النجد: ما ارتفع من الأرض.(1/28)
الأصل كالفرع، ولا الأول كالثاني، ولا العلّة كمجلوب العلّة، ولا ما هو قائم (1) كالجوهر، كما هو داثر كالعرض فلهذا أضربت عن ذكره، وغنيت عن الاستظهار به وإذا تمّت فائدة الكلام فما زاد عليه لغو، وإذا استقرّ فيه المعنى فما ألمّ به فساد.
والناس هداك الله من هذه الخصال التي ميّزتها والخلال التي نصصت القول فيها، على أنصباء مختلفة، وهم فيها على غايات متنازحة، بالقلّة والكثرة، والضّعف والقوة، والنقصان والزيادة، ومن أجلها يتوخّون بالحمد على الإحسان، ويخدمون بالشّكر على الجميل، ويحيّون بالنّصائح الخالصة، ويحبّون بالقلوب الصّافية ويثنى عليهم بالقرائح النّقية، والطّويات المأمونة، ويذب عنهم بالنيات الحسنة والألسنة الفصيحة ويغاونون عند الشدائد الحادثة، والنوائب الكارثة، والأمور الهائلة، والأسباب الغائلة، بالمال المدخور، والنّصح المنخول (2)، ويدفع عنهم (3) بالأيدي الباطشة، والأقدام الثّابتة، والأرواح العزيزة، والأنفس الكريمة وكذلك
__________
(1) قائم: ثابت.
(2) المنخول: الخالص، من قولهم نخل الودّ والنصيحة: أخلصهما.
(3) في الأصل «عنهن».(1/29)
يوكسون (1) على التّقصير باللّائمة، ويجبهون على اللّؤم بالآبدة ويذمّون على التهاون بكل فاقرة، ويطوّقون كلّ خزي ومعرّة، ويواجهون بكلّ شنعاء مفضعة (2)، ويغتابون بكل فاحشة منكرة، ويرمون بكل ساقطة ولاقطة، ويحرقون بكل نار حامية، ويقذفون بكل مخجلة مندية.
فهذا جمهور الخبر عن حال المحسن (3) إذا أحسن، وحال المسيء إذا قصّر، وهم وإن كانوا على هذا السّياق ثابتين، ولهذا المنهاج سالكين، فإنهم يتنزّعون (4) إلى أصول حديثة وقديمة، وأعراق كريمة ولئيمة، والمجدود من بينهم من لاث (5) الله بيافوخه الخير، وعقد بناصيته البركة، وجعل يده ينبوع الإفضال والجود، وعصم طباعه من
__________
(1) وكسه: وبّخه. في الأصل: «يؤكلون»، والمعنى معها صحيح أيضا.
(2) مفضعة، هكذا رواية الأصل بالضاد، ولها معنى ليس ببعيد أن يكون أبو حيان قد عناه. وقد تكون أيضا: «مفظعة» بالظاء المشالة. وفي شعر لطفيل الغنوى (في رواية):
أناس إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء مفظع
وانظر أمالي القالى 1/ 54.
(3) في الأصل: «حال المجتهد».
(4) يتنزّعون: ينزعون ويرجعون.
(5) لاث: أدار وربط. واليافوخ: الرأس.(1/30)
الخساسة والدّناءة، وكفاه عار البطالة والفسالة (1) ونزّهه عن الإسفاف والنّذاله.
وهذا كله ثمرة البصيرة الثّاقبة، والنّية الحسنة، والضّمير المأمون، والغيب السّليم، والعقد المؤرّب (2)، والحقّ المؤثر وإن كان مرّا، والأدب الحسن وإن كان شاقّا، والعفافة التي أصلها الطّهارة، والطّهارة التي أصلها النّزاهة ومن عجن الله طينته بهذا الماء، وروّح عنه بهذا الهواء، وأطلق نفسه في هذا الجو، وقلبه على هذا البساط، وسقاه بهذا النّوء، فقد أيّده بروح القدس، ووصله بلطيف الصّنع، وأكمل عليه النّعمة الجليلة، وأبانه بالشّرف المحسود، وميّزه بالمزية التامّة، وخصّه بخيم (3) الأنبياء، وألبسه جلباب الأصفياء، وأتاه ضرائب الصالحين وأحضره توفيق المهديّين المرضيّين.
وقد صحّ حفظك الله عندي، ووضح لي أنّ الذي هاجك على هذا المعنى حتى حرّكتني له، وطالبتني به، ولم ترض منّي إلا بالمبالغة والاستقصاء وإلا بمباداة (4) الأعداء. وذوي الشّحناء: اجتماعنا في
__________
(1) الفسالة: الضعف وعدم المروءة، وفي الأصل «العشالة».
(2) المؤرّب: الموثق المحكم.
(3) الخيم: الطبيعة والسجية.
(4) بادى بالعداوة: جاهر بها، وبادى فلانا: كاشفه.(1/31)
مجالس العلماء، وتلاقينا على أبواب الحكماء والأدباء أيام كنت أفكّهك بالحديث النّادر، واللّفظ الحسن، فأضحك سنّك بما ملح وحرّ (1)، وأزيدك في خلال ذلك كلّه خبرة بالدّهر وأهله، واعتبارا بالزّمان وتصرّفه، وأفتح عليك باب المؤانسة، وأصف لك أخلاق النّاس وما يفترقون به ويجتمعون عليه من غرائب الأمور، وطرائف الأحوال أيام كان عود الشّباب رطيبا، وورق الحياة نضيرا، وظلّ العيش ممدودا، ونجم الزّمان متوقّدا ومقترح النّفس مواتيا، وروض المنى خضلا، ودرّ النّعمة متّصلا، وداعي الهوى مشمّرا أيام رأسك فينان، وأنت كالصّعدة تحت السّنان (2)، / شطاطك (3) معجب، وحديثك معشوق، وقربك متمنّى، واللّيل بك قصير، والنّهار عليك مقصور، والعيون إليك طوامح، والعواذل دونك نوائح وذاك زمان مضى فانقضى، فإمّا غويا وإما رشيدا وكان الوقت يقتضي ذلك ويسعه، والحال تواتيه وتحمله، والعذر يقع لطالبه وملتمسه لكنّي إذا
__________
(1) حرّ: صار حرّا، والحرّ: خيار كل شيء.
(2) الصّعدة: القناة تنبت مستوية فلا تحتاج إلى تثقيف، والسنان:
نصل الرمح.
(3) الشطاط، بالفتح والكسر: حسن القوام واعتداله.(1/32)
نظرت إلى أملي المتعلّق بك، وطمعي الحائم عليك، ورجائي المذبذب (1)
عليك حولك وحالي التي جعلك الله كافلها وراعيها، وجامعها، وناظم ما انتثر منها، ومؤلّف ما انتشر عنها رأيت البدار إلى بغيتك أدبا محمودا، وحظا مدركا، والتّراخي عن طاعتك حرمانا حاضرا، وعتبا مؤلما.
وهكذا صنيع الطّمع فقل لي ما أصنع إن ردّ اعتذاري من يسرّه عثاري، ويسوءه استمراري (2) وليس إلا الصّبر فإنه مفتاح كل باب مرتج (3) وبرود كلّ حرّان ملهج (4)، وما زال الطّمع قديما وحديثا وبدءا وعودا يضرع (5) الخدّ الصّقيل، ويرغم الأنف الأشمّ، ويعفّر الوجه المفدّى، ويغضّن العارض المندّى، ويحني القوام المهتزّ، ويدنّس العرض الطاهر ولحا الله الفقر فإنه جالب الطّمع والطّبع (6)، وكاسب الجشع والضّرع، وهو الحائل بين المرء ودينه، وسدّ دون مروءته وأدبه، وعزّة نفسه ولقد صدق الأول (7) حيث قال:
__________
(1) كذا في الأصل. ولعلها: «المدندن».
(2) استمراري: نجاحي.
(3) مرتج: مغلق.
(4) البرود من الشراب: ما يبرد الغلّة. والملهج: المحروم الممنوع من الماء يقال ألهج الفصيل جعل في فيه خلالا فشده ليلا يصل إلى الرضاع.
(5) أضرع فلانا: أذلّه.
(6) الطبع: الدنس، ومن أمثالهم: «ربّ طمع يهوى إلى طبع».
وانظر ديوان المعاني 1/ 138.
(7) هو حميد بن أبي شحاذ الضبيّ، أو خالد بن علقمة الدرامي. وانظر اللسان (نجد).(1/33)
وقد يقصر القلّ الفتى دون همّه ... وقد كان لولا القل طلّاع أنجد (1)
وما كذب الآخر حيث يقول:
إذ المرء لم يقن الحياء إذا رأى ... مطامع نيل دنّسته المطامع
إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه ... وأهوت إليه بالعيوب الأصابع (2)
وأجاد الآخر حين قال:
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا (3) ... والفقر يزري بأحساب وألباب
وما أملح قول الأعرابيّ (4) في قافيته:
__________
(1) البيت في اللسان (نجد، قلل)، وهو مع آخر في البيان والتبيين 3/ 340، وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 52، والخزانة 1/ 563. والمعنى:
قد يقصر الفقر الفتى عن سجيته في السخاء فلا يجد ما يسخو به، ولولا فقره لسما وارتفع.
(2) البيت الثاني في محاسن البيهقى 1/ 215، ومجموعه المعاني 128 غير منسوب.
(3) شالت نعامة القوم: خلت منازلهم منهم، وارتحلوا عنها فتفرقت كلمتهم وذهب عزّهم.
(4) هو ذو الخرق الطهوي، شاعر جاهلي، واسمه: (كما في الخزانة 1/ 20، والمؤتلف 110109، وشرح شواهد المغني لعبد القادر البغدادي 63) خليفة بن حمل بن عامر بن حميري. والبيت في محاضرات الراغب 1/ 254، وهو مع أبيات أخرى في شرح شواهد المغنى والخزانة للبغدادى والمؤتلف، ومع آخرين في اللآلي 747. وانظر اللسان 11/ 364.(1/34)
ما بال أمّ حبيش (1) لا تكلّمنا ... إذا افتقرنا (2) وقد نثري فنتّفق
وصدق، لأنها إذا لحقته على الفقر رغبت عنه ولم تواصله، وفركته واختارت عليه.
وما أحسن ما قال بعد هذا في وصف سيرته وحسن عادة أهله، فإنه قال:
إنّا إذا حطمة حتّت (3) لنا ورقا ... نمارس العود (4) حتى ينبت الورق
وصاحب الفقر إن مدح فرّط، وإن ذمّ أسقط، وإن عمل صالحا أحبط، وإن ركب شيئا خلط وخبّط ولم أر شيئا أكشف لغطاء الأديب، ولا أنشف لماء وجهه، ولا أذعر (5) لسرب حياته منه، وإن الحرّ الآنف، والكريم المتعيّف (6) من مقاساته والتجلّد عليه، لفي شغل شاغل وموت مائت.
__________
(1) رواية اللآلى: «أم سويد».
(2) في المؤتلف: «إذا افترقنا»، وفي اللآلى: «لما التقينا».
(3) الحطمة، بالضم والفتح: السنة الشديدة، وحتّ الورق عن الشجر: سقط.
(4) في شرح شواهد المغنى للبغدادي والخزانة: «نمارس العيش».
(5) أذعر: اسم تفضيل من ذعر بمعنى تفر.
(6) كذا بالاصل، والمتعيف: الكاره، وأخشى أن تكون: «المتغيف»، من تغيّف عن الأمر: بمعنى نكل عنه.(1/35)
وعلى ما قدّمت من هذه الكلمات، وأطلت به هذا الباب، فقد امتثلت أمرك وسارعت إليه، وأرجو أن تهب لي فيه رضاك إن وقع موقعه الذي أمّلته، وتهديني إلى عين الصواب إن زلّ عن حدّك الذي حدّدته، وما غاية أملي به، وقصارى همتي منه، إلا أن أكون سببا قويا فيما حاز لك الشكر منّي، وأوفر عليك الحمد عنّي، وأذاقك حلاوة مدحي وتمجيدي، والشاعر يقول:
العرف أصل يجتنى ... من فرعه الثّمر الحميد
يبلى الفتى في قبره ... وفعاله غضّ جديد
وسأجعل قصدي نحو السّلامة إذا غلبني اليأس من الغنيمة، وأضيف إلى متن الحديث فوائد كثيرة، وأجتهد معذرا (1)، وأتقصّى معذورا، وأحكم (2) متكرّما، وأقول ما أقول رائيا وراويا على أنّي لا أثق بالخاطر إذا طاش، ولا باللّسان إذا همز، ولا بالقلم إذا استرسل، ولا بالهوى إذا اشتمل وسوّل فإن الهوى يعمي ويصمّ، ولعلّ الغيظ يجرح؟؟؟ ويجهز.
وهذه آفات متداركة لا سبيل إلى التفصي منها، والسّلامة
__________
(1) أعذر فلان: بلغ العذر، وثبت له العذر.
(2) متكرما: متنزها في الحكم عما يشين.(1/36)
عليها (1)، وذاك لأن الكلام في حمد من يحمد، وذمّ من يذم، إن نمّق تنميقا دخله التزيّد، والمتزيّد مقليّ، وإن أرسل على غراره شانه التّقصير، والمقصّر معجّز ولأن يدخله التقصير فيكون دليلا على الإبقاء، أحبّ إليّ من أن يدخله التزيّد فيكون دليلا على الإرباء على أنّ من وصف كريما أطرب، ومن أطرب طرب، والطّرب خفّة وأريحية تستفزّان الطّباع، وتشبّهان الحصيف بالسّخيف (2) فأما من حدّث عن لئيم فإنّ أساس كلامه يكون على الغيظ، والغيظ نار القلب، وخبث اللّسان، وتشنيع القلم، فكيف الإنصاف في وصف هذين الرجلين على هذين الحدّين، مع سرف الهوى، ووقدان الغيظ، وعادة الجور، وداعية الفساد، وصارفة الصّلاح؟
وهذه أعراض لا محيص منها ولا أمان / من اعترائها، ولا واقي من تعاورها، وبعض هذا يهتك ستر الحلم وإن كان كثيفا، ويفتق جيب التجمّل وإن كان مكفوفا (3)، ويخرج إلى الجهل وإن كان يقبّحه متقدّما.
__________
(1) والسلامة عليها: أي السلامة منها. وانظر الحاشية رقم 4في صحيفة 4.
(2) الحصيف: المحكم الرأي، والسخيف: والناقص العقل.
(3) كف الثوب: خاط حاشيته، والكف: الخياطة الثانية بعد الشل، والكلام على التجوز.(1/37)
وكنت هممت ببعض هذا منذ زمان، فكبح عناني عن ذلك بعض أشياخنا وقصّر إرادتي دونه، وزعم أن الاختيار الحسن، والأدب المرضيّ ينهيان عنه، ولا يجوّزان الخوض فيه لأنّ الغيبة والقذع والعضيهة (1) والتّقبيح والسّبّ المؤلم والكلام القاشر (2)، والمكاشفة بالملامة (3) والشتيمة بلا مراقبة ليست من أخلاق أهل الحكمة، ولا من دأب ذوي الأخلاق الكريمة، وقد قال بعض الحكماء: لا تكوننّ الأرض أكتم منا للسّر ومن اعتاد الوقيعة في الأعراض، ومباداة الناس بالسّفه (4)، وثلبهم بكل ما جاش في الصّدر، وتذرّع به اللّسان، فليس ممّن يذكر بخير، أو يرجى له فلاح، أو يؤمن معه عيب قال: وهل الحلم إلا في كظم الغيظ، وفي تجرّع المضض، وفي الصّبر على المرارة، وفي الإغضاء عن الهفوات ومن لك بالمهذّب النّدب (5)
الذي لا يجد العيب إليه مختطى (6)، والأول (7) يقول:
__________
(1) العضيهة: الإفك والبهتان.
(2) القاشر: الجارح، والقاشرة: اول الشجاج التي تقشر الجلد.
(3) في الأصل: «بالعلامة».
(4) مباداة الناس بالسّفه: مجاهرتهم به.
(5) الندب: الخفيف الظريف السريع إلى الفضائل.
(6) مختطى: سبيلا يختطى إليه منه.
(7) هو النابغة الذبياني، وترجمته مع الإشارة إلى مراجعها في كتاب «المكاثرة عند المذاكرة» للطيالسي صحيفة 31.(1/38)
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب (1)
وقيل: لو تكاشفتم ما تدافنتم (2)، ولو تساويتم ما تطاوعتم ولا بدّ من هنة تغتفر، ومن تقصير يحتمل، والاستقصاء فرقة، وفي المسالسة تحبّب، ومن ناقش في الحساب فقد رغب عن سجاحة (3)
الخلق، وحسن الملكة وإيثار الكرم.
وهذا الذي قاله هذا الشيخ الصالح مذهب معروف، وصاحبه حميد، لا يدفعه من له مسكة من عقل وسيرة صالحة في النّاس، وأدب موروث عن السّلف وليت هذا القائل ولي من نفسه هذه الولاية، وعامل غيره بهذه الوصية، وليته بدأ بهذا الكلام وما شاكمه الرئيس الذي قد أخرج تابعه إلى هذا العناء والكدّ، وإلى هذا (4) القيام والقعود!
لا، ولكنّه رأى جانب البائس المحروم ألين، وعذل المنتجع المظلوم أهون، وزجر المتلذّذ بما ينثّه ويستريح به أسهل فأقبل عليه واعظا، وأعرض عن ظالمه محابيا.
__________
(1) البيت في ديوانه (شرح البطليوسي 14)، وديوان المعاني 2/ 196، وحماسة البحتري 72، وشرح المقامات 1/ 293.
(2) في البيان والتبيين 2/ 23: أن هذه الجملة من الكلمات التي تروي لأقوام شتى، وقد نسبها الدميري في حياة الحيوان 2/ 208إلى الحسن البصري.
وانظر الصداقة 47واللسان والنهاية في (دفن، وكشف).
(3) سجاحة الخلق: سهولته.
(4) «وإلى هذا» مكررة في الأصل، وشطبها بعض القراء.(1/39)
وبعد فصاحب هذا القول وادع غير محفظ (1)، وموفور غير منتقص، وناعم البال غير مغيظ، وصحيح الجناح غير مهيض ولو شيك بحدّ قتادة (2) لكنّانقف على عريكته كيف تكون، وعلى شكيمته كيف تثبت، وكنّا نعرف ما يأمر به مما يأتمر عليه، وليس برد العافية من حرّ البلاء في شيء.
ولما وقعت الفتنة بالبصرة أيام المهلّب (3) كان أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن (4) يثبّط الناس عن الوثوب مع بني المهلّب في قتال أهل الشام، وقام بذلك مقاوم شقّت على مروان بن المهلّب (5)، فقام مروان ذات يوم
__________
(1) غير مغضب.
(2) القتاد: شجر له شوك كالإبر، واحدته قتادة.
(3) هو أمير البصرة أبو سعيد المهلّب بن أبي صفرة الأزدي المتوفي سنة 82 أو 83هـ، فارس مشهور له ولبنيه في حروب الخوارج مشاهد معروفة ذكر جملة وافرة منها المبرّد في «الكامل».
وترجمة المهلّب في الوفيات 2/ 195191، شرح المقامات 2/ 310 311، والوافي بالوفيات (26/ 116115ب نسخة أحمد الثالث رقم 2920).
(4) هو الحسن البصري المتوفي سنة 110هـ. وترجمته في طبقات ابن سعد 7/ 156والوفيات 1/ 161160، تهذيب الاسماء 1/ 161، تهذيب التهذيب 2/ 270263وتاريخ الإسلام 4/ 10698، وطبقات الفقهاء للشيرازي 168.
(5) مروان بن المهلب بن ابي صفرة، ذكره ابن حزم في الجمهرة 348 في أبناء المهلب.(1/40)
خطيبا، وحثّ الناس على الجد والانكماش (1)، ثم عرّض بالحسن فقال: بلغني أن هذا الشيخ الضالّ الطالح المرائي يثبّط الناس عن الطلب بحقّنا والله لو أنّ جاره نزع من خصّ داره قصبة لظلّ أنفه راعفا، ودمعه واكفا، وقلبه لاهفا (2)، ولسانه قارفا (3) وينكر علينا أن نطلب ما لنا، وكلاما غير هذا غادرناه قادرين لأنه لا وجه للإطالة به ولا أقول إن مروان بن المهلّب، أحقّ بما قال من الحسن، ولكن الحسن تكلّم على مذهب النّسّاك، ومروان قابل ذلك بمذهب الفتّاك.
وفي الجملة أبقاك الله ليس المضطرّ كالمختار، ولا المحرج كالسّليم، ولا الموفور (4) كالموتور (5)، ولا كل حكم يلزم المتوسّط في حاله يلزم المتناهى في حاله ومتى كان عافاك الله التابع كالمتبوع، والآمل كالمأمول، والمستميح (6) كالمنعم، والمغبوط كالمرحوم، والمدرك، كالمحروم هذا في منقطع الثّرى، وذلك في قلّة المزن.
__________
(1) الانكماش: الحدّ والعزم.
(2) فلان لاهف القلب: محترقه.
(3) قرف: كذب وعاب واتهم.
(4) الموفور: التام الذي لا ينقصه شيء.
(5) الموتور: من قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، ويقال: فلان وفور غير موتور.
(6) «والمستميح» مهملة في الأصل فتحتمل: «والمستمنح».(1/41)
هذا عمرو بن بحر أبو عثمان (5)، وهو واحد الدّنيا، كتب رسالة طويلة في ذمّ أخلاق محمد بن الجهم (6)، ومدح أخلاق ابن أبي
__________
(5) هو الجاحظ: عمرو بن بحر المتوفي سنة 255هـ. وترجمته في تاريخ بغداد 12/ 220218، الإرشاد لياقوت 6/ 8056، أمالي المرتضى 1/ 199194. وانظر تاريخ الادب العربي لبرو كلمن 1/ 152، الملحق 1/ 239.
(6) محمد بن الجهم البرمكي من الشخصيات الكبيرة التي عفّى على معالمها الزمن، ويستخلص من النتف القليلة المتناثرة عنه أنه كان من فلاسفة المتكلمين، عالما بالمنطق، منقطعا إلى دراسة كتب أرسطوطاليس في الكون والفساد والكيان وحدود المنطق وأنه كان طبيبا أمينا جليل القدر عالما بالتنجيم.
وقد نقل الجاحظ عنه مباشرة وبواسطة في كتابيه: الحيوان والبيان فقرات في مواضيع مختلفة تدل على سعة في العلم والتجربة، ودقة في الملاحظة.
واتصل بالخليفة المأمون فأجلّه وللمأمون ألّف كتابا في الاختيارات وصفه أبو معشر بأنه «قريب المأخذ صحيح المعاني جدّا».
ولمحمد بن الجهم هذا كتب الكندى الفيلسوف (كما في طبقات الاطباء 1/ 212) رسالته «في الإبانة عن وحدانية الله عز وجلّ، وعن تناهي جرم الكلّ». وفي رسائل الكندي التي نشرها الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة 1/ 201: أن الكندي ألف هذه الرسالة لعلي بن الجهم الشاعر وهو خطأ.
وأخبار محمد بن الجهم هذه وغيرها في: البيان 1/ 103، 2/ 256232، والحيوان (بواسطة الفهارس)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة 6160 وعيون الأخبار له 2/ 4، 34، 61، 63، 104، 204، طبقات الأمم لصاعد 60، العقد الفريد 6/ 246245، 177، 197، 231، 235، زهر الآداب 3/ 261، أخبار الحكماء للقفطي 186، طبقات الاطباء 1/ 212، لسان الميزان 5/ 109، الارشاد 2/ 168.(1/42)
دواد (1)، وبالغ في الوصفين، وخطب على الرّحلين، ولم يترك قبحية إلا أعلقها محمدا، ولا حسنة إلا منحها أحمد، وحتّى جعل ابن الجهم مع إبليس في نصاب واحد، وابن أبي دواد مع ملك في نقاب واحد وهكذا «عمل من طبّ لمن حبّ (2)» إذا غضب فسبّ، أو رضي فمدح وأطنب. وما أحسن ما دلّ على هذا المذهب أشجع / السّلمي (3)
بفحوى كلامه، فإنه قال:
أعليّ لوم أن مدحت معاشرا ... خطبوا إليّ المدح بالأموال
يتزحزحون إذا رأوني مقبلا ... عن كلّ متّكأ من الإجلال
وإذا لم يكن عليه لوم في مدح المحسن إليه، فكذلك لا عتب عليه في ذمّ المسيء إليه.
__________
(1) أحمد بن أبي دواد أبو عبد الله القاضي المتوفي سنة 240هـ. ترجمته في الوفيات 2/ 3226، لسان الميزان 1/ 171، تاريخ بغداد 4/ 141 156، البداية 11/ 323318،
(2) مثل في أمثالهم في التنوّق في الحاجة وتحسينها: «عمل من طبّ لمن حبّ»، أي صنعة حاذق لمن يحبّ. وهو في اللسان (طبب).
(3) أشجع بن عمرو السلمي، شاعر نشأ بالبصرة، ومدح الرشيد والبرامكة وتوفي في حدود المائتين. ترجمته في الوافي بالوفيات (9/ 106نسخة شهيد على 1966)، طبقات ابن المعتز 119117، الشّعراء 857، الأغاني 17/ 5130، تاريخ بغداد 7/ 54، المعاهد 2/ 133. والبيتان في محاضرات الراغب 1/ 177غير منسوبين.(1/43)
نعم، وأفاد أبو عثمان في رسالته فوائد لا يخفى مكانها على قارئها، وقام فيها مقام الخطيب المصقع (1)، والسّهم (2) النافذ، والنّاصر المدلّ، والمنتقم المستأصل فهل قال أحد ممن له يد في الفضل، وقدم في الحكمة، وعرفان بالأمور، وقوله معدود فيما يقال، وحكمه مقبول فيما يثبت ويزال: بئس ما صنع وساء ما أتى به؟ بل تهادوه وحفظوه، واستحسنوه وتأدّبوا به، وحذوا على مثاله وإن كانوا وقعوا دونه.
ولم صنّف النّاس المناقب والمثالب (3)؟ ولم نشروا أحاديث الكرام واللّئام؟ وكثير من الناس عافاك الله لا غيبة لهم، أو فى غيبتهم أجر، وقد وقع في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره النّاس» (4). وحدّثنا برهان الصوفي (5) قال: ذمّ بشر الحافي (6) بخيلا ثم قال: إن البخيل لا غيبة له، قيل: وكيف؟ قال:
__________
(1) المصقع، بالصاد وبالسين: البليغ.
(2) في الأصل: «والشهم النافد».
(3) انظر مقدمتنا لهذا الكتاب.
(4) الحديث في المقاصد الحسنة للسخاوي 167166، وفيه هناك كلام لنقاد الحديث حول ثبوته وصحته. وانظره أيضا في رفع الخفا للعجلوني 1/ 106، 2/ 172171، 366.
(5) برهان الصوفي من أصحاب الجنيد، وقد سمع منه أبو حيان كلاما في السلوك والخلق، روى منه نتفا تجد نموذجا منها في الصداقة 29، 123.
(6) أبو نصر بشر بن الحارث المروزي المتوفي سنة 227هـ. ترجمته في(1/44)
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني سلمة (1) من سيّدكم؟ قالوا: الجدّ بن قيس (2) على بخل فيه، قال: فأيّ داء أدوى من البخل». فذكره وليس هو بالحضرة.
وهذا عيسى بن فرّخانشاه (3) عزل عن الوزارة وكان مستخفّا بأبي العيناء (4) فوقف عليه أبو العيناء وقال:
__________
تاريخ بغداد 7/ 8067، ومناقب الأبرار لابن خميس (ورقة 45، نسخة ولي الدين رقم 1618)، الفهرست 261، الحلية 8/ 336، الرسالة 14، الوفيات 1/ 112.
(1) «يا بني سلمة» بكسر اللام، وانظر المجتنى لابن دريد 25.
(2) الجد بن قيس مترجم له في الاصابة 1/ 239238، 4/ 290 291. والقصة في المعجم الصغير للطبراني (طبع الهندسة 1311هـ).
والاصابة 4/ 291290، وسيرة ابن هشام 2/ 104.
(3) عيسى بن فرخانشاه (فرخان شاه) أبو موسى الكاتب، ووزر للمعتز العباسي (255252هـ). ترجمته في نكت الوزراء للجاجرمي (ورقة 317، نسخة الحميدية 1447)، والفخري 221، وذكره ابن النديم في الفهرست 138، ضمن الشعراء المقلين وفي الصداقة 127رسالتان من إنشائه. وانظر التنبيه والاشراف 316.
(4) محمد بن القاسم بن خلّاد أبو عبد الله، ولد بالأهواز سنة 191هـ، ونشأ بالبصرة ثم استوطن بغداذ وتوفي سنة 282هـ. ترجمته في الفهرست 181، المنتظم 5/ 160156، طبقات ابن المعتز 197196.
وكلمة أبي العيناء هذه مختصرة في نثر الدرر للآبي (صحيفة 311، نسخة كوپريلي)، وزهر الآداب 2/ 316، شرح المقامات 1/ 239، ومحاضرات الراغب 1/ 86.(1/45)
الحمد لله الذي أذلّ عزتك، وأذهب سطوتك، وأزال مقدرتك، وأعادك إلى استحقاقك ومنزلتك، فلئن أخطأت فيك النّعمة، لقد أصابت منك النّقمة، ولئن أساءت الأيام بإقبالها عليك، لقد أحسنت بإدبارها عنك فلا أنفذ الله لك أمرا، ولا رفع لك قدرا، ولا أعلى لك ذكرا.
فهل قال أحد بئس ما صنع؟
وليس للرّاضي عن المحسن أن يطالب المساء إليه بأن يكون في مسكه (1) وعلى حال اعتدا له، لأنّ بينهما في الحال مسافة لا يقطعها الجواد المبرّ (2) ولا الريح العصوف.
وذكر محمد بن طاهر (3) عند أبي العيناء فقال: ما دخلت عليه قطّ إلا ظننت أنه من طلائع القيامة قصير القامة، مشؤوم الهامة خرج من خراسان وهو أميرها، ويطمع فيها وهو طريدها، ويلي على
__________
(1) المسك والمسكة: العقل.
(2) الجواد المبرّ: هو الذي إذا أنف يأتنف السّير. وسئل رجل من بني أسد: أتعرف الفرس الكريم؟ قال: أعرف الجواد المبرّ من البطىء المقرف (لسان بر).
(3) محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسين بن طاهر المتوفى سنة 297هـ.
ولي خراسان وأقام بها إلى سنة 258هـ حيث ظفر به يعقوب بن الليث وأسره حتى سنة 262هـ، ثم نجا إلى بغداد وأقام بها إلى أن توفي. انظر المنتظم 6/ 96.(1/46)
أسير الصّغار، وطليق الهزيمة.
ووجدت رسالة لأبي العبّاس عبيد الله بن دينار على ما قدّمت القول فيه وأنا أرويها على وجهها لأنها مفيدة، رواها لي المنصوريّ (1) القاضي بأرّجان.
أولها: «إن في الشكر، وإن قل، وفاء بحق النّعمة وإن جلّ، بل أقول: إن الشاكر للنعمة، وإن أطنب وأسهب، لا يلحق شأو المبتديء بها، ولا يخرج بأقصى سعيه من أداء حقّه فيها لأن نعمته صارت سببا لشكره، وداعية لذكره، فلها فضل سبقها وموقعها وفضلها، فإن الشّكر من أجلها، وإنها حيث حلّت عائدة بثناء جميل، وثواب جزيل ولا خلاف بين الحكماء أن الجالب خير من المجلوب (2)، والفاعل خير من المفعول.
ومن لي بشكرك وأنت الذي لمّا قصدتك بالرغبة بلغت (3)
بي ماوراء المحبة، وناديتك فأجبت من قريب، ولذت بك فأنزلت بالبرّ والترحيب، فلممت مني شعثا، ورعيت لي سببا لولا
__________
(1) ورد ذكره في الصداقة 37.
(2) في الأصل: «الحالب المحلوب» بالحاء المهملة.
(3) في الأصل: «بلغت لي».(1/47)
رعايتك لكان رثّا، ووفّرت عليّ نعمة الجاه واليد، وقمت لي مقام الركن والسّند، فأصبحت لي على الدهر معينا، ومن أحداث الزمان ملاذا حصينا، وما زلت بكل خير قمينا، وجدّدت لي أملا قد كان أخلق، وأمسكت مني بالرّمق، وتلقّيت دوني نبوة من عاتبك واستزادك (1)، وجفوة من تغبّطك (2) فكادك في حين عزّ الشفيق، وخذل الشقيق، وجار الزمان، وتواكل الإخوان فكشف الله بك تلك الغموم المطبقة، وسكّن برأيك منّي نفسا قلقة، فأنا، في قصوري عما أوجبه الله عليّ لك، كما قال الشاعر:
لو انّ عمري ألف حول وقد ... بدّلت الساعة بالدّهر
وكان لي ألف لسان لما ... نطقت من شكرك بالعشر
فشكر الله لك ما أتيت، وتولّى جزاءك على ما تحرّيت، وكافأك بأحسن ما نويت، ولا أخلاك من أمل يناط بك فتحقّقه، وظنّ يصرف إليك فتصدّقه، وشكر يوفر عليك فتستحقّه، وصان لك من النعمة راهنها، وبلّغك أقصى ما تؤمّل منها، وتفضّل عليك بما لا تحتسب فيها / وكلّ ما أغفلناه من الدّعاء لك ممّا يرغب المرء
__________
(1) استزاد فلان فلانا: وجد عليه (لسان. وجد، عتب).
(2) كذا في الأصل. ولم أجد «تغبط».(1/48)
في مثله، فوهب الله لي فيك (1)، ووهبه لك في كل أسبابك.
فأما فضائلك والمواهب المقسومة لك فقد قادت إليك مودّات القلوب ووقفت عليك خبيات الصّدور، وارتهنت لك شكر الشاكر، وردّت إليك نفرة النافر، وحاطت لك الغائب والحاضر، وأفحمت (2)
عنك لسان المنافر، وقصرت دونك يد المتطاول، وطامنت لك نخوة المناضل، وأوفت بك على درجة الأدب والهمة والرياسة.
فبلّغك الله ذرى المحبة والأمل، ووفّقك لصالح القول والعمل، ولا زالت [ربوع] (3) الحرية معمورة بطول عمرك، والمكارم مؤيّدة بدوام تأييدك، ولا برحت أيامك محفوفة بالعزّ والسعادة، ونعمتك مقرونة بالنّماء والزيادة، ووقاك الله بعينه من الأعين، وحاطك بيده من أيدي المحن، وفداك من النوائب والأحداث.
والنّكب (4) من قد فقئت به عين النّعمة، واتّضعت بمكانه رتبة الهمّة فلا يصدر عنه آمل إلا بخيبة، ولا يضطّر إليه حرّ إلا بمحنة إن اؤتمن غدر، وإن أجار أخفر، وإن وعد أخلف، وإن
__________
(1) هكذا: «فوهب الله لي» في الأصل. ولعل صوابها: «فوهبه الله لي».
(2) في الأصل: «وأقحمت».
(3) زيادة يتضح بها أو بما يشا كلها الكلام.
(4) النكب (كفرح): المنحرف عن الخلق الكريم، والمراد به هنا الصاحب ابن عباد.(1/49)
قدر اعتسف، وإن عاهد نكث، وإن حلف حنث تصدأ بمحاورته الأفهام، وتصطرخ (1) منه الدّولة والأقلام، سيان قام أو قعد، وغاب أو شهد إن كشفته كشفت عن علج فدم، يقضى له بكل خسّة وذمّ، ولم يقف للحرية على ربع ولا رسم، ولا عرف مكرمة في يقظة ولا حلم أسوأ النّاس صنيعا، وأشدّهم بالدّناءة ولوعا، لم يسلك إلى المجد طريقا، ولا وجد يوما من الجهل مفيقا، أولى الناس بشتم وقذف، وأجدرهم بمجانة وسخف، ينطق قبح خلقه من (2)
سوء (3)، خلقه، ويدلّ بركاكة عقله على لؤم أصله إذا اكتنفته الحوادث لوى عنها شدقه، وإن لزمه الحقّ لواه ومحقه وقد وفّر الله حظّه من الفدامة كما قصّر به في القامة، فهو بكل لسان مهجوّ، ولكل حرّ عدوّ، وإن عوتب على الزّهو والتيه، أقام فيهما على تماديه يلوث عمته على دماغ فارغ، وحمق ظاهر سائغ، فهو في أخر (4)
حالاته، عند نفسه كما قيل، صورة ممثّلة أو بهيمة مهملة.
__________
(1) تصطرخ: تستغيث (ل).
(2) في تاريخ الاسلام للذهبي (3008أيا صوفيا 12/ 176) في ترجمة الصاحب: «وقيل كان مشوّه الصورة».
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «عن سوء».
(4) أخر: جمع أخرى. والمعنى فيما أظن: وهو أخيرا.(1/50)
وصلت هذا الفصل بقول فاضت به النّفس بعد امتلائها، وجاشت به بعد تردّده فيها، وما اضطرّني إليه إلا تتابع المكروه من جهته، والشرّ الذي لا يزال يتعقّبني به، وأنّه حين وجد غرة اهتبلها، ولما رأى الفرصة انتهزها، ولم يرض حتى حسر عن الذّراع (1) يدا، فكشف القناع وجرّد العداوة والتعصّب، وأظهر التسلّط والتغلّب.
وأنا أعتذر إليك من أن أصل مخاطبتي لك بمثله، وإن كنت أجعله بمنزلة اللهو الذي أستعين به على الحق، والهزل الذي أستريح به من الجدّ وقد قيل: من لم يذمم المسيء لم يحمد المحسن، ومن لم يعرف للإساءة مضضا، لم يجد عنده للإحسان موقعا.
وعلى أني لست أدري أميلي إليك أصدق، أم انحرافي عنه أوثق، ورغبتي فيك أشدّ، أم زهدي فيه أوكد، ومودّتي لك أخلص، أم أنا على مصارمته أحرص، وسكوني إليك أتمّ أم نبوتي عنه أحكم، وأنا على ذمّه أطبع، أم في حمدك أبدع؟ كما لست أدري أحظّك من الهمة والمروءة أجزل، أم حظّه من الدّناءة والقلّة (2) أجل، ومكانك من الحزامة والكرم أرفع، أم محلّه فيهما أوضع؟
__________
(1) حسر: كشف، والذراع: البطش والقوة (ل).
(2) القلة: الخسة (ل).(1/51)
وكيف يقرن بك أو يساوى، وما أتأملك في حال من الأحوال إلا وجدتك فيها حساما قاضبا، وشهابا ثاقبا، وعودا صليبا، ورأيا عند معضل الخطوب مصيبا في شمائل حلوة عذاب، وأخلاق معجونة بآداب لا تتجافى عن مكرمة، ولا تخلّ لذي أمل بحرمة، ولا تؤودك (1) الخطوب إذا اعتورتك، ولا تتكاءدك الجهات (2) إذا اكتنفتك قد تعرّقتك (3) الأيام بحالتي النّعمى والبلوى، فكشفت منك عن أمضى من الدّهر عزما، وأرزن من رضوى (4) حلما، وأثبت من اللّيل جنانا، وأسمح من صوب الغمام ندى، وأمنع من السّيف جانبا، وأعزّ من كليب وائل (5) صاحبا.
/ وما أتأمّله في حال من الأحوال إلا وجدته برقا كاذبا، ورأيا
__________
(1) تؤودك: تشق عليك (ل).
(2) تتكاءدك: تصعب عليك. وجهة الأمر: وجهه، والجمع جهات. والمعنى:
لا يصعب عليك تبيّن صواب الرأي حينما تختلف حولك وجوهه.
(3) تعرقتك الأيام: أخذت منك وامتحنت أخلاقك.
(4) رضوى: جبل بالمدينة.
(5) في مجمع الأمثال 1/ 239: «أعز من كليب وائل». وكان وائل سيد ربيعة إذا مرّ بروضة أو غدير وارتضاه، رمى بكليب له هناك، فحيث بلغ عواؤه كان حمى لا يرعى ولا يستباح، وبلغ من عز الكليب أنه كان يحمي الكلأ ويجير الصيد.(1/52)
عازبا (1) ركاكة ظاهرة، ونذالة وافرة، وهيئة خسيسة، ونفسا على الذّمّ حبيسة لم ينشأ أدب، ولا راضته أوّلية حسب، فهو دهره على وجل وذعر إن صال فعلى القريب الدّاني، وإن همّ فبمضلّات الأماني، فليس تتجاوز صولته عبده، ولا يخاف عدوّه كيده، قد جمع إلى قبح المخبر، بشاعة المنظر، وإلى دمامة الخلق سوء الخلق إذا فكّر المفكّر فيما أوتي من الحظ، ومنح من الحال، أيقن بعلوّ الجهل وفوز قدحه، وإكداء الباطل (2) وكساد ربحه هو والله كما قال الشاعر:
عدوّ لمولاه (3) عدوّ صديقه ... وتلك التي يأتي اللئيم من الفعل
مقلّمة أظفاره عن عدوّه ... على أقربيه ظاهر الفحش والجهل
وما أخطأ بوجهه المشوّه قول الحمدوني (4):
__________
(1) العازب: البعيد (ل).
(2) كذا في الأصل، والكلام مصحف، ولعل صحته: «وإكداء العلم» أو ما أشبهه.
(3) في الأصل: «عدم مولاه».
(4) إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه. وحمدويه جدّه هو صاحب الزنادقة في أيام الرشيد. وللحمدوني في «حرفة الأدب» أشعار مستطرفه، وكان مليح الافتنان حلو التصرف. انظر زهر الآداب 2/ 223، فوات الوفيات 1/ 14.(1/53)
كأن دماملا (1) جمعت ... فصوّر وجهه منها
والعجب كلّ العجب، والحديث الذي عندي سيان فيه الصّدق والكذب، ما يظهره من الانحراف والازورار، على ما بي عنه من السّلوة والاصطبار وما محلّه فيما يأتيه إلا محلّ أمّ عمرو وما قيل فيها:
ألا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار (2)
بل هجوه والله الفائدة التي يجب في مثلها الشّكر، والأحدوثة التي يحسن فيها الذّكر فأما غضبه وتغيّظه فغضب الخيل على اللّجم الدّلاص (3) وأنا أقول فيه كما قيل:
فإن كنت غضبانا فلا زلت راغما ... وإن كنت لم تغضب (4) إلى اليوم فاغضب
والله لو كانت له مثل أياديك التي لها منّي موقع القطر في البلد القفر، ولطف محلّ الوصل بعقب التّصارم والهجر، لما وجدني محتملا له أذى، ولا مغضيا له على قذى ولو كان تخويفه إيّاي بمثل إعراضك الذي أدناه يقلق الوساد، ويمرض الفؤاد، لما ألفاني له معتبا،
__________
(1) في الأصل: «دماميلا».
(2) انظر شرح المقامات 1/ 389.
(3) «غضب الخيل على اللجم» مثل يضرب لمن لا يبالى بغضبه. (محاضرات الراغب 1/ 152)، وفي مجمع الأمثال 2/ 2: يضرب لمن يغضب غضبا لا ينتفع منه ولا موضع له. والدلاص: البرّاقة.
(4) في الأصل: «وإن كنت لم ترغب».(1/54)
ولا إليه معتذرا فكيف وهو من لا يجب له حقّ الصّنيعة، ولا ذمام أدب، ولا ذمار معرفة لم أسرّ برضاه لمّا رضي فأساء بغضبه وقد غضب، ولا نفعني إقباله فيضرّني إعراضه، لأنّه بحمد الله كما قيل:
فتى إن يرض لا ينفعك يوما ... وإن يغضب فإنّك لا تبالي
لست والله أحفل به أقبل أم أدبر، وسكن أم نفر، ولا أبالي بحالتي سخطه ورضاه، ولا بأولى أمره ولا بأخراه. فأدام الله له سورة النّبوة والإعراض، وأعانه على الجفوه والانقباض، ولا أخلاه من الغضب والامتعاض فقد رضينا بذلك فيه حظّا، واكتفينا به فيه وعظا.
وأخبرنا المرزبانيّ (1) عن الصولي (2) قال: كتب ابن مكرّم (3)
الكاتب إلى أبي العيناء (*):
__________
(1) أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى (384297هـ) مترجم له في الفهرست 190.
(2) إبراهيم بن العباس أبو إسحاق المتوفى سنة 243هـ. الوفيات 1/ 10 13والفهرست 176.
(3) محمد بن مكرّم كاتب بليغ مترسل، كتب لنصر الدولة، وكان يهاتر أبا العيناء. وذكر ابن النديم 179أن له رسائل، ولم يؤرخ وفاته. ورسالته هذه مختصرة في العقد الفريد 4/ 236، وهي منسوبة فيه لأحمد بن يوسف الكاتب وانظر الارشاد 2/ 124، وزهر الآداب 1/ 332وفي الصداقة 180، 181نماذج من إنشائه.(1/55)
«لست أعرف طريقا للمعروف أحزن (1) ولا أوعر من طريقه إليك، ولا مستزرعا أقلّ زكاء ولا أبعد من ثمره خير من مكانه عندك لأن المعروف يضاف منك إلى جنب دنيّ، ولسان بذيّ، وجهل قد ملك عنانك، وشغل زمانك فالمعروف عندك ضائع، والشكر لديك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحوزه، وفي موليه أن تكفره.»
فكتب إليه أبو العيناء:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وأنت كما قال الإله فإنّما ... أتيت بلفظ ضعفه فيك يوجد
أما بعد
فقد وصل إليّ كتابك سبّك وعرّك (2)، ولقد كان لك في سديف (3)
__________
(1) أحزن: أوعر.
(2) العرّ: المساءة والظلم.
(3) سديف (كزبير) بن إسماعيل بن ميمون المكي، شاعر مقل من شعراء الحجاز، وكان متعصبّا لبني هاشم مظهرا لذلك في أيام بني أمية، وهو الذي حرّض السفاح على قتل من كان في مجلسه من رجالهم فقتلهم. انظر ترجمته في الأغاني 14/ 162، الوافي 14/ 152ب (نسخة ترخان خديجة سلطان)، تاج العروس (سدف). في غرر الخصائص 108107إيضاح لما أشار إليه أبو حيان هنا.(1/56)
وبغا (1) ما يشغلك عن البذاء، ولكنّ الله {«إِذََا أَرََادَ اللََّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلََا مَرَدَّ لَهُ وَمََا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وََالٍ»} (2).
وأنت امرؤ تزعم أنك من أهل ماذرايا (3)، وهنالك حلّت بك الخزايا، من غير نقص لأهلها، ولا دفع لفضلها، لأنّك تحبّها وتشنؤك، وتنتمي إليها وتدفعك وإن امرءا مكرّم أبوه لجدير عند الفخر أن يعفّر فوه (4) وأمّا أمّك فامرأة من (5) المسلمات الغافلات، والغفلة مقرونة بالخير، والعجب لك ولأخيك أنّك لا تنيك ولا ينيك، فعلام غررتم الحرائر واستهديتم المهائر، وأنتم قوم تلقّفون ما يأفكون (6)، والله أعلم بما توعون (7) وفيم خطبتم النساء وأنتم تخطبون، وكيف نقدتم المهور مع حاجتكم إلي الذكور، ثم أظهرتم حبّ النّسا، وبكم عرق النّسا، وكيف ادّعيتم يوم الحرب الطّعان،
__________
(1) بغا الكبير أبو موسى التركي، أحد قواد المتوكل المشهورين. توفي سنة 248هـ ابن الاثير 6/ 40 (حوادث سنة 248)، العبر 1/ 451.
(2) سورة الرعّد 120.
(3) ماذرايا: قرية فوق واسط من أعمال فم الصّلح (معجم البلدان 7/ 353)، وفي الأصل: «مادرايا» بالدال المهملة.
(4) يعفّر فوه: يحثى في فمه التراب، وفي ذلك إذلال له.
(5) الأصل: «فمرأة من». والقصة بمعناها مختصرة في محاضرات الراغب 2/ 122.
(6) اقتباس سيء من الآية 116من سورة الاعراف.
(7) اقتباس سيء كذلك من الآية 23من سورة الانشقاق.(1/57)
وأنتم معشر تخرّون للأذقان، ولكم في كل يوم وقاع ومعترك جماع، ثم تلفون وقّعا للصّدور، والرّماح / في أعجازكم تمور، وقد طبتم أنفسا بأن أصبحت نساؤكم عند جيرانكم، ورجالكم عند غلمانكم، فإذا سببتموهنّ بالزّنا سببنكم بالبغاء، وقد لعمري أظهرتم الدّف (1)، ونقرتم الدّف (2)، وأكثرتم الطّعن وادّعيتم الإثآر (3)
فلما احتيج منكم إلى اللّقاء، وتنجّز منكم الوفاء، انهزم الجمع وولّيتم الدّبر (4)، فقبحا لكم آل مكرّم قبحا يقيم ويلزم.
فلستم على الأعقاب تدمى كلومكم ... ولكن على أعجازكم يقطر الدّم (5)
فيا بؤسى للعروس وإزارها الذي لم يحلل، وفرعها الذي لم يبلل، وللظّبية الغريرة وطرفها الفتّان، وقولها للأتراب، أما لآل مكرّم
__________
(1) الدّف: إعلان النكاح.
(2) الدّف: الآلة المعروفة يضرب عليها النساء.
(3) الاثآر: إدراك الثأر.
(4) اقتباس من الآية 45من سورة القمر.
(5) البيت مأخوذ من قول الحصين بن الحمام المرى:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما
وهو مع بيتين آخرين في الحماسة (بشرح التبريزي 1/ 103)(1/58)
زباب؟ وقد زعمت النّساء، غير ما إفك: أنّك وأباك وأخاك جند ما هنالك مهزوم من الأنباط (1).
وذكرت أنك لا تعرف للمعروف طريقا أحزن ولا أوعر من طريقه إليّ، ولا مستزرعا أقل زكاء ولا أبعد من ثمره خير من مكانه عندي.
فلو كان ما وصفت على ما ذكرت لما لحقك كفر إنعام، ولا شكر إحسان، لقصور جدتك (2) عن التفضّل وهمّك عن الإفضال. بلى، أستغفر الله! لو وجدت فضلا لوجهت به إلى العاملين عليها أعني أمّ الفلك، القاضية عليك بالهلك وأين أنت فيلحقني إكرامك، أو ينالني إنعامك؟ هيهات! جلّ الأمر عن الحرش (3)، وعفّى السيل العطن (4)
ولكنك يا أبا جعفر وأنىّ لك بجعفر لا تعرف للجماع طريقا أسهل
__________
(1) اقتباس من الآية 11سورة «ص».
(2) جدتك: غناك ومالك.
(3) من أمثالهم: «هذا أجل من الحرش» يضربونه لمن يخاف شيئا فيبتلى بأشدّ منه. وأصله أن الضب قال لابنه: احذر الحرش! (والحرش:
أن يحك الجحر الذي فيه الضب فيحسبه دابة تريد أن تلج عليه حجره، فيخرج ذنبه من جحره ضاربا مقاتلا). فسمع يوما وقع محفار على فم الجحر، فقال يا أبه! أهذا الحرش؟ فقال: يا بني! هذا أجلّ من الحرش.
انظر اللسان (حرش) ومجمع الأمثال 1/ 126.
(4) عفى: طمس، والعطن: مبرك الابل. وفي الأصل. «السيل والعطن».(1/59)
مأتى ولا أقرب مأخذا من طريقه إليك، وحلوله عليك هذا مع دنس أثوابك، ووضر أطرافك، ونتن أرواحك (1).
وزعمت أن المعروف يحصل منّي في حسب دنيّ ولسان بذيّ، فانظر لك الويلات كيف ارتقيت، وإلى من تعدّيت؟ وهل فوق رسول الله صلى الله عليه مفخر (2)، وهل عن خلفاء الله مرغب؟ ولولا عدل سلطاننا وفضل أحلامنا، وأن الاقتدار يمنع الحرّ من الانتصار، مع دقّتك عن المجازاة، وسقوطك عن الملاحاة، لاصطملك منّي الاعتزام فاشكر لؤمك إذ نجّاك، وخصمك إذ رفع قدره عنك.
وأما البذاء فما أعتذر إليك من إقماع اللّئيم وتعظيم الكريم، ولذلك أقول:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا ... ولم أشتم الجبس اللّئيم المذمّما (3)
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما
__________
(1) جمع ريح بمعنى رائحة.
(2) كان جد أبي العيناء مولى لأبي جعفر المنصور. وإلى صلة هذا الولاء وإلى ما لها من الحقوق يشير أبو العيناء.
(3) البيتان في الصناعتين 427وزهر الآداب 1/ 323وفي عيون الأخبار 3/ 170وأمالي القالي 2/ 159من إنشاد أبي العالية الرياحي. وفي ألفاظهما اختلاف عما هنا.(1/60)
وأما الجاحظ فإنّه يقول في رسالة:
سألتني أبقاك الله عن فلان، وأنا أخبرك بالأثر الذي يدلّ على صحّة الخبر، وبالواضح الذي يدلّ على الخفيّ، والظاهر الذي يقضي على الباطن فتفهّم ذلك رحمك الله ولا قوة إلا بالله.
فمن ذلك أني رأيته، وهو في جيرانه كالحيضة المنسية (1)، وكلّهم يعرفه بالأبنة، وله غلام مديد القامة، عظيم الهامة، ذو ألواح وأفخاذ وأوراك وأصداغ أشعر القفا، يلبس الرقيق من الثّياب، ويثابر على العطر ودخول الحمّام، ويتزيّن ويقلّم الأظفار وكان مع هذه الصّفة المدبّر لأمره، والمشفّع لديه، والحاكم على مولاه دون بنيه وأهله وخاصّته، والصارف له عن رأيه، إلى رأيه، وعن إرادته إلى هواه، وكان أكثر أهله معه جلوسا، وأطولهم به خلوة، ولا يبيت إلّا معه، وإذا غضب حزنه غضبه وطلب رضاه، وكان أيام ولايته لا يتقدّمه قريب ولا بعيد، ولا شريف ولا وضيع إن ركب فهو في موضع صاحب الحرس من الخليفة، وإن قعد ففي موضع الولد السارّ والزوجة البارّة، وإن التوت على أحد حاجة كان له من ورائها،
__________
(1) الحيضة: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. والمنسية: خرقة الحيض التي يرمى بها فتنسى لحقارتها (ل: حيض نسى).(1/61)
وكانت أهون عليه من خلع نعليه، وكان يبيت في لحافه.
فحكمنا عليه بهذا الحكم الظّاهر، ولا حكم القضاة بالتّسجيل، وتخليدها في الدّواوين، ولا كالإقرار بالحقوق وشهادات العدول.
وكتب العتبي (1) إلى صديق له يحذّره رجلا، ويصف [أخلاقه] (2)
فقال: احذر فلانا، فإن ظاهره برّ وغيبه عداوة، وإن أفشيت إليه حديثك وضعه عند عدوّك، وإن كتمته إياه شتمك عند صديقه، لا يصلح لك عند نفسه حتّى يفسدك عند غيره وهو / صديقك بما يلزمك من حقّه، وعدوّك بما يضيع من حقّه عليك (3) إن دنوت منه آذاك، وإن غبت عنه اغتابك، يلطّخ (4) صاحبه بأذاه، فإن غسله بالإعتاب أعاده بالعتب، وإن تركه عيّر به السلامة منه أن
__________
(1) العتبي بضم العين نسبة إلى جدّه عتبة بن أبي سفيان، أو إلى عتبة المرأة التي كان يتغزل فيها وهو أبو عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمر البصري المتوفى سنة 228هـ /. كاتب أديب شاعر فحل من المحدثين، وله مؤلفات.
ترجمته في الفهرست 176، الوفيات 1/ 662661، المعارف 234.
(2) تكملة يقتضيها السياق.
(3) كذا «يضيع من حقه عليك» في الأصل، وصحة الكلام «يضيع من حقك عليه».
(4) كلمة ممحوّة في الأصل.(1/62)
لا تعرفه، فإن عرفت فهو الدّاء، إن تداويت لم ينفعك، وإن تركته قتلك، أخلط الناس جدّه بهزله ليمنعك ما في يده منع هزل، ويغلبك على ما في يدك مسألة جدّ.
ووجدت أيضا رسالة لأبي هفّان (1) إلى ابن مكرّم وهي:
أما بعد يابن مكرّم ضدّ اسمه، وخطيئة أبيه وأمّه، ياسبّة العار على سبته، ولعنة إبليس على لعنته، ما أظنّك من نطفة، ولا كانت لواضعتك عذرة أفرغك [أبوك (2)] من سلحة على سلحة، وأجراك من أمّك في فقحة إلى فقحة، فأنت كما قال الشاعر:
لعنة الله على نتنيهما ... شعرتين احتكّتا في طلبه
أولك زنية وآخرك أبنة، فكلّك لعنة في لعنة، تقصع القمل بأسنانك، وتمسح مخاطك بلسانك، وتستنزل منيّك ببنانك، ومنيّ
__________
(1) عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي العبدي، من أهل البصرة.
نحوي لغوي راوية عالم بالشعر، وله مؤلفات، وشعر جيد إلا أنه مقلّ، وهو من شعراء الدولة العباسية وأحد غلمان أبي نواس ورواته. روى عن الأصمعي وروى عنه يموت بن المزرع. ولد سنة 198هـ، وتوفي فيما يقول ابن حجر سنة 257هـ. وبعد سنة ستين ومائتين كما في مختار أخبار النحويين (شهيد على 2515، الورقة 222). ترجمته في الفهرست 207وتاريخ بغداد 9/ 270 وطبقات ابن المعتز 194واللآلى للبكري 335والإرشاد 4/ 288ولسان الميزان 3/ 249والوافي (شهيد على 1968الورقة 1817).
(2) تكملة للايضاح.(1/63)
غيرك بعجانك، عبدك يصفعك، وخادمك يقمعك، وكلبك يلطعك، وصديقك يقطعك، نفسك فساء، وخشمك (1) خراء، وريقك ماء العذرة، وكل خلالك قذرة وأنت للأحرار عيّاب، وبين الكرام نمّام، أنت للأدباء حاسد، وللعلماء شاتم، وبالجليس هامز، وفي المحسن إليك غامز، تظهر جورك، وتتعدّى طورك، مهين في نفسك، عرّة في جنسك، حالف في كل حق وباطل، كذوب على الجادّ والهازل، تطلب أن تهجى، وتستدعى أن تزنّى، وقد سبق القول في مثلك، مع نذالة فعلك، ولؤم أصلك.
أما الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه ... عرض عززت به وأنت ذليل (2)
فأنت يابن الكشخان القرنان الدّيّوث الصّفعان عتق لأست الشيطان، لا لوجه الرحمن، فالهجاء من أن يعذّب بك في أمان، فأنت
__________
(1) الخشم: داء يأخذ في جوف الأنف فتتغير رائحته، وهو المخاط يسيل من الخياشيم أيضا.
(2) البيتان نسبا مع ثالث لمسلم بن الوليد، يهجو دعبلا، وهي في ملحق ديوانه (ط. الهندسنة 1303هـ ص 164)، وديوان المعاني 1/ 178، 488وأخبار أبي تمام 41، وشرح المقامات 1/ 354ومعاهد التنصيص 2/ 1413.
ونسبا في الموازنة 31 (ط. بيروت 1332هـ) لأبي تمام، ولم أجدهما في ديوانه (ط بيروت). وفي الكامل للمبرد 2/ 85نسبا لدعبل.(1/64)
بعزّ لؤمك في سلطان، معرفتك تشين، وقطيعتك تزين، وذكرك سبّة، وقتلك قربة، لا يحصي الخلق عيوبك، ولا تثبت الحفظة ذنوبك، أنت بالله مشرك، وفي خلقه متهتّك، نقصك مفروض، ودينك مرفوض، وبكلّ قبيح منعوت، وعند العالم ممقوت، أحسن آدابك الزّندقة. وأفضل حالاتك الصّدقة، نذل الأبوّة. رذل الأخوّة، عدوّ المروّة، لم تؤمن بنبوّة. ولم تعرف بفتوة، تقصد الكريم بسبابك، فيذلّك بترك جوابك، جئت بأمّ من حمام الدجّال. توازي بها أمّهات الرجال، لا صوم ولا صلاة، ولا صدقة ولا زكاة، لا تغتسل من جنابة، ولا تهمّ بإنابة، عقوقك بأبيك أنّه غير من يدّعيك، لقاتلك أرفع الدّرج، وما على قاذفك من حرج، وكلّ ذلك بالآيات والحجج، الحدّ لتارك وصفك، والنار للمطنب في مدحك، ولقارىء مثالبك وكاتب معايبك ثواب معتق الرّقاب، يوفى أجره بغير حساب، فله فيك من الثّواب أكثر ممالك من العقاب، لك خلقت سقر، ومن أجلك يعذّب البشر، أحسن في عينك من القمر، ما تستدخله من الكمر، تعيب المؤمنات والمؤمنين، وتقذف المحصنات والمحصنين، إذ ليسوا لك بآباء، ولست لهم في عداد أبناء، فأنت كما قال الشّاعر:(1/65)
مغرى بقذف المحصنا ... ت ولست من أبنائها
آنف للعلم الذي حويته، وأغار على الشّعر الذي رويته، فأنت وإن غلطت بكلمة طريفة، أو حجّة حكيمة، أو نادرة مليحة، اعتبارا للسّامع وفكرة للعاجب سفيه على إفراط قذرك، حسود على شدة بخرك، ووقّاع على قاتل ذفرك (1)، تمازح فلا تحسن وتجاب وتذعن، إن تركت عبثت، وإن عبث بك استغثت، فمثلك {«كَمَثَلِ الْكَلْبِ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ»} (2)، فاستمع لكلام يشبهك في الأيام، يا عيب المعايب، وياشين المحاضر والمغايب، فلك المثل الأسفل، والقياس الأرذل، والشبه الأنذل كما قيل:
وأدعوك للأمر الذي أنت شينه ... على شينه يا فاضحا للفضائح
/ ووجدت أيضا رسالة أفادنيها أبو محمّد العروضيّ (3) لابن حمّاد (4)
__________
(1) الذّفر: النّتن، وخبث الريح.
(2) الآية 175من سورة الأعراف.
(3) أبو محمد العروضي من جلّاس أبي سليمان المنطقي. وذكر أبو حيان في المقابسات أن أبا محمد هذا كان من الأيمة في شأنه، وأنه كان يتفلسف، وأنه قد لازم يحيى بن عديّ دهرا وله محاورات في مسائل فلسفية ذكرها في المقابسات 3، 17، 31 (ط. الهندسنة 1306).
(4) هو عبد الله بن حماد الكاتب، ذكره ابن النديم في الفهرست 195،(1/66)
في ابن مقلة أبي عليّ (1) يمزّقه فيها، ويذكر خساسة أصله، وسقوط قدره، ولؤم نفسه، وفحش منشئه، تركت تخليدها في هذا المكان، وكذلك تركت غيرها هربا من التطويل.
وبعد فحمد المحسن وذمّ المسيء أمران جاريان على مرّ الزمان مذ خلق الله الخلق، وعلى ذلك يجري إلى أن يأذن الله بفنائه، وهو (2)
عزّ وجلّ أول من حمد وذمّ، وشكر ولام، ألا تراه كيف وصف بعض عباده عند رضاه عنه فقال: {«نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوََّابٌ»} (3)، وقال في آخر {«إِنَّهُ كََانَ صََادِقَ الْوَعْدِ»} (4)، وعلى هذا، فإنّه أكثر من أن يبلغ آخره ثم انظر كيف وصف آخر عند سخطه عليه وكراهته لما كان منه فقال: {«هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ»} (5).
__________
(1) محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله بن مقلة (328272هـ)، وزر للمقتدر سنة 316هـ، وللقاهر سنة 320هـ، وللراضي، وهو من أوائل من كيّفوا الخط العربي وهندسوه، فسارت الأمثال بحسن خطه. انظر المنتظم 6/ 311309والفهرست 14.
(2) هذا كلام أبي العيناء، وهو منسوبا له في الصناعتين 427، وزهر الآداب 1/ 323وفي ديوان المعاني 1/ 156غير منسوب.
(3) الآيتان 30و 44من سورة «ص».
(4) الآية 54من سورة «مريم».
(5) الآية 11من سورة «القلم».(1/67)
وهذا فوق ما يقول مخلوق في مخلوق.
وقال الحسن البصري: الهمّاز: العيّاب، و {«مشّاء بنميم»: ينقل الكلام القبيح، «منّاع للخير»: بخيل،} {«معتد أثيم»: ظلوم ذميم،} {«عتلّ» جاف، والزّنيم: الدّعيّ.
قال أبو سعيد السّيرافي} [1]: العتلّ: نراه من قولهم جيء بفلان يعتل إذا غلظ عليه، وعنّف به في القود.
وكيف يأثم الإنسان في غيبة من كان قلبه نغلا بالنّفاق، وصدره مريضا بالكفر، ونفسه فائضة بالقساوة. ووجهه مكسورا بالصّفاقة، ولسانه ذربا بالفحش والبذاءة، وسيرته جارية على الكيد والعداوة، وعشرته ممقوتة بالنكد والرداءة وقد أثنى الله على واحد ولعن آخر، وحطّ هذا إلى الحشّ (2) ورفع ذلك إلى العرش، وعاتب، وأنّب ولام وذم وكذلك رسوله صلى الله عليه، ومن تقدّمه من الأنبياء والمرسلين
__________
(1) الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي أبو سعيد القاضي (291 368هـ) من شيوخ أبي حيان، أجّله وأكثر الثناء عليه في كل ما عرفناه من كتبه.
ترجمته في الإرشاد 3/ 84وما بعدها، وعيون التواريخ في حوادث سنة 368.
النزهة 379، طبقات الزبيدي 86، مسالك الأبصار 6/ 31الفهرست 93، البغية 221.
(2) الحش، بفتح الحاء وضمّها: المتوضأ والكنيف وموضع الغائط.(1/68)
والأولياء المخلصين وعلى هذا فورق السّلف الطاهر، والصّحابة العلية، وهم القدوة والعمدة، وإليهم ينتهى في كل حال، وعليهم يعتمد في كل أمر ذي بال.
فمن ذا يزري على هذا المذهب إذا خرج القول فيه معضودا بالحجّة، ممددوا بالمعذرة، معقودا بالنصفة، وكان فيه برد الغليل، وشفاء الصّدر، وتخفيف الكاهل من ثقل الغيظ على أجمل وجه وأسهل طريق، مع مسامحة ظاهرة، وتغافل عريض؟
وقيل لبعض الصّالحين: أيّ شيء ألذّ؟ قال: ركوب هوى وافق حقّتا، وإدراك شهوة لا تثلم دينا، وقضاء وطر لا يتحيّف مروّة، وبلوغ مراد لا يسيّر قالة قبيحة والمذهب الأول مذهب الزّهاد والمتأبّدين (1)، وأصحاب الورع والمتعبّدين.
ونحن قد بيّنّا الأصل في هذا الباب، فليس بنا حاجة إلى التكثير وكيف يلزمنا حكم من يتعجرف في قوله ويختار على رأيه (2)، ويعترض بجوره.
ونحن قد اقتدينا بالله ربّ العالمين، وجرينا على عادة الأنبياء
__________
(1) المتأبد: المنعزل عن الناس.
(2) بالأصل: «ونختار؟؟؟ على رأيه».(1/69)
والمرسلين وأخذنا بهدي عباد الله الصّالحين وإنما أشكل القول في هذا المذهب على قوم مدحوا الصّمت، وكرهوا كثيرا من القول وقليل الكلام عندهم فضل، وكثيره هجر، وفيه اللّغو الذي يجب أن يتجنّب، والحشو الذي لا ينبغي أن يعتاد.
وهؤلاء قوم أكرمك الله لا يعرفون فضل ما بين التفيهق (1)
المذموم والبلاغة المحمودة، والتشدّق المكروة والخطابة الحسنة، وما هو من باب البيان المشتمل على الحكمة، وما هو من باب العيّ الشّاهد بالهجنة ومتى كان ذكر المهتوك حراما، والتشنيع على الفاسق منكرا، والدلالة على النّفاق خطلا، وتحذير النّاس من الفاحش المتفحّش جهلا؟
هذا ما لا يقوله من قام بالموازنة وبالمكايلة، وعرف الفرق بين المكاشفة والمجاملة وإنما غزر الأدب، وكثر العلم، وجزلت العبارة، وانبعجت العبر، واستفاضت التجارب، لما وقفوا عليه من أنباء النّاس وقصصهم وأحاديثهم في خيرهم وشرّهم، وفي وفائهم وغدرهم، ونصحهم
__________
(1) يشير إلى حديث: «إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني الثرثارون المتفيهقون.
قيل: وما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»، وهم الذين يتوسعون في الكلام، ويفتحون به أفواههم. وهو في «النهاية» و «اللسان» (فهق»، وفي كامل المبرد 1/ 3.(1/70)
ومكرهم، وأمورهم المختلفة عليهم، والحسن الذي شاع عنهم، والقبيح الذي لصق بهم، والمكارم التي بقيت لهم، والفضائح التي ركدت عليهم والدّنيا دار عمل فمن عمل خيرا ذكر به، وأكرم من أجله، ولحظ بطرف الوقار، وصين عرضه عن لصوص العار والشنار (1)، وألحق بأصحاب التّوفيق، ومن له عند الله الوزن الرّاجح، والوجه المسفر ومن عمل شرا ليم عليه، وأهين من أجله، ونظر إليه بعين المقت، وألصق بعرضه كلّ خزي، وبيع فيمن ينقص لا فيمن يزيد والجزاء وإن كان مؤخّرا إلى الدار الآخرة لأهله، فإنّ بعض ذلك قد يعجّل لمستحقّه، ولهذا قال الله عزّ وجلّ / في تنزيله:
{«ذََلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيََا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذََابٌ عَظِيمٌ»} (2)
والذي ذكرته عن الجاحظ فليس (3) هو أول من اقتضبه وسنّه، بل قد سلف فيه قوم كرام، وخلف عليه ناس من جلّة الناس. أنا قرأت رسالة لابن المقفّع (4) في معايب بعض آل سليمان
__________
(1) الشنار: العيب والعار.
(2) الآية 36من سورة المائدة.
(3) أدخل الفاء في خبر المبتدأ، وهو اسم موصول، لأنه أشبه في عمومه اسم الشرط.
(4) ابن المقفّع، بفتح الفاء وكسرها: هو عبد الله الكاتب المشهور.
قتل سنة 137أو 142هـ.(1/71)
ابن عليّ الهاشميّ (1)، وكذلك أصبت رسالة لسهل بن هارون (2) في مثالب الحرّاني، ورأيت أيضا رسالة لسعيد بن حميد (3) في فضائح
__________
وترجمته في الوفيات 1/ 190187، الوافي (الورقة 1715ب.
نسخة شهيد علي 1969)، والفهرست 172.
(1) سليمان بن علي الهاشمي، ولي البصرة وعمان والبحرين لأبي جعفر المنصور، وتوفى بالبصرة سنة 142هـ. والحديث عن عقبة في المعارف لابن قتيبة 164وفي الفهرست ووفيات الأعيان 1/ 189188عرض لصلة ابن المقفع بهذا البيت.
(2) سهل بن هارون بن راهبون، أبو عمرو من أهل نيسابور ونزل البصرة فنسب إليها، كاتب بليغ مشهور، ولّاه الخليفة المأمون النظر في «دار الحكمة» فكان خازنا بها أثنى عليه الجاحظ في كتبه ونقل عنه، وكان بخيلا فذكره في كتاب البخلاء.
ترجمته في الفهرست 174، وسرح العيون 133130وانظر البخلاء 7، 246.
(3) أبو عثمان سعيد بن حميد بن سعيد بن يحيى من أصل فارسي، كان كاتبا شاعرا عذب الألفاظ كثير الإغارة على كلام من سبقه وولى للمستعين لما قدم بغداذ ديوان الرسائل. وكان شديد الميل على العرب وله في ذلك كتاب «انتصاف العجم من العرب» ويعرف بكتاب «التسوية» كما كان ناصبيا منحرفا عن آل البيت.
ترجمته في الفهرست 179، والأغاني 17/ 82وزهر الآداب 1029 (طبع الحلبي) ومسالك الأبصار 3423أيا صوفيا صحيفة 498) وطبقات ابن المعتز 200ومروج الذهب 2/ 408تاريخ الطبري 11/ 70وعيون التواريخ (نسخة أحمد الثالث 11/ 23ب 24ب).(1/72)
آل عليّ بن هشام وحتّى الصّولي (1) بالأمس ذمّ بعض بني المنجّم (2)
في رسالة له.
وحدّثنا حمزة المصنّف (3) عن أبي الحسن البغداديّ قال: كتب أبو العيناء إلى أحمد بن أبي دؤاد (4):
أما بعد فالحمد لله الذي حبسك في جلدك، وأبقى لك الجارحة التي بها تنظر إلى زوال نعمتك. قال: وهي طويلة، قال: وقال أبو العيناء: لولا أن القدر يعشي البصر، لما نهى ولا أمر (5). ومن غريب
__________
(1) يريد أبا بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس الصولي، إذ هو الأقرب عهدا به كما يرشد إليه قوله بالأمس،. وهو أديب كثير التأليف، وشاعر مجيد مقلّ، وعالم واسع الاطلاع توفي سنة 335هـ أو 336في خلافة المطيع، وقد كان نديما للراضي والمكتفي والمقتدر. انظر الوفيات 1/ 646643.
(2) كان لبني المنجمّ اختصاص بالصاحب، وقد ذكرهم الثعالبي في اليتيمة 3/ 104101، 189، 360359. ويأتي حديث أبي حيان عن بعضهم.
(3) هو حمزة بن الحسن الاصفهاني الاديب الناقد العلامة المصنف المبدع.
توفي قبل سنة 360هـ ترجمته في الفهرست 199والانساب 41، 2826وتاريخ اصبهان 1/ 300وتاريخ الأدب العربي لبروكلمن 1/ 152، الملحق 1/ 220.
(4) في محاضرات الراغب 1/ 86: «ودخل أبو العيناء على أحمد بن أبي دؤاد فقال: ما جئتك مسليا ولا معزيا، ولكني أحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عينا تنظر بها إلى زوال النعمة عنك».
(5) في نثر الدور للآبى (ص 301كوپريلي): «وذكر أبو العيناء موسى بن بغا فقال: لولا أن القدر يعشي البصر، لما نهى فينا ولا أمر».(1/73)
هذا الفنّ رسالة لأبي العبّاس محمّد بن يزيد (1) في خبائث الحسن بن رجاء (2)، ورأيت أيضا رسالة للعمري في رقاعات الفضل بن سهل ذي الرياستين (3).
فأما الشعراء وأصحاب النّظم، وأرباب المدح والهجاء، والثّلب والحمد، والتّشنيع والتّحسين فهم كالطّم والرّم (4) لا يكسبون إلا بهذا المذهب، ولا يعيشون إلّا على هذا الاختيار، ولهم الهجاء المنكر، والقول المخزي، والقذع المؤلم، واللفظ الموجع والتعريض الذي يتجاوز التّصريح، والتصريح الذي يجمع كلّ قبيح، وأمرهم أظهر من أن يدلّ عليه، وشأنهم أبين من أن يردّد القول فيه.
وإنما المدار الصّدق في القول، وعلى تقديم الحق في العقد، وقصد الصّواب عند اشتباه الرأي وغلبة الهوى.
__________
(1) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس المبرّد (285210هـ) انظر المنتظم 6/ 119.
(2) الحسن بن رجاء شاعر من جلة الكتاب، نشأ في خلافة المأمون، وقلدّه الوزير اسماعيل بن بلبل اصبهان وعاش حتى أيام الواثق (232هـ).
انظر إعتاب الكتاب لابن الأبار. ص 5857 (نسخة تيمور باشا 778 تاريخ) والأغاني بواسطة الفهرس.
(3) الفضل بن سهل ذو الرياستين وزير المأمون والقائم بأمره حتى استخلف. وكان الفضل للمأمون بمنزلة أبي مسلم الخراساني للسفاح.
ترجمته في مسالك الأبصار (4323أيا صوفيا صحيفة 476).
(4) الرم، بالكسر: الثرى، والطم: البحر، ويكني بذلك عن الكثرة، ومن أقوالهم: «جاءهم الطم والرم» إذا أتاهم الأمر الكثير.(1/74)
فأما قول أبي الحرث حمين (1) وقد سئل عمّن يحضر مائدة محمّد ابن يحيى، وجوابه: الملائكة، قيل: إنما نسألك عمّن يأكل معه، قال: الذّباب (2) فإنّ هذا من باب التملّح والمجانة، وليس من قبيل الصّدق في شيء وإن كان بعض الصّدق مشوبا، وبعض الحق ممزوجا فلا بأس ولا حرج، فإن ذلك القدر لا يقلب الصّدق كذبا، ولا يحيل الحقّ باطلا وأين المحض من كل شرّ، والخالص من كل خير؟ إنك
__________
(1) هكذا أورد أيضا في البصائر والذخائر 1/ 56ب، 4/ 28ب «حمين» بالحاء المهملة وبالنون. وفي البيان والتبيين 1/ 103ونثر الدّرر للآبي 318: «جمين» بالجيم والنون، وفي القاموس (جمن): «وضبطه المحدثون بالنون، والصواب بالزاي»، وفيه أيضا (جمز): «جمين خطأ والصواب جميز بالزاي المعجمة أنشد أبو بكر ابن مقسم:
إن أبا الحارث جميزا ... قد أوتي الحكمة والميزا
وهو من أصحاب النوادر المجان المضحكين، عاصر الجاحظ ودعبل بن علي، وابراهيم بن سيابة وبعض اخباره في الاغاني 1/ 37، 6/ 17وقد ذكر الآبى في نثر الدرر نبذة من نوادره.
(2) في نثر الدرر ص 318: «سأل يحيى بن خالد أبا الحارث عن مائدة ابنه فقال: أما مائدته فمن نصف سمسمة، وأما صحافه فمنقورة في قشور حب الخشخاش، وما بين الرغيف والرغيف مدّ البصر، وما بين اللون واللون فترة ما بين نبي ونبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: خلق كثير من الكرام الكاتبين قال: فيأكل معه أحد؟ قال: نعم الذباب، وفي محاضرات الراغب 1/ 315 فقرة تشبه هذه منسوبة للجماز.(1/75)
إن رمت ذاك في عالم الكون والفساد، ودار الامتحان والتكليف، مع هذه الطبائع المختلفة، والعناصر المتمازجة، والأسباب القريبة (1)، رمت محالا، ورائم المحال خابط، وطالب الممتنع خائب، ومحاول ما لا يكون مكدود معنّى، ومحدود معدّى (2)، ومرجعه إلى النّدم، وغايته الأسف الذي يشجو النّفس، ويمرس الفؤاد، ويوجع القلب ويضاعف الأسى، وربما أفضى إلى العطب.
قد ذكرنا حاطك الله جملة من القول رأينا تقديمها والاستظهار بها، قبل أخذنا فيما أنشأنا له هذا الكلام، قصدا لفلّ حدّ الطاعن، وحسما لمادّة الحاسد، وتعليما للجاهل، وإرشادا للمتحيّر، واحتجاجا على من يدلّ بحفظ اللّسان، وكتمان السّر، وطيّ القبيح، ومسالمة الناس، واغتفار (3) المنكر وهو مع ذلك في قوله كالأسد في غيله، والنّمر في أشبه (4)، والثّعبان في وجاره، حتى إذا غمز غمزة، أو وخز وخزة رأيت معاقد حلمه متحلّلة، ودخائر صبره منتهبة، وكظمه الذي
__________
(1) كذا «القريبه» بالاصل.
(2) المحدود: المحروم، والمعدّى: المتجاوز به عن الغرض، يعنى:
مصروف عن هدفه إلى غيره.
(3) اغتفار المنكر: غفرانه.
(4) موضع أشب: كثير الشجر.(1/76)
كان يدلّ به مفقودا، وجلده الذي كان يدّعيه باطلا وما أكثر من يتكلّم على السّلامة من (1) النّفس والمال، وطيب القلب، ورخاء البال، وعند مواتاة الأمور، وطاعة الرجال، ومساعدة المراد بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، وبالنّظر الدقيق، واللفظ الرقيق، حتّى إذا التوت عليه حال، وتعسّر دون مراده أمر، وعرض في بعض مطالبه تعقّد، سمعت له هناك زخرة ونخرة، وضجرة، وكفرة، كأن لّم يسمع بالحلم والتحلّم، والصّبر والتصبّر يخرج من فروته عاريا من الحلم والكظم، بادي السّوأة بالبذاء والجهل، كما يخرج الشّعر من العجين، ولعلّ ما نزل به وحلّ عليه لم يرزأه زبالا (2) ولا مسح منه عذارا (3).
وهذا هو اللّئيم الذي بلغك، والسّاقط الذي سمعت به والله تعالى يقول: {«لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ»} (4)
وروى أصحابنا عن ابن عبّاس أنه قال: إلا من لم يكرم، في ضيافته، فإن كان هذا التأويل صحيحا، وهذا الوجه معروفا، فأنا / ذلك المظلوم،
__________
(1) كذا بالأصل، ولعلها: «في النفس».
(2) الزبال بالكسر: ما تحمل النملة بفيها، ويقال: ما أصاب منه زبالا:
أي شيئا.
(3) العذار: الخد، يعني لم يؤده بشيء.
(4) الآية 147من سورة النساء.(1/77)
ولا بدّ لمن ظلم من أن يتظلّم، وكيف يكون المظلوم إذا انتصر ظالما (1)، والله يقول: {«وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولََئِكَ مََا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»} (2)، ولو كان المظلوم إذا تظلم ظالما، لكان الظالم إذا ظلم معذورا وكما هجّن الله لوم المحسن، فكذلك حسّن توبيخ المسيء، وكما أثاب على تزكية من كان طاهرا، كذلك آجر على جرح من كان مدخولا ألا ترى أن التقرّب إلى الله بعداوة أبي جهل (3)، وذمّه ولعنه وذكر لؤمه وخساسته، كالتقرب إلى الله بولاية أبي بكر (4) ومدحه والترحّم
__________
(1) في الكشاف 3/ 71: «وقالوا: العفو مندوب إليه، ثم الامر قد ينعكس في بعض الاحوال فيرجع ترك العفو مندوبا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الاذى. وعن النبي صلّى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وهو أن زينب أسمعت عائشة بحضرته، وكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة:
دونك فانتصري».
(2) الآية 41من سورة الشورى، وفي الكشاف 1/ 394393:
«وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه فأصبح شاكيا، فعوتب على الشكاية فنزلت الآية {«وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولََئِكَ مََا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»}، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيردّ على الشاتم».
(3) هو عمرو بن هشام المخزومي، كان يكنى في الجاهلية أبا الحكم فكناه النبي ص أبا جهل فلزمته. وتأتي ترجمته بعد.
(4) أبو بكر بن أبي قحافة: عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي الخليفة الأول المتوفي سنة 13هـ عسن 63سنة. المعارف 8683.(1/78)
عليه وذكر فضله وبلائه ونصرته وهذا مستمر في غير أبي جهل ممّن عادى الله ورسوله صلى الله عليه، كما أنه مستمر في غير أبي بكر ممّن أطاع الله ورسوله وإنما الأمور بعواقبها، والمذاهب بشواهدها، والنتائج بمقدّماتها، كما أن الفروع بأصولها، والأواخر بأوائلها، والسّقوف بأساسها.
ولست أدّعي على ابن عبّاد ما لا شاهد لي فيه، ولا ناصر لي عليه، ولا أذكر ابن العميد بما لا بيّنة لي معه، ولا برهان لدعواي عنده، وكما أتوخّى الحقّ عن غيرهما إن اعترض حديثه في فضل أو نقص، كذلك أعاملهما به فيما عرفا بين أهل العصر باستعماله، وشهرا فيهم بالتحلّي به، لأن غايتي أن أقول ما أحطت به خبرا، وحفظته سماعا.
وسهل علي أن أقول: لم يكن في الأولين والآخرين مثلهما، ولا يكون إلى يوم القيامة من يعشرهما اصطناعا للنّاس، وحلما عن الجهّال، وقياما بالثواب والعقاب، وبذلا لقنية المال، ولكلّ ذخر من الجواهر والعقد وأنّهما بلغا في المجد الذّروة الشمّاء، وأحرزا في كل فضل وعلم قصب السّبق، وأن أهل الأرض دانوا لهما، وأن النقص لم يشنهما بوجه من الوجوه، وأن العجز لم يعترهما في حال من
الأحوال وأنّهما كانا في شعار إمام الرافضة (1) وعصمته (2) المعروفة، وأن الاستثناء لم يقع في وصفهما في حال، لا في الصّناعة والمعرفة، ولا في الأخلاق والمعاملة، ولا في الرياسة والسياسة، ولا في الأبوّة، والعمومة، ولا في الأمومة والخؤولة، وأن الولادة قرّت على شرف المحتد، والمنشأ جرى على كرم المولد فالجوهر فائق في الاصل، والمجد عميم فى الفرع، والنّصاب (3) مقوّم بالقديم المذكور، والخير شامل في الحديث المشهور، والنجابة معروفة عند الوليّ والعدو، والعرق نابض بكل فعل رضيّ، والغور بعيد على المتأمل، والأمر كلّه عال عن المتطاول وأنّه كما يقال لهذا ابن العميد لنباهة أبيه، كذلك كان يقال لذاك ابن الأمين (4)(1/79)
وسهل علي أن أقول: لم يكن في الأولين والآخرين مثلهما، ولا يكون إلى يوم القيامة من يعشرهما اصطناعا للنّاس، وحلما عن الجهّال، وقياما بالثواب والعقاب، وبذلا لقنية المال، ولكلّ ذخر من الجواهر والعقد وأنّهما بلغا في المجد الذّروة الشمّاء، وأحرزا في كل فضل وعلم قصب السّبق، وأن أهل الأرض دانوا لهما، وأن النقص لم يشنهما بوجه من الوجوه، وأن العجز لم يعترهما في حال من
الأحوال وأنّهما كانا في شعار إمام الرافضة (1) وعصمته (2) المعروفة، وأن الاستثناء لم يقع في وصفهما في حال، لا في الصّناعة والمعرفة، ولا في الأخلاق والمعاملة، ولا في الرياسة والسياسة، ولا في الأبوّة، والعمومة، ولا في الأمومة والخؤولة، وأن الولادة قرّت على شرف المحتد، والمنشأ جرى على كرم المولد فالجوهر فائق في الاصل، والمجد عميم فى الفرع، والنّصاب (3) مقوّم بالقديم المذكور، والخير شامل في الحديث المشهور، والنجابة معروفة عند الوليّ والعدو، والعرق نابض بكل فعل رضيّ، والغور بعيد على المتأمل، والأمر كلّه عال عن المتطاول وأنّه كما يقال لهذا ابن العميد لنباهة أبيه، كذلك كان يقال لذاك ابن الأمين (4)
__________
(1) الرافضة: جماعة من الشيعة سألوا زيد بن على بن الحسين (رئيس الزيدية» أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فأبي أن يجيبهم إلى ذلك، فرفضوا أن يتبعوه وأن ينصروه، فسموا الرافضة.
(2) العصمة: صفة من صفات «الامام» عند الشيعة، ومعناها أن الإمام لا يجوز أن تصدر عنه مصعية، كما لا يجوز عليه أن يسهو في شيء، أو ينسى شيئا من الأحكام. انظر أوائل المقالات للشيخ المفيد ص 35.
(3) النصاب: المنبت والمحتد. ل 2/ 258.
(4) يقول أبو القاسم بن أبي العلاء الاصبهانى من مرثية له في الصاحب.
بل ندى الصاحب الجليل أبي القا ... سم نجل الامين كافي الكفاة
الامين لقب والد الصاحب، واسمه عباد بن العباس، ويكني أبا الحسن، وكان من أهل العلم والفضل معتزليا، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره، ومات سنة 385هـ وله كتاب في «أحكام القرآن».(1/80)
لخير كثير كان فيه، وأن العميد (1) وإن كان مقدّما في الكتابة، فقد كان الأمين معظّما في الديانة، والكتابة صناعة تدركها الخلوقة، والديانة حلية لا تزداد إلا الجدة، وتلك الدنيا وهي زائلة، وهذه الآخرة وهي باقية، والله تعالى يقول: {«وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ»} (2)، {«وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ»} (3) على أنّ الأمين كتب لركن الدّولة (4) كما كتب
__________
وقد صحّف عباس إقبال في تتمة اليتيمة البيت المذكور فجعل روايته:
«نجل الأمير».
ترجمة الامين في الإرشاد 2/ 274والبداية 11/ 318والمنتظم 7/ 184 185. وانظر تتمة اليتيمة 1/ 120.
(1) العميد لقبه، واسمه: أبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بكلة، وأصله من قم وكان في رتبة عالية من الكتابة، ورسائله فيما يقول الثعالبي مدونة بخراسان، وذكر الصابي أن رسائل العميد لا تقل بلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل، وكان وزيرا لمرداويج، وكتب لما كان بن كالي، فلما قتل ما كان في المعركة، واستبيح عسكره وحمل أنصاره وخواصه إلى بخارا قاعدة ملك السامانيين مقرّنين في الاصفاد، كان العميد في جملتهم، ولكن فضله شفع له عند عبد الملك بن نوح (350343) فقلده ديوان رسائله ولقب بالشيخ على عادتهم كانت فيمن يلي ذلك.
انظر اليتيمة 3/ 43والارشاد 5/ 330ومعاهد التنصيص 1/ 175.
وكامل ابن الاثير 8/ 92، 192183.
(2) الآية 17من سورة الاعلى.
(3) الآية 96من سورة النحل.
(4) ركن الدولة: الحسن بن بويه أبو علي، صاحب إصبهان والريّ وهمذان وجميع عراق العجم. توفي سنة 366بالري، ومولده سنة 284تقريبا(1/81)
العميد لصاحب خراسان (1). والأمين كان ينصر مذهب الأشنانيّ (2)
تديّنا وطلبا للزّلفى عند ربه، والعميد كان يعمل لعاجلته وإن قلت كان الأمين معلّما بقرية من قرى طالقان الدّيلم (3)، قيل: وكان والد العميد نخّالا (4) في سوق الحنطة بقمّ.
فدع هذا ونظيره، وأنك متى أردت أن تحصي صنائع ابن العميد وابن عبّاد أردت عسيرا، ومتى أثرت (5) أن تحصّل فضائلهما حاولت (6) ممتنعا، وأنهما كانا بالسياسة عالمين، ولأولياء نعمهما ناصحين، وإلى الصّغير والكبير متحبّبين، وعلى القاصي والداني حدبين،
__________
وكان ملكا جليل القدر، ومدة ملكه 44سنة. ترجمته في الوفيات 1/ 176 177والمنتظم 7/ 85، وعيون التواريخ حوادث سنة 365، 366، وعقد الجمان للعيني سنة 366، ابن الاثير 8/ 241.
(1) صاحب خراسان هو عبد الملك بن نوح الساماني (350343هـ) انظر الحاشية التي قبل هذه
(2) الأشناني أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك القاضي. ذكره ابن النديم 166ولم يؤرخ وفاته، ويظهر من أسماء مؤلفاته التي ذكرها في الفهرست أنه شيعي.
(3) طالقان الديلم، ويقال أيضا: طالقان قزوين في مقابل طالقان خراسان. وانظر الوفيات 1/ 95واللباب لابن الأثير (الطالقاني).
(4) في الارشاد: «نخالا»، وفي الأصل: «نحالا».
(5) أثر أن يفعل كذا: عزم على فعله وفرغ له.
(6) كذا في الأصل، وفي الحاشية بنفس الخط: «أثرت».(1/82)
ولأموالهما باذلين، ولأعراضهما صائنين، وفي مرضاة الله دائبين، وعلى هدي أهل التّقى جاريين، ومن كل دنس ونطف بعيدين نزهين وأنهما لو بقيا لنزل عليهما الوحي، ولتجدّد بهما الشّرع، وسقط بمكانهما الاختلاف، وزال بنظرهما ما فيه الأمة من هذا العيش النّكد، والشؤم الشّامل، والبلاء المحيط، والغلاء المتّصل، والدّرهم العزيز، والمكسب الدّنس، والخوف الغالب، ولكانت الأرض تخرج أثقالها (1)، وتلفظ كنوزها، ويستغني من ألم الفقر أهلها، ومن فضيحة الحاجة أربابها، ويعود ذويّ الدين ناضرا، وخامل المروّة نبيها.
ولكن قد يسمع هذا الكلام منّي / من شاهدهما، وتبطّن أمرهما، وخبر حالهما، وعرف ما لهما وعليهما، فلا يتماسك عن زجري وخسائي (2)
وإسكاتي ومقتي، ولا ينهنهه شيء عن مقابلتي بالتكذيب واللّوم، ولا يجد بدّا من أن يردّ قولي في وجهي، ولا يسعه إلا ذاك بعد ازدرائي وتجهيلي، ولا يلبث أن يقول: انظروا إلى هذا الكذب الذي ألّفه، وإلى هذا الزّور الذي فوّقه (3)، والباطل الذي وصفه، والحقّ الذي دفعه
__________
(1) إشارة إلى الآية 2من سورة زلزلت.
(2) خسأه: زجره وطرده.
(3) فوّف الكلام: زخرفه.(1/83)
بسبب ثوب لعلّه أخذه، أو درهم ثنى عليه كفّه، أو حاجة خسيسة قضيت له تبلغ به قلّة الدّين وسوء النظر فيما يتعقّب بالتّقبيح والتّحسين أنه يمدح واحدا مقروفا بالزّندقة والكفر، ويقرّظ آخر معروفا بالإلحاد والسّخف، ويصف بالجود من كان أبخل من كلب على عقي صبيّ (1) ويدّعي العقل لمن كان أحمق من دغة (2) ومن أظلم ممّن يصف السفيه بالحصافة، واللئيم بالكرم، والمتعجرف بالأناة، والعاجز بالكفاية، والنّاقص بالزيادة، والمتأخّر بالسّبق، والعنيف بالرّفق، والبخيل بالسّخاء، والوضيع بالعلاء، والوقاح بالحياء، والجبان بالغناء؟
فلا يكون حينئذ لقولي قابل، ولا لحكمي ملتزم، ولا لنصبي مرجوع، ولا لسعيي نجح، ولا لصوابي مختار، ولا لحدائي مستمع وفي الجملة لا يكون لدعواي مصدّق.
__________
(1) كذا في الأصل، وصحة الكلام: «أبخل من كلب بعقي صبي»، والعقي بالكسر: أول ما يخرج من بطن الصبي حين يولد ونص المثل:
«أحرص من كلب على عقى صبي»، وهو في اللسان (عقا)، ومجمع الامثال 1/ 154.
(2) دغة: اسم رجل كان أحمق، ولقب معاوية بنت مغنج (أو معنج) العجلية وكانت تحمق أيضا، فكان يقال: «أحمق من دغة»، وللمثل قصة تجدها في أمثال الضبي 102والمعارف 304والاقتضاب 150، وأخبار الحمقى والمغفلين 41، ومجمع الامثال 1/ 193، 147وتاج العروس 10/ 128، واللسان (دغا).(1/84)
ولعمري لو انقلبت عن ابن عبّاد بعد قصدي له من مدينة السّلام وإناختى بفنائه مع شدّة العدم والإنفاض، (1) والحاجة المزعجة عن الوطن، وصفر الكفّ عما يصان به الوجه وبعد تردّدي إلى بابه في غمار (2) الغادين والرّائحين، والطّامعين الرّاجين، وصبري على ما كلّفني نسخه حتى نشبت به تسعة أشهر خدمة وتقرّبا، وطلبا للجدوى منه، والجاه عنده، مع الضّرع والتملّق ببعض ما فارقت من أجله الأعزّة، وهجرت بسببه الإخوان، وطويت له المهامه والبلاد، وعلى جزء مما كان الطمّع يدندن حوله، والنفس تحلم به، والأمل يطمئن إليه، والناس يعذرونه ويحققونه (3)، لكنت لاحسانه من الشاكرين ولإساءته من السّاترين، وعند ذكره بالخير من المساعدين المصدّقين، وعند قرفه بالسّوء من الذّابّين الممتعضين. والشاعر يقول:
«من يعط أثمان المحامد يحمد»
والآخر يقول:
«والحمد لا يشترى إلّا بأثمان (4)»
__________
(1) الإنفاض: ذهاب المال وفناء الزاد.
(2) غمار، بفتح الغين وبالضم: جماعة الناس يقال: دخلت في غمار الناس أي في جمعهم المتكاثف.
(3) يحققونه: يصدقونه.
(4) الشطر في الامتاع 2/ 152غير منسوب أيضا.(1/85)
والآخر يقول (1):
وإن المجد أولّه وعور ... ومصدر غبّه كرم وخير (2)
وإنك لن تنال المجد حتّى ... تجود بما يضنّ به الضمير
بنفسك أو بملكك في أمور ... يهاب ركوبها الورع الدّثور (3)
والآخر يقول:
والحمد لا يشترى إلا له ثمن ... مما يضنّ به الأقوام معلوم
والجود نافية للمال مهلكة ... والبخل مبق لأهليه ومذموم (4)
وقال الآخر:
ومن لا يصن قبل النّوافذ (5) عرضه ... فيحرزه يعرر (6) به ويحرّق
ومن يلتمس حسن الثناء بماله ... يصن عرضه من كل شنعاء موبق (7)
ولكنّني ابتليت به، وكذلك هو ابتلي بي، ورماني عن قوسه مغرقا (8)
فأفرغت ما كان عندي على رأسه مغيظا وحرمني فازدريته، وحقرني
__________
(1) هو عمرو بن الاهتم، والابيات من قصيدة له في المفضليات 2/ 210.
(2) الوعور: مصدر وعر بمعنى صلب. والخير بالكسر: الكرم والشرف.
(3) الورع: الجبان. والدّثور: الكسلان النؤوم.
(4) الجود: جمع جواد، ونافية للمال: مخرجة له.
(5) النوافذ: الطعنات.
(6) يعرّر: يلقّب بما يشينه.
(7) شنعاء: قبيحة فظيعة، موبق: مهلكة.
(8) أغرق في الشيء: تجاوز الحدّ فيه يقال أغرق النازع في القوس أي استوفى مدها.(1/86)
فأخزيثه، وخصّنى بالخيبة التي نالت منّي، فخصصته بالغيبة التي أحرقته، والبادي أظلم، والمنتصف أعذر وكنت كما قال الأول:
وإن لساني شهدة يشتفى به ... أجل وعلى من صبّه الله علقم (1)
ولئن كان منعني ماله الذي لم يبق له، فما حظر عليّ عرضه الذي بقي بعده، ولئن كنت انصرفت عنه بخفّى حنين (2) لقد لصق به من لساني وقلمي كلّ عار وشنار وشين (3)، ولئن لم يرني أهلا لنائله وبرّه (4)، إني لأراه أهلا لقول الحقّ فيه، ونثّ ما كان يشتمل عليه من مخازيه، ولئن كان ظنّ أن ما يصير إليّ من ماله ضائع، إني لأتيقّن الآن أنّ ما يتّصل بعرضه من قولي شائع، والحساب يخرج الحاصل من الباقي، والنّظر يميّز الصحيح من السّقيم، والاعتبار (5) يفرد الحق من الباطل، والمنصف في الحكم يعذر المظلوم ويلوم الظالم، والشاعر يقول:
فإن تمنعوا ما بأيديكم ... فلن تمنعونا إذن أن نقولا
__________
(1) الشهدة: العسل. والعلقم: شجر الحنظل.
(2) حنين اسم اسكاف كان بالحيرة. وأصل المثل «رجع بخفى حنين»، وله قصة في المعارف 265، مجمع الأمثال 1/ 200199.
(3) شناروشين: عيب وقبح.
(4) البر: الخير.
(5) الاعتبار: التدبر والملاحظة.(1/87)
وقال آخر:
فيا قومنا لا تظلمونا فإنّنا ... نرى الظّلم أحيانا يشلّ ويعرج
ويترك أعراض الرّجال كأنّها ... فريسة لحم ليس عنها مهجهج (1)
وقال آخر:
إنّ الذي يقبض الدّنيا ويبسطها ... إن كان أغناك عنّي فهو يغنيني (2)
ماذا عليّ وإن كنتم ذوي رحمي ... أن لا أحبّكم إذ لم تحبّوني
/ يا قوم إن حصاتي ذات معجمة (3) ... على العدوّ فخلّوهم وخلّوني
وقال آخر:
لئن طبت نفسا عن ثنائي إنني ... لأطيب نفسا عن نداك على عسري
فلست إلى جدواك أعظم فاقة ... على شدّة الإعسار منك إلى شكري
وروى الحزنبل (4) عن ابن الأعرابي (5) قال: مدح زياد
__________
(1) هجهج بالسبع: صاح به وزجره ليكف عن فريسته.
(2) البيتان الأول والثاني في الأمالي 1/ 256255من قصيدة لحرثان ابن محرث ذي الأصبح العدواني.
(3) الحصاة: العقل والرأي والرزانة. وذات معجمة: ذات صبر وصلابة وشدة.
(4) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عاصم التميمي المعروف بالحزنبل عالم لغوي راوية. ترجمته في الفهرست 108، والارشاد 2/ 234، وانظر لسان الميزان 3/ 513.
(5) محمد بن زياد أبو عبد الله المتوفى سنة 231هـ، لغوي راوية معروف.
الفهرست 103102والمعارف 288.(1/88)
الاعجم (1) بعض العمّال فحرمه ورأى لكنته فاستحقره، فدخل فأنشده:
وكنت إذا ما عامل عقّ أمّه ... ولم يحمها منّي أبحت حماهما
كسوتهما بردين من يمنية ... إذا ألبسا كانا بطيئا بلاهما
وأجهل الناس في ارتفاع منزلته، من ظنّ أنّ عرضه في خفارة قدرته، وأنّ المقدم عليه متعرض لنكيره، وخير من هذا الظّن أن يحتمل ألم مفارقة المال ببعض الميسور، حتّى لا يقرف بشيء لا غاسل له، ولا نافح عنه (2) ما الذي ربح اليزيديّ (3) حين آسد (4) الشاعر الذي حرمه على نفسه حتّى قال فيه شيئا شافيا لغليله منه بما بقي على أست الدّهر، وذلك قوله:
بنو اليزيديّ في أدبارهم شعر ... قد شاب ممّا عليه تحلب الكمر
أمّا حبيشة منهم فهو ممتحن ... من البغاء بما لم يمتحن بشر
بودّه أن كلّ الناس من حمر ... وكلّ جارحة في جسمه ذكر
__________
(1) هو زياد بن سليمان مولى عبد القيس أحد بني عامر بن الحرث، نزل اصطخر فغلبت عليه العجمة فقيل له الأعجم. ترجمته في الاغاني 14/ 109102.
(2) نافح عنه: دافع عنه.
(3) بيت اليزيديين في الفهرست 7574، نور القبس (نسخة نور عثمانية 3391مكرر، الأوراق 43، 47، 51) والأغاني 18/ 9472.
(4) آسد: أغرى.(1/89)
والله للخروج من الطّارف والتّالد أسهل من التعرّض لهذا القول والصّبر عليه وقلّة الاكتراث به، ولهذا بكت العرب من وقع الهجاء كما تبكي الثّكلى (1) من النّساء، وذلك لشرف نفوسها ونزاهتها عن كل ما يتخوّن (2) جمالها ويعيب فعالها.
ومما يختل به الرّئيس ويذهل عليه أنّه ينظر إلى جماعة بين يديه قد أحسن إلى كلّ واحد منهم وقرّبه وأعطاه واختصّه بشيء وأبانه بحال، وإذا رأى واحدا بعد هاؤلاء لا نباهة لقدره، ولا جهارة لمنظره (3)، ولا شهرة لاسمه ومنصبه حقره، وثنى طرفه عنه، وأغضاه دونه، ولم يهشّ لذكره ورؤيته، واعتقد أنه ليس بذي محلّ يبالى به، ولا يبين في غمار الباقين أو يجب على ذلك المحروم أن يذكره بما هو أغلب عليه، وأشهر عنه، وأن يعدّ نيل غيره كرما قد عمّ، وأن كان إخفاقه وحده لؤما قد خص؟
وهذا موضع يشكل قليلا، وتطول فيه الخصومة بين الآمل والمأمول، على أن الكرم والاحتجاج لا يجتمعان، والّلؤم والاحتيال لا يفترقان وقد ألمّ الشاعر بطرف من هذا المعنى بقوله:
__________
(1) المرأة التي فقدت ولدها أو زوجها.
(2) يتنقص.
(3) جهارة الرجل: حسن منظره وتمام جسمه.(1/90)
إن تكلّمت لم يكن لكلامي ... موقع والسكوت ليس بمجدي
فأبن لي أكلّ هذا التواني ... في جميع الإخوان أم فيّ وحدي
أم ترى ما اصطنعته عند غيري ... واجب أن أعدّه لك عندي
والذي أقول غير محتشم ولا مراقب: أنّ السؤدد لا يكون إلا باحتمال خصال من الصّبر والحلم والتكرّم والبذل والعطاء والتفقّد، وهنّ أثقل مما يعانيه الزائر بأمله (1)، والفقير برجائه، والشاعر بطمعه، والمنتجع بزيارته اللهم إلا أن يكون السّيد يجري في هذه الأخلاق والشّيم على الهوى فيعطي من كان أخفّ روحا عنده، وأحلى شمائل وألطف فضلا، وأعبر (2) قولا، فهذا ليس عليه من ثقل السّؤدد شيء، لأنّه قد ميّز ما يخفّ عليه مما يثقل، وما يتّصل بنفسه مما ينبو (3)
عنه، وما هذا من السّؤدد، إذا كان صريحا تامّا عريقا، في شيء، بل السّؤدد ما قال أبو الأسود الدّيلي (4) لعبيد الله بن زياد (5): إنك لن
__________
(1) في الأصل: «بآمله».
(2) أبين قولا، وأسير. في الأصل: «وأعير».
(3) في الأصل: «مما ينبوا».
(4) ظالم بن عمرو بن سفيان، من كبار التابعين. توفي سنة 67هـ ترجمته في الفهرست 59والارشاد 4/ 280والنزهة 149والخزانة 1/ 138136.
(5) عبيد الله بن زياد بن أبيه، ولي إمرة الكوفة وخراسان لمعاوية، والعراق ليزيد بن معاوية. وقتله ابن الاشتر في يوم عاشوراء سنة 67هـ. المعارف 151، والوافي (شهيد علي 1970الورقة 177ب)، ونهاية الأرب 9/ 414.(1/91)
تسود حتى تصبر على سرار الشيوخ البخر (1)، وهذا الكلام كالميل، وقال الشاعر:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا (2)
وقيل لعديّ بن حاتم (3): من السيد؟
قال: الأحمق في ماله، الذّليل في عرضه، المطّرح لحقده، المعنيّ بأمر جماعته فليس يسود المرء إلا بعد أن يسهر من أول ليله إلى آخره فكرا في قضاء الحقوق، وكفّ السّفاه (4)، وازدراع المحبّة في القلوب، وبعث الألسنة على الشكر وفي الجملة من جهل حقّك، فليس يلزمك أن تعترف له بحقّه، ومن لم ينظر فيما لك عليه، لم يجب عليك أن تنظر فيما له عليك وقد قال رسوله صلّى الله عليه: «لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له (5)».
وقد قيل تواضع للمحسن إليك وإن كان عبدا حبشيا، وانتصف
__________
(1) السرار: المسارّة والمناجاة. والبخر جمع أبخر، وهو الذي نتنت رائحة أنفه.
(2) الصّبر: عصارة شجر مرّ.
(3) أبو طريف عدي بن حاتم الطائي. قتل زمن المختار، وحضر مع علي ابن أبي طالب وقعة الجمل وصفين. المعارف 136.
(4) السفاه: السفه والجهل.
(5) الحديث في البيان والتبيين 2/ 19.(1/92)
ممن أساء إليك وإن كان حرا قرشيا ومن صفات الكريم ما قال الشاعر:
وإنّ الكريم من تلفّت حوله ... وإن اللّئيم دائم الطّرف أقود (1)
وقال آخر:
لحا الله أكبانا زنادا وشرّنا ... وأيسرنا عن عرض والده ذبّا
رأيتك لما نلت مالا وعضّنا ... زمان ترى في حدّ أنيابه سغبا (2)
جعلت لنا ذنبا لتمنع نائلا ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا
/ وقال آخر:
نال الغنا بعد فقر فاستغاث به ... كما استغاث بباقي ريقه الشّرق
وإذا احتججت بالعيان في وصف هذين الرّجلين في الكرم واللؤم فقد رفعت المرية، وإذا أقمت الشاهد على الدّعوى فقد منعت من اللائمة، وإذا أريت الضّرورة فقد بلغت الغاية وأيّ خفقة للقلب بعد اليقين، وأيّ وحشة للنفس بعد الاستبصار، أم أيّ بقية (3)
على المحتجّ إذا وصل البرهان، أم كيف يستحيا في الحقّ وإن كان مرّا، أم كيف يعتذر من الصّدق وإن كان موجعا.
هذا ما لا يكلّفه حكيم، ولا يأمر به مرشد، ولا يحثّ عليه ناصح.
__________
(1) دائم: ساكن، وأقود: ذليل منقاد.
(2) في الأصل: «أنيابه شغبا».
(3) في الأصل: «أم أي وحشة، أم أي تقية».(1/93)
وهذا مبدأ أخذي في حديث ابن عبّاد على ما يتّفق من ترتيبه ووضعه، غير آخذ في أهبة، ولا محتفل بتقدمة.
فأوّل (1) ما أذكره من ذلك ما أدلّ به على سعة كلامه، وفصاحة لسانه، وقوة جأشه، وشدة منتّه (2)، وإن كان في فحواه ما يدّل على رقاعته وانتكاث مريرته (3)، وضعف حوله، وركاكة عقله وانحلال عقده.
لمّا رجع من همذان سنة تسع وستين وثلاثمائة (4) بعد أن فارق حضرة عضد الدّولة (5) استقبله النّاس من الرّيّ وما يليها، واجتمعوا بساوة (6) ودونها وفوقها، وكان قد أعدّ لكل واحد منهم كلاما
__________
(1) حديث الاستقبال هذا نقله ياقوت في الارشاد 2/ 288282.
(2) المنة: القوة، أو قوة القلب خاصة.
(3) المريرة: الحبل الشديد الفتل. والانتكاث: النقض والحلّ.
(4) الذي في الكامل لابن الأثير 9/ 2: أنه أرسل إلى عضد الدولة سنة 370هـ.
(5) عضد الدولة فنا خسرو بن الحسن بن بويه أبو شجاع بن ركن الدولة. ملك جليل حازم، وكان محبا للعلماء ويتفرغ أحيانا للأدب. المنتظم 7/ 118113وعيون التواريخ (حوادث سنة 338، 372)، ابن الاثير 9/ 87، 8/ 174183.
(6) ساوة: مدينة بين الري وهمذان، يقول ياقوت: وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها أحرقها التتار وخربوا المدينة (معجم البلدان 5/ 2221)(1/94)
يلقاه به عند رؤيته (1) وأين كانوا يقعون منه، وأين كانوا يبينون عنده وهذا الذي ذهب به في الإعجاب والكبر، وبعثه على احتقار النّاس، وتركه في التّيه المضلّ.
فأول من دنا منه القاضي أبو الحسن الهمذانيّ (2) وهو من قرية يقال لها أسدآباد (3)، فقال له: أيّها القاضي! ما فارقثك شوقا إليك، ولا فارقتني وجدا عليك (4)، ولقد مرّت بعدك مجالس كانت تقتضيك وتخطبك وترتضيك ولو شهدتني بين أهلها وقد علوتهم ببياني ولساني وجدلي، لأنشدت قول حسّان بن ثابت (5) في ابن عبّاس (6) ورأيتني أولى به منه، فإنّ حسّان قال:
__________
(1) كذا بالاصل. ويظهر أن في الكلام نقصا.
(2) لعله أبو الحسن العلوي الهمذاني القاضي المذكور في اليتيمة 3/ 180 (مصر) فله صلة بالصاحب وله معه أحاديث.
(3) أسدآباد: مدينة تبعد نحو العراق عن همذان بمرحلة. (معجم البلدان 1/ 226).
(4) كذا في الإرشاد 2/ 282أيضا. واقترح مرجليوث أن يصحح نص الارشاد إلى: «وجدا عليّ». وهو اقتراح غير صحيح.
(5) تقدمت ترجمة حسان.
(6) عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكان عمره يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة. واختلف فى سنة وفاته من سنة 68إلى سنة 74من الهجرة، وقد عدّه ابن النديم 181في الخطباء(1/95)
إذا ما ابن عبّاس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ مجمعة فضلا (1)
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا
ولذكرت أيضا أيها القاضي قول الآخر وأنشدته فإنه قال فيمن وقف موقفي، وقرف مقرفي، وتصرّف متصرّفي، وانصرف منصرفي، واغترف له مغترفي:
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللّسان على هجر (2)
يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
ولقد أودعت صدر عضد الدولة ما يطول به التفاته إليّ، ويديم حسرته عليّ، ولقد رأى ما لم ير قبله مثله، ولا يرى بعده شكله فالحمد لله الذي أوفدني عليه على ما يسر الوليّ، وأصدرني عنه على
__________
ويقول الجاحظ فيه: «من الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون، وكان أول من عرّف (علم) بالبصرة صعد المنبر فقرأ سورة البقرة وآل عمران ففسرهما حرفا حرفا». البيان والتبيين 1/ 330، وشرح المقامات 1/ 113122.
(1) الابيات في شرح المقامات 1/ 113، وما عدا الأول منها في البيان 1/ 330، وزهر الآداب 996 (ط الحلبي)،
(2) البيتان في شرح المقامات 1/ 113وديوان المعاني.(1/96)
ما يسوء العدوّ.
أيها القاضي كيف الحال والنّفس، وكيف الإمتاع والأنس، وكيف المجلس والدّرس، وكيف القرص (1) والجرس (2)، وكيف الدّسّ (3) والدعس (4)، وكيف الفرس (5) والمرس (6) وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيّجه واحتدامه، وشدة خيلائه وغلوائه. والهمذاني مثل الفارة بين يدي السّنّور قد تضاءل وقمؤ لا يصعد له نفس إلّا بنزع تذلّلا وتقلّلا، هذا على كبره في مجلسه مع نذالته في نفسه.
ثم نظر إلى الزّعفرانيّ رئيس أصحاب الرأي (7) فقال:
أيها الشيخ! سرّني لقاؤك وساءني عناؤك وقد بلغني عدواؤك (8)
وما خيّله إليك خيلاؤك وأرجو أن أعيش حتى يردّ عليك غلواؤك
__________
(1) القرص: التجميش.
(2) الجرس: الأكل.
(3) الدس: إدخال شيء تحت شيء.
(4) الدعس: الطعن وشدة الوطء.
(5) الفرس: مواصلة النساء.
(6) المرس: الدلك.
(7) أظنه محمد بن أحمد بن عبدوس، أبو الحسن الحنفي المعروف بالزعفراني وبالدلال، الفقيه البغدادي المتوفى سنة 392 (الفوائد البهية 155) فهو الذي ينطبق عليه قول أبي حيان «رئيس أصحاب الرأي» فالحنفية هم أصحاب مدرسة الرأي.
(8) عدواؤك: غلظ خلقك وصعوبته.(1/97)
ما كان عندي أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهي في عداوتك لأهل «العدل والتوحيد» إلى ما انتهيت إليه ولي معك إن شاء الله نهار له ذيل، وليل يتبعه ليل، وثبور يتّصل به ويل، وقطر يدوم معه سيل {«وَسَيَعْلَمُ الْكُفََّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدََّارِ»} (1).
قال الزّعفراني (2): {«حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»} (3).
ثم أبصر أبا طاهر الحنفي فقال:
أيّها الشّيخ! ما أدري أأشكوك أم أشكو (4) إليك، أما شكواي منك فلأنّك لم تكاتبني بحرف، حتى كأنّا لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على إلف، ولم نتلاق على ظرف وأما شكواي إليك فهو أنّي ذممت (5) الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك، وعرضت بينهم ودّك، وقدحت عليهم زندك، ونشرت عندهم غرائب ما عندك فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بتزويقي، وأثنوا عليك بتنميقي وترويقي (6)
وهكذا عمل الأحباب إذا تناءت بهم الرّكاب، والتوت دونهم الأعناق، واضطرمت في صدورهم نار الاشتياق.
__________
(1) اقتباس من الآية 44من سورة الرعد.
(2) في الارشاد: «قال له الزعفراني».
(3) الآية 173من سورة آل عمران.
(4) في الأصل: «أشكوا».
(5) في الأصل: «دممت».
(6) ترويقي: تحسيني وتفضيلي.(1/98)
فالحمد لله الذي أعاد الشّعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة /، والأهواء جامعة حمدا يتّصل بالمزيد، على عادة السّادة مع العبيد، عند كل قريب وبعيد.
ثم التفت إلى ابن القطّان القزويني الحنفي، وكان من ظرفاء العلماء، فقال:
أيها الشيخ! كدت والله أحلم بك في اليقظة، وأشتمل عليك دون الحفظة، لأنك قد ملكت مني غاية المكانة والحظوة والله ما أسغت بعدك ريقا إلّا على جرض (1)، ولا سلكت دونك طريقا إلا على مضض، ولا وجدت للظّرف سوقا إلّا بالعرض. سقى الله ربعا أنت ساكنه بنزاهتك، وطبعا أنت طابته (2) ببراعتك، ومغرسا أنت نبعه بنباهتك، وأصلا أنت فرعه بفقاهتك (3).
وقال للعباداني (4):
أيها القاضي! أيسرّك أن أشتاقك وتسلو (5) عني، وأن أسأل عنك فتنسلّ
__________
(1) الجرض: الريق يغصّ به.
(2) كذا في الإرشاد، والطابة: مؤنث الطاب، وهو الطيب. وفي الأصل:
«طانه».
(3) الفقاهة: الفقه.
(4) ورد ذكره في الصداقة 69، 139ونقل عنه هناك، وفي البصائر 2/ 14ب: «وسمعت أبا حامد المروروذي يقول لأبي طاهر العباداني، وكان يتصوف ويتفقه».
(5) في الأصل: «وتسلوا».(1/99)
منّي، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع منّي فيه ملك بني ساسان (1)
متى كنت منديلا ليد؟ ومتى نزلت على هذا الحدّ لأحد؟ إن انكفأت إليّ بالعذر انكفاء، وإلا اندرأت (2) عليك بالعذل اندراء، ثم لا يكون لك معي قرار بحال، ولا يبقى لك بمكاني استكثار إلا على وبال وخبال.
ثم طلع أبو طالب العلوي فقال:
أيها الشريف! جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات بعد هنات، ولم تفكّر في ماض ولا آت، أضعت العهد وأخلفت الوعد، وحقّقت النحس وأبطلت السّعد وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحرّان، وظننت أنك قد شبعت منّي، أو اعتضت عنّي، هيهات! وأنّى لك بمثلي، أو بمن يعثر في ذيلي، أو له نهار كنهاري أو ليل كليلي؟
«وهل عائض منّي، وإن جلّ، عائض»
أنا واحد هذا العالم، وأنت بما تسمع عالم لا إله إلا الله، وسبحان الله.
أيها الشريف! أين الحق الذي وكّدناه أيام كادت الشمس عنا تزول؟ والزّمان علينا يصول، وأنا أقول، وأنت تقول، والحال
__________
(1) في الأصل: «ملك بن ساسان».
(2) اندرأت: اندفعت.(1/100)
بيننا يحول؟ سقى الله ليلة تشييعك وتوديعك، وأنت متنكر تنكرا يسوء الوليّ، وأنا مفكّر (1) تفكّرا يسرّ العدو، هذا ونحن متوجهون إلى ورامين (2) خوفا من ذلك الجاهل المهين، يعني بالجاهل المهين ذا الكفايتين حين أخرجه من الرّي بعد أن ألّب عليه وكاد يؤتى على نفسه الخبيثة، وهو حديث له فرش، وما أنا بصدده يمنع من اقتصاصه، ولعله يجري على وجهه فيما بعد ولقد ظلم بقوله، وكان بالجهل والمهانة أحقّ، وسيمر ما يدلّ على قولي ويصحّح حكمي، ويبيّن لك أنه لم يكن معه إلا الجدّ المساعد فقط، وباقي ذلك تشبّع وإيهام وتمويه وكذب وبهت ووقاحة.
ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط (3) فقال:
أيها الشيخ! الحمد لله الذي كفانا شرّك، ووقانا عرّك، وصرف عنا ضرّك، وأرانا فيحك وحرّك دببت الضرّاء لنا، ومشيت الخمر (4)
علينا، ونحن نحيس لك الحيس (5) ونصفك باللّبابة والكيس، ونقول
__________
(1) في الأصل: «متفكر».
(2) ورامين: بلدة في نواحي الريّ.
(3) كذا في الإرشاد. ويقول مرجليوث: «يريد الشرط»، وكأنه يريد جمع «الشرطة». وقد أخطأ فكاتب الشروط، وكتب الشروط معروفان في ثقافة الاسلام.
(4) الخمر: الشجر الملتفّ، وكل ما سترك من شجر أو بناء أو نحوهما، من أقوالهم في الرجل يختل صاحبه ويكيد له في الخفاء: هو يدبّ له الضراء ويمشي له الخمر.
(5) نحيس: نخلط، والحيس: الأقط يخلط بالتمر. وانظر ذيل الأمالى 86.(1/101)
ليس مثله ليس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس (1)
لولا أنك قرحان (2) لسقط العشا (3) بك منّا على سرحان (4).
وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي:
أيها الشيخ! ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بإنسانك، جاريا على نسيانك، مستهترا بفتيانك وافتنانك، غير عاطف على إخوانك وأخدانك لولا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيك من رعايتي ما قد منعته، لكان لي ولك حديث، إما طيّب وإما خبيث خلّفتك محتسبا فخلفت مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف.
فلحقتك راكبا للمنكر، قد يفيل (5) الرّأي ويخيب الظّن، ويكذب الأمل، وقد قال الأول:
ألا ربّ من تغتشّه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب وهو ظنين (6)
ثم نظر إلى الشادياشي فقال:
__________
(1) الويح والويس، بمنزلة الويل في المعنى.
(2) قرحان: مسه القرح.
(3) العشا مقصور: سوء البصر.
(4) السرحان: الذئب والأسد، أو اسم لرجل من الفتاك، وفي المثل:
«سقط العشاء به على سرحان» (مجمع الأمثال 222221).
(5) فال الرأي: أخطأ وضعف.
(6) البيت في ل (غش) غير منسوب. واغتششت فلانا: أي عددته غاشا. ورواية البيت في اللسان: «أيا رب ومنتصح غير أمين»(1/102)
يا أبا عليّ! كيف أنت وكيف كنت؟
فقال: يا مولانا
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا
لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
فقال: اغرب يا ساقط يا هابط، يا من يذهب إلى الحائط بالغائط، ليس هذا من نحت يدك ولا هو مما نشأ من عندك، هذا لمحمّد بن عبد الله بن طاهر، أوله:
كتبت تسأل عني كيف كنت وما ... لاقيت بعدك من غمّ ومن حزن
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا
لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
وكان ينشد وهو يلوي رقبته، ويجحظ حدقته، وينزي أطراف منكبه ويتسايل (1) ويتمايل، كأنه {«الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطََانُ مِنَ الْمَسِّ»} (2).
ثم قال: يا أبا علي! لا تعوّل على اير في سراويل غيرك، لا اير إلا اير تمطّى تحت عانتك، فإنك إن عوّلت على ذلك خانك وشانك، وفضح خانك (3) ومانك.
__________
(1) يتسايل: مفاعلة من سال.
(2) الآية 275من سورة البقرة.
(3) الخان: مكان نزول التجار، ومانك: كذب عليك.(1/103)
ثم نظر إلى غلام قد بقل وجهه كان يتّهم به على الوجه الأقبح، فالتوى وتقلقل، وقال: ادن يا بنيّ! كيف كنت؟ ولم حملت على نفسك هذا العناء؟ وجهك هذا الحسن لا يبتذل للشحوب، ولا يعرض للفخات الشّمس بين الطلوع والغروب، أنت يجب أن تكون في بذلة (1) بين حجلة (2) وكلّة (3)، تزاح بك العلّة، وتعلا فيك القلّة، وتشفى منك الغلّة.
هذا آخر حديث الاستقبال، وقد حذفت منه أشياء كثيرة من رقاعاته، لأنّ الغرض غير مقصور على فنّ واحد من حديثه.
وقال يوما في دار الإمارة لفيروزان المجوسي، وكان الخرائطيّ حاضرا، في شيء نابذه عليه: إنما أنت مخش (4) مجش (5) محش (6)
لا تهش ولا تبش ولا تمتش (7).
__________
(1) البذلة: الثياب.
(2) الحجلة: مثل القبة، وحجلة العروس: بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور.
(3) الكيلة: الستر الرقيق يخالط كالبيت يتوقى فيه من البق والبعوض.
(4) المخش: الرجل الجرىء.
(5) المجش: الرحى.
(6) المحش: ما تحرك به النار.
(7) متش الناقة: حلبها بأصابعه حلبا ضعيفا، والمعنى في هذه الكلمات جميعا: انك خشن الطبع جافه لا ليونة فيك.(1/104)
فقال له فيروزان: أيها الصّاحب! برئت من النار إن كنت أدري ما تقول، إن كان من رأيك أن تشتمني فقل ما شئت بعد أن أعلم، فإن العرض لك، والنّفس فداؤك، لست من الزّنج، ولا من البربر، ولا من الغزّ، كلّمنا بما نعقل على العادة التي عليها العمل والله ما هذا من لغة آبائك الفرس، ولا لغة أهل دينك من هذا السّواد فقد خالطنا الناس فما سمعنا منهم هذا النّمط، وإنّي أظنّ أنك لو دعوت الله بهذا الكلام لما أجابك، ولو سألته لما أعطاك، ولو استغفرت الله به ما غفر لك وحقيق على الله ذلك.
فقال الخرائطي: أيها الصاحب! والله لقد صدق فلا تغضب، فليس كل من وثق بأنه لا يراجع في قوله وفعله ركب ما يحمّق فيه شاهدا وغائبا.
فقام عنهما خزيان يردّد ريقه حقدا عليهما، وكان ذلك سببا كبيرا في فساد أمرهما.
وقلت للزّعفراني الشاعر (1)، وكان من أهل بغداد: اصدقني أيّها
__________
(1) أبو القاسم عمر بن إبراهيم، شاعر عراقي نادم الصاحب وحظي عنده، وفخر الدولة وأخاه عضد الدولة. ترجم له الثعالبي في اليتيمة 3/ 318311 (مصر) وفي 3/ 119قصيدة له يصف فيها دارا للصاحب.(1/105)
الشيخ عن هذا الإنسان، كيف وجدته في طول ما عجمت عوده، وتصفّحت أخلاقه، وخبرت دخلته.
فقال: وجدته كليل الكرم، حادّ اللؤم، رقيع الظاهر، مريب الباطن، دنس الجيب، مثريا من العيب، كأنه خلق عبثا مما مليء خبثا سفهه ينفي حكمة خالقه، وغناه يدعو (1) إلى الكفر برازقه وأنا أستغفر الله من قولي فيه ونفاقي معه ولعن الله الفقر فهو الذي يحيل المروءة، (2)
ويقدح في الدّيانة ولو كان لي ببغداد قوت يحفظ عليّ ماء الوجه ما صبرت على هذا الرّقيع البارد المجنون المطاع ساعة، ولكن ما أصنع قد قلّبت أمري ظهرا لبطن، مالي إلى الرّزق باب إلّا منه، وأنشد:
والرّزق كالوسميّ ربّتما عدا ... روض القطا وسقى مهامه جلّق (3)
فإذا سمعت بحوّل (4) متأله ... متأدب فهو الذي لم يرزق
والرّزق يخطيء باب عاقل قومه ... ويبيت بوابا لباب الأحمق
وأنشد أيضا:
الرّزق قد يأتيك في وقته ... والحرص لا يغني ولا يجدي
كم قاعد يبلغ مأموله ... وطالب مضطرب يكدي
فاسترزق الرازق من فضله ... وأرض بما يوليك من رفد
__________
(1) في الأصل: «يدعوا».
(2) في الأصل: «يحيل المروّة»
(3) روض القطا: موضع بأرض اليمامة كثر ذكره في أشعارهم (معجم البلدان 4/ 321). وجلّق: دمشق أو النوطة (معجم البلدان 3: 126).
(4) حوّل: ذو تصرف واحتيال، بصير بتحويل الأمور.(1/106)
وثق بإحسان له واسع ... فهكذا عاداته (1) عندي
وأنشد القرمسيني (2) قال: أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش لشاعر:
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... ويحرم الرزق من لم يؤت من تعب
يا ثابت العقل كم عاينت ذا أدب ... الرزق أعدى له من ثابت الجرب
وإنني واجد في النّاس واحدة ... الرزق والنّوك مقرونان في نسب (3)
وخصلة قلّ فيها من ينازعني ... الرزق أروغ شيء عن ذوي الأدب
وقلت للمسيّبي: ما قولك في ابن عباد؟
فقال: له فى الخلاعة قرآن معجز، وفي الرّقاعة آية منزلة، وفي الحسد عرق ضارب، وفي الكذب عار لازب لا ينزع عن المساوي إلا مللا، ولا يأتي الخير إلا كسلا ظاهره ضلالة، وباطنه جهالة، وليس له في الكرم دلالة، ولا في الإحسان إلى الأحرار آلة فسبحان من خلقه غيظا لأهل الفضل والأدب، وأعطاه فيضا من المال والنشب!
وقلت لأبي بكر الخوارزمي الشاعر (4)، وكان قد خبره:
__________
(1) في الأصل: «عادته».
(2) القرمسيني علي بن هارون بن نصر النحوي أبو الحسن، أخذ عن علي بن سليمان الأخفش، وأخذ عنه عبد السلام البصرى. مات سنة 371 في خلافة الطائع العباسي، ومولده سنة 290هـ. انظر الإرشاد 6/ 440.
(3) النوك بالضم: الحمق.
(4) محمد بن العباس الخوارزمي أبو بكر الشاعر المجيد المتوفى سنة 383هـ وذكر ابن الأثير أنه توفي سنة 393هـ.(1/107)
كيف وجدت الصاحب، وقد أعطاك وأولاك وقدّمك وآثرك، وسفر لك (1) إلى عضد الدولة، وهو اليوم شاه الملوك، حتى ملأت عيابك تبرا، وحقائبك ثيابا، ورواحلك زادا؟
فقال: دعني مما هنالك، والله إنه لخوار في المكارم، صبّار على الملائم، زحّاف إلى المآثم، سمّاع للنّمائم، مقدام على العظائم يدعو إلى «العدل والتوحيد»، ويدّعي «الوعد والتخليد»، ثم يخلو باستعمال الأيور، ويشتمل على الفسوق والفجور، ويمسي وهو بور (2)
ويصبح وما على وجهه نور.
وكان الخوارزمي من أفصح الناس، ما رأينا في العجم مثله، وإنما نوّله الصاحب ما نوّله، وخوّله ما خوّله، لأنه كان أذكاه عينا على محمد بن إبراهيم صاحب الجيش بنيسابور، واستملى فيه (3) أخبار المشرق، وبهذا
__________
كان علامة لغويا ضليعا غزير الحفظ، وشيعيا مع غلو. ذكر ابن شاكر في عيون التواريخ شعرا له نال فيه من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وفي رسائله ما يشهد لغلوه في التشيع.
ترجمته في الوفيات 1/ 662وعيون التواريخ (حوادث سنة 383)
(1) كذا بالأصل.
(2) وهو بور: فاسد هالك لا خير فيه.
(3) كذا، وكأنها: «منه».(1/108)
المعنى استدرّ له من ملك بغداد بوساطة ابن يوسف (1)، وكان الظاهر أنه إنما يعطيه لأدبه، ويجيزه لشعره، ويصطفيه لفضله.
ولقد قلت للزعفرانيّ:
أرى الخوارزميّ سيّء الرأي في ابن عبّاد مع ما يصل إليه منه، فما السبب؟
فقال:
ابن عبّاد سيّء السياسة / لصنائعه، وذلك أنه يعطي الإنسان عطية ما، ثم يبلوه بجفاء يتمنّى معه لقط النوى (2) من السّكك، والمصطنع الكريم هو الذي يكون اصطناعه بلسانه فوق اصطناعه بيده وإني أحدثك ببعض ما عامل به الخوارزمي ليصحّ لك القياس عليه، والتعجب منه.
حضر الخوارزمي يوما، وجرى حديث القافة (3)، فقال الخوارزمي:
__________
(1) هو عبد العزيز بن يوسف الكاتب، وتأتي ترجمته.
(2) في الأصل «النوا».
(3) القافة جمع قائف يقول أبو حيان في البصائر 5/ 35:
«والقائف عند العرب الذي يقفو أقدام السالكين فيقول: هذه (في الأصل: هذا) قدم فلان وبنو مدلج مخصوصون بهذا الشأن ولهم إصابة ظاهرة وحذق معروف، والعرب تعرف لها ذلك». وفي تهذيب الأزهرّي «قاف»: «ومنه قيل للذي ينظر إلى شبه الولد بأبيه قائف وجمعه قافة(1/109)
دخل محرز (1) المدلجيّ على رسول الله صلى الله عليه ونظر إلى أقدام أسامة، وزيد، فقال: هذه أقدام بعضها من بعض، وصحّف البائس كما يصحفّ الناس، العلماء فمن دونهم، وكان ابن عبّاد على بركة، فما زال يدور حول البركة وهو يصفع الخوارزميّ ويقول: محرز؟ بحياتي؟
إلى أن رعف الخوارزمي فتنحى وخرج.
فهذا وما داناه هو الذي كان يفسد به ما يفعله من الخير والبر.
وحدّثني بذكو أبي بكر عينا بخراسان أبو الطيّب النصراني، وكان علي السّرّ عند مؤيّد الدولة (2) وكان يعرف من مخازي ابن عبّاد عجائب سمعته يقول: لو بحت بما في نفسي من حديث هذا المأبون لتصدّع الجبل، ولتقلّع الجندل
__________
ومصدره القيافة». وهو تفسير أليق بحديث القافة الذي يشير إليه أبو حيان ونصه: «ألا إن مجزّز المدلجي رأى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد نائمين فى قطيفة فقال: هذه الاقدام بعضها من بعض». وهو في الاصابة 8/ 45، ومحاضرات الراغب 1/ 70.
(1) بالحاء والراء ثم الزاي، وهنا التصحيف ومجزز، بالجيم وبزاءين معجمتين على وزن محدّث: هو ابن الاعور بن جعدة الكناني المدلجي القائف كان إذا أسر أسيرا، جزّ ناصيته وأطلقه فسمي مجزّزا. ترجمته في الاصابة 8/ 45.
(2) مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدولة المتوفي سنة 373هـ بجرجان عن 43سنة. ترجمته في الوفيات 1/ 93، عيون التواريخ (حوادث سنة 373)، المنتظم 7/ 122120، أبي الفداء 2/ 129.(1/110)
وكان ابن عبّاد شديد السّفه عجيب المناقضة، سريع التحوّل من هيئة إلى هيئة، مستقبلا للأحرار بكل فرية وفاحشة كان (1) يقول للانسان الذي قد قدم عليه من أهل العلم: تقدّم يا أخي! وتكلّم، واستأنس، واقترح، وانبسط، ولا ترع، واحسبني في جوف مرقّعة، ولا يهولك هذا الحشم والخدم، وهذه الغاشية والحاشية، وهذه المرتبة والمسطبة (2)
وهذا الطّاق والرّواق، (3) وهذه المجالس والطنافس فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، وشرف العلم أعلى من (4) شرف المال، فليفرخ روعك ولينعم بالك، وقل ما شئت، وانصر ما أردت، فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والإسعاف والإتحاف والإطراف، والمقاربة والمواهبة، والموانسة والمقابسة، وعلى هذا التنزيل، ومن كان يحفظ ما يهذي به في هذا وغيره؟
حتى إذا استقى ما عند ذلك الإنسان بهذه الزّخارف والحيل (5)، وسال الرجل معه في حدوره على مذهب الثّقة، وركب في مناظرته،
__________
(1) نقله ياقوت في الارشاد 2/ 288.
(2) المسطبة: بفتح الميم وكسرها: الدكة التى بنى ليجلس عليها.
(3) الطاق: ضرب من الملابس، وما عقد من الأبنية بالآجر، والرواق: ستر يمد دون السقف.
(4) في الأصل: «أعلا من».
(5) تكملة عن الإرشاد 2/ 288.(1/111)
وردعه (1) وحاجّه، وراجعه وضاجعه وشاكعه (2) ووضع يده على النكتة الفاصلة، والأمر القاطع تنمرّ له، وتنغّر (3) عليه، واستحصد غضبا وتلظىّ لهبا، وقال بعد وثبتين أو ثلاث: يا غلام! خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس، وضعه فيه بعد أن تصبّ على كاهله وظهره وجنبيه خمس مئة عصا فإنه معاند ضدّ، يحتاج إلى أن يشدّ بالقدّ (4)، ساقط هابط، كلب نبّاح، متعجرف وقاح أعجبه صبري، وغرّه حلمي، ولقد أخلف ظني، وعدت على نفسي من أجله بالتّوبيخ، وما خلق الله العصا باطلا، ولا ترك خلقه هاملا.
فيقام ذلك البائس على هذه الحال التي تسمع، على أن مسموعك دون مشاهدتك لو شاهدت، ومن لم يحضر ذلك المجلس لم ير منظرا رفيعا ورجلا رقيعا قد عامل بما وصفت الحريري (5) غلام ابن طرارة (6)
__________
(1) في الاصل: «ردعه».
(2) شاكعه: غاضبه، وفي الأصل: «ساكعه»: ضلّله،
(3) تنغر عليه: غلا عليه من الغضب.
(4) القدّ: السير الذي يقدّ من الجلد.
(5) كذا «الحريري» بالحاء المهملة في الأصل والامتاع، ومن المحتمل أن تكون «الجريري» بالجيم نسبة الى مذهب ابن جرير الطبري، وتلك نسبة أستاذه ابن طرارة أيضا.
(6) هو المعافى بن زكريا بن يحيى النهرواني الجريري المعروف بابن طرارة،(1/112)
والجامدي (1) الشاعر الوارد عليه من البصرة، وأبا زيد الكلابي وغيرهم.
وكان أبو الفضل أعني ابن العميد إذا رآه يقول: أحسب (2) أنّ عينيه ركّبتا من زئبق وعنقه عمل بلولب.
وصدق، لأنّه كان طريف التّثنّي والتلوّي شديد التفكّك والتفتّل كثير التعوّج والتموّج، في شكل المرأة المومسة والفاجرة الماجنة، والمخنّث الأشمط.
وسمعت أبا الفضل الهروي (3) يقول له يوما: لو وضع في خزانة الكتب للوقف شيء من الطّبّ لكان ذلك بابا من المنافع الحاضرة والفوائد المعجّلة والخير العامّ.
__________
علامة شهير وله مؤلفات، ولد سنة 305أو 303وتوفي سنة 390. ترجمته في الإرشاد 7/ 164162والفهرست 329328والبداية 11/ 328.
(1) أبو عبد الله محمد بن حامد الجامدى (نسبة إلى جامدة من أعمال واسط) ذكره الثعالبي في اليتيمة (الباب 6القسم 2الورقة 73نسخة أحمد الثالث) وهو من شعراء العراق، وكان من جلاس الصاحب وعنه نقل الثعالبي (3/ 172، 173مصر) فقرا وصف فيها مجلس الصاحب وحضوره. وقد ذكره ابن شاكر في عيون التواريخ وقال لم تتحقق وفاته، وكان في حدود الأربعمائة، وانظر «جامدة» في معجم البلدان.
(2) في الأصل: «احسبوا»، تصحيف. والضمير في «رآه» لابن عباد.
(3) كان أبو الفضل الهروى راصدا بحضور أبي جعفر الخازن في المرصد الذي بناه أبو الفضل ابن العميد بالريّ، وكان رصدهما سنة 348هـ. ذكره البيروني في «تحديد نهايات الأماكن» 45.(1/113)
فقال على حدّته وجنونه: الطّب يا أبا الفضل سلّم الإلحاد، ولقد أسررت في هذا القول حسوا (1) في ارتغاء (2)، أنت مهندس، وأنت متّهم، ويكفي منك في هذا المعنى ما هو دون هذا.
فانخزل الهروي وكان جبانا، وأخذ يتلافى ما فرط منه.
قال أصحابنا بالريّ: وكيف يسوغ له أن يقول هذا، وهو يشاور الطّبيب في كل غداة، ويعتمد على الطّبّ في كلّ عارض، ويجمع الكتب فيه (3)، ويرجع إليه قالوا: وليس هذا بأعجب من عيبه لعلم النجوم (4) وذمّه لأهله، وهو لا يفارق التقويم، ولا يخلو (5) يوما من النّظر فيه مرّات لأنه كان لا يركب إذا وجد نحسا، هذا على تقليده فيه، لأنّه ما كان يعرف حرفا من علم النّجوم، لا على طريقة من
__________
(1) في الأصل: «حشوا».
(2) لفظ المثل: «يسرّ حسوا في ارتغاء»، ويضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره يعني يحسو اللّبن وهو يظهر أنه يأخذ رغوته فقط. انظر اللسان (رغا).
(3) بل للصاحب رسالة في الطب ذكر نصها الثعالبي في اليتيمة 3/ 182180
(4) في محاضرات الراغب 1/ 68للصاحب:
خوّفني منجم أبو خبل ... تراجع المرّيخ في برج الحمل
فقلت عني من أباطيل الحيل ... فالمشتري عندي سواء وزحل
أدفع عني كلّ آفات الدّول ... بخالقي ورازقي عزّ وجلّ
(5) في الأصل: «ولا يخلوا».(1/114)
ينظر في أحكامه، ولا على مذهب من يختاره لهيئته، فهل رأيت بهتا أشدّ من هذا /؟ ومناقضة أقبح من هذا؟ يذمّ شيئا في الظاهر، ثم يحبّه في الباطن، ويزهّد غيره في شيء وهو يؤثره.
وكان من ضعف عقله يقول: يجوز أن يكون الفلك من سلجم أو جزر أو فجل قال هذا للصّاغاني أبي حامد (1) ونحن حضور، وهو مع هذا العقل السّخيف يطلب كتب الأوائل ويجمعها، وينظر فيها، ويشتهي أن يفتح فاتح عليه شيئا منها في السّرّ، وعلى وجه التهجين لا على وجه التّقبّل، ويقول في أبي الحسن العامري (2): قال الخرائي كذا وكذا، وإذا خلا نظر في كتبه ومصنّفاته، وكان أخذها من أبي
__________
(1) أبو حامد الصاغاني من علماء الفلك والهيئة، وكان من الرّصاد. يقول البيروني: «وذكر أبو حامد الصاغاني في كتاب قوانين علم الهيئة أنه رصد
في بركة زلل في الجانب الغربي من بغداد وذلك سنة 374هـ» تحديد نهايات الأماكن 47.
(2) أبو الحسن محمد بن يوسف العامري المتوفى سنة 381من الفلاسفة المسلمين المغمورين، تفلسف بخراسان على أبي زيد البلخي تلميذ الكندي، ودخل بغداد وتصدر بها، وشرح كتب أرسطو وشاخ فيها. وله مؤلفات ذكرها في مقدمة كتابه «الأمد على الأبد». ترجمته في منتخب صوان الحكمة (كوپريلى 902، الورقة 94وما بعدها)، نزهة الأرواح (يني جامع 908الورقة 17)، تاريخ الإسلام للذهبي (أيا صوفيا 3008، الورقة 157ب سنة 381هـ) وغيرها.(1/115)
الحسن الطبري (1) طبيب ركن الدّولة، وكان مع هذا المذهب الذي يدلّ به ويسمّيه «العدل والتوحيد» قليل التوجّه إلى القبلة، قليل الركوع والسّجود، وكان مع حفظه الغزير، عليه مؤونة في تلاوة آية من كتاب الله عزّ وجل، إذا أراد أن يستدلّ بها في المناظرة والجدل، أو يذكر وجها من وجوهها في المذاكرة، ولم يكن عليه طابع العبادة، ولا سيما المتألهّين، وكان مع ذلك سفّاكا للدماء، قتّالا للنّظراء والأكفاء، وكان شديد الحسد لأهل الفضل والدّراية، ولأصحاب الحفظ والرّواية، وكان جلّ حسده لمن كتب فأحسن الخطّ وأجاد اللفظ، وتأتّى للرّسم وملّح في الاستعارة، وكان إذا سمع من إنسان كلاما منظوما، ومعنى قويما، ولفظا مسجوعا، ونثرا مطبوعا، وبيانا بليغا، وغرضا حكيما انتقض طباعه وذهب عليه أمره وتبدّد حلمه وزال عنه تماسكه والتهب كأنه نار، واضطرب كأنه شرار، وحدّث نفسه بقتله أو نفيه أو إغرامه وإبعاده وحرمانه.
قلت للتّميمي الشاعر المصريّ المعروف بالرغيب: كيف ترى هذا الرجل أعني ابن عبّاد؟
__________
(1) أحمد بن محمد الطبري أبو الحسن من أهل طبرستان، كان طبيب الأمير ركن الدولة، وله مؤلفات. ذكره ابن أبي أصيبعة 1/ 321ولم يؤرخ وفاته.
وانظر ترجمة أخرى له في مسالك الأبصار (أيا صوفيا 83422/ 127ب).(1/116)
فقال: طويل العنان في اللّؤم، قصير الباع في الكرم، وثّابا على الشّر، مقعدا عن الخير، كافرا بالنّعم، متحرّشا بالنّقم، جبّاها بالمكروه، سفيها في الجملة، خليعا في التّفصيل.
قلت: أين هو من صاحبكم بمصر أعني ابن كلّس (1)؟
فقال: ذاك رجل له دار ضيافة، وله زوار كالقطر، لا يعرف محكا ولا لجاجا ولا مجادلة، ولا كيادا ولا مخاتلة، يعطي على القصد والتأميل، والرجاء والتوجه، والطمع والطلب وسائر الوسائل، عنده بعد هذه الأوائل، فضل يستحقّ به الزيادة، وليس هناك امتحان ولا محاسبة ولا احتجاج ولا تعيير، المال مصبوب، والخازن قائم، والمفرّق مجزّف (2)، والنّداء عال، والواصل موصول، والمؤمّل مشكور، والرّاحل شاكر وزارة ذاك نيابة عن خلافة، ووزارة هذا خلافة عن عمالة.
__________
(1) أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن ابراهيم بن كلسّ الوزير الأجلّ، هكذا كان لقبه. ولد سنة 318ببغداد وكان يهوديا، وبقي على يهوديته 38 سنة ثم أسلم سنة 356هـ، ووزر للعزيز الفاطمي. وكانت وفاته سنة 380هـ وله مؤلفات في فنون مختلفة. عيون التواريخ (حوادث سنة 380)، الوافي (نور عثمانية 3196الورقة 247245ب)، خطط المقريزي 3/ 127، الوفيات 2/ 440.
(2) يعطي جزافا بدون حساب.(1/117)
هل ترى هاهنا صلة ترتفع عن مئة درهم إلى ألف؟
أليس أنبل من ورد عليه البديهي (1) وهو شيخه في العروض، وعنه أخذ القوافي، وبفتحه وهدايته قال الشعر؟ هل زاده في طول مقامه إلى رحيله على خمسة آلاف درهم تفاريق؟ وإن أقلّ ضيف بمصر يصير إليه مثل هذا في أول يوم.
وقد سألت جماعة من سادة الناس عنه، وحصّلت عن كل واحد منهم جوابا يمر بك فيما تستقبل، وأذكرها هنا أشياء حدّثني بها بطانته وخدمه.
حدثني الجرفادقاني (2) أبو بكر وكان كاتب داره، قال:
يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عما لا يعرف، ولا يسأم
__________
(1) البديهي نسبة إلى البديهة، وهو أبو الحسن علي بن محمد بن علي، ورد على الصاحب من شهر زور ولازم مجلسه يقول أبو حيان في البصائر 2/ 43ب: «وكان البديهي هذا شاعرا وكان مغسول الشعر ما ظهر له بيت، ولكنه كان يختلف إلى يحيى بن عديّ المنطقي، ولم يحل منه بشىء من الفلسفة قليل ولا كثير، ولكنه كان يجعل إصابته في حفظ العروض وعقد القافية وإقامة الوزن». ترجمته في اليتيمة 3/ 341339 (مصر)، تاريخ بغداد 12/ 83، تاريخ اصبهان 2/ 2322. وانظر المقابسات 16، 32، 81ومحاضرات الراغب 1/ 238.
(2) في الإرشاد: «الجرباذقاني أبو بكر الكاتب».(1/118)
نفسه فيما لا يفي به ولا يكمل له، ويظن أنه إن سكت عنه فطن لنقصه وإن اختال وموّه جاز ذلك وخفي واستتر ولم يظهر، ولم يعلم أن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال، وصدق القائل: كاد المريب يقول: خذوني.
قلت له: وما الذي حداك على هذه المقدّمة؟
قال: قال لي في بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخّرته وقصّرت فيه واغتنمت سكوتي وشغلي بتدبير الملك وسياسة الأولياء والجند، والرّعايا والمدن، وما عليّ من أعباء الدولة وحفظ البيضة ومشارفة الأطراف النائية والدّانية باللسان والقلم، والرأي والتدبير، والبسط والقبض، والإبرام والنّقض، وما على قلبي من الفكر في الأمور الظاهرة والغامضة وهذا لعمري باب مطمع وإمساكي عنه مغر بالفساد مولع، فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب باب تبيّن فيه أمر داري، وما يجري عليه دخلي وخرجي.
قلت له: وهذا كله بسبب قوله هات حسابك بما تراعيه؟
قال: إي والله! ولقد كان أكثر منه وإنما اختصرته.
وصدق هذا الكاتب، كان يأخذ طرفا من الحديث فيمدّه إلى الفلك (1)
بالغثاثة والجهل والهذر.
__________
(1) في الأصل: «إلى الملك».(1/119)
قال أبو بكر: فتفرّدت أياما وحرّرت الحساب على قاعدته وأصله والرسم الذي هو مألوف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي وأمرّ عينه فيه / من غير تثبّت أو فحص أو مسألة، ثم حذف به إليّ وقال:
أهذا حساب، أهذا كتاب، أهذا تحرير، أهذا تقرير، أهذا تفصيل، أهذا تحصيل؟ والله لولا أني قد ربّيتك في داري، وشغلت، بتخريجك ليلي ونهاري، ولك حرمة الصّبا، وتلزمني رعاية الأبناء (1)، لأطعمتك هذا الطومار (2)، وأحرقتك بالنّفط والنار، وأدّبت بك كل كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكل شاهد وغائب.
أمثلي يموّه عليه، ويطمع فيما لديه، وأنا خلقت الكتابة والحسابة، والله ما أنام ليلة إلّا وأحصّل في نفسي ارتفاع العراق ودخل الآفاق أغرّك مني أني أجررتك رسنك (3)، وأخفيت قبيحك وأبديت حسنك؟
غيّر هذا الذي رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، وأعلم أنك من الآخرة قد رجعت فزد في صلاتك وصدقتك، ولا تعوّل على قحتك وصلابة حدقتك.
__________
(1) في الأصل: «رعاية الآباء».
(2) الطومار: الصحيفة.
(3) تقول العرب: آجررت فلانا رسنه: أي أمهلت له في إرادته وتركته على هواه. وانظر شرح المقامات 2/ 292، وشرح ديوان مسلم بن الوليد ص 2 (طبع بمبي سنة 1303هـ).(1/120)
قال: فو الله ما هالني كلامه، ولا أحاك (1) فيّ هذيانه، لأني كنت أعلم جهله بالحساب، ونقصه في هذا الباب، فذهبت، وأفسدت وقدّمت وأخّرت، وكايدت وتعمّدت ثم رددتّه إليه فنظر فيه، ثم ضحك في وجهي وقال: أحسنت بارك الله عليك، هكذا أردت، وهذا بعينه طلبت ولو تغافلت عنك أول الأمر لما تيقّظت في الثاني.
فهذا كما ترى، اعجب منه كيف شئت.
ومن رقاعاته أيضا: سمعته يقول يوما، وقد جرى حديث الأبهريّ المتكلّم، وكان يكنى أبا سعيد (2)، فقال: لعن الله ذلك الملعون المأبون المأفون، جاءني بوجه مكلحّ (3)، وأنف مفلطح (4)، ورأس مسفّح (5)، وذقن مسلّح، وسرم مفتّح، ولسان مبلّح (6)، فكلّمني (7) في مسألة
__________
(1) أحاك، وحاك: أثّر.
(2) القاسم بن علقمة أبو سعيد الشروطي، شيخ عالي الإسناد أكثر الرواية عنه أبو يعلى الخليلى، توفي سنة 388هـ، تاريخ الاسلام للذهبي (أيا صوفيا 3008، 12/ 197ب).
(3) مكلح: عابس.
(4) مفلطح: عريض.
(5) يعني أصلع.
(6) مبلح: عيي بكيء.
(7) في الأصل: «يكلمني».(1/121)
الأصلح (1)، فقلت له: اغرب عليك غضب الله الأترح (2)، الذي يلزم ولا يبرح.
[وشتم يوما رجلا فقال: لعن الله هذا الأهوج الأعوج، الأفلج (3)
الأفحج (4)، الذي إذا قام تحلج (5)، واذا مشى تدحرج، وإن عدا تفجفج (6)].
بالله (7) يا أصحابنا حدثوني، أهذا عقل رئيس، أو بلاغة كاتب، أو كلام متماسك؟ لم تجنّون به، وتتهالكون فيه، وتغيظون أهل الفضل به؟ هل هناك إلا الجدّ الذي يرفع من هو أنذل منه، ويضع من هو أرفع منه؟
__________
(1) من أصول المعتزلة الاعتقادية: أن العدل الإلهي يقضي بأن يفعل الله «الأصلح» لعباده في دينهم وفي دنياهم، وأنه لا يجوز في حكمة الله وفي عدله أن يبقى أقصى وجه ممكن من وجوه فعل هذا «الأصلح» لا يفعله الله لعباده فبفعل الأصلح لهم يستقيم أمر التكليف.
وهو أصل طال واحتد فيه الجدال بينهم وبين أهل السنة. والأبهري سنّي والصاحب معتزلي ومن هنا كان السؤال عن الأصلح، وكان غضب الصاحب.
(2) المهلك.
(3) الأفلج: المعوج اليدين.
(4) الأفحج: المعوج الرجلين.
(5) تحلج: تردد.
(6) تفجفج: باعد ما بين رجليه. والزيادة عن الارشاد 2/ 291.
(7) نقله ياقوت في الارشاد 2/ 291.(1/122)
ولقد حدثت بهذا الحديث أبا السلم (1) الشاعر، فأنشدني لشاعر:
سبحان من أنزل الدنيا منازلها ... وصيّر الناس مشنوءا وموموقا (2)
فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وجاهل خرق تلقاه مرزوقا
كأنّه من خليج البحر مغترف ... ولم يكن بارتزاق القوت محقوقا
هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصيّر العاقل النحرير زنديقا
وحدثني المأموني (3) عند روايتي هذا الحديث: سمعته أنا يقول على غير هذا الوجه، قال: جاءني فلان بهامة مسطّحة، وأرنبة مفلطحة،
__________
(1) هكذا «السلم» رسمت في المخطوطة، وهو رسم يمكن أن تكون اللام فيه ساكنة كما يمكن أن تقرأ مفتوحة ممدودة. ولم أجد ترجمته فأحدد رسم الكلمة على الوجه المألوف لدينا اليوم.
(2) الأبيات 1، 2، 3في معاهد التنصيص 1/ 53برواية تختلف عما هنا، وهي منسوبة هناك لابن الراوندي. والبيتان 2، 4في طبقات الشافعية للسبكي 3/ 97منسوبين لأبي العلاء المعري.
(3) المأموني، نسبة إلى الخليفة المأمون لأنه كان من ذريته، وهو عبد السلام بن الحسين أبو طالب المتوفى سنة 383هـ، ورد الريّ على الصاحب ومدحه وحظي عنده، ثم اتهمه حسدته بنظم شعر يذهب فيه إلى الدعوة لبني العباس، والغلو في النصب واعتقاد تكفير الشيعة والمعتزلة، وبهجاء الصاحب، وحلفوا له على صحة نسبة هذا الشعر الى المأموني فساءت صلته بالصاحب وسقطت منزلته عنده فتركه. ترجمته في الوافي (شهيد علي 1969الورقة 191ب)، عيون التواريخ حوادث سنة 383، فوات الوفيات 1/ 273.(1/123)
ولحية مسرّحة، وفقحة مسلحة، وجبهة موقّحة، وجملة مقبّحة، يناظرني في المصلحة (1)، فهممت والله أن أصلبه على باب المسلحة. وباب المسلحة بالري سوق معروفة.
وهذا الكلام الثاني هو الأول يشقّق (2) ويؤذي، ويصيح ويهذي، ويوهم ويدّعي، وقاحة وجهلا وازدراء للناس، وحقرا لكلّ من يرى من أهل الفضل والأدب، والحرية والحسب.
وكان كلفه بالسّجع في الكلام والعلم عند الجدّ والهزل يزيد على كلف كلّ من رأيناه في هذه البلاد.
قلت للمسيّبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسّجع، قال: يبلغ به ذلك أنه لو رأى سجعة تنحلّ بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدّولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة، وتجشّم أمور، وركوب أهوال، لكان يخفّ عليه أن لا يفرج عنها ويخلّيها، بل يأتي بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها.
وقال علي بن القاسم الكاتب (3): السجع لهذا الرجل بمنزلة العصا
__________
(1) المصلحة هي: «الأصلح» الذي سبق شرحه ص 122.
(2) يشقق: يورث الصداع المعروف بالشقيقة.
(3) أبو الحسن علي بن القاسم الكاتب من معاصري أبي حيان وقد سمع(1/124)
للأعمى، والأعمى إذا فقد عصاه فقد أقعد، وهذا إذا ترك السّجع فقد أفحم.
وقلت للخليلي: كيف كان ابن العميد أبو الفضل يقدّم هذا ويرشّحه وهذا عقله ولفظه وشمائله؟
فقال: كان يسترقعه ويضحك منه ولا يغتاظ لأنه كان تحت تدبيره.
والرّقاعة الخالية من القدرة مقبولة، وإنما تضاعف اليوم حديثه في الرّقاعة لأنّه أصبح بسيط اللسان بالدولة، مطاع الأمر في القريب والبعيد ونعوذ بالله من جنون موصول بانقياد الأمور وطاعة الرجال. وكان يقول: هو مع هذا الطّيش والخفّة، والتفتل والتثني أفضل من أبيه فإن أباه كان ثورا خوّارا، وحمارا نهّاقا.
وكان أيضا يقدح ابنه أبا الفتح به، ويبعثه على الحركة والنّطق، وكان أيضا مظنونا به (4) وهو غلام ما بقل وجهه.
قال: وأسباب الجدّ عجيبة، وكما لا يدري الإنسان من أين يخفق كذلك لا يدري من أين ينال.
__________
منه، وأورد في «الصداقة» 68 (مصر) حديثا له مع أبي الفضل ابن العميد في شأن مقتل الحاجب النيسابوري منافس ابن العميد لدى ركن الدولة.
(4) مظنونا به: متّهما به.(1/125)
فقلت للخليلي: أما كان ابن العميد يسمع كلامه؟
قال /: بلى، وكان يقول: سجعه يدلّ على الخلاعة والمجانة، وخطه يدلّ على الشلل والزّمانة، وصياحه يدلّ على أنه قد غلب بالقمار في الحانة، وما نظرت إليه قطّ في وقت إلّا خلت أنّه قد سقاه العباره (1)
دواء مذ ساعة.
وهو أحمق بالطبع إلّا أنه طيّب، وإن كان له يوم تضاعف حمقه، وذهب طيبه، وضرّ أهل النعم والمروّات والأدب بالحسد والكبر والإعنات.
قلت للخليلي: هل عرفت طالعه؟
قال: حدثني أصحابنا منهم الهروي أن طالعه الجوزاء كط، والشّعرى اليمانية كط، وكان رحله في الحادي عشر في الحمل كح، والقمر فيه يط والشمس في السنبلة يج، والزهرة فيهاي، والمشتري في الميزان كد، والمريخ في العقرب ز، وسهم السّعادة في القوس يد، وسهم الغيب في الجدي يد، والرأس في الثالث في الأسد يا. قال: وخفى عليّ عطارد وذكر أنه ولد سنة ثلاثمائة وست وعشرين من الهجرة لأربع عشرة
__________
(1) كذا بالأصل.(1/126)
ليلة بقيت من ذي القعدة روز سروش من ماه شهرير (1).
قلت: فأين ولد؟
فقال: كان عندنا أنه ولد بطالقان (2)، وقال لنا قوم (3): بل بإصطخر.
وقال لي غير الخليلي: كان عطارد في السّنبلة ط ي.
وكنت بالري سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وابن عبّاد بها مع مؤيد الدولة قد وردا في مهمّات وحوائج، وعقد ابن عبّاد مجلس جدل وكنّا نبيت عنده في داره بباب سين (4) ومعنا الضّرير أبو العباس القاصّ (5) وأبو الحوراء الرّقي (5)، وأبو عبد الله النحوي الزّعفراني، وجماعة من الغرباء فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقّعة،
__________
(1) ويقال «شهريور ماه» اسم لأحد الشهور الفارسية، وروز سروش أصله اليوم السابع عشر من شهر النوروز، وهو فيما بعد يوم مبارك في كل شهر لان سروش اسم رقيب الليل من الملائكة ويقال إنه جبريل وهو أشد الملائكة على الجن والسّحرة. الآثار الباقية 219.
(2) يعني طالقان الديلم كما مر.
(3) في الإرشاد: «يوما».
(4) في الإرشاد: «شير».
(5) في الارشاد: «القاضي وأبو الجوزاء البرقي».(1/127)
فأراد أن يفرّه (1) ويعرف ما عنده، وكان الشابّ من أهل سمرقند زعم (2)
أنه يعرف بأبي واقد الكرابيسي.
فقال له (3): يا أخ انبسط واستأنس وتكلّم فلك منا جانب وطيّ ومشرب رويّ (4)، ولن ترى إلا الخير، بم تعرف؟
قال: أعرف بدقّاق.
قال: تدقّ ماذا؟
قال: أدقّ الخصم إذا زاغ عن سبيل الحقّ. فلما سمع هذا تنكّر وعجب، لأنه فجىء ببديعة.
فقال له دع ذا، تكلم.
قال: أتكلّم سائلا؟ والله ما بي حاجة إلى مسألة، أم أتكلّم مسؤولا؟ فو الله إني لأكسل عن الجواب، أم أتكلّم مقرّرا؟ فو الله إني لأكره أن أبدّد الدّر في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتني العاجمات فلم تجد ... هلوعا ولا لين المجسّة في العجم
__________
(1) يفره: يكشفه ويمتحنه. وفي الارشاد: «يعرفه».
(2) سقطت «زعم» من الإرشاد.
(3) في الإرشاد: «قال له».
(4) كتب فوقها بنفس الخط: «مرىء»، وهي رواية الارشاد.(1/128)
وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم ... وما للأعادي في قناتي من وصم
فقال له: يا هذا، ما مذهبك؟
قال: مذهبي أن لا أقرّ على الضيم، ولا أنام على الهون، ولا أعطي سمتي (1) لمن لم يكن وليّ نعمتي، ولم يصل عصمته بعصمتي.
قال: هذا مذهب حسن، ومن هذا الذي يأتي الضّيم طائعا، ويركب الهون سامعا ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟
قال: نحلتي طوية صدري، ولست أتقرّب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاكّ، ولا أجادل عليها المؤمن.
قال: فما تقول في القرآن؟
قال: وما أقول في كلام ربّ العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطّلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سرّه، وعجائب حكمته، فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فكيف عن مثل متيقّن؟
قال ابن عبّاد: صدقت، ولكن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟
فقال: إن كان مخلوقا كما تزعم فما ينفعك؟ وإن كان غير مخلوق كما يزعم خصمك فماذا يضرّك؟
__________
(1) في الأصل: «أعطى ضمتى».(1/129)
فقال: يا هذا أبهذا العقل تناظر في دين الله وتقوم على عبادة الله؟
[قال] (1): إن كان كلام الله فينبغي إيماني به وعملي بمحكمه، وتسليمي لمتشابهه، وإن كان كلام غيره، وحاش لله من ذلك [ما] (2)
ضرّني.
فأمسك عنه ابن عبّاد وهو مغيظ، ثم قال له: أنت لم تخرج من خراسان بعد (3). فمكث الرجل ساعة ثم نهض. فقال له ابن عباد: إلى أين يا هذا قد تكسّر الليل، بت هاهنا.
فقال: أنا بعد لم أخرج من خراسان، فكيف أبيت بالريّ، وخرج. فارتاب به ابن عبّاد، فقفّاه بصاحب له، ووصّاه بأن يتبع خطاه ويبلغ مداه من حيث لا يفطن له ولا يراه، فما راغ (3) الرّجل عن باب ركن الدّولة حتّى دخل، ووصل في ذلك الوقت الفائت إليه.
فقيل لابن عبّاد ذلك فطار نومه من عينه، وقال: أيّ شيطان
__________
(1) عن الإرشاد. وهي إضافة لازمة.
(2) كان أهل خراسان يوسمون بالخشونة والبلادة، وقد صرح بذلك أبو الحسن العامري (منتخب صوان الحكمة 95ب) عند المقارنة بين البغداذيين والخراسانيين، وأشار إلى ذلك أيضا أبو حيان في الصداقة 29. وإلى هذا المعنى يهدف ابن عباد هنا.
(3) راغ: حاد ومال. وفي الإرشاد «زاغ».(1/130)
هبط علينا وأحصى ما كنّا فيه بيننا، وبلغ أربه منّا، وأخذ حاجته من عندنا، بلسان سليط وطبع مريد (1).
فحدثني الهروي، وكان يبيت عند ركن الدولة: أن ركن الدولة قال للخراساني: كيف رأيت كاتب ابننا؟
قال: رأيت وجهه وجه خنزير، وعقله عقل سنّور، وكلامه كلام مبرسم (2)، وحركته حركة مخنّث، ونظره نظر فاجر، ورأيه رأي موسوس، وأعضاءه أعضاء مفلوج ولقد عشّانا وتعشىّ معنا فما زال يذكر القدر والخبز والأدم والبوارد (3) والغضائر (4) والمطابخ حتى عرقت جباهنا من الحياء والانخزال، واسترخت أيدينا من الخجل.
فقال له ركن الدولة: لو علمت أنك هكذا تنقلب عن مجلسه لما أذنت لك في لقائه، ولكن قد فات.
قال الهروىّ: وكان هذا الكرابيسيّ عينا لركن الدولة بخراسان،
__________
(1) طبع مريد: خبيث.
(2) المبرسم: المصاب بالبرسام، وهوداء يفقد المصاب به سيطرته على قواه العقلية فيجعل يهذي.
(3) البوارد: كل مستطاب.
(4) الغضائر جمع غضارة، وهي الصحفة المتخذة من الغضار وهو الطين الحرّ. والصحفة: قصعة تشبع الخمسة من الناس.(1/131)
فلذلك كان قريبا منه وكان أحد رجالات الدّنيا، ولم يتمكّن (1)
من مكاثرته.
وقلت للخليلي: بم انفرج ما بين هذا الرجل، أعني ابن عباد وصاحبكم أعني أبا الفتح ذا الكفايتين؟
فقال: كان صاحبنا غرّا صعب القياد شديد الزّهو وهذا على رقاعته التي ترى، ولم يكن بينهما عاقل يرأب المصدوع، ويصل المقطوع، ويرفع الموضوع، ويضع المرفوع، ويردّ هذا عن حدّته بلسانه، ويكفّ ذاك عن تيهه واعتنانه. وقد كان ركن الدولة يكنفهما بظله، ويكفّهما بفضله، ويخفض لهما جناح إحسانه، ويمزج بينهما في استخدامه، ويجمعهما على طاعته لصحّة رأيه وحسن مداراته ونفوسهما على ذلك تغلي، وصدورهما تفيض، والألسنة تكنّي، والحواجب تتغامز، والشّفاه تلتوي، والأعين تختلج، والوشاة تدبّ، والزمان يعمل عمله فلما مضى سائسهما تقارفا القرحة (2)، وتنازعا الرتبة فكان ما كان.
قلت: ما الذي كان ينقم هذا من ذاك، وذاك من هذا؟
__________
(1) يعني لم يتمكن ابن عباد من مغالبته وشفاء نفسه منه.
(2) رمى كل واحد منهما صاحبه بما يعيبه ويكرهه للناس.(1/132)
فقال: كان صاحبنا يقول: أشد ما عليّ أن خصمي معلّم مأبون.
وكان هذا يقول: كيف أسامي حدثا صغير الرأس، كليل اللسان، قليل الهمّة، الخير عنده حرّ (1) والدّرهم في نفسه ربّ وكان ينشد فيه:
فتى يمنع الطّعا ... م ولا يمنع الحرم
فجميع النساء في ال ... حلّ والمطبخ الحرم
فهذا هذا.
قلت لأبي عبيد الكاتب النصراني (2) ببغداد، وكان سهل البلاغة حلو اللفظ، حسن الاقتضاب، غريب الإشارة، مليح الفصل والوصل:
كيف ترى كتابة ابن عباد (3)؟
__________
(1) الحرّ: حرقة في القلب من الوجع. ويحتمل أن تقرأ (حر) بكسر الحاء بمعنى أن الخير عنده عورة لا يراها الناس.
(2) هكذا «لأبي عبيد»، وفي الإمتاع في مواضع متعددة (انظر الفهارس)، والصداقة 28: «ابن عبيد». وقد وصفه أبو حيان (صداقة 28) بقوله:
«وأما ابن عبيد فكلفه بالخطابة والبلاغة والرسائل والفصاحة قد طرحه في عمق لج لا مطمع في انتقاذه منه، ولا طريق إلى صرفه عنه، هذا مع حركات غير متناسبة وشمائل غير دمثة ومناظرة مخلوطة بذلة أهل الذمة ودالة أصحاب الحجة». وأورد له رسالة من إنشائه في 32من الصداقة.
(3) السؤال والجواب عنه مقتضبا في الإمتاع 1/ 61.(1/133)
فقال: هي شوهاء فيها شيء في غاية التنقيح، وفيها شيء في غاية الركاكة، وبينهما فتور راكد، بمذاهب المعلّمين الحمقى المتعاقلين أشبه منها بمذاهب السلف الأولين من الكتّاب وأصحاب الدواوين.
قال: السجع الذي يلهج به هو مما يقع في الكلام، ولكن ينبغي أن يكون كالطّراز في الثّوب، والصّنفة (1) في الرداء، والخط في العصب (2)، والملح في الطعّام، والخال في الوجه ولو كان الوجه كلّه خالا لكان مقليا.
قال: وبديعه في هذا الفنّ لا تستر ركاكته في سائر فنون الكلام، فإن فنون الكلام محصّلة (3) على التّقريب بين البدد (4) والسّجع والوزن، وما يسميّه قوم تجنيسا وتطبيقا.
قال: ومنها شيء يجب أن يسمّى المسلسل، وأمثلته في كلام أبي عثمان (5) موجودة. ثم قال: والذي ينبغي أن يهجر رأسا، ويرغب عنه
__________
(1) صنفة الإزار بكسر النون: حاشيته وطرقه التي عليها الهدب.
(2) العصب: ضرب من برود اليمن المخططة.
(3) محصلة: منحصرة.
(4) البدد: المتفرق، ويعني به النثر الخالي من السجع.
(5) يعني عمرو بن بحر الجاحظ.(1/134)
جملة التكلّف والإغلاق، واستعمال الغريب والعويص، وما يستهلك المعنى أو يفسده أو يحيله، ويجب (1) أن يكون الغرض الأول في صحّة المعنى، والغرض الثاني في تخّير اللفظ، والغرض الثالث في تسهيل النّظم وحلاوة التأليف، واجتلاب الرّونق، والاقتصاد في المواخاة، واستدامة الحال، ليستمر الثاني على الأول، والثالث على الثاني، وأن يتوقّى الفضاء الذي يعرض بين الفصل والفصل.
قلت: ما معنى الفضاء؟ قال: عدم الرّباط بين المتقدّم والمتأخّر، وهو النّبوّ العارض في النّفس عند سماعه وتحصيله.
قال: والهجنة التي ليس بعدها هجنة، والركاكة التي ليس فوقها ركاكة، الولوع بالغريب، وما يشكل فيه الإعراب، ويتجاذبه التأويل فإنّ هذا وما شاكله كلفة على النّفس عند سماعه، ومؤونة على الطّبع عند تخيّره، ومشقّة على اللّسان عند اللّفظ به.
ثم قال: فخير الكلام على هذا التصفّح والتحصيل ما أيّده العقل بالحقيقة، وساعده اللفظ بالرّقّة، وكان له سهولة في السّمع، ووقع في النّفس، وعذوبة في القلب، وروح في الصّدر (2) إذا ورد لم
__________
(1) كتب في الأصل فوق «ويجب» كلمة: «وينبغي».
(2) الروح: برد النسيم.(1/135)
يحجب، وإذا صدر لم ينس، وإذا طال لم يملّ، وإذا قصر لم يحقر، له غنج كغنج العين، ودلّ كدلّ الحبيب، ولذّة كلذّة الغناء، وانقياد كانقياد الذّليل، وتيه كتيه العزيز، وجمش كجمش (1) الغانية، ووقار كوقار الشّيخ، وحلاوة كحلاوة العافية، ولين كلين الصّيّب (2)، وأخذ كأخذ الخمر، وولوج كولوج النسيم، ووقع كوقع القطر، وريح كريح العطر، واستواء كاستواء السّطر، وسبك كسبك التّبر، يجمع لك بين الصّحة والبهجة والتّمام.
فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب، وأما بهجته فمن جهة جوهر اللّفظ واعتدال القسمة، وأما تمامه فمن جهة النّظر الذي يستعير من النفس شغفها (3)، ويستثير / من الرّوح كلفها.
ثم قال أبو الرّبيع: (4) الكتّاب سبعة (5): الكامل، والأعزل، والمبهم، والرّقاعيّ، والمخيل، والمخلّط، والسّكّيت.
__________
(1) الجمش: المغازلة.
(2) في الأصل: «كلين الصبيّب».
(3) في الأصل: «من النفس شعفها».
(4) محمد بن الليث الخطيب الكاتب البليغ المترسل الفقيه المتكلم. ذكره ابن النديم 183في البلغاء، وترجم له في 175.
(5) هذا التقسيم بصورة أوضح في مطالع البدور 2/ 118منسوبا إلى وزير القائم الفاطمي أبي طالب محمد بن أبي أيوب سليمان عميد الرؤساء المتوفى سنة 648هـ.(1/136)
فأما الكامل فهو الذي له في الإنشاء والإملاء حظّ. والأعزل:
الذي يملي ولا يكتب. والمبهم: الذي يكتب ولا يملي. والرقاعيّ:
الذي يبلغ في الرّقاع حاجته، ولا يصلح لعظم الكتابة والمخيل:
الذي له عارضة وبيان، ورواية وإنشاء، وتعرّف بالآداب، ولا طبع له في الكتابة وإذا كان عاقلا صلح لمنادمة الملوك. والمخلّط: الذي يرى له في الكتاب الواحد بلاغة جيّدة وفدامة عجيبة. والسّكيت:
المتخلف المتبلّد، ورّبما جاء بالشيء المحتمل إذا تعنّى فيه.
قلت فمن أيهم ابن عبّاد؟ قال: هو مشكل، لا يجوز أن تهضمه فتضعه في أسفل سافلين، ولا يجوز أن تغلط فيه فترفعه إلى أعلى علّيّين، ثم ضعه بين هذين أين شئت، على أنه على كلّ حال جبلي.
قلت له: قد استمرّ قولك بما لو كان تصنيفا لك لساغ، وبقي تمامه في كلمة هذا وقت المسألة عنها ومعرفة الحال فيها.
قال: قل، فقد استرسلنا في الحديث، وتباثثنا كلّ ضمير.
قلت: كيف ترى كتابنا أعني القرآن؟ وأنت رجل قد أشرفت على غاية هذا الباب، واستوعبت جميع ما فيه.
قال: ذاك كلام ليس فيه أثر للصّنعة، ولا علامة للتكلّف، وهو
كلام منسكب انسكابا، وجار جريا يزيد لطفه على الطبع، بقدر ما يزيد الطبع على التصنّع، قليله كثير، وكثيره غزير، ومعناه أقوم من لفظه، ولفظه أرشق من وزنه، ووزنه أعدل من نظمه، ونظمه أحلى من نثره، ومجموعه أبهى من مفرّقه، ومفرّقه أظرف من مجموعه، وبعضه أغرب من كلّه، وكلّه أعجب من بعضه وهو شيء يستوي فيه تعجّب الجاهل، وتحيّر العالم، ويستعلي الذهن ويستغرق الفهم (1)، ويحجب الرّؤية عن الإدراك، ويردّها إلى البديهة في التسليم، وهذا يصحّ ويبين لمن كان ذا أداة تامّة، وعقل ثابت، وعلم غزير، وطبع سجيح، وبصر بالجوهر صحيح، ومعرفة بالصّورة والصّورة، وتمييز بين الحال والحال، ورفق فيما يزيد البيان عنه، لا يحمّله ما لا يطيق، ولا يحتمل له ما لا يجب، فيكون في جميع ذلك كالطبيب الحاذق، والنّاصح المشفق.(1/137)
قال: ذاك كلام ليس فيه أثر للصّنعة، ولا علامة للتكلّف، وهو
كلام منسكب انسكابا، وجار جريا يزيد لطفه على الطبع، بقدر ما يزيد الطبع على التصنّع، قليله كثير، وكثيره غزير، ومعناه أقوم من لفظه، ولفظه أرشق من وزنه، ووزنه أعدل من نظمه، ونظمه أحلى من نثره، ومجموعه أبهى من مفرّقه، ومفرّقه أظرف من مجموعه، وبعضه أغرب من كلّه، وكلّه أعجب من بعضه وهو شيء يستوي فيه تعجّب الجاهل، وتحيّر العالم، ويستعلي الذهن ويستغرق الفهم (1)، ويحجب الرّؤية عن الإدراك، ويردّها إلى البديهة في التسليم، وهذا يصحّ ويبين لمن كان ذا أداة تامّة، وعقل ثابت، وعلم غزير، وطبع سجيح، وبصر بالجوهر صحيح، ومعرفة بالصّورة والصّورة، وتمييز بين الحال والحال، ورفق فيما يزيد البيان عنه، لا يحمّله ما لا يطيق، ولا يحتمل له ما لا يجب، فيكون في جميع ذلك كالطبيب الحاذق، والنّاصح المشفق.
قلت له: إنما يكون هذا كلّه وما هو عتيد عندك داعيا إلى الإيمان به، والتصديق لصاحبه.
فقال: أتراني لا أنصح لنفسي في قضاء الحق عنها مجتلبا للسعادة، كما لا أنصح لها في اقتضاء الحق لها مكتسبا للزيادة؟ بلى والله! ولكن وراء هذا ما يشكل ويعضل، ويطول ويملّ.
__________
(1) في الأصل: «ويستعرق الفهم».(1/138)
وكان هذا الرّجل ممّن يدوّن كلامه كما يدوّن كلام ابن هلال الصّابي (1) (2) صاحبا له: يا هذا! انفع صاحبك على كل حال وإن ضرّك، وزيّنه وإن عرّك، وحسّن به ظنّك وإن غرّك.
(3) ومما يدلّ على ولوع ابن عبّاد بالسّجع ومجاوزة الحدّ فيه بالإفراط قوله يوما: حدّثني أبو علي ابن باش، وكان من سادة النّاش، جعل السين شينا ومرّ فى الحديث وقال: هذه لغة. وكذب وكان كذوبا.
(4) وكان أبو مالك يكتب (5) بين يديه [فقال له] (6): إنما
__________
(1) إبراهيم بن هلال بن زهرون أبو إسحاق، كاتب بليغ له رسائل، وشاعر مجيد، وشعره غير مجموع، وله إلى هذا علم بالهندسة. ولد سنة 320 وتوفي قبل سنة 380أو سنة 383وقيل سنة 384هـ. ترجمته في الفهرست 194193، عيون التواريخ حوادث سنة 383، الوفيات 1/ 1514، الإرشاد 1/ 358324، تاريخ أبي الفداء 2/ 136، مسالك الأبصار (أيا صوفيا 23425/ 132ب) وقد أورد نماذج من نثره ونظمه، البداية 11/ 313، اليتيمة 2/ 8623 (بيروت).
(2) هنا نقص في الكلام.
(3) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 294.
(4) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 294.
(5) في الأصل «أنت». وفي محاضرات الراغب 1/ 53: «وقال الصاحب لكاتب في مجلسه «ليس لك في مجلسي إلا القط فقط».
(6) تكملة عن الإرشاد، وهي لازمة.(1/139)
أنت خطّ وقطّ فقطّ. وفتّت (1) أطرافه بحركاته تخنّثا وتأنثا.
وقال لعبد الله المعلم، وقد أنشده: يا عبد الله! أنت طويل النفس، عتيق القوس، شديد المرس.
وقال لشيخ من خراسان في شيء جرى: والله لولا شيء لقطعتك تقطيعا، وبضّعتك تبضيعا، ووزّعتك توزيعا، ومزّعتك تمزيعا، وجرّعتك تجريعا، وأدخلتك في حر أمّك، ثم توقّف وقفة وقال: جميعا.
وملح (2) هذه الحكاية ينتثر في الكتابة، وبهاؤها ينقص بالرواية دون مشاهدة الحال وسماع اللفظ، وملاحة الشكل في التحرك والتثنيّ، والترنّح والتهادي، ومدّ اليد، وليّ العنق، وهزّ الرأس والأكتاف، واستعمال جميع الأعضاء والمفاصل.
وقلت لابن القصار الفقيه (3): لو ناظرته، وكان يذهب مذهب القلانسي (4). فقال: الرجل كلف بالمذهب، والكلف لا يفهمك ما يقول استكبارا عليك، ولا يفهم ما تقول استحقارا لك.
__________
(1) التفتت: التكسر. وفي الأصل: «ومتت؟؟؟».
(2) الملح: الحسن.
(3) لعله أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المعروف بابن القصار المتوفى سنة 397هـ. انظر تاريخ بغداد 12/ 4241.
(4) أحمد بن إبراهيم بن عبد الله أبو العباس متكلم على مذهب الأشعري،(1/140)
وطلع (1) عليّ يوما في داره وأنا قاعد في كسر (2) رواق أكتب له شيئا قد كادني به، فلما أبصرته قمت قائما، فصاح بحلق مشقوق:
اقعد! فالورّاقون أخسّ من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام، فقال لي الزّعفراني الشاعر: احتمل فإن الرّجل رقيع، فغلب علي الضّجك، واستحال الغيظ تعجّبا من خفّته وسخفه، لأنه قال هذا وقد لوى شدقه وشمخ (3) أنفه وأمال عنقه واعترض في انتصابه وانتصب في اعتراضه، وخرج في مسك (4) مجنون / قد أفلت من دير حنون (5). والوصف لا يأتي على كنه هذه الحال لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحّظ، ولا يؤتى عليها باللفظ
أفهذا كلّه من شمائل الرّؤساء وكلام الكبراء وسيرة أهل العقل والرّزانة؟
لا، والله! وتربا (6) لمن يقول غير هذا.
__________
وله تصانيف زادت على 150مصنفا. انظر شرح الاحياء 2/ 5، وأصول الدين للبغدادي 310، إشارات المرام 24.
(1) نقله ياقوت في الارشاد 5/ 392.
(2) الكسر: جانب البيت.
(3) في الأصل: «وشنح».
(4) المسك، بالفتح: الجلد.
(5) لم أجد له ذكرا في المظان.
(6) كلمة تقال في الدعاء، أي لا أصاب من يقول هذا خيرا.(1/141)
وسمعت الخثعمي الكاتب كاتب علي بن كامة (1) يقول: ما رأيت في طول عمري مع علوّ سنيّ وكثرة تجاربي وشدّة تتبّعي رجلا أجمع للمخازي والمقابح والرّقاعات والجهالات والخساسات والفواحش والخبائث من ابن عبّاد أفيل الناس رأيا إذا ارتأى، وأنكلهم عن الخصم إذا تراءى، وأقلهّم وفاء لمن جعله الله وليّ نعمته، وأوقحهم وجها مع كلّ إنسان، وأحدّهم لسانا بكل خنى (2) وفحش، وأحسدهم لنظير ولمن دون النّظير، وأسعاهم بالفساد على الصغير والكبير، وأخطبهم (3) على الدّين، وأضرّهم للمسلمين، وأفجرهم من بين العالمين. فقلت له: ما الذي يمدّه على ما هو فيه، وبأيّ شيء يطرد له ما هو عليه؟
فقال: لم يبق فيمن فوقه من ينتقد، ولا فيمن دونه من يزاحم فقد خلا له الجوّ فهو يبيض ويصفر (4)، ويتمطّى ويبوع (5)، ويقول
__________
(1) تأتي ترجمة ابن كامة عند أبي حيان.
(2) في الأصل: «خنا».
(3) أخطبهم: أخطرهم.
(4) هو معنى قول طرفة:
«خلا لك الجو فبيضى واصفري»
وانظر لسان العرب (قبر).
(5) يتمطى: يتبختر، ويبوع: يبسط باعه.(1/142)
سبعا في ثمان (1) لم يذلّ لأحد وذلّ له كلّ أحد، وأمر كلّ إنسان وما نهاه إنسان، وضرع إليه كلّ محتاج، وما احتاج إلى غير، ونشأ على البطر والجنون، وعلى الخلاعة والمجون فبهذا وأشباهه فسدت أخلاقه، وساء أدبه، وبذؤ لسانه، ووقح وجهه، وغلط في نفسه غلطا شديدا وأعجب بعربيته إعجابا بعيدا وهكذا يفسد كل من فقد المخطّىء له إذا أخطأ، والموبّخ له إذا أساء، والمقوّم له إذا اعوجّ لا يسمع إلّا: صدق سيدنا، وأصاب مولانا وما له في الزّمان ثان، ولم يعرف فيمن تقدّم له نظير.
رجل في هذه المملكة الواسعة العريضة على ما ترى من التمكن والاستعلاء، وهو لا يحصّل شيئا من خرابها وعمارتها، ولا ينظر في مصلحتها ومفسدتها، ولا يعرف المختلس منها ولا الضّائع بين الناظرين فيها. أعمال بائرة، وبلاد غامرة، وأموال محتجنة (2)، وطمع مستحكم، وضعف غالب وعدوّ راصد، ووقت فائت بالفرص، وخوف مؤذن بسوء العاقبة وهو قاعد في صدر مجلسه يقول:
__________
(1) المعنى فيما أرجو أنه يسمي الثمانية سبعة، ولا يجد من يرد عليه.
(2) محتجنة: مسروقة.(1/143)
قال شيخنا أبو علي (1) وأبو هاشم (2)، تارة يتقلّس (3) ويتعمّم ويتلحّى (4)
ويناظر العامّة هذا البقّال وهذا الخبّاز وهذا الخلقانيّ (5) وهذا الإسكاف بالفارسية إما بالدّرية، وإما بالرّازية (6) وإما بغيرهما ويرى أنه في شيء مهمّ، وأنه في نشر مذهب ونصرة دين وتارة يناغي هذا الأمرد، ويعاتب هذا الخادم، وينشد الشعر البارد الذي يورث الفالج:
أبا يوسف إن العثانين (7) آفة ... على حامليها فاتخذ لحية قصدا
ولا تك مشغوفا بسحب فضولها ... ولا تولها إلا الإبادة والحصدا
وينشد:
قد استوجب في الحكم سليمان بن مختار
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي المشهور. توفي سنة 303هـ.
ترجم له ابن شاكر في عيون التواريخ (نسخة أحمد الثالث 11/ 37)
(2) عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ابن أبي علي، معتزلي أيضا.
ترجمته في الوافي (نسخة أحمد الثالث 27/ 9089) البداية 11/ 167.
(3) في الأصل: «يتطلس». والمعنى يلبس الطيلسان.
(4) يتلحى: يدير كورا من عمامته تحت لحييه.
(5) نسبة إلى الخلقان جمع خلق وهو البالي.
(6) الدرية والرازية: لغتان أو لهجتان فارسيتان.
(7) جمع عثنون، وهو اللحية.(1/144)
بما طوّل من لحي ... ته التحريق بالنار
أو النتف أو الجزّ ... أو النشر بمنشار
فقد صار بها أشه ... ر من راية بيطار
فإذا ملّ الشعر قال:
قال سعيد بن حميد لأبي هفّان: إن ضرطت (1) عليك ضرطة لأبلّغنك إلى فيد (2) فقال أبو هفّان: زدني أخرى تبلّغني مكة، فإني صرورة (3).
أتدري يا أبا فلان ما الصّرورة، وكم لغة فيها، وما أصلها، وما نظيرتها؟
ويقول: ضرب المتوكّل (4) على فقحة عبادة (5) فضرط، فقال:
__________
(1) في نثر الدرر ص 721: «وكان سعيد بن حميد من المعروفين بالضراط»، ثم ذكر النادرة، وهي عند الصفدي في الوافي (شهيد على 1968 الورقه 18).
(2) فيد: موضع بطريق مكة.
(3) رجل صرورة: لم يحجج قط.
(4) هو جعفر بن الواثق المقتول سنة 247هـ (المعارف 172).
(5) عبادة من المخنثين أصحاب النوادر المجان، توفي سنة 250هـ تقريبا وكان من ندماء المتوكّل الذي كان شديد البغض لعليّ بن أبي طالب ولأهل بيته، فكان عبادة يشد على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وكان أصلع، ويرقص ويقول: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين يعني بذلك علي(1/145)
ويحك ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، خليفة يقرع باب قوم فلا يجيبونه؟
ويقول: مرّ بعليّ بن الحسين العلويّ رجل عبّاسيّ مأبون، فقال:
من هذا؟
فقيل: هذا تيس الجنّ.
فقال: ينبغي أن يقال له نعجة الإنس.
ويقول: جمع مزبّد (1) بين قحبة وصديقها في بيت فتعاتبا، فأراد أن يجامعها فامتنعت وقالت: ليس هذا موضع ذا، فسمعها مزبّد فقال: يا زانية فأين موضعه أبين القبر والمنبر (2) والله ما بني هذا البيت
__________
بن أبي طالب ض والمتوكل يضحك ويشرب. ترجمة عبادة وأخباره في: تاريخ أبي الفداء 2/ 40، نثر الدرر 561، محاضرات الراغب 1/ 208، الكنايات للجرجاني (نسخة ولي الدين 2628، الورقات 48ب، 5949، 60ب)، فوات الوفيات 1/ 202201.
(1) مزبد (بوزن محدّث ومعظمّ، وبسكون الزاي أيضا): اسم رجل من مجان المدينة أصحاب النوادر المضحكين، وذكر الآبي في نثر الدرر 312 318نبذة من نوادره وانظر محاضرات الراغب 1/ 234، تاج العروس 2/ 361، ثمار القلوب 372، الحيوان 5/ 184، 192، 193، المقابسات (مصر) 55، زهر الآداب 1/ 286وقد صحف إلى مزيد.
(2) يعني قبر الرسول عليه السلام ومنبره، وهما من القدسية والرفعة بالمكان المعروف.(1/146)
إلّا من جذر القحاب، ولا وزن ثمن خشبه (1) إلا من أثمان نعال اختطفت في شهر رمضان من المساجد، وما اشتريت أرضه (1) إلا من السّرقة وما أعرف موضعا أحقّ بالزنا فيه منه.
وكان ينشد لابن الحجّاج (2) كلّ سخف ويستجيده ويعجب به أنشد له يوما:
يسائلني محمّد عن أخيه ... وعنه وقد بلوتهما شديدا
فقلت كلا كما جعس (3) ولكن ... أخوك، الحقّ، أكثر (4) منك دودا
ويقول: امرؤ القيس (5) والنّابغة (6) يقصّران عن هذا الفن.
__________
(1) في الأصل: «خشبها أرضها».
(2) الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج أبو عبد الله الكاتب الشاعر المتوفى سنة 391هـ. أخباره كثيرة، وقد جمعها أبو بكر محمد بن عبد الله بن حمدون في مجلدة، وشعره كثير مجموع في ديوان ضخم كثير المجون والفحش، وقد أفرد الشريف الرضي من شعره ما خلا عن السخف.
وقد عني ابن حجاج باستعمال الكلمات التي كانت تجري على لسان العامة ببغداذ، والتي لم تسجلها المعاجم فديوانه سجل حافل بها. ترجمته في عيون التواريخ حوادث سنة 391هـ، المنتظم 7/ 217216، يتيمة الدهر 3/ 8425 (مصر)، معاهد التنصيص 2/ 62. وانظر الصداقة والصديق 3231.
(3) الجعس: الرجيع.
(4) في الأصل: «أكبر» مهملة، فتحتمل: «أكبر».
(5) امرؤ القيس بن حجر مراجع ترجمته في المكاثرة 30.
(6) النابغة الذبياني في المكاثرة أيضا 31.(1/147)
وينشد أيضا له:
ومصرّف أنفاس ليث خادر ... يصدرن عن لهوات كلب رابض
ذي لثّة غروية الريا (1) وذي ... لحم مصلّ في لعاب حامض
رثّ الثيات (2) يخر منبته دما ... فكأنما شفتاه شفرا حائض
لم أدر ماذا قال إلا أنه ... ما زال يفسو ضرسه في عارضي
ومن أحاديثه السّخيفة التي يتنزّه عنها الرؤساء، قال: قدم أبو فرعون الأعرابي (3) / وكان يسمّى سلمان البصرة، فنظر إلى بعض آل المهلّب على بابه قد فرش له، ووصيفة أدماء كأنها ظبية قائمة تذبّ عنه، فجعل يجمح (4) إليها ويحدّ النظر، فقال له صاحبها أتشتهيها؟
قال: إي والذي خلقها.
قال: فهل لك أن تكشف عما معك بين يديّ وتنكحها وأنا أنظر فإن فعلت ذلك فهي لك.
__________
(1) كذا بالأصل.
(2) كذا بالأصل.
(3) أبو فرعون الساسي التيمي العدوي، من عديّ الرباب، اسمه شويس، وهو بدوي قدم البصرة يسأل الناس بها، وله أشعار ظريفة. كتاب الورقة 53وما بعدها، طبقات ابن المعتز 379376، تاج العروس (مستدرك سوس) وله ذكر في الامتاع (الفهارس).
(4) في الأصل: «يجمح؟؟؟».(1/148)
فلما ألقاها وأخرج متاعه كأنه عمود البيت، وبرك عليها صاح به الناس: زرّ، زرّ، فأكثروا عليه، فاستحيا وفتر وولّى هاربا والناس في إثره يصيحون، وأخذ برأس متاعه وقال:
يا لك (1) من اير جزيت شرّا
أقمته حتى إذا اكفهرّا
واضطربت أعراقه ودرّا
عاد إلىّ وجهه مزورّا
أريد جوّا ويريد برّا
كأنّه صاحب ذنب فرّا
كأنما ألقم شيئا مرّا
وما عليك أن يقال زرّا؟
وحدّث أيضا:
قال عبادة: اختصم الحر والحجر في الجلدة التي بينهما، فكان كلّ يدّعيها، فتقدّما إلى الاير. فقال ليست لأحدكما.
قالا: فلمن هي؟
قال: هي لي إذا دخلت حططت عليها رحلي، وإذا خرجت استرحت عندها من كربي.
__________
(1) في الأصل: «فيا لك».(1/149)
وحكى يوما عن جحظة (1) قال: كانت لي جارية فحبلت، فقلت لها: يا ملعونة من أحبلك!
قالت: من غرّقه يا مولاي.
قال: وقيل لعبادة: لم صار الصّفع بالقرع على القفا ثقيلا، وفي الجوف خفيفا، قال: لأنه ينزل على القفا جملة ويدخل في الجوف تفاريق.
وكان ديدنه السّخف والخلاعة والمجون، والرّواية عن مزبّد المدني وأبي الحرث حمين (2) وعبادة، وجحظة ونضلة بن البك (3) ومن أشبه هؤلاء. وكان يضع أحاديث من الفواحش على بني ثوابة (4) ويرويها عنهم
__________
(1) أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك أبو الحسن المعروف بجحظة البرمكي، أديب راوية أخباري شاعر صانع للغناء، وكان مع هذه الفضائل كلها بعيدا عن أدب النفس وسخامتهما في دينه. توفي بواسط سنة 326أو 324هـ. ترجمته في الفهرست 209208، المنتظم 6/ 283 286، البداية (سنة 324)، الإرشاد 1/ 383.
(2) تقدم ضبط اسمه والتعريف به.
(3) كذا في الأصل. وفي البصائر 1/ 221: «بن اليد».
(4) بيت بني ثوابة من البيوت العريقة في الكتابة والبلاغة والشهرة.
وأخبارهم في الإرشاد 2/ 5136، 4/ 144، 243، 7/ 178، والفهرست 130، 135، 188187.
ومع هذه الشهرة فقد لهجت الألسن بثلبهم. انظر الارشاد: 2/ 89، 40، 4241، 44، 45، الأغاني 18/ 170، اليتيمة 3/ 29 (مصر).(1/150)
ويسمهم بها. وكان القوم معاذين منها، على ما حدّثنا شيوخ جلّة كرماء لهم دين ومروّة. وكان يتكذّب على اليزيديين (1) وغيرهم. وكان أكثر هذا فيه، وإنما كان يتحدّث بمثله تبرّؤا ونزاهة، وكان أدنس من الخنزير.
ولمثل هذه الخصال كتب إليه أبو راغب، فتى من آل أبي جعفر العتبي الوزير بخراسان رسالة هتكه بها وأنا أرويها لتعلم أني لم أتفرّد (2)
بتهجينه والنكير عليه، بل كلّ حرّ كريم، وكلّ ديّن مذكور، وكلّ ذي مروّة ظاهرة معي فيما نثوت (3) عنه وكرهته منه فإن لم تعبأ بما تسمع مني فاعبأ بمن (4) لعلّه عندك أشف مني، ولا تتسرع إلى عيبي هذا الرجل بما قد دوّنته حتى تتبيّن الأمر على حقّه وصدقه.
كتب أبو راغب:
أصلحك الله أيّها الرجل لنفسك، فإنّك إذا صلحت لنفسك صلحت لقريبك وبعيدك.
أما بعد فإن بعد صيتك بعثني على تصفّح شأنك، وتصفّحي لذلك
__________
(1) تقدمت الاشارة إلى بيت اليزيديين.
(2) في الأصل: «انعرد»، فتحتمل: «انفرد».
(3) نثا الحديث: أشاعه.
(4) في الأصل: «لمن».(1/151)
وقفني على أحوال كرهتها لك، وأنفت منها لمن بلغ درجتك، والعيب منك مضاعف، واللّسان فيك جوّال، والحقد عليك سريع ولولا الحال التي أنت عليها من القدرة والتمكّن لكان العذر يناضل عنك، والتوبيخ يتبدّد دونك، وما أحسن ما قال شاعر عصرك في نظمه:
ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام (1)
قد خولّك الله ما يفوت ذرع همّتك، وآتاك ما يتجاوز اشتطاطك في حكمك، من المال والثروة والرياسة والعلم والقوة والمكانة ولم يخصّك بهذا كلّه بسابقة لك عنده، ولا لحقّ لك عليه، بل كلّه تفضّل في الأول، واختبار في الثاني، وثواب أو عقاب في الثالث.
ولقد شددت وسطي في تعرّف أخبارك، واستعنت كلّ عين وأذن في معرفة ليلك ونهارك، فلم أجد في تفصيل ذلك إلا ما يعصب برأسك العار، ويحشد عليك أسباب الدمار، وتكون عاقبتك منه دخول النار لأنك تظهر القول بالوعيد (2) ثم تركب كلّ كبير، من أخذ المال
__________
(1) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح العكبري 2/ 373) من قصيدة يذكر فيها المرض الذي كان يعتريه بمصر.
(2) يقصد ب «الوعيد» في ميدان إيضاح المعتقدات الاسلامية وعيد وإنذار الآيات القرآنية التي توعد المنحرفين عن أوامر الاسلام بعقوبات معينة تلحقهم، من جراء انحرافهم، في الحياة الأخروية. وبين الفرق الاسلامية(1/152)
المحرّم، واستباحة الحريم المصون، وقتل النّفس المؤمنة، ومساهمة الفسقة الفجرة، وخدمة الظلمة الغشمة، وتقديم أهل المجون والعيارة (1)
وفي عشر هذا سقوط المروّة، والإنسلاخ من الديانة.
فيا أيها المدلّ بالتّوحيد (2) والعدل (3) أهذا كلّه في مذهبك أو
__________
اختلاف في أن هذه الانذارات تتخلف فيغفر الله للعاصي المرتكب للكبيرة بعد وعيده وإنذاره، أو إنها يجب أن تتحقق، وأن تنفذ على العصاة أحكامها.
والمعتزلة ترى أن العدل الاسمى يقضي بوجوب إنفاذ هذه الانذارات، وباستحالة تخلفها ومن هنا كان من أسماء المعتزلة «الوعيدية».
والكاتب أبو راغب يشير بهذه الجملة إلى أن الصاحب مع إيمانه كمعتزلي بأن هذه العقوبات التي تنذر بها آيات الوعيد يجب أن تطبق يرتكب كل كبيرة وموبقة.
(1) العيارة: العيث والفساد.
(2) يرى المعتزلة أن أخص صفات الله تعالى هى صفة القدم فهي الصفة التي لا يشاركه فيها موجود، وقد اتفق المسلمون على استحالة إلاهين اثنين قديمين ومن أثبت صفة قديمة فقد أثبت إلاهين قديمين. ولما رأوا أن فرقا من المتكلمين قد أثبتوا لله تعالى مجموعة من الصفات الالهية (وهي: صفات المعاني) التي لها وجود ذهني مستقل عن الذات الموصوفة بها، وهي مع ذلك قديمة قدم الذات الالهية نفسها، قالوا: إن قبول هذه الصفات معناه قبول عدة من الموجودات تشارك الله تعالى في قدمه، ثم في ألوهيته والقرآن يقول:
لا تتخذوا إلاهين اثنين (النحل 51). ولأجل هذا، ولأن هذه الصفات (صفات المعاني) لم ترد صيغها في القرآن (ما عدا «العلم»)، نفوها وأبوا أن يصفوا بها الله عز وجل، واقتصروا على ما جاء به القرآن (وهي الصفات المعنوية).
وبهذا الإمعان في التنزيه عن الشريك والشبيه حتى ولو كان مجرد تصور ذهني سموا أنفسهم أهل التوحيد.
(3) الإنسان مكلّف أمر بأشياء ونهي عن أشياء أخرى، وعلى فعله واجتنابه رتب ثوابه وعقابه في الآخرة. ومن هنا رأى المعتزلة: أن العدل الإلهي يوجب أن يكون هذا المكلف حرا في إرادته خالقا لأفعاله يفعل منها ما يفعل ويترك ما يترك حرا مستقلا ومتحملا لمسؤوليته، وعلى هذا الاستقلال وهذه الحرية ينبني الثواب والعقاب في الآخرة.
هذا وإليه ما قدمته في شرح «الأصلح»، و «الوعيد» هو معنى العدل عند المعتزلة.(1/153)
في مذاهب أسلافك؟ مثل واصل بن عطاء (1) وعمرو بن عبيد (2)، وأبي موسى المردار (3)، والجعفرين (4)؟
__________
(1) واصل بن عطاء أحد مؤسسي مذهب المعتزلة. ولد سنة 80هـ وتوفي سنة 131هـ، الوفيات 2/ 270، الفوات 2/ 96، الارشاد 7/ 223.
(2) عمرو بن عبيد بن باب من رؤساء المعتزلة أيضا. ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 144هـ. الوفيات 1/ 485.
(3) هو عيسى بن صبيح رئيس الفرقة «المردارية» من المعتزلة. والمردار، بضم الميم وراءين مهملتين بينهما ألف: كلمة فارسية معناها نجس أو قذر، وإلى هذا المعنى يشير البغداذي في الفرق (وهو كعادته مع المخالفين متحامل) 100بقوله: «ولقبه المردار لائق به». وترد كثيرا في كتب «الملل والنحل»:
«المزدار» بالزاي، وهو تحريف. وفي شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني 3/ 184: «والمزدار هو من باب الافتعال من الزيارة». وهو خطأ شنيع.
انظر أنساب السمعاني 521، اللباب 3/ 227، خطط المقريزي 4/ 166، لسان الميزان 4/ 398.
(4) الجعفران هما:(1/154)
أما كانوا مع بدعتهم التي شانوا بها وجه الإسلام، وكادوا بها أهله مجتهدين (1) في غير ما أنت به راض لنفسك ومصرّ عليه (2)
باغترارك؟ إن الله لا يخادع، ولا منجاة للعبد إلا بالطّاعة الخالصة، والتّوبة النّصوح هذا إذا كان الإيمان ساكن صدره والخوف من الله مترددا في أقطار فكره، واليقين بالمعاد عمود دينه، والعلم بالجزاء راسخا في فؤاده فأمّا إذا كان عاريا من هذا كلّه / فهو الكافر بعينه الذي سمعت به، وعاقبة الكافرين {«جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهََا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ»} (3).
والله ما حرّكتني لنبذ هذا الكلام إليك حيبة (4) عليك لأني
__________
(ا) جعفر بن حرب الهمذاني المتوفى سنه 236، وهو مترجم له عند الخطيب البغداذي 7/ 162.
(ب) جعفر بن مبشر الثقفي المتوفى سنة 234هـ، وترجمته في لسان الميزان 2/ 121. وكلاهما من رؤوس المعتزلة، ويوافقان النظام في كثير من آرائه.
انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/ 41.
(1) اتفقت المراجع التي تحدثت عنهم على اختلاف نزعات مؤلفيها على وصفهم بالعبادة والزهد والاستقامة.
(2) في الأصل: «عليها».
(3) سورة المجادلة 8.
(4) الحيبة، بكسر الحاء: التوجع والحزن. وفي الأصل: «حسبه».(1/155)
لم أنتجعك، ولم أطمع في مالك، ولا عرفت وجهي، ولا سمعت باسمي لكن أبت نفسي أن تقرّ على الجهل بحالك، وبدخلة (1) ما يكون عليه أمثالك (2)، فآثرت نصيحتك فإن النبي صلى الله عليه قال:
«الدّين النّصيحة» (3). وما أخوفني أن تكون جرأتك على هتك حرمات الدّين، ومعارضة الصّالحين، مع العكوفة (4) على الخسران المبين، إنّما قويت وربت (5) لأنّك شارد على ربّك، نافر من دين نبيّك، مدّع له بلسانك، شاكّ فيه بفؤادك، متعجّب ممّن له إخلاص، أو له بالدّينونة اختصاص والويل لك إن كنت بهذا قانعا من نفسك في الحال الأولى، ثم الويل لك مع الثّبور إن كنت جاهلا بما عليك في الحال الأخرى.
حدّثني أيّ أمر أنت فيه على رشد، وآخذ منه باحتياط؟ أما أنت عليه مع الغلمان المرد الجرد؟ أم ما أنت مشهور به من المجانة والسخف؟
ثم تدّعي الإطعام للخاصّ والعام، وقد شاهدنا فوجدنا على بابك قوما يضربون بالمقارع وجوه النّاس، ويحطوّن على رؤوسهم العذاب، طردا
__________
(1) الدخلة، مثلثة الدال: باطن الأمر.
(2) في الأصل: «امثالك؟؟؟».
(3) الحديث في سنن أبي داود 2/ 583، مسند الإمام أحمد 1/ 351.
(4) كذا بالأصل، ويريد العكوف. ولم أجد «العكوفة» فيما بين يدي من المعاجم.
(5) في الأصل: «ونرت».(1/156)
لهم وإبعادا. أفما هذا بأمرك وعينك وأذنك؟ فلم تتكلّف ما لا تقرّ به؟ ولم تدّعي ما لا تسلم فيه؟ لقد وقفنا عيانا من استخفافك بالأحرار، ووضعك من ذوي الأقدار، وكفرك بوليّ نعمتك، وتعرّيك (1)
من كل شبهة في أمرك، ما لو تنفّسنا به بين النّاس، أو رسمناه بالقلم في القرطاس، لكان ذلك زائدا على تمرّد فرعون، وكفر أبي جهل (2)
وجرأة ديك الجن (3).
لقد قيست مروّتك إلى مروات قوم قرفوا بالزندقة فوجدت مروّاتهم فوق ديانتك، ولقد رأينا قوما لم يتحلّوا بالدعوى تحلّيك استنفدوا قوتهم في طلب مرضاة مؤمّليهم ومنتجعي قطرهم، وبلغوا من ذلك المبالغ، وأنت مع تمكنّك ويسارك لم تسمح من الشاة بظلفها، ثم ملأت الدنيا بقباقا (4) بالامتنان على الصّغير والكبير، كأنك خالق الخلق
__________
(1) في الأصل: «ونعديك؟؟؟».
(2) عمرو بن هشام المخزومي، كان من أشد الناس إذاية لرسول الله فقالوا فيه إنه أشد الناس كفرا، وانه فرعون هذه الامة. انظر سيرة ابن هشام 1/ 283، 311، 319، شرح الزرقاني على المواهب 1/ 294.
(3) عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي أبو محمد شاعر مجيد ما جن من شعراء الدولة العباسية وكان يتشيع في اعتدال. ولد سنة 161هـ، وتوفي أيام المتوكل سنة 235أو 236هـ. الوفيات 1/ 370268.
(4) كذا بالاصل. والاولى: «بقيقا أو بقبقة» بمعنى: كثرة الكلام.
أما «بقباق» فهو كثير الكلام.(1/157)
وباسط الرزّق. انظر أيها الرجل أيّ آخر سوء لك! والله إنك شديد الثقة، وقد قيل: رب واثق خجل (1). أيها الرجل!
ما طار طير فارتفع ... إلّا كما طار وقع
أما تعتبر بما آل إليه أمر ذي الكفايتين (2) مع ذلك البأو (3)
والخنزوانة (4)؟ أما رأيت بعينك في هذه السنين ما يحدوك على الأخذ بالوثيقة لنفسك؟ وكف اليد عن كثير مما يوتغ (5) دينك، ويهشم أنف مروتك، ويقطع عرق أبوّتك، ويهيج الألسنة على تبكيتك، ويبسط الأيدي في الدعاء عليك، ويحشو القلوب تمنّي زوال دولتك.
فاتّعظ بقول الشاعر:
يأيها الباغي على الأحرار ... ثقة بلين مقادة الأقدار
لا تغترر بمدى تطاول حينه ... فالظلم يقصر من خطى الأعمار
والعيش نهلة وارد ولربّما ... سدّت عليه مدارج الإصدار
__________
(1) من الأمثال المولدة وهو في مجمع الأمثال 1/ 215.
(2) أبو الفتح علي بن محمد بن الحسين بن العميد المقتول سنة 366.
وتأتي ترجمته.
(3) البأو: الفخر والترفع.
(4) الخنزوانة: الكبر. وكذلك وصف أبا الفتح مترجموه.
(5) يوتغ: يفسد ويهلك.(1/158)
وأختم قولي هذا بما قال بعض السّلف لأصحابه، قال: أحذّركم الدّنيا وأخوّفكم يوم التّناد، يوم لا يعرف لخير أمد، ولا ينقطع لشرّ أمد، ولا يعتصم من الله أحد.
وأرجو أن تسمع ما صدقت القول فيه بانتصاح، وتعرف ما تؤتيه بارتياح، والسلام.
قال: ويقول أيضا: قال أبو العيناء (1) لحجّاج الكاتب: ابنك في أي شيء هو من النّحو؟ قال: هو في باب الفاعل والمفعول. قال:
هو إذن في باب والديه.
ويقول: قيل لأعرابيّ: اشترى الأمير سراويل من فنك (2). قال:
التقى الثوبان.
وينشد:
شيخ لنا يعرف بالخلدي ... يريده في غلظ المردي (3)
__________
(1) في نثر الدرر للآبي ص 300: «وقال [أبو العيناء] يوما لولد حجاج بن هارون»، ثم أورد النادرة. وانظر البصائر 1/ 37ب 38.
(2) الفنك: جلد يلبس. والنادرة في لسان العرب (فنك) عن أبي عبيد وقد علق ابن منظور على كلمة «الثوبان» التي صحفت في اللسان الى «الثريان» بقوله:
«يعني وبر الفنك وشعر استه».
(3) المردي: خشبة يدفع بها الملّاح سفينته.(1/159)
أدخلني يوما إلى داره ... فناكني والاير من عندي
قال الخثعمي: وهو في هذا اكله على نزق (1) فيه شديد، وقهقهة عالية، وتفكّك قبيح، وسيلان منكر، وشمائل مندثرة.
الويل له! هلّا ترك هذه السخافات والحماقات على قوم يليق بهم هذا النّمط، وأقبل على الدّولة فنظّم مختلّها، وسدّد التي ليس لها محصول.
يا قوم!
أيّ دين يصحّ له وقد قتل آل العميد؟ وأيّ وفاء يسلم له وقد سمّ أولاد بويه الذي هو وليّ نعمته، وحافظ مهجته، وباسط يديه، وبه نال ما نال، وبلغ ما بلغ؟
وأيّ مروّة تبقى له، وهو يمنّ بالقليل إذا أعطى؟ وأيّ كرم يعتقد فيه، وهو يغرّ الآمل ويسحبه على الوعد حتى إذا انتهى فقرا أو ضجرا حرمه حرمانا يابسا، ورده ردّا مرّا، وأعطاه شيئا قليلا وقحا؟
وهل تجد فيمن تقدّم عنده ونفق عليه غير ابن المنجّم (2) وهو
__________
(1) كتب في الأصل حرف: «ف» فوق حرف القاف من كلمة «نزق»، وكأنها تشير إلى رواية أخرى هي: «نزف». والنزف: ذهاب العقل.
(2) أبو الحسن علي بن هارون كبير بني المنجم، شاعر موهوب جالس الوزير(1/160)
يعبث بلحيته وهامته، ويسخر منه ويضحك به ويعمل له الشعر في النّوروز والمهرجان وغيرهما، ويسمعه في هيئته (1) يوم المحفل، ويطرب على إنشاده ويقول: ما أحسن شعرك! وما أسلس طبعك! ويعطيه على ذاك، ويتقدّم إليه بالقيادة وبكلّ ما لا يجيزه الدين والمروءة (2)
وكذلك ابن المنجّم الآخر أبو محمد (3) جبس جاهل صلف، وسبيله وحديثه / أن يقول: وردت على مولانا الصاحب، وأنا كالبدر إذا طلع، فعشقني وعشق عذاري وهام بسببي ورزقت منه، وخففت على قلبه، وحظيت عنده، وكان يعجبه منيّ ما لا يجوز التحدّث به.
وصدق الخثعميّ في هذا كلّه كان أبو محمد يقول ما هو أكبر مما قال، وكان مع ذلك في مسك (4) كلب خسّة ولؤما ونزقا وطمعا رأيته يوما وقد كتب لإنسان كتابا بمكنسة (5) أخذها منه وجعلها في كمّه.
__________
المهلبي والصاحب، وكان لبني المنجم اختصاص بالصاحب، وقد دون في كتاب «الروزنامجة» نبذ من أخبارهم كانت منبعا استقى منه الثعالبي ما ذكره في اليتيمة من أخبار بني المنجم. انظر اليتيمة 3/ 10410، 360359، الوفيات 1/ 449.
(1) في الاصل: «ويسمعه في نفسه».
(2) أبو محمد بن المنجم شاعر مجيد أيضا. وقد ذكره الثعالبي في اليتيمة 3/ 101، 189، 358.
(3) في الأصل: «والمروة».
(4) المسك بالفتح: الجلد.
(5) يعني: كانت أجرة الكتاب مكنسة.(1/161)
وقضى لآخر حاجة بعشر باذنجانات، والباذنجان إذ ذاك بالريّ مائة بدانق.
وقال أيضا الخثعمي:
وهل يتقدم عنده إلّا هؤلاء الهوج الطّغام الذين يجوبون الدنيا، ويدخلون كلّ ميدان، ويسخرون [منه] (1) فيقولون: فعل مولانا، وكان مولانا، وما رأينا مثل مولانا وإن رأى مولانا أمكننا من نسخ رسائله وكتب ألفاظه، فإذا سمع هذا وأشباهه ماع وسال وترجرج وذاب وأعطى عليه وجاد.
وقال أيضا:
كيف يدّعى له التّبريز في كلّ علم وهو لا يعرف النحو إلّا ما جلّ منه، ومن الكلام إلا ما وضح ثم هو في اللّغة على تصحيف شديد، وتخليط كثير، وفي الأخبار على تمويه لا يخفى على مميّز وقد أفسد رسائله بطريقة المتكلّمين، وأفسد طريقة المتكلّمين بطريقة الكتّاب، وكذلك النحّو واللغة والحديث، وهذا وصف ظاهر لا يدفعه إلا مكابر.
__________
(1) إضافة يتضح بها الكلام.(1/162)
وصدق هذا الشيخ، فإني رأيت ابن (1) ثابت البغدادي المحدّث (2)، وقد سأله عشية يوم عن قول النبي صلى الله عليه: «قوّموا صفوفكم فتراصّوا، لا تتخلّلكم الشياطين كأنّها بنات الحذف (3)»:
ما الحذف؟ فلم يجبه وقال: سأقول لك، وأخذ في حديث آخر.
قال الخثعمي:
وهو مع هذا كلّه يكذب صراحا في كلّ شيء، يقول: كان عندنا معلّم، وسئل عن «يوسف» أذكر هو أم أنثى؟ فقال:
«يوسف» يذكّر ويؤنّث، ألا ترى إلى قول الله عز وجل: {«يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذََا} [4]»، ثم قال: {«وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [4]، وقد اجتمعت له العلامتان.
__________
(1) في الأصل «بن».
(2) لعل المقصود هنا: محمد بن ثابت أبو بكر الواسطي المتوفى سنة 364هـ. تاريخ بغداذ 1/ 284، المنتظم 7/ 80، عقد الجمان للعيني سنة 364. وانظر تاريخ بغداذ 4/ 402أيضا.
(3) الحذف: الغنم الصغار تكون بالحجاز، وقيل يجاء بها من جرش اليمن (النهاية حذف)، ورواية اللسان (حذف) «سووا الصفوف». والحديث بألفاظ أخرى في سنن أبي داود 1/ 154.
(4) سورة يوسف 29.(1/163)
وكان هذا ينسبه إلى إنسان معروف بالأدب، لكنّه كان يحمّق ابن عباد وينث مخازيه، فكان هذا يضع عليه نوادر باردة.
قال:
ويقول: دخلت بغداذ فلقيت أبا سعيد السّيرافي (1)، وعليّ بن عيسى (2)، والمراغيّ (3) وناظرت المراغيّ في «عسى» و «لعلّ» و «كاد» وغير ذلك فأبررت (4) وذكرت، وأشير إليّ بالأصابع، وفسح لي في المجامع وكذلك ناظرت فلانا وفلانا، وأفدتهم أكثر ممّا استفدت منهم.
وسألت أنا أبا سعيد عن هذا فقال: سبحان الله! وسكت استعظاما لهذا الحديث ونفيا له. وهو كما أومأ إليه.
__________
(1) تقدمت ترجمة السيرافي.
(2) علي بن عيسى بن عبد الله الرماني أبو الحسن المتوفى سنة 384هـ. ترجمته في الفهرست 94، البغية 344، المسالك 6/ 32.
(3) المراغي، ويقال ابن المراغي: هو أبو الفتح محمد بن جعفر بن محمد الهمداني المتوفى سنة 376هـ. حافظ نحوي بليغ. ترجم له في الفهرست 127، الارشاد 6/ 466، الانباه للقفطي 2/ 57، 2/ 6261 (نسخة أحمد الثالث)، البغية 28، تاريخ بغداذ 2/ 153152، المنتظم 7/ 134.
(4) أبررت: غلبت وعلوت.(1/164)
وقلت للمراغي: أكان لهذا الحديث أصل فقال: لا، والله.
وقال الخثعمي: وهل يدلّ ولوعه بالعروض (1) إلا على سوء الطبع وقلة التأتّي؟ وكان أخذها عن البديهيّ (2)، وإنما ردؤ شعر البديهيّ أيضا لمثل هذا، وبلغ من جنونه عليها أعني العروض أنه كان يلقيها على كل إنسان، ويطالب به (3) كلّ شاعر وكاتب، حتّى أخذ في هذه الأيام يلقّن غلاما تركيا وآخر قوهيا وآخر زنجيا وكان يظهر بهذا وما أشبهه الحذق والبراعة والتخريج.
ثم ينظر في كتاب «الفصيح (4)»، «ومختصر» الجرمي (5)، ويقول:
ما رأيت كاتبا يخطىء إلا من هذا، ولا يلحن إلا من هذا. وهذا حفظك الله منه مغالطة، إن الكاتب قد يخطئ من غيرهما
__________
(1) وألف الصاحب كتاب «الاقناع وتخريج القوافي»، ومنه نسخة في مكتبة جامعة استانبول 1371 ..
(2) مر في ترجمة البديهي أنه كان يعنى بالعروض والقافية وإقامة الوزن.
(3) «به» يعني بعلم العروض. وفي اللسان (عرض 9/ 46): أن «العروض» ربما ذكّرت.
(4) كتاب الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب المتوفى سنة 291هـ. مشهور كثرت واستمرت عناية العلماء به.
(5) أبو عمر صالح بن اسحاق الجرمي المتوفى سنة 225هـ. وقد ذكر له ابن النديم وابن خلكان كتاب «مختصر نحو» للمتعلمين.(1/165)
أيضا، وهو ذاك المخطىء المحرّف إذا وزنت كلامه بالقسطاس، واعتبرته بالقياس على ما أوضحه العلماء والنحويون، قال: ومن أراد ذلك بيّنت له، فليس الباب دونه مغلقا ولا الطريق إليه متعسّفا.
ثم قال الخثعمي:
وهل مداره إلا على السّخف والجبه والمكابره والبهت. يقول فيمن هو أكتب منه وأعفّ وأسرى:
حجر أبي نصر بن كوشاذ (1) ... أوسع من مصر وبغداذ
قلت له: هل لك في فيشة ... فقال مولاي وأستاذي
ينشد هذا وهو يتطاير، ويفتل يده وينسبل ويصفّق.
أفهذه مخايل ذوي الأقدار والرياسة؟ أم مخايل أصحاب الرّعاع والسفلة؟
وهل شاع القول بتكافؤ الأدلة (2) في هذه الناحية إلا به؟
وكثرا المراء والجدل والشّكّ إلا في أيامه، لأنه منع أهل القصص من القصص والذكر والزّجر والمواعظ والرقائق، ومنع من رواية الحديث
__________
(1) لعله أبو نصر بن خوشاده، من أعيان قواد عضد الدولة وقد توفي سنة 385هـ، ابن الأثير 9/ 41، الارشاد 2/ 325.
(2) تكافؤ الادلة: تعادلها وتساويها، وحينئذ يسقط الاستدلال بها.(1/166)
وقال: «الحديث» حشو (1) وتفسير القرآن، ونشر التأويل، وسماع قول الصحابة والتابعين، وما يعنى به من الحلال والحرام، ويتعلّق بجلائل الأحكام، وطردهم ونفاهم منهم: ابن فارس (2)، والرّويانيّ، وابن بابويه (3)، وابن العطّار، وابن شاذان (4)، والبلخيّ، وفلان وفلان وأجلس النجّار يخدع الديلم بالزّيدية، وزعم أنه على مقالة زيد بن عليّ (5) ورأيه ودينه ومذهبه، وزيد يعلم الله منه
__________
(1) الحشو: الجهل، والاعتقاد بجواز أن يكون في الكتاب والسنة ما لا معنى له، والقائلون بهذا هم الحشوية.
(2) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء (أو: أحمد بن زكرياء بن فارس) المتوفى سنة 390أو 395هـ، وقيل 369ولعله تصحيف. كان منسوبا إلى خدمة ابن العميد فانحرف لذلك عنه الصاحب مدة، ثم عاد فقربه ووصله وباسمه ألف كتابه «الصاحبي» في فقه اللغة. الارشاد 2/ 156، اليتيمة 3/ 365 (مصر)، عيون التواريخ (حوادث سنة 390)، الشذرات 3/ 132، تاريخ أبي الفداء 2/ 142.
(3) ابن بابويه القمي: علي بن الحسين بن موسى، من فقهاء الشيعة الامامية ومصنفيهم المكثرين. ذكره ابن النديم في الفهرست 277.
(4) بكر بن شاذان بن بكر أبو القاسم الواعظ المقرىء. ولد سنة 322، وتوفي سنة 405هـ، المنتظم 7/ 271270.
(5) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الامام الشهيد في سنة 121هـ، وهو رئيس الفرقة الزيدية، الشذرات 1/ 158، فوات الوفيات 1/ 166164، خطط المقريزي 2/ 352.(1/167)
برىء، لفسقه وفجوره وتهتّكه وظلمه وغصبه ونهبه / وقتله النفس المحرّمة، وأخذه الأموال المحظورة. أترانا لا نعرف مذهب زيد، وأن جميع ما هو فيه مخالف للدين والإسلام؟
وقال الخثعمي:
زعم أنه إنما منع المذكّرين (1) والقصّاص لئلا يفشو الحشو والتّشبيه ولئلا ينشّئوا عليه الصغير والكبير، فهلّا منع من الكلام والجدل لئلا يفشو الإلحاد، ولا تكثر الشّبه؟
ثم يجلس لأصحاب الحديث، ويروي ويفسل (2) ويكذب ويختلق الإسناد ويبتك المتن (3). فأيّ عيب لم يظهر به ولم يغلب عليه؟ وأيّ خزي لم يبن ولم يكثر؟ وأيّ فعل سيّء لافعله (4)؟ أليس هو سبب كلّ قبيحة، وفاتح كلّ باب شرّ؟
فما هذا الغلط فيه؟ وما هذا التّعصّب له؟ وما هذا اللّجاج بسببه؟
أمن «العدل» الذي يدلّ به في مذهبه أن يجور ويغصب،
__________
(1) المذكرّون: الوعاظ.
(2) في الأصل: «ويروى ويفسد».
(3) يبتك المتن: يقطعه.
(4) المألوف: «لم يفعله».(1/168)
ويقتل؟ أم من التّديّن ب «التوحيد» أن يركب الفواحش ويأتي القاذورات؟ ويخلو بالأبن (1) والسوءات؟ ويتسنّم الكبائر المبيرات؟
ثم يبني دارا يسمّيها دار التوبة (2) استهزاء وسخرية وسخنة عين؟ أم من المعروف أن يتعاطى كلّ منكر قولا وفعلا؟
إني لأظن أن من ينصر هذا الرجل لأعمى أصمّ قد أسلمه الله من يده، وألجأه إلى الشيطان قرينه.
أم من العقل والمروّة والكرم والفتوة أن يقول: أين مائدتنا من مائدة مطرّف؟ يعني أبا نصر مطرف بن أحمد وزير مرداويج الجبلي (3)، وكان أكرم الناس ومن مائدة المهلّبي (4)؟ ومن مائدة ابن العميد (5)؟
__________
(1) في الأصل «ويخلوا». الأبن، جمع أبنة وهي: التهمة والعيب.
(2) قصة توبة الصاحب، وجلوسه للاملاء والتحديث، واتخاذه بيتا للتوبة وأخذه خطوط العلماء بذلك رواها أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بكيا. وهي في المنتظم 7/ 180.
(3) قتله مرداويج سنة 321هـ.
(4) أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون الوزير. ولد سنة 291بالبصرة، وتوفي سنة 352هـ، ابن النديم 194، المنتظم 7/ 109، عقد الجمان (سنة 351)، اليتيمة 2/ 202، الوفيات 1/ 178.
(5) يعني أبا الفضل، ويأتي الحديث عنه.(1/169)
وأين طعامنا من طعامه؟ وأين إطعامنا من إطعامه؟ وكان (1) أبو الفضل سيّدا، ولكن لم يشقّ غبارنا، ولا أدرك شوارنا (2)، ولا مسح (3) عذارنا، ولا عرف عرارنا (4) لا في علم الدين، ولا فيما يرجع إلى منافع المسلمين. فأما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره طيّاش قلّاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش والهروي والحواش (5).
يا قوم! هذا كلام من له عقل ويرجع إلى رزانة؟
ثم يقول في مجلسه: أنا الذّعاف (6) لمن حساني، والجراف (7) لمن عصاني، والجحاف (8) لمن عناني أو حرّك عناني أخمصي فوق هامة الدّهر، أين ابن الزّيات (9) منّا؟ أين ابن خاقان (10) من غلامنا، يعني أبا
__________
(1) نقله ياقوت في الارشاد 2/ 303.
(2) كذا في الارشاد. وفي الأصل والوافي: «شرارنا».
(3) في الارشاد: «فسح». وفي الوافي: «فسخ».
(4) كذا في الارشاد، وفي الوافي: «غرارنا».
(5) في الوافي: «والهروي الحواش».
(6) الذّعاف: سم ساعة.
(7) الجراف والجاروف: الذي يكتسح كل شيء مر به.
(8) الجحاف: الموت.
(9) محمد بن عبد الملك أبو جعفر الكاتب الشاعر البليغ. قتله المتوكل سنة 233هـ، الفهرست 170المسالك (أيا صوفيا 3423صحيفة 490488)، ذيل تجارب الأمم 3/ 82، الشذرات 2/ 78.
(10) تولى الوزارة من هذا البيت: الفتح بن خاقان الذي قتل مع المتوكل(1/170)
العباس الضّبّي (1)، ومن عليّ بن عيسى (2) الحشوي (3)، ومن ابن الفرات (4)
الأرعن، ومن ابن مقلة الخطّاط (5)، ومن الحسن بن وهب (6) الضرّاط؟
__________
سنة 247هـ. وعبد الله بن محمد بن عبيد الله بن يحيى أبو القاسم الذي وزر للمقتدر بعد ابن الفرات سنة 312، وترجمة الفتح في الفهرست 169، المنتظم 5/ 45وترجمة أبي القاسم في الوافي (شهيد علي 1968، الورقة 155ب) وفي مسالك الابصار (أيا صوفيا 3423صحيفة 492490) ترجمة النابهين من هذا البيت. وانظر الفخري 217216، 228، 241240.
(1) أحمد بن محمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي، من مشاهير الوزراء، توفي سنة 398هـ. عيون التواريخ (نسخة الفاتح 66، 131)، وانظر المنتظم 7/ 240، اليتيمة 3/ 267260.
(2) علي بن عيسى بن داود بن الجراح أبو الحسن وزير المقتدر والقاهر. ولد سنة 245، ومات سنة 334، وقيل سنة 335هـ. الفهرست 168، المنتظم 6/ 351 355، الإرشاد 5/ 277، عقد الجمان (سنة 335)، دول الإسلام 1/ 153.
(3) الحشوى: من يقول بالحشو وقد مر تفسيره.
(4) أبو الحسن علي بن محمد بن موسى المقتول سنة 312هـ. وزر للمقتدر ثلاث مرات، آخرها سنة 311هـ. دول الاسلام 1/ 133، 138، تحفة الأمراء لابن المحسن الصابي 7111، المنتظم 6/ 191188، الفخري 240239.
(5) تقدم التعريف به.
(6) الحسن بن وهب بن سعيد أحد الكتاب المشهورين. كتب لمحمد بن عبد الملك الزيات وولي ديوان الرسائل. وكان شاعرا بليغا. الوفيات 1/ 271، فوات الوفيات 1/ 137136.
والضراط هو وهب بن سليمان بن وهب فهو ابن أخي الحسن بن وهب وليس والده. وقصته في ثمار القلوب للثعالبي 164وما بعدها. ولابن طيفور «كتاب اعتذار وهب من حبقته» ذكره ابن النديم ص 209.(1/171)
هل كانو إلّا دوننا إذا ذكرت سيادتنا، وشوهدت سعادتنا.
ولدت والشّعرى في طالعي، ولولا دقيقة لأدركت النبوّة، وقد أدركت النبوّة إذ قمت بالذّبّ عنها والنّصرة لها فمن ذا يجارينا ويمارينا ويبارينا ويعادينا ويضارينا ويسارينا ويشارينا؟
وكاد الخثعمي لا يقطع هذا المجلس لطول ما مرّ فيه، وشدّة ما أهمّه منه.
فهذا كما ترى.
وقلت للمسيّبي يوما: لم انقطعت عن هذا الرجل، وقد كان محسنا إليك، مقدّما لك، معجبا بك؟
فقال: الصّبر على الرقاعة معوز (1)، ومكاذبة النّفس وخداع العقل من الكلف الشاقّة والأمور الصّعبة، ولعن الله الرّغيف إذا لم يصب إلا بضعة النّفس، وغضاضة القدر، وكدّ الروح، ومفارقة الأدب الحسن، ودنس العرض النّقي، وتمزيق الدّين المعتقد، وكسب الزّور المحبط، وإزالة المروّة المخدومة وإني لكما قال الشاعر:
وإني على عدمي لصاحب همة ... لها مذهب بين المجرّة والنّسر
* * *
__________
(1) معوز: شديد على النفس.(1/172)
وإنّ امرءا دنياه أكبر همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور (1)
وسمعته يقول لابن ثابت (2):
جعلك الله ممّن إذا خرىء شطّر، وإذا بال قطّر، وإذا فسا غبّر، وإذا ضرط كبّر، وإذا عفج عبّر.
وهذا سخف لا يليق بأصحاب الفرضة، والذين نشؤوا بالمزرفة، واختلفوا إلى الخندق ودار بانوكه (3) والزبد والخلد (4)
وسمعته يقول: أنشدني صقلاب، وابن باب (5)، وقرأت على
__________
(1) البيت للشويعر الحنفي، واسمه هانىء بن توبة الشيباني، وهو في اللسان 4/ 136برواية:
«وإن الذي يمسي ودنياه همه»
وانظر شرح المقامات 2/ 277، والامتاع 3/ 65.
(2) أبو الحسن أحمد بن محمد بن ثابت البغدادي، أحد فضلاء بخارا، وكان من جلاس الصاحب. يتيمة الدهر 4/ 137.
(3) لعلها مضافة إلى «البانوقة»، ويقال «البانوجة» بنت المهدي العباسي.
انظر تاريخ بغداذ 1/ 95، المعارف 166.
(4) لعله موضع قصر الخلد الذي ذكر الخطيب البغداذي 1/ 75، 80أن موضعه كان وراء باب خراسان من مدينة بغداذ على شاطىء دجلة.
(5) الهدف الذي تكرر لأبي حيان أن يرمي إليه: أن الصاحب مفتون بالسجع المقبول منه والمرذول، ولذلك نرى أنه من المحتمل أن لا يكون هناك من وراء هذه الكلمات المسجوعة قصد إلى شخصيات عرفها التاريخ.(1/173)
ابن البوّاب، وسمعت من أبي الحباب، ورويت لأبي المرتاب الدّباب كلّ شيء عجاب.
ولقد تحيّر المهلّبي منّي، وعرف معزّ الدولة (1) فضلي وأدبي وأكبر قدري، وبلغ الحدّ الأقصى في أمري.
وأنشدني أبو دلف الخزرجيّ (2) عندما رأى من كلفه بالمذهب (3)
وإفراطه في التعصّب:
يا بن عبّاد بن عبّا ... س بن عبد الله خذها (4)
__________
(1) هو أحمد بن أبي شجاع بويه بن فنا خسرو الديلمي معز الدولة المتوفى سنة 356. دخل بغداذ وحكمها وامتد حكمه بها 20سنة. ترجمته في المنتظم 7/ 37 38، عقد الجمان (سنة 356وسنة 334)، دول الإسلام 1/ 161، البداية 11/ 262.
(2) هكذا عبارة ياقوت في الإرشاد 2/ 304303. وفي البصائر 3/ 50:
«لأبي دلف الخزرجي في ابن عباد»، ثم روى البيتين. ونسبهما العباسي في معاهد التنصيص 2/ 160للسلامي المتوفى سنة 393هـ.
وأبو دلف هو: مسهر بن مهلهل اليربوعي، كان شاعرا ويتطبب وينجم، وكان ينتاب حضرة الصاحب ويكثر القيام عنده. وله القصيدة الساسانية وشرحها، أعجب بها الصاحب وحفظها. وانظر يتيمة الدهر 3/ 321.
(3) يعني مذهب الاعتزال.
(4) هكذا في البصائر. وفي الأصل «حرها». والبيتان يشيران إلى مسألة حرية الإرادة. وقد قدمت القول فيها.(1/174)
تنكر الجبر وقد أخ ... رجت للعالم (1) كرها
وكان إذا نشط واهتزّ لا يسمع منه إلا حديث عبادة (2)
وجحشويه (3) وأمثال هؤلاء.
وكان يضع على بني ثوابة (4) كلّ حكاية غثّة فاحشة وكان إذا أراد أن ينفي عن نفسه ما يقرف به، قال: قيل لقاضي الفتيان (5): نيك الرّجال ريبة (6). فقال: هذا من أراجيف الزّناة.
وقيل لابن ماسويه (7): الباقلّى (8) مقشورة أصحّ في الجوف.
فقال: هذا من طبّ الجياع.
__________
(1) في الأصل: «في العالم».
(2) مرت ترجمته.
(3) شاعر ما جن عاصر الخليفة المأمون. انظر طبقات الشعراء لابن المعتز 183، تاريخ بغداذ لابن طيفور 166.
(4) مر الحديث عن بني ثوابة.
(5) النادرة في البصائر 1/ 50ب، ونثر الدرر 569.
(6) في البصائر المطبوع 1/ 165: «زينة»، وهو تصحيف.
(7) المعروف بابن ماسويه أخوان: ميخائيل بن ماسويه، ويوحنا بن ماسويه.
وكلاهما طبيب ذو شهرة. انظر الفهرس 411، طبقات الأطباء 1/ 183.
(8) في شرح الفصيح للهروي 68: «وهو الباقلى مشدّد اللام مقصور للفول بلغة الشام، وإذا خففت مددت فقلت الباقلاء»، ومثله في اللسان «بقل».
والنادرة في البصائر أيضا 1/ 50ب.(1/175)
وقيل للوطي: إن اللّواط إذا استحكم صار حلاقا قال: هذا من توليد أصحاب القحاب.
فأمّا الذي يدلّ على كلام المبرسمين (1) والمجانين / ومن قد شهر بالصّرع والماليخوليا (2) فما سمعته يقول لشيخ خراساني قد دعا به وأكرمه وتوفّر له وكلّمه فسمعته يقول: ما يجب أن يكون لا يقتضي، وما يكون منه لا يجب أن يكون، وقد يجب أن يكون ما يكون، ويكون ما يجب أن لا يكون، وإنّما لا يكون ما يجب أن يكون، ويكون ما يجب أن لا يكون لأن [ما لا] (3) يجب أن يكون ليس في وزن ما يكون، والكون والوجوب لا يتلازمان، بل يجتمعان ثم يفترقان، والاجتماع والافتراق عليهما جاريان، فلهذا يرى الواجب كائنا والكائن واجبا، وما أكثر من يظنّ أن الكون متضمّن الوجوب، والوجوب متضمّن الكون، وتحصيل الفضل بينهما بالنّظر من سحر العقل.
__________
(1) المبرسم: المصاب بالبرسام، وهو مرض يعتري الإنسان فيعدم التحكم في قواه العقلية ويأخذ يهذي.
(2) هي، وهي أن يغلب المزاج السوداوي على الإنسان فتكثر أوهامه وتخيلاته.
(3) تكملة لا بد منها.(1/176)
وهذا فنّ لم أجد فيه لمشايخنا شوطا محمودا، ولعليّ أملي فيه كلاما بسيطا بجميع ما يكون شرحا له إن شاء الله.
فلما خرجنا قلت للشيخ الخراسانيّ، وقد أخذنا في المؤانسة وتجاذبنا أطراف الحديث كما قال الشاعر:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (1)
كيف سمعت اللّيلة ذلك الكلام في الكون والايجاب؟
فقال: يا حبيبي! إما أن يكون هذا الرّجل مرحوما (2) في أيديكم أو تكونوا مرحومين في يده. أما في بلدكم مارستان؟ أما للسلطان شفقة على هذا الإنسان، أما له من يأخذ بيده وينصح له في نفسه ويكسح هذا الجزء من عقله، إنا لله وإنا إليه راجعون غمّ (3)
عليّ باسمه عندنا بخراسان، وطنز بنا به في تلك البلدان، وقد كان،
__________
(1) أطراف الأحاديث: ما يستطرف منها. والبيت في الشعراء 11، أمالي المرتضى 2/ 110، أمالي القالي 1/ 266، معاهد التنصيص 1/ 481ضمن أبيات منسوبة لكثير عزة.
(2) تكررت هذه الكلمة في استعمال أبي حيان، ويعني بها أن هذا الرجل في حالة عقلية يرحم من أجلها.
(3) يعني لبّس عليّ. وفي الأصل «هذا الحر عم».(1/177)
والله، يلوح خلل كبير لقوم من أهل العقل والأدب والحكمة من رسائله ورقاعه، وكانوا يحملون الذّنب على الورّاقين.
وقال يوما آخر لابن القطّان أبي الحسن (1) الفقيه المتكلّم:
أيّها الشيخ أنت على الحق؟
قال: نعم.
قال: والله الحق؟
قال: نعم.
قال: فأنت على الله.
فقال القصّار (2): الحمد لله على سرعة هذا الانقطاع، وسطوع هذا البرهان، ولزوم هذا الحكم.
فلما خرج قلنا له: هلّا فصّلت أيها الشيخ وقد عرّض بك، وتضاحك عند الإشارة إليك؟ فقال: وما منا قلتي (3) رجلا لو كان في المارستان مغلولا لكنت لا آمن جانبه إذا كلّمته، فكيف وهو مطلق
__________
(1) لعله أحمد بن محمد بن أحمد البغداذي المتوفى سنة 359هـ. له مصنفات في أصول الفقه وفروعه. الوفيات 1/ 2322، الشذرات 3/ 28، طبقات الشيرازي 92.
(2) كذا بالأصل. والسياق يقضي أن يكون الكلام: «قال ابن القطان».
(3) المناقلة في الكلام: المنازعة والمجاوبة.(1/178)
مطاع، ونعوذ بالله من مجنون قادر مطاع، كما نعوذ به من عاقل ضعيف معصيّ ثم قال: وهذا الكلام من صاحبه سوء أدب، وضعف عقل، وجسارة نفس، واجتلاب مقت، وقلّة دين إن الحقّ والحقّ اسمان يقعان بالاشتراك في اللّفظ على معنيين مختلفين، وأنا على الحقّ، ولكن الحقّ الذي ضدّه الباطل، ولست على الحقّ الذي لا ضدّ له والحقّ يطلق على الله ويراد أنه محقّق، والحقّ يطلق على ما عداه ويراد به أنه محقّق والله الحق المحقّ المحقّق، وما جاوزه فهو الحق المحقّ المحقّق وإذا قيل في وجه آخر: الله محقّق فالمراد به غير هذا، لأنه يراد به أنه مثبت موجود، ومعتقد مشهود له (1) بالوحدة والقدرة والحكمة والمشيئة (2).
وحدّثنا ابن عبّاد يوما قال (3):
ما قطعني (4) إلا شابّ ورد علينا إصبهان من بغداذ (5)، فقصدني
__________
(1) في الأصل: «معتقد مشهور له».
(2) قارن هذه المادة بما ورد في مفردات القرآن للراغب الأصبهاني، ولسان العرب (حق).
(3) هذا الحديث حتى قوله: «ولكن من شاء حمق نفسه»، نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 294، وحتى قوله: «يصفعني بها»، نقله العباسي في معاهد التنصيص 2/ 155.
(4) في الإرشاد «فظعني»، وفي معاهد التنصيص: «أفظعني» وكلاهما تصحيف.
(5) في الإرشاد: «علينا إلى اصبهان بغداذي».(1/179)
فأذنت له، وكان عليه مرقّعة، وفي رجله (1) نعل طاق (2). فنظرت إلى حاجبي، فقال له، وهو يصعد إليّ: اخلع نعلك، قال: ولم؟ ولعلّي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني الضّحك وقلت: أتراه يريد أن يصفعني بها.
وقال لي علي بن الحسن الكاتب:
هجرني في هذه (3) الأيام هجرا أضرّبي، وكشف مستور حالي، وذهب عليّ أمري، ولم أهتد إلى وجه حيلة في مصلحتي، وورد المهرجان فدخلت عليه في غمار الناس، فلما أنشد يونس؟؟؟ (4) تقدّمت وأنشدت، فلم يهشّ لي ولم ينظر إلي، وكنت ضمّنت أبياتي بيتا له من قصيدة على رويّ قصيدتي، فلما مرّ به البيت هبّ من كسله ونظر إليّ كالمنكر عليّ، فطأطأت رأسي، وقلت بصوت خفيض: لا تلم، ولا تزد في
__________
(1) في الإرشاد: «رجليه».
(2) في اللسان (نعل): «و [النعل] الفرد: هي التي لم تخصف ولم تطارق وإنما هي طاق واحد، والعرب تمدح برقة النعال، وتجعلها من لباس الملوك».
(3) في الإرشاد: «في بعض».
(4) هكذا في الأصل. وأقرب القراءات إلى صورة الكلمة التي لم تعجم حروفها: «يونس»، وفي الإرشاد: «فلما أنشدت نوبتين تقدمت». وهي قراءة غير صحيحة.(1/180)
القرحة، فما عليّ محمل (1) وإنّما سرقت هذا البيت من قافيتك لأزيّن بها (2) قافيتي، وأنت بحمد الله تجود بكل علق ثمين، وتهب كلّ جوهر مكنون، أتراك تشاحّني على هذا القدر، وتفضحني في هذا المشهد؟
فرفع رأسه وصوته وقال: يا بنيّ أعد هذا البيت. فأعدته، فقال:
طنّان والله! يا هذا! ارجع إلى أول قصيدتك، فقد سهونا عنك، وطار الفكر بنا في شيء آخر والدّنيا مشغلة، وصار ذلك ظلما لك لا عن قصد منا ولا تعمّد.
قال: فأعدتها وأمررتها وأطربت بإنشادها، وفغرت فمي بقوافيها فلما بلغت آخرها قال: أحسنت، الزم هذا الفنّ فإنه حسن الدّيباجة، وكأن البحتريّ (3) قد استخلفك، واكثر بحضرتنا وارتفع
__________
(1) يقال: ما عليه محمل، أي موضع لتحميل الحوائج. والمعنى: لم أعد قادرا على تحمل اللائمة. وفي الأصل: «على محمل».
(2) في الإرشاد: «لأزين به».
(3) الوليد بن عبيد بن يحيى أبو عبادة الطائي الشاعر المشهور. ولد سنة 206هـ وتوفي سنة 283هـ على خلاف. طبقات ابن المعتز 186، المنتظم 6/ 1411، البداية 11/ 76، شرح المقامات 1/ 36، معاهد التنصيص 1/ 81.(1/181)
بخدمتنا، وابذل نفسك في طاعتنا نكن من وراء مصالحك بأداء حقّك والجذب بضبعك (1) /، والزّيادة في قدرك على أقرانك.
قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير، حتّى عراه ملل آخر، فعاد إلى عادته، ثم وضعني في الحبس سنة، وجمع كتبي وأحرقها بالنّار، وفيها كتب الفرّاء (2) والكسائي (3)، ومصاحف القرآن، وأصول كثيرة في الفقه والكلام، فلم يميّزها من كتب الأوائل، وأمر بطرح النّار فيها من غير تثبّت، لفرط (4) جهله وشدّة نزقه.
أفهذا يا قوم من سيرة أهل الدين، أو أخلاق ذوي الرياسة، أو من جنس ما يعتاد ممن له عقل أو تماسك؟
وهلّا طرح النار في خزانة كتبه على قياس هذا؟ فإن فيها كتب
__________
(1) الضبع: العضد. وجذب بضبعه: أخذ بيده وأعانه.
(2) يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي أبو زكرياء النحوي اللغوي المفسر المشهور، توفي سنة 207، المعارف 237.
(3) علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان أبو الحسن، نحوي مقرىء لغوي، توفي سنة 189هـ. لمعارف 237.
(4) في الإرشاد: «بل لفرط».(1/182)
ابن الرّوندي (1)، وكلام ابن أبي العوجاء (2) في معارضة القرآن بزعمه، وصالح بن عبد القدّوس (3)، وأبي سعيد الحصيري مع غيره من كتب أرسطاطاليس وأشباهه. ولكن من شاء حمّق نفسه.
__________
(1) الوارد في كتب التراجم: «الراوندي»، و «الريوندي»، وكأن حرف المداختلس في الصورة الأولى فتولدت رواية مخطوطتنا. وهو أحمد بن يحيى ابن إسحاق أبو الحسين المتوفى سنة 298هـ. وصفه أبو حيان في البصائر 1/ 56 بقوله: «متكلم بارع وجهبذ ناقد وبحاث جدل ونظار صبور» وابن خلكان بقوله: «وكان من الفضلاء في عصره».
وهو إلى هذه المزايا منبوز بالإلحاد والزندقة والكفر، وله مؤلفات وكتب تشهد إن صحت نسبتها وما فيها إليه بذلك وترجمته في لسان الميزان 1/ 323، المنتظم 6/ 99، الوفيات 1/ 33، البداية 11/ 113، دول الإسلام 1/ 134، عيون التواريخ (نسخة أحمد الثالث 10/ 1510)، تلبيس إبليس 112111، عقد الجمان (نسخة ولي الدين 385ورقة 207)، معاهد التنصيص 1/ 56.
(2) هو عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة، من متكلّمي البصرة، وكان من الزنادقة ينشر شبهه بين الأحداث فيفسد عقيدتهم. فهدده عمرو بن عبيد بكشف أمره. فهرب إلى الكوفة فقبض عليه واليها، من قبل المنصور، محمد بن سليمان وقتله وصلبه. يقول ابن جحر: إنه قتل بعد سنة 160هـ. وقد اعترف حين عاين الموت بأنه وضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها الحلال ويحلل الحرام. ترجمته في لسان الميزان 4/ 5251، الأغاني 3/ 2524، أمالي الشريف المرتضى 1/ 128127، 138137.
(3) صالح بن عبد الله بن عبد القدوس شاعر مجيد تغلب على شعره الحكم،(1/183)
كان الأقطع (1) المنشد الكوفي يقول كثيرا: لو لم تستدلّ على جنون هذا الرّجل وقلّة دينه وضعف عقله إلا بنفاقي عليه لكفى لأني رجل قطعت في اللّصوصية، فما قولك في لص مقامر؟ أقود وألوط وأزني وأنمّ وأضرب (2)، وليس عندي من خيرات الدنيا شيء لأني لا أصليّ ولا أصوم، ولا أزكيّ ولا أحجّ، ونشأت في المساطب والشطوط والفرض والمواخير، ومشيت مع البطّالين سنين وسنين، وجرحت وخنقت وطررت (3) ونقبت (4) وقتلت وسلبت وكذبت وكفرت
__________
وكان من المتكلمين. اتهم بالزندقة فقتله المهدي العباسي. ترجمته وأخباره في البيان 1/ 206، نكت الهميان 171، فوات الوفيات 1/ 245، تاريخ بغداذ 9/ 305303، لسان الميزان 3/ 172، أمالي المرتضى 1/ 146144، عيون التواريخ (حوادث سنة 160)، تاريخ الخلفاء للسيوطي 107، الإرشاد 6/ 286، وانظر حياة الحيوان (أفعى).
(1) في محاضرات الراغب 2/ 312: «وقال الأقطع رفيق الصناديقي:
وقعت إلى بلدة قاصية في خراسان فسألوني: هل تعرف من شعر الصاحب؟
فأنشدتهم:
«بودي لو يهوى العذول ويعشق»
فقال فضولي: هذا للبحتري (ديوانه 1/ 95)، فقلت: لقد قال ذلك رجل بنيسابور فضرب ثلاثمائة سوط فسكت». فلعله الأقطع المنشد.
(2) أضرب: من قولهم ضربت بين القوم في الشر: أغويتهم عليه.
(3) طر الثوب: شقه وقطعه، ومنه الطرّار الذي يقطع كم الرجل وينسل ما فيه.
(4) يعني نقبت البيوت بقصد السرقة. وفي خطبة زياد البتراء (البيان 2/ 63): «من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه»، وانظر عيون الأخبار 2/ 243.(1/184)
وشربت وسكرت وشابكت (1) وساكت (2) وما حكت (3)
ودامكت (4). ولم يبق في الدنيا منكر إلا أتيت، ولا خنى إلّا ركبت وهو على هذا يغري بي ويلجّ معي ويؤذيني ويمنعني من الرّجوع إلى بيتي وامرأتي، قد حبسني في داره هكذا، فإذا اغتلمت جلدت عميرة ضرورة.
وصدق هذا الشيخ، كذا كان مذهبه، وعليه شاخ، ولكنّ ابن عبّاد كان يتعلم منه كلام المكدين، ومناغاة الشحّاذين، وعبارة المقامرين ومن يصرّ في اللعب بالكعبتين، ويضجر ويكفر وينخر ويشقّ المئزر، ويبزق في الجو وكان لا يجد هذا عند أحد كما يجده عنده، فلذلك كان يتمسك به.
وكان الكوفي هذا، مع ما وصفناه، طيّبا مليحا نظيفا ظريفا فصيحا، وهو الذي حدثنا عن بعض أصحابه في المسطبة.
قال: قلنا له: إنك تحبّ الطّيب، وتلهج بالنكاح وتفرط.
__________
(1) شابكت: خاصمت.
(2) كذا بالأصل.
(3) لا ججت.
(4) نكحت.(1/185)
قال: فقال لنا: والله ما أقتدي في هذا إلا بنبيّنا صلى الله عليه، فإنه قال: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاثة الطّيب والنّساء (1)».
قال: فقلنا له: ففي الخبر: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة (2)» وأنت لا تصلّي أصلا.
فقال: يا حمقى لو صليت لكنت نبيا، وقد قال صلى الله عليه:
«لا نبيّ بعدي (3)».
ورأيت الأقطع هذا واقفا بين يدي ابن عبّاد في صحن الدار، وذاك أيضا واقف، فطلع [أبو (4)] صالح الورّاق (5)، فقال ابن عبّاد حين نظر إليه وإلى لحيته المسرّحة:
ولحية كأنّها القباطي
فقال الأقطع بلا وقفة:
جعلتها وقفا على ضراطي
__________
(1) الحديث في مسند الإمام أحمد 3/ 128، 199وسنن النسائي 2/ 156 157باختلاف يسير في ألفاظه.
(2) الحديث في المسند 1/ 184.
(3) تكملة عن الفهرست والفخري.
(4و 5) عبد الله بن محمد بن يزداد بن سويد، أحد الكتاب البلغاء. ذكره ابن النديم 179، الفخري 208.(1/186)
وكان [أبو] صالح هذا يقول: أنا من ولد محمد بن يزداد (1)
الوزير.
وكان ابن عبّاد يطالب الأقطع بأن يحفظ قصائده في أهل البيت وينشدها الناس على مذهب النّوح، وكان يعطيه على كل بيت درهما، وإذا لم يحكم ضربه لكلّ بيت ضربة بعصا عجراء (2). فكان الأقطع المسكين كلّ يوم يضرب.
فقلت له: من كلّفك الصبر على هذا الضرب؟ احفظ كما كنت تحفظ واربح الدّراهم، وتخلّص من الألم.
فقال: والله لو ضربني بكلّ عصا في الأرض كان أخفّ عليّ من حفظ شعره الغثّ، وإنشاد قافيته الباردة، والله وإن شعره في أهل البيت خراء. فهذا قوله.
وكان لا يدع الأقطع لينصرف إلى منزله، وكان يشكو الشبق، وكانت امرأته تأتيه في كل قليل إلى دهليز الباب وتغيّر ثيابه، وتصلح أمره، وتحدّثه وتنصرف بشيء معه قد جمعه فصادف الأقطع
__________
(1) محمد بن يزداد بن سويد أبو عبد الله، وزر للمأمون. ترجمته فى الفخري 208، الفهرست 179.
(2) عجراء: ذات عقد.(1/187)
يوما الدهليز خاليا، وكانت الهاجرة منعت من الحركة، فراودها وطرحها في المكان المتخطّى وتقمّمها وأخذ في عمله، فرمقه بعض السّتريين فعدا ورفع الحديث إلى ابن عبّاد، وذكر الحال والصورة، فهاج من مقيله البارد ومكانه الظليل، وحشيته التي قد استلقى عليها، حاسرا حافيا، قد جعل طرف كمه على رأسه بلا سراويل، ولقط قدمه لقطا حتى وقف على الأقطع وهو يكوم يولج ويخرج ويرهز ذاهب العقل.
فقال له: يا أقطع ويلك يابن الزّانية إيش هذا في داري!؟
فقال: أيها الصاحب! اذهب ليس هذا موضع النظارة، هذه امرأتي بشهود وعدول وعقد وقبالة، اذهب اذهب، يهذي ولا يعقل حتى أفرغ، وسيّدي على رأسه يضحك ويصفّق ويرقص. ثم أخذ بيده على تلك الحال، وهو يشد تكّته، وابن عبّاد يعينه، وأدخله إلى / مقيله يعاتبه ويسأله عن العمل والحال؟ وكيف استطابه وكيف هاج؟
ثم خلع عليه ووهب له، ووهب لامرأته ثيابا وطيبا.
أفهذا من المروّة والفضيلة وأدب الرياسة وآيين الوزارة (1)؟
__________
(1) آيين الوزارة: رسمها وما يوجبه من سمت وزيّ وصورة. يقول أبو حيان في البصائر 1/ 26ب: «آيين: لفظ فارسي وهو يراد به السيرة والصورة والزي والرسم، وما تعرفه العرب إنما ألقى الشىء على حد ما سمعته الأذن ووعاه الصدر». وانظر التنبيه والإشراف للمسعودي 91.(1/188)
أهكذا كانت البرامكة (1) وهو لا يرضاهم؟
أم هكذا كان حامد بن العباس (2)، والعباس بن الحسن (3)، وآل الفرات (4)، وآل الجرّاح (5)، وهو لا يزنهم بشيء فيمن تأخّر؟
إن من يستحسن هذا وأمثاله، ويعذر أهله في الرياسة والجلالة
__________
(1) بيت البرامكة عريق في النباهة والذكر الحسن. وفي «معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الاسلامي» ص 13من الترجمة العربية: ذكر لرجال هذا البيت.
(2) وزير المقتدر بعد عزل ابن الفرات، وحين عاد ابن الفرات إلى الوزارة قتله، وذلك سنة 311هـ. الفخري 242، المنتظم 6/ 147، 148، 180 184، الوافي (شهيد علي 1967، الورقة 72ب 74)، ابن الأثير 8/ 4937.
(3) كتب للقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد مدة، ثم ولي الوزارة في سنة 291هـ للمكتفي، ولكنه أهمل شؤون الدولة فوثب عليه جماعة فقتلوه في أيام المقتدر. تحفة الأمراء 390387، الفخري 234233.
(4) الحديث عن بيت بني الفرات ومشاهيره في شرح المقامات 1/ 335 336، الفخري 240239، معجم الأنساب والأسرات ص 17، الوفيات 1/ 470، 471.
(5) ذكر هذا البيت ورجاله ابن النديم فى الفهرست 186185، وانظر تاريخ بغداد 5/ 255، الفخري 241، 253، فوات الوفيات 2/ 202، الوفيات 1/ 472، 473.(1/189)
لضعيف النّحيزة (1) سليب المروّة وإن من ينظر هذا وشبهه لصفيق الوجه قليل المعرفة.
وقال لابن الزّيات المتكلّم يوما في مناظرته: لا تعبث بلحيتك.
فقال ابن الزيات: وما عليك منها؟ هي لحيتي.
قال: أنا سلطان.
قال: أفي عهدك النظر في لحيتي؟
قال أصحابنا: بل قال له: أنا سلطان، وإذا خرجت من عندي ولحيتك على غير الشكل الذي دخلت عليّ به ظنّ الناس أني ظلمتك فيها عند المناظرة والخلاف، وأنا أحبّ صيانتك وصيانتي عند الناس بسببك.
وقلت لابن الزّيات ببغداد: كيف رأيت ابن عبّاد؟
قال: هو كالحر، لا يرجع إليه من خرج منه.
وقلت للجيلوهي (2) الشاعر، وكان شيخا له تجربة ومعرفة بأيام الناس ومشاهدة: حدّثني عن ابن عبّاد.
__________
(1) النحيزة: الطبيعة.
(2) فى الأصل والامتاع 3/ 28بالحاشيه: «الجيلوهي؟؟؟». وعادة ناسخ الكتاب أن يضع تحت الحاء حاء صغيرة، ولم يفعل هنا فقرأتها بالجيم. ولم أعرف الشخص.(1/190)
قال: مغرور من نفسه لمواتاة جدّه، وتصديق ذوي الأطماع في جميع دعواه، وما أحوجه إلى إنصاف الناس من نفسه بأحد شيئين: إما بأن لا يدّعي الكمال، أو بأن لا يبكّت الرجال فلا هو بريء من النّقص، ولا هو غير مستحقّ للتّبكيت وليس من لا يمكن أن يواجه بالنّقص الذي فيه وبالتّوبيخ الذي يستحقّه على فعله، ليد له في السلطان قوية، وشمس له في الدّولة طالعة ينبغي أن يركب هام الناس ويأكلهم بلسانه فريح الدّولة قد تركد، والضّعف يزول، والحشم يتحوّل، وقد يقال وراء ظهره ما يربي على ما هو عليه، ولو قصر يده على فضله الذي له لم تشلّ، ولو وقف قدمه عند غايته لم تزلّ، ولكنه يجري طلقا (1) ثم يكبو، وينصلت للقراع ثم ينبو، ويتطاول إلى ما لا يناله ثم يخبو وهذا طريق الجاهلين المغترين.
ثم قال: والكذب من آفاته، وهو خلق يعرّ (2) المروّة ويشين الديانة، ويسقط الهيبة، ويجلب الخزي، ويستدعي المقت، ويقرّب الموت وقلّ من لهج به إلا كان حتفه فيه، وما رئي شيء أمحى لنضارة (3)
الوجه ولبهجة العلم ولزينة البيان منه.
__________
(1) الطلق، بالفتح: الشوط.
(2) يعر المروءة: ينقصها.
(3) في الأصل: «أمحا لنضارة».(1/191)
قال: وعلى ذلك فما رأيت رئيسا يحسّن ما يحسن من الإحسان [إلا وهو] (1) مردود بالتنكد، لأنه ما هنّأ قطّ بنعمته، ولا أمتع بإحسانه. ولا ترك له يدا بيضاء عند أحد إلا وكرّ عليها بالتسويد.
قال: وقد شاهدت النّافقين عليه، والمتقدّمين لديه، ووقفت على مواتّهم (2) ووسائلهم وأسبابهم وذرائعهم فلم أجد فيهم إلا مخشيّ اللسان استكفّ شرّه بالإحسان كالخوارزمي (3) وغيره، أو مرتبطا لأمر يراد منه لا يفي به سواه كالهمذاني (4) ومن جرى مجراه، أو ملعوبا به قرّب على ظنّة وريبة وحال زائدة على القبح والفضيحة، كفلان وفلان وهم الدّهم ولم أجد في ضروب المتوسّلين إليه، بعد هؤلاء، من وصل إلى درهم من ماله إلا ببذل النفس وإذالة (5) العرض، ومواصلة البكور
__________
(1) تكملة تقتضيها صحة الكلام.
(2) الماتة: الوسيلة، والجمع: المواتّ.
(3) تقدمت ترجمته.
(4) الظاهر أنه بديع الزمان أحمد بن الحسين المتوفى سنة 398هـ إذ له صلة بالصاحب. الوفيات 1/ 4847، معاهد التنصيص 2/ 34.
(5) إذالة العرض: إهانته وابتذاله.(1/192)
والرّواح واستنشاق الغبار والرياح وتجرع العبط (1) والكدّ، ومزاحمة أهل الجهل والنقص، ومغالبة ذلّ الحجاب وسوء أدب البوّاب والرّضا بالهزء والسخرية وما ابيضّت له يد عند أحد، ولا تمّت له نعمة على أحد، لملله وحسده، وضجره ونكده، وامتنانه وكثرة ذكره لفضله ومدحه لنفسه. والعرب تقول في حكمها: المنّة تزري بالألبّاء.
على أن (2) عطاءه لا يزيد على مائة درهم وثوب إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى ألف نادر، وما يوفي على الألف بديع (3)، بل قد (4) نال به ناس من عرض جاهه على السنين ما يزيد قدره على هذا بأضعاف، وعدد هؤلاء قليل جدّا، وذلك أيضا بابتذال النّفس وهتك السّتر، والإفراج عن الدين والمروّة والعرض والأنفه.
قال: وأيّ عقل يكون لمن يقول: لم يكن في الدّولتين الأموية والعباسية مثلي، وهذا الكلام قد دوّنه في بعض كتبه وقد حكيت هذا بمدينة السّلام فسمعه قوم كرام يرجعون إلى فضل كثير وبصائر
__________
(1) العبط: التنقص والشتم.
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 304.
(3) يعني إذا جاوز عطاؤه الألف كان حدثا مبتدعا لم يسبق له نظير.
(4) في الإرشاد «بلى».(1/193)
حسنة منهم ابن البقّال الشاعر (1)، ومحسّن ابن التنوخي (2)، وابن فتاش المصري (3) فضحكوا وهزئوا، وشعثوا عرضه، وجحدوا محاسنه التي لو سكت عليها لسلمت له، ولادّعى في جملتها أكثر مما يدّعيه لنفسه ولعمري ما كان له فيمن تقدّم في الدولتين مثل ولا شبيه، ولكن في الخلاعة والمجون، والرّقاعة والجنون.
قال: ومن العجب أنه يدّعي «العدل والتوحيد (4)» وهو لا يفيق من قتل / من ظنّ به عداوته والوقيعة فيه، أو القدح في رقعة له، وإن كان ذلك الإنسان من الصّالحين العابدين.
__________
(1) علي بن يوسف البغداذي أبو الحسن ابن البقال، شاعر مجيد ناقد يقول المتنبي، وقد أنشد ابن البقال بحضوره قصيدة: «ما رأيت ببغداذ من يجوز أن يقطع عليه اسم الشاعر إلا ابن البقال». ترجمته في الإرشاد 5/ 507 517، 5/ 158157.
(2) المحسن بن علي بن محمد أبو علي التنوخي أخباري أديب شاعر، وكان قاضيا برامهرمز والأهواز. ولد بالبصرة سنة 327أو 329هـ، وتوفي سنة 384أو 383هـ. الإرشاد 6/ 267251، عيون التواريخ (حوادث سنة 383).
(3) في الإرشاد 2/ 123: «وحدث أبو جعفر طلحة بن عبد الله بن قناش صاحب كتاب القضاة قال: كنا بحضرة سيف الدولة، وقد كان من ندمائه» فلعله «ابن فتاش» هذا صحف إلى «قناش».
(4) مر تفسير العدل والتوحيد ص 154153في الحواشي.(1/194)
ولقد (1) بلغ من ركاكته أنه كان عنده أبو طالب العلويّ، فكان إذا سمع منه كلاما يسجع فيه، وخبرا ينمّقه ويرويه، يبلق (2)
عينيه وينشر (3) منخريه، ويري أنه قد لحقه غشي حتى يرشّ على وجهه ماء الورد. فإذا أفاق قيل له: ما أصابك؟ ما عراك؟ ما الذي نابك (4) وتغشّاك؟
فيقول: ما زال كلام مولانا يروقني ويونقني حتى فارقني لبّي وزايلني ذهني (5) واسترخت (6) له مفاصلي وتحلّلت (7) عرى قلبي وذهل عقلي (8) وحيل بيني وبين رشدي فيتهلّل وجه ابن عبّاد عند ذلك، وينتفش ويضمحل (9) عجبا وجهلا، ثم يأمر له بالتكرمة والحباء والصّلة والعطاء، ويقدمه على بني (10) عمه وبني أبيه.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 304.
(2) يفتحهما فتحا شديدا.
(3) يبسطهما وينشرهما.
(4) في الإرشاد: «نالك».
(5) في الإرشاد: «عقلي».
(6) في الإرشاد: «وانشرحت» تصحيف.
(7) في الإرشاد: «وتخاذلت».
(8) في الإرشاد: «ذهني».
(9) كذا بالأصل، وفي الإرشاد: «ويضحك»
(10) في الإرشاد: «على جميع بني».(1/195)
ومن ينخدع هكذا فلا يكون ممن له في الكتابة قسط، أو في التماسك نصيب، وهو بالنساء الرّعن والصبيان الضعاف أشبه (1) منه بالرؤساء والكبار.
وحدثني الشاذياشي قال: حجبت مدة عنه فضقت ذرعا بذلك، فإن الجاه الذي كنت مددته انزوى، والأمر الذي قوّمته تأوّد، وأخذت المادّة تقف، والحال ينقص، والذّكر يقلّ، فأحييت الليل أرقا وفكرا فيما أعتلّ فقدح لي الخاطر بحيلة، فأصبحت وكتبت رقعة ذكرت فيها:
«إني رجل امتحنت بما لم يمتحن به أحد غشي بابك، ونال إحسانك واستمرع فناءك، واستحصد جنابك إني بعد هذا الدأب الشديد، والنّصب المتّصل، والقراءة والنّسخ، والبحث والمناظرة، والصّبر والمناصحة، قد شككت في مسائل «الأصول الخمسة (2)» التي عليها مدار المذهب (3)، وركن المقالة، وهذه محنة بل فتنة، بل شيء فيه
__________
(1) في الإرشاد: «أمثل».
(2) هي: «العدل التوحيد المنزلة بين المنزلتين الوعد والوعيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
(3) يعني مذهب الاعتزال.(1/196)
هلاكي وخسران عملي، وذهاب عمري، فالله الله فيّ، تداركني فإني من الأموات بين الأحياء، غريب الدّار، خائب الأمل، بائر البضاعة، خاسر الصّفقة، طلبت الزيادة على ما كان عندي فأتلفت ما كان معي».
قال: فلما قرأ الرّقعة قلق في نصابه (1)، وأقبل على أصحابه وقال: مسكين الشاذياشيّ لقد نزل به أمر عظيم، وحلّ به خطب جسيم، ودهي في دينه، وأصيب بيقينه إن هذا لهو البلاء المبين.
عليّ به، هاتوه البائس. ودعيت فأدناني ولا طفني، وقال لي: ما هذا الشكّ الذي اعتراك، وأين أنت عن القاضي أبي الحسن حتى يحلّ ذاك؟
قلت: لست أثق إلا ببيان مولانا، ولا عجب من بيانه، ولكن العجب من إنصافه مع سلطانه، وحسن إقباله مع أشغاله.
قال: فانفسخ عقده، وابتلّ شنّه (2)، واستحال ذلك الملل استطرافا وذلك النّبوّ (3) استعطافا، وأقبل يقول: هات، وأنا
__________
(1) النصاب والمنصب: العلو والرفعة، وما يتولاه الإنسان من العمل كأنه محل ينصب فيه للحكومة. وانظر شفاء الغليل 204.
(2) الشن: القربة البالية. وابتلال الشن كناية عن لين الجانب.
(3) النبو: الجفوة.(1/197)
أهاتيه (1) هكذا أياما وليالي، أتأطّر (2) له تارة بالاستحسان والقبول، وأتعسرّ عليه تارة بالتّوقف والفتور، ولا أفارق الكيس والحيلة، حتى استنفدت قوّته وقوّتي له، ثم قبّلت أطرافه وتباكيت، وقلت:
يا مولانا أسلمت على يدك، ونجوت من النار بإرشادك.
فقال: يا أبا عليّ! اكثر عندنا، واقتبس علمنا. قد ذلّلنا لك الحجاب، وتقدّمنا بذلك إلى الحجّاب، فاسكن واطمئن، وطب نفسا وارفئنّ (3)، ولا تقلق فترجحنّ (4).
قال: فانصرفت من مجلسه قرير العين، ممدود الجاه، مملوء اليد، ونفسي ريّا بكلّ أمل، وتفتّحت عليّ أبواب الرّزق، وجمعت إجّانة (5) كبيرة خضراء دنانير.
قال الجيلوهي: وحديث هذا الرجل ذو شجون، على أنك إذا أنصفت لم تجد له نظيرا في دهرك، ومتى بليت به طلبت الخلاص منه ولو بفقرك.
__________
(1) أهاتيه: أعاطيه.
(2) أتثنّى وأتمايل له، أظهر له العجز عن إلفهم.
(3) ارفأن: سكن.
(4) ارحجن: سقط.
(5) إجانة: إناء.(1/198)
قال: وما أخوفني أنّى إذا دفعت إلى غيره بعده تمنّيته، فأكون كما قال الأول (1):
عتبت على بشر فلما فقدته ... وجرّبت أقواما بكيت على بشر
هكذا أنشد، وغيره ينشد: «على عمرو» والصحيح «على سلم» وله حديث (2).
قال: ومن خواصّ ما فيه حبّه للعامّة، وذاك بقدر بغضه للخاصّة.
وقد قال يوما: أنا أعلم أنّ الحجاب قبيح وبغيض، والصّبر عليه متعذّر، وهو الذي يورث العداوة الشديدة، ويبعث على القالة الشنيعة، ويمحو كلّ حسنة، ويهجّن كلّ نعمة، ويثير كلّ نقمة، ويبدي كلّ عورة، ويبرز كلّ سوأة وقد دهي الناس منه قديما وحديثا، لكنّي
__________
(1) هو نهار بن توسعة كما في عيون الأخبار 2/ 4والصداقة 50، والرواية فيهما: «على سلم»، وعقب عليه ابن قتيبة بقوله: وهو مثل قولهم: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه.
(2) في زهر الآداب ص 1064: «وكان ابن أبي عرادة (وفي شرح المقامات 1/ 105: ابن أبي عيزارة) السعدي مع سلم بن زياد بخراسان، وكان له مكرما فتركه وصحب غيره فلم يحمد أمره فرجع إليه وقال:
عتبت على سلم فلما فقدته ... وجربت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرء بعد طول من السقم(1/199)
أتلذّذ به، ولست أجد طعم هذه المرتبة العلية، ولا أعرف ثمرة هذه الحال السّنية إلّا بعد أن أحتجب ويقف الناس على منازلهم بالباب، وأعلم أنّ صدورهم تغلي بالغيظ، وألسنتهم تجري بالعيب، وأهواءهم تأتلف على القلى والبغض فإن الحديث ينخرق بكلّ معنى إلى سوء، ولكن لا أسمح بحلاوة / الدّولة، وبجلالة الصّولة، وبهيبة المكانة، وبما إن سهوت عنه صرت إلى المهانة.
قال هذا الشيخ:
وهذا قول من نصّ الله على خذلانه، وأسلمه إلى حوله، وأنطقه بلسان إبليس الذي هو عدوّ الله، ولا شك أن هذا المذهب من علامات الشّقاء في الدنيا، وآيات الخسران في العاقبة، ولن يقدم عليه إلا من قد سمح بعرضه، واستهان بشنيع القالة في نفسه وأبيه وعمّه وأسرته، وجميع من ضرب في مذهبه بسهم، وشابهه بوجه.
وحدثني ابن الثلّاج المتكلم (1)، وكان ديّنا صدوقا، قال: العجب
__________
(1) عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغداذي أبو القاسم الشاهد، ولد سنة 307، وتوفي سنة 387هـ. ترجمته في تاريخ بغداذ 10/ 138135، المنتظم 7/ 193192، الوافي (شهيد علي 1968، الورقة 161ب)، الشذرات 3/ 122.(1/200)
أن ابن عبّاد يدّعي أنّه قرأ على شيخنا أبي عبد الله البصريّ (1)، ولقد كذب في دعواه وفجر في قوله لقد ورد علينا بغداذ وهو ينصر ابن كلّاب (2) على حدّ المبتدئين، فحمله مسكويه إلي، ثم دخل الواسطيّ عليه وفتح باب المذهب له، ولم يكن غير ذلك.
وكان أبو عبد الله (3) لا يعرفه ولا يعدّه، لأنه كان لا يدري ما يكون منه ويصير إليه في الثاني.
__________
(1) الحسين بن علي بن إبراهيم البصري أبو عبد الله المعروف بالجعل وبالكاغدي، متكلم معتزلي نابه الذكر، وله مصنفات. ولد سنة 292 (الذهبي 293)، وتوفي سنة 369هـ. تاريخ بغداذ 8/ 73، المنتظم 7/ 101، طبقات الشيرازي 121، عيون التواريخ (سنة 369)، الجواهر المضية 2/ 260، الشذرات 3/ 68. وعمره نحو ثمانين سنة (تاريخ الاسلام أيا صوفيا 3008، 12/ 91).
وفي الفهرست 248، الفوائد البهية (طبع الحجر) 31، لسان الميزان 2/ 303:
أنه توفي سنة 399هـ ولعله تصحيف.
(2) عبد الله بن محمد القطان أبو عبد الله، متكلم جدلي، له مناظرات مع المعتزلة وربما وافقهم. توفي في حدود سنة 240. الفهرست 256255، الوافي (شهيد علي 1968، الورقة 160)، 165ب)، طبقات السبكي 2/ 51 52، نثر الدرر 800.
(3) يعني أبا عبد الله البصري.(1/201)
وما قدر كويتب يرد مع صاحبه، لا سنّ له ولا شهرة، ولا إفضال ولا توسّع، ولا حاشية ولا حشم؟
ودارت الأيام ودالت الأحوال، فكتب هذا الشيخ (1) إلى هذا الإنسان بعماد الدين وأنا أبرأ إلى الله من دين هذا عماده وكتب هذا إلى ذاك بالشّيخ المرشد، وأيّ إرشاد كان عنده؟ وكيف يكون مرشدا من ليس برشيد؟ وكيف يكون رشيدا من لا يفارق الغيّ؟
إن كنت تشكّ في أمره فانظر إلى غلمانه: الرّازي، وابن الغازي، وابن طرخان، والبزاز، والنّصيبي أبي إسحق (2) والصّيرفيّ، والهمذانيّ والدّامغانيّ عصابة الكفر، ما فيهم من يرجع إلى ورع وتقى، أو إلى مراقبة وحياء أو هدى.
ولقد رأيت أبا عبد الله البصري في مجلس عز الدّولة (3) سنة ستين في شهر رمضان، والجماعة هنا: أبو حامد المرورّوذي (4) وأبو بكر
__________
(1) يعني أبا عبد الله البصري.
(2) تأتي ترجمته.
(3) عز الدولة أبو منصور بختيار بن معز الدولة المتوفى سنة 367هـ. وانظر ترجمته في الوفيات 1/ 109108، عقد الجمان (سنوات 356، 357، 367)، أبي الفداء 2/ 125112، المنتظم 7/ 9589، عيون التواريخ (سنة 367)، اليتيمة 2/ 54 (بيروت).
(4) تأتي ترجمته.(1/202)
الرّازي (1)، وعلي بن عيسى (2)، وابن نبهان، وابن كعب الأنصاري (3)
والأبهري (4) وابن طرارة (5)، وأبو الجيش شيخ الشيعة وابن معروف (6)
وابن أبي شيبان، وابن قريعة (7)، وناس كثير، وهو في إيوان
__________
(1) أحمد بن علي الحنفي أبو بكر المعروف بالحصاص من أصحاب الرأي، وكان يميل إلى الاعتزال. توفي سنة 370. الفهرست 294293، تاريخ الاسلام للذهبي (أيا صوفيا 3008، 12/ 97)، المنتظم 7/ 106105، عيون التواريخ 11/ 162 (أحمد الثالث).
(2) هو الرماني وتقدمت ترجمته.
(3) علي بن كعب الأنصاري المعتزلي أبو الحسن. وصفه أبو حيان في الصداقة 39بقوله: «الداهية التي لا ترام» وفي البصائر 2/ 8ب بقوله:
«وكان أديبا متكلما جاحظيا قويا، وكان يذهب مذهب ابن الإخشيذ».
وانظر عيون التواريخ (نسخة الفاتح الورقة 6ب).
(4) لعله أبو سعيد الأبهري، وقد تقدمت ترجمته.
(5) هو المعافى بن زكرياء بن يحيى بن حماد النهرواني أبو الفرج الجريري العلامة، ولد سنة 305أو 303، وتوفي سنة 390هـ. الارشاد 7/ 162 164، الفهرست 329328، الوافي (شهيد على 1971الورقة 68ب 70). عيون التواريخ (سنة 390)، ذيل التجارب ص 375، تاريخ الاسلام (أيا صوفيا 3008، 12/ 208) المنتظم 7/ 214213.
(6) أبو محمد عبيد (عبد) الله بن أحمد بن معروف القاضي البغداذي المعتزلي المتوفى سنة 381هـ. المنتظم 7/ 166، اليتيمة 2/ 269، تاريخ الاسلام (3008، 12/ 160)، دول الاسلام 1/ 170، الوافي (شهيد علي 1968 الورقة 21ب)، عيون التواريخ (سنة 381).
(7) محمد بن عبد الرحمن بن قريعة (مصغرا) أبو بكر البغداذي القاضي(1/203)
فسيح في صدره من حضروا من أجله، وأبو الوفاء المهندس (1) نقيب المجلس ومرتّب القوم.
فسئل البصري عن مسألة فأظهر أنه في بقية علّته، وأنه لا يقدر على الكلام.
ثم قام عليّ بن عيسى الشيخ الصالح وقال: هذا مجلس يبتهى (2)
بحضوره لشرفه، ويفتخر بالكلام فيه لكثرة من يعرف وينصف، والمغالطة فيه مأمونة، وليس في كلّ أوان يتّفق هذا الجمع، وبيننا وبين هذا الشيخ، يعنى أبا عبد الله، مسألة من أجلها ومن أجل نظائرها قد استجاز تكفيرنا وتفسيقنا والتّشنيع علينا وتنفير المقتبسين
__________
المتوفى سنة 367أو 368هـ. المنتظم 7/ 9291، عقد الجمان (سنة 367) اليتيمة 2/ 14 (بيروت) عيون التواريخ (11/ 49. أحمد الثالث) تاريخ الإسلام (أيا صوفيا 3008، 12/ 81ب)، البداية 11/ 292، أبو الفداء 2/ 122 123، الوفيات 1/ 655.
(1) محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني المتوفى سنة 387هـ. وصفه أبو حيان في الصداقة 32. وترجمته في الفهرست 395394، تاريخ أبي الفداء 2/ 140، تتمة صوان الحكمة 147 (نسخة كوپريلي)، أخبار الحكماء 188 189، الوفيات 2/ 106.
(2) ابتهى بالشيء: أنس به وأحب القرب إليه.(1/204)
منّا، وها أنا قد ابتديت سائلا فلينصر مذهبه كيف شاء، وإنما هو دين، فيجب أن نبحث عنه من العارفين.
فقال عزّ الدولة: كلام منصف، ما أسمع بأسا ولا أرى ظنّة، يحثّ بذلك على الجواب.
فاصفرّ أبو عبد الله وقلق، وفطن أبو الوفاء وكان ضلعه (1) معه، وصفوه له، فحال بينه وبين الأمير وقال: الشيخ عليل، وإنما حضر للخدمة، وبعض غلمانه ينوب عنه، ولا ينبغي أن يتعب فيحمى جسمه، ويخاف نكسه، ويصير ما قصد من قضاء حقه في التجمّل بحضوره سببا للتألم.
ثم أقبل أبو الوفاء على عليّ بن عيسى فقال: يكلّمك أيها الشيخ من غلمانه من تحب.
فقال: لا حاجة إلى الكلام مع غلمانه، إنّما كان الكلام معه هو القصد، لأن الاجتماع بيننا يقلّ، ولأنّ الخصومة تكون معه الفيصل، وذاك أنه يكتب كلامي سائلا، وكلامه مجيبا، ثم لا نزاع.
فأمّا أصحابه فإنهم يكلّمون أصحابي وذاك قائم بينهم، وكانت
__________
(1) ضلعه: ميله.(1/205)
البغية قطع المادّة، وحسم الشّغب، وبلوغ الحدّ، وإذا وقع الإباء فلا لجاج، وإذا عرف المراد فلا حجاج.
ثم قال عز الدولة: هاتوا شيئا آخر قبل أن يتصرّم النهار بما ليس له درّ، وكان فصيحا.
فأعرض (1) أبو الجيش الخراساني وكان متكلّم الشيعة، فسأل عن القرآن وقال: أروني من القرآن تنزيله على هيئته الأولى حين نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه، فتلاه على أمّته بلسانه، فإني أجد عند حملته اختلافا كثيرا في تحريفه وتصحيفه، ونقصه وزيادته، وإعرابه وغريبه ووضعه وترتيبه ولهذا وأشباهه اختلف في تأويله، وشكّ في تنزيله، وكثر خوض الناس فيه وفي تفسيره، والاحتجاج له وقد سبق علمي أن كلام الله لا يكون في حكم كلام عباده، وأن ما يجوز على ذلك لا يجوز على هذا، لأن الله حكيم كريم رحيم، والحكمة والكرم والرحمة تأبى ما تصفون به كتاب ربّكم، وتستجيزونه في كلام خالقكم.
قال: وهذا الذي قلت بيّن معروف القرأة تختلف / ضربا
__________
(1) أعرض: ظهر.(1/206)
من الاختلاف، والنّقلة تختلف ضربا آخر، والفقهاء تختلف على قدر ذلك ضربا آخر، وكذلك أصحاب الكلام وحتّى أفضى هذا إلى طعن الزّنادقة فيه، وانجرّ عليه قدح الملحدين به، وقال كلاما كثيرا من هذا الجنس، فكلّهم كاع (1) عن الجواب، وكاد أبو الجيش بعد تذرّعه بالقول يشمت ويبالغ في التّشنيع.
فقال عزّ الدولة: يا أبا الجيش أنت في معركة لا مبار لك فيها، فافر كيف شئت وذر، والله المستعان.
فانبرى أبو حامد وتكلّم بملء فيه، ومحق أبا الجيش وبيّض وجوه الناس.
فلمّا خرج قال له محمد بن صالح الهاشمي: لقد دعمّت الاسلام بدعامة لا يزعزعها الزّمان، ولقد حصّنت الدّين حصانة الله يجزيك عنها، ورسوله صلّى الله عليه يكافئك عليها.
ولولا أن هذه الرسالة لا تحتمل المسألة والجواب بما فيها من فنون القول لأتيت بالمجلس على وجهه.
__________
(1) كاع: جبن.(1/207)
فهذا كان اقتدار البصريّ جعل (1) في المناظرة، وقوّته عند لقاء الخصم ونصرة المذهب والدّين.
ولقد ذكا عينا عشرين سنة على صاحب بغداذ لصاحب (2)
حتى آلت الأمور إلى ما عرفه الصّغير والكبير بأصحابه أصحاب المحابر والأقلام والكراريس.
ولقد بلغ من قلّة دينه أنه صنّف رسالة ذكر فيها الدّلالة على أنه (3)
هو المهدي المنتظر. [قال] (4): فإن معنى المهدي أن الله هداك، وهدى أهل العدل والتوحيد لك وأمّا المنتظر فلأنّا كنا ننتظرك بالعراق وهذه الرسالة مشهورة آخر ما رأيتها عند أبي عبد الله المذهّب مكتوبة بالذّهب، وحملت في جملة الهدايا إلى قابوس (5).
__________
(1) بوزن هبل: لقب أبي عبد الله البصري. ذكره ابن حجر في «الألقاب»، ويأتي في شعر الصاحب.
(2) بياض بالأصل.
(3) يعني الصاحب ابن عباد.
(4) تكملة لا بد منها.
(5) شمس المعالي قابوس بن وشمكير الديلمي صاحب جرجان، المتوفى سنة 403هـ. عيون التواريخ (سنة 366، 304) أبو الفداء 2/ 125، 150، المنتظم 7/ 265264، الإرشاد 6/ 144143وفي الامتاع 2/ 117إشارة إلى الهدايا وشهرتها.(1/208)
وسمعت أبا محمد الفرغانيّ الحنيفي يقول: ما خلوت بفكري في أمري وملازمتي هذا الرجل يعني البصريّ إلا ظننت أن الله تعالى يرسل عليّ صاعقة أو يجعلني آية وعبرة باقية.
وأما ابن أبي كانون (1) فإني قلت له يوما: ما لي أراك واجما من غير عارض، وطويل السّكوت من غير عيّ، وكثير الفكر من غير وسواس، وشديد الحزن من غير إفلاس؟ ليس لك أنس بالجماعة، ولا تفكّه بالمحادثة، ولا استمتاع بالمجالسة، بعد ما عهدتك في حدثان مقدمك وأنت تتّقد كالنّار، وتزخر كالبحر، وتأرن (2) كالمهر، وتذكو كالعنبر.
فقال: ومن أولى بالبال الكاسف والغمّ الطويل والأرق الدّائم منّي؟ فارقت وطني وأهلي وإخواني ومعارفي وجميع ما كنت آلفه وأحيا به، وأشتمّ روح العيش منه، وتجرّعت مرارة بعدي عنهم، وصبرت نفسي على ما نالهم بخروجي من بينهم وسلوتي دونهم، وما نزل بي بعدهم من جفاء الغربة ووحشة الوحدة، وشظف العيش بالقلّة كلّ ذلك طمعا فيما أبرّد [به] (3) غليل قلبي في الدّين والمذهب، وأنفي به الحرج
__________
(1) ورد ذكره في الصداقة 24.
(2) أرن: مرح ونشط.
(3) تكملة يدل عليها ما بعدها.(1/209)
من صدري وأسعد، وأن آخذ من هذا الشيخ ما أهتدى به وأسكن إليه، وأجعله عدّة لآخرتي. والآن قد حصلت بعد الدراسة الطويلة والمنازعة الشديدة وبعد البحث والنّظر والكشف والجدل، وبعد اعتبار هذا الشّيخ في نفسه وسيرته وما عليه أصحابه والمقدّمين (1)
عنده على حال عسراء، وغاية عمياء، وما أراه إلا صاحب دنيا يعمل للعاجلة، ولا أرى أصحابه المطيفين به إلا كذلك، وإن هذا مما يؤلم القلب، ويفرّق البال، ويحشد الهمّ، وينفّر الناس، ويوقع اليأس فلذلك ما تراني على غير ما عهدتني عليه.
وأما ابن بنان الورّاق فإني سمعته يقول:
لقد خطب البصريّ على الإسلام بما لا يقدر عليه الرّوم والتّرك.
قلت: وكيف ذاك وأنت لا ترى اليوم ببغداذ مجلسا أبهى من مجلسه، لما يجتمع فيه من مشايخ العراق وشبّان خراسان، وفقهاء كل مصر، وما في هؤلاء أحد إلا وهو يصلح أن يكون داعية صقع وإمام بلد؟
فقال لي: صدقت، فهل تعرف فيهم من إذا ذكر الله وجل قلبه
__________
(1) لعل الأولى: «والمقدمون».(1/210)
واقشعرّ جلده، واطمأن صدره؟ أو إذا سمع موعظة دمعت عينه وخشعت نفسه أو سمع نشيجه؟ وإذا عرضت له منالة عفّت نفسه؟ أو إذا هاجته شهوة (1) اتّقى عندها ربّه؟ أو إذا لزمه إنكار أمر بذل فيه وسعه؟
أما ترى اللّعب والمزاح والسفه والقحة والتّجليح (2) والفسق والفجور فاشية فيهم، وغالبة عليهم، وظاهرة بينهم؟
أما لك في الرّازي أبي الفتح عبرة؟
أما لك بابن طرخان خبرة؟ فما زال يقول هذا وأشباهه حتّى سددت وقطعت عليه.
وكان أبو اسحاق النّصيبيّ (3) من أفسق الفاسقين، وهو يلقّب بمقعدة (4)، لا أعلم في الدنيا قاذورة إلا أتاها /، ولا خساسة إلا أظهرها
__________
(1) في الأصل: «أو إذا هاحه سهوه».
(2) التجليح: الإقدام على الشر، والمكابرة.
(3) إبراهيم بن علي المتكلم المعتزلي، كان من غلمان أبي عبد الله البصري جعل، وكان الصاحب قد طلب من جعل أن ينفذ إليه رجلا يدعو بعلمه وعمله إلى مذهب المعتزلة، فأنفذ إليه النصيبي هذا، وكان حسن اللفظ والحفظ، ولكنه لم ينفق على الصاحب لشراسة خلقه، فأكرمه وأمره بالانصراف. ويقول أبو حيان (الامتاع 1/ 141) في وصفه: وأما أبو إسحاق النصيبي فدقيق الكلام، يشك في النبوات كلها، ولقد سمعت منه فيها شبها، وله أدب واسع.
الوافي (شهيد علي 1969، الورقة 46)، الصداقة 23، المنتظم 7/ 179، المقابسات 32، 33.
(4) صحفت في الإمتاع 1/ 141إلى: «ولغته معقّدة».(1/211)
وجاهر بها، هكذا كان ببغداذ، ثم بالدّينور عند أبي عمرو كاتب فخر الدولة الإصبهاني، وحديثه بإصبهان مشهور، وكذلك بالصّيمرة، وكيف أكل في نهار شهر رمضان من غير عذر، وكيف تهتّك بجماعة من الأحداث. نعوذ بالله من الخذلان.
وحدثنا أبو سليمان محمد بن طاهر السّجستاني، وكان بعيدا من التّزيّد شديد التّوقي، قال: حضرت وليمة في قطيعة الربيع، فلقيني فيها البصريّ أبو عبد الله، فجلس إلى جانبي، وتصرّف في الحديث معي، وأرخى عنانه إليّ إلى أن قال لي: يا أبا سليمان، هل وجدتم في فلسفتكم شيئا تسكنون إليه، وتعتمدون عليه؟ فأنا من الكلام ومذاهب أهل الجدل على غرور (1).
قال: فسكتّ (2) من أجل الموضع، وقلت:
الناس أخياف وشتّى في الشّيم ... وكلهم يجمعهم بيت الأدم (3)
فقال: آخر ما عندي أن الأدلّة تتكافأ، وأن المذاهب والآراء
__________
(1) الغرور: الأباطيل.
(2) في الأصل: «قال: فسكنت منه من أجل».
(3) البيت في اللسان (أدم)، وعيون الأخبار 2/ 2برواية
«الناس أسواء»
والأخياف: المختلفون. في الأصل: «وكلهم بجمعه».(1/212)
والنّحل جارية بين أربابها على قوّة النتائج وضعفها (1)، وجودة العبارة ورداءتها.
قال: وقلت له: ما بعد نظرك نظر، ولا بعد تحصيلك تحصيل، وانتهى.
وأمثل من شاهدناه عندنا ببغداذ: الواسطيّ أبو القاسم (2). وكان يبرأ إلى الله من البصريّ جعل، ويلعنه عند الوليّ والعدوّ تقربا إلى الله.
وكان ابن الثلّاج يقول: حكم الله بيننا وبين ابن عبّاد وفلان، فإنهما سلّطا هذا الإنسان في هذا المكان حتّى أفسد من أجابه إلى المذهب، ونفّر من أراد أن ينظر في «العدل والتوحيد».
وسمعت الفرغانيّ يقول: لولا أني لا أعرف في جميع المذاهب أقوى من مذهب المعتزلة لناديت على أصحابي بمخازيهم التي يشتملون عليها ويجاهرون بها، في الأسواق والشوارع، بل في المحاضر (3) المشهورة
__________
(1) في الأصل: «قوة السانح وضعفها».
(2) في البصائر 3/ 44: «كان علي بن عيسى بخيلا جعد البنان، هكذا قال لنا أبو القاسم الواسطي الكاتب، وكان شيخ أصحاب الجراح، وزعم أن علي بن عيسى كان شديد النفاق كثير الحيل، وليت زماننا يسمح بمثله».
(3) المحاضر: المجتمعات والمحافل.(1/213)
والمنابر الرّفيعة، ولكن لهم حرمة الدعوى وذمام النّسب إلى المقالة، ورجاء في الإقلاع والتّوبة، فإن اليأس غير غالب ما دامت الاستطاعة موجودة، والنّزوع ممكنا، والتّلافي مظنونا.
ذاك حديث ابن عبّاد، وهذا حديث شيخه وإمامه ومرشده بزعمه، وهو المرشد والهادي لمن أخذ عنه واقتدى به. يا قوم! أين يذهب بكم؟! ما هذا العمى الذي قد غلب عليكم، والهوى الذي قد أصمّ آذانكم وأعمى أبصاركم؟ وما هذا الأمر الذي قد حال دون العيان، وطمس وجه الرّشد، وقلب أثر الحسّ؟ أليس هذا القائل في مجونه وتلعّبه بدينه:
من عملي من عملي ... نيك الرّجال البزّل
وإنما أنيكهم ... لأنّني معتزلي
تلميذ شيخ فاضل ... ملقّب بالجعل (1)
أفهكذا يكون من كان عماد الدّين، وناصر الإسلام والمسلمين؟
الويل له، ثم الويل لمن يتولّاه وينصره.
__________
(1) في اليتيمة 3/ 179والارشاد 2/ 328327: قال الصاحب: قال لي فخر الدولة يوما، وقد خرج عن الحشمة على غير عادته: بلغني أنك تقول:
«المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال» فأظهرت الكراهة ونهضت كالمغاضب، فاعتذر إليّ.(1/214)
قال يوما لابن فشيشا صاحب مصطبة المكدين بالريّ:
لا تبطئنّ عن اللذات إن حضرت ... لكن تبنّك ولا تحفل بتأنيب
ولا تزقّ إذا ما نلت ذاك وبت ... مع شوزر (1) وافر الأرداف محبوب
فالصّمي (2) والمترمن (3) بعد القشام به ... طيب الحياة فلا تعدل عن الطيب
خذ في القشام وخذ في الصّمي بالكوب
فالدّهر يمزج تكسيحا بتهريب
أفهذا كلام من يدعو إلى الله، ويحبّ أن يستجاب له، ويجرى (4)
على طريقته، ويكون ذريعة بين الله والعبد؟
هذا عافاك الله باللعنة أولى، وبالبراءة منه ومن أصحابه أحقّ. ما أقلّ حياء هؤلاء وأشدّ تكاذبهم ومكابرتهم!
وإذا ضربت عن باب الدّين، ورجعت إلى الكفاية التي زعم أنه بها تكفّى، وأنه كافي الكفاة، وأنه واحد الدنيا.
هل كان يعرف من الحساب بابا؟
هل عقد جماعة؟
__________
(1) الشوزر: الغلام الأمرد.
(2) الصمي: الصهباء من الخمر.
(3) المتر: النيك.
(4) في الأصل: «ويجزى».(1/215)
هل عقدت له فتكلم عليها؟
هل قرأ مؤامرة (1)؟
هل عرف منها حد (2)؟
هل أمكنه أن يحتجّ على عامل أو يناظر ناظرا؟
أو يخاطب مشرفا، أو يرسم في العمل رسما، أو يجيب عن كتاب واحد في العمالة؟
وفيما يتعلق بأبواب النظر في العمارة، هل ناظر خائنا مقتطعا، أو استدرك مالا مختلسا؟
هل فصل حكومة بين كاتبين، أو قطع خصومة بين جنديين؟
هل رأينا ثمّ إلا الرّقاعة والتدفق (3)، والجنون والهذيان، والتّسايل (4)
والتمايل، والبقبقة (5) والطقطقة (6)، والقرقرة والبربرة؟ إلا أنه غلط
__________
(1) في مفاتيح العلوم 38: «المؤامرة: عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة في مدة أيام الطمع (رزق الجند)، ويوقع السلطان في آخره باجازة ذلك».
(2) كذا
(3) التدفق: الاعوجاج.
(4) كأنه يعني: الميع والخنث.
(5) البقبقة: كثرة الكلام.
(6) الطقطقة: الضجيج والضوضاء.(1/216)
فيه ووثق به، ووكل إليه الرأي، ولم يؤذن لأحد في تحريكه بكلمة، ولا في مضادّاته بحرف، حتّى تم له ذلك كلّه بأسهل وجه مع الجد المواتي، والأمر المنقاد، وحبّ أن يعتقد أن ذاك عن كفاية في الصّناعة وحذق في العمل، وسعة علم بالكتابة الدّيوانية والرّسوم الخراجيّة.
وسئل يوما عن قول الشاعر (1):
سقوني النّسي ثم تكنّفوني ... عداة الله من كذب وزور
فقال: الخمر تسمّى نسيا.
فقيل له: ولم؟
فقال: ليس للأسماء علل.
/ فلما خلوت بالزعفراني الشاعر قال لي: أخطأ، فإن الأسماء ضرب منها مبتدأ (2)، فالغرض فيه اختصاص العين به ليقع التمييز بينه وبين غيره، وضرب آخر يؤخذ من أصل الفعل (3) وهو الذي سمي مشتقّا (4)
__________
(1) هو عروة بن الورد، أو النمر بن تولب، اللسان (نسأ)، وديوان عروة 89، وكتاب سيبويه 1/ 252.
(2) يعرف اليوم في كتب النحو ب «المرتجل».
(3) في الأصل: «العقل» تصحيف.
(4) هو المعروف في كتب النحو ب «المنقول».(1/217)
لتكون (1) فيه دلالتان: دلالة كدلالة الأول في اختصاص العين، ودلالة على النّعت.
والنّسي في أسماء الخمر من الضرب الثّاني، لأن الخمر تنسأ العقل أي تؤخّره، وقال: هذا قاله بعض العلماء.
فقلت له: هلّا قلت هذا في المجلس؟
فقال: لو قلت هناك لما وجدتني عندك قاعدا مطمئنا.
قلت: صدقت، الرجل حسود.
فقال: ولربّه كنود (2)، ولآياته عنيد (3)، كأنه من اليهود، أو من بقيّة ثمود.
ولقد غضب يوما من شيء رواه المصريّ، وحجبه أياما وذلك أنه روى أن امرأة جاءت إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (4)، فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي سقاء، وزعم أبوه أنّه ينزعه مني.
__________
(1) في الأصل «ليكون».
(2) إشارة إلى الآية 6من سورة العاديات.
(3) إشارة إلى الآية 16من سورة المدثر.
(4) بعض هذا الحديث في اللسان 18/ 227، والنهاية 1/ 273.(1/218)
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1): أنت أحقّ به ما لم تنكحي.
وكان غضبه من الحسد، لأنه روى هذا في عرض حديث بفصاحة وتسهّل.
وله مثل هذا كثير، كان لا يستطيع أن يسمع من أحد كلاما منظوما.
قال لأبي السلم مسلم الأعرابي يوما: ما خبرك مع فلان؟
قال: انقلبت عنه خاسئا وأنا حسير.
قال: لا تنتجع أمثاله.
قال: أيها الصّاحب، ما أعلمني بمظانّ الرّجاء والخيبة! ولكنّي ربّما اغتررت بالشّكّ اغترارا، وانجررت على الشوك انجرارا، وآخر دعواي أن الحمد لله الذي لم يقطع أملي من خيره حتّى غمرني بأيادي غيره، وذاك أنت.
وكان حسده لغيره على فصل حسن، ولفظ حرّ، بقدر إعجابه بما يقوله ويكتبه كتب يوما إلى إنسان:
«وأقسم أنك لو كتبت بأجنحة الملائكة المقرّبين على جباه الحور العين، مستمدا من أحداق الولدان المخلّدين، جوازا على الصّراط المستقيم إلى جنّات النّعيم لما حسن هذا البخل».
__________
(1) «وسلم ناقصة من الأصل.
فأخذ يعيد هذا ويبديه، ويقول: كيف ترون؟ وكيف تسمعون؟(1/219)
فأخذ يعيد هذا ويبديه، ويقول: كيف ترون؟ وكيف تسمعون؟
وهل قرأتم شبيهه؟
وروى في مجلسه يوما ابن ثابت البغدادي (1) حكاية الخليل (2)، فأحسن سياقتها وإمرارها، فحجبه أياما وأخّر عنه رسمه. وقال:
تبسّط في مجلسنا، واسحنفر (3) بحضرتنا، وترك توقيرنا وهيبتنا، حتى تشفّع في أمره أبو الحسن الطبيب وغيره فعاد له على تشفّ.
وأنا أسوق حكاية الخليل حتى تكون فائدة في هذا الكلام الذي قد نشبنا فيه.
قال الخليل: دخلت على سليمان بن عليّ (4) وهو والي البصرة فوجدته يسقط في كلامه، فجلست حتى انصرف الناس.
__________
(1) أبو الحسن أحمد بن محمد بن ثابت البغداذي أحد الفضلاء.
(2) أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي النحوي المتوفى سنة 170هـ على خلاف. الوفيات 1/ 216، أخبار النحويين للسيرافي 38، المعارف 236، الفهرست 6463، طبقات ابن المعتز 9996.
(3) اسحنفر: اتسع في كلامه.
(4) هو سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، والي البصرة وعمان والبحرين من قبل أبي جعفر المنصور. توفي سنة 142. المعارف 164، وانظر طبقات الزبيدي (نور عثمانية 22). وفي طبقات ابن المعتز 99: أنه سليمان بن قبيصة بن يزيد ابن المهلب والي السند، وكذلك في الانباه 1/ 344، وانظر الوفيات 1/ 243.(1/220)
فقال: هل من حاجة أبا عبد الرحمن؟
قلت: أكبر الحوائج.
قال: قل، فإن مسائلك (1) مقضية، ووسائلك قوية.
قلت: أنت سليمان بن عليّ، وكان عليّ في العلم عليا، وكان عبد الله بن العباس الحبر والبحر، وكان العبّاس بن عبد المطّلب إذا تكلّم أخذ سامعه ما يأخذ النّشوان على نقر العيدان وأراك تسقط في كلامك، وهذا لا يشبه منصبك ومحتدك.
قال: فكأنما فقىء في وجهه الرمان خجلا.
فقال: لن تسمعه بعدها، فاحتجب عن الناس برهة، وأكبّ على النظر، ثم أذن للناس في مجلس عامّ، فدخلت عليه في ثمّة من الناس، فوجدته يفصح حتى خلته معدّ بن عدنان. فجلست حتى انصرف الناس.
فقال: كيف رأيت أبا عبد الرحمن؟
قلت: رأيت كلّ ما سرّ في الأمير، وأنشدته (2):
__________
(1) بالحاشية: «قل فإن حوائجك».
(2) الأبيات في طبقات النحويين للزبيدي 24 (نور عثمانية)، وانظر عيون الأخبار 3/ 189، وأمالي القالي 2/ 269.(1/221)
لا يكون السّريّ مثل الزّريّ ... لا ولا ذو الذّكاء مثل الغبيّ
لا يكون الألدّ ذو المقول المر ... هف عند الخصام مثل العييّ
قيمة المرء كلّ ما يحسن المر ... ء قضاء من الإمام عليّ
أيّ شيء من اللّباس على ذي السّ ... رو أبهى من اللّسان السّريّ
ينظم الحجة الشتيتة في السّل ... ك من القول مثل نظم الهديّ
وترى اللّحن في لسان أخي الهمّ ... ة مثل الصّدا على المشرفيّ
فاطلب النحو للقران وللشع ... ر مقيما والمسند المرويّ
والخطاب البليغ عند حجاج ال ... قوم يزهى بمثله في النّديّ
كلّ ذي الجهل بالفنون يعادي ... ها ويزري منها بغير الزّريّ
قال: وانصرفت. فشيّعني غلامه على كتفه بدرة فرددتها عليه، وكتبت إليه (3):
أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
* * * والرّزق عن قدر لا العجز يدفعه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
وقال يوما: «فعل وأفعال» قليل، وزعم أصحابنا النّحويّون
أنه ما جاء إلا زند وأزناد (1)، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد.(1/222)
أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
* * * والرّزق عن قدر لا العجز يدفعه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
وقال يوما: «فعل وأفعال» قليل، وزعم أصحابنا النّحويّون
أنه ما جاء إلا زند وأزناد (1)، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد.
فقلت: أنا أحفظ ثلاثين حرفا كلّها «فعل وأفعال».
قال: هات يا مدّعي! فسردت الحروف / ودللت على مواضعها من الكتب.
ثم قلت: وليس للنّحويّ أن يجزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحّر والسّماع الواسع، وليس للتّقليد وجه إذا كانت الرّواية شائعة، والقياس مطردا، وهذا كقولهم: فعيل على عشرة أوجه، وقد وجدته أنا على أكثر من عشرين وجها، وما انتهيت في التّتبع إلى أقصاه.
فقال: خروجك من دعواك في فعل يدلّنا على قيامك بالحجّة في فعيل، ولكنّنا لا نأذن لك في اقتصاصك، ولا نهب آذاننا لكلامك، ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا وتبسّطك بحضرتنا.
فهذا كما ترى.
وسألني عن أبي حامد المرورّوذي (2). فوصفت له نباهته وتقدّمه وحفظه وبيانه.
__________
(1) في الأصل: «زيد وأزياد» تصحيف.
(2) أحمد بن بشر بن عامر (عامر بن بشر) العامري القاضي البصري(1/223)
فقال: ما تحفظ عنه؟ قلت: أشياء مختلفة، فإنه أقام عندنا ببغداذ في آخر أيامه سنتين، ولقد رأيته في مجلس أبي الفرج محمد بن العبّاس في أيام وزارته، بعد أبي الفضل العبّاس بن الحسين (1)، وهو يتدفّق بالكلام مع ابن طرارة.
فلما انتهى قال له أبو الحسن إسحاق الطبري: ارسم لنا كلاما خفيفا في الدّليل، والحجّة، والبرهان، والبيان، والقياس، والعلّة، والحكم، والاسم، والفعل، والحرف، والنّصّ، والظاهر، والباطن، والتأويل، والتفسير، والفحوى، والاستحسان، والتّقليد، والاقتداء، والإجماع، والأصل، والفرع، والوجوب، والجواز.
فاندفع فقال:
الدّليل: ما سلكك إلى المطلوب.
__________
أبو حامد الشافعي المصنف المجيد. كان من شيوخ أبي حيان المفضلين، أكثر النقل عنه في كتبه، ووصفه بالعلم الواسع والنبل. توفي سنة 362هـ. الفهرست 301، طبقات السبكي 2/ 8382، البداية 11/ 259، الشذرات 3/ 40.
(1) العباس بن الحسين بن الفضل الشيرازي المتوفى سنة 363هـ: الوافي (شهيد غلي 1968الورقة 6)، تاريخ الاسلام (أيا صوفيا 3008، 12/ 60ب، سنة 363)، المنتظم 7/ 7473، الفخري 234233، تحفة الأمراء للصابي 390387.(1/224)
والحجّة: ما وثقك من نفسه.
والبرهان: ما أحدث اليقين.
والبيان: ما انكشف به الملتمس.
والقياس: ما أعارك شبهه من غيره، أو استعار شبه غيره من نفسه.
والعلّة: ما اقتضى أبدا حكما باللّزوم.
والحكم: ما وجب بالعلّة.
والاسم: ما صحّت به الإشارة إلى مشار إليه.
والفعل: ما شاع في الزّمان.
والحرف: ما ائتلف به اللفظ.
والنّصّ: ما أغنى بنفسه لاستقلاله.
والظاهر: ما سبق إلى النّفس بلا جالب.
والباطن: ما غيص عليه بالتّفسير.
والتأويل: الجهة المتباعدة عن المراد، ومع ذلك فهي مشمولة تارة بالقصد، وتارة بغير القصد.
والفحوى: الجهة القريبة.(1/225)
والتّفسير: عبارة عن عبارة على طريق الخلافة.
والاستحسان: القول الأولى والأشبه في ظاهر الحال.
والتّقليد: قبول بلا بيان.
والاقتداء: سلوك مع عالم سالف.
والإجماع: اتّفاق الآراء الكثيرة.
والأصل: ما لم ينظر إلى ما قبله، لأنه بنفسه قبل غيره.
والفرع: ما انشعب عن الأوّل.
والوجوب: ما لم يسع الإضراب عنه.
والجواز: ما وقف بين الواجب وبين غير الواجب.
وكاد لا يسكت.
فقال له أبو الفرج: ما كان أبو محمد المهلّبي يثني عليك جزافا، ولا يشغف بك على طريق الهوى.
فقال لي: كيف حفظت هذا؟
قلت: كنّا جماعة نتعاون على ذلك، ونرسم في ألواح.
فقال لي: إني لشديد الحسرة على فوت لقائه، وممّا يزيدني عجبا
به أنّه كان على مذهب أصحابنا، ولو نصر في الأحكام مذهب أبي حنيفة لكان قدوة لأهل زمانه.(1/226)
فقال لي: إني لشديد الحسرة على فوت لقائه، وممّا يزيدني عجبا
به أنّه كان على مذهب أصحابنا، ولو نصر في الأحكام مذهب أبي حنيفة لكان قدوة لأهل زمانه.
وقال له بعض الغرباء:
إذا قلت عشي الرجل كما تقول: عمي الرّجل، وتقول: يعشى كما تقول يعمى، وقلت أعشى كما تقول: أعمى، فهلّا قلت: امرأة عشياء كما قلت عمياء، ولك مع ذلك شفة لمياء وفاه (1) ظمياء؟
قال: فهكذا أقول.
قال له: قد خالفت العلماء، لأنهم نصّوا عشواء كما قالوا: ناقة عشواء.
فقال: في هذا نظر.
وأخطأ. وأيّ نظر في المسموع؟
وحدثني محمد بن المرزبان قال: كنا بين يديه ليلة فنعس، وأخذ إنسان يقرأ «والصّافات»، فاتّفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا، وضرط ضرطة منكرة، فانتبه وقال:
يا أصحابنا نمنا على «والصّافّات»، وانتبهنا على «والمرسلات (2)».
هذا من ملاحاته.
__________
(1) كذا بالأصل، ولعلها: «وشفاه».
(2) النادرة في المعاهد 2/ 156، محاضرات الراغب 1/ 66.(1/227)
وحدّثني أيضا قال:
انفلتت ليلة أخرى ضرطة من بعض الحاضرين، وهو في الجدل، فقال على حدّته وجنونه: «كانت بيعة أبي بكر (1)»، خذوا فيما أنتم فيه، يعني «كانت فلتة» لأنّه قيل في بيعة أبي بكر «كانت فلتة».
أفهذا من المجون المستطاب؟ أو من جنس ما يجب أن يكون محكيا عن الرؤساء الدّيّانين والكبراء المستبصرين، والذين يدّعون لأنفسهم الفضل والمروّة والديانة، واحتقار الناس؟
وقال له ابن ثابت الحوسي (2) يوما: أنا آكل التّمر على أنه كان مرة رطبا، يتملّح معه، أي أميل إلى الحدث وإن بقل وجهه، لأنه قد كان مرة أمرد.
فقال له: فكل الخرا على أنه مرة كان هريسة.
__________
(1) كلمة أثرت عن عمر بن الخطاب ض. وقد أفاض في إيضاح ما اكتنفها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1/ 223. والنادرة في معاهد التنصيص 2/ 156أيضا.
(2) كذا بالأصل.(1/228)
وسمعته ينشد في الشاعر الملقّب بالمشوق (1):
وديّوث يقال له المشوق ... له من عرسه كسب وسوق
فكم خير يساق إليه منها ... وكم أير إلى حرها يسوق
وكان ينشد في شيخ كاتب من أهل جرجان:
جزعت من أمر فظيع قد حدث
ابن تميم وهو شيخ لا حدث
قد حبس الأصلع في بيت الحدث (2)
ورأيت شيخا قدم مع الحاجّ من خراسان يعرف بالخشوعي، من الكرّامية (3) أصحاب البرانس، حضر مجلسه وناظره في مسألة الجسم،
__________
(1) أبو الحسن المشوق الشامي الشاعر. ذكره الثعالبي في اليتيمة (ج 1، ورقة 165ب 166، نسخة كوپريلي) وقال: لست أتحقق اسمه، وذكر بعض شعره.
(2) نسب الثعالبي في اليتيمة 4/ 40هذا الشعر لعلي بن أحمد الجوهري، ونسبه الشريشي في شرح المقامات 2/ 366لأبي الفتح البستي، وهو في محاضرات الراغب 2/ 114غير منسوب. وفي شرح نهج البلاغة 1/ 435، وشرح المقامات 2/ 382381أبيات وحولها قصة تشبه هذه مع اختلاف الأشخاص.
(3) الكرامية فرقة من المجسمة، وزعيمها محمد بن كرام وأتباعه يسمون الله جسما، ويفسرون الجسم بأنه القائم بذاته (الشهرستاني 1/ 39طبع الحجر)، ويقولون هو جسم لا كالأجسام (شرح الفقه الأكبر 20). وانظر تلبيسن إبليس 89، الفصل لابن حزم 4/ 304، اللباب 3/ 3332، التبصير فى الدين 6665.(1/229)
وكان يقول، وهو مذهب هشام بن الحكم (1) في المتكلمين المتقدّمين:
لما كان مثبتا بالعقل دون غيره، وكنت لا أثبت بالعقل إلا معقولا، كما لا أثبت بالسّمع إلا مسموعا، وكما لا أثبت بالبصر إلا مبصرا وكان إثبات العقل لمن (2) هو غير جسم في المشاهدة غير معقول، وجب أن يكون جسما لأنه قد كان دخل في قسمة المعقول وإن بطل أن يكون جسما بطل أن يكون معقولا، وقد ثبت أنه معقول فإذا قد ثبت أنه جسم.
فقال ابن عباد: هاتوا مسألة أخرى، فسماع كلام الحكلى (3)
أرجع بالفائدة من هذا، وأخذ في مسألة أخرى.
وحكى قوم منهم أبو طاهر الأنماطي والقطّان أنه قد شده ولم يحضره في الحال شيء، وكان الخصم ألدّ ذا سلاطة قليل الاكتراث، حضر غير طائع، وتكلم / غير متروّع.
__________
(1) هشام بن الحكم أبو محمد مولى بني شيبان، من أكابر متكلمي الشيعة، توفي سنة 199أو 179هـ. وكان يقول: معنى الجسم أنه موجود، وإنما أريد بقولي إنه (الله) جسم: أنه موجود، وأنه شيء، وأنه قائم بنفسه.
انظر عنه الفهرس للطوسي 175174، مروج الذهب 2/ 270، الفهرست 250249وانظر أيضا البصائر 3/ 50، مقالات الاسلاميين.
(2) كذا. وكأن «لما» أولى.
(3) الحكل: العجم وما لا يسمع صوته من الحيوان، والصاحب يستعمل هذا التعبير كثيرا.(1/230)
وعاد هذا الشيخ في مجلس آخر، فقال له:
أتقول إن الله جسم؟
قال: نعم.
قال: فإذا كان جسما جاز أن يكون فوقه شيء أو تحته شيء، أو عن يمينه شيء، أو عن يساره شيء.
قال: نعم.
قال: فما تنكر أن يكون معبودك الآن في هذا الصّندوق؟
فخمد الخراسانيّ خمدة ثم اشتعل فقال: أليس عندك أن الله متكلم بكلام يفعله في الأحوال المختلفة؟
فقال: بلى.
قال: فما تنكر أن يكون هذا الحمار ينعظ، فيحلّ الله كلامه في جرذانه، فيقول: أنا ربكم الأعلى، وتسمع ذلك منه.
فانخزل (1) ابن عبّاد وقال: خذوا في غير هذا.
والسخف والجرأة وسوء الأدب وإطلاق اللّسان بما لا يجوز دينا ومروّة غالبة على أصحاب الكلام والتّقى والرّهبة والورع بعيدة من هذه الطبقة.
__________
(1) انخزل: انقطع.(1/231)
وحكى يوما في نوادره الفاترة ما يدلّ على قلّة دين القوم وسوء استبصارهم وشدّة استهانتهم بما يقولونه محقّين ومبطلين، وأن الدّيدن هو الهذيان والرّقاعة والتعصّب والإيهام، وليس لوجه الله في ذلك شيء، لا فيما يجدّون به، ولا فيما يهزلون فيه، لا حشمة ولا تقوى، ولا مراقبة ولا بقيا (1) قد جعلوا الله عرضة للخصومات بالوساوس، ودينه منديلا لكل يد.
سأل ملحد (2) موحّدا فقال: ما الدليل على أن للعالم صانعا؟
فقال: الدّليل على ذلك شعرة أمّك، لأنها كلّما نتفتها بالدّبق (3)
نبتت فلو لم يكن هناك منبت لما نبتت.
فقال الملحد: هذا ينقلب عليك لأنه يقال لك: الدليل على أن العالم ليس له صانع نواة أمّك، [لأنها] (4) إذا قطعت مرة لم تنبت بعد ذلك.
__________
(1) البقيا والإبقاء: الرعاية.
(2) في نثر الدرر 799: «ناظر بختويه النيسابوري عافية بن شبيب البصري.
فقال بختويه: ما دليلك على إثبات الخالق» إلى آخر النادرة.
(3) الدبق بكسر الدال: الغراء.
(4) إضافه نرى أنها توضح الكلام.(1/232)
وحكى يوما آخر فقال: اجتمع رجلان أحدهما يقول بقول هشام (1)، والآخر يقول بقول الجوالقيّ (2).
فقال صاحب الجوالقي لصاحب هشام: صف لي ربّك الذي تعبده.
فوصفه، فقال في وصفه: هو جسم ولكن لا يد له ولا جارحة ولا آلة.
فقال له [صاحب] (3) الجوالقيّ: أيسرّك أن يكون لك بهذه الصّفة ابن؟
قال: لا.
قال: أفما تستحيي أن تصف ربّك بصفة لا ترضاها لولدك؟
ثم قال صاحب هشام: قد سمعت قولنا، فصف لي أنت ربّك.
فوصف فيما وصف: أنه جعد قطط في أتمّ تمام وأحسن حسن وأحلى صورة وأعدل هيئة وأجمل شارة (4).
__________
(1) هشام بن الحكم الذي مر ذكره قريبا.
(2) هشام بن سالم الجوالقي أبو محمد من متكلمي الشيعة، وهو مجسم كان يقول: إن الله على صورة الإنسان وينكر أن يكون لحما ودما، بل يقول: هو نور ساطع يتلألأ بياضا، وله حواس خمس كحواس الإنسان: (يد. وأنف.
وعين. وأذن. وفم)، وله وفرة سوداء، وذلك نور أسود. انظر مقالات الإسلاميين 34، 209، فهرس الطوسي 174، الفهرست 252.
(3) إضافة نرى أنها توضح الكلام.
(4) في الأصل: «إشارة».(1/233)
فقال له صاحب هشام: أفيسّرك أن تكون لك جارية بهذه الصّفة تطؤها؟
قال: نعم.
قال: أفما تستحيي من عبادة من تحبّ مباضعته؟ وذلك أن من أحبّ مباضعة مثله فقد أوقع عليه الشّهوة. تعالى الله عن هذه السخافات والجهالات، وإن قوما يلهجون بهذا وأشباهه لغي بعد من الهدى والنّهى.
وسمعته (1) يسبّ أصحاب الهندسة ويقول: جاءني بعض هؤلاء الحمقى ورغّبني في الهندسة، فابتدأ، وقال: [فأثبت خمسة وعشرين، وخطّ خطّا، ووضع شكلا، وطوّل وزعم أنّه يعمل برهانا على ذلك. فقلت له: إني كنت أعرف (2)] أن خمسة في خمسة خمسة وعشرون ضرورة، [وقد شككت الآن، فأنا (2)] مجتهد حتى أعلمه بالاستدلال. وهذا هو الخسار والدّمار.
ولو كان له سهم يسير من العقل ما باح على نفسه بهذا القول، ولو
__________
(1) نقله ياقوت 2/ 51.
(2) تكملة عن الإرشاد 2/ 51.(1/234)
سمع من غيره لوجب إنكاره، ولو (1) حقّق قول القائل: من جهل شيئا عاداه. أتراه ما سمع كلام ابن ثوابة (2) في مثل هذا، وكيف نسب فيه إلى الرّقاعة، وكيف رحمه أهل الحكمة، وكيف هزىء به قوم وجدوا طريقا إلى ذلك.
وأنا أحكي لك في هذا المكان ذلك الكلام وإن تنفّست الرسالة، لتعلم أنّ من شاء حمّق نفسه، وأن الله إذا شاء خذل عبده وأشمت به أعاديه.
حدثنا أبو بكر الصّيمريّ (3) قال: حدثنا ابن سمكة (4) قال:
حدثنا ابن محارب (5) قال: سمعت أحمد بن الطيّب (6) يقول: إن
__________
(1) «لو» هنا للتمني فلا جواب لها.
(2) أبو العباس أحمد بن محمد بن خالد بن ثوابة الكاتب المشهور المتوفى سنة 277أو 273هـ، ترجمته في الإرشاد 2/ 5136، الفهرست 187.
(3) ذكر عنه أبو حيان في المقابسات 35، 51مقابستين، وأظن أنه المكني أبا زكرياء الصيمري أيضا وصحفت «بكر» إلى زكريا. وقد تقرر النقل عنه في المقابسات.
(4) أحمد بن إسماعيل بن سمكة بن عبد الله القمي من أساتذة أبي الفضل ابن العميد، وهو علامة مصنف شهير. فهرسة الطوسي 31، وانظر المقابسات 80، اليتيمة 3/ 8 (بيروت).
(5) وصفه أبو حيان في المقابسات 8بأنه فيلسوف.
(6) أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي العلامة الشهير، قرأ على الكندي الفيلسوف.
وقتله المعتضد سنة 286هـ. الفهرست 367365، الإرشاد 1/ 160158.
صديقا لابن ثوابة الكاتب أبي العبّاس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم:(1/235)
صديقا لابن ثوابة الكاتب أبي العبّاس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم:
إنك رجل بحمد الله ومنّه ذو أدب وفصاحة وبراعة وبلاغة فلو أكملت فضائلك بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسيّ، وعلم الأشكال [الهندسية] الدالّة على حقائق الأشياء، وقرأت كتاب «أقليدس (1)» وتدبّرته؟
فقال له ابن ثوابة: وما «أقليدس»؟
قال له: رجل من علماء الروم يسمّى بهذا الاسم، وضع كتابا فيه أشكال كثيرة مختلفة تدلّ على حقائق الأشياء المعلومة والمغيّبة، يشحذ الذهن ويدقّق الفهم، ويلطّف المعرفة، ويصفّي الحاسّة، ويثبت الرّوية ومنه انفتح الخط وعرفت مقادير حروف المعجم.
فقال له أبو العباس ابن ثوابة: وكيف ذاك؟
قال: لا تعلم كيف هو حتى تشاهد الأشكال وتعاين البرهان.
__________
(1) رياضي شهير، عاش في الاسكندرية، وأسس مدرستها الرياضية، وله مؤلفات أشهرها كتاب «الأصول» أو «الأركان» الذي ألفه في حدود سنة 300قبل الميلاد. أخبار الحكماء 45. وانظر 299.،، ..(1/236)
قال له: فافعل ما بدا لك. فأتاه برجل يقال له قويرى (2) مشهور مقدّم، ولم يعد إليه بعد ذلك.
قال أحمد بن الطيّب: فاستطرفت ذلك وعجبت منه، وسألت المخبر عن انصراف قويرى أيّ شيء كان سببه؟ فأجابني بأن لا أعلم، فكتبت إلى ابن ثوابة رقعة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم.
اتّصل بي جعلني الله فداك أن رجلا من إخوانك أشار عليك بتكميل فضائلك وتقويتها بمعرفة شيء من القياس البرهانيّ، وطمأنينتك إليه، وأنّك أصغيت إلى قوله وأذنت له، وأنه أحضرك رجلا كان غاية في سوء الأدب، معدنا من معادن الكفر، وإماما من أئمة الشّرك / لاستفزازك واستغوائك، يخادعك على عقلك الرّصين، وينازلك في ثقافة فهمك المتين، فأبى الله العزيز إلّا جميل عوائده الحسنة قبلك، ومننه السّوابق لديك، وفضله الدائم عندك، بأن أتى على قواعد برهانه من ذروته، وحطّ عوالي أركانه من أقصى معاقد أسّه، فأحببت استعلام ذلك على كهنه من جهتك، ليكون شكري
__________
(2) إبراهيم قويرى أبو إسحاق. أخبار الحكماء 55، الفهرست 367.(1/237)
لك على ما كان منك حسب لومي لصاحبك على ما كان منه، ولأتلاغى الفارط في ذلك بتدبّر أسسه إن شاء الله.
قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها:
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصلت رقعتك أعزّك الله وفهمت فحواها، وتدبّرت مضّمنها، والخبر كما اتّصل بك، والأمر كما بلغك. وقد لخصته وبيّنته حتى كأنك معنا وشاهدنا.
فأول ما أقول: الحمد لله وليّ النّعم، والمتوحّد بالقسم، إليه يردّ علم السّاعة وإليه المصير وإياه أسأل إيزاع الشكر على ذلك وعلى ما منحنا من ودّك وإتمامه بيننا بمنّه.
ومما أحببت إعلامك وتعريفكه ممّا تأدّى إليك، أن أبا عبيدة عليه لعنة الله تترى بنحسه ودسّه ودحسه اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني عما أعتقده وأراه وأضمره من الإيمان بالله عز وجلّ ورسوله صلى الله عليه، فوطّد لي الزّندقة بتزيينه الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علما شريفا تكمل به فضائلي فيما زعم فقلت: عسى أن أفيد به براعة في صناعة، أو كمالا في مروّة، أو نسكا في دين، أو فخارا عند الأكفاء. فأجبته بأن هلمّ به!
فأتاني بشيخ ديرانيّ شاخص النظر، منتشر عصب البصر، طويل مشذّب، محزوم الوسط، متزمّل في مسكه، فاستعذت بالرّحمن إذ نزغني الشيطان، ومجلسي قد غصّ بالأشراف من كل الأطراف، كلّهم يرمقه ويتشوّف إلى رفعي مجلسه وإدنائه وتقريبه، ويعظّمونه ويحيّونه، والله محيط بالكافرين.(1/238)
ومما أحببت إعلامك وتعريفكه ممّا تأدّى إليك، أن أبا عبيدة عليه لعنة الله تترى بنحسه ودسّه ودحسه اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني عما أعتقده وأراه وأضمره من الإيمان بالله عز وجلّ ورسوله صلى الله عليه، فوطّد لي الزّندقة بتزيينه الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علما شريفا تكمل به فضائلي فيما زعم فقلت: عسى أن أفيد به براعة في صناعة، أو كمالا في مروّة، أو نسكا في دين، أو فخارا عند الأكفاء. فأجبته بأن هلمّ به!
فأتاني بشيخ ديرانيّ شاخص النظر، منتشر عصب البصر، طويل مشذّب، محزوم الوسط، متزمّل في مسكه، فاستعذت بالرّحمن إذ نزغني الشيطان، ومجلسي قد غصّ بالأشراف من كل الأطراف، كلّهم يرمقه ويتشوّف إلى رفعي مجلسه وإدنائه وتقريبه، ويعظّمونه ويحيّونه، والله محيط بالكافرين.
فأخذ مجلسه، ولوى أشداقه، وفتح أوساقه، فتبيّنت في مشاهدته النّفاق، وفي ألفاظه الشقاق.
فقلت له: بلغني أن عندك معرفة بالهندسة، وعلما واصلا إلى فضل يفيد الناظر فيه حكمة وتقدّما في كل صناعة فهلمّ أفدنا شيئا منها عسى أن يكون عونا لنا على دين أو دنيا، وزينا في مروّة أو مفاخرة لدى الأكفاء، ومفيدا نسكا وزهدا، و {«ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»} (1)، {«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النََّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فََازَ»} (2)، {«وَمََا ذََلِكَ عَلَى اللََّهِ بِعَزِيزٍ»} (3).
قال: فأحضرني دواة وقرطاسا، فأحضرتهما، فأخذ القلم فنكت
__________
(1) سورة التوبة 72.
(2) سورة آل عمران 185.
(3) سورة فاطر 17.(1/239)
به نكتة نقط منها نقطة، فخيّلها بصري ولحظها طرفي كأصغر من حبّة الذّر، فزمزم عليها بوسواسه، وتلا عليها من محكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرا بإفكه وأقبل عليّ فقال: أيها الرجل! إن هذه النّقطة شيء ما لا جزء له.
فقلت: أضللتني وربّ الكعبة! وما الشيء الذي لا جزء له؟
فقال: كالبسيط. فأذهلني وحيّرني، وكاد يأتي على عقلي وحلمي لولا أن هداني ربّي لأنّه أتاني بلغة ما سمعتها والله من عربيّ ولا عجميّ، وقد أحطت علما بلغات العرب، وقمت بها واستثرتها جاهدا واختبرتها عامدا، وصرت فيها إلى ما لا أحسب أحدا يتقدّمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقه وجليله.
فقلت له: وما الشيء البسيط؟
فقال: كالله تعالى وكالنفس.
فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله أمثالا؟ والله تعالى يقول: {«فَلََا تَضْرِبُوا لِلََّهِ الْأَمْثََالَ إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ} [1]».
__________
(1) سورة النحل 74.(1/240)
لعن الله مرشدا أرشدني إليك، ودالّا دلّني عليك، فما ساقك إلي إلا قضاء سوء ولا كسحك نحوي إلا الحين، أعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله وليّ المؤمنين {«إِنِّي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ} [1]» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم.
فلما سمع مقالتي كره استعاذتي فاستخفّه الغضب، فأقبل علي مستبسلا فقال: إني أرى فصاحة لسانك سببا لعجمة فهمك، وتذرّعك بقولك آفة من آفات عقلك.
فلولا من حضر والله المجلس وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، مستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبيّنت من توازرهم (2) لأمرت بسلّ لسانه اللّكع الألكن.
وأمرت بإخراجه إلى حرّ نار الله وسقره وغضبه ولعنته.
فنظرت إلى أمارات الغضب في وجوه الحاضرين، فقلت:
ما غضبكم لنصرانيّ يشرك بالله ويتّخذ له من دونه الأنداد، ويعلن بالإلحاد؟ ولولا مكانكم لنهكته عقوبة.
__________
(1) سورة الأنعام 78.
(2) توازرهم: تآزرهم.(1/241)
فقال لي رجل منهم: إنه إنسان حكيم، فغاظني قوله.
فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بكفر.
فقال لي آخر: إن عندي مسلما يتقدّم أهل هذا العلم.
فرجوت (1) مع ذكره الإسلام خيرا فقلت: ائتني به، فأتاني برجل قصير دحداح مجدور آدم أخفش العينين أجلح أفطس سيّئ النّظر قبيح الزّيّ، فسلّم فرددت عليه السلام، ورفعت مجلسه وأكرمته، وقلت له: ما اسمك؟
فقال: أعرف بكنية قد غلبت عليّ.
فقلت: أبو من؟
فقال: أبو يحيى.
فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، فاكفني اللهمّ شرّها، فإنه لا يصرف السوء إلا أنت، وقرأت «الحمد»، و «المعوّذتين»، و {«قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ»} ثلاثا، وقلت له: إن صديقا لي جاءني بنصرانيّ يتّخذ الأنداد، ويدّعي أن لله الأولاد ليغويني ويستفزّني «{وَلَوْلََا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ}
__________
(1) في الأصل: «فزجرت» تصحيف.(1/242)
{الْمُحْضَرِينَ} (1)»، فصرفته أقبح صرف. ثم ذكرت لي فرجوت (2)
بذكر إسلامك خيرا.
فهلمّ أفدنا شيئا من هندستك، وأقبسنا / من طرائف حكمتك ما يكون لنا سببا إلى رحمة الله ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة وأعود بضاعة.
فقال: أحضرني دواة وقرطاسا.
فقلت: أتدعو بالدّواة والقرطاس، وقد بليت منهما ببليّة كلمها لا يندمل عن سويداء قلبي؟
قال: وكيف كان ذلك؟
قلت له: إن النّصراني نقط لي نقطة كأصغر من سمّ الخياط، وقال لي: إنها معقولة كربّك الأعلى، فوالله ما عدا فرعون في إفكه وكفره.
فقال لي: فإني أعفيك، لعن الله قويرى وما كان يصنع بالنّقطة؟
وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟
فقلت: استجهلني وربّ الكعبة، وأنا قد أخذت بأزمّة الكتابة،
__________
(1) سورة والصافات 57.
(2) في الأصل: «فزجرت» تصحيف.(1/243)
ونهضت بأعبائها، واستقللت بثقلها يقول لي: لا تعرف فحوى النّقطة، فنازعتني نفسي في معاجلته بغليظ العقوبة، ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل.
ودعا بغلامه وقال: ائتني بالتّخت، فو الله ما رأيت مخلوقا بأسرع إحضارا له من ذلك الغلام، فأتاه، فتخيّلت به هيئة منكرة ولم أدر ما هو، وجعلت أصوّب الفكر فيه تارة وأصعّد أخرى، وأجيل الرأي مليا وأطرق طويلا، لا أعلم أيّ شيء هو، أصندوق هو؟
فإذا ليس بصندوق، أتخت هو؟ فإذا ليس بتخت، فتخيّلته كتابوت لحد. فقلت: لحد الملحد يلحد به وبالنّاس عن الحقّ. ثم أخرج من كمّه ميلا عظيما فظننته متطبّبا وإنّه لمن شرار المتطبّبين.
فقلت له: إن أمرك لعجب كلّه ولم أر في أميال المتطبّبين كميلك، أتفقأ به الأعين؟
فقال: لست متطبّبا ولكنّي أخطّ به الهندسة على هذا التّخت.
فقلت له: إنك وإن كنت مباينا للنّصرانيّ في دينه، إنك لمؤازره في كفره، أتخطّ على تخت بميلك لتعدل بى عن وضح الفجر إلى غسق اللّيل؟ وتميل بي إلى الكذب باللّوح المحفوظ وكاتبيه الكرام؟ أإياي تستهوي؟ أم حسبتني ممّن يهتزّ لمكايدكم؟(1/244)
فقال: لست أذكر لك لوحا محفوظا ولا مضيّعا، ولا كاتبا كريما ولا لئيما، ولكنّي أخطّ به الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة.
فقلت: اخطط.
وأخذ يخطّ وقلبي مروّع يجب وجيبا.
فقال لي غير مستعظم: إن هذا الخطّ طول بلا عرض، فذكرت صراط ربّي المستقيم، وقلت له: قاتلك الله! أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربّي عن تخطيطك وتشبيهك وتبديلك وتحريفك وتضليلك، إنّه لصراط مستقيم، وإنه لأحدّ من السّيف الباتر، والحسام القاطع، وأدقّ من الشّعر، وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، ومداه بعيد، وهوله شديد أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربّي أم حسبتني غمرا غبيّا لا أعلم ما في باطن ألفاظك ومكنون معانيك؟ والله ما خططت الخطّ وأخبرت أنه طول بلا عرض إلا حيلة (1) بالصراط المستقيم لتزلّ قدمي عنه، وأن ترديني في نار جهنّم.
أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة، ومما تدلّ عليه وترشد إليه، وإنّي بريء من المهندسين وما يعلنون ويسرّون، وممّا به يعملون
__________
(1) في الإرشاذ: «إلا ضلة».(1/245)
ولبئس ما سوّلت لك نفسك أن تكون من خزنتها بل من وقودها، وإنّ لك فيها لأنكالا وسلاسل وأغلالا، {«وَطَعََاماً ذََا غُصَّةٍ وَعَذََاباً أَلِيماً»} (1). قم إلى لعنة الله وغضبه!
فأخذ يتكلّم. فقلت: سدّوا فاه مخافة أن يبدر منه (2) مثل ما بدر من المضلّل الأول، وأمرت بسحبه فسحب إلى أليم عذاب الله ونار {«وَقُودُهَا النََّاسُ وَالْحِجََارَةُ عَلَيْهََا مَلََائِكَةٌ غِلََاظٌ شِدََادٌ لََا يَعْصُونَ اللََّهَ مََا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مََا يُؤْمَرُونَ} [3]».
ثم أخذت قرطاسا وكتبت بيدي يمينا آليت فيها بكل عهد مؤكّد، وعقد مردّد، ويمين ليست لها كفّارة أن (4) لا أنظر في الهندسة أبدا، ولا أطلبها، ولا أتعلّمها من أحد سرّا ولا جهرا، ولا على وجه من الوجوه، ولا بسبب (5) من الأسباب وأكّدت بمثل ذلك على عقبي وعلى أعقاب أعقابهم: أن لا ينظروا (6) فيها
__________
(1) سورة المزمل 1412.
(2) في الإرشاد: «يبدر من فيه».
(3) سورة التحريم 6.
(4) في الإرشاد: «أني لا أنظر».
(5) في الإرشاد: «ولا على سبب».
(6) في الإرشاد: «أن لا تنظروا ولا تتعلموها ما دامت».(1/246)
ولا يتعلّموها ما قامت السموات والارض، إلى أن تقوم الساعة {«لِمِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [1]».
فهذا بيان ما سألت أعزك الله [عنه] (2) مما دفعت إليه وامتحنت به، ولتعلم ما كان منّي، ولولا وعكة أنا في عقابيلها (3)
لحضرتك مشافها، وأخذت بحظّي المتمنّى من الأنس بك، والاستراحة إليك فمهّد على ذلك عذري، فإنّك غير مباين لفكري، والسّلام.
رسالة أبي العباس أحمد بن يحيى (4) بن محمد بن ثوابة إلى أبي العباس أحمد بن الطّيّب هذه، فيها معتبر واسع، وإشراف على عقل مدخول، وهي شقيقة قول ابن عبّاد في الحكاية التي جرت قبل هذه وليس ينبغي أن يغترّ بالإنسان إذا كان فصيح العبارة، كثير التّشقيق، مديد النّفس، قادرا على السّجع، / سهل الارتجال فقد يأتلف هذا كلّه والعقل ناقص، وقد يفقد هذا كلّه والعقل راجح.
__________
(1) سورة الشعراء 38.
(2) تكملة عن الإرشاد.
(3) العقابيل: بقايا المرض وأعقابه.
(4) في ترجمته في الإرشاد 2/ 36، والفهرست 130 (أوربا): أن اسمه أحمد بن محمد.(1/247)
وقلت لأبي سعيد السيرافي شيخ الدّنيا: قال أبو زيد: يقال إنه لكثير فضيض الكلام (1)، أيراد بهذا مدح المذكور أم الزّراية عليه؟
فقال لي: هو إلى الزّراية أقرب لأن الفضّ كسر، ومنه:
فضضت ختم الكتاب، ومنه: ضربه فصار فضاضا والصّحيح خير من المكسور، وكأنّه يراد بهذا أنّه يرمي بالكلام مكسّرا غير صحيح.
وإنما أتيت بهذا لأني سألت مرة أبا السلم عن ابن عبّاد، فقال:
إنه لكثير فضيض الكلام، ثم مرّ بي لأبي زيد (2).
وكان ابن عبّاد يقول كثيرا: ما مدحني شاعر بأوجز وأملح من أبيات وافتني من شاعر ينتسب لسجستان فإنها تدلّ على قدرة صاحبها وغزارة قائلها وحسن تصّرفه فيها، وهي:
يا من أعاد رميم الملك منشورا ... وضمّ بالرأي أمرا كان منشورا
أنت الوزير وإن لم تؤت منشورا ... والأمر بعدك إن لم يؤتمن شورى
__________
(1) يقال ذلك حين يراد وصف الشخص بالهذر وكثرة الكلام.
(2) هو سعيد بن أوس الأنصاري اللغوي المتوفى سنة 214هـ. الإنباه 2/ 30.(1/248)
وقال ابن نباتة (1) والخالع (2) وابن الجلبات (3): ليس في هذه الأبيات ما وجب له هذا الإعجاب كلّه، ولكنّ الرجل طريف المرأى والمخبر، عجيب المبشر (4) والمنظر مداره على الهوى، كيفما سنح له جنح إليه، وأينما برّح به طرح عليه.
وكان ابن عبّاد إذا تكلّم في مسألة ثم رأى في خصمه فتورا نفش لحيته بأصابع يده وعبث بها، وفتل رأسه ولوى عنقه، وشنّج أنفه، وعوّج شدقه، وقال منشدا (5):
إذا المشكلات تصدّين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
__________
(1) عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي أبو نصر الشاعر المتوفى سنة 405هـ. ترجمته في الوفيات 1/ 370، 2/ 75، اليتيمة 2/ 349، المنتظم 7/ 274، الامتاع 1371361.
(2) الحسين بن أبي جعفر علي بن محمد الخالع الرافقي. نحوي أديب شاعر وله مصنفات. توفي سنة 380هـ. ترجمته في اليتيمة 3/ 113107، عيون التواريخ (سنة 380هـ)، وتاريخ الإسلام للذهبي 2/ 206 (أيا صوفيا).
وانظر الإمتاع 1/ 136.
(3) أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي الشاعر، من أهل معرة النعمان. انظر اليتيمة 3/ 9188، والإرشاد 6/ 256، والإمتاع 1/ 135.
وانظر شرح سقط الزند 1/ 99، 102.
(4) كأنه مفعل من البشرة، وهي هيئة الإنسان وسحناؤه.
(5) الأبيات في أمالي القالي 2/ 101، زهر الآداب 1/ 40، من إنشاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وانظر الشريشي 2/ 143.(1/249)
وإن برزت في مخيل (1) الصّوا ... ب عمياء لا تجتليها الفكر
مقنّعة بخفيّ الشكّو ... ك وضعت عليها حسام النظر
لسانا كشقشقة (2) الأرح ... بيّ (3) أو كالحسام اليماني الذّكر
* * * ولست بذي وقفة في الرجا ... ل أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنّني مدره (4) الأصغري ... ن (5) أقيس بما قد مضى ما غبر
وكان لا يبعثه على هذا النّمط إلا الذّهاب بنفسه، والتّيه الذي يحول بينه وبين عقله والعجيب أنه كان يعيب غيره بجزء من هذا الباب لا يتجّزأ، ويقول: انظروا إلى تيهه وصلفه ومدحه لنفسه واستبداده برأيه وعلى هذا، حتّى إذا صار إلى نفسه وحديثه وخواصّ أمره جهل وذهل، وخرج في مسك من لم يسمع بشيء من ذلك، ولم يفطن له، ولم يأبه لقبيحه، ولم يأنف من شنيعه.
وهذا من الأسرار في الأخلاق، ولهذا طال كلام الأوّلين في
__________
(1) المخيل: السّحاب يخال فيه المطر.
(2) الشقشقة: ما يخرجه الفحل من فيه عند هياجه.
(3) أرحب: بطن من همدان، تنسب إليه النجائب الأرحبية.
(4) المدره: المقدّم عند الخصومة، الجريء.
(5) الأصغران: القلب واللسان.(1/250)
الأخلاق، وجاءت الشّريعة واللّغة واضعة كلا في موضعها (1)، وناعتة لمختارها ومرذولها، وباعثة على حسنها وجميلها، وداعية إلى رفض قبيحها ومنكرها.
والكلام في هذا طويل الذّيل ميّاس (2)، وما أحسن ما قال الشاعر:
لا تلم المرء على فعله ... وأنت منسوب إلى مثله
من ذمّ شيئا وأتى مثله ... فإنما يزري على عقله
والبيت السائر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (3)
فهذا هذا
حدثني العتّابي قال (4): قال قوم من أهل أصفهان لابن عبّاد: لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن في آخر شعبان بماذا كنّا نصلّي التّراويح في رمضان؟
__________
(1) الأشبه: «موضعه».
(2) مياس: مائل، والمراد: متشعب متسع.
(3) المشهور أن البيت لأبي الأسود الدؤلي، وقيل لغيره وهو من قصيدة في الخزانة 3/ 618، وانظر عيون الأخبار 2/ 19.
(4) نقله ياقوت فى الإرشاد 2/ 296.
فقال: لو مات القرآن كان رمضان أيضا يموت، ويقول: لا حياة بعدك، ولا نصلّي التّراويح، ونستريح (1).(1/251)
فقال: لو مات القرآن كان رمضان أيضا يموت، ويقول: لا حياة بعدك، ولا نصلّي التّراويح، ونستريح (1).
وسأله الدّامغاني يوما عن قوله عز وجل (2): {«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِهََا لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} [3]»، أتقول إنّ يوسف هّم بالمعصية؟
فقال: الكلام معطوف بعضه على بعض بالتّقديم والتأخير (4)، فكانه قال: لولا أن رأى برهان ربّه لقد كان يهمّ بها، ولكنّه لم يهمّ، وهذا كقول القائل: إني غرقت لولا أنه خلّصني فلان.
فحدّثت بهذه الجملة ابن المراغي (5) ببغداذ، فقال: لو سكت عن هذا كان أحسن به، هذا تقدير لاعب بكتاب الله، لا يحلّ نظم
__________
(1) النادرة في طبقات السبكي 1/ 220منسوبة لعبادة المخنّث، وهي تجسيم لإحساس جماهير المسلمين نحو مسألة القول بخلق القرآن التي قال بها المعتزلة، وتشدد القاضي أحمد بن أبي دواد في حمل الناس على اعتناقها وهي هنا في مجلس ابن عباد المعتزلي ترمي إلى الهدف نفسه.
(2) في الأصل: «عن قوله عز وجل عن قوله».
(3) سورة يوسف 24.
(4) هذا التوجيه منقول عن أبي عبيدة في لسان العرب (همم)، وهو مع مناقشته في كتاب الأضداد لابن الأنباري 362361، والبحر المحيط لأبي حيان 5/ 295.
(5) هو أبو الفتح محمد بن جعفر بن محمد وقد تقدمت ترجمته.(1/252)
الكلام على تحريفه لأنّ ذلك جرأة أما سمعت الله يقول: {«لََا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللََّهِ وَرَسُولِهِ} [1]»؟
إنّما المراد به على سجية الكلام: ولقد همّت به همّها اللائق، وهمّ بها همّ البشر الذي لا براءة له من همّه إلا بتوفيق الله، والبرهان كان ذلك التوفيق.
وما في الهمّ؟ الله أكرم من أن يؤاخذ به، وإنما ذكر ذلك ليعلم أن النبيّ صلى الله عليه في نبوّته غير مكتف بها دون أن يكنفه الله بعصمته، ويتغمدّه برحمته.
وسئل ابن عبّاد يوما عن قوله عزّ وجلّ: {«يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ، فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} [2]»، فقيل: كيف يجوز أن يعّد هذا في الآلاء والنّعم، وهو إحراق بالنّار، ولا ألم بعده، ولا عذاب فوقه؟
فقال: أقول ما قال شيخنا أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصريّ رحمه الله، فإنه قال: إن الله جعل جهنّم سوطا ساق به عباده إلى الجنة
__________
(1) سورة الحجرات 1، والمعنى: لا تتقدّموا إلى أمر من أمور الدين إلا بعد أن يحكم الله ورسوله، ويأذنا فيه.
(2) سورة الرحمن 35.(1/253)
واللّفظ عن الحسن على ما عنينا بجمع كلامه عن الرّواة: «إن الله خلق جهنّم ليحوش بها الخلق إلى طاعته».
فقال أصحابنا: فزعه إلى الحكاية عن الحسن حاكم بأنه مفلس، وقد قال العلماء في ذلك، وإنما قول الحسن ترقيق (1)، وكلام يدخل في الوعظ ولو حقّق لقلق.
وسأله الدّامغاني يوما عن قوله تعالى: {«وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [2]» أيّ موضع لهذا السكوت، والسّكوت ضد الكلام كما أن السكون ضد الحركة؟ فما أحلى ولا أمرّ، وتغافل إما كبرا وإما جهلا.
وسمعت ابن بابويه (3) يقول في هذا: هو مما حرّف لأنّه نزل:
{«وَلَمََّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [4]» بالنون.
__________
(1) ترقيق القلوب: تليينها لتقبل الموعظة.
(2) سورة الأعراف 154وفي الكشاف 1/ 511: كأنّ الغضب كان يغري موسى ويقول له قل كذا، وافعل كذا، ومن هنا حسنت «سكت».
(3) لعلّه علي بن الحسين بن موسى القمي، من فقهاء الشيعة وثقاتهم، وهو مصنّف مكثر. الفهرست 277. وانظر لسان الميزان 2/ 206.
(4) في الكشاف 1/ 511: أنها قراءة معاوية بن قرة، ثم قال الزمخشري إن النفس لا تجد لها الروعة والهزة التي تجدها لكلمة «سكت».(1/254)
/ فقلت له: وما درك المحرّف في هذا؟
فقال: هو ما قلت لك، وقد صحّ عندنا ذلك عن الصّادق.
فأمسكت عنه والجواب أبين من ذلك.
وقال يوما الحصيري: أيها الصاحب! ما أقول لخصمي إذا قال لي: حدّ الظّلم وضع الشيء في غير موضعه؟
قال: قل له يجب على هذا إذا أخذ الرجل عمامته المكوّرة فوضعها على ركبته أن يكون ظالما.
قال أبو سليمان: أخطأ، لأن العمامة قد توضع على الركبة لغرض صحيح وحاجة بادية، في وقت مقتض لذلك، وزمان يليق به ذلك، ويكون حسنا عدلا، ويكون ذلك مكانها والرأس أيضا جعل مكانها لغرض معروف، والأغراض تختلف وتأتلف.
وقيل له يوما: ما أنكرت أن يكون الرّزق ما يأكله المرزوق دون غيره؟
فقال: على هذا لو رزقك الله خفّا لكنت تأكله.
حكيت هذا لأبي سليمان فصرّف القول في الرّزق وفي أقسامه وعلله وأسبابه وغرائبه وقد أخّرته لمكان آخر، فإن هذا الكتاب يضيق عنه، ويخرج عن الأمر المتحرّى به.(1/255)
وقال له أبو عاصم البصريّ يوما: أليس المتكبّر هو الذي يتعظّم زائدا على ما يستحقّه ويحسن به، ومن أجل ذلك ذمّوه بهذا الاسم إذا أطلقوه؟
فقال: بلى!
قال: فما معنى وصف الله نفسه بالتكبّر؟ ونحن إنما نفينا عنه التكبّر لقبحه عندنا وعند المعروف به بيننا، فلو ساغ أن ينعت بالتكبّر ساغ أن ينعت بالتكذّب.
فاشتطّ وانتفخ وتربّد وجهه ودرّ وريده (1) وكاد يزند (2)، ثم تدفّق بكلام كثير ليس من مسألة أبي عاصم في شيء، حفظت منه (3) قوله:
أحدهم لا يعرف اللّغة على طرائقها ودقائقها وحقائقها من ناحية مجازها وسعتها، ولا من جهة سلامتها وصحّتها ولا يفرّق بين ما يجوز على الله وبين ما لا يجوز على الله ويقصد إلى المسائل المشكلة، والمعاني المعضلة، والأبواب الغامضة، والألفاظ المتعارضة، فيسأل عنها،
__________
(1) الوريد: العرق الذي في صفحة العنق. ودرّ: انتفخ عند الغضب.
(2) يزند: يشتعل ويحترق، أو: يعاقب.
(3) في الأصل «منها».(1/256)
ويعجب بها (1).
ليتك عرفت هذا بعد أن تعرف معنى قول العرب: «صابت بقر (2)»، وما المراد بقولهم: «عود يعلّم العنج (3)»، وما معنى قولهم:
«لكلّ جابه جوزة ثم يؤذّن (4)»، ومن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه (5)، ومتى توفي المبرمان (6)، وما البديع، وما بديع البديع، وما المخترع (7)، ومن صاحب البيت السائر:
وبي مثل الذي بك غير أني ... ألام على البكاء وتعذرينا
__________
(1) يزهى ويتكبر بها.
(2) أي نزل الأمر في قراره، فلا يستطاع له تحويل وهو مثل يضرب عند الشدة تصيب الإنسان. وانظر مجمع الأمثال 1/ 272271.
(3) العود: البعير المسنّ، والعنج: ضرب من الرياضة يعلّمه البعير وهو أيضا مثل معناه: جل البعير بما أسنّ عن تعلم الرياضة. مجمع الأمثال 1/ 309.
(4) الجابه: وارد الماء وليس معه أداته ولا دلاؤه، والجوزة: السّقية الواحدة، ويؤذن: يردّ، والمعنى: لكلّ من ورد علينا سقية، ثم يمنع من الماء وهو مثل يضرب للنازل يطيل الإقامة. مجمع الأمثال 2/ 101. في الأصل: «ثم يودي».
(5) أسماء جمّاع القرآن في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المحبّر لابن حبيب 286، الفهرست 41، الإتقان 1/ 74.
(6) هو محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر النحوي، ومبرمان لقب له. توفي سنة 345هـ. الإرشاد 7/ 42، الانباه 3/ 189، البغية 74، تاج العروس 1/ 11، 8/ 186، 198، منتخب الألقاب لابن الفرضي 66، طبقات الزّبيدي 84.
(7) في الأصل: «وما المخدع».(1/257)
ولقد (1) صدق الأعرابيّ في قوله: كن كالضّب الأعور يعرف قدره ولا يفارق جحره وأصاب عمر في قوله: لا تحملوا النّفس على المهجور فتتركوا المفروض، ولا تتجنّبوا المأذون لكم فيه فتركبوا المنهيّ عنه.
يحضرنا قوم لهم دفر (2) كصنان (3) التيوس أعيا على المسك والغالية، يسألون عما لا يعنيهم ولا يليق بقدرهم، ولو سألت واحدا منهم عن كنية أعشى همدان (4) أو عن دعيميص الرّمل (5)، وما اسم النّموذج في كلام العرب، وكيف يجمع العجان (6)، وكيف يصرف الهجان (7)، وما الأقذّ والمريش (8)، وما الخباء
__________
(1) في الأصل: «ولو صدق».
(2) الدّفر: النتن.
(3) الصنان: رائحة معاطف الجسم.
(4) عبد الرحمن بن ناعط، وقيل: ابن مالك، وكنيته أبو المصبّح.
ترجمته ومراجعها في «المكاثرة عند المذاكرة».
(5) اسم رجل كان خريتا ماهرا، فضرب به المثل فقيل: «أدل من دعيميص الرمل». مجمع الأمثال 1/ 184، اللسان (دعمص).
(6) العجان: الأست، والجمع: أعجنة وعجن.
(7) الهجان: البيض من الإبل، يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع، وقيل: هجان وهجن وهجائن فمنهم من يفرده دائما ومنهم من يجمعه ويكسّره.
(8) الأقذّ: السّهم لا ريش له، والمستوي البري لا ميل فيه، والمريش:
السّهم عليه ريش.(1/258)
والعريش (1)، وما المشوق والحريش (2)، وما المشوف والخريش (3)، وما الرّثية (4) والفريش (5)، وما الكصيصة (6) والقصيصة (7)، والخربصيصة والهلبسيسة (8)، وما الفرق بين: ما [أنت] (9) أخانا فنكرمك، وبين ما أنت أخانا فنهينك، الأول بالنصب والثاني بالرفع، ومن الذي يقول:
فأرميها بجلمود ... وترميني بجلمود
فأرميها وترميني ... وكل هالك مود
__________
(1) الخباء: البيت من الوبر أو الصوف، والعريش: الخيمة من الخشب أو الثمام.
(2) المشوق: المشتاق، والحريش: نوع من الحيات، ودابة تسميها العامة الكركدن.
(3) المشوف: المجلوّ، ومن الإبل: المطليّ بالقطران، والجمل الهائج.
والخريش: المخدوش.
(4) الرثية: وجع المفاصل، والفتور، والحمق.
(5) الفريش من ذوات الحافر: التي أتى عليها من نتاجها سبعة أيام. ومن النبات: ما انبسط على الأرض.
(6) الكصيصة: حبالة يصاد بها الظبي، وموضعه الذي يكون فيه.
(7) القصيصة: البعير أو الدابة يتبع بها الأثر، والزاملة الضعيفة يحمل عليها المتاع، وشجرة يتخذ منها الغسيل، ونبت يخرج إلى جنب الكمأة.
(8) يقال: ما على المرأة هلبسيسة ولا خربصيصة: أي شيء من الحلي.
وقيل: الخربصيصة: الأنثى من بنات وردان.
(9) تكملة لا بد منها.(1/259)
ولكن صدق عمرو بن عبيد شيخنا وشيخ الاسلام، وشيخ «العدل والتوحيد» حين قال: لن يكون العبد مستكملا لاسم الولاية حتّى يسمع الكلمة العوراء فيجعلها دبر أذنه.
هذا مع قوله: تقويم الجاهل بما ينكر أيسر من تعريفه ما يجهل، ولولا أنّ عذري في تقويمك وتأديبك وتهذيبك وتربيتك يغمض على كثير ممن يسمع هذا الحديث لسلخت شواتك (1)، وكسرت على رأسك دواتك، وألزمتك دكانك وأداتك (2) وأطعمتك بولك وخراتك.
اذهب فأنت طليق الجهل والقلّة، عتيق الخيبة والذلة.
وكان إذا انتهى كلامه مع خصم يقول: النظر شعاري، والجدل دثاري، والحقّ مناري، والبيان مداري، والله جاري (3).
وقال يوما للحسين المتكلّم:
ألي تقول هذا، والجدل ردائي، والنظر حذائي، والعلم وطائي، والبلاغة غطائي، والذّهب والفضّة عطائي؟
__________
(1) الشواة: جلدة الرأس.
(2) الأداة: الآلة.
(3) الجار: الناصر.(1/260)
وقال يوما آخر لأبي صادق الطّبري:
أنت يا أبا صادق خفيف الراس، شديد الإفلاس، إذا أبصرت النّحار (1) هذيت بالوسواس، وصدّعت رؤوس الناس، بالتّمويه والإلباس (2).
وسمعته يوما يقول لابن شاذان: يا أبا الحسن، توقّ الرسن (3)، وانظر إلى المسنّ (4) فما أخوفني أن تسن (5) بالقبيح لا بالحسن.
فقال له: أيها الصاحب! كرم طبعك أمان لي من بوائق (6) سجعك.
وقال يوما لابن حمزة:
الجدل من قبلي، والنظر من خولي هل هضبة توفي على جبلي؟
فاحفظ نفسك، واعرف خصمك، وراجع فهمك، وجرّب بختك.
وكانت له تعسات (7) كثيرة، لكنها كانت تدفن ولا تذاع، رهبة ورغبة.
__________
(1) النحار: القتال.
(2) الإلباس: التلبيس.
(3) الرسن: الحبل تخطم به الدابّة.
(4) المسنّ: الحجر يسن عليه.
(5) تسن: تطعن بالسنان.
(6) جمع بائقة، وهي الداهية.
(7) تعسات: عثرات.(1/261)
قال يوما: «اطّلع / عليه»، ولا يجوز «إليه»، والمعنى يقتضي عليه لا غير.
فقال له الضرير النحوي: فما نصنع بقوله عز وجل: {«لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى ََ إِلََهِ مُوسى ََ»} (1)؟ فبرد.
ومن هذا الضّرب قال يوما: جنّ عليه الليل، [أي] (2) كنّه الليل، ولا يجوز غير هذا.
فقال له أبو عمران الحسنكي: هذا لعمري في الفصيح، وإياه ذكر ثعلب (3) واختاره، ولكن أين نحن من المرّار الفقعسيّ (4)، وهو أفصح من عالم صاحب «الفصيح»، فإنه قال:
آليت لا أخفي إذا الليل جنّني ... سنا النّار عن سار ولا متنوّر
فقال: يا أبا عمران! أنت جاهل بالعلم، ولذلك شوّه الله وجهك، ووكّل المقت والإدبار بك.
__________
(1) سورة القصص 38. وفي كلام الضرير مغالطة لأن معنى التعبيرين مختلف باختلاف حرف الجر.
(2) تكملة للايضاح، ومكانها بياض في الأصل.
(3) انظر الفصيح (مع شرح أبي سهل الهروي) 26.
(4) المرار بن سعيد بن حبيب الفقعسي الأسدي، شاعر إسلامي كثير الشعر.
الشعراء 683680.(1/262)
وأنشد يوما لشاعر:
وإذا قلت لها: جودي لنا ... خرجت بالصّمت من لا ونعم
قلت: أصحابنا كذا ينشدون (1)، ويقال فيه تصحيف.
فقال: اسلح على أصحابك.
ولو كان سأل عن وجه التّصحيف لكان أشبه بالفضل وأخلق بأخلاق الرؤساء.
وقيل له يوما: ما القرحان (2)؟
قال: الذي لم يخرج به الجدري.
قيل: ولم قيل ذلك؟
قال: ليسخن الله به عين السائل، ويسخّم وجهه، ويسمل عينه، وليقلّ دينه، ويدقّ ظهره، ويسلّط عليه من يسدّ دبره.
واستؤذن يوما للورّاق الطرسوسي فقال: الطّرّ (3) في لحيته، والسوس في حنطته، ما أصنع بطلعته؟
__________
(1) في الأصل: «كذى ينشدون».
(2) رجل قرحان: لم يمسسه القرح، وهو الجدري كأنه الخالص من ذلك، ومنه الماء القراح الذي لم يخالطه شيء.
(3) الطر: القطع والقص.(1/263)
وتكلّم يوما الخطيب في قول الرجل: «لا مال له قليل ولا كثير، ولا مال له قليلا ولا كثيرا (1)»، فلم يفهم عنه.
وقيل له: ما الفرق بين «با» و «تا» و «ثا» في مواضعها المخصوصة (2)؟ فتحيّر. وكان السائل ابن المراغيّ.
وقيل له: لم جاز: إنّ زيدا منطلق وعمرو، ولم يجز: ليت زيدا منطلق وعمرو، والحرفان متضارعان في إيجاب النصب (3)؟
فلم يكن عنده جواب.
ولقد سهرت معه ليلة في معرفة الفرق بين: «زيد أفضل إخوته وزيد أفضل الإخوة» وجواز أحدهما وبطلان الآخر (4)، فكان كالحمار بلادة.
وقلت للحيلوهي (5): إنك تنال من عرض هذا الرجل جدّا.
__________
(1) انظر الفرق بين التعبيرين في شرح ابن عقيل على الألفية (مع حاشية الخضري) 1/ 147.
(2) كأن في الكلام نقصا فالمعنى المراد من السؤال غير واضح.
(3) يحكى عن الفراء جواز ذلك مع «ليت» أيضا. وانظر حاشية الخضري على شرح ابن عقيل 1/ 165164.
(4) «زيد أفضل إخوته» لا يجوز، وقد أوضح أبو حيان نفسه وجه المنع نقلا عن أبي سعيد السيرافي في الامتاع 1/ 120118، والبصائر 875.
(5) الكلمة في الأصل: للحلوهى، وكذلك هي في أصول الامتاع 3/ 28.
وقرأها ناشرو الامتاع: «الحنبلوني».(1/264)
فقال: قال النبي صلى الله عليه: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وظهره (1)» كما قال: «مطل الغنيّ ظلم (2)».
قلت: إنما ورد هذا في الواجب، كالدّين والثّمن وما أشبههما.
فقال: الأمل دين، والكرم مطلوب، وما رأّس الله أحدا إلا وفرض عليه الإفضال والإحسان.
وقيل لعقيل بن علّفة (3): لم تهجو (4) قومك؟
فقال: إن الشاة إذا وردت الماء فلم يصفر لها لم تشرب، أي إذا لم يحرّضوا على المكارم لم يفعلوها.
__________
(1) اللّيّ: المطل في أداء الدين وتأخيره، و «ظهره»: يعني اغتيابه.
والحديث في النهاية بلفظ: «لي يحل عقوبته وعرضه». وانظر لسان العرب (لوى).
(2) الحديث في المقاصد الحسنة للسخاوي 183. والمطل: تأخير أداء الدين.
(3) عقيل بن علفة المري، أبو الوليد وأبو العميس، شاعر مجيد من شعراء غطفان. كان شريف النفس كثير الفخر بنسبه، فرغب الخلفاء والأشراف في مصاهرته، وتزوج إليه يزيد بن عبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم أخو مروان. ترجمته في المؤتلف والمختلف للآمدي 160، معجم الشعراء للمرزباني 302301، اللآلي 185، الأغاني 11/ 85، الخزانة 2/ 278.
(4) في الأصل: «لم تهجوا».(1/265)
قال: وأنا أستحسن قول الفضل بن يحيى (1): ما حثّني أحد على الكرم كرجل أنشدني بيتين وهما:
عدلي بعادتك التي عوّدتني ... روحي فداؤك يا أبا العبّاس
إن الذّخائر إن أردت ذخيرة ... ممّن يقلّدها رقاب الناس
قال: وأعجب من ذلك قول جرير فيما رواه الصّولي: إذا مدحتم فاختصروا، وإذا هجوتم فأطيلوا (2) فإن الناس لا يملّون الشّر.
ورأيته يوما، وقد جرى وانقطع ظهره فإنّه قال (1):
قولهم: «إنها لإبل أم شاء»، معناه: بل شاء (3).
فقال له الحسنكي: فما تصنع بقوله عزّ وجل: {«أَمِ اتَّخَذَ مِمََّا يَخْلُقُ}
__________
(1) أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي الجواد المشهور. كان أخا الرشيد من الرضاع، ووزر له قبل أخيه جعفر بن يحيى، وولاه الرشيد خراسان فحسنت سيرته. توفي سنة 208هـ. انظر وفيات الأعيان 1/ 516.
في الأصل: «بن يحيى قال: ما».
(2) في العمدة لابن رشيق 2/ 164: «وجميع الشعراء يرون قصر الهجاء أجود إلا جريرا فإنه قال لبنيه: إذا مدحتم فلا تطيلوا الممادحة، وإذا هجوتم فخالفوا».
(3) تفيد «أم» هاهنا معنى الاستفهام والإضراب معا، والمعنى: «بل أهي شاء». انظر شرح المغني للدماميني 1/ 93.(1/266)
{بَنََاتٍ} (1)؟» أتراه أراد به: بل اتّخذ مما يخلق بنات، وهذا كفر؟
فما دار لسانه بشيء على حدّته وكثرة هذيانه.
وحدثني العبسي، وقد جرى ذكر ابن عبّاد:
لقد أتانا حديث ما نكذّبه ... عن الرّسول رويناه بإسناد
أن تطلب الخير ممّن وجهه حسن ... فكيف تطلبه عند ابن عبّاد
مشوّه الخلق لا دين ولا حسب ... كالقرد ما عنده خير لمرتاد
فقلت: لمن الشّعر؟ فإنه واقع جدّا.
فقال: هو لإدريس بن أبي حفصة (2).
قلت له: كأنه ما عنى غير صاحبنا.
وقال له يوما ابن ثابت:
روى البخاري في «التاريخ (3)» أن سعدا (4) مولى أبي بكر روى
__________
(1) سورة الزخرف 16. و «أم» هنا معناها الاستفهام الإنكاري. كما في البحر المحيط لأبي حيان 8/ 8. فالمعنى يختلف في الموضعين وقول الصاحب في معنى التعبير صحيح.
(2) أبو سليمان إدريس بن أبي حفصة في الفهرست لابن النديم 229.
وانظر كتاب الورقة 45.
(3) التاريخ الكبير، الجزء 2القسم 2ص 48رقم 1918.
(4) هكذا اسمه في تاريخ البخاري، وسماه ابن حجر في الاصابة 3/ 250 «سعيدا».(1/267)
أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه صفوان بن المعطّل (1)، وقال:
إنه هجاني.
فقال: دعوه، إنه خبيث اللّسان طيّب القلب.
فما تأويل: «خبيث اللسان وطيّب القلب»؟
فقال: البخاري حشويّ (2) فشريّ (3)، ليس عليه معوّل، ولا لقوله متأوّل.
وسئل يوما عن قول الله عز وجل: {«فَإِنْ يَشَإِ اللََّهُ يَخْتِمْ عَلى ََ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللََّهُ الْبََاطِلَ} [4]»، كيف نظمه وتمامه في المعنى واللّفظ؟
فصاح على السائل وقال: أتسأل عن النّظم، وأنت لا تعرف الرّقم (5)
__________
(1) في الأصل: «ابن أبي المعطل»، والتصحيح عن الاصابة وتاريخ البخاري.
(2) منسوب إلى الحشوية، وهم طائفة من المشبهة. وحين يستعمل كلمة «حشوية» معتزلي، والأمر هنا كذلك، فالمراد بها «أهل السنة». وقد تستعمل ويراد بها ما يرادف كلمة «جاهل». وانظر شفاء الغليل 81.
(3) فشرى: نسبة إلى الفشار بمعنى الهذيان، عامية. تاج العروس 3/ 470، شفاء الغليل 167.
(4) سورة الشورى 24.
(5) الرقم: الكتابة.(1/268)
ولا العقم (1) ولا الصّدم (2) ولا الرّدم (3)؟
وأوصل إليه الوليديّ مسائل من جماعة من أهل نيسابور، كان فيها:
ما معنى: {«إِنَّمََا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْكََاذِبُونَ} [4]»؟ قد علمنا أن من كذب فهو كاذب.
وكان فيها:
ما معنى قوله تعالى: {«لََا تَتَّخِذُوا إِلََهَيْنِ اثْنَيْنِ} [5]»، وقد علمنا أن إلهين لا يكونان إلا اثنين؟ ولا قناعة لنا بقول من قال: هذا توكيد فإن المطالبة فوق التوكيد وأضعف المتكلّمين في القرآن من زعم أن شيئا منه زائد، وأن كذا وكذا لغو، وأن هذا على وجه التوكيد، ونحن وإن كنا نعلم أن التوكيد مذهب العرب، وكذلك الزيادة والحذف والإضمار، فالحكمة المطلوبة غير ذلك.
__________
(1) العقم: ضرب من الوشي.
(2) الصدم: الدفع.
(3) الردم: سد الباب أو الثلمة، وما يسقط من الجدار، والصوت.
(4) سورة النحل 105.
(5) سورة النحل 51.(1/269)
وعرض عليّ الوليديّ المسائل، وكان فيها:
ما معنى قول الله عز وجلّ: {«لََا تَجْعَلْنََا مَعَ الْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} [1]»؟
وما وجه قول القائل: {«لََا تَجْعَلْ»} [في] ما (2) لا يجعل؟ أو جائز أن يقال للإنسان: لا تنظر برجلك، ولا تمش بعينك؟ [فإن] (2)
قيل: لا، لأن هذا لا يخاف، قيل: وكذلك لا يجعل الله، أحدا مع القوم الظالمين، لأن هذا لا يخاف.
وما معنى قوله: {«مََا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهََا وَمََا يَسْتَأْخِرُونَ} [3]»، وقوله: {«ثُمَّ جِئْتَ عَلى ََ قَدَرٍ يََا مُوسى ََ} [4]»، وقوله: {«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [5]»، وعن قوله عزّ وجل: {«وَتِلْكَ الْأَيََّامُ نُدََاوِلُهََا بَيْنَ النََّاسِ} [6]»؟
وما معنى قوله: {«لَقَدْ كََانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيََاتٌ لِلسََّائِلِينَ} [7]»؟
خبّرنا عن «الآيات»، أكانت في أفعالهم أو في أبدانهم؟
__________
(1) سورة الأعراف 47.
(2) تكملة يتضح معها الكلام.
(3) سورة الحجر 5، وسورة المؤمنون 43.
(4) سورة طه 40.
(5) سورة طه 39.
(6) سورة آل عمران 140.
(7) سورة يوسف 7.(1/270)
وما معنى: {«مَنْ يُرِدِ اللََّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً أُولََئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [1]»؟
وخبّرنا عن قوله: {«وَمََا مِنْ / دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا} [2]»
وعن قوله: {«فَإِنََّا} [3] قَدْ فَتَنََّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السََّامِرِيُّ (4)» وما معنى: {«وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} [5]»
أللاختلاف أم للرّحمة؟
فإن قيل: للرّحمة، قيل: فالمختلفون هم الذين خلقهم للرحمة، فما معنى: {«وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ»}؟ فقد أخرج من رحم من الاختلاف وللرّحمة خلقهم، فإذا كان كلّهم للرحمة خلقوا فكلّهم غير مختلفين، لأنه نفى عنهم الاختلاف وهم الجميع، فأين المراد بالآية؟
وقال: {«إِنَّ النَّفْسَ لَأَمََّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلََّا مََا رَحِمَ رَبِّي} (6)»، وقال:
{«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً}
__________
(1) سورة المائدة 41.
(2) سورة هود 6.
(3) في الأصل: (إناقد).
(4) سورة طه 85.
(5) سورة هود 119.
(6) سورة يوسف 53.(1/271)
{وََاحِدَةً وَلََكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشََاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظََّالِمُونَ مََا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} (1)». أفليس قد أخبر أنه لم يشأ أن يجمعهم على الهدى إذ أمرهم؟
وما معنى قوله: {«كَذََلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشََاءَ} (2)»؟
فإن كان عمّ بهذا الكفّار والمؤمنين فما فضيلة يوسف؟ وإن كان خصّ يوسف فهو قدح في النّحلة.
وقال: {«وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} [3]»
ممّا شاء الله فعله؟ فإن قيل: نعم، فكلّ ما شاء الله كان، فهذا قولنا، وإن كان [مما] (4) لم يشاء فلا يكون، فما وجه إيجاب الأمر بأن لا يقول لشيء إني فاعل؟ إذ العباد يفعلون وإن لم يشأ الله.
وما تأويل قوله: {«أُولََئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصََارِهِمْ} [5]»، وقال: {«وَاتَّبَعُوا أَهْوََاءَهُمْ} [6]»؟
__________
(1) سورة الشورى 87.
(2) سورة يوسف 24.
(3) سورة الكهف 23.
(4) تكملة لا بد منها.
(5) سورة النحل 108.
(6) سورة محمد 16.(1/272)
فبدأ بالطّبع، ثم ثنّى بالاتّباع، وهذا يدفع تأويلكم في قوله:
{«فَلَمََّا زََاغُوا أَزََاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} [1]».
وما تأويل قوله: {«وَالَّذِينَ} [2] اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ (3)»، وقال: {«هََذََا بَيََانٌ لِلنََّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [4]»؟
فهو بيان للكفّار، وهدى وموعظة للمتّقين دون الكافرين، فلم تعمّون ما خصّ الله، وتخصّون ما عمّ الله؟
وما تأويل قوله: {«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلََا يَزِيدُ الظََّالِمِينَ إِلََّا خَسََاراً} [5]»؟
وما تأويل قوله: {«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [6]»؟
وما تأويل قوله: {«لََا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [7]» فخصّ بهدايته أهل التقوى؟
__________
(1) سورة الصف 5.
(2) في الأصل: «الذين».
(3) سورة محمد 17.
(4) سورة آل عمران 138.
(5) سورة الإسراء 82.
(6) سورة الحشر 9، وسورة التغابن 16.
(7) سورة البقرة 2.(1/273)
فإن قيل: هو هدى للكافر أيضا، فكيف وقد ختم القصّة فقال: {«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوََاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [1]»، كيف يكون القرآن هدى لمن كان سواء عليه أأنذر أم لم ينذر.
ويقال: قال الله تعالى: {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ} [1]»، فهل زال فرض الله بختمه على قلوبهم؟
فإن قالوا: لا، فقد كلّفوا أن يبصرو الهدى وقد ختم على قلوبهم، وأزالوا الفرض عمن ختم الله على قلبه وعذروه بكفره، وجعلوه (2) بمنزلة الصّبيّ والمجنون.
وإن أبوا أن يقال: لو شاء الله لم يعص، لأن الله ذمّ الذين قالوا:
{«لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا} [3]» الآية، قيل: فما تصنعون بقوله: {«وَآتَيْنََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [4] الْبَيِّنََاتِ وَأَيَّدْنََاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [5]» واقتتالهم معصية، ولو شاء الله ما عصوا بأن يمنعهم، إذ خلّى بينهم وبين معصيته؟
وما معنى قوله: {«وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} [6]».
__________
(1) سورة البقرة 6.
(2) أنزلوه منزلة الصبي.
(3) سورة البقرة 7.
(4) في الاصل: «بن مريم».
(5) سورة الأنعام 148.
(6) سورة البقرة 253.(1/274)
قال الوليدي:
وترددت (1) شهورا ليجيب عنه فما فعل.
وكان في المسائل أيضا:
كيف ينفى العلم عن الله وقد أثبته لنفسه في مواضع، والنصّ لا يحذف ولا يتأول قال الله تعالى: {«أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [2]»، وقال:
{«فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [3]»، وقال: {«وَأَضَلَّهُ اللََّهُ عَلى ََ عِلْمٍ} [4]»، وقال: {«وَلَقَدِ اخْتَرْنََاهُمْ عَلى ََ عِلْمٍ} [5]»، وقال: {«وَلََا تَضَعُ إِلََّا بِعِلْمِهِ} [6]»، و {«وَسِعَ رَبُّنََا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [7]».
ومن أعرض عن التّنزيل فقد خلع ربقة الدّين.
وكان إذا رأى كاتبا يقول له: أأحكمت «الفصيح»؟ هات:
قذت العين (8) ماذا، وهات: لحم الرجل وشحم وما في بابه
__________
(1) تحتمل في الأصل: «فترددت شهورا».
(2) سورة النساء 166.
(3) سورة الأعراف 7.
(4) سورة الجاثية 23.
(5) سورة الدخان 32.
(6) سورة فصلت 47، وسورة فاطر 11.
(7) سورة الأنعام 80.
(8) قذت العين تقذى: وقع فيها القذى، وتقذي، رمت بالقذى.(1/275)
وإذا رأى صاحب لغة قال: ما معنى قول الشاعر (1):
وأقدر مشرف الصّهوات ساط ... كميت لا أحقّ ولا شئيت (2)
وإذا رأى نحويا يقول: على ماذا ينتصب {«نَذِيراً لِلْبَشَرِ»} (3).
فإذا أكثر من هذا وشبهه أنشد:
أرى الناس أخلاطا جميعا وإنهم ... على ذاك شتّى والهوى متفرّق
ترى المرء إن جالسته ذا صناعة ... وسائر ما فيه على ذاك أخرق
وتلقى أصيل الرأي ليس لسانه ... بمخرج ما في قلبه حين ينطق
ورأيته مرة يسأل الحسنكي:
ما الطّاية (4)، والثّاية (5)، والغاية (6)، والآية (7)، والرّاية (8)؟
__________
(1) هو عدي بن خرشة الخطمي، والبيت في اللسان (ساط، شأت، حقق).
(2) فرس أقدر: تجوز حافراه رجليه عند العدو، وذلك من صفات مدحه، والساط: الذي يرفع ذنبه في عدوه، وهو محمود فيه أيضا، والأحق:
الذي يضع رجله موضع يديه، والشئيت: العثور، وكلاهما من صفات الفرس المذمومة.
(3) سورة المدثر 36.
(4) هذه الكلمات في رسالة الملائكة لأبي العلاء (101، 109، 117).
الطاية: السطح، والصخرة العظيمة، وأرض لا حجارة فيها، والقطعة من الابل.
(5) الثاية: مأوى الغنم والإبل والبقر.
(6) الغاية: المنتهى، ومدى الشيء. وفي الأصل: «العاية»، والتصويب عن رسالة الملائكة 101، 109.
(7) الآية: العبرة والعلامة.
(8) الراية: العلم.(1/276)
وما الناقة القاصية (1) والعاصية (2) والعاطية (3)؟
وكان سريع الرّد على الانسان شديد التّعجرف، وكان ذلك ربما انقلب عليه.
وقال يوما لبعض العلماء في كلام سمعته منه: «أصفيته كذا وكذا» لا يجوز، أما قرأت القرآن: {«أَفَأَصْفََاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} (4)» إنما يجب أن تقول: أصفيته بكذا وكذا.
فقال العالم: هذا صحيح فصيح، وغيره جائز حسن، أما قرأت في الحماسة قول الشاعر في النسيب:
لئن كنت أوطأتني عشوة ... لقد كنت أصفيتك الودّ حينا
فقال بعجرفته: الشعر موضع ضرورة.
__________
(1) القاصية: المنفردة عن القطيع:
(2) العاصية: التي لا تتبع أمها.
(3) العاطية: المنقادة.
(4) سورة الأعراف 40.(1/277)
وكذب، ليس هذا من ذلك.
وحدّثني الثقة قال: قال يوما المسيّبي في حديثه: «وكان يخفر من ذاك ويستحيي».
فقال له: سخنت عينك، لا يقال للرجل يخفر، الخفر للنّساء.
فقال المسيّبي: أيها الصاحب! التؤدة خير من العجلة، أين نحن من قول الشّمردل في أرجوزته، رواها أبو حاتم (1):
لا يسبق النائل منه المنكر ... فتى شتاء يستحي ويخفر
فقال: أخذنا في الحماقة.
وقال مرّة: «ضرّه وأضرّ به»، ولا يجوز أضرّه، كذا لا يجوز ضرّ به.
فقال له رجل / من خراسان: فما تقول في قوله عزّ وجل (2):
{«وَمََا هُمْ بِضََارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ} [3]»؟
فقال للرجل: اخسأ! أهذا من ذاك؟
وأخجل الرجل في صوابه، ولم يخجل هو من خطئه لسقوطه وجهله ومكابرته وحسده
__________
(1) سهل بن محمد السجستاني اللغوي الناقد المتوفى سنة 255هـ على خلاف.
الفهرست 86، الإنباه 2/ 58.
(2) في الأصل: «فما تقول في قوله».
(3) سورة البقرة 102.(1/278)
وقال يوما: النّكث للعهد، والخلف للوعد ولا يجوز: نكث الوعد، وكذا لا يجوز: أخلفت العهد.
وكان بيت القرآن والرواية حاضرا أبو الحسن ابن شاذان فقال: هذا مرفوض بقوله تعالى: {«قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللََّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ عَهْدَهُ} [1]».
فبرد، وكان باردا، لا رحم الله صداه ولا بلّ ثراه.
وقال في بعض اللّيالي: الاقتراف لا يكون إلّا في القبيح، أما سمعت الكلام الذي هو كالمثل: «الاعتراف يمحوا الاقتراف (2)»؟
فقال له مقرئ قد حضر: التنزيل يأبى هذا الحكم وينطق بغيره.
قال: وما ذاك؟
قال: قال الله تعالى: {«وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهََا حُسْناً} [3]»، فخزي وقام.
ورأيته يناظر أبا الفرج البغداديّ الصّوفي، وكان في أذنه وقر،
__________
(1) سورة البقرة 80.
(2) مثل في مجمع الأمثال 1/ 321. في الأصل: «يمحوا».
(3) سورة الشورى 23.(1/279)
في وساوس الصوفية وخطراتهم، فقال له: يا أبا الفرج! إذا كانت البينونة مشعورا بها في عرصة الحقّ حيث لا عبارة للخلق، ولا أمان للجلّ والدّقّ بطنت وسائل المعرفة بحقائق المراد، واشتبهت أعلام الحال في تثبيت الإشارة، وبقيت العبارة على إلف الآلف، وعادة المتالف.
فأجابه أبو الفرج: لا ثبات لمناسب البينونة في نهايات الاتّحاد، لزوال شرائط رسوم الخلق عند تصافي الأرواح بحقائق الحقّ. قال ابن عبّاد: ما أنكر تلاشي المناسب في نهايات الاتحاد، إذا سطعت أنوار الحقيقة بالاتّقاد وإنّما جررت الكلام إلى غاية تزلق فيها (1)
الأفهام. وتسيخ فيها (1) الأوهام، ولا يشرف عليها (1) إلا من خصّه الحقّ بخصائص التّمام، ورفع معارفه عن معارف جملة العوامّ ولولا الحال التي امتحنني الحقّ بها، وسحبني على غرائبها وعجائبها، في عرض صوادقها وكواذبها، ممّا هو مردود إليه، ومتوكّل فيه عليه، لشققت معك جلباب صدر قد حشي ودائع، وفتحت لك أبواب خزائن قد جمعت فيها بدائع ولكنّي بما تراني أذبذب (2) عليه مأخوذ،
__________
(1) في الأصل: «فيه فيه عليه».
(2) أذبذب: أتردد.(1/280)
وبما تسمعني أدندن حوله محذوذ (1). وإلى الله المشتكى، فهو الغاية والمنتهى.
ثم قال: يا أبا الفرج! هل تعرف من أصحابك من يقول:
بليت بما لو يبتلى أحد به ... لأصبح كالعهن النّفيش يطيش
بعشق وإعراض وشوق وغربة ... ومحك (2) الذي أهوى فكيف أعيش
وأعجب من ذا أنّني متصوّف ... ولكنّ صوف العاشقين حشيش
وقلت (3) لأبي السلم نجبة بن عليّ [القحطاني الشاعر (4)]: قد لقيت ابن العميد، وها أنت تشاهد ابن عبّاد، فصفهما لي فإنك رجل بدويّ، وتنظر إلى كل شيء بفطرتك، وتنطق عن كل شيء بسابق فطنتك.
فقال: أمّا ابن العميد يعني أبا الفضل فكان بحره لا ينزف (5)
وبرّه لا ينسف (6)، وغباره لا يشقّ، ونسيمه لا ينشق، وحبّه
__________
(1) محذوذ: مقطوع.
(2) المحك: عسر الخلق، والاستمرار في الخصومة.
(3) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 301.
(4) عن الإرشاد 2/ 301.
(5) لا ينزف: لا يفنى ماؤه.
(6) لا ينسف: لا يختطى. المعنى: لا يرام لعزه.(1/281)
لا يفرك (1) وأديمه لا يعرك (2) على بخل كان به أحال نهاره ليلا، وألصق به ثبورا وويلا.
وأمّا هذا يعني ابن عبّاد فليس في استحسانه لإحسانه فضل لاستحسانه لإحسان غيره، قد غرق في بحر نفسه، فليس يرفع طرفه إلى أحد من بني جنسه وهذا الذي يدلّ على غاية نقصه.
وقلت للحيلوهي يوما: كيف ترى ابن عبّاد؟
فقال: كما قال الشاعر (3):
كبرق لاح يعجب من رآه ... ولا يسقي الحوائم من لماق (4)
ونظر إليه يوما وقد طلع في موكبه فتمثّل بقول الشاعر:
وأنت كغيث السّوء من ير برقه ... يشمه ومن يحلل به فهو جادبه (5)
__________
(1) حبّه لا يفرك: لا يدلك حتى ينقلع قشره عن لبه. أي لا يسام الخسف.
(2) عرك الأديم: دلكه، وعركته الحرب أتت عليه.
(3) هو نهشل بن حرّيّ، والبيت في اللسان (لمق)، وشرح الشريشي على المقامات 2/ 110برواية: «ولا يشفي».
(4) الحوائم: العطاش. اللماق: اليسير من الشراب والطعام.
(5) الجادب: الكاذب. وانظر لسان العرب (جدب).(1/282)
ومن شعر ابن عبّاد، وهو يتملّح به عند نفسه، قوله في رجل تزوّجت أمّه:
عذلت لتزويجه أمّه ... فقال: فعلت حلالا يجوز
فقلت: حلال كما قد زعم ... ت ولكن سمحت بصدع العجوز
وقال أيضا (1):
زوّجت أمّك يا أخي ... فكسوتني ثوب القلق
والحرّ لا يهدي الحر ... مّ (2) إلى الرجال على طبق
وقلت لأبي الفرج الصّوفي البغدادىّ: أنت شيخ صوفيّ، ولك ذكر جميل، لم تتعاطى لهذا الرجل أعني ابن عبّاد الكلام في الزّهد والدّقائق والأضمار والوساوس وتصفية الأعمال؟ هذا علم يذاكر به أصحاب الحرق، وأرباب الخرق.
فقال: هذا رجل رقيع رفيع، وله جاه ومال وهو مطاع، ولست أصل إلى ما في يديه إلا بالرّقاعة، وأنا ثقيل الظّهر بالعيال محتاج إلى
__________
(1) البيتان في اليتيمة 3/ 244، ومعاهد التنصيص 2/ 160.
(2) الحرم، بضمتين جمع حريم، وهو ما يحميه الرجل من أهله وأقاربه.
وشددت الميم للوزن. ورواية اليتيمة «الحرام إلى»، وفي المعاهد: «اللحوم إلى». وكلتاهما تصحيف.
القوت، فأحمق له ساعة حتّى أنال منه هذا الحطام الذي (1) قد تهالك عليه الخاصّ والعامّ، وقد قال الأول:(1/283)
القوت، فأحمق له ساعة حتّى أنال منه هذا الحطام الذي (1) قد تهالك عليه الخاصّ والعامّ، وقد قال الأول:
فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وسمعته يقول، وقد جرى حديث ابن العميد أبي الفضل، فقال:
لم يكن له مع فضله الشائع، وأدبه البارع علم الدّين، ولا كان عنده شيء من الشّريعة كان لا يعرف القرآن وأحكامه وغريبه وإعرابه، واختلاف العلماء فيه بضروب التأويل وغرائب التّفسير والرئيس إذا عري من هذا السّربال فهو ممقوت عند الله تعالى، مقلي عند الناس. وكان (2) إذا سمع كلاما في الدّين ثقل عليه، وخنس عنه، وقطع على الخائض فيه، وكان إذا احتفل في العلم والحكمة وما يدلّ على الخصوصية قال:
لم صارت الأشياء المتعادية في حياتها تتعادى بعد مماتها أيضا وتتنافر؟ كمعى الذّئب (3) وجلد الشاة، وكسنّ السّنّور وعظم الفارة.
ولم الصبيّ إذا ولد أزرق فأرضعته حبشية عاد أشهل، فإن دامت عليه عاد أكحل؟
__________
(1) في الأصل: «والذي».
(2) يعني أبا الفضل ابن العميد.
(3) في الأصل: «كمعا الذئب».(1/284)
لا يتغلغل شعره كما اسودّت حدقته؟
ولم ينسب الضّب إلى العقوق (1)، والهرّة إلى البرّ، وهما يتشابهان في أكل أولادهما؟
قال: ويقول في دقيق علمه وغامض حكمته: قيل لسنّورة: لم تأكلين جراءك على فرط حبّك لها؟ قالت: يخيّل إلينا أنّ أكبادنا أولى بأن تكون فيها، من الأماكن التي تحويها (1).
قال: ومن جملة ذلك أيضا:
لم تموت السّعلاة من الضّربة الأولى، وتعيش بالضّربة الثّانية؟
ولم صار الفرس لا طحال له (2)، والبعير لا مرارة له (3)، والظّليم لا مخّ لعظمه (4)؟
ولم ليس في السّباع أطيب أفواها من الكلاب (5)، ولا في الوحش أطيب أفواها من الظّباء (6)؟
__________
(1) انظر مجمع الأمثال 1/ 333. ورسالة التربيع والتدوير للجاحظ 96.
(2) انظر الحيوان للجاحظ 6/ 441440. والتربيع والتدوير 93.
(3) التربيع والتدوير 93.
(4) كذا في الحيوان 4/ 326، 327، وفي حياة الحيوان 2/ 313أن له مخا يورث آكله داء السل.
(5) الحيوان 1/ 372، 375، 2/ 154، 176.
(6) الحيوان 2/ 155.(1/285)
وكيف صار الأسد أشدّ الحيوان بخرا (1) وكذلك الصّقر (2)؟
ولم صار الكلب أسبح من سائر السّباع (3)؟
ولم صار حيتان البحر لا ألسنة لها ولا أدمغة (4)؟؟
ولم صار صفن البعير لا بيضة فيه (5)؟
ولم صارت السّمكة لا رئة لها (6)؟
ولم صار في فؤاد الثّور عظم (7)؟
ولم صارت البراغيث تجتمع على السّوط متى دهن بشحم قنفذ أو مسح بمصران ابن عرس (8)؟
ولم صار الزّنبور (9) يموت في الزّيت ويعيش في الخلّ، كما تموت الخنفساء (10) في الورد وتعيش في الرّوث؟
__________
(1) الحيوان 2/ 154.
(2) الحيوان 2/ 155.
(3) الحيوان 2/ 180، 5/ 119.
(4) الحيوان 6/ 441.
(5) الحيوان 6/ 440439.
(6) التربيع والتدوير 93.
(7) الحيوان 6/ 441440.
(8) في الأصل: «بن».
(9) حياة الحيوان 3/ 8، 9.
(10) الحيوان 3/ 349، حياة الحيوان 1/ 170.(1/286)
ولم صار الضّبّ يأكل الجراد ويسالم العقارب (1)، وهي «أشبه بها من الماء بالماء (2)»؟ في حماقات كثيرة، الجهل بها أحمد من العلم بها (3).
هذا من تشنيعه على أبي الفضل، وكان مع ذلك ربّما قال: كان واحد الدّنيا وهذا كما ترى، وهو يدخل في باب المناقضة.
والأمر الذي تشدّد فيه أعني ابن عبّاد وبلغ الحدّ الأبعد منه، وزاد على جميع النّاس فيه: باب المخاطبات، وأنّه كان يطالب أصناف النّاس بما ليس في الطّاقة ولم تجر به عادة، وكان يقول: هذا الذي به أجد طعم ولايتي، ولولا هذه اللّذة والشّهوة ما باليت أن أتقلّب في مرقّعة خلق، وثوب رثّ بال، أجوب بلاد الله، وألقى عباد الله، وآكل رزق الله.
ولقد خدع في هذا عن أموال خطيرة اختلست فتغافل عنها، إمّا عن جهل وجنون، وإمّا عن غيرهما وأفسد البيان والبلاغة على النّاس بهذا السّبب، لأنه كان يسوم كلّ من كتب إليه أن يكنّي عن
__________
(1) الحيوان 6/ 58، 59.
(2) مثل، في مجمع الأمثال 1/ 263.
(3) إلى هنا ينتهي كلام ابن العميد.(1/287)
نفسه بالعبودية، وعنه بالمولوية، ثم يعرض في هاتين الكنايتين (1)، وكناية الحديث والأمر والشأن، ومن الحديث عنه، أو له، أو فيه، فربّما تشاجرت كنايات وتداعت معانيها على الكاتب فلا يتخلص إلى تحقيق مراد، واستبانة وجه، وهذا الذي أقوله يعرفه الذي دفع إليه ودهي به (2).
وقال لي ابن ثابت:
قلت له: كيف كان الخليفة يرضى بأن يقال له: أعزّه الله، وكذلك وليّ العهد، والوزير، ومن قاد الجيش وأغنى في الهبوة (3)، ومن أمر على شطر الدنيا؟
وكان ابن الزّيات (4) يقال له يا أبا جعفر، وابن أبي دواد (5) يقال له: يا أبا عبد الله.
__________
(1) وهو اصطلاح كوفي وفي تاج العروس (كنى): واستعمل سيبويه «الكناية» في علامة المضمر. وفي الأصل «الكتابتين» تصحيف.
(2) انظر الإمتاع 1/ 2120حيث يتكرر هذا الحديث.
(3) الهبوة: الغبار، والمراد: الحرب التي تسبّبه.
(4) محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة، وزير المعتصم والواثق والمتوكل كان مجيدا وكاتبا شاعرا وبليغا. وقتل سنة 233هـ. ترجمته في الوافي 2/ 70، مسالك الأبصار (3423أيا صوفيا صحيفة 490488)، ذيل تجارب الأمم 3/ 82، تاريخ الطبري 3/ 1370 (ليدن)، الأغاني 20/ 46، الفخري 213.
(5) أحمد بن أبي دواد فرج بن جرير بن مالك، أبو عبد الله القاضي المتوفى سنة 240هـ. الوفيات 1/ 3226، تاريخ بغداد 3/ 156141.(1/288)
فقال: كان النّاس في ذلك الوقت ضعاف العقول صغار الهمم، ولم تكن لهم مرائر مغارة، ولا نفوس فيها غزارة.
هكذا قال. وهذا حفظك الله كلام جاهل لا خبرة له بشيء من أمور الدّنيا والدّين، وهو مع ذلك دليل على النّذالة والسقوط.
وجرى يوما حديث المخاطبات عند القاضي أبي حامد المرورّوذيّ (1)
والتّرتيب فيها، وامتعاض النّاس من التّصارف الجاري بين أهلها، فقال: سبب هذا كلّه إحساس النّاس بنقصهم القائم بهم، الرّاكد عليهم، النّابت فيهم وطلب دفع ذلك بالتّرتيب، ونفيه بالخطاب وليس الطّريق إلى ذلك هذا، بل الطريق إليه الأخذ بأخلاق من سلف: من الحياء والكرم والدين والمروءة. انظر إلى السّلف الصّالح كيف كانوا، هل خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه إلّا بيا رسول الله؟
وبعد فهل يخاطب ربّنا إلا بالتّاء وإلّا بالكاف؟ وهل سمعت عبدا لله قد أخلص دينه له قال: إن رأى ربّنا فعل بعبده كذا وكذا؟ وهل
__________
(1) أحمد بن عامر بن بشر (أو بشر بن عامر) القاضي البصري المتوفى سنة 362هـ. طبقات السبكي 2/ 8382. الفهرست 301، البداية 11: 209.(1/289)
الخير كلّه إلّا فيما خصّ الله به نبيّه وأمّته، وأشاع فيهم حكمته وبركته.
ثم قال أبو حامد: وينبغي أن لا يكون بينك وبين أصدقائك صرف (1)، لأنّ الصّداقة فوق ذلك، بل المصارفة فيها تقذيها وتفسدها (2)، وتحيل نضارتها، وتبدّل غضارتها، وقد تستحيل الصّداقة بالمصارفة عداوة، لأنّ التّجنّي والاستزادة يعتورانها، والاعتداد والاحتجاج (3)
يمحقانها فأمّا النّظراء والأكفاء فيكفي معهم أن يكون الجواب كالابتداء، والآخر كالأوّل.
وكان أبو محمّد النّباتي يقول في هذا الباب كلاما طيّبا، وأنا أحكيه لأنّه موضعه وإن تنفّست الرّسالة، فالغرض الفائدة، وإن كان سبب إنشائها الغيظ الذي فاض الصّدر به، ومرح اللّسان بوصفه، وقد قال ابن الرّومي (4):
__________
(1) صرف الحديث: تزيينه والتكلف فيه، وهو منهي عنه في الحديث (النهاية 2/ 260259) لما يخالطه من الكذب والتزيد. التاج (صرف).
(2) فى الأصل: يقذيها ويفسدها».
(3) فى الأصل: «والاعتذار والاحتجاج».
(4) علي بن العباس بن جريج أبو الحسن، الشاعر المكثر المجيد. توفي سنة 283هـ على خلاف في تاريخ وفاته. المنتطم 5/ 168165، الوفيات 1/ 442 444، معاهد التنصيص 1/ 4238.(1/290)
وما الحقد إلا توءم الشّكر في الفتى
وبعض السّجايا ينتسبن إلى بعض (1)
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة
فثمّ ترى شكرا على حسن القرض
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع
من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
فهذا هذا.
قال: جميع ما يتقلّب النّاس فيه من هذه الأمور الفاسدة والأحوال الرّديّة، يرجع إلى أصول أربعة، وهي: الحماقة والرّقاعة والرّعونة والجنون.
قال: فأما الحماقة فما عليه الكتّاب من المخاطبات المختلفة التي ليس فيها حقيقة، ولا ترجع إلى صحّة، لا من جهة الديانة ولا من جهة رسم الأولين السّادة، وإنما هو شيء يؤدّي إلى القال والقيل وإلى العداوة والمغالبة، ويبعث على الوحشة الشّديدة بالاستشعار الرديّ، والوسواس الموديّ لأن التّرتيب إن كان بينك وبين من هو دونك
__________
(1) الأبيات في ديوانه 163، وزهر الآداب 661660بترتيب يخالف رواية أبي حيان هنا.(1/291)
فهو على الدّلالة على محلّك، وإن كان إلى نظيرك، فهو على غاية المماثلة بينه وبينك، وإن كان إلى من قوقك فهو على توفية ما يستحقّه منك.
قيل له: ها هنا قسم آخر، والدّاهية كلّها منه.
قال: وما هو؟
قيل: الذي يدّعي أنه نظير لك وهو دونك، والذي هو فوقك وتدّعي أنه في حدّك، وهاهنا يشتد النّزاع والفراع، وتتحطّم القنا ويتطاير الشّرر، ويجد الشيطان مدخلا منه، وتسويلا به.
فقال: هذا من فقد التناصف في الأصل، وإلا فالحال مفضية في التحقيق إلى الكلام الأول.
ثم قال:
وأما الرّقاعة فانتفاش القضاة والشّهود، ألا تراهم كيف يوسّعون أكمامهم، ويعرّضون جيوبهم، ويرخون أطواقهم، وينظرون إلى الأرض تعظّما على من يكلّمهم، وتبرّؤا ممن يخالفهم؟ ألا ترى إلى دنياتهم وقرامعتهم (1) / وقلانسهم وعمائمهم وتحنبلهم (2) وتقتّلهم (3)؟
فهم كما قال الشّاعر:
__________
(1) كذا الأصل.
(2) تحنبلهم: تذللهم.
(3) تقتلهم: خضوعهم.(1/292)
وأنت باللّيل ذئب لا حريم له ... وبالنّهار على سمت ابن سيرين (1)
وإذا تكلّم أحدهم خفض صوته، وقطّع حروفه، وسبّح في خلال ذلك، وقال: عافاك الله اسمع! ويا هذا أصلحك الله! ويا عبد الله الصالح! قل خيرا، ولا قليل من الله، ويا فلان! اتّق ربّك الذي إليه معادك، أما عليك حفظة من قبل الله؟ أما للإسلام عندك حرمة؟ أما تؤمن بالله؟ أما توقن بيوم الحساب؟
قال:
وأما الرّعونة فما عليه الشّطّار من هؤلاء الشباب الجلد الذين يرفعون الحجر، ويدّعون الفتوّة، ويكثرون ذكرها ويحفلون بها، ويسمّونها «الجوامردية (2)»، ترى أحدهم يضيّق الأكمام ويحلّ الأزرار، ويفتل السّبال، ويمشي متحاملا، ويتكلّم متصاولا.
قال:
وأما الجنون فما تجد عليه هؤلاء الذين يتنازعون بينهم قولهم:
أبو بكر خير من عليّ، وعليّ خير من أبي بكر وإذا حلفوا قالوا:
__________
(1) البيت في المنتخب الميكائيلي (أحمد الثالث 2634الورقة 135ظ) غير منسوب.
(2) الجوامردية: الكرم والفتوة، وأصلها الفارسي: «جوانمرد».(1/293)
وقدر عليّ، وحقّ الصدّيق ويقولون: بغداد أطيب من البصرة، وبادية البصرة أخفّ من بادية الكوفة، والرّازقي (1) خير من البارقيّ، والسّونائي (2)
أحلى من الكرخيّ، وسامرّة (3) فوق «إرم ذات العماد»، وفلان فضلي، وفلان مرعوشي (4) وترى لهم في هذا الطريق اهتماما وإنفاقا وقوة ومغالبة ومشاغبة ومحاكمة وملاطمة وهكذا إذا جرى حديث الشاعر والشاعر، كالعوفي (5) والنّاشي (6)، والمامح (7)، والقاصّ (8)
__________
(1) الرازقي: ضرب من عنب الطائف، وهو أبيض طويل الحب، ويقال للخمر المتخذة منه: الرازقية.
(2) السونائي: نسبة إلى سونايا قرية كانت ببغداد، ينسب إليها العنب الأسود الذي يبكر مجناه على سائر العنب. معجم البلدان 5/ 179.
(3) هي سر من رأى.
(4) فضل ومرعوش: ساعيان كانا ينقلان البريد السريع يوميا عن معزّ الدولة إلى أخيه ركن الدولة. وقد بلغت سرعتهما في السير مبلغا لفت إليهما أنظار العامة ببغداذ، وكان أحدهما سنيا والآخر شيعيا، فانقسمت عامة بغداد في التعصب لهما إلى «فضلي ومرعوشي».
وانظر عقد الجمان للعيني (سنة 334هـ)، تاريخ ابن الأثير 8/ 206، أبي الفداء 2/ 112، الامتاع 3/ 188. وفي الأصل: «فصلى وفرعوش» تصحيف.
(5) لعله أحمد بن محمد العوفي الذي ذكره الثعالبي 1/ 319 (بيروت). ويأتي لأبي حيان أنه من غلاة الشيعة.
(6) علي بن عبد الله بن وصيف أبو الحسن الحلّاء المتوفى سنة 366هـ، شاعر ومتكلم على مذهب الإمامية. عيون التواريخ سنة 366، البداية 11/ 101، الإرشاد 5/ 244235، الوفيات 1/ 447.
(7) كذا بالأصل، ولم أهتد إلى وجه الرأي فيه.
(8) في الأصل: «والقاص والقاص».(1/294)
كالبربهاري (1) والقسري (2).
وقد صدق هذا الشيخ، فقد سمعنا من هذا ما لا يطمع في إحصائه.
وقال الزّعفراني الشاعر: كيف يكون هذا الرجل يعني ابن عباد ديانا ومتألّها، وهو يبتذل العلوية والأشراف، ويهينهم [أعوانه] (3)، وهم يعدون بين يديه فلا ينكر ذلك منهم ولقد قال يوما، وهو يريد الرّكوب. لبعض حجّابه: نظف الطريق من هذه الخنافس والجعلان والحرابي والغربان.
فقلت لبعض من كان إلى جانبي: من يعني؟
فقال: يعني هؤلاء الواردين من الحجاز لسواد ألوانهم وتفلفل شعورهم، ودمامة (4) وجوههم وانحطاط قدودهم، وقلة دماثتهم واختلاف حركاتهم وشمائلهم.
قال: أفهذا من التشيّع والولاء وما يجب لهذا البيت؟
__________
(1) لعله أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري المتوفى سنة 329هـ.
البداية 11/ 201. وهناك بربهاري آخر اسمه محمد بن الحسن بن كوثر، وقد توفي سنة 362هـ، البداية 11/ 275.
(2) كذا في الأصل، ولم أهتد إلى وجه الرأي فيه.
(3) هذه التكملة أو ما في معناها يرشد إليها الكلام الآتي.
(4) في الأصل: «وذمامة»، بالذال المعجمة، تصحيف.(1/295)
ثم يدّعي أنه زيدي، فإذا قرض قصيدة غلا، وزاد على العوفي والنّاشي.
وأما أنا فما رأيت أحدا من خلق الله في حدّته وسفه لسانه خرج يوما من دار مؤيدّ الدولة (1) من باب غامض هربا من قوم كانوا يرقبونه على الباب المشهور من السّحر الأعلى، وهو وحده بين يديه ركابيّ، فعرفته عجوز فقامت في وجهه ودعت له، ومدّت يدها بقصعة معها فقال: ما تريدين يا بظراء يا بخراء يا عفلاء يا فقماء (2)؟
على هذا إلى أن تباعد، فبقيت العجوز مبهوتة، وقالت: مسكين هذا الرجل، قد جنّ.
فقلت لبعض أصحابه: ما هذا النّدل (3) والفحش والخفّة والطّيش؟
فقال: هذا دأبه إذا جاع.
فقلت: أجاع الله كبده وسلبه نعمته!
وحدثني العتّابيّ قال:
الرجل لا دين له سمعته يقول في الخلوة، وقد جرى حديث
__________
(1) أبو منصور بويه بن ركن الدولة المتوفى سنة 373هـ عن 43سنة.
عيون التواريخ (سنة 373)، المنتظم 7/ 122121، أبو الفداء 2/ 129.
(2) الفقماء: المعوجّة الذقن.
(3) الندل، بالمهملة: القذارة والوسخ. وفي الأصل: «النذل».(1/296)
المذهب: كيف أنزل عن هذا المذهب، يعني الاعتزال، وقد نصرته وشهرت به نفسي، وعاديت الصّغير والكبير عليه، وانقضى عمري فيه؟
قلت للعتّابي: ومن أين وقع في هذا الإلحاد؟
فقال: لم يزل مترجّحا قليل الطّمأنينة سيّء اليقين، ولكن أهلكه مقعدة الذي يقال له النّصيبي أبو إسحق.
وصدق هذا الشيخ كان أبو إسحق شاكا في النّبوات، وكان يصادق بهذا من صافاه ووثق به، وهو الذي قال بنكده وخبثه:
لو ظفر يوم الجمل (1) طلحة والزّبير وعائشة بعليّ بن أبي طالب، دار الخلاف بينهما، وكان لا يعوّل أحدهما في الاستظهار على صاحبه إلا بأن يتزوج عائشة، ثم يكافح صاحبه بها وبشيعتها الذين فتّوا بعر جملها وتشافوا به، وتحاثّوا (2) عليه، وكنا نحن نكوّر عمائمنا ونرفع طيالسنا ونسرّح لحانا ونكتحل ونحتفل، ثم نجلس في المساجد والجوامع ونحتجّ لذلك التّزويج، ونتأول كلّ قول، ونخرّج كلّ خبر، ونبلغ كلّ غاية بكلّ حيلة.
__________
(1) كانت وقعة الجمل سنة 36هـ، وحوادثها في حوليات التاريخ.
(2) تحاثوا عليه: حث بعضهم بعضا عليه. وفي الأصل: «وتحانوا عليه».(1/297)
وحديث التاجر المصري (1) من الطرّائف قدم شيخ له هيئة ومعه ثياب مصر، فدعا به، واشترى منه، وتقدّم بإكرامه، ورفع الحجاب عنه، وقال له: أهل مصر، أيّ شيء يغلب عليهم من فنون العلم، وبرسائل من يشغفون (2)؟
فقال التّاجر: لهم حرص على كل علم، ونصيب من كلّ أدب، وأما الرسائل فإنهم لا يؤثرون على ما لابن عبد كان (3) الكاتب أبي جعفر شيئا وكان نجاح الخادم قائما، فأومى إلى المصريّ بأن قل:
رسائلك هي الغريبة والمطلوبة، وهي المشتهاة والمستعملة، وكان إيماؤه باليد، والإصبع، والحاجب، والشّفة، وهذا كلّه لا يفصح عن حرف، فلم يكن يفهم التاجر لشقائه معنى الإشارة وانقبض عنه ابن عبّاد ولم يحاوره، وقام ذاك على حالة قد ناله فيها فتور لا يدري ما سببه.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 315.
(2) في الأصل: «من يشعفون».
(3) محمد بن عبد الله بن عبد كان أبو جعفر المتوفى سنة 270هـ، كاتب الدولة الطولونية، بليغ مترسل له فيما ذكر ابن النديم ديوان رسائل كبير، يقول الصفدي إنه عشر مجلدات، وكان أبو إسحاق الصابي يقول في حديثه عن ابن عبد كان: «إمامي ابن عبد كان». الفهرست 197، 244، الإمتاع 1/ 67، مسالك الأبصار (أحمد الثالث 8/ 413)، الوافي 3/ 315.(1/298)
فلما كان بعد أيّام حضر أيضا وأعاد القول على الوجه، فأعاد المصريّ الجواب المتقدّم، ونجاح الخادم على رسمه قائم يشير بمثل ما أشار إليه في المجلس الأول، وهذا لا يفطن، وفي أهل مصر سلامة صدر شبيهة بغباوة (1) طبع.
فالتفت ابن عبّاد إلى الخادم وقال: إذا كان صاحبك سخين العين قطيع الظّهر، ابن بظراء، إيش يمكنك أن تعمل؟ وطرد المصري.
أفهل هذا إلا رقاعة تحتها جنون صرف، وسرطان / في الدّماغ، وعلّة في العقل، وفساد في المزاج؟
واسمع ما هو أعجب من هذا!
ناظر (2) بالريّ اليهوديّ رأس الجالوت (3) في إعجاز القرآن، فراجعه اليهوديّ فيه طويلا، وثابته قليلا، وتنكّد عليه حتى احتدّ وكاد ينقدّ فلما علم أنه سجر تنّوره (4) وأسعط أنفه، احتال طلبا لمصاداته (5)،
__________
(1) في الأصل: «شبيه بغبامرة».
(2) قصة هذه المناظرة في الوافي بالوفيات في ترجمة الصاحب (شهيد علي 1966، الورقة 9/ 48)، والإرشاد 2/ 296، 297باختلاف في بعض كلماتها يسير.
(3) رأس الجالوت: رئيس اليهود، كما أن الأسقف رئيس النصارى.
ثمار القلوب 257.
(4) سجر تنوره: أوقده وأحماه. وفي الأصل: «شجر».
(5) المصاداة: المداراة.
ورفقا به في مخاتلته، فقال: أيها الصاحب! ولم تتّقد وتشتطّ، ولم تلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة على النبوّة، ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ وإن كان النظم والتأليف بديعين غريبين، وكان البلغاء، فيما تدّعي، عنه عاجزين، وله مذعنين، وها أنا أصدق عن نفسي وأقول: عندي أن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلّفه وتباده به نظما ونثرا هو فوق ذلك أو مثل ذلك، أو قريب منه وعلى [كلّ] (1) حال فليس يظهر لي أنه دونه، وأنّ ذلك يستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام، أو بمرتبة من مراتب البلاغة.(1/299)
ورفقا به في مخاتلته، فقال: أيها الصاحب! ولم تتّقد وتشتطّ، ولم تلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة على النبوّة، ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ وإن كان النظم والتأليف بديعين غريبين، وكان البلغاء، فيما تدّعي، عنه عاجزين، وله مذعنين، وها أنا أصدق عن نفسي وأقول: عندي أن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلّفه وتباده به نظما ونثرا هو فوق ذلك أو مثل ذلك، أو قريب منه وعلى [كلّ] (1) حال فليس يظهر لي أنه دونه، وأنّ ذلك يستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام، أو بمرتبة من مراتب البلاغة.
فلما سمع ابن عبّاد هذا فتر وخمد، وسكن عن حركته، وانخمص ورمه به وقال: ولا هكذا أيضا يا شيخ، كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظّا وافرا، ومن البيان نصيبا ظاهرا ولكنّ القرآن له المزية التي لا تجهل، والشرف الذي لا يخمل وأين ما خلقه الله تعالى على أتمّ حسن وبهاء، مما يخلقه العبيد بتطلّب وتكلّف؟
هذا كلّه يقوله، وقد خبا حميّه، وتراجع مزاجه، وصارت ناره رمادا مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه، وفرح غالب قد دبّ
__________
(1) عن الإرشاد.(1/300)
في أسارير وجهه لأنه رأى كلامه شبهة على اليهود (1) وعلى عالمهم وحبرهم، مع سعة حيلهم وشدّة جدالهم، وطول نظرهم وثباتهم لخصومهم.
فكيف لا يكون شبهة على النّصارى، وهم ألين من اليهود عريكة، وأطفؤهم نائرة، وأقلّهم مراء، وأكثرهم تسليما وأنه إن جاز هذا على اليهود والنّصارى، وهم دهماء النّاس، فما ظنّك بالمجوس ونصيبهم من الجدل أقلّ، وهم عن النظر أعجز، وعادتهم في المحاجّة أفسد وهكذا الصّابئون؟
انظر أكرمك الله إلى هذا الرّجل العظيم الطّاق الفسيح الرّواق، الذي لا يرضى أحدا، كم ينخدع وكم يذوب! مرة للشّاذياشي، ومرة لليهوديّ، ومرة للتاجر المصريّ، ومرة للخراساني، ومرة للبغداديّ.
فهل هذا إلا النّوك والرّكاكة، وضعف النّحيزة، وسوء التخيّل، وقرب الغور، وقلّة العقل؟
__________
(1) فى الأصل: «اليهوديّ»، تصحيف.(1/301)
قال أبو سليمان المنطقي (1)، وعنده يومئذ أبو زكرياء الصّيمري، وقد قرأت عليه هذه الأحاديت:
هذا رجل قد سعد في الدنيا سعادة عجيبة مذ ولي إلى الغاية، وهي شقّة عمره وآخر أمره، لم يشك بشوكة، ولم ينكب بنكبة، ولم يسمع من أحد كلمة عوراء، ولم يدفع في حالة إلى آبدة، وقد بلغ في حياته ما شاء.
فقال أبو زكرياء: النّحس الذي لحقه في عقله حتّى صار لذلك رقيعا أهوج سيّء الأدب، حديدا كثير الكذب، شديد التلوّن، عسير المأتى، ممقوت العجب، عظيم الكبر، طويل الخصومة، دائم المراء، وقّاعة في أهل الفضل، حاسدا لذوي الأدب، مغتاظا على ذوي المروءات، منّانا بالقليل، معظّما للتّافه النزر، وذويّ الدّين، مقرونا بالأبن هو أعظم من جميع ما أعطيه من المال الكثير، والمرتبة العالية، ومن الخيل المسوّمة، ومن الدّور والقصور، وما فيها من العين الحور،
__________
(1) محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني، من شيوخ أبي حيان سمع منه الكثير، ووصفه في الإمتاع 1/ 33ببعد الغور وصفاء الخاطر وحسن الاستنباط.
وترجمته في الفهرست 369، البيهقي التتمة 82، القفطي أخبار الحكماء 185 وما بعدها. ولم يذكروا تاريخ وفاته.(1/302)
والخزائن والذّخائر، والفضّة والذهب، والجواهر والخدم والعبيد لأن العقل إذا صحّ فهو المنيحة التي لا يوازيها شيء، وإذا اختلّ فهو البلوى التي لا يتلافاها شيء ولو كان مع هذا العقل عاريا من جميع ما عددناه، لعلاه بعض العامّة بكيسه ولطفه، ولبرز عليه بعض أصحاب الخلقان بمروّته وظرفه، «ولكنّ الغنى ربّ غفور». ولهذا أحسن الذي يقول (1):
ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت النّاس شرّهم الفقير (2)
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرم وخير (3)
ويقصيه النّديّ وتزدريه ... حليلته، وينهره الصّغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذّنب جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
وله مع الغنى أمر ونهي، وقوة وسلطان، وجدّ ودولة فكلّ عيبه مستور، وكلّ فضله منشور.
__________
(1) هو عروة بن الورد.
(2) الأبيات في البيان والتبيين 1/ 234، عيون الأخبار 1/ 242241، أمالي المرتضى 1/ 38، الإرشاد 2/ 280، الإمتاع 1/ 61، الشريشي 2/ 208.
(3) الخير، بالكسر: الشرف والأصل.(1/303)
قال له أبو سليمان: صدقت، وهذا لأن الإنسان لا يكون في هذا العالم مالكا للتّمام، جامعا لأدوات الكمال وسببه أنّه نتيجة للكواكب العالية، والأجرام الشّريفة، من الموادّ المختلفة، والعناصر الصّافية والكدرة فمتى نالته سعادة بالمشتري، وصل إليه نحس من زحل، وكذلك الزّهرة والمرّيخ والعلماء المتقدّمون يقولون: المشتري والزّهرة سعدا الفلك، والزّهرة مخصوصة بالسّعادة العاجلة، والمشتري مخصوص بالسّعادة الآجلة.
قال: وهذا وإن كان في الجملة كما قالوا، فلالتباس الدّنيا بالآخرة، فما (1) يستفاد من المشتري كثير من حظوظ الدّنيا، ويستفاد من الزهرة كثير من حظوظ الآخرة.
ومن أسرار الزّهرة أنها ربّما هّيأت الوحي، ومن أسرار المشتري أنه ربما هّيأ اللهو.
ومرّ له في هذا الفنّ كلام كثير مفيد ندّعنّي، ولم يصحب ذهني إلا ما تسمع.
قال: ولهذا كان نحس ابن العميد في بدنه، لانه فقد الصحّة في
__________
(1) في الأصل: «مما».(1/304)
في وسط عمره، وحين الحال حويل، والمال مويل، والعلم نزر، والفهم ناقص، والبلاغة خلق، والكتابة شمطاء فلما أخذت أحواله تتّسق، وأسباب فضله تستوسق ضرب في بدنه بالعلل الشّديدة، والأمراض المختلفة، وسلب لذّة المطعم والمشرب، وبقيت حسرة النّعمة في نفسه إلى أن عطب وقلّة حظّه منها هو الذي كان يبعثه على قلّة / الإنعام منها.
قال: ولهذا تجد آخر جيّد العقل، صحيح البدن، محمود البيان، ولكنّك تجده مع ذلك شديد الفقر، سيّء الحال، مرحوم الجملة.
وعلى هذه الجديلة كلّ من اعتبرت حاله، وعرفت ما سلبه ممّا وهب له، وما أعطيه ممّا حرمه، وهذا ليكون العبد أبدا في منزلة من النّقص، وحال من العجز يكون بهما ضارعا إلى خالقه، طالبا لعنايته من مالكه، وليكون بين العبد المعجون من الطّين وبين الله مدبّر الخلق فرق.
وذهب في هذا الفصل كلّ مذهب، وشفى كلّ غليل، وأبكى كلّ عين، وكان ذا قوة عجيبة في هذه الطّريقة، وذا اطّلاع على أسرار الخافية (1).
فأما حديثي معه (2)، فإني حين وصلت إليه قال لي: أبو من؟
__________
(1) كذا «أسرار الخافية» في الأصل. وكأنها: «أسرار الخليقة».
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 393وما بعدها. والضمير في «معه» لابن عباد.(1/305)
قلت: أبو حيّان.
قال: بلغني أنك تتأدّب.
قلت: تأدّب أهل الزمان.
قال: فقل لي، أبو حيّان ينصرف أولا؟
قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف. فلما سمع هذا تنمّر وكأنّه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه فقال له بالفارسية سفها، على ما فسّرلي.
ثم قال لي: الزم دارنا، وانسخ لنا هذا الكتاب.
فقلت: أنا سامع مطيع.
ثم قلت في الدّار لبعض الناس مسترسلا: إنما توجّهت من العراق إلى هذا الباب، وزاحمت منتجعي هذا الرّبع، لأتخلّص من خرزة الشّؤم فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة.
فنمي إليه هذا أو بعضه، أو على غير وجهه، فزاده تنكّرا وكان الرجل خفيف الدّماغ، لا يعرف الحلم إلا بالاسم والسّؤدد لا يكون ولا يكمل ولا يتمّ إلا بعد أن ينسى جميع ما يسمع، ويتأوّل ما يكره، ويؤخذ بالأسدّ فالأسدّ.(1/306)
وقال أبو سعيد السّيرافي: الحلم مشارك لمعنى الحلم فصاحب الحلم هو الذي يعرض عمّا يرى ويسمع كالحالم، واللفظ إذا واخى اللفظ كان معناه قريبا من معناه، وهذا الخلق والخلق، والعدل والعدل، وسست (1) الرجل، وسست (1) المرأة.
وقال لي يوما آخر (2)، أعني ابن عبّاد: يا أبا حيّان! من كنّاك أبا حيّان؟
قلت: أجلّ النّاس في زمانه، وأكبرهم في وقته.
قال: من هو ويلك؟
قلت: أنت.
قال: ومتى كان ذلك؟
قلت: حين قلت لي: يا أبا حيّان.
فأضرب عن [هذا] (3) الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه.
وقال لي يوما آخر، وهو قائم في صحن داره، والجماعة قيام منهم
__________
(1) كذا في الأصل، ولم أهتد إلى قراءة الكلمتين.
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 393.
(3) عن الإرشاد.(1/307)
الزّعفراني، وكان شيخا كثير الفضل، جيّد الشعر، ممتع الحديث والنّميمي المعروف بسبطل (1) وكان من مصر والأقطع، وصالح الوّراق، وابن ثابت، وغيرهم من الكتّاب والنّدماء: يا أبا حيّان! هل تعرف فيمن تقدّم من يكنى بهذه الكنية (2)؟
قلت: نعم، من أقرب ذلك أبو حيّان الدّارمي.
حدثنا أبو بكر القاضي محمد بن محمد الدقاق، قال: حدثنا ابن الأنباريّ، قال: حدثنا (3) ابن ناصح، قال: دخل أبو الهذيل العلّاف (4) على الواثق (5)، فقال له الواثق: لمن تعرف هذا الشعر:
سباك من هاشم سليل ... ليس إلى وصله سبيل
من يتعاطى الصّفات فيه ... فالقول في وصفه فضول
__________
(1) في الإرشاد «بسطل».
(2) القصة في البصائر (جار الله 1647الجزء 10ورقة 169 169ب).
(3) في الإرشاد: «حدثنا أبي، قال: حدثنا أبي ناصح».
(4) محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي البصري المتكلّم المعتزلي المتوفى سنة 226أو 227هـ. تاريخ بغداد 3/ 366، الوفيات 1/ 607 608.
(5) أبو جعفر هارون بن المعتصم المتوفى سنة 232هـ. العقد الفريد 5/ 121 122، تاريخ الخلفاء للسيوطي 135، حياة الحيوان 1/ 7372.(1/308)
للحسن في وجهه هلال ... لأعين الخلق ما يزول
وطرّة لا يزال فيها ... لنور بدر الدّجى مقيل
ما اختال في صحن قصر أوس ... إلا تسجّى له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولّى فهنّ حول
فقال أبو الهذيل: يا أمير المؤمنين! هذا لرجل من (1) أهل البصرة يعرف بأبي حيّان الدّارمي، وكان يقول بإمامة المفضول (2). وله من كلمة يقول فيها:
أفضّله والله قدّمه على ... صحابته بعد النّبي المكرّم
بلا بغضة والله مني لغيره ... ولكنّه أولاهم بالتقدّم
وجماعة من أصحابنا قالوا: أنشدنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي (3) لأبي حيّان البصريّ (4):
يا صاحبيّ دعا الملامة واقصرا ... ترك الهوى يا صاحبيّ خساره
__________
(1) في الأصل: «هذا الرجل من».
(2) يعني أنه يجيز خلافة أبي بكر، مع اعتقاده أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر.
(3) توفي سنة 276هـ. وترجمته في تاريخ بغداد 10/ 427425.
(4) نسب الصفدي في الوافي (أحمد الثالث 2960ج 22الورقة 14ب 15) هذه الأبيات لأبي حيان التوحيدي. وهو خطأ ضلّل بعض المحدثين.(1/309)
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي: ... لجّت يمين ما لها كفّاره
أن لا أفيق ولا أفتّر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
الحبّ أوّل ما يكون بنظرة ... وكذا الحريق بداؤه بشراره
يا من أحبّ ولا أسمّي باسمها ... إياك أعني واسمعي يا جاره
فلما رويت الإسناد، وأنشدت الشعر، وريقي بليل، ولساني طلق، ووجهي متهلّل، وقد تكلّفت ذلك وأنا في بقيّة من غرر الشباب وبعض ريعانه، فملأت الدار صياحا بالرّواية والقافية، فحين انتهيت أنكرت طرفه، وعلمت سوء موقع ما رويت عنده.
قال: ومن تعرف أيضا؟
قلت: روى الصّولي فيما حدثنا عنه المرزباني: أن معاوية (1)
لما حضر (2) أنشد يزيد عند رأسه متمثلا:
لو أن حيّا نجا لفات أبو ... حيّان لا عاجز ولا وكل
الحوّل القلّب الأريب وهل ... تدفع صرف المنية الحيل
قال الصّولي: هذا من المعمّرين المعقّلين.
__________
(1) توفي سنة 60هـ عن 80أو 86سنة، ومدة خلافته 19سنة.
انظر الوافي 23/ 7471ب (شهيد علي 1971)، والحوليات (سنة 60).
(2) في الإرشاد. «احتضر»، والمعنى واحد.(1/310)
وانتهى الحديث من غير هشاشة منه عليه، ولا هزة ولا أريحية، بل على اكفهرار الوجه، ونبوّ الطّرف، وقلّة التقبّل. وجرت أشياء أخر، وكان عقباها أنّني فارقت بابه سنة سبعين وثلاثمائة راجعا إلى مدينة السلام (1)، بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطني في مدّة ثلاث سنين درهما واحدا، ولا ما قيمته درهم واحد. فاحمل هذا على ما أردت.
ولما نالني منه هذا الحرمان الذي قصدني به، وأحفظني عليه، وجعلني من بين جميع غاشية ورده فردا، أخذت أتلافى ذلك بصدق القول عنه، في سوء الثّناء عليه، والبادي أظلم، وللأمور أسباب، وللأسباب أسرار، والغيب لا يطّلع عليه، ولا قارع لبابه.
وسألت العماري عنه فقال: الرجل ذو خلّة (2)، ولقد سأله ليلة شيخ من خراسان في الموسم عن قوله عزّ وجل: {«وَلَقَدِ اصْطَفَيْنََاهُ فِي الدُّنْيََا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصََّالِحِينَ} [3]» ما مرتبة الصّلاح المذكور في الثاني من النّبوة الثابتة في الدّنيا؟ فأضرب عن المسألة ودافع بصدرها، ولم يجر (4) كلمة فيها.
وسأله هذا الشيخ ليلة أخرى عن قوله عزّ وجلّ: {«وَوََاعَدْنََا}
__________
(1) في الأصل: «مدينة السلم».
(2) الخلة، بالفتح: الخلال والنقص في الرأي.
(3) سورة البقرة 130.
(4) في الأصل: «ولم يحر».(1/311)
{مُوسى ََ ثَلََاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنََاهََا بِعَشْرٍ»} (1)، وعن الفرق بين هذا الاقتصاص وبين قوله: {«وَإِذْ وََاعَدْنََا مُوسى ََ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»} (2)، فما أعاد ولا أبدأ.
ولما عاد من همذان، قيل له:
كيف رأيت أبا الوفاء (3)؟
قال: سرابا بقيعة.
قيل: فكيف وجدت / عبد العزيز بن يوسف (4)؟
فقال: نكدا وخديعة.
قيل: فكيف وجدت المجوسي؟
قال: تمثالا في كنيسة أو بيعة.
__________
(1) سورة الأعراف 141.
(2) سورة البقرة 51.
(3) محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل البوزجاني المهندس المتوفى سنة 387هـ من المشاهير في علم الهندسة. الفهرست 394، أبو الفداء 2/ 140، أخبار الحكماء 188، وانظر الصداقة 32.
(4) عبد العزيز بن يوسف الجكّار (الحكار) أبو القاسم الشاعر المنشىء، من كتاب آل بويه، تقلد ديوان الرسائل لعضد الدولة، وكان يوقّع بين يديه ويعدّ في وزرائه ثم وزر لابنه بهاء الدولة. وتوفى سنة 388هـ.
اليتيمة 2/ 300287، المنتظم 7/ 203، الإرشاد 6/ 258، الوافي (شهيد علي 1970، 44ب)، عيون التواريخ (سنة 388).(1/312)
قيل: فابن سعدان (1)؟
قال: ضخم الدّسيمة (2)، له من نفسه حرى (3) وسيعة.
فهذا حديثه في دينه، ورأيه وعلمه وعقله ومروّته وصناعته ومذهبه.
وقد طال وكثر، ولعلّ التقصّي لو وقع لازداد طولا، فإنه تنفّست أيامه وتردّدت أحاديثه.
سألت ابن الجلبات (4) الشاعر عنه، فقال: ما أدري ما أقول في رجل من قرنه إلى قدمه عيب وخزي ونذالة ورقاعة، على أن الطبع النكد أملك له، والعادة القبيحة أغلب عليه والإقلاع عن المنشأ المعان بالطّباع صعب وعسير، ولعلّه ممتنع.
وسألت الحاتميّ عنه (4)، فقال: رأيت رجلا مدخولا في جميع الفضائل، مردودا على كلّ التأويلات لتيهه وإعجابه، وحسده
__________
(1) أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان المتوفى سنة 375هـ. وزر لصمصام الدولة بن عضد الدولة من سنة 373حتى سنة 375هـ. انظر ذيل تجارب الأمم 10385.
(2) الدسيعة: مائدة الرجل، والعطية. ومن هنا يقال للرجل الجواد:
ضخم الدسيعة.
(3) الحرا: جناب الرجل وساحته. وفي الأصل: «وشيعة»، ولعل ما أثبته أنسب.
(4) تقدمت ترجمته.(1/313)
ولوثته، وقلّة مصافاته، وسوء رعايته، وفساد دخلته، ووقاحة وجهه، وشدّة تعييره، وفشوّ أبنته (1)، وقبح سيرته في مذهبه، ونصرته لما لا يعتقد بقلبه.
وسألت البديهيّ (2) عنه، فقال: خذ حديثه بما تسمع منّي، وقس عليه رأيت يوما على بابه شيخا من أهل الكتابة والأدب ذكر أنه ورد من مصر، وأنه أقام بها زمنا، وأن أصله من بلاد العجم فلما خرج إليه رفع قصّة كتب على رأسها: عبّاد بن أحمد، فأخذ ونظر، ثم قال:
من سمّاك عبادا باسم الأمين (3) رضي الله عنه؟
ومن يقول إن هذا اسمك الذي اختير لك عند الولادة؟
وما هذا التقرب بالتكذّب؟
وما بينكم وبين أسماء السّادة الذين بانوا بها كالسّماء بكواكبها، والأفلاك بعجائبها؟
أما كان لك بغير هذا الاسم الذي ادّعيته درك؟ ولا كان لك دون
__________
(1) الأبنة: التهمة.
(2) تقدمت ترجمته.
(3) الأمين: لقب والد الصاحب، وتقدمت ترجمته.(1/314)
التكثّر به سبب؟ ما أحوجك إلى نقاف (1) يوجع يا فوخك (2)، ونتاف يقلع شاموخك!
وسألت الصابيّ أبا إسحق (3) عنه فقال: إن صدقت في وصفه ساء قوما، وإن كذبت في وصفه ساءني ولأن أنفرد بالمساءة أحبّ إليّ وبعد فنحن معه كما قال الشاعر:
ونعتب أحيانا عليه ولو مضى ... لكنّا على الباقي من الناس أعتبا (4)
وقلت للضبعي: كيف ترى هذا الرجل وقد خبرته؟
فقال: أما جدّه (5) فيريني أنه واحد الدّنيا، وأما جدّه (6) فينطق بأنه أنذل من في هذا الورى.
وبعد:
نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام
__________
(1) النقف: ضرب الهامة أشد الضرب.
(2) اليافوخ: وسط الرأس حيث يلتقي عظما الرأس ومؤخره.
(3) تأتي ترجمته بعد.
(4) البيت في عيون الأخبار 2/ 4، والصداقة 53 (الجوائب) غير منسوب.
(5) الجد بالفتح: الحظ.
(6) الجد بالكسر: ضد الهزل.(1/315)
وقلت للمأموني: اصدقني عن هذا الرجل، فقد عرفت ليله ونهاره، والليل أصدق عن خبايا الإنسان من النّهار.
فقال: في الجملة الرجل بلا دين، لفسقه في العمل وارتيابه في العلم.
وسألت أبا صادق الطّبريّ عنه فقال:
سل عن البخت، والله ما له سمت يتوجّه إليه منه، ولا باب يعتمد منه عليه بينا هو لك، إذ صار لعدوّك، حاله أحوال، وشأنه شؤون، وكلّ ذلك جار على الجنون.
وقلت لابن المراغيّ: كيف تراه؟
قال: والله ما يشفي الغليل منه هجو ولا ملام، ولا ما هو معروف به بين الخاصّ والعام، إلا أن يسقط من ذروته فيرى في حال سقطته متردّدا بين خبطته وورطته.
وقلت للشيخ العالم: أمّا أنت من بين النّاس فقد حظيت عنده، ونلت منه.
فقال: لو عرفت ما يتّقد على فؤادي من الغيظ عليه لرحمتني في بلائي بأكبر [م] مّا (1) تحسدني عليه في ظاهر أمري.
__________
(1) فى الاصل: «بأكبر ما».(1/316)
قلت: وما تنكر منه؟
قال: لست أنكر منه شيئا واحدا، وإنما أنكره كلّه.
وقلت لأبي جعفر الورّاق: ما أراك تخرج من حضرة هذا الرجل إلا وأنت ساهم الوجه، مغيظ النّفس كأنّك لست تخرج من عند من كلّ أحد يتمنّى أن يصل (1) إليه، وأن ينطق بين يديه، وأن يصنع به حاله؟
فقال: والله لولا التحرج لوصفته بكلام كان فيه برد حرارة صدري، ولكن التحرج مانع من ذلك، هذا، والخوف أيضا عامل عمله، وآخر ما أقول: إنه ساقط من عين الله عز وجل، والويل له من الله يوم التّجازي والقصاص.
وقلت لأبي الفضل الهروي: كيف ترى هذا الرجل؟
قال: أراه والله عقوبة من الله نازلة بأهل الفضل والتكرم، وليتنا علمنا بأيّ ذنب عوقبنا فكنّا ننتهي عنه ولا نصرّ عليه، فما عندي أن الله يبتلي عبدا من عباده بخدمته والتعلق به إلا بعد أن ينزع عنه العصمة، ويوكّل به النّقمة، ويحرّم عليه الرّحمة.
وقلت للزّعفراني الشاعر: بالله صف لي هذا الرجل.
__________
(1) في الأصل: «أن يصيل».(1/317)
فقال: لو أمكنني الوصف بالنّظم كان أعجب إليّ فإني رجل شاعر، ولكن الخوف من ذلك حائل.
وقلت للتّميمي: أمّا أصحابك فقد عرفت عقائد قلوبهم في هذا الرجل. فأين أنت منه؟
فقال: أحرى (1) اعتقادي فيه أنه خنزير قد أعطي قوة أسد فهو يفترس يمنة وشآمة، وكنت أرى فيما مضى أن الشرّ مكسوب بالقصد حتّى شاهدت هذا فتحولت عن الرأي الأول، وقلت: بل الشرّ في بعض الناس لا صق بالطّبع.
وقلت لأبي سعيد الأبهري: بيّن لي أمر هذا الرجل، ففي نفسي أن أعمل كتابا في أخلاقه.
فقال لي: لقد حاولت عسيرا. أتستطيع أن تصف إبليس بجميع ما هو فيه؟
قلت: لا والله، إنما أعوذ بالله منه فقط.
قال: فعذ بالله من هذا قبل أن تعوذ بالله من إبليس فإن إبليس
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل، وأقرب إلى رسمها: «أحرى» أو «أجدى».(1/318)
وإن كان شرّيرا فهو عاقل، وهذا يزيد عليه لأنه شرّير وهو أحمق.
وقلت لأبي طاهر الأنماطي: كل أحد له على هذا الرجل كلام، وفي نفسه موجدة سواك فإنّك واصل إليه إذا أردت ونائل من ماله وجاهه إذا أحببت، فما قولك فيه؟
فقال: صبري على رقاعته قد نغّص عليّ جميع ما أنا عليه معه، على أن رقاعته مرشّحة بجنون، وجنونه صادر عن قدرة، فالرّهبة منه قد كدّرت عين الرّغبة فيه، والغيظ عليه قد منع من الاستمتاع به.
وسألت ابن زرعة الفقيه فقلت: ما أحوجني إلى فتياك في هذا الرجل!
فقال: قد والله جبت الآفاق، ولقيت أصناف النّاس في في الشّرق / والغرب، فما رأيت رجلا في جنونه أعقل منه، ولا في عقله أجنّ منه، وإنه لأعجوبة عدوّه هالك لسلطانه، ووليّه خائف من كثرة ألوانه لا عهد له ولا وفاء، ولا صدق ولا لطف، كلّه هزل، وجميعه جهل.
وقلت لابن فارس صاحب اللغة: بم تحكم على هذا الإنسان؟
فقال: بأنه لله عدوّ، وللأحرار مهين، ولأهل الفضل حاسد، وللعامّة محبّ، وللخاصّة مبغض.(1/319)
وقلت لابن فارس صاحب اللغة: بم تحكم على هذا الإنسان؟
فقال: بأنه لله عدوّ، وللأحرار مهين، ولأهل الفضل حاسد، وللعامّة محبّ، وللخاصّة مبغض.
فأما عداوته لله فلقلّة دينه.
وأمّا إهانته للأحرار فهي شهيرة كهذا النّهار.
وأما حسده لأهل الفضل فجرّب ذلك بكلمة تبديها.
وأما حبّه للعامّة فبمناظرته لهم وإقباله عليهم.
وأما بغضه للخاصة فلإذلاله لهم وإقصائه إياهم.
* * *
فأما ابن العميد أبو الفضل (1)، فإنه كان بابا آخر، وطامّة أخرى، وكان فضله من جنس ليس لابن عباد فيه نصيب، ونقصه من ضرب لم يكن له فيه ضريب، كان يظهر حلما تحته سفه، ويدّعي علما هو به جاهل، ويري أنه شجاع وهو «أجبن من المنزوف ضرطا (2)»، وكان يدّعي المنطق وهو لا يفي بشيء منه، ولم يقرأ حرفا على أحد، ويتشبّع (3) بالهندسة وهو منها بعيد، ولم يكن معه من صناعة الكتابة الأصل وهو الحساب، وكان أجهل الناس بالدّخل والخرج، ولقد بقي ما بقي في أيامه فما قعد يوما في الديوان ناظرا في عمل، أو فاصلا لحكم،(1/320)
* * *
فأما ابن العميد أبو الفضل (1)، فإنه كان بابا آخر، وطامّة أخرى، وكان فضله من جنس ليس لابن عباد فيه نصيب، ونقصه من ضرب لم يكن له فيه ضريب، كان يظهر حلما تحته سفه، ويدّعي علما هو به جاهل، ويري أنه شجاع وهو «أجبن من المنزوف ضرطا (2)»، وكان يدّعي المنطق وهو لا يفي بشيء منه، ولم يقرأ حرفا على أحد، ويتشبّع (3) بالهندسة وهو منها بعيد، ولم يكن معه من صناعة الكتابة الأصل وهو الحساب، وكان أجهل الناس بالدّخل والخرج، ولقد بقي ما بقي في أيامه فما قعد يوما في الديوان ناظرا في عمل، أو فاصلا لحكم،
__________
(1) محمد بن الحسين بن محمد أبو الفضل المتوفى سنة 360وقيل 359هـ.
ترجمته في الفهرست 194، تجارب الأمم 2/ 282275، 2/ 135133، 139 142، 374370، والوفيات 2/ 8274، اليتيمة 3/ 173وما بعدها، الكامل لابن الأثير 8/ 217، 8/ 186، 126، 255، معاهد التنصيص 1/ 174، تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 47 (أيا صوفيا)، عيون التواريخ (سنة 360هـ)، وانظر الصداقه والصديق 75، الإمتاع 1/ 1716، 66، محاضرات الراغب 1/ 40، 315، 206.
(2) مثل في مجمع الأمثال 1/ 122121، وله شرح.
(3) يتشبع: يتكثر.(1/321)
أو مخلّصا لمشكل، وكان قد وضع في نفس صاحبه (1) بالحيل الدّقيقة، والأسباب الخافية أنه واحد الدنيا، وأن ملوك الأرض يحسدونه عليه، وأنّه لسان الزّمان، وخطيب الدّهر وأن قلمه فوق السّيف، وتدبيره فوق الجيش، ونظره في الدولة والمملكة وأحوال الأولياء وذوي النّصيحة كالوحي والنبوّة. وكان معوّله في الأعمال على أبي علي البيّع وكان مع هذا سيّء السّيرة، قليل الرحمة، شديد القسوة، وارم الأنف، عظيم التّيه، شديد الحسد لمن نطق ببيان، أو أفصح بالعربية.
وسيتبيّن بعض هذا بما أذكره لك بشاهد عدل، وراو ثقة.
ورد أبو طالب الجرّاحي الكاتب (2) بالرّيّ من العراق، ولم يكن في عصره أنطق منه لسانا وقلما، وهو من بيت علي بن عيسى الوزير، فعرض نفسه عليه، فلما رأى بسطته ولسانه وخطّه وطلاقته ولطافته وأبوّته وصناعته، حسده واغتاظ منه، وضاقت الدنيا به، وعمل على أن يسمّه، ففطن أبو طالب وكان فطنا، فطوى الأرض، ووقع إلى
__________
(1) هو ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمي المتوفى سنة 366هـ. أبو الفداء 2/ 123122.
(2) أوجز أبو حيان في الإمتاع 1/ 68قصته مع ابن العميد، ورحلته عنه وفي الفخري 4342قصته هذه، ورسالته إلى ابن العميد مع اختلاف في الرواية.(1/322)
آذربيجان، وصار إلى ملك الدّيلم المرزبان بن محمد (1)، فعرف قدره، وبسط يده، وأعلى كعبه، ونوّه باسمه، واستطال على ملوك النواحي بمكانه.
ثم انظر إلى ما جرّ أبو طالب عليه لخسّته ولؤمه ونقصه وسقوطه، وهكذا يفعل من انصرف من باب عزيز ذليلا ومن فناء موسر مذموما وقد كان يمكنه اصطناعه وتقديمه وإكرامه واستخدامه بأسهل غرامة وأيسر مؤونه، وأهون مرزية (2) ولكنّه حسده وأبعده، وليته مع ذلك زوّده ما يوجب شكرا، ويكون بلاغا، ويبقى حديثا مأثورا وذكرا جميلا.
ولقد كتب إليه أبو طالب بعد هذا الحديث كتابا قرأت فصلا منه يقول فيه:
«حدّثني بأيّ شيء تحتجّ إذا طولبت بشرائط الرياسة التي انتحلتها وأكرهت الناس على تسميتك بها؟ أتدري ما الرياسة؟ الرياسة أن يكون باب الرئيس مفتوحا، ومجلسه مغشيا، وخيره مدركا،
__________
(1) وصفه في كتاب الفخري 43بقوله: «كان فاضلا لبيبا»، وتوفي سنة 346هـ. انظر الكامل لابن الأثير 8/ 187.
(2) المرزية: الكلفة.(1/323)
وإحسانه فائضا، ووجهه مبسوطا (1)، وكنفه مزورا، وخادمه مؤدّبا، وحاجبه كريما، وبوّابه رفيقا، ودرهمه مبذولا، وخبزه مأكولا، وجاهه معرّضا، وتذكرته مسوّدة بالصّلات والجوائز، وعلامات قضي (2) الحوائج.
وأنت! فبابك مقفل، ومجلسك خال، وخيرك مقنوط منه، وإحسانك منصرف عنه، ووجهك عابس، وبنانك يابس، وكنفك حرج، وخادمك مذموم، وحاجبك هرّار، وبوابك كلب، ودرهمك في العيّوق، ورغيفك في منقطع التّراب، وجاهك موفور عليك، وتذكرتك محشوة بالقبض على فلان، وباستئصال فلان وبنفي فلان، وبسمّ فلان، وبالدّس على فلان، وبحطّ مرتبة فلان.
هل عندك أيها الرجل المدّعي للعقل، المفتخر بالمال، والمتعاطي للحكمة، إلا الحسد والنّذالة، وإلا الجهالة والضّلالة؟
تزعم أنك من شيعة أفلاطون وسقراط وأرسطوطاليس، أو كان هؤلاء يضعون الدّرهم على الدرهم، والدّينار على الدينار، أو أشاروا في كتبهم بالجمع
__________
(1) كذا بالأصل، وربّما دل قول أبي حيان الآتي «وبنانك يابس» على أن هنا فقرة ساقطة.
(2) قضي الحوائج: قضاؤها.(1/324)
والمنع، ومطالبة الضّعيف والأرملة بالعسف والظّلم؟ فيا مسكين استحي، فإنك لامع الشّريعة ولا مع الفلسفة، وقد خسرت الدنيا والآخرة.
هذا عقلك الذي يخاطب الناس برفعك التراب على رأسك والسّخام في وجهك.
أمن كرمك وحزمك أن يفد عليك مثلي رجل من آل الجرّاح بيت الوزارة والسؤدد، ينبري لمعروفك، ويخطب الخدمة بين يديك، والقيام بأمرك ونهيك بحظ ميسور، ونائل منزور، فتحسده وتبعده، وتخمله وتهمله وتواطيء على سمّه وقتله؟ يا ويلك! فمتى كنت أنت وآباؤك تستحقّون خدمة رجل من آل الجرّاح؟ كأنّ بيتك بقمّ ما سألنا عنه، ولا وقفنا عليه؟ أليس أبوك كان قوادا، وأبوه كان نخّالا (1)؟ ها أنا قد انقلبت عنك خائبا، أفضعت وبرت وكسدت؟
لا والله، بل قيّض الله لي ملكا من ملوك الدنيا حتى اشتمل عليّ، ونظر بعين الكفاية إلي، وأهّلني لمحلّ زائد على محلّك، ورتّبني في حال هي أشرف من رتبتك، والله أكرم من أن يضيع مثلي أو يحوجني إلى مثلك.
فبؤ الآن بخساستك، والصق بالدّقعاء (2) ندما على فعلك، وثق
__________
(1) في الأصل: «نحالا».
(2) الدقعاء: التراب.(1/325)
بأن لساني وقلمي لا يزالان يبريان عرضك، ويخطبان بذمّك، ويلهجان بهتك سترك، ويبعثان الناس على معرفة خزيك وسقوطك أتظنّ يا جاهل أنّه إذا ركب قدّامك حاجب، وسار معك راكب، وقال / الناس: أيها الرئيس أنّك قد ملكت الكمال، واستحققت خدمة الرّجال، من غير إسعاف ولا إفضال؟ هيهات! المجد أخشن مسّا من ذاك. وسأشقّ (1) النظم والنثر في أكناف الأرض بما ينكشف به للصّغير والكبير نقصك، وتزول الشبهة عن القلوب في أمرك إن شاء الله (2)
هذا أفادنيه جريح، وكان شاعرا من آذربيجان. فهذا هذا.
قلت للخليلي: لم كان يصبر أبو الفضل على ابن ثابت الكاتب الهمذاني وهو آفة (3) ونكال، لا حظّ ولا معرفة ولا أدب ولا صناعة؟
__________
(1) سأشق: أفرق وأذيع.
(2) آخر الرسالة في رواية الفخري: «ولولا ان أكون قد دست بساطك، وأكلت من طعامك، لأشعت هذه الرقعة، ولكني أرعى لك حق ما ذكرت فلا يعلم بها إلا الله وأنت، وو الله ثم والله ثم والله ما لها عندي نسخة، ولا رآها مخلوق غيرك، ولا علم بها فأبطلها أنت إذا وقعت عليها وأعدمها والسلام على من اتبع الهدى».
وتدل الاختلافات التي بين الروايتين، كما تدل هذه الخاتمة على أن ابن الطقطقى ينقل عن مصدر آخر غير أبي حيان.
(3) في الأصل: «الهمداني لا خط». في الأصل: «آية».(1/326)
فقال: لأنّه علم أن غيره لا يصبر على ذلك الرّزق الوتح (1)، والجدوى القليلة، ومن أجل ذلك قال مسكويه:
يقولون إنّ ابن العميد محمدا ... يؤول إلى رأي وثيق المنابت
فقلت: دعوه قد عرفت مكانه ... بطلعة منصور وحظّ (2) ابن ثابت
ومنصور هذا خادم رأيته، كان من أقبح النّاس وجها كثير الهذر، سيّء الأدب، وكان من قمّ من الأحرار (3) ولما ذمّه صاحبه ووليّ نعمته بسبب هذا الخادم للشّهرة الفاضحة، والتهتّك الشائع. قال أبو الفضل بحكمته: ما أصنع؟ والله ما وجدت في هذه المدّة لا يري غلافا مثله، ولا بدّ لي منه، فليلم من شاء، والهوى لا يحلو (4) إلا مع العذل.
انظر بالله ربّك إلى هذا الحكيم بزعمه، واسمع قوله، وهو يزعم مع هذا أن أرسطاطاليس لو رآه لرجع عن آراء كثيرة ببيانه، ولغيّر كثيرا من كتبه بمشورته.
__________
(1) الوتح، بسكون التاء وكسرها: القليل الذي لا خير فيه.
(2) في الأصل: «وخط»، وكأن الوجه ما أثبته.
(3) من كناياتهم قولهم: «فلان من الأحرار» إذا كان ملحدا خارجا عن ربقة الشريعة. الكنايات للثعالبي 39.
(4) في الأصل: «لا يحلوا».(1/327)
وكان يقول بقحته وقلّة اكتراثه وتهاونه بمن حوله: أما الموسيقيّ فإنه يموت بموتي ويفقد بفقدي، هذا وهو لم يقرأ حرفا منه على أحد من خلق الله، وما أوحي إليه به، ولا يجوز أن ينفتح مغلقه جزافا عليه أو على غيره وإنما كان يستجيز هذا القول في الموسيقيّ خاصّة لأنه لم يبق منذ دهر من يدلّ من هذه الصناعة على حرف بتحقيق، أو يأتي فيها بوصف تامّ، لذهابه ودروسه.
والعلم كلّه أبقاك الله قد دخله الضّيم، وغلب عليه الذّهاب لقلّة الراغبين، وفقد الطالبين، وإعراض الناس عنه أجمعين. والموسيقيّ من بين أجزاء الفلسفة فقد حمله (1)، لأنه لا يوجد علمه إلا بعمل، ولا يكمل عمله إلا بعلم، والعلم والعمل في صناعة واحدة قلّما (2) يجتمعان على التناسب الصحيح.
وكان يعمل كتابا سماه: «الخلق والخلق (3)» فمات سنة ستين (4)
وهو في المسوّدة، وقد رأيت ورقات منه، ونقلت إلى «البصائر»
__________
(1) كذا «حمله» في الأصل. وتحتمل: «جملة».
(2) في الأصل: «قلّ ما».
(3) كذا في تاريخ الإسلام للذهبي 12/ 47 (أيا صوفيا)، ومعاهد التنصيص 1/ 176، وكلاهما ينقل عن أبي حيان. وفي الأصل: «الخلق والحلق».
(4) ويقال إنه توفي سنة 359هـ.(1/328)
حروفا كانت فيه أفادنيها أبو طاهر الورّاق. ولم يكن الكتاب بذاك، ولكن جعس (1) الرؤساء خبيص (2)، وصنان الاغنياء ندّ، وخنفساء أصحاب الدولة رامسنّه (3).
وقلت للغويري (4): حدّثني عن ابن عبّاد، فإنك قد عرفت ليله ونهاره وخافيه وباديه، وعن ابن العميد فقد اختبطت ورقه، وانتجعت صوبه.
فقال: في ابن عبّاد قحة مأبون، ولوثة مأفون (5)، وهو ابن وقته معك، ونتيجة ساعته لك، لا يعرفك إلا عند امتلاء العين بك، ولا يعطيك [شيئا] (6) إلا إذا أخذ أكثر منه منك، يشتري عرضك،
__________
(1) الجعس: الرجيع. وفي الأصل «جعص»، تصحيف.
(2) الخبيص: الحلواء.
(3) كذا في الأصل، وفي شفاء الغليل 108: «رامشنه»، وفسرها بأنها ورقة الآس.
(4) أبو الحسن الغويري من شعراء أصبهان، كثير الشعر والملح، وكان من خواص الصاحب وشعرائه. وهجا كل واحد منهما صاحبه (اليتيمة 3/ 244، 252). ويظهر من قصيدة له في اليتيمة أيضا 3/ 307أنه كان شيعيا.
انظر ترجمته في اليتيمة 3/ 308306، وانظر 3/ 192191.
(5) مأفون: ناقص العقل.
(6) تكملة لازمة.(1/329)
ولا يوليك حقّك، ويبلغ بلسانه ما لا يسمح لك بعشره من فعله، ثم الويل لك إن أصبت في كلامك، والويل لك إن أخطأت، على أن الخطأ يعطفه عليك بالرحمة، والصواب يحمله في معاملتك على الحسد والانتقام، يريد منك أن لا تذكر فاضلا عنده وإن ذكرته فضّلته (1) عليه. وإن ذكر الشّعر فقل: أين مسلم بن الوليد (2) منك؟ وإن ذكر النّحو فقل: وصلت إلى ما لم يصل إليه سيبويه (3)، وإن ذكر البيان فقل:
فيك أعراق متواشجة من قسّ بن ساعدة (4)، أو لعلّه كان في قس عرق من آبائك الفرس، وإن ذكر الكلام فقل: لو رآك النّظّام (5) للزم بابك وحمل عاشيتك، وإن ذكر الفقه فقل: أين أبو حنيفة (6) عن هذا
__________
(1) يعني ابن عباد.
(2) مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني المتوفى كما في النجوم الزاهرة سنة 208هـ. الشعراء 808.
(3) عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر المتوفى سنة 177هـ على خلاف.
(4) هو قس بن ساعدة بن حذافة الإيادي، من حكماء العرب وفصحائهم، ضرب المثل بفصاحته (مجمع الأمثال 1/ 7473). وانظر الأغاني 14/ 41
(5) إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو إسحاق المعتزلي المتوفى سنة 221هـ. الوفيات 1/ 611، 2/ 494، سرح العيون 120.
(6) النعمان بن ثابت بن زوطا أبو حنيفة الإمام المتوفى سنة 150هـ.
المعارف 216، الفهرست 284، الوفيات 2/ 215.(1/330)
التحقيق والتدقيق؟ وأين صاحباه: محمد (1)، وأبو يوسف (2) عن هذا التطبيق والتعميق؟ فأما الجاحظ (3) فما وزنه عند مثقالك؟ وأين شراره (4) من نارك؟ وهل يسبح في بحرك؟ وهل يتطاول إلى سمائك؟
لو رآك لرشاك، ولو شاهدك لما انتسب إلا إليك (5).
وأما إبراهيم بن العباس الصّولي (6) فأحسن ما يختار له أن يكون من المختلفين إليك، ومن الحاذين على مثالك، والآخذين عنك. وأما الدّواوين فالكلواذي (7) يسلّمها لك، ويتبرأ من الأعمال بسببك، ويطّرح الرسوم القديمة معك، ويأخذ فيما تبتدعه وتضعه، لأنه إن نازعك افتضح على يدك، والعاقل لا يلقي بيده إلى التّهلكة، ولو وثق أنك تقبل مصانعته لصانعك، ولو علم أنك تبقي عليه لخدمك.
__________
(1) محمد بن الحسن الشيباني أبو عبد الله المتوفى سنة 189هـ. الفهرست 287، المعارف 219، الجواهر المضية 2/ 42.
(2) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب أبو يوسف القاضي المتوفى سنة 182هـ.
المعارف 218، الفهرست 286، الجواهر المضية 2/ 220.
(3) تقدمت ترجمة الجاحظ.
(4) الشرار: الشرارة.
(5) كذا صحح بالحاشية بنفس خط الأصل، وفي الصلب: «لم ينتسب».
(6) تقدمت ترجمة أبي إسحاق الصولي.
(7) الكلواذي، ويقال: الكلوذاني أبو القاسم عبيد الله بن محمد وزير المقتدر. الفخري 247.(1/331)
وأما الخطّ فابن مقلة (1) وابن أبي خالد (2) والبربري (3) ومن تقدّم وتأخر أعطوك الضّمة فيه، وأظهروا لك الانقياد به.
قال: ومن مناقبه في مثالبه أنه يقنع منك في مدحك بالنّفاق، وفي ثنائك عليه بالرّياء، وفي نصرة سيرته بالحيلة، ويرضى في هذا كله بعفوك دون جهدك، وبما يخفّ دون ما يثقل وليس كذلك ابن العميد فإنه لا يحبّ أن تمدحه إلا بأكرم الخصال، وأشرف الفعال، وأن يكون قولك عن عقد، ووصفك عن يقين، وإخبارك عن تعجّب، وتعجّبك عن استبصار، واستبصارك عن معاينة، وفيه مع ذلك كياد مخنّث مجفوّ، وسفه ضرّة رعناء، ونميمة كنّة سليطة.
وحدّثنا القاضي ابن عبد الرّحيم، وكان خصّيصا به، وقهرمان داره ومشرفا على غوامض / أمره، قال: قصده شاعر (4) في بعض
__________
(1) محمد بن علي بن مقلة أبو علي المتوفى سنة 328هـ، الفهرست 14، الوفيات 2/ 79، 1/ 471، الفخري 244.
(2) أحمد بن أبي خالد وزير المأمون. الوفيات 1/ 297، 2/ 289، الفخري 205.
(3) إسحق بن إبراهيم بن عبد الله البربري. الفهرست 13، الإرشاد 2/ 225.
(4) في الوفيات 2/ 75: أن الشاعر ابن نباتة السعدي. وتأتي تتمة الحديث.(1/332)
الأيام ووصل إليه، وأنشده وأصغى إليه، وانصرف بأمل، وتردّد على ذلك فلم ير ما يحبّ، وتعلّق بي.
فقلت له: صاحبه روبين (1) أغلب الناس عليه، وأوجههم عنده، فلو لذت به رجوت لك. فلزمه وسأله الكلام في أمره، فوعده بذلك.
قال روبين (1) فقلت له يعني ابن العميد: هذا الشاعر البائس قد سمعت منه شعره، وأسمنت أمله، وهو على ذلك يغدو ويروح ويشكو (2) وينوح، فلو أمرت له بشيء كان أقطع لشغبه وأجلب لشكره، وأدعى إلى السّلامة من عتبه وهؤلاء (3) يردون الآفاق، ولهم الإلحاح والطّلب والتذرّع باللسان، والتوصّل إلى كل حال بكلّ حيلة.
فقال: وما يريد؟ إن شاء أجبته عن قصيدته في رويّها بعدد أبياته وعروضه وأعيان معانيه، وأزيد. وإذا رددت شعرا بشعر فليس علي بعد ذلك لوم ولا أنا مقصّر ولا ظالم.
__________
(1) في تجارب الأمم 2/ 224: «روين». وهو حاجب أبي الفضل، وكان شجاعا شهما.
(2) الأصل: «وشكوا».
(3) وهاؤلاء برد الآفاق. وفي الأصل: «وهو لا يرد».(1/333)
قال: فقلت له: هذا سمج شنيع، والناس لا يقارّون عليه، ولا يرضون به ولو ذهبت أرواحهم وتلفت أنفسهم.
فقال: يا هذا! هوّن عليك، وأقلل من حديثك، فقد ضيّعنا في هذا مالا، وإنّا بعد في لذع الحسرة على ذلك، لأن الشّباب له عرام، ولم يكن لي في تلك الحال تجربة، ولا يقظة، ولا معرفة بحقّ المال والقيام بحفظه إذا حصل، والشّغل بجمعه إذا انتقل، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.
المال عافاك الله عديل الروح، وكمال الحياة، وقوام الظهر، وسرور القلب، وزينة العيش، ومجنّ الحوادث، وحبل اللّذات، ومتعة الإنسان، ومادّة البقاء ومن لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل فلا حياة له، ومن لا حياة له فلا لذّة له، ومن لا لذّة له فهو في قبيل المعدوم.
قال روبين (1): فعلمت أن بعد هذه الخطبة لا يسمح بدرهم واحد.
فوصلت الرجل من مالي بشيء واعتذرت إليه وبلغني أن ذلك الشاعر مزّق عرضه، وهتك ستره.
ولقد شاهدت في مجلسه شاعرا من الكرخ يعرف بممويه (2)،
__________
(1) في تجارب الأمم: «روين».
(2) في الوفيات 2/ 77: «بموته» تصحيف.(1/334)
وكان جيّد اللسان، يقول له (1):
أيها الرئيس! قد لزمت فناءك لزوم الظل، وذللت لك ذكّ النعل، وخدمت أملي فيك خدمة ناصح لنفسي فيما التمست من الصّلة والجائزة، ولك فيما أوفدت عليك من الثناء والمدحة، وما بي والله ألم الحرمان، ولكن شماتة قوم صدقوني فاتّهمتهم، ونصحوني فاغتششتهم بأيّ وجه ألقاهم، وبأية حجّة أدافعهم؟ وهل حصلت من مديح بعد مديح، ومن نظم بعد نثر، ومن رواح بعد بكور، ومن غسل أطمار وإخلاق سربال، ومن تأفّف (2) لازم، وضجر دائم (3) إلا على ندم مؤلم ويأس مسقم؟ فإن كان للنجاح علامة فما هي، وأين هي؟ قد والله طالت غيبتي عن أهلي، وعن السائلين عن حالي، في هذه المعاملة التي عاقبتها الخيبة بعد المطل، والحرمان بعد الإطماع، والتحسّر بعد الوعد وقد بسط الله كفّك، وجعل الخير والجود والكرم جارية
__________
(1) هذه الرسالة نقلها ابن خلكان في الوفيات 2/ 76، وبين ألفاظ الروايتين اختلاف.
(2) في الحاشية: «تأسف» على أنها رواية أخرى.
(3) هنا مكان هذه الكلمات فيما نرى، وقد وردت في الأصل بعد قوله: «ويأس مسقم».(1/335)
في أسرارها (1) ونابعة من جوانبها. ففض أيها الرئيس فإنما أنت بحر، واسكب فإنما أنت سحاب، واطلع فإنما أنت شمس، واتّقد (2) فإنما أنت نجم، ومر فإنما أنت مطاع، وهب فإنما أنت واجد، واهتّز فإنما أنت ماجد، وصل فإنك جواد.
والله ما يقعد بك خور في الطّباع، ولا نغل (3) في العرق، ولا قدح في الأصل. المخّ قصيد (4) والحبل حصيد (5)، والزّند وار، والفروة خضراء (6) والعود مورق، والمال جمّ، والأمر أجمّ، والسلك دقيق، والنسيج صفيق، والطّراز أنيق وما هو إلا أن تقول حتى تسمع، وما هو إلّا أن تأمر حتّى يمتثل، لأن أمرك على الفور، وحكمك ماض بالعدل والجور فما الذي يثني عزمك عن الكرم؟ ويفلّ حدّك في الجود؟
ويقصر باعك عن المجد؟ ويسدّ أذنك عن أحاديث غد؟ إن الذين تكره لهم ما هجوا به كانوا مثلك، وإن الذين تحسدهم على ما مدحوا
__________
(1) الأسرار: الخطوط في باطن الكفّ.
(2) اتقد: تلألأ.
(3) النغل: الفساد في النسب.
(4) مخ قصيد: سمين، وهم يستعيرون السمن للجودة.
(5) الحصيد: المحكم القوي.
(6) الفروة: الجلدة، واخضرار الفروة كناية عن الخصب وسعة العيش.(1/336)
به كانوا من طينتك فزاحم بمنكبك أضخمهم سناما (1) وزد على من كان أكبرهم كاهلا، وأعلاهم يفاعا (2)، وأسطعهم شعاعا، وأزهرهم نارا، وأكثرهم زوارا!
فلمّا بهره هذا الكلام الشّهيّ في ذلك المجلس البهيّ شده وعله (3)
ولم يدر ما يقول، وأطرق هنيهة، ثم قال:
هذا وقت يضيق عن الإطالة منك في الاستزادة (4)، وعن الإطالة منّي في المعذرة فإذا تواهبنا في الحال ما قد دفعنا إليه، استأنفنا في الثّاني ما نتحامد عليه.
فقال الشاعر (5): أيها الرئيس! هذه نفاثة صدر قد جوي (6) منذ سنة، وفضلة لسان قد فدم (7) منذ زمان وقد تقدّم العمل، والجزاء موقوف، والرّجاء عليل، والأمل غادر، والحال بعرض سوء (8)،
__________
(1) في الوفيات 2/ 76: «أعظمهم شأنا».
(2) اليفاع: المرتفع. وفي الوفيات: «وأشرفهم بقاعا».
(3) شده: دهش. وعله: تبلد وتحيّر.
(4) الاستزادة: العتب.
(5) في الوفيات 2/ 76: «قال ابن نباتة: أيها الرئيس».
(6) جوي: أصيب بالجوى، وهو حرقة في القلب تنتج عن شدة الحزن.
(7) فدم: عيي.
(8) السّوء: الهلاك والفساد.(1/337)
والشامت قد شمّر للتأنيب، ولا صبر لمقلّ على مدلّ إلا على وجه يحتمل فإن رأيت قدّمت المتأخّر، وقربت الشّاسع، وجعلت إجزال العطية في تعجيلها، وإكرام طالبها في تسهيلها، فلا مانع إن لم يكن ذلك من سدّة جد، أو تقاعس جدّ.
فقال: يا هذا قد كرّرت العتب، واجتررت الملام، وما أستوجب هذا من أحد من خلق الله ولقد نافرت العميد (1) بدون هذا حتى ثار من ذلك عجاج قاتم، وانتهينا منه إلى قريّ عاتم (2) ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عليك وإنّ بعض ما قرّرته في أذني لمما ينقض مرّة (3) الحلم، ويبدّد شمل الصّبر ولست ممن يطيش لأدنى سانح، ويتطّير لأوّل بارح والله ما دعوتك / إلي، ولا أغريتك بي، ولا سألتك تقريظي، ولا أتعبتك في قصدي وإن الظّلم منك، وكذاك العتب منك وأنا على كلّ حال مالي؟ فلا تجمع بين الظّلم والتظلّم، والجناية والتّجنّي، وخذ نفسك بالنّزاهة والعفاف فإنّهما لا يقفانك هذا الموقف، ولا يعرضانك على هذا المجلس، ورزق الله
__________
(1) في الوفيات: «ابن العميد من»، وهو تصحيف.
(2) قريّ عاتم: أي طريق مظلم.
(3) المرة بالكسر: شدة الفتل، ومرّة الحبل طاقته، ونقضه: فسخه والكلام على التجوز.(1/338)
منتاب وغاد، واطلب الغنى منك فإنه عندك أكثر منه عند من تظلمه وهو لم يظلم، وتعاقبه وهو لم يجرم.
فقال الرجل (1): ما كرّرت العتب حتّى أكلت النّوى المحرّق (2)
في انتظار صلتك، ولا اجتررت الملام حتّى خانني صبري في توقّع جائزتك والغنيّ إذا مطل ظلم، والواجد إذا لوى أثم (3)، والجواد إذا منع ليم.
ولعمري ما دعوتني إليك، ولا أغريتني بك بكتاب خصصتني ورتّبتني فيه، ولا سألتني تقريظك، ولا أبغيتني (4) في قصدك برسول أرسلته إلي ولكن لمّا جلست في صدر هذا الإيوان (5) بأبّهتك وعظمتك وكبريائك وجبروتك وقلت: لا يخاطبنى أحد إلا بالرياسة،
__________
(1) في الوفيات: «قال ابن نباتة».
(2) في الحديث: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن حرق النواة، أي إحراقها بالنار، وإنما نهى عنه إكراما للنخلة، أو لأن النوى قوت الدواجن». وأكل النوى المحرق: كناية عن الضرورة التي أباحت فعل المنهي عنه. وانظر اللسان (حرق).
(3) إشارة إلى حديث: «مطل الغني ظلم، وليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته». وهو في اللسان (عرض مطل لوى).
(4) في الأصل: «أتعبتني» تصحيف.
(5) الإيوان: الصّفة العظيمة. وفي الأصل: «الديوان»، وصحح بنفس الخط في الحاشيه.(1/339)
ولا ينازعني أحد في حقوق السّياسة (1) فإني كاتب ركن الدّولة، وزعيم الأولياء بالحضرة، والقيّم بمصالح المملكة فقد أهبت (2) الناس إلى بابك، وأغريتهم بخدمتك، وأطمعتهم في مالك، وكأنك قد خاطبتهم بلسان الحال، وإن لم تكن خاطبتهم بلسان المقال. فأنا ذلك السّامع برياستك، والشاهد بفضلك، والراغب في خدمتك، والراجي لخيرك سمعت فأجبت، وحضرت فمدحت، ووقفت فأثنيت وأصغيت فقبلت (3)
وأدّيت فاستحسنت ولم يبق بعد هذا كلّه إلّا أن [لا] (4) يكون عطاؤك حرمانا، ووعدك ليّانا ولا جودك انتحالا، ولا فتوّتك اقتيالا (5)، ولا ماؤك سرابا، ولا جودك ضبابا ولا خدمتك مندمة، ولا الحاصل من معاملتك مظلمة.
وإن الرجل الحرّ متى علم أن صاحبه لئيم الطّباع، خسيس الخلق، مرقّع المنصب، ملبوس المحتد، وأن الله تعالى لم يجعله من معادن الرّزق، ولا من أبواب النّجاح، فإنه لا يطمع فيه، ولا يتواضع له، ولا يعدّه فيمن
__________
(1) في الوفيات: «خلق في أحكام السياسة».
(2) أهبت: دعوت.
(3) في الأصل: «فسمعت»، وفوقها: «فقبلت».
(5) تكملة تقتضيها صحة الكلام.
(4) الاقتيال: الادّعاء والتحكم.(1/340)
يعد، ولا يشغل لسانه بمدحه، ولا يعقّ أمله بقصده، ولا يضيّع قوله في وصفه بل يرى أن اقتحام الجمر، وسفّ التّراب، ونزع الرّوح أهون من ذاك وأعزّ (1).
ولعن الله الأدب إذا كان بائعه مذيلا [له] (2)، ومشتريه مهينا لقدره، ومماكسا فيه.
وتقوّض المجلس، وقام الناس، وانصرف الشاعر.
فحدّثني شمسويه أنه طلبه بعد ذلك ليصله، فرجع إليه أنه ذهب بين سمع الأرض وبصرها.
وسألت الجرجانيّ عن ابن عبّاد وابن العميد.
__________
(1) في الوفيات:
«فثار ابن العميد مغضبا، وأسرع في صحن داره إلى أن دخل حجرته، ونقوّض المجلس وماج الناس وسمع ابن نباتة وهو في صحن الدار مارّا يقول:
والله إن سف التراب والمشي على الجمر أهون من هذا! فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهينا له، ومشتريه مماكسا فيه. فلما سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه ويزيل آثار ما كان منه، فكأنما غاص في سمع الأرض وبصرها فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات.
ثم إني وجدت هذه القصيدة وصورة هذا المجلس منسوبين إلى غير ابن نباتة، وكشفت ديوان ابن نباتة فلم أر هذه القصيدة فيه. والله أعلم».
(2) تكملة لا بد منها. ومذيلا له: مهينا له.(1/341)
فقال: ما يبينان بكرم كبير، وفعال (1) مشهور ولا فائدة في نشر لؤمهما وخساسة طباعهما بلغ من فلسفة هذا أنه أمر بقطع لسان رجل شتم بلد قمّ غضبا لبلده، وتيها بوطنه، وشدّ آخر في داره إلى شجرة وما زال يضرب إلى أن مات، وطرحه في جوبة (2)
حتى أكلته الكلاب فقال صاحبه (3): انظروا إلى هذا الذي قلنا إنه أعقل النّاس.
حدّثني بهذا الهرويّ.
ثم قال: وكان ابن عبّاد كما قال أصحابنا هو ابن سجب (4)
ليس عنده إلا القال والقيل، والكبر والتّخييل (5) يحبّ العامّة ويرفع نفسه عنها، ويحسد الخاصّة ويجعل نفسه منها، ويستطيل بالعلم وهو قريب القعر فيه، ويدّعي الردّ على الأوائل وهو لا يعرف حرفا من نمطهم، ويتحلّى بالعدل والتّوحيد، قولا ويتحلى بالجور فعلا، ويتشبّع
__________
(1) الفعال، بفتح الفاء: اسم للفعل الحسن.
(2) الجوبة: الحفرة.
(3) يعني ب «صاحبه» ركن الدولة.
(4) كذا بالأصل، ولعلها: «شجب»، وهو: المهذار الكثير الكلام.
(5) التخييل: التلبيس على الناس.(1/342)
بالأدب وهو سيّء الأدب يتهكّم بلسانه مستطيلا، ويتقحّم الجراثيم (1)
مستهينا، لو وقع عليه الخصم لجرّده للناس، وأظهره للصّغار والكبار، لكنّه في خفارة جدّه، وحصن دولته على أن الجهابذة قد نقدوه وبهرجوه وتركوا التعامل به، وإنما هو وميض برق وهبوب ريح، وخفق راية فإذا قرت الأمور قرارها، وعطفت الفروع على أصولها ألفيته مطّرحا مع نظائره، خامل الذكر، وضيع القدر، قصير الشّبر، مهتوك السّتر.
قال: وجملة الأمر أنّ ابن العميد كان حسن الكتابة، غزير الإنشاء، جيّد الحفظ، ولم يكن له في كتابته حساب ولا تحصيل لوجوه الأموال، ولا معرفة بالدّواوين، ولكنّه كان بفضل الكيس يتأتّى له ويتلطّف.
قال: وله شعر صالح في الغزل والمعاتبة ولأنه مشهور لا طائل في روايته، ومن ذلك قوله:
قلبي دام به ندوب (2) ... يكاد ممّا به يذوب
__________
(1) أي يلقي بنفسه فيها. وفي الحديث: «من سرّه أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجدّ». أي أن يرمي بنفسه في معاظم عذاب جهنم. (ل)
(2) الندوب: الجروح.(1/343)
قد كنت أخفي الوشاة جهدي ... فنمّ مني به الوجيب
فهل سمعتم بمستهام ... عليه من قلبه رقيب
يعمد ما ساءني ضرارا ... ما هكذا تفعل القلوب
يقتادني للصّبا غرير ... كأنه شادن ربيب
جرى مع الدّهر في عنان ... فهو لأحكامه نسيب
فكلّ محبوبه بعيد ... وكلّ مكروهه قريب
وكيف يرجى بقاء صبّ ... ناكده الدّهر والحبيب
وكان (1) ابنه أبو الفتح أشعر منه وأحسن خطا، واستفاد بدخول بغداد شيئا فات والده.
وكان (2) لذلك يغمز على البغداديين ويتعنّتهم، وكان نزر العطاء شديد المنع لا يقبل صنفا من الناس، وإنما غرم شيئا يسيرا على العامري، لأن العامري خدعه وطلاه (3) وصبغه ودخل من باب غامض عليه وقال: لقد قصدتك من خراسان لأقرأ عليك علم الحيل وجرّ الثقيل، ومراكز الأثقال (4)،
__________
(1) مثله في الإمتاع 1/ 66.
(2) عاد الحديث عن أبي الفضل ابن العميد.
(3) هكذا «وطلاه» في الأصل، وكتب فوقها «وضلله».
(4) انظر مقدمة ابن خلدون 406، وكشف الظنون 1/ 581، 582، 2/ 1652، 2046.(1/344)
وهو في أواخر علم الهندسة. بهذه الدعوى وبخلابته أيضا، وبعصر عينيه عند / سماع كلامه، وكان يقول له: ضاع عمري ولم أوفّق لرشدي في أوّل أمري، ولو وفّقت لوقعت إلى كنز علمك وروضة بيانك قبل هذه السّنين.
ولما رآه أبو الفضل على هذا، قال: لست في قراءتك جرّ الثقيل عليّ بأحوج مني في قراءة الإلهيات عليك، فإنك في هذا الفن بحر لا يتغلغل إلى قعره، وجبل لا يتوقّل إلى مصاده (1).
وكان هذا تساخرا منهما، وتكاذبا بينهما، لأنهما كانا لا يعرفان من هذين العلمين لا قليلا ولا كثيرا.
وما ينقضي عجبي من تكاذب العقلاء، ومن تجاذب (2) الجهّال.
وخبّ (3) هذا الإنسان خبّ فائت، والإحاطة به ممتنعة.
وأما الهروي (4) فإنه ارتبطه بأمر ركن الدّولة، وكان يمدّه من
__________
(1) يتوقل: يصعد. والمصاد: أعلى الجبل.
(2) التجاذب: المخادعة.
(3) الخبّ: الخبث والفساد.
(4) يقول البيروني: إن أبا الفضل الهروي كان من أفاضل المتقدمين في صناعة النجوم، وأنه ألف في هذا الموضوع كتاب «المدخل الصاحبي»، وهو، على تقدمه في الرياضيات، معتمد مرضيّ، وقد رصد عرض جرجان سنتي(1/345)
ما له، لأنه حمد في طبّه الذي كان يتكثّر به بعد هندسته التي كان فيها أبرع، وبها (1) أعرف.
وأما مسكويه فإنه اتخّذه خازنا لكتبه، وأراد أيضا أن يقدح ابنه به، ولم يكن من الصّنائع المقصودة والمهمّات اللّازمة وكان أيضا ما يقيم عليه شيئا نزرا لا يقنع به إلا من لا نفس له ولاهّمة، وكان يحتمل ذلك لبعض العزازة (2) بظلّه والتظاهر بجاهه.
وأما ما تكلّفه لأبي جعفر الخازن (3) فإنه كان لأسباب طويلة منها أن ركن الدّولة أعظمه، فلزمه أن يقتدي به.
ومنها أنه طمع في اقتباس علمه.
ومنها أن العيون كانت تنظر إليه في أمره، والناس يحسبون ما يأتيه في بابه، لأنّه وقع إلى الرّيّ مع صاحبه الصّاغاني أبي عليّ حين طلب الأمان، والحديث معروف.
__________
(1) في الأصل: «أبدع وبها».
372371 - هـ. (تحديد نهايات الأماكن 88، 134ب 136).
وانظر المدخل لتاريخ العلم لسارطون 1/ 66، 612.
(2) العزازة: الاعتزاز.
(3) ذكره ابن النديم في الفهرست 393، والقفطي في أخبار الحكماء 295. وانظر المدخل لتاريخ العلم 1/ 664.(1/346)
فأما ابن فارس (1) فإنه استخدمه ليعلّم ولده.
وأما ابن أبي الثياب (2) البغداديّ فإنه قرّبه ليسترق منه المنطق، فلما علم بذلك أبو محمّد نفس (3) بما معه، وتكاسل وقيل له: كيف تعاصيت؟
فقال: كان سيّء الانبعاث في هذه الفنون، وكان شديد التّشبّع بها، يحّب أن يختلس الحكمة، ويمتهن أربابها بفضل المقدرة.
وأنشدني في هذه القصّة:
إلى الله أشكو ريب دهر كأنّما ... يرى كلّ ما يجري بمكروهنا فرضا
يؤمّل منّي أن أذلّ لموسر ... لئيم ونفس الحرّ بالذّلّ لا ترضى
قلت: لمن الشعر؟ قال: أنشدني ابن [أبي] (4) البغل لنفسه.
وأراغه أبو الفضل على المنادمة فأنف، وما زال يترصّد وقتا ينفلت فيه حتّى كان من أمر ابن العميد ما كان من خروجه إلى أرّجان (5)، فطوى
__________
(1) تقدمت ترجمة ابن فارس.
(2) عبد الرزاق بن الحسن بن أبي الثياب أبو محمد الشاعر، وله معرفة بالمنطق والفلسفة والهندسة. وفي الوافي (1969شهيد علي الورقة 188ب) أنه اتصل بالوزير أبي الفتح (صوابه أبو الفضل) ابن العميد، ثم فارقه ودخل بخارا فحظي هناك. وانظر يتيمة الدهر 4/ 118.
(3) نفس: ضنّ وبخل.
(4) في الأصل: «ابن البغل». وابن أبي البغل هو أحمد بن محمد بن يحيى أبو الحسين، كاتب بليغ مترسل. الفهرست 197.
(5) انظر تجارب الأمم 2/ 282270، الكامل لابن الأثير 8/ 217.
فجاج الأرض، وجاب البلاد إلى بخارا، وولي بها البريد إلى أن قضى.(1/347)
فجاج الأرض، وجاب البلاد إلى بخارا، وولي بها البريد إلى أن قضى.
وأما أبو طاهر الورّاق فإنه رتّبه في النّسخ، وكان قويّ الخطّ كثير الصّبر على النّقل، ولم يكن من الصّنائع ولا من حملة النّعمة، ولا مّمن يطالب بالحمد ويبعث على الشّكر.
وأما ابن بندار (1) فإنه كان فدما غليظا، غليظ الكلام جافيا جاسيا مقيتا، وكان وزر بأذربيجان لجستان (2)، فأحبّ أن يري من نفسه أنه على مائدته من وزر.
فأين الصّنائع والمدّاح؟ وأين المنتجعون والزائرون؟ وأين من مرّ به محتاجا إلى زاد ونفقة فطلبه وقرّبه، وأعطاه ووصله، وأضافه وأكرمه، وتصفّح ما معه واقتبس ممّا عنده؟ سقى الله ابن عبّاد! فإنّه وقف نفسه على الغرباء وطلبهم بأكثر مما تعّرضوا له، وسأل عنهم
__________
(1) ابن بندار، لأبي بكر الخوارزمي رسالة إليه ذكرها في رسائله (85 89) طبع الجوائب 1297هـ.
(2) جستان بن المرزبان صاحب أذربيجان، ملك سنة 346هـ بعد موت أبيه، وقتله عمه وهسودان سنة 349هـ. وانظر كامل ابن الأثير 8/ 388، 394 395، وتاريخ أبي الفداء 2/ 107.(1/348)
بأكبر ممّا رجوه فيه ولولا أنه كان يفسد هذه الأفعال بالرّقاعة والتّخيل (1) والعجب والتّطاول، وذكر الطعام والمائدة، وما يعطي ويهب، لكان قليله أكثر من كثير ذاك، وصغيره أكبر من كبيره ولكن لكلّ حسن مقبّح، ولكل عزيز مذلّل، ولكل جديد مبل.
وحدّثني ابن عبد الرحيم القاضي قال:
قال (2) يوما لصاحب طعامه حدّثني عن هذا الخبز المكسّر على الطبق، والملوّث، وما تتجافى عنه الأيدي، وما يصيبه اللّحم والمرق والثّريد ما تصنعون به؟ وابتدأ هذا القول وهو في جوف خركاه (3)، وظنّ أن لا أذن هناك.
فقال له الرّجل في جوابه، بعد أن تكرّر قوله، وقد حال عن مزاجه لغيظه من سؤاله: ندسّه في حر امرأة من يسأل عنه.
قال: وهذا بالفارسيّة قاله، وهذا تفسيره.
قال: فانكسر وانخزل، وعلم أنه قد باء بالخزي، وعاص (4) على سواده،
__________
(1) التخيل: التباهي والإعجاب بالنفس.
(2) يعني أبا الفضل ابن العميد.
(3) الخركاه: الخيمة (فارسية).
(4) كذا في الأصل. ولعلّها: «غاص».(1/349)
وأنّ الخطأ منه في المسألة أفحش من الخطأ عليه في الجواب.
فقال له: أنت مجنون، اخرج لا بارك الله فيك.
وهذا كما تسمع. والموت بهذا الرئيس على الخشبة صلبا أحسن من هذا الحديث وكان الرّجل من فرط كيسه لا يقع إلا مكبوبا، ولا يذكر إلا مسبوبا.
ولقد بلغ من لؤمه وشؤمه أنه قتل من أكل عنده وذلك أن أبا المحاوش ورد إلى الرّيّ، وكان بدويّا، أو من هذه المزالف (1) متباديا، وشهر بشدّة الضّرس وكثرة الأكل، وتكرّر حديثه عنده، وما وصف به من طيب كلامه، وحسن وصفه للقدر والطّبيخ والألوان، فدعا به، وتقدّم بإحضار شيء كثير من الخبز والحلوى، فاكتسحه كلّه، وطلب الزّيادة، وكشر أبو الفضل في وجهه، وأظهر استملاحه على تفقّؤ فؤاده ونار صدره ثم وهب له دريهمات وخريقات وشملة وقال: اكثر عندنا واقترح ما في نفسك على صاحبنا المطبخي. فكان المسكين يحضر في الفرط (2)، فيطلب شيئا ويأكل وينصرف.
__________
(1) المزالف: القرى التي بين البر والبحر كالأنبار والقادسية ونحوهما.
(2) الفرط: أن تزور الشخص مرة في أيام لا تكون أقل من ثلاثة أيام، ولا أكثر من خمسة عشر ليلة وأن تلقى الرجل بعد أيام.(1/350)
فطال ذلك على أبي الفضل، واغتاظ منه، وغلب طباعه، فقال لصاحب مطبخه: اجمع هذا الذي يقال له لالكات (1) التي قد أخلقت وتقطّعت، وقطّعها صغارا كالبنادق، وقدّمها إليه في عجّة وافرة، ببيض كثير، وسمن وافر، حتى ننظر إلى أكله، وهل يفطن؟
وإنما كان كيدا، ففعل وأحضر وأقبل أبو المحاوش عليها وتذرّع (2)
في أكلها، وأعظم اللّقمة، ودارك الرّفع والوضع، ووجدها / وطية ناعمة، فلما أقلع عنها وانصرف، وشرب الماء وجاء وقت الثّلط (3)، انقدّ (4) بطنه فخرج فيه نفسه.
فهذا لمّا تكرّم بالإطعام، وحثّ على الأكل، ورغّب في الرغيب (5).
وهذا الفعل يجمع إلى النّذالة قلّة الدّين، وإلى اللّؤم سخف العقل.
فالويل له ثم الويل له.
وكان إذا رأى ابن بندار يقول: جاء كم أسد الغريف (6) على الرّغيف.
__________
(1) لا لكات: جلود (فارسية).
(2) تذرع: أفرط.
(3) الثلط: الرجيع، أي حان وقف التبرّز.
(4) انقدّ: انشق.
(5) الرغيب: المرغوب فيه.
(6) الغريف: الأجمة والشجر الملتف.(1/351)
والرّيّ جادّة الدّنيا، ومنهج المشرق والمغرب والجوّالين في الآفاق، فكان يكثر أهل الانتجاع من كلّ صقع، فلم يكن لأحد منهم عنده مقيل ساعة ولا مبيت ليلة، ولا زاد مرحلة ولا هشاشة ولا بشاشة.
وقد اجتاز به أبو إسحاق الفارسي (1)، وكان من غلمان أبي سعيد السّيرافيّ، وكان قيّما بالكتاب (2)، وقرض الشّعر، وصنّف وأملى وشرح، وتكلّم في العروض والقوافي والمعمّى، وناقض المتنبيّ (3)، وحفظ الطّم والرّم (4) فما زوّده درهما، ولا افتقده برغيف بعد أن أذن له حتّى حضره وسمع كلامه وعرف فضله، واستبان سعته.
قال الخليلي: وكيف يرجى خيره، أو يؤمّل رشده، أو يساق طمع إليه، أو يوفد ثناء عليه، أو يشام له برق (5) أو يقطع دونه
__________
(1) إبراهيم بن علي، من الأعيان في علم اللغة، ذكر الثعالبي في اليتيمة 4/ 140أنه ورد بخارا أيام السامانيّين فأجلّوه وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل حتى وفاته. وقد نقل ياقوت 1/ 180ترجمته عن أبي حيان في كتاب «الوزيرين».
(2) يعني كتاب سيبويه في النحو فقد أصبح «الكتاب» علما عليه.
(3) أحمد بن الحسين الجعفي أبو الطيب المتوفى سنة 354هـ. الوفيات 1/ 44، اليتيمة 1/ 19090، معاهد التنصيص 1/ 15.
(4) الطم والرم: الرطب واليابس، والبحر والبر. وهو تعبير يكنى به عن الكثرة.
(5) شام البرق: تطلّب مكان إمطاره.(1/352)
خرق (1)، وقد عقّ أباه، وسعى به في أول أيامه، حتّى تبّرأ منه ذلك الشّيخ وهرب إلى خراسان، واستكتب هناك، ولقّب بالعميد.
وكتب إلى قاضي أصفهان كتابا برىء منه فيه.
وأنا أروي قصتّه في هذا المكان ليكون أذهب في العجب.
وكان عقوقه من وجه عجيب (2) جاء إلى ذخيرات (3) في مواضع ووضع يده عليها، وعرّف صاحبه مكانها، وخطّ خطوه عليها، وزوى (4) ذلك كلّه عن شيخه وعن جميع من كان له فيه نصيب، إما بحقّ الإرث أو بحقّ الهبة، حتى قامت قيامة ذلك الشّيخ، فدعا عليه، وفضحه عند النّاس، وبرىء منه، وقدح في ولادته.
والرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
القاضي، أطال الله بقاه، وأدام نعماه، أجلّ محلّ من مواهب الله فيه وعوائده عنده، في الدّين والدّنيا والعصمة والخير والفضيلة،
__________
(1) الخرق: الفلاة الواسعة.
(2) في الأصل: «غريب»، وفوقها بالخط نفسه: «عجيب».
(3) ما يدّخره الإنسان.
(4) زوى: صرف.(1/353)
وحسن التأتي (1) في كل فصيلة (2)، وجميل اللفظ في جميع الحكومة ولي في الشكوى إليه ومباثّته (3)، وذمّ الزمان عنده والاستعداء عليه لديه، استراحة وتخفيف للثقل، وتفرّج (4) من حرج الصّدر وأنا المتمسّك به تمسّكي كان بالوالد والعمّ، واثق بأن نصيبي من شفقته تامّ، ومن مشاركته وافر، والله لا يعد منيه، ويحفظني بمواصلة النّعم عنده إليه بقدرته.
والكلوم أدام الله عز القاضي ضروب، والنّدوب فنون وأعسرها برءا وأصعبها داء، وأعزّها دواء، ما جرحته يد القريب، وجلبته أفعال الأهل فإنّ ذلك يصل إلى حبّة القلب، وصميم الفؤاد، ويصير قذى في إنسان العين، وشجى معترضا في الحلق، ويتراكم على الأيام، ويتكاثف على الدّهر، فيكون نكء (5) القرح بالقرح أوجع، ومتى تنفّس الممنوّ (6)، وشكا (7) المملوّ غيظا وحنقا اجتمع إليه من
__________
(1) التأتي: التلطف والإتيان للشيء من وجهه.
(2) الفصيلة: المسألة يفصل فيها.
(3) مباثته: إطلاعه على السر.
(4) تفرج: وجدان فرجة تريحني.
(5) القرح: الجرح، ونكؤه: قشره قبل أن يبرأ.
(6) الممنو: المبتلى.
(7) في الأصل: «وشكى».(1/354)
عشيرته وأسرته شيخ ضعيف، أو طفل صغير، أو امرأة باكية، أو عورة بادية، أو ذو قرابة فاستغفر هذا واستصفح، وسأل وتشفّع.
ثم رويت أخبار في قطيعة الرّحم، وعدّت آثار في صلة القربى، فضاق النّفس، واشتدّ الحنق، وتجرّع هذا المظلوم الغيظ وصبر، وأنف واحتمل، واحتسب وعفا وغفر، والشرّ عتيد، والبلاء يزيد، والطّبع أغلب، والعادة لا تنزع، والجاهل لا يقلع.
فهل دواء هذا، إذا اتّصل وطال، وامتدّ وتتابع، وزاد وتضاعف، إلا الصّريمة والإعراض، والقطيعة والانقباض؟ فدواء ما لا تشتهيه النّفس تعجيل الفراق.
وأنا جعلني الله فداء القاضي ذلك الملآن المغتاظ الذي قد عيل صبره وضاع حلمه، وضاقت نفسه، وقرح قلبه، ونضجت كبده، وقلّت حيلته، وعظمت بليته.
وهذا الجاهل ابني، وما هو با بني، من انتهى بي إلى هذه الشكوى، وقصدني بهذه البلوى، وعقّني وخالفني، وبغى عليّ وباغضني وارتكب معي ما لا يحلّ، بعد أن ربّيته صغيرا، وأعززته كبيرا، وأوليته جميلا، وأمليته (1) جسيما، وصنته شديدا، وحطته دهرا
__________
(1) أمليته: وسعت عليه.(1/355)
طويلا وخضت دونه الأهوال، وقاسيت في حمايته الأغوال (1) أجمّه (2)
وأتعب، وأقلّده وأتعطّل، وأعزّه وأذلّ، وأغترب ليقيم، وأنعّمه وأشقى، وأتحمّل عنه ليرضى فما يعرف لي حقّا ولا يتأتى (3)، ولا يرعى ذماما ولا يهدي (4)، ويتهنأ (5) متعرّضا مستخفّا بي، ولو أمنت ملال القاضي أدام الله أيامه لعددت مقابحه، وذكرت مساويه، ووصفت ما يرتكبه من عظائم، هي به متّصلة وإليّ منسوبة، أنه؟؟؟ أفزع من يسيرها، وأجزع من قليلها، ولا أحبّ أن أراها وأعاينها في جار أو قريب.
وقد زجرت ووعظت، وقلت وراسلت، وكاتبت وشافهت، وعاتبت وخاطبت، وشدّدت (6) وهوّلت، ورغبت (7) وأوجعت وضربت الأمثال، وذكرت السّير، وخوفت وحذّرت، فما انتفعت وجرائمه تكثر، وجرائره تغلظ ولا فضل فيّ، ولا احتمال معي، ولا بقية للإغضاء عندي.
__________
(1) الأغوال: المشاق. وفي الأصل: «حمايه الأعوال».
(2) أجمه: أريحه.
(3) لا يتأتى: لا يرفق، ولا يأتي الأمر من وجهه.
(4) يهدي: يهتدي ويطيع.
(5) يتهنأ: يستلذ.
(6) في الأصل: «وسددت».
(7) كذا، وكأنها: «رعبت».(1/356)
وغرضي في هذه المخاطبة، ومغزاي من هذه الشكوى والمباثّة، أن يشهد القاضي أني بريء منه، قاطع له، عادل عنه، غير راض بقوله ولا فعله، نازع ما ألبسته من بنوّة، مطّرح له دينا ودنيا (1) ليس منّي ولا إليّ، قد تبرّأت منه وصرمته، ووكلته إلى اختياره، ورفعت عنه يدي، وأسلمته إلى الله ليأخذه بحقّي، ويقبل به دعائي، ولا يحفظ عليه ما لم يحفظه عليّ.
اللهمّ اسمع واشهد، وكن حسيب الظّالم، واحكم بيني وبينه، يا خير حاكم. وهذه شهادة لي عند القاضي يحفظها كما (2) يحفظ إليه من حقوق عمله، فإنّي مطالبه بها {«يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهََادُ»} (3) / وكفى بالله العليّ شهيدا.
وهذه أبقاك الله رسالة تدلّ على قوحة دامية، وعين باكية هامية، ونفس قد ولهت عمّا حلّ بها وإن غلاما يحوج أباه إلى مثل هذه البراءة والشكوى منه والتألّم، لغلام سوء، والله أكرم من أن يحبره (4) في الدنيا، وأن يسعده في الآخرة.
__________
(1) في الأصل: «دنيا ودينا».
(2) ما موصولة، أي كالذي يحفظ.
(3) الآية 51من سورة المؤمن.
(4) يحبره: يسرّه وينعّمه.(1/357)
وكلّ هذا دليل على أنّه عار من الديانة، سليب المروّة، وقد رضي بظاهر حاله وإن لم تدم له، ولها (1) عن عاقبة أمره وإن لم ينج منها (2)
وحدّثني أبو العادي الصّوفي قال: كنت عند العميد ببخارا، وقد جرى ذكر ابنه أبي الفضل فقال: كنت أشكّ في ولادته قبل هذا.
والآن فقد تحقّق عندي ما كان يريبني منه فإن الإناء رشّاح بما فيه.
ثم أفادنا حمزة المصنّف (3) جواب القاضي للعميد، وذلك أنه كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتاب العميد، أعزّ الله جلالته، ووفّر عليه كرامته، وأدام له نعمته وحياطته وأنّس وصوله، وأوحش محصوله ويعزّ عليّ أن أقرأ كتابه بعد عهد دارس ودهر متقادم منبئا عن قرائح صدره، وجرائح فؤاده وقد والله زاد عجبي من هذا الحديث كلّه، وشركته في جميعه، وسألت الله اللّطيف فيئة هذا
__________
(1) في الأصل: «ولهى».
(2) في الأصل: «منه».
(3) مرت ترجمته.(1/358)
الغلام إلى حظّه، ونظرا إلى قلب قد أضرم فيه نار العقوق، وأفرج عن لوازم الحقوق فإنه إذا وفّق لذاك كان فيه صلاح معاشه الذي هو عاجلته، وسلامة معاده الذي هو آجلته هذا مع الذّكر الجميل الذي ينتشر له، وبركة دعاء شيخه إذا عادت عليه.
وقد كتبت إلى الفتى أكرمه الله بما إن هدي لرشده ووفّق لحظّه غبط واغتبط، وإن كثر منه اللّجاج والمحك (1) خبط (2)
واختبط والله يفتح بصره، ويأخذ بيده فيعلم ما في البراءة من البنوّة والتّعرّي من الأبوة من الهجنة الشّنيعة والفضيحة الفظيعة.
ولم أقنع بالكتاب، وبما تصرّفت فيه من لواذع العتاب، حتّى كتبت إلى أبي الحريش، وسألته إحضاره ومناظرته، واستخراج ما عنده مع التّهجين الشّديد، وشوب ذلك بالوعد والوعيد، وغالب ظنّي أن تلك القسوة تحول رقّة، وتلك الفظاظة تعود لينا ولو كنت في مقرّه، أو كان في صقعي لكان لي في هذه القصّة جدّ وانكماش (3)
يحمدني عليهما العميد، ولكنّي منه بعيد وإن وعائذ بالله
__________
(1) المحك: اللجاج والتمادي في الخصومة.
(2) خبط: ركب جهالة وسار على غير هدى.
(3) الانكماش في الأمر: الأخذ فيه بجد.(1/359)
تقاعس وعظي عنه، ونبا نصحي دونه، بعد التلطّف والاجتهاد، فالأسى والأسف أعزّ من أن يرسلا وراءه، أو يقاما إزاءه والولد قد يموت بارّا ويفوت عاقا، فليطب قلب العميد عنه فائتا، كما تسلو (1) النّفس عن العزيز مائتا، ولعلّ العتب يسفر عنه بما يسرّ منه فللزّمان في تقلّبه غرائب، وللدّهر في تصرّفه عجائب.
وأنا أسأل الله أن لا يخليني من العميد عمدة، ولا يريني فيه ومنه سوءا وغمّة ورأيه في مواصلتي بكتبه المتحمّلة برّه وتفضّله بمباثّتي وتصريفي على تكاليفه متوقّع مشكور، وأنا عليه حامد شكور.
ثم قال الخليلي: وجدّه مع هذا ساقط يلقّب بكله (2)، وهو كناية عن شيء قبيح على زعمه، كان نخّالا في سوق الحنّاطين، أو حمالا أو منقّيا (3)، وكان يحرس السوق أيضا بالليل، والعرق لا ينام ولا بدّ للأصل من أمارة في الفرع، كما لا بدّ في الفرع من إشارة إلى
__________
(1) في الأصل: «تسلوا».
(2) بضم الكاف وفتح اللام المخففة وبعدها هاء. وانظر الوافي بالوفيات (أحمد الثالث 2920ج 2/ 195194)، والإرشاد 5/ 330، ومعاهد التنصيص 1/ 175.
(3) منقيا: ينقي الطعام مما فيه من تراب ونحوه.(1/360)
الأصل، والأصل والفرع متشابهان، إلا أن هذا الخافي ينطق عند ذلك البادي، وذلك البادي يشهد له هذا الخافي ولهذا قالت العرب:
لكلّ إناء رشح، ولكلّ سقاء نضح، ولكلّ شجرة سوس (1)، ولكل دوحة عيص (2).
وكنت إذا نظرت إلى أبي الفضل تجده غضبان من غير مغضب، شنج الأنف (3) متخازر (4) الطّرف، كالح الوجه (5)،
«كأنّما وجهه بالخل منضوح (6)»
كأنّه يعافك أن تنظر إليه، أو يتقزّز منك إذا كلّمك يتجعّد عليك قبل أن تلاطفه، ويردّك قبل أن تسأله، ويؤيسك قبل أن ترجوه، ويحرمك قبل أن تمتري معروفه، ويسفك دمك إن أكلت
__________
(1) السوس: الأصل.
(2) العيص: أصل الشجرة.
(3) شنج الأنف: متقلص الأنف.
(4) متخازر: ناظر بمؤخر عينه يتداهى بذلك.
(5) عبوس الوجه.
(6) اقتباس من قول نهار بن توسعة:
فبدّلت بعده قردا نطيف به ... كأنما وجهه بالخل منضوح
وهو في تذكرة ابن حمدون (نسخة رئيس الكتاب 5/ 16).(1/361)
خبزه والويل لمن أعرب عنده، واستمّر في كلامه معه، أو تخيّر لفظة له، أو نشر أذبه.
وكان يقول لمن يراه بارع اللّفظ، خفيف الرّوح، لذيذ الحديث، خفيف اللّسان: ياقسّ بن ساعدة (1)! هات حديثك، يا سحبان وائل (2)
مرّ في هزارك (3)، يا سعيد بن حميد (4)! لا تحفل بنظارتك.
كلّ هذا بهزء وسخرية وتهافت وكشر عن ناب أقلح (5)، ومضغ للكلام، وليّ الشّفة والشّدق كأنّه ثلج جامد، أو شيء تارز (6).
ولهذا قال ابن أبي الثّياب:
أبا الفضل لا في الجنّ أنت ولا الإنس
وطبعك طبع الموت يورد في اليبس
فهذا هذا.
وحضرت مجلسه ذات عشية في شهر رمضان مع الفقهاء والزّعيم
__________
(1) مرت ترجمة قس بن ساعدة بن عمرو الإيادي.
(2) هو سحبان بن زفر بن إياس الوائلي الخطيب. سرح العيون 75، الشريشي 1/ 253.
(3) هزارك: تغريدك وتطريبك.
(4) مرت ترجمة سعيد بن حميد.
(5) القلح: صفرة تعلو الأسنان.
(6) تارز: جامد ميت، ويابس.(1/362)
ابن شاذان، وهو على القضاء فلما كادت الشمس تجب (1) وهي حيّة بعد، وقف حاجب له حيال الجماعة، وأشار بالقيام والانصراف، فقطعوا متن مسألة كانوا فيها وتركوها بتراء، وتبادروا إلى الخروج من الباب وقعد عنهم شيّخ طبريّ في كساء عليه خلق.
فقال له الحاجب: قم يا شيخ والحق بأصحابك، ما تأخّرك عنهم، ولماذا أنت لازم مكانك من بعدهم؟
فقال الطّبري: هذا فضل من الكلام، أنا رجل غريب قدمت اليوم من بلدي، ومحلّي من العلم قد بان في هذا المشهد العظيم الشّرف، الكبير الفائدة، وهذا هو المساء، وأنا صائم، وإن خرجت أعجز عن مصلحتي في هذه العشيّة، والغريب أعمى، ولست أعدم هاهنا، إن شاء الله، ما يمسكني إلى غد، ثم أغدو لشأني وما لا بدّ منه لغريب مثلي في بلد الغربة.
فقال له الحاجب: أنت طبريّ وليس في قلنسوتك حشو ولا قطن، والكلام معك يصدّع (2)، وأقبل بغضب (3)، وجذب يده بعنف حتّى
__________
(1) تجب: تغرب.
(2) يصدع: يوجع.
(3) في الأصل: «يغصب»، تصحيف.
أخرجه من المجلس بعد أن شتمه / وخبّث القول له، ووكّل به من ألقاه وراء الباب مدفوعا في ظهره، مدقوقا في قفاه، مشتوما في وجهه (1).(1/363)
أخرجه من المجلس بعد أن شتمه / وخبّث القول له، ووكّل به من ألقاه وراء الباب مدفوعا في ظهره، مدقوقا في قفاه، مشتوما في وجهه (1).
وكلّ هذا بعين الرئيس الخسيس وسمعه، لأنه كان بهيئته في صدر مجلسه على حشية قد استلقى، وهو يسمع ويرى، فما قال في ذلك كلمة سوداء ولا بيضاء.
فلو شاهدت الطبريّ البائس على الباب، وقد احتوشه المارّة (2)
يقولون له: يا شيخ! ما جنايتك وما الذي دهاك؟
قال: يا قوم! ذنبي أنّني طمعت في عشائهم، ورغبت في المبيت عندهم، وأن أكون ضيفا نازلا بهم.
فقال له رجل منهم: أنت مجنون، لقد تخلّصت بدعاء والدتك الصّالحة، وسلمت سلامة عجيبة، أتطمع في طعام الأستاذ الرئيس، وإبليس لا يحدّث نفسه بهذا، والشياطين لا يقدرون على ذلك؟
__________
(1) حكى الصاحب عن بخل أبي الفضل حكاية مماثلة لهذه، وتأثر بها، وعاهد الله أن لا يخل بما أخل به أبو الفضل إذا أقام يوما مقامه.
وانظر معاهد التنصيص 2/ 154.
(2) احتوشوه: أحاطوا به.(1/364)
ولقد أراد أن يطيّر ابنه من رأس الجوسق (1) لأنه طلب زيادة رغيف في وظيفته.
وصبّ على هامة أبي الفضل في تلك العشيّة من نوادر العامّة، وسخافات الحشوية (2) من ضروب الكذب والصّدق ما لا يحصّل وللرازيّين جرأة على الكلام، وتخرّق (3) في النوادر ومن ذا الذي ردّ أفواه الغوغاء والأوباش؟ ولو افتدى من هذا كلّه برغيفين وقدرة لحم لكان الرّبح معه، ولكنّ «الشّقيّ بكلّ حبل يخنق (4)».
قال الخليلي مرة: لا تنظر إلى نقاء الثوب، وحمرة الوجه، وفراهة المركب، وإلى الضّفف (5) والحشد، والخيل المسوّمة العتاق، ولكن انظر إلى عرض الرّجل كيف هو؟ وإلى الشّكر له كيف هو؟ وإلى درهمه من أين وجهه وإلى أين توجّهه؟ واجهد أن تسلّ من تحت مصلّى
__________
(1) الجوسق: القصر والحصن.
(2) مر تفسير «الحشوية».
(3) تخرق: توسع، وخلق للكذب.
(4) اقتباس من قول المساور بن هند:
شقيت بنو أسد بشعر مساور ... إن الشّقي بكل حبل يشنق
وهو في «التمثل والمحاضرة» للثعالبي (نسخة الفاتح 3724الورقة 34).
(5) الضفف: الحشم. وفي الأصل: «الصفف».(1/365)
الرّئيس أو مخدّته أو دواته تذكرته، وانظر فيها، فإن كان قد كتب بخطّه: يتفقّد فلان بكذا، أو يسأل عن فلان لينظر في مصلحته، ويحمل إلى فلان شيء من الحنطة وشيء من الثياب وشيء من الذّهب والفضة، ويوفد فلان على فلان ليصيب خيرا، ويولى جميلا، ويقلّد فلان لينجبر قليلا، ويعفى عن فلان وإن كان عظيم الجرم، ويستصلح أمر فلان وإن كان قد سدّ طريق ذلك، ويكلّم الأمير في باب فلان حتى يجدّد الرضا عنه.
فإن كانت التّذكرة مشتملة على هذه وأشباهها، فاعلم أن الله قد استخلف صاحبها على عباده، وجعله منارا للمحتاجين في بلاده وإن كان على غير هذا، فاغسل يدك منه بالأشنان البارقي، ولا تحجّه بأملك، ولا تقدّسه بثنائك، ولا تعص ربّك بحسن ظنّك فيه، وعدّه في الموتى.
وما أجود ما قال القائل:
من ضنّ بمعروف ... عددناه من الموتى
فكانت راحة منه ... ومن سوف ومن حتّى
فهل يكون أبقاك الله فعل ابن العميد بالشّيخ الطّبري إلا فعل من خذله الله وأسلمه من يديه، ولم يؤهّله لخير يجزي به ويكون هو سببا لتمامه، وهل هو إلا فعل من في أصله خبث، وفي منشئه دخل،
وفي طباعه خسّة ولؤم، مع قحة الوجه، ونذالة النّفس، وقلّة الاكتراث، والطّغيان الذي هو باب الكفر الذي هو خسران العاجلة والآجلة.(1/366)
من ضنّ بمعروف ... عددناه من الموتى
فكانت راحة منه ... ومن سوف ومن حتّى
فهل يكون أبقاك الله فعل ابن العميد بالشّيخ الطّبري إلا فعل من خذله الله وأسلمه من يديه، ولم يؤهّله لخير يجزي به ويكون هو سببا لتمامه، وهل هو إلا فعل من في أصله خبث، وفي منشئه دخل،
وفي طباعه خسّة ولؤم، مع قحة الوجه، ونذالة النّفس، وقلّة الاكتراث، والطّغيان الذي هو باب الكفر الذي هو خسران العاجلة والآجلة.
وقد كان يمكن أن يدبّر ذلك الشيخ البائس بأقرب شيء وأسهله، ولعلّه كان عند الله أبرّ منه وأزكى وكان يتّقي أن ينثى (1) عنه مثل هذا الحديث الذي مسموعه يغيظ، فكيف مشهوده؟
وإن طينة تكون مبلولة بهذا الماء، موضوعة في هذا الهواء، مذكورة بهذه الأفعال والأسماء، أعتقد أن للكلب والقرد والخنزير مزية عليها (2).
هذا، وهو صاحب المال المجموع، والذّخر الكثير، والضياع الفاشية، والصّامت الواسع مع الاقتطاع والاحتجان (3)، والسّرقة والبهت (4) كان ورقه في السنة ألف ألف درهم يردها (5) في الخراج، وكان ارتفاعه يزلّ عن الحساب (6) ويفوت التّحصيل. وفيه قال ابن عبدان الإصفهاني:
__________
(1) ينثى: يذاع. وفي الأصل: «يثني».
(2) في الأصل: «عليه».
(3) احتجن مال غيره: سرقه. وفي الأصل: «الاحتجار».
(4) البهت: الكذب.
(5) يردها: يستفيدها.
(6) يزل عن الحساب: يخرج عن نطاق العدّ.(1/367)
الاستاذون في الدّنيا كثير ... وما فيهم سوى نذل خسيس
وكلّهم أراهم عن قريب ... فدا الأستاذ سيّدنا الرئيس
وسيدنا الرئيس فداء كلب ... فما هو بالرّئيس ولا النّفيس
والعجب من بخل هذا الرّجل ونذالته، مع تفلسفه، وتكثرّه بذكر أفلاطون وسقراط وأرسطوطاليس ومحبّته لهم، مع علمه بأن القوم قد تكلّموا في الأخلاق وحدّدوها وأوضحوا خفاياها، وميزوا رذائلها، وبيّنوا فضلها، وحثّوا على التخلّق بها، وساقوا ذلك كلّه على الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير من حطامها، وبذل الفضول منها للمحتاجين إليها والمنتجعين بسببها، والاقتصار على ما تماسك به الرّمق من جميع زخارفها، وتحصيل السّعادة العظمى برفض الشهوات القليلة والكثيرة فيها، والإحسان إلى النّاس وغير الناس بغير امتنان ولا اعتداد، ولا طلب جزاء ولا استحماد كأنّه لم يسمع بما قال عبد الملك بن مروان (1)، أو سمع، ولكن حمّق عبد الملك عليه، ولم يعلم أن الصّواب فيما قال، والحزم مع ما اختار.
__________
(1) الخليفة الأموي المشهور المتوفى سنة 86هـ. ملك 21سنة أمضى الكثير منها فى محاربة عبد الله بن الزبير. انظر المعارف 157155، الوافي (1970شهيد علي 118ب 120).(1/368)
حكى العتبي (1) قال:
قال عبد الملك لأميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ما لك ولابن حرثان (2) حيث يقول فيك:
إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليث حديد النّاب عند الثّرائد
قال: يا أمير المؤمنين، وجب عليه حدّ فأقمته.
قال: فهلّا درأته بالشّبهات؟
قال: كان الحدّ أبين، وكان رغمه أهون.
قال عبد الملك: يا بني أميّة! أحسابكم أنسابكم، لا تعرّضوها للجهّال فإن كلامهم باق ما بقي الدّهر. والله ما يسرّني أني هجيت بمثل هذا البيت وأنّ لي ما طلعت عليه / الشمس:
__________
(1) محمد بن عبيد الله العتبي، من ولد عتبة بن أبي سفيان. شاعر أخباري، وأكثر أخباره عن بني أمية. مات سنة 228هـ. تاريخ بغداد 2/ 326324. ومرت ترجمته.
(2) هو كما في «من اسمه عمرو من الشعراء» (55ب 56، نسخة الفاتح)، ومعجم الشعراء للمرزباني 277عمرو بن حرثان. وهو شاعر فارس، حدّه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد في الشراب فهجاه.
والخبر في ديوان المعاني 1/ 174، وأمالي القالي 2/ 158157، وعيون الأخبار 1/ 166، وزهر الآداب 1078. وفي الأصل: «ولحرثان»، وفي الأمالي: «ولحرثان بن عمرو» وكلاهما تصحيف.(1/369)
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا (1)
ثم قال: وما على من مدح بهذين البيتين أن لا يمدح بغيرهما، وهما لزهير (2):
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا (3)
وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
* * * على مكثريهم حقّ من يعتريهم
وعند المقلّين السّماحة والبذل
قال الأندلسي (4): استفدنا من رواية هذا الشّيخ أن هذا الخليفة روى:
__________
(1) البيت للأعشى يهجو علقمة بن علاثة، وهو مع أبيات في زهر الآداب 1088، وديوان المعاني 1/ 173171، وعيون الأخبار 3/ 261وله قصة.
(2) البيتان في ديوانه بشرح الأعلم 112، واللآلي لأبي عبيد 492.
(3) استخبل الرجل إبلا وغنما، فأخبله: استعارها منه لينتفع بألبانها وأوبارها، وهذا هو الإخبال (ل).
(4) هو أبو محمد عبد الله بن حمود الزبيدي، من فرسان النحو والشعر واللغة، ومن مشاهير أصحاب أبي علي القالي. رحل إلى المشرق، ولازم أبا سعيد السيرافي إلى أن توفي، ثم لازم بعده أبا علي الفارسي، وتبعه إلى فارس. ومات بالمشرق، ولم يعد إلى الأندلس. الوافي (1968شهيد علي 52)، وانظر الصداقة 37.(1/370)
«يستخبلوا المال يخبلوا»
فإنه كان عندنا:
«يستخولوا المال يخولوا»
ولكلّ وجه، ولكن الأنس بهذه الرواية أكثر.
وصدق عبد الملك في مناقلته (1) لحرثان (2)، ودلّ على الكرم المنافس عليه، ونهى عن متابعة الهوى وقلّة المبالاة، وسوء النّظر في العاقبة وإن بعض الفتيان البطّالة إذا قال: «والله لأتعرضنّ لجناية أضرب عليها ألف سوط فيصحّ عند الفتيان صبري» لأعذر عند الناس ممن يتعرضّ لحرمان مختبط لمعروف، ومنع لمنتجع خير، وإساءة قرى طارق، وتكليح وجه في وجه سائل.
وما أسهل قول الإنسان: دع الشاعر فليقل ما شاء، ودع الزائر فليفر فريه (3) كيف أحبّ! ولكنّه إذا زلّ القول، وطار الحديث، وتمّت النادرة، فأين المتدارك؟ وأين المعتذر؟ وأين المتلافى؟ هيهات!
__________
(1) المناقلة في الكلام: المحاجّة والمجادلة فيه.
(2) كذا في الأصل وصوابه: «لأمية».
(3) الفري: الشق والإفساد، وهو يفري فريه: أي يعمل عمله، وفرى بينهم فري الأديم: قطعهم بالهجاء كما يقطع الأديم.(1/371)
والعرب تسمّي رجلين مخلدا أحدهما: من يتأخّر شيبه (1)، فتقول: هذا مخلد، والآخر هو الذي يمدح بعد موته (2).
ومن لم يرغب في الثناء فقد رغب عن ملّة إبراهيم خليل الرّحمن، لأن الله تعالى أخبر أنّه سأله ذلك، وما سأله إلا بعد أن أذن له، وما أذن له إلّا بعد أن علم أنه الخلق الأسنى والاختيار الأعلى، والطريقة المثلى، فقال: {«وَاجْعَلْ لِي لِسََانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [3]» وقال: {«وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [4]».
ثم وضع الله من أقدار قوم وأبقى ذمّهم في الغابرين فقال:
{«فَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ وَمَزَّقْنََاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [5]»، فرأى ذلك نهاية في تهجينهم والغضّ من أخطارهم، وأن يتحدّث عنهم بما يبعث على الاعتبار بمن أساء لنفسه النّظر والاختيار، قال الشاعر:
__________
(1) انظر اللسان (خلد).
(2) منه قول عمارة:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا إنّ الثناء هو الخلد
(3) الآية 84من سورة الشعراء.
(4) الآية 108من سورة الصافات. وفي الأصل: «وباركنا»، تصحيف.
(5) سورة سبأ 19.(1/372)
ثمن المعروف شكر ... ويد الإحسان ذخر
وثناء الحيّ للأم ... وات في الأحياء عمر
وقال أبو هفّان (1) في ابن عبّاد:
لله درّك قد أكملت أربعة
ما هنّ في أحد من سائر البشر
العرض ممتهن والنّفس ساقطة
والوجه من سفن (2) والعين من حجر
أنشد بعضهم (3) في ابن عبّاد، وذمّ سجعه وعقله وخطّه وقال:
متلقّب كافي الكفاة وإنّما ... هو في الحقيقة كافر الكفّار
السّجع سجع مهوّس والخطّ خ ... طّ متقرس؟؟؟ والعقل عقل حمار
وقلت للنّتيف المتكلّم: أرى ابن عباد كثير الخلوة بهؤلاء
__________
(1) هو عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي المتوفى سنة 257أو بعد سنة 260هـ. والصاحب ابن عباد ولد سنة 326هـ. فإما أن تكون نسبة الشعر إلى أبي هفان خطأ، وإما أن يكون «ابن عباد» شخصا آخر غير الصاحب.
(2) السفن: جلد خشن غليظ.
(3) الخبر في الإرشاد 2/ 297.(1/373)
العفاريت الذين تجاوزوا حدّ الغلومية (1)، أترى ذلك لفحشاء وتهمة؟
فقال: أما سمعت قول الشاعر:
كم حربة في القوم صارت جعبة ... فاستر عليه فالحديث يطول
وإذا الفتى حامى على ذي لحية ... حبّا له فوراءه عاقول (2)
وكان قليل التّحاشي من القاذورات، وهو الذي ألصق به الرّيبة، وسوّغ فيه الغيبة، وصار الإنسان إذا ذكر مساويه لا يخاف مأثما، ولا يرتقب لائما. على أن مساويه تفوت الحصر، وتندّ عن التّحصيل.
قال ابن عبّاد لندمائه: ما أوّل قول الشاعر:
«وأن غدا للناظرين قريب (3)»
فقال الخوارزمي: أوله:
«ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب»
وقال ابن الأعرابي: تمامها لنصيح بن منظور الفقعسي، وهو:
إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب (4)
فلا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب (4)
__________
(1) الغلومية: الغلومة، نسبة إلى الغلام.
(2) العاقول: الشبهة، وما ألبس من الأمر.
(3) انظر مجمع الأمثال 1/ 4947.
(4) البيتان في ديوان أبي نواس 174173، وشرح الشريشي 1/ 24. والأول في عيون الأخبار منسوبا للحجاج بن يوسف التميمى. وانظر البيان والتبيين 3/ 195.(1/374)
فأحسن وأجمل ما استطعت فإنما ... بقرضك تجزى والقروض ضروب
فلاتك مغرورا تعلل بالمنى ... وقل إنما أدعى غدا فأجيب
ألم ترّ أنّ اليوم أسرع ذاهب ... وأنّ غدا للنّاظرين قريب
وأنّ المنايا تحت كل ثنيّة ... لهنّ سهام ما تزال تصيب
ذهبن بإخوان الصّفاء فأصبحت ... لهنّ علينا نوبة ستنوب
فأقبل عليه بوجه كالح أربد (1)، وقال: أعرفك نذلا جاهلا، مأبونا باطلا، إنما ترينا من نفسك أنك تحفظ وتحسن التّراب في فيك يا كلب، ومتى نبتّ، ومن أبوك، وعمّن أخذت، وإلى من اختلفت؟
بلى، اختلفت عليك أمور، وأنفقت في دبرك أيور، أنت بمخازيها مشهور، وقوّادك بعد ما مات، وجذرك (2) بعد ما نسي مثلك يجترىء في مجلسنا؟ ويقابل بوجهه وجهنا؟ والله لولا رعايتنا التي جرت بها عادتنا لعرفتنا وعرفت نفسك بنا. وعلى هذا وما كاد يسكت.
فكان جنونه غريبا في أنواع الجنون، لأنّ الجنون إذا زاحمه العقل،
__________
(1) وجه أربد: علته حمرة في اسوداد عند الغضب.
(2) الجذر: أجر المغني، وهو بمعنى أجر المرأة البغي هاهنا. انظر مجمع الأمثال 1/ 138 (طبع الخيرية)، في شرح المثل «حين تقلين تدرين»، وفقه اللغة للثعالبي 322، وانظر ما كتبه أحمد تيمور في مجلة الزهراء السنة الخامسة ص 189187.(1/375)
والعقل إذا طلاه الحمق لم يكمل الإنسان وأنت إذا قست (1) هذا إلى العاقل، وإلى الأحمق، وإلى العاقل الذي يعتريه الحمق، وإلى الأحمق الذي يعتريه العقل (2).
فهذا كما ترى.
ومن تحلّى بالسيادة، وسام الناس الانقياد له بالطّاعة، يحتاج إلى خصال كثيرة يكون مطبوعا عليها سوى خصال أخر يكون مشغوفا بها وباكتسابها من أصحابها، بالمجالسة والسّماع والقراءة والتّقبل (3).
وما أحسن ما قال عديّ بن حاتم (4) في صفة السيّد حين سئل من السيّد؟
فقال: السّيد هو الأخرق في ماله، الذّليل في عزّه، المطّرح لحقده، المعنيّ بأمر جماعته.
وهذا جماع الكرم ونظام المجد.
وكان ذو الكفايتين يقول: خرج ابن عبّاد من عندنا، يعني الريّ متوجّها إلى أصفهان /، ومنزله ورامين، فجاوزها إلى قرية غامرة على
__________
(1) فى الأصل: «إذا قسمت».
(2) كأن في الكلام نقصا هنا.
(3) في الأصل: «والتقيل».
(4) كلمة عدي بن حاتم هذه في تذكرة ابن حمدون (نسخة رئيس الكتاب 767، 2/ 3ب)، وباختلاف يسير في عيون الأخبار 1/ 225.(1/376)
ماء ملح، لا لشيء إلّا ليكتب إلينا: كتابي من النّوبهار (1)، يوم السبت نصف النّهار.
يا قوم! هل هذا إلا الرّقاعة؟
واعلم حاطك الله أن الكمال عزيز، فإنّ ما ربحه أبو الفضل بالعقل خسره بالبخل، وكلّ ما زاد ابن عبّاد بالسّخاء نقص بالحمق، على أن العقل لا يكون تامّا وهناك خساسة، والسّخاء لا يكون محمودا وهناك حماقة، والبخل في الجملة غالب على المتفلسفين، كما أن الحماقة غالبة في الجملة على المنشئين.
وسمعت عليّ ابن المنجّم (2) يقول، وكان محذقا حلو الحديث، وقد سئل: لم غلب البخل على كل متفلسف؟ فقال:
وجدنا الغالب على النّاظرين في حقائق الأمور، والباحثين عن أسرار الدّهور، وهم الموسومون بطلب الحكمة التي هي الفلسفة، التمسّك
__________
(1) في معجم البلدان 8/ 323320 (النوبهار): قال أبو الفضل بن العميد: «خرج ابن عباد نصف النهار». فنسب القول إلى أبي الفضل كما ترى. وانظر الإرشاد 2/ 298.
(2) علي بن هارون بن علي بن يحيى أبو الحسن كبير بني المنجم، شاعر أديب من بيت عريق فى منادمة الخلفاء والوزراء، وكان من جلاس الصاحب.
الوفيات 1/ 449، اليتيمة 3/ 104101، 360359.(1/377)
بكل عرض يملكونه، حتّى إنهم لا يفرجون عن شيء إلا بمشقّة شديدة، ولا يجدون ألم الشّح والبخل، ولا يأنفون من عارهما وطلبنا العلّة في ذلك مع ما يقتضيه مذهبهم من الزّهد والبذل والإيثار والتكرّم، فوجدناها في آثار النّجوم والنّظر في دلالتها وذلك أن الذي يدّل على علم الحقائق والغوص فيها، واستيفاء الفكر فيها زحل مع عطارد بالاشتراك.
وزحل يوجب مع شهادته الأولى الحصر والحسد والضّيق والبخل لأنّ البخل يكون من جهة الخوف من الفقر، وزحل يوجب عجز النّفس، وخضوعا عند الحاجات، وإشفاقا على الفائت لعسر آثار زحل وكثرة تغيّر أحوال عطارد.
قال:
وهذه الدّلالة موافقة لما في الطّبيعيات، وذلك أن البرد واليبس، من آثار زحل، يوجبان عوارض السّوداء وأخلاق النّفس تابعة بالنظر الأول لمزاج البدن، فلذلك يستحيل إليه، وكذلك حال عطارد في خصوصيته باليبس، ولأنّ الحرارة معدومة في زحل وعطارد، والسّخاء من جنس الشّجاعة المشاكلة لقوّة الحرارة، والبخل من جنس الجبن المشاكل لقوة اليبس الذي يوجب العجز وضيق الصّدر والخوف في الحاجات.(1/378)
قال:
ولأن الزّهرة لها من الأمور الإلهية والدّلالة على الوحي وطهارة الأخلاق مع ما توجبه من الشّهوة والنّعمة والبذل والقوة الانفعالية بسبب الرّطوبة الغالبة عليها فهي إذا أعطت أعطت الحقائق بغير تكلّف، بل على سبيل الوحي، وتميل النفس إلى طهارة الأخلاق والتّهاون بالمال للمباينة الواقعة بين الأمور الإلهية والأمور الطّبيعية التي بها يطلب المال ويتمسّك به، فالذي يشرك في تدبيره بين العلوم والخلق الزّهرة، ويكون صاحبها مصادقا للحقائق عفوا مبغضا للمال طبعا.
والذي يغلب على تدبيره في العلم والخلق زحل، وعطارد يتكلّف العلم ويحبّ المال، ويكون مغلوبا بالبخل.
وكان جريح المقل إذا جرى حديث أبي الفضل قال:
«صبور على سوء الثّناء وقاح (1)»
وأنشد فيه:
ولا يستوي عند كشف الأمو ... ر باذل معروفه والبخيل
__________
(1) عجز بيت غفل في البيان والتبيين 3/ 333، وعيون الأخبار 2/ 29.
وصدره:
أكول لأرزاق العباد إذا شتا
الثناء: ذكر المرء بالخير وبالشر معا. والوقاح: القليل الحياء.
ولا تعجب من إطلاق مثل هذا في ذوي الرياسة، فإنه مسبوق إليه في القديم والحديث هذا محمد بن الجرّاح (1) عمّ عليّ بن عيسى الوزير (2) ساق في كتابه في «أخبار الوزراء» فقال:(1/379)
ولا تعجب من إطلاق مثل هذا في ذوي الرياسة، فإنه مسبوق إليه في القديم والحديث هذا محمد بن الجرّاح (1) عمّ عليّ بن عيسى الوزير (2) ساق في كتابه في «أخبار الوزراء» فقال:
كان آل برمك (3) أندى من السّحاب، وآل وهب (4) أخسّ من الكلاب، وأنشد جريح المقل في أبي الفضل:
لنا فيلسوف عالم بالطبائع ... يخبّرنا من طبّه بالبدائع
رأى البخل حذقا فهو يحمي ويحتمي ... فلست ترى في داره غير جائع
__________
(1) محمد بن داود بن الجراح أبو عبد الله الكاتب، عم علي بن عيسى الوزير. ولد سنة 243هـ، وحدّث عن عمر بن شبة، وكان فاضلا من علماء الكتاب، وله تصانيف. توفي سنة 296هـ. المنتظم 6/ 79، الوفيات 1/ 472، 473.
(2) تقدمت ترجمة علي بن عيسى الوزير.
(3) عن دولة البرامكة وكرمهم، وعزهم، ورجالهم، انظر مروج الذهب 3/ 392387 (طبع التجارية).
(4) آل وهب بيت عريق فى البلاغة والكتابة والوزارة، وتبتدئ صلتهم بخدمة الدولة منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ولطول عهدهم بالرئاسة كسبوا الأصدقاء والأعداء، فمدحوا وذمّوا، وممن مدحهم ابن المعتز وأبو تمام.
وانظر أخبارهم في الفهرست 177، 182، والمنتظم 5/ 45، 109، مسالك الأبصار (أيا صوفيا 3423صفحة 492، 493)، زهر الآداب 625، 626، شرح المقامات 2/ 178وانظر الإمتاع 1/ 97، 103.(1/380)
ويزعم أن الفقر في الجود والنّدى ... وأن ليس حظ في اكتساب الصّنائع
ستعلم بعد الموت أنّك نادم ... وأنّ الذي خلّفت ليس بنافع
لقد أمن الدّنيا ولم يخش صرفها ... ولم يدر أن المرء رهن؟؟؟ الفجائع
وقال:
كان يدّعي له العقل وهو لا يرجع إلى دين، وكل من فسد دينه فسد عقله. قد أعجبته فلسفته التي لا يحظى منها بطائل، ولا يتبيّن بين أهلها بحقيقة. أمن العقل أن ينشد كلّ شعر لملحد، ويردّد كل لفظ غث ومعنى ثقيل؟ أنشد يوما قول النّضر بن الحارث (1):
يخّبرنا ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام (2)
__________
(1) البيتان في شرح نهج البلاغة 1/ 39، وهما فى رسالة الغفران 353 باختلاف في الرواية، وأولهما في سيرة ابن هشام 3/ 30، 31من قصيدة لشداد بن الأسود بن شعوب الليثي (ابن حبيب، من نسب إلى أمه من الشعراء نوادر المخطوطات 1/ 83، ابن حجر، الإصابة 7/ 21) يرثي فيها قتلى بدر من المشركين.
وقد قتل النضر بن الحارث في وقعة بدر، فنسبة الشعر إليه خطأ.
(2) يريد ابن أبي كبشة وهي كنية جزء بن غالب بن عامر بن الحارث الخزاعيّ، شذ عن قومه فى عبادة الأصنام، وعبد الشعرى العبور، فشبه المشركون من قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى دين غير دينهم وخالفهم في عباداتهم بابن أبي كبشة. ويقال إن «أبا كبشة» كنية وهب بن عبد مناف جد النبي صلّى الله عليه وسلم لأمه. وانظر سيرة ابن هشام 3/ 221، ولسان العرب وتاج العروس (كبش).(1/381)
أيقتلني إذا ما كنت حيا ... ويحييني إذا رمّت عظامي
وأنشد لآخر:
أصبحت جمّ بلابل الصّدر ... وأبيت منطويا على غمر (1)
إن بحت طلّ دمي وإن ... أسكت يضق بذاكم صدري (2)
وقال: هذا لصالح بن عبد القّدّوس (3) العاقل المجيد، أما سمعت قوله الآخر:
باح لساني بمضمر السّرّ ... وذاك أني أقول بالدّهر
وليس بعد الممات منقلب ... وإنما الموت بيضة العقر
وهذه أمور قبيحة من سفلة الناس، فكيف من عليتهم؟ وإذا سكت الناس عنهم في حياتهم خوفا منهم، نطقوا بعد موتهم تقربا إلى الله تعالى بالصّدق عنهم.
فلا يهيدنّك (4) ما تسمع فإن الله تعالى لا يقّيض للمحسن إلا المحسن، كما لا يلجيء المسيء إلا إلى المسيء.
__________
(1) انظر رسالة الغفران 367.
(2) كذا في الأصل.
(3) مرت ترجمة صالح بن عبد القدوس.
(4) يهيدنك: لا يفز عنك.(1/382)
ورأيت (1) العسجديّ يقول لجريح المقل: كيف وجدت هذا الرجل؟ يعني أبا الفضل.
فقال: يابس العود، ذميم المعهود، سيء الظن بالمعبود، ومثله لا يمجد ولا يسود.
فقال له [العسجدي] (2): أفلا ترى هذه الأبّهة والصّيت والغاشية والموكب؟
فقال: هذا وإن كان من الدّولة، فهي غير السؤدد، والسلطان غير الكرم، والجدّ غير المحمدة أين الزّوار والمنتجعون؟ وأين الآملون الشاكرون، وأين المثنون الحامدون؟ وأين الواصفون الصّادقون؟
وأين المنصرفون الرّاضون (3)؟ / وأين دار الضّيافة والخدم المرتبون للخدمة؟ هيهات! لا تجيء بالطّقطقة والرّقرقة (4) أما تسمع الشّعر؟
__________
(1) الخبر في «الفخري» 44، 45ونصه: «قال العسجدي لبعض أصحاب ابن العميد ذي الكفايتين» فنسب القصة الى أبي الفتح كما ترى.
(2) تكملة عن الفخري.
(3) في الفخري 45: «وأين الراضون، وأين الهبات وأين التفضلات، وأين الخلع والتشريفات، وأين الهدايا والضيافات؟ هيهات هيهات! لا تجيء الرياسة بالترهات، ولا يحصل الشرف بالخزعبلات أما سمعت قول الشاعر» الخ.
(4) الطقطقة والرقرقة: كناية عن الضجيج والمظاهر الجوفاء.(1/383)
أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فرط إعجابه (1)
ولا في فراهة برذونه ... ولا في نظافة (2) أثوابه
ولكنّه في الفعال الجمي ... ل والحسب (3) الأشرف النّابه
وكان أبو الفضل يطري البحتريّ (4) ويعجب من غزله وتشبيبه، ويستسهل في الجملة طريقته، ورجل حاضر يخالفه في ذلك، فقال أبو الفضل:
البحتريّ يروم غاية شعره ... من لا يقيم لنفسه مصراعا
أنّى يروم مناله (5) ولو ابتغى ... تقويم قافية له ما اسطاعا
جذب العلاء بضبعه فأحلّه ... بين المجرّة والسّماك رباعا
وغدوت ملتزم الحضيض فكلّما ... فرع العلا باعا هبطت ذراعا
قال: فخزي الرّجل وسكت.
وحدّثني أبو الطّيب (6) الكميائي قال: قلت لأبي الفضل بعد أن
__________
(1) الأبيات في الفخري 45.
(2) في الفخري: «ملاحة».
(3) في الفخري: «الكرم».
(4) مرت ترجمة البحتري.
(5) مناله: نيله والوصول إليه.
(6) في الأصل: «أبو الفضل» والخبر في الإرشاد 5/ 359.(1/384)
سمّ الحاجب النّيسابوريّ (1)، وبعد أن خطب على حمد، ودسّ إلى ابن هندو (2) وغيرهم من أهل الكتابة والمروّة والنّعمة (3): لو كففت، فقد أسرفت.
فقال: يا أبا الطّيب! أنا مضطرّ.
فقلت: أيّ اضطرار هاهنا؟ والله إنّ مخادعتنا لأنفسنا في نفعنا وضرّنا لأعجب من مكابرة غيرنا لنا في خيرنا وشرّنا، وهذا والله رين القلب وصدأ (4) العقل، وفساد الاختيار وكدر النّفس، وسوء العادة، وعدم التّوفيق.
فقال: يا أبا الطّيّب! أنت تتكلّم بالظاهر، وأنا أحترق في الباطن.
__________
(1) في الصداقة والصديق 7574حديث مفصل عن مقتل الحاجب النيسابوري هذا، نقله أبو حيان عن أبي الحسن علي بن القاسم الكاتب.
(2) علي بن الحسين أبو الفرج بن هندو الكاتب الأديب الشاعر، كان أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة، وكان متفلسفا له مؤلفات طبع منها «الكلم الروحانية». كان حيا سنة بضع عشرة وأربعمائة. الوافي (أحمد الثالث 2920ج 21الورقة 42ب)، والإرشاد 5/ 173168.
(3) في الإرشاد: «والنعم».
(4) في الإرشاد: «القلوب وصداء».(1/385)
فقلت: إن كان عذرك في هذه السّيرة المخالفة لأهل الدّيانة وأصحاب الحكمة قد بلغ بك هذا الوضوح والجلاء فإنك معذور عندنا، ولعلّك أيضا مأجور عند الله مالك الجزاء.
وإن كنت تعلم في حقيقته غير ما تراجعني عليه (1) القول، وتناقلني (2) فيه الحجاج فإنك (3) من الخاسرين الذين قد (4) باءوا بغضب من الله على مذاهب الناس أجمعين.
فبكى (5).
فقلت: البكاء لا ينفع إن كان الإقلاع ممكنا، والنّدم لا يجدي متى كان الإصدار قائما هذا كلّه بسبب ابنك أبي الفتح والله إنّ أيام ابنك لا تطول، وإن عيشه لا يصفو (6)، وإن حاله لا يستقيم وله أعداء لا يتخلّص منهم وقد دلّ مولده على ذلك. وإنّك لا تدفع عنه قضاء الله، وهو لا يغني عنك من الله شيئا. فعليك بخويصة نفسك.
__________
(1) في الإرشاد: «تعلم حقيقة ما تراجعني عليه».
(2) تناقلني: تنازعني وتجادلني.
(3) فى الأصل: «الحجاج إنك».
(4) في الإرشاد: «الذين باءوا».
(5) في الأصل: «فبكا».
(6) في الأصل: «يصفوا».(1/386)
وهذا موضع يروى عنه بعض ما هو فائدة من الأدب والحكمة، وإن كان استيعاب ذلك شاقّا فإن الرجل كان كثير المحفوظ جيد الاقتضاب.
حدّثني ابن فارس: جرى بين يديه أسماء الفرج وكثرتها، فقال بعض الحاضرين: ماذا أرادت العرب بتكثيرها مع قبحها؟ فقال: لما رأوا الشيء قبيحا جعلوا يكنون عنه، وكانت الكناية عند فشوّها تصير إلى حدّ الاسم الأول فينتقلون إلى كناية أخرى، فإذا اتّسعت أيضا رأوا فيها من القبح مثل ما كنوا عنه من أجله، وعلى هذا، فكثرت الكنايات، وليس غرضهم تكثيرها.
وحدّثني الهروي قال: سألت يوما ابنه أبا القاسم أخا كان لذي الكفايتين مات قبله عن قول الشاعر (1):
فمالكم طلس الثّياب كأنكم ... ذئاب الغضا والذئب بالليل أطلس (2)
فقال ولده: هو ظاهر إلا أن يكون تحته معنى.
__________
(1) هو مضرس بن لقيط كما في الحيوان 4/ 151، أو مغلس بن لقيط كما في المعاني لابن قتيبة 187، 208، أو عامر بن لقيط الأسدي الفقعسي كما في حماسة البحتري 240ومحاضرات الراغب 1/ 174.
(2) شرحه ابن قتيبة في المعاني على الوجه التالي: «أي سواده يشبه سواد الليل، فهو في الليل أخفى يريد أنه يختطف الشاة وهم لا يعلمون».(1/387)
فقلت ممازحا له: أهو ظاهر لك أو ظاهر عنك أي غائب ومعنى ظاهر عنك أي مجانب لك بارز عنك. ومنه قول الهذليّ (1):
وعيّرها الواشون أني أحبّها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (2)
وفسّر البيت فقال: يقول: مالكم مجاهرين لي بالعداوة ولا تجاملونني في حال، فالذّئب أصلح منكم لأنه باللّيل أطلس أي مجاهر بالليل فقطّ، ومداج بالنهار فهو مجاهر في وقت ومداج في وقت، وأنتم مصرّون على العداوة.
وكان يحفظ فقرا كثيرة لابن المعتز (3)، ويرويها في مجلسه في الوقت بعد الوقت، وكان يوهم من حضر أنه من اقتضابه.
منها قوله:
إن في الحكم: أن المتواضع من طلاب العلم والحكم أكثرهم حظا،
__________
(1) هو أبو ذؤيب الهذلي.
(2) البيت في ديوان الهذليين 1/ 21من قصيدة، ومع آخر في التاج (ظهر)، وفي اللسان 19/ 171، وثمار القلوب 235.
(3) أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل الأمير الشاعر المطبوع المتوفى سنة 296هـ. الفهرست 169168، المنتظم 6/ 8884، تاريخ بغداد 10/ 10195، الشذرات 2/ 224221، النجوم الزاهرة 3/ 167166، الأغاني 9/ 146140، الأوراق للصولي (أشعار أولاد الخلفاء 297107) الوفيات 1/ 323، 472، فوات الوفيات 1/ 241.(1/388)
كما أن المكان المتطامن من أكثر البقاع ماء.
وأنس الأمن يذهب بوحشة الوحدة، ووحدة الخوف تذهب بأنس الجماعة.
ومنع الحافظ خير من عطاء المضيّع.
وإذا طرت فقع قريبا.
والرّجال يفيدون المال، والمال يفيد الرّجال.
إذا أبصرت العين الشّهوة عمي القلب عن الاختيار
من رأى الموت بعين أمله رآه بعيدا، ومن رآه بعين عقله رآه قريبا.
العقل صفاء النّفس، والجهل كدرها.
لا تلبس السلطان في وقت اضطراب الأمور عليه، فإن البحر لا يكاد راكبه يسلم في حال سكونه، فكيف مع اختلاف رياحه واضطراب أمواجه.
وإن الله تعالى أضاف إلى كل مخلوق ضدّه ليدلّ على أن الوحدة له وحده.
كرم الله لا ينقض حكمته. ولذلك لم تقع الإجابة لكلّ دعوة.(1/389)
للطالب المنجح لذّة الإدراك، وللطّالب المحروم لذّة اليأس.
ومن صحب السلطان فليصبر على قسوته كصبر الغوّاص على ملوحة ماء البحر.
والعالم يعرف الجاهل لأنه كان مرة جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن مرة عالما.
ومن جعل الحمد خاتما للنّعمة جعله الله مفتاحا للمزيد.
لو تميّزت الأشياء لكان الكذب مع الجبن /، والصّدق مع الشجاعة، والراحة مع اليأس، والتّعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والذّلّ مع الدّين.
ومال الميّت يعزّي ورثته عنه.
كيف تريد من صديقك خلقا واحدا وهو ذو أربع طبائع.
ترقّع خرق الدنيا ويتّسع، وتشعبها وتنصدع، وتجمع منها ما لا يجتمع.
وكان مليّا بهذا النّمط ويفرغ في قالبه، ولكن لم يكن له منه إلا لقعة (1) اللّسان، وصدى الصوت، وتقطيع اللفظ. فأما التحلي والعمل
__________
(1) لقع: رمى ويقال للرجل الذي يرمي بالكلام ولا شيء عنده وراء الكلام: لقعة. وفي الأصل: «لعقة».(1/390)
فكان منهما على بعد والعقل متى لم يثمر كرما فهو وبال، والحكمة متى لم تورث عملا فهي خبال والكرم ما قاله الأعرابي حين سئل عنه، فإنه قال:
أما الكرم في اللّقاء فالبشاشة، وأما في العشرة فالهشاشة، وأما في الأخلاق فالسّماحة، وأما في الأفعال فالنصاحة، وأما في الغنى فالمشاركة، وأما في الفقر فالمواساة.
قلت لأبي السلم نجبة بن علي:
أابن عباد أحبّ إليك أم ابن العميد؟
قال: ما فيهما حبيب، على أني برقاعة هذا أشدّ انتفاعا مني بعقل ذاك هذا يغضب إذا ترفّعت عن عطائه، وقبضت يدك عن قبول برّه، ومشيت ناكبا عن بابه وقصده وذلك كان يحقد إذا رجوته وتعرّضت له، ويغضب إذا أثنيت عليه وطمعت فيه وهذا يكذب متماجنا، وذاك [كان] (1) يصدق مع الدّماثة ويغيظ وهذا يفعل الخير وإن قاله وأفشاه وبجح (2) به وسحب ذيله عليه، وذاك كان
__________
(1) تكملة يقتضيها السياق.
(2) بجح به: افتخر.(1/391)
لا يقلع عن الشرّ وإن قرع في وجهه باللّائمة، وكشط عرضه بالمذمّة وهّم هذا في الأخذ والإعطاء، والإبعاد والإدناء وكان دأب ذاك الجمع والمنع والتفلسف ليقع اليأس منه، ويتلذذ بالخيبة عليه وهذا يقول ويفعل بعض ما يقول متجلّدا، وكان ذاك لا يهمّ ولا ينوي ولا يظنّ ولا يحلم، فضلا عن القول المطمع والعمل النافع وعيب هذا أنه يذوب حتى لا يحصل لك منه شيء وكان عيب ذاك أنه يجمد حتى لا تنتفع منه بشيء.
وقلت لأبي السلم يوما، وقد خرج من دار ابن عبّاد:
كيف ترى الناس؟
فقال: رأيت الداخل ساقطا، والخارج ساخطا، وأخذ من قول شبيب (1) فإنه خرج من دار المهلّبي (2) وقال: تركت الداخل راجيا، والخارج راضيا (3).
__________
(1) شبيب بن شيبة من الخطباء البلغاء، ذكره الجاحظ في البيان وقال:
إن الناس كانوا يتناقلون خطبه ويحفظونها، وأورد له فقرا بليغة. البيان 1/ 318، 351.
(2) في البيان 1/ 352: «وخرج شبيب من دار الخليفة».
(3) كلمة شبيب هذه في البيان 1/ 352، وعيون الأخبار 1/ 91.(1/392)
وكان أبو السلم من فصحاء النّاس سمعته يقول: الكسير يعثم (1)
والحسير يوثم (2).
وقال أيضا: ما أحسن منقاد (3) هذا الطائر، بالدال.
وقال للبديهي، لما رأى تعسّفه في العربية: يا هذا! الكلام لا يواتيك قسرا ولا يطيعك كارها، تكلّم على سجية النفس، وعفو الطّباع، واطّرح البقية جانبا، وجانب التكلّف، واتّبع المعنى يتبعك اللفظ، والحظ العقل، فإنه نورك، والزم الجادّة فهي مسلكك، ولا تذلنّ فتخزى، ولا تعزنّ فتقصى، وتحكّم وأنت مبق، وخذ كأنك معط، وكسّر لهاتك بتصاريف الكلام مشققا لا متشدّقا، تبلغ إرادتك، وتملك عادتك.
قلت له: كيف كان حديث ابن العميد؟
قال: «ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها (4)»
__________
(1) عثم العظم المكسور: انجبر.
(2) الحسير: الدابة تعيا وتتعب، ووثمت الحجارة رجله: أدمتها.
(3) في اللسان والتاج (نقد): المنقاد: المنقار.
(4) عجز بيت لخالد بن زهير الهذليّ ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي، وصدره. «وقاسمها بالله جهدا لأنتم»
السلوى: العسل، ونشورها: نأخذها من موضعها. وهو في اللسان والتاج (سلا)، ومن قصيدة في ديوان الهذليين 1/ 158، والأغاني 6/ 63.(1/393)
وحديث ابن عبّاد أنتن من الصّنان، وأثقل من الصّدام (1)، وأبغض من القضض في الطعام (2)، وأوحش من أضغاث الأحلام. يتشاحى (3)
كأنه صبي مترعرع، يظن أن الأرض لم تقلّ غيره، وأن السماء لم تظلّ سواه، أما سمعته يشتم في هذه الأيام إنسانا فقال:
لعن الله هذا الأهوج الأعوج الأفلج الأفحج الحفلّج (4)، الذي إذا قام لجلج (5) وإذا مشى تفحّج (6)، وإن تكلّم تلجلج، وإن تنعم تمجمج (7)، وإن مشى تدحرج، وإن عدا تفجفج (8)».
قال: فهل سمعت بكلام أنبى عن القلب وأسمج من هذا؟ نعوذ بالله من العجمة المخلوطة بالتّعريب، ومن العربية المخلوطة بالتعجيم.
ولو أن هذا النقص لم يدلّ إلّا على اللّفظ الذي معدنه اللّسان
__________
(1) الصدام: ثقل يأخذ الإنسان في رأسه.
(2) القضض: الحصا والتراب يقع في الطعام، ثم بين أضراس الآكل.
(3) يتشاحى: يفتح فاه.
(4) الأفحج: المعوج الرجلين، والحفلج كذلك وفي الأصل:
«الخفلج» بالخاء المعجمة.
(5) لجلج: تردّد.
(6) تفحج: تفرقت رجلاه وساقاه عند المشي.
(7) تمجمج: استرخى وترهل.
(8) تفجفج: باعد بين رجليه عند المشي.(1/394)
لكان العذر أقرب، لكنّه كاشف لعورة العقل، هاتك لستر المعرفة، ومن استدرجه الله إلى هذه الحال فقد خذله وإن ظنّ أنه منصور، وأفقره وإن حسب أنه مثر.
وسمعته يقول لكاتب بين يديه، وقد كتب: «من إسماعيل بن عباد»، وكانت العين من إسماعيل قد تطلّست، ولم يكن لها بياض المشقين يتعحرف؟؟؟ (1) للكاتب والقلم.
فقال: يا هذا: عيني هكذا ينبغي أن تكتب بالله؟ أنت أعمى؟
أما ترى عيني؟ انظر إليها حسنا! أهي محلوسة، أهي مملوسة، أهي مطلوسة، أهي ممروسه، أهي ممسوحة، أهي منزوحة، أهي مسطوحة؟
وما كاد يسكت.
وهل هذا إلا رقاعة وجهل وكلام رقعاء المعلّمين والمخنّثين؟!
وقال يوما:
هاهنا أشياء لا حقيقة لها.
منها: إمام الرافضة، والاستطاعة مع الفعل (2)،
__________
(1) كذا بالأصل، ولم أهتد إلى تصحيحه.
(2) يراد ب «الاستطاعة» (1) صحة الجوارح وسلامة الأعضاء، (2) وارتفاع الموانع التي تمنع من مباشرة الفعل وهي بهذين المعنيين تسبق الفعل ضرورة. (3) ويراد بها أيضا القوة الواردة من الله تعالى بالعون أو الخذلان، فيقع(1/395)
والبدل (1) للنجّار (2)، والهيولى.
فقال الحسين المتكلّم: والحال لأبي هاشم (3).
__________
ويتحقق بها الفعل وهي بهذا المعنى مقارنة للفعل لا قبله ولا بعده. وعلى المعنى الثالث فهم أهل السنة، والنجار معنى الاستطاعة. وقالت المعتزلة: إن الاستطاعة بجملتها قبل الفعل. (ابن حزم، الفصل 3/ 30، 32، 33).
(1) في الفصل لابن حزم 3/ 52:
«قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيعه؟ فأجاب: إن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر، لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان». وللنجار «كتاب البدل». ذكره ابن النديم.
(2) أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار رئيس الفرقة النجارية، وكان من أصحاب بشر المريسي، ناظر النظام فقطعه النظام وركله فمات متأثرا بذلك، وكانت وفاته حوالي سنة 230هـ. ترجمته في الفهرست 268، خطط المقريزي 4/ 172، الأنساب 554وانظر الانتصار 180، 233، وطبقات السبكي 2/ 5، والفرق 126.
(3) عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة 321، من مشاهير المعتزلة. يقول البغدادي (الفرق 111): «أكثر معتزلة عصرنا على مذهبه، لدعوة ابن عباد وزير آل بويه إليه».
وكان أبو هاشم يقول: «إن دلالة الفعل على أن فاعله عالم قادر دلالة على حال فارق بها من ليس بعالم ولا قادر». وقد أثار عليه قوله هذا جماعة من المنكرين فيهم كثير من المعتزلة أنفسهم. وانظر التمهيد للباقلاني 154153، والفرق للبغدادي 117.(1/396)
فقال: مما يوضح عندي معنى الحال أن مثلك لا يفهمه. وكان هذا الكلام بسبب تنكر له شديد.
فقلت: أنشدني الأندلسيّ أبو محمد (1) لبعض شعراء المغرب بيتا ذكر فيه أشياء زعم أنه لا حقيقة لها.
فقال: وما ذاك البيت؟
فأنشدته:
الجود والغول والعنقاء ثالثة (2)
أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
قال: أوفي المغاربة من له هذا النّمط؟
قلت: سألته عن هذا فقال لي: في المغرب من يقدّم نثره على نثر إبراهيم بن العبّاس الصّولي (3)، ويقدّم نظمه على نظم أبي تمّام.
فقال: فهل روى لك غير هذا؟
قلت: نعم، أنشدني لشاعر لهم يعرف بأبي بكر محمد بن فرح في طفيلي يعرف بابن الإمام:
__________
(1) هو عبد الله بن حمود الزبيدي. وقد تقدمت ترجمته.
(2) بحاشية الأصل بنفس الخط: «نصب ثالثة على الحال، وقال:
الرفع محال».
(3) تقدمت ترجمة الصولي.(1/397)
أفديك من متوجّد غضبان ... حتى يلوح له ضباب دخان
يقتاده شمّ القتار بأنفه ... مثل اقتياد النجم للحيران
وعلا الدّخان بشتّ طولة مربيا ... يبدي كمين مطابخ الإخوان (1)
وبحانة الملهين جاسوس له ... ينبيه أين تناكح الزّوجان
صبّ إلى الطّوفان مرتاح إلى ال ... جولان مضطغن على الخلّان
فترى الإماميّين حول ركابه ... كالخيل صايعة ليوم رهان
لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان
زار الفتى القرشيّ لا لتعهّد ... منه، ولا شوق إلى لقيان
حتّى إذا وضع الخوان تساقطوا ... نهما عليه تساقط الذبّان
ورأيته من بينهم متخمّطا ... في لقمة كتخمط السكران (2)
لم ينصرف إلا وفي أكمامه ... حمل وفي أعفاجه (3) حملان
وأخو ثقيف فرّ منه قاصدا ... جيّان لو أغنت قرى جيّان (4)
__________
(1) في الأصل: «وعلى»، وتصويبه عن معجم البلدان «شنت طولة» حيث هذا البيت برواية:
«بشنت مربئا»
(2) رجل متخمط: هادر ملتطم.
(3) العفج: الكرش والمعى، والجمع أعفاج.
(4) جيان: مدينة بالأندلس، معجم البلدان 3/ 185.(1/398)
لو حلّ في نجران لم يبعد على ... عزمات نيّته مدى نجران
كالموت تسعى في التخلّص جاهدا ... منه، وتلقاه بكلّ مكان
فعجب من الأبيات وقال: ماذا قال لك في تفسير شت طوله (1)؟
فقلت: زعم أنها بليدة.
قال: فما جيّان؟
قلت: زعم أنه مكان يعرف هكذا.
قال: اكتب الأبيات وأرفعها إلى نجاح، وكان خازن كتبه.
ثم قال: ما أنشدك شيئا في الغزل؟
قلت: بلى! أنشدني لأبي عمر الأندلسي (2):
مهلا فما دين الهوى كفر ولا ... أعتدّ عذلك لي من التنزيل
* * * من حاكم بيني وبين عذولي ... الشّجو شجوي والعويل عويلي
__________
(1) كذا في الأصل، وهي «شنت طولة»، معجم البلدان 5/ 300.
(2) هو يوسف بن هارون الرمادي القرطبي المتوفى سنة 403هـ.
الوفيات 2/ 544542، جذوة المقتبس 346والأبيات من قصيدة يمدح بها أبا علي القالي الذي دخل الأندلس سنة 330هـ، وتوفى بقرطبة سنة 356هـ.
(الوفيات 1/ 9392)، وهي في يتيمة الدهر 2/ 86، ولم يرد فيها البيت الأول مطلعها، وهو في الجذوة 347. وفي الأصل: «أبو عمرو» تصحيف.(1/399)
فبأيّ جارحة أصون معذّبي ... سلمت من التّعذيب والتّنكيل (1)
إن قلت في عيني فثمّ مدامعي ... أو قلت في كبدي فثمّ غليلي
وأنشدني لهذا الشاعر بعينه أيضا:
وأحور إن كلّمته فهو شاعر ... بيانا، وإن لاحظته فهو ساحر
على خدّه للياسمين غلائل ... عليها من الورد النضير ظهائر
حسام بعينيه ونطع بخدّه ... وصبغ دم العشّاق في النطع ظاهر
[ولابن رشيق (2) أيضا:
ولم أدخل الحمّام ساعة بينهم ... طلاب نعيم، قد رضيت ببوسي
ولكن لتجري دمعتي مستهلّة ... فأبكي ولا يدري بذاك جليسي] (3)
__________
(1) في الوفيات 2/ 542: أن هذا البيت هو مطلع القصيدة. وانظر الحاشية قبل هذه.
(2) الحسن بن رشيق القيرواني (456390هـ)، الإرشاد 3/ 70.
والبيتان قالهما في عقب وداع، وهما في شرح الشريشي على المقامات 1/ 70، طراز المجالس 122، مع اختلاف يسير في كلماتهما.
(3) يبعد أن تكون هذه الجملة: «ولابن رشيق بذاك جليسي» من كلام أبي حيان الذي فارق الصاحب سنة 370هـ. وتوفي في حدود سنة 400فابن رشيق ولد سنة 390، وسنه يوم وفاة أبي حيان عشر سنوات، وهي سنون قلائل لا تكفي في العادة الجارية لقول الشعر، وانتشاره في الشرق.
وعندي أنها حاشية أدرجت في صلب المتن.(1/400)
فقال: كنت أحبّ أن أرى أبا محمّد هذا، ولو انتجعنا لبلّغنا له مراده.
وأعدت هذه الكلمة على أبي محمد سنة سبعين، فقال: والله ما أحبّ أن أسمع حديثه فكيف أوثر أن أبتلى برقاعته.
وله مع حسين المتكلم جواب آخر تناظرا في مسألة، فلما حمي الوطيس، والتحمت الحرب قال لحسين المتكلّم: هذا كلام من لا يعرف الكلام.
فقال: أيها الصاحب! رفقا فإني أعرف بحسين المتكلم، ولا يجوز أن أشتهر بشيء لا أكون رأسا فيه.
فقال: وما في هذا؟ هذا إبراهيم المسلم طبيب المارستان يعرف بالمسلم وهو بعيد مما يعرف به، قريب مما يقرف به.
وجرى ليلة حديث أبي سعيد السيرافي (1)، وكان ابن عبّاد يتعصّب له، ويقدّمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه، وأبان عن نفسه فيه، وصادف من أبي سعيد طود حلم وبحر علم.
فقال أبو موسى المعلّم شيخ يعرف بالحسنكي: إلا أنه لم يعمل في شرح كتاب سيبويه شيئا.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 3/ 103، والرواية هناك: «السيرافي في مجلس ابن عباد».(1/401)
فنظر إليه ابن عبّاد متنمرا ولم يقل حرفا. فعجبنا من ذلك. ثم إني توصلت ببعض أصحابه حتى سأله عن حلمه عن أبي موسى مع ذبّه عن أبي سعيد، فسأله فقال:
والله لقد ملكني الغيظ على ذلك الجاهل حتي عزب عنّي رأيي، ولم أجد في الحال شيئا يشفي غلتي منه، فصار ذلك سببا لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم، وما كان ذلك حلما، ولكن طلبا لنوع من الاستخفاف لائق به. فو الله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب، وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره مع كثرة فنونه وخوافي أسراره.
وكان أبو موسى هذا من طبرستان. فعدّ هذا التعصب (1) من مناقب ابن عباد، وحجب أبو (2) موسى بعد.
وكان ابن عبّاد يتطلب العلل للحجاب، ويتعلق بالريح، وكان له تلذّذ به، وقد حكيت ذلك آنفا.
وما سمعت في تلافي المحجوب كلاما ألطف من كلام حدثني به
__________
(1) في الأصل: «من التعصب من».
(2) في الإرشاد: «وحجب أبا موسى بعد ذلك».(1/402)
الخوارزمي عن السّلامي صاحب تاريخ خراسان (1) قال السلامي: عاتبت أبا الفضل البلعمي (2) وزير عبد الملك بن نوح (3) بأبيات على حجاب نالني منه، فقال لي: لك عندنا بما استعتبت العتبى (4)، وعلى ما استعديت العدوى (5). أما نهارنا فمقسوم بين / حوائج الناس وإنما نفرغ
__________
(1) أبو علي السلامي من رستاق بيهق من نيسابور، كاتب موفق، له كتاب التاريخ في أخبار ولاة خراسان وغيره. اليتيمة 4/ 90. وفي كشف الظنون 1/ 292: «تاريخ خراسان» لأبي الحسين محمد بن عبد الله السلامي المتوفى سنة 393هـ».
(2) هو محمد بن عبد الله (عبيد الله) بن محمد بن عبد الرحمن أبو الفضل البلعمي (نسبة إلى بلعم بلدة من ديار الروم) المتوفى سنة 329هـ. الأنساب 90، اللباب 1/ 142، ابن الأثير (الكامل) 7/ 133 (سنة 329)، معجم البلدان (بلعم)، الشذرات 2/ 324، تاج العروس 8/ 206.
(3) في معجم البلدان (بلعم): «وزير آل سامان بما وراء النهر وخراسان»، وفي الأنساب واللباب وتاج العروس: «وكان وزيرا لاسماعيل ابن أحمد الساماني أمير خراسان» (المتوفى سنة 275هـ)، وفي كامل ابن الأثير 8/ 133: «وزير السعيد نصر بن أحمد (بن إسماعيل) صاحب خراسان» (ولي سنة 301هـ، وتوفي سنة 331هـ).
أما عبد الملك بن نوح فقد ولي سنة 343هـ، وتوفي سنة 350هـ، ومن هنا يكون قول أبي حيان غير صحيح. انظر كامل ابن الأثير 8/ 183، 192.
(4) الاستعتاب: طلبك إلى المسيء الرجوع عن إساءته، والعتبى: الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب.
(5) استعداه: استنصره واستعانه، والعدوى: النصرة والمعونة.(1/403)
بالليل للاستئناس بوجوه الأولياء والخواص، فاحضر بالنّهار (1) مباسطا ومخالطا، وبالليل مؤانسا ومجالسا.
وكان ابن عباد ضدّ هذا، لأنه كان يشتكى إليه فيقول: الشكوى إليّ من الحجاب إغراء، والصبر عليه يعطفني إلى بعض ما يلتمس مني.
وسمعته يقول: لله عندي أياد متضاعفة، ونعم متكاثفة (2)، ومن أجلّها أنه لم يغمسني في مذاهب الإمامية (3). ومع هذا كان إذا عمل قصيدة في أهل البيت غلا وتجاوز (4)، وغضّ من الصّدر الأول، وادّعى على الشيخين البهتان، وعرّض وصرّح.
وهذا من فعلاته الذّميمة، وجهالاته المشهورة.
وأنشد ثعلب في الحجاب أبياتا وقال: ما سمعت بمثلها. هكذا سمعناه فيما قرىء على ابن مقسم (5) العطّار النّحوي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهي (6):
__________
(1) فى الأصل: «فاحضر النهار».
(2) متكاثفة: كثيرة.
(3) الإمامية هاهنا: الشيعة عامة.
(4) فى الأصل: «غلا وتجاور».
(5) محمد بن الحسن بن يعقوب أبو بكر العطار، المقرئ النحوي المتوفى سنة 354هـ على خلاف. الفهرست 49، تاريخ بغداد 2/ 206، طبقات القراء للجزري 2/ 123، عقد الجمان للعيني سنة 354، المنتظم 7/ 30.
(6) الأبيات لمحمود الوراق، وهي في عيون الأخبار 1/ 84.(1/404)
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه ... وردّ ذوي الحاجات ضيق (1) حجابه
ظننت به إحدى ثلاث وربما ... نزعت بظن واقع بصوابه
فقلت به مسّ من العىّ حاضر ... وفي (2) إذنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عيّ اللّسان فعارض (3) ... من البخل يحمي ماله عن طلابه
وإن لم يكن هذا وذاك (4) فريبة ... يصرّ عليها عند إغلاق بابه
وحدثني المرزباني قال: لقد أجاد البصير في قوله:
ربّ فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمّته
قد كثّر الحاجب أعداءه ... وسلّط الذّم على نعمته (5)
ومن طريف ما حدّثنا به ابن عبّاد في الوقت الذي تلاقت فيه العساكر بقصر الجصّ (6)، قال: كنت في مقيلي فأتاني آت قال:
__________
(1) في عيون الأخبار: «دون حجابه».
(2) عيون الأخبار: «من العي ظاهر ففي».
(3) عيون الأخبار: «فغالب».
(4) عيون الأخبار: فإن هذا ولا ذا».
(5) البيتان في عيون الأخبار 1/ 85غير منسوبين برواية: «كم من فتى».
(6) قصر الجص: قصر عظيم قرب سامرا فوق الهاروني، بناه المعتصم للنزهة، وعنده قتل بختيار بن معز الدولة بن بويه. معجم البلدان 7/ 100.(1/405)
اسقني قهوة بفرط اختياري ... خرج الملك عن يدي بختيار (1)
وأما أبو الفتح ذو الكفايتين (2) فإنه كان شابا ذكيا متحركا (3)
حسن الشّعر مليح الكتابة كثير المحاسن، ولم يظهر منه كلّ ما كان في قوته (4) لقصر أيامه، واشتعال دولته وطفوها بسرعة.
ومن شعره (5):
إنّي متى أهزز قناتي تنتثر ... أوصالها أنبوبة أنبوبا
أدعو (6) بعاليها العلا فتجيبني ... وأقي بحدّ سنانها المرهوبا
ومن شعره:
نهضت تثنّى في الكواعب ... كالبدر هادته الكواكب
__________
(1) أبو منصور عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، ولي سنة 356هـ يوم وفاة أبيه، وقتله عضد الدولة سنه 367هـ، وكان عمره يوم قتل 63سنة، ذكر له في اليتيمة 2/ 54شعرا، وانظر الإمتاع 3/ 157وما بعدها.
(2) ترجمة أبي الفتح في الإرشاد 5/ 375347، الوفيات 2/ 78، اليتيمة 3/ 162، معاهد التنصيص 1/ 179177.
(3) المتحرك: الخفيف الذكي.
(4) في الإرشاد: «ولم يظهر كل ما كان في نفسه».
(5) البيتان في الإرشاد 5/ 360.
(6) في الأصل: «أدعوا».(1/406)
فتبرّجت سدف الدّجى ... وتبلّجت ظلم الغياهب
لله أنت وهنّ إذ ... يختلن من كرم صواحب
متلألئات كاللآ ... لي ضمّها عقد الترائب
إني أعيذك أن تردّي ... مقلتي بمنى كواذب
وتسوّدي وجه الرّجا ... ء وتغلقي فتح المذاهب
أو ما ترين مدامعي ... سحّا سحائبها سواكب
جادت ديارك أين كا ... نت مثلها درر السّحائب (1)
موصولة الأكناف حي ... ث الودق صائبة المسارب (2)
محلولة الأرماق فص ... ماء العرى وطف الهيادب (3)
وعدتك داهية اللّيا ... لي والحوادث والنّوائب
لا زلن منك بحيث أن ... ت من الشّوائب والمعايب
إني إذا أعزى إلي ... ك من الأقارب أو أقارب
__________
(1) الدّرة: الصّبّ، والجمع درر.
(2) الأكناف: النواحي. صائبة: تصيب. المسارب: المراعي.
(3) حبل أرماق: ضعيف خلق. فصماء. منحلة. العرى: عروة الدلو والكوز مقبضه. وسحابة وطفاء: في جوانبها استرخاء لكثرة ما تحمله من الماء. والهيدب: سحاب يقرب من الأرض.(1/407)
لا تقطعي حبل القري ... ب وتكفري حقّ المناسب (1)
فتفارقي خلق الكري ... م وتضربي مثلا لضارب:
«إنّ الأقارب كالعقا ... رب بل أضرّ من العقارب» (2)
لا تبخلي إنّ الكري ... مة من مواهبها مناهب (3)
كفّي السيوف عن الحت ... وف وإن أطاعتها المضارب
لا ترغبي عن ماجد ... سمح الخلائق والضّرائب
يعزى لآباء غطا ... رفة وأمّات (4) نجائب
إنيّ من النفر الكرا ... م السّادة الشّم الذوائب
يقظ إذا كري (5) اللئا ... م عن العلى ككرى الأرانب
__________
(1) المناسب: المشارك في النسب.
(2) في الوفيات 2/ 77: «وذكر الأمير أبو الفضل الميكالي في كتاب المنتخل:
آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا ... رب بل أضرّ من العقارب
ونسب الثعالبي في اليتيمة 3/ 161، وعنه العباسي في معاهد التنصيص 1/ 176 البيتين لأبي الفضل ابن العميد.
(3) كأن مناهب جمع منهب، وهو ما ينتهب من الهدية أو الغنيمة، والانتهاب: أخذ من شاء.
(4) أمّات: أمهات.
(5) كري: نام.(1/408)
أسد إذا ونت (1) القرو ... م عن الوغى وني الثّعالب
عفّ أطيل ظميئتي (2) ... حتّى أرى صفو المشارب
وأذلّ نفسي في الكري ... هة أو أرى كرم المناسب
وإذا تسيء عصابة ... عمّمتها شرّ العصائب
كم من عدوّ كاشح ... يرنو إليّ بطرف عاتب
يبدي لنا وجه المشا ... جر (3) دونه صدر المحارب
متقلّص الأحشاء من ... حسد دوين الصّدر راتب
لو شئت أحرق أهله ... من نهضتي نار الحباحب (4)
سلّمته ليد الحوا ... دث والأمور إلى عواقب
إن لم تكن فوق الأك ... فّ يدي فكانت للمغالب
أو لم تكن فوق الذّرى ... قدمي فأعيتها المذاهب
__________
(1) ونى: ضعف.
(2) كذا، ولعلها: ظماءتي. والظماءة: الظمأ.
(3) المشاجر: المنازع.
(4) نار الحباحب: ما اقتدح من شرر النار في الهواء عند تصادم الحجارة، أو هي ذباب يطير بالليل كأنه نار له شعاع كالسراج. انظر اللسان والتاج (حبحب)، وثمار القلوب 463.(1/409)
وله (1) كلام كثير نظم ونثر. وله في وصف الفرس (2) ما يوفي على كل منظوم، ولو أبقته الأيام لظهر منه فضل كبير.
ودخل بغداد فتكلّف واحتفل، وعقد مجالس مختلفة، للفقهاء يوما، وللأدباء يوما، وللمتكلمين يوما، وللمتفلسفين يوما، وفرّق أموالا خطيرة، وتفقّد أبا سعيد السّيرافي، وعليّ بن / عيسى الرّمّاني وغيرهما، وعرض عليهما المصير معه إلى الرّيّ، ووعدهم ومنّاهم، وأظهر المباهاة بهم، وكذلك خاطب أبا الحسن الأنصاريّ ابن (3) كعب، وأبا سليمان السجستاني المنطقيّ، وابن البقّال الشاعر، وابن الأعرج النّمري وغيرهم.
ودخل شهر رمضان فاحتشد وبالغ، ووصل ووهب، وجرت في هذه المجالس غرائب العلم وبدائع الحكمة وخاصّة ما جرى للمتفلسفين مع أبي الحسن العامريّ.
ولولا طول الرسالة لرسمت ذلك كلّه في هذا المكان.
فمن طريف ما جرى، وفي سماعه فائدة واعتبار: ما أحكيه لك هاهنا (4)
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 360، 3/ 124.
(2) كلمة «الفرس» غير ظاهرة في الأصل، ويحتمل أن يقرأ ما ظهر منها:
«الطريق» وما أثبت عن الإرشاد.
(3) في الأصل: «الأنصاري وابن كعب»، تصحيف، وفي البصائر 1/ 145 (ط)، والإرشاد: «أبا الحسن بن كعب الأنصاري».
(4) نقله ياقوت في الإرشاد 3/ 125124، وانظر الإرشاد 5/ 360وما بعدها.(1/410)
انعقد المجلس في جمادى الآخرة سنة أربع وستّين وثلاثمائة، وغصّ بأهله، فرأيت العامري، وقد انتدب فسأل أبا سعيد السّيرافي فقال:
ما طبيعة الباء من «بسم الله الرحمن الرحيم»؟
فعجب الناس من هذه المطالبة، ونزل بأبي سعيد ما كاد يشده به، فأنطقه الله بالسّحر الحلال.
وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدّبنا به بعض الموفّقين من المتقدّمين! فإنه قال:
وإذا خطبت على الرّجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأنّ من السكوت لبابة ... ومن التكلّف ما يكون محالا
والله يا شيخ لعينك أكبر من قرارك (1)، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنشورك أبين من مطويّك فما هذا الذي طوّعت له نفسك، وسدّد عليه رأيك إني أظن السّلامة بالسّكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك. والله المستعان.
فقال ابن العميد، وقد أعجب بما قال أبو سعيد:
__________
(1) منظرك أكبر من مخبرك. «من قرارك». كنت قرأت «قرارك» وفهمتها على معنى «مخبرك»، وحين مراجعتي للأصل المخطوط، تبيّن لي أن القراءة الصحيحة هي «فرارك» بالفاء، ولا يخرج معناها عن الذي كتبته في الحاشية.
فتى كان يعلو (1) مفرق الحقّ قوله ... إذا الخطباء الصّيد (2) غصّك قيلها
جهير وممتدّ العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبيرها
وقال:(1/411)
فتى كان يعلو (1) مفرق الحقّ قوله ... إذا الخطباء الصّيد (2) غصّك قيلها
جهير وممتدّ العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبيرها
وقال:
والقائل القول الرّفيع الذي ... يمرع (3) منه البلد الماحل
ثم التفت إلى العامريّ وأنشد (4):
وإن لسانا لم تعنه لبابة ... كحاطب ليل يجمع الرّذل (5) حاطبه
* * * وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله (6)
* * *
__________
(1) في الأصل: «يعلوا».
(2) الصيد، جمع أصيد، وهو الرافع رأسه زهوا وتكبرا.
(3) أمرع البلد، ومرع: أخصب.
(4) في الإرشاد: «العامري فقال».
(5) الرذل: الرديء من كل شيء.
(6) البيت لزهير بن أبي سلمى، من قصيدة يمدح بها حصن بن حذيفة ابن بدر الفزاري، وهو في ديوانه (بشرح ثعلب 139). والخطل: كثرة الكلام وخطؤه، و «فما يلمم به»: أي ما حضره من شيء فهو قائله.(1/412)
وفي الصّمت ستر للعييّ وإنّما ... صحيفة لب المرء أن يتكلّما (1)
* * * وفي الصمت ستر وهو أبهى بذي الحجا
إذا لم يكن للنّطق وجه ومذهب
هاتوا حديثا آخر فقد يئسنا (2) من هذا، ثم أقبل على ابن فارس معلّمه، فقال: يئسنا (2) من كلام أصحابك في الفرضة والشّط.
فلما خرجنا قلت لأبي سعيد السيرافي: أيها الشيخ! رأيت ما كان من هذا الرّجل الخطير عندنا، الكبير في أنفسنا؟
فقال: ما دهيت قطّ بمثل ما دهيت به اليوم، ولقد جرت بيني وبين أبي بشر متّى (3) صاحب شرح كتب المنطق سنة [ست و] (4)
__________
(1) البيت للخطفى جد جرير، وهو مع آخر في اللسان (خطف)، ومجموعة المعاني 7069. وفي الأصل: «ستر للغبي»، تصحيف صوابه عن اللسان ومجموعة المعاني.
(2) في الأصل: «سنا»، وفي الإرشاد: «لسنا».
(3) متّى بن يونس من أهل دير قنىّ، منطقي مشهور، توفي سنة 328هـ ذكره ابن النديم في الفهرست 368، ومناظرته مع السيرافي في الامتاع 1/ 108وما بعدها، وعنه الإرشاد 3/ 105وما بعدها.
(4) تكملة لا بد منها، وانظر الإمتاع 1/ 108. وفي الارشاد 3/ 106، 125: «سنة عشرين وثلاثمائة».(1/413)
عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفتح [الفضل بن] (1) جعفر بن الفرات ملحة كانت هذه أشوس وأشرس منها.
ولولا هربي من الإطالة، وثقل النّسخ، وإدخالي حديثا في حديث، لحكيت المناظرة التي أومى إليها هذا الشيخ الذي كان إمام زمانه وعالم عصره، لأنه حدّثني بها بزوبرها (2)، وكانت في الفرق بين النحو والمنطق وريم (3) أحدهما على الآخر، وإحصاء الفوائد لكل واحد منهما.
وحضرت (4) المجلس يوما آخر مع أبي سعيد وقد غصّ بأعلام الدّنيا، وبنود الآفاق، فجرى حديث أبي إسحاق الصّابي (5)، فقال ذو الكفايتين:
__________
(1) تكملة لازمة، إذ أنه لا يكنىّ من بني الفرات «بأبي الفتح» إلا الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المتوفى سنة 327هـ، وهو الذي وزر للمقتدر سنة 320هـ. (كامل ابن الاثير 8/ 81) وللراضي سنة 322 (الكامل 8/ 98)، وسنة 324 (الكامل 8/ 114). وكانت ولادته سنة 279هـ، وانظر الفخري 255. وفي الإرشاد 3/ 125: «مجلس أبي جعفر ابن الفرات»، وهو تصحيف.
(2) بزوبرها: بجميعها.
(3) الريم: الزيادة.
(4) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 361.
(5) إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الصابي أبو إسحاق الكاتب البليغ الشاعر المجيد. توفي سنة 384هـ.
ترجمته في الفهرست 194193، اليتيمة 2/ 278218، الإرشاد(1/414)
ذاك رجل له في كل طراز نسج، وفي كل فضاء رهج، وفي كل فلاة ركب، وفي كل غمامة سكب الكتابة تدّعيه بأكثر مما يدّعيها، والبلاغة تتحلّى به بأكثر مما يتحلّى هو بها. وما أحلى قوله:
حمراء مصفرّة الأحشاء باعثة ... طيبا تخال به في البيت عطّارا
كأن في وسطها تبرا يخلّصه ... قين يضرّم في أوراقه النارا
وقوله:
ما زلت في سكري ألّمع كفّها ... وذراعها بالقرص والإثآر (1)
حتى تركت أديمها وكأنّما ... غرز البنفسج منه في الجمّار (2)
وبلغ المجلس أبا إسحاق فحضر وشكر، وطوى ونشر، وأورد وأصدر، وكان كاتب زمانه لسانا وقلما وشمائل، وكان له مع ذلك يد طويلة في العلم الرياضي.
وسمعت أبا إسحاق يقول: هو ابن أبيه، لله درّه! ثم أخذ في
__________
1/ 360324، الوفيات 1/ 14، مسالك الأبصار (12/ 132، أيا صوفيا 3425)، تاريخ أبي الفداء 2/ 136، عيون التواريخ (سنة 383)، معاهد التنصيص 1/ 154.
(1) البيتان في الإرشاد 5/ 361، 1/ 356برواية «والآثار» وفي نشوار المحاضرة 8/ 137برواية: «والأبار».
(2) في الإرشاد: «غرس البنفسج في نقا الجمار».(1/415)
تعظيم أبيه، وقال: وكان من أمانيّ الكبر لقاؤه، وإني لكثير الإعجاب بكلامه، لأني أجد فيه من العقل أكثر مما أجد فيه من اللفظ، وإني لأظن أن عقل كلّ أحد كان ممزوجا وكان عقله قراحا.
قال: ولقد قرأت له فصلا من كتاب له إلى أبي عبد الله المكي العلوي نديم عضد الدّولة يستحق أن يكتب بالذّهب، وهو: ولأن تدعى من بعيد مرّات خير من أن تقصى من قريب مرة، وليكن كلامك جوابا تتحرّز فيه، ولا تعجبنّ بتأتّي كلمة محمودة فيلجّ بك الإطناب توقّعا لمثلها فربما عثرت بما يهدم ما بنته الأولى، ثم لا تسلم من تمثّل صاحبك بقولهم: «ربّ رمية من غير رام» (1)، وبضاعتك في النثر قليلة مزجاة، وبالعقل يزمّ اللسان ويلزم السداد.
فلا تستفزّنك طربة الكريم على ما يفيتك عقلك.
والشفاعة لا تعرضنّ لها، فإنها مخلقة للجاه وإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف وقتها، وتحصّل وزنها / فيتقدّمك من يتكلّم فيها، فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى الإسعاف هشّة، فأظهر
__________
(1) مثل في مجمع الأمثال 1/ 201.(1/416)
ما في نفسك غير محقّق ولا موهم أن في الردّ عليك ما يوحشك، وفي المنع ما يقبضك وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يدك، ليخفّ كلامك ولا يثقل على مستمعه منك.
أنا أقول ما أقول غير واعظ ولا مرشد فقد كمّل الله خصالك وحسّن خلالك إذ فضّلك في كلّ حالك، ولكنّي أنبّه تنبيه المشارك. واعلم أن للذّكرى موقعا ونفعا.
قلت له: وقد استحسنت له حسنا، وله أبلغ منه.
فقال: كذاك هو.
قلت: فإنه مع هذا قد أخطأ في العربية في موضع، فدللته عليه.
فقال: لله أبوك.
ولم أذكر الموضع أيّدك الله بالعلم لتكون أنت قارئه، أعني أنك تقرأ حرفا حرفا حتى تصيبه، فليس الخطأ المستدرك بالتتبّع كالمعثور عليه بالهجوم.
وكان (1) ابن عباد يروي لأبي الفضل كلاما في رقعة إليه حين
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 298.(1/417)
استكتبه لبويه (1)، وهو (2)
بسم الله الرحمن الرحيم. مولاي وإن كان سيّدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدّمت علينا رياسته، فإنه يعدّني سندا ووالدا كما أعدّه ولدا وواحدا، ومن حقّ هذا أن يعضد رأيي رأيه حتى يزداد إحكاما وانتظاما، ويتظاهرا قوة وإبراما.
وحضرت اليوم المجلس المعمور (3)، فكان من مولانا كلام كثير، وخطاب طويل، فقلت إنه لم يزد على الإباء والاستعفاء، بعد التقصّي والاستيفاء، فأومأ إلى إجبار كالمسألة، وإكراه كالطلبة. وأقول بعد أن أقدم مقدمة:
إنّ مولاي وإن كان يستغني عن هذا العمل بتصّونه وتقلّله (4)
__________
(1) أبو منصور بويه مؤيد الدولة بن ركن الدولة المتوفى بجرجان سنة 373هـ. وتقدمت ترجمته.
(2) هذه الرسالة في التذكرة الحمدونية 6/ 64ب 65ب (نسخة رئيس الكتاب رقم 770)، والإرشاد 2/ 298، وفي روايتها اختلاف عما هنا.
(3) في تذكرة ابن حمدون: «وحضرت اليوم مجلس ركن الدولة ففاوضني ما جرى بينه وبين مولاي طويلا ووصل به كلاما بسيطا، وأطلعني على أن مولاي لم يزد بعد الاستقصاء والاستيفاء» الخ.
(4) عن التذكرة الحمدونية، وفي الأصل: «وطلفه» وفي الإرشاد:
«تصلفه».(1/418)
وعزوف نفسه عن التكثّر بالمال وتحصيله فإن الأمر مفتقر إلى كفالته، ومحتاج إلى كفايته وما أقول ما أقوله وغرضي إنشاء كتاب، أو عقد حساب، أو تفريق مال وجمع، أو تقديم عطاء أو منع، لأن ذلك وإن كان مقصودا، وفي آلات الوزارة معدودا، فإن في كتّابه من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه، لكن مولانا يريده لتهذيب من هو وليّ (1) عهده، ومن يرجوه ليومه وغده، ولا بدّ وإن كان السّنخ قويما، والمحتد كريما، والفضل عميما، والمجد صميما، ومركب العقل سليما من مناب من يعرف ما السياسة، وكيف الرياسة، وكيف تدبير العامّة والخاصّة، ومن أين تجتلب (2) الأصالة والإصابة، وبماذا تعقد المهابة، وكيف ترتّب المراتب وتعالج الخطب، وكيف تردّ الخطوب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحصّن الإمرة.
ولا غنى عمن يقوم في وجه صاحبه فيرادّه إذا بدر منه الرأي المنقلب، ويراجعه إذا جمح به اللجّاج المرتكب، ويعارضه إذا ألحّ عليه الغضب الملتهب فما السبب في أن هلكت ممالك جمّة، وبلدان عدّة، إلا
__________
(1) في التذكرة: «ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب من ولي عهده»، وفي الإرشاد: «ولكن لتهذيب ولده ومن هو ولي عهده».
(2) فى الأصل: «وكيف تدبّر أين تجلب».(1/419)
بأن خفضت أقدار الوزارة وانقبضت (1) أطراف الإمارة وليس يفسد ما في (2) الأرض ومن عليها على ما أرى إلا بالرجوع في مثل هذا إلى الأذناب.
فلا يبخلنّ مولاي بنفسه على هذه الدّولة، فمنها جرى ماء فضله وفضل الأمين (3) من قبله، فإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا به اهتمامي فلا يقعنّ انقباض عنّي، ولا إعراض عما سبق منّي. ومولاي محكّم بعد الإجابة إلى العمل فيما يشترطه، وغير مراجع فيما يقترحه، وهذا خطي به، وهو على وليّ النعمة حجة لا تبقى معها شبهة.
وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة إما بحضوري (4) لديه، أو بتجشّمه إلى هذا العليل الذي قد ألحّ النقرس عليه والسلام.
وكان ابن عبّاد يحفظ هذه النّسخة ويرويها ويفتخر بها. وقال لي أصحابنا بالرّيّ، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج: إن هذه المخاطبة من كلام ابن عبّاد [افتعلها (5)] عن ابن العميد إلى نفسه تشيّعا بها، ونفاقا بذكرها.
__________
(1) في التذكرة: «بأن خفضت فانتقصت أطراف».
(2) فى الأصل فوق «ما في» كتبت كلمة «بقية» على أنها رواية بدل «ما في».
(3) الأمين لقب والد الصاحب. وفي تذكرة ابن حمدون: «وفضل شيخه قبله».
(4) فى الأصل: «وسأصل المكاتبة إما بالحضور».
(5) تكملة عن الإرشاد.
في تذكرة ابن حمدون: «وجدت كتابا منسوبا إلى ابن العميد كتبه إلى الصاحب أبي القاسم ابن عباد، وفيه ما يشكل في قبوله».(1/420)
وحدّثني ابن خارجة قال: كان حمد بن محمد (1) أبو الفرج الكاتب مكينا عند ركن الدّولة، وكان أبو الفضل لا يوفيه حقّه، ولا يحسب له تلك المكانة، فعاتبه حمد مرارا مصرّحا وكانيا، ثم كتب إليه رقعة طواها على أبيات، وهي (2):
مالك موفور فما باله ... أكسبك التّيه على المعدم
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم
وإن خرجنا لم تقل مثلما ... نقول «قدّم طرفه قدّم»
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم
أو كنت في الغارب من دولة ... فلست من دونك في المنسم (3)
__________
(1) في الصداقة 34: «وحدثنا حمد بن محمد كاتب ركن الدولة قال:
دبّ بيني وبين أبي الفضل، يعني ابن العميد، بعض المفسدين فكتب إليّ الخ».
وفي الإرشاد 5/ 157: «كان أبو الفرج الإصبهاني الكاتب صاحب كتاب الأغاني كاتبا لركن الدولة حظيا عنده، محتشما لديه، وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل ابن العميد أن يكرمه ويبجّله ويتوفر عليه في دخوله وخروجه، عدم منه ذلك فقال: الأبيات».
ثم قال ياقوت: وقد روى أبو حيان في كتاب الوزيرين من تصنيفه من خبر هذه الأبيات غير هذا.
(2) الأبيات في الوفيات 2/ 77، الإرشاد 5/ 157.
(3) الغارب: أعلى مقدّم سنام البعير، وغارب كل شيء أعلاه. والمنسم:
طرف خف البعير. وفي الوفيات: «ولست في الغارب».(1/421)
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم نعظم
تكافأت أحوالنا كلّها ... فصل على الإنصاف أوفاصرم
قلت لابن خارجة: أترى الأبيات لحمد؟
قال: نعم.
قلت: أفعاد له إلى محبوبه؟
قال: كان حرونا، إذا أبى لا تأتّي له، وإذا جمح لا حيلة فيه «أكسب» في البيت الأول مردود، غير أنّ ابن الأعرابي أجازه (1).
تصفّح أيّدك الله هذه الفقر، واعرف تعبي بها وإفادتي / منها واشتفائي (2) بذكرها والسلام.
فأما أبو محمد بن أبي الثياب، وهو عبد الرزّاق بن الحسين (3)
البغدادي (4)، فإنّه كان ذا فضل واسع، وشعر بارع، وعلم بكل شيء كالمنطق وغريب اللغة.
__________
(1) انظر لسان العرب (كسب).
(2) اشتفيت بالشيء: انتفعت به.
(3) في الوفيات، والوافي، واليتيمة: «بن الحسن».
(4) في الوافي بالوفيات (1969شهيد علي، الورقة 188): «ابن أبي الثياب، سافر إلى العراق، واتصل بالوزير أبي الفتح ابن العميد، وسافر بعد موته إلى خراسان ودخل ما وراء النهر، وصادف قبولا من فضلائها وهو شاعر، وكانت له يد في المنطق والهندسة، وعنده فلسفة». والظاهر أن(1/422)
وله رسالة من خراسان، لمّا استقرّت به الدار ببخارا، كتبها إلى أبي الفضل، ولا بأس بسردها هاهنا لتعلم أن الحرّ إذا ذاق الهوان ممن يستحق الكرامة عليه، شقّ جيبه مستعتبا (1)، وأدرك طائلته مكافحا ومنيّبا (2).
كتب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم. أيها الرجل الذي اختار لنفسه الوصف بالرياسة، فطالب الصّغار والكبار بها في المكاتبة والمخاطبة! ما يسرّني حسن ما أنت فيه بقبح ما أنت عليه، ولا يعجبني ظاهر ما تدّعيه بباطن ما تنقضه به. ألزم فناءك هذه السّنين على مقاساة كبرك وتجعّد بنانك، وقلّة النّائل منك مع تسيير فنون القريض فيك، ونثر أصناف البديع عليك، ومع التّضاؤل لك، وإراقة ماء الوجه بين يديك، والصّبر على مللك وصلفك، وتلوّن أخلاقك، ومع فتحي عليك أبواب المنطق،
__________
الصفدي قد أخطأ في قوله: «واتصل بالوزير أبي الفتح».
وانظر ترجمة ابن أبي الثياب في الوفيات 2/ 76، 77، ويتيمة الدهر 4/ 118 120، 1/ 124.
(1) استعتب المسيء: استرضاه، وطلب منه الرجوع عن إساءته. وفي الأصل: «مستغيثا».
(2) منيبا: مؤثرا فيه بنابه، يقال نيّب السهم: أي عجم عوده، وأثر فيه بنابه.(1/423)
وهدايتي إياك إلى ضروب ما اقتبسته من أهل المغرب والمشرق ثم يكون آخر أمرك في نظرك لي وإحسانك إليّ أن تقرنني بغلام غرّ جاهل، ونكد عارم، يزيد عليك في البخل، وينقص عنك في الحلم، وتكلّفني الصبر معه، والرضا بالخسف منه؟
ومن ذا الذي علم أن رزق الله منتاب مرتاب؟؟؟ وعاد (1)، والمنّ فيه من سائق وحاد، غمس (2) نفسه في حياض الذل، وفارق حسن التوكل على الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟
والله ما اتخذت الليل جملا هاربا من صقعك، زاهدا في ضرّك ونفعك، إلّا لقولك في انتشائك لأصحابك: «ابن أبي الثياب لازق ببابنا لزوق اللّحم بالعظم، وجار معنا جري الدم في اللّحم ولو طردناه ما برح، ولو فاز بغيرنا ما فرح وأين يجد جنابا أمرع من جنابنا، وفناء أخصب من فنائنا؟
أغرّكم أنه يتلوّى علينا وينحني لدينا؟ ذاك كله ريح، وهو يلبث في اللّوح (3)، إن يوجّه إلى خراسان فما بها من ينقع ظمأته، وإن
__________
(1) كذا في الأصل، وقد مر في ص 339338في قول ابن العميد:
«ورزق الله منتاب وعاد». فلعله وجه الكلام.
(2) في الاصل: «غمس».
(3) يلبث: يبقى، واللوح: الهواء.(1/424)
عاد إلى بغداد، فهي التي عرفها وعرفته، وإن تطاول إلى الشام ومصر، فما بها من يجتلي غرّته أو يقبس حكمته، أو يصبر على جشعه الفاضح وسؤاله الملحّ».
فها أنا قد شخصت إلى المشرق، وحظيت عند ملكه، ووليت البريد له، وغلبت على مجلسه بالمؤانسة، وحولي الغاشية والضّفف (1)، بعد ما كنت أعانيه عندك من الشّظف والجعف (2) وما كان كلامك ذاك لي (3) إلا إغراء لي بطلب السّعادة العاجلة ونيلها في سهولة، مع التخلص من الغيظ الذي كنت أجرعه عندك صباح مساء، والكذب الذي كنت أنّمقه فيك في الجد والهزل، والخساسة التي كنت أسترها عليك في الصّحو والسّكر، والتلوّن الذي كنت أحتمله منك في الغضب والرّضا.
هذا والمنالة منك دون ما يمسك الرمق، والمبذول عليها فوق ما يجب لك بالحقّ ولولا أني مع ما أرد ملّته (4) من العتب (5) عليك
__________
(1) الضفف: الحشم والغاشية.
(2) الجعف: القلة.
(3) كذا في الأصل، وكأنها زائدة.
(4) ملته: حرارته.
(5) العتب: الموجدة.(1/425)
أرجع إلى حفاظ لا تعرف منه إلا الاسم، لكان لي في جلدك حزّ (1)
ونهس (2)، وعلى عرضك جمز (3) ورقص.
وما الذي يرجى منك أكثر مما كان؟ وولادتك مشهورة ومنشؤك ظاهر، ومبادىء حالك في ارتفاعك محصّلة، والألسنة بحقائقها دائرة، والأسماع إلى عجائبها صاغية، والقلوب في فضائحها متعجّبة.
ولك في براءة والدك منك كاف، وفي حديث والدتك ما هو غير خاف ومما يدلّ على طلبي البقيا أني اقتصرت في مكاتبتك على لفظ منثور. ولو نظمت ذلك لكان نقيقك منه يجرعك مضض النّدم على تقصيرك معي ومع نظرائي فيما تقدّم.
فاذكر هذه اليد لي عندك في عرض ما تقرؤه من هذه الرقعة إليك، وقد شفيت بها فؤادا كان يتلظّى أسفا على خدمة ضاعت عندك، وحرمة بارت لديك ولعلّي قد أطرتك (4) على كثير ممن يلزم فناءك طامعا في خيرك، أو يشقى بمعرفتك ظانا لدرك المطلوب منك، ثم ينقلب
__________
(1) الحز: القطع.
(2) النهس: العض.
(3) الجمز: العدو والوثوب.
(4) أطرتك: عطفتك وأحلتك.(1/426)
عنك بقلب أو قد من قلبي عليك، ولسان أذرب من لساني في عرضك.
عليك سلام لا تواصل بعده ... فلا القلب محزون ولا الدمع سافح
والله لا حاق الشرّ إلا بأهله، ولا لصق العار إلا بكاسبه، ولا قيل في الخسيس النّذل إلا دون ما يستحق، «ذق عقق (1)» فقد فاتك من سبق.
أفادني هذه الرساله أبو جعفر الخطيب النّيسابوريّ، وقال لي: أنا أوصلت الكتاب إلى أبي الفضل مختوما بعد ما نسخته، قال: وعدت إليه أطالبه بالجواب، فقال لي: قد كتبت الجواب قبلك، وكان ذلك تحاجزا (2) منه، لأنه كان قد انشوى بها حين قرأها.
ولقد أنشدني ابن أبي الثّياب (3) قصيدة في أبي الفضل، / وأنا
__________
(1) عقق، بوزن عمر، معدول عن عاقّ للمبالغة في الوصف بالعقوق، ومنه قول أبي سفيان يوم أحد، وقد رأى حمزة رضي الله عنه مقتولا:
ذق عقق، أي ذق جزاء فعلك يا عاق. تاج العروس 7/ 17.
(2) تحاجزا: مسالمة وتباعدا.
(3) في الوفيات 2/ 75، وعنه ابن شاكر في عيون التواريخ (أحمد الثالث 11/ 103100ب، سنة 360) أن أبا نصر عبد العزيز بن نباتة السّعدي (الوفيات 1/ 370) قصد أبا الفضل ابن العميد بالري ومدحه بقصيدته التي أولها:
«برح اشتياق وادكار»
ثم أوردا منها الأبيات: (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 28، 29، 30، 31، 32، 33، 34، 36، 61، 62).
أرويها هاهنا لتعلم أنه كان مظلوما فيها وفي أخواتها، ولتقف على طريقته الحلوة، ومعانيه السّهلة، ولفظه الخلوب وقال لنا: كانت جائزتي عليها، بعد نظائر تقدمتها، جائزة لا أستجيز ذكرها، لأنها إن كانت تضع من صاحبها إنها لتضع منّي أيضا. القصيدة:(1/427)
أرويها هاهنا لتعلم أنه كان مظلوما فيها وفي أخواتها، ولتقف على طريقته الحلوة، ومعانيه السّهلة، ولفظه الخلوب وقال لنا: كانت جائزتي عليها، بعد نظائر تقدمتها، جائزة لا أستجيز ذكرها، لأنها إن كانت تضع من صاحبها إنها لتضع منّي أيضا. القصيدة:
برح اشتياق وادّكار ... ولهيب أنفاس حرار
ومدامع عبراتها ... ترفضّ عن نوم مطار
لله قلبي ما يج ... نّ من الهموم وما يواري
لقد انقضى سكر الشّبا ... ب وما انقضى وصب الخمار (1)
وكبرت عن وصل الصّغا ... ر وما سلوت عن الصغار
سقيا لتغليسى إلى ... باب الرّصافة وابتكاري
أيام أخطر في الصّبا ... نشوان مسحوب الإزار
حجّي إلى حجر الصّرا ... ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذّات أو ... طاني ودار الرّوم داري
كم رضت فيها من نفا ... ر محرّم حلو النّفار
ورعيت من قطربّل ... روض الشقائق والبهار
__________
(1) الوصب: الوجع، والخمار: بقية السكر، وما أصابك من ألم الخمر.(1/428)
ورفعتها مسكية ... في ريطتي خزّ وقار
يعطي النديم بزالها (1) ... ما شئت من نور ونار
كيف اعتدال معذّل (2) ... صحب الغواة بلا عذار
يستنّ (3) في طرق الصّبا ... ويعيث في سبل الخسار
فيصيد غزلان الكنا ... س ويدّري بقر الصّؤار (4)
من كل عطشان الوشا ... ح مميّل شرق السّوار
بيض غريرات طبع ... ن من الدّلال على غرار
وعقائل تضفو وحا ... ف (5) شعورهنّ على المداري (6)
هيف (7) يصلن من الرّوا ... دف بالزّنانير (8) القصار
__________
(1) بزل الخمر: ثقب إناءها بالمبزل، وهي الحديدة يفتح بها الدن، وموضع الثقب: البزال.
(2) المعذل: الملوم، وفي الأصل «المعدل».
(3) استنّ الفرس: جرى ونشط.
(4) يدّري: يختل، والصؤار: موضع بالمدينة (معجم البلدان:
صؤار ومحيص). وتاج العرس 3/ 323. وفي الأصل: «الصوار».
(5) الوحف: الشعر الأسود الأثيث.
(6) المداري: جمع مدارة، وهي المشط.
(7) هيف: جمع هيفاء، وهي الضامرة البطن الدقيقة الخصر.
(8) في الأصل: «بالرناسر؟؟؟».(1/429)
وتعلّقي من طاعة الأس ... تاذ بالحبل المغار
لقد اختلست منى النّفو ... س من ابيضاض واحمرار
ولحظت ما فتر اللوا ... حظ من فتور واحورار
يوم استقلّوا والدّمو ... ع تجود روض الجلّنار
لهفي على صبح الجبا ... هـ يشي به ليل الطّرار (1)
وتواضع الخد الأسي ... ل لعطفة الصّدغ المدار
خذ في هزارك يا غلا ... م فقد غنيت عن الهزار
حسبي بألحان قمر ... ت بهنّ تغريد القماري
لم يبق لي عيش يل ... ذّ سوى معاقرة العقار
* * * وإذا استهلّ ابن العمي ... د تضاءلت ديم القطار
خرق صفت أخلاقه ... صفو السّبيك من النّضار
فكأنما رفدت موا ... هبه بأمواج البحار
وكأنّ نشر حديثه ... نشر الخزامى والعرار
__________
(1) الطرار: جمع طرّة، وهي أن تقطع الجارية في مقدم ناصيتها كالعلم أو كالطرة تحت التاج.(1/430)
وكأننا مما تفرّق ... راحتاه في نثار
متثبّت يغنى بمح ... مود الأناة عن البدار
كلف بطيّ السّرّ تح ... سب صدره ليل السّرار
يأوي إلى حلم يعا ... ذ به ورأي مستشار
ومرجّب (1) يلقى الحوا ... دث باحتمال واصطبار
يربا به عزّ الفخا ... ر عن التعرّض للفخار
وتصون مسمعه المها ... بة عن مماراة المماري
ويغول أيسر سعيه ... جهل المنافس والمباري
كم يستر الباغي علا ... هـ وما لهنّ من استتار
هيهات لا يخفى على ... لحظ العيون سنا النّهار
قل للمخيّب وشمكي ... ر هدمت مجد بني زيار (2)
__________
(1) مرجب: معظّم. وفي الأصل: «مرحب».
(2) هو ظهير الدين أبو منصور وشمكير بن زيار الديلمي ثاني الدولة الزيارية، ولي سنة 323هـ حين قتل الأتراك أخاه مرداويج (ابن الاثير 8/ 103).
وكانت بينه وبين ركن الدولة، الذي كان ابن العميد وزيره، حروب متلاحقة من أجل الاستيلاء على بلاد الري وأصبهان والجبل، واستمر النزاع بينهما إلى أن توفي وشمكير سنة 357هـ. أخباره في كامل ابن الاثير فيما بين سنتي 323، 357، وانظر الدول الإسلامية لخليل أدهم 185183، والأسر الحاكمة 319.(1/431)
خرّبت دور محمّد (1) ... فأبى جوارك للديار
وقريتها نارا فخصّ ... صميم قلبك بالأوار
جلب الجياد إلى قرا ... رك فاجتثثت من القرار (2)
زجّ النّسور من الصّفا ... شعث المسوك من الخبار (3)
تردي كغزلان الفلا ... ة بمثل جنّان القفار (4)
ككواسر العقبان طر ... ن إليك بالأسد الضّواري
لمّا طلعن علمت أنك ... من جموعك في اغترار
وفللت من ذات اليمي ... ن لشدّه دات اليسار
بالخيل صان صدورها ... في التّبّتيّ من الصّدار
ومغاور يغزيهم ... من لا يملّ من الغوار
__________
(1) انظر كامل ابن الاثير 8/ 204.
(2) اجتثثت: اقتلعت.
(3) النسر: اللحمة الصلبة التي في باطن حافر الفرس، أو باطن الحافر، والجمع نسور. وزجّ النسر: طرفه المحدّد. شعث: مغبرة. الصفا: جمع صفاة، وهي العريض من الحجارة، والصخرة الملساء. المسوك: جمع مسك، وهو الجلد. الخبار: الأرض الرخوة اللينة.
(4) تردي: ترجم الأرض بحوافرها عند العدو. جنان: جمع جانّ، وهو الجن أو ضرب من الحيات.(1/432)
ليث يثور فيستثي ... ر قساطل النّقع المثار
فكأنما هبواتها ... حرق من العيّوق هار (1)
في وقعة قسمت كما ... تك للمنية والإسار
وفررت فيمن لا يع ... دّ لمثلها غير الفرار
متسربلا من لؤم فع ... لك خطّتي خزي وعار
هذي النّكاية لا النّكا ... ية في البنيّة والجدار
إن الكبار من الأمو ... ر تنال بالهمم الكبار
* * * وإلى أبي الفضل ابتعث ... ت هواجس الهمم السّواري
ولقد تخيرت الرجا ... ل فما دفعت عن الخيار
حتى سكنت ظلاله ... بعد ابتلاء واختبار
* * * يغدو على حرّ البلا ... د غدوّ مطلوب بثار (2)
__________
(1) الهبوات: جمع هبوة، وهي الغبار الساطع في الهواء. والحرقة: النار أو لهبها. وهار: ساقط منقض، وأصله «هائر». وفي الأصل: «خرق».
(2) في الأصل: «يغدوا».(1/433)
فتذيله فتكاته ... وتذيقه طعم الصّغار
* * * فتراه في العسر المضرّ ... يجود جود أولي اليسار
متهلّلا للزائري ... ن مرحّبا بالمستزار (1)
إني اعتصمت بيمنه ... فوقيت أسباب العثار
يا من له طيب الأرو ... م ومن له طيب النّجار (2)
يا من له نور البدو ... ر ومن له شرف الدّراري (3)
يا من به مرض الحبا ... ء ومن به حصر الوقار
يا من لديه حيا العفا ... ة ومن لديه حمى الذّمار (4)
أنت الذي وهب الجرا ... ئر عن علوّ واقتدار (5)
أنت الذي ضمن الوفا ... ء لجاره كرم الجوار
__________
(1) المستزار: الزيارة، مصدر ميمي.
(2) الأروم: جمع أرومة، وهي الأصل.
(3) الدراري: جمع درّي، وهو الكوكب الشديد الإنارة، وقيل:
الدراري هي الكواكب الخمسة السيارة.
(4) الحيا: ما يحيا به الناس. والذّمار: ما يلزم المرء حمايته والدفاع عنه.
(5) الجرائر: الذنوب، جمع جريرة. وهبتها: كناية عن العفو عن مقتر فيها.(1/434)
أنت الذي حاز الخطا ... ر مضاؤه يوم الخطار (1)
فحويت مضمار العلا ... وجريت فيه بلا مجار
يفديك من ظنّ المكا ... رم في اقتصاد واقتصار
فعداه عن طلق الجيا ... د سقوطه دون العثار (2)
خذها ثمار علاك لا ... عريت علاك من الثمار
عذراء يخجل حسنها ... ما فيّ من خلع العذار
/ وحدثني جريح المقل الشاعر قال: لما قال أبو محمد:
يغدو على حر البلا ... د غدوّ مطلوب بثار (3)
قلت له: ما أكذبك لحاك الله!
فقال: الذي يقبل هذا في نفسه أكذب منّي.
وقال جريح المقل: قد جبت الآفاق، وسبرت أصناف الخلق في الأخلاق، فما رأيت أخسّ من هذا الرجل، يعني أبا الفضل.
وحدّثني أبو غالب الكاتب الاصبهاني قال: كان أبو الفضل يحاجي
__________
(1) الخطار الأول: جمع خطر، وهو السبق يتراهن عليه، والرهن نفسه، والخطار الثاني: المراهنة.
(2) عداه: صرفه وشغله. وطلق الجياد: الغاية التي تجري إليها الأفراس.
(3) فى الأصل: «يغدوا».(1/435)
بكلام له من رآه، وهو (1):
«سألت عمّن شفّني وجدي به، وشغفني حبّي له، وزعمت أني لو شئت لذهلت عقله (2)، ولو أردت لا عتضت منه،
«زعما، لعمر أبيك، ليس بمزعم (3)»
كيف أسلو عنه وأنا أراه، أو أنساه وهو لي تجاه؟ هيهات! هو أغلب عليّ وأقرب إليّ من أن يرخى له عذاري (4)، أو يخلّيني واختياري، بعد اختلاطي بملكه، وانخراطي في سلكه وبعد أن ناط حبّه قلبي نائط (5)، وساطه بدمي سائط (6) فهو جار مني مجرى
__________
(1) نقله الحصري في زهر الآداب 994 (ط. الحلبي)، 4/ 142 (تجارية) باختلاف أشرت إلى المهم منه.
(2) الزهر: «لذهلته عنه».
(3) عجز بيت لعنترة، وصدره:
«علّقتها عرضا وأقتل قومها»
وهو في معلّقته (شرح الزوزني 137)، وجمهرة أشعار العرب 189، واللسان والتاج (زعم).
والزعم: الطمع، والمزعم مكانه يقول: طمعت حيث لا مكان للطمع.
(4) الزهر: «عناني».
(5) ناط: علّق.
(6) ساط: خلط.(1/436)
الروح في الأعضاء، ومتنسّم معي روح الهواء، إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقفت (1) عليه، ما أحب السّلوّ عنه مع هناته، وما أوثر الخلوّ منه على علاته (2) هذا على أنه إن أقبل لم (3) يهنئني إقباله، وإن أعرض (3) لم يطرقني خياله، يبعد عليّ مناله (4)، ويقرب من غيري نواله، ويردّ عيني خاسية، ويثني يدي خالية، وقد بسط مسافات النفس المتقاربة (5)، وصدّق مرامي الظّنون الكاذبة، وصله ينذر بضدّه (6)، وقربه يؤذن ببعده، يدنو (7) عدل ما يبرح (8)، ويأسو (7) مثل ما يجرح فحاله أحوال، وخلّته خلال، وحربه سجال (9).
الحسن من عوائده (10)، والجمال من منائحه، والبهاء من فصوله وصفاته،
__________
(1) الزهر: «وقعت».
(2) الزهر: «مع ملاته».
(3) الزهر: أقبل عليّ بهتني أعرض عني لم».
(4) الزهر: «عني مثاله».
(5) الزهر: «وقد بسط آفات العيون المقاربة».
(6) الزهر: «بصدهّ»:
(7) في الأصل: «يدنوا ويأسوا».
(8) الزهر: «عند ما ينزح».
(9) الزهر: «وحكمه سجال».
(10) الزهر: «من عوارفه».(1/437)
والسّناء من نعوته وسماته اسمه طبق (1) لمعناه، وفحواه وفق (2)
لنجواه، يتشابه حالاه، ويتضارع قطراه، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تغشاه يستطير (3) كالبدر بين سعوده قد وسطها وحفّت به، يقدمه النّسران، ويتلوه نطاق الجوزاء، هكذا ولو قلت إن الواسطة الغميصاء (4) لها هاد وتابع، إن فرّقتهما اتفقا، وإن ألّفتهما تفرّقا، يقبل بشوك السّيال (5)، ويدبر بسفى البهمى (6)، ويعترض بسود قصار سواسية كأسنان الحمار لصدقت.
فأبن لي ما قلته، فهو تعريض كالتّصريح، وتمريض كالتصحيح، والسلام.
وحدثني أبو غالب الكاتب قال: كتب أبو الفضل إلى أبي دلف الخزرجي في أوائل علّته التي نهكته وحالفته، يعاتبه ويعابثه فقال:
«الآن علمت، أيّها الشيخ، أنّك لي مكايد، وإلى جميع ما أنهاك
__________
(1) الزهر: «مطابق».
(2) الزهر: «موافق».
(3) الزهر: «تنساه يستدير».
(4) الغميصاء: هي الشعرى الغميصاء، وهي في الذراع.
(5) السيّال: شجر له شوك أبيض.
(6) البهمى: نبت له شوك مثل شوك السنبل. والسفى: شوك البهمى، أو أطراف البهمى.(1/438)
عنه مخالف، وعلى ديدنك المعروف ثابت، وبفضلة لسانك مسحور، وبشائع حلمي عنك مغرور وليت ثقتك بذلك لا تخونك، وتطوّلي عليك لا يتطاول بك، واغترارك بغيري لا يزلّك، وليتك، إذ قد ضللت سواء السّبيل في حظّك، شاورتني فكنت لا أبخل عليك بالهداية.
يا هذا! شكوت إليك أوائل هذه العلّة التي قد تخوّنتني (1)
ونهكتني وكان التّلافي سهلا، وباب العافية مفتوحا، فوعدت بالقيام عليها وبذل النصيحة في تدبيرها، وكنت لشكري لك على ذلك حائزا، وبمقترحك مني فائزا، فتقاعست عنّي بلا عذر، ووقفتني بين وصل وهجر، فلم أدر كيف أخاطبك، وعلى ماذا أعاتبك لأنّي يئست من نجوع العتاب فيك، ومن إحاكة الخطاب في قلبك ولأنك مشهور بقحة، ومذكور بسلاطة، ومعتاد للبهت، وجار على الكذب.
وأول ذلك أنك تدّعي بنوّة محمد بن زكريا (2) من ناحية ابنته،
__________
(1) تخونتني: تعهدتني.
(2) محمد بن زكريا الرازي الطبيب الفيلسوف المشهور. أدركه ابن العميد، وهو الذي أظهر كتابه الحاوي في الطب، طلب مسودته من أخت أبي بكر الرازي، ودفع فيها دنانير كثيرة، ثم جمع تلاميذ أبي بكر الأطباء الذين(1/439)
وقد شاهدت محمدا وما خلّف بنتا، ولا ولدت بنت لم تكن له ابنا، ولو كانت له بنت وولدت ابنا لم يكن أنت، ذاك للغوائل المجموعة فيك، والعيوب المتناثرة عليك.
ولم تكن العلّة التي رجعت إليك في تدبيرها صرعا ولا صداعا (1)، ولا جنونا ولا جذاما، ولا صمما، ولا بكما، ولا فالجا، ولا لقوة، ولا سكتة، ولا زمانة، ولا شللا، ولا أدرة، ولا علّة لا يقوم ببرئها إلا المسيح الذي هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم (2) ابنة عمران التي أحصنت فرجها (3) ولم تحتج في مداواتي إلى الرّقى والتمائم، ولا إلى النّفق في الأرض، أو إلى الطّيران في السّكاك (4)، ولا إلى يد بيضاء كيد موسى ابن عمران (5)، ولا إلى عصا موسى (6)، ولا إلى قميص يوسف (7)، ولا
__________
كانوا بالريّ فرتبوا الكتاب على صورته التي هو عليها الآن، وأخرجوه لأهل العلم. انظر عيون الأنباء 1/ 321309.
(1) فى الأصل: «صعداما».
(2) الإشارة إلى الآية 171من سورة النساء.
(3) الآية 12من سورة التحريم.
(4) السكاك: السماء، والجوّ بين السماء والأرض.
(5) الآيات 22من سورة طه، 12من سورة النحل، 32من سورة القصص.
(6) الآيات 107من سورة الأعراف، 32، 45من سورة الشعراء.
(7) الآية 93من سورة يوسف.(1/440)
إلى عرش بلقيس، ولا إلى لوح من سفينة نوح، ولا إلى فلذة من كبش إبراهيم الذي فدى الله به ابنه إسحق (1)، كما قال الله تعالى:
{«وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [2]»، ولا إلى الصّدفة التي فيها الدّرة اليتيمة، ولا إلى شطبة (3) من سنام ناقة صالح (4)، ولا إلى زبرة من زبر الحديد الذي جعل ردما ليأجوج ومأجوج (5)، ولا إلى عسّ من لبن بقرة بني إسرائيل التي ذبحوها وما كادوا يفعلون (6)، ولا إلى أدمغة الطير الآبابيل / التي رمت بحجارة من سجّيل (7)، ولا تربة من {«إِرَمَ ذََاتِ الْعِمََادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهََا فِي الْبِلََادِ} [8]»، ولا إلى قطعة من السّحاب المسخّر
__________
(1) هكذا يروى عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وغيرهم. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما: أنه إسماعيل بن إبراهيم (عم). وانظر مفاتيح الغيب للفخر الرازي 8/ 155.
(2) الآية 107من سورة الصافات.
(3) الشطبة: القطعة من سنام البعير تقطع طولا.
(4) الآيات 77من سورة الأعراف، 65من سورة هود، 157من سورة الشعراء، 14من سورة الشمس.
(5) الآيات 9794من سورة الكهف.
(6) الآيات 7167من سورة البقرة.
(7) الآيتان 3، 4من سورة الفيل.
(8) الآية 8من سورة الفجر.(1/441)
{بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (1)، ولا إلى لمعة من البرق الذي يخطف الأبصار (2)، ولا إلى مثقال من صوت الرّعد الذي يسبّح بحمده تعالى (3)، ولا إلى ذرّة من الشمس التي جعلت ضياء (4) للعالمين، ولا إلى قبضة من القمر الذي جعل نورا (5) لأهل الخافقين، ولا إلى صبغ من الأصباغ التي تظهر في قوس قزح غبّ الأنداء المتّصلة، ولا إلى مثقال من السّراب الذي يحسبه الظمآن ماء (6)، ولا إلى شيء من شحم الذئب الذي لم يأكل يوسف، ولا إلى ناب الكلب الذي كان باسطا ذراعيه بالوصيد الذي لو اطّلعت عليه لولّيت منه فرارا ولملئت منه رعبا (7)، ولا إلى الكبريت الأحمر، ولا إلى المومياي (8) الأبيض الذي لا يوجد، ولا إلى
__________
(1) الآية 164من سورة البقرة.
(2) الآية 20من سورة البقرة.
(3) الآية 13من سورة الرعد.
(54) الآية 5من سورة يونس.
(6) الآية 39من سورة النور.
(7) اقتباس من الآيتين 17، 18من سورة الكهف.
(8) ذكر البيروني في كتاب الجماهر 204أن «المومياي» ذكر في كتاب الآيين (وهو كتاب مشهور لبني ساسان) ضمن الأدوية التي كانت في خزانة الأكاسرة، مبذولة لمن لا يقدر عليها من المضطرين.(1/442)
حيلة بلنياس (1) ولا إلى قطرات من ماء الحيوان تعجن به هذه الأدوية، ولا إلى منخل تنخل به، من ذنب شعر حمار عزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه (2)، فتنخل به العقاقير، ولا إلى مرارة العنقاء المغرب (3)
التي لم تر قطّ، ولا إلى مخّ البعوض، ولا إلى بيض الأنوق (4)، ولم تحتج في تدبير علّتي وجميع أدويتي إلى نهار لا ليل بعده، ولا إلى ليل لا نهار
__________
(1) كذا ورد في كتاب النخب لجابر بن حيان 30ب (نسخة خاصة)، وفي الفهرست 448ومروج الذهب 2/ 29وكتاب النخب لجابر 29، 29ب، 30: «بليناس».
ويشعر قول ابن النديم: «من أهل طوانة» بأنه نسبة إلى بلده التي ولد فيها والتي تقع في سفوح جبال طوروس الشمالية بتركيا، وتسمى الآن (). انظر معجم البلدان (طوانة)، 630، 63 .. ،.
304، 33 ..
وسماه المسعودي في المروج 4/ 94بلنيوس، وابن العبري في مختصر الدول 118أفولونيوس الطلسماطيقي. وانظر عيون الأنباء 1/ 73، والقانون المسعودي 1/ 195.
(2) الآية 259من سورة البقرة.
(3) ويقال عنقاء مغرب، وهو طائر معروف الاسم مجهول الجسم.
(4) الأنوق: العقاب أو الرخمة. وعز بيضه لأنه لا يظفر به لبعد أو كاره.
مجمع الأمثال 1/ 330، تاج العروس (أنق).(1/443)
بعده، ولا إلى نهار مولج في ليل، ولا إلى ليل مولج في نهار، ولا إلى زمان يخرج من أن يكون ربيعا أو صيفا أو شتاء أو خريفا.
ولو ظننت أنّ هذه كلّها أو بعضها تلزمك (1) أو تدخل في تكلّفك لآثرت الموت على العافية فإن في الموت خلاصا منك، ومفارقة لمثلك، ووالله ما أندب إلا حسن ظنّي بك، ومباهاتي أهل مجلسي بفضلك، وقولي: أبو دلف وما أدراك ما أبو دلف! لا تنظروا إلى هزله، فإنّ وراء ذلك جدّا، وإن أردتم حقيقة ما أقول فافزعوا إليه في حوائجكم فإنكم تجدونه في قضائها قبل إنهائها وهو المرء الذي قد جمع الله له بين المنظر والمخبر، وبين الدّعوى والبيّنة، وبين القول والحجّة، وبين الضّمان والوفاء، وبين الصّداقة والشفقة.
فما زلت أقول هذا أو شبهه، وأصحابي يشيّعون قولي بمثله في الظاهر، ويخالفوننى بعلمهم في الباطن حتّى كان الفلج (2) لهم ساعة هذه لأنّي احتجت إلى علمك فخنت عهدي، وأقبلت عليك فأعرضت عنّي، ووهبت لك كلّي فبخلت ببعضك عليّ
«فيا ربّ مظنون به الخير يخلف»
__________
(1) في الأصل: «يلزمك».
(2) الفلج: الفوز والظفر.(1/444)
ولقد استفدت بمعرفتك تجنّب مثلك ويقال: لم يهلك من مالك من وعظك، ومن أطلعك على خبيئه من خيره وشره، فقد أراحك من طويل الفكر فيه، وكفاك خطر التجربة له والسّلام».
قلت لأبي دلف: ما أجبته عن هذا الكلام؟
قال: عملت في المسوّدة شيئا، ثم لم أجسر على إظهاره، وخفت صولته ونكايته وشرّه وغائلته وممّا قد حدث في رؤساء زمانك أنهم يحقدون على الأتباع، ولا يعرفون حقّهم في الخدمة والطّاعة.
وكنا يوما عند ذي الكفايتين بمدينة السّلام، فجرى حديث (1)
بغداد، فقال ذو الكفايتين: لمّا رجع ابن عبّاد من بغداد، قال له الأستاذ الرئيس نضّر الله وجهه: كيف رأيت بغداد؟
قال: رأيت بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد (2).
وحكى أيضا في هذا اليوم عن أبيه قال: لمّا انصرف أهل خراسان سنة خمس وخمسين (3) وثلاثمائة أمام الغزاة من الريّ، بعد
__________
(1) في الأصل: «ذكر»، وفوقها بنفس الخط «حديث».
(2) القصة في المعاهد 1/ 174، اليتيمة 3/ 137، الوفيات 2/ 74.
(3) انظر الكامل لابن الأثير 8/ 205204 (سنة 355هـ).(1/445)
الحادثة التي جرت ودفع الله حدّها (1)، وأعاد نضارتها (2)، أخذ الرئيس يبني حول دار ركن الدّولة حائطا عظيما.
فقال له عليّ بن القاسم العارض (3): هذا كما يقال: الشّدّ بعد الضّرط.
فقال: هذا أيضا جيّد لئلا تنفلت أخرى.
ورأيت أبا الفتح ذا الكفايتين يسأل أبا الحسن العامريّ (4): لم طلبت النّفس الفرق بين المتشابهين؟
فقال العامريّ: لأنها في جوهرها، وما هو لائق بها تأبى الكثرة وتنفر منها، وهي تحنّ إلى الوحدة بسوسها (5)، وتنزع نحوها وتتقّبل (6) كلّ ما أعانها على ذلك، ويذلّل الطريق لها والفرق يوضّح
__________
(1) حدها: بأسها. وفي وفيات الأعيان (2/ 7978): التي جرت هناك، وهي واقعة مشهورة دفع الله شرها، شرع الرئيس».
(2) نضارتها: بهجتها. وفي الأصل: «بصارمها؟؟؟». فإن صحّت قراءتنا كان الضمير للري.
(3) الوفيات: «فقال له عارض الجيش».
(4) محمد بن يوسف العامري الفيلسوف. وقد مرّت ترجمته.
(5) السوس: الطبع والسجية.
(6) في الأصل: «وتنقيل؟؟؟».(1/446)
سبيل الوحدة. وكلّما (1) كان الاشتباه أشدّ كان الفرق ألطف. وكلّما كان الفرق ألطف كانت أشدّ بحثا عنه وألهج بطلبه لأن ظفرها به يكون أعزّ، ونيلها مطلوبها يكون أحلى.
وقال أبو الفتح يوما آخر لابن فارس المعلّم:
لم قال الجاحظ: «فإنّ الكلام قد يكون في لفظ الجدّ ومعناه الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه الجدّ»؟
فلم يقل شيئا.
فقال أبو الفتح: قد صدق أبو عثمان، هذه خاصّة مذاهب العرب، ولكن لم عرض هذا في أخبارها، وأدنى ما فيه أن يدلّ على وضع الشيء في غير موضعه؟
فلم يحر (2) أحد شيئا.
فقال هو: إنّ إفراز / الجدّ من الهزل، وتمييز الهزل من الجدّ حتّى لا يؤتى بهذا في هذا، ولا بهذا في هذا لنوع من الخطر على المتكلّم البليغ والقائل البيّن، ولو جرى على ذلك كان الاقتدار يبطل الحدّ الملزوم، والسّعة تضيّق الغاية المبلوغة.
__________
(1) في الأصل: «وكل ما».
(2) لم يحر: لم يرجع ولم يجب.(1/447)
ولمّا كان البيان لا يكون بيانا، والبلاغة لا تصير بلاغة إلّا بأن يكون المتكلّم آخذا في كلّ واد، قادحا بكلّ زناد، مستظهرا بكلّ عتاد، وجب أن يدخل الهزل في الجدّ إمتاعا واستمتاعا، ويدخل الجدّ في الهزل اقتدارا واتّساعا.
قال ابن فارس: وأيّ خصوصية تكون في هذا، ونحن بالفارسية نرى هذا المذهب، ولعلّ سائر اللغات على ذلك؟
فقال: القول كما قلت، ولكن أين مزية بيان العرب على جميع ما لأصناف العجم؟
ثم قال: إن الغرض الأول في الكلام الإفادة، وجلّ الأمم على هذا.
والثّاني تحسين الإفادة، ثم التّحسين تارة يكون بمعاني التّوكيد، وتارة يكون بمعاني الحذف، وتارة يكون بوزن اللّفظ، وبتعديل الوزن، وبتسهيل المطالع، وبتبديل المقاطع وهذه الأنواع وغيرها ممّا يطول إحصاؤه وهو للعرب خاصّة، ولباقي الأمم عامّة.
ثم قال: وقد اشتمل القرآن على هذا كلّه، وعلى ضروب أخر لم تكن في عادة القوم فاشية ولا كثيرة، ولكن كالشيء البديع، ألا ترى أنّك لا تجد شوافع هذه المعاني التي في الكتاب غريبة في منثور كلامهم ولا في منظومه؟ وأنت تعلم أنّهم كانوا لا يسكتون،
وكان ولوعهم بالكلام أشدّ من ولوعهم بكلّ شيء، وكلّ ولوع كان لهم بعد الكلام فإنّما كان بالكلام.(1/448)
ثم قال: وقد اشتمل القرآن على هذا كلّه، وعلى ضروب أخر لم تكن في عادة القوم فاشية ولا كثيرة، ولكن كالشيء البديع، ألا ترى أنّك لا تجد شوافع هذه المعاني التي في الكتاب غريبة في منثور كلامهم ولا في منظومه؟ وأنت تعلم أنّهم كانوا لا يسكتون،
وكان ولوعهم بالكلام أشدّ من ولوعهم بكلّ شيء، وكلّ ولوع كان لهم بعد الكلام فإنّما كان بالكلام.
فهل تجد معنى قوله تعالى في الإبانة عن التّوحيد: {«مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ، وَلَعَلََا} [1] بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ (2)» في شيء من كلام.
وكذلك أيضا لا تجد ما يشبه قوله عزّ وجلّ: {«لَوْ كََانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمََا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا»} (3).
وكذاك أيضا لا تجد ما يقارب قوله: {«لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [4]».
وكذلك لا تجد ما يداني قوله: {«وَمََا نُنَزِّلُهُ إِلََّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [5]»، أو قوله: {«وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً بِقَدَرٍ} [6]». ثم تدبّر قوله: {«أَنََّا}
__________
(1) في الأصل: «ولعلي»، تصحيف.
(2) سورة «المؤمنون» 91.
(3) سورة الإسراء 42.
(4) سورة الأنبياء 22.
(5) سورة الحجر 21.
(6) سورة «المؤمنون» 18.(1/449)
{صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا} [1]»، وقال: {«ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [2]»، وقال: {«فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا} [2]»، وقال: {«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ} [3]»، وقال: {«وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [4]»، وقال: {«وَضَرَبَ لَنََا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ}، قال: {مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، قل: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [5]»، وقال: {«الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نََاراً فَإِذََا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [6]» وقال: {«يََا أَيُّهَا} [7] النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحََامِ مََا نَشََاءُ
__________
(1) سورة عبس 26. وفي الأصل: «إنا شققنا الأرض شقا، وقال:
{صَبَبْنَا الْمََاءَ صَبًّا»}، ونظم الآية كما أثبتنا.
(2) سورة الرعد 17.
(3) سورة البقرة 164.
(4) سورة الجاثية 4.
(5) سورة يس 78، 79.
(6) سورة يس 80.
(7) في الأصل: «أيها».(1/450)
{إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ} [1]
مَنْ يُتَوَفََّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلََا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، وَتَرَى الْأَرْضَ هََامِدَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (2)، وقال: {«وَمِنْ آيََاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خََاشِعَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ»} (3).
وقال: {«إِنَّ الَّذِي أَحْيََاهََا لَمُحْيِ الْمَوْتى ََ إِنَّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»} (4).
ثم قال: وهذا سبك بديع، وأسلوب معجز ولو كانت العرب نغمت بهذه المعاني بعبارات دون عباراتها، أو حلمت (5) بهذه العبارات بمعان دون معانيها، لكنّا نقف ونترجّح (6)، ونرتاب ونضطرب، فأما وشيء لا يصاب لهم، لا على وجه التّشبيه ولا على التّحقيق فماذا يبقى؟
ثم هب أنّهم كانوا مصروفين عنها في الأول وهم لا يأبهون لها، هلّا تصرّفوا فيها في الثاني وقد تحدّوا بها؟ إنّ هذا لواضح.
__________
(1) فى الأصل: «فمنكم»
(2) سورة الحج 5.
(3) سورة فصلت 39.
(4) سورة فصلت 39.
(5) كذا.
(6) نترجح: نتردد.(1/451)
وكان مع شبابه وكثرة أشغاله مليئا (1) بهذا الفنّ، ولقن أكثره من معلّمه ابن فارس فإنّه كان قد ذلّل هذا وأشباهه له، وكان ينتصب للنّاس في جامع الريّ، ويفسّر القرآن، ويتكلّم على وجوهه ونظائره وتأويلاته، وزاد هو أيضا أعني أبا الفتح بقوّته كشفا لغامضها، وإبانة لما خفي منها: وكان على كلّ حال أمثل طريقة من والده أبي الفضل الذي سمع ينشد هازئا:
ومدّع يدّعي بالسّيف حجته ... ما حجّة السّيف إلا حجّة البطل (2)
وينشد:
لعن الله ذا العصا فلقد كا ... نت لقفل النّاموس كالمفتاح (3)
/ وهذا كلّه دليل على سوء الضّمير، وخبث العقيدة، وشدّة المجاهرة.
قال أبو الفتح يوما لأبي سليمان: قال أبو عثمان في رسالته في
__________
(1) مليئا بالهمز: غنيا مقتدرا، وفي الأصل: «مليا».
(2) البيت في رأي أبي حيان نقد للنبي عليه السلام، ولفكرة الجهاد في الإسلام. ومن هنا كان دالّا على خبث العقيدة.
(3) ذو العصا هو موسى عليه السلام.(1/452)
«التّربيع والتّدوير (1)» إلى ابن عبد الوهاب: «لم صرنا نتذكر الشيء المهمّ فلا نقدر عليه (2) حتّى ندعه يأسا منه أجمع ما نكون نفسا وأحسن ما نكون تدبّرا، ثم يعارضنا ويخطر على بالنا في حال شغل أو حال نوم، وأسهى (3) ما نكون عنه وأقل ما نكون احتفالا به». وأنا أحبّ أن أسمع من الشّيخ فيه قولا.
فقال أبو سليمان: ليست النّفس على قدر إرادة الإنسان منها، بل الإنسان على قدر مراد النّفس لأن النفس هي مالكته ومدبّرته ومقوّمته ومتمّمته ومحرّكته: فلو كان الإنسان إذا أراد إذكارها أذكرها، وإذا أراد إنساءها أنساها، كانت النفس تحت ملكة الإنسان وجارية على إرادته، ومتصرّفة بتصريفه وإرادته، إنما هي (4) منها ويقوم هو بها، وكما له من جهتها، وتمامه من معونتها.
فلهذه الحال قد يتذكرّ الشيء فلا يجد من النفس إجابة له في ذكر
__________
(1) الصفحة 79 (طبع المعهد الفرنسي بدمشق سنة 1955م).
(2) يعني فلا نقدر على تذكره.
(3) في رسالة التربيع: «نوم أغنى ما».
(4) «هي» أي الإرادة، وباقي الضمائر التالية المؤنثة للنفس، والمذكّرة للإنسان.(1/453)
ذلك الشيء، وقد يسهو (1) عن ذلك الشيء فيلقى عليه أغفل ما يكون عنه لأنّه موجود عندها عتيد (2) قبلها، وإنما يكون هذا منها في الفينة بعد الفينة ولو لم يتذكر الإنسان شيئا جملة، لكانت نفسه الناطقة مغمورة، ولو تذكّر كلّما شاء لكان قد صفا كلّ الصّفاء، فلمّا وقف بين هاتين المنزلتين تذكّر مرة فذكر، وسها مّرة فحصر.
وطال كلامه في حديث النّفس، واتّسع في فنون منه.
فلمّا انتهى قال له أبو الفتح: عين الله عليك أيها الشّيخ! أنت كما قال الأحوص (3):
إني إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان
__________
(1) في الأصل: «يسهوا».
(2) عتيد: حاضر.
(3) يقال إن اسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري، ويكنى أبا عاصم، شاعر أموي من شعراء المدينة. الشعراء 499، اللآلي 73، الجمحي 137، الأغاني 4/ 40، المؤتلف 47، الخزانة 1/ 231، العيني 1/ 107، 3/ 132، الإصابة 4347.
والأبيات يقولها عند ما عوقب وشهر به في المدينة، وهي في الأغاني 1/ 108، 3/ 132، والخزانة 1/ 233، وفي شرحي الحماسة للمرزوقي 222 223والتبريزي 1/ 120، والأمالي 2/ 3. والأول والثالث في الشعراء، باختلاف في ترتيبهما وفي بعض كلماتهما عما عند أبي حيان هنا.(1/454)
إنّي على ما قد علمت محسّد ... أنمي على البغضاء والشنآن
ما تعتريني من خطوب ملمّة ... إلا تشرّفني وترفع شاني
فإذا تزول تزول عن متخمّط (1) ... تخشى بوادره لدى الأقران (2)
فلله درّك ودرّ زمان أنت من أهله.
فقال أبو سليمان:
سعادة ذي الكفايتين هي التي نعشتني عنده، وهيّأت وصفي على لسانه، وزوّدتني فخرا بخدمته، وأبقت ذكري منوّها بذكره ولقد كنت غضيض الطرف حتى رأيته، كليل اللّسان حتّى وصفته، مبخوس الحظ حتّى عرفته، خامل الذكر حتّى خدمته. وإن فسح الله في المدّة فسأستقبل خلق العيش جديدا، وألحق مفقود المنى موجودا.
وحدثني الخليليّ (3) قال:
أوّل ما عيب على هذا الفتى أنّه بعد موت أبيه أبي الفضل، أمر
__________
(1) متخمط: شديد الغضب ثائر.
(2) البوادر: جمع بادرة، وهي ما يبدر عن حدة الغضب، فيسبق ما كان يقتضيه الحلم.
(3) في الأصل: «الخليل».(1/455)
بأن ينقل المطبخ إلى دار النّساء، فقال الناس: الحمد لله، صار الطعام حرا والخبز عورة، والقدر والغضار (1) حرمة (2).
والله ما أراد بهذا إلا أن يصان الخبز كما تصان ذوات الخمر وصواحب المقانع (3)، وإنّ هذه لغيرة وضعت في غير موضعها. ثم أنشد لدعبل قوله (4):
صدّق أليّته إن (5) قال مجتهدا
«إي (6) والرّغيف» فذاك البرّ من (7) قسمه
وإن هممت به فافتك بخبزته ... فإن موقعها من لحمه ودمه
__________
(1) الغضار: آنية من الخزف الذي يسمى الغضار. وأصل الغضار الطين الأخضر الحر، ثم قيل للصفحة التي تتخذ منه.
(2) حرمة الرجل: حرمه وأهله.
(3) جمع مقنعة، وهي ما تغطي به المرأة رأسها.
(4) هكذا النسبة لدعبل في عيون الأخبار 2/ 36. وفى ديوان المعاني 1/ 185، ونهاية الأرب 2/ 313أنها لأبي تمام والأول والثاني منها في ديوانه (الهجاء حرف الميم) يهجو عياش بن لهيعة (أخبار أبي تمام 125).
ووردت في عيون الأخبار 3/ 246، والعقد 6/ 190غير منسوبة.
(5) في حاشية الأصل عن نسخة: «قد كان يحزنني أن».
(6) رواية مراجع الأبيات: «لا والرغيف».
(7) البرّ بالفتح: الصادق.(1/456)
ما كان أحسنه لو أن غيرته ... على جراذقه كانت على حرمه (1)
قال الخليليّ:
كنت واقفا في صحن داره خلف شجرة كبيرة، والزمان قيظ، والهاجرة محتدمة، وهو أيضا واقف تجاه تلك الشجرة لا يلحقني طرفه.
فقال لخادم بين يديه: قد جعت فأصلحوا الطّعام، وصيحوا بهؤلاء الأكلة الطّغام (2).
قال: فنزّت (3) في نفسي أنفة سدّت ما بيني وبين السماء، فرجعت القهقرى ألقط قدمي حتّى صرت إلى الباب، وفتّ إلى المنزل وطلبت فاحتجبت، ثم طلبت فاحتجبت، وقلت: سقطت من عالي السّطح، وانكسرت ساقي وبقيت على هذه التّعلّة حتى فرّج الله بالقبض عليه.
قال:
وهذا عرق كان ينبض فيه من أبيه فإن أباه كان غاليا (4) في هذا الخلق، وكان يكابد من ستر هذا الداء على نفسه أمرا عسيرا. ولقد
__________
(1) حرم الرجل: عياله ونساؤه.
(2) الطغام: الأرذال.
(3) نزت: جرت.
(4) فى الأصل: «كان عاليا».(1/457)
حضر ابن (1) بندار يوما، وكان يأكل معه (2)، فنظر إلى غضارة (3)
قد ملئت ثريدا فأنشد (4):
ثريد كأنّ السّمن في حجراته (5) ... نجوم الثّريا أو عيون الضّياون (6)
فقال: أفّ، لعن الله قائله!
فقال ابن بندار: قائله حسّان بن ثابت (7)، والنبيّ عليه السلام لا يرضى بلعن من يقول له حاضّا على جواب المشركين: «قل ومعك روح القدس» (8). فسكت خزيان.
وكان ينجم من قلبه في الوقت بعد الوقت بغض العرب والأكلة
__________
(1) في الأصل: «بن».
(2) يعني: مع أبي الفضل ابن العميد.
(3) الغضارة: الطين الحر، والمراد هنا: الصفحة المتخذة منه.
(4) البيت في كتاب الحيوان للجاحظ 5/ 329منسوبا لحسان وهو فى اللسان الخ.
(5) حجراته بفتح الحاء والجيم: نواحيه، واحدتها حجرة.
(6) الضيون: السنور، والجمع: الضياون.
(7) في الأصل: «ابن ثابت»، ومرت ترجمة حسان.
(8) صيغة الحديث حسب رواية أحمد في المسند 2/ 298: «اهج المشركين فإن روح القدس معك». وانظر فتح الباري 7/ 321، 10/ 353.(1/458)
أنشد يوما بيتا، وقال: أحبّ أن أعلم ما يريد الأعرابيّ بقوله:
ترى ودك السّديف على لحاهم ... كلون الرّاء لبّده الصّقيع (1)
قال: وما انتصف منه أحد كأبي العباس ابن بندار: فإنه جرى ليلة حديث العرب والقبائل والأنساب. فقال أبو الفضل: أسد (2)
/ عرق وشيج (3) وحارك (4) ونشيج (5) وطراز (6) نسيج، فقال ابن بندار:
إذا أسديّ جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله (7)
__________
(1) السديف: لحم السنام، والراء: شجر سهلي له ثمر أبيض، وزبد البحر (ل: رأو).
والبيت في البيان والتبيين 2/ 313غير منسوب. وفي الأصل: «الدار» تصحيف.
(2) يعني قبيلة أسد المشهورة.
(3) العرق: أصل كل شيء. والوشيج من النسب: الذى التفّت قراباته وتداخلت وتشابكت.
(4) الحارك أعلى الكاهل من الفرس، ومنبت أدنى العرف إلى الظهر الذي يأخذ به الفارس إذا ركب. ويقرن الحارك بالمنسج، وهو ما تحت القربوس.
(5) نشيج، هكذا في الأصل بالشين المعجمة والجيم، وكأنه «ومنسج» وهو مسيل الماء.
(6) الطراز: العلم، والموضع الذي تنسج فيه الثياب الجيدة. والنسيج:
المنسوج المنظم.
(7) البيت للفرزدق، وهو في كتاب البخلاء 216، وعيون الأخبار 3/ 212. وكانت بنو أسد تعير بأكل الكلاب.(1/459)
فتغافل أبو الفضل كأنه لم يسمع، وكان حليما حمولا (1) لئيما ذلولا (2).
وقال: أحدثك من حلمه بأعجب من هذا: كنّا بأذربيجان (3)
لما افتتحناها لإبراهيم بن المرزبان وقرّرناها في يده اتفق أنّ ظفرنا هناك بطبيب نصرانيّ بغداديّ حسن الحذق، بارع الصناعة، مشهود له بصواب الرأي وجودة التّدبير، فأدناه أبو الفضل ورضي هديه، وحمد قوله ورأيه، وكان يخصّه بالبرّ والتحفة فكان من أمره أن أبا الفضل شرب غداتئذ قدحا من شراب الرّمان، فبقّى في أسفل القدح قليلا، ومدّ يده إلى الطّبيب يناوله، تكرمة له، ويقول له: اشرب هذه البقية.
فقال له الطبيب: «نهى نبيّكم عن سؤر الكلب»، وأمسك عن القدح.
فاصفّر وجه أبي الفضل، ولم ينطق بكلمة، ولا أساء إليه، ولا اعتذر ذاك من فرطته.
__________
(1) كأنه من: حمل الحقد إذا أكنه في نفسه.
(2) الذلول: الضعيف.
(3) معجم البلدان 1/ 159وما بعدها.(1/460)
ولتدافع الحديث ما أخرج من ذكر هذا إلى شأن ذاك. ولقد اضطرب عليّ نسج (1) الرسالة على مذهب المصنّفين، ولكنّ عذري بيّن، لأني نقلت ما نقلت في وقت صعب وحال عوراء.
سألت العتّابيّ، شيخا من أهل أصفهان كان صحب ابن عبّاد في أيام الحداثة، عن ترك ابن عبّاد الشّراب.
فقال: والله ما ترك ما ترك لله. ولكن تركه لأنه كان إذا سكر افتضح ودعا إلى الفجور به، ولما فشا هذا وقبحت القالة هجره، وأظهر ذلك لتقوى الله، أو لوجه الله تعالى.
ورأيت ابن عبّاد يوما يقول لابن أبي هشام: لا تقل حرجت نفسه، إنما الحرج للصّدر قال الله تعالى: {«فَلََا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [2]».
فقال له: فأين أنت من قول الله تعالى (3): {«ثُمَّ لََا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمََّا قَضَيْتَ} [4]». فعرق جبينه خجلا وكان ذاك سبب إعراضه عن هذا الشّيخ، وانقلابه عنه بالحرمان.
__________
(1) فى الأصل: «على نسخ».
(2) سورة الأعراف 2.
(3) فى الأصل: «فأين أنت عن قول الله».
(4) سورة النساء 65.(1/461)
وقال لي العتّابي: كان هذا، يعني ابن عبّاد يقال له في المكتب:
ديوجه (1)، قال: وتفسيره شيطان (2) صغير.
وقال لي ابن الرّازي: كلّمته في شيء يوما، وقلت في عرض الكلام:
«وكان ذلك لانطلاق لسانه»، فقال له: «اخسأ، الانطلاق في الشيء، والطّلاقة في اللّسان».
قال: فقلت له: ما تصنع بقول الأوّل وهو يزيد بن الصّعق (3)
يخاطب النّابغة الذّبياني:
وأىّ الناس أغدر (4) من شآم (5) ... له صردان (6) منطلق اللسان (7)
__________
(1)، وفي الأصل: ذيوجه بالذال المعجمة.
(2) في الحاشية عن نسخة: «مجنون» بدل «شيطان».
(3) يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي. الخزانة 1/ 207206، الاشتقاق 181، النقائض 302، 587، 932، 1079.
والبيت في ديوان النابغة بشرح البطليوسي 78، والمعاني لابن قتيبة 823، واللسان والتاج (صرد).
(4) رواية اللسان والتاج: «أعذر».
(5) إنما قال «من شآم»، لأن النابغة كان بالشام.
(6) الصردان: عرقان أخضران أسفل اللسان.
(7) في حاشية الأصل: «الرواية الصحيحة: منطلق بالنصب يريد به الظرف»، أي موضع انطلاق اللسان. ورواية اللسان: «منطلقا اللسان» بكسر اللام، أي دربان.(1/462)
قال: فخمد وحقد (1).
هكذا قال بفتح القاف، وكان فصيحا.
وقال (2) يوما في المجلس، وهو يحدّث عن رجل أعطاه شيئا فتلكّأ في قبوله:
«ولا بدّ من شيء يعين على الدّهر»
ثم قال: قد سألت جماعة عن صدر هذا البيت فما كان عندها (3)
ذاك. فقلت: أنا أحفظ ذاك.
فنظر [إليّ] (4) بغضب وقال: فما (5) هو؟
قلت: قد نسيته (6).
قال: ما أسرع ذكرك من نسيانك.
قلت: ذكرته والحال سليمة، فلما حالت عن سلامتها (7) نسيت.
__________
(1) في اللسان: «حقد، وحقد معا».
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 395.
(3) في الإرشاد: «عندهم ذلك».
(4) عن الإرشاد.
(5) في الإرشاد: «فقال: ما هو».
(6) في الإرشاد: «نسيت».
(7) في الإرشاد: «فلما استحال عن السلامة».(1/463)
قال: وما حيلولتها؟
قلت: نظر الصّاحب بغضب، فوجب في حسن الأدب أن لا يقال ما يثير الغضب.
فقال: ومن تكون حتى يغضب عليك؟ دع هذا وهات!
قلت: قال الشاعر:
ألام على أخذ القليل وإنّما ... أصادف أقواما أقلّ من الذرّ
فإن أنا لم آخذ قليلا حرمته ... ولا بدّ من شيء يعين على الدّهر
فسكت.
وكان (1) ابن عبّاد ورد إلى الريّ سنة ثمان وخمسين مع مؤيّد الدولة (2)، وحضر مجلس ابن العميد أبي الفضل، وجرى بينه وبين مسكويه كلام، ووقع تجاذب.
قال مسكويه: فدعني حتّى أتكلّم، ليس هذا نصفة، إذا أردت أن لا أتكلّم فدع على فمي مخدّة.
فقال له: أنا لا أدع على فمك مخدّة، ولكن أدع فمك على المخدّة.
وطارت النّادرة، ولصقت وشاعت وبقيت.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 300.
(2) مرت ترجمته.(1/464)
فأمّا حديث ابن عبّاد مع أبي عبد الله الحصيري فمن الطرائف كان هذا الحصيريّ من أسقط الناس وأنذلهم، فلما ورد ابن عبّاد الريّ تقرّب إليه، وعرض نفسه عليه، وسأل أن يلقّنه المذهب (1)، فحقره ابن عبّاد، وكان لا يهشّ له.
فجعل الحصيري يقف في الأسواق والشوارع العظام، والمربّعات الكبار، وينادي بصوت جهير ويقول:
ادعوا الله للصّاحب الجليل، إسماعيل الذي ليس له في الدّنيا عديل! ثم يقول بالفارسية: فإنّه قد بسط العدل، وأحيا العلم، وبثّ المكارم، وآوى الغرباء: لا يشرب الخمر، ولا يعفج (2) الغلمان، ولا يخلو (3)
بالمردان، ولا يتقحب بالنّساء (4)، ولا يأخذ الرّشا، ولا يقبل المصانعات نهاره في الملك، وليله في دراسة العلم.
وأشباه هذا الكلام الشّنيع.
وكان المنظر عجيبا، والمسمع أعجب. وكان أهل الرّيّ يقفون
__________
(1) يعني مذهب «الاعتزال».
(2) العفج: فعل قوم لوط، ويكنى به عن الجماع.
(3) في الأصل: «يخلوا».
(4) يتقحب: يفجر وأصل القحاب: السعال، وكان في الجاهلية يؤذن بإرادة الفجور.(1/465)
ويسمعون ويضحكون ويسخرون، والبلد يغلب على أهله النّوادر والعيارة (1).
فلما توالى ذلك منه، نمي إلى ابن عبّاد، وشنّع به على الحصيري، واستؤذن فيه لينهى عنه ويزجر.
فقال: لا تفعلوا فإن باله ينكسر، ونشاطه يذهب، دعوه على شدّته في المذهب وحدّته على أهل الكذب.
/ وكان له آخر يلقّنه المذهب بالفارسية، ويقال (2) له: اجلس في الأسواق عند الباقلّاني (3) وعند الصّيدلانيّ (4)، وعند المرّاق (5)، وعند الهرّاس (6)، واطرح له حسن «العدل والتّوحيد»، وادعه إلى المذهب، ولك مشاهرة تدرّ عليك، وبرّ في كل وقت يصل إليك، ولك الجاه العريض في الوصول إليّ، والخلوة معي وكان يقال لهذا الرجل الفقّاعيّ.
__________
(1) العيارة: النقد واستقصاء العيوب.
(2) كذا بالأصل، وكأن الوجه: «ويقول له».
(3) الباقلاني: بائع الباقلاء.
(4) الصيدلاني: نسبة لمن يبيع الأدوية.
(5) المرّاق: بائع المرق.
(6) الهراس: بائع الهريسه أو صانعها.(1/466)
ورأيت آخر يقال له أبو عليّ الإسكاف، وكان أشفّ من الفقّاعي، على هذا وكان يقال لهؤلاء دعاة الصّاحب، وخاصّة الصّاحب.
واجتهد (1) بالحسين (2) المتكلّم الكلّابي أن ينتقل إلى مذهبه، فتلطّف حسين وقال: أيها الصاحب! دعنى حتّى أكون مشحذا لك، فما بقي غيري، وإن دخلت في المذهب لم يبق بين يديك من تنثو (3)
عليه قبيحه، وتبدي للناس عواره.
فضحك من كلامه وقال قد أعفيناك يا أبا عبد الله، وبعد فما نبخل عليك بنار جهنّم، اصل بها كيف شئت!
قال لنا حسين بعد ذلك: يا قوم! أتراني أصلى بنار جهنم وعقيدتي وسيرتي معروفتان، ويتبوّأ هو الجنة مع قتل الأنفس المحرّمة، وركوب المحظورات العظيمة؟
إنّ ظنّه بنفسه لعجب، والله لو كان من المرجئة (4) لكان مخوفا
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 300.
(2) في الإرشاد «واجتهد بأبي الحسين».
(3) تنثو: تنشر وتذيع، وفي الأصل: «تنثوا».
(4) المرجئة: فرقة إسلامية ترجىء الحكم على مرتكب الكبيرة فلا تحكم عليه بشيء. انظر مقالات الأشعري 1/ 132وما بعدها.(1/467)
عليه، فكيف وهو يدّعي الوعيد (1)، ويخوّف بالتّخليد (2)؟ لحا الله الوقاح.
وقال يوما: ما صدر قول الشاعر (3):
«والمشرب العذب كثير الزّحام»؟
فسكت الجماعة.
فقال: قد والله فشا النّقص، وذهب الحفظ، ومات الأدب.
فقال ابن الرّازيّ: صدره:
«يزدحم الناس على بابه»
فأقبل عليه بغيظ، وقال: ما عرفتك إلا متعجرفا جاهلا، أما كان لك بالجماعة أسوة؟
وسمعته يقول: كان أبو الفضل (4) مطبوعا على معرفة الشّعر، وكان
__________
(1) تقدم القول في الوعد والوعيد ص 153152.
(2) المعنى أن من ارتكب كبيرة ولم يتب فحكم الله فيه أن يخلد في النار.
وهذا مذهب المعتزلة.
(3) القصة في الإرشاد 2/ 301300، ونسب البيت في محاضرات الراغب 1/ 242لبشار (؟)، وورد غفلا في المختار من شعر بشار 95، وعيون الأخبار 1/ 90، ومحاضرات الراغب 1/ 256، وديوان المعاني 2/ 244.
(4) يعني أبا الفضل ابن العميد.(1/468)
لا يخفى عليه جيده من رديّه، وكان يعجب بقول الشّاعر (1):
وجاءت إلى باب من السّجف بيننا ... مجاف وقد قامت عليه الولائد
لتسمع شعري وهو يقرع قلبها ... بوحي (2) تؤدّيه إليها القصائد
إذا سمعت معنى لطيفا تنفّست ... له نفسا تنقدّ منه القلائد
ثم قال: هذا والله القول، وأنا أعجب بقول الآخر حين يقول:
ما زلت أهواك سؤل قلبي ... ما دمت بين الأنام حيّا
وكيف يسلو (3) هواك قلب ... سقيته من هواك ريّا
أولى لك الله ثم أولى ... أما خشيت العقاب فيّا
جئت إلينا بغير وعد ... يا حبّ من زارنا بديّا
حتّى إذا ما ملكت قلبي ... وازددت حسنا نعم وزيّا
نفرت نفر الظباء عنّا ... فصار من دونك الثّريّا
__________
(1) الأبيات في الوفيات 2/ 77برواية: «وجاءت إلى ستر على الباب
تخاف».
(2) في الأصل: «ثوحي».
(3) في الأصل: «يسلوا».(1/469)
وسنوسّع هذه الرسالة بعد هذا التطويل ببعض ما يكون حجة أو عذرا، وإن اعترض حديث سقناه على غرّه (1)، وعرضناه على حلوه ومرّه، ولولا أن الفائدة أبقاك الله في سماع هذه الأشياء ومعرفة هذه الأحوال أضعاف الفائدة في الإضراب عنها، لكان السكوت ممكنا، والإمساك مستطاعا، والسّلم واقعا، والإعفاء سهلا ولكنّ الخيرة لا تقع، واليقظة لا تحدث، والتجربة لا تستحكم، والطّبع لا يرتاض حتّى تتصفّح الأمور، وتتعقّب الدّهور، وتأخذ نصيبك من الاعتبار، وتبعث همتك على محمود الاختيار والشّاعر يقول:
ومن يطل عيشه لا تلقه غمرا ... وفي الحوادث والأيّام تجريب
وقال آخر (2):
أخو خمسين مجتمع (3) أشدّي ... ونجّذّني مداورة الشّؤون (4)
__________
(1) الغرّ، بفتح الغين: التثني في الثوب والجلد والكتاب وغيرها.
والمعنى: سقنا الحديث على ما فيه.
(2) هو سحيم بن وثيل الرياحي. والبيت في الأصمعيات 1/ 6، واللسان (نجذ).
(3) الأصمعيات: «مجتمعا».
(4) نجذني: حنكني وعرفني الأشياء. ومداورة الشؤون: معالجة الأمور.(1/470)
وقال الآخر (1):
ألم تر ما لا قيت والدهر أعصر ... ومن يتملّ العيش (2) يرأ ويسمع (3)
وقال لي بعض أصحابنا حين وقف على جرامة (4) هذا الكلام:
قد كشفت طائفتين كبيرتين، وحملتهما على عداوتك والإرصاد لك، يعني المتكلّمين والمتفلسفين فإنّ هذه لا تصبر لك على ثلبك ابن عبّاد.
وهذه لا تسكت عنك في نيلك من ابن العميد.
فقلت له: متى كان الخصم منصفا، وكان مدلا بالحق متوقّفا، فإن القول معه يسهل، والجدال يخفّ، والحديث يفيد وهل أنا إلا كمن قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديث (5): يا رسول الله:
رضيت فقلت أحسن ما عرفت، وغضبت فقلت أقبح ما عرفت. فلم ينكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأنا أروي لك القصّة لتكون الفائدة أظهر، والحجة أنور.
__________
(1) هو الأعلم بن جرادة السعدي. والبيت في أمالي الزجاجي 47غير منسوب، وفي اللسان (رأى).
(2) رواية اللسان: «ألم ترأ يتمل الدهر يرأى ويسمع.
(3) الرفع في «يسمع» على الاستئناف، لأن القصيدة مرفوعة.
(4) في الأصل: «حرامة». والجرامه هنا: القطعة
(5) مر الحديث ومراجع القصة.(1/471)
قال عمرو بن الأهتم للزّبرقان، حين قال له النبيّ عليه السّلام:
ما علّمك فيه؟
قال: أعلم أنه قد نجمت له مروّة، وأنه مطاع في قومه، وأنه مانع لما وراء ظهره.
فقال الزّبرقان: أما والله لقد ترك ما هو أفضل من هذا
فقال عمرو: أما إذ قال ما قال فهو ما علمت أحمق الأب، لئيم الخال، زمر (1) المروّة، حديث الغنى ولقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الأخرى.
وضحك رسول الله صلى الله عليه.
فقال عمرو: يا رسول الله! لقد غضبت فقلت أقبح ما عرفت، ورضيت فقلت أحسن ما عرفت.
فقال النبي صلى الله [عليه]: «إنّ من البيان لسحرا».
فهذا هذا، على ما رواه ابن الأعرابي.
ومن أظلم ممّن طلب من السّاخط ما لا يوجد إلا عند الرّاضي، وطلب من الراضي ما لا يصاب إلا عند السّاخط؟ ومن كان كذلك فقد ردّ الأمور
__________
(1) زمر المروءة: قليل المروءة.(1/472)
على أعقابها، وأتى المطالب من غير أبوابها. ولكلّ واحد من الراضي والسّاخط شاكلة يعمل عليها، وشيمة يظهر بها. على أني ما بهرجت (1)
مذهب المتكلّمين (2)، ولا زيّفت مقالة المتفلسفين. وإنما قلت في أولئك إنّهم ادّعوا «العدل» وعملوا بالجور، وأمروا بالمعروف وركبوا المنكر، ودعوا الناس إلى الله بالقول ونفّروا عنه بالفعل، ولم يرجعوا فيما نصروه وذبّوا عنه إلى ورع ظاهر وتحرّج معروف، ويقين لا خلاج (3)
فيه، كما كان عليه سلفهم وأعلامهم واصل (4)، وعمرو (5)، والحسن (6)
ومن جرى مجراهم.
وهذا ما لا أحتاج إلى الاعتذار منه فإني سمعت الدّيّانين منهم يقولون هذا فيهم، ويرونه من الدّاء الذي قد أعضل عليهم.
__________
(1) بهرجت: أبطلت ورددت.
(2) يعني بالمتكلمين هنا: المعتزلة خاصة، ويدل على هذا قوله الآتي بإثره:
«ادعوا العدل».
(3) لا خلاج فيه: لا شك فيه.
(4) واصل بن عطاء، وتقدم التعريف به.
(5) عمرو بن عبيد، وتقدم أيضا.
(6) الحسن البصري، وتقدم كذلك. وعدّه أبو حيان كما نرى من أعلام المعتزلة، وكذلك فعل ابن النديم في قسم المعتزلة من الفهرست، وهو قسم لا يوجد في الفهرست المطبوعة، وهو صنيع له مبرراته، والحديث عنه مستقصى فيما علقناه على ترجمة الحسن البصري من فهرست ابن النديم.(1/473)
ثم إني ما رأيت أحدا سكت عن أحد من سفهائهم تغافلا عنه أو حصرا (1) له إلا ورأيته يقول ويطنب في ابن عبّاد غير خاش ولا متحاش، لعظم الآفة به على المذهب، وتفاقم الأمر بمكانه على أهله.
وما قولي هذا فيهم إلا كقولك يوم اجتماعنا في مقبرة معروف الكرخي (2) لبعض الشّيعة: لو كنت دائنا بحبّ آل الرّسول معتقدا لشرف العترة (3) راجعا إلى صحّة السّريرة والعقيدة لظهر ذلك في عفّتك وورعك، وصلاتك وصيامك، وحجّك، وعبادتك واجتهادك، وصدقتك ومواساتك مع إحياء اللّيل وإظماء النهار، واقتداء بالذين إياهم تحب، وعنهم تذبّ ولم تكن تقنع من جميع محاسن المذهب بسبّ السلف وتضليل الأمّة، وثلب الصالحين وتكفير السّابقين وتدنيس الطاهرين.
__________
(1) أي إخفاء لعيبه. وكأن المعنى مأخوذ من قولهم «رجل حصر:
كتوم للسر».
(2) معروف بن فيروز، أو الفيرزان أو ابن على الكرخي، أبو محفوظ.
من جلة مشايخ الصوفية وقد مائهم. وقبره ببغداد يتبرك به، ويقال «قبر معروف الترياق المجرب». توفي سنة 200هـ على خلاف، طبقات السلمي 9083.
(3) عترة الرجل: أقرباؤه من ولد وغيره. والمراد هنا عترة النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة.(1/474)
فقولك لهذا الرّجل الشيعيّ هو قولي للمتكلّم إذا كان دعيا، ولم يكن في مذهبه برّا تقيا.
وأما ابن العميد، فمن هذا الذي يتفلسف على بصيرة ومعرفة، وهو يرضى سيرته، ويحمد هديه، ويراه قدوة ويعدّه سعيدا؟
كأنّ الفلسفة إنما تكون بالدّعوى باللسان، من غير عمل ومعاناة ورياضة، وقمع للشهوة إذا غلبت، وردع للنفس إذا طغت، واستصلاح للأمور بالعدل المؤثر فيها، وطلب السعادة والفوز في العاقبة على ما رسمه علماؤها، وحقّقه حكماؤها.
هيهات! ظنّ لا تسافر فيه العين، وقول لا يصبر على لفح الكير (1).
فليت شعري بعد هذا من الخصم الذي يركب البهت (2)، ويدفع العيان، ويسحر العقول، ويطرح الأذهان، ويقول: ليس القول بالعدل والتوحيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا ما هو عليه ابن عباد، ولا الفلسفة إلا ما كان يختاره ابن العميد؟
__________
(1) الكير: الزق الذي ينفخ فيه الحداد. ولفح النار: حرها. وكأنه يعني أن هذا قول لا يثبت للنقد والتجربة.
(2) البهت: الباطل والكذب.(1/475)
هذا ما لا يقوله أحد ممن له عقل ونهى (1)، ولا يجترىء عليه من له حجر وحجا (2)، خاصة إن كان ممن يربّ (3) مروّته بالحق، ويصون كلمته عن الكذب، ويغار على عقله من تعنيف معنّف، ويأنف لنفسه من لومة لائم.
سمعت القاضي أبا حامد المرورّوذيّ (4) يقول، وكان سيد الفقهاء في وقته، وإمام أصحابه في عصره، وعجيب الفضل في جميع أموره:
لو أنّ رجلين ظاهرين زكيا رجلا عند الحاكم، ثم سأل الحاكم آخرين مرضيّين عن ذلك المزكّى بعينه فجرّحاه لكان الحاكم لا يقف ولا يتحيّر ولا يعيا ولا يحصر، ولكنّه يقدّم الجرح على التزكية ويعمل به (5) دونها، ويصير إليه تاركا لها؟
فإن قلت: ما الحكمة في هذا؟
قيل لك: إن اللّذين زكّيا قالا بالظاهر، وربّما يكثر مثله، ويغلب شبيهه، وربما يتكلّف نظيره بالرياء والسّمعة، والنّفاق والخديعة،
__________
(1) النهى: العقل.
(2) الحجر: العقل، والحجا: الفطنة.
(3) يرب: يربيّ.
(4) مرت ترجمة أبي حامد المروروذي.
(5) في الأصل: «بها».(1/476)
والختل والحيلة فلو لم يكن هذا لأمضيت التزكية على ظاهرها، وعملت بها، وسكنت إليها. فأما إذا استظهرت فسألت آخرين مرضيّين عن المزكّى فجرّحاه، فكأنما علما من باطن أمره وخافي حاله وكنه غيبه، ومطويّ شأنه ما توارى عن عرفان من زكاه، وخفي على بحث من عدّله. فكان هذا عندي بالقبول أولى والعمل به أحرى.
هذا ما قاله هذا الرجل العالم، وهلك سنة ثلاث وستين وثلاثمائة (1).
وابن عبّاد حفظك الله ليس بصغير القدر، وابن العميد لم يكن خامل الذكر، وما فيهما إلا من هو غرة زمانه، وتاريخ دهره، لنباهته وصيته، وطول أيامه وامتداد دولته، ومواتاة مراده، وطاعة الناس له، وتوجه الأطماع إليه فكيف يجزّف (2) الحديث عنهما مجزّف، ويلزق الكذب بهما ملزق، أو يدّعي الباطل عليهما مدّع؟
هذا ما لا يطمع فيه حصيف (3)، ولا يعمل عليه عاقل ولكنّ حديث الدّين والكرم والعقل والمجد والسّيرة والهدى والجود والبذل،
__________
(1) في طبقات السبكي 2/ 183أنه توفي سنة 362هـ.
(2) يجزف: يلقي القول جزافا من غير تحرّ.
(3) الحصيف: المحكم الرأي.(1/477)
ليس من حديث الجدّ والفتح (1) والختال والإنفاق (2) والدّولة والسّناء والمرتبة في شيء.
اللهم إلا أن يكون الفضل (3) كلّه عند هذا المخالف في كتاب ينشأ (4) ومعنى يقتضب، وقصيدة تنشد، ورسالة تحبّر، ومسألة تتداول بالعيّ والبيان، ودعوى تتناقل بالشّبهة، وعربيّة تشقّق تشقيقا، وكلمة تزوّق تزويقا، وباطل ينصر لحاجة تدعو (5) إليه، وحقّ يرفض لأمر يحمل عليه، وخصم يفحم بما غثّ وسمن، وشبهة تركب بما ظهر وبطن.
أو يكون الفضل عنده، والتّمام لديه / في الأمر والنّهي، والعزل والولاية، والقبض والمصادرة، والكيد والغيلة، والاستخراج والحيلة، والغاشية والحاشية، والخدم [والحشم]، والدّور والقصور، والمراكب والمواكب، فيكون كلّ ما يدّعيه الخصم مقبولا، وكل ما يأباه مرذولا فأمّا أن يكون الفضل (3) بإجماع الأوّلين والآخرين، والماضين
__________
(1) الفتح: النصر.
(2) الختال: المخادعة، وفي الأصل: «الحنال». والإنفاق: الرواج.
(3) في الأصل: «الفصل».
(4) في الأصل: «ينشى».
(5) في الأصل: «تدعوا».(1/478)
والغابرين (1) في الدّينونة والتألّه والعفاف والتحرّج والكرم، والطّهارة والتقزز والنّزاهة والرّقّة والرّحمة والجود والعطية والحلم والعفو والإبقاء والإغضاء والوفاء والإرضاء والتغافل والتسمّح والبرّ والتعهّد، والبشر والطّلاقة، والدّماثة والشجاعة وطلب الذّكر الجميل من كل أحد، إمّا للساعة وإما للأبد، فينبغي على هذا أن لا يكون لكلام الخصم سامع، ولا لدعواه مصدّق ولا لحكمه مجيز.
قلت لأبي الوفاء المهندس (2)، وكان قد رجع من عند ابن عبّاد، لقيه بجرجان مؤدّيا إليه رسالة من بغداذ، لقيته بالمرج في ليلة عمياء بالمطر والبرد والثّلج والسّيل العرم: كيف شاهدت ابن عبّاد، فإنك صيرفيّ الناس في النّاس؟
فقال: يقال لمثله عندنا بنيسابور طبل هرثميّ، ويقال لمثله عند إخواننا ببغداد: مادح نفسه يقرئك السّلام وهو مع هذا عند أصحابه رقيع طيّب، وعند الكتّاب أحمق غليظ، وعند سفلة المعتزلة واحد الدّنيا، وعند الفلاسفة طائر طريف، وعند الصّالحين ظلوم قاس،
__________
(1) الغابرين: الآتين.
(2) محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني. وقد مرّ.(1/479)
وعند الله فاسق عاص، وعند أهل بلده أفّاك أثيم، وعند الجمهور شيطان رجيم.
وقلت (1) لأبي السلم تحية (2) بن علي الشاعر القحطاني: أين ابن عبّاد من ابن العميد؟ فقد (3) زرتهما منتجعا، ورزتهما (4) جميعا.
فقال: كان ابن العميد أعقل، وكان يدّعي الكرم، وابن عبّاد أكرم، وهو يدّعي العقل وهما في دعوييهما (5) كاذبان، وعلى سجيّتيهما جاريان.
أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... جمال (6) ولا مال تمنّى انتقالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يؤمّل أخرى وهو (7) يرجو زوالها
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 301.
(2) في الإرشاد: «نجبة».
(3) في الإرشاد: «فقال».
(4) رزتهما: جربتهما وخبرتهما.
(5) في الإرشاد: «دعواهما».
(6) في الإرشاد: «في ظل دولة؟؟؟ جمال».
(7) في الإرشاد: «فهو يرجو».(1/480)
فرفع إليه إنشادي، فأخذني وأوعدني، وقال [لي]: انج بنفسك فإني إن رأيتك بعد هذا أولغت (1) الكلاب دمك.
وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهو، فرفع إليه الحديث، فدعاني ووهب لي دريهمات وخريقات، وقال:
لا تتمنّ انتقال دولتنا بعد هذا.
وأبو السلم هذا من أغزر الناس في الشعر، يحفظ الطّمّ والرّمّ (2)، وكان طيّب الإنشاد، رخيم النغمة. أنشدني لابن حسان (3):
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد النّاس
لا تطمعا طمعا يدني إلى طبع (4) ... إن المطامع فقر والغنى الياس
للناس مال ولي مالان ما لهما، ... إذا تحارس أهل المال، حرّاس
مالي الرّضا بالذي أصبحت أملكه ... ومالي اليأس مما يملك الناس
__________
(1) أو لغت: سقيت.
(2) كناية عن كثرة المحفوظ.
(3) الأبيات باختلاف فى الرواية في الإرشاد غير منسوبة، والأول منها في ديوان المعاني 2/ 200منسوبا لبعض الجعفريين، وهو في ديوان الخنساء 155 (بيروت 1896م)، والشريشي 2/ 256253. وانظر شرح شواهد المغني لعبد القادر البغدادي 117ب (نسخة خاصة)، وخزانة الأدب 1/ 209.
(4) الطبع: الدنس والعيب.(1/481)
وقال لي الخليلي (1): الرجل مجنون، يعني ابن عبّاد، وفي طباع المعلمين. [سمعته] (2) وهو يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشّعر؟
وإن قلته كيف تجيده؟ وإن أجدت كيف تغزر فيه؟ وإن غزرت فيه فكيف تروم غاية وأنت لا تعرف ما الزّهلق (3) وما الهبلع (4)، وما العثلط (5)، وما الجلعلع (6)، وما القهقب (7)، وما الطّرطب (8)، وما القهبلس (9)، وما الخيسفوج (10)، وما الخزعبلة (11)، وما القذعملة (12)،
__________
(1) كذا في الإرشاد، وفي الأصل: «الخليلي؟؟؟».
(2) عن الإرشاد.
(3) الزهلق: الحمار الهملاج السمين، وموضع النار من الفتيل، والسراج، والخفيف السريع من الناس، والريح الشديدة.
(4) الهبلع، بوزن درهم وعملّس: الواسع الحنجور، والعظيم اللقم، والأكول، والكلب السلوقي، واسم كلب، والرجل اللئيم.
(5) العثلط: اللبن الخاثر.
(6) الجلعلع: الحديد (الشديد) النفس، والخنفساء، والضبع. وفي العباب عن ابن عباد: القنفذ.
(7) القهقب: الطويل، والضخم المسن، والصلب الشديد، والباذنجان.
(8) الطرطب: الثدي الضخم المسترخي الطويل.
(9) القهبلس: الضخمة من النساء، والأبيض الذي تعلوه كدرة.
(10) الخيسفوج: حب القطن، والعشر، وهو شجر عريض الورق له صمغ حلو.
(11) الخزعبلة: الفكاهة والمزاح، واسم من أسماء العجب.
(12) القذعملة: القصير الضخم من الإبل، والمرأة القصيرة الخسيسة.(1/482)
وما العرومط (1)، وما السّرومط (2)، وما الدّودرى (3)، وما المكورّى (4)، وما العفشليل (5)، وما القفشليل (6)، وما الجلعبى (7)، وما القرشبّ (8)، وما الصّقعل (9)، وما الجردحل (10)، وما الدّردبيس (11)، وما الطّرطبيس (12)، وما العلطميس (13)، وما
__________
(1) كذا في الأصل. ولم أجد الكلمة بصورتها هذه في المعاجم التي بيدي.
(2) السرومط: الطويل من الإبل، ووعاء يكون فيه زق الخمر ونحوه، والرجل الذي يسترط كل شيء ويبتلعه. وفي الأصل: «الشرومط».
(3) الدودرى، بفتح الدالين والراء: العظيم الخصيتين (ل درر).
(4) المكورّى: اللئيم الخلق القصير.
(5) العفشليل: العجوز المسنة، والكساء الكثير الوبر، والضبع (ل)، والرجل الجافي الغليظ. وقال ابن عباد: يوصف به الضبعان (عن العباب عفشل).
(6) القفشليل، القفشليلة: المغرفة فارسية معرّبة، وفي الأصل:
«القفشليل»: ولم أجدها.
(7) الجلعبى: الرجل الجافي الكثير الشر.
(8) القرشب: الضخم الطويل من الرجال، والأكول، والرغيب البطن، والسيء الحال، والمسن.
(9) الصّقعل: التمر اليابس ينقع في المحض.
(10) الجردحل: الضخم من الإبل، والوادي، والرجل الغليظ الضخم.
(11) الدردبيس: خرزة سوداء تتحبب بها المرأة إلى زوجها، والشيخ الكبير، والعجوز المسنة، والداهية.
(12) الطرطبيس: الكثير من كل شيء، والناقة الخوارة، والعجوز المسترخية كالدردبيس.
(13) العلطميس: الكثير الأكل، والجارية الحسنة القوام، والضخمة الشديدة العالية.(1/483)
الجرعبيل (1)، وما الخنعبيل (2)، وما العباريد (3)، وما العبابيد (4)، وما العباديد (5)، وما النّقاب (6)، وما الجرفاس (7)، وما اللّووس (8)
وما النّعثل (9)، وما الطّربال (10)؟
وما معنى: إنه لظريف ولا تباعة (11) وما الفرق بين العذم
__________
(1) الجرعبيل: الغليظ (عباب جرعبل).
(2) الخنعبيل: كذا، ولم أجدها.
(3) العباريد، كذا في الأصل، وفي اللسان والتاج: جارية عبارد كعلابط: بيضاء ناعمة، وغصن عبارد ناعم.
(4) العبابيد: الفرق من الناس (عن العباب)، والخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها. (عن التاج).
(5) العباديد: الآكام، وموضع (عن العباب)، والخيل المتفرقة.
(6) النقاب بكسر النون: البطن، والقناع، والطريق الضيق، والعالم البحاثة، والنقاب: المواجهة والمقابلة.
(7) الجرفاس: الغليظ الضخم الشديد من الإبل والرجال، واسم من أسماء الأسد. وفي الأصل: «الجرفاش».
(8) اللووس بوزن فعول: الذي يتتبع الحلاوات فيأكلها.
(9) النعثل: الشيخ الأحمق، والذكر من الضباع.
(10) الطربال: البناء المرتفع، والصومعة، وعلم يبنى للخيل يستبق إليه.
(11) التباعة: ما فيه إثم يتبع الإنسان به يقال: ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة.(1/484)
والرّذم (1)، والحدم والحذم (2)، والخضم والقضم (3)، والنّضح والرّضح (4)، والقصم والفصم (5)، والقصع والفصع (6)، وما العبنقس (7)، وما الفلنقس (8)، وما الوكواك (9) والزّونّك (10)،
__________
(1) العذم: العض بالشفة والأخذ باللسان. والرذم: النذل الذي لا مروءة له، والقطر والسيلان.
(2) الحدم: شدة إحماء الشيء، والحذم: القطع السريع. وفي الأصل:
«الحدم والحدم».
(3) الخضم: الأكل بأقصى الأضراس، والقضم: الأكل بأدناها.
وفي الأصل: «الحضم».
(4) النضح: الرش بالماء، والرمي بالنبال، والدفاع عن النفس.
والرضح بالفتح: كسر الحصى أو النوى، وبالضم: النوى نفسه.
(5) القصم: كسر فيه بينونة، والفصم: الكسر من غير بينونة.
(6) القصع: عصر الشيء، ودلكه بين الظفرين، والضرب ببسط الكف على الرأس، وشدة المضغ. والصفع: الدلك، وحسر العمامة عن الرأس، وعصر الشيء بين الأصبعين.
(7) العبنقس: الشيء الخلق، والناعم الطويل، والذي جدتاه من قبل أبيه وأمه أعجميتان وامرأته أعجمية. وقيل إنه بالفاء. وفي الأصل:
«العسقس».
(8) الفلنقس: البخيل اللئيم، والهجين من قبل أبويه، وقيل الذي أبوه مولى وأمه عربية.
(9) الوكواك: الرجل الذي يمشي وكأنه يتدحرج، وهو الجبان أيضا.
(10) الزونك: القصير الذميم.(1/485)
وما الخيتعور (1)، وما السّيتعور (2)، وما اليستعور (3)، وما الحرذون (4)
وما الحلزون (5)، وما القصدر (6)، وما الجمعليل (7). قال الشاعر:
جاءت بخف وحتين ورجل (8)
جاءت تمشّي وهي قدّام الإبل
مشي الخمعليلة بالحرف النقل
قال: ورأيت بعض الجهّال باللغة يصحّف هذا ويقول:
بحف وحنين ورخل
قلت للخليلي: من عنى بهذا؟
قال: عنى ابن فارس معلّم ابن العميد أبي الفتح.
قال الخليلي: أفهذا الضرب من الكلام مما يجب أن يفتخر به،
__________
(1) الخيتعور: السراب، والخيتعور: الغادر، والدنيا، على التمثيل ودويبة، واسم للشيطان.
(2) كذا في الأصل، وكأنه مكرر مع ما بعده.
(3) اليستعور: موضع، وشجر تصنع منه المساويك.
(4) الحرذون: دويبة.
(5) الحلزون: دويبة أيضا.
(6) كذا، ولم أهتد إلى معناها.
(7) في اللسان: الجمعليلة الضبع والناقة الهرمة. وفي الأصل: «الخمعليل».
(8) كذا في الأصل: «وحنين».(1/486)
ويتدفّق به؟ إنك يا أبا حيان لو رأيته يميس وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق فيه، ويلوي شدقه عليه، ويقذف بالبزاق على أهل المجلس، لحمدت الله تعالى على العافية ممّا بلي به هذا الرجل.
وبعد فما بين الشاعر وبين هذا الضرب؟ الشاعر يطلب لفظا حرّا، ومعنى بديعا، ونظما حلوا، / وكلمة رشيقة، ومثالا سهلا، ووزنا مقبولا.
قلت للخليلي: فما بال الناس، مع علمهم برقاعته وجنونه، قد لزموا فناءه، وتزاحموا على بابه؟
فقال لي: يا هذا! خلت الدّنيا من الكرم والكرام، واصطلح الناس على قلّة المباهاة بالفضائل، وكان هذا كلّه منوطا بالخلافة، فانقضت أيام الصّدر الأول بالدّين الخالص، وأيام بني مروان بالرّياء والسّمعة، وأيام بني العباس بالمروّات والتوسع في الشّهوات، ولم يبق بعد هذا شيء.
ولا بد للناس من الانتجاع، أخصبت البلاد أم أجدبت، والحرف لا تسع الخلق، والمرتبة الواحدة لا تحفظ النّظام، ولا بدّ للناس من التقسّم بين الرّفعة والضّعة، وعلى ما بينهما من الأحوال على أن الكرم والعطاء، والبذل وحبّ الثناء، والهزّة والأريحية أمور قد فقدت منذ زمان،
وقامت عليها النوادب في كلّ مكان. هذا ثمامة المتكلّم (1) يحكي بلسانه، وهو صاحب المأمون، قال: دخل النّوشجاني على المأمون، فقال: يا أمير المومنين! ما في بيت مال الصدقات درهم، وقد كثر الغارمون.(1/487)
ولا بد للناس من الانتجاع، أخصبت البلاد أم أجدبت، والحرف لا تسع الخلق، والمرتبة الواحدة لا تحفظ النّظام، ولا بدّ للناس من التقسّم بين الرّفعة والضّعة، وعلى ما بينهما من الأحوال على أن الكرم والعطاء، والبذل وحبّ الثناء، والهزّة والأريحية أمور قد فقدت منذ زمان،
وقامت عليها النوادب في كلّ مكان. هذا ثمامة المتكلّم (1) يحكي بلسانه، وهو صاحب المأمون، قال: دخل النّوشجاني على المأمون، فقال: يا أمير المومنين! ما في بيت مال الصدقات درهم، وقد كثر الغارمون.
فقال المأمون:
وكيف لا يكثرون وثلاثة أرغفة بدرهم، وهاهنا أناس لا حرفة لهم، ولا إفضال من موسريهم على معسريهم؟ أما والله لقد شهدت أيام الرّشيد (2) والخراج أقلّ وأرذل، وإنّ فيها لأكثر من مائة يد بالخير طويلة، وبالعطايا سائلة، وللمعروف باذلة، وللأرحام واصلة.
وروى عن سابق بني هاشم في هذا أعجب كلام، قال: والله لو علم الله أنّ غنى فقرائكم في أكثر من زكوات أغنيائكم لفرض ذلك لهم.
فتبارك الله ربّ العالمين.
__________
(1) ثمامة بن أشرس النميري، أحد معتزلة البصرة. توفي سنة 213هـ، وكان يعرف بالمتكلم، اتصل بالرشيد والمأمون وجالسهما. الفهرس 111 (نسخة)، وتاريخ بغداد 7/ 148، والمنتظم لابن الجوزي (سنة 213) وميزان الاعتدال (ثمامة)، ولسان الميزان 2/ 8483.
(2) هارون بن المهدي الخليفة العباسي المشهور. المعارف 167166.(1/488)
أين أولئك البرامكة؟ وأين [نحن] (1) منهم اليوم؟ كان معروفهم يسع الصّغير والكبير، ويعمّ الغنيّ والفقير، مرّة يغرف ومرة ينزف (2)، ما لهم همّ إلا تثميره.
ومن أولئك زبيدة (3) بنت جعفر وابنها (4)، إني والله لأحسبهما فرّقا من المال فيمن لجأ إليهما وطلب معروفهما أكثر من ألف ألف ألف دينار ولقد كان لمن ذكرت بطانة، وللبطانة بطانة، وكان لهم من المعروف والبذل في الجار والحميم والسّائل وابن السّبيل ما لو أحصي لطال ذكره وعظم قدره فما بالعراق اليوم من يجود بدرهم ولا رغيف، أو ليس من انقلاب الزّمان أن صار عبد الله بن بشير أحد أجواده، وأحد أبواب المعروف؟ فما ظنكم بنا وقد حشرنا في زمرة واحدة؟
ثم ميّز أهل كل زمان! فإذا نظر إلى أهل زماننا لم يقم في المباهاة إلا عبد الله ومالك ابن شاهي! {«إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} [5]».
__________
(1) تكملة لا بد منها.
(2) يغرف: ينال جزءا من هذا المعروف، وينزف: ينال الكثير فيه.
(3) هي زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وهي زوج الرشيد وأم الأمين ابنه. المعارف 167165.
(4) هو الأمين بن الرشيد المقتول سنة 198هـ. المعارف 168167.
(5) سورة البقرة 156.(1/489)
اكتب لهم إلى البلدان. وانظر من كان منهم محتملا (1) فارم به إلى الأطراف وأجنحة الثّغور، ومن قلّ ما له ورثّ حاله، وقعد به العدم عن الحركة الشاسعة فلا تجاوز به الموصل والبصرة، وفرّق فيهم ألف درهم، وعجّل سراحهم الأول فالأول.
ثم قال لي الخليلي: حصّل الآن زمانك من زمان المأمون حين قال هذا القول، وميّز هذا التمييز، وداوني بهذا الدّواء. والله إن هذا لعجب! حصلنا في حديث ابن العميد على أن يقال: جمشك (2) عميديّ، وفي حديث ابن عبّاد على أن يقال: هذا ركاب صاحبيّ إني لأجد في صدري غليلا لا يبرده شيء، من ذهاب الكرم وفقد الكرام وقلّة المبالي بذلك.
قلت للخليلي أيضا: ومع هذا كلّه أين ابن عبّاد من ابن العميد؟
فقد خبرت ذلك بملازمتك، وعرفت هذا بتعرّضك.
فقال: أمّا ذاك فكان لا يعطيك، ولكنّه كان لا يطمعك.
__________
(1) محتملا: قادرا.
(2) جمشك (): حذاء، (فارسية). وانظر:
528،.
وكأنه نوع من الأحذية كان مشتهرا بالنسبة إلى ابن العميد. وكذا القول فيما نرى في «ركاب صاحبي».(1/490)
وأمّا هذا فإنه يطمعك حتى يستفرغك، ثم يرميك بالحرمان أو بعطاء شبيه بالحرمان. وتفسير هذا عندك يا أبا حيان.
قلت: كيف كان علم ذاك من علم هذا.
قال: كان ذاك يدّعي الفلسفة دعوى شديدة، ولكن لا ينادي عليها في الأسواق.
وهذا يدّعي علم الدّين، وهو يعرضه فيمن يريد.
قلت له: كيف كان ابن العميد في أمر الطعام؟
قال: كان مكبوت (1) الأنفاس عند اختلاف الأضراس، كدر الإحساس عند دوران الكاس، وهذا مما يخالف ما عليه كرام النّاس.
قلت: فكيف كان ابن عبّاد لأهل العلم؟
قال: إن كذبوه وخدعوه وموّهوا عليه ونافقوه وتملّقوه قرّبهم وأدناهم، وأكرمهم وأعطاهم، وإن صدقوه وماتنوه (2) وثبتوا له أبعدهم وأقصاهم، وحرمهم وأخزاهم.
__________
(1) مكبوت الأنفاس: ضيقها، وفي الأصل: «مليوب؟؟؟».
(2) ماتنوه: عارضوه في الجدل.
فما (1) ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر فوصفوه جميعا بما جمعت لك في هذا المكان؟(1/491)
فما (1) ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر فوصفوه جميعا بما جمعت لك في هذا المكان؟
على أنيّ قد سترت كثيرا من مخازيه، إما هربا من الإطالة أو صيانة للقلم من رسم الفواحش، ونثّ العضلة (2)، وذكر ما يسمج مسموعه، ويكره التّحدث به.
هذا سوى ما فاتني من حديثه، فإنيّ فارقته سنة سبعين وثلاثمائة.
أو ما ذنبي إن ذكرت عنه ما جرّ عنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وحملني عليه من الإخفاق بعد الطّمع، مع الخدمة الطّويلة، والوعد المتّصل، والظّن الحسن حتّى كأني خصصت بخساسته وحدي، أو وجب أن أعامل به دون غيري.
قدّم إليّ نجاح الخادم، وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلّدة من رسائله، وقال: يقول لك مولاي: انسخ هذه فإنّه قد طلب من خراسان.
__________
(1) من هنا إلى آخر رسالة أبي حيان التي توسل بها إلى أبي الفتح ابن العميد، نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 396وما بعدها.
(2) في اللسان: العضل: الشديد القبح، وكأنه المراد. والنّث:
الإذاعة والنشر.(1/492)
فقلت بعد ارتياع: هذا طويل، ولكن لو أذن لخرّجت منه فقرا كالغرر، وشذورا تدور في المجالس كالشّمامات والدّستنبويات (1)
لو رقي بها مجنون لأفاق، ولو نفث على ذي عائنة (2) لبريء /، لا تملّ ولا تستغثّ (3)، ولا تعاب ولا تسترثّ (4).
فرفع ذلك إليه على وجه مكروه وأنا لا أعلم، فقال:
طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها، وأزرى بها، والله لينكرنّ منّي ما عرف، وليعرفنّ حظّه إذا انصرف. كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في زمزم، أو قلت كان النّظّام ما نويا (5)، أو كان العلّاف
__________
(1) واحدتها دستنبوية، وهي نوع من الطيب.
(2) ذو عائنة: يريد المصاب بالعين، والذي في اللسان أن المصاب بالعين يقال له المعين أو المعيون.
(3) تستغث: تستردا.
(4) تسترث: تعد رثة خلقة.
(5) إبراهيم بن سيار النظام تقدمت ترجمته. وله في الرد على أصحاب الاثنين (المانوية) كتاب مشهور، فالقول بأنه مانوي قول بما لا يقبل.(1/493)
ديصانيا (1)، أو كان الجبّائي بتريا (2)، أو مات أبو هاشم (3) في بيت خمّار، أو كان عبّاد معلّم الصبيان (3).
وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلّدة؟ ومن هذا الذي يستحسن هذا التكليف حتى أعذره في لومي على الامتناع؟ أيّ إنسان ينسخ هذا القدر وهو يرجو بعده أن يمتّعه الله ببصره أو ينفعه بيده؟
ثم ما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوف (4)
المشوف (5) الذي تكتب إليّ به في الوقت بعد الوقت.
__________
(1) محمد بن الهذيل العلاف، أبو الهذيل المتوفى سنة 226هـ. تاريخ بغداد 3/ 370366، الفهرست 108، المنتظم (سنة 235)، أمالي المرتضى 1/ 178، الوفيات 607، عقد الجمان للعيني (سنة 226)، الحور العين 209.
والديصانية: فرقة من الثنوية (الحيوان للجاحظ 5/ 46، مقالات الأشعري 349، فهرست ابن النديم 474). ولأبي الهذيل مناظرات مع الثنوية، وكتب في الرد عليهم.
(2) تقدمت ترجمة الجبائي، وابنه أبي هاشم. والبترية: فرقة من الزيدية، (الأشعري المقالات 6968).
(3) يريد عباد بن العباس والد الصاحب، وقد تقدم له (ص 82) أنه كان معلما بقرية من قرى طالقان الديلم.
(4) الكلام المفوف: الموشى.
(5) المشوف: المزين.(1/494)
فقلت: وكيف لا يكون كما يوصف وأنا أقطف من ثمار رسائله، وأستقي من قليب (1) علمه، وأشيم بارقة أدبه (2)، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه؟
فيقول: كذبت وفجرت لا أمّ لك! ومن أين في كلامي الكدية (3) والشحذ والضّرع والاسترحام؟ كلامي في السماء، وكلامك في السماد.
هذا أيدك الله وإن كان دليلا على سوء جدّي، فإنه دليل أيضا على انحلاله وتخرّقه وتسرعه ولؤمه. انظر كيف (4) يستحيل معي عن مذهبه الذي هو عرقه النّابض وسوسه الثابت وديدنه المألوف.
وهلّا (5) أجراني مجرى التّاجر المصري والشاذياشي وفلان وفلان؟
أو ما ذنبي إذا قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح ببغداذ؟
فأقول: نعم رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا، [وفيما تقدّم منه كذا وكذا] (6)،
__________
(1) القليب: البئر.
(2) شام البرق: نظر أين يمطر، والبارقة: السحابة ذات البرق.
(3) الكدية: الإلحاح في المسألة.
(4) في الأصل: «والطرائف»، تصحيف.
(5) في الأصل: «وهذا»، تصحيف.
(6) عن الإرشاد لياقوت.(1/495)
وفيما كفى فيه كذا وكذا، وفيما تكلّف من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيد السّيرافي بكذا وكذا، ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فيزوي (1) وجهه ويتكرّه حديثه، وينجذب إلى شيء آخر ليس مما شرع فيه، ولا مما حرّك له.
ثم يقول: أعلم أنك إنما انتجعته من العراق، فاقرأ عليّ رسالتك التي توسّلت إليه بها، وأسهبت مقرظا له فيها، فأتمانع فيأمر ويشدد، فأقرؤها فيتّقد ويذهل.
وأنا أكتبها (2) لك هاهنا لتكون زيادة في الفائدة.
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم هيّء لي من أمري رشدا، ووفّقني لمرضاتك أبدا، ولا تجعل الحرمان عليّ رصدا (3).
أقول وخير القول ما انعقد بالصّواب، وخير الصواب ما تضمّن الصدق، وخير الصّدق ما جلب النّفع، وخير النفع ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن شكر، وخير الشكر ما بدا عن إخلاص،
__________
(1) زوى وجهه: صرفه وأعرض عن المتحدث إليه. وفي الارشاد:
«فينزوى»، كأنها أنسب.
(2) في الأصل: «أكتبه».
(3) رصدا: رقيبا.(1/496)
وخير الإخلاص ما نشأ عن إيقان، وخير الإيقان ما صدر عن توفيق
لما رأيت شبابي هرما بالفقر، وفقري غنى بالقناعه، وقناعتي عجزا عند التحصيل، عدلت إلى الزّمان أطلب إليه مكاني فيه، وموضعي منه، فرأيت طرفه عني نابيا، وعنانه عن رضاي مثنيا، وجانبه في مرادي خشنا، وإنفاقي في أسبابه سيئا (1)، والشامت بي على الحدثان متماديا طمعت في السكوت تجلّدا، وانتحلت القناعة رياضة، وتألّفت شارد حرصي متوقفا (2)، وطويت منشور أمري متنزّها، وجمعت شتيت رجائي ساليا، وادّرعت الصّبر مستمرا، ولبست العفاف محمودا، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهدا.
هذا بعد أن تصفحّت الناس فوجدتهم (3) أحد رجلين: رجلا إن نطق نطق عن غيظ ودمنة (4)، وإن سكت سكت على ضغن وإحنة.
ورجلا إن بذل كدّر بامتنانه بذله، وإن منع حصّن باحتياله بخله
__________
(1) في الأصل: «سيّيا».
(2) متوقفا: متثبتا.
(3) كانت العبارة: «فوجدتهم (عند كل قريب وبعيد) أحد»، فشطب ما بين القوسين.
(4) الدمنة: الحقد المدمن الذي أتى عليه الدهر.(1/497)
فلم يطل دهري في أثنائه متبرّما بطول الغربة وشظف العيش، وكلب الزمان وعجف (1) المال، وجفاء الأهل وسوء الحال، وعادية العدوّ وكسوف البال متحرقا (2) من الحنق على لئيم لا أجد منصرفا عنه، متقطّعا من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلا إليه حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حلّ بي الويل، وسال بي السّيل!
أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنّعمى؟
أين أنا عن مشرق الخير ومغرب الجميل؟
أين أنا عن بدر البدور وسعد السعود؟
أين أنا عمن يرى البخل كفرا صريحا، ويرى الإفضال دينا صحيحا؟
أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟
أين أنا عن فضاء لا يشقّ غباره، وعن حرم لا يضام جواره؟
أين أنا عن منهل لا صدر لفرّاطه ولا منع لورّاده؟
__________
(1) العجف: الهزال وذهاب السمن.
(2) متحرقا: ملتهبا من الحنق.(1/498)
أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صدد (1) لا حدد (2) دونه؟
بلى!
أين أنا عمّن قد أتى بنبوّة الكرم، وإمامة الإفضال، / وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد، نسيمه مشيمة البوارق، ونفسه نفيسة الخلائق؟
أين أنا عن الباع الطويل والأنف الأشمّ والمشرب العذب والطريق الأمم؟
لم لا أقصد بلاده؟
لم لا أقتدح زناده؟
لم لا أنتجع جنابه وأرعى مراده (3)؟
لم لا أسكن ربعه وأستدعي نفعه؟
لم لا أخطب جوده وأعتصر عوده؟
لم لا أستمطر سحابه وأستسقي ربابه (4)؟
__________
(1) الصدد: الناحية تستقبلك.
(2) الحدد: المنع، لا حدد دونه: لا يمنع منه مانع. من المحتمل قراءة النص كما يلي: «صوب لا جدد دونه». والجدد: الغليظ من الأرض.
(3) المراد: المرعى.
(4) الرباب، بالفتح: السحاب الأبيض.(1/499)
لم لا أستميح (1) نيله وأستسحب ذيله؟
لم لا أحجّ كعبته، وأستلم ركنه؟
لم لا أصلّي إلى مقامه مؤتمّا به؟
لم لا أسبّح بثنائه متقدسا؟
لم لا أحكّم في حالي:
فتى صيغ من ماء البشاشة (2) وجهه ... فألفاظه جود وأنفاسه مجد
لم لا أقصد:
فتى بان للناس في كفّه ... من الجود عينان نضّاختان
لم لا أمتري معروف:
فتى لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا نال خلّات الكرام، شحوب
لم لا أمدح:
فتى يشتري حسن الثناء بروحه ... ويعلم أعقاب الحديث تدوم (3)
__________
(1) بالأصل: «استنبح»، وما أثبتناه عن حاشية الأصل.
(2) في الإرشاد: «الشبيبة».
(3) في الإرشاد: «حسن المقال أعقاب الأحاديث في غد».(1/500)
نعم!.
لم لا أنتهي في تقريظ فتى لو كان من الملائكة لكان من المقرّبين، ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كان من الخلفاء لكان نعته اللائذ بالله، أو المنصف في الله، أو المعتضد بالله، أو المنتصب لله، أو الغاضب لله، أو الغالب بالله، أو المرضيّ لله، أو الكافي بالله، أو الطالب بحقّ الله، أو المحيي لدين الله.
أيها المنتجع قرن كلئه (1) المختبط ورق نعمته، ارع عريض البطان (2) متفّيئا بظله، وكل خضما (3) ناعم البال متعوّذا بعزّه، وعش رخيّ اللّبب (4) معتصما بحبله، ولذ بذراه (5) آمن السّرب، وامحض وده بالله (6) القلب، وق نفسك من سطوته بحسن الحفاظ، وتخيّر له ألطف المدح، تفز منه بأيمن القدح ولا تحرم نفسك بقولك: إني
__________
(1) قرن الكلأ: خيره، وأنفه الذي لم بوطأ.
(2) البطان: الحزام، وإنه لعريض البطان: رخي البال.
(3) الخضم: الأكل في سعة ورغد.
(4) رخي اللبب: أي في سعة وأمن وخصب.
(5) بذراه: بظله.
(6) كذا بالأصل، ولم أهتد إلى قراءة متجهة فيها.(1/501)
غريب المثوى نازح الدّار، بعيد النّسب منسيّ المكان فإنك قريب الدار بالأمل، داني النّجح بالقصد، رحيب السّاحة بالمنى، ملحوظ الحال بالجد، مشهور الحديث بالدرك.
واعلم علما يلتحم باليقين ويدرأ (1) من الشك أنه معروف الفخر بالمفاخر، مأثور الأثر بالمآثر قد أصبح واحد الأنام، تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم الوغى، نور الرياض يوم الرضا، إن حرّك عند مكرمة حرّك غصنا تحت بارح (2)، وإن دعي إلى اللقاء دعي ليثا فوق سابح.
وقل إذا أتيته بلسان التحكم: أصلح أديمي فقد حلم (3)، وجدّد شبابي فقد هرم، وأنطق لساني بمدحك فقد حصر، وافتح بصري بنعمتك فقد سدر (4)، واتل سورة الإخلاص في اصطناعي فقد سردت صفائح (5)
النّجح عند انتجاعي. وقل: رش عظمي فقد براه الزّمان، واكس
__________
(1) يدرأ من الشك: يخرج منه.
(2) البارح: النوء، الريح الحارة.
(3) الأديم: الجلد، وحلم: فسد.
(4) سدر بصره: لم يكد يبصر.
(5) السرد: وضع أشياء متسقة متتابعة بعضها إثر بعض. والصفائح:
الحجارة العريضة، فكأن المعنى: قد مهدت لطريق النجح.(1/502)
جلدي فقد عرّاه الحدثان، وإياك أن تقول: يا مالك الدّنيا جدلي ببعض الدنيا، فإنه يحرمك، ولكن قل: يا مالك الدنيا هب لي الدنيا.
اللهم فأحي به بلادك، وانعش برحمته عبادك، وبلّغه مرضاتك، وأسكنه فردوسك، وأدم له العزّ النامي والكعب العالي، والمجد التليد، والجدّ السعيد، والحقّ الموروث والخير المبثوث والوليّ المنصور، والشانىء المثبور (1)، والدّعوة الشاملة، والسّجية الفاضلة، والسّرب المحروس، والرّبع المأنوس، والجناب الخصيب والعدوّ الحريب (2)، والمنهل القريب واجعل أولياءه باذلين لطاعته، ناصرين لأعزّته، ذابّين عن حرمه، مرفرفين على حوبائه (3).
أيها الشمس المضيئة بالكرم، والقمر المنير بالجمال، والنّجم الثاقب بالعلم، والكوكب الوقّاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، قد سقط العشاء (4) بعبدك على سرحك (5) فأقره من نعمتك بما يضاهي قدرك،
__________
(1) المثبور: الهالك.
(2) الحريب: الذي سلب حريبته، وهي مال الرجل الذي يقوم به أمره.
(3) الحوباء: النفس.
(4) العشاء: العشيّ.
(5) السرح: فناء الباب.(1/503)
وزوّج هيئته تربها من الغنى، فطال ما خطب كفأها من هسى؟؟؟ (1).
/ ثم يقال (2) لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوّه بخير، وبيّنت عنه، وجعلته سيّد الناس، فأقول: كرهت أن يراني مندريا (3)
على عرض رجل عظيم الخطر، غير مكترث للقعة فيه، والإنحاء عليه وقد كان يجوز أن أشعّث من ذلك شيئا وأبري من أثلته جانبا، وأطير إلى جنبه شرارة.
فيقال أيضا: جنيت على نفسك وتركت الاحتياط في أمرك فإنه مقتك وعافك ورأى أنّك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزنك وليس مثلك من هجم على ثلب من بلغ رتبة ذلك الرجل، وأنت متى جسرت على هذا دربت به (4) وجعلت غيره في قرنه.
__________
(1) كذا بالأصل، ويلي الكلمة بياض بالصلب قدره سطر وثلثا سطر، وكتب بالحاشية: «وجدت في نسخة: كفؤها من المنى»، ويتصل الكلام ب «ثم يقال لي»، والبياض باطل». ومع ذلك فإنا لا نزال نظن أن في الكلام هنا فجوة، وأن البياض الواقع في نسختنا هنا وفي الورقة 87ط، وقدره نحو خمسه أسطر، معتبر وصحيح.
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 405.
(3) مندريا: مندفعا.
(4) درب به: اعتاده وأولع به.(1/504)
فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولة فهل يدور العمل بعدها إلا على الإحسان الذي هو علة المحبّة، والمحبّة التي هي علّة الحمد، والإساءة التي هي علة البغض، والبغض الذي هو علّة الذّمّ؟
فهذا هذا.
وكان ابن عبّاد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ. وكان الصواب غالبا عليه، وله رفق في سرد حديث ونيقة (1) في رواية خبر، وله شمائل مخلوطة بالدّماثة، بيّن الإشارة والعبارة.
وهذا شيء عامّ في البغداديّين وكالخاصّ في غيرهم.
حدّثته (2) ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتّى ضحك واستعاد، ثم قيل لي بعد: إنه كان يقول: قاتل الله أبا حيان! فإنه نكد وإنه وإنه، وأكره أن أروي ذمّي بقلمي، وكان ذلك كله حسدا محضا، وغيظا بحتا.
وأروي لك الحديث، فإنّه في نهاية الطّيب، وفيه فكاهة ظاهرة، وعيّ عجيب في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة.
__________
(1) النيقة: التأنق.
(2) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 505وما بعدها.(1/505)
حدثني القاضي أبو الحسن الجرّاحي قال: لحقتني مرة علة صعبة فمن طريف ما مرّ على رأسي فيها أنه دخل عليّ في جملة من عادني شيخ الشّونيزية (1) ودوّارة الحمار والتوثة وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من أصحاب البربهاريّ (2)، فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع إلا لغيري أو لمثلي فيمن كان كأنه مني أو كأنه كان على سنيّ أو كان معروفا بما لا يعرف به إلّا [ي] أني [أرى] أنك لا تحتمي إلا حمية فوق ما يجب، ودون ما لا يجب، وبين فوق ما لا يجب وبين دون ما لا يجب فرق، الله يعلم أنّه لا يعلمه أحد ممن يعلم أو لا يعلم.
الطبّ كلّه أن تحتمي حمية بين حميتين حمية كلا حمية، ولا حمية
__________
(1) مقبرة بالجانب الغربي من بغداد تضم رفات جمع من أعلام المسلمين، معجم البلدان (شونيزية).
(2) المعروف بالبربهاري عدة من العلماء، منهم:
محمد بن أبي الحسن بن كوثر البربهاري أبو بحر المتوفى سنة 362هـ.
عقد الجمان للعيني سنة 362، أنساب السمعاني 71، البداية والنهاية 11/ 275.
وأبو محمد الحسن بن علي الفقيه الحنبلي الواعظ المتوفى سنة 329هـ.
البداية والنهاية 11/ 201.
وأبو بكر محمد بن موسى بن سهل العطار البربهاري المتوفى سنة 319هـ.
أنساب السمعاني 71. فلا أدري من قصد منهم.(1/506)
كحمية، وهذا هو الاعتدال والتّعديل والتّعادل والمعادلة. قال الله تعالى:
{«وَكََانَ بَيْنَ ذََلِكَ قَوََاماً} [1]»، وقال النبي صلى الله عليه: «خير الأمور أوساطها، وشرّها أطرافها (2) والعلّة في الجملة والتّفصيل إذا أقبلت لم تدبر، وإذا أدبرت لم تقبل، وأنت من إقبالها في خوف، ومن إدبارها في التّعجّب وما تصنع بهذا كلّه؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية عليك ولكن انظر إلى جهل هؤلاء الأطبّاء الألبّاء الذين يشقّقون الشّعر شقا، ويدقّون البعر دقّا، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زرقا (3) وحمقا / وإلى قلّة نصحهم مع جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند النّاس وأشباه النّاس، والله المستعان.
أنت في عافية، ولكن عدوك ينظر إليك بعين الأست، ويقول:
وجهه وجه من قد رجع من القبر بعد غد. وعلى حال فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى القبر، لعن الله القبر لا بزاز ولا خبّاز ولا دراز ولا
__________
(1) سورة الفرقان 67.
(2) انظر المقاصد الحسنة للسخاوي 9897، كشف الخفاء 1/ 391.
(3) الزرق، بفتح الراء: الزرقة، والمراد به العمى لأن من ذهب نظره ازرقّ سواد عينه. يعني: يقولون ذلك من عماهم وحمقهم.(1/507)
تجواز (1) {«إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} [2]»، عن قريب إن شاء الله، {«وَمََا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [3]»، {«وَلََا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلََّا بِأَهْلِهِ»} (4)، {«وَهُوَ عَلى ََ جَمْعِهِمْ إِذََا يَشََاءُ قَدِيرٌ} [5]»، {«وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [6]».
تأمر بشيء؟ السّنّة في العيادة، خاصّة عيادة الكبار والسّادة، التخفيف والتطفيف وقلّة الكلام، أنا إن شاء الله عندك بالعشيّ، والحقّ الحقّ وأقوم بما يجب على مثلك لمثلي، وإن كان ليس لك مثل (7)، ولا لمثلي أيضا مثل هكذا إلى باب الشّام وإلى قنطرة الشّوك وإلى المزرفة.
أقول لك المثوى، أنا وأنت اليوم كمثل كمّثراتين إذا عفنتا على رأس شجرة، وكدلوين إذا خلقتا على رأس بئر، ودع ذا القارورة،
__________
(1) التجواز: برد يمني موشى. وفي الأصل: «تجواز؟؟؟» وكأنها «جلواز» بمعنى: الشّرطي.
(2) سورة البقرة 156.
(3) سورة لقمان 34.
(4) سورة فاطر 43.
(5) سورة الشورى 29.
(6) سورة فاطر 27.
(7) في الأصل: «شغل». وما أثبتناه في الإرشاد.(1/508)
اليوم لا إله إلّا الله، وأمس كان سبحان الله، وغدا يكون شيئا (1)
آخر، وبعد غد ترى من ربّك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السّوق، أو يوجد مطروحا على الطّريق، ولكن الإنسان ولا قوة إلا بالله طريف أعمى، كأنّه ما صحّ له منام قطّ، ولا خرج من السّمارية إلى الشّطّ، وكأنّه ما رأى قدرة الله في البطّ، إذا لقط كيف يتقطقط والكلام في الإنسان وعمى قلبه وسخنة عينه كثير لا يحمله تلّ عقرقوف (2)، ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر نفسه عصرة ينشقّ منها فيموت كأنه شهيد. وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله وبعض خذلانه الغريب. على الله توكلنا، وإليه التفتنا ورضينا، وبه استجرنا، إن شاء خرّانا وإن شاء أطعمنا.
قال القاضي: فكدت أموت من الضّحك، على ضعفي، وما زال كلامه لهوي إلى أن خرجت إلى الناس. وكان مع هذا لا يعيا ولا يكلّ ولا يقف، وكان من عجائب الزمان.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) تل عقرقوف: قرية بنواحي نهر عيسى ببغداد، معجم البلدان (تل عقرقوف).(1/509)
وقال لي ابن عبّاد: حدّثني عن بعض لياليه ببغداد، يعني ذا الكفايتين، وعن مذاكرة الجماعة عنده ومشاركته لها.
قلت: نعم! حضرت ليلة في شهر رمضان سنة أربع وستين، وثلاثمائة، فسأل عن الغنى أيقصر أم يمدّ؟ قال ابن فارس: الغنى مقصور وهو اليسار والترفّه، والغناء بالمدّ ما يسمع على الطريق المعروفة، إلا أن الفرّاء قد حكى أن (1) المدّ في هذا المقصور وهو حجّة، ولا سبيل إلى ردّ قوله.
فقال أبو الفتح: هكذا وما أصحّ حكايتك! ولكنّ قلبي لا يطمئن إلى مدّ هذا الاسم، لأنه لم يأت في كلامهم ممدودا.
فقال ابن فارس: قد أنشد الفرّاء قول الشاعر:
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء (2)
فقلت: عندي في هذا شيء، وما دخرته إلا لمثل هذه الحال، وقد حان وقته.
__________
(1) كذا، والأولى حذف «أن».
(2) البيت في اللسان (غنا) غير منسوب. وروي بفتح الغين وكسرها.(1/510)
فقال: هات، بارك الله عليك، إنه لحبّاء بالفائدة ما علمت.
قلت: الشّعر على غير هذا الوجه، والبيت الذي يتلوه يشهد له، وهو:
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقري يدوم ولا غناك
تجنّيت الذنوب لتصرميني ... دعي العلّات واتّبعي هواك
فقال لي: أحسنت وأجدت! من أنشدك هذا؟
قلت: أبو اللّيل العلويّ بالمدينة، في مجلس أميرها أبي أحمد العلوي العقيقيّ.
قال: فحدّثنا عن أبي اللّيل هذا وعن غيره بشيء.
قلت: سمعت شيخا عنده من بني حرب قد أنشد أبياتا، لم أعلّق منها إلّا بيتا واحدا، وهو:
فتى خلقت أرواحه مستقيمة ... له نفحات ريحهنّ جنوب
وكان معنا إذ ذاك أبو صالح الرّازي الصوفي، وكان مفوّها جدلا.
فقال له: ماذا أراد بقوله «أرواحه مستقيمة»؟(1/511)
قال: أراد / أن أخلاقه لا تحول عن الخير، وعادته لا تريغ (1) إلى القبيح، وأنه على ديدنه في الكرم، وخصّ الجنوب لاستدرارها السّحاب، وجعل نفحاتها منافع لهذا الذي مدح به.
فقال: زدنا من حديث هؤلاء المدنيّين.
قلت: وسمعته، أعني الحربيّ، يقول للأمير أبي أحمد في حديث طويل:
أيها الأمير!
لني ولية تمرع جنابي فإنّني ... لما نلت من وسميّ نعماك شاكر (2)
قلت: أعد عليّ نسيج قافيتك.
قال: أما ثقفته؟
قلت: ما أدري ما تقول
قال: لعلك من هذه الفرقة الكلامية (3).
قلت: لعلّه.
__________
(1) تريغ: تميل.
(2) البيت في اللسان (ولى) منسوبا لذي الرمة. «ولني» أمر من الولي، وهو المطر الذي يأتي بعد المطر، آي امطر معروف بعد معروف.
(3) في الأصل: «الكلافية» ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/512)
وسمعت هذا الحربيّ يقول، وكان يكنى أبا الخصيب، لسيّدحيّه، وهما بالعقيق على ضفّة الوادي وقد مدّ (1)، وهما ينطقان بما أحصّل ولا أحصّل (2)، حتّى قال أبو الخصيب لصاحبه:
يا هذا! اسل عن طارفك وتالدك، تسد بين صاحبك ووافدك، أما سمعت في هذه القوافي الأول (3):
لو كنت تعطي حين تسأل سامحت
لك النّفس واحلولاك كلّ خليل؟
فردّدت القافية، وقلت: «واستحلاك كلّ خليل»:
فقال لي منكرا: ما هكذا لغتي!
فقال ذو الكفايتين: كيف كان إدراكهم لما يقع بالإعراب؟
قلت: سألت أبا الخصيب هذا: أقول إنّ قربي جعفرا؟
قال: نعم، فما تبغي؟
قلت: أفأقول: إنّ بعدي جعفرا؟
قال: لا، فما تبغي؟
__________
(1) مدّ النهر: امتلأ وكثر ماؤه.
(2) كذا في الأصل، وكأنها: «وما لا أحصل».
(3) البيت في اللسان (حلا) من إنشاد اللحياني، هو هناك برواية: «فلو كنت تعطي».(1/513)
قلت: فما الذي يمنع من جوازهما؟
قال: بينهما مسيفة لا تسلك، ورميلة لا تعلى، وما أعلم الغيب، وإني على بيّنة مما قلت، وعلى ريب ممّا سألت.
فسمع ابن عبّاد هذا كلّه على تغيظ ما قصدت إثارته عليه، ولا علمت أن لي متقصّى (1) من نبثي (2) منه وكان ذلك كلّه سبب الحرمان.
ولقد ظهر لذي الكفايتين بمدينة السلام فضل كبير، على أنه لم يشخص إلّا معتوبا عليه.
ولقد كتب إليه ابن طرخان الورّاق (3) رسالة طويلة أطلعني على فصل منها يقول فيه:
«وإنك أيها السيّد الهمام دخلت هذا البلد إما غرّا بما تري وترى، وإما على أن تبّين فضلك لأهله، وإما لأن تستفيد منهم ما ليس عندك.
__________
(1) المتقصى: الغاية، وفي الأصل: «منقصى».
(2) الكلمة في الأصل مهملة الحروف هكذا: «سي»، ويمكن أن تقرأ «نبثي»، من نبث عن عيوب الناس بمعنى أظهرها. و «نيلي» من نال من فلان إذا سبه ووتره.
(3) لعله أبو الحسن على بن حسن الذي ذكره ابن النديم في الفهرست 222.(1/514)
فإن كان دخولك على غرارة، فما هذا بمشاكل لمرتبتك في هذه الدّولة التي غرّتها مجلوة بيدك. وجمّتها (1) مفروقة بمذرى (2) تدبيرك، وأذاها مماط بذبّك، ودواؤها مأمون بطبك، وعدوّها مكبوت بصولتك، ودولتك، ووليّها قرير العين بحسن إيالتك (3) وكفالتك.
وإما أن تبيّن فضلك، فاعلم أنهم لا يعترفون بفضلك إلا موصوفا بإفضالك، ولا يسلّمون لك مرادك فيهم إلّا بأن يدركوا أملهم منك، كان ذلك طوعا أو كرها، سلما أو حربا.
وإما لأن تستفيد منهم ما ليس عندك، وهذا لا يكون مع إذالة (4)
القاصدين، والاحتجاب من الطّامعين والتكبّر على الحاضرين ولو حسن التكبّر بأحد لحسن بك، لأبوتك الشّريفة، ولغرّتك الصّبيحة، ولكفايتك الظّاهرة، ولفضائلك الكثيرة ولكن زراية التكبّر على صاحبه أطرد لمحاسنه من تداركه بتكبّره من غيره ما يريد يحلده (5)، والناس لا يرضون إلا بالغاية، والغاية أن يظلم الرئيس
__________
(1) الجمة بالضم: مجتمع شعر الرأس.
(2) المذرى: المشط.
(3) الإيالة: السياسة والولاية.
(4) الإذالة: الإهانة.
(5) كذا في الأصل.(1/515)
نفسه تكرما على زائره، ويجرع (1) الغيظ من كل من قرع بابه ولمس ركابه.
وأنا، أعلى الله كعبك، أحصي أشياء جعلها أصحابنا جوالب للعتب عليك، والكلام من ورائك، وليس لي فيما أقول إلّا الفوز بجمال النّصح، وإلّا الالتذاذ بالتنبيه على الكرم، وإلا إيثار سلامة عرضك على قوم همّهم المحك في كلّ حال، وإلّا التعرض لذكرك لهم (2) بالجميل بعد الرّحيل من هذه الرباع.
فمن تلك الأشياء:
سهوك الذي وقع قد ركد (3) عليك في قبول من تقبل، وإيصال من توصل، وإبعاد من تبعد، وتفضيل من تفضّل بقول من حولك، وحكم من أطاف بك، استرسالا مع الأنس بهم، وثقة بما سلف لهم.
وذهب عليك أكرمك الله أن هؤلاء الذين تنظر بأعينهم، وتقبل وتردّ بأهوائهم، ما خلوا من حسد / لمن يخفّ على قلبك ويحلى
__________
(1) بالأصل: «وتجرع»، تصحيف.
(2) كذا، والمناسب: «لذكرهم لك».
(3) قد ركد: قد دار، وفي الأصل: «فدركد».(1/516)
بعينيك ويلتاط بنفسك، والعامّة تقول: «القاصّ لا يحبّ القاصّ».
ولو كان قلبك لكلّ من اسمه عندك، لصيته البعيد، وسؤالك لمن لا شهرة له قبلك بحسن التأتيّ في التّقريب، لكان حدّك حينئذ مقبولا بما يظهر لك من الزّيادة والنّقص، وكانت الحجّة تقوم بينك وبين من قد ضري على مالك، أو وضع في نفسه أن ينال مراده منك بالخدع، على أن التّغافل في هذا الباب أدلّ على الكرم، كما أن الاستقصاء فيه أجلب فيه للنكد.
فهذا هذا.
وشيء آخر، وهو أصعب مما تقدّم، وذلك أن حجابك قد بدّد شمل الزّوار عنك، وقسم ظنونهم بك، وطرح في قلوبهم اليأس منك ولست بأهل لذلك منهم، كما أنهم ليسوا بأهل لشدّة الحجاب منك، وقلّة رافعي أخبارهم إليك.
وشيء آخر، وهو أصعب مما تقدم، والسّهو فيه لا حق بالظّلم لم يجب أدام الله دولتك أن لا يصل برّك إلا إلى الفاضل، وإلا إلى الكامل، وإلا إلى الذي هو في الشعر مفلق، وفي الكتابة بارع، وفي الفلسفة غاية، وفي الكلام نهاية، وفي الفقه آية، وفي النّحو مذكور، وفي الطّبّ مشهور؟(1/517)
وهذا ظلم، لأنّ الله تعالى جعل لكلّ شيء قدرا، وأظهر له خطرا.
وكلّ متاع وثمنه، وكلّ بدن وسمنه، والمتناهي كان في الأول مبتدئا، ثمّ في الثاني متوسّطا، ثم في الثالث الذي لا رابع له وقاصدوك بفضائلهم كالعارضين عليك بأمتعتهم، وأنت تشتري كلّ متاع بقيمته وتعدّ له ببدله فهكذا ينبغي أن تفعل بأبناء الأمل وأصحاب العمل فليس يجمل أن يحظى بصلتك وبرّك وجائزتك ونظرك أبو سعيد السّيرافي، وأبو سليمان السّجستاني، وعلي بن عيسى الرّمّانيّ، وأصحاب القلانس، ويحرم بعض ذلك فلان وفلان ممّن ليس لهم سمع (1) هؤلاء ولا حالهم، على أنك قادر على إلحاق الصّغار بالكبار بالاصطناع والتفضّل فإن الرّجال هكذا يتلاحقون، وفي حلبة الرؤساء يتسابقون.
فكن سببا للسّاكت حتى ينطق، وعلّة للسّاكن حتّى يتحرّك، وبابا للنّائم حتّى يستيقظ، وطريقا للخامل حتّى ينتبه، وجدا سعيدا للميّت حتى يحيا فأما من عدا هذه الطبقة فقد سلف له بغيرك ما هو أشكر، وبه أبصر وله أنصر على أنك إذا عممت الجميع بالخير كنت أشدّ اقتداء بالله، وأجنحهم (2) إلى هدى أنبياء الله، وآخذهم بعادة خلفاء الله.
__________
(1) السمع بالكسر: الصيت والذكر الجميل.
(2) الضمير للرؤساء.(1/518)
وشيء آخر ترجّحت بفكري في طيّه ونشره، فرأيت طيّه خمشا (1)
لوجه النّصيحة، وذكره بالإطالة فتحا لباب الفضيحة، فذكرته مختصرا فقد يفهم من الكلام القصير المعنى العريض الطّويل، وهو حديث المائدة والطّبق، وما يحضر للأكل ويجمع عليه الرّفيع والوضيع، والنّزه والجشع، فجدّد الاهتمام بذلك، فإن القالة فيه طائرة، والحال فيه دائرة، والحاجة إلى التّحزّم فيه ماسّة، والتّغافل عنه مجلبة للذّم وقد رأينا قوما كراما تهاونوا في هذا الباب، إمّا رفعا لأنفسهم عنه، وإما شغلا بمهمّات أخر دونه، فأكلتهم الألسنة، وأعلقتهم الملامة، وأحوجتهم إلى الاعتذار الطّويل بالاحتجاج الكثير. والكرم والمجد لا يثبتان بالدّعوى، ولا يسلّمان بالحجّة، ولكن يشيعان بالفعل الذي نطقه كالوحي في الحال التي تنتصب للعين، ولا يؤنفنّ من ضعة الأكلة، فإن لؤم الأكلة دليل ناصع على كرم المطعم.
وهذا باب يزلّ فيه الرئيس ويظلم فيه الخدم فإن الرئيس لا يقدر على أن يتولّى كلّ ذلك بنفسه فيراعيه بلحظه ولفظه، إلا أنه متى أحكم الأساس فقد أمن الباس، وأرضى جمهور الناس.
__________
(1) الخمش: الخدش في الوجه.(1/519)
وشيء آخر لا بدّ من الإفاضة فيه على وجه الذّكرى إن لقاءك الناس بالبشر يأسرهم لك ويرضيهم عنك فتكلّف ذلك إن لم يكن التهلّل سجية لك بالمزاج المستعدّ /، وما أكثر ما يلحق المتخلّق بذي الخلق.
وبعد فبين عبوس وجهك وقد ظهرت للناس لتركب، وبين عبوسه، وقد رجعت إلى دارك لتنزل، فرق، أعني أنك ربّما عذرت في العبوس في الثاني، لأن النهار قد نصف، ولأنك قد تجشّمت إلى ذلك الوقت مصاعب الدّولة بالأمر والنّهي والقبض والبسط ولست تعذر في غرّة نهارك وأنت جامّ (1) ومتوجه ومقتضب (2) للتدبير في الأمور.
وشيء آخر، قد يسبق إلى عينيك ازدراء من عليه مرقّعة، أو علته بذاذة (3)، وقد اعتراه عيّ إمّا للهيبة أو لسوء العادة فلا تصدّق العين فإنها تكذب أحيانا، واعمل على أنك تعتقده بفضلك، فإن كان من أهل الفضل فهو شقيقك بالطبيعة وإن كان من أهل النّقص فهو مستحقّ منك الرحمة. والإحسان إلى مثله شكر منك لله على ما خصّك به من دونه.
__________
(1) جامّ: مستريح.
(2) مقتضب: راكب.
(3) البذاذة: رثاثة الهيئة.(1/520)
هذا ما حصل لي من ذلك الفصل
ثم إني في سنة سبعين وجدت هذه الرسالة في مسوّدة ابن طرخان فيما يباع من ميراثه. فكان في أولها:
«السعادة أيها الأستاذ الجليل ضربان، والسّعيد رجلان، وإحدى السّعادتين للدنيا، والثانية للآخرة وأحد السّعيدين من هو سعيد في هذا المكان، والثاني هو السّعيد في مكان آخر ومن كمال فضيلة أحد السّعيدين أن يعايش الناس بالمعروف، ومن تمام إحدى السّعادتين أن تتّصل بالأخرى.
ولما رأيتك أيها الأستاذ سعيدا في هذه العاجلة بالمال والولاية، والعزّ والمرتبة، آثرت أن تكون سعيدا في تلك الآجلة بالإحسان والمعروف، والبرّ والمكرمة، فكتبت حروفا قصدت بها إذ كارك لا تعليمك، لأنك تجلّ عن التّعليم لما أوجب الله لك علينا من التّعظيم.
وإنما ساغ الإذكار، وحسن التّنبيه لأشغال قد اكتنفتك من تهذيب الدّولة، وأعباء قد تحملتها في حماية البيضة، وأمور أنت وليّها في بثّ المعدلة في الرّعية، وإقامتها على سواء المحجّة، ولو سكتّ عن هذا كلّه لأمكن، وكان لا يتشعّث لك حال قد تولّى الله صلاحها، ولا ينآد (1)
__________
(1) ينآد: يعوجّ.(1/521)
عليك مستقيم قد أذن الله بدوامه ولكن كنت أحرم القربى إليك، ولفوت (1) النّظر إلى مثلي ومحرومي (2) ألذع لقلبي من فائتك لأنّك سيد وأنا عبد، وأنت رئيس وأنا مرؤوس، فنغمت دالا على نفسي بما قدّمته من نفسي فإن كنت لم أخرج من حدّ الأدب المرضيّ، وعادة أهل الحكمة العالية، فما أولاك بعرفان ذلك لي! وإن كنت قد خرجت عن ذلك بعجب حال بيني وبين صوابي، وخطإ قعد بي عن مرتبة أصحابي، فما أولاك بستر ذلك عليّ! وما بسط الله باعك، وما وسّع درعك إلا ليقيك خطأ غيرك بشكل صوابك، وإلّا لتتغمّد إساءتهم بإحسانك، وإلا لتغلّب الظنّ في الجميل ولا تغلّب الظن فيما خالف ذلك وأنت كالسماء ذات الآفاق المتبارحة، والكواكب المزدهرة، والحركات اللّطيفة، والآثار الشّريفة، والأسرار المكنونة، والعجائب الكثيرة، والغرائب المشهورة فلكلّ ناظر إليك تعجّب، ولكلّ عين نحوك تقلّب، ولكل عقل عنك بحث، ولكل قلب فيك أمل، ولكل عامل عندك رجاء، ولكل عمل قبلك جزاء.
__________
(1) في الأصل: «ويفوت».
(2) كذا بالأصل.(1/522)
وأنا أسأل الله الذي رفعك إلى هذه الذّروة والقلّة (1) أن لا (2) يحطّك إلى شيء من الذّلة والقلّة (3)».
هذا ما صحّ لي بالاستخراج من مسوّدته، أتيت به على ما ترى.
وأروي لك هاهنا قصيدة أبي عبد الله النّمري (4) يمدح بها أبا الفتح، وكان يعجب بها، ويحفظها وينشدها. ومرادي بذلك تكثير الفائدة وتخليد الحديث يمتع مرة وينفع أخرى، وهي (5):
سرت النّجائب بالنّجائب ... ترمي الكواكب بالكواكب
ترمي تجاهات المشا ... رق من تجاهات المغارب
قصدا إلى ملك يحكّ ... م في رغائبه الغرائب
ملك تبوّأ من خزي ... مة في النّواصى والذّوائب
__________
(1) القلة بالضم: أعلى الشيء.
(2) في الأصل: «أن لا أن لا».
(3) القلة بالكسر: الذلة.
(4) الحسين بن علي بن عبد الله النمري الأديب الشاعر اللغوي المصنف، استدعاه أبو الفتح ابن العميد من البصرة إلى الري فورد عليه فأحسن إليه ووصله.
توفي سنة 375هـ. وترجمته في اليتيمة 2/ 381وما بعدها، والإنباه 2/ 323 324، والبغية 375.
(5) القصيدة في اليتيمة 2/ 334333 (طبع مصر سنة 1352هـ 1934م)، وهي هناك تزيد وتنقص عن رواية أبي حيان هاهنا.
حيث السّوابق والسّوا ... بغ والنجائب والجنائب
[يهب المنعّمة الكوا ... عب والمطهّمة السّلاهب (1)]
في سورة المجد التّلي ... د وسورة القلب الغوارب
يابن العميد عميد دو ... لته الموطّدة المراتب
الألمعيّ اللّذ تحدّ ... ثه الشواهد بالغوائب
زرناك من أرض البصي ... رة شاحبين على شواحب
نرد المناهل كالمجا ... هل والسّباسب كالسّكائب
نطوي الجبال إلى جبا ... ل العلم والحلم المغالب
الآن قد قرّ القرا ... ر بنا وأطلبت المطالب
[لا ريّ دون الرّيّ وال ... بحر الغطامط ذي الغوارب
بحر جواهده طوا ... ف في سواحله رواسب] (2)
/ لا دونها لجج الكوا ... رب، لا، ولا حجج الكواذب
يرمي بنا تيارها ... قبل الأباعد والأقارب
والبحر لا يندى به ... إلّا السّواحل والجوانب
لما نهضت إلى الرجا ... ء وحنّت البيض الكواعب(1/523)
حيث السّوابق والسّوا ... بغ والنجائب والجنائب
[يهب المنعّمة الكوا ... عب والمطهّمة السّلاهب (1)]
في سورة المجد التّلي ... د وسورة القلب الغوارب
يابن العميد عميد دو ... لته الموطّدة المراتب
الألمعيّ اللّذ تحدّ ... ثه الشواهد بالغوائب
زرناك من أرض البصي ... رة شاحبين على شواحب
نرد المناهل كالمجا ... هل والسّباسب كالسّكائب
نطوي الجبال إلى جبا ... ل العلم والحلم المغالب
الآن قد قرّ القرا ... ر بنا وأطلبت المطالب
[لا ريّ دون الرّيّ وال ... بحر الغطامط ذي الغوارب
بحر جواهده طوا ... ف في سواحله رواسب] (2)
/ لا دونها لجج الكوا ... رب، لا، ولا حجج الكواذب
يرمي بنا تيارها ... قبل الأباعد والأقارب
والبحر لا يندى به ... إلّا السّواحل والجوانب
لما نهضت إلى الرجا ... ء وحنّت البيض الكواعب
__________
(1و 2) ما بين الحاصرتين عن اليتيمة.(1/524)
وتناثرت عبراته ... نّ عليّ كالدّرر الثقائب
ندّى يديّ وحلّتي ... دمع الأحبّة والحبائب
فجعلته فالا وقل ... ت ندى الدّموع ندى المواهب
ولئن تلافتني يد الأ ... ستاذ من أيدي النّوائب
وأقمت في الظّلّ الظلي ... ل ولم تشعّبني الشّواعب
ليبشّرنّ أحبّتي ... بمواهبي شتّى المواهب
ويحلّينّ لآلئا ... أضعاف أدمعها السّواكب
ولأقضينّ من العشي ... رة كلّ حقّ حقّ واجب
حتّى يقال أعاده ال ... أستاذ مكرمة الضّرائب
كم من ظباء بالبصي ... رة في المقاصر والسّباسب
إنس ووحش يشتبه ... ن سوى الذّوائب والحقائب
أدم يقاسمن الأرا ... ك جناه والقضب الرّطائب
[فلأنسها أغصانه ... تجلو به برد السحائب (1)]
ولوحشها غضّ الجنى (2) ... عبث المعازل (3) والملاعب
__________
(1) عن اليتيمة.
(2) هذة رواية اليتيمة، وفي الأصل: «قد أنسها غض الجني».
(3) في اليتيمة: «المعازف».(1/525)
نصطاد وحشياتها ... وتصيدنا الإنس الخراعب
يا ربّ يوم لي كظلّ ... ك أو كظلمك (1) أو يقارب
رقّت حواشيه وغضّ ... ت عين واشيه المراقب
قصرت لنا أطرافها (2) ... قصر القناع عن الذّوائب
فتبرّجت لذّاته ... للخاطبين وللخواطب
نزلت به حاجاتنا ... بين المحاجر والحواجب
يا ليت سعدا من سعو ... دك ردّ أيامي الذّواهب
ملك يضيء بوجهه ... وترى به الظلم الغياهب
لو سامه أعداؤه ... مانديهم؟؟؟، واليوم عاصب (3)
وهب الذّوائب للمطا ... عن والقواضب للمضارب
ومن السّخاء مذاهب ... يعددن في جمل العجائب
لما رآه الطالع ال ... مأمون مأمون المغائب
ورآه ركن الدّولة ال ... غرّاء ركنا ذا مناكب
__________
(1) في اليتيمة: «كظنك».
(2) في اليتيمة: «أطرافه».
(3) كذا في الأصل.(1/526)
ومظفّر الأقلام والأ ... علام ميمون النّقائب
كأبيه خير أب وأن ... جبه إذا عدّ المناجب
ردّ الأمور إليه ر ... دّ مفوّضين على التّجارب
حتّى إذا انتظمت له ... بثقوب آراء ثواقب
وكفى أمير المؤمني ... ن عرى الكتابة والكتائب
بكفايتين أقامتا ... أود المسالم والمحارب
اشتقّ من أفعاله ... لقبا له بكر المناقب
مثل الفرند على القوا ... ضب والفريد على التّرائب
لله توفيق الإما ... م العدل في اللّقب المناسب
يا خير من ركب الجيا ... د وقادها قبّا شوازب
أغنيتني كلّ الغنى ... وكسبتني أسنى المكاسب
شرفا تلقّبه العدا ... سرفا فيالك من معايب
وكسوتني حللا صقل ... ن خواطري صقل القواضب
حللا كديباج الخدو ... د مطرّزات بالشّوارب
فلتشكرنّ رياضنا ... جدوى سحائبك الصّوائب
ولتنظمنّ لك القصا ... ئد كالقلائد للكواعب
والنّمريّ هذا مليح الشّعر والأدب والخلق، ولمّا توجّه إلى ذي الكفايتين من البصرة وصف بعض ما عنّاه فقال:(1/527)
ومظفّر الأقلام والأ ... علام ميمون النّقائب
كأبيه خير أب وأن ... جبه إذا عدّ المناجب
ردّ الأمور إليه ر ... دّ مفوّضين على التّجارب
حتّى إذا انتظمت له ... بثقوب آراء ثواقب
وكفى أمير المؤمني ... ن عرى الكتابة والكتائب
بكفايتين أقامتا ... أود المسالم والمحارب
اشتقّ من أفعاله ... لقبا له بكر المناقب
مثل الفرند على القوا ... ضب والفريد على التّرائب
لله توفيق الإما ... م العدل في اللّقب المناسب
يا خير من ركب الجيا ... د وقادها قبّا شوازب
أغنيتني كلّ الغنى ... وكسبتني أسنى المكاسب
شرفا تلقّبه العدا ... سرفا فيالك من معايب
وكسوتني حللا صقل ... ن خواطري صقل القواضب
حللا كديباج الخدو ... د مطرّزات بالشّوارب
فلتشكرنّ رياضنا ... جدوى سحائبك الصّوائب
ولتنظمنّ لك القصا ... ئد كالقلائد للكواعب
والنّمريّ هذا مليح الشّعر والأدب والخلق، ولمّا توجّه إلى ذي الكفايتين من البصرة وصف بعض ما عنّاه فقال:
لما رأيت كرم الأصما (1)
وشجر البلوط خضرا عمّا
وفتية عن الفصيح صمّا
ذكرت بالبصرة نخلا جمّا
وفتية بيض الوجوه شما
ناديت ياللهم فرّج غمّا
ما أسرع الشيء إذا ما حمّا (2)
فأمّا الجملة التي تمّت في أمر أبي الفتح ذي الكفايتين، فقد كنت في أوّل الكتاب قد وعدت بروايتها، وهذا موضعها على ما سنح الرأي فيه، ولعلّها تفيد وإن لم تكن من خاصّ ما في هذه الجملة لأن الرّسالة قد صارت كتاب خرافة (3)، وذاك أن القصد الأول لم ينحرف إلى هذه الفنون والشّعب، ولكن الحديث ذو شجون (4)، وله نزوة
__________
(1) بالأصل: «كرام»، والمعنى بعد غير واضح.
(2) حم الأمر: قضي وقدّر.
(3) الخرافة: الحديث المستملح.
(4) ذو فنون وأغراض.(1/528)
من القلب على اللّسان، ودبيب على اللّسان من القلب (1)، والاحتراس منه يقلّ، والغلط فيه يعرض، وحفظ الكلام على سننه من الكلف الشّاقة والأمور الصّعبة واللسان فيه أكثر إنصافا من القلم، واللفظ أعدل من الخطّ.
وبعد وقبل فالكلام في نشر العيب، وكشف القناع، وتدنيس العرض، وهجو الإنسان، ووصفه بالخبائث أكثر استمرارا، والمتكلّم فيه أظهر نشاطا، وأمرن عادة، وأوقد هاجسا، وأحضر عاطسا، وهذا لأن الشّر طباع والخير تكلّف، والطّينة أغلب.
وقد قال بعض فتيان خراسان: الإحسان من الإنسان زلّة، والرّحمة من القادر أعجوبة، والظّلم من المدلّ مألوف.
وقد قيل لبعض من انتجع مأمولا وأدرك حاجته منه: كيف انقلبت عن فلان؟
فقال: منعني لذة هجائه، وأكرهني على حسن الثّناء عليه، والقلوب مجبولة على حبّ الإحسان، والألسنة تابعة للقلوب، كما أن العيون ناطقة عن الضّمائر ولهذا قال الشاعر:
__________
(1) في الأصل: «على القلب».(1/529)
تحدّثني العينان ما القلب كاتم ... ولا جنّ بالبغضاء والنظر الشزر (1)
أي لا حائل ولا ستر. واللّحظ رائد، والقلب شاهد والرائد لا يكذب أهله، والشاهد لا يكذب نفسه.
وقلت لأبي سليمان شيخنا (2) ببغداد، وكان يتهادى كلامه، ويتشاحّ على ما يسمع منه:
لم صار السّبّ والهجاء وذكر كلّ عورة وفحشاء أخفّ على من حرم مأموله، ومنع ملتمسه، من الوصف الحسن والثّناء الجميل، والمدح الأغر المحجّل، والتّقريظ البليغ المتقبّل / على من صدقه ظنّه، وتحقّق رجاؤه، وحضرته أمنيته؟
فقال: لأن الذي يمدح يعلم (3) من نفسه [ما] عندها كالعتيد (4)، والذي يثلب يأخذ لنفسه ما ليس عندها كالمستقبل فالفصل بينهما كالفصل بين الغارم ما يملكه، وبين الغانم ما يطلبه.
وهذا كما قال، وهو أرجع إلى شفاء النّفس وبرد الغليل، وإلى بلوغ الغاية والاستيلاء على النّهاية.
* * * __________
(1) عجز البيت في اللسان (جنن).
(2) هو المنطقي، وقد ترجمته.
(3) في الأصل: «لعلم».
(4) العتيد: الحاضر.(1/530)
ولولا (1) أن هذين الرجلين أعني ابن عباد وابن العميد كان كبيري زمانهما، وإليهما انتهت أمور (2) وعليهما طلعت شمس الفضل، وبهما ازدانت الدّنيا، وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا، ويؤثر القبيح عنهما أثرا، لكنت لا أتسكّع (3) في حديثهما هذا التسكع، ولا أنحي (4) عليهما بهذا الحد.
ولكن النّقص ممّن يدّعي الكمال (5) أشنع، والحرمان من السيّد المأمول فاقرة (6).
والجهل من العالم منكر، والكبيرة ممن يدّعي العصمة جائحة (7).
والبخل ممن يتبرّأ منه بدعواه عجيب.
ولو أردت مع هذا كلّه أن تجد لهما ثالثا من جميع من كتب للجيل والدّيلم إلى وقتك هذا المؤرّخ في الكتاب لم تجد.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 2/ 302.
(2) بياض في الأصل قدر كلمة، وفي الإرشاد 2/ 302: «انتهت الأمور وعليهما».
(3) التسكع: التمادي في الباطل.
(4) أنحي: أميل.
(5) في الإرشاد: «التمام».
(6) الفاقرة: الداهية.
(7) ما بين الحاصرتين عن الإرشاد 2/ 302. والجائحة: المهلكة.(1/531)
كان من الحديث الذي زللنا عنه قليلا إلى هذا الموضع أن ركن الدّولة لمّا (1) مات في أول سنة ست وستين وثلاثمائة، اجتمع أبو الفتح ذو الكفايتين، وعليّ بن كامة، وتعاهدا وتعاقدا وتوافقا (2) وتحالفا، وبذل كلّ واحد منهما لصاحبه الإخلاص في المودّة في السّر والجهر (3)، والذّبّ في الظاهر والباطن، والتوقير عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة (4) والعقود المؤرّبة (5) والأسباب المغارة الفتل (6)، ودبّرا أمر الجيش، ووعدا الأولياء، وردّا النّافر وركبا الخطر (7)
الحاضر، وعانقا الخطب العاقر (8)، وباشر كلّ (9) ذلك أبو الفتح خاصة بحد من نفسه، وصريمة من رأيه، وجودة فكره، وصحّة نيته وتوفيق ربّه.
__________
(1) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 361.
(2) في الإرشاد: «وتواثقا».
(3) بحاشية الأصل: «والعلانية».
(4) التي تغمس صاحبها في الإثم.
(5) المؤرّبة: المحكمة. وفي الإرشاد: «الموثقة».
(6) فى الأصل: «المغارة المحمل».
(7) كذا في الإرشاد، وفي الأصل: «ألحاظ».
(8) العاقر: الجارح المؤلم.
(9) عن الإرشاد، وفي الأصل: «واسرحل».(1/532)
فلما ورد مؤيد الدولة الريّ من أصفهان وعاين (1) الأمر متّسقا ولحق كلّ فتق مرتتقا، بما تقدّم من الحزم فيه (2)، ونفذ من الرأي الصائب عنده (3)، أنكر الزيادة الموجبة للجند، وكرهها ودمدم بها (4).
فقال له أبو الفتح: بها نظمت لك الملك، وحفظت لك (5) الدّولة، وصنت الحريم، وإن (6) خالفت هذه الزيادة هواك أسقطت باليد الطولى (7).
وكان ابن عبّاد قد ورد، وحطبه رطب، وتنّوره بارد، وزرقه (8)
غير نافذ هذا في الظاهر، فأما في الباطن فكان يخلو (9) بصاحبه وينزيه (10) على أبي الفتح بما يجد إليه السّبيل من الطعن والقدح.
فأحسّ بذلك كلّه ابن العميد فألّب الأولياء على ابن عبّاد [حتى كثر
__________
(1) في الإرشاد: «وصادف».
(2) عن الإرشاد، وفي الأصل: «تقدم الحزم به».
(3) عن الإرشاد، وفي الأصل: «ونفذ الرأي فيه».
(4) الإرشاد: «فكرهها ودمدم بها».
(5) «لك» عن الإرشاد.
(6) في الإرشاد: «فإن».
(7) رواية الإرشاد: «فأسقطت، فاليد الطولى لك».
(8) الزرق: الرمي، وفي الإرشاد: «وأمره».
(9) في الأصل: «يخلوا».
(10) في الإرشاد: «ويوثبه».(1/533)
الشغب، وعظم الخطب] (1)، وهمّ بقتله، وقال للأمير: ليس من حقّ كفايتي في الدّولة وقد انتكث حبلها، وقويت أطماع المفسدين فيها، أن أسام الخسف، والأحرار [لا] (2) يصبرون على نظرات الدلّ وغمزات (3) الهوان.
فقال له في الجواب: كلامك مسموع، ورضاك متبوع، فما الذي يبرد فورتك منه؟
قال: ينصرف إلى إصفهان موفورا، فو الله لئن أنصفته في مطالبته برفع حساب (4) ما نظر فيه ليعرقنّ جبينه، وليقذفنّ جنينه، ولئن أحسّ الأولياء الذين اصطنعتهم (5) بمالي وإفضالي بكلامه في أمري، وسعيه في فساد حالي، ليكوننّ هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف، ومن المزن إذا نطف.
__________
(1) ما بين الحاصرتين عن الإرشاد.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) في الأصل: «في غمزات».
(4) في الإرشاد: «فو الله لو طلبته منصفا برفع الحساب لما».
(5) في الإرشاد: «أصطنعهم».(1/534)
فقال له: لا مخالف لرأيك، والنظر لك، والزمام بيدك.
وتلطف ابن عباد في عرض (1) ذلك لأبي الفتح، وقال: أنا أتظلم منك إليك، وأتحمل بك عليك وهذا الاستيحاش العارض سهل الزوال إذا تألّف (2) الشارد من حلمك على شافع كرمك (3) ولّني ديوان الإنشاء، واستخدمني فيه، ورتبني بين يديك، واحصرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك فإني صنيعة والدك، وأتجدد (4) بهذا صنيعة لك، وليس بجميل (5) أن تكرّ على ما بناه ذلك الرئيس فتهوّره (6)
وتنقضه ومتى أجبتني إلى ذلك (7) وأمّنتني [فإني] (8) أكون خادما (9)
بحضرتك. وكاتبا يطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره وفي هذا
__________
(1) في الإرشاد: «في خلال».
(2) في الإرشاد: «تألفت».
(3) في الإرشاد: «وعطفت على الشافع من كرمك».
(4) في الإرشاد: «واتخذني بهذا».
(5) في الإرشاد: «وليس يجمل».
(6) في الإرشاد: «فتهدمه».
(7) في الإرشاد: «إلى هذا».
(8) «فإني» عن الإرشاد.
(9) في الإرشاد: «خادمك».(1/535)
إطفاء الثّائرة التي قد تأرّبت (1) بسوء ظنّك، وتصديق (2)
أعدائي عليّ.
فقال في الجواب: والله لا تجاورني في بلد السّرير، وبحضرة التّدبير، وخلوة الأمير، ولا يكون لك أذن عليّ، ولا عين عندي.
وليس لك مني رضى إلا بالعودة (3) إلى مكانك [من إصبهان] (4)
والسلو عما تحدّث به نفسك.
فخرج ابن عباد من الريّ على صورة قبيحة خرج متنكرا بالليل.
وذاك (5) انه خاف الفتك والغيلة، وبلغ أصفهان وألقى عصاه بها ونفسه تغلي، وصدره يفور، والخوف شامل، والوسواس غالب.
وهمّ أبو الفتح بإنفاذ من يطلبه (6) ويؤذيه ويهينه، ويعسف به، فأحس هو بالأمر فحدّثني ابن المنجّم (7) قال: عمل على ركوب المفازة
__________
(1) تأربت: استحكمت واشتدت، وفي الإرشاد: «ثارت».
(2) في الإرشاد: «وتصديقك».
(3) في الإرشاد: «بالعود».
(4) عن الإرشاد.
(5) في الإرشاد: «وذلك».
(6) في الإرشاد: «يطالبه».
(7) في الإرشاد: «أبو النجم».(1/536)
إلى نيسابور لما ضاق عطنه، واختلف على نفسه ظنه، وإنا لفي (1) هذا وما أشبهه حتى بلغهم أن خراسان / قد أزمعت الدلوف إليهم، وتثاورت (2)
في الإطلال عليهم.
فقال الأمير لأبي الفتح: ما الرأي؟ قد نمي (3) إلينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة بعد موت ركن الدولة.
فقال أبو الفتح: ليس الرأي إليّ ولا إليك، ولا الهمّ علي ولا عليك.
هاهنا من يقول لك (4): أنت خليفتي، ويقول لي: أنت كاتب خليفتي، يدبّر هذا بالمال وبالرجال، وهو الملك [عضد الدّولة] (5).
قال: فاكتب إليه وأشعره بما قد (6) منينا به، وسله دواء (7) هذا الداء، وأبلغ في ذلك ما يوجبه الحزم الصّحيح، ويوذن بالسّعي النجيح، فكتب وتلطّف.
__________
(1) في الإرشاد: «وإنه لفي».
(2) فى الأصل: «وتشاورت».
(3) في الإرشاد: «وقد نمى».
(4) «لك» عن الإرشاد.
(5) ما بين الحاصرتين عن الإرشاد.
(6) في الإرشاد: «وأشع ما قد».
(7) في الارشاد: «وسله يداوي هذا».(1/537)
وصدر (1) في الجواب: إن هذا لأمر عجب، رجل مات وخلّف مالا، وله ورثة وابن، فلم يحمل إليه شيء من إرثه زيّا (2) عنه، واستئثارا به دونه، ثم خوطب (3) بأن يغرم شيئا آخر من عنده قد كسبه بجهده، وجمعه بسعيه وكدحه.
هذا والله حديث لم يسمع بمثله، ولئن استفتي في هذا الفقهاء لم يكن عندهم [منه] إلا التّعجّب والاستطراف، ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين:
أحدهما: أنه حرم ماله بحقّ الإرث، والآخر: أنه يطالب (4)
بإخراج ما ليس عليه وإن أبى قولي حاكمت (5) كلّ من سام هذا إلى من يرضى به.
فلما سمع مؤيد الدّولة هذا، وقرأه أبو الفتح قال:
ما ترى؟
__________
(1) في الارشاد: «فصدر».
(2) زوى عنه الشيء: نحاه وطواه عنه، وفي الارشاد: «زويا».
(3) في الارشاد: «ثم يخاطب».
(4) عن الارشاد، وفي الأصل: «يطلب».
(5) في الارشاد: وإن شاء حاكمت.(1/538)
قال: قد قلت، وليس لي سواه، أقول (1): هذا الرّجل هو الملك، والمدبّر، والمال كلّه ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده، والكلّ عليه والمهنأ له (2)، والاسم والجلالة عنده، وليس هاهنا إرث قد زوي عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنّادرة لا وجه لها في أمر الجدّ (3)
وفيما لا يتعلّق (4) باللّعب.
أمّا خراسان فكانت منذ عشرين سنة تطالبنا بالمال، وتهدّدنا بالمسير والحرب، ونحن مرة نسالم ومرة نحارب. ونحن في خلال ذلك نفرق المال بعد المال على وجوه مختلفة، واحسب أن ركن الدولة حيّ باق، هل كان له إلّا أن يدبّر بماله ورجاله ودخره وكنزه. أفليس هذا الحكم لازما لمن قام مقامه، وجلس مجلسه، وألقي إليه زمام الملك، وأصدر عنه كل رأي، وأورد عليه كلّ دقيق وجليل؟ وهل علينا إلا الخدمة والنّصرة والمناصحة بكل ما سهل وصعب كما كان ذلك عليه بالأمس من جهة الماضي؟
__________
(1) في الارشاد: «وليس لي قول سواه، هذا».
(2) الكلّ: الثقل. والمهنأ: ما أتاك بلا مشقة. وفي الارشاد «الكلّ له».
(3) عن الارشاد، وفي الأصل: «في المجد».
(4) في الارشاد: «لا تعلق له».(1/539)
فقال الأمير: (1) إن الخطب في هذا أراه يطول، والكلام يتردّد، والمناظرة تربو، والحجّة تقف، والفرصة تفوت، والعدوّ (2) يستمكن وأرى في الوقت أن نذكر وجها للمال حتّى نحتج [به] (3) ثم نستمدّ في الباقي منه، ونرضي الجند في الحال، ونتحزّم في الأمر، ونظهر المرارة والشّكيمة بالاهتمام والاستعداد، حتى يطير العين (4) إلى خراسان بجدّنا واجتهادنا، وحزمنا واعتمادنا، فيكون في ذلك تكسير (5) لقلوبهم وحسم (6) لأطماعهم، وباعث (6) على تجديد القول في الصّلح، وإعادة الكلام في المواعيد، وردّ الحال إلى العادة المعروفة، فقال: أسأل الله بركة هذا الأمر، فقد نشبت منه رائحة منكرة وما أعرف للمال وجها.
أما أنا فقد خرجت من جميع ما كان عندي مرة بما خدمت به الماضي تبرعا حدثان موت أبي، ومرة بما طالبني به سرا، وأوعدني بالعزل والاستخفاف من أجله، ومرّة بما غرمت في المسير إلى العراق في نصرة الدّولة.
__________
(1) في الارشاد: «فقال مؤيد الدولة».
(2) في الأصل: «والعدم»، وكأن الوجه ما أثبتاه.
(3) عن الارشاد.
(4) في الارشاد: «الخبر».
(5) فى الأصل: «في ذلك مكسر».
(6) في الأصل: «وحما وباعثا»، وفي الارشاد: وحسما وباعثا».(1/540)
وهذه وجوه استنفذت قلّي وكثري، وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه الغاية ما إن ذكرته كنت كالممتنّ على أولياء نعمتي، وإن سكت كنت كالمتّهم عند من يتوقّع عثرتي. وهذا هذا.
وأما أحوال (1) النّواحي فأحسن حالنا فيها أنّا نزجيها (2) إلى الأولياء في نواحيها مع النّفقة الواسعة في الوظائف والمهّمات التي ننويها.
وأما العامّة فلا أجوج الله إليها، ولا كانت دولة لا تثب إلا بها وبأوساخ أموالها.
فقال الأمير، وكان ملقّنا (3): هذا ابن كامة، وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون، وبيده بلاد، قد جمع هذا كلّه من نعمتنا (4) وفي مملكتنا وأيامنا وبدولتنا، وهو جامّ ما شيك (5)، ومختوم ما فضّ مذ كان.
ما تقول فيه؟
__________
(1) في الارشاد: «أموال».
(2) في الأصل: «نرحيها».
(3) يعني كان موحى إليه بهذا الكلام.
(4) في الارشاد: «في دولتنا».
(5) جام: مستريح سليم المال، وشيك: أصيب بشوكة، والمعنى أنّ ماله سليم لم يمس.(1/541)
قال: مالي فيه كلام، فإن بيني وبينه عهدا ما أخيس به (1)
ولو ذهبت نفسي.
فقال: اطلب منه القرض.
[قال: إنه يتوحّش (2) ويراه بابا من الغضاضة، وقدر القرض] (3)
لا يبلغ حدّ (4) الحاجة، فإن الحاجة ماسّة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا وأردّ على دولتنا من (5) موقع ذلك المال.
وبعد فرأيه وتدبيره واسمه وصيته وبداره إلى الحرب فوق المطلوب
قال: فليس لنا وجه سواه وإذ ليس هاهنا وجه، فليس بأس بأن نطالع الملك (6) بهذا الرأي لتكون نتيجته من ثم (7).
فقال: أنا لا أكتب بهذا فإنه غدر.
__________
(1) لا أخيس به: لا أغدر به.
(2) كذا بالأصل، وكأنها: «يتوجس».
(3) ما بين الحاصرتين عن الارشاد.
(4) في الارشاد «قدر».
(5) في الارشاد «أنفع لنا وأرد علينا وأحصن لنا وإلينا من موقع».
(6) في الأصل: «فارس».
(7) في الأصل: «قال: فليس هاهنا وجه سواه، والرأي أن تطالع فارس بهذا لا يكون لمنحرمن؟؟؟».(1/542)
قال: يا هذا! فأنت كاتبي وصاحب سرّي وثقتي، / والزّمام في جميع أمري، ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله فإن أنت لم تتولّ حارّه وقارّه، وغثّة وسمينة، ومحبوبه ومكروهه، فمن؟
قال: أيها الأمير! لا تسمني الخيانة، فإنيّ قد أعطيته عهدا نقضه يذر الدّيار بلاقع، ومع اليوم غد، ولعن الله عاجلة تفسد آجلة.
فقال: إني لست أسومك أن تقبض عليه، ولا أن تسيء إليه.
أشر بهذا المعنى على ذلك المجلس (1)، وخلاك ذمّ فإن رأى الصّواب فيه تولّاه دونك كما يراه، وإن أضرب عنه عاضنا رأيا غير ما رأينا، وأنت على حالك لا تنزل عنها ولا تبدّل بها وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت أن تكتب بين يديّ حرفين: أنّه لا وجه لهذا المال إلّا من جهة فلان، ولست أتولىّ مطالبته به، ولا مخاطبته عليه، وفاء له بالعهد، وثباتا على اليمين، وجريا على الواجب ولا أقلّ من أن تجيب إلى هذا القدر، وليس فيه ما يدل على شيء من النّكث والخلاف والتّبديل.
__________
(1) في الإرشاد: «المعنى إلى الملك عضد الدولة».(1/543)
فما زال هذا وشبهه يتردّد بينهما حتى أخذ خطّه بهذا النّص على أن يصدره إلى فارس (1).
فلما حصل الخطّ، وجنّ الليل، روسل ابن كامة وحضر، وقال له الأمير: أما عندك حديث هذا المخنّث فيما أشار به على الملك في شأنك (2)، وأورد عليه في أمرك من إطماعه في مالك ونفسك، وتكثيره عنده ما تحت يدك، وفي ناحيتك مع صاحبيك؟
فقال عليّ بن كامة: هذا الفتى يرتفع عن هذا الحديث، ولعلّ عدوّا قد كاده به (3)، وبيني وبينه ما لا منفذ للسّحر فيه، ولا مساغ لظنّ سيّء فيه.
قال: فما قلت ما سمعت إلا على تحقيق (4)، ودع هذا كلّه يذهب في الرّيح، هذا كتابه إلى فارس (5) بما عرّفتك، وخطّه.
__________
(1) في الارشاد: «إلى أخيه عضد الدولة بفارس».
(2) في الأصل: «مالك»، وفي الارشاد: «بابك» وكأن الصواب ما أثبتناه.
(3) «به»، عن الارشاد.
(4) في الارشاد: «إلا بعد أن حققت ما قلت».
(5) في الارشاد: «إلى الملك».(1/544)
قال عليّ: فإني لا أعرف الخطّ، ولكن كاتبي يعرف، فإن أذنت حضر.
قال: فليحضر. فجاء الخثعميّ الكاتب، وشهد أن الخطّ خطّه، فحال ابن كامة عن سجيته، وخرج من مسكه (1)، وقال: ما ظننت أن هذا الفتى بعد الأيمان التي بيننا يستجيز هذا.
قال الأمير: أيها الرجل! إنما أطلعك الملك على نية هذا الغلام فيك، لتعرف فساد ضميره لك، وما هو عليه من هنات أخر، وآفات هي أكثر من هذا وأكبر وقد حرّك خراسان علينا، وكاتب صاحب جرجان، وألقى إلى أخينا بهمذان، يعنى فخر الدّولة، أخبارنا، وهو عين هاهنا لبختيار (2) وقد اعتقد أنه يعمل في تخليص (3) هذه البلاد له، ويكون وزيرا بالعراق، وقد ذاق ببغداد ما لا يخرج من ضرسه إلا بنزع نفسه.
وكان المجوسيّ أبو نصر (4) قد قدم [من عند الملك عضد
__________
(1) المسك، بالضم العقل يرجع إليه الرجل عند الغضب.
(2) انظر الإرشاد 5/ 355، 374.
(3) في الإرشاد «تحصيل».
(4) هو أبو نصر خوشاده المجوسي، من ثقات رجال عضد الدولة، وقد أرسله إلى أخيه مؤيد الدولة للقبض على أبي الفتح ابن العميد بعد أن يوافق ابن كامة على أمره، ليؤمن ناحية العسكر. الارشاد 5/ 357.(1/545)
الدولة (1)] وهو يفتل الحبل ويبرم، ويؤخّر مرّة ويقدّم أخرى، ويهاب مرة ويقدم وكان الحديث قد بيّت بليل (2)، واهتمّ به قبل وقته بزمان.
قال علي بن كامة: فما الرأي الآن.
قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه، وقد كنّا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظنّ [بنا] أنّا هجمنا على نصيحنا (3) وكافينا، وعلى ربيب نعمتنا، وناشيء دولتنا فمهّدنا عندك العذر، وأوضحنا لك الأمر.
قال: فأنا أكفيكموه. ثم كان ما كان (4).
قال الخليلي: وكلّ هذا جرّه عليه الاستبداد بالرأي، والغرارة والتّواني وقلّة التّجربة، والرّكون إلى وصيّه الميت، وسوء النّظر في العواقب، ومجانبة الحزم والرأي الثاقب وكان أمر الله مفعولا.
ورأيت الخليليّ، والهرويّ، والشاعر المغربيّ، وجماعة من خلطاء
__________
(1) ما بين الحاصرتين عن الارشاد.
(2) في الارشاد 5/ 357تفصيل لقضية التآمر على أبي الفتح ابن العميد.
(3) في الإرشاد «ناصحنا».
(4) في الإرشاد «ثم قبض عليه وكان منه ما كان».(1/546)
أبي الفتح، كابن فارس، وابن عبد الرّحيم يخوضون في حديثه، وقالوا:
كان الرأي كذا وكذا، فقال المغربيّ: أجود من هذه الآراء كلّها أن كان يضرب عنق المجوسي جهارا أتى الدهر بما أتى، وما كان ليكون أشدّ مما كان ولعلّه كان يطرح هنيّة، ويصير سببا إلى خلاص.
وذهبوا في القول كل مذهب.
وفي الجملة القدر لا يسبق، والقضاء لا يملك ومن استوفى أكله استفنى أجله، والكلام فضل، والرأي الدّبري مردود، ومن ساوق الدّهر غلب، ومن لجأ إلى الله فقد فاز فوزا عظيما.
ما وصلنا حاطك الله حديثا بحديث، وكلمة بكلمة، إلا لتكثر الفائدة، ويظهر العلم، ويكون ما صرّفنا القول فيه مرفودا بالحجّة الناصعة، والامتاع المونق.
أيّها السامع! قد سمعت صريح الحديث ودعيّه، وعرفت مسخوطه ومرضيّه فإن كان الله قد ألهمك العدل، وحبّب إليك الإنصاف، وخفّف عليك الرفق، ووفّر نصيبك من الخير، ورفع كعبك في الفضل، فقد رضيت بحكمك، وأمنت عداوتك، ووثقت بما كتب الله لي على لسانك، وجعله حظّي منك.(1/547)
/ واعلم أنك إن كنت تريد الاعتذار فقد أسلفت الواضح فيه، وإن كنت تطلب الاحتجاج فقد أتى البيان عليه، وإن كنت تغضب لابن عبّاد أو لابن العميد فقد شحنت هذا الكتاب من فضلهما وأدبهما وكرمهما ومجدهما، بما إذا ميّزته وأفردته ثم اجتليته وأبصرته، واقع نفسك، وشفى غليلك، وبلغ آخر مرادك وإلا فعّرفني من جمع إلى هذا الوقت عشر ورقات في مناقبهما وآدابهما ومكارمهما، وما ينطق عن اتّساعهما وقدرتهما، ويدعو إلى تعظيمهما وتوفية حقوقهما ومعرفة أقدارهما وهممهما، ممّن لهما عليه الإصبع الحسنة، واليد الخضراء، والنّعمة السّابغة، ومن لم يذكر إلا بهما، ومن لم يعرف إلا في أيامهما، ومن لو لم يلتفت إليه واحد منهما لكان يحرس في الدّروب، أو يلقط النّوى في الشّوارع، أو يوجد في أواخر الحمّامات.
ودع الشعراء جانبا، فإنما ذاك عن حسب دنيّ، ومذهب زريّ، وطمع خسيس، ومقام نذل، وموقف مخجل ولكن هات رسالة مجرّدة، وأديبا فاضلا وعالما مذكورا تجرد (1) لنصرتهما، ودلّ على خفيّ فضلهما، أو عجّب من جليّ فعلهما!
__________
(1) في الأصل «وأديب فاضل وعالم مذكور».(1/548)
فإذا كنت لا تجد ذلك، فدع الكلب ينبح، فإنما الكلب نبّاح.
على أني حفظك الله لا أبرّىء نفسي في هذا الكتاب الطّويل العريض من دبيب الهوى، وتسويل النّفس، ومكايد الشيطان، وغريب ما يعرض للإنسان.
فإن وقفت على شيء من ذلك وقرأت العذل علينا، وسال في اللائمة من أجله وإياك (1) أن تجي جلدة لا تدمى بشفرتك، أو تسند (2) إلى جمجمة لا تقشعرّ ذوائبها بريحك، وأن تمتحن جوهرا لا يحاص عيبه بنارك.
واستيقن أن من ركب سنام هذا الحديث كما ركبته، وسبح في غامر هذه القصّة كما سبحت، وقال ما قلت، وعرّض بما عرّضت، فغير بعيد أن يحكم له وعليه بمثل ما يحكم به لي وعليّ، وإذا كان الحكم لازما، وهذا القياس مطّردا، فالرّضا بهما عز، والصّبر عليهما شرف (3)
وإني لأحسد الذي يقول:
__________
(1) كذا بالأصل، ولعل صحة الكلام «وقرأت العذل علينا، و [رأيت من] سال في اللائمة من أجله، فإياك».
(2) تسند ترتفع.
(3) نقله ياقوت في الإرشاد 5/ 405404.(1/549)
أعدّ خمسين عاما (1) ما عليّ يد ... لأجنبيّ ولا فضل لذي رحم
الحمد لله شكرا قد قنعت فلا ... أشكو لئيما ولا أطري أخا كرم
لأني أتمنّى أن أكونه، ولكنّ العجز غالب، لانه مبذور في الطّينة.
ولقد أحسن الآخر أيضا حين يقول:
ضيّق العذر في الضراعة أنّا ... لو قنعنا بقسمنا لكفانا
ما لنا نعبد العباد إذا كا ... ن إلى الله فقرنا وغنانا
وأدعوها (2) هنا بما دعا به بعض النّسّاك (3):
«اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبتذ لها بالإقتار فنسترزق أهل رزقك، ونسّأل شرار خلقك، فنبتلى بحمد من أعطى وذمّ من منع.
وأنت من دونهما وليّ الإعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسّماء.
يا ذا الجلال والإكرام (3).
__________
(1) في الإرشاد «حولا».
(2) في الأصل «وأدعوا».
(3) هذا الدعاء في خاتمة «رسالة العلوم» لأبي حيان ص 208.(1/550)
الفهارس
1 - أعلام.
2 - جماعات وهيئات وقبائل.
3 - أماكن.
4 - كتب.
5 - أحاديث نبوية.
6 - أمثال.
7 - قوافي.
8 - كلمات ذات دلالات خاصة.(1/551)
1 - الأعلام(1/553)
آ
الآبى 11، 45، 146، 159.
الآمدى 265.
إبراهيم (عم) 372، 441.
إبراهيم بن سيابة 75.
إبراهيم بن سيار النظام (330)، 396 (493).
إبراهيم بن العباس الصولى (55)، 331، 397.
إبراهيم بن علي الفارسي أبو اسحاق 352.
إبراهيم بن علي المتكلم أبو أسحاق النصيبي (202)، (211)، 297.
إبراهيم قويري أبو اسحاق (237)، 243.
إبراهيم بن كنيف النبهاني 5.
إبراهيم بن المرزبان 460.
إبراهيم المسلم الطبيب 401.
إبراهيم بن هلال الصابي (139)، 298، 315، 414، 415.
إبليس 63.
الأبهري أبو سعيد: القاسم بن عطية.
ابن الأبار 74.
ابن الأثير 81، 82، 91، 107، 166، 294، 321، 323، 347، 348، 403، 414، 431، 445.(1/555)
أحمد بن إبراهيم بن عبد الله الفلانسي (140).
أحمد بن اسماعيل بن سمكة القمى (235).
أحمد بن بشر بن عامر أبو حامد المروروذي: 99، 202، 207 (223) 224، 289، 290، 476.
أحمد تيمور 395.
أحمد بن جعفر بن موسى جحظة (150).
أحمد بن الحسين البديع الهمذاني (192).
أحمد بن الحسين الجعفي المتنبي 152، 194، (352).
أحمد بن حنبل الإمام 8، 156، 186، 458.
أحمد بن أبي خالد (332).
أحمد بن أبي دواد القاضي 42، (43)، (73)، 252، (288).
أحمد بن أبي شجاع معز الدولة 20، (174)، 294.
أبو أحمد العلوي العقيقي أمير المدينة 511، 512.
أحمد بن علي الحنفي الرازي أبو بكر الجصاص (203).
أحمد بن فارس المعلم صاحب اللغة (147)، 319، 387، 413، 447، 448، 452، 486، 510، 547.
أحمد بن محمد بن إبراهيم الضبي 171.
أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي ابن القطان (178).
أحمد بن محمد بن ثابت البغدادي (173)، 220.
أحمد بن محمد الطبري أبو الحسن (115).
أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي (235)، 247.
أحمد بن محمد العوفي (294).
أحمد بن محمد بن يحيي أبو الحسين بن أبي البغل (347).
أحمد بن محمد بن يعقوب أبو علي مسكويه (23)، 201، 327، 346، 464.(1/556)
أحمد بن يحيى بن إسحاق، ابن الراوندي 123، (183).
أحمد بن يحيى ثعلب 5، 165، 262، 404، 412.
أحمد بن يحيى بن محمد بن خالد بن ثوابة الكاتب (275)، 236، 238، 247.
أحمد بن يوسف الكاتب 55.
الأحوص: عبد الله بن محمد بن عبد الله.
ابن أبي خالد: أحمد بن أبي خالد.
ابن الإخشيد 203.
الأخفش: علي بن سليمان.
إدريس بن أبي حفصة أبو سليمان (267).
أرسطوطاليس 42، 115، 324، 368327.
الأزهري 5، 109.
الاستاذ: ابن العميد أبو الفتح.
الاستاذ: ابن العميد أبو الفضل.
إسحاق (عم) 441.
إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله البربري (232).
إسحاق الطبري أبو الحسن 224.
الإسكاف أبو علي 467.
اسماعيل بن إبراهيم (عم) 441، 494.
إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه الحمدوني الشاعر (53).
إسماعيل بن أحمد الساماني 403.
إسماعيل بن بلبل الوزير 74.
إسماعيل بن عباد الصاحب 9، 49، 7973، (80) 85، 94، 95، 105، 107، 108، 109، 110، 111، 113، 114،
116، 118، 122، 123، 127، 130، 132، 139، 142، 153، 161، 165، 167، 169، 173، 174، 179، 184، 186، 187، 188، 190، 192، 195، 201، 208، 211، 213، 214، 219، 230، 231، 247، 248، 249، 251، 252، 253، 255، 261، 267، 278، 280، 281، 282، 283، 287، 295، 298، 299، 300، 305، 307، 373، 314، 321، 329، (330)، 341، 342، 348، 364، 376، 377، 391، 392، 394، 395، 396، 401، 402، 404، 417، 420، 445، 461، 462، 464، 465، 466، 467، 471، 474، 475، 477، 479، 480، 482، 483، 490، 491، 505، 510، 514، 531، 533، 535، 536، 548.(1/557)
إسماعيل بن عباد الصاحب 9، 49، 7973، (80) 85، 94، 95، 105، 107، 108، 109، 110، 111، 113، 114،
116، 118، 122، 123، 127، 130، 132، 139، 142، 153، 161، 165، 167، 169، 173، 174، 179، 184، 186، 187، 188، 190، 192، 195، 201، 208، 211، 213، 214، 219، 230، 231، 247، 248، 249، 251، 252، 253، 255، 261، 267، 278، 280، 281، 282، 283، 287، 295، 298، 299، 300، 305، 307، 373، 314، 321، 329، (330)، 341، 342، 348، 364، 376، 377، 391، 392، 394، 395، 396، 401، 402، 404، 417، 420، 445، 461، 462، 464، 465، 466، 467، 471، 474، 475، 477، 479، 480، 482، 483، 490، 491، 505، 510، 514، 531، 533، 535، 536، 548.
إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية (25)، 26.
أبو الأسود الدؤلي: ظالم بن عمرو.
أشجع السلمي: أشجع بن عمرو.
أشجع بن عمرو السلمي (43).
الأشعري 140، 467، 494.
الأشل الكاتب 13، 19.
الأشناني: عمر بن الحسن بن مالك أبو الحسين.
الأصمعي 63.
ابن أبي أصيبعة 116.
ابن الأعرابي: محمد بن زياد.
ابن الأعرج النمري 410.
الأعشى 370.(1/558)
اعشى همدان: عبد الرحمن بن لاعط أبو المصبح.
الأعلم 370.
الأعلم بن جرادة السعدي 471.
أفلاطون 324، 368.
أفولونيوس
الأقطع المنشد الكوفي 184، 186، 187، 308.
أم حبيش 35.
الإمام أحمد: أحمد بن حنبل.
ابن الإمام (طفيلي) 397.
امرؤ القيس (147).
أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد 369، 371.
الأمين بن الرشيد العباسي (489).
الأمين: عباد بن العباس والد الصاحب.
ابن الأمين: اسماعيل بن عباد.
ابن الأنبارى 20، 252، 308.
ب
ابن باب: عمرو بن عبيد.
ابن بابويه القمى: علي بن الحسين،
ابن باش أبو علي 139.
الباقلاني 396.
البحتري: الوليد بن عبيد بن يحيى.(1/559)
البخاري 267، 268.
بختيار بن معز الدولة بن بويه 20، (202)، 205، 206، 207، 405 (406)، 545.
بختويه النيسابوري 232.
البديع الهمذاني: أحمد بن الحسين.
البديهي الشاعر: على بن محمد بن علي.
البربري: إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله.
البربهاري: الحسن بن علي بن خلف.
البربهاري: محمد بن الحسن بن كوثر.
البربهاري: محمد بن موسى بن سهل العطار.
برهان الصوفي (44).
بروكلمن 42، 73.
البزاز 202.
بشار بن برد 5، 468.
بشر الحافي: بشر بن الحارث المروزي (44).
أبو بشر متىّ: متىّ أبو بشر.
بشر المريسي 396.
البصري: الحسين بن على الجعل أبو عبد الله.
البصيري الشاعر 405.
البطليوسي 39.
بغا الكبير أبو موسي التركي (57).
البغدادي: الخطيب البغدادي.
البغدادي: عبد القادر البغدادي.
البغدادي عبد القاهر 154.(1/560)
ابن أبي البغل: أحمد بن يحيى أبو الحسين.
ابن البقال الشاعر: علي بن يوسف.
ابن بقية الوزير: محمد بن محمد بن محمد.
بكر بن شاذان (167).
أبو بكر الصديق: عبد الله بن أبي قحافة.
البكري 63.
البلخي: أبو زيد البلخي.
البلعمي أبو الفضل: محمد بن عبد الله.
بلنياس (بلنيوس، بلنياس): أفولونيوس.
ابن بنان الوراق 210.
ابن بندار أبو العباس (348)، 351، 458، 459.
بهاء الدولة 312.
ابن البواب 174.
البوزجاني: محمد بن محمد بن يحيى.
بويه بن ركن الدولة مؤيد الدولة (110)، 127، (296)، 418، 464، 534، 537، 538، 540، 541، 543، 544، 545، 553.
البيروني 113، 115، 345، 442.
البيع أبو علي 322.
البيهقي 302.
ت
التاجر المصري 298، 495.
التبريزي 5، 34، 58، 454.
الترمذي 8.(1/561)
أبو تمام 380، 397، 456.
ابن تميم 229.
التميمي الشاعر المصري الرغيب سبطل 116، 308، 318، 482.
ث
ابن ثابت 228، 267، 288، 308، 327.
ابن ثابت البغدادي: أحمد بن محمد بن ثابت.
ابن ثابت البغدادي: محمد بن ثابت أبو بكر.
الثعالبي 73، 81، 105، 113، 114، 161، 171، 229، 294، 327، 352، 365، 375، 408.
ثعلب: أحمد بن يحيى.
ابن الثلاج المتكلم: عبد الله بن محمد بن عبد الله.
ثمامة بن أشرس النميري 25، (288).
ابن ثوابة: أحمد بن يحيى بن محمد بن خالد.
ابن أبي الثياب: عبد الرزاق بن الحسن الشاعر.
ج
جابر بن حيان 443.
الجاحظ: عمرو بن بحر أبو عثمان.
الجامدي: محمد بن حامد الشاعر.
الجبائي: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.(1/562)
الجبائي: محمد بن عبد الوهاب.
جبريل 206.
جحظة: أحمد بن جعفر بن موسى.
جحشوية 175.
الجد ين قيس (45).
ابن الجراح: علي بن عيسى بن داود.
ابن الجراح: محمد بن داود.
الجراحي أبو الحسن 506.
الجراحي: أبو طالب الجراحى الكاتب.
الجرباذقاني أبو بكر 118، 120.
الجرجاني 18، 146، 341.
الجرجرائي: محمد بن أحمد البغدادى الكاتب.
الجرفاذقاني: الجرباذقاني أبو بكر.
جرول بن أوس بن مالك الحطيئة (24).
جريج (جريح؟) المقل شاعر من آذربيجان 326، 379، 380 383، 435.
جرير 226، 413
ابن جرير الطبري 112.
الجريري غلام بن طرارة 112.
جزء بن غالب بن عامر الخزاعي ابن أبي كبشة 381.
الجزري 404.
جستان بن المرزبان (348).
الجصاص: أحمد بن علي الحنفي أبو بكر.
أبو الجعد الأنباري 506.(1/563)
جعدة 110.
جعفر بن حرب الهمداني (155).
أبو جعفر الخازن: الخازن.
أبو جعفر الخطيب النيسابوري 427.
جعفر بن مبشر الثقفي 155.
جعفر بن الواثق المتوكل العباس 57، (145)، 146، 157، 170، 288، 388.
أبو جعفر الوراق 317.
جعفر بن يحيي بن خالد البرمكي 266.
الجعفران 154.
الجعل: الحسين بن علي بن إبراهيم البصري.
ابن الجلبات الشاعر: علي بن الحسن التنوخي أبو القاسم.
الجنيد 44.
أبو جهل: عمرو بن هشام المخزومي.
أبو الجوزاء الرقي 127.
ابن الجوزي 488.
أبو الجيش الخراساني شيخ الشيعة 203، 206، 207.
الجيلوهي الشاعر 190، 198، 264، 282.
ح
أبو حاتم السجستاني: سهل بن محمد.
الحاتمي: محمد بن الحسن بن المظفر.
الحاجب النيسابوري 125، 385.(1/564)
حامد بن العباس (189).
أبو حامد المروروذي: أحمد بن بشر بن عامر.
أبو الحباب 174.
ابن حبيب 381.
حبيشة 89.
ابن الحجاج الشاعر: الحسين بن أحمد بن محمد.
حجاج بن هارون الكاتب 159.
الحجاج بن يوسف التميمي 374.
ابن حجر العسقلان 63، 208، 267، 381.
ابن أبي الحديد 228.
الحراني 72.
أبو الحرث حمين (75)، (150).
ابن حرثان: عمرو.
حرثان بن عمرو (369)، 371.
حرثان بن محرث ذو الاصبع العدواني 88.
الحريري غلام بن طرارة: الجريري.
أبو الحريش.
ابن حزم 40، 229، 396.
الحزنبل: محمد بن عبد الله بن عاصم.
ابن حسان 481.
حسان بن ثابت (8)، (95)، 458.
الحسن البصري: الحسن بن أبي الحسن.
أبو الحسن البغدادي 73.
الحسن بن بويه أبو علي ركن الدولة (81)، 94، 110، 115، 125
130، 131، 132، 294، (322)، 342، 345، 346، 418، 421، 431، 446، 526، 532، 537، 539.(1/565)
الحسن بن بويه أبو علي ركن الدولة (81)، 94، 110، 115، 125
130، 131، 132، 294، (322)، 342، 345، 346، 418، 421، 431، 446، 526، 532، 537، 539.
الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد 39 (40)، 41، 68، 253، 254، (473).
الحسن بن رجاء (74).
الحسن بن رشيق القيرواني 6، 266، (400).
أبو الحسن الطبري: إسحاق الطبري.
أبو الحسن الطبيب 220.
الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي أبو سعيد (68)، 164، 220، 248، 264، 307، 352، 370، 401، 402، 410، 411، 413، 414، 496، 518.
أبو الحسن العلوي الهمذاني (95).
الحسن بن علي بن ابراهيم البصري الكاغدي 201.
الحسن بن علي بن خلف البربهاري (295) 506.
الحسن بن محمد بن هارون المهلبي الوزير 161 (169)، 174، 226، 392
الحسن بن وهب (171).
الحسنكي أبو عمران 262، 266، 276.
الحسن بن أحمد بن سعدان (313).
الحسين بن علي بن إبراهيم البصري الجعل 201، 204، 205 (208) 209، 211، 212، 213، 214.
الحسين بن علي بن عبد الله النمري الشاعر (523)، 528.
الحسين بن علي بن محمد الخالع (249).
الحسين المتكلم 260، 396، 401، 467.
الحسين بن محمد أبو عبد الله النجار 167، (396).(1/566)
الحسين بن محمد كلة العميد (81)، 82، 338، 353، 358، 359، (360).
الحصري 436.
حصن بن حذيفه بن بدر الفزاري 412.
الحصيري أبو عبد الله 255، 465، 466.
الحصين بن الحمام المري 58.
الحطيئة: جرول بن أوس.
الحلاء: الناشي.
ابن حماد: عبد الله بن حماد.
حمد بن محمد أبو الفرج الكاتب 385، (421)، 422.
ابن حمدون: محمد بن عبد الله.
الحمدوني الشاعر: اسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه.
حمدويه صاحب الزنادقة 53.
حمزة بن الحسن الأصبهاني (73)، 358.
حمزة بن عبد المطلب (ض) 427.
حمزة المصنف: حمزة بن الحسن الأصبهاني.
ابن حمزة 261.
حميد بن أبي شحاذ الضبي 33.
أبو حنيفة الإمام: النعمان بن ثابت.
حنين 87.
أبو الحوراء الرقي: أبو الجوزاء الرقي.
أبو حيان (المعمّر) 310.
أبو حيان الأندلسي 6، 252.
أبو حيان البصري 309.(1/567)
أبو حيان التوحيدي 4، 8، 12، 13، 19، 20، 23، 26، 30، 44، 66، 68، 73، 97، 109، 110، 118، 124، 130، 133، 142، 173، 177، 183، 188، 203، 204، 211، 224، 235، 264، 291، 294، 302، 306، 307، 308، 309، 322، 324، 326، 328، 352، 385، 400، 403، 421، 452، 454، 473، 490، 492، 523، 550.
أبو حيان الدارمي 308، 309.
الحيلوهي: الجيلوهي.
خ
ابن خارجة 421، 422.
الخازن أبو جعفر 113، (346)،
ابن خاقان: عبيد الله بن محمد بن عبيد الله.
خالد بن زهير الهذلي 393.
خالد بن علقمة الدارمي 33.
الخالع: الحسين بن أبي جعفر علي بن محمد.
ابن خالويه 6.
الخثعمي 142، 160، 162، 163، 165، 166، 168، 172، 545.
ابن أبي خراسان الفقيه 102.
الخراساني 231.
الخراساني: أبو واقد الكرابيسي.
الخرائطي 104، 105.
الخسوعي 229.(1/568)
أبو الخصيب: الشيخ الحربي أبو الخصيب.
الخضري 264.
الخطفي جد جرير 413.
الخطيب (نحوي) 264.
الخطيب البغدادي 155، 173، 396.
الخفاجي 21.
ابن خلدون 344.
الخلدي 159.
ابن خلكان 165، 183، 335.
خليفة بن حمل بن عامر ذو الخرق الطهوي (34).
أبو خليفة الفضل بن الحباب 80.
الخليل بن أحمد الفراهيدي (220)، 221.
خليل أدهم 431.
الخليلي 125، 126، 127، 132، 326، 352، 360، 365، 455، 457، 482، 486، 490، 546.
الخليلي أبو يعلى 121.
ابن خميس الموصلي 45.
الخنساء 481.
الخوارزمي: محمد بن العباس أبو بكر.
ر
الدامغاني 202، 252، 254.
أبو داود 156، 163.(1/569)
دعبل بن علي الخزاعي 6، 64، 75، 456.
دعيميص الرمل (258).
دغة (84).
أبو دلف الخزرجي: مسهر بن مهلهل.
الدماميني 266.
الدميري 39.
ابن أبي دؤاد: أحمد بن أبي دؤاد.
ديك الجن: عبد السلام بن رغبان.
ديوجه لقب الصاحب 462.
ذ
الذهبي 20، 50، 115، 121، 201، 203، 249، 321، 328.
ذو الأصبع العدواني: حرثان بن محرث.
ذو الخرق الطهوي: خليفة بن حمل بن عامر.
ذو الرمة 512.
ذو الكفايتين: ابن العميد أبو الفتح.
أبو ذؤيب الهذلي 388، 393.
ر
رأس الجالوت اليهودي (299).
ابن الرازي 462، 468.
الرازي أبو بكر: أحمد بن علي الحنفي.(1/570)
الرازي أبو الفتح 202، 211.
الراضي العباس 67، 73، 414.
الراغب الاصبهاني 34، 43، 54، 110، 114، 118، 139، 229، 321، 387، 468.
أبو راغب 151، 153.
ابن الراوندي: أحمد بن يحيى بن اسحاق.
أبو الربيع: محمد بن الليث.
رسول الله: محمد (ص).
الرشيد (هارون) 43، 53، 266، (488).
ابن رشيق: الحسن بن رشيق.
الرقاشي: عبد الملك بن محمد أبو قلابة.
ركن الدولة: الحسن بن بويه أبو علي.
الرمادي: يوسف بن هارون الرمادي أبو عمر.
الرماني: علي بن عيسى بن عبد الله.
روبين (332)، 334.
ابن الرومي: علي بن العباس بن جريج أبو الحسن.
الروياني 167.
أبو ريدة محمد عبد الهادي.
ز
الزبرقان 472.
زبيدة بنت جعفر (489).
الزبيدي 68، 220، 221، 257.
الزبير (ض) 247.(1/571)
الزجاجي 6، 471.
ابن زرعة الفقيه 319.
الزرقاني 157.
الزعفراني 98، 109.
الزعفراني الشاعر: عمر بن ابراهيم.
الزعفراني: محمد بن أحمد بن عبدوس أبو الحسن.
الزعفراني النحوي أبو عبد الله 127.
الزمخشري 254.
زهير بن أبي سلمى 5، 370، 412.
ابن الزيات المتكلم 190.
ابن الزيات: محمد بن عبد الملك.
زياد بن أبيه 184.
زياد بن سليمان الأعجم (89).
أبو زيد الأنصاري: سعيد بن أوس.
أبو زيد البلخي 115، 167.
زيد بن حارثة 110.
زيد بن علي بن الحسين 80، (167)، 168.
أبو زيد الكلابي.
زينب (ض) 78.
س
سارطون 345، 346.
سبطل المصري: التميمي الشاعر المصري الرغيب.(1/572)
السبكي 123، 201، 224، 252، 477.
سحبان بن وائل (362).
سحيم بن وثيل الرياحي 470.
السخاوي 44، 507.
سديف بن اسماعيل بن ميمون المكي (56).
السرخسي: أحمد بن محمد بن الطيب.
ابن سعد 40.
أبو سعد المخزومي: عيسى بن الوليد.
سعد مولى أبي بكر (267).
ابن سعدان: الحسين بن أحمد.
سعيد بن أوس الأنصاري أبو زيد (248).
سعيد بن حميد (72)، 145، 362.
السعيد: نصر بن أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان 403.
أبو سعيد السيرافي: الحسن بن عبد الله.
السفاح العباسي 56، 74.
أبو سفيان 427.
سقراط 324، 368.
السلامي 174.
السلامي أبو علي 403.
السلامي: محمد بن عبد الله أبو الحسين.
سلم 119.
سلم بن زياد 199.
أبو السلم مسلم الأعرابي 219.
أبو السلم: نجبة (تحية؟) بن علي القطاني الشاعر.(1/573)
السلمى 474.
سليمان بن علي (220)، 221، 222.
سليمان بن قبيصة بن يزيد 220.
سليمان بن مختار 144.
أبو سليمان المنطقي: المنطقي.
السمعاني 184.
ابن سمكة القمي: أحمد بن اسماعيل.
سهل بن محمد السجستاني أبو حاتم 18، (278).
سهل بن هارون (72).
سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر.
ابن سيرين 293.
السيوطي 293.
السيوطي 184، 308.
ش
ابن شاذان: بكر بن شاذان.
ابن شاذان أبو الحسن 261، 279.
ابن شاذان القاضي 363.
الشاذياشي أبو علي 102، 103، 196، 197، 198، 301، 495.
الشاعر المغربيّ 546، 547.
ابن شاكر 20، 108، 113، 144، 427.
شبيب بن شيبة الخطيب (392).
ابن الشجري 5.(1/574)
شداد بن الأسود بن شعوب 381.
الشريشي 229، 249، 282، 303، 362، 374، 400، 481.
الشريف الجرجاني 154.
الشريف الرضي 147.
الشريف المرتضى 5، 42، 177، 183، 184.
الشمردل 278.
شمسويه 341.
الشهرستاني 155، 229.
الشويعر الحنفي: هانيء بن توبة الشيباني.
ابن أبي شيبان 203.
الشيخ الحربي أبو الخصيب 511، 512، 513.
الشيخ المفيد 80.
الشيخان (أبو بكر وعمر) 404.
الشيرازي 40، 178، 201.
ابن أبي الشيص: عبد الله.
الشيطان 486.
ص
الصابي 81، 224.
الصابي: إبراهيم بن هلال.
الصاحب: إسماعيل بن عباد.
صاحب جرجان 545.(1/575)
الصادق (جعفر) 255.
أبو صادق الطبري 261، 316.
صاعد الأندلس 42.
الصاغاني أبو حامد (115).
الصاغاني أبو علي 346.
صالح بن إسحاق الجرمي 165.
أبو صالح الرازي الصوفي 511.
صالح بن عبد القدوس (183)، (382).
صالح الوراق 308.
أبو صالح الوراق: عبد الله بن محمد بن يزداد.
صدي بن مالك 6.
الصديق: عبد الله بن أبي قحافة.
الصفدي 145، 298، 309، 423.
صفوان بن المعطل 268.
صقلاب 173.
صمصام الدولة 20، 313.
الصناديقي 184.
الصولي 266، 310.
الصولي: ابراهيم بن العباس.
الصولي: محمد بن يحيى أبو بكر.
الصيرفي 202.
الصيمري أبو بكر (235).
الصيمري أبو زكرياء 235، 302.(1/576)
ض
الضبعي 315.
الضبى 315.
الضبى: أحمد بن محمد بن ابراهيم.
الضرير النحوي 262.
ط
أبو طالب الجراحي (322)، 323.
أبو طالب العلوي 100، 195.
أبو طاهر الأنماطي 230، 319.
أبو طاهر الحنفي 98.
أبو طاهر العباداني 99.
أبو طاهر الوراق 329، 348.
الطائع العباسي 107.
الطبراني 45.
الطبري 288.
أبو الحسن الطبري: أحمد بن محمد.
ابن طرارة: المعافي بن زكرياء النهرواني.
ابن طرخان: علي بن الحسن أبو الحسن.
طرفة 142.
طفيل الغنوى 25.(1/577)
الطقطقي 326.
طلحة (ض) 297.
طلحة بن عبد الله بن فتاش المصري أبو جعفر 194.
الطوسي 230، 233.
الطيالسي 38.
أبو الطيب الكمياني 384، 285.
أبو الطيب النصراني 110.
ابن طيفور 171، 175.
ظ
ظالم بن عمرو أبو الأسود الدولي (91)، 251.
ع
أبو العادي الصوفي 358.
أبو عاصم البصري 256.
عافية بن شبيب البصري 232.
أبو العالية الرياحي 60.
عامر بن الظرب (18).
عامر بن لقيط الأسدي الشاعر 387.
العامري أبو الحسن: محمد بن يوسف.
عائشة (ض) 78، 297.
ابن عباد: اسماعيل بن عباد.
عباد بن أحمد 314.
عباد بن العباس الأمين والد الصاحب 80، 81، 82، 314، (420)، 494.(1/578)
العباداني أبو طاهر: أبو طاهر العباداني.
عباد المخنث (145)، 146، 149، 150، 175، 252.
ابن عباس (جد الصاحب) 174.
ابن عباس (ض) عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
عباس إقبال 81.
العباس بن الحسن (189).
العباس بن الحسين أبو الفضل الشيرازي (224).
العباس بن عبد المطلب 221، 441.
العباسي: عبد الرحيم.
ابن عبد ربه 25.
عبد الرحمن بن زاعط أبو الفتح أعشى همدان (258).
عبد الرحيم العباسي 174، 179.
ابن عبد الرحيم القاضي 349، 547.
عبد الرزاق بن الحسن بن أبي الثياب الشاعر (347)، 362، 422، 423، 424، 427، 435.
عبد السلام البصري 107.
عبد السلام بن الحسين المأموني 123، 316.
عبد السلام بن رغبان ديك الجن (157).
عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو هاشم (396).
عبد العزيز بن عمر للسعدي ابن نباتة (249)، 332، 337، 339، 339، 341، 427.
عبد العزيز بن يوسف الكاتب (109).
عبد القادر البغدادي 34، 53، 471.
ابن عبد كان الكاتب: محمد بن عبد الله أبو جعفر.(1/579)
عبد الكريم بن أبي العوجاء (183).
عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي أبو هفان (63)، 145، (373).
عبد الله بن أحمد بن معروف (203).
عبد الله بن بشر 489.
عبد الله بن حماد (66).
عبد الله بن حمود الزبيدي الأندلسي (370)، 397، 401.
عبد الله بن الزبير (ض) 368.
عبد الله بن أبي الشيص 6.
عبد الله بن العباس بن عبد المطلب 77، 95، 96، 221، 441.
عبد الله بن عمرو بن العاص 218.
عبد الله بن أبي قحافة أبو بكر الصديق (78)، 69، 80، 108، 228، 273، 294، 309.
عبد الله بن محمد بن عبد الله الأنصاري الأحوص (454).
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الثلاج المتكلم (200)، 213.
عبد الله بن محمد القطان ابن كلاب (201).
عبد الله بن يزداد أبو صالح الوراق (186)، 187.
عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (17).
عبد الله بن المعتزّ 25، 43، 45، 63، 148، 175، 220، 380، (378).
عبد الله المعلم 140.
عبد الله بن هارون الرشيد، المأمون (24)، 25، 42، 72، 74، 123، 175، 187، 488، 490.
ابن عبدان الأصبهاني 367.
عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة (309).(1/580)
عبد الملك بن مروان (368)، 369، 371.
عبد الملك بن نوح الساماني 81، 82، (403).
ابن عبد الوهاب 453.
ابن العبري 443.
العبسي 267.
أبو عبيد 159، 370.
أبو عبيد الكاتب النصراني (133).
عبيد الله بن دينار أبو العباس 47.
عبيد الله بن زياد (91).
عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الفتح بن خاقان 170، (171).
عبيد الله بن محمد الكلواذاني 331.
عبيد الله بن أحمد بن معروف (203).
أبو عبيدة 236، 252.
العتابي 251، 296.
العتابي شيخ من أصبهان 461، 462.
أبو العتاهية: إسماعيل بن القاسم.
عتبة بن أبي سفيان 62، 369.
العتبي: محمد بن عبيد الله بن عمر.
عثمان (ض) 108.
العجلوني 44.
عدي بن حاتم (92)، (376).
عدى بن خرشة الخطمي الشاعر 276.
عدي بن مالك 5.
ابن أبي عرادة السعدي 199.(1/581)
عروة ابن الورد 217، 303.
العروضي أبو محمد (66).
عز الدولة: بختيار بن معز الدولة.
العزيز الفاطمي 117.
العسجدي 383.
عضد الدولة: فنا خسرو بن الحسن بن بويه.
ابن العطار 167.
ابن عقيل 264.
عقيل بن علفة المري (265).
أبو العلاء المعري 6، 123، 276.
العلاف: محمد بن الهذيل أبو الهذيل.
علقمة بن علاثة 370.
العلوي العقيقي: أبو أحمد العلوي أمير المدينة.
علي بن أحمد الجوهري 229.
علي بن ثابت الهمداني الكاتب 326.
علي بن الجهم الشاعر 42.
علي بن الحسن التنوخي أبو القاسم ابن الجلبات (249)، 313.
علي بن حسن أبو الحسن ابن طرخان 202، 211، (514)، 521.
علي بن الحسن الكاتب 179.
علي بن الحسين العلوي 146.
علي بن الحسين بن موسي القمي بن بابويه (167)، 254.
علي بن الحسين ابن هندو أبو الفرج (385).
علي بن حمزة بن عبد الله الكسائي 182.
علي بن سليمان الأخفش 107.(1/582)
علي بن أبي طالب 92، 145، 146، 222، 249، 293، 294، 297، 309، 441.
علي بن العباس بن جريج ابن الرومى (290).
علي بن عبد الله بن وصيف الناشي (294).
علي بن عمر بن أحمد بن القصار الفقيه. (140).
علي بن عيسى بن داود بن الجراح (171).
هلي بن عيسى بن عبد الله الرماني (164)، 203، 204، 205، 213، 410، 518.
علي بن عيسى الوزير 322، (380).
أبو علي الفارسي 370.
علي بن القاسم العارض 446.
علي بن القاسم الكاتب (124)، 385.
أبو علي القالي 5، 30، 177، 221، 249، 369، 370، 399.
علي بن كامة 142، 532، 541، 544، 545، 546.
علي بن كعب الأنصاري أبو الحسن (203)، 410.
علي بن محمد بن الحسين ابن العميد أبو الفتح ذو الكفايتين 101، 125، 132، (158) 344، 347، 376، 383، 386، 387، (406)، 411، 414، 422، 423، 445، 446، 452، 454، 455، 486، 442، 495، 510، 513، 514، 523، 524، 525، 528، 532، 533، 535، 536، 537، 538، 545، 546، 547.
علي بن محمد الطبري كيا 169.
علي بن محمد بن علي البديهى. (118)، 165، 314، 393.
علي بن محمد بن موسى بن الفرات (171).(1/583)
علي بن هارون بن علي بن المنجم أبو الحسن (160)، 377.
علي بن هارون بن نصر النحوي القرمسيني (107)
علي بن يوسف بن البقال الشاعر (194)، 410.
عمارة 372.
العمارى 311.
ابن عمر (ض) 441.
عمر بن ابراهيم الزعفراني الشاعر (105)، 141، 217، 295، 308، 317
عمر بن الحسن بن مالك الأشتاني (82).
عمر بن الخطاب 80، 108، 228، 258، 441.
عمر بن شبّة 380.
عمر 199.
عمر بن الأهتم 86، 472.
عمرو بن بحر الجاحظ أبو عثمان (42)، 44، 61، 71، 72، 75، 96، 134، 285، 331، 392، 447، 452، 494.
عمرو بن حرثان (369).
عمرو بن عبيد ابن باب (154)، 173، 183، 260، (473).
عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه 330.
أبو عمرو كاتب فخر الدولة 212.
عمرو بن هشام المخزومي أبو جهل (98)، 79، 157.
العمري 74.
العميد والد أبي الفضل ابن العميد: الحسين بن محمد كلة.
ابن العميد أبو الفتح: علي بن محمد بن الحسين.
ابن العميد أبو الفضل: محمد بن الحسين بن محمد.
ابن العميد: أبو القاسم (ولد لأبي الفضل) 387.(1/584)
عنترة 436.
العوفي: أحمد بن محمد.
عياش بن لهيعة 456.
ابن أبي عيزارة السعدي 199.
عيسى بن صبيح أبو موسى المردار (154).
عيسى بن فرخانشاه أبو موسى الكاتب (45).
عيسى بن الوليد أبو سعد المخزومي (6).
أبو العيناء: محمد بن قاسم بن خلاد.
العيني 20، 163، 394، 404، 494، 506.
غ
ابن الغازي 202.
أبو غالب الأعرج الكاتب الأصبهاني 420، 435، 438.
الغويري أبو الحسن الشاعر (329).
ف
ابن فارس: أحمد بن فارس.
ابن فتاش المصري: طلحة بن عبد الله أبو جعفر.
أبو الفتح البستي 229.
الفتح بن خاقان: عبيد الله بن محمد بن عبيد الله.
أبو الفتح ابن الفرات: الفضل بن جعفر.
أبو الفتح ابن العميد: علي بن محمد بن الحسين.
فخر الدولة 105، 214، 545.(1/585)
الفخر الرازي 441.
أبو الفداء 20، 25، 110، 202، 204، 208، 296، 322، 348، 445.
الغراء: يحيى بن زياد بن عبد الله.
ابن الفرات 171.
ابن الفرات: علي بن محمد بن موسى.
ابن الفرات: الفضل بن جعفر أبو الفتح.
أبو الفرج الأصبهاني الكاتب 421.
أبو الفرج البغدادي الصوفي 122، 279، 280، 281، 283.
الفرزدق 459.
ابن الفرضي 257.
فرعون 243.
أبو فرعون الأعرابي الساسي (148).
فرعون هذه الأمة 157.
الفرغاني أبو محمد الحنيفي 209، 213.
ابن فشيشا 215.
الفضل بن جعفر بن الفرات أبو الفتح 414.
الفضل بن الحباب: أبو خليفة الفضل.
فضل الساعي (294).
الفضل بن سهل (74).
أبو الفضل ابن العميد: أبن العميد أبو الفضل.
أبو الفضل الميكالي 408.
أبو الفضل الهروي 317.
الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي (266).(1/586)
الفقاعي 466. 467.
فنا خسرو بن الحسن بن بويه عضد الدولة 20، (94)، 96، 105، 108، 166، 174، 312، 313، 385، 406، 416، 437، 543، 544، 545.
فيروزان المجوسي 104، 105.
ق
قابوس بن وشمكير الديلمي (208).
القاسم بن عبيد الله الوزير 189.
القاسم بن عطية أبو سعيد الأبهري (121)، 122، 203، 318.
أبو القاسم ابن أبي العلاء الأصبهاني 80.
القاص أبو العباس الضرير 127.
القاضي ابن عبد الرحيم 332.
القالي أبو علي: أبو علي القالي.
القاهر 67، 171.
القائم الفاطمي 136.
ابن قتيبة 5، 42، 72، 199، 387، 462.
القرمسيني: علي بن هارون بن نصر.
ابن قريعة: محمد بن عبد الرحمن.
قس بن ساعدة (330)، 362.
القسري (؟) 295.
القصار (؟) 178.
ابن القصار الفقيه: علي بن عمر بن أحمد.
القطان 230.
39* أخلاق الوزيرين(1/587)
ابن القطان: أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي.
ابن القطان القزويني الحنفي.
القفطي 42، 164، 302، 346.
القلانسي: أحمد بن ابراهيم بن عبد الله.
قويري: إبراهيم قويري أبو إسحاق.
ك
الكاغدي: الحسن بن علي بن إبراهيم البصري.
ابن كامة: علي بن كامة.
ابن أبي كانون 209.
ابن أبي كبشة: جزء بن غالب بن عامر الخزاعي.
كثير عزة 177.
الكرابيسي 131.
الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله.
ابن كعب الأنصاري: علي بن كعب أبو الحسن.
كعب بن زهير 5.
ابن كلّاب: عبد الله بن محمد القطان.
كلة: العميد.
ابن كلّس: يعقوب بن يوسف بن ابراهيم.
الكلواذي: عبيد الله بن محمد.
كليب وائل (52).
الكندي الفيلسوف 42، 115، 235.(1/588)
ل
لبيد (8).
أبو الليل العلوي 511.
م
ابن ما سويه: ميخائيل.
ابن ما سويه: يوحنا.
ما كان بن كالي 81.
أبو مالك 139.
مالك بن شاهي 489.
المأمون: عبد الله بن هارون الرشيد.
المأموني: عبد السلام بن الحسين.
المبرد: محمد بن يزيد.
المبرمان: محمد بن علي بن إسماعيل النحوي.
متى أبو بشر (413).
المتنبي: أحمد بن الحسين.
المتوكل العباسي: جعفر بن الواثق.
مجزز بن الأعور بن جعدة المدلجي (110).
المجوسي: أبو نصر خوشادة.
ابن محارب (235).
ابن المحاوش 350، 351.
ابن المحسن الصابي 171.(1/589)
محسن بن علي التنوخي (194).
محمد (صلّى الله عليه وسلم) 8، 45، 60، 68، 78، 92، 95، 110، 146، 157، 206، 218، 257، 265، 268، 289، 309، 381، 471، 472، 474، 452، 458.
محمد بن إبراهيم صاحب الجيش 108.
محمد بن أحمد البغدادي الكاتب الجرجرائي (19)، 20، 22.
محمد بن أحمد بن عبدوس الزعفراني أبو الحسن (97).
محمد بن أبي أيوب عميد الرؤساء 136.
محمد بن ثابت البغدادي أبو بكر (163).
محمد بن جعفر بن محمد أبو الفتح ابن المراغي (164)، 165، (252)، 264، 316.
محمد بن الجهم البرمكي (42)، 43.
محمد بن حامد الجامدي الشاعر (113).
محمد بن الحسن الشيباني (331).
محمد بن الحسن بن كوثر البربهاري (295)، 506.
محمد بن الحسن بن المظفر البغدادي الحاتمي أبو علي (20)، 21، 313.
محمد بن الحسن بن مقسم أبو بكر العطار 75، (404).
محمد بن الحسين بن محمد أبو الفضل بن العميد 9، 12، 13، 23، 79، 80، 112، 125، 165، 169، 170، 204، 235، 281، 284، (321)، 322، 326، 327، 329، 332، 341، 343، 345، 344، 347، 349، 350، 351، 358، 361، 364، 365، 366، 377، 379، 380، 383، 384، 391، 393، 408، 417، 420، 421، 423، 424، 427، 430، 431، 432، 433، 438، 439، 445، 452، 455، 460،
464، 468، 471، 475، 480، 487، 490، 491، 531 533، 548.(1/590)
محمد بن الحسين بن محمد أبو الفضل بن العميد 9، 12، 13، 23، 79، 80، 112، 125، 165، 169، 170، 204، 235، 281، 284، (321)، 322، 326، 327، 329، 332، 341، 343، 345، 344، 347، 349، 350، 351، 358، 361، 364، 365، 366، 377، 379، 380، 383، 384، 391، 393، 408، 417، 420، 421، 423، 424، 427، 430، 431، 432، 433، 438، 439، 445، 452، 455، 460،
464، 468، 471، 475، 480، 487، 490، 491، 531 533، 548.
محمد بن داود بن الجراح (380).
محمد بن زكريا الرازي (438)، 440.
محمد بن زياد ابن الاعرابي (88)، 374، 422، 472.
محمد بن سليمان والي الكوفة 183.
محمد بن صالح الهاشمي 207.
محمد بن طاهر بن الحسين (46).
محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني المنطقي أبو سليمان 19، 66، (202) 204، 212، 255، 410، 452، 453، 455، 496، 518، 530.
محمد بن العباس الخوارزمي أبو بكر (107)، 108، 109، 110، 192، 348، 374، 403.
محمد بن العباس أبو الفرج 224.
محمد بن عبد الرحمن ابن قريعة 203.
محمد بن عبد الله البلعمي أبو الفضل (403).
محمد بن عبد الله بن حمدون أبو بكر 147، 361، 376، 418.
محمد بن عبد الله السلامي أبو الحسين 403.
محمد بن عبد الله بن طاهر 103.
محمد بن عبد الله بن عاصم الحزنبل (88).
محمد بن عبد الله بن عبد كان الكاتب (298).
محمد بن عبد الملك بن أبان بن حمزة الزيات (170)، 171، 288.
محمد بن عبد الهادي أبو ريدة 42.
محمد بن عبد الوهاب الجبائي أبو علي (144)، 494.
محمد بن عبيد الله بن عمر العتبي (62)، 369.(1/591)
محمد بن علي إسماعيل النحوي المبرمان (257).
محمد بن علي بن الحسين ابن مقلة أبو علي (57)، 171، 332.
محمد بن عمران بن موسى أبو عبيد الله المرزباني (55)، 110، 265، 369.
محمد بن فرح أبو بكر 397.
محمد بن القاسم بن خلاد أبو العيناء (45)، 46، 55، 6056، 67، 73، 159.
أبو محمد كاتب الشروط 101.
محمد بن كرام 229.
محمد بن الليث أبو الربيع (136).
محمد بن محمد الدقاق أبو بكر 308.
محمد بن محمد بن محمد بن بقية الوزير 19، (20).
محمد بن محمد بن بحر أبو الوفاء البوزجاني (204)، 205، 312، 479.
محمد بن المرزباني 227.
محمد بن مكرم (55)، 57، 63.
أبو محمد المهلبي: الحسن بن هارون المهلبي.
محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف أبو الهذيل (308)، 309، 493، (494).
محمد بن موسى بن سهل العطار البربهاري أبو بكر 506.
محمد بن يحيى بن خالد 65.
محمد بن يحيى الصولي أبو بكر (73).
محمد بن يزداد الوزير (187).
محمد بن يزيد المبرد 17، 40، 64، 70 (74).
محمد بن يوسف العامري أبو الحسن (115)، 130، 344، 410، 411، 412، 446.(1/592)
محمود الوراق 404.
المختار الثقفي 92.
المذهّب أبو عبد الله 208.
المرار بن سعيد بن حبيب الفقعسي (262).
ابن المراغي: محمد بن جعفر بن محمد أبو الفتح.
أبو المرتاب 174.
المرتضى: الشريف المرتضى.
مرجليوث 95، 101.
مرداويج (81)، 169، 431.
المرزبان بن محمد ملك الديلم (323).
ابن المرزبان: محمد بن المرزبان.
المرزباني: محمد بن عمران بن موسى.
المرزوقي 454.
مرعوش الساعي (294).
مروان بن المهلب (40)، 41.
المروزودي أبو حامد: أحمد بن بشر.
مريم ابنة عمران 440.
مزيد: مزبد الماجن.
مزبد الماجن (146)، 150.
المزدار: أبو موسى المردار.
المساور بن هند 365.
المستمين 72.
المسعودي 188، 443.
مسكويه: أحمد بن علي بن محمد بن يعقوب.(1/593)
أبو مسلم الخراساني 74.
مسلم بن الوليد 64، 120، (330).
مسهر بن مهلهل أبو دلف الخزرجي (174)، 438، 444، 445.
المسيبي 107، 124، 172، 278.
المسيح (عم) 440.
المشوق الشاعر الشامي أبو الحسن (229).
المصري 218.
مطر بن أحمد، وزير مرداويج الجيلي 169.
المطيع 73.
مضرس بن لقيط الشاعر 387.
المعافى بن زكريا النهرواني، ابن طرارة (112)، (203)، 224.
معاوية بن أبي سفيان 91، (310)، 380.
معاوية بن قرة 254.
المعتز العباس 45، 388.
ابن المعتز: عبد الله بن المعتز.
المعتصم 288، 405.
المعتضد 189، 235.
معد بن عدنان 221.
معروف بن فيروز (فيرزان) الكرخي (474).
ابن معروف: عبيد الله بن أحمد.
المعري: أبو العلاء.
معز الدولة: أحمد بن أبي شجاع.
أبو معشر 42.
معن بن زائدة 183.(1/594)
مفلس بن لقيط الشاعر 387.
المقتدر 67، 73، 171، 189، 331، 314.
المقريزي 154، 167.
ابن مقسم: محمد بن الحسن أبو بكر العطار.
مقعدة النصيبي: إبراهيم بن علي المتكلم.
ابن المقفع (71)، 72.
ابن مقلة: محمد بن علي بن الحسين.
المكتفي 73، 189.
ابن مكرم: محمد بن مكرم.
المكي أبو عبد الله العلوي 416.
ملك الديلم: المرزباني بن محمد.
ممويه 334.
ابن المنجم: علي بن هارون أبو الحسن.
ابن المنجم أبو محمد (161).
منصور 327.
المنصور العباسي أبو جعفر 5، 60، 72، 183، 220، 489.
المنصور القاضي 47.
المنطقي أبو سليمان: محمد بن طاهر بن بهرام.
ابن منظور 159.
المهدي العباس 184.
المهلب بن أبي صفرة أبو سعيد (40).
المهلبي: الحسن بن محمد بن هارون.
موسى بن بغا 73.
موسى بن عمران (عم) 340، 452.(1/595)
أبو موسى المردار (154).
أبو موسى المعلم الحسنكي الطبرستاني 401، 402.
مؤيد الدولة: بويه بن ركن الدولة.
ن
النابغة الذبياني (38)، 147، 462.
الناشي: علي بن عبد الله بن وصيف.
ابن ناصح 308.
ابن نباتة السعدي: عبد العزيز بن عمر.
النباتي: أبو محمد 290.
ابن نبهان 203.
النبي: محمد صلّى الله عليه وسلم.
النتيف المتكلم 373.
نجاح الخادم خازن كتب الصاحب 298، 299، 399، 492.
النجار: الحسين بن محمد أبو عبد الله.
نجبة (تحية) (؟) بن علي القحطاني الشاعر 123، 281، 248، 391، 392، 393، 480 «481.
ابن النديم 6، 24، 54، 55، 66، 82، 95، 136، 165، 167، 169، 171، 186، 189، 298، 346، 396، 413، 443، 473، 494.
النسائي 186.
نصر بن أحمد بن إسماعيل السعيد صاحب خراساني 403.
أبو نصر خوشادة المجوسي (166)، 312، 545، 547.(1/596)
نصر الدولة 55.
النصيبي: إبراهيم بن علي المتكلم أبو إسحاق.
نصيح بن منظور الفقعسى 374.
النضر بن الحارث 831.
نضلة بن البك (؟) 150،
النظام: إبراهيم بن سيار.
النعمان بن ثابت بن زوطا أبو حنيفة الإمام 227، (330).
النمر بن تولب 217.
النمري الشاعر: الحسين بن علي بن عبد الله.
نهار بن توسعة 179، 199، 361.
نهشل بن حرى الشاعر 282.
أبو نواس 63، 374.
نوح (عم) 441.
النوشجاني 488.
هـ
هارون الرشيد 24.
هارون بن المعتصم، الواثق العباسي 74، 145، 288، (308).
هارون بن علي ابن المنجم 377.
الهاروني 405.
أبو هاشم: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي.
هانئ بن توبة الشيباني الشويعر 173.
الهذلي: أبو ذؤيب.
أبو الهذيل العلاف: محمد بن الهذيل بن عبد الله.(1/597)
الهروي أبو سهل 175، 262.
الهروي أبو الفضل (113)، 114، 131، 126، 342، 345، 387، 546.
ابن هشام 45، 157.
ابن أبي هشام 461.
هشام بن الحكم أبو محمد (230)، 233، 234.
هشام بن سالم الجواليقي أبو محمد (223).
أبو هفان: عبد الله بن أحمد بن حرب المهزمي.
ابن هلال الصابي: ابراهيم بن هلال.
الهمذاني 202.
الهمذاني العلوي أبو الحسن 97.
ابن هندو: على بن الحسين أبو الفرج.
والواثق العباسي: هارون بن المعتصم.
الواسطي 201.
الواسطي أبو القاسم 213.
واصل بن عطاء (154)، 473.
أبو واقد الكرابيسي الخراساني 128، 231.
وائل سيد ربيعة 52.
الوراق الطرسوسي 263.
الوزير المهلبي: الحسن بن محمد بن هارون.
وشمكير بن زيار 441.(1/598)
أبو الوفاء المهندس: محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني.
الوليد بن عبيد بن يحيى أبو عبادة البحتري 39، (181)، 184، 384، 387.
الوليدي 269، 270، 275.
وهب بن سليمان بن وهب (171).
وهب بن عبد مناف 381.
وهسودان عم جستان 348.
ي
ياقوت 42، 94، 111، 122، 139، 141، 174، 179، 193، 195، 234، 251، 281، 298، 305، 307، 352، 401، 410، 417، 421، 463، 467، 480، 492، 495، 504، 505، 531، 532، 549.
أبو يحيى 242.
يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم 265.
يحيى بن خالد البرمكي 75.
يحيى بن زياد بن عبد الله الفراء (182)، 264، 510.
يحيى بن عدي المنطقي 66، 118.
يزيد بن الصعق (462).
يزيد بن عبد الملك بن مروان 265.
يزيد بن معاوية 91، 310.
اليزيدي 89.
يعقوب بن ابراهيم بن حبيب أبو يوسف (331).
يعقوب بن الليث 46.(1/599)
يعقوب بن يوسف بن ابراهيم بن كلس (117).
يموت بن المزرع 63.
يوحنا بن ماسويه (175).
ابن يوسف: عبد العزيز بن يوسف الكاتب.
يوسف (عم) 163)، 252، 440، 442.
يوسف بن هارون الرمادي أبو عمر الأندلس (399).
يونس 180.
2 - جماعات، وهيئات، وقبائل(1/600)
2 - جماعات، وهيئات، وقبائل(1/601)
1
أ
آل برمك (380).
آل بويه 312.
آل البيت 72.
آل الجراح 189، 325.
آل أبي جعفر العتبي 151.
آل الرسول 474.
آل سامان 403.
آل سليمان بن علي (71)، 72.
آل العميد 160.
آل الفرات (189).
آل مكر 58.
آل المهلّب 148.
آل وهب (380).
أبناء المهلّب 40.
الأتراك 431.
الأدباء 410.
أرباب الخرق 283.
أسد 459.
أصحاب الاثنين: المانوية.
أصحاب الجراح 213.
أصحاب الحرق 283.
أصحاب الفرضة 173.
أصحاب القلانس 518.
أصحاب الكلام 207، 231.
الأطباء 439، 507.
الأكاسرة 442.
الأمامية 294، 404.
الأنباط 59.
أنبياء الله 518.
أهل أصبهان 251.
أهل البصرة 309.
أهل البيت 179، 404.
أهل الجدل 212.
أهل الحكمة 235.
أهل خراسان 130.
أهل الري 465.
أهل السنة 122، 268، 396.
أهل الشام 40.
أهل العلم 491.
أهل المشرق 224.
أهل مصر 298، 299.
أهل المغرب 424.
أهل نيسابور 268.
أولاد بوية 160.(1/603)
ب
البترية (494).
البرامكة 43، (189)، 380، 489.
البربر 105.
البغداديون 130، 344، 505.
بنو أسد 46، 459.
بنو إسرائيل 441.
بنو أمية 56، 369.
بنو ثوابة (150)، 175.
بنو حرب 511.
بنو ساسان 442.
بنو سلمة 45.
بنو شيبان 230.
بنو العباس 123، 487.
بنو الفرات 414.
بنو مدلج 109.
بنو مروان 487.
بنو المنجم (73)، 160، 161، 377
بنو المهلب 40.
بنو هاشم 56، 488.
بيت اليزيديين 151.
ت
التتار 94.
الترك 210.
ث
ثقيف 398.
الثنوية: المانوية.
ثمود 218.
ج
الجعفريون 481.
الجوامردية (293).
الجيل 531.
ح
الحشوية 167، (288)، 365.
خ
خاصة الصاحب 467.
الخراسانيون 130.
خزيمة 523.(1/604)
خلفاء الله 518.
الخوارج 40.
د
دعاة الصاحب 467.
الدولة الزيارية 481.
الدولة الطولونية 298.
الدولة العباسية 157.
الديصانية (494).
الديلم (قبيلة) 167، 531.
الرازيون 365.
الرافضة 80.
الروم 236210.
ز
الزنادقة 183، 207.
الزنج 105.
الزيدية 80، 167، 494.
س
بنو ساسان 100.
السامانيون 81، 352.
الستريون 188.
ش
الشحاذون 185.
الشطار 293.
الشيعة 80، 123، 206، 230، 233، 254، 294، 474.
الشيعة الإمامية.
ص
الصوفية 280، 474.
ع
العجم 108، 448.
عدى الرباب 148.
العرب 72، 109، 120، 180، 188، 240، 269، 372، 387، 447، 448، 451، 458، 459.
العلوية 295.
غ
الغزاة 445.
الغز 105.
غطفان 265.
غلاة الشيعة 294.(1/605)
ف
الفرس 105.
الفرق الكلامية 512.
الفقهاء 410، 538.
الفلاسفة اليونانيون 17، 479.
ق
القدرية 25.
قريش 381.
القصاص 168.
ك
الكرامية (229).
م
المانوية 493، 494.
المتفلسفون 377، 410، 471، 473.
المتكلمون 174، 230، 410، 471، 473.
المجسمة 229.
المجوس 301.
المدنيون 512.
المذكرون 168.
المردارية 154.
المرجئة 467.
المشبهة 268.
المشركون 381.
المعتزلة 122، 123، 153، (154)، 155، 201، 211، 213، 252، 396، 468، 473، 479.
معتزلة البصرة 488.
المعلمون 482.
المغاربة 497.
المكدون 185.
الملحدون 207.
المهندسون 245.
ن
النجارية 396.
النحويون 222.
النصارى 301.
والوعيدية 153.
ي
ياجوج وماجوج 441.
اليزيديون 89، 151.
اليهود 218، 301.(1/606)
3 - أماكن(1/607)
أ
أذربيجان 323، 326، 348.
أرجان 47، 347.
أرض اليمامة 106.
إرم ذات العماد 294.
أسد آباد (95).
الاسكندرية 236.
أصبهان 74، 81، 179، 212، 251، 239، 253، 378، 431 461، 433، 434، 436.
اصطخر 89، 127.
الأنبار 350.
الأندلس 370، 398، 399.
الأهواز 45، 194.
ب
باب خراسان 173.
باب الرصافة 428.
باب سين (شير؟) 127.
باب الشام 408.
باب المسلحة 124.
بادية البصرة 294.
بادية الكوفة 294.
البحرين 72، 220.
بخارا 81، 173، 347، 352، 358، 423.
بدر 381.
بركة زلل 115.
البصرة 40، 43، 45، 63، 72 96، 113، 148، 169، 183، 194، 220، 294، 309، 490، 523، 525، 528.
بغداد 46، 45، 72، 105، 106، 109، 115، 117، 118، 133، 147، 166، 173، 179، 184، 190، 194، 200، 201، 208، 202، 213، 224، 252، 294، 344، 404، 410، 425، 474، 479، 494، 495، 506، 509، 510، 530، 545.
بلاد العجم 304.
بلعم 403.
بمبي 120.
بيروت 64، 139، 202، 204، 235، 294، 481.
بيهق 403.
ت
تركيا 443.(1/609)
تل عقرقوب 509
التوثة 506
ج
جامدة 113.
جامع الري 452.
جبال طوروس 443.
الجبل 431.
جرجان 110، 208، 229، 345، 418، 479، 545.
جلق 106.
جيان (398)، 399.
ح
حانة الملحين 398.
الحجاز 56، 75، 295.
حجر الصراة 428.
خ
خراسان 46، 81، 82، 91، 100، 110، 115، 130، 131، 140، 151، 177، 184، 199، 210، 229، 266، 278، 310، 353، 403، 422، 423، 445، 492، 529، 547، 539، 540، 545.
الخندق 173.
د
دار باكونة (173).
دار الحكمة 72.
دار الروم 428.
دجلة 173.
دمشق 106، 453.
دوارة الحمار 506.
ديار الروم 403.
دير حنون 141.
دير قنىّ 413.
الديلم 82، 127، 323.
الدينور 212.
ر
رامهرمز 194.
رستاق بيهق 403.
رضوى (52).
روض القطا 106.
الري 81، 94، 101، 113، 114، 115، 123، 124، 127، 130، 229، 322، 346،
350، 352، 376، 410، 420، 427، 431، 440، 445، 446، 523، 524، 533.(1/610)
الري 81، 94، 101، 113، 114، 115، 123، 124، 127، 130، 229، 322، 346،
350، 352، 376، 410، 420، 427، 431، 440، 445، 446، 523، 524، 533.
ز
الزبد 173.
زمزم 493.
س
سامرا (سامرة سر من رأى) 294، 405
ساوة 94.
سجستان 248.
السمارية 509.
سمرقند 128.
السند 220.
سوق الحنطة بقم 82.
سونايا 294.
ش
الشام 40، 175، 425، 462، 413، 509.
شت طولة (شنت طولة) 398، (399).
شهرزور 118.
الشونيزية 506.
ص
صفين 92.
الصوار 429.
الصيمرة 212.
ط
طالقان 127.
طالقان خراسان 82.
طالقان الديلم (82)، 494.
طالقان قزوين (82).
الطائف 294.
طبرستان 116.
طوانة 443.
ع
العراق 91، 95، 113، 208، 210، 306، 322، 422، 489، 540، 545.
عراق العجم 81.
العقيق 512.
عمان 72، 220، 398.
غ
الغوطة 106.(1/611)
ف
فارس 370. 544.
الفرضة 413.
فم الصلح 57.
فيد (145).
ق
القادسية 350.
قرطبة 399.
قصر الجص (405).
قصر الخلد 173.
قطربل 428.
قطيعة الربيع 212.
قم 82، 325، 327، 342.
قنطرة الشوك 408.
قير حصار 443.
ك
الكعبة 240، 243، 493.
الكوفة 91، 183.
ل
ليدن 5، 288.
م
ما ذرايا (57).
ماوراء النهر 127، 403، 422.
المدينة المنورة 52، 146، 429، 454، 511.
مدينة السلام 85، 311، 445، 514.
المرج 479.
المزرفة 173، 408.
المشرق 108، 370، 425.
مصر 95، 105، 113، 118، 146، 147، 150، 152، 166، 167، 298، 308، 314، 425.
مصطبة المكدين 215.
مطبعة الجوائب 26، 315، 348.
مطبعة الحلبي 72، 96.
المعهد الفرنسي 453.
المغرب 397.
مقبر معروف الكرخي 474.
مكتبة أحمد الثالث 20، 40، 72، 113، 144، 164، 183، 203، 29304، 2، 298، 309، 360، 385، 427.
مكتبة أيا صوفيا 20، 50، 72، 74، 115، 116، 121، 139، 170، 171، 201، 203،
204، 224، 288، 321، 380، 415.(1/612)
مكتبة أيا صوفيا 20، 50، 72، 74، 115، 116، 121، 139، 170، 171، 201، 203،
204، 224، 288، 321، 380، 415.
مكتبة بشير آغا 20.
متكبة تيمور باشا 74.
مكتبة ترخان خديجة سلطان 56.
مكتبة جار الله 308.
مكتبة جامعة استانبول 165.
المكتبة الحميدية 45.
مكتبة رئيس الكتاب 361، 376، 418
مكتبة شهيد علي 43، 63، 72، 91، 123، 171145، 189، 200، 201، 203، 211، 224، 299، 310، 312، 347، 370، 422.
مكتبة الفاتح 12، 171، 203، 365، 369.
مكتبة كوبريلي 11، 23، 45، 73، 115، 204، 229.
مكتبة نور عثمانية 89، 117، 220، 221.
مكتبة ولى الدين 18، 45، 146، 183
مكتبة يني جامع 115.
الموصل 490.
ن
نجران 399.
النوبهار (377).
نهر عيسى 509.
نيسابور 72، 108، 184، 268، 403، 479، 537.
هـ
همذان 81، 94، 95، 312، 545
الهند 45، 64، 66.
وواسط 57، 113.
ورامين (101)، 376.
* * *
4 - فهرست باسماء الكتب(1/613)
* * *
4 - فهرست باسماء الكتب(1/615)
أ
الآثار الباقية 127.
الإتقان 257.
أحكام القرآن لعبادين العباس 80.
الإحياء 141.
أخبار أبي تمام 64، 456.
إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي 42، 204، 236، 237، 302، 312، 346.
أخبار الحمقى والمغفليّن 82،
أخبار النحويين البصريين للسيرافي 220.
أخبار الوزراء لمحمد داود بن الجراح.
أرجوزة الشمردل 278.
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (الإرشاد) 23، 24، 42، 55، 63، 68، 81، 82، 9178، 94، 95، 98، 99، 101، 107، 111، 113، 118، 122، 127، 128، 130، 139، 141، 150، 154، 164، 166، 167، 170، 174، 179، 180، 181، 182، 184، 193، 194، 195، 196، 203، 208، 214، 234، 235، 246، 247، 249، 251، 257، 281، 294، 298، 299، 300، 303، 305، 307، 308، 310، 312، 332، 352، 360، 273، 377، 384، 385، 386، 400، 401، 402، 406، 408، 410، 412، 413، 414، 415، 418، 419، 417، 421، 463، 467، 468، 480، 481، 482، 492، 495، 496، 500، 504، 505، 531،
532، 533، 434، 535، 536، 537، 538، 539، 540، 541، 542، 543، 544، 545، 546، 549.(1/617)
إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (الإرشاد) 23، 24، 42، 55، 63، 68، 81، 82، 9178، 94، 95، 98، 99، 101، 107، 111، 113، 118، 122، 127، 128، 130، 139، 141، 150، 154، 164، 166، 167، 170، 174، 179، 180، 181، 182، 184، 193، 194، 195، 196، 203، 208، 214، 234، 235، 246، 247، 249، 251، 257، 281، 294، 298، 299، 300، 303، 305، 307، 308، 310، 312، 332، 352، 360، 273، 377، 384، 385، 386، 400، 401، 402، 406، 408، 410، 412، 413، 414، 415، 418، 419، 417، 421، 463، 467، 468، 480، 481، 482، 492، 495، 496، 500، 504، 505، 531،
532، 533، 434، 535، 536، 537، 538، 539، 540، 541، 542، 543، 544، 545، 546، 549.
الأسر الحاكمة في التاريخ الاسلامي: معجم الأسر والأسرات الحاكمة.
إشارات المرام 141.
الاشتقاق لابن دريد 462.
الإصابة لابن حجر 45، 110، 267، 268، 381، 454.
الأصول لاقليدس 236.
أصول الدين لعبد القاهر البغدادي 141.
الأصمعيات 470.
الأضداد لابن الأنباري 252.
إعتاب الكتاب 74.
الأغاني لأبي الفرج 6، 8، 17، 24، 56، 72، 74، 75، 89، 183، 150، 265، 288، 330، 388، 393، 421، 454.
الاقتضاب لابن السيد 84.
الإقناع وتخريج القوافي لابن عباد 165.
الألفية (في النحو) 264.
الألقاب لابن حجر 208.
الأمالي للزجاجي 6، 471.
الأمالي للشريف المرتضى 5، 42، 177، 183، 184، 303، 494.
الأمالي لأبي علي القالي 5، 30، 60، 88، 177، 221، 249، 369، 454.
الإمتاع والمؤانسة 8، 19، 20، 23، 85، 112، 133، 148، 173، 190، 208، 211، 249، 264، 288، 294، 298، 302، 303، 321، 322، 344، 380، 406، 413.(1/618)
أمثال الضبي 84.
الأقد على الأبد 115.
إنباه الرواة 164، 220، 248، 257، 278، 523.
الانتصار للخياط 396.
انتصاف العجم من العرب: كتاب التسوية.
الأنساب للسمعاني 73، 154، 396، 403، 506.
أوائل المقالات للشيخ المفيد 80.
الأوراق للصولي 388.
ب
البحر المحيط لأبي حيان 6، 252، 267.
البخلاء للجاحظ 72، 159.
البداية والنهاية لابن كثير 43، 81، 113، 139، 144، 150، 174، 181، 183، 204، 224، 289، 294، 295، 506.
البدل للنجار 396.
البصائر والذخائر لابن حيان التوحيدي 12، 13، 19، 75، 99، 109، 118، 150، 159، 174، 175، 183، 188، 203، 213، 230، 264، 308، 328، 410.
البغية (بغية الوعاة) 68، 164، 257، 523.
البيان والتبيين للجاحظ 6، 17، 18، 34، 39، 42، 75، 92، 96، 184، 303، 374، 379، 392، 459.
ت
تاج العروس 21، 56، 84، 146، 148، 257، 268، 288، 41* أخلاق الوزيرين(1/619)
290، 381، 388، 393، 403، 409، 427، 429، 436، 443، 458، 462، 484.
تاريخ ابن الاثير: الكامل في التاريخ لابن الاثير.
تاريخ الادب العربي لبروكلمن 42، 73.
تاريخ الإسلام للذهبي 20، 40، 50، 115، 121، 201، 203، 224، 249، 321، 328.
تاريخ أصبهان لابي نعيم 73، 118.
تاريخ البخاري 267، 268.
تاريخ بغداد لابن طيفور 175.
تاريخ بغداد للخطيب 42، 43، 45، 63، 140، 155، 163، 164، 184، 189، 200، 201، 288، 308، 309، 369، 388، 404، 488، 494.
تاريخ خراسان: التاريخ في أخبار ولاة خراسان.
تاريخ الخلفاء للسيوطي 184، 308.
تاريخ الطبري 72، 288.
تاريخ أبي الفداء 20، 25، 139، 146، 167، 204، 294، 312، 322، 415، 448.
التاريخ في أخبار ولاة خراسان 403.
تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة 42.
التبصير في الدين لأبي المظفر الاسفراييني 229.
تتمة صوان الحكمة 204، 302.
تتمة اليتيمة 81.
تجارب الامم لمسكويه 17، 23، 321، 332، 334، 347.
تحديد نهايات الاماكن للبيروني 113، 115، 346.
تحفة الامراء 171، 189، 224.(1/620)
تذكرة ابن حمدون (التذكرة الحمدونية، التذكرة) 361، 376، 418، 419، 420.
تفسير أبي حيان الاندلسي: البحر المحيط لابي حيان.
تفسير الفخر الرازي: مفاتيح الغيب.
تلبيس إبليس لابن الجوزي 183، 229.
التمثل والمحاضرة للثعالبي 365.
التمهيد للباقلاني 396.
التنبيه والإشراف للمسعودي 45، 188.
تهذيب الاسماء واللغات 40.
تهذيب اللغة للأزهري 5، 109.
ث
ثمار القلوب للثعالبي 146، 171، 299، 338، 409.
ج
جذوة المقتبس للحميدي 399.
الجماهر في الجواهر للبيروني 442.
جمهرة أشعار العرب للقرشي 436.
جمهرة الانساب لابن حزم 40.
الجواهر المضية للقرشي 201، 331.
ح
حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الالفية 264.(1/621)
الحاوي في الطب لأبي بكر الرازي 439.
حدود المنطق لارسطوطاليس 42.
الحلية (حلية الأولياء) لأبي نعيم 45.
الحماسة لأبي تمام 5، 85.
الحماسة للبحتري 39، 387.
الحور العين لنشوان الحميري 494.
حياة الحيوان للدميري 39، 184، 285، 286، 308.
الحيوان للجاحظ 42، 146، 285، 286، 287، 387، 494.
خ
الخزانة (خزانة الأدب للبغدادي) 34، 35، 91، 251، 265، 454، 462، 481.
خطط المقريزي 117، 154، 167، 396.
الخلق والخلق لابن العميد 328.
د
دول الإسلام للذهبي 171، 174، 183، 203.
الدول الإسلامية لخليل أدهم 431، 456.
ديوان البحتري 184.
ديوان أبي تمام 6، 456.
ديوان ابن الحجاج 147.
ديوان حسان بن ثابت 8، 457.(1/622)
ديوان الحطيئة 25.
ديوان الخنساء 481.
ديوان رسائل ابن عبد كان: رسائل ابن عبد كان.
ديوان ابن الرومي 291.
ديوان زهير 370، 412.
ديوان عروة 217.
ديوان المتنبي 152.
ديوان مسلم بن الوليد 64، 120.
ديوان المعاني للعسكري 5، 6، 25، 33، 39، 64، 67، 69، 369، 370، 456، 468، 481.
ديوان النابغة الذبياني 39، 462.
ديوان ابن نباتة 341.
ديوان أبي نواس 374.
ديوان الهذليين 388، 393.
ذ
ذيل الامالي 101.
ذيل تجارب الامم 170، 203، 288، 313.
ر
رسالة التربيع والتدوير للجاحظ 285، 286، 452.
رسالة ابن ثوابة حول الهندسة 247.
رسالة سعيد بن حميد في فضائح آل علي بن هشام 72.(1/623)
رسالة سهل بن هارون في مثالب الحراني 72.
رسالة العلوم لأبي حيان التوحيدي 550.
رسالة الغفران 381، 382.
رسالة في الابانة عن وحدانية الله وعن تناهي جرم الكل للكندي 42.
رسالة في خبائث الحسن بن رجاء للمبرد 74.
رسالة في الدلالة على أن الصاحب هو المهدي المنتظر 208.
رسالة في ذم أخلاق محمد بن الجهم للجاحظ 42.
رسالة في ذم بعض بني المنجم لأبي بكر الصولي 73.
رسالة في رقاعات الفضل بن سهل للعمري 74.
رسالة في الطب للصاحب 114.
رسالة في مدح أخلاق أحمد بن أبى داود للجاحظ 42.
الرسالة القشيرية 45، 70.
رسالة لابي العباس عبيد الله بن دينار 47.
رسالة الملائكة 6، 276، 277.
رسائل الخوارزمي 108، 348.
رسائل الصاحب 298، 300، 492، 493، 495.
رسائل ابن عبد كان 298.
رسائل العميد 81.
رسائل ابن العميد أبي الفضل 81.
رسائل الكندي 42.
رفع الخفا للعجلوني 44، 507.
الروزنامجه للصاحب 161.(1/624)
ز
زهر الآداب للمصري 8، 17، 42، 45، 53، 67، 70، 72، 96، 146، 199، 249، 291، 369، 370، 380، 436، 437، 438، 439.
س
سرح العيون 72، 330، 362.
سقط الزند 249،
سنن أبي داود 156، 163.
سنن النسائي 186.
سيرة ابن هشام 45، 157، 381.
ش
الشذرات (شذرات الذهب) 117، 170، 187، 200، 201، 224، 388، 403.
شرح الإحياء 141.
شرح الحماسة للتبريزي 5، 34، 58، 454.
شرح الحماسة للمرزوقي 454.
شرح ديوان الحطيئة للسكري 25.
شرح ديوان زهير للأعلم الشيتمري 370.(1/625)
شرح ديوان زهير لثعلب 5، 412.
شرح ديوان كعب بن زهير 5.
شرح ديوان المتنبي للعكبري 152.
شرح ديوان مسلم بن الوليد 120.
شرح ديوان النابغة الذبياني للبطليوسي 39، 462.
شرح الزرقاني على المواهب 157.
شرح الزوزني على المعلقات 436.
شرح سقط الزند 249.
شرح الشواهد للعيني 545.
شرح شواهد المغني لعبد القادر البغدادي 34، 481.
شرح ابن عقيل على الألفية 264.
شرح الفصيح لأبي سهل الهروي 175، 262.
شرح الفقه الأكبر 229.
شرح كتب المنطق 413.
شرح المغني للدماميني 266.
شرح المقامات للشريشي 8، 39، 40، 45، 54، 64، 96، 120، 173، 181، 189، 199، 229، 249، 282، 303، 362، 374، 380، 400.
شرح المواقف 154.
شرح نهج البلاغة 228، 229، 381.
الشعر والشعراء لابن قتيبة (الشعراء) 5، 8، 25، 177، 262، 330، 454.
شفاء الغليل للخفاجي 21، 197، 268، 329.(1/626)
ص
الصاحبي في فقه اللغه 167.
صحيح القرمذي 8.
الصداقة والصديق لابي حيان التوحيدي 23، 26، 39، 44، 45، 47، 55، 60، 99، 125، 130، 133، 147، 199، 203، 204، 209، 211، 312، 315، 321، 370، 385، 421.
الصناعتين 67.
ط
طبقات الاطباء 42، 175.
طبقات الامم لصاعد 42.
طبقات ابن سعد 40.
طبقات الشافعية للسبكي 123، 201، 224، 252، 289، 396، 477.
طبقات الشعراء لابن المعتز 25، 43، 45، 63، 72، 148، 175، 181، 220.
طبقات الشعراء للجمحي 454.
طبقات الصوفية للسلمى 474.
طبقات الفقهاء للشيرازي 40، 178، 201.
طبقات القراء للجزري 404.
طبقات النحويين للزبيدي 68، 220، 221، 257.
طراز المجالس للخفاجى 400.(1/627)
ع
عارضة الأحوذي 8.
العباب للصاغاني 483، 484.
العبر للذهبي 57.
عقد الجمان للعيني 20، 82، 163، 169، 171، 174، 183، 202، 204، 294، 404، 494، 506.
العقد لابن عبد ربه 25، 42، 55، 308، 456.
العمدة لابن رشيق 6، 266.
عيون الاخبار لابن قتيبة 5، 17، 18، 42، 60، 184، 199، 212، 221، 251، 303، 315، 369، 370، 374، 376، 379، 392، 404، 405، 456، 459، 468.
عيون الانباء لابن أبي أصيبعة 440، 443.
عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي 20، 68، 72، 82، 94، 108، 110، 113، 117، 123، 139، 144، 147، 167، 171، 183، 184، 194، 201، 202، 203، 204، 208، 249، 294، 296، 312، 321، 415، 427.
غ
الغرر للشريف المرتضى: أمالي الشريف المرتضى.
ف
فتح الباري لابن حجر 458.(1/628)
الفخري في الآداب السلطانية 45، 117، 186، 187، 189، 224، 288، 322، 323، 326، 331، 332، 383، 384، 414.
الفرق بين الفرق للبغدادي 154، 396.
الفصل لابن حزم 229، 396.
الفصيح لثعلب 165، 262، 275.
فقه اللغة للثعالبي 375.
الفهرس للطوسي 230، 233، 235.
الفهرست لابن النديم 6، 24، 25، 45، 55، 62، 63، 66، 67، 68، 72، 73، 82، 88، 89، 91، 113، 139، 150، 164، 167، 170، 171، 175، 186، 187، 189، 201، 203، 204، 220، 224، 230، 233، 235، 237، 247، (أوربا) 254، 257، 278، 289، 298، 302، 312، 321، 330، 331، 332، 346، 347، 380، 388، 396، 404، 414413، 443، 473، 488، 494.
فوات الوفيات 53، 123، 146، 154، 167، 171، 184، 189، 388.
الفوائد البهية 97، 201.
ق
القاموس 75.
القانون المسودي 443.
القصيدة الساسانية 174.
القضاة لابن فتاش 194.
قوانين علم الهيئة للصاغاني أبي حامد 115.(1/629)
ك
الكامل في التاريخ لابن الأثير 57، 81، 189، 294، 321، 323، 347، 348، 403، 414، 431، 432، 445.
الكامل للمبرد 17، 40، 64، 70.
كتاب الآيين 442.
كتاب في الاختيارات لمحمد بن الجهم البرمكي 42.
كتاب الأركان لإقليدس: الأصول.
كتاب الأضداد لابن الأنباري: الأضداد.
كتاب اعتذار وهب من حبقته 171.
كتاب أقليدس: الأصول.
كتاب التسوية لسعيد بن حميد 72.
كتاب الحيوان للجاحظ: الحيوان.
كتاب سيبويه 217، 352، 401.
كتاب في الرد على المانوية للنظام 493.
كتاب النخب لجابر بن حيان: النخب.
كتاب الوزيرين لأبي حيان التوحيدي 23، 352، 421.
كتب الرد على الثنوية لأني الهذيل العلاف 494.
الكشاف للزمخشري 78، 254.
كشف الظنون 344، 403.
الكلم الروحانية لابن هندو 385.
الكنايات للثعالبي 327.(1/630)
الكنايات للجرجاني 18، 146.
الكون والفساد لارسطوطاليس 42.
ل
اللآلي لأبي عبيد الكبري 34، 35، 63، 265، 370، 454.
اللباب لابن الاثير 82، 154، 229، 403.
لسان العرب (اللسان ل) 8، 33، 34، 39، 46، 48، 50، 51، 52، 53، 59، 61، 70، 84، 114، 142، 159، 163، 165، 173، 175، 179، 212، 217، 252، 258، 276، 282، 339، 343، 370، 372، 381، 388، 393، 409، 413، 422، 436، 458، 459، 462، 463، 470، 471، 483، 484، 492، 493، 512، 530.
لسان الميزان 42، 43، 63، 88، 154، 155، 183، 201، 254، 488.
ليس في كلام العرب لابن خالويه 6.
م
مجلة الزهراء 375.
مجمع الامثال 52، 54، 59، 82، 102، 158، 257، 258، 279، 285، 287، 321، 330، 375، 416، 443.
مجموعة المعاني 34.
المحاسن للبيهقي 34.
المحاضرات (محاضرات الراغب) 34، 43، 45، 54، 73، 75،
110، 114، 118، 139، 146، 184، 227، 229، 321، 387، 468.(1/631)
المحاضرات (محاضرات الراغب) 34، 43، 45، 54، 73، 75،
110، 114، 118، 139، 146، 184، 227، 229، 321، 387، 468.
المحبّر لابن حبيب 257.
المختار من أخبار النحويين 63.
المختار من شعر بشار 5، 448.
مختارات ابن الشجري 5.
مختصر الدول لابن العبري 443.
مختصر نحو للمتعلمين للجرمي 165.
المدخل الصاحبي 345.
المدخل لتاريخ العلم 346.
مروج الذهب للمسعودي 72، 230، 380، 443.
مسالك الابصار لابن فضل الله العمري 68، 72، 74، 116، 139، 156، 164، 170، 171، 288، 298، 380، 415.
مسند الإمام أحمد 8، 186، 458.
مطالع البدور للغزولي 136.
المعارف لابن قتيبة 62، 72، 78، 84، 87، 88، 91، 92، 145، 182، 220، 330، 331، 368، 488، 489.
المعاني الكبير لابن قبيبة 387، 462.
معاهد التنصيص (المعاهد) 43، 64، 81، 123، 147، 174، 177، 179، 181، 183، 192، 227، 228، 283، 290، 321، 328، 352، 360، 364، 415، 445.
معجم الانساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الاسلامي 189، 431.
معجم البلدان 57، 94، 95، 106، 113، 294، 377، 398، 403، 405، 429، 443، 460، 506، 509.(1/632)
معجم الشعراء 265، 369.
المعجم الصغير للطبراني 45.
معلقة عنترة 346.
المعمرون لأبي حاتم 8.
المغني لابن هشام 266.
مفاتيح العلوم 216.
مفاتيح الغيب للفخر الرازي 441.
مفردات القرآن للراغب الأصبهاني 179.
المفضليات للضبي 86.
المقابسات لأبي حيان التوحيدي 19، 66، 118، 146، 211، 235.
المقاصد الحسنة للسخاوي 44، 507.
مقالات الإسلاميين للأشعري 230، 233، 467، 494.
المقامات للحريري: شرح المقامات للشريشي.
مقدمة ابن خلدون 344.
المكاثره عند المذاكرة للطيالسي 8، 38، 147، 258.
الملل والنحل للشهرستاني 154، 155، 229.
مناظرات مع الثنوية لأبي الهذيل العلاف 494.
مناقب الأبرار لابن خميس 45.
منتخب الألقاب لابن الفرضي 257.
منتخب صوان الحكمة 115، 130.
المنتخب الميكائيلي 293.
المنتخل 408.
المنتظم لابن الجوزي 45، 46، 67، 74، 81، 82، 94، 110، 147،
150، 163، 164، 167، 169، 171، 174، 181، 183، 189، 200، 201، 202، 203، 204، 208، 211، 224، 290، 296، 312، 380، 388، 404، 488، 494.(1/633)
المنتظم لابن الجوزي 45، 46، 67، 74، 81، 82، 94، 110، 147،
150، 163، 164، 167، 169، 171، 174، 181، 183، 189، 200، 201، 202، 203، 204، 208، 211، 224، 290، 296، 312، 380، 388، 404، 488، 494.
من اسمه عمرو من الشعراء 369.
من نسب إلى أمه من الشعراء 381.
الموازنة بين أبي تمام والبحتري 64.
المواهب اللدنية 157.
المؤتلف والمختلف 34، 35، 265، 454.
ميزان الاعتدال 488.
ن
نثر الدرر للآبي 11، 45، 73، 75، 145، 146، 159، 175، 201، 232.
النجوم الزاهرة 330، 388.
النخب لجابر بن حيان 443.
النزهة (نزهة الألباء) 68، 91.
نزهة الأرواح للشهرزوري 115.
نشوار المحاضرة 415.
النقائض بين جرير والفرزدق 462.
نكت الهميان 184.
نكت الوزراء للجاجرمي 45.
نهاية الأرب للنويري 91، 456.(1/634)
النهاية في غريب الحديث 8، 39، 70، 163، 218.
نهج البلاغة 228، 229.
نوادر المخطوطات 381.
نور القبس 89.
هـ
الهوامل والشوامل لأبي حيان التوحيدي 18.
والوافي بالوفيات 40، 43، 56، 63، 72، 91، 117، 123، 144، 145، 171، 189، 200، 201، 203، 211، 224، 288، 298، 299، 309، 310، 312، 347، 360، 368، 385، 422.
الورقة لمحمد بن الجراح 148.
وفيات الاعيان لابن خلكان 40، 43، 45، 55، 62، 72، 73، 82، 108، 110، 117، 139، 154، 157، 161، 169، 171، 178، 183، 189، 192، 202، 204، 220، 249، 266، 288، 290، 294، 308، 321، 330، 332، 334، 335، 337، 339، 341، 352، 370، 377، 380، 399، 388، 400، 406، 408، 415، 421، 422، 423، 427، 445، 446، 469، 494.(1/635)
ي
يتيمة الدهر للثعالبي 20، 73، 81، 95، 105، 113، 114، 118، 139، 147، 150، 161، 167، 169، 171، 173، 174، 202، 203، 204، 214، 229 (مخطوط)، 235، 249، 283، 294، 312، 321، 329، 347، 352، 377، 399، 406، 408، 414، 422، 423، 445، 524.
5 - أحاديث نبوية(1/636)
5 - أحاديث نبوية(1/637)
أ
حديث: حديث اذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس 44.
حديث إن ابني هذا كان بطني له وعاء 218.
حديث إن من البيان لسحرا 8، 472.
حديث أهج المشركين فإن روح القدس معك 458.
ح
حديث حبب إليّ من دنيا كم ثلاث الخ 186.
ج
حديث خير الامور أوساطها 507.
د
حديث الدين والنصيحة 156.
ق
حديث قل ومعك روح القدس 458.
حديث قوموا صفوفكم فتراصوا 163.
ل
حديث لا نبي بعدي 186.
حديث لي الواجد يحل عرضه وظهره 265، 339.(1/639)
م
حديث مطل الغنى ظلم 265، 339.
حديث من سره أن يقتحم جراثيم جهنم 343.
ن
حديث نهى النبي عن حرق النواة 339.
ي
حديث يا بني سلمة من سيدكم 45.
* * *
6 - أمثال(1/640)
* * *
6 - أمثال(1/641)
أ
أجبن من المنزوف ضرطا 321.
أدل من دعيميص الرمل 258.
أعز من كليب وائل 52.
خ
الحديث ذو شجون 528.
الحديث قد بيت بليل 546.
حين تلقين تدرين 375.
ذ
ذق عقق 427.
ر
رب طمع يهوى إلى طبع 33.
رب رمية من غير رام 416.
رب واثق خجل 158.
ص
صابت بقر 257.
ع
عمل من طب لمن حب 43.(1/643)
عود يعلم العنج 257.
غ
غضب الخيل على اللجم الدلاص 54.
ق
القاص لا يحب القاص 517.
ل
لكل جابه جوزة ثم يؤذن 257.
م
ما بكيت من زمن إلا بكيت عليه 199.
ي
يسر حسوا في ارتغاء 114.(1/644)
7 - القوافي(1/645)
أ
سيغنيني غناء 510.
ب
آخ الرجال لا تقارب 408.
سرت النجائب بالكواكب 525.
نهضت الكواكب 406.
* * * ونعتب أعتبا 315.
لحا الله ذبّا 93.
إني فتى: أنبوبا 406.
* * * ولست المهذب 39.
فهدى ضارب 5.
وفي الصمت ومذهب 413.
فتى لا يبالي شحوب 500.
قلبي دام يذوب 343، 344.
فتى خلقت جنوب 511.
ومن يطل تجريب.
إذا ما رقيب 374.
وأنت فهو جاذبه 282.(1/647)
وإن لسانا خاطبه 412.
* * * أزرى بنا وألباب 34.
فإن كنت فاغضب 54.
قد يرزق من تعب 107.
لا تبطئن عن بتأنيب 215.
إذا اعتصم حجابه 405.
أبا جعفر إعجابه 383.
لعن الله طلبه 63.
ت
من ضن الموتى 366.
* * * وأقدر شئيت 276.
* * * بل ندى الكفاة 80.
يقولون المنابت 327.
رب فتى في ذمته 405.
ث
جزعت من قد حدث 229.(1/648)
ج
فيا قومنا ويعرّج.
ح
أكول وقاح 379.
أخذنا الاباطح 177.
عليك سلام سافح 427.
فبدلت بالخل منضوح 361.
* * * لعن الله كالمفتاح 452.
وأدعوك للفضائح 66.
د
يبلى جديد 36.
العرف الحميد 36.
أبا يوسف قصدا 144.
* * * فتى صيغ وأنفاسه مجد 500.
فأثنوا هو الخلد 372.
وأنت يوجد 56.
وإن الكريم أقود 93.
وجاءت إلى الولائد 469.(1/649)
فأصون سعيد 5.
* * * لقد أتانا بإسناد 267.
إن تكلمت بمجدي 91.
وقد بقصر أنجد 34.
الرزق قد ولا يجدي 106.
فتى يشتري في غد 500.
من يعط أثمان المحامد يحمد 85.
فأرميها بجلود 259.
إذا هتف الثرائد 369.
ر
إذا المشكلات بالنظر 249.
* * * حمراء عطارا 415.
لا تحسب المجد الصبرا 92.
يا لك من اكفهرّا 149.
يا من أعاد منشورا 248.
يا صاحبيّ خسارة 309.
* * * ألا ذهب الحمار الحمار 54.
وأحور ساحر 400.
لني ولية نعماك شاكر 512.(1/650)
ثمن المعروف ذخر 373.
لا يسبق ويخفر 278.
بنو اليزيدى الكمر 89.
وإن المجد وخير 86.
ذريني الفقير 303.
* * * مازلت والإثآر 415.
قد استوجب بن مختار 144.
يغدو على بثار 435.
يا أيها الاقدار 158.
متلقّب الكفار 273.
برح اشتياق وادكار 427.
برح اشتياق حرار 428.
إسقني قهوة يدي بختيار 406.
أرى الناس النجر 6.
إذا قال هجر 96.
تحدثني الشزر 530.
لو أن لى بالدهر 48.
باح لساني بالدهر 382.
ولا بد من شيء يعين على الدهر 48.
ألام على الذر 464.
لئن طبت على عسر 88.(1/651)
وإني على والنسر 172.
عتبت على بشر 199.
لله درك البشر 373.
وكان لي بالعشر 48.
خلالك الجو فبيضي واصفري 142.
أصبحت جم غمر 382.
وإن امرءا بحبل غرور 173.
سقوني وزور 217.
آليت لا ولا متنوّر 262.
ز
إن أبا الحارث والميزا 75.
* * * عدلت لتزويجه يجوز 283.
س
إن الجديدين الناس 581.
وكيف بابس 5.
فما لكم أطلس 387.
* * * عدلي بعادتك يا أبا العباس 266.
من يفعل والناس 24.
أبا الفضل في اليبس 362.(1/652)
ولم أدخل الحمام ببوسى 400.
الاستاذون نذل خسيس 368.
ش
بليت بما يطيش 281.
ص
يبيتون في خمائصا 370.
ض
إلى الله أشكو فرضا 347.
* * * وهل عائض مني وإن جل عائض 100.
* * * ومصرف أنفاس كلب رابض 148.
وما الحقد إلى بعض 291.
ط
ولحية كأنها القباطى 186.
ع
ما طار وقع 158.
* * *
البحتري يروم مصراعا 384.(1/653)
* * *
البحتري يروم مصراعا 384.
* * * إذا قل الأصابع 34.
ألم تر ما يرأ ويسمع 471.
إذا المرء المطامع 34.
ترى ودك الصقيع 459.
* * * أناس مفظع 30.
كم من أسير ضائع 18.
لنا فيلسوف بالبدائع 5.
ف
فيارب مظنون به الخير يخلف 444.
ق
زوجت أمك القلق 283.
* * * وإنما الشعر حمقا 9.
سبحان من وموموقا 123.
* * * نال الغنى الشرق 93.
أرى الناس متفرق 276.
إنا إذا الورق 35.(1/654)
بودي لو يهوى العذول ويعشق 184.
كل امرىء ولا حمق 6.
شقيت بنو أسد حبل يشنق 365.
وديوث يقال له وسوق 229.
* * * كبرق لاح من لماق 282.
ومن لا يصن ويحرّق 86.
والرزق جلق 166.
ك
سيغنيني غناك 511.
ل
إن تقوى وعجل 8.
خوفني منجم الحمل 114.
* * * وإذا خطبت مختالا 411.
إذا ما ابن عباس فضلا 96.
فإن تمنعوا أن تقولا 87.
والقائل القول الماحل 412.
فكيف مزحل 5.
لو أن حيا ولا وكل 310.(1/655)
وليس حامل 5.
للحسن ما يزول 309.
كم حربة يطول 374.
اصطلح سبيل 6.
سباك سبيل 308.
أما الحلجاء جليل 64.
ولا يستوى والبخيل 379.
فحامقته أعاقله 284.
إذا أسدى آكله 459.
وذى خلل قائله 412.
يستخبلوا المال يخبلوا 371.
هنا لك إن يغلو 370.
يستخولوا المال يخولوا 371.
* * * فتى إن لا يبالي 55.
أبلغ سليمان مال 222.
يتزحزحون الإجلال 43.
أعليّ بالأموال 43.
من عملي البزّل 214.
ومدح يدعى حجة البطل 452.
عدو لمولاه الفعل 53.(1/656)
مهلا فما من التنزيل 399.
لو كنت تعطي كلّ خليل 513.
لا تلم إلى مثله 251.
م
يزدحم الناس كثير الزحام 468.
الناس أخياف بيت الأدم 212.
فتى يمنع الحرم 133.
وإذا قلت من لا ونعم 362.
* * * فلسنا الدّما 58.
لما رأيت كرم الأصما 528.
وفي الصمت أن يتكلما 413.
إذا أنا بالمعروف المذمّما 60.
وكنت حماهما 89.
* * * فلستم الدّم 58.
وإن لساني علقم 87.
فتى يشترى تدوم 500.
ولحمد لا يشترى معلوم 86.
لا تنه عن عظيم 251.
ولم أر فى التّمام 152.
يخبرنا ابن كبشة وهام 381.(1/657)
نعمة الله أقوام 315.
لقد عجمتني في العجم 128.
أعد خمسين لذى رحم 549.
مالك موفور على المعدم 421.
الحمد لله أخا كرم 550.
أفضله المكرّم 309.
علقتها عرضا بمزعم 436.
عتبت على سلم على سلم 199.
وما خير بقائم 5.
صدق أليته قسمه 456.
ن
فتى نضاختان 500.
لا تصحبن شاعرا بثمن 7.
* * * ضيق العذر لكفانا 550.
ما لنا وغنانا 550.
لئن كنت حينا 277.
وبي مثل وتعذرينا 257.
* * * ألارب وهو ظنين 102.
* * * أفديك من دخان 397.(1/658)
وأي الناس منطلق اللسان 462.
إني إذا أخفى بكل مكان 454.
والحمد لا يشترى إلا بأثمان 85.
كتبت تسأل حزن 103.
لا كنت أكن 103.
الجود والغول ولم تكن 397.
ثريد كان الضياون 458.
أخو خمسين الشؤون 470.
وأنت بالليل ابن سيرين 293.
إن الذي يقبض يغنبني 88.
هـ
يا بن عباد خذها 174.
وعيرها الواشون عارها 388.
وقاسمها بالله نشورها 393.
فتى كان يعلو قيلها 412.
إذا لم يكن تمنى انتقالها 480.
كأن دماملا منها 54.
مغرى بقذف أبنائها 65.
مازلت حيا 469.
وعين الرضا المساويا 17.
لا يكون السرى مثل الضبيّ 222.
شيخ لنا المرديّ 159.(1/659)
8 - كلمات ذات دلالة خاصة(1/661)
أ
آيين الوزارة 188.
الإجماع 226.
الأحرار 327.
أدرة 440.
الاستحسان 226.
الاستطاعة 395، 396.
الأسقف 299.
الإسم 225.
الأصل 226.
الأصلح 122، 154.
الأصول الخمسة 196.
الاعتزال 154، 196، 203، 214، 474.
الاقتداء 226.
الإلهيات 345.
إمام الرافضة 395.
إمامة المفضول 309.
الأمر بالمعروف 196، 475.
الأوائل 342.
ب
الباطن 225.
البرل 396.
البديع 423.
البرهان 225.
البريد 348، 425.
بقرة بني إسرائيل 441.
البكم 440.
البيان 225.
بيت مال الصدقات 488.
ت
التأويل 225.
التشيع 295.
التفسير 226.
التقليد 226.
تكافؤ الأدلة 166.
التمائم 440.
التوحيد 98، 108، 116، 169، 194، 196، 208، 213، 260 342، 475.
ج
الجذام 440.
جر الثقيل 344، 345.
الجسم 229، 230، 231.
جمشل 490.
الجنون 440.
الجواز 226.
الجوزاء 438.
الجوسق 365.(1/662)
ح
الحال 396.
الحرف 225.
حرية الإرادة 174.
الحشو 167، 168.
الحشوى 171.
الحكم 225.
الحكمة 347، 377.
الحنفية 97.
الحيل (علم الحيل): جر الثقيل.
خ
خركاه 349.
الخطار 435.
د
الدراري 434.
الدستنبوية 493.
الدليل 224.
ديوان الانشاء 535.
ديوان الرسائل 352.
ر
الرزق 255.
الرقي 440.
الرياضيات 345.
ز
الزمانة 440.
الزندقة 184.
س
سفينة نوح 441.
السكتة 440.
ش
الشلل 440.
الشعرى الغميصاء 438.
ص
الصداع 440.
الصرع 440.
صفات المعاني 153.
الصفات المعنوية 153.
الصمم 440.
ط
الطبيعيات 378.
الطير الابابيل 441.
ظ
الظاهر 225.
الظلم 255.
ع
العامة 517.
العتره 474.
العدل 98، 108، 116، 153، 168، 194، 196، 208، 213، 260، 342، 473، 475.(1/663)
عرش بلقيس 441.
العلة 225.
العلم الرياضي 415.
العنقاء المغرب 443.
غ
الغميصاء: الشعرى الغميصاء.
ف
الفالج 440.
الفحوى 225.
الفرع 226.
فضلى 294.
الفعل 225.
الفلسفة 245، 328، 347، 377، 422، 475، 491، 517.
ق
القافة 109.
القريض 423.
القياس 225.
ك
كتاب خرافة 528.
الكلام 517.
كلمة الله (المسيح) 440.
ل
لا لكات 351.
اللقوة 440.
م
المذهب: الاعتزال.
مراكز الاثقال 544.
المردار 154.
مرصد 113.
مرعوش 294.
المزالف 350.
المطبخي 350.
المنزلة بين المنزلتين 196.
المنطق 347، 422، 423.
المؤامرة 216.
المومياي 442.
ن
ناقة صالح 441، 493.
النسران 438.
النص 225.
النصب 123.
النهى عن المنكر 196، 475.
النوروز 161.
الهندسة 239، 244، 245، 246، 345، 346، 347، 422.
الهيولى 396.
والوجوب 226.
الوعد والتخليد 108.
الوعد والوعيد 196.
الوعيد 152، 154.(1/664)
93: 2: في الأصل: «إن الكريم». وصواب الحاشية: «البيت في اللسان (قود) غير منسوب، ودائم: ساكن، والأقود من الرجال: الشديد العنق، سمي بذلك لقلة التفاته ومنه قيل للبخيل على الزاد: أقود لأنه لا يتلفّت عند الأكل، ليلا يرى إنسانا فيحتاج أن يدعوه.
144: 10: سليمان بن مختار هذا، رجل من أهل الموصل، كانت له لحية عظيمة ولهذه الأبيات قصة في الأغاني 14/ 62.
وانظر. الأغاني أيضا 16/ 60وما بعدها.
186: 2: هكذا «ثلاثة» في الأصل. وقال ابن حجر في لسان الميزان 6/ 369: «وقفت في تصانيفه (يعني أبا حيان) على تحريفات، منها أنه جزم بزيادة «ثلاث»، لكن لم ينفرد بذلك».
255: 4: في «الهوامل» 212: «وقال أبو سعيد الحصيري بالشك».
وفي الإمتاع 3/ 192: «وكان من حذاق المتكلمين ببغداد، وهو الذي تظاهر بالقول يتكافؤن الأدلة». وصحف في الإمتاع إلى «الحضرمي».
265: 1: في لسان الميزان لابن حجر 6/ 369: «ورأيت له (لأبي حيان» تحريفات وقال في حديث: «ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»، فزاد لفظة ظلم، ولم ينفرد بها أيضا».(1/665)
وهذه الزيادة التي عدّها ابن حجر تحريفا ليست في نسختنا كما ترى.
310: 9: قال: ومن تعرف أيضا؟ قلت: سمعت الجعابي الحافظ يقول: أبو حيان رجل صدق، وهو يروي عن التابعين.
قال: ومن تعرف أيضا؟ قلت: روى الصولي.
411: 11: «من قرارك». كنت قرأت «قرارك» وفهمتها على معنى «مخبرك»، وحين مراجعتي للأصل المخطوط، تبيّن لي أن القراءة الصحيحة هي «فرارك» بالفاء، ولا يخرج معناها عن الذي كتبته في الحاشية.(1/666)